الكتاب: الإحكام في أصول الأحكام المؤلف: أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ) المحقق: عبد الرزاق عفيفي الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- لبنان عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل يالحواشي] ---------- الإحكام في أصول الأحكام للآمدي الآمدي، أبو الحسن الكتاب: الإحكام في أصول الأحكام المؤلف: أبو الحسن سيد الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي الآمدي (المتوفى: 631هـ) المحقق: عبد الرزاق عفيفي الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت- دمشق- لبنان عدد الأجزاء: 4   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل يالحواشي] [ المقدمة ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْأَفْلَاكِ وَمُدَبِّرِهَا، وَمُزَيِّنِهَا، بِالشُّهُبِ الثَّاقِبَةِ وَمُنِيرِهَا، وَجَاعِلِ حَرَكَاتِ السَّيَّارَاتِ دَالَّةً عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْكَائِنَاتِ وَتَدْبِيرِهَا (1) ، وَمُظْهِرِ حِكَمَهُ فِي إِبْدَاعِهِ لِأَنْوَاعِ مَوْجُودَاتِ الْعَالَمِ وَتَصْوِيرِهَا، الْمُتَفَضِّلِ بِسَوَابِغِ الْإِنْعَامِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا. الْعَادِلِ فِيمَا قَضَاهُ وَأَمْضَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِهَا. الَّذِي شَرَّفَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ بِالْعَقْلِ الْهَادِي إِلَى أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَتَحْرِيرِهَا. وَأَهَّلَ خَاصَّةَ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِثْمَارِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَدَارِكِهَا وَتَقْرِيرِهَا (2) ، حَتَّى اسْتَقَرَّتْ قَاعِدَةُ الدِّينِ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ فِي جَمْعِهَا وَتَحْبِيرِهَا. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً مُنْجِيَةً مِنْ صَغِيرِ الْمُوبِقَاتِ وَكَبِيرِهَا. وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي أَزَالَ - بِوَاضِحِ بُرْهَانِهِ - وَأَزَاحَ - بِصَادِقِ بَيَانِهِ - مَا ظَهَرَ مِنْ شُبَهِ الْمُلْحِدَةِ وَتَزْوِيرِهَا. صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ الْمُؤَازِرِينَ لَهُ فِي إِظْهَارِ دَعَوْتِهِ بِحَدِّهَا وَتَشْمِيرِهَا، وَالسَّلَامُ. وَبَعْدُ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، وَالْقَضَايَا الْفِقْهِيَّةُ وَسَائِلَ مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمَنَاطَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَأَجَلَّ الْعُلُومِ قَدْرًا وَأَعْلَاهَا شَرَفًا وَذِكْرًا ; لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، كَانَتْ أَوْلَى بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَأَجْدَرَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا. وَحَيْثُ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِثْمَارِهَا دُونَ النَّظَرِ فِي مَسَالِكِهَا وَلَا مَطْمَعَ فِي اقْتِنَاصِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى مَدَارِكِهَا، كَانَ مِنَ الْلَازِمَاتِ وَالْقَضَايَا الْوَاجِبَاتِ الْبَحْثُ فِي أَغْوَارِهَا، وَالْكَشْفُ عَنْ أَسْرَارِهَا، وَالْإِحَاطَةُ بِمَعَانِيهَا، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَبَانِيهَا حَتَّى تُذَلَّلَ (3) طُرُقُ الِاسْتِثْمَارِ، وَيَنْقَادَ جُمُوحُ غَامِضِ الْأَفْكَارِ؛ وَلِذَلِكَ كَثُرَ تَدْآبِي (4) ، وَطَالَ اغْتِرَابِي فِي جَمْعِ فَوَائِدِهَا، وَتَحْقِيقِ فَرَائِدِهَا مِنْ   (1) مَعْطُوفٌ عَلَى اخْتِلَافٍ (2) مَعْطُوفٌ عَلَى اسْتِثْمَارِهَا (3) أَيِ التَّفْصِيلِيَّةِ (4) مُضَارِعٌ حُذِفَ مِنْهُ إِحْدَى التَّاءَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 مُبَاحَثَاتِ الْفُضَلَاءِ، وَمُطَارَحَاتِ النُّبَلَاءِ حَتَّى لَانَ مِنْ مَعْرَكِهَا مَا اسْتُصْعِبَ عَلَى الْمُتَدَرِّبِينَ، وَظَهَرَ مِنْهَا مَا خَفِيَ عَلَى حُذَّاقِ الْمُتَبَحِّرِينَ، وَأَحَطْتُ مِنْهَا بِلُبَابِ الْأَلْبَابِ، وَاحْتَوَيْتُ مِنْ مَعَانِيهَا عَلَى الْعَجَبِ الْعُجَابِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَجْمَعَ فِيهَا كِتَابًا حَاوِيًا لِجَمِيعِ مَقَاصِدِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ. مُشْتَمِلًا عَلَى حَلِّ مَا انْعَقَدَ مِنْ غَوَامِضِهَا عَلَى أَرْبَابِ الْعُقُولِ، مُتَجَنِّبًا لِلْإِسْهَابِ وَغَثِّ الْإِطْنَابِ، مُمِيطًا لِلْقِشْرِ عَنِ اللُّبَابِ خِدْمَةً (1) لِمَوْلَانَا السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ الْمُكَرَّمِ ; سُلْطَانِ الْأَجْوَادِ وَالْأَمْجَادِ، أَجَلِّ الْعَالَمِ، وَأَفْضَلِ مَنْ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ أَعْنَاقُ الْهِمَمِ وَالْعَزَائِمِ، مَلِكِ أَرْبَابِ الْفَضَائِلِ، نَاقِدِ خَلَاصِ الْأَفَاضِلِ، بَاعِثِ أَمْوَاتِ الْخَوَاطِرِ، نَاشِرِ رُفَاتِ الْعُلُومِ الدَّوَاثِرِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي حَازَ بِهَا قَصَبَ سَبْقِ الْأَوَّلِينَ، وَالْمَنَاقِبِ الَّتِي يَقِفُ دُونَ إِحْصَائِهَا عَدُّ الْحَاصِرِينَ. فَبِيَدِهِ زِمَامُهَا، وَإِلَيْهِ حَلُّهَا وَإِبْرَامُهَا، وَبِهِ كَشْفُ أَغْوَارِهَا، وَالْمَيْزُ بَيْنَ ظُلْمِهَا وَأَنْوَارِهَا (2) أَدَامَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ إِدَامَةً لَا تَغْرُبُ طَوَالِعُهَا، وَلَا تَنْضُبُ مَشَارِعُهَا، وَإِنْ كُنْتُ فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ كَحَامِلِ تَمْرٍ إِلَى هَجَرَ أَوْ طَلٍّ إِلَى مَطَرٍ، لَكِنَّهُ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْقَدْرِ، وَغَايَةُ مَنَالِ أَفْكَارِ الْبَشَرِ (3) وَأَرْجُو أَنْ يُصَادِفَ مِنْهُ الْقَبُولَ، وَأَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْإِغْضَاءُ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ. (وَسَمَّيْتُهُ كِتَابَ الْإِحْكَامِ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ) وَقَدْ جَعَلَتْهُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ: الْأُولَى: فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَبَادِيهِ.   (1) لَوْ أَلَّفَ كِتَابَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَخِدْمَةً لِدِينِهِ، وَرَجَا مِنْهُ قَبُولَهُ وَالْمَثُوبَةَ مِنْهُ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ، فَإِنَّهُ قَدَّمَهُ لِلسُّلْطَانِ إِعْظَامًا لَهُ، وَلَيْسَ كَمَنْ يَكْتُبُ لِتَلَامِيذِهِ تَعْلِيمًا لَهُمْ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِمْ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ " وَإِنْ كُنْتُ فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ كَحَامِلِ تَمْرٍ إِلَى هَجَرَ أَوْ طَلٍّ إِلَى مَطَرٍ ". (2) فِي ثَنَائِهِ عَلَى السُّلْطَانِ إِطْرَاءٌ لَا تُقِرُّهُ الشَّرِيعَةُ، وَهَذَا مِمَّا ابْتُلِيَتْ بِهِ الْأُمَّةُ فِي عُصُورِ ضَعْفِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَارْتِمَاءِ الْعُلَمَاءِ فِي أَحْضَانِ الْحُكَّامِ. (3) فِي ذَلِكَ إِطْرَاءٌ لِنَفْسِهِ وَزَهْوٌ وَإِعْجَابٌ بِتَأْلِيفِهِ وَادِّعَاءٌ لِمَا يُكَذِّبُهُ الْوَاقِعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 الثَّانِيَةُ: فِي تَحْقِيقِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَأَحْكَامِهِ. الثَّالِثَةُ: فِي أَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَحْوَالِ الْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَفْتِينَ. الرَّابِعَةُ: فِي تَرْجِيحَاتِ طُرُقِ الْمَطْلُوبَاتِ. اللَّهُمَّ فَيَسِّرْ خِتَامَهُ، وَسَهِّلْ إِتْمَامَهُ، وَبَصِّرْنَا بِسُلُوكِ مَسَالِكِ الْحَقِّ الْيَقِينِ، وَجَنِّبْنَا بِرَحْمَتِكِ عَنْ طُرُقِ الزَّائِغِينَ، وَسَلِّمْنَا مِنْ غَوَائِلِ الْبِدَعِ. وَاقْطَعْ عَنَّا عَلَائِقَ الطَّمَعِ. وَآمِّنَّا يَوْمَ الْخَوْفِ وَالْجَزَعِ. إِنَّكَ مَلَاذُ الْقَاصِدِينَ، وَكَهْفُ (1) الرَّاغِبِينَ. [الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ ومَوْضُوعِهِ وَغَايَتِهِ وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ] الْقَاعِدَةُ الْأُولَى فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَتَعْرِيفِ مَوْضُوعِهِ وَغَايَتِهِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَحْثِ عَنْهُ مِنْ مَسَائِلِهِ، وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ وَتَصْوِيرُ مَبَادِيهِ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ مَعْرِفَتِهِ قَبْلَ الْخَوْضِ فِيهِ. فَنَقُولُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مَنْ حَاوَلَ تَحْصِيلَ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَنْ يَتَصَوَّرَ مَعْنَاهُ أَوَّلًا بِالْحَدِّ أَوِ الرَّسْمِ؛ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِيمَا يَطْلُبُهُ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَوْضُوعَهُ - وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِهِ الْعَارِضَةِ لَهُ - تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَا هُوَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ تَحْصِيلِهِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ سَعْيُهُ عَبَثًا، وَمَا عَنْهُ الْبَحْثُ فِيهِ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَسَائِلُهُ لِتَصَوُّرِ طَلَبِهَا، وَمَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ لِصِحَّةِ إِسْنَادِهِ عِنْدَ رَوْمِ تَحْقِيقِهِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَتَصَوَّرَ مَبَادِيَهُ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ سَبْقِ مَعْرِفَتِهَا فِيهِ لِإِمْكَانِ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا. أَمَّا مَفْهُومُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ " أُصُولُ الْفِقْهِ " قَوْلٌ مُؤَلَّفٍ مِنْ مُضَافٍ هُوَ الْأُصُولُ، وَمُضَافٍ إِلَيْهِ هُوَ الْفِقْهُ، وَلَنْ نَعْرِفَ الْمُضَافَ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُ مَعْنَى الْفِقْهِ أَوَّلًا ثُمَّ مَعْنَى الْأُصُولِ ثَانِيًا.   (1) لَوْ قَالَ: غَوْثُ اللَّاجِئِينَ لَكَانَ أَرْعَى لِلْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ، وَأَبْعَدَ عَنْ وَحْشَةِ الْعِبَارَةِ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 أَمَّا الْفِقْهُ: فَفِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْفَهْمِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} أَيْ لَا نَفْهَمُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} أَيْ لَا تَفْهَمُونَ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ: فَقِهْتُ كَلَامَكَ، أَيْ فَهِمْتُهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْعِلْمُ، وَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْفَهْمَ مُغَايِرٌ لِلْعِلْمِ ; إِذِ الْفَهْمُ عِبَارَةٌ عَنْ جَوْدَةِ الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهْيِئَتِهِ لِاقْتِنَاصِ كُلِّ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَطَالِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُتَّصِفُ بِهِ عَالِمًا كَالْعَامِّيِّ الْفَطِنِ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ عَنْ قَرِيبٍ. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ عَالِمٍ فَهِمٌ وَلَيْسَ كُلُّ فَهِمٍ عَالِمًا. وَفِي عُرْفِ الْمُتَشَرِّعِينَ: الْفِقْهُ مَخْصُوصٌ بِالْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفُرُوعِيَّةِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَالْعِلْمُ احْتِرَازٌ عَنِ الظَّنِّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ تُجُوِّزَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْفِقْهِ عَلَيْهِ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّيِّ، فَلَيْسَ فِقْهًا فِي الْعُرْفِ اللُّغَوِيِّ وَالْأُصُولِيِّ، بَلِ الْفِقْهُ الْعِلْمُ بِهَا أَوِ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ بِهَا بِنَاءً عَلَى الْإِدْرَاكِ الْقَطْعِيِّ، وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً فِي نَفْسِهَا. وَقَوْلُنَا: " بِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ " احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ الْوَاحِدِ أَوِ الِاثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي عُرْفِهِمْ فِقْهًا. وَإِنَّمَا لَمْ نَقُلْ بِالْأَحْكَامِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْفِقْهِ هُوَ الْعِلْمَ بِجُمْلَةِ الْأَحْكَامِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِقْهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَقَوْلُنَا: (الشَّرْعِيَّةُ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ، كَالْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ. وَقَوْلُنَا: (الْفُرُوعِيَّةُ) احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ حُجَجًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِقْهًا فِي الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْلُومُ حُكْمًا شَرْعِيًّا نَظَرِيًّا لِكَوْنِهِ غَيْرَ فُرُوعِيٍّ. وَقَوْلُنَا: (بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ) احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَعِلْمِ جِبْرِيلَ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا عَلِمَهُ بِالْوَحْيِ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ فِقْهًا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ ; إِذْ لَيْسَ طَرِيقُ الْعِلْمِ فِي حَقِّهِمْ بِذَلِكَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. (1) وَأَمَّا أُصُولُ الْفِقْهِ: فَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ كُلِّ شَيْءٍ هُوَ مَا يَسْتَنِدُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ الشَّيْءِ إِلَيْهِ. فَأُصُولُ الْفِقْهِ هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ وَجِهَاتُ دَلَالَاتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَكَيْفِيَّةُ حَالِ الْمُسْتَدِلِّ بِهَا مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ (2) لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، بِخِلَافِ الْخَاصَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ. وَأَمَّا مَوْضُوعُ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَوْضُوعَ كُلِّ عِلْمٍ هُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِهِ الْعَارِضَةِ لِذَاتِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ مَبَاحِثُ الْأُصُولِيِّينَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِيهِ وَأَقْسَامِهَا وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْهَا عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ (3) كَانَتْ هِيَ مَوْضُوعَ عِلْمِ الْأُصُولِ. وَأَمَّا غَايَةُ عِلْمِ الْأُصُولِ، فَالْوُصُولُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ. وَأَمَّا مَسَائِلُهُ، فَهِيَ أَحْوَالُ الْأَدِلَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِيهِ مِمَّا عَرَفْنَاهُ. وَأَمَّا مَا مِنْهُ اسْتِمْدَادُهُ، فَعِلْمُ الْكَلَامِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. أَمَّا عِلْمُ الْكَلَامِ، فَلِتَوَقُّفِ الْعِلْمِ بِكَوْنِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ مُفِيدَةً لَهَا شَرْعًا عَلَى   (1) أُولِعَ الْكَثِيرُ بِالتَّعَارِيفِ الْمُتَكَلَّفَةِ الَّتِي تُورِثُ الْعِبَارَةَ غُمُوضًا وَالْقَارِئَ لَهَا حَيْرَةً، وَمِنْ ذَلِكَ تَعْرِيفُ الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ وَنَحْوِهِمَا بِمَا ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى شَرْحِ التَّعْرِيفِ وَإِخْرَاجِ الْمُحْتَرَزَاتِ وَيُكْثِرُونَ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ، وَلَا يَكَادُ يَخْلُصُ لَهُمْ تَعْرِيفٌ مِنَ الْأَخْذِ وَالرَّدِّ، وَالْوَاقِعُ أَصْدَقُ شَاهِدٍ. (2) رَاجِعٌ لِأَجْزَاءِ التَّعْرِيفِ الثَّلَاثَةِ (3) رَاجِعٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ وَأَقْسَامِهَا لَا إِلَى أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَأَقْسَامِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ، وَصِدْقِ رَسُولِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا عِلْمُ الْعَرَبِيَّةِ، فَلِتَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ دَلَالَاتِ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى مَعْرِفَةِ مَوْضُوعَاتِهَا لُغَةً مِنْ جِهَةِ: الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ، وَالْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ، وَالْإِطْلَاقِ، وَالتَّقْيِيدِ، وَالْحَذْفِ، وَالْإِضْمَارِ، وَالْمَنْطُوقِ، وَالْمَفْهُومِ، وَالِاقْتِضَاءِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالتَّنْبِيهِ، وَالْإِيمَاءِ، وَغَيْرِهِ مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّاظِرَ فِي هَذَا الْعِلْمِ إِنَّمَا يَنْظُرُ فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِحَقَائِقِ الْأَحْكَامِ (1) لِيَتَصَوَّرَ الْقَصْدَ إِلَى إِثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا، وَأَنْ يَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ إِيضَاحِ الْمَسَائِلِ بِضَرْبِ الْأَمْثِلَةِ وَكَثْرَةِ الشَّوَاهِدِ، وَيَتَأَهَّلُ بِالْبَحْثِ فِيهَا لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. وَلَا نَقُولُ: إِنَّ اسْتِمْدَادَهُ مِنْ وُجُودِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَنَفْيِهَا فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ، فَإِنَّهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا ثَبْتَ لَهَا بِغَيْرِ أَدِلَّتِهَا، فَلَوْ تَوَقَّفَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ كَانَ دَوْرًا مُمْتَنَعًا. وَأَمَّا مَبَادِئُهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ مَبَادِئَ كُلِّ عِلْمٍ هِيَ التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ الْمُسَلَّمَةِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَهِيَ غَيْرُ مُبَرْهَنَةٍ فِيهِ ; لِتَوَقُّفِ مَسَائِلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ عَلَيْهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مُسَلَّمَةً فِي نَفْسِهَا كَمَبَادِئِ الْعِلْمِ الْأَعْلَى (2) أَوْ غَيْرَ مُسَلَّمَةٍ فِي نَفْسِهَا، بَلْ مَقْبُولَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُصَادَرَةِ أَوِ الْوَضْعِ، عَلَى أَنَّ تُبَرْهَنَ فِي عِلْمٍ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَمَا هَذِهِ الْمَبَادِئُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ؟ فَنَقُولُ: قَدْ عُرِفَ أَنَّ اسْتِمْدَادَ عِلْمِ أُصُولِ الْفِقْهِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ: الْكَلَامِ وَالْعَرَبِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَمَبَادِئُهُ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، فَلْنَرْسِمْ فِي كُلِّ مَبْدَأٍ قِسْمًا:   (1) أَيْ مُتَصَوِّرًا لِمَعَانِيهَا بِذِكْرِ تَعْرِيفِهَا، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدُ: وَلَا نَقُولُ. . . إِلَخْ. (2) عِلْمِ التَّوْحِيدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي الْمَبَادِئِ الْكَلَامِيَّةِ] الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي الْمَبَادِئِ الْكَلَامِيَّةِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ أُصُولُ الْفِقْهِ هِيَ أَدِلَّةَ الْفِقْهِ، وَكَانَ الْكَلَامُ فِيهَا مِمَّا يُحْوِجُ إِلَى مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ، وَانْقِسَامِهِ إِلَى مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوِ الظَّنَّ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَتِمُّ دُونَ النَّظَرِ، دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى تَعْرِيفِ مَعْنَى الدَّلِيلِ، وَالنَّظَرُ وَالْعِلْمُ وَالظَّنُّ مِنْ جِهَةِ التَّحْدِيدِ وَالتَّصْوِيرِ لَا غَيْرُ. أَمَّا الدَّلِيلُ، فَقَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الدَّالِّ، وَهُوَ النَّاصِبُ لِلدَّلِيلِ. وَقِيلَ: هُوَ الذَّاكِرُ لِلدَّلِيلِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا فِيهِ دَلَالَةٌ وَإِرْشَادٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى دَلِيلًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُوَصِّلًا إِلَى عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ. وَالْأُصُولِيُّونَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ مَا أَوْصَلَ إِلَى الْعِلْمِ، وَمَا أَوْصَلَ إِلَى الظَّنِّ، فَيَخُصُّونَ اسْمَ الدَّلِيلِ بِمَا أَوْصَلَ إِلَى الْعِلْمِ، وَاسْمَ الْأَمَارَةِ بِمَا أَوْصَلَ إِلَى الظَّنِّ. (1) وَعَلَى هَذَا فَحَدُّهُ عَلَى أُصُولِ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِصَحِيحِ النَّظَرِ فِيهِ إِلَى مَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ. فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ: احْتِرَازٌ عَمَّا لَمْ يُتَوَصَّلْ بِهِ إِلَى الْمَطْلُوبِ لِعَدَمِ النَّظَرِ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا لَمَّا كَانَ التَّوَصُّلُ بِهِ مُمْكِنًا. وَالْقَيْدُ الثَّانِي: احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا كَانَ النَّاظِرُ فِي الدَّلِيلِ بِنَظَرٍ فَاسِدٍ. وَالثَّالِثُ: احْتِرَازٌ عَنِ الْحَدِّ الْمُوَصِّلِ إِلَى الْعِلْمِ التَّصَوُّرِيِّ، وَهُوَ عَامٌّ لِلْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ. وَأَمَّا حَدُّهُ عَلَى الْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ، فَهُوَ مَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَطْلُوبٍ خَبَرِيٍّ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ: إِلَى عَقْلِيٌّ مَحْضٌ، وَسَمْعِيٌّ مَحْضٌ، وَمُرَكَّبٌ مِنَ الْأَمْرَيْنِ.   (1) وَلَكِنَّهُمْ عَمَلِيًّا يُطْلِقُونَ اسْمَ الدَّلِيلِ عَلَى مَا هُوَ ظَنِّيٌّ بَلْ عَلَى الشُّبْهَةِ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ لِمَنْ تَتَبَّعَ أَدِلَّتَهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِنَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ: الْعَالَمُ مُؤَلَّفٌ، وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ حَادِثٌ فَيَلْزَمُ عَنْهُ الْعَالَمُ حَادِثٌ. (1) وَالثَّانِي: كَالنُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ. وَالثَّالِثُ: كَقَوْلِنَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّبِيذِ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ - لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ) - فَيَلْزَمُ عَنْهُ النَّبِيذُ حَرَامٌ. (2) وَأَمَّا النَّظَرُ، فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الِانْتِظَارِ، وَبِمَعْنَى الرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ، وَالرَّأْفَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْمُقَابَلَةِ، وَالتَّفَكُّرِ، وَالِاعْتِبَارِ. وَهَذَا الِاعْتِبَارُ الْأَخِيرُ هُوَ الْمُسَمَّى بِالنَّظَرِ فِي عُرْفِ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي حَدِّهِ: " هُوَ الْفِكْرُ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ مَنْ قَامَ بِهِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا. وَقَدِ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: " يَطْلُبُ بِهِ " عَنِ الْحَيَاةِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ، فَإِنَّهَا لَا يَطْلُبُ بِهَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَنْ قَامَتْ بِهِ يَطْلُبُهُ، وَقَصَدَ بِقَوْلِهِ: (عِلْمًا أَوْ ظَنًّا) التَّعْمِيمَ لِلْعِلْمِ وَالظَّنِّ ; لِيَكُونَ الْحَدُّ جَامِعًا، وَهُوَ حَسَنٌ، غَيْرُ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِشْكَالَاتِ مَا قَدْ يَتَّجِهُ عَلَى عِبَارَةِ الْقَاضِي، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي (أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ) وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: النَّظَرُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصَرُّفِ بِالْعَقْلِ فِي الْأُمُورِ السَّابِقَةِ بِالْعِلْمِ وَالظَّنِّ. . الْمُنَاسِبَةُ لِلْمَطْلُوبِ بِتَأْلِيفٍ خَاصٍّ قَصْدًا لِتَحْصِيلِ مَا لَيْسَ حَاصِلًا فِي الْعَقْلِ، وَهُوَ عَامٌّ لِلنَّظَرِ الْمُتَضَمِّنِ لِلتَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ، وَالْقَاطِعِ وَالظَّنِّيِّ. وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا وَقَفَ النَّاظِرُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ   (1) انْظُرْ إِلَى مَا كَتَبَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ " وَأَوَّلِ كِتَابِهِ " مُوَافَقَةِ صَرِيحِ الْمَعْقُولِ لِصَحِيحِ الْمَنْقُولِ " فَإِنَّهُ أَتَى فِيهِمَا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ وَإِبَانَةُ الْحَقِّ (2) فَإِنَّ مَعْرِفَةَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ. وَمَعْرِفَةَ تَحْرِيمِهِ بِالشَّرْعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ فَاسِدًا. وَشَرْطُ وُجُودِهِ مُطْلَقًا: الْعَقْلُ، وَانْتِفَاءُ أَضْدَادِهِ مِنَ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ وَالْمَوْتِ، وَحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَطْلُوبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعِلْمُ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَكَلِّمُونَ فِي تَحْدِيدِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى تَحْدِيدِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَيَانُ طَرِيقِ تَعْرِيفِهِ إِنَّمَا هُوَ بِالْقِسْمَةِ وَالْمِثَالِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ إِنْ لَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً لِتَمْيِيزِهِ عَمَّا سِوَاهُ فَلَيْسَتْ مُعَرِّفَةً لَهُ، وَإِنَّ كَانَتْ مُمَيِّزَةً لَهُ عَمَّا سِوَاهُ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّحْدِيدِ بِالرَّسْمِ سِوَى هَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلْمِ ضَرُورِيٌّ غَيْرُ نَظَرِيٍّ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى الْعِلْمِ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْعِلْمِ، فَلَوْ عُلِمَ الْعِلْمُ بِالْغَيْرِ كَانَ دَوْرًا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ وُجُودَ نَفْسِهِ ضَرُورَةً، وَالْعِلْمُ أَحَدُ تَصَوُّرَاتِ هَذَا التَّصْدِيقِ فَكَانَ ضَرُورِيًّا، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ سَدِيدٍ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ جِهَةَ تَوَقُّفِ غَيْرِ الْعِلْمِ عَلَى الْعِلْمِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْعِلْمِ إِدْرَاكًا لَهُ، وَتَوَقُّفُ الْعِلْمِ عَلَى الْغَيْرِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إِدْرَاكًا لِلْعِلْمِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ صِفَةً مُمَيِّزَةً لَهُ عَمَّا سِوَاهُ، وَمَعَ اخْتِلَافِ جِهَةِ التَّوَقُّفِ فَلَا دَوْرَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَصَوُّرَاتِ الْقَضِيَّةِ الضَّرُورِيَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الضَّرُورِيَّةَ هِيَ الَّتِي يُصَدِّقُ الْعَقْلُ بِهَا بَعْدَ تَصَوُّرِ مُفْرَدَاتِهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ بَعْدَ تَصَوُّرِ الْمُفْرَدَاتِ عَلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ التَّصَوُّرَاتُ ضَرُورِيَّةً أَوْ نَظَرِيَّةً. وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَكَ فِي تَعْرِيفِهِ التَّحْدِيدَ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ حُدُودَ كَثِيرَةً أَبْطَلْنَاهَا فِي (أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ) وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: (الْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ صِفَةٍ يَحْصُلُ بِهَا لِنَفْسِ الْمُتَّصِفِ بِهَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ حُصُولًا لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ نَقِيضِهِ) . فَقَوْلُنَا: (صِفَةٍ) كَالْجِنْسِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَقَوْلُنَا: (يَحْصُلُ بِهَا التَّمَيُّزُ) احْتِرَازٌ عَنِ الْحَيَاةِ، وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ. وَقَوْلُنَا: (بَيْنَ حَقَائِقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الْكُلِّيَّاتِ) احْتِرَازٌ عَنِ الْإِدْرَاكَاتِ الْجُزْئِيَّةِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَحْسُوسَاتِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ سَلَكْنَا مَذْهَبَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ فِي أَنَّ الْإِدْرَاكَاتِ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ، لَمْ نَحْتَجْ إِلَى التَّقْيِيدِ بِالْكُلِّيَّاتِ. وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى قَدِيمٍ (1) لَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَإِلَى حَادِثٍ بَعْدَ الْعَدَمِ، وَالْحَادِثُ يَنْقَسِمُ إِلَى: ضَرُورِيٍّ، وَهُوَ الْعِلْمُ الْحَادِثُ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، فَقَوْلُنَا: (الْعِلْمُ الْحَادِثُ) احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. (2) ، وَقَوْلُنَا: (لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ) احْتِرَازٌ عَنِ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ، وَالنَّظَرِيُّ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ النَّظَرُ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا الظَّنُّ فَعِبَارَةٌ عَنْ تَرَجُّحِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي النَّفْسِ عَلَى الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ الْقَطْعِ.   (1) وَصْفُ عِلْمِ اللَّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِهِ بِالْقِدَمِ لَمْ يَرِدْ فِي نُصُوصِ الشَّرْعِ وَهُوَ يُوهِمُ نَقْصًا. (2) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَتَجَدَّدُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّيْءِ تَعَلُّقُ عِلْمِ اللَّهِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ لَا نَفْسُ عِلْمِ اللَّهِ. وَقَدْ يُسَمِّيهُ بَعْضُهُمْ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا حَادِثًا. وَالْحَقُّ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُقُوعِهَا عَلَى أَنَّهَا سَتَقَعُ لَا وَاقِعَةٌ، وَيَعْلَمُهَا عِنْدَ وُقُوعِهَا وَاقِعَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ] [الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِهِ] الْقِسْمُ الثَّانِي فِي الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ كُنَّا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَجْهَ اسْتِمْدَادِ الْأُصُولِ مِنَ اللُّغَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمَبَادِئِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْهَا، وَلْنُقَدِّمْ عَلَى ذَلِكَ مُقَدِّمَةً فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ نَوْعُ الْإِنْسَانِ أَشْرَفَ مَوْجُودٍ فِي عَالَمِ السُّفْلِيَّاتِ ; لِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا لِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَطْلُوبَاتِ وَأَسْنَى الْمَرْغُوبَاتِ، بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ إِدْرَاكُ الْمَعْقُولَاتِ، وَالْمَيْزُ بَيْنَ حَقَائِقِ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ: ( «كُنْتُ كَنْزًا لَمْ أُعْرَفْ، فَخَلَقْتُ خَلْقًا لِأُعْرَفَ بِهِ» . (1) وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ دُونَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُقَدِّمَاتِ النَّظَرِيَّةِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ، الْمُتَوَسَّلِ بِهَا إِلَى مَطْلُوبَاتِهِ وَتَحْقِيقِ حَاجَاتِهِ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِ مَعَارِفِهِ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ دُونَ مُعِينٍ وَمُسَاعِدٍ لَهُ مِنْ نَوْعِهِ، دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى نَصْبِ دَلَائِلٍ يَتَوَصَّلُ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي ضَمِيرِ الْآخَرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الْمُعِينَةِ لَهُ فِي تَحْقِيقِ غَرَضِهِ، وَأَخَفُّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَأَخَفُّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهَا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْآلَاتِ وَالْأَدَوَاتِ وَلَا فِيهِ ضَرَرَ الِازْدِحَامِ وَلَا بَقَاءَ لَهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَهُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلَا نَصْبٍ، وَذَلِكَ هُوَ مَا يَتَرَكَّبُ مِنَ الْمَقَاطِعِ الصَّوْتِيَّةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا نَوْعُ الْإِنْسَانِ دُونَ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ عِنَايَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ. وَمِنِ اخْتِلَافِ تَرْكِيبَاتِ الْمَقَاطِعِ الصَّوْتِيَّةِ حَدَثَتِ الدَّلَائِلُ الْكَلَامِيَّةُ وَالْعِبَارَاتُ اللُّغَوِيَّةُ.   (1) قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ سَنَدٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وَهِيَ إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِمَعْنًى، أَوْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مُهْمَلٌ لَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَالثَّانِي يَسْتَدْعِي النَّظَرَ فِي أَنْوَاعِهِ، وَابْتِدَاءِ وَضْعِهِ وَطَرِيقِ مَعْرِفَتِهِ، فَهَذَانِ أَصْلَانِ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهِمَا. الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَنْوَاعِهِ وَهِيَ نَوْعَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ مُفْرَدًا أَوْ مُرَكَّبًا. الْأَوَّلُ: فِي الْمُفْرَدِ، وَفِيهِ سِتَّةُ فُصُولٍ. [أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الدَّالُّ بِالْوَضْعِ مُفْرَدًا] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَتِهِ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَتِهِ أَمَّا حَقِيقَتُهُ فَهُوَ مَا دَلَّ بِالْوَضْعِ عَلَى مَعْنًى، وَلَا جُزْءَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ (إِنْ) مِنْ قَوْلِنَا إِنْسَانٌ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الشُّرْطِيَّةِ فَلَيْسَتْ إِذْ ذَاكَ جُزْءًا مِنْ لَفْظِ الْإِنْسَانِ، وَحَيْثُ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ لَفْظِ الْإِنْسَانِ لَمْ تَكُنْ شَرْطِيَّةً ; لِأَنَّ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَتْ لِذَوَاتِهَا، بَلْ هِيَ تَابِعَةٌ لِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ حَيْثُ جَعَلَ (إِنْ) شَرْطِيَّةً لَمْ يَقْصِدْ جَعْلَهَا غَيْرَ شَرْطِيَّةٍ، وَعَلَى هَذَا فَعَبْدُ اللَّهِ إِنْ جُعِلَ عَلَمًا عَلَى شَخْصٍ كَانَ مُفْرَدًا، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ النِّسْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعُبُودِيَّةِ كَانَ مُرَكَّبًا لِدَلَالَةِ أَجْزَائِهِ عَلَى أَجْزَاءِ مَعْنَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَقْسَامِ دَلَالَتِهِ] الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَقْسَامِ دَلَالَتِهِ وَهُوَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ دَلَالَتُهُ لَفْظِيَّةً أَوْ غَيْرَ لَفْظِيَّةٍ، وَاللَّفْظِيَّةُ إِمَّا أَنْ تُعْتَبَرَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَالِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ اللَّفْظُ، أَوْ إِلَى بَعْضِهِ، فَالْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَعْنَاهُ. وَالثَّانِي: دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ كَدَلَالَةِ لَفْظِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَوِ النَّاطِقِ. (1) ، وَالْمُطَابَقَةُ أَعَمُّ مِنَ التَّضَمُّنِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ بَسِيطًا لَا جُزْءَ لَهُ. وَأَمَّا غَيْرُ اللَّفْظِيَّةِ، فَهِيَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ لَهُ مَعْنًى، وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَهُ لَازِمٌ مِنْ خَارِجٍ، فَعِنْدَ فَهْمِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ مِنَ اللَّفْظِ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ إِلَى لَازِمِهِ، وَلَوْ قُدِّرِ عَدَمُ هَذَا الِانْتِقَالِ الذِّهْنِيِّ لَمَا كَانَ ذَلِكَ اللَّازِمُ مَفْهُومًا، وَدَلَالَةُ الِالْتِزَامِ وَإِنْ شَارَكَتْ دَلَالَةَ التَّضَمُّنِ فِي افْتِقَارِهِمَا إِلَى نَظَرٍ عَقْلِيٍّ يَعْرِفُ اللَّازِمَ فِي الِالْتِزَامِ، وَالْجُزْءَ فِي دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي التَّضَمُّنِ لِتَعْرِيفِ كَوْنِ الْجُزْءِ دَاخِلًا فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَفِي الِالْتِزَامِ لِتَعْرِيفِ كَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ دَلَالَةُ التَّضَمُّنِ لَفْظِيَّةً بِخِلَافِ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَدَلَالَةُ الِالْتِزَامِ مُسَاوِيَةٌ لِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ ضَرُورَةَ (2) امْتِنَاعِ خُلُوِّ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْمُطَابِقِ عَنْ لَازِمٍ، وَأَعَمُّ مِنْ دَلَالَةِ التَّضَمُّنِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اللَّازِمُ لِمَا لَا جُزْءَ لَهُ.   (1) فَالْحَيَوَانِيَّةُ وَالنُّطْقُ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءٌ عَقْلِيٌّ لِلْإِنْسَانِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْإِنْسَانِ عَلَى بَعْضِ مَدْلُولِهِ الْحِسِّيِّ مِنْ يَدٍ وَعَيْنٍ وَمِثْلِهَا. (2) الْمُنَاسِبُ لِهَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَقُولَ: وَدَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَا تَنْفَكُّ عَنْ دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَأَيْضًا دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ أَعَمُّ مِنَ الْمُطَابَقَةِ لِوُجُودِهَا مَعَ التَّضَمُّنِ. وَبِالْجُمْلَةِ وَقَعَ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ أَنْوَاعِ الدَّلَالَاتِ مَنْشَؤُهُ اخْتِلَافُ الِاعْتِبَارَاتِ، فَمَنْ أَرَادَ الِاسْتِقْصَاءَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى بَحْثِ الدَّلَالَاتِ فِي كُتُبِ الْبَلَاغَةِ وَالْمَنْطِقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أَقْسَامِ الْمُفْرَدِ] الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أَقْسَامِ الْمُفْرَدِ وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَصِحَّ جَعْلُهُ أَحَدَ جُزْأَيِ الْقَضِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ الَّتِي هِيَ ذَاتُ جُزْأَيْنِ فَقَطْ، أَوْ لَا يَصِحُّ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ تَرَكُّبُ الْقَضِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الِاسْمُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ الْفِعْلُ. وَأَمَّا قَسِيمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ الْحَرْفُ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ الْأَسْمَاءُ النَّوَاقِصُ كَالَّذِي وَالَّتِي، وَالْمُضْمَرَاتُ كَهُوَ وَهِيَ، حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا أَحَدَ جُزْأَيِ الْقَضِيَّةِ الْخَبَرِيَّةِ عِنْدَ تَجَرُّدِهَا، وَلَا تُرَكَّبُ الْقَضِيَّةُ الْخَبَرِيَّةُ مِنْهَا ; لِأَنَّهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِيهَا عِنْدَ تَجَرُّدِهَا فَالنَّوَاقِصُ عِنْدَ تَعَيُّنُهَا بِالصِّلَةِ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْمُضْمَرَاتُ عِنْدَ إِضَافَتِهَا إِلَى الْمُظْهَرَاتِ بِخِلَافِ الْحُرُوفِ. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الِاسْمِ] [الْقِسْمَةُ الْأُولَى أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ لَا يَصِحُّ] الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي الِاسْمِ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الزَّمَانُ الْخَارِجُ عَنْ مَعْنَاهُ لِبِنْيَتِهِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَمُسَمَّاهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَمَفْهُومُهُ مُنْقَسِمٌ عَلَى وُجُوهٍ: الْقِسْمَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ لَا يَصِحُّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ كُلِّيٌّ، وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ فِيهِ الشَّرِكَةُ بِالْفِعْلِ مَا بَيْنَ أَشْخَاصٍ مُتَنَاهِيَةٍ كَاسْمِ الْكَوْكَبِ، أَوْ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ، أَوْ لَمْ تَقَعْ إِمَّا لِمَانِعٍ مِنْ خَارِجٍ كَاسْمِ الْعَالَمِ (1) وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، أَوْ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ كَاسْمِ عَنْقَاءِ مُغْرِبٍ أَوْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ.   (1) بِفَتْحِ اللَّامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً أَوْ لَا يَكُونُ صِفَةً، وَالصِّفَةُ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَمَا لَيْسَ بِصِفَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَإِمَّا مَعْنًى كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا اخْتِلَافَ فِي مَدْلُولِهِ بِشِدَّةٍ وَلَا ضَعْفٍ وَلَا تَقَدُّمٍ وَتَأَخُّرٍ، فَهُوَ الْمُتَوَاطِئُ كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَإِلَّا فَمُشَكِّكٌ كَلَفْظِ الْوُجُودِ وَالْأَبْيَضِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاتِيًّا لِلْمُشْتَرِكَاتِ فِيهِ أَوْ عَرَضِيًّا. فَإِنْ كَانَ ذَاتِيًّا، فَالْمُشْتَرِكَاتُ فِيهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُخْتَلِفَةً بِالذَّوَاتِ أَوْ بِالْعَرَضِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا فِي جَوَابٍ (مَا هِيَ) فَهُوَ الْجِنْسُ أَوْ لَا يُقَالُ كَذَلِكَ، فَهُوَ ذَاتِيٌّ مُشْتَرَكٌ إِمَّا جِنْسُ جِنْسٍ، أَوْ فَصْلُ فَصْلٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً بِالْعَرَضِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ عَلَيْهَا فِي جَوَابِ (مَا) أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ هُوَ النَّوْعُ وَالثَّانِي هُوَ فَصْلُ النَّوْعِ. وَإِنْ كَانَ عَرَضِيًّا فَإِنْ كَانَتِ الْمُشْتَرِكَاتُ مُخْتَلِفَةً بِالذَّوَاتِ فَهُوَ الْعَرَضُ الْعَامُّ، وَإِلَّا فَهُوَ الْخَاصَّةُ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَفْهُومُهُ غَيْرَ صَالِحٍ لِاشْتِرَاكِ كَثِيرِينَ فِيهِ فَهُوَ الْجُزْئِيُّ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ تَأْلِيفٌ أَوْ فِيهِ. وَالْأَوَّلُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُرْتَجَلًا، أَوْ هُوَ مُرْتَجِلٌ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْتَجَلًا فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مَنْقُولًا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، أَوْ هُوَ مَنْقُولٌ، وَالْمَنْقُولُ إِمَّا عَنِ اسْمٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ صَوْتٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا عَنِ اسْمِ عَيْنٍ كَأَسَدٍ وَعُقَابٍ، أَوِ اسْمِ مَعْنًى كَفَضْلٍ، أَوِ اسْمِ صِفَةٍ كَحَاتِمٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَإِمَّا عَنْ مَاضٍ كَشَمِرٍ، أَوْ مُضَارِعٍ كَتَغْلِبَ، أَوْ فِعْلِ أَمْرٍ كَاصْمُتْ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ كَبَبَّةَ. (1)   (1) بَبَّةُ عَلَى وَزْنِ بَتَّةُ حِكَايَةُ صَوْتِ صَبِيٍّ، يُرْوَى عَنِ امْرَأَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ وَهِيَ تُرَقِّصُ وَلَدَهَا: لَأُنْكِحَنَّ بَبَّةَ، جَارِيَةً خِدَبَّةً، مُكَرَّمَةً مُحَبَّةً، تُحِبُّ أَهْلَ الْكَعْبَةِ. انْظُرِ الْقَامُوسَ حَرْفَ الْبَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وَإِنْ كَانَ مُرْتَجَلًا وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مُنَاسَبَةٌ كَحَمْدَانَ. وَإِنْ كَانَ مُؤَلَّفًا فَإِمَّا مِنَ اسْمَيْنِ مُضَافَيْنِ كَعَبْدِ اللَّهِ، أَوْ غَيْرِ مُضَافَيْنِ وَأَحَدُهُمَا عَامِلٌ فِي الْآخَرِ أَوْ غَيْرُ عَامِلٍ. وَالْأَوَّلُ كَتَسْمِيَةِ بَعْضِ النَّاسِ زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَالثَّانِي كَبَعْلَبَكَّ وَحَضْرَمَوْتَ، وَإِمَّا مِنْ فِعْلَيْنِ كَقَامَ قَعَدَ، وَإِمَّا مِنْ حَرْفَيْنِ كَتَسْمِيَتِهِ إِنَّمَا، وَإِمَّا مِنَ اسْمٍ وَفِعْلٍ نَحْوَ تَأَبَّطَ شَرًّا، وَإِمَّا مَنْ حَرْفٍ وَاسْمٍ كَتَسْمِيَتِهِ بِزَيْدٍ، وَإِمَّا مَنْ فِعْلٍ وَحَرَفٍ كَتَسْمِيَتِهِ قَامَ عَلِيٌّ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْمُ وَاحِدًا وَالْمُسَمَّى مُخْتَلِفًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ، أَوْ هُوَ مُسْتَعَارٌ فِي بَعْضِهَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْمُسَمَّيَاتُ مُتَبَايِنَةً كَالْجَوْنِ (1) لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، أَوْ غَيْرَ مُتَبَايِنَةٍ، كَمَا إِذَا أَطْلَقْنَا اسْمَ الْأَسْوَدِ عَلَى شَخْصٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِطَرِيقِ الْعَلَمِيَّةِ، وَأَطْلَقْنَاهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ مِنَ السَّوَادِ الْقَائِمِ بِهِ، فَإِنَّ مَدْلُولَهُ عِنْدَ كَوْنِهِ عَلَمًا إِنَّمَا هُوَ ذَاتُ الشَّخْصِ، وَمَدْلُولُهُ عِنْدَ كَوْنِهِ مُشْتَقًّا الذَّاتُ مَعَ الصِّفَةِ وَهِيَ السَّوَادُ، فَالذَّاتُ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الْعِلْمِ جُزْءٌ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ، وَمَدْلُولُ اللَّفْظِ الْمُشْتَقِّ وَصْفٌ لِمَدْلُولِ الْعِلْمِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَجَازِيُّ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الِاسْمُ مُتَعَدِّدًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مُتَّحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا، فَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا فَتِلْكَ هِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَرَادِفَةُ كَالْبُهْتُرِ وَالْبُحْتُرِ لِلْقَصِيرِ (2) ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مُتَعَدِّدًا فَتِلْكَ هِيَ الْأَسْمَاءُ الْمُتَبَايِنَةُ كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ. مَسَائِلُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ ثَلَاثٌ:   (1) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْوَاوِ وَجَمْعُهُ جُونٍ بِضَمِّ الْجِيمِ (2) بِضَمِّ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَسُكُونِ الثَّانِي فِي الْمِثَالَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي اللُّغَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ (1) ، هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي اللُّغَةِ، فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ، وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ وَوُقُوعُهُ. أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يَضَعَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَفْظًا وَاحِدًا عَلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِالْوَضْعِ الْأَوَّلِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَيُوَافِقُهُ عَلَيْهِ الْبَاقُونَ، أَوْ أَنْ يَتَّفِقَ وَضْعُ إِحْدَى الْقَبِيلَتَيْنِ لِلِاسْمِ عَلَى مَعْنَى حَقِيقَةٍ، وَوَضْعُ الْأُخْرَى لَهُ بِإِزَاءِ مَعْنًى آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بِمَا وَضَعَتْهُ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَشْتَهِرُ الْوَضْعَانِ وَيَخْفَى سَبَبُهُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ، وَلَوْ قُدِّرَ ذَلِكَ لَمَا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ عَقَلًا، كَيْفَ وَإِنَّ وَضْعَ اللَّفْظِ تَابِعٌ لِغَرَضِ الْوَاضِعِ، وَالْوَاضِعُ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ تَعْرِيفَ الشَّيْءِ لِغَيْرِهِ مُفَصَّلًا فَقَدْ يَقْصِدُ تَعْرِيفَهُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفَصَّلٍ؛ إِمَّا لِأَنَّهُ عَلِمَهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمُهُ مُفَصَّلًا، أَوْ لِمَحْذُورٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّفْصِيلِ دُونَ الْإِجْمَالِ، فَلَا يَبْعُدُ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ مِنْهُمْ وَضْعُ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَأَمَّا بَيَانُ الْوُقُوعِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْأَلْفَاظُ الْمُشْتَرَكَةُ وَاقِعَةً فِي اللُّغَةِ مَعَ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَالْأَسْمَاءَ مُتَنَاهِيَةٌ ضَرُورَةَ تَرَكُّبِهَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ ; لَخَلَتْ أَكْثَرُ الْمُسَمَّيَاتِ عَنِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا مَعَ دَعْوَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَغَيْرُ سَدِيدٍ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنَ الْحُرُوفِ الْمُتَنَاهِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُتَنَاهِيَةً، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا يَحْصُلُ مِنْ تَضَاعِيفِ التَّرْكِيبَاتِ مُتَنَاهِيَةً وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَإِنْ كَانَتِ الْأَسْمَاءُ مُتَنَاهِيَةً فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَضَادَّةَ وَالْمُخْتَلِفَةَ - وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا - غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ.   (1) يَنْصَرِفُ الْمُشْتَرَكُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَى الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ، وَهُوَ مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَتَعَدَّدَ وَضْعُهُ وَمَعْنَاهُ، وَإِثْبَاتُ جَوَازِهِ وَوُقُوعِهِ هُنَا تَمْهِيدًا لِلْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامٍ فِي الْمَحْمَلِ: إِنْ قُلْنَا بِحَمْلِهِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، وَفِي الْعَامِّ إِنْ قُلْنَا بِحَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، غَيْرَ أَنَّ وَضْعَ الْأَسْمَاءِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ مَقْصُودًا بِالْوَضْعِ وَمَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَضْعُ. وَلِهَذَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْمَعَانِي لَمْ تَضَعِ الْعَرَبُ بِإِزَائِهَا أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَيْهَا لَا بِطْرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَلَا التَّفْصِيلِ كَأَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَكَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: " أَطْلَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ اسْمَ الْقُرْءِ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَهُمَا ضِدَّانِ، فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ فِي اللُّغَةِ ". (1) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ، بَلْ غَايَةُ الْمَنْقُولِ اتِّحَادُ الِاسْمِ وَتَعَدُّدُ الْمُسَمَّى، وَلَعَلَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى وَاحِدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، لَا بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ حَقِيقَتِهِمَا، أَوْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ فِي الْآخَرِ، وَإِنْ خَفِيَ مَوْضِعُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَهَذَا (2) هُوَ الْأَوْلَى. إِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، فَلِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ. وَإِمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الِاحْتِمَالِ الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ التَّجَوُّزَ أَوْلَى مِنَ الِاشْتِرَاكِ كَمَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ. وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: اتَّفَقَ إِجْمَاعُ الْكُلِّ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْمَوْجُودِ عَلَى الْقَدِيمِ (3) وَالْحَادِثِ حَقِيقَةً، وَلَوْ كَانَ مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا لَصَحَّ نَفْيُهُ إِذْ هُوَ أَمَارَةُ الْمَجَازِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَوْجُودِ دَالًّا عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، أَوْ عَلَى صِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى ذَاتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَاتَ الرَّبِّ تَعَالَى مُخَالِفَةٌ بِذَاتِهَا لِمَا سِوَاهَا مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ (4) ، وَإِلَّا لَوَجَبَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا شَارَكَهَا فِي مَعْنَاهَا فِي الْوُجُوبِ (5) ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي مَفْهُومِ   (1) دَلِيلٌ ثَانٍ لِوُقُوعِ الْمُشْتَرَكِ. (2) اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ لِكُلٍّ مِنَ الْاِعْتَبَارَيْنِ. (3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ ص (12) . (4) الْمُخَالَفَةُ وَعَدَمُ الِاشْتِرَاكِ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ فَقَطْ لَا فِي الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ ; إِذْ لِكُلٍّ مِنَ الْخَوَاصِّ مَا يَلِيقُ بِهِ وَيُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ. (5) لَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَا اشْتِرَاكَ فِي الْخَارِجِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الذَّاتِ (1) وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ مَدْلُولُ اسْمِ الْوُجُودِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى ذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ هُوَ الْمَفْهُومَ مِنَ اسْمِ الْوُجُودِ فِي الْحَوَادِثِ وَإِمَّا خِلَافَهُ، وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُسَمَّى الْوُجُودِ فِي الْمُمْكِنِ وَاجِبًا لِذَاتِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ وُجُودَ الْبَارِي تَعَالَى وَاجِبٌ لِذَاتِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الرَّبِّ مُمْكِنًا ضَرُورَةَ إِمْكَانِ وُجُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ مِنْ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ إِنَّمَا هُوَ التَّفَاهُمُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ مَعَ الِاشْتِرَاكِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فَهْمَ الْمَدْلُولِ مِنْهُ ضَرُورَةً تُسَاوِي النِّسْبَةِ (2) غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ اللَّفْظِ وَالْقَرَائِنِ فَقَدْ تَظْهَرُ وَقَدْ تَخْفَى، وَبِتَقْدِيرِ خَفَائِهَا يَخْتَلُّ الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَضْعِ وَهُوَ الْفَهْمُ. قُلْنَا: وَإِنِ اخْتَلَّ فَهْمُ التَّفْصِيلِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فَلَا يَخْتَلُّ مَعَهُ الْفَهْمُ فِي جِهَةِ الْجُمْلَةِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَيْسَ فَهْمُ التَّفْصِيلِ لُغَةً مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ بِدَلِيلِ وَضْعِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، فَإِنَّهَا لَا تُفِيدُ تَفَاصِيلَ مَا تَحْتَهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَطْلُوبَةَ إِنَّمَا هِيَ   (1) الِاشْتِرَاكُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ فَلَا يَلْزَمُ الْمُحَالُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ مَا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ الدَّلِيلِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَوَهُّمِ أَنَّ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ فِي الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ لِاسْمِ الْوُجُودِ (وَهُوَ مُطْلَقُ الْوُجُودِ) تَسْتَلْزِمُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْخَارِجِ، وَالْمُشَابَهَةَ الَّتِي نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وَلَيْسَ كَذَلِكَ. إِذِ الْكُلِّيُّ لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا فِي الذِّهْنِ، وَلَا اشْتِرَاكَ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ حَتَّى تَلْزَمَ الْمُشَابَهَةُ فِيهِ، فَلِلَّهِ وُجُودٌ يَخُصُّهُ فَلَا أَوَّلَ لِوُجُودِهِ، وَلَا وُجُودَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا تَطْرَأُ عَلَيْهِ آفَاتٌ، وَلَا يَعْتَرِيهِ فَنَاءٌ إِلَخْ. وَلِلْمَخْلُوقِ وُجُودٌ يَخُصُّهُ فَلَهُ أَوَّلٌ وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ غَيْرِهِ وَحَاجَتُهُ مُسْتَمِرَّةٌ وَيَنْتَهِي إِلَى فَنَاءٍ إِلَخْ. وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِاللَّوْنِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ كُلِّيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا فِي الذِّهْنِ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ أَفْرَادُهُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ كَسَوَادِ الْفَحْمِ، وَبَيَاضِ الْقُطْنِ إِلَخْ. وَلَمْ يَلْزَمْ مِنَ اشْتِرَاكِهَا فِي مَعْنَاهُ الْكُلِّيِّ تَشَابُهُهَا فِي الْخَارِجِ، وَلَا مُدَاخَلَةُ كُلٍّ الْآخَرَ فِي خَوَاصِّهِ بَلْ مَا زَالَتْ مُتَضَادَّةً مُتَمَيِّزًا كُلٌّ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ بِخَوَاصِّهِ. وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْ ذَلِكَ فِي الْأَلْوَانِ وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَ ذَلِكَ بَيْنَ اللَّهِ وَعِبَادِهِ. وَإِنْ أَرَدْتَ الْمَزِيدَ فَارْجِعْ إِلَى التَّدْمُرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. (2) تَعْلِيلٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فَهْمُ التَّفْصِيلِ، فَإِنَّمَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ إِنْ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُفِيدَةً لِجَمِيعِ مَدْلُولَاتِهَا بِطَرِيقِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ. (1) وَإِذَا عُرِفَ وُقُوعُ الِاشْتِرَاكِ لُغَةً، فَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} فَإِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ وَإِدْبَارِهِ، وَهُمَا ضِدَّانِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ. وَمَا يَقُولُهُ الْمَانِعُ لِذَلِكَ " مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِفْهَامَ، فَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ الْبَيَانُ فَهُوَ تَطْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ فَاتَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْإِفْهَامَ فَهُوَ عَبَثٌ، وَهُوَ قَبِيحٌ، فَوَجَبَ صِيَانَةُ كَلَامِ اللَّهِ عَنْهُ " فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الذَّاتِيِّ الْعَقْلِيِّ، وَسَيَأْتِي إِبْطَالُهُ. (2) كَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُمُومِ، وَالْعَامُّ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ عُمُومِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْخِطَابِ بِهِ فَائِدَةٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ بِالِاسْتِعْدَادِ لِامْتِثَالِهِ بِتَقْدِيرِ بَيَانِهِ بِظُهُورِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ الْبَعْضِ، وَإِبْطَالُ جَمِيعِ الْأَقْسَامِ سِوَى الْوَاحِدِ مِنْهَا. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ظُنَّ فِي أَشْيَاءَ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ وَهِيَ مُتَوَاطِئَةٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَدْ ظُنَّ فِي أَشْيَاءَ أَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ (3) وَهِيَ مُتَوَاطِئَةٌ (4) ، وَفِي أَشْيَاءَ أَنَّهَا مُتَوَاطِئَةٌ وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَكَقَوْلِنَا " مَبْدَأٌ " لِلنُّقْطَةِ، وَالْآنَ فَإِنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمَوْضُوعُ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الزَّمَانُ وَالْخَطُّ ظُنَّ الِاشْتِرَاكُ فِي اسْمِ الْمَبْدَأِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الْمَبْدَأِ عَلَيْهِمَا إِنَّمَا كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوَّلٌ لِشَيْءٍ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ أَوَّلٌ لِلزَّمَانِ أَوِ الْخَطِّ، وَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُتَوَاطِئٌ وَلَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ.   (1) فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ. (2) فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَبَادِئِ الْفِقْهِيَّةِ. (3) أَيْ مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا. (4) أَيْ مُشْتَرَكَةٌ اشْتِرَاكًا مَعْنَوِيًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَأَمَّا الثَّانِي فَكَقَوْلِنَا " خَمْرِيٌّ " لِلَّوْنِ الشَّبِيهِ بِلَوْنِ الْخَمْرِ، وَلِلْعِنَبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى الْخَمْرِ، وَلِلدَّوَاءِ إِذَا كَانَ يُسْكِرُ كَالْخَمْرِ أَوْ أَنَّ الْخَمْرَ جُزْءٌ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَمَّا اتَّحَدَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْخَمْرُ ظُنَّ أَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اسْمَ الْخَمْرِيِّ وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ النِّسَبِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَيْهِ وَمَعَ الِاخْتِلَافِ فَلَا تَوَاطُؤَ. نَعَمْ لَوْ أَطْلَقَ اسْمَ الْخَمْرِيِّ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِاعْتِبَارِ مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ مِنْ عُمُومِ النِّسْبَةِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّاتِهَا كَانَ مُتَوَاطِئًا. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ذَهَبَ شُذُوذٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ تَعَدُّدُ الْمُسَمَّيَاتِ وَاخْتِصَاصُ كُلِّ اسْمٍ بِمُسَمًّى غَيْرِ مُسَمَّى الْآخَرِ، وَبَيَانُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى تَعْطِيلُ فَائِدَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ لِحُصُولِهَا بِاللَّفْظِ الْآخَرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِاتِّحَادِ الْمُسَمَّى فَهُوَ نَادِرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسَمَّى الْمُتَعَدِّدِ بِتَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ، وَغَلَبَةُ اسْتِعْمَالِ الْأَسْمَاءِ بِإِزَاءِ الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ أَهْلِ الْوَضْعِ مِنْ وَضْعِهِمْ. فَاسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِيمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ خِلَافُ الْأَصْلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَؤُونَةَ فِي حِفْظِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ أَخَفُّ مِنْ حِفْظِ الِاسْمَيْنِ، وَالْأَصْلُ إِنَّمَا هُوَ الْتِزَامُ أَعْظَمِ (1) الْمُشْتَقَّيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْظَمِ الْفَائِدَتَيْنِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا اتَّحَدَ الِاسْمُ دَعَتْ حَاجَةُ الْكُلِّ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مَعَ خِفَّةِ الْمَؤُونَةِ فِي حِفْظِهِ فَعَمَّتْ فَائِدَةُ التَّخَاطُبِ بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ إِذَا تَعَدَّدَتِ الْأَسْمَاءُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى أَمْرَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ مَجْمُوعَ الْأَسْمَاءِ، أَوِ الْبَعْضَ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ شَاقٌّ جِدًّا وَقَلَّمَا يَتَّفِقُ ذَلِكَ، وَالثَّانِي فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِخْلَالُ بِفَائِدَةِ التَّخَاطُبِ لِجَوَازِ اخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَعْرِفَةِ اسْمٍ لَا يَعْرِفُهُ الْآخَرُ.   (1) الصَّوَابُ أَخَفَّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى إِنْكَارِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا أَنْ يَضَعَ وَاحِدٌ لَفْظَيْنِ عَلَى مُسَمَّى وَاحِدٍ ثُمَّ يَتَّفِقُ الْكُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ أَنْ تَضَعَ إِحْدَى الْقَبِيلَتَيْنِ أَحَدَ الِاسْمَيْنِ عَلَى مُسَمَّى وَتَضَعُ الْأُخْرَى لَهُ اسْمًا آخَرَ مِنْ غَيْرِ شُعُورِ كُلِّ قَبِيلَةٍ بِوَضْعِ الْأُخْرَى، ثُمَّ يَشِيعُ الْوَضْعَانِ بَعْدُ بِذَلِكَ، كَيْفَ وَذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ وَاقِعٌ بِالنَّظَرِ إِلَى لُغَتَيْنِ ضَرُورَةً فَكَانَ جَائِزًا بِالنَّظَرِ إِلَى قَبِيلَتَيْنِ. قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ " لَا فَائِدَةَ فِي أَحَدِ الِاسْمَيْنِ " لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّوْسِعَةُ فِي اللُّغَةِ وَتَكْثِيرُ الطُّرُقِ الْمُفِيدَةِ لِلْمَطْلُوبِ، فَيَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَذُّرِ حُصُولِ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ تَعَذُّرُ الْآخَرِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اتَّحَدَ الطَّرِيقُ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَوَائِدُ أُخَرَ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ بِمُسَاعَدَةِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ فِي الْحَرْفِ الرَّوِيِّ وَوَزْنِ الْبَيْتِ وَالْجِنَاسِ وَالْمُطَابَقَةِ وَالْخِفَّةِ فِي النُّطْقِ بِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ لِأَرْبَابِ الْأَدَبِ وَأَهْلِ الْفَصَاحَةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَغَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُقُوعِ التَّرَادُفِ، بِدَلِيلِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجَازِيَّةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَحْذُورُ مِنْهُ وَهُوَ زِيَادَةُ مَؤُونَةِ الْحِفْظِ، إِنْ لَوْ وُظِّفَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حِفْظُ جَمِيعِ الْمُتَرَادِفَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي حِفْظِ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ (1) مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا. وَعَنِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ، أَنَّهُ مُلْغًى بِالتَّرَادُفِ فِي لُغَتَيْنِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالتَّرَادُفِ الْإِخْلَالُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ أَوَّلًا وَهُوَ مَحْذُورٌ. ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ، مَا نُقِلَ عَنِ الْعَرَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ " الصُّهْلُبُ وَالشَّوْذَبُ مِنْ أَسْمَاءِ الطَّوِيلِ، وَالْبُهْتُرُ وَالْبُحْتُرُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَصِيرِ " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَا دَلِيلَ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ حَتَّى يَتْبَعَ مَا يَقُولُهُ مَنْ يَتَعَسَّفُ فِي هَذَا الْبَابِ فِي بَيَانِ اخْتِلَافِ الْمَدْلُولَاتِ، لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَفِيَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ وَظَهَرَ الْبَعْضُ، فَيُجْعَلُ الْأَشْهُرُ بَيَانًا لِلْأَخْفَى وَهُوَ الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ.   (1) إِدْخَالُ (الْ) عَلَى كُلٍّ وَبَعْضٍ لَمْ يُعْرَفْ عَرَبِيَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَقَدْ ظُنَّ بِأَسْمَاءَ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ وَهِيَ مُتَبَايِنَةٌ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا إِذَا كَانَتِ الْأَسْمَاءُ لِمَوْضُوعٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالسَّيْفِ وَالصَّارِمِ وَالْهِنْدِيِّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ صِفَتِهِ وَصِفَةِ صِفَتِهِ كَالنَّاطِقِ وَالْفَصِيحِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَيُفَارِقُ الْمُرَادِفُ الْمُؤَكِّدَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُرَادِفَ لَا يَزِيدُ مُرَادِفُهُ إِيضَاحًا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَا يُرَادِفُ الشَّيْءُ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُؤَكِّدِ. وَالتَّابِعُ فِي اللَّفْظِ فَمُخَالِفٌ لَهُمَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ الْمَتْبُوعِ، وَأَنَّهُ قَدْ لَا يُفِيدُ مَعْنًى أَصْلًا كَقَوْلِهِمْ: حَسَنٌ بَسَنٌ، وَشَيْطَانٌ لَيْطَانٌ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: سَأَلَتْ أَبَا حَاتِمٍ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ " بَسَنٌ " فَقَالَ: مَا أَدْرِي مَا هُوَ. [الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى ظَاهِرٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا بَيْنَهُمَا] الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى ظَاهِرٍ وَمُضْمَرٍ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقْصَدَ بِهِ الْبَيَانُ مَعَ الِاخْتِصَارِ أَوْ لَا مَعَ الِاخْتِصَارِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ لَا يُقْصَدَ مَعَهُ التَّنْبِيهُ أَوْ يُقْصَدَ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُضْمَرُ، وَالثَّانِي مَا بَيْنَهُمَا. فَأَمَّا الِاسْمُ الظَّاهِرُ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ آخِرُهُ أَلِفًا وَلَا يَاءَ قَبْلَهَا كَسْرَةٌ أَوْ يَكُونُ. فَالْأَوَّلُ هُوَ الِاسْمُ الصَّحِيحُ، فَإِنْ دَخَلَهُ حَرَكَةُ الْجَرِّ مَعَ التَّنْوِينِ فَهُوَ الْمُنْصَرِفُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ كَأَحْمَدَ وَإِبْرَاهِيمَ. وَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَلُّ، فَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ يَاءً قَبْلَهَا كَسْرَةٌ فَهُوَ الْمَنْقُوصُ كَالْقَاضِي وَالدَّاعِي، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ أَلِفٌ فَهُوَ الْمَقْصُورُ كَالدُّنْيَا وَالْأُخْرَى، وَإِنْ كَانَ فِي آخِرِهِ هَمْزَةٌ قَبْلَهَا أَلِفٌ فَهُوَ الْمَمْدُودُ كَالرِّدَاءِ وَالْكِسَاءِ. وَأَمَّا الْمُضْمَرُ، فَهُوَ إِمَّا مُنْفَصِلٌ وَإِمَّا مُتَّصِلٌ، وَالْمُنْفَصِلُ نَحْوَ: أَنَا وَنَحْنُ وَهُوَ وَهِيَ وَنَحْوُهُ، وَالْمُتَّصِلُ نَحْوَ: فَعَلْتُ وَفَعَلْنَا، وَمَا بَيْنَهُمَا فَهُوَ اسْمُ الْإِشَارَةِ. وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْرَدًا لَيْسَ مَعَهُ تَنْبِيهٌ وَلَا خِطَابٌ، أَوْ يَكُونُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فَالْأَوَّلُ نَحْوَ ذَا وَذَانِ وَذَيْنِ وَأُولَاءِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ غَيْرَ مُفْرَدٍ فَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ التَّنْبِيهُ لَا غَيْرُ فَنَحْوُ هَذَا وَهَذَانِ، وَإِنْ وُجِدَ مَعَهُ الْخِطَابُ فَنَحْوُ ذَاكَ وَذَانِكَ، وَإِنِ اجْتَمَعَا مَعَهُ فَنَحْوُ هَذَاكَ وَهَاتِيكَ. ثُمَّ مَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ أُصُولٍ نَفْيًا لِلْإِجْحَافِ عَنْهُ مَعَ قُوَّتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْفِعْلِ وَالْحَرْفِ. إِلَّا فِيمَا شَذَّ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَدٌ وَدَمٌ وَأَبٌ وَأَخٌ وَنَحْوُهُ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْحَرْفُ الثَّالِثُ. وَمَا كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُضْمَرَةِ مُتَّصِلًا كَانَ مَنْ حَرْفٍ وَاحِدٍ كَالتَّاءِ مَنْ فَعَلْتَ. وَإِنْ كَانَ مُنْفَصِلًا فَلَا يَكُونُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ حَرْفَيْنِ، يُبْتَدَأُ بِأَحَدِهِمَا وَيُوقَفُ عَلَى الْآخَرِ نَحْوُ: هُوَ وَهِيَ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَقَلِّ مِنْ حَرْفَيْنِ أَيْضًا نَحْوُ: ذَا وَذِي وَنَحْوُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَوْ لَا بِعَيْنِهِ. فَالْأَوَّلُ هُوَ " الْمَعْرِفَةُ " كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَالْمُضْمَرَاتِ، وَالْمُبْهَمَاتِ كَأَسْمَاءِ الْإِشَارَةِ، وَالْمَوْصُولَاتِ، وَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ لَامُ التَّعْرِيفِ، وَمَا أُضِيفَ إِلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ. وَالثَّانِي هُوَ " النَّكِرَةُ " كَإِنْسَانٍ وَفَرَسٍ. وَمَا أُلْحِقَ بِآخِرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ يَاءٌ مُشَدَّدَةٌ مَكْسُورُ مَا قَبْلَهَا، فَهُوَ الْمَنْسُوبُ كَالْهَاشِمِيِّ وَالْمَكِّيِّ وَنَحْوِهِ. [الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ] الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ الِاسْمُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ. (1) أَمَّا " الْحَقِيقَةُ " فَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْحَقِّ، وَالْحَقُّ هُوَ الثَّابِتُ اللَّازِمُ وَهُوَ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، وَمِنْهُ يُقَالُ حَقَّ الشَّيْءُ حَقَّهُ، وَيُقَالُ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ أَيْ ذَاتُهُ الثَّابِتَةُ اللَّازِمَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أَيْ وَجَبَتْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (حَقِيقٌ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقُولَ) أَيْ وَاجِبٌ عَلَيَّ.   (1) انْظُرْ كَلَامَ ابْنِ تَيْمِيَّةَ عَلَى تَقْسِيمِ اللَّفْظِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَالرِّسَالَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَكَلَامَ ابْنِ الْقِيَمِ عَلَى الْمَجَازِ فِي الصَّوَاعِقِ، الْجُزْءُ الثَّانِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْمَاءَ الْحَقِيقِيَّةَ قَدْ يُطْلِقُهَا الْأُصُولِيُّونَ عَلَى لُغَوِيَّةٍ وَشَرْعِيَّةٍ، وَاللُّغَوِيَّةُ تَنْقَسِمُ إِلَى وَضْعِيَّةٍ وَعُرْفِيَّةٍ، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ، فَلْنَعْرِفْهَا ثُمَّ نَعُودُ إِلَى بَاقِي الْأَقْسَامِ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهَا حُدُودٌ وَاهِيَةٌ يُسْتَغْنَى عَنْ تَضْيِيعِ الزَّمَانِ بِذِكْرِهَا. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ، كَالْأَسَدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْحَيَوَانِ الشُّجَاعِ الْعَرِيضِ الْأَعَالِي، وَالْإِنْسَانِ فِي الْحَيَوَانِ النَّاطِقِ. وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ اللُّغَوِيَّةُ فَهِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ وَهِيَ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ قَدْ وُضِعَ لِمَعْنًى عَامٍّ ثُمَّ يُخَصَّصُ بِعُرْفِ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، كَاخْتِصَاصِ لَفْظِ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ عُرْفًا وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِكُلِّ مَا دَبَّ، وَذَلِكَ إِمَّا لِسُرْعَةِ دَبِيبِهِ أَوْ كَثْرَةِ مُشَاهَدَتِهِ أَوْ كَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ بِمَعْنًى ثُمَّ يَشْتَهِرُ فِي عُرْفِ اسْتِعْمَالِهِمْ بِالْمَجَازِ الْخَارِجِ عَنِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ غَيْرُهُ، كَاسْمِ الْغَائِطِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِلْمَوْضِعِ الْمُطْمَئِنِّ مِنَ الْأَرْضِ غَيْرَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَهَرَ فِي عُرْفِهِمْ بِالْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ مِنَ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ غَيْرُهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شُهْرَةُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْغَائِطِ مِنَ الْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ مِنَ الْإِنْسَانِ لِكَثْرَةِ مُبَاشَرَتِهِ وَغَلَبَةِ التَّخَاطُبِ بِهِ مَعَ الِاسْتِنْكَافِ مَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ الْخَاصِّ بِهِ لِنُفْرَةِ الطِّبَاعِ عَنْهُ، فَكَنُّوا عَنْهُ بِلَازِمِهِ أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ. وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَهِيَ اسْتِعْمَالُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا كَانَ مَوْضُوعًا لَهُ أَوَّلًا فِي الشَّرْعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ وَمُسَمَّاهُ لَا يَعْرِفُهُمَا أَهْلُ اللُّغَةِ أَوْ هُمَا مَعْرُوفَانِ لَهُمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَضَعُوا ذَلِكَ الِاسْمَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، أَوْ عَرَفُوا الْمَعْنَى وَلَمْ يَعْرِفُوا الِاسْمَ، أَوْ عَرَفُوا الِاسْمَ وَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ الْمَعْنَى، كَاسْمِ الصَّلَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، لَكِنَّ رُبَّمَا خُصَّتْ هَذِهِ بِالْأَسْمَاءِ الدِّينِيَّةِ. وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحُدَّ الْحَقِيقَةَ عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ جَمِيعَ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ قُلْتَ: " الْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الِاصْطِلَاحِ الَّذِي بِهِ التَّخَاطُبُ " فَإِنَّهُ جَامِعٌ مَانِعٌ. وَأَمَّا الْمَجَازُ فَمَأْخُوذٌ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْجَوَازِ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَمِنْهُ يُقَالُ: جَازَ فُلَانٌ مِنْ جِهَةِ كَذَا إِلَى كَذَا. وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ بِانْتِقَالِ اللَّفْظِ مِنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ إِلَى غَيْرِهَا. وَقَبْلَ النَّظَرِ فِي تَحْدِيدِهِ يَجِبُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَكُونُ لِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْوَضْعِيَّةِ وَعَنِ الْعُرْفِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ إِلَى غَيْرِهَا، كَمَا كَانَتِ الْحَقِيقَةُ مُنْقَسِمَةً إِلَى: وَضْعِيَّةٍ، وَعُرْفِيَّةٍ، وَشَرْعِيَّةٍ. وَعِنْدَ هَذَا نَقُولُ: مَنِ اعْتَقَدَ كَوْنَ الْمَجَازِ وَضْعِيًّا قَالَ فِي حَدِّ الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ الْوَضْعِيَّةِ: " هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَوَاضَعُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ "، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ كَوْنَهُ وَضْعِيًّا أَبْقَى الْحَدَّ بِحَالِهِ وَأَبْدَلَ الْمُتَوَاضَعَ عَلَيْهِ بِالْمُسْتَعْمَلِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى حَدُّ التَّجَوُّزِ عَنِ الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ. وَإِنْ أَرَدْتَ التَّحْدِيدَ عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ الْجَمِيعَ قُلْتَ: " هُوَ اللَّفْظُ الْمُتَوَاضَعُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ أَوِ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا فِي الِاصْطِلَاحِ الَّذِي بِهِ الْمُخَاطَبَةُ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ " وَنَعْنِي بِالتَّعَلُّقِ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ التَّجَوُّزِ مُشَابِهًا لِمَحَلِّ الْحَقِيقَةِ فِي شَكْلِهِ وَصُورَتِهِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمُصَوِّرِ عَلَى الْحَائِطِ، أَوْ فِي صِفَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي صِفَةِ الشَّجَاعَةِ لَا فِي صِفَةِ الْبَخْرِ لِخَفَائِهَا، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ حَقِيقَةً كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُعْتَقِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَيْهِ فِي الْغَالِبِ كَتَسْمِيَةِ الْعَصِيرِ خَمْرًا، أَوْ أَنَّهُ مُجَاوِرٌ لَهُ فِي الْغَالِبِ كَقَوْلِهِمْ: جَرَى النَّهْرُ وَالْمِيزَابُ وَنَحْوُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وَجَمِيعُ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ (1) ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْحَدَّ بِاللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَجَازِ اللَّفْظِيِّ لَا مُطْلَقًا، وَبِقَوْلِنَا: " الْمُتَوَاضَعُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ أَوِ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا " تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْحَقِيقَةِ. وَبِقَوْلِنَا: " لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّعَلُّقِ " لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِعْمَالُ ابْتِدَاءَ وَضْعٍ آخَرَ، وَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا لَا مَجَازًا. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْحَدِّ غَيْرُ جَامِعٍ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ التَّجَوُّزُ بِتَخْصِيصِ الِاسْمِ بِبَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ فِي اللُّغَةِ كَتَخْصِيصِ لَفْظِ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، فَإِنَّهُ مَجَازٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا ; لِدُخُولِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فِي الْمَدْلُولِ الْأَصْلِيِّ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَيْضًا خُرُوجُ التَّجَوُّزِ بِزِيَادَةِ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَإِنَّهُ مَجَازٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي إِفَادَةِ شَيْءٍ أَصْلًا، وَيَخْرُجُ أَيْضًا مِنْهُ التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْأَسَدِ عَنِ الْإِنْسَانِ حَالَةَ قَصْدِ تَعْظِيمِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ تَعْظِيمُهُ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ أَسَدًا لَا بِمُجَرَّدِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ مَا إِذَا جُعِلَ عَلَمًا لَهُ وَمَدْلُولُهُ إِذْ ذَاكَ، لَا بِكَوْنِ غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَتَدَخُلُ (2) فِيهِ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ كَلَفْظِ الْغَائِطِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ أَوَّلًا،، وَالْحَقِيقَةُ (3) مِنْ حَيْثُ هِيَ حَقِيقَةٌ لَا تَكُونُ مَجَازًا. قُلْنَا: أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ ; لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُطْلَقِ مُخَالِفَةٌ لِحَقِيقَةِ الْمُقَيَّدِ مِنْ حَيْثُ هَمَّا كَذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ لَفْظُ الدَّابَّةِ حَقِيقَةً فِي مُطْلَقِ دَابَّةٍ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الدَّابَّةِ الْمُقَيَّدَةِ عَلَى الْخُصُوصِ يَكُونُ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا. وَأَمَّا الْكَافُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَلَيْسَتْ مُسْتَعْمَلَةً لِلِاسْمِيَّةِ كَوَضْعِهَا فِي اللُّغَةِ وَلَا لِلتَّشْبِيهِ، وَإِلَّا كَانَ مَعْنَاهَا لَيْسَ لِمِثْلِهِ مِثْلٌ " وَهُوَ مِثْلٌ لِمَثِيلِهِ " فَكَانَ تَنَاقُضًا فَكَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً لَا فِيمَا لَهُ فِي اللُّغَةِ أَوَّلًا، فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْحَدِّ.   (1) هِيَ الْعَلَاقَاتُ الَّتِي بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مِنْ تَشْبِيهٍ وَغَيْرِهِ. (2) التَّرْدِيدُ بَأَوْ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ الْمَجَازَ مَوْضُوعٌ أَوَّلًا. (3) اعْتِرَاضٌ آخَرُ بِأَنَّ التَّعْرِيفَ غَيْرُ مَانِعٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الْأَسَدِ عَنِ الْإِنْسَانِ تَعْظِيمًا لَهُ، فَلَيْسَ لِتَقْدِيرِ مُسَمَّى الْأَسَدِ الْحَقِيقِيِّ فِيهِ بَلْ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي صِفَتِهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ. وَالْحَقِيقَةُ (1) الْعُرْفِيَّةُ وَإِنْ كَانَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى تَوَاضُعِ أَهْلِ الْعُرْفِ عَلَيْهَا فَلَا (2) تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا مَجَازًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا وَلَا تَنَاقُضَ، وَإِذَا عُرِفَ (3) مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَمَهْمَا وَرَدَ لَفْظٌ فِي مَعْنًى وَتَرَدَّدَ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ (4) فَقَدْ يُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِالنَّقْلِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقْلٌ فَقَدْ يُعْرَفُ كَوْنُهُ مَجَازًا بِصِحَّةِ نَفْيِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَيُعْرَفُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً بِعَدَمِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ سُمِّيَ مِنَ النَّاسِ حِمَارًا لِبَلَادَتِهِ إِنَّهُ لَيْسَ بِحِمَارٍ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِمَا كَانَ حَقِيقَةً فِيهِ. وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَدْلُولُ مِمَّا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَجَازًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَدْلُولَاتِ، فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَغَيْرُهُ هُوَ الْمَجَازُ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَا يَطَّرِدُ فِي الْمَجَازِ الْمَنْقُولِ حَيْثُ إِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ اللَّفْظِ دُونَ حَقِيقَتِهِ، فَالْأَمْرُ فِيهِمَا بِالضِّدِّ مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ وَيَنْتَقِضُ أَيْضًا بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولَاتِهِ مَعَ عَدَمِ تَبَادُرِ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ إِذَا تَبَادَرَ مَدْلُولُهُ إِلَى الذِّهْنِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، فَإِنْ عُلِمَ كَوْنُهُ مَجَازًا فَهُوَ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ لِاخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْغَالِبِ، وَإِدْرَاجُ النَّادِرِ تَحْتَ الْغَالِبِ أَوْلَى. وَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَحَامِلِهِ فَقَدِ انْدَفَعَ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إِلَّا وَاحِدًا مِنْ مَدْلُولَاتِهِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ فَهُوَ   (1) صَوَابُهُ: فَالْحَقِيقَةُ لِأَنَّهُ جَوَابُ الشَّرْطِ. (2) بَدَءَ الْجَوَابَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ بِالْمَنْعِ. (3) الصَّوَابُ حَذْفُ الْفَاءِ فَإِنَّهُ خَبَرُ (حَقِيقَةً) ". (4) أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى عَلَامَاتِ الْمَجَازِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنِ الْحَقِيقَةِ - انْظُرْ كِتَابَ " الْإِيمَانِ " جُزْءُ 7 مِنَ الْفَتَاوَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 حَقِيقَةٌ فِي الْوَاحِدِ عَلَى الْبَدَلِ لَا فِي الْوَاحِدِ عَيْنًا، وَالَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ فَهُوَ مُتَبَادَرٌ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، وَهُوَ الْوَاحِدُ عَلَى الْبَدَلِ، وَالَّذِي لَمْ يَتَبَادَرْ إِلَى الْفَهْمِ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ غَيْرُ حَقِيقَةٍ فِيهِ (1) ، وَفِيهِ دِقَّةٌ. وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ مُطَّرِدًا فِي مَدْلُولِهِ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ الْمَنْعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالشَّارِعُ مِنَ الِاطِّرَادِ، وَذَلِكَ كَتَسْمِيَةِ الرَّجُلِ الطَّوِيلِ نَخْلَةً إِذْ هُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ طَوِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ الِاطِّرَادِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّجَوُّزِ، فَإِنَّ اسْمَ السَّخِيِّ حَقِيقَةٌ فِي الْكَرِيمِ، وَالْفَاضِلُ حَقِيقَةٌ فِي الْعَالِمِ، وَهَذَانِ الْمَدْلُولَانِ مَوْجُودَانِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقَالُ لَهُ سَخِيٌّ وَلَا فَاضِلٌ، وَكَذَلِكَ اسْمُ الْقَارُورَةِ حَقِيقَةٌ فِي الزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ لِكَوْنِهَا مَقَرًّا لِلْمَائِعَاتِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْجَرَّةِ وَالْكُوزِ، وَلَا يُسَمَّى قَارُورَةً وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنَّ الِاطِّرَادَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِجَوَازِ اطِّرَادِ بَعْضِ الْمَجَازَاتِ وَعَدَمِ الِاطِّرَادِ فِي بَعْضِهَا كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّعْمِيمُ. قُلْنَا: أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ، فَقَدِ انْدَفَعَ بِقَوْلِنَا: (إِذَا لَمْ يُوجَدُ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ وَلَا لُغَوِيٌّ) وَفِيمَا أَوْرَدَ مِنَ الصُّوَرِ قَدْ وُجِدَ الْمَنْعُ وَلَوْلَاهُ لَكَانَ الِاسْمُ مُطَّرِدًا فِيهَا. وَأَمَّا الثَّانِي، فَإِنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ الِاطِّرَادَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ لِيَلْزَمَ مَا قِيلَ، بَلِ الْمُدَّعَى أَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ دَلِيلُ الْمَجَازِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ قَدِ اتُّفِقَ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي غَيْرِ الْمُسَمَّى الْمَذْكُورِ، وَجَمْعُهُ مُخَالِفٌ لِجَمْعِ الْمُسَمَّى الْمَذْكُورِ، فَنَعْلَمُ أَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ. وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ. وَعَلَى الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}   (1) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْمُشْتَرَكِ وَقَعَ مِنْ مَصْدَرٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِمَعْنًى مِنْ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى الْبَدَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَبْحَثِ جَوَازِ الْمُشْتَرَكِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَضْعِ قَبَائِلَ، مَثَلًا كُلُّ قَبِيلَةٍ تَضَعُهُ لِمَعْنًى دُونَ عِلْمٍ بِوَضْعِ الْأُخْرَى، وَعَلَيْهِ لَا يَصِحُّ الْجَوَابُ لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ فِي مِثْلِ مَا ذُكِرَ لِوَاحِدٍ عَلَى الْبَدَلِ حَتَّى يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِ مَجَازًا فِي الْمَعْنَيَيْنِ، بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي كُلٍّ مِنْهَا، وَالْإِيهَامُ طَارِئٌ بَعْدَ الْوَضْعِ يَزُولُ بِالْقَرِينَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فَإِنَّ جَمْعَهُ فِي جِهَةِ الْحَقِيقَةِ أَوَامِرُ، وَفِي الْفِعْلِ أُمُورٌ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّ الْمَجَازَ لَا يُجْمَعُ وَالْحَقِيقَةَ تُجْمَعُ كَمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ ; إِذِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّجَوُّزِ بِلَفْظِ الْحِمَارِ عَنِ الْبَلِيدِ مَعَ صِحَّةِ تَثْنِيَتِهِ وَجَمْعِهِ حَيْثُ يُقَالُ: حِمَارَانِ وَحُمْرٌ. فَإِنْ قِيلَ: اخْتِلَافُ الْجَمْعِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّجَوُّزِ فِي الْمُسَمَّى الْمَذْكُورِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِ، وَاخْتِلَافُ الْجَمْعِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْمُسَمَّى. (1) قُلْنَا: الْجَمْعُ إِنَّمَا هُوَ لِلِاسْمِ لَا لِلْمُسَمَّى، فَاخْتِلَافُهُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي اخْتِلَافِ الْجَمْعِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لِصِفَةٍ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُشْتَقَّ لِمَوْضُوعِهَا مِنْهَا اسْمٌ مَعَ عَدَمِ وُرُودِ الْمَنْعِ مِنَ الِاشْتِقَاقِ، فَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا، وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا يُشْتَقُّ لِمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُ اسْمُ الْآمِرِ، بِخِلَافِ اسْمِ الْقَارُورَةِ فَإِنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْكُوزِ وَالْجَرَّةِ بِطَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ مِنْ قَرَارِ الْمَائِعِ فِيهِ مَعَ كَوْنِ اسْمِ الْقَرَارِ فِيهِ حَقِيقَةً كَمَا اشْتُقَّ فِي الزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ لِوُرُودِ الْمَنْعِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ. (2) فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِاسْمِ الرَّائِحَةِ الْقَائِمَةِ بِالْجِسْمِ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ مَعَ عَدَمِ الِاشْتِقَاقِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الِاشْتِقَاقِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْجِسْمِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ الرَّائِحَةُ مُتَرَوِّحٌ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مُضَافًا إِلَى شَيْءٍ حَقِيقَةً وَهُوَ مُتَعَذِّرُ الْإِضَافَةِ إِلَيْهِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي شَيْءٍ آخَرَ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فَإِنْ قِيلَ: لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا فِي الْغَيْرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا، وَتَعَذُّرُ حَمْلِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى بَعْضِ مَحَامِلِهِ لَا يُوجِبُ جَعْلَهُ مَجَازًا فِي الْبَاقِي. قُلْنَا: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاكِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْمَجَازُ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ إِلَّا أَنَّ الْمَحْذُورَ فِيهِ أَدْنَى مِنْ مَحْذُورِ الِاشْتِرَاكِ عَلَى مَا يَأْتِي   (1) الْجَمْعُ لِلِاسْمِ لَكِنْ بِاعْتِبَارِ مُسَمَّاهُ، فَكَانَ لِاخْتِلَافِ الْمُسَمَّى أَثَرُهُ فِي اخْتِلَافِ الْجَمْعِ، وَلَوِ اعْتُبِرَ الِاسْمُ دُونَ مَعْنَاهُ لَكَانَ مُهْمَلًا لَا يُوضَعُ فِي التَّرَاكِيبِ لَا جَمْعًا وَلَا مُفْرَدًا. (2) انْظُرْ ص122 ج 7 مِنْ مَجْمُوعَةِ الْفَتَاوَى " كِتَابِ الْإِيمَانِ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 فَكَانَ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ: مَهْمَا ثَبَتَ كَوْنُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي بَعْضِ الْمَعَانِي لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِيمَا عَدَاهُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَعْنًى مُشْتَرَكٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولًا لِلَّفْظِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أُلِفَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَعْمَلُوا لَفْظًا بِإِزَاءِ مَعْنًى أَطْلَقُوهُ إِطْلَاقًا، وَإِذَا اسْتَعْمَلُوهُ بِإِزَاءِ غَيْرِهِ قَرَنُوا بِهِ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيمَا أَطْلَقُوهُ مَجَازًا فِي الْغَيْرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ لِلْمَعْنَى إِنَّمَا كَانَ لِيُكْتَفَى بِهِ فِي الدَّلَالَةِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمَجَازِ لِكَوْنِهَا أَغْلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي مَعْنًى، وَلِذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَعَلَّقٌ فَإِطْلَاقُهُ بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ الْمُتَعَلَّقُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا فِيهِ، كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْإِيجَادِ فَإِنَّ لَهَا مَقْدُورًا، وَإِطْلَاقُهَا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ فِي قَوْلِهِمْ: " انْظُرْ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ " لَا مَقْدُورَ لَهَا. فَإِنْ قِيلَ: التَّعَلُّقُ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقِيًّا بَلْ مِنْ تَوَابِعِ الْمُسَمَّى، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ اخْتِلَافِ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ الِاسْمُ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي الْآخَرِ لِجَوَازِ الِاشْتِرَاكِ، فَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى مِمَّا يُتَوَقَّفُ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِمُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ فَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُتَوَقِّفَ مَجَازٌ وَالْآخِرَ غَيْرُ مَجَازٍ. وَتَشْتَرِكُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي امْتِنَاعِ اتِّصَافِ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ بِهِمَا كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إِنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَالْمَجَازُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا. وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الِاسْمِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ مَوْضُوعًا لِشَيْءٍ قَبْلَ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فِي وَضْعِ اللُّغَةِ، وَأَسْمَاءُ الْأَعْلَامِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُسْتَعْمِلَهَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فِيمَا وَضَعَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ لَهُ أَوَّلًا، وَلَا فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ وَضْعِهِمْ، فَلَا تَكُونُ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وَعَلَى هَذَا فَالْأَلْفَاظُ الْمَوْضُوعَةُ أَوَّلًا فِي ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ فِي اللُّغَةِ لَا تُوصَفُ بِكَوْنِهَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، وَإِلَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ الْوَضْعِ وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ وَضْعٍ ابْتِدَائِيٍّ حَتَّى الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَرَعَةِ ابْتِدَاءً لِأَرْبَابِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ لِأَدَوَاتِهِمْ وَآلَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِاسْتِعْمَالِهَا بَعْدَ ذَلِكَ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ بُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ مَجَازٍ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا عَكْسَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ غَايَةَ الْمَجَازِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا، وَمَا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ أَوَّلًا لَيْسَ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا عَلَى مَا عُرِفَ. وَبِالنَّظَرِ إِلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ يُعْلَمُ أَنَّ تَسْمِيَةَ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَوَّلًا حَقِيقَةٌ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَمْرِ الْعُرْفِيِّ، غَيْرَ أَنَّهُ مَجَازٌ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ مَنْقُولًا مِنَ الْوُجُوبِ وَالثُّبُوتِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْحَقِيقَةِ أَوَّلًا فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. وَتَشْتَرِكُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ أَيْضًا فِي أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ مَا عَدَا الْوَضْعَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مَعًا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا فِيهِ. مَسَائِلُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ خَمْسٌ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ (1) وَلَا شَكَّ فِي إِمْكَانِهَا ; إِذْ لَا إِحَالَةَ فِي وَضْعِ الشَّارِعِ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَسْمَائِهِمْ عَلَى مَعْنًى يَعْرِفُونَهُ أَوْ لَا يَعْرِفُونَهُ، لَمْ يَكُنْ مَوْضُوعًا لِأَسْمَائِهِمْ. فَإِنَّ دَلَالَاتِ الْأَسْمَاءِ عَلَى الْمَعَانِي لَيْسَتْ لِذَوَاتِهَا وَلَا الِاسْمُ وَاجِبٌ لِلْمَعْنَى، بِدَلِيلِ انْتِفَاءِ الِاسْمِ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ وَجَوَازِ إِبْدَالِ الْبَيَاضِ بِالسَّوَادِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ، وَكَمَا فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ وَالْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ لِأَرْبَابِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ لِأَدَوَاتِهِمْ وَآلَاتِهِمْ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا فِي الْوُقُوعِ، وَالْحِجَاجُ هَاهُنَا مَفْرُوضٌ فِيمَا اسْتَعْمَلَهُ الشَّارِعُ مِنْ أَسْمَاءِ أَهْلِ اللُّغَةِ كَلَفْظِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، هَلْ خَرَجَ بِهِ عَنْ وَضْعِهِمْ أَمْ لَا؟ فَمَنَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَثْبَتَهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْخَوَارِجُ وَالْفُقَهَاءُ. احْتَجَّ الْقَاضِي بِمَسْلَكَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّارِعَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَزِمَهُ تَعْرِيفُ الْأُمَّةِ بِالتَّوْقِيفِ نَقْلَ (2) تِلْكَ الْأَسَامِي وَإِلَّا كَانَ مُكَلِّفًا لَهُمْ بِفَهْمِ مُرَادِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَهُمْ لَا يَفْهَمُونَهُ، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَالتَّوْقِيفُ الْوَارِدُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَوَاتِرًا لِعَدَمِ قِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْآحَادِ فِيهَا وَلَا تَوَاتُرَ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ فَاسِدٌ (3) عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أُصُولِ أَصْحَابِنَا الْقَائِلِينَ بِخِلَافِهِ فِي هَذِهِ   (1) بَيَّنَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي كِتَابِ " الْإِيمَانِ " ص " 298 " ج 7 مِنْ مَجْمُوعَةِ الْفَتَاوَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَنْقُلْهَا وَلَمْ يُبْقِهَا عَلَى مَعْنَاهَا مَعَ الزِّيَادَةِ فِي أَحْكَامِهَا وَلَا غَيَّرَهَا حَتَّى صَارَتْ حَقِيقَةً شَرْعِيَّةً مَجَازًا بِالنِّسْبَةِ لِلُّغَةِ، وَلَكِنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا مُقَيَّدَةً لَا مُطْلَقَةً فَارْجِعْ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ وَفَّى الْمَوْضُوعَ حَقَّهُ وَفَصَّلَ الْقَوْلَ فِيهِ. (2) (نَقْلَ) مَفْعُولُ (تَعْرِيفُ) (3) الصَّحِيحُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ لِاسْتِحَالَتِهِ عَقَلًا أَوْ عَادَةً غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا وَاقِعٌ شَرْعًا، أَمَّا مَا لَا يُطَاقُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ فَقَدْ يَقَعُ التَّكْلِيفُ بِهِ: إِمَّا عُقُوبَةً، وَإِمَّا امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا فَقَطْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَبِتَقْدِيرِ امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ إِنَّمَا يَكُونُ هَذَا تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ ; إِذْ (1) لَوْ كَلَّفَهُمْ بِفَهْمِهَا قَبْلَ تَفْهِيمِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَوْلُهُ: التَّفْهِيمُ، إِنَّمَا يَكُونُ بِالنَّقْلِ، لَا نُسَلِّمُ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ تَفْهِيمُهُمْ بِالتَّكْرِيرِ وَالْقَرَائِنِ الْمُتَضَافِرَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كَمَا يَفْعَلُ الْوَالِدَانِ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَالْأَخْرَسِ فِي تَعْرِيفِهِ لِمَا فِي ضَمِيرِهِ لِغَيْرِهِ بِالْإِشَارَةِ. الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، فَلَوْ كَانَتْ مُفِيدَةً لِغَيْرِ مَدْلُولَاتِهَا فِي اللُّغَةِ لَمَا كَانَتْ مِنْ لِسَانِ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: " أَكْرِمِ الْعُلَمَاءَ " وَأَرَادَ بِهِ الْجُهَّالَ أَوِ الْفُقَرَاءَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَ اللَّفْظِ عَرَبِيًّا لَيْسَ لِذَاتِهِ وَصُورَتِهِ، بَلْ لِدَلَالَتِهِ عَلَى مَا وَضَعَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ بِإِزَائِهِ، وَإِلَّا كَانَتْ جَمِيعُ أَلْفَاظِهِمْ قَبْلَ التَّوَاضُعِ عَلَيْهَا عَرَبِيَّةً، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَهَذَا الْمَسْلَكُ ضَعِيفٌ أَيْضًا. إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ الْقُرْآنِ عَنْ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا، فَإِنْ قِيلَ: لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ فَمَا بَعْضُهُ عَرَبِيٌّ وَبَعْضُهُ غَيْرُ عَرَبِيٍّ، لَا يَكُونُ كُلُّهُ عَرَبِيًّا، وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةُ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ. فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ النُّصُوصِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ بِكُلِّيَّتِهِ عَرَبِيًّا ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهُ، بَلْ عَلَى الْآيَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلسُّورَةِ الْوَاحِدَةِ: هَذَا قُرْآنٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَمْعِ وَمِنْهُ يُقَالُ: قَرَأَتِ النَّاقَةُ لَبَنَهَا فِي ضَرْعِهَا إِذَا جَمَعَتْهُ، وَقَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ، وَالسُّورَةُ الْوَاحِدَةُ فِيهَا مَعْنَى الْجَمْعِ   (1) صَوَابُهُ " إِنْ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 لِتَأَلُّفِهَا مِنْ حُرُوفٍ وَكَلِمَاتٍ وَآيَاتٍ فَصَحَّ إِطْلَاقُ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا، غَايَتُهُ أَنَّا خَالَفَنَا هَذَا فِي غَيْرِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ فِي الْكِتَابِ وَبَعْضِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ سُورَةً مِنْهُ حَنِثَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا لَمَا حَنِثَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى الْكُلِّ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَعْضِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ. (1) فَإِنْ قِيلَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ إِلَّا قُرْآنًا وَاحِدًا، فَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ قُرْآنًا وَالْكُلُّ قُرْآنًا لَزِمَتِ التَّثْنِيَةُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ إِلَّا وَاحِدًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْكُلُّ ضَرُورَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَسْمِيَتِهِ قُرْآنًا. قُلْنَا: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُنْزِلْ إِلَّا قُرْآنًا وَاحِدًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُنْزِلْ غَيْرَ هَذَا الْقُرْآنِ، أَوْ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَجْمُوعَ قُرْآنٌ وَبَعْضُهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ. الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ بَعْضِ الْقُرْآنِ قُرْآنًا مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَهُوَ صِحَّةُ قَوْلِ الْقَائِلِ عَنِ السُّورَةِ وَالْآيَةِ هَذَا بَعْضُ الْقُرْآنِ. قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ الْجُمْلَةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْقُرْآنِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَعْضَ لَيْسَ بِقُرْآنٍ حَقِيقَةً، فَإِنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ إِذَا شَارَكَ كُلَّهُ فِي مَعْنَاهُ كَانَ مُشَارِكًا لَهُ فِي اسْمِهِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: إِنَّ بَعْضَ اللَّحْمِ لَحْمٌ، وَبَعْضَ الْعَظْمِ عَظْمٌ، وَبَعْضَ الْمَاءِ مَاءٌ ; لِاشْتِرَاكِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ فِي الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِيمَا كَانَ الْبَعْضُ فِيهِ غَيْرَ مُشَارِكٍ لِلْكُلِّ فِي الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ، وَلِهَذَا لَا يُقَالُ: بَعْضُ الْعَشَرَةِ عَشَرَةٌ، وَبَعْضُ الْمِائَةِ مِائَةٌ، وَبَعْضُ الرَّغِيفِ رَغِيفٌ، وَبَعْضُ الدَّارِ دَارٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَمَا لَمْ يُبَيِّنُوا كَوْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِنْ سَلَّمْنَا التَّعَارُضَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ   (1) ارْجِعْ إِلَى النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ ج 2 مِنَ الْمُوَافَقَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فَلَيْسَ الْقَوْلُ بِالنَّفْيِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِثْبَاتِ، وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ التَّرْجِيحُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ النُّصُوصِ عَلَى كَوْنِ الْقُرْآنِ بِجُمْلَتِهِ عَرَبِيًّا، لَكِنْ بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ أَوِ الْمَجَازِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا الْغَالِبُ مِنْهُ الْعَرَبِيَّةُ يُسَمَّى عَرَبِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ كَمَا يُسَمَّى الزِّنْجِيُّ أَسْوَدَ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ الْيَسِيرُ مُبْيَضًّا كَأَسْنَانِهِ وَشَحْمَةِ عَيْنَيْهِ، وَالرُّومِيُّ أَبْيَضَ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ الْيَسِيرُ مِنْهُ أَسْوَدَ كَالنَّاظِرِ مِنْ عَيْنَيْهِ. وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ مِنَ الشِّعْرِ بِالْفَارِسِيَّةِ يُسَمَّى فَارِسِيًّا وَإِنْ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى كَلِمَاتٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّجَوُّزِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فِي شَيْءٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى عِبَادَاتٍ غَيْرِ مَعْلُومَةٍ لِلْعَرَبِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا فِي لُغَتِهِمْ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَسْمَاءَ تَدُلُّ عَلَيْهَا غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وَأَرَادَ بِهِ صَلَاتَكُمْ، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ بَلْ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ. وَعَلَى قَوْلِهِ: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ. وَعَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) وَالزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ، وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُوبِ أَدَاءِ مَالٍ مَخْصُوصٍ. وَعَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: " {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} " وَالصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ إِمْسَاكٍ، وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إِمْسَاكٍ مَخْصُوصٍ بَلْ وَقَدْ يُطْلَقُ الصَّوْمُ فِي الشَّرْعِ فِي حَالَةٍ لَا إِمْسَاكَ فِيهَا كَحَالَةِ الْآكِلِ نَاسِيًا. وَعَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وَالْحَجُّ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ قَصْدٍ، وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى مَكَانٍ مَخْصُوصٍ. وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ، فَكَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَرَبِيِّ عَلَيْهِ مَجَازًا. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْحُرُوفُ الْمُعْجَمَةُ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فَهِيَ أَسْمَاؤُهَا. وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ الْحَادِثَةُ فَمِنْ حَيْثُ إِنَّهَا أَفْعَالٌ مَحْسُوسَةٌ مَعْلُومَةٌ لِلْعَرَبِ وَمُسَمَّاةٌ بِأَسْمَاءَ خَاصَّةٍ لَهَا لُغَةٌ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَهَا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهَا بِتَقْدِيرِ الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ. وَأَمَّا الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا لُغَةً. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} فَالْمُرَادُ بِهِ تَصْدِيقُكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ) فَالْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) فَالْمُرَادُ بِهِ النُّمُوُّ. وَالْمُرَادُ مِنَ الصَّوْمِ الْإِمْسَاكُ، وَمِنَ الْحَجِّ الْقَصْدُ، غَيْرَ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَطَ فِي إِجْزَائِهَا وَصِحَّتِهَا شَرْعًا ضَمَّ غَيْرِهَا إِلَيْهَا. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَغْيِيرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَإِنْ سَلَّمْنَا دُخُولَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي مُسَمَّى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَكِنْ بِطْرِيقِ الْمَجَازِ، أَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الدُّعَاءَ جُزْؤُهَا، وَالشَّيْءُ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ جُزْئِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: يُنَاشِدُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلَّا تَلَا حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ. وَأَرَادَ بِهِ الْقُرْآنَ، فَسَمَّاهُ بِاسْمِ جُزْئِهِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ تَسْمِيَةَ الصَّوْمِ الْخَاصِّ وَكَذَلِكَ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالْإِيمَانِ، مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ بِتَخْصِيصِ الِاسْمِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ لُغَةً كَمَا فِي لَفْظِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الدَّابَّةِ، وَالشَّارِعُ لَهُ وِلَايَةُ هَذَا التَّصَرُّفِ كَمَا لِأُهِلِ اللُّغَةِ، وَيَخُصُّ الصَّلَاةَ أَنَّ أَفْعَالَهَا إِنَّمَا سُمِّيَتْ صَلَاةً لِكَوْنِهَا مِمَّا يُتْبَعُ بِهَا فِعْلُ الْإِمَامِ. فَإِنَّ التَّالِي لِلسَّابِقِ مِنَ الْخَيْلِ يُسَمَّى مُصَلِّيًا لِكَوْنِهِ تَابِعًا، وَيَخُصُّ الزَّكَاةَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْوَاجِبِ زَكَاةً بِاسْمِ سَبَبِهِ، وَالتَّجَوُّزُ بِاسْمِ السَّبَبِ عَنِ الْمُسَبِّبِ جَائِزٌ لُغَةً، وَالْمَجَازُ مِنَ اللُّغَةِ لَا مِنْ غَيْرِهَا. قُلْنَا: أَمَّا الْحُرُوفُ فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ أَسْمَاءَ لِآحَادِ السُّوَرِ فَهِيَ أَعْلَامٌ لَهَا وَلَيْسَتْ لُغَوِيَّةً، فَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْعِبَادَاتِ الْحَادِثَةِ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ، أَنْ لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُطْلِقَ عَلَيْهَا أَسْمَاءُ لَمْ تَكُنِ الْعَرَبُ قَدْ أَطْلَقَتْهَا عَلَيْهَا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْآيَاتِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا لُغَةً غَيْرَ أَنَّ الشَّارِعَ شَرَطَ فِي إِجْزَائِهَا شُرُوطًا لَا تَصِحُّ بِدُونِهَا، فَإِنَّ (1) مُسَمَّى الصَّلَاةِ فِي اللُّغَةِ هُوَ الدُّعَاءُ. وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا دُعَاءَ فِيهَا، كَصَلَاةِ الْأَخْرَسِ الَّذِي لَا يَفْهَمُ الدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ مُتَحَقِّقًا فَلَيْسَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالصَّلَاةِ وَحْدَهُ، وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ حَالَةُ كَوْنِهِ غَيْرَ دَاعٍ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْمُسَمَّى بِالصَّلَاةِ لَا غَيْرُ لَصَحَّ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الدُّعَاءِ أَنْ يُقَالَ: خَرَجَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَإِذَا عَادَ إِلَيْهِ يُقَالُ: عَادَ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَنْ لَا يُسَمَّى الشَّخْصُ مُصَلِّيًا حَالَةَ عَدَمِ الدُّعَاءِ مَعَ تَلَبُّسِهِ بِبَاقِي الْأَفْعَالِ، وَكُلُّ ذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. قَوْلُهُمْ: تَسْمِيَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ إِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ الْمَجَازِ. قُلْنَا: الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الدُّعَاءَ جُزْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَالشَّيْءُ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ جُزْئِهِ. قُلْنَا: كُلُّ جُزْءٍ أَوْ بَعْضُ الْأَجْزَاءِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَلِهَذَا فَإِنَّ الْعَشَرَةَ لَا تُسَمَّى خَمْسَةٌ، وَلَا الْكُلُّ جُزْءًا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ يُسَمَّى جُزْءًا، إِلَى أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى.   (1) بَدَءَ الْجَوَابَ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَسْمَاءَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا لُغَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْقَبِيلِ الْجَائِزِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ ذَلِكَ تَجَوُّزًا، وَلَكِنْ لَيْسَ الْقَوْلُ بِالتَّجَوُّزِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَإِجْرَاءُ لَفْظِ الْقُرْآنِ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، فَإِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَلْزَمُ مِنْهُ النَّقْلُ وَتَغْيِيرُ اللُّغَةِ، فَيَسْتَدْعِي ثُبُوتَ أَصْلِ الْوَضْعِ وَإِثْبَاتَ وَضْعٍ آخَرَ. وَالْوَضْعُ اللُّغَوِيُّ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَغْيِيرٌ فَكَانَ أَوْلَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْأَوْضَاعِ الْبَقَاءُ لَا التَّغْيِيرُ، وَإِدْرَاجُ مَا نَحْنُ فِيهِ تَحْتَ الْأَغْلَبِ أَغْلَبُ. قُلْنَا: بَلْ جَانِبُ الْخَصْمِ أَوْلَى ; لِمَا فِيهِ مِنَ ارْتِكَابِ مَجَازٍ وَاحِدٍ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ فَفِيهِ ارْتِكَابُ مَجَازَاتٍ كَثِيرَةٍ فَكَانَ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا فَقَدَ انْدَفَعَ قَوْلُهُمْ بِالتَّجَوُّزِ بِجِهَةِ التَّخْصِيصِ أَيْضًا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَسْمِيَةِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُتَابَعَةِ لِلْإِمَامِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا تُسَمَّى صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْمُنْفَرِدِ صَلَاةً لِعَدَمِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا. وَقَوْلُهُمْ فِي الزَّكَاةِ: أَنَّ الْوَاجِبَ سُمِّيَ زَكَاةً بِاسْمِ سَبَبِهِ تَجَوُّزًا فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ زَكَاةً، عِنْدَ عَدَمِ النَّمَاءِ فِي الْمَالِ، وَإِنْ كَانَ النَّمَاءُ حَاصِلًا فَالتَّجَوُّزُ بِاسْمِ السَّبَبِ عَنِ الْمُسَبِّبِ جَائِزٌ مُطْلَقًا أَوْ فِي بَعْضِ الْأَسْبَابِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَسْمِيَةُ الصَّيْدِ شَبَكَةً، وَإِنْ كَانَ نَصْبُهَا سَبَبًا لَهُ، وَلَا يُسَمَّى الِابْنُ أَبًا وَإِنْ كَانَ الْأَبُ سَبَبًا لَهُ، وَكَذَلِكَ لَا يُسَمَّى الْعَالَمُ إِلَهًا وَإِنْ كَانَ الْإِلَهُ تَعَالَى سَبَبًا لَهُ (1) ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّظَائِرِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ التَّجَوُّزِ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا بِمَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ وَبِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الْإِيمَانَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَفِي الشَّرْعِ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ التَّصْدِيقِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ   (1) فِي الْإِخْبَارِ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ سَبَبٌ جَفْوَةٌ وَإِيهَامٌ أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ الْمُسَبَّبُ دُونَ اخْتِيَارِ مِنْهُ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ الْفَاعِلُ الْمُخْتَارُ، فَلَوِ اكْتَفَى بِالْمِثَالَيْنِ قَبْلُ لَكَانَ أَبْعَدَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 : ( «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ» ) . سَمَّى إِمَاطَةَ الْأَذَى إِيمَانًا وَلَيْسَ بِتَصْدِيقٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الدِّينَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِ الْعِبَادَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، ثُمَّ قَالَ: {وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} فَكَانَ رَاجِعًا إِلَى كُلِّ الْمَذْكُورِ. وَالدِّينُ هُوَ الْإِسْلَامُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وَالْإِسْلَامُ هُوَ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ هُوَ فِعْلُ الْعِبَادَاتِ. وَدَلِيلُ كَوْنِ الْإِيمَانِ هُوَ الْإِسْلَامَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْإِسْلَامِ لَمَا كَانَ مَقْبُولًا مِنْ صَاحِبِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ اسْتَثْنَى الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. (1) وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} وَأَرَادَ بِهِ الصَّلَاةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ النَّارَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَالدَّاخِلُ فِي النَّارِ مَخْزِيٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ النَّارِ (2) {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} مَعَ التَّقْرِيرِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُؤْمِنُ غَيْرُ مَخْزِيٍّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} . (3)   (1) كُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ يُطْلَقُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ عَلَى جَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ عَقِيدَةً وَعَمَلًا، وَقَوْلًا وَخُلُقًا، وَإِذَا اجْتَمَعَا كَمَا فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ الْإِسْلَامُ لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، وَالْإِيمَانُ لِلْأَحْكَامِ الْبَاطِنَةِ مَعَ اسْتِلْزَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا - إِذَا صَحَّ - لِلْآخَرِ، فَكُلُّ إِيمَانٍ صَحِيحٍ يَسْتَلْزِمُ إِسْلَامًا صَحِيحًا، وَكُلُّ إِسْلَامٍ صَحِيحٍ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ إِيمَانٍ صَحِيحٍ. (2) صَوَابُهُ أُولِي الْأَلْبَابِ (3) قَاطِعُ الطَّرِيقِ إِنِ اسْتَحَلَّ فِعْلَهُ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مُطْلَقَ الْإِيمَانِ وَهَذَا تَحْتَ الْخِزْيِ وَيُخَلَّدُ فِي النَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ فَمَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَمُطْلَقُهُ لَا كَمَالُ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ الَّذِي تُصِيبُهُ الْمَشِيئَةُ فَقَدْ يَدْخُلُ النَّارَ لَكِنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا حَالَةَ كَوْنِهِ غَافِلًا عَنِ التَّصْدِيقِ بِالنَّوْمِ وَغَيْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الْإِيمَانَ اللُّغَوِيَّ أَيِ التَّصْدِيقَ لَسُمِّيَ فِي الشَّرْعِ الْمُصَدِّقُ بِشَرِيكِ الْإِلَهِ تَعَالَى مُؤْمِنًا، وَالْمُصَدِّقُ بِاللَّهِ مَعَ إِنْكَارِ الرِّسَالَةِ مُؤْمِنًا. . . إِلَى نَظَائِرِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْآيَاتُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِهَا: إِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ إِنَّمَا كَانَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالْمَجَازُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنِ اللُّغَةِ، وَتَسْمِيَةُ إِمَاطَةِ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ إِيمَانًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى الْإِيمَانِ، فَعَبَّرَ بَاسِمِ الْمَدْلُولِ عَنِ الدَّالِّ وَهُوَ أَيْضًا جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ. (1) فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ إِنَّمَا هُوَ الْحَقِيقَةُ. قُلْنَا: إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّغْيِيرُ وَمُخَالَفَةُ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، فَيَتَقَابَلَانِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ لِمَا سَبَقَ. وَقَوْلُهُمْ: إِنِ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ بِمَا ذَكَرُوهُ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} وَلَوِ اتَّحَدَا لَمَا صَحَّ هَذَا الْقَوْلُ (2) ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ بَلِ التَّرْجِيحُ لِلتَّغَايُرِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ تَعَدُّدُ الْمُسَمَّيَاتِ؛ وَلِئَلَّا يَلْزَمَ مِنْهُ التَّغْيِيرُ فِي الْوَضْعِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} فَالْمُرَادُ بِهِ التَّصْدِيقُ بِالصَّلَاةِ   (1) تَقَدَّمَ ص " 35 " أَنَّ الْأَسْمَاءَ الشَّرْعِيَّةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّةِ غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ ضَمَّ إِلَيْهَا قُيُودًا تُحَدِّدُ الْمَقْصُودَ مِنْهَا فَلَمْ يَسْتَعْمِلْهَا مُطْلَقَةً. (2) تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ إِذَا اجْتَمَعَا اخْتَلَفَا تَفْسِيرًا، وَاسْتَلْزَمَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْآخَرَ عِنْدَ الصِّحَّةِ، وَفِي الْآيَةِ مَعْنَيَانِ: الْأَوَّلُ الْحُكْمُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ بِالنِّفَاقِ، وَنَفْيُ أَصْلِ الْإِيمَانِ عَنْهُمْ، وَأَنَّ إِسْلَامَهُمْ كَانَ خَوْفَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَنَحْوِهِمَا. وَالثَّانِي: نَفْيُ كَمَالِ الْإِيمَانِ الْوَاجِبِ الَّذِي ادَّعَوْهُ، وَإِثْبَاتُ الْإِسْلَامِ لَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ فِي السَّلْبِ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَلَازُمٌ فِي الْإِثْبَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 لَا نَفْسُ الصَّلَاةِ، فَلَا تَغْيِيرَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا كَانَتْ تَدُلُّ عَلَى التَّصْدِيقِ سُمِّيَتْ بِاسْمِ مَدْلُولَهَا، وَذَلِكَ مَجَازٌ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} لَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُؤْمِنٍ بَلْ مَنْ آمَنَ مَعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ (1) وَهُوَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ، وَأُولَئِكَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ مَا دَلَّ صَدْرُ الْآيَةِ عَلَيْهِ، مِنَ الْحِرَابِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالسَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ الَّذِي أَوْجَبَ دُخُولَ النَّارِ فِي الْآيَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْخِزْيِ عَمَّنْ آمَنَ مَعَ النَّبِيِّ نَفْيُهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمُكَلَّفَ يُوصَفُ بِالْإِيمَانِ حَالَةَ كَوْنِهِ غَافِلًا عَنِ التَّصْدِيقِ بِاللَّهِ تَعَالَى، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِكَوْنِهِ كَانَ مُصَدِّقًا وَأَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى التَّصْدِيقِ، وَهُوَ جِهَةٌ مِنْ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ. وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ الْحَقِيقَةُ، فَقَدْ سَبَقَ جَوَابَهُ، كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ لَهُمْ فِي كُلِّ مَا يُفَسِّرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ، وَمَعَ اتِّحَادِ الْمَحْذُورِ فَتَقْرِيرُ الْوَضْعِ أَوْلَى. وَالْمُصَدِّقُ بِشَرِيكِ الْإِلَهِ تَعَالَى لَيْسَ مُؤْمِنًا شَرْعًا ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ فِي الشَّرْعِ مُطْلَقٌ لَيْسَ تَصْدِيقٌ بَلْ تَصْدِيقٌ خَاصٌّ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ، هُوَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الِاسْمِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ فِي اللُّغَةِ، فَكَانَ مَجَازًا لُغَوِيًّا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ مِنَ التَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَالْكُفْرِ بِرَسُولِهِ، حَيْثُ إِنَّ مُسَمَّى الْإِيمَانِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يُوجَدْ. وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَالْحَقُّ عِنْدِي فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِمْكَانُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَذْهَبَيْنِ. وَأَمَّا تَرْجِيحُ الْوَاقِعِ مِنْهُمَا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِي تَحْقِيقُهُ. (2)   (1) بَلْ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ فِي زَمَنِهِ، وَبَعْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْمَعِيَّةُ فِي عَدَمِ الْخِزْيِ، وَفِي أَتْبَاعِهِ وَلَوْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ، وَلِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أَكْرَمَ اللَّهُ مَنْ آمَنَ فِي عَهْدِهِ مَوْجُودٌ فِي غَيْرِهِمْ وَوَعْدُهُ شَامِلٌ الْجَمِيعَ. (2) مِنْ تَجَاوَزَ حَدَّهُ فِي بَحْثِهِ، وَاعْتَبَرَ كُلَّ احْتِمَالٍ يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَكَثُرَ فِي ذَلِكَ جَدَلًا تَضَارَبَتْ لَدَيْهِ الْآرَاءُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الْحَيْرَةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اشْتِمَالِ اللُّغَةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي اشْتِمَالِ اللُّغَةِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ، فَنَفَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَمَنْ تَابَعَهُ، وَأَثْبَتَهُ الْبَاقُونَ وَهُوَ الْحَقُّ. (1) حُجَّةُ الْمُثْبِتِينَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إِطْلَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمَ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ الشُّجَاعِ، وَالْحِمَارِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْبَلِيدِ، وَقَوْلُهُمْ: ظَهْرُ الطَّرِيقِ وَمَتْنُهَا، وَفُلَانٌ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ، وَشَابَتْ لِمَّةُ اللَّيْلِ، وَقَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، وَكَبِدُ السَّمَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَإِطْلَاقُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لُغَةً مِمَّا لَا يُنْكَرُ إِلَّا عَنْ عِنَادٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ حَقِيقَةٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، أَوْ مَجَازِيَّةٌ لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ عَنْهُمَا مَا سِوَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِكَوْنِهَا حَقِيقَةً فِيهَا ; لِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِيمَا سِوَاهَا بِالِاتِّفَاقِ. فَإِنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ حَقِيقَةٌ فِي السَّبُعِ، وَالْحِمَارِ فِي الْبَهِيمَةِ، وَالظَّهْرِ وَالْمَتْنِ وَالسَّاقِ وَالْكَبِدِ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْحَيَوَانِ، وَاللِّمَّةِ فِي الشَّعْرِ إِذَا جَاوَزَ شَحْمَةَ الْأُذُنِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ حَقِيقِيَّةً فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الصُّوَرِ لَكَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا، وَلَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا لَمَا سَبَقَ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ إِنَّمَا هُوَ السَّبُعُ، وَمِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْحِمَارِ إِنَّمَا هُوَ الْبَهِيمَةُ، وَكَذَلِكَ فِي بَاقِي الصُّوَرِ. كَيْفَ وَإِنَّ أَهْلَ الْأَعْصَارِ لَمْ تَزَلْ تَتَنَاقَلُ فِي أَقْوَالِهَا وَكُتُبِهَا عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ تَسْمِيَةَ هَذَا حَقِيقَةً وَهَذَا مَجَازًا. (2)   (1) ارْجِعْ إِلَى بَحْثِ تَقْسِيمِ اللَّفْظِ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ فِي كِتَابِ " الْإِيمَانِ " وَالرِّسَالَةِ الْمَدَنِيَّةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ. (2) لَمْ يَثْبُتْ نَقْلٌ عَمَّنْ وَضَعُوا اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ، وَمَنْ يَحْتَجُّ بِكَلَامِهِ مِنَ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ قَسَّمُوا اللَّفْظَ إِلَى حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ، وَإِنَّمَا هُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ بَدَأَ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَاشْتَهَرَ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظٌ مَجَازِيٌّ فَإِمَّا أَنْ يُفِيدَ مَعْنَاهُ بِقَرِينَةٍ أَوْ لَا بِقَرِينَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مَعَ الْقَرِينَةِ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَكَانَ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةً فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ أَيْضًا حَقِيقَةٌ ; إِذْ لَا مَعْنَى لِلْحَقِيقَةِ إِلَّا مَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِالْإِفَادَةِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا مِنْ صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْحَقِيقِيِّ الْخَاصِّ بِهَا، فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ فِيهَا مَعَ افْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بَعِيدٌ عَنْ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالْبَلَاغَةِ فِي وَضْعِهِمْ. قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُفِيدُ عِنْدَ عَدَمِ الشُّهْرَةِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ سِوَى هَذَا، وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ لَفْظِيٌّ (1) ، كَيْفَ وَإِنَّ الْمَجَازَ وَالْحَقِيقَةَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْقَرَائِنِ الْمَعْنَوِيَّةِ، فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ صِفَةً لِلْمَجْمُوعِ. وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ الْمَجَازِيِّ دُونَ الْحَقِيقَةِ قَدْ تَكُونُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْخِفَّةِ عَلَى اللِّسَانِ، أَوْ لِمُسَاعَدَتِهِ فِي وَزْنِ الْكَلَامِ نَظْمًا وَنَثْرًا، وَالْمُطَابَقَةُ، وَالْمُجَانَسَةُ، وَالسَّجْعُ، وَقَصَدُ التَّعْظِيمِ، وَالْعُدُولُ عَنِ الْحَقِيقِيِّ لِلتَّحْقِيرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْكَلَامِ.   (1) جَعَلَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانَ، وَابْنُ الْقِيَمِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ الصَّوَاعِقِ الْخِلَافَ حَقِيقِيًّا فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ دُخُولِ الْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفُوا فِي دُخُولِ الْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى: فَنَفَاهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَالرَّافِضَةُ، وَأَثْبَتَهُ الْبَاقُونَ. (1) احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ} . وَالْأَوَّلُ مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ بِالزِّيَادَةِ، وَلِهَذَا لَوْ حَذَفْتَ الْكَافَ بَقِيَ الْكَلَامُ مُسْتَقِلًّا. وَالثَّانِي مِنْ بَابِ النُّقْصَانِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْقَرْيَةِ لِاسْتِحَالَةِ سُؤَالِ الْقَرْيَةِ وَالْعِيرِ وَهِيَ الْبَهَائِمُ. وَالثَّالِثُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ لِتَعَذُّرِ الْإِرَادَةِ مِنَ الْجِدَارِ. وَإِذَا امْتَنَعَ حَمْلُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا فِي اللُّغَةِ، فَمَا تَكُونُ مَحْمُولَةً عَلَيْهِ هُوَ الْمَجَازُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ التَّجَوُّزَ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْأَلْفَاظِ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ ; إِذِ الْكَافُ لِلتَّشْبِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فَالْمُرَادُ بِهِ مُجْتَمَعُ النَّاسِ، فَإِنَّ الْقَرْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْجَمْعِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ، وَقَرَأَتِ النَّاقَةُ لَبَنَهَا فِي ضَرْعِهَا أَيْ جَمَعَتْهُ، وَيُقَالُ لِمَنْ صَارَ مَعْرُوفًا بِالضِّيَافَةِ: مُقْرِي، وَيَقْرِي لِاجْتِمَاعِ الْأَضْيَافِ عِنْدَهُ. وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ قُرْآنًا لِذَلِكَ أَيْضًا لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَجْمُوعِ السُّوَرِ وَالْآيَاتِ، وَأَمَّا الْعِيرُ فَهِيَ الْقَافِلَةُ وَمِنْ فِيهَا مِنَ النَّاسِ. ثُمَّ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْقَرْيَةِ لِلْجُدْرَانِ وَالْعِيرِ لِلْبَهَائِمِ غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى إِنْطَاقِهَا، وَزَمَنُ النُّبُوَّةِ زَمَنُ خَرْقِ الْعَوَائِدِ فَلَا يَمْتَنِعُ نُطْقُهَا بِسُؤَالِ النَّبِيِّ لَهَا.   (1) انْظُرْ ص " 107 " وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُزْءِ 7 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ} فَمَحْمُولٌ أَيْضًا عَلَى حَقِيقَتِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى خَلْقُ الْإِرَادَةِ فِيهِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى التَّجَوُّزِ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَجَازَ كَذِبٌ، وَلِذَلِكَ يَصْدُقُ نَفْيُهُ عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِلْبَلِيدِ (حِمَارٌ) وَلِلْإِنْسَانِ الشُّجَاعِ (أَسَدٌ) ، وَنَقِيضُ النَّفْيِ الصَّادِقِ يَكُونُ كَاذِبًا، وَلِأَنَّ الْمَجَازَ هُوَ الرَّكِيكُ مِنَ الْكَلَامِ، وَكَلَامُ الرَّبِّ تَعَالَى مِمَّا يُصَانُ عَنْهُ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ، غَيْرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ ثُمَّ الْعَجْزُ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَيَتَعَالَى الرَّبُّ عَنْ ذَلِكَ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى الْعَجْزِ عَنِ الْحَقِيقَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُفِيدُ مَعْنَاهُ بِلَفْظِهِ دُونَ قَرِينَةٍ، وَرُبَّمَا تَخْفَى فَيَقَعُ الِالْتِبَاسُ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَهُوَ قَبِيحٌ مِنَ الْحَكِيمِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى الِالْتِبَاسِ غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا خَاطَبَ بِالْمَجَازِ وَجَبَ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مُتَجَوِّزًا نَظَرًا إِلَى الِاشْتِقَاقِ كَمَا فِي الْوَاحِدِ مِنَّا وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. سَلَّمْنَا عَدَمَ اتِّصَافِهِ غَيْرَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى حَقٌّ فَلَهُ حَقِيقَةٌ وَالْحَقِيقَةُ مُقَابِلَةٌ لِلْمَجَازِ. وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمْ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لِنَفْيِ التَّشْبِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْكَافُ هَاهُنَا لِلتَّشْبِيهِ لَكَانَ مَعْنَى النَّفْيِ: لَيْسَ مِثْلَ مِثْلِهِ شَيْءٌ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ مِثْلٌ لِمَثَلِهِ، فَالْمِثْلُ فِي الْآيَةِ زَائِدٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ مِثْلُكَ لَا يَقُولُ هَذَا الْمُشَارِكُ لَهُ فِي صِفَاتِهِ. وَقَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ الْقَرْيَةِ النَّاسُ الْمُجْتَمِعُونَ، لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ هِيَ الْمَحَلُّ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الِاجْتِمَاعُ لَا نَفْسُ الِاجْتِمَاعِ، وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَ الزَّمَانُ الَّذِي فِيهِ يَجْتَمِعُ دَمُ الْحَيْضِ قُرْءً، وَكَذَلِكَ يُقَالُ: الْقَارِيُّ لِجَامِعِ الْقُرْآنِ، وَالْمُقْرِي لِجَامِعِ الْأَضْيَافِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعِيرَ هِيَ الْقَافِلَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنَ النَّاسِ. قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ وَالْبَهَائِمِ لَا نَفْسِ النَّاسِ فَقَطْ، وَلِهَذَا لَا يُقَالُ لِمُجْتَمَعِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ بَهَائِمُ: قَافِلَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 قَوْلُهُمْ: لَوْ سَأَلَ لَوَقَعَ الْجَوَابُ. قُلْنَا: جَوَابُ الْجُدْرَانِ وَالْبَهَائِمِ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى وِفْقِ الِاخْتِيَارِ فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ، بَلْ إِنْ وَقَعَ فَإِنَّمَا يَقَعُ بِتَقْدِيرِ تَحَدِّي النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهِ. وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَلَا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَإِنْ أَمْكَنَ تَخَيُّلُ مَا قَالُوهُ مَعَ بُعْدِهِ فَبِمَاذَا يَعْتَذِرُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وَالْأَنْهَارُ غَيْرُ جَارِيَةٍ، وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} وَهُوَ غَيْرُ مُشْتَعِلٍ، وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} وَالذُّلُّ لَا جَنَاحَ لَهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَالْأَشْهُرُ لَيْسَتْ هِيَ الْحَجُّ وَإِنَّمَا هِيَ ظَرْفٌ لِأَفْعَالِ الْحَجِّ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} وَالصَّلَوَاتُ لَا تُهَدَّمُ وَقَوْلِهِ: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} ، وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وَقَوْلِهِ: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَالْقِصَاصُ لَيْسَ بِعُدْوَانِ، وَقَوْلِهِ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} ، وَقَوْلِهِ: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} إِلَى مَا لَا يُحْصَى ذِكْرُهُ مِنَ الْمَجَازَاتِ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأَوْلَى بِمَنْعِ كَوْنِ الْمَجَازِ كَذِبًا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبًا أَنْ لَوْ أَثْبَتَ ذَلِكَ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، كَيْفَ وَإِنَّ الْكَذِبَ مُسْتَقْبَحٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ بِخِلَافِ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّجَوُّزِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمْ مَنَّ الْمُسْتَحْسَنَاتِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مِنْ رَكِيكِ الْكَلَامِ، لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ رُبَّمَا كَانَ الْمَجَازُ أَفْصَحَ وَأَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ مَقَاصِدِ الْمُتَكَلِّمِ الْبَلِيغِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ بِمَنْعِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ اشْتِرَاطِ الْمَصِيرِ إِلَى الْمَجَازِ بِالْعَجْزِ عَنِ الْحَقِيقَةِ، بَلْ إِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. (1)   (1) سَيَأْتِي تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّينَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 كَيْفَ وَهُوَ لَازِمٌ عَلَى الْخُصُومِ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَمَا هُوَ الْجَوَابُ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ؟ هُوَ الْجَوَابُ لَنَا هَاهُنَا. وَعَنِ الرَّابِعَةِ أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُسَمَّ مُتَجَوِّزًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُ التَّسَمُّحُ فِي أَقْوَالِهِ بِالْقَبِيحِ، وَلِهَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ: (فُلَانٌ مُتَجَوِّزٌ فِي مَقَالِهِ) . . . (1) ، فَيُتَوَقَّفُ إِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْإِطْلَاقِ الشَّرْعِيِّ وَلَمْ يَرِدْ. وَعَنِ الْخَامِسَةِ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقِيقَةٌ فَبِمَعْنَى كَوْنِهِ صِدْقًا لَا بِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْمَجَازِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى كَلِمَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى كَلِمَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ، فَأَثْبَتَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَنَفَاهُ الْبَاقُونَ. (2) احْتَجَّ النَّافُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} فَنَفَى أَنْ يَكُونَ أَعْجَمِيًّا وَقَطَعَ اعْتِرَاضَهُمْ بِتَنَوُّعِهِ بَيْنَ أَعْجَمِيٍّ وَعَرَبِيٍّ، وَلَا يَنْتَفِي الِاعْتِرَاضُ وَفِيهِ أَعْجَمِيٌّ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} ، وَبِقَوْلِهِ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وَظَاهِرُ ذَلِكَ يُنَافِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ. وَاحْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى: الْمِشْكَاةِ وَهِيَ هِنْدِيَّةٌ، وَإِسْتَبْرَقٍ وَسِجِّيلٍ بِالْفَارِسِيَّةِ، وَطه بِالنَّبْطِيَّةِ، وَقِسْطَاسٍ بِالرُّومِيَّةِ، وَالْأَبِّ وَهِيَ كَلِمَةٌ لَا تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ. وَلِذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ فَمَا الْأَبُّ   (1) لَعَلَّ فِي الْعِبَارَةِ سَقْطًا، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَيْضًا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ فَيُتَوَقَّفُ إِطْلَاقُهُ. . . إِلَخْ، وَيَكُونُ جَوَابًا ثَانِيًا. (2) ارْجِعْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ ص 8 - 20 ج 1، وَإِلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ لِلْأَفْهَامِ ج 2 مِنَ الْمُوَافَقَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 قَالُوا: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَبْعُوثٌ إِلَى أَهْلِ كُلِّ لِسَانٍ كَافَّةً عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «بُعِثْتُ إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ» ) . فَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ كِتَابُهُ جَامِعًا لِلُغَةِ الْكُلِّ ; لِيَتَحَقَّقَ خِطَابُهُ لِلْكُلِّ إِعْجَازًا وَبَيَانًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ كَلَامُهُ بَلْ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ، فَلَا يَكُونُ تَكَلُّمُهُ بِاللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مُنْكَرًا، غَايَتُهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَفْهُومًا لِلْعَرَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِدْعًا بِدَلِيلِ تَضَمُّنِهِ لِلْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْحُرُوفِ الْمُعْجَمَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ. أَجَابَ النَّافُونَ وَقَالُوا: أَمَّا الْكَلِمَاتُ الْمَذْكُورَةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَرَبِيَّةً، وَغَايَتُهُ اشْتِرَاكُ اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي بَعْضِ الْكَلِمَاتِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: سِرْوَالٌ بَدَلُ سَرَاوِيلَ، وَفِي قَوْلِهِمْ تَنُّورُ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِمَّا اتَّفَقَ فِيهِ جَمِيعُ اللُّغَاتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَفَاءِ كَلِمَةِ الْأَبِّ عَلَى عُمَرَ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا ; إِذْ لَيْسَ كُلُّ كَلِمَاتِ الْعَرَبِيَّةِ مِمَّا أَحَاطَ بِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْعَرَبِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا كُنْتُ أَدْرِي مَا مَعْنَى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حَتَّى سَمِعْتُ امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ تَقُولُ أَنَا فَطَرْتُهُ أَيِ ابْتَدَأْتُهُ. وَأَمَّا بَعْثَتُهُ إِلَى الْكُلِّ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ اشْتِمَالَ الْكِتَابِ عَلَى غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ لِمَا ذَكَرُوهُ، وَإِلَّا لَزِمَ اشْتِمَالُهُ عَلَى جَمِيعِ اللُّغَاتِ، وَلَمَا جَازَ الِاقْتِصَارُ مِنْ كُلِّ لُغَةٍ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لِتَعَذُّرِ الْبَيَانِ وَالْإِعْجَازِ بِهَا، وَمَا ذَكَرُوهُ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَلَامُ اللَّهِ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى اللُّغَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَكِنَّهُ لَا يُوجِبُهُ فَلَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الخلاف فيما يحتاج إليه الاسم في إطلاقه على مسماه المجازي] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَى مُسَمَّاهُ الْمَجَازِيِّ: هَلْ يَفْتَقِرُ فِي كُلِّ صُورَةٍ إِلَى كَوْنِهِ مَنْقُولًا عَنِ الْعَرَبِ، أَوْ يَكْفِي فِيهِ ظُهُورُ الْعَلَاقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّجَوُّزِ كَمَا عَرَفْنَاهُ أَوَّلًا. (1) فَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ النَّقْلَ مَعَ الْعَلَاقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اكْتَفَى بِالْعَلَاقَةِ لَا غَيْرُ. احْتَجَّ الشَّارِطُونَ لِلنَّقْلِ بِأَنَّهُ لَوِ اكْتَفَى بِالْعَلَاقَةِ لَجَازَ تَسْمِيَةُ غَيْرِ الْإِنْسَانِ نَخْلَةً لِمُشَابَهَتِهِ لَهَا فِي الطُّولِ كَمَا جَازَ فِي الْإِنْسَانِ، وَلِجَازَ تَسْمِيَةُ الصَّيْدِ شَبَكَةً، وَالثَّمَرَةِ شَجَرَةً، وَظِلِّ الْحَائِطِ حَائِطًا، وَالِابْنِ أَبًا تَعْبِيرًا عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِأَسْمَاءِ أَسْبَابِهَا لِمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَسْبَابِهَا مِنَ الْمُلَازَمَةِ فِي الْغَالِبِ، وَهِيَ مِنَ الْجِهَاتِ الْمُصَحِّحَةِ لِلتَّجَوُّزِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ الِاسْتِعْمَالِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ تَحَقُّقُ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ وَمَحَلِّ التَّجَوُّزِ كَافِيًا فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَحَيْثُ وُجِدَتِ الْعَلَاقَةُ الْمُجَوِّزَةُ لِلْإِطْلَاقِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَامْتَنَعَ الْإِطْلَاقُ، فَإِنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ الْمَنْعِ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا لِلتَّوَقُّفِ عَلَى نَقْلِ اسْتِعْمَالِهِمْ لِلِاسْمِ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ نَقْلُ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ مُعْتَبَرًا فِي مَحَلِّ التَّجَوُّزِ فَتَسْمِيَتُهُ (2) بَاسِمِ الْحَقِيقَةِ إِمَّا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ لِلْوَاضِعِ الْمُتَأَخِّرِ. الْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِمَا يَأْتِي. (3) وَالثَّانِي، فَلَا يَكُونُ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ. (4)   (1) بَحْثُ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ص 400 - 499 ج 20 مِنْ فَتَاوَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. (2) الْمُوَافِقُ لِلُّغَةِ أَنْ يَقُولَ لَكَانَ تَسْمِيَتُهُ بِاسْمِ الْحَقِيقَةِ إِلَخْ ; لِأَنَّ الْفَاءَ لَا تَقَعُ فِي جَوَابِ " لَوْ " وَلَا الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ إِلَّا مَقْرُونَةً بِاللَّامِ، عَلَى تَأْوِيلٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ) . (3) أَيْ مَنْ مَنَعَ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ. (4) لَوْ قَالَ: وَالثَّانِي يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ لَكَانَ أَوْفَقَ لِقَوَاعِدِ اللُّغَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ التَّنْصِيصِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ كَمَا ذَكَرُوهُ بَلْ ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ (1) ، وَهُوَ أَنْ تَنُصَّ الْعَرَبُ كُلِّيًّا عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ الِاسْمِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلَاقَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَجَازِ إِلَّا هَذَا، وَهُوَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ لُغَتِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَكَانَ الْمَنْعُ مِنْهُمْ مُتَحَقِّقًا مَعَ وُجُودِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ تَعَارُضٌ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ. قُلْنَا: أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَمَعَ ظُهُورِ الْمَنْعِ فَلَا مُطْلَقَ وَفِيهِ عَوَصٌ. (2) وَاحْتَجَّ النَّافُونَ بِأَنَّ إِطْلَاقَ الْمَجَازِ مِمَّا لَا يَفْتَقِرُ إِلَى بَحْثٍ وَنَظَرٍ دَقِيقٍ فِي الْجِهَاتِ الْمُصَحِّحَةِ فِي التَّجَوُّزِ، وَالْأَمْرُ النَّقْلِيُّ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ نَقْلِيًّا لَمَا افْتَقَرَ فِيهِ إِلَى الْعَلَاقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ، بَلْ لَكَانَ النَّقْلُ فِيهِ كَافِيًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَالنَّظَرُ لَيْسَ فِي النَّقْلِ بَلْ فِي الْعَلَاقَةِ الَّتِي بَيْنَ مَحَلِّ التَّجَوُّزِ وَالْحَقِيقَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الِافْتِقَارَ إِلَى الْعَلَاقَةِ إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ تَوَقُّفِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجَازٌ عَلَيْهَا، وَإِلَّا كَانَ إِطْلَاقُ الِاسْمِ عَلَيْهِ مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ لَا مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَإِذَا تَقَاوَمَتِ الِاحْتِمَالَاتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَعَلَى النَّاظِرِ بِالِاجْتِهَادِ فِي التَّرْجِيحِ.   (1) جَوَابٌ بِالْمَنْعِ لِعَدَمِ الْحَصْرِ. (2) الصَّوَابُ عِوَضٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 [الْقِسْمَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْمُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ يَصِحُّ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى بَقَاءَ الصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا هَلْ يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً أَمْ لَا] الْقِسْمَةُ الرَّابِعَةُ الِاسْمُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي مَفْهُومِهِ كَثِيرُونَ أَوْ يَصِحُّ. فَالْأَوَّلُ: اسْمُ الْعَلَمِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو. وَالثَّانِي: إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ صِفَةً أَوْ هُوَ صِفَةٌ. وَالْأَوَّلُ هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، أَوْ غَيْرَ عَيْنٍ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. وَالصِّفَةُ كَالْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ، وَهُوَ الِاسْمُ الْمُشْتَقُّ، وَالْمُشْتَقُّ هُوَ مَا غُيِّرَ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَعَانِي عَنْ شَكْلِهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فِي الْحُرُوفِ أَوِ الْحَرَكَاتِ أَوْ فِيهِمَا، وَجُعِلَ دَالًّا عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَعَلَى مَوْضُوعٍ لَهُ غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَتَسْمِيَةِ الْجِسْمِ الَّذِي قَامَ بِهِ السَّوَادُ أَسْوَدَ، وَالْبَيَاضُ أَبْيَضَ وَنَحْوِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَقُّ إِلَّا كَذَلِكَ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا بِمَا لَهُ الِاشْتِقَاقُ؟ وَهَلْ يَلْزَمُ الِاشْتِقَاقُ مِنَ الصِّفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِمَا قَامَتْ بِهِ؟ فَذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَهُ أَصْحَابُنَا وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ، حَيْثُ إِنَّهُمْ جَوَّزُوا اشْتِقَاقَ اسْمِ الْمُتَكَلِّمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ كَلَامٍ مَخْلُوقٍ لَهُ غَيْرِ قَائِمٍ بِذَاتِهِ، وَلَمْ يُوجِبُوا الِاشْتِقَاقَ مِنْهُ لِلْمَحَلِّ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ، وَقَدْ عَرَفْنَا مَأْخَذَ الْخِلَافِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَمَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْهُ فِي " أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ " فَلْيُلْتَمَسْ. (1) مَسَائِلُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي أَنَّ بَقَاءَ الصِّفَةِ الْمُشْتَقِّ مِنْهَا هَلْ يُشْتَرَطُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً أَمْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ، وَقَدْ فَصَلَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَا هُوَ مُمْكِنُ الْحُصُولِ وَمَا لَيْسَ مُمْكِنًا، فَاشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي الْمُمْكِنِ دُونَ غَيْرِهِ.   (1) يُلْتَمَسُ الصَّحِيحُ بِالرُّجُوعِ إِلَى كُتُبِ السَّلَفِ صِيَانَةً لِلْعَقِيدَةِ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيَّةُ مِنْ إِثْبَاتِ كَلَامٍ نَفْسِيٍّ قَدِيمٍ لِلَّهِ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ وَلَا. . . . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 احْتَجَّ الشَّارِطُونَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِطْلَاقُ الضَّارِبِ عَلَى شَخْصٍ مَا حَقِيقَةً بَعْدَ انْقِضَائِهِ (1) صِفَةِ الضَّرْبِ مِنْهُ لَمَا صَحَّ نَفْيُهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِضَارِبٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صِحَّةُ سَلْبِ الضَّارِبِيَّةِ عَنْهُ فِي الْحَالِ، إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْهُ سَلْبُهَا عَنْهُ مُطْلَقًا ; إِذْ (2) لَوْ لَمْ يَكُنْ أَعَمَّ مِنَ الضَّارِبِيَّةِ فِي الْحَالِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ سَلْبِ الْأَخَصِّ سَلْبُ الْأَعَمِّ. فَإِنْ قِيلَ: " قَوْلُ الْقَائِلِ هَذَا ضَارِبٌ " لَا يُفِيدُ سِوَى كَوْنِهِ ضَارِبًا فِي الْحَالِ، فَإِذَا سُلِّمَ صِحَّةُ سَلْبِهِ فِي الْحَالِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. قُلْنَا: هَذَا بِعَيْنِهِ إِعَادَةُ دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، بَلِ الضَّارِبُ هُوَ مَنْ حَصَلَ لَهُ الضَّرْبُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ حُصُولِ الضَّرْبِ لَهُ فِي الْحَالِ، فَالضَّارِبُ أَعَمُّ مِنَ الضَّارِبِ فِي الْحَالِ. فَإِنْ قِيلَ: وَكَمَا أَنَّ حُصُولَ الضَّرْبِ أَعَمُّ مِنْ حُصُولِ الضَّرْبِ فِي الْحَالِ ; لِانْقِسَامِهِ إِلَى الْمَاضِي وَالْحَالِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا ; لِانْقِسَامِهِ فِي الْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ صَدَقَ اسْمُ الضَّارِبِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، فَلْيَكُنِ اسْمَ الضَّارِبِ حَقِيقَةً قَبْلَ وُجُودِ الضَّرْبِ مِنْهُ، كَمَا كَانَ حَقِيقَةً بَعْدَ زَوَالِ الضَّرْبِ. قُلْنَا: الضَّارِبُ حَقِيقَةً مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الضَّرْبُ، وَهَذَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ فِي الْمَاضِي أَوِ الْحَالِ، بِخِلَافِ مَنْ سَيُوجَدُ مِنْهُ الضَّرْبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَصَلَ مِنْهُ الضَّرْبُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِدْقِ الضَّارِبِ حَقِيقَةً عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ، صِدْقُهُ حَقِيقَةً عَلَى مَنْ سَيُوجَدُ مِنْهُ الضَّرْبُ وَلَمْ يُوجَدْ. وَاحْتَجَّ النَّافُونَ بِوُجُوهٍ:   (1) الصَّوَابُ انْقِضَاءِ (2) الصَّوَابُ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 الْأَوَّلُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: إِذَا كَانَ اسْمُ الْفَاعِلِ بِتَقْدِيرِ الْمَاضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَ الْفِعْلِ، فَلَا يُقَالُ ضَارِبُ زَيْدًا أَمْسِ كَمَا يُقَالُ بِتَقْدِيرِ الْمُسْتَقْبَلِ، بَلْ يُقَالُ: ضَارِبٌ زَيْدٍ، أَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَ الْفَاعِلِ بِاعْتِبَارِ مَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الْفِعْلِ الْمَاضِي. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ وُجُودُ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الِاشْتِقَاقِ حَقِيقَةً لَمَا كَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُخْبِرِ حَقِيقَةً أَصْلًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْكَلَامِ مِنْهُ وَالْخَبَرِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِمَجْمُوعِ حُرُوفِهِ وَأَجْزَائِهِ، وَلَا وُجُودَ لِلْحُرُوفِ السَّابِقَةِ مَعَ الْحَرْفِ الْأَخِيرِ أَصْلًا، وَلَا خَفَاءَ بِامْتِنَاعِ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا حَقِيقَةً قَبْلَ وُجُودِ الْكَلَامِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً عِنْدَ آخَرِ جُزْءٍ مِنَ الْكَلَامِ وَالْخَبَرِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْكَلَامِ، وَالْخَبَرُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَّا كَانَ حَقِيقَةً أَصْلًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَإِلَّا لَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمٍ إِذْ هُوَ لَازِمُ نَفْيِ الْحَقِيقَةِ، وَلَمَا حَنَثَ مَنْ حَلَفَ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَتَكَلَّمْ حَقِيقَةً وَإِنَّنِي لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا حَقِيقَةً إِذَا كَانَ قَدْ تَكَلَّمَ أَوْ كَلَّمَهُ. الثَّالِثُ: إِنَّ الضَّارِبَ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ الضَّرْبُ، وَمَنْ وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ فِي الْمَاضِي يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مِنْهُ الضَّرْبُ فَكَانَ ضَارِبًا حَقِيقَةً. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ قَالُوا: اسْمُ الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ بِتَقْدِيرِ الْمُسْتَقْبَلِ عَمِلَ عَمَلَ الْفِعْلِ، فَقِيلَ: ضَارِبٌ زَيْدًا غَدًا وَلَيْسَ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَغَيْرُ لَازِمٍ أَيْضًا ; إِذْ لِلْخِصْمِ أَنْ يَقُولَ: شَرْطُ كَوْنِ الْمُشْتَقِّ حَقِيقَةً إِنَّمَا هُوَ وُجُودُ مَا مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَوُجُودُ آخَرِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْكَلَامِ وَالْخَبَرِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْمَ الضَّارِبِ حَقِيقَةً عَلَى مَنْ وُجِدَ مِنْهُ الضَّرْبُ مُطْلَقًا، بَلْ مَنِ الضَّرْبُ حَاصِلٌ مِنْهُ حَالَةَ تَسْمِيَتِهِ ضَارِبًا، ثُمَّ يَلْزَمُ تَسْمِيَةُ أَجِلَّاءِ الصَّحَابَةِ كَفَرَةً ; لِمَا وُجِدَ مِنْهُمْ مَنِ الْكُفْرِ السَّابِقِ، وَالْقَائِمِ قَاعِدًا، وَالْقَاعِدِ قَائِمًا ; لِمَا وُجِدَ مِنْهُ مِنَ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ السَّابِقِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ اللِّسَانِ. هَذَا مَا عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَيْكَ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ هَلْ ثَبَتَتْ قِيَاسًا أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ: هَلْ ثَبَتَتْ قِيَاسًا أَمْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَأَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنْكَرَهُ مُعْظَمُ أَصْحَابِنَا وَالْحَنَفِيَّةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى امْتِنَاعِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ وَأَسْمَاءِ الصِّفَاتِ. أَمَّا أَسْمَاءُ الْأَعْلَامِ؛ فَلِكَوْنِهَا غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ لِمَعَانٍ مُوجِبَةٍ لَهَا، وَالْقِيَاسُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْنًى جَامِعٍ: إِمَّا مُعَرِّفٌ وَإِمَّا دَاعٍ، وَإِذَا قِيلَ فِي حَقِّ الْأَشْخَاصِ فِي زَمَانِنَا: هَذَا سِيبَوَيْهِ وَهَذَا جَالِينُوسُ، فَلَيْسَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فِي التَّسْمِيَةِ، بَلْ مَعْنَاهُ: هَذَا حَافِظُ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَعِلْمِ جَالِينُوسَ بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ، كَمَا يُقَالُ: قَرَأْتُ سِيبَوَيْهِ وَالْمُرَادُ بِهِ كِتَابُهُ. وَأَمَّا أَسْمَاءُ الصِّفَاتِ الْمَوْضُوعَةُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ كَالْعَالِمِ وَكَالْقَادِرِ، فَلِأَنَّهَا وَاجِبَةُ الِاطِّرَادِ ; نَظَرًا إِلَى تَحَقُّقِ مَعْنَى الِاسْمِ، فَإِنَّ مُسَمَّى الْعَالِمِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، فَكَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَالِمِ عَلَيْهِ بِالْوَضْعِ لَا بِالْقِيَاسِ ; إِذْ لَيْسَ قِيَاسُ أَحَدِ الْمُسَمَّيَيْنِ (1) الْمُتَمَاثِلَيْنِ فِي الْمُسَمَّى عَلَى الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى مُسَمَّيَاتِهَا مُسْتَلْزِمَةً لِمَعَانٍ فِي مَحَالِّهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى النَّبِيذِ بِوَاسِطَةِ مُشَارَكَتِهِ لِلْمُعْتَصَرِ مِنَ الْعِنَبِ فِي الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الْمُخَمِّرَةِ عَلَى الْعَقْلِ، وَكَإِطْلَاقِ اسْمِ السَّارِقِ عَلَى النَّبَّاشِ بِوَاسِطَةِ مُشَارَكَتِهِ لِلسَّارِقِينَ مِنَ الْأَحْيَاءِ فِي أَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ، وَكَإِطْلَاقِ اسْمِ الزَّانِي عَلَى اللَّائِطِ بِوَاسِطَةِ مُشَارَكَتِهِ لِلزَّانِي فِي إِيلَاجِ الْفَرَجِ الْمُحَرَّمِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا قِيَاسَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُنْقَلُ عَنِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ وَضَعُوا اسْمَ الْخَمْرِ لِكُلِّ مُسْكِرٍ، أَوْ لِلْمُعْتَصَرِ مِنَ الْعِنَبِ خَاصَّةً، أَوْ لَمْ يُنْقَلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَاسْمُ الْخَمْرِ ثَابِتٌ لِلنَّبِيذِ بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالْقِيَاسِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَالتَّعْدِيَةُ تَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ لُغَتِهِمْ.   (1) أَيِ الْجُزْئَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ الَّذِي بِهِ التَّعْدِيَةُ دَلِيلًا عَلَى التَّعْدِيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا بِدَلِيلِ مَا صَرَّحَ بِذَلِكَ، وَإِذَا احْتَمَلَ، وَاحْتَمَلَ فَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَالتَّعْدِيَةُ تَكُونُ مُمْتَنِعَةً. فَإِنْ قِيلَ: الْوَصْفُ الْجَامِعُ وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا، غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهِ دَلِيلًا أَظْهَرَ، وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْمَ دَارَ مَعَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَالدَّوَرَانُ دَلِيلُ كَوْنِ وُجُودِ الْوَصْفِ أَمَارَةً عَلَى الِاسْمِ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ وُجُودُ الِاسْمِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا سَمَّتْ بِاسْمِ الْفَرَسِ، وَالْإِنْسَانِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِمْ، وَكَذَلِكَ وَصَفُوا الْفَاعِلَ فِي زَمَانِهِمْ بِأَنَّهُ رُفِعَ وَالْمَفْعُولَ نُصِبَ، وَإِنَّمَا وَصَفُوا بَعْضَ الْفَاعِلِينَ وَالْمَفْعُولِينَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالِاسْمُ مُطَّرِدٌ فِي زَمَانِنَا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ وَفَرَسٍ وَفَاعِلٍ وَمَفْعُولٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ قِيَاسٍ، ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَاطِلٌ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْأَقْسَامِ بِعَيْنِهِ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ صَحِيحٌ مُتَّبَعٌ، وَهُوَ أَيْضًا عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ سَمَّى النَّبِيذَ خَمْرًا وَأَوْجَبَ الْحَدَّ بِشُرْبِهِ وَأَوْجَبَ الْحَدَّ عَلَى اللَّائِطِ قِيَاسًا عَلَى الزِّنَى، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ قِيَاسًا عَلَى الْيَمِينِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَأَوَّلَ حَدِيثَ ( «الشُّفْعَةُ لِلْجَارِ» ) بِحَمْلِهِ عَلَى الشَّرِيكِ فِي الْمَمَرِّ، وَقَالَ: الْعَرَبُ تُسَمِّي الزَّوْجَةَ جَارًا فَالشَّرِيكُ أَوْلَى. قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ: أَنَّ دَوَرَانَ الِاسْمِ مَعَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وُجُودًا وَعَدَمًا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لِلِاسْمِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ دَاعِيًا إِلَيْهِ وَبَاعِثًا، بَلْ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَبِمَعْنَى كَوْنِهِ أَمَارَةً، وَكَمَا دَارَ مَعَ اسْمِ الْخَمْرِ مَعَ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ دَارَ مَعَ خُصُوصِ شَدَّةِ الْمُعْتَصَرِ مِنَ الْعِنَبِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي النَّبِيذِ فَلَا قِيَاسَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقَضٌ بِتَسْمِيَةِ الْعَرَبِ لِلرَّجُلِ الطَّوِيلِ نَخْلَةً، وَالْفَرَسِ الْأَسْوَدِ أَدْهَمَ وَالْمُلَوَّنِ بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ أَبْلَقَ، وَالِاسْمُ فِيهِ دَائِرٌ مَعَ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُسَمُّوا الْفَرَسَ وَالْجَمَلَ لِطُولِهِ نَخْلَةً، وَلَا الْإِنْسَانَ الْمُسْوَدَّ أَدْهَمَ، وَلَا الْمُتَلَوِّنَ مِنْ بَاقِي الْحَيَوَانَاتِ بِالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ أَبْلَقَ، وَكُلُّ مَا هُوَ جَوَابُهُمْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ جَوَابُنَا فِي مَوْضِعِ النِّزَاعِ. وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ مَا وَقَعَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُ التَّسْمِيَةِ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الْقِيَاسَ، بَلِ الْعَرَبُ وَضَعَتْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ لِلْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ لَا أَنَّهَا وَضَعَتْهَا لِلْمُعَيَّنِ ثُمَّ طُرِدَ الْقِيَاسُ فِي الْبَاقِي. وَجَوَابُ الثَّالِثِ: بِمَنْعِ الْعُمُومِ فِي كُلِّ اعْتِبَارٍ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي الْمُعْتَبَرِ (1) ، فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا النَّقْضُ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فَغَيْرُ مُتَّجِهٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْأُمَّةِ مِنَ السَّلَفِ عِنْدَنَا أَوْجَبَ الْإِلْحَاقَ عِنْدَ ظَنِّ الِاشْتِرَاكِ فِي عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعٌ لَمْ يَكُنْ قِيَاسٌ، وَلَا إِجْمَاعَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْأُمَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْإِلْحَاقِ، فَلَا قِيَاسَ. وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّبِيذَ خَمْرًا، فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى الْقِيَاسِ، بَلْ إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا) (2) ، وَهُوَ تَوْقِيفٌ لَا قِيَاسٌ، وَإِيجَابُهُ لِلْحَدِّ فِي اللِّوَاطِ وَفِي النَّبْشِ، لَمْ يَكُنْ لِكَوْنِ اللِّوَاطِ زِنًى وَلَا لِكَوْنِ النَّبْشِ سَرِقَةً، بَلْ لِمُسَاوَاةِ اللِّوَاطِ لِلزِّنَى وَالنَّبْشِ لِلسَّرِقَةِ فِي الْمَفْسَدَةِ الْمُنَاسِبَةِ لِلْحَدِّ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ. وَأَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ، فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ يَمِينًا لَا بِالْقِيَاسِ بَلْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْيَمَنُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ) (3) فَكَانَ ذَلِكَ بِالتَّوْقِيفِ.   (1) لِأَنَّ قَوْلَهُ " فَاعْتَبِرُوا " فِعْلٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يَا أُولِي الْأَلْبَابِ فَإِنَّهُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ. (2) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: (وَإِنَّ مِنَ التَّمْرِ خَمْرًا) . وَفِي سَنَدِهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، صَدُوقٌ لَيِّنُ الْحِفْظِ (3) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْعِلَلِ: سَأَلْتُ أَبِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: مُنْكَرٌ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ بِلَفْظِ: الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بِلَاقِعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الشَّافِعِيِّ لِلشَّرِيكِ جَارًا، إِنَّمَا كَانَ بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الزَّوْجَةَ لِقَطْعِ الِاسْتِبْعَادِ فِي تَسْمِيَةِ الشَّرِيكِ جَارًا لِزِيَادَةِ قُرْبِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَارِ الْمُلَاصِقِ، فَقَالَ: الزَّوْجَةُ أَقْرَبُ مِنَ الشَّرِيكِ وَهِيَ جَارٌ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْهَا، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِالْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَنَّ غَيْرَهُ مُخَالِفٌ لَهُ، وَالْحَقُّ مِنْ قَوْلَيْهِمَا أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. [الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْفِعْلِ وَأَقْسَامِهِ] الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْفِعْلِ وَأَقْسَامِهِ وَالْفِعْلُ: مَا دَلَّ عَلَى حَدَثٍ مُقْتَرِنٍ بِزَمَانٍ مُحَصَّلٍ مُمَيَّزٍ بِفِعْلٍ مَخْصُوصٍ. وَالْحَدَثُ: الْمَصْدَرُ، وَهُوَ اسْمُ الْفِعْلِ، وَالزَّمَانُ الْمُحَصَّلُ الْمَاضِي وَالْحَالُ وَالْمُسْتَقْبَلُ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ بِحَسَبِ انْقِسَامِ الزَّمَانِ، فَالْمَاضِي مِنْهُ كَقَامَ وَقَعَدَ. وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ فِي اللَّفْظِ وَاحِدٌ، وَيُسَمَّى الْمُضَارِعُ وَهُوَ مَا فِي أَوَّلِهِ إِحْدَى الزَّوَائِدِ الْأَرْبَعِ وَهِيَ: الْهَمْزَةُ، وَالتَّاءُ، وَالنُّونُ، وَالْيَاءُ، كَقَوْلِكَ: أَقُومُ، وَتَقُومُ، وَنَقُومُ، وَيَقُومُ. وَتَخْلِيصُ الْمُسْتَقْبَلِ عَنِ الْحَاضِرِ بِدُخُولِ السِّينِ أَوْ سَوْفَ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ: سَيَقُومُ، وَسَوْفَ يَقُومُ. وَأَمَّا فِعْلُ الْأَمْرِ، فَمَا نُزِعَ مِنْهُ حَرْفُ الْمُضَارَعَةِ كَقَوْلِكَ فِي يَقُومُ قُمْ وَنَحْوِهِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ: فِعْلُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَأَفْعَالُ الْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ، وَالْأَفْعَالُ النَّاقِصَةُ، وَأَفْعَالُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ وَالتَّعَجُّبِ. وَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ كَلِمَةً مُفْرَدَةً عِنْدَ النُّحَاةِ مُطْلَقًا (1) ، فَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ (2) الْمُفْرَدُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْمَاضِي دُونَ الْمُضَارِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ فِي الْمُضَارِعِ هُوَ   (1) أَيْ مَاضِيًا أَوْ مُضَارِعًا أَوْ أَمْرًا (2) أَيِ الْمَنَاطِقَةِ وَسَائِرِ الْفَلَاسِفَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 الدَّالُّ عَلَى الْمَوْضُوعِ (1) مُعَيَّنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَالْمُفْرَدُ هُوَ الدَّالُّ الَّذِي لَا جُزْءَ لَهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي حَدِّ الْمُفْرَدِ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْمَاضِي فَإِنَّهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى مَوْضُوعِهِ فَلَيْسَ فِيهِ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَوْضُوعِ فَكَانَ مُفْرَدًا. وَقَدْ أَلْحَقَ بَعْضُهُمْ مَا كَانَ مِنَ الْمُضَارِعِ الَّذِي فِي أَوَّلِهِ الْيَاءُ بِالْمَاضِي فِي الْإِفْرَادِ دُونَ غَيْرِهِ ; لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْفِعْلِ وَعَلَى مَوْضُوعٍ لَهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَإِنَّهُمَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي هَذَا الْمَعْنَى فَمُفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ الْيَاءِ عَلَى الْمَوْضُوعِ الَّذِي لَيْسَ مُعَيَّنًا، بِخِلَافِ الْمَاضِي حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى الْمَوْضُوعِ كَمَا سَبَقَ. [الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الْحَرْفِ وَأَصْنَافِهِ] الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الْحَرْفِ وَأَصْنَافِهِ الْحَرْفُ: مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ عَلَى أَصْنَافٍ: مِنْهَا: حَرْفُ الْإِضَافَةِ، وَهُوَ مَا يُفْضِي بِمَعَانِي الْأَفْعَالِ إِلَى الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مِنْهُ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا حَرْفًا كَمِنْ، وَإِلَى، وَحَتَّى، وَفِي، وَالْبَاءِ، وَاللَّامِ، وَرُبَّ، وَوَاوِ الْقَسَمِ وَتَائِهِ. أَمَّا " مِنْ " فَهِيَ قَدْ تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِكِ: سِرْتُ مِنْ بَغْدَادَ، وَلِلتَّبْعِيضِ كَقَوْلِكِ: أَكَلْتُ مِنَ الْخُبْزِ، وَلِبَيَانِ الْجِنْسِ كَقَوْلِكِ: خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ، وَزَائِدَةٌ كَقَوْلِكِ: مَا جَاءَنِي مِنْ أَحَدٍ.   (1) الْمُرَادُ بِالْمَوْضُوعِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ مُعَيَّنًا كَانَ: كَضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ الْمَبْدُوءِ بِالتَّاءِ، وَضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَبْدُوءِ بِالْهَمْزَةِ، وَضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْمَبْدُوءِ بِالنُّونِ. أَوْ غَيْرُ مُعَيَّنٍ: كَضَمِيرِ الْغَائِبِ الْمُضَارِعِ الْمَبْدُوءِ بِالْيَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وَأَمَّا (إِلَى) فَهِيَ قَدْ تَكُونُ لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ كَقَوْلِكِ: سِرْتُ إِلَى بَغْدَادَ، وَبِمَعْنَى " مَعَ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} . وَأَمَّا (حَتَّى) فَفِي مَعْنَى إِلَى. وَأَمَّا (فِي) فَلِلظَّرْفِيَّةِ كَقَوْلِكِ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى " عَلَى " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} وَقَدْ يُتَجَوَّزُ بِهَا فِي قَوْلِهِمْ: نَظَرْتُ فِي الْعِلْمِ الْفُلَانِيِّ. وَأَمَّا (الْبَاءُ) فَلِلْإِلْصَاقِ كَقَوْلِكَ: بِهِ دَاءٌ، وَقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِعَانَةِ كَقَوْلِكَ: كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَالْمُصَاحَبَةُ كَقَوْلِكَ: اشْتَرَيْتُ الْفَرَسَ بِسَرْجِهِ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى " عَلَى " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} أَيْ عَلَى قِنْطَارٍ وَعَلَى دِينَارٍ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى " مِنْ أَجْلِ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} أَيْ لِأَجْلِ دُعَائِكَ، وَقِيلَ: بِمَعْنَى فِي دُعَائِكَ. وَقَدْ تَكُونُ زَائِدَةً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} . وَأَمَّا (اللَّامُ) فَهِيَ لِلِاخْتِصَاصِ كَقَوْلِكَ: " الْمَالُ لِزَيْدٍ "، وَقَدْ تَكُونُ زَائِدَةً كَقَوْلِهِ: (رَدِفَ لَكُمْ) . وَأَمَّا (رُبَّ) فَهِيَ لِلتَّقْلِيلِ، وَلَا تَدْخُلْ إِلَّا عَلَى النَّكِرَةِ كَقَوْلِكَ: رُبَّ رَجُلٍ عَالِمٍ. وَأَمَّا (وَاوُ الْقَسَمِ) فَمُبْدَلَةٌ عَنْ بَاءِ الْإِلْصَاقِ فِي قَوْلِكَ: أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ. وَ (التَّاءُ) مُبْدَلَةٌ مِنَ الْوَاوِ فِي تَاللَّهِ (1) . الْقِسْمُ الثَّانِي مَا يَكُونُ حَرْفًا وَاسْمًا كَعَلَى وَعَنْ وَالْكَافِ وَمُذْ وَمُنْذُ. فَأَمَّا (عَلَى) فَهِيَ لِلِاسْتِعْلَاءِ، وَهِيَ إِمَّا حَرْفٌ كَقَوْلِكَ: عَلَى زَيْدٍ دَيْنٌ، وَإِمَّا اسْمٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَمَا تَمَّ ظِمْؤُهَا ... تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَبْزَاءَ مَجْهَلِ.   (1) لَعَلَّهُ وَاللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَأَمَّا (عَنْ) فَلِلْمُبَاعَدَةِ، وَهِيَ إِمَّا حَرْفٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ، وَإِمَّا اسْمٌ كَقَوْلِكَ: جَلَسْتُ مِنْ عَنْ يَمِينِهِ. وَأَمَّا (الْكَافُ) فَقَدْ تَكُونُ حَرْفًا لِلتَّشْبِيهِ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ كَعَمْرٍو، وَقَدْ تَكُونُ اسْمًا كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: يَضْحَكْنَ عَنْ كَالْبَرَدِ الْمُنْهَمِّ. وَأَمَّا (مُذْ) وَ (مُنْذُ) فَحَرْفَانِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فِي الزَّمَانِ تَقُولُ: مَا رَأَيْتُهُ مُذِ الْيَوْمَ، وَمُنْذُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَقَدْ يَكُونَانِ اسْمَيْنِ إِذَا رَفَعَا مَا بَعْدَهُمَا. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَكُونُ حَرْفًا وَفِعْلًا كَحَاشَا وَخَلَا وَعَدَا، فَإِنَّهَا تَخْفِضُ مَا بَعْدَهَا بِالْحَرْفِيَّةِ وَقَدْ تَنْصِبُهُ بِالْفِعْلِيَّةِ. وَمِنْهَا الْحَرْفُ الْمُضَارِعُ لِلْفِعْلِ، وَهُوَ يَنْصِبُ الِاسْمَ وَيَرْفَعُ الْخَبَرَ مِثْلُ: إِنَّ، وَأَنَّ، وَلَكِنَّ، وَكَأَنَّ، وَلَيْتَ، وَلَعَلَّ. وَمِنْهَا حُرُوفُ الْعَطْفِ وَهِيَ عَشَرَةٌ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ تَشْتَرِكُ فِي جَمْعِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمٍ غَيْرَ أَنَّهَا تَخْتَلِفُ فِي أُمُورٍ أُخْرَى. وَهَذِهِ هِيَ: (الْوَاوُ، وَالْفَاءُ، وَثُمَّ، وَحَتَّى) . أَمَّا " الْوَاوُ " فَقَدِ اتَّفَقَ جَمَاهِيرُ أَهْلِ الْأَدَبِ عَلَى أَنَّهَا لِلْجَمْعِ غَيْرِ مُقْتَضِيَةٍ تَرْتِيبًا وَلَا مَعِيَّةً، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ مُطْلَقًا، وَنُقِلَ عَنِ الْفَرَّاءِ أَنَّهَا لِلتَّرْتِيبِ حَيْثُ يَسْتَحِيلُ الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} . وَقِيلَ: إِنَّهَا تَرِدُ بِمَعْنَى " أَوْ " كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} قِيلَ: أَرَادَ مَثْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ، وَقَدْ تَرِدُ لِلِاسْتِئْنَافِ كَالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} تَقْدِيرُهُ: وَالرَّاسِخُونَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى " مَعَ " فِي بَابِ الْمَفْعُولِ مَعَهُ، تَقُولُ: جَاءَ الْبَرْدُ وَالطَّيَالِسَةُ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى " إِذْ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أَيْ إِذْ طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْجَمْعِ الْمُطْلَقِ مِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ " الْوَاوُ " فِي قَوْلِ الْقَائِلِ (رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا صَحَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} فِي آيَةٍ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} مَعَ اتِّحَادِ الْقَضِيَّةِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ جَعْلِ الْمُتَقَدِّمِ مُتَأَخِّرًا وَالْمُتَأَخِّرِ مُتَقَدِّمًا. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا حَسُنَ قَوْلُ الْقَائِلِ " تَقَاتَلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو " إِذْ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْقَائِلِ " جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو " كَاذِبًا ثُمَّ مَجِيئُهُمَا مَعًا أَوْ تَقَدُّمُ الْمُتَأَخِّرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَعْدَهُ " تَكْرِيرًا وَ " قَبْلَهُ " تَنَاقُضًا. الْخَامِسُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا وَتَأَخُّرِ الْآخَرِ ; لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا مِنْ ظَاهِرِ الْعَطْفِ. السَّادِسُ: أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ التَّرْتِيبُ عِنْدَ قَوْلِ سَيِّدِهِ لَهُ: إِيتِ بِزَيْدٍ وَعَمْرٍو. السَّابِعُ: هُوَ أَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى وَاوِ الْجَمْعِ وَفِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَاثِلَةِ مَجْرَى يَاءِ التَّثْنِيَةِ، وَهُمَا لَا يَقْتَضِيَانِ التَّرْتِيبَ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ جَارٍ مَجْرَاهُمَا. الثَّامِنُ: أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ مَعْقُولٌ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرْفٍ يُفِيدُهُ، وَلَيْسَ ثَمَّ مِنَ الْحُرُوفِ سِوَى (الْوَاوِ) بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ هُوَ (الْوَاوَ) . التَّاسِعُ: أَنَّهَا لَوْ أَفَادَتِ التَّرْتِيبَ لَدَخَلَتْ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ كَالْفَاءِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: (إِذَا دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ وَأَعْطِهِ دِرْهَمًا) كَمَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ (فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا) . وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا كَانَ مِنْ أَصْلِ الْمُخَالِفِ أَنَّ " الْوَاوَ " ظَاهِرَةٌ فِي التَّرْتِيبِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى غَيْرِ التَّرْتِيبِ تَجَوُّزًا، وَعَلَى هَذَا فَحَيْثُ تَعَذَّرَ حَمْلُهَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِ التَّرْتِيبِ بِجِهَةِ التَّجَوُّزِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِمْ (تَقَاتَلَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو) وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّجَوُّزِ بِالْوَاوِ فِي غَيْرِ التَّرْتِيبِ أَنْ يُتَجَوَّزَ عَنْهُ بِالْفَاءِ وَثُمَّ ; إِذْ هُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْحُرُوفِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ الْمَعِيَّةِ أَوْ تَقَدُّمِ الْمُتَأَخِّرِ فِي اللَّفْظِ لِإِمْكَانِ التَّجَوُّزِ بِهَا عَنِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، كَمَا لَوْ قَالَ: (رَأَيْتُ أَسَدًا) وَكَانَ قَدْ رَأَى إِنْسَانًا شُجَاعًا. وَعَلَى الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: " رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا بَعْدَهُ " لَا يَكُونُ تَكْرِيرًا ; لِأَنَّهُ يَكُونُ مُفِيدًا لِامْتِنَاعِ حَمْلِهِ عَلَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لِاحْتِمَالِ تَوَهُّمِهِ بِجِهَةِ التَّجَوُّزِ، وَإِذَا قَالَ: (رَأَيْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا قَبْلَهُ) لَا يَكُونُ تَنَاقُضًا لِكَوْنِهِ مُفِيدًا لِإِرَادَةِ جِهَةِ التَّجَوُّزِ. وَعَلَى الْخَامِسِ: أَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ الِاسْتِفْسَارُ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُ تَجَوُّزًا. وَعَلَى السَّادِسِ: أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْعَبْدِ التَّرْتِيبُ نَظَرًا إِلَى قَرِينَةِ الْحَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِرَادَةِ جِهَةِ التَّجَوُّزِ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ فُرِضَ عَدَمُ الْقَرِينَةِ لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلتَّرْتِيبِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ " الْوَاوُ " حَقِيقَةً فِي التَّرْتِيبِ فَإِفَادَتُهَا لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا بِهِ، إِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ وَهُوَ أَيْضًا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. قُلْنَا: وَلَوْ كَانَتْ حَقِيقَةً فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَإِفَادَتُهَا لِلتَّرْتِيبِ عِنْدَ تَفْسِيرِهَا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ مُشْتَرَكًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ; لِأَنَّهَا إِذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِي التَّرْتِيبِ خَلَا الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ عَنْ حَرْفٍ يَخُصُّهُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتْ حَقِيقَةً فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَخْلُ التَّرْتِيبُ عَنْ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ (الْفَاءِ) وَ (ثُمَّ) عَلَيْهِ. قُلْنَا: إِنَّمَا نَجْعَلُهَا حَقِيقَةً فِي التَّرْتِيبِ الْمُطْلَقِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ (الْفَاءِ) وَ (ثُمَّ) وَذَلِكَ مِمَّا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ (الْفَاءُ) وَ (ثُمَّ) دَلَالَةً مُطَابِقَةً، بَلْ إِمَّا بِجِهَةِ التَّضَمُّنِ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الِالْتِزَامِ، وَكَمَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُشْتَرَكِ بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ أَوِ الِالْتِزَامِ فَتَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ هَذِهِ الدَّلَالَةُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ إِخْلَاءُ التَّرْتِيبِ الْمُشْتَرَكِ عَنْ لَفْظٍ يُطَابِقُهُ أَوْلَى مِنْ إِخْلَاءِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ. وَعَلَى السَّابِعِ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) جَارِيَةً مَجْرَى (وَاوِ) الْجَمْعِ وَ (يَاءِ) التَّثْنِيَةِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِهَا جَارِيَةً مَجْرَاهُمَا فِي مُطْلَقِ الْجَمْعِ مَعَ كَوْنِهَا مُخْتَصَّةً بِالتَّرْتِيبِ، كَمَا فِي (الْفَاءِ) وَ (ثُمَّ) . وَعَلَى الثَّامِنِ: أَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ مَعْقُولٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مَنْ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَالتَّرْتِيبُ الْمُطْلَقُ أَيْضًا مَعْقُولٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مَنْ حَرْفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مَا يُفِيدُهُ بِالْإِجْمَاعِ سِوَى (الْوَاوُ) فَتَعَيَّنَ، كَيْفَ وَإِنَّ الْجَمْعَ الْمُطْلَقَ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ: (رَأَيْتُ زَيْدًا، رَأَيْتُ عَمْرًا) . وَعَلَى التَّاسِعِ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِثُمَّ وَبَعْدَ. وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ لِلتَّرْتِيبِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِالنَّقْلِ، وَالْحُكْمِ، وَالْمَعْنَى. أَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فَإِنَّهُ مُقْتَضٍ لِلتَّرْتِيبِ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} قَالَ الصَّحَابَةُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (بِمَ نَبْدَأُ) قَالَ: ( «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ) (1) وَلَوْلَا أَنَّ (الْوَاوَ) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ «أَنَّ وَاحِدًا قَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ: (مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدِ اهْتَدَى وَمَنْ عَصَاهُمَا فَقَدْ غَوَى) فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (بِئْسَ خَطِيبُ الْقَوْمِ أَنْتَ، قُلْ: وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى) » (2) وَلَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ.   (1) الَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) وَقَالَ: " أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ". وَفِي رِوَايَةٍ فِي النَّسَائِيِّ: " نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ". وَفِي أُخْرَى: " ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ". وَلَيْسَ فِي رِوَايَةٍ مِنْهَا ذِكْرُ سُؤَالِ الصَّحَابَةِ (2) انْظُرْ كَلَامَ ابْنِ حَجْرٍ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَ شَرْحِهِ: " ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ ". - ج 1 - مِنْ فَتْحِ الْبَارِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِشَاعِرٍ قَالَ: ( كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا ) : لَوْ قَدَّمْتَ الْإِسْلَامَ عَلَى الشَّيْبِ لَأَجَزْتُكَ. وَكَانَ عُمَرُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرُوا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالُوا لَهُ: لِمَ تَأْمُرُنَا بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَكَانُوا أَيْضًا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَوْلَا أَنَّ (الْوَاوَ) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ، وَقَعَ بِهَا طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَوَقَعَتِ الثَّلَاثُ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ يَسْتَدْعِي سَبَبًا، وَالتَّرْتِيبَ فِي الْوُجُودِ صَالِحٌ لَهُ فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ. أَجَابَ النَّافُونَ عَنِ النَّقْلِ: أَمَّا الْآيَةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَفَادٌ مِنْهَا، بَلْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى وَرَتَّبَ الرُّكُوعَ قَبْلَ السُّجُودِ وَقَالَ: ( «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ) وَلَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا احْتَاجَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْبَيَانِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ) فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ، حَيْثُ سَأَلَهُ الصَّحَابَةُ عَنْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ، وَلَوْ كَانَتْ (الْوَاوُ) لِلتَّرْتِيبِ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ السُّؤَالِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ كَانَتْ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ لَمَا احْتَاجُوا إِلَى السُّؤَالِ فَيَتَعَارَضَانِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «ابْدَؤُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» ) وَهُوَ دَلِيلُ التَّرْتِيبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «قُلْ: وَمَنْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى» ) إِنَّمَا قَصَدَ بِهِ إِفْرَادَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا مُبَالَغَةً فِي تَعْظِيمِهِ لَا أَنَّ " الْوَاوَ " لِلتَّرْتِيبِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا انْفِكَاكَ لِإِحْدَاهُمَا عَنِ الْأُخْرَى حَتَّى يُتَصَوَّرَ فِيهِمَا التَّرْتِيبُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ فَمَبْنِيٌّ عَلَى قَصْدِ التَّعْظِيمِ بِتَقْدِيمِ ذِكْرِ الْأَعْظَمِ لَا عَلَى قَصْدِ التَّرْتِيبِ. وَأَمَّا قِصَّةُ الصَّحَابَةِ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنَدُ إِنْكَارِهِمْ لِأَمْرِهِ بِتَقْدِيمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ كَوْنَ الْآيَةِ مُقْتَضِيَةً لِتَرْتِيبِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْحَجِّ، بَلْ لِأَنَّهَا مُقْتَضِيَةٌ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَأَمْرُهُ بِالتَّرْتِيبِ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْآيَةِ، كَيْفَ وَإِنَّ فَهْمَهُمْ لِتَرْتِيبِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ مِنَ الْآيَةِ مُعَارَضٌ بِمَا فَهِمَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى أَصْلِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ " الْوَاوَ " لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي لَيْلَى، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَإِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَالْوَجْهُ فِي تَخْرِيجِهِ أَنْ يُقَالَ: إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَالْأَخِيرُ تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ، وَالْكَلَامُ يُعْتَبَرُ بِجُمْلَتِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ مَنْقُوضٌ بِقَوْلِهِ: رَأَيْتُ زَيْدًا، رَأَيْتُ عَمْرًا. فَإِنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِ الِاسْمَيْنِ فِي الذِّكْرِ لَا يَسْتَدْعِي تَقْدِيمَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِجْمَاعًا، كَيْفَ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ فِي تَقْدِيمِهِ ذِكْرًا لِزِيَادَةِ حُبِّهِ لَهُ وَاهْتِمَامِهِ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ، أَوْ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِخْبَارَ عَنْهُ لَا غَيْرُ، ثُمَّ تَجَدَّدَ لَهُ قَصْدُ الْإِخْبَارِ عَنِ الْآخَرِ عِنْدَ إِخْبَارِهِ عَنِ الْأَوَّلِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَجَاذَبٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَرْجَحُ هُوَ الْأَوَّلَ فِي النَّفْسِ. وَأَمَّا " الْفَاءُ " وَ " ثُمَّ " وَ " حَتَّى " فَإِنَّهَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَتَخْتَلِفُ مِنْ جِهَاتٍ أُخَرَ. فَأَمَّا " الْفَاءُ " فَمُقْتَضَاهَا إِيجَابُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، هَذَا مِمَّا اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ عَلَى نَقْلِهِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} وَإِنْ كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنِ الْهَلَاكِ، فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِالْحُكْمِ بِمَجِيءِ الْبَأْسِ بَعْدَ هَلَاكِهَا ضَرُورَةَ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ (1) ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}   (1) مَجِيءُ الْبَأْسِ مُقَارِنٌ لِلْإِهْلَاكِ، فَالْحُكْمُ بِهِ مُقَارِنٌ لِلْإِهْلَاكِ أَوْ سَابِقٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ التَّأْوِيلُ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْعَدُ عَنِ اللَّبْسِ وَالْغُمُوضِ أَنْ يُقَالَ: التَّقْدِيرُ أَرَدْنَا إِهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا، أَوْ يُقَالَ: الْفَاءُ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا مِنَ التَّفْسِيرِ وَالتَّفْصِيلِ عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ الْمُجْمَلِ وَهُوَ الْإِهْلَاكُ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ زَمَانِيًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْإِسْحَاتُ بِالْعَذَابِ مِمَّا يَتَرَاخَى عَنِ الِافْتِرَاءِ بِالْكَذِبِ، وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ مِمَّا يَتَرَاخَى عَنِ الْمُدَايَنَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ حُكْمَ الِافْتِرَاءِ الْإِسْحَاتُ، وَحُكْمَ الْمُدَايَنَةِ الرَّهْنِيَّةُ ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ. وَقَدْ تَرِدُ " الْفَاءُ " مَوْرِدَ " الْوَاوِ " كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: ( بِسِقْطِ اللَّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ ) . وَأَمَّا (ثُمَّ) فَإِنَّهَا تُوجِبُ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ بِمُهْلَةٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} وَإِنْ كَانَ الِاهْتِدَاءُ يَتَرَاخَى عَنِ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى دَوَامِ الِاهْتِدَاءِ وَثَبَاتِهِ ضَرُورَةَ مُوَافَقَةِ النَّقْلِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا قَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى (الْوَاوِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ شَاهِدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا. وَأَمَّا (حَتَّى) فَمُوجِبَةٌ لِكَوْنِ الْمَعْطُوفِ جُزْءًا مِنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ نَحْوُ قَوْلِكَ: مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ، وَقَدِمَ الْحَاجُّ حَتَّى الْمُشَاةُ. فَالْأَوَّلُ أَفْضَلُهُ وَالثَّانِي دُونَهُ. وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا تَشْتَرِكُ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِأَحَدِ الْمَذْكُورِينَ وَهِيَ: أَوْ، وَإِمَّا، وَأَمْ. إِلَّا أَنْ (أَوْ) وَ (إِمَّا) يَقَعَانِ فِي الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَ (أَمْ) لَا تَقَعُ إِلَّا فِي الِاسْتِفْهَامِ، غَيْرَ أَنَّ (أَوْ) وَ (إِمَّا) فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ، تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَجَاءَ إِمَّا زَيْدٌ وَإِمَّا عَمْرٌو، وَفِي الْأَمْرِ لِلتَّخْيِيرِ تَقُولُ: اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، وَاضْرِبْ إِمَّا زَيْدًا وَإِمَّا عَمْرًا. وَلِلْإِبَاحَةِ تَقُولُ: جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ. وَ (أَوْ) فِي الِاسْتِفْهَامِ مَعَ الشَّكِّ فِي وُجُودِ الْأَمْرَيْنِ، وَ (أَمْ) مَعَ الْعِلْمِ بِأَحَدِهِمَا وَالشَّكِّ فِي تَعْيِينِهِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا تَشْتَرِكُ فِي أَنَّ الْمَعْطُوفَ مُخَالِفٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِهِ وَهِيَ: لَا، وَبَلْ، وَلَكِنْ. تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ لَا عُمَرُ بَلْ عُمَرُ، وَمَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو. وَمِنْهَا حُرُوفُ النَّفْيِ وَهِيَ: مَا، وَلَا، وَلَمْ، وَلَمَّا، وَلَنْ، وَإِنْ بِالتَّخْفِيفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فَأَمَّا (مَا) فَلِنَفْيِ الْحَالِ أَوِ الْمَاضِي الْقَرِيبِ مِنَ الْحَالِ، كَقَوْلِكَ مَا تَفْعَلُ مَا فَعَلَ. وَأَمَّا (لَا) فَلِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ إِمَّا خَبَرًا كَقَوْلِكَ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، أَوْ نَهْيًا كَقَوْلِكَ: لَا تَفْعَلْ، أَوْ دُعَاءً كَقَوْلِكَ: لَا رَعَاكَ اللَّهُ. وَأَمَّا (لَمْ) وَ (لَمَّا) فَلِقَلْبِ الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي تَقُولُ: لَمْ يَفْعَلْ، وَلَمَّا يَفْعَلْ. وَ (لَنْ) لِتَأْكِيدِ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِكَ: لَنْ أَبْرَحَ الْيَوْمَ مَكَانِي تَأْكِيدًا لِقَوْلِكَ: لَا أَبْرَحُ الْيَوْمَ مَكَانِي. وَ (إِنْ) لِنَفْيِ الْحَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} . وَمِنْهَا حُرُوفُ التَّنْبِيهِ وَهِيَ: هَا، وَأَلَا، وَأَمَا. تَقُولُ: هَا أَفْعَلُ كَذَا، وَأَلَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَأَمَا إِنَّكَ خَارِجٌ. وَمِنْهَا حُرُوفُ النِّدَاءِ وَهِيَ: يَا، وَأَيَا، وَهَيَا، وَأَيْ، وَالْهَمْزَةُ، وَوَا. وَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ لِنِدَاءِ الْبَعِيدِ، وَأَيْ وَالْهَمْزَةُ لِلْقَرِيبِ، وَوَا لِلنُّدْبَةِ. وَمِنْهَا حُرُوفُ التَّصْدِيقِ وَالْإِيجَابِ وَهِيَ: نَعَمْ، وَبَلَى، وَأَجَلْ، وَجَيْرِ، وَإِيْ، وَإِنَّ. فَنَعَمْ مُصَدِّقَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَامَ زَيْدٌ مَا قَامَ زَيْدٌ. وَ (بَلَى) لِإِيجَابِ مَا نُفِيَ كَقَوْلِكَ: بَلَى، لِمَنْ قَالَ: مَا قَامَ زَيْدٌ. وَ (أَجَلْ) لِتَصْدِيقِ الْخَبَرِ كَقَوْلِكَ: أَجَلْ، لِمَنْ قَالَ: جَاءَ زَيْدٌ. وَ (جَيْرِ) وَ (إِنَّ) وَ (إِيْ) لِلتَّحْقِيقِ، تَقُولُ: جَيْرِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَلِكَ، وَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَا، وَإِيْ وَاللَّهِ. وَمِنْهَا حُرُوفُ الِاسْتِثْنَاءِ وَهِيَ: إِلَّا، وَحَاشَا، وَعَدَا، وَخَلَا. وَالْحَرْفُ الْمَصْدَرِيُّ، وَهُوَ (مَا) فِي قَوْلِكَ: أَعْجَبَنِي مَا صَنَعْتَ، أَيْ صُنْعُكَ. وَ (أَنْ) فِي قَوْلِكَ: أُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، أَيْ فِعْلَكَ. وَحُرُوفُ التَّحْضِيضِ وَهِيَ: لَوْلَا، وَلَوْمَا، وَهَلَّا، وَأَلَا فَعَلْتَ كَذَا، إِذَا أَرَدْتَ الْحَثَّ عَلَى الْفِعْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وَحَرْفُ تَقْرِيبِ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ، وَهُوَ (قَدْ) فِي قَوْلِكَ: قَدْ قَامَ زَيْدٌ. وَحُرُوفُ الِاسْتِفْهَامِ وَهِيَ: الْهَمْزَةُ، وَهَلْ فِي قَوْلِكَ: أَزَيْدٌ قَامَ؟ وَهَلْ زَيْدٌ قَائِمٌ؟ وَحُرُوفُ الِاسْتِقْبَالِ وَهِيَ: السِّينُ، وَسَوْفَ، وَأَنْ، وَلَا، وَإِنْ فِي قَوْلِكَ: سَيَفْعَلُ، وَسَوْفَ يَفْعَلُ، وَأُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ، وَلَا تَفْعَلْ، وَإِنْ تَفْعَلْ. وَحُرُوفُ الشَّرْطِ وَهِيَ: إِنْ، وَلَوْ، فِي قَوْلِكَ: إِنْ جِئْتَنِي، وَلَوْ جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ. وَحَرْفُ التَّعْلِيلِ وَهُوَ " كَيْ " فِي قَوْلِكَ: قَصَدْتُ فُلَانًا كَيْ يُحْسِنَ إِلَيَّ. وَحَرْفُ الرَّدْعِ وَهُوَ " كَلَّا " فِي قَوْلِكَ جَوَابًا لِمَنْ قَالَ لَكَ " إِنَّ الْأَمْرَ كَذَا. وَمِنْهَا حُرُوفُ اللَّامَاتِ وَهِيَ: لَامُ التَّعْرِيفِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الِاسْمِ الْمُنَكَّرِ لِتَعْرِيفِهِ كَالرَّجُلِ، وَلَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَالْمُوطِئَةُ لِلْقَسَمِ فِي قَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَئِنْ أَكْرَمْتَنِي لَأُكْرِمَنَّكَ، وَلَامُ جَوَابِ (لَوْ) وَ (لَوْلَا) فِي قَوْلِكَ: لَوْ كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَوْلَا كَانَ كَذَا لَكَانَ كَذَا، وَلَامُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِكَ: لِيَفْعَلْ زَيْدٌ، وَلَامُ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِكَ: لَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ. وَمِنْهَا " تَاءُ التَّأْنِيثِ السَّاكِنَةُ " فِي قَوْلِكَ: فَعَلَتْ. وَمِنْهَا التَّنْوِينُ وَالنُّونُ الْمُؤَكِّدَةُ فِي قَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ. النَّوْعُ الثَّانِي: فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ الْمُرَكَّبِ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ الْكَلَامُ. اعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الْكَلَامِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ بِالْوَضْعِ تَارَةً وَعَلَى مَدْلُولِهَا الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ تَارَةً (1) عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ، وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ اللِّسَانِيِّ دُونَ النَّفْسَانِيِّ. وَالْكَلَامُ اللِّسَانِيُّ قَدْ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى مَا أُلِّفَ مِنَ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى شَيْءٍ، وَيُسَمَّى مُهْمَلًا، وَإِلَى مَا يَدُلُّ، وَلِهَذَا يُقَالُ فِي اللُّغَة: هَذَا   (1) الصَّحِيحُ أَنَّهُ اسْمٌ لَهُمَا، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا بِقَرِينَةٍ، كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا بِقَرِينَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 كَلَامٌ مُهْمَلٌ، وَهَذَا كَلَامٌ غَيْرُ مُهْمَلٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ إِطْلَاقُ الْكَلَامِ عَلَى الْمُهْمَلِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَالْغَرَضُ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْكَلَامِ الَّذِي لَيْسَ بِمُهْمَلٍ لُغَةً. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ إِذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً مِنْ حَرْفَيْنِ فَصَاعِدًا كَلَامٌ، وَلَا جَرَمَ، قَالُوا فِي حَدِّهِ: هُوَ مَا انْتَظَمَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُمَيَّزَةِ الْمُتَوَاضَعِ عَلَى اسْتِعْمَالِهَا الصَّادِرَةِ عَنْ مُخْتَارٍ وَاحِدٍ. وَقَصَدُوا بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْحَرْفِ الْوَاحِدِ كَالزَّايِ مِنْ زَيْدٍ، وَبِالْقَيْدِ الثَّانِي الِاحْتِرَازَ عَنْ حُرُوفِ الْكِتَابَةِ، وَبِالْقَيْدِ الثَّالِثِ الِاحْتِرَازَ عَنْ أَصْوَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْبَهَائِمِ، وَالْمُهْمَلَاتِ مِنَ الْأَلْفَاظِ، وَبِالْقَيْدِ الرَّابِعِ الِاحْتِرَاز عَنِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ إِذَا صَدَرَتْ حُرُوفُهُ كُلُّ حَرْفٍ مِنْ شَخْصٍ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى كَلَامًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ تُسَمَّى كَلَامًا، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا اجْتَمَعَ مِنْ كَلِمَاتٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ لَا كُلَّمَا، وَنَحْوِهِ، هَلْ هُوَ كَلَامٌ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَلَامٌ ; لِأَنَّ آحَادَ كَلِمَاتِهِ وُضِعَتْ لِلدَّلَالَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ كَلَامًا، وَالنِّزَاعُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ مَائِلٌ إِلَى الِاصْطِلَاحِ الْخَارِجِ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدَبِ. وَأَمَّا مَأْخَذُهُ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ اللُّغَةِ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَهُوَ نَاقِدٌ بَصِيرٌ فِي هَذِهِ الصِّنَاعَةِ: (الْكَلَامُ هُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ أُسْنِدَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى) . فَقَوْلُهُ: (الْمُرَكَّبُ مِنْ كَلِمَتَيْنِ) احْتِرَازٌ عَنِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ، وَقَوْلُهُ: (أُسْنِدَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِكَ: زَيْدٌ عَمْرٌو، وَعَنْ قَوْلِكَ: زَيْدٌ عَلِيٌّ، أَوْ زَيْدٌ فِي، أَوْ قَامَ فِي. فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ مِنْهُمَا مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ وَلَيْسَ بِكَلَامٍ ; لِعَدَمِ إِسْنَادِ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنِ اسْمَيْنِ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَائِمٌ، أَوِ اسْمٍ وَفِعْلٍ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَامَ، وَتُسَمَّى الْأُولَى جُمْلَةً اسْمِيَّةً وَالثَّانِيَةُ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً، وَلَا يَتَرَكَّبُ الْكَلَامُ مِنَ الِاسْمِ وَالْحَرْفِ فَقَطْ، وَلَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَحْدِهَا، وَلَا مِنَ الْحُرُوفِ، وَلَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْحُرُوفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْحَدِّ مُنْتَقِضٌ بِمَا تَرَكَّبَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ أُسْنِدَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى وَهُمَا مُهْمَلَتَانِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَلَامًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ أَسْنَدْتَ مَقْلُوبَ زَيْدٍ إِلَى مَقْلُوبِ رَجُلٍ، فَقُلْتَ: (ديز هُوَ لجر) . قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنَ الْكَلِمَةِ الَّتِي مِنْهَا التَّأْلِيفُ اللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ الدَّالَّةُ بِالْوَضْعِ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدٍ، وَلَا وُجُودَ لِذَلِكَ فِيمَا ذَكَرُوهُ، غَيْرَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَدِّ يَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، وَإِنْسَانٌ عَالِمٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ النِّسَبِ التَّقْيِيدِيَّةِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ كَلَامًا مُفِيدًا وَإِنْ أُسْنِدَ فِيهِ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى، وَالْوَاجِبِ أَنْ يُقَالَ: الْكَلَامُ مَا تَأَلَّفَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ تَأْلِيفًا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ. [الْأَصْلُ الثَّانِي فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ وَطُرُقِ مَعْرِفَتِهَا] الْأَصْلُ الثَّانِي فِي مَبْدَأِ اللُّغَاتِ وَطُرُقِ مَعْرِفَتِهَا أَوَّلُ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ أَنَّ مَا وُضِعَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا هَلْ هُوَ لِمُنَاسَبَةٍ طَبِيعِيَّةٍ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ أَرْبَابُ عِلْمِ التَّكْسِيرِ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى ذَلِكَ ; مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ اللَّفْظِ وَمَعْنَاهُ مُنَاسَبَةٌ طَبِيعِيَّةٌ لَمَا كَانَ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِذَلِكَ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. وَلَا وَجْهَ لَهُ، فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَاضِعَ فِي ابْتِدَاءِ الْوَضْعِ لَوْ وَضَعَ لَفْظَ الْوُجُودِ عَلَى الْعَدَمِ وَالْعَدَمِ عَلَى الْوُجُودِ وَاسْمَ كُلِّ ضِدٍّ عَلَى مُقَابِلِهِ - لَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا، كَيْفَ وَقَدْ وُضِعَ ذَلِكَ كَمَا فِي اسْمِ الْجَوْنِ وَالْقُرْءِ وَنَحْوِهِ، وَالِاسْمُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا بِطَبْعِهِ لِشَيْءٍ وَلِعَدَمِهِ (1) ، وَحَيْثُ خَصَّصَ الْوَاضِعُ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ بِبَعْضِ الْمَدْلُولَاتِ، إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا إِلَى الْإِرَادَةِ الْمُخَصِّصَةِ، كَانَ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى أَوِ الْمَخْلُوقُ إِمَّا لِغَرَضٍ أَوْ لَا لِغَرَضٍ، وَإِذَا بَطَلَتِ الْمُنَاسَبَةُ الطَّبِيعِيَّةُ وَظَهَرَ أَنَّ مُسْتَنَدَ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِبَعْضِ الْمَعَانِي إِنَّمَا هُوَ الْوَضْعُ الِاخْتِيَارِيُّ،   (1) لَعَلَّهُ وَلِضِدِّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 فَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ: فَذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْوَاضِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَضْعُهُ مُتَلَقًّى لَنَا مِنْ جِهَةِ التَّوْقِيفِ الْإِلَهِيِّ، إِمَّا بِالْوَحْيِ، أَوْ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ وَيُسْمِعَهَا لِوَاحِدٍ أَوْ لِجَمَاعَةٍ وَيَخْلُقَ لَهُ أَوْ لَهُمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّهَا قُصِدَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعَانِي؛ مُحْتَجِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} دَلَّ عَلَى أَنَّ آدَمَ وَالْمَلَائِكَةَ لَا يَعْلَمُونَ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ - الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ - عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وَاللُّغَاتُ دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ذَمَّهُمْ عَلَى تَسْمِيَةِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهَا تَوْقِيفٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ} وَالْمُرَادُ بِهِ اللُّغَاتُ لَا نَفْسُ اخْتِلَافِ هَيْئَاتِ الْجَوَارِحِ مِنَ الْأَلْسِنَةِ ; لِأَنَّ اخْتِلَافَ اللُّغَاتِ أَبْلَغُ فِي مَقْصُودِ الْآيَةِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْحَمْلِ عَلَيْهِ. وَذَهَبَتِ الْبَهْشَمِيَّةُ (1) وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَضْعِ أَرْبَابِ اللُّغَاتِ وَاصْطِلَاحِهِمْ، وَأَنَّ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً انْبَعَثَتْ دَاعِيَتُهُ أَوْ دَوَاعِيهِمْ إِلَى وَضْعِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا، ثُمَّ حَصَلَ تَعْرِيفُ الْبَاقِينَ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّكْرَارِ كَمَا يَفْعَلُ الْوَالِدَانِ بِالْوَلَدِ الرَّضِيعِ، وَكَمَا يُعَرِّفُ الْأَخْرَسُ مَا فِي ضَمِيرِهِ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّكْرَارِ مَرَّةً بَعْد أُخْرَى؛ مُحْتَجِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَقَدُّمِ اللُّغَةِ عَلَى الْبَعْثَةِ وَالتَّوْقِيفِ. وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيُّ إِلَى أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ إِلَى التَّوَاضُعِ بِالتَّوْقِيفِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ بِالِاصْطِلَاحِ فَالِاصْطِلَاحُ عَلَيْهِ   (1) نِسْبَةً إِلَى أَبِي هَاشِمٍ الْجُبَّائِيّ عَلَى طَرِيقِ النَّحْتِ، وَاسْمُهُ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ غَيْرَهُ إِلَى الِاصْطِلَاحِ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ بِالِاصْطِلَاحِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّوْقِيفِ، وَجُوِّزَ حُصُولُ مَا عَدَا ذَلِكَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مُمْكِنٌ بِحَيْثُ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُهُ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ، وَأَمَّا وُقُوعُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالظُّنُونُ مُتَعَارِضَةٌ يَمْتَنِعُ مَعَهَا الْمَصِيرُ إِلَى التَّعْيِينِ. هَذَا مَا قِيلَ، وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَقِينَ الْوُقُوعِ لِبَعْضِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ. فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ; إِذْ لَا يَقِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ. وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ، وَهُوَ الْحَقُّ فَالْحَقُّ مَا صَارَ إِلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ لِمَا قِيلَ مِنَ النُّصُوصِ لِظُهُورِهَا فِي الْمَطْلُوبِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ ظُهُورَ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَطْلُوبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} فَالْمُرَادُ بِالتَّعْلِيمِ إِنَّمَا هُوَ إِلْهَامُهُ وَبَعْثُ دَاعِيَتِهِ عَلَى الْوَضْعِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ مُعَلِّمًا (1) لِكَوْنِهِ الْهَادِيَ إِلَيْهِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ أَفْهَمَهُ ذَلِكَ بِالْخِطَابِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ دَاوُدَ: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} مَعْنَاهُ أَلْهَمْنَاهُ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ سُلَيْمَانَ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أَيْ أَلْهَمْنَاهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِفْهَامُ بِالْخِطَابِ وَالتَّوْقِيفِ، وَلَكِنْ أَرَادَ بِهِ كُلَّ الْأَسْمَاءِ مُطْلَقًا، أَوِ الْأَسْمَاءَ الَّتِي كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِلْمَ آدَمَ بِهَا كَانَ تَوْقِيفِيًّا، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا بِالتَّوْقِيفِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُصْطَلَحِ خَلْقٍ سَابِقٍ عَلَى آدَمَ، وَالْبَارِي تَعَالَى عَلَّمَهُ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ لِآدَمَ بِالتَّوْقِيفِ لَهُ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أُنْسِيهَا، وَلَمْ   (1) الْأُولَى سُمِّي إِلْهَامُهُ تَعْلِيمًا لِهِدَايَتِهِ إِلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 يُوقِفْ عَلَيْهَا مَنْ بَعْدَهُ، وَاصْطَلَحَ أَوْلَادُهُ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى هَذِهِ اللُّغَاتِ. وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي هَذِهِ اللُّغَاتِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ اللُّغَاتِ التَّوْقِيفُ لِمَا عُرِفَ فِي حَقِّ آدَمَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ لَا تَفْرِيطَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِلُغَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَعَلَى هَذَا يُخَرَّجُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وَعَنْ قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . وَأَمَّا آيَةُ الذَّمِّ فَالذَّمُّ فِيهَا إِنَّمَا كَانَ عَلَى إِطْلَاقِهِمْ أَسْمَاءَ الْأَصْنَامِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ كَوْنَهَا آلِهَةً. وَأَمَّا آيَةُ اخْتِلَافِ الْأَلْسِنَةِ، فَهِيَ غَيْرُ مَحْمُولَةٍ عَلَى نَفْسِ الْجَارِحَةِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْوِيلِ. وَلَيْسَ تَأْوِيلُهَا بِالْحَمْلِ عَلَى اللُّغَاتِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِهَا بِالْحَمْلِ عَلَى الْإِقْدَارِ عَلَى اللُّغَاتِ، كَيْفَ وَأَنَّ التَّوْقِيفَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ دَالَّةً عَلَى تِلْكَ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ، وَالْكَلَامُ فِيهِ إِنْ كَانَ تَوْقِيفِيًّا كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الِاصْطِلَاحِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ اللُّغَاتِ عَلَى الْبَعْثَةِ. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُ: الْمُرَادُ مِنْ تَعْلِيمِ آدَمَ إِلْهَامُهُ بِالْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ مَعَ نَفْسِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ إِطْلَاق لَفْظِ التَّعْلِيمِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنِ اخْتَرَعَ أَمْرًا وَاصْطَلَحَ عَلَيْهِ مَعَ نَفْسِهِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَا عَلَّمَهُ أَحَدٌ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ إِطْلَاقُ التَّعْلِيمِ بِمَعْنَى الْإِلْهَامِ بِمَا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ مَعَ نَفْسِهِ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ نَفْيُهُ، وَحَيْثُ صَحَّ نَفْيُهُ دَلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّأْوِيلِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّعْلِيمِ فِي حِقِّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ التَّأْوِيلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ الِاشْتِرَاكَ (1) فِي دَلِيلِ التَّأْوِيلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَقَوْلُهُمْ: أَرَادَ بِهِ الْأَسْمَاءَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِهِ، إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ مَوْجُودَةً فِي زَمَانِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلِ الْبَارِي تَعَالَى عَلَّمَهُ كُلَّ مَا يُمْكِنُ التَّخَاطُبُ بِهِ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ. قَوْلُهُمْ: مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَسْمَاءِ مِنْ مُصْطَلَحِ مَنْ كَانَ قَبْلَ آدَمَ. قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، فَمَنِ ادَّعَاهُ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ، وَبِهِ يَبْطُلُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُنْسِيهَا ; إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ النِّسْيَانِ وَبَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنْ تَأْوِيلِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتِنَا} إِذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قِيلَ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي حَقِّ آدَم، وَقَدْ عُرِفَ جَوَابُهُ. قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} أَنَّهُ لَا تَفْرِيطَ فِيمَا فِي الْكِتَابِ؛ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ قَطْعًا، فَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُفِيدًا. قَوْلُهُمْ: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُعَرَّفًا لِلُغَاتِ مَنْ تَقَدَّمَ، فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ، وَبِهِ يُخَرَّجُ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وَعَنْ قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . قَوْلُهُمْ فِي آيَةِ الذَّمِّ: إِنَّمَا ذَمَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَوْنَ الْأَصْنَامِ آلِهَةً، فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ إِضَافَةِ الذَّمِّ إِلَى التَّسْمِيَةِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. (2)   (1) صَوَابُهُ: اشْتِرَاكًا. (2) لَيْسَ لِلْأَصْنَامِ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْجَلَالِ وَالْكَمَالِ مَا يُوجِبُ عِبَادَتَهَا وَتَسْمِيَتَهَا آلِهَةً، فَكَانَ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ كَذِبًا وَزُورًا ; لِذَا ذَمَّهُمُ اللَّهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ بِقَوْلِهِ: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ. . .) إِلَخْ. وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهَا مُجَرَّدُ أَسْمَاءٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَيْسَ لَهَا مِنَ الْعَقْلِ أَوِ النَّقْلِ سُلْطَانٌ يَصِفُهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْجِيحَ بِحَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ دُونَ حَمْلِهِ عَلَى الْإِقْدَارِ عَلَى اللُّغَاتِ أَقَلُّ فِي الْإِضْمَارِ ; إِذْ هُوَ يَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارِ اللُّغَاتِ لَا غَيْرُ، وَمَا ذَكَرُوهُ يَفْتَقِرُ إِلَى إِضْمَارِ الْقُدْرَةِ عَلَى اللُّغَاتِ فَلَا يُصَارُ إِلَيْهِ. قَوْلُهُمْ فِي الْمَعْنَى أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى التَّسَلْسُلِ، لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَارَاتِ، وَيَخْلُقَ لِمَنْ يَسْمَعُهَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِأَنَّ وَاضِعًا وَضَعَهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي كَمَا سَبَقَ. ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي الْقَوْلِ بِالِاصْطِلَاحِ فَإِنَّ مَا يُدْعَى بِهِ إِلَى الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِالِاصْطِلَاحِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّوْقِيفِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَةِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ طَرِيقُ التَّوْقِيفِ مُنْحَصِرًا فِي الرِّسَالَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ التَّوْقِيفِ مَعْلُومًا إِمَّا بِالْوَحْيِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِمَّا بِخَلْقِ اللُّغَاتِ وَخَلْقِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لِلسَّامِعِينَ بِأَنَّ وَاضِعًا وَضَعَهَا لِتِلْكَ الْمَعَانِي عَلَى مَا سَبَقَ. وَأَمَّا طُرُقُ مَعْرِفَتِهَا لَنَا، فَاعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ مِنْهَا مَعْلُومًا بِحَيْثُ لَا يُتَشَكَّكُ فِيهِ مَعَ التَّشْكِيكِ كَعِلْمِنَا بِتَسْمِيَةِ الْجَوْهَرِ جَوْهَرًا وَالْعَرَضِ عَرَضًا وَنَحْوِهِ مِنَ الْأَسَامِي، فَنَعْلَمُ أَنَّ مَدْرَكَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ التَّوَاتُرُ الْقَاطِعُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَنَا وَلَا تَوَاتُرَ فِيهِ، فَطَرِيقُ تَحْصِيلِ الظَّنِّ بِهِ إِنَّمَا هُوَ أَخْبَارُ الْآحَادِ، وَلَعَلَّ الْأَكْثَرَ إِنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 [الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي الْمَبَادِئِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ] [الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْحَاكِمِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الاختلاف في الحسن والقبح] الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي الْمَبَادِئِ الْفِقْهِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يَسْتَدْعِي حَاكِمًا وَمَحْكُومًا فِيهِ وَمَحْكُومًا عَلَيْهِ، فَلْنَفْرِضْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ أَصْلًا، وَهِيَ أَرْبَعَةُ أُصُولٍ: الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْحَاكِمِ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَاكِمَ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا حُكْمَ إِلَّا مَا حَكَمَ بِهِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ وَلَا يُوجِبُ شُكْرَ الْمُنْعِمِ، وَأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَلْنَرْسِمْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مَسْأَلَةً. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْأَفْعَالَ لَا تُوصَفُ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ لِذَوَاتِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، وَإِنَّمَا إِطْلَاقُ اسْمِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ عِنْدَهُمْ بِاعْتِبَارَاتٍ ثَلَاثَةٍ إِضَافِيَّةٍ غَيْرِ حَقِيقِيَّةٍ. أَوَّلُهَا: إِطْلَاقُ اسْمِ الْحُسْنِ عَلَى مَا وَافَقَ الْغَرَضَ، وَالْقَبِيحُ عَلَى مَا خَالَفَهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ ذَاتِيًّا لِاخْتِلَافِهِ وَتَبَدُّلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، بِخِلَافِ اتِّصَافِ الْمَحَلِّ بِالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. وَثَانِيهَا: إِطْلَاقُ اسْمِ الْحُسْنِ عَلَى مَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَاجِبَاتُ وَالْمَنْدُوبَاتُ دُونَ الْمُبَاحَاتِ. وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْقُبْحِ عَلَى مَا أَمَرَ الشَّارِعُ بِذَمِّ فَاعِلِهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْحَرَامُ دُونَ الْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ وُرُودِ أَمْرِ الشَّارِعِ فِي الْأَفْعَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَثَالِثُهَا: إِطْلَاقُ اسْمِ الْحُسْنِ عَلَى مَا لِفَاعِلِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، بِمَعْنَى نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْهُ فِي فِعْلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ (1) لِدُخُولِ الْمُبَاحِ فِيهِ، وَالْقَبِيحُ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ فَلَا يَكُونُ ذَاتِيًّا، وَعَلَى هَذَا فَمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَحَسَنٌ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، وَقَبْلَهُ بِالِاعْتِبَارِ الثَّالِثِ، وَمَا كَانَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَحَسَنُهُ وَقَبِيحُهُ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، وَبَعْدَهُ بِالِاعْتِبَارَاتِ الثَّلَاثَةِ. (2) وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَالْكَرَّامِيَّةُ وَالْخَوَارِجُ وَالْبَرَاهِمَةُ (3) وَالثَّنَوِيَّةُ (4) وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ لِذَوَاتِهَا، لَكِنَّ مِنْهَا مَا يُدْرَكُ حُسْنُهُ وَقُبْحُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَحُسْنِ الْإِيمَانِ وَقُبْحِ الْكُفْرَانِ، أَوْ بِنَظَرِهِ كَحُسْنِ الصِّدْقِ الْمُضِرِّ وَقُبْحِ الْكَذِبِ النَّافِعِ، أَوْ بِالسَّمْعِ كَحُسْنِ الْعِبَادَاتِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا   (1) صَوَابُهُ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَرَجَ مِنَ الْمُبَاحِ (2) الصَّحِيحُ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ: الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ بِمَعْنَى اشْتِمَالِ الْفِعْلِ عَلَى مَصْلَحَةٍ كَانَ بِهَا حَسَنًا أَوْ عَلَى مَفْسَدَةٍ كَانَ بِهِ قَبِيحًا، ثُمَّ نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ خِلَافٌ آخَرُ هَلْ تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ بِمَا فِي الْأَفْعَالِ مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ أَوْ يَتَوَقَّفْ ذَلِكَ عَلَى وُرُودِ الشَّرْعِ، فَذَهَبَ الْجَبْرِيَّةُ وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ إِلَى نَفْيِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَجَعَلُوهُمَا تَابِعَيْنِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ وَنَهْيِهِ، لِذَلِكَ جَعَلُوا الْعِلَلَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ أَمَارَاتٍ، وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى إِثْبَاتِهِمَا وَبِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ شَرْعٌ، فَأَثْبَتُوا لُزُومَ الْأَحْكَامِ لَهَا، فَإِذَا أَدْرَكَ الْعَقْلُ الْحُسْنَ فِي فِعْلٍ قَضَى بِطَلَبِهِ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْقُبْحَ فِي فِعْلٍ حَكَمَ بِمَنْعِهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا الْعِلَلَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ بَوَاعِثَ وَدَوَاعِيَ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَنَفَوُا التَّلَازُمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَحْكَامِ، وَقَالُوا: لَا يَثْبُتُ حُكْمٌ إِلَّا بِالشَّرْعِ. وَأَثْبَتُوا بِأَدِلَّةِ الْفِطْرَةِ وَالْعَقْلِ وَالنَّقْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَأَنَّهَا لَا تَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بَلْ تَنْفِيهِ، حَتَّى يُثْبِتَهُ الشَّرْعُ، وَجَعَلُوا أَدِلَّةَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِهِمَا رَدًّا عَلَى الْجَبْرِيَّةِ فِي نَفْيِهِمْ لَهُمَا، وَجَعَلُوا أَدِلَّةَ الْجَبْرِيَّةِ رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي إِثْبَاتِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِهِمَا، فَأَخَذُوا الْحَقَّ مِنْ قَوْلِ الْفَرِيقَيْنِ، وَرَدُّوا بَاطِلَ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا مَعَ الْآخَرِ مِنْ أَدِلَّةِ الْحَقِّ - ارْجِعْ إِلَى ج 1 مِنْ مَدَارِجِ السَّالِكِينَ لِابْنِ الْقَيِّمِ وَإِلَى جَوَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ لِابْنِ تَيْمِيَةَ، فَفِيهِمَا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ وَبَسْطُ الْأَدِلَّةِ (3) الْبَرَاهِمَةُ: جَمَاعَةٌ مِنْ حُكَمَاءِ الْهِنْدِ تَبِعُوا فَيْلَسُوفًا يُسَمَّى بُرْهَامَ، فَنُسِبُوا إِلَيْهِ، وَقِيلَ إِنَّهُمْ طَائِفَةٌ عَبَدَتْ صَنَمًا يُسَمَّى بُرْهُمَ فَنُسِبَتْ إِلَيْهِ (4) طَائِفَةٌ تَزْعُمُ أَنَّ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ أَزَلِيَّانِ قَدِيمَانِ، فَنُسِبَتْ إِلَى الِاثْنَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 فَزَعَمَتِ الْأَوَائِلُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْقَبِيحَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِصِفَةٍ مُوجِبَةٍ لِحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ كَالْجُبَّائِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ فِي الْقَبِيحِ دُونَ الْحَسَنِ، وَنَشَأَ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتِلَافٌ فِي الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، أَوْمَأْنَا إِلَيْهَا وَإِلَى مُنَاقَضَتِهِمْ فِيهَا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحُجَجٍ: الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكَذِبُ قَبِيحًا لِذَاتِهِ لَلَزِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: إِنْ بَقِيَتْ سَاعَةٌ أُخْرَى كَذَبْتُ؛ أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ مِنْهُ فِي السَّاعَةِ الْأُخْرَى الصِّدْقَ أَوِ الْكَذِبَ، وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ كَذِبِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَبِيحٌ، وَمَا لَزِمَ مِنْهُ الْقَبِيحُ فَهُوَ قَبِيحٌ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الثَّانِي وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِيَةُ: لَوْ كَانَ قُبْحُ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ ذَاتِيًّا، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا، فَالْمُقْتَضِي لِقُبْحِهِ: إِمَّا نَفْسُ ذَلِكَ اللَّفْظِ، وَإِمَّا عَدَمُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَإِمَّا مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، وَإِمَّا أَمْرٌ خَارِجٌ. الْأَوَّلُ: يَلْزَمُهُ قُبْحُ ذَلِكَ الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وَالثَّانِي: يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ عِلَّةً لِلْأَمْرِ الثُّبُوتِيِّ، وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ جُزْءَ عِلَّةِ الْأَمْرِ الثُّبُوتِيِّ، وَالْكُلُّ مُحَالٌ (1) ، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ فَذَلِكَ الْمُقْتَضِي الْخَارِجُ: إِمَّا لَازِمٌ لِلْخَبَرِ الْمَفْرُوضِ، وَإِمَّا غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِنْ كَانَ لَازِمًا لِنَفْسِ اللَّفْظِ لَزِمَ قُبْحُهُ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لِعَدَمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ أَوْ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، كَانَ الْعَدَمُ مُؤَثِّرًا فِي الْأَمْرِ الثُّبُوتِيِّ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَادَ التَّقْسِيمُ فِي ذَلِكَ الْخَارِجِ وَهُوَ تَسَلْسُلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُقْتَضِي   (1) سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي بَابِ الْقِيَاسِ أَنَّ تَعْلِيلَ الثُّبُوتِيِّ بِالْعَدَمِيِّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَأَنَّ الْعَدَمَ الْمَحْضَ هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الْخَارِجُ لَازِمًا لِلْخَبَرِ الْكَاذِبِ أَمْكَنَ مُفَارَقَتُهُ لَهُ فَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ قَبِيحًا. (1) الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ قَبِيحًا لِذَاتِهِ فَالْمُقْتَضِي لَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ثُبُوتِيًّا ضَرُورَةَ اقْتِضَائِهِ لِلْقُبْحِ الثُّبُوتِيِّ، وَهُوَ إِنْ كَانَ صِفَةً لِمَجْمُوعِ حُرُوفِ الْخَبَرِ فَهُوَ مُحَالٌ ; لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهَا فِي الْوُجُودِ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِبَعْضِهَا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ أَجْزَاءُ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ كَاذِبَةً ; ضَرُورَةَ كَوْنِ الْمُقْتَضِي لِقُبْحِ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ إِنَّمَا هُوَ الْكَذِبُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. (2) الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قُبْحُ الْكَذِبِ وَصْفًا حَقِيقِيًّا لَمَا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْضَاعِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ حَيْثُ إِنَّ الْخَبَرَ الْكَاذِبَ قَدْ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ كَذِبًا وَقَبِيحًا بِوَضْعِ الْوَاضِعِ لَهُ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا. الْخَامِسَةُ: لَوْ كَانَ الْكَذِبُ قَبِيحًا لِذَاتِهِ لَمَا كَانَ وَاجِبًا وَلَا حَسَنًا عِنْدَمَا إِذَا اسْتُفِيدَ بِهِ عِصْمَةُ دَمِ نَبِيٍّ عَنْ ظَالِمٍ يَقْصِدُ قَتْلَهُ. السَّادِسَةُ: لَوْ كَانَ الظُّلْمُ قَبِيحًا لِكَوْنِهِ ظُلْمًا لَكَانَ الْمَعْلُولُ مُتَقَدِّمًا عَلَى عِلَّتِهِ ; لَأَنَّ قُبْحَ الظُّلْمِ الَّذِي هُوَ مَعْلُولٌ لِلظُّلْمِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الظُّلْمِ، وَلِهَذَا لَيْسَ لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَكَانَ الْقُبْحُ مَعَ كَوْنِهِ وَصْفًا ثُبُوتِيًّا ضَرُورَةَ اتِّصَافِ الْعَدَمِ بِنَقِيضِهِ مُعَلَّلًا بِمَا الْعَدَمُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَفْهُومَ الظُّلْمِ أَنَّهُ إِضْرَارٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَلَا اسْتِحْقَاقَ عَدَمٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. السَّابِعَةُ: أَنَّ أَفْعَالَ الْعَبْدِ غَيْرُ مُخْتَارَةٍ لَهُ، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَسَنًا وَلَا قَبِيحًا لِذَاتِهِ إِجْمَاعًا، وَبَيَانُ (غَيْرُ مُخْتَارٍ) أَنَّ فِعْلَهُ إِنْ كَانَ لَازِمًا لَهُ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ، فَهُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ لَا مُخْتَارَ لَهُ وَإِنْ جَازَ تَرْكُهُ، فَإِنِ افْتَقَرَ فِي فِعْلِهِ إِلَى مُرَجِّحٍ عَادَ التَّقْسِيمُ، وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ وَإِلَّا فَهُوَ اتِّفَاقِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ.   (1) الْمُقْتَضِي الْقُبْحَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مُخَالَفَةُ الْخَبَرِ الْوَاقِعِ مِنْ مَضَارَّ تُفْسِدُ الْمُجْتَمَعَ، وَتُصِيبُ مَنْ كَذَبَ، وَمَنْ خُدِعَ بِخَبَرِهِ فَصَدَّقَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ رَاجِعًا إِلَى الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَفْظٌ، وَلَا لِعَدَمِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَحْدَهُ ; إِذْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى كَذِبًا، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ الْوَاقِعِ الْمُسَمَّاتِ كَذِبًا، وَامْتِنَاعُ تَعْلِيلِ الثُّبُوتِيِّ بِالْعَدَمِيِّ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعَدَمِيِّ الْمَحْضِ، وَمَا فِيهِ الْبَحْثُ لَيْسَ مِنْهُ (2) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ أَمْرٍ ثُبُوتِيٍّ هُوَ إِفْسَادُ الْبِيئَةِ، وَالضَّرَرُ اللَّاحِقُ بِمَنْ كَذَّبَهُ وَبِمَنْ صَدَّقَهُ، وَهُوَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِمُخَالَفَةِ الْمُخْبَرِ لِلْوَاقِعِ وَنَاشِئٌ عَنْهَا وَلَيْسَ صِفَةً لِلْحُرُوفِ وَلَا لِبَعْضِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَهَذِهِ الْحُجَجُ ضَعِيفَةٌ أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ صِدْقَهُ فِي السَّاعَةِ الْأُخْرَى حَسَنٌ (1) ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُلَازَمَةِ الْقَبِيحِ لَهُ قُبْحُهُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا مِنْ جِهَةِ اسْتِلْزَامِهِ لِلْقَبِيحِ، فَلَا يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْحُسْنِ إِلَى مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنَ الْوُجُوهِ وَالِاعْتِبَارَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُبَّائِيَّةِ. وَإِنْ قُدِّرَ امْتِنَاعُ ذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِقُبْحِ صِدْقِهِ لِمَا ذَكَرُوهُ وَقُبْحِ كَذِبِهِ لِكَوْنِهِ كَذِبًا. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ مِنَ الْقَوْلِ بِقُبْحِ الْخَبَرِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ زَيْدٍ فِي الدَّارِ، وَالشَّرْطُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَلِمَا يَلْزَمُهَا مِنِ امْتِنَاعِ اتِّصَافِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَلِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُبْحُ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ مَشْرُوطًا بِالْوَضْعِ وَعَدَمِ مُطَابَقَتِهِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، مَعَ عِلْمِ الْمُخْبَرِ بِهِ كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي كَوْنِهِ كَذِبًا. وَأَمَّا الْخَامِسَةُ: فَلِأَنَّ الْكَذِبَ فِي الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِخَلَاصِ النَّبِيِّ لِإِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِصُورَةِ الْخَبَرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَهُ، أَوْ مَعَ التَّعْرِيضِ وَقَصْدِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغَيْرِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا لَهُ كَانَ قَبِيحًا، وَإِنْ قُدِّرَ تَعْيِينُهُ فَالْحَسَنُ وَالْوَاجِبُ مَا لَازَمَهُ مِنْ تَخْلِيصِ النَّبِيِّ لَا نَفْسُ الْكَذِبِ، وَاللَّازِمُ غَيْرُ الْمَلْزُومِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ مَعَ قُبْحِهِ وَلَا يَحْرُمُ شَرْعًا لِتَرَجُّحِ الْمَانِعِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا السَّادِسَةُ: فَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ مَنْعُ تَقَدُّمِ قُبْحِ الظُّلْمِ عَلَيْهِ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ صِفَةً لَهُ، بَلِ الْمُتَقَدِّمُ إِنَّمَا هُوَ الْحُكْمُ عَلَى مَا سَيُوجَدُ مِنَ الظُّلْمِ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا شَرْعًا وَعُرْفًا، وَأَمْكَنَ مَنْعُ تَعْلِيلِ الْقُبْحِ بِالْعَدَمِ. وَعَدَمُ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا لِلظُّلْمِ فَلَا   (1) الْتِزَامُ إِنْسَانٍ الْكَذِبَ فِي سَاعَةٍ أُخْرَى عَلَى تَقْدِيرِ بَقَائِهِ قَبِيحٌ وَاسْتِمْرَارُهُ عَلَى ذَلِكَ وَوَفَاؤُهُ بِمَا الْتَزَمَهُ كِلَاهُمَا قَبِيحٌ، فَكَانَ نَقْضُهُ صِيَانَةَ نَفْسِهِ عَنِ الْكَذِبِ وَحِرْصَهُ عَلَى الصِّدْقِ فِي جَمِيعِ أَخْبَارِهِ يُعَدُّ حَسَنًا مُسْتَلْزِمًا التَّخَلُّصَ مِنَ الْقَبِيحِ لَا لِلْقَبِيحِ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الْجَوَابُ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُلَازَمَةِ الْقُبْحِ لَهُ قُبْحُهُ. وَمَا بَعْدَهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ فِي الْجَوَابِ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِهِ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الظُّلْمُ عِلَّةَ الْقُبْحِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ، وَالْعَدَمُ شَرْطُهُ. وَأَمَّا السَّابِعَةُ: فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى مُضْطَرًّا إِلَى أَفْعَالِهِ غَيْرَ مُخْتَارٍ فِيهَا لِتَحَقُّقِ عَيْنِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْقِسْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَيَلْزَمُ أَيْضًا مِنْهَا امْتِنَاعُ الْحُكْمِ بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَالْجَوَابُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا. (1) وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ فِعْلٌ مِنَ الْأَفْعَالِ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا لِذَاتِهِ فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَوْنِهِ قَبِيحًا وَحَسَنًا لَيْسَ هُوَ نَفْسَ ذَاتِ الْفِعْلِ، وَإِلَّا كَانَ مَنْ عَلِمَ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ عَالِمًا بِحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْفِعْلِ وَيَتَوَقَّفَ الْعِلْمُ بِحُسْنِهِ وَقُبْحِهِ عَلَى النَّظَرِ، كَحُسْنِ الصِّدْقِ الضَّارِّ وَقُبْحِ الْكَذِبِ النَّافِعِ، وَإِنْ كَانَ مَفْهُومُهُ زَائِدًا عَلَى مَفْهُومِ الْفِعْلِ الْمَوْصُوفِ بِهِ فَهُوَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ ; لِأَنَّ نَقِيضَهُ وَهُوَ لَا حُسْنَ وَلَا قُبْحَ صِفَةٌ لِلْعَدَمِ الْمَحْضِ فَكَانَ عَدَمِيًّا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وُجُودِيًّا وَهُوَ قَائِمٌ بِالْفِعْلِ لِكَوْنِهِ صِفَةً لَهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَهُوَ مُحَالٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَضَ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَرَضِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِالْجَوْهَرِ أَوْ بِمَا هُوَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ قَائِمٌ بِالْجَوْهَرِ، قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ الْمُمْتَنِعِ. وَقِيَامُ الْعَرَضِ بِالْجَوْهَرِ لَا مَعْنًى لَهُ غَيْرَ وُجُودِهِ فِي حَيْثِ الْجَوْهَرِ، تَبَعًا لَهُ فِيهِ. وَقِيَامُ أَحَدِ الْعَرَضَيْنِ بِالْآخَرِ لَا مَعْنًى لَهُ سِوَى أَنَّهُ فِي حَيْثُ الْعَرَضِ الَّذِي قِيلَ إِنَّهُ قَائِمٌ بِهِ، وَحَيْثُ ذَلِكَ الْعَرَضُ هُوَ حَيْثُ الْجَوْهَرِ فَهُمَا فِي حَيْثِ الْجَوْهَرِ وَقَائِمَانِ بِهِ، وَلَا مَعْنًى لِقِيَامِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ قِيَامُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مَشْرُوطًا بِقِيَامِ الْعَرَضِ الْآخَرِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ مُمْكِنًا وَمَعْلُومًا وَمَقْدُورًا وَمَذْكُورًا، وَهُوَ مُحَالٌ. ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَدْلُولِهِ. وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَالْإِلْزَامِ: أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:   (1) وَأَيْضًا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ عَلَى مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ بَاطِلٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الْأَوَّلُ: اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى حُسْنِ الصِّدْقِ النَّافِعِ وَقُبْحِ الْكَذِبِ الْمُضِرِّ، وَكَذَلِكَ حُسْنُ الْإِيمَانِ وَقُبْحُ الْكُفْرَانِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كُلِّ حَالَةٍ تُقَدَّرُ مِنْ عُرْفٍ أَوْ شَرِيعَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ ذَاتِيًّا وَالْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيٌّ. الثَّانِي: إِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مَنِ اسْتَوَى فِي تَحْصِيلِ غَرَضِهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ وَقُطِعَ النَّظَرُ فِي حَقِّهِ عَنِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالشَّرَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُ يَمِيلُ إِلَى الصِّدْقِ وَيُؤْثِرُهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِحُسْنِهِ فِي نَفْسِهِ. وَكَذَلِكَ نَعْلَمُ أَنَّ مَنْ رَأَى شَخْصًا مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِنْقَاذِهِ فَإِنَّهُ يَمِيلُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّعُ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ حُصُولَ غَرَضٍ دُنْيَاوِيٍّ وَلَا أُخْرَوِيٍّ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّعَبِ وَالتَّعَنِّي، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِحُسْنِهِ فِي ذَاتِهِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِلْزَامِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّمْعُ وَوُرُودُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُوَ مَدْرَكَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ ; لَمَا فَرَّقَ الْعَاقِلُ بَيْنَ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَأَسَاءَ، وَلَمَا كَانَ فِعْلُ اللَّهِ حَسَنًا قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ، وَلَجَازَ مِنَ اللَّهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْصِيَةِ وَالنَّهْيُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَلَجَازَ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الْكَذَّابِ، وَلَامْتَنَعَ الْحُكْمُ بِقُبْحِ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ، وَلَكَانَ الْوُجُوبُ أَيْضًا مُتَوَقِّفًا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِفْحَامُ الرُّسُلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ إِذَا بُعِثَ وَادَّعَى الرِّسَالَةَ وَدَعَا إِلَى النَّظَرِ فِي مُعْجِزَتِهِ، فَلِلْمَدْعُوِّ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنْظُرُ فِي مُعْجِزَتِكَ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ النَّظَرُ. وَوُجُوبُ النَّظَرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ فِي مُعْجِزَتِكَ وَهُوَ دَوْرٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ فَأُمُورٌ تَقْدِيرِيَّةٌ، فَمَفْهُومُ نَقَائِضِهَا سَلْبُ التَّقْدِيرِ، وَالْأُمُورُ الْمُقَدَّرَةُ لَيْسَتْ مِنَ الصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ. (1) فَإِنْ قِيلَ مِثْلُهُ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مِنَ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ لِلذَّاتِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى بِمَنْعِ إِجْمَاعِ الْعُقَلَاءِ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فِيمَا ذَكَرُوهُ، فَإِنَّ مِنَ الْعُقَلَاءِ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، كَبَعْضِ الْمَلَاحِدَةِ (2) ، وَنَحْنُ أَيْضًا   (1) لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مِنَ الصِّفَاتِ التَّقْدِيرِيَّةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ وَالذِّكْرَ صِفَاتٌ ثُبُوتِيَّةٌ كَمَا لَا يَخْفَى، كَمَا أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ مِنَ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةِ وَلَا فَرْقَ. (2) وَلَكِنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِمْ لِانْحِرَافِهِمْ وَخِلَافِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ، وَقَدْ عُلِمَ حُسْنُهُ وَقُبْحَهُ ضَرُورَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 لَا نُوَافِقُ عَلَى قُبْحِ إِيلَامِ الْبَهَائِمِ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَلَا غَرَضٍ (1) ، وَهُوَ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ ضَرُورِيًّا، وَإِلَّا لَمَا خَالَفَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ عَادَةً (2) ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا ضَرُورَةً فَلَا يَلْزَمُ مِنْ (3) أَنْ يَكُونَ ذَاتِيًّا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُجَرَّدًا عَنْ أَمْرٍ خَارِجٍ (4) ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا يَأْتِي. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَلَوْ بِوَجْهٍ، أَوْ لَا يُقَالُ بِهِ. وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُهُ إِبْطَالُ الِاسْتِدْلَالِ، وَالثَّانِي يُمْنَعُ مَعَهُ إِيثَارُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ مَيْلُهُ إِلَى الْإِنْقَاذِ لِتَحَقُّقِ أَمْرٍ خَارِجٍ فَالِاسْتِدْلَالُ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْمَيْلُ إِلَى الْإِنْقَاذِ لَا يَكُونُ مُسَلَّمًا، وَإِنْ سُلِّمَ دَلَالَةُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ فَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ إِلَّا بِطُرُقِ قِيَاسِهِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. ثُمَّ كَيْفَ يُقَاسُ وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّفْرِقَةِ بِتَقْبِيحِ تَمْكِينِ السَّيِّدِ لِعَبِيدِهِ مِنَ الْفَوَاحِشِ، مَعَ الْعِلْمِ بِهِمْ وَالْقُدْرَةِ عَلَى مَنْعِهِمْ دُونَ تَقْبِيحِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَقْبُحْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِ الْخَلْقِ مِنَ الْمَعَاصِي ; وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَقَعُ مِنَ الْعَبْدِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ وُقُوعُهَا مَعْلُومًا لِلرَّبِّ، وَإِلَّا كَانَ جَاهِلًا بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَمَنْعُ الرَّبِّ تَعَالَى مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ مَعْلُومُ الْوُقُوعِ لَهُ لَا يَكُونُ مَقْدُورًا كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ النَّظَّامُ. قُلْنَا: فَمَا قِيلَ فَهُوَ بِعَيْنِهِ لَازِمٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّيِّدِ، وَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ السَّيِّدُ قَيْدًا عَلَى الْمَنْعِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْفَرْقُ وَاقِعٌ.   (1) إِيلَامُ الْبَهَائِمِ إِنْ صَدَرَ مِنَ الْمَخْلُوقِ مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ أَوْ غَرَضٍ، سَلِيمٌ، فَإِنْ كَانَ مِنَ اللَّهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حِكْمَةٍ، وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ. (2) إِنَّمَا خَالَفَ فِيهِ مَنْ ذُكِرَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ. (3) الصَّوَابُ: مِنْهُ (4) الْقَصْدُ إِثْبَاتُ أَنَّ الْفِعْلَ مَنْشَأُ مَصْلَحَةٍ كَانَ بِهَا حَسَنًا، أَوْ مَنْشَأُ مَفْسَدَةٍ كَانَ بِهَا قَبِيحًا، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ لِذَاتِهِ أَوْ لِمُلَابَسَاتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِلْزَامِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَفْهُومَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ بِمَعْنَى مُوَافَقَةِ الْغَرَضِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَبِمَعْنَى مَا لِلْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ مُتَحَقِّقٌ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، لَا بِالْمَعْنَى الذَّاتِيِّ. (1) وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ حَسَنٌ، بِمَعْنَى أَنَّ لَهُ فِعْلَهُ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا مَعْنًى لِلطَّاعَةِ عِنْدَنَا إِلَّا مَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ، وَلَا مَعْنًى لِلْمَعْصِيَةِ إِلَّا مَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِمَا كَانَ مَنْهِيًّا وَالنَّهْيِ بِمَا كَانَ مَأْمُورًا. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِامْتِنَاعِ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةَ عَلَى يَدِ الْكَاذِبِ مَدْرَكٌ سِوَى الْقُبْحِ الذَّاتِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَبِهِ انْدِفَاعُ الْإِلْزَام الْخَامِس أَيْضًا. وَعَنِ السَّادِسِ مَا سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ بَعْدَهَا، وَإِذَا بَطَلَ مَعْنَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الذَّاتِيِّ لَزِمَ مِنْهُ امْتِنَاعُ وُجُوبِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَقْلًا، وَامْتِنَاعُ حُكْمٍ عَقْلِيٍّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ ; إِذْ هُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى ذَلِكَ. غَيْرَ أَنَّ عَادَةَ الْأُصُولِيِّينَ جَارِيَةٌ لِفَرْضِ الْكَلَامِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ إِظْهَارًا لِمَا يَخْتَصُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ وَالْمُنَاقَضَاتِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ سَمْعًا لَا عَقْلًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ وَاجِبٌ سَمْعًا لَا عَقْلًا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي الْوُجُوبِ الْعَقْلِيِّ، احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى امْتِنَاعِ إِيجَابِ الْعَقْلِ لِذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا: لَوْ كَانَ الْعَقْلُ مُوجِبًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُوجِبَ لِفَائِدَةٍ، وَإِلَّا كَانَ إِيجَابُهُ عَبَثًا وَهُوَ قَبِيحٌ، وَيَمْتَنِعُ عَوْدُ الْفَائِدَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِتَعَالِيهِ عَنْهَا وَإِنْ عَادَتْ إِلَى الْعَبْدِ، فَإِمَّا أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْأُخْرَى. الْأَوَّلُ مُحَالٌ، فَإِنَّ شُكْرَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْخُصُومِ لَيْسَ هُوَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ الشُّكْرَ فَرْعُ الْمَعْرِفَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِتْعَابِ النَّفْسِ وَإِلْزَامِ الْمَشَقَّةِ لَهَا   (1) صَوَابُهُ: الثَّانِي، وَهُوَ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَالْقَبِيحِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِذَمِّ فَاعِلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 بِتَكْلِيفِهَا تَجَنُّبِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَفِعْلِ الْمُسْتَحْسَنَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهُوَ فَرْعُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ (1) فَلَمْ يَبْقَ سِوَى التَّعَبِ وَالْعَنَاءِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ. (2) وَالثَّانِي مُحَالٌ ; لِعَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِمَعْرِفَةِ الْفَائِدَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ دُونَ إِخْبَارِ الشَّارِعِ بِهَا وَلَا إِخْبَارَ (3) ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا مَعْنًى لِكَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا سِوَى تَرَجُّحِ فِعْلِهِ عَلَى تَرْكِهِ، وَبِالْعَقْلِ يَعْرِفُ التَّرْجِيحَ لَا أَنَّهُ مُرَجِّحٌ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا إِذِ الْمُوجِبُ هُوَ الْمُرَجِّحُ (4) ، وَإِذَا بَطَلَ الْإِيجَابُ الْعَقْلِيُّ تَعَيَّنَ الْإِيجَابُ الشَّرْعِيُّ ضَرُورَةَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى حَصْرِ الْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ، فَإِذَا بَطَلَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ تَعَيَّنَ الثَّانِي مِنْهُمَا. فَإِنْ قِيلَ: شُكْرُ الْمُنْعِمِ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ضَرُورَةً فَمَا ذَكَرْتُمُوهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِبْطَالِ أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ فَلَا يُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ إِيجَابَ الْعَقْلِ لِلشُّكْرِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ. قَوْلُكُمْ: " حَتَّى لَا يَكُونَ عَبَثًا قَبِيحًا " فَهَذَا مِنْكُمْ لَا يَسْتَقِيمُ مَعَ إِنْكَارِ الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، كَيْفَ وَإِنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةَ التَّحْصِيلِ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةَ التَّحْصِيلِ اسْتَدْعَتْ فَائِدَةً أُخْرَى وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ.   (1) الْحَقُّ أَنَّ فِي الْأَفْعَالِ صِفَاتٍ هِيَ مَنْشَأُ حُسْنِهَا أَوْ قُبْحِهَا، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْحِسُّ وَالْفِطْرَةُ وَالْعَقْلُ وَالشَّرْعُ. وَالْمُخَالِفُ يَعْتَرِفُ بِذَلِكَ فِي تَعْلِيلِهِ الْأَحْكَامَ وَبَيَانِ حِكَمِهَا وَأَسْرَارِهَا، وَخَاصَّةً فِي الْقِيَاسِ، وَبَيَانِ مَيْزَةِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَالْمَمْنُوعُ اسْتِلْزَامُهَا لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِثْبَاتُهَا بِهِمَا دُونَ شَرْعٍ. (2) بَلْ لَهَا فِي ذَلِكَ حَظٌّ وَهُوَ ابْتِغَاءُ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَمَثُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْمُكَلَّفُ تَفْصِيلَ الْجَزَاءِ. (3) يَكْفِي أَنْ يَعْرِفَ إِجْمَالًا أَنَّ هُنَالِكَ جَزَاءً. (4) قَدْ يَلْتَزِمُ الْخَصْمُ ذَلِكَ وَيَدَّعِي أَنَّ الْحُكْمَ نُسِبَ إِلَى الْعَقْلِ لِمَعْرِفَتِهِ إِيَّاهُ وَإِدْرَاكِهِ لَهُ عَنْ طَرِيقِ سَبَبِهِ وَمُوجِبِهِ مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ فِي الْفِعْلِ، فَلَا يَتَبَيَّنُ الْإِيجَابُ بِالشَّرْعِ، فَالْوَاجِبُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِالنُّصُوصِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى قِيَامِ الْعُذْرِ لِلْعِبَادِ، لَوْ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ رُسُلَهُ هُدَاةً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فَمَا يُوجِبُهُ الْعَقْلُ بِهَا (1) أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا. وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةٍ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ فِي الشُّكْرِ نَفْسَ الشُّكْرِ لَا أَمْرًا خَارِجًا عَنْهُ، كَمَا أَنَّ تَحْصِيلَ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعَ الْمَفْسَدَةِ عَنِ النَّفْسِ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ فَائِدَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ كَوْنِ الشُّكْرِ شُكْرًا فَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ الْأَمْنَ مِنِ احْتِمَالِ الْعِقَابِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنَ النِّعَمِ ; إِذْ هُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَخْلُو الْعَاقِلُ عَنْ خُطُورِ هَذَا بِبَالِهِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ، وَإِنْ سُلِّمَ دَلَالَةُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى امْتِنَاعِ الْإِيجَابِ الْعَقْلِيِّ لَكِنَّهُ بِعَيْنِهِ دَالٌّ عَلَى امْتِنَاعِ الْإِيجَابِ الشَّرْعِيِّ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَاكَ (2) يَكُونُ مُشْتَرَكًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَلَكِنْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْإِيجَابِ الْعَقْلِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَانْحَصَرَتْ مَدَارِكُ الْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِمَا يَلْزَمُ عَنْهُ مِنْ إِفْحَامِ الرُّسُلِ وَإِبْطَالِ مَقْصُودِ الْبَعْثَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ إِذَا ادَّعَى وَتَحَدَّى بِالْمُعْجِزَةِ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى النَّظَرِ فِيهَا لِظُهُورِ صِدْقِهِ، فَلِلْمَدْعُوِّ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنْظُرُ فِي مُعْجِزَتِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ وَاجِبًا عَلَيَّ شَرْعًا، وَوُجُوبُ النَّظَرِ شَرْعًا مُتَوَقِّفٌ عَلَى اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ. وَالْجَوَابُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ (3) بِمَا ذَكَرُوهُ عَقْلًا ; إِذْ هُوَ دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ وَإِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِالشُّكْرِ وَيَتَضَرَّرُ بِعَدَمِهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ فَلَا. (4) قَوْلُهُمْ: لِمَ قُلْتُمْ بِرِعَايَةِ الْفَائِدَةِ؟ قُلْنَا: لِمَا ذَكَرْنَاهُ. قَوْلُهُمْ: هَذَا مِنْكُمْ لَا يَسْتَقِيمُ. قُلْنَا: إِنَّمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ لِلْخَصْمِ لِكَوْنِهِ قَائِلًا بِهِ، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ فِي إِبْطَالِ رِعَايَةِ الْفَائِدَةِ، كَيْفَ وَقَدْ أَمْكَنَ   (1) بِهَا: الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ (2) صَوَابُهُ: إِذْ ذَاكَ (3) صَوَابُهُ: لَا نُسَلِّمُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ. . . إِلَخْ. (4) قَدْ يُقَالُ: إِنِ الْفَائِدَةَ تَعُودُ إِلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ يَرْجُو بِشُكْرِهِ رِضَاءَ اللَّهِ عَنْهُ فِيهِمَا - إِنْ لَمْ يَعْرِفِ الْجَزَاءَ تَفْصِيلًا فَقَدْ عَرَفَهُ فِي الْجُمْلَةِ - أَوِ الْفَخْرَ أَوْ إِرْضَاءَ النَّفْسِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ تَحْصِيلِ الْحِكْمَةِ لِحِكْمَةٍ هِيَ نَفْسُهَا كَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعِ الْمَفْسَدَةِ عَنِ النَّفْسِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي فِعْلِ الشُّكْرِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ لَيْسَ هُوَ الْحِكْمَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنْ إِيجَادِهِ، وَلَوْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ الْأَفْعَالِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنِ الْفَائِدَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ إِيجَادِهِ بَقِيَ التَّقْسِيمُ بِحَالِهِ. قَوْلُهُمْ: مَا الْمَانِعُ أَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ الْأَمْنُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْعَاقِلِ عَنْ خُطُورِ مَا ذَكَرُوهُ مَنَ الِاحْتِمَالِ بِبَالِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ شَاهِدًا، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ ذَلِكَ، فَمَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِاحْتِمَالِ خُطُورِ الْعِقَابِ بِبَالِهِ عَلَى شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِتْعَابِهِ لِنَفْسِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا، مَعَ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى دُونَ إِذْنِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِ (1) وَلَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ هَذَا رَاجِحًا، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَنْ أَخَذَ فِي التَّقَرُّبِ وَالْخِدْمَةِ إِلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ الْعُظَمَاءِ بِتَحْرِيكِ أُنْمُلَتِهِ فِي كَسْرِ بَيْتِهِ، وَإِظْهَارِ شُكْرِهِ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْبِلَادِ عَلَى إِعْطَائِهِ لُقْمَةً مَعَ اسْتِغْنَائِهِ وَاسْتِغْنَاءِ الْمَلِكِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُسْتَهْزِئًا بِذَلِكَ الْمَلِكِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِقَابِ عَلَى صُنْعِهِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ شُكْرَ الشَّاكِرِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ تَحْرِيكِ الْأُنْمُلَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَلَالِ الْمَلِكِ، وَأَنَّ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْعَبِيدِ لِعَدَمِ تَنَاهِي مُلْكِهِ وَتَنَاهِي مُلْكِ غَيْرِهِ دُونَ تِلْكَ اللُّقْمَةِ، فَكَانَ الْمُتَعَاطِي لِخِدْمَةِ اللَّهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ بِهِ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، وَلَوْلَا وُرُودُ الشَّرْعِ بِطَلَبِ ذَلِكَ مِنَ الْعَبِيدِ وَحَثِّهِمْ عَلَيْهِ لَمَا وَقَعَ (2) الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ. وَمَا يُقَالُ مِنْ حَالِ (3) الْمُشْتَغِلِ بِالشُّكْرِ وَالْخِدْمَةِ أَرْجَى حَالًا مِنَ الْمُعْرِضِ عَنْ ذَلِكَ عُرْفًا فَكَانَ أَوْلَى، فَهُوَ مُسَلَّمٌ فِي حَقِّ مَنْ يَنْتَفِعُ بِالْخِدْمَةِ وَالشُّكْرِ وَيَتَضَرَّرُ بِعَدَمِهِمَا، وَالْبَارِي تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَطَّرِدُ مَا ذَكَرُوهُ فِي حَقِّهِ. (4)   (1) إِنَّمَا يَشْكُرُ رَبَّهُ دَفْعًا لِمَفْسَدَةٍ يَخْشَاهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ جَلْبًا لِمَصْلَحَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ. (2) لَوْ قَالَ: لَمَا صَحَّ أَوْ لَمَا جَازَ. لَكَانَ أَنْسَبَ. (3) الْأَوْلَى: مِنْ أَنَّ الْمُشْتَغِلَ. . . إِلَخْ. (4) فَائِدَةُ الشُّكْرِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ عَوْدُهَا إِلَى اللَّهِ، فَيَتَأَتَّى عَوْدُهَا إِلَى الْعِبَادِ كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قَوْلُهُمْ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَازِمٌ عَلَيْكُمْ فِي الْإِيجَابِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَائِدَةَ الْأُخْرَوِيَّةَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِلَّ الْعَاقِلُ بِمَعْرِفَتِهَا فَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِهَا، كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنَّا أَنْ لَوِ اعْتَبَرْنَا الْحِكْمَةَ فِي الْإِيجَابِ الشَّرْعِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا. (1) وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ إِفْحَامِ الرُّسُلِ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَنْعُ تَوَقُّفِ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ عَلَى نَظَرِ الْمَدْعُوِّ فِي الْمُعْجِزَةِ، بَلْ مَهْمَا ظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ فِي نَفْسِهَا وَكَانَ صِدْقُ النَّبِيِّ فِيمَا ادَّعَاهُ مُمْكِنًا وَكَانَ الْمَدْعُوُّ عَاقِلًا مُتَمَكِّنًا مِنَ النَّظَرِ وَالْمَعْرِفَةِ، فَقَدِ اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ وَثَبَتَ، وَالْمَدْعُوُّ مُفَرِّطٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ. الثَّانِي: إِنَّ الدَّوْرَ لَازِمٌ عَلَى الْقَائِلِ بِالْإِيجَابِ الْعَقْلِيِّ ; لِأَنَّ الْعَقْلَ بِجَوْهَرِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ دُونَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَإِلَّا لَمَا خَلَا عَاقِلٌ عَنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلِلْمَدْعُوِّ أَنْ يَقُولَ: لَا أَنْظُرُ فِي مُعْجِزَتِكَ حَتَّى أَعْرِفَ وُجُوبَ النَّظَرِ، وَلَا أَعْرِفُ وُجُوبَ النَّظَرِ حَتَّى أَنْظُرَ، وَهُوَ دَوْرٌ مُفْحِمٌ. وَالْجَوَابُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ وَاحِدًا، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ لَا قَطْعِيَّةٌ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ لَا حُكْمَ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ وَأَهْلِ الْحَقِّ: أَنَّهُ لَا حُكْمَ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ قَسَّمُوا الْأَفْعَالَ الْخَارِجَةَ عَنِ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ إِلَى مَا حَسَّنَهُ الْعَقْلُ، وَإِلَى مَا قَبَّحَهُ، وَإِلَى مَا لَمْ يَقْضِ الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ. فَمَا حَسَّنَهُ الْعَقْلُ: إِنِ اسْتَوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فِي النَّفْعِ وَالضَّرَرِ سَمَّوْهُ مُبَاحًا، وَإِنْ تَرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ فَإِنْ لَحِقَ الذَّمُّ بِتَرْكِهِ سَمَّوْهُ وَاجِبًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ كَالْإِيمَانِ أَوْ لِغَيْرِهِ كَالنَّظَرِ الْمُفْضِي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَلْحَقِ الذَّمُّ بِتَرْكِهِ سَمَّوْهُ مَنْدُوبًا. وَمَا قَبَّحَهُ الْعَقْلُ: فَإِنِ الْتَحَقَ الذَّمُّ بِفِعْلِهِ سَمَّوْهُ   (1) قَدْ ثَبَتَ لِلَّهِ كَمَالُ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ بِدَلِيلِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ بِالنَّظَرِ مِنْ كَوْنِهِ وَشَرْعِهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي فِعْلِهِ وَشَرْعِهِ، وَيَرْعَى مِنْ ذَلِكَ مَصْلَحَةَ عِبَادِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 حَرَامًا وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ، وَمَا لَمْ يَقْضِ الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ حَظَرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَقَفَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ. احْتَجَّتِ الْأَشَاعِرَةُ بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا الْمَنْقُولُ فَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} . وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ أَمَّنَ مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَإِلَّا لَمَا أَمَّنَ مِنَ الْعَذَابِ بِتَقْدِيرِ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ ; إِذْ هُوَ لَازِمٌ لَهُمَا. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَمَفْهُومُهُ يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِجَاجِ (1) قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْمُوجِبِ وَالْمُحَرِّمِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ: فَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ إِمَّا بِالشَّرْعِ أَوْ بِالْعَقْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَرْعَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَالْعَقْلُ غَيْرُ مُوجِبٍ وَلَا مُحَرِّمٍ لِمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا حُكْمَ. (2) فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْعَذَابُ مِنْ لَوَازِمِ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ انْفِكَاكُهُ عَنْهُمَا بِنَاءً عَلَى عَفْوٍ أَوْ شَفَاعَةٍ، فَنَفْيُهُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُهُمَا. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَازِمٌ لَهُمَا لَكِنْ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَا قَبْلَهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ نَفْيُهُمَا مِنْ نَفْيِهِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَازِمٌ لَهُمَا، لَكِنَّهُ لَازِمٌ لِلْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَعَلَى هَذَا فَاللَّازِمُ مِنْ نَفْيِهِ قَبْلَ الشَّرْعِ نَفْيُ الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ شَرْعًا لَا عَقْلًا. سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ لِعَدَمِ مُلَازَمَةِ الْعَذَابِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِجْمَاعًا.   (1) أَيْ: يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ عُذْرِهِمْ وَقَبُولِهِ. (2) تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ، وَلَكِنَّهُ أَدْرَكَ مُوجِبَ الْحُكْمِ وَالْمُقْتَضِيَ لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى، وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَ الْمَفْهُومِ حُجَّةً فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى بِعَيْنِهِ وَارِدٌ هَاهُنَا، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ فَقَدْ سَبَقَ مَا فِيهِ. كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ حُكْمٌ بِنَفْيِ الْحُكْمِ فَكَانَ مُتَنَاقِضًا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ وُقُوعَ الْعَذَابِ بِالْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمِ فَلَازِمُهُ عَدَمُ الْأَمْنِ مِنْ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ دُونَهُ. وَهَذَا اللَّازِمُ مُنْتَفٍ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَلَا مَلْزُومَ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ السُّؤَالِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ. وَالتَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ قَبْلُ لَا غَيْرُ، وَنَفْيُ مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، وَبِهِ انْدَفَعَ السُّؤَالُ الرَّابِعُ. (1) وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا جَوَابُهُ، وَنَفْيُ الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ حُكْمًا غَيْرَ أَنَّ الْمَنْفِيَّ لَيْسَ هُوَ الْحُكْمَ مُطْلَقًا لِيَلْزَمَ التَّنَاقُضُ، بَلْ نَفْيُ مَا أَثْبَتُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا تَنَاقُضَ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْإِبَاحَةِ إِنْ فَسَّرُوهَا بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَا نِزَاعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ بِإِزَائِهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ عَلَى أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ تَحَقُّقٍ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهَا، وَإِنْ فَسَّرُوهَا بِتَخْيِيرِ الْفَاعِلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّخْيِيرُ لِلْفَاعِلِ مِنْ نَفْسِهِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَسْمِيَةُ أَفْعَالِ اللَّهِ مُبَاحَةً لِتَحَقُّقٍ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِالْإِجْمَاعِ. . وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْمُخَيِّرُ إِمَّا الشَّرْعُ وَإِمَّا الْعَقْل بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا شَرْعَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَتَخْيِيرُ الْعَقْلِ عِنْدَهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا اسْتَوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ مِنَ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ عَقْلًا، أَوْ فِيمَا لَمْ يَقْضِ الْعَقْلُ فِيهِ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ، وَهُوَ فَرْعُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ (2) ، وَإِنْ فَسَّرُوهُ بِأَمْرٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ.   (1) هُوَ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْإِبَاحَةِ وَالْوَقْفِ. (2) تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا ثَابِتَانِ لِلْفِعْلِ، إِلَّا أَنَّ اسْتِلْزَامَهُمَا لِلْحُكْمِ مَمْنُوعٌ، بَلْ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمَا إِلَى الشَّرْعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فَإِنْ قِيلَ: الْمُبَاحُ هُوَ الْمَأْذُونُ فِي فِعْلِهِ، وَقَدْ وَرَدَ دَلِيلُ الْإِذْنِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ تَرِدْ صُورَةُ الْإِذْنِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الطُّعُومَ فِي الْمَأْكُولَاتِ وَالذَّوْقَ فِينَا، وَأَقْدَرَنَا عَلَيْهَا، وَعَرَّفَنَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ أَنَّهَا نَافِعَةٌ لَنَا غَيْرُ مُضِرَّةٍ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَهُوَ دَلِيلُ الْإِذْنِ مِنْهُ لَنَا فِي ذَلِكَ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ قَدَّمَ إِنْسَانٌ طَعَامًا بَيْنَ يَدَيْ إِنْسَانٍ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ يَقْضُونَ بِكَوْنِهِ قَدْ أُذِنَ لَهُ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّ خَلْقَهُ لِلطُّعُومِ فِي الْأَجْسَامِ مَعَ إِمْكَانٍ أَلَّا يَخْلُقَهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَائِدَةٍ نَفْيًا لِلْعَبَثِ عَنْهُ، وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْفَائِدَةُ عَائِدَةً إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِتَعَالِيهِ عَنْهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ عَوْدِهَا إِلَى الْعَبْدِ، وَلَيْسَتْ هِيَ الْإِضْرَارَ وَلَا مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْإِضْرَارِ وَالِانْتِفَاعِ ; إِذْ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَكَانَتْ فَائِدَتُهَا الِانْتِفَاعَ بِهَا وَهُوَ دَلِيلُ الْإِذْنِ فِي إِدْرَاكِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِجِهَةِ الِالْتِذَاذِ بِهَا وَتَقْوِيمِ الْبِنْيَةِ، أَوْ بِجِهَةِ تَجَنُّبِهَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ، أَوِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَوَقُّفِ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى إِدْرَاكِهَا وَاحْتِمَالِ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنَ الْإِذْنِ وَالْحُكْمِ بِالْإِبَاحَةِ، بِدَلِيلِ الِاسْتِضَاءَةِ بِسِرَاجِ الْغَيْرِ وَالِاسْتِظْلَالِ بِحَائِطِهِ. وَقُلْنَا: أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَمَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا (1) ، ثُمَّ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ فَإِبَاحَتُهُ شَرْعِيَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ. (2) وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْوَقْفِ، إِنْ عَنَوْا بِهِ تَوَقُّفَ الْحُكْمِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وُروُدِ السَّمْعِ فَحَقٌّ، وَإِنْ عَنَوْا بِهِ الْإِحْجَامَ عَنِ الْحُكْمِ بِالْوُجُوبِ أَوِ الْحَظْرِ أَوِ الْإِبَاحَةِ لِتَعَارُضِ أَدِلَّتِهَا فَفَاسِدٌ لِمَا سَبَقَ.   (1) رِعَايَةُ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ سُبْحَانَهُ وَفِي شَرْعِهِ مِمَّا يُوجَبُ فِي حَقِّهِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا. (2) كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ بِالِاسْتِدْلَالِ الْعَقْلِيِّ الْمَحْضِ، لَا بِالنَّصِّ الشَّرْعِيِّ، فَالتَّسْلِيمُ لَهُ تَسْلِيمٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 [الْأَصْلُ الثَّانِي فِي حَقِيقَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ] [مُقَدَّمَةُ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ] الْأَصْلُ الثَّانِي فِي حَقِيقَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدَّمَةٍ وَسِتَّةِ فُصُولٍ. أَمَّا الْمُقَدَّمَةُ، فَفِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ. أَمَّا حَقِيقَتُهُ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ خِطَابِ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ خِطَابِ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَهُمَا فَاسِدَانِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} خِطَابُ الشَّارِعِ، وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْعِبَادِ، وَلَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا بِالِاتِّفَاقِ. (1) وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ الشَّارِعِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِكَوْنِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ حُجَجًا، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ وَنَحْوُهُ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ، وَلَيْسَتْ عَلَى مَا قِيلَ. (2) وَالْوَاجِبُ أَنْ نَعْرِفَ مَعْنَى الْخِطَابِ أَوَّلًا ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: قَدْ قِيلَ فِيهِ: " هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَفْهَمُ الْمُسْتَمِعُ مِنْهُ شَيْئًا " وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ إِفْهَامَ الْمُسْتَمِعِ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْحَدِّ وَلَيْسَ خِطَابًا. وَالْحَقُّ أَنَّهُ " اللَّفْظُ الْمُتَوَاضَعُ عَلَيْهِ الْمَقْصُودُ بِهِ إِفْهَامُ مَنْ هُوَ مُتَهَيِّئٌ لِفَهْمِهِ ". (فَاللَّفْظُ) احْتِرَازٌ عَمَّا وَقَعَتِ الْمُوَاضَعَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَرَكَاتِ وَالْإِشَارَاتِ الْمُفْهِمَةِ. و (الْمُتَوَاضَعُ عَلَيْهِ) احْتِرَازٌ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ. وَ (الْمَقْصُودُ بِهَا الْإِفْهَامُ) احْتِرَازٌ عَمَّا وَرَدَ عَلَى الْحَدِّ الْأَوَّلِ.   (1) فَكُلٌّ مِنَ التَّعْرِيفَيْنِ غَيْرُ مَانِعٍ. (2) قَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا ذُكِرَ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَ اعْتِقَادِ مُوجِبِهِ، وَيَسْتَدْعِي الْعَمَلَ بِهِ حَسَبَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ تَفْصِيلُ الْأَدِلَّةِ، فَكَانَ التَّعْرِيفُ جَامِعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَقَوْلُنَا: (لِمَنْ هُوَ مُتَهَيِّئٌ لِفَهْمِهِ) احْتِرَازٌ عَنِ الْكَلَامِ لِمَنْ لَا يَفْهَمُ كَالنَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ. وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْخِطَابِ فَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ فِي حَدِّ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أَنَّهُ " خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُفِيدُ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً ". فَقَوْلُنَا: (خِطَابُ الشَّارِعِ) احْتِرَازٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَالْقَيْدُ الثَّانِي احْتِرَازٌ عَنْ خِطَابِهِ بِمَا لَا يُفِيدُ فَائِدَةً شَرْعِيَّةً، كَالْإِخْبَارِ عَنِ الْمَعْقُولَاتِ وَالْمَحْسُوسَاتِ وَنَحْوِهَا، وَهُوَ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِخِطَابِ (1) الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ أَوْ لَا يَكُونُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالطَّلَبُ إِمَّا لِلْفِعْلِ أَوْ لِلتَّرْكِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِمَّا جَازِمٌ أَوْ غَيْرُ جَازِمٍ. فَمَا تَعَلَّقَ بِالطَّلَبِ الْجَازِمِ لِلْفِعْلِ فَهُوَ الْوُجُوبُ، وَمَا تَعَلَّقَ بِالطَّلَبِ الْجَازِمِ لِلتَّرْكِ فَهُوَ الْحُرْمَةُ، وَمَا تَعَلَّقَ بِغَيْرِ الْجَازِمِ فَهُوَ الْكَرَاهَةُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِخِطَابِ (2) الِاقْتِضَاءِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِخِطَابِ (3) التَّخْيِيرِ أَوْ غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْإِبَاحَةُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَهُوَ الْحُكْمُ الْوَضْعِيُّ كَالصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ وَنَصْبُ الشَّيْءِ سَبَبًا أَوْ مَانِعًا أَوْ شَرْطًا، وَكَوْنُ الْفِعْلِ عِبَادَةً وَقَضَاءً وَأَدَاءً وَعَزِيمَةً وَرُخْصَةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. فَلْنَرْسُمْ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهَا فَصْلًا، وَهِيَ سِتَّةُ فُصُولٍ:   (1) الْمُنَاسِبُ حَذْفُ كَلِمَةِ " خِطَابٍ " مِنَ التَّقْسِيمِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، فَيَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالطَّلَبِ. . . إِلَخْ، وَذَلِكَ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْلِيقِ الْخِطَابِ بِالْخِطَابِ ; حَيْثُ عَرَّفَ الْحُكْمَ بِخِطَابِ الشَّارِعِ. إِلَخْ (2) الْمُنَاسِبُ حَذْفُ كَلِمَةِ " خِطَابٍ " مِنَ التَّقْسِيمِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، فَيَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالطَّلَبِ. . . إِلَخْ، وَذَلِكَ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْلِيقِ الْخِطَابِ بِالْخِطَابِ ; حَيْثُ عَرَّفَ الْحُكْمَ بِخِطَابِ الشَّارِعِ. إِلَخْ (3) الْمُنَاسِبُ حَذْفُ كَلِمَةِ " خِطَابٍ " مِنَ التَّقْسِيمِ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ، فَيَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالطَّلَبِ. . . إِلَخْ، وَذَلِكَ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ تَعْلِيقِ الْخِطَابِ بِالْخِطَابِ ; حَيْثُ عَرَّفَ الْحُكْمَ بِخِطَابِ الشَّارِعِ. إِلَخْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَلِ الْفَرْضُ غَيْرُ الْوَاجِبِ أَوْ هُوَ هُوَ] الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ أَمَّا حَقِيقَةُ الْوُجُوبِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي اللُّغَةِ قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى السُّقُوطِ وَمِنْهُ يُقَالُ: وَجَبَتِ الشَّمْسُ: إِذَا سَقَطَتْ، وَوَجَبَ الْحَائِطُ: إِذَا سَقَطَ. وَقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ وَالِاسْتِقْرَارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِذَا وَجَبَ الْمَرِيضُ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ» " (1) أَيِ اسْتَقَرَّ وَزَالَ عَنْهُ التَّزَلْزُلُ وَالِاضْطِرَابُ. وَأَمَّا فِي الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ فَقَدْ قِيلَ: " هُوَ مَا يَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ " وَهُوَ إِنْ أُرِيدَ (بِالِاسْتِحْقَاقِ) مَا يَسْتَدْعِي مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَبَاطِلٌ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ لَوْ عُوقِبَ لَكَانَ ذَلِكَ مُلَائِمًا لِنَظَرِ الشَّارِعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ (مَا تُوُعِّدَ بِالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ) وَهُوَ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ التَّوَعُّدَ بِالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ خَبَرٌ، وَلَوْ وَرَدَ لَتَحَقَّقَ الْعِقَابُ بِتَقْدِيرِ التُّرْكِ لِاسْتِحَالَةِ الْخُلْفِ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ (2) ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ يُعَدُّ كَرْمًا وَفَضِيلَةً لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ الْعَفْوِ عَنْهُ. وَقِيلَ: هُوَ (الَّذِي يُخَافُ الْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ) وَيَبْطُلُ بِالْمَشْكُوكِ فِي وُجُوبِهِ، كَيْفَ وَإِنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ لَيْسَتْ حَدًّا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْوُجُوبُ بَلْ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ.   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَتِيكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَتِيكٍ، عَنْ عَمِّهِ جَابِرٍ بِلَفْظِ: " فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ " وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَرِيضِ، وَفِيهِ أَنَّهُ سُئِلَ: مَا الْوُجُوبُ؟ فَقَالَ: الْمَوْتُ. (2) قَدْ يُقَالُ: لَا تُعْتَبَرُ النَّجَاةُ مِنَ الْعَذَابِ لِعَفْوٍ أَوْ تَوْبَةٍ أَوْ مُقَاصَّةٍ خُلْفًا فِي الْخَبَرِ ; لِأَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بَيَّنَتْ أَخْبَارَ الْوَعِيدِ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وَقَوْلِهِ: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) وَقَوْلِهِ: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. . .) الْآيَةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْوُجُوبُ الشَّرْعِيُّ عِبَارَةٌ عَنِ خِطَابِ الشَّارِعِ بِمَا يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ شَرْعًا فِي حَالَةٍ مَا، فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ احْتِرَازٌ عَنْ خِطَابِ غَيْرِ الشَّارِعِ، وَالثَّانِي احْتِرَازٌ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَالثَّالِثُ (1) احْتِرَازٌ عَنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَوَّلَ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلذَّمِّ بِتَقْدِيرِ إِخْلَاءِ جَمِيعِ الْوَقْتِ عَنْهُ، وَإِخْلَاءِ أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى الْفِعْلِ بَعْدَهُ، وَعَنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ الْمُخَيِّر، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلذَّمِّ بِتَقْدِيرِ تَرْكِ الْبَدَلِ، وَلَيْسَ سَبَبًا لَهُ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ الْبَدَلِ. وَعَلَى هَذَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْأَذَانَ وَصَلَاةَ الْعِيدِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَاتَّفَقَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ، قُوتِلُوا. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ سُنَّةٌ، فَلَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا بُدَّ فِي الْوُجُوبِ مِنْ تَرْجِيحِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الذَّمِّ أَوِ الثَّوَابِ الْخَاصِّ بِهِ، فَإِنَّهُ لَا تَحَقُّقَ لِلْوُجُوبِ مَعَ تَسَاوِي طَرَفَيِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْغَرَضِ، وَرُبَّمَا أَشَارَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى خِلَافِهِ. وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْوُجُوبِ الشَّرْعِيِّ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَهِيَ سَبْعٌ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هَلِ الْفَرْضُ غَيْرُ الْوَاجِبِ، أَوْ هُوَ هُوَ؟ أَمَّا فِي اللُّغَةِ، فَالْوَاجِبُ هُوَ السَّاقِطُ وَالثَّابِتُ كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ. وَأَمَّا الْفَرْضُ، فَقَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فَرَضَتَا الْقَوْسِ؛ لِلْحَزَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ فِي سِيَتَيْهِ مَوْضِعَ الْوَتَرِ، وَفَرَضَةُ النَّهْرِ وَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِمَاعِ السُّفُنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: فَرَضَ الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ، أَيْ قَدَّرَهَا. وَقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْإِنْزَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أَيْ أَنْزَلَ.   (1) الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَيْدَ الثَّالِثَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي حَالَةٍ مَا. يَدْخُلُ فِيهِ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ وَالْمُخَيَّرُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ، فَلَا يُحْتَرَزُ عَنْ تَرْكِهِمَا إِلَّا أَنْ يُرَادَ الِاحْتِرَازُ عَنْ إِخْرَاجِ تَرْكِهِمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْحِلِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أَيْ أَحَلَّ لَهُ. (1) وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ; إِذِ الْوَاجِبُ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ الشَّارِعِ بِمَا يَنْتَهِضُ تَرْكُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ شَرْعًا فِي حَالَةٍ مَا (2) ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْفَرْضِ الشَّرْعِيِّ. وَخَصَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ اسْمَ الْفَرْضِ بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَقْطُوعًا بِهِ، وَاسْمَ الْوَاجِبِ بِمَا كَانَ مَظْنُونًا، مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالْمَظْنُونُ لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ مُقَدَّرًا عَلَيْنَا بِخِلَافِ الْمَقْطُوعِ، فَلِذَلِكَ خُصَّ الْمَقْطُوعُ بِاسْمِ الْفَرْضِ دُونَ الْمَظْنُونِ، وَالْأَشْبَهُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ حَتَّى يَكُونَ هَذَا مَعْلُومًا وَهَذَا مَظْنُونًا، غَيْرُ مُوجِبٍ لِاخْتِلَافِ مَا ثَبَتَ بِهِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ اخْتِلَافَ طُرُقِ الْوَاجِبَاتِ فِي الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، بِحَيْثُ إِنَّ الْمُكَلَّفَ يُقْتَلُ بِتَرْكِ الْبَعْضِ مِنْهَا دُونَ الْبَعْضِ، لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْوَاجِبِ فِي حَقِيقَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاجِبٌ، وَكَذَا اخْتِلَافُ طُرُقِ النَّوَافِلِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِاخْتِلَافِ حَقَائِقِهَا، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ طُرُقِ الْحَرَامِ بِالْقَطْعِ وَالظَّنِّ غَيْرُ مُوجِبٍ لِاخْتِلَافِهِ فِي نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَرَامٌ، كَيْفَ وَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الْفَرْضِ عَلَى الْوَاجِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} أَيْ أَوْجَبَ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مُشْعِرًا بِهِ حَقِيقَةً وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَدْلُولٌ سِوَاهُ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ، وَالَّذِي يُؤَيِّدُ إِخْرَاجَ قَيْدِ الْقَطْعِ عَنْ مَفْهُومِ الْفَرْضِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى إِطْلَاقِ اسْمِ الْفَرْضِ عَلَى مَا أَدَّى مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي صِحَّتِهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ بِقَوْلِهِمْ: أَدِّ (3) فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْخُصُومُ فِي تَخْصِيصِ اسْمِ الْفَرْضِ الْمَقْطُوعِ بِهِ فَمِنْ بَابِ التَّحَكُّمِ حَيْثُ إِنَّ الْفَرْضَ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّقْدِيرُ مُطْلَقًا، كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَظْنُونًا، فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ لَفْظِيَّةٌ.   (1) الظَّاهِرُ أَنَّ مَعَانِيَ الْفَرْضِ مَدَارُهَا الْقَطْعُ وَاخْتِلَافُهَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنِ اخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ أَوْ حَرْفِ التَّعْدِيَةِ، كَاللَّامِ وَعَلَى وَمِنْ، وَمِنْ تَأَمَّلَ الْأَمْثِلَةَ الْمَذْكُورَةَ وَنَحْوَهَا تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ. (2) مَا ذَكَرَ تَعْرِيفٌ لِلْوُجُوبِ أَوِ الْإِيجَابِ، لَا لِلْوَاجِبِ، فَفِي الْعِبَارَةِ تَسَامُحٌ لَمْ يَرْضَ مِثْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعَارِيفِ الْوُجُوبِ. (3) صَوَابُهُ: أَدَّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَاجِبِ الْعَيْنِ وَوَاجِبِ الْكِفَايَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ لَا فَرْقَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ وَاجِبِ الْعَيْنِ وَالْوَاجِبِ عَلَى الْكِفَايَةِ مِنْ جِهَةِ الْوُجُوبِ ; لِشُمُولِ حَدِّ الْوَاجِبِ لَهُمَا، خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ، مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ وَاجِبَ الْعَيْنِ لَا يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ وَاجِبِ الْكِفَايَةِ، وَغَايَتُهُ الِاخْتِلَافُ فِي طَرِيقِ الْإِسْقَاطِ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ. كَالِاخْتِلَافِ فِي طَرِيقِ الثُّبُوتُ كَمَا سَبَقَ (1) . وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنِ ارْتَدَّ وَقَتَلَ فَقَتْلُهُ بِالرِّدَّةِ وَبِالْقَتْلِ وَاجِبٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ دُونَ الْوَاجِبِ الْآخَرِ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمَا (2) . [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ (3) اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ. فَمَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهَا وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ، وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ. وَأَطْلَقَ الْجُبَّائِيّ وَابْنُهُ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ عَلَى التَّخْيِيرِ. حُجَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ أَوْ بِوُجُوبِ وَاحِدٍ، وَالْوَاحِدُ إِمَّا مُعَيَّنٌ وَإِمَّا غَيْرُ مُعَيَّنٍ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ لِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّخْيِيرُ مُوجِبًا لِلْجَمِيعِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِإِيجَابِ عِتْقِ عَبْدٍ مِنَ الْعَبِيدِ عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ مُوجِبًا لِلْجَمِيعِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ التَّخْيِيرِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ صَلَاتَيْنِ فَصَلِّ أَيَّهُمَا شِئْتَ وَاتْرُكْ أَيَّهُمَا شِئْتَ. كَمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ الصَّلَاةَ وَخَيَّرْتُكَ فِي فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا ; لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْوَاجِبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ فِي شَيْءٍ.   (1) يَعْنِي قَوْلَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى: وَالْأَشْبَهُ مَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ. . . إِلَخْ. (2) أَيْ فِي حَقِيقَتِهِمَا وَذَاتِهِمَا. (3) انْظُرْ ص 299 وَمَا بَعْدَهَا ج: 19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الثَّالِثُ: أَنَّ الْوَاجِبَ مَا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْخُصُومَ قَدْ وَافَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالْجَمِيعِ أَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ فَإِنَّهُ لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى الْجَمِيعِ. (1) الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْجَمِيعُ وَاجِبًا لَنَوَى نِيَّةَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخِصَالِ عِنْدَ مَا إِذَا فَعَلَ الْجَمِيعَ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ إِذْ هُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى التَّخْيِيرِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْإِجْزَاءُ بِتَقْدِيرِ أَدَاءِ غَيْرِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْإِبْهَامِ. غَيْرَ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ قَدْ تَكَلَّفَ رَدَّ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى إِيجَابِ الْجَمِيعِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ تَرْكَ الْجَمِيعِ لَا كُلَّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا بِتَقْدِيرِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِوَاحِدٍ مِنْهَا مَعَ تَفْوِيضِ فِعْلِ أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهَا كَانَ إِلَى الْمُكَلَّفِ، وَهَذَا هُوَ بِعَيْنِهِ مَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ غَيْرَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ وُجُوبِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ رَافِعًا لِلْخِلَافِ غَيْرَ أَنَّهُ خِلَافُ مَا نَقَلَهُ الْأَئِمَّةُ عَنِ الْجُبَّائِيّ وَابْنِهِ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْجَمِيعِ وَالدَّلَائِلِ الْمُشْعِرَةِ بِذَلِكَ. فَلْنَنْسِجْ فِي الْحِجَاجِ عَلَى مِنْوَالِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَتْ آيَةُ التَّكْفِيرِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} ، الْآيَةَ دَالَّةً عَلَى تَخْيِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ بِجِهَةِ الْإِيجَابِ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَمَّا يُوجَدُ مِنَ الْكَفَّارَةِ، وَتَقْدِيرُهُ فَمَا يُوجَدُ مِنَ الْكَفَّارَةِ هُوَ إِطْعَامٌ مِنْ حَانِثٍ أَوْ كُسْوَةٌ مِنْ حَانِثٍ آخَرَ أَوْ عِتْقٌ مِنْ حَانِثٍ آخَرَ.   (1) أَمَّا عِقَابُهُ عَلَى وَاحِدٍ، إِذَا شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ، دُونَ الْجَمِيعِ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَدَمُ ثَوَابِهِ عَلَى الْجَمِيعِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) وَغَيْرِهِ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَصِدْقِهِ فِي وَعْدِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى جَمِيعِهَا ثَوَابَ الْوَاجِبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 سَلَّمْنَا دَلَالَتَهَا عَلَى الْإِيجَابِ، لَكِنْ لَا أَنَّهَا بِالتَّخْيِيرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ، بَلِ الْمُرَادُ بِهَا إِيجَابُ الْإِطْعَامِ عَلَى الْبَعْضِ وَالْكُسْوَةِ عَلَى الْبَعْضِ وَالْعِتْقِ عَلَى الْبَعْضِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِبَعْضِهِمْ، أَوِ الْكُسْوَةُ لِبَعْضٍ آخَرَ، أَوِ الْعِتْقُ لِبَعْضٍ آخَرَ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِ مَدْلُولِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ وَجْهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِصَالَ الْمَذْكُورَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُسْتَوِيَةً فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الصِّفَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْوُجُوبِ، أَوْ أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَيَلْزَمُ التَّسْوِيَةُ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَ الْكُلِّ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ الْوَاجِبَ بِعَيْنِهِ دُونَ غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْوَاجِبَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الشَّرْعُ بِالْإِيجَابِ، وَخِطَابُ الشَّرْعِ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُعَيَّنِ دُونَ الْمُبْهَمِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَعَلُّقُ الْإِيجَابِ بِأَحَدِ شَخْصَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، فَكَذَلِكَ بِفِعْلِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ تَعَلُّقُهُ بِالْكُلِّ أَوْ بِبَعْضٍ مِنْهُ مُعَيَّنٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِيجَابَ طَلَبٌ، وَالطَّلَبُ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا مُعَيَّنًا لِمَا تَحَقَّقَ قَبْلُ، وَالْمُعَيَّنُ إِمَّا الْكُلُّ أَوِ الْبَعْضُ. الرَّابِع: أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ الْعَبْدُ الْجَمِيعَ، فَإِنَّهُ يُثَابُ ثَوَابَ مَنْ فَعَلَ وَاجِبًا، فَسَبَبُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ مُعَيَّنًا لِاسْتِحَالَةِ الثَّوَابِ عَلَى مَا لَا يَكُونُ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَاسْتِحَالَةِ إِسْنَادِ الْمُعَيَّنِ إِلَى غَيْرِ مُعَيَّنِ، وَالْمُبْهَمُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ عَلَى الْجُمْلَةِ أَوْ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ عِقَابَ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ أَوْ بَعْضٌ مِنْهُ مُعَيَّنٌ كَمَا سَبَقَ. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ مِنَ الْخِصَالِ ; لَكَانَ مِنْهَا شَيْءٌ لَا بِعَيْنِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ حَقِيقَةِ الْوَاجِبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ، فَعِنْدَ التَّكْفِيرِ بِالْجَمِيعِ إِمَّا أَنْ يَسْقُطَ الْفَرْضُ بِمَجْمُوعِهَا، أَوْ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ أَوِ الثَّانِيَ فَالْكُلُّ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ فَذَلِكَ هُوَ الْفَرْضُ. الثَّامِنُ، وَيَخُصُّ إِيجَابَ الْجَمِيعِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا لَنَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا وَلَمْ يَكِلْهُ إِلَى تَعْيِينِ الْعَبْدِ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، كَمَا (1) فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ. فَحَيْثُ لَمْ يُعَيَّنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ وَاجِبٌ. التَّاسِعُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، فَالْبَارِي تَعَالَى يَعْلَمُ مَا سَيُعَيِّنُهُ الْعَبْدُ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا عِنْدَ الْعَبْدِ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْوَاجِبِ الْمُعَيِّنِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ وَاجِبًا، وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْجَمِيعَ وَاجِبٌ. الْعَاشِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ فَكَفَّرَ ثَلَاثَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ مِنَ الْخِصَالِ، غَيْرَ مَا كَفَّرَ بِهِ الْآخَرُ لَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا بِعَيْنِهِ هُوَ الْمُكَفِّرُ بِالْوَاجِبِ دُونَ الْبَاقِينَ، وَحَيْثُ وَقَعَ مَا فَعَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مَوْقِعَ الْوَاجِبِ كَانَ الْجَمِيعُ وَاجِبًا. الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ يَعُمُّ عَدَدًا مِنَ الْمُتَعَبِّدِينَ وَيَسْقُطُ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ كَفَرْضِ الْكِفَايَةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعُمَّ الْوُجُوبُ عَدَدًا مِنَ الْعِبَادَاتِ يَسْقُطُ بِفِعْلِ وَاحِدَةٍ مِنْهَا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنَ الْأُمَّةِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْوُجُوبُ لَا نَفْسُ الْإِخْبَارِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ مِمَّا يُحْوِجُ إِلَى إِضْمَارَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي الْآيَةِ، وَهِيَ مَا قَدَّرُوهُ مِنَ الْبَعْضِ فِي قَوْلِهِمْ: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِبَعْضِهِمْ، وَكَذَلِكَ فِي الْكُسْوَةِ وَالْعِتْقِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، كَيْفَ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ لِقَالَ: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَكُسْوَتُهُمْ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ; لِوُجُوبِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ عَلَى الْجَمِيعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَانِثِينَ الْمَذْكُورِينَ.   (1) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (لَنَصَبَ) دُونَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وَعَنِ الْمُعَارِضِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. (1) كَيْفَ وَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ لِأَحَدِ الْإِمَامَيْنِ الصَّالِحَيْنِ، وَتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ الطَّالِبَةِ لِلنِّكَاحِ مِنْ أَحَدِ الْكُفُؤَيْنِ الْخَاطِبَيْنِ، وَفِي إِيجَابِ عِتْقِ عَبْدٍ مِنَ الْعَبِيدِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَحَيْثُ تَعَذَّرَ الْوُجُوبُ عَلَى أَحَدِ شَخْصَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، إِنَّمَا كَانَ لِتَوَقُّفِ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ عَلَى ارْتِبَاطِهِ بِالذَّمِّ وَالْعِقَابِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي تَحْدِيدِهِ، وَذَمُّ أَحَدِ شَخْصَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ مُتَعَذِّرٌ بِخِلَافِ الذَّمِّ عَلَى أَحَدِ فِعْلَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَبِهَذِهِ الصُّوَرِ يَكُونُ انْدِفَاعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارِضِ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ إِلَى آخِرِ التَّاسِعِ. وَعَنِ الْعَاشِرِ: أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَفِّرِينَ خَصْلَةٌ مِنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ لَا بِعَيْنِهَا، وَقَدْ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ (2) وَسَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ عَنْهُ، فَكَانَ مَا أَتَى بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ وَاجِبًا لَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْكُلِّ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لَا بِعَيْنِهَا لِيَلْزَمَ مَا قِيلَ. وَعَنِ الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ سُقُوطَ الْوَاجِبِ دُونَ أَدَائِهِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ خِصَالُ الْكَفَّارَةِ كُلُّهَا وَاجِبَةً كَمَا كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى أَعْدَادِ الْمُكَلَّفِينَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَأْثِيمِ الْكُلِّ بِتَقْدِيرِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى التَّرْكِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ. (3) وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَالْمُطَلَّقَةُ مِنْهُمَا وَاحِدَةٌ لَا بِعَيْنِهَا، وَإِنْ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمَا وَالتَّخْيِيرُ فِي التَّعْيِينِ إِلَى الْمُطَلِّقِ كَمَا لَوْ قِيلَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الْحِجَاجِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ.   (1) تَقَدَّمَ أَنَّ رِعَايَةَ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ مِمَّا وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ، وَإِنْ قُلْنَا إِنْ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ. انْظُرْ ص 48 - 61 ج: 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى. (2) أَيْ: أَتَى بِالْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ لِخَصْلَةٍ مِنَ الثَّلَاثِ، فَإِنَّ الْكُلِّيَّ يَتَحَقَّقُ بِفِعْلِ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ. (3) فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الْجَمِيعِ بِتَقْدِيرِ تَرْكِهِ الْجَمِيعَ كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 [الوَاجِبٌ المُوَسَّع] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إِذَا كَانَ وَقْتُ الْوَاجِبِ فَاضِلًا عَنْهُ، كَصَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا. فَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ مُوَسَّعٌ، وَأَنَّ جَمِيعَ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَقْتٌ لِأَدَاءِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فِيهِ، فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى سُقُوطِ الْفَرْضِ بِهِ وَحُصُولِ مَصْلَحَةِ الْوُجُوبِ. وَهَلْ لِلْوَاجِبِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَوَسَطِهِ بِتَقْدِيرِ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ عَنْهُ إِلَى مَا بَعْدَهُ بَدَلٌ؟ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيهِ: فَأَثْبَتَهُ أَصْحَابُنَا وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ، وَأَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: وَقْتُ الْوُجُوبِ هُوَ أَوَّلُ الْوَقْتِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ قَضَاءً. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَقْتُ الْوُجُوبِ هُوَ آخِرُ الْوَقْتِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ الْفِعْلِ قَبْلَ ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ نَفْلٌ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَالْكَرْخِيِّ: إِنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا بَقِيَ بِنَعْتِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ مَا فَعَلَهُ وَاجِبًا وَإِلَّا فَنَفْلٌ. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَعَيَّنُ بِالْفِعْلِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ. حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ أَنَّ الْأَمْرَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} عَامٌّ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَطْبِيقَ أَوَّلِ فِعْلِ الصَّلَاةِ عَلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ عَلَى آخِرِهِ، وَلَا إِقَامَةَ الصَّلَاةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ حَتَّى لَا يَخْلُوَ جُزْءٌ مِنْهُ عَنْ صَلَاةٍ ; إِذْ هُوَ (1) خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ جُزْءٌ مِنْهُ لِاخْتِصَاصِهِ بِوُقُوعِ الْوَاجِبِ فِيهِ ; إِذْ لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ صَالِحٌ لِوُقُوعِ الْوَاجِبِ فِيهِ، وَيَكُونُ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا فِي إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي أَيِّ جُزْءٍ شَاءَ مِنْهُ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ قِسْمٍ آخَرَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.   (1) أَيِ الْمَذْكُورُ مِنَ الْقِسْمَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا حُصُولُ الْإِجْزَاءِ عَنِ الْوَاجِبِ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فِي أَيِّ وَقْتٍ قُدِّرَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ مَقْصُودِ الْوَاجِبِ مِنَ الْكُلِّ، وَأَنَّ الْفِعْلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَوْقَاتِ فَيَكُونُ وَاجِبًا وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَصِّلًا لِمَقْصُودِ الْوَاجِبِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ إِمَّا فَوَاتُ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ بِتَقْدِيرِ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَتَكُونُ الصَّلَاةُ حَرَامًا لِكَوْنِهَا مُفَوِّتَةً لِمَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا بَقَاءُ مَصْلَحَةِ الْوُجُوبِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ فِعْلِ الصَّلَاةِ لِبَقَاءِ مَقْصُودِهَا الْمُوجِبِ لَهَا بَعْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَفْرُوضِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ وَسَطِهِ لَمَا جَازَ تَرْكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ; إِذْ هُوَ حَقِيقَةُ الْوَاجِبِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى لُحُوقِ الْإِثْمِ بِتَرْكِهِ فِيهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ فِعْلِهِ قَبْلَهُ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَالْفِعْلُ فِيهِ نَدْبٌ لِكَوْنِهِ مُثَابًا مَعَ جَوَازِ تَرْكِهِ، وَيَسْقُطُ الْفَرْضُ بِهِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَلَا يَمْتَنِعُ سُقُوطُ الْفَرْضِ عَنِ الْمُكَلَّفِ بِفِعْلِ مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ كَالزَّكَاةِ الْمُعَجَّلَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَفْلٍ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ مِنَ الْقَوْلِ بِتَعْيِينِ وَقْتِ الْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ أَوْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لِلْوُجُوبِ وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ، أَوِ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ وَاجِبًا بِتَقْدِيرِ بَقَائِهِ بِصِفَةِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَمَا قِيلَ مِنَ الْمَذَاهِبِ السَّابِقَةِ. وَالْجَوَاب عَنْ جَوَازِ تَرْكِ الْفِعْلِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا، بَلْ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ الْمُضَيَّقِ، وَأَمَّا الْمُوَسَّعُ فَلَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْدُوبِ وَالْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ جَوَازُ تَرْكِ الْمَنْدُوبِ مُطْلَقًا وَالْمُوَسَّعِ بِشَرْطِ الْفِعْلِ بَعْدَهُ فِي الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ، وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ إِيقَاعُ الْفِعْلِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُوَسَّعِ عَلَى طَرِيقِ الْإِبْهَامِ، وَالتَّعْيِينُ إِلَى الْمُكَلَّفِ كَمَا سَبَقَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، أَوْ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ بَعْدَهُ، ثُمَّ لَوْ كَانَ نَفْلًا لَمَا سَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ لِمَا سَبَقَ، وَالزَّكَاةُ الْمُعَجَّلَةُ وَاجِبَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 مُؤَجَّلَةٌ بَعْدَ (1) انْعِقَادِ سَبَبِهَا وَهُوَ مِلْكُ النِّصَابِ لَا أَنَّهَا نَافِلَةٌ، وَلَكَانَ (2) يَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ الصَّلَاةُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ (3) : لَوْ كَانَ الْعَزْمُ بَدَلًا عَنِ الْفِعْلِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَمَا وَجَبَ الْفِعْلُ بَعْدَهُ، وَلَمَا جَازَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمُبْدَلِ كَسَائِرِ الْأَبْدَالِ مَعَ مُبْدَلَاتِهَا، وَلَكَانَ مَنْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْعَزْمِ يَكُونُ عَاصِيًا لِكَوْنِهِ تَارِكًا لِلْأَصْلِ وَبَدَلِهِ، كَيْفَ وَأَنَّ الْأَمْرَ الْوَارِدَ بِإِيجَابِ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْعَزْمِ، فَإِيجَابُهُ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مُقْتَضَى الْأَمْرِ. ثُمَّ جَعْلُ الْعَزْمِ بَدَلًا مِنْ صِفَةِ الْفِعْلِ أَوْ عَنْ أَصْلِ الْفِعْلِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَفْعَال الْقُلُوب بَعِيدٌ ; إِذْ لَا عَهْدَ لَنَا فِي الشَّرْعِ بِجَعْلِ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ أَبْدَالًا عَنِ الْأَفْعَالِ، وَلَا بِجَعْلِ صِفَةَ الْفِعْلِ مُبْدَلًا. قُلْنَا: لَمْ يَكُنْ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ الْفِعْلِ بَلْ عَنْ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْفِعْلِ مُطْلَقًا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ بَدَلًا أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ وَالْمَصِيرِ إِلَى أَحَدِ الْمُخَيَّرَيْنِ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِالْعَجْزِ عَنِ الْآخَرِ، لَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوُضُوءِ مَعَ التَّيَمُّمِ وَإِنَّمَا لَمْ يَعْصِ مَعَ كَوْنِهِ غَافِلًا لِعَدَمِ تَكْلِيفِ الْغَافِلِ، وَالْأَمْرُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَرِّضًا لِلْعَزْمِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ جَعْلِهِ بَدَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ بَعْضِ الْمَدَارِكِ انْتِفَاءُ الْكُلِّ. وَأَمَّا اسْتِبْعَادُ كَوْنِ الْعَزْمِ بَدَلًا عَنْ صِفَةِ الْفِعْلِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فَغَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْجَوَابِ، ثُمَّ كَيْفَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ وَالْفِدْيَةُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ عِنْدَ خَوْفِهَا عَلَى جَنِينِهَا، وَكَذَلِكَ الْمُرْضِعُ عَلَى وَلَدِهَا بَدَلٌ عَنْ تَقْدِيمِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهَا، وَهُوَ صِفَةُ الْفِعْلِ. وَكَذَلِكَ النَّدَمُ تَوْبَةٌ، وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ. وَقَدْ جُعِلَ بَدَلًا عَمَّا فَرَطَ مِنْ أَفْعَالِ الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ حَالَةَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ. وَالْجَوَابُ (4) عَنِ الْقَوْلِ بِتَعْيِينِ وَقْتِ الْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ: أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّا نَتَبَيَّنُ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِالْفِعْلِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ،   (1) الظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَاجِبَةٌ، لَا بِمُؤَجَّلَةٍ. (2) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَمَا سَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ. (3) اعْتِرَاضٌ عَلَى فِقْرَةٍ مِنْ فِقْرَاتِ الْجَوَابِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَوْ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مُكَوَّنٌ مِنْ خَمْسِ فِقْرَاتٍ، فَقَدْ أَجَابَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ كُلٍّ مِنْهَا بِالتَّرْتِيبِ. (4) رُجُوعٌ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ بَقِيَّةِ فِقْرَاتِ الِاعْتِرَاضِ التَّابِعَةِ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ. . إِلَخْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّا نَتَبَيَّنُ أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ وَقْتًا لِلْوُجُوبِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَدَّى فِيهِ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعِ الْمَوْقِعَ، فَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ. وَعَنِ الْقَوْلِ بِتَعَيُّنِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لِلْوُجُوبِ وَمَا بَعْدَهُ لِلْقَضَاءِ فِيمَا (1) سَبَقَ. (2) ، كَيْفَ وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ مَا يُفْعَلُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِقَضَاءٍ وَلَا يَصِحُّ بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ. وَعَنِ الْوَقْتِ (3) أَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ مِنَ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَمَاتَ فِي أَثْنَائِهِ أَنَّهُ أَدَّى فَرْضَ اللَّهِ، وَأَثْبَتَ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، وَعَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ مِنَ الْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ لَوْ أَخَّرَ الْمُكَلَّفُ الصَّلَاةَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ بِشَرْطِ الْعَزْمِ وَمَاتَ لَمْ يَلْقَ اللَّهَ عَاصِيًا ; نَظَرًا إِلَى إِجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ مَعْنَى الْوُجُوبِ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا، بَلْ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: جَوَازُ التَّأْخِيرِ مَشْرُوطٌ بِسَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ لِكَوْنِهَا (4) مُنْطَوِيَةً عَنْهُ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْحُكْمِ الْجَازِمِ فِي هَذِهِ الْحَالِ: إِمَّا الْبَعْضِيَّةُ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِمَّا بِنَفْيِهَا ضَرُورَةَ (5) امْتِنَاعِ التَّوَقُّفِ عَلَى ظُهُورِ الْعَاقِبَةِ بِالْإِجْمَاعِ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ، وَإِذَا عَرَفَ مَعْنَى الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ فَفَعَلَهُ فِي وَقْتِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يُسَمَّى أَدَاءً، وَسَوَاءٌ كَانَ فِعْلُهُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْخَلَلِ لِعُذْرٍ أَوْ لَا عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْخَلَلِ، وَإِنْ فَعَلَ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْخَلَلِ لِعُذْرٍ، ثُمَّ فَعَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَرَّةً ثَانِيَةً سُمِّيَ إِعَادَةً وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ فَعَلَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهِ سُمِّيَ قَضَاءً. (6)   (1) صَوَابُهُ: فَبِمَا، بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ. (2) مِنْ قَوْلِهِ: آخِرُ حَجَّةِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ الْمُوَسَّعِ ; إِذْ لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ. (3) صَوَابُهُ: وَعَنِ الْوَقْفِ. لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ آخِرِ فِقْرَةٍ فِي الْفَنْقَلَةِ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَوِ الْحُكْمُ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا بِتَقْدِيرِ بَقَائِهِ بِصِفَةِ الْمُكلَّفِينَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْوُقُوفِ عَنِ الْحُكْمِ بِالْوُجُوبِ أَوِ النَّفْيِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُ الْمُكَلَّفِ آخِرَ الْوَقْتِ. (4) عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: وَلَا يُمْكِنُ. (5) عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ: وَلَا بُدَّ. (6) خَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْمُكَلَّفَ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ أَنَّهُ يَمُوتُ بِتَقْدِيرِ التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فَأَخَّرَهُ هل يكون عاصيا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اتَّفَقَ الْكُلُّ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَمُوتُ بِتَقْدِيرِ التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ فَأَخَّرَهُ أَنَّهُ يَعْصِي وَإِنْ لَمْ يَمُتْ، وَاخْتَلَفُوا فِي فِعْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ: هَلْ يَكُونُ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى كَوْنِهِ قَضَاءً، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ. حُجَّةُ الْقَاضِي أَنَّ الْوَقْتَ صَارَ مُقَدَّرًا مُضَيَّقًا بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ عَصَى بِالتَّأْخِيرِ عَنْهُ، فَإِذَا فَعَلَ الْوَاجِبَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلَهُ خَارِجَ وَقْتِهِ فَكَانَ قَضَاءً كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْفَائِتَةِ فِي أَوْقَاتِهَا الْمُقَدَّرَةِ الْمَحْدُودَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: غَايَةُ ظَنِّ الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِصْيَانَ بِالتَّأْخِيرِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي ظَنَّ حَيَاتَهُ فِيهِ دُونَ مَا بَعْدَهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَضْيِيقُ الْوَقْتِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ فِعْلُهُ لِلْوَاجِبِ فِيهِ قَضَاءً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ وَقْتًا لِلْأَدَاءِ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ ظَنِّ الْمُكَلَّفِ مُوجِبًا لِلْعِصْيَانِ بِالتَّأْخِيرِ مُخَالَفَةُ هَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عِصْيَانِ الْمُكَلَّفِ بِتَأْخِيرِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ عَلَى الْفِعْلِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْوَاجِبِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْوَقْتِ قَضَاءً، وَهُوَ فِي غَايَةِ الِاتِّجَاهِ. [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْوَاجِبَ إِذَا لَمْ يُفْعَلْ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ وَفُعِلَ بَعْدَهُ يَكُونُ قَضَاءً] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ إِذَا لَمْ يُفْعَلْ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ وَفُعِلَ بَعْدَهُ، أَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً، وَسَوَاءٌ تَرَكَهُ فِي وَقْتِهِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا. (1) وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَجِبْ وَلَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُقَدَّرَةِ فَفِعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ قَضَاءً لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، كَفَوَائِتِ الصَّلَوَاتِ فِي حَالَةِ الصَّبِيِّ وَالْجُنُونِ.   (1) خَالَفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي مَشْرُوعِيَّةِ فِعْلِهِ بَعْدَ وَقْتِهِ إِذَا أَخَّرَهُ عَمْدًا، كَمَا خَالَفَ بَعْضُهُمْ فِي تَسْمِيَتِهِ قَضَاءً فِي حَالَةِ التَّأْخِيرِ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَالْخَطْبُ فِي الثَّانِي سَهْلٌ ; لِكَوْنِهِ اخْتِلَافًا فِي التَّسْمِيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وَاخْتَلَفُوا فِيمَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَلَمْ يَجِبْ لِمَانِعٍ، أَوْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ خَارِجٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُكَلَّفُ قَادِرًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ كَالصَّوْمِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، أَوْ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَيْهِ: إِمَّا شَرْعًا كَالصَّوْمِ فِي حَقِّ الْحَائِضِ، وَإِمَّا عَقْلًا كَالنَّائِمِ؛ أَنَّهُ هَلْ يُسَمَّى قَضَاءً حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. مِنْهُمْ مَنْ مَالَ إِلَى التَّجَوُّزِ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً عِنْدَ فَوَاتِ مَا وَجَبَ فِي الْوَقْتِ اسْتِدْرَاكًا لِمَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ الْفَائِتِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَوُجُوبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِأَمْرٍ تَجَدَّدَ لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِالْوَقْتِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ إِطْلَاقُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ تَجَوُّزًا. وَمِنْهُمْ مَنْ مَالَ إِلَى أَنَّهُ قَضَاءٌ حَقِيقَةً لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ وَلَمْ يَجِبْ لِلْمُعَارِضِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْقَضَاءِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، إِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَرَكَا فِيهِ مِنِ اسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ لَا اسْتِدْرَاكَ مَصْلَحَةِ مَا وَجَبَ، وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اسْمِ الْقَضَاءِ. [الْمَسْأَلَة السَّابِعَة مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ هَلْ يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ] الْمَسْأَلَة السَّابِعَة مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ هَلْ يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ؟ (1) اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَا بُدَّ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْحِجَاجِ مِنْ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ فَنَقُولُ: مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ. إِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ مَشْرُوطًا بِذَلِكَ الشَّيْءِ (2) ، أَوْ لَا يَكُونُ مَشْرُوطًا بِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: (أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ الصَّلَاةَ إِنْ كُنْتَ مُتَطَهِّرًا) (3) فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ تَحْصِيلَ الشَّرْطِ لَيْسَ وَاجِبًا وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ الصَّلَاةُ إِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ.   (1) ارْجِعْ إِلَى ص: 159، 167 ج: 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى. (2) هَذَا لَيْسَ دَاخِلًا فِي الْقِسْمِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِالْفِعْلِ، وَتَوَقَّفَ إِيقَاعُهُ عَلَى شَيْءٍ، كَبَعْضِ أَمْثِلَةِ مَا جَعَلَهُ قِسْمًا ثَانِيًا، وَعَلَى ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ لِتَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ. (3) لَوْ مَثَّلَ بِأَمْثِلَةٍ وَاقِعِيَّةٍ مِثْلَ: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) الْآيَةَ. لَكَانَ أَنْسَبَ وَأَنْفَعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ مُطْلَقًا غَيْرَ مَشْرُوطِ الْوُجُوبِ بِذَلِكَ الْغَيْرِ، بَلْ مَشْرُوطُ الْوُقُوعِ فَذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ إِنْ كَانَ الشَّرْطُ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ وَجَبَتِ الصَّلَاةُ وَتَعَذَّرَ وُقُوعُهَا دُونَ الطَّهَارَةِ، أَوْ وَجَبَ غَسْلُ الْوَجْهِ وَلَمْ يَكُنْ (1) إِلَّا بِغَسْلِ جُزْءٍ مِنَ الرَّأْسِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّرْطُ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَلَا، إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ كَحُضُورِ الْإِمَامِ الْجُمُعَةِ وَحُصُولِ تَمَامِ الْعَدَدِ فِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِآحَادِ الْمُكَلَّفِينَ. (2) وَإِذَا تَلَخَّصَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، فَنَقُولُ: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ (وَهُوَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ) فَهُوَ وَاجِب، خِلَافًا لِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ تَحْصِيلَ الشَّرْطِ وَاجِبٌ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ بَلْ كَانَ تَرْكُهُ مُبَاحًا لَكَانَ الْآمِرُ كَأَنَّهُ قَالَ لِلْمَأْمُورِ: لَكَ مُبَاحٌ أَلَّا تَأْتِيَ بِالشَّرْطِ، وَأُوجِبُ عَلَيْكَ الْفِعْلَ مَعَ عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِمَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَذَلِكَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَشْرُوطِ إِذَا كَانَ مُطْلَقًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِبَاحَةِ الشَّرْطِ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِالْمَشْرُوطِ حَالَةَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَإِنَّ عَدَمَهُ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ إِبَاحَتِهِ، بَلْ حَالَةُ عَدَمِ وُجُوبِ الشَّرْطِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَا يَكُونُ التَّكْلِيفُ بِالْمَشْرُوطِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: إِنْ كَانَ التَّكْلِيفُ بِالْمَشْرُوطِ حَالَةَ عَدَمِ الشَّرْطِ مُحَالًا فَالتَّكْلِيفُ بِالْمَشْرُوطِ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَكُلُّ مَا وُجُوبُهُ مَشْرُوطٌ بِشَرْطٍ فَالشَّرْطُ لَا يَكُونُ وَاجِبَ التَّحْصِيلِ لِمَا سَبَقَ وَلَا جَوَابَ عَنْهُ. وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ تَحْصِيلِ مَا أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ، وَتَحْصِيلُهُ إِنَّمَا هُوَ بِتَعَاطِي الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ، فَإِذَا قِيلَ: يَجِبُ التَّحْصِيلُ بِمَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا كَانَ مُتَنَاقِضًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ وَعِرَةٌ، وَالطُّرُقُ ضَيِّقَةٌ، فَلْيُقْنَعْ بِمِثْلِ هَذَا فِي هَذَا الْمَضِيقِ.   (1) صَوَابُهُ: يُمْكِنْ. (2) فِي الْمِثَالَيْنِ نَظَرٌ، إِذَا كَانَ الْعَدَدُ الْمُعَيَّنُ وَحُضُورُ الْإِمَامِ الْجُمُعَةَ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا وَصِحَّتِهَا، كَدُخُولِ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ لَا وَاجِبَ حِينَئِذٍ حَتَّى يُبْحَثَ عَمَّا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الشَّرْطِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ الْأَمْرُ بِالْمَشْرُوطِ ; إِذْ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَنَسْخُ مَدْلُولِ النَّصِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنَصٍّ آخَرَ، وَلَا نَصٌّ. ثُمَّ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ مَقْدُورًا حَذَرًا مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَمَا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الرَّأْسِ وَإِمْسَاكُهُ مِنَ اللَّيْلِ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَلَكَانَ مُثَابًا عَلَيْهِ وَمُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهِ. وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ وَتَرْكِهِ، وَعَلَى صَوْمِ الْيَوْمِ وَتَرْكِهِ، لَا عَلَى مَسْحِ بَعْضِ الرَّأْسِ وَإِمْسَاكِ شَيْءٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ الْإِتْيَانُ بِالْمَشْرُوطِ دُونَ شَرْطِهِ كَانَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ رَافِعًا لِمُقْتَضَى النَّصِّ الْوَارِدِ بِالْمَشْرُوطِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ وُجُوبُهُ وَوُجُوبُهُ بَاقٍ بِحَالِهِ. (1) وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ لَا يُقَدَّرُ بِقَدْرٍ مَحْدُودٍ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ هَلْ تُوصَفُ بِالْوُجُوبِ لِكَوْنِ نِسْبَةِ الْكُلِّ إِلَى الْوُجُوبِ نِسْبَةً وَاحِدَةً، أَوِ الْوَاجِبُ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَالزِّيَادَةُ نَدْبٌ. فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ: كُلُّ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْأَصَحُّ إِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ; إِذْ هُوَ مُكْتَفٍ بِهِ مِنْ غَيْرِ لَوْمٍ عَلَى تَرْكِ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ. وَجَوَابُ الثَّالِثِ بِمَنْعِ مَا ذَكَرُوهُ. (2) وَجَوَابُ الرَّابِعِ بِأَنَّ الْوُجُوبَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَاجِزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِالْمَشْرُوطِ دُونَ الشَّرْطِ لَا الْقَادِرِ.   (1) الْمَنْعُ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّوَابِ صَحِيحٌ، فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى الْوَاجِبِ وَعَلَى مَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِقَابِ، فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ، دُونَ الْوَسَائِلِ الَّتِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا. (2) وَأَيْضًا مَا وَجَبَ بِهِ الْمَشْرُوطُ مِنَ النَّصِّ ثَبَتَ بِهِ وُجُوبُ مَا لَا يَتِمُّ إِيقَاعُ الْمَشْرُوطِ إِلَّا بِهِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، فَلَا نَسْخَ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّرْتِيبِ الزَّمَنِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْمَحْظُورِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى هل يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَرَّمُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ] الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْمَحْظُورِ وَقَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا كَثُرَتْ آفَاتُهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: لَبَنٌ مَحْظُورٌ، أَيْ كَثِيرُ الْآفَةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَنْعِ وَالْقَطْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: حَظَرْتُ عَلَيْهِ كَذَا، أَيْ مَنَعْتُهُ مِنْهُ، وَمِنْهُ الْحَظِيرَةُ لِلْبُقْعَةِ الْمُنْقَطِعَةِ تَأْتِي إِلَيْهَا الْمَوَاشِي. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ قِيلَ فِيهِ ضِدُّ مَا قِيلَ فِي الْوَاجِبِ مِنَ الْحُدُودِ الْمُزَيَّفَةِ السَّابِقُ ذِكْرُهَا، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الْكَلَامِ عَلَيْهَا. وَالْحَقُّ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَا يَنْتَهِضُ فِعْلُهُ سَبَبًا لِلذَّمِّ شَرْعًا بِوَجْهٍ مَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ لَهُ. فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ فَاصِلٌ لَهُ عَنِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ، وَالثَّانِي فَاصِلٌ لَهُ عَنِ الْمُخَيَّرِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَاجِبِ. (1) وَالثَّالِثُ فَاصِلٌ لَهُ عَنِ الْمُبَاحِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُ فِعْلُهُ تَرْكَ وَاجِبٍ، فَإِنَّهُ يُذَمُّ عَلَيْهِ لَكِنْ لَا مِنْ جِهَةِ فِعْلِهِ بَلْ لِمَا لَزِمَهُ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ وَالْحَظْرِ (2) فَهُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ بِمَا فَعَلَهُ سَبَبٌ لِلذَّمِّ شَرْعًا بِوَجْهٍ مَا مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلُهُ، وَمِنْ أَسْمَائِهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَمَعْصِيَةٌ وَذَنْبٌ، وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْمَحْظُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يُخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَهِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ.   (1) الصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْقَيْدُ الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: بِوَجْهِ مَا دَخَلَ بِهِ الْمُحَرَّمُ الْمُخَيَّرُ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاصِلٍ لَهُ عَنِ الْمَحْظُورِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي تَعْرِيفِ الْوَاجِبِ. (2) لَوْ قَالَ: فَالْحَظْرُ هُوَ خِطَابُ الشَّارِعِ. إِلَخْ، تَفْرِيعًا عَلَى تَعْرِيفِهِ لِلْمَحْظُورِ لَكَانَ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَرَّمُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ عِنْدَنَا؛ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ وُرُودِ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: لَا تُكَلِّمْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، وَقَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْكَ كَلَامَ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَلَسْتُ أُحَرِّمُ عَلَيْكَ الْجَمِيعَ وَلَا وَاحِدًا بِعَيْنِهِ. فَهَذَا الْوُرُودُ (1) كَانَ مَعْقُولًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ. (2) وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ الْمُحَرَّمُ مَجْمُوعَ كَلَامَيْهِمَا وَلَا كَلَامَ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ ; لِتَصْرِيحِهِ بِنَقِيضِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحَرَّمُ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنِهِ. وَمَنْهَجُ الْخَصْمِ فِي الِاعْتِرَاضِ وَمَنْهَجُنَا فِي الْجَوَابِ، فَكَمَا سَبَقَ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُهُ، وَلَكِنْ رُبَّمَا تَشَبَّثَ الْخُصُومُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّ حَرْفَ (أَوْ) إِذَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ، اقْتَضَى الْجَمْعَ دُونَ التَّخْيِيرِ. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ النَّهْيُ عَنِ الطَّاعَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا النَّهْيُ عَنْ أَحَدِهِمَا. وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: مُقْتَضَى الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ التَّخْيِيرُ وَتَحْرِيمُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ (3) ، وَالْجَمْعُ فِي التَّحْرِيمِ هَاهُنَا إِنَّمَا كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْآيَةِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. (4)   (1) فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ: لَوْ وَرَدَ. (2) هَذَا مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ، وَإِذَا نَظَّرْتَهُ مَعَ مَسْأَلَةِ اشْتِبَاهِ أَجْنَبِيَّةٍ بِمُحَرَّمٍ وَنَحْوِهَا، تَبَيَّنَ لَكَ أَنَّهُ غَيْرُ سَلِيمٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِامْتِثَالُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِلَّا بِتَرْكِ الْجَمِيعِ. (3) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى لَا تُطِعْ كُلَّ مَنْ كَانَ مُرْتَكِبًا لِلْإِثْمِ أَوِ الْكُفْرِ فِي إِثْمِهِ أَوْ كُفْرِهِ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ النَّهْيِ بِكُلٍّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةُ التَّحْرِيمِ، مُوجِبَةُ الْحَذَرِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَلَيْسَتْ (أَوْ) لِلتَّخْيِيرِ، بَلْ لِلتَّنْوِيعِ، أَيْ: لِبَيَانِ نَوْعَيْنِ مِنَ الْإِجْرَامِ، كُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الْحَذَرَ مِمَّنِ ارْتَكَبَهُ، وَتَحْرِيمَ طَاعَتِهِ فِيهِ. (4) تَقَدَّمَ الْجَوَابَ عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْوُجُوبِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْوُجُوبِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ (1) مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِتَقَابُلِ حَدَّيْهِمَا كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ انْقِسَامُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ مِنَ الْأَفْعَالِ إِلَى وَاجِبٍ وَحَرَامٍ كَالسُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ وَاجِبًا حَرَامًا مِنْ جِهَتَيْنِ كَوُجُوبِ الْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ الْوَاقِعِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ صَلَاةٌ، وَتَحْرِيمُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَصْبٌ شَاغِلٌ لِمِلْكِ الْغَيْرِ. فَذَلِكَ مِمَّا جَوَّزَهُ أَصْحَابُنَا مُطْلَقًا وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَخَالَفَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالُوا: السُّجُودُ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ حَرَامًا وَلَا مَنْهِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّنَمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سُجُودٌ، وَإِلَّا كَانَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَأْمُورًا مَنْهِيًّا وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ الْمَنْهِيُّ قَصْدُ تَعْظِيمِ الصَّنَمِ، وَهُوَ غَيْرُ السُّجُودِ. وَخَالَفَ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَالزَّيْدِيَّةُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالُوا: الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَلَا صَحِيحَةٍ، وَلَا يَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ وَلَا عِنْدَهَا. وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَّا فِي سُقُوطِ الْفَرْضِ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهَا لَا بِهَا مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا بِمَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَالْأَفْعَالُ الْمَوْجُودَةُ مِنَ الْمُصَلِّي فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ أَفْعَالٌ اخْتِيَارِيَّةٌ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَاصٍ بِهَا مَأْثُومٌ بِفِعْلِهَا، وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ غَيْرُ مَا صَدَرَ عَنْهُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ طَاعَةً وَلَا (2) مُثَابًا عَلَيْهَا، وَلَا مُتَقَرِّبًا بِهَا، مَعَ أَنَّ التَّقَرُّبَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ.   (1) انْظُرْ بَحْثَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ، بِاعْتِبَارِ جِهَتَيْهِ فِي ص 290 إِلَى 309 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى ج29. (2) الْأَنْسَبُ حَذْفُ كَلِمَةِ: وَلَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 أَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلِضَرُورَةِ التَّغَايُرِ بِالشَّخْصِيَّةِ بَيْنَ السُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ أَحَدِ السُّجُودَيْنِ تَحْرِيمُ الْآخَرِ، وَلَا مِنَ الْوُجُوبِ الْوُجُوبُ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ السُّجُودَ مَأْمُورٌ بِهِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ السُّجُودُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ، فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلِ السُّجُودُ الْمُقَيَّدُ بِقَصْدِ تَعْظِيمِ الرَّبِّ تَعَالَى دُونَ مَا قُصِدَ بِهِ تَعْظِيمُ الصَّنَمِ ; وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} وَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ عَيْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْقَمَرُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، فَلِضَرُورَةِ تَغَايُرِ الْفِعْلِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ جِهَتَيْهِ مِنَ الْغَصْبِ وَالصَّلَاةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّغَايُرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ بِتَعَدُّدِ النَّوْعِ تَارَةً كَالْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَبِتَعَدُّدِ الشَّخْصِ تَارَةً كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو. فَقَدْ يَقَعُ التَّغَايُرُ مَعَ اتِّحَادِ الْمَوْضُوعِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ شَخْصِيًّا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ صِفَاتِهِ، بِأَنْ يَكُونَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ الْمُتَقَابِلَيْنِ هُوَ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنْ ذَاتِهِ وَإِحْدَى صِفَتَيْهِ، وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْآخَرِ بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالصِّفَةِ الْأُخْرَى (1) كَالْحُكْمِ عَلَى زَيْدٍ بِكَوْنِهِ مَذْمُومًا لِفِسْقِهِ وَمَشْكُورًا لِكَرَمِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ التَّقَابُلُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَالْمَنْعِ مِنْهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: إِنِ الْفِعْلَ الْمَوْجُودَ مِنْهُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مُتَّحِدٌ وَهُوَ حَرَامٌ، فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا. قُلْنَا: الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ ذَاتُ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ، أَوْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ غَصْبًا. الْأَوَّلُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَالثَّانِي فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالْوُجُوبِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ صَلَاةً ضَرُورَةَ (2) الِاخْتِلَافِ كَمَا سَبَقَ. (3) فَإِنْ قِيلَ: مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مُتَعَلِّقَ الْحُرْمَةِ، أَوْ هُوَ مُغَايِرٌ لَهُ. وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَالْخَصْمُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، سَوَاءٌ قِيلَ بِإِحَالَتِهِ أَوْ بِجَوَازِهِ. وَالثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ   (1) فِي الْعِبَارَةِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ الْآخَرِ هُوَ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنَ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ الْأُخْرَى. (2) عِلَّةٌ لِعَدَمِ اللُّزُومِ. (3) مِنْ بَيَانِ أَنَّ التَّغَايُرَ بِالصِّفَةِ كَالتَّغَايُرِ بِالنَّوْعِ وَالشَّخْصِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 مُتَلَازِمَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُتَلَازِمَيْنِ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي فَإِنَّ الْغَصْبَ وَالصَّلَاةَ وَإِنِ انْفَكَّ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ، فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ فِي مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ. فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّلَازُمِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْوَاجِبُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَالْمُحَرَّمُ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ يَكُونُ وَاجِبًا، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَرَكَاتِ الْمَخْصُوصَةَ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّكَنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِهَا، وَالْحَرَكَاتُ وَالسَّكَنَاتُ تَشْغَلُ الْحَيِّزَ ; إِذِ الْحَرَكَةُ عِبَارَةٌ عَنْ شَغْلِ الْجَوْهَرِ لِلْحَيِّزِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي غَيْرِهِ، وَالسُّكُونُ شَغْلُ الْجَوْهَرِ لِلْحَيِّزِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانٍ وَاحِدٍ، فَشَغْلُ الْحَيِّزِ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ الدَّاخِلَيْنِ فِي مَفْهُومِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ جُزْءَ الْجُزْءِ جُزْءٌ، وَشَغْلُ الْحَيِّزِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ حَرَامٌ، فَالصَّلَاةُ الَّتِي جُزْءُهُا حَرَامٌ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً ; لِأَنَّ وُجُوبَهَا إِمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ إِيجَابَ جَمِيعِ أَجْزَائِهَا أَوْ لَا يَسْتَلْزِمُ. وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِيجَابُ مَا كَانَ مِنْ أَجْزَائِهَا مُحَرَّمًا، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَالثَّانِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ بَعْضَ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لَا نَفْسَ الصَّلَاةِ ; لِأَنَّ مَفْهُومَ الْجُزْءِ مُغَايِرٌ لِمَفْهُومِ الْكُلِّ وَذَلِكَ مُحَالٌ. قُلْنَا: أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوْبِ وَحَرَّمْتُ عَلَيْكَ السَّكَنَ فِي هَذَا الدَّارِ، فَإِنْ فَعَلْتَ هَذَا أَثَبْتُكَ وَإِنْ فَعَلْتَ هَذَا عَاقَبْتُكَ. فَإِنَّهُ إِذَا سَكَنَ الدَّارَ وَخَاطَ الثَّوْبَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فَعَلَ الْوَاجِبَ وَالْمُحَرَّمَ، وَيَحْسُنُ مِنَ السَّيِّدِ ثَوَابُهُ لَهُ عَلَى الطَّاعَةِ وَعِقَابُهُ لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِجْمَاعًا. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَا أَوْرَدُوهُ مِنَ التَّقْسِيمِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ وَارِدٌ هَاهُنَا ; وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: مُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ إِنْ كَانَ هُوَ مُتَعَلِّقَ الْحُرْمَةِ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِيمَا فُرِضَ مِنَ الصُّورَةِ، وَإِنْ تَغَايَرَا فَهُمَا فِي الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ مُتَلَازِمَانِ، وَإِنْ جَازَ انْفِكَاكُهُمَا حَسْبَمَا قِيلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ. فَالْوَاجِبُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْمُحَرَّمِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لَا مُحَرَّمًا لِمَا قِيلَ. وَقَدْ قِيلَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ فِيهَا، فَمَا هُوَ الْجَوَابُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ هُوَ الْجَوَابُ فِي صُورَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ. عَلَى هَذَا فَقَدِ انْدَفَعَ الْإِشْكَالُ الثَّانِي أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ شَغْلَ الْحَيِّزِ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْحَرَكَاتِ الْمَخْصُوصَةِ الدَّاخِلَةِ فِي مَفْهُومِ الْخِيَاطَةِ، وَشَغْلُ الْحَيِّزِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بِالسَّكَنِ مُحَرَّمٌ عَلَى مَا قِيلَ فِي صُورَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَالْجَوَابُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا. كَيْفَ وَإِنَّ إِجْمَاعَ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَهَلُمَّ جَرًّا مُنْعَقِدٌ عَلَى الْكَفِّ عَنْ أَمْرِ الظَّلَمَةِ بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمُؤَدَّاةِ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً مَعَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ لَبَقِيَ الْوُجُوبُ مُسْتَمِرًّا وَامْتَنَعَ عَلَى الْأُمَّةِ عَدَمُ الْإِنْكَارِ عَادَةً، وَهُوَ لَازِمٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَيْثُ اعْتَرَفُوا بِبَقَاءِ الْفَرْضِ وَعَدَمِ سُقُوطِهِ. وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ عِنْدَهَا لَا بِهَا جَمْعًا بَيْنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ النَّكِيرِ عَلَى تَرْكِ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ مَا ظَنَّهُ دَلِيلًا عَلَى امْتِنَاعِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا إِبْطَالَ مُسْتَنَدِهِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هل الْمُحَرَّمَ بِوَصْفِهِ مُضَادٌّ لِوُجُوبِ أَصْلِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ (1) مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُحَرَّمَ بِوَصْفِهِ مُضَادٌّ لِوُجُوبِ أَصْلِهِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ مَا إِذَا أَوْجَبَ الصَّوْمَ وَحَرَّمَ إِيقَاعَهُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فَالشَّافِعِيُّ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الصَّوْمُ الْوَاقِعُ وَأَلْحَقَهُ بِالْمُحَرَّمِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ، فَكَانَ تَحْرِيمُهُ مُضَادًّا لِوُجُوبِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ نَفْسُ الْوُقُوعِ لَا الْوَاقِعُ، وَهُمَا غَيْرَانِ فَلَا تَضَادَّ إِلْحَاقًا لَهُ بِالْمُحَرَّمِ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ، وَحَيْثُ قُضِيَ بِتَحْرِيمِ صَلَاةِ الْمُحْدِثِ وَبُطْلَانِهَا إِنَّمَا كَانَ لِفَوَاتِ شَرْطِهَا مِنَ الطِّهَارَةِ لَا لِلنَّهْيِ عَنْ إِيقَاعِهَا مَعَ الْحَدَثِ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ حَيْثُ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِيهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، لَا حَظَّ لَهَا مِنَ الْيَقِينِ، وَإِنْ كَانَ الْأَشْبَهُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللُّغَوِيَّ لَا يُفَرِّقُ عِنْدَ سَمَاعِهِ لِقَوْلِ الْقَائِلِ: " حَرَّمْتُ عَلَيْكَ الصَّوْمَ فِي هَذَا الْيَوْمِ " مَعَ كَوْنِهِ مُوجِبًا لِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ عَلَيْكَ إِيقَاعَ الصَّوْمِ فِي هَذَا الْيَوْمِ. مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا مَعْنًى لِإِيقَاعِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ سِوَى فِعْلِ الصَّوْمِ فِي الْيَوْمِ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُ الصَّوْمِ فِيهِ مُحَرَّمًا كَانَ ذَلِكَ مُضَادًّا لِوُجُوبِهِ لَا مَحَالَةَ.   (1) انْظُرْ صَفْحَةَ 381 ج 29 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى، وَالْمَسْأَلَةَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةَ مِنْ مَبَاحِثِ النَّهْيِ فِي الْأَحْكَامِ لِلْآمِدِيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ تَحْرِيمُ إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ تَحْرِيمًا لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ إِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ تَحْرِيمًا لِنَفْسِ الطَّلَاقِ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ نَفْسُهُ مُحَرَّمًا لَمَا كَانَ مُعْتَبَرًا، وَكَذَلِكَ وُقُوعُ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الْمَنْهِيِّ عَنْ إِيقَاعِهَا فِيهَا. قُلْنَا: أَمَّا الطَّلَاقُ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ إِنَّمَا قَضَى الشَّافِعِيُّ بِصِحَّتِهِ لِظُهُورِ صَرْفِ التَّحْرِيمِ عِنْدَهُ عَنْ أَصْلِ الطَّلَاقِ وَصِفَتِهِ، إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ، وَهُوَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ لِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا فَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا صِحَّتَهَا فِي الْأَوْقَاتِ دُونَ الْأَمَاكِنِ، وَمَنْ عَمَّمَ اعْتَقَدَ صَرْفَ النَّهْيِ فِيهَا عَنْ أَصْلِ الْفِعْلِ وَصِفَتِهِ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ لِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ حَتَّى لَوْ قَامَ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى تَرْكِ الظَّاهِرِ لَتَرَكَ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَنْدُوبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى هل الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ] الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَنْدُوبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالْمَنْدُوبُ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّدْبِ وَهُوَ الدُّعَاءُ إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ( لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا ) . وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ قِيلَ: (هُوَ مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ) وَيَبْطُلُ بِالْأَكْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ اللَّذَّةِ وَاسْتِبْقَاءِ الْمُهْجَةِ وَلَيْسَ مَنْدُوبًا. وَقِيلَ: (هُوَ مَا يُمْدَحُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ) وَيَبْطُلُ بِأَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا كَذَلِكَ وَلَيْسَتْ مَنْدُوبَةً. فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: (هُوَ الْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا) ، (فَالْمَطْلُوبُ فِعْلُهُ) احْتِرَازٌ عَنِ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ، و (نَفْيُ الذَّمِّ) (1) احْتِرَازٌ عَنِ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَالْمُوَسَّعِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ (2) وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْمَنْدُوبِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:   (1) أَيْ: عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا. (2) فَإِنَّ تَارِكَ جَمِيعِ الْخِصَالِ الْمُخَيَّرِ بَيْنَهَا، وَتَارِكَ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ يُذَمُّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ بِأَنَّ فِعْلَ الْمَنْدُوبِ يُسَمَّى طَاعَةً بِالِاتِّفَاقِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِذَاتِ الْفِعْلِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ وَخُصُوصِ نَفْسِهِ، وَإِلَّا كَانَ طَاعَةً بِتَقْدِيرِ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ وَلَا لِصِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي يُشَارِكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ مِنَ الْحَوَادِثِ وَإِلَّا كَانَ كُلُّ حَادِثٍ طَاعَةً، وَلَا لِكَوْنِهِ مُرَادًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا كَانَ كُلُّ مُرَادِ الْوُقُوعِ طَاعَةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا لِكَوْنِهِ مُثَابًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ طَاعَةً وَإِنْ لَمْ يُثَبْ عَلَيْهِ، وَلَا لِكَوْنِهِ مَوْعُودًا بِالثَّوَابِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَرَدَ فِيهِ وَعْدٌ لَتَحَقَّقَ لِاسْتِحَالَةِ الْخُلْفِ فِي خَبَرِ الشَّارِعِ، وَالثَّوَابُ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً لِمَا فِيهِ مِنِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ؛ فَإِنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ يُسَمَّى طَاعَةً وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ مُطَاعُ الْأَمْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ( وَلَوْ كُنْتَ ذَا أَمْرٍ مُطَاعٍ لَمَا بَدَا ... تَوَانٍ مِنَ الْمَأْمُورِ فِي كُلِّ أَمْرِكَا ) . كَيْفَ وَقَدْ شَاعَ وَذَاعَ إِطْلَاقُ أَهْلِ الْأَدَبِ قَوْلَهُمْ بِانْقِسَامِ الْأَمْرِ إِلَى أَمْرِ إِيجَابٍ وَأَمْرِ نَدْبٍ. فَإِنْ قِيلَ: أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ طَاعَةً لِكَوْنِهِ مُقْتَضٍ وَمَطْلُوبًا مِمَّنْ لَهُ الطَّلَبُ وَالِاقْتِضَاءُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا، ثُمَّ لَوْ كَانَ فِعْلُهُ طَاعَةً لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا لَكَانَ تَرْكُهُ مَعْصِيَةً لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: أُمِرَ فَعَصَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: ( أَمَرْتُكَ أَمْرًا جَازِمًا فَعَصَيْتَنِي ) . وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» "، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَرِيرَةَ وَقَدْ عَتَقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ: " «لَوْ رَاجَعْتِيهِ. فَقَالَتْ: بِأَمْرِكَ يَا رَسُول اللَّهِ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ» " نَفَى الْأَمْرَ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ فِيهِمَا مَنْدُوبٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ لَيْسَ مَأْمُورًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 قُلْنَا: أَمَّا الِاقْتِضَاءُ وَالطَّلَبُ فَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى مَا يَأْتِي، فَتَسْلِيمُهُ تَسْلِيمٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ. قَوْلُهُمْ: لَا يُسَمَّى تَارِكُهُ عَاصِيًا. قُلْنَا: لِأَنَّ الْعِصْيَانَ اسْمُ ذَمٍّ مُخْتَصٌّ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ الْإِيجَابِ وَلَا بِمُخَالَفَةِ مُطْلَقِ أَمْرٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِطْلَاقِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَلِمِثْلِ هَذَا يَجِبُ حَمْلُ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَمْرِ الْإِيجَابِ دُونَ النَّدْبِ. وَيُخَصُّ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَيَّدَهُ بِالْمَشَقَّةِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ فِي غَيْرِ أَمْرِ الْإِيجَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَأْمُورًا فَهُوَ حَسَنٌ بِجَمِيعِ الِاعْتِبَارَاتِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَهَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْوَاجِبِ؟ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْجَائِزِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْمَنْدُوبَ هَلْ هُوَ مِنْ أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْمَنْدُوبِ (1) هَلْ هُوَ مِنْ أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ؟ فَأَثْبَتَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ (2) وَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ الْحَقُّ. (3) وَحُجَّةُ ذَلِكَ أَنَّ التَّكْلِيفَ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَالْمَنْدُوبُ مُسَاوٍ لِلْمُبَاحِ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ مَعَ زِيَادَةِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْمُبَاحُ لَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ، عَلَى مَا يَأْتِي، فَالْمَنْدُوبُ أَوْلَى. نَعَم، إِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَكْلِيفِيٌّ بِاعْتِبَارِ وُجُوبِ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ مَنْدُوبًا، فَلَا حَرَجَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْدُوبُ لَا يَخْلُو عَنْ كُلْفَةٍ وَمَشَقَّةٍ فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلثَّوَابِ، فَإِنْ فَعَلَهُ رَغْبَةً فِي الثَّوَابِ فَفِعْلُهُ مُشِقٌّ كَفِعْلِ الْوَاجِبِ، وَإِنْ تَرَكَهُ شَقَّ عَلَيْهِ مَا فَاتَهُ مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ بِفِعْلِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَشَقَّ عَلَيْهِ مِنَ الْفِعْلِ بِخِلَافِ تَرْكِ الْمُبَاحِ. قُلْنَا: يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الشَّارِعِ عَلَى الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلثَّوَابِ حُكْمًا تَكْلِيفِيًّا ; لِأَنَّهُ إِنْ أَتَى بِالْفِعْلِ رَغْبَةً فِي الثَّوَابِ الَّذِي هُوَ مُسَبِّبُهُ فَهُوَ مُشِقٌّ، وَإِنْ تَرَكَهُ شَقَّ عَلَيْهِ مَا فَاتَهُ مِنَ الثَّوَابِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.   (1) الْأَنْسَبُ أَنْ يَقُولَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي النَّدْبِ، فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ لَيْسَ حُكْمًا، هُوَ مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ وَمَحَلُّهُ. (2) أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ الْإِسْفِرَايِينِيُّ. (3) الْخِلَافُ فِي أَنَّ النَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ وَالْإِبَاحَةَ مِنَ الْأَحْكَامِ أَوْ لَا، اخْتِلَافٌ فِي تَسْمِيَةٍ اصْطِلَاحِيَّةٍ لَا فَائِدَةَ مِنْ وَرَائِهِ عَمَلِيَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 [الْفَصْلُ الرَّابِع فِي الْمَكْرُوهِ] الْفَصْلُ الرَّابِع فِي الْمَكْرُوهِ الْمَكْرُوهُ (1) فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْكَرِيهَةِ وَهِيَ الشِّدَّةُ فِي الْحَرْبِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَمَلٌ كَرْهٌ (2) أَيْ شَدِيدُ الرَّأْسِ، وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ الْكَرَاهَةُ وَالْكَرَاهِيَةُ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْحَرَامُ. (3) وَقَدْ يُرَادُ بِهِ تَرْكُ مَا مَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَتَرْكِ الْمَنْدُوبَاتِ. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا نُهِيَ عَنْهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ، كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الْمَخْصُوصَةِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْهُ حَزَازَةٌ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ الظَّنِّ حِلُّهُ كَأَكْلِ لَحْمِ الضَّبْعِ. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ نَظَرَ إِلَى الِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ حَدَّهُ بِحَدِّ الْحَرَامِ، كَمَا سَبَقَ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي حَدَّهُ بِتَرْكِ الْأَوْلَى. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الِاعْتِبَارِ الثَّالِثِ حَدَّهُ بِالْمَنْهِيِّ الَّذِي لَا ذَمَّ عَلَى فِعْلِهِ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الِاعْتِبَارِ الرَّابِعِ حَدَّهُ بِأَنَّهُ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةٌ وَتَرَدُّدٌ. وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْمَكْرُوهِ، فَالْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَفِي كَوْنِهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّكَالِيفِ، فَعَلَى نَحْوِ مَا سَبَقَ فِي الْمَنْدُوبِ (4) ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الْكَلَامِ فِي الطَّرَفَيْنِ تَزْيِيفًا وَاخْتِيَارًا.   (1) الْمَكْرُوهُ لَيْسَ حُكْمًا، بَلْ مَحَلُّ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْكَرَاهَةُ، فَلَوْ عَبَّرَ بِهَا لَكَانَ أَنْسَبَ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ. (2) كَرْهٌ: بِفَتْحِ الْكَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ. (3) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) بَعْدَ ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنَ الْكَبَائِرِ. (4) تَقَدَّمَ أَيْضًا فِي التَّعْلِيقِ عَلَى ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بَحْثٌ لَا طَائِلَ وَرَاءَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 [الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْمُبَاحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْإِبَاحَةَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ] الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْمُبَاحِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ أَمَّا الْمُبَاحُ (1) فَهُوَ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَهِيَ الْإِظْهَارُ وَالْإِعْلَانُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: بَاحَ بِسِرِّهِ: إِذَا أَظْهَرَهُ. وَقَدْ يَرِدُ أَيْضًا بِمَعْنَى الْإِطْلَاقِ وَالْإِذْنِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَبَحْتُهُ كَذَا، أَيْ: أَطْلَقْتُهُ فِيهِ وَأَذِنْتُ لَهُ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ، فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَا خُيِّرَ الْمَرْءُ فِيهِ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ شَرْعًا، وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِخِصَالِ الْكَفَّارَةِ الْمُخَيَّرَةِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ خَصْلَةٍ مِنْهَا إِلَّا وَالْمُكَفِّرُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا، وَبِتَقْدِيرِ فِعْلِهَا لَا تَكُونُ مُبَاحَةً بَلْ وَاجِبَةً، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا الْمُوَسَّعِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا مَعَ الْعَزْمِ، وَلَيْسَتْ مُبَاحَةً بَلْ وَاجِبَةً. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَا اسْتَوَى جَانِبَاهُ فِي عَدَمِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِأَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا كَذَلِكَ وَلَيْسَتْ مُتَّصِفَةً بِكَوْنِهَا مُبَاحَةً. (2) وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَا أُعْلِمَ فَاعِلُهُ أَوْ دُلَّ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ وَلَا تَرْكِهِ وَلَا نَفْعَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْفِعْلُ الَّذِي خَيَّرَ الشَّارِعُ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مَعَ إِعْلَامِ فَاعِلِهِ، أَوْ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى اسْتِوَاءِ فِعْلِهِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ دُنْيَا وَأُخْرَى، فَإِنَّهُ مُبَاحٌ وَإِنِ اشْتَمَلَ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ عَلَى الضَّرَرِ. وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى خِطَابِ الشَّارِعِ بِالتَّخْيِيرِ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ. فَالْقَيْدُ الْأَوَّلُ فَاصِلٌ لَهُ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي (3) عَنِ الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْمُبَاحِ فَفِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ:   (1) فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَنْدُوبِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بَحْثًا فِي الْحُكْمِ، بَلْ فِي مَحَلِّهِ وَمُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ الْفِعْلُ، فَالْأَنْسَبُ التَّعْبِير بِالْإِبَاحَةِ. (2) اعْتَرَضَ الْآمِدِيُّ عَلَى تَعْرِيفِ الْمُبَاحِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا غَيْرُ مَانِعٍ. (3) هُوَ قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَا مَعْنًى لَهُ سِوَى مَا انْتَفَى الْحَرَجُ عَنْ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْع وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ بَعْدَهُ، فَلَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ انْتِفَاءَ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لَيْسَ بِإِبَاحَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَإِنَّمَا الْإِبَاحَةُ الشَّرْعِيَّةُ خِطَابُ الشَّارِعِ بِالتَّخْيِيرِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ، فَإِذًا (1) مَا أَثْبَتْنَاهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِهَا وَمَا نُفِيَ غَيْرُ مَا أَثْبَتْنَاهُ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْمُبَاحَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِه] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (2) اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ وَالْأُصُولِيُّونَ قَاطِبَةً عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ (3) وَأَتْبَاعِهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا مُبَاحَ فِي الشَّرْعِ بَلْ كُلُّ فِعْلٍ يُفْرَضُ فَهُوَ وَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ. احْتَجَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبٌ يَسْتَلْزِمُ تَرْجِيحَ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْمُبَاحِ ; لِمَا سَبَقَ فِي تَحْدِيدِهِ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى انْقِسَامِ الْأَحْكَامِ إِلَى وُجُوبٍ وَنَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمُنْكِرُ الْمُبَاحِ يَكُونُ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ. وَحُجَّةُ الْكَعْبِيِّ أَنَّهُ مَا مِنْ فِعْلٍ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا إِلَّا وَيَتَحَقَّقُ بِالتَّلَبُّسِ بِهِ تَرْكُ حَرَامٍ مَا، وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ وَلَا يَتِمُّ تَرْكُهُ دُونَ التَّلَبُّسِ بِضِدٍّ مِنْ أَضْدَادِهِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ لِمَا سَبَقَ. ثُمَّ اعْتَذَرَ عَنِ الْإِجْمَاعِ الْمُحْتَجِّ بِهِ بِأَنْ قَالَ: يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى ذَاتِ الْفِعْلِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ لِسَبَبِ تَوَقُّفِ تَرْكِ الْحَرَامِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ ضَرُورَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ (4) ، وَقَدِ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَنْ لَا   (1) فَإِذًا بِتَنْوِينِ الذَّالِ. (2) انْظُرِ الْفَصْلَ التَّابِعَ لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمُبَاحِ فِي ج 1 مِنْ كِتَاب " الْمُوَافَقَاتِ " لِلشَّاطِبِيِّ. (3) هُوَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَحْمُودٍ الْبَلْخِيُّ الْكَعْبِيُّ، مِنْ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ مَاتَ سَنَةَ 319. (4) فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ بِنَاءً عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَوْجِيهِ الْكَعْبِيِّ لِمَذْهَبِهِ، وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيِّ فِي شَرْحِهِ، وَالْعَطَّارُ فِي حَاشِيَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يَعْلَمُ عَوَرَ كَلَامِهِ بِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ تَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبًا فَالْمُبَاحُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ تَرْكِ الْحَرَامِ، بَلْ شَيْءٌ يُتْرَكُ بِهِ الْحَرَامُ مَعَ إِمْكَانِ تَحَقُّقِ تَرْكِ الْحَرَامِ بِغَيْرِهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا. وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ، فَإِنَّهُ إِذًا ثَبَتَ أَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَأَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِدُونِ التَّلَبُّسِ بِضِدٍّ مِنْ أَضْدَادِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ دُونَهُ فَهُوَ وَاجِبٌ، فَالتَّلَبُّسُ بِضِدٍّ مِنْ أَضْدَادِهِ وَاجِبٌ، غَايَتُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الْأَضْدَادِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ قَبْلَ تَعْيِينِ الْمُكَلَّفِ لَهُ، وَلَكِنْ لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهِ بَعْدَ التَّعْيِينِ، وَلَا خَلَاصَ عَنْهُ إِلَّا بِمَنْعِ وُجُوبِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ، وَفِيهِ خَرْقُ الْقَاعِدَةِ الْمُمَهَّدَةِ عَلَى أُصُولِ الْأَصْحَابِ. وَغَايَةُ مَا أُلْزِمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتَ لَكَانَ الْمَنْدُوبُ بَلِ الْمُحَرَّمُ إِذَا تُرِكَ بِهِ مُحْرَمٌ آخَرُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ حَرَامًا عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ عِنْدَ مَا إِذَا تَرَكَ بِهَا وَاجِبًا آخَرَ، وَهُوَ مُحَالٌ، فَكَانَ جَوَابُهُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ، بِالنَّظَرِ إِلَى جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَنَحْوِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ وَإِنِ اسْتَبْعَدَهُ مَنِ اسْتَبْعَدَهُ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْغُمُوضِ وَالْإِشْكَالِ، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ غَيْرِي حَلُّهُ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْمُبَاح هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْوَاجِبِ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُبَاحِ: هَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْوَاجِبِ أَمْ لَا؟ وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالدُّخُولِ، أَنَّ الْمُبَاحَ مَا لَا حَرَجَ عَلَى فِعْلِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَحَقِّقٌ فِي الْوَاجِبِ، وَالزِّيَادَةُ الَّتِي اخْتُصَّ بِهَا الْوَاجِبُ غَيْرُ نَافِيَةٍ لِلِاشْتِرَاكِ فِيمَا قِيلَ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّبَايُنِ، أَنَّ الْمُبَاحَ مَا خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ (1) ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْوَاجِبِ وَهُوَ الْحَقُّ. (2)   (1) ذُكِرَتْ فِي تَعْرِيفِ الْمُبَاحِ ص 123. (2) وَقِيلَ: الْخِلَافُ لَفْظِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَعْرِيفِ الْمُبَاحِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ مُطَّرِدَةٌ بِإِطْلَاقِ الْجَائِزِ عَلَى الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَالصَّوْمِ الْوَاجِبِ فِي قَوْلِهِمْ: صَلَاةٌ جَائِزَةٌ وَصَوْمٌ جَائِزٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَفْهُومُ الْجَائِزِ مُتَحَقِّقًا فِي الْوَاجِبِ لَزِمَ مِنْهُ إِمَّا الِاشْتِرَاكُ وَإِمَّا التَّجَوُّزُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. قُلْنَا: وَلَوْ كَانَ إِطْلَاقُهُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَلَا مُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا سِوَى نَفْيِ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُسَمَّى حَقِيقَةً فَالْعَادَةُ أَيْضًا مُطَّرِدَةٌ بِإِطْلَاقِ الْجَائِزِ عَلَى مَا انْتَفَى الْحَرَجُ عَنْ تَرْكِهِ، وَلِذَا يُقَالُ: الْمُحَرَّمُ جَائِزُ التَّرْكِ، وَمَا هُوَ مُسَمَّى الْجَائِزِ أَوَّلًا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ هُنَا. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجَائِزِ عَلَى تَرْكِ الْمُحَرَّمِ مَجَازًا أَوْ مُشْتَرَكًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ بَلِ احْتِمَالُ التَّجَوُّزِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى ; لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْإِطْلَاقِ فِي قَوْلِهِمْ: هَذَا وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِجَائِزٍ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْمَسْأَلَةُ لَفْظِيَّةٌ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْمُبَاح هَلْ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ التَّكْلِيفِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُبَاحِ: هَلْ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ التَّكْلِيفِ؟ وَاتِّفَاقُ جُمْهُورٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى النَّفْيِ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ النَّافِيَ يَقُولُ: إِنَّ التَّكْلِيفَ إِنَّمَا يَكُونُ بِطَلَبِ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: كَلَّفْتُكَ عَظِيمًا، أَيْ حَمَّلْتُكَ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ. وَلَا طَلَبَ فِي الْمُبَاحِ وَلَا كُلْفَةَ لِكَوْنِهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَمَنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ لَمْ يُثْبِتْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَصْلِ الْفِعْلِ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ كَوْنِهِ مُبَاحًا، وَالْوُجُوبُ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ فَمَا الْتَقَيَا عَلَى مَحَزٍّ وَاحِدٍ. [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْمُبَاح هَلْ هُوَ حَسَنٌ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُبَاحِ: هَلْ هُوَ حَسَنٌ أَمْ لَا؟ وَالْحَقُّ امْتِنَاعُ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ حَسَنٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ شَرْعًا، أَوْ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَتِهِ لِلْغَرَضِ، وَلَيْسَ حَسَنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 [الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ] [الصِّنْفُ الْأَوَّلُ الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ سَبَبًا] الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ وَهِيَ عَلَى أَصْنَافٍ: الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ سَبَبًا وَالسَّبَبُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَمَّا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ بِهِ إِلَى مَقْصُودٍ مَا. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَبْلُ سَبَبًا وَالطَّرِيقُ سَبَبًا ; لِإِمْكَانِ التَّوَصُّلِ بِهِمَا إِلَى الْمَقْصُودِ. وَإِطْلَاقُهُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَشَرِّعِينَ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ دَلَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ عَلَى كَوْنِهِ مُعَرِّفًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِرَازِ. وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا لَا يَسْتَلْزِمُ فِي تَعْرِيفِهِ لِلْحُكْمِ حِكْمَةً بَاعِثَةً عَلَيْهِ، كَجَعْلِ زَوَالِ الشَّمْسِ أَمَارَةً مُعَرِّفَةً لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا» "، وَكَجَعْلِ طُلُوعِ هِلَالِ رَمَضَانَ أَمَارَةً عَلَى وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» " وَنَحْوِهِ. وَإِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ حِكْمَةً بَاعِثَةً لِلشَّرْعِ عَلَى شَرْعِ الْحُكْمِ الْمُسَبَّبِ كَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الْمُعَرِّفَةِ لِتَحْرِيمِ شُرْبِ النَّبِيذِ لَا لِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ شُرْبِ الْخَمْرِ مَعْرُوفٌ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ لَا بِالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ (1) ، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُعَرِّفَةً لَهُ فَهِيَ لَا يُعْرَفُ كَوْنُهَا عِلَّةً بِالِاسْتِنْبَاطِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ. وَعَلَى هَذَا فَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْوَصْفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالسَّبَبِيَّةِ، بَلْ حَكَمَ الشَّرْعُ عَلَيْهِ بِالسَّبَبِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ وَاقِعَةٍ عُرِفَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالسَّبَبِ لَا بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا الْحُكْمُ الْمُعَرِّفُ بِالسَّبَبِ، وَالْآخَرُ السَّبَبِيَّةُ الْمَحْكُومُ بِهَا عَلَى الْوَصْفِ الْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ، وَفَائِدَةُ نَصْبِهِ سَبَبًا مُعَرِّفًا لِلْحُكْمِ   (1) لَكِنَّهَا رُوعِيَتْ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ بِالنَّصِّ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الْمُؤَلِّفُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: وَإِلَى مَا يَسْتَلْزِمُ حِكْمَةً بَاعِثَةً لِلشَّرْعِ إِلَخْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 عُسْرُ وُقُوفِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى خِطَابِ الشَّرْعِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ مِنَ الْوَقَائِعِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، حَذَرًا مِنْ تَعْطِيلِ أَكْثَرِ الْوَقَائِعِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ (1) ، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّبَبُ مِمَّا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ الْحُكْمُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ وَطُلُوعِ الْهِلَالِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، أَوْ غَيْرَ مُتَكَرِّرٍ بِهِ كَالِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ وَصْفًا وُجُودِيًّا أَوْ عَدَمِيًّا شَرْعِيًّا أَوْ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي الْقِيَاسِ. وَإِذَا أُطْلِقَ عَلَى السَّبَبِ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُوجِبُهُ لِذَاتِهِ وَصِفَةِ نَفْسِهِ وَإِلَّا كَانَ مُوجِبًا لَهُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُعَرِّفٌ لِلْحُكْمِ لَا غَيْرُ (2) ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَحْدِيدِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ السَّبَبِيَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَافْتَقَرَتْ فِي مَعْرِفَتِهَا إِلَى سَبَبٍ آخَرَ يُعَرِّفُهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِمَّا الدَّوْرُ إِنِ افْتَقَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّبَبَيْنِ إِلَى الْآخَرِ - وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَصْفَ الْمُعَرِّفَ لِلْحُكْمِ إِمَّا يُعَرِّفُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ - وَإِمَّا التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مُعَرِّفًا لَهُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَيْهِ فَالْكَلَامُ فِي تِلْكَ الصِّفَةِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الطَّرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْوَصْفِ سَبَبًا لِلْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنَ الْحِكْمَةِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لِلْحُكْمِ مِنْ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةٍ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ مُعَرِّفَةً لِحُكْمِ السَّبَبِيَّةِ لَأَمْكَنَ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الْمُسَبَّبِ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَوَسُّطِ الْوَصْفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: أَنَّ الْحِكْمَةَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً أَوْ حَادِثَةً. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ مِنْ قِدَمِهَا قِدَمُ مُوجِبِهَا وَهُوَ مَعْرِفَةُ السَّبَبِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُعَرِّفٍ آخَرَ لِخَفَائِهَا، وَالتَّقْسِيمُ فِي ذَلِكَ الْمُعَرِّفِ عَائِدٌ بِعَيْنِهِ.   (1) انْظُرْ صَفْحَةَ 28 ج 19 مَجْمُوعَ الْفَتَاوَى. (2) الْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ وَلَا هُوَ مُجَرَّدُ مُعَرِّفٍ وَأَمَارَةٍ لِلْحُكْمِ، بَلْ هُوَ مَعْنًى فِي الْفِعْلِ وَنَحْوِهِ، أَوْ أَمْرٌ لَازِمٌ لَهُ، رَعَاهُ الشَّرْعُ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 قُلْنَا: مَعْرِفَةُ السَّبَبِيَّةِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَى الْخِطَابِ (1) أَوْ إِلَى الْحِكْمَةِ الْمُلَازِمَةِ لِلْوَصْفِ مَعَ اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِهَا فِي صُورَةٍ (2) ، فَلَا تَسْتَدْعِي سَبَبًا آخَرَ يُعَرِّفُهَا حَتَّى يَلْزَمَ الدَّوْرُ أَوِ التَّسَلْسُلُ، وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا يَكُونُ دَفْعُ إِشْكَالِ الثَّانِي (3) أَيْضًا. (4) وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ الْإِشْكَالِ الثَّالِثِ: فَالْوَجْهُ فِي دَفْعِهِ أَنَّ الْحِكْمَةَ الْمُعَرِّفَةَ لِلسَّبَبِيَّةِ لَيْسَ مُطْلَقَ حِكْمَةٍ بَلِ الْحِكْمَةُ الْمَضْبُوطَةُ بِالْوَصْفِ الْمُقْتَرِنِ بِالْحُكْمِ، فَلَا تَكُونُ بِمُجَرَّدِهَا مَعْرِفَةً لِلْحُكْمِ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ خَفِيَّةً غَيْرَ مَضْبُوطَةٍ بِنَفْسِهَا وَلَا بِمَلْزُومِهَا مِنَ الْوَصْفِ، فَلَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ بِهَا لِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا بِهِ التَّعْرِيفُ لِاضْطِرَابِهَا وَاخْتِلَافِهَا بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ فَدَأْبُ (5) الشَّارِعِ فِيهِ رَدُّ النَّاسِ إِلَى الْمَظَانِّ الظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِاحْتِمَالِ الْحِكْمَةِ دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَالْحَرَجِ عَنْهُمْ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْهُ: فَالْوَجْهُ فِي دَفْعِهِ أَنْ يُقَالَ: الْحِكْمَةُ إِذَا كَانَتْ مَضْبُوطَةً بِالْوَصْفِ فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِنَفْسِهَا غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إِلَى مُعَرِّفٍ آخَرَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَقَدُّمِهَا عَلَى وُرُودِ الشَّرْعِ أَنْ تَكُونَ مُعَرِّفَةً لِلسَّبَبِيَّةِ لِتَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الشَّرْعِ، وَلَا اعْتِبَارَ لَهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى السَّبَبِ شَرْعًا فَلَوْ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ فِي صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ فَهَلْ تَبْطُلُ سَبَبِيَّتُهُ أَمْ لَا؟ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فِيمَا بَعْدُ.   (1) مِثْلُ: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) . (2) مِثْلُ سَبَبِيَّةِ الْغَضَبِ فِي مَنْعِ الْقَاضِي مِنَ الْحُكْمِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى التَّشْوِيشِ الْمَانِعِ مِنْ دِقَّةِ النَّظَرِ وَاسْتِيفَاءِ وَسَائِلِ الْحُكْمِ كَمَا يَنْبَغِي. (3) فَإِنَّ مَعْرِفَةَ السَّبَبِيَّةِ إِمَّا بِالْخِطَابِ وَلَا خِطَابَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَإِمَّا بِالْحِكْمَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الْوَصْفُ مَعَ اقْتِرَانِ الْحُكْمِ، وَلَا حُكْمَ قَبْلَ الشَّرْعِ. (4) لَعَلَّهُ الْإِشْكَالُ الثَّانِي. (5) لَوْ قَالَ: فَسُنَّةُ الشَّارِعِ فِيهِ. لَكَانَ أَنْسَبَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 [الصِّنْفُ الثَّانِي الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا] وَالْمَانِعُ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَانِعِ الْحُكْمِ، وَمَانِعِ السَّبَبِ. أَمَّا مَانِعُ الْحُكْمِ، فَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ وُجُودِيٍّ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ مُسْتَلْزِمٍ لِحِكْمَةٍ مُقْتَضَاهَا بَقَاءُ نَقِيضِ حُكْمِ السَّبَبِ مَعَ بَقَاءِ حِكْمَةِ السَّبَبِ، كَالْأُبُوَّةِ (1) فِي بَابِ الْقِصَاصِ مَعَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ. وَأَمَّا مَانِعُ السَّبَبِ، فَهُوَ كُلُّ وَصْفٍ يُخِلُّ وُجُودُهُ بِحِكْمَةِ السَّبَبِ يَقِينًا، كَالدَّيْنِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ مَعَ مِلْكِ النِّصَابِ. [الصِّنْفُ الثَّالِثُ الشَّرْطُ] وَالشَّرْطُ مَا كَانَ عَدَمُهُ مُخِلًّا بِحِكْمَةِ السَّبَبِ، فَهُوَ شَرْطُ السَّبَبِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ فِي بَابِ الْبَيْعِ، وَمَا كَانَ عَدَمُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى حِكْمَةٍ مُقْتَضَاهَا نَقِيضُ حُكْمِ السَّبَبِ مَعَ بَقَاءِ حِكْمَةِ السَّبَبِ فَهُوَ شَرْطُ الْحُكْمِ، كَعَدَمِ الطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِمُسَمَّى الصَّلَاةِ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ (2) قَضَاءُ الشَّارِعِ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ مَانِعًا أَوْ شَرْطًا لَا نَفْسَ الْوَصْفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَرِدُ هَاهُنَا مِنَ الْإِشْكَالَاتِ مَا وَرَدَتْ عَلَى السَّبَبِ، وَالْوَجْهُ فِي دَفْعِهَا مَا سَبَقَ. [الصِّنْفُ الرَّابِعُ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ] وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مُقَابِلٌ لِلسَّقَمِ وَهُوَ الْمَرَضُ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ تُطْلَقُ الصِّحَّةُ عَلَى الْعِبَادَاتِ تَارَةً، وَعَلَى عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ تَارَةً. أَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ، فَعِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ: الصِّحَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَجَبَ الْقَضَاءُ أَوْ لَمْ يَجِبْ. وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ: الصِّحَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ سُقُوطِ الْقَضَاءِ بِالْفِعْلِ، فَمَنْ صَلَّى وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ لِمُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ بِالصَّلَاةِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَغَيْرُ صَحِيحَةٍ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُسْقِطَةٍ لِلْقَضَاءِ.   (1) الْأُبُوَّةُ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ، وَقَدِ اعْتَبَرَهَا الْمُؤَلِّفُ هُنَا وَصْفًا وُجُودِيًّا مُقْتَضِيًا بَقَاءَ نَقِيضِ حُكْمِ السَّبَبِ، وَجَعْلِهَا مُلْحَقَةً بِالْأَوْصَافِ الْعَدَمِيَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي بَاب الْقِيَاسِ. (2) اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الصِّنْفِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 وَأَمَّا فِي عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ، فَمَعْنَى صِحَّةِ الْعَقْدِ تَرَتُّبُ ثَمَرَتِهِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ عَلَيْهِ. وَلَوْ قِيلَ لِلْعِبَادَةِ صَحِيحَةٌ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَلَا حَرَجَ، وَمَنْ فَسَّرَ صِحَّةَ الْعَقْدِ بِإِذْنِ الشَّارِعِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ صَحِيحٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ إِذْنُ الشَّارِعِ بِالِانْتِفَاعِ بِتَقْدِيرِ الْفَسْخِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ هَذَا التَّفْسِيرُ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ صَحَّ فَالنِّزَاعُ فِي أَمْرٍ لَفْظِيٍّ، وَلَا بَأْسَ بِتَفْسِيرِ كَوْنِ الْعِبَادَةِ مُجْزِيَةً بِكَوْنِهَا مُسْقِطَةً لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ، وَحَيْثُ لَمْ تَكُنْ مُتَّصِفَةً بِكَوْنِهَا مُجْزِيَةً عِنْدَ أَدَائِهَا مَعَ اخْتِلَالِ شَرْطِهَا وَسُقُوطِ الْقَضَاءِ بِالْمَوْتِ، إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْقُطِ الْقَضَاءُ بِفِعْلِهَا بَلْ بِالْمَوْتِ. [الصِّنْفُ الْخَامِسُ الْحُكْمُ بِالْبُطْلَانِ] وَهُوَ نَقِيضُ الصِّحَّةِ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ السَّابِقَةِ. وَأَمَّا الْفَاسِدُ فَمُرَادِفٌ لِلْبَاطِلِ عِنْدَنَا، وَهُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِسْمٌ ثَالِثٌ مُغَايِرٌ لِلصَّحِيحِ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ مَا كَانَ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ مَمْنُوعًا بِوَصْفِهِ، كَبَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَنَحْوِهِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي الْمَنَاهِي. [الصِّنْفُ السَّادِسُ الْعَزِيمَةُ وَالرُّخْصَةُ] (1) أَمَّا الْعَزِيمَةُ، فَفِي اللُّغَةِ الرُّقْيَةُ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَقْدِ الْقَلْبِ الْمُؤَكَّدِ عَلَى أَمْرٍ مَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أَيْ قَصْدًا مُؤَكَّدًا. وَمِنْهُ سُمِّيَ بَعْضُ الرُّسُلِ " أُولُو الْعَزْمِ " لِتَأَكُّدِ قَصْدِهِمْ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ، فَعِبَارَةٌ عَمَّا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِلْزَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا. وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فِي اللُّغَةِ - بِتَسْكِينِ الْخَاءِ - فَعِبَارَةٌ عَنِ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: رَخَصَ السِّعْرُ: إِذَا تَيَسَّرَ وَسَهُلَ، وَبِفَتْحِ الْخَاءِ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَخْذِ بِالرُّخَصِ.   (1) ذَكَرَ الشَّاطِبِيُّ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ يُطْلَقُ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ، وَعَرَّفَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى كُلِّ إِطْلَاقٍ مَعَ التَّوْضِيحِ بِالْأَمْثِلَةِ، وَذَكَرَ فُرُوعًا كَثِيرَةً تُبْنَى عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ وَشَرْحَ مَا أَجْمَلَهُ الْمُؤَلِّفُ هُنَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى مَسَائِلِ النَّوْعِ الْخَامِسِ فِي الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ جـ 1 مِنَ الْمُوَافِقَاتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ قِيلَ: الرُّخْصَةُ مَا أُبِيحَ فِعْلُهُ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا، وَهُوَ تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وَقِيلَ: مَا رُخِّصَ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا، وَهُوَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيفِ الرُّخْصَةِ بِالتَّرْخِيصِ الْمُشْتَقِّ مِنَ الرُّخْصَةِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنِ الْإِبَاحَةِ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَصْحَابِنَا: الرُّخْصَةُ مَا جَازَ فِعْلُهُ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ، وَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ، فَإِنَّ الرُّخْصَةَ كَمَا قَدْ تَكُونُ بِالْفِعْلِ قَدْ تَكُونُ بِتَرْكِ الْفِعْلِ، كَإِسْقَاطِ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ. فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يُقَالَ: الرُّخْصَةُ مَا شُرِعَ مِنَ الْأَحْكَامِ لِعُذْرٍ، إِلَى آخِرِ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ، حَتَّى يَعُمَّ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ. ثُمَّ الْعُذْرُ الْمُرَخِّصُ (1) لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الْمُحَرَّمِ أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ مَرْجُوحًا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمُوجِبُهُ لَا يَكُونُ رُخْصَةً بَلْ عَزِيمَةً، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ رَاجِحٍ مَعَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ الْمَرْجُوحِ رُخْصَةً وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا فَإِنْ قُلْنَا بِتَسَاقُطِ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْأَصْلِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رُخْصَةً وَإِلَّا كَانَ كُلُّ فِعْلٍ بَقِينَا فِيهِ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ رُخْصَةً، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِالتَّسَاقُطِ فَالْقَائِلُ قَائِلَانِ: قَائِلٌ يَقُولُ بِالْوَقْفِ عَنِ الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ وَعَدَمِهِ إِلَى حِينِ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ، وَذَلِكَ عَزِيمَةٌ لَا رُخْصَةٌ. وَقَائِلٌ يَقُولُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ وَالْحُكْمِ بِالتَّحْرِيمِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ رُخْصَةً، ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ جَوَازِ الْأَكْلِ وَالتَّحْرِيمِ ; لِأَنَّ الْأَكْلَ وَاجِبٌ جَزْمًا، وَقَدْ قِيلَ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الْمُحَرِّمُ رَاجِحًا عَلَى الْمُسْتَبِيحِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمَرْجُوحِ وَمُخَالَفَةُ الرَّاجِحِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْأَشْبَهَ بِالرُّخْصَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّيْسِيرِ وَالتَّسْهِيلِ بِالْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ وَمُخَالَفَةِ الرَّاجِحِ، وَعَلَى هَذَا فَإِبَاحَةُ   (1) بَدْءُ إِشْكَالٍ لَمْ يُجِبْ عَنْهُ الْمُؤَلِّفُ، وَإِنْ كَانَ حَاوَلَ التَّخَلُّصَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى اخْتِيَارِ الثَّالِثِ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِاخْتِيَارِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَخِّصُ رَاجِحًا، لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ قَامَ بِهِ الْعُذْرُ خَاصَّةً زَمَنَ قِيَامِهِ بِهِ لَا مُطْلَقًا، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَرِّمُ رَاجِحًا مُقْتَضِيًا لِحُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ الْكُلِّيِّ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ كُلِّهَا مَا عَدَا صُورَةَ التَّرْخِيصِ لِلْعُذْرِ فَلَا إِشْكَالَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 شُرْبِ الْخَمْرِ وَالتَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَإِسْقَاطُ صَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْقَصْرُ فِي الرُّبَاعِيَّةِ فِي السَّفَرِ، وَالتَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِلْجِرَاحَةِ أَوْ لِبُعْدِ الْمَاءِ أَوْ لِبَيْعِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ - رُخْصَةٌ حَقِيقَةٌ، وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ وَإِنْ كَانَ عَزِيمَةً مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاجِبٌ اسْتِبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ فَرُخْصَةٌ مِنْ جِهَةِ مَا فِي الْمَيْتَةِ مِنَ الْخُبْثِ الْمُحَرَّمِ وَمَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى مَنْ قَبْلَنَا فَلَيْسَ رُخْصَةً حَقِيقَةً وَإِنْ سُمِّيِ رُخْصَةً (1) لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُحَرِّمِ لِتَرْكِهِ (2) ، وَكَذَلِكَ كُلُّ حُكْمٍ ثَبَتَ جَوَازُهُ عَلَى خِلَافِ الْعُمُومِ لِلْمُخَصِّصِ لَا يَكُونُ رُخْصَةً ; لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ بَيَّنَ لَنَا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَمْ يُرِدْ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ لُغَةً صُورَةَ التَّخْصِيصِ، فَلَا يَكُونُ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ ; لِأَنَّ الْعُمُومَ إِنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ لُغَةً مَعَ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ لَهَا وَمَعَ الْمُخَصَّصِ فَلَا إِرَادَةَ. (3) [الْأَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ وَهُوَ الْأَفْعَالُ الْمُكَلَّفُ بِهَا] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ] الْأَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ وَهُوَ الْأَفْعَالُ الْمُكَلَّفُ بِهَا وَفِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى (4) اخْتَلَفَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَذَلِكَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَقَلْبِ الْأَجْنَاسِ (5) وَإِيجَادِ الْقَدِيمِ وَإِعْدَامِهِ وَنَحْوِهِ، وَمَيْلُهُ فِي أَكْثَرِ أَقْوَالِهِ إِلَى الْجَوَازِ (6) وَهُوَ لَازِمٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِقَادِ وُجُوبِ مُقَارَنَةِ   (1) أَيْ مَجَازًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ السَّعَةِ إِذَا قُوبِلَتْ حَالُنَا فِي التَّكْلِيفِ بِحَالِهِمْ. (2) لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُحَرِّمِ لِتَرْكِهِ عِلَّةٌ لِمَنْعِ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ رُخْصَةً حَقِيقِيَّةً، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِي حَقِّنَا دَلِيلٌ يُحَرِّمُ عَلَيْنَا تَرْكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ دُونَنَا. (3) فِيهِ نَظَرٌ ; إِذْ قَدْ يُسَمَّى بَعْضُ صُوَرِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ رُخْصَةً كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ آيَاتِ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَمَا مَعَهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمَا خُتِمَتْ بِهِ مِنْ حِلِّهَا لِلْمُضْطَرِّ. (4) انْظُرْ ص 318 ج 7 مِنْ مَجْمُوعَةِ الْفَتَاوَى، وَشَرْحَ الطَّحَاوِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنَّفِ: وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِلَّا مَا يُطِيقُونَ. إِلَخْ. (5) مِثَالُ قَلْبِ الْأَجْنَاسِ جَعْلُ الشَّجَرِ فَرَسًا، أَوِ الْفَرَسِ إِنْسَانًا، أَوِ الْحَيَوَانَ نَبَاتًا، انْظُرْ مَبْحَثَ قَلْبِ الْجَوْهَرِ عَرَضًا، مِنْ مَقَالَاتِ الْإِسْلَامِيِّينَ، لِأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. (6) أَيْ: الْعَقْلِيِّ، كَمَا فِي حَاشِيَةِ الْعَطَّارِ عَلَى شَرْحِ الْجَلَالِ الْمَحَلِّيِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ لِلْمَقْدُورِ بِهَا مَعَ تَقَدُّمِ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ عَلَى الْفِعْلِ (1) ، وَأَنَّ الْقُدْرَةَ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي مَقْدُورِهَا، بَلْ مَقْدُورُهَا مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِفِعْلِ الْغَيْرِ حَالَةَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ (2) ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَبَعْضِ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ حَيْثُ قَالُوا بِجَوَازِ تَكْلِيفِ الْعَبْدِ بِفِعْلٍ فِي وَقْتٍ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَكُونُ مَمْنُوعًا عَنْهُ. وَالْبَكْرِيَّةُ (3) حَيْثُ زَعَمُوا أَنَّ الْخَتْمَ وَالطَّبْعَ عَلَى الْأَفْئِدَةِ مَانِعَانِ مِنَ الْإِيمَانِ مَعَ التَّكْلِيفِ بِهِ. غَيْرَ أَنَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَوَافَقَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالنَّفْيِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَكْثَرِ الْبَغْدَادِيِّينَ. وَأَجْمَعَ الْكُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَقْلًا، وَعَلَى وُقُوعِهِ شَرْعًا كَالتَّكْلِيفِ بِالْإِيمَانِ لِمَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ كَأَبِي جَهْلٍ خِلَافًا لِبَعْضٍ الثَّنَوِيَّةِ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيلِ لِذَاتِهِ (4) كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، وَجَوَازُهُ فِي الْمُسْتَحِيلِ بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ.   (1) الصَّحِيحُ أَنَّ الْقُدْرَةَ نَوْعَانِ: الْأُولَى بِمَعْنَى تَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، وَهِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ، فَبِهَا يَتْمَكَّنُ الْعَبْدُ مِنَ الْقِيَامِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ، مُطِيعٍ أَوْ عَاصٍ، وَتَكُونُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، وَقَدْ تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالْفِعْلِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا، وَالثَّانِيَةُ بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ، وَهَذِهِ مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ وَمَوْجُودَةٌ فِيمَنْ أَطَاعَ دُون مَنْ عَصَى، وَلَيْسَتْ مَنَاطًا لِلتَّكْلِيفِ. وَقَدْ أَثْبَتَ الْجَبْرِيَّةُ الْقُدْرَةَ بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ، وَنَفَوُا الْقُدْرَةَ بِمَعْنَى تَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى الْعَكْسِ. (2) مُتَعَلِّقُ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ، وَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ فِيهَا بِتَمْكِينِ اللَّهِ لَهَا، وَإِقْدَارِهِ لِعَبْدِهِ عَلَيْهَا. أَمَّا تَرْتِيبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَيْهَا فَمِنَ اللَّهِ، فَهُوَ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ الَّذِي يُجْرِي الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، لَا عِنْدَهَا كَمَا يَقُولُ الْأَشْعَرِيَّةُ، فَمَثَلًا: حَزَّ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ بِالسِّكِّينِ فِي رَقَبَةِ وَلَدِهِ، وَضَرَبَ مُوسَى الْكَلِيمُ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ، وَرَمَى مُحَمَّدٌ الْخَلِيلُ الْحَصَى، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمَخْلُوقِ. أَمَّا أَنْ تَنْقَطِعَ الرَّقَبَةُ، أَوْ يَنْفَلِقَ الْبَحْرُ، أَوْ يُصِيبَ الْحَصَى جَمِيعَ مَنْ رُمِيَ بِهِ، فَإِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ رَتَّبَ ذَلِكَ فَحَصَلَ، كَمَا فِي الْأَخِيرَيْنِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْصُلْ كَمَا فِي قِصَّة الذَّبِيحِ مَعَ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ مُتَعَلِّقُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ التَّسَبُّبُ وَالْكَسْبُ غَيْرَ مُتَعَلِّقِ قُدْرَةِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ تَمْكِينُ الْعَبْدِ وَإِقْدَارُهُ وَتَرْتِيبُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْلِيفٌ بِفِعْلِ الْغَيْرِ، حَتَّى يَكُونَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. (3) الْبَكْرِيَّةُ أَتْبَاعُ بَكْرِ بْنِ زِيَادٍ الْبَاهِلِيِّ. انْظُرْ مَذْهَبَهُ فِي كِتَابِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ، وَتَرْجَمَتُهُ فِي الْمِيزَانِ لِلذَّهَبِيِّ. (4) وَكَذَا الْمُسْتَحِيلُ عَادَةً، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حِكْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وَلْنَفْرِضِ الْكَلَامَ فِي الطَّرَفَيْنِ: أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ وَهُوَ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيلِ لِذَاتِهِ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّكْلِيفَ طَلَبُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ، وَالطَّلَبُ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا مُتَصَوَّرًا فِي نَفْسِ الطَّالِبِ، فَإِنَّ طَلَبَ مَا لَا تَصَوُّرَ لَهُ فِي النَّفْسِ مُحَالٌ، وَالْمُسْتَحِيلُ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَنَحْوِهِ، لَا تَصَوُّرَ لَهُ فِي النَّفْسِ. وَلَوْ تُصُوِّرَ فِي النَّفْسِ لَمَا كَانَ وُقُوعُهُ فِي الْخَارِجِ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ، وَكَمَا يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فِي طَرَفِ الْوُجُودِ فَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فِي طَرَفِ السَّلْبِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ كَالتَّكْلِيفِ بِسَلْبِ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ مَعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ; لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ لِذَاتَيْهِمَا، وَعَلَى هَذَا فَمَنْ تَوَسَّطَ مَزْرَعَةً مَغْصُوبَةً فَلَا يُقَالُ لَهُ: لَا تَمْكُثْ وَلَا تَخْرُجْ (1) ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو هَاشِمٍ. وَإِنْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكْثِ وَالْخُرُوجِ إِفْسَادُ زَرْعِ الْغَيْرِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ التَّكْلِيفُ بِالْخُرُوجِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْلِيلِ الضَّرَرِ وَتَكْثِيرِهِ فِي الْمُكْثِ، كَمَا يُكَلَّفُ الْمُولِجُ فِي الْفَرْجِ الْحَرَامِ بِالنَّزْعِ وَإِنْ كَانَ بِهِ مَاسًّا لِلْفَرْجِ الْمُحَرَّمِ ; لِأَنَّ ارْتِكَابَ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ يَصِيرُ وَاجِبًا نَظَرًا إِلَى رَفْعِ أَعْلَاهُمَا، كَإِيجَابِ شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى مَنْ غُصَّ بِلُقْمَةٍ وَنَحْوِهِ. وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِمَا يُفْسِدُهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْخُرُوجِ، كَمَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُضْطَرِّ فِي الْمَخْمَصَةِ بِمَا يُتْلِفُهُ بِالْأَكْلِ وَإِنْ كَانَ الْأَكْلُ وَاجِبًا، وَإِنْ قُدِّرَ انْتِفَاءُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا سَقَطَ إِنْسَانٌ مِنْ شَاهِقٍ عَلَى صَدْرِ صَبِيٍّ مَحْفُوفٍ بِصِبْيَانٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنِ اسْتَمَرَّ قَتَلَ مَنْ تَحْتَهُ وَإِنِ انْتَقَلَ قَتَلَ مَنْ يَلِيهِ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا، أَوْ يَخْلُو مِثْلُ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ عَنْ حُكْمِ الشَّارِعِ (2) ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَكْلِيفِهِ طَلَبَ مَا لَا تَصَوُّرَ لَهُ فِي نَفْسِ الطَّالِبِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ مُحَالًا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُمْكِنًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، فَكَانَ مُتَصَوَّرًا فِي نَفْسِ الطَّالِبِ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ.   (1) رَاجِعٌ لِمَدْخُولِ النَّفْيِ، لَا لِلنَّفْيِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ أَبِي هَاشِمٍ ص 74. (2) فَرَضَ الْمُؤَلِّفُ كَغَيْرِهِ مِمَّنْ سَبَقَهُ سُقُوطَ إِنْسَانٍ مِنْ شَاهِقٍ عَلَى الصَّدْرِ خَاصَّةً مِنْ صَغِيرٍ لَا كَبِيرٍ، وَقَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مَحْفُوفًا بِصِبْيَانٍ خَاصَّةً حَتَّى لَا تَكُونَ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى التَّحَمُّلِ، ثُمَّ قَدَّرَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَهُمْ فَرَاغٌ يَتَمَكَّنُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَا يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ يُنْقِذُ الْمَوْقِفَ، وَهَذَا فَرْضٌ لَا يَكَادُ يُوجَدُ بِالْهَيْئَةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَمَا إِخَالُهُ وُجِدَ فِيمَا مَضَى، فَهُوَ مُسْتَنْكَرٌ، وَأَنْكَرُ مِنْهُ قَوْلُهُ بِاحْتِمَالِ خُلُوِّ مَا قَدْ يَكُونُ وَاقِعَةً فِي ظَنِّهِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ إِحَالَةِ طَلَبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِهِ فِي نَفْسِ الطَّالِبِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَصَوَّرًا فِي نَفْسِ الطَّالِبِ لَمَا عُلِمَ إِحَالَتُهُ، فَإِنَّ الْعِلْمَ بِصِفَةِ الشَّيْءِ فَرْعُ تَصَوُّرِ ذَلِكَ الشَّيْءِ وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ سُلِّمَ دَلَالَةُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ إِلَّا أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَوُقُوعِهِ شَرْعًا، وَبَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِنُوحٍ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ غَيْرُ (1) مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُكَلَّفِينَ بِتَصْدِيقِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ تَكْلِيفُهُمْ بِأَنْ لَا يُصَدِّقُوهُ تَصْدِيقًا (2) لَهُ فِي خَبَرِهِ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّفَ أَبَا لَهَبٍ بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَخْبَارِهِ. وَمِنْ أَخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ لَا يُصَدِّقُهُ لِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ بِذَلِكَ، فَقَدْ كَلَّفَهُ بِتَصْدِيقِهِ فِي إِخْبَارِهِ بِعَدَمِ تَصْدِيقِهِ لَهُ وَفِي ذَلِكَ تَكْلِيفُهُ بِتَصْدِيقِهِ وَعَدَمِ تَصْدِيقِهِ، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ. قُلْنَا: أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمَعْلُومَ الْمُتَصَوَّرَ الْمَحْكُومَ بِنَفْيِهِ عَنِ الضِّدَّيْنِ إِنَّمَا هُوَ الْجَمْعُ الْمَعْلُومُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مُتَضَادَّةً، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِهِ مَنْفِيًّا عَنِ الضِّدَّيْنِ تَصَوُّرُهُ ثَابِتًا لَهُمَا، وَهُوَ دَقِيقٌ فَلْيُتَأَمَّلْ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ، فَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْإِخْبَارِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ فِي الْآيَتَيْنِ مُطْلَقًا. أَمَّا فِي قِصَّةِ أَبِي لَهَبٍ فَغَايَةُ مَا وَرَدَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَمِ تَصْدِيقِهِ لِلنَّبِيِّ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَعْذِيبُ الْمُؤْمِنِ، وَبِتَقْدِيرِ امْتِنَاعِ ذَلِكَ أَمْكَنَ حَمْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إِيمَانِهِ. وَكَذَلِكَ التَّأْوِيلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} أَيْ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ هِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ لَا يُدْلِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَمِ الْإِيمَانِ مُطْلَقًا، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ كُلِّفُوا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا أَخْبَرَ مِنْ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ بِتَكْذِيبِهِ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ نُفَاةُ التَّكْلِيفِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ.   (1) كَلِمَةُ (غَيْرُ) زَائِدَةٌ. (2) مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ وَقَعَ عِلَّةً لِقَوْلِهِ: تَكْلِيفُهُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي: وَهُوَ بَيَانُ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيلِ لِغَيْرِهِ، فَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} سَأَلُوا دَفْعَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا لَكَانَ مُنْدَفِعًا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَى سُؤَالِ دَفْعِهِ عَنْهُمْ حَاجَةٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى سُؤَالِ دَفْعِ مَا لَا يُطَاقُ، أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَإِلَّا لَتَعَذَّرَ السُّؤَالُ بِدَفْعِ مَا لَا إِمْكَانَ لِوُقُوعِهِ، كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَإِمْكَانُهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَوْنِ الْآيَةِ ظَاهِرَةً فِيهِ فَيَكُونُ دَوْرًا. سَلَّمْنَا كَوْنَهَا ظَاهِرَةً فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَلَكِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُهَا بِالْحَمْلِ عَلَى سُؤَالِ دَفْعِ مَا فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى النَّفْسِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُطَاقُ وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الدَّلِيلِ بَعْدَ هَذَا. سَلَّمْنَا إِرَادَةَ دَفْعِ مَا لَا يُطَاقُ لَكِنَّهُ حِكَايَةُ حَالِ الدَّاعِينَ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ. سَلَّمْنَا صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ الدَّاعِينَ، لَكِنْ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ غَيْرُ مُطَاقَةٍ، أَوِ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، الْأَوَّلُ يُوجِبُ إِبْطَالَ فَائِدَةِ تَخْصِيصِهِمْ بِذِكْرِ مَا لَا يُطَاقُ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: لَا يُكَلِّفُنَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ خِلَافُ أَصْلِكُمْ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَلَا حَرَجَ أَشَدُّ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْآيَةَ بِوَضْعِهَا ظَاهِرَةٌ فِيمَا لَا يُطَاقُ فَيَجِبُ تَقْدِيرُ إِمْكَانِ التَّكْلِيفِ بِهِ ضَرُورَةَ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى مَا هِيَ ظَاهِرَةٌ فِيهِ، حَذَرًا مِنَ التَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ تَرْكُ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. (1)   (1) الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، فَتَأَمَّلْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ لَهُمْ وَالْحَثِّ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ، فَكَانَ الِاحْتِجَاجُ بِذَلِكَ لَا بِقَوْلِهِمْ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّ تَكْلِيفٍ عِنْدَنَا تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ (1) ، غَيْرَ أَنَّهُ يَجِبُ تَنْزِيلُ السُّؤَالِ عَلَى مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مَا يَتَعَذَّرُ الْإِتْيَانُ بِهِ مُطْلَقًا فِي عُرْفِهِمْ دُونَ مَا لَا يَتَعَذَّرُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِجْرَاءِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَمُوَافَقَةُ أَهْلِ الْعُرْفِ فِي عُرْفِهِمْ غَايَتُهُ إِخْرَاجُ مَا لَا يُطَاقُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي نَفْسِهِ لِذَاتِهِ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ ; لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ بِهِ وَامْتِنَاعِ سُؤَالِ الدَّفْعِ لِلتَّكْلِيفِ بِمَا لَا تَكْلِيفَ بِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَخْصِيصٌ وَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى مِنَ التَّأْوِيلِ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَتَيْنِ أَنَّ غَايَتَهُمَا الدَّلَالَةُ عَلَى نَفْيِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْجَوَازِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ مِنْ جَانِبِنَا، كَيْفَ وَإِنَّ التَّرْجِيحَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ لِاعْتِضَادِهَا بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عَلَى مَا يَأْتِي (2) ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا خُرُوجَ لَهَا عَنِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ. وَرُبَّمَا احْتَجَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِالسُّجُودِ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ أَنْ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ فِي الْآخِرَةِ بِمَعْنَى التَّكْلِيفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ إِنَّمَا هِيَ دَارُ مُجَازَاةٍ لَا دَارُ تَكْلِيفٍ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ، فَقَدِ احْتَجَّ فِيهِ بَعْضُهُمْ بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ: الْأُولَى مِنْهَا: هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُكَلَّفَ بِهِ إِنْ كَانَ مَعَ اسْتِوَاءِ دَاعِي الْعَبْدِ إِلَى الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ كَانَ الْفِعْلُ مُمْتَنِعًا لِامْتِنَاعِ حُصُولِ الرُّجْحَانِ مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ كَانَ الرَّاجِحُ وَاجِبًا وَالْمَرْجُوحُ مُمْتَنِعًا، وَالتَّكْلِيفُ بِهِمَا يَكُونُ مُحَالًا. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْفِعْلَ الصَّادِرَ مِنَ الْعَبْدِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُتَمَكِّنًا مِنْ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ أَوْ لَا يَكُونُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ فَالتَّكْلِيفُ لَهُ بِالْفِعْلِ يَكُونُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ فَإِمَّا أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ تَرَجُّحُ فِعْلِهِ عَلَى تَرْكِهِ عَلَى مُرَجِّحٍ   (1) لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُمْ مَجْبُورٌ بَاطِنًا، مُخْتَارٌ ظَاهِرًا. (2) سَيَأْتِي التَّعْلِيقُ أَيْضًا عَلَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 أَوْ يَتَوَقَّفَ، الْأَوَّلُ مُحَالٌ وَإِلَّا كَانَ كُلُّ مَوْجُودٍ حَادِثًا هَكَذَا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ سَدُّ بَابِ إِثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ، فَذَلِكَ الْمُرَجِّحُ إِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ عَادَ التَّقْسِيمُ، وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ وُقُوعُ الْفِعْلِ أَوْ لَا يَجِبُ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ كَانَ مُمْتَنِعًا أَوْ جَائِزًا، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ وَإِلَّا كَانَ الْمُرَجِّحُ مَانِعًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ عَادَ التَّقْسِيمُ بِعَيْنِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْوُجُوبِ، وَالْعَبْدُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ مَجْبُورًا لَا مُخَيَّرًا، وَهُوَ عَيْنُ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي فِعْلِهِ (1) وَإِلَّا كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فِيهِ حَالَ وُجُودِهِ، وَفِيهِ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ أَوْ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُ الْقُدْرَةِ فِي الْمَقْدُورِ مُغَايِرًا لَهُ لِتَحَقُّقِ التَّأْثِيرِ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ دُونَهُ. وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ التَّأْثِيرِ وَتَأْثِيرِ مُؤَثِّرِهِ فِيهِ كَالْأَوَّلِ، وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ وَالْقُدْرَةُ غَيْرُ مُؤَثِّرَةٍ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ بِالْفِعْلِ قَبْلَ وُجُودِ الْفِعْلِ، وَالْقُدْرَةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ قَبْلَ الْفِعْلِ (2) ; لِأَنَّهَا لَوْ وُجِدَتْ لَكَانَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ وَمُتَعَلِّقُهَا لَا يَكُونُ عَدَمًا لِأَنَّهُ نَفْيٌ مَحْضٌ فَلَا يَكُونُ أَثَرًا لَهَا، فَكَانَ وَجُودًا وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ. الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْعَبْدَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ انْظُرُوا} وَالنَّظَرُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقَضَايَا الضَّرُورِيَّةِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى تَصَوُّرِ مُفْرَدَاتِهَا، وَهِيَ غَيْرُ مَقْدُورَةِ التَّحْصِيلِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا فَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا فَطَلَبُهَا مُحَالٌ، فَالنَّظَرُ يَكُونُ مُمْتَنِعَ التَّحْصِيلِ. وَهَذِهِ الْحُجَجُ ضَعِيفَةٌ جِدًّا. أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْفِعْلِ مَعَ رُجْحَانِ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ، قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ صَارَ الْفِعْلُ وَاجِبًا. قُلْنَا: صَارَ وَاجِبًا بِالدَّاعِي إِلَيْهِ وَالِاخْتِيَارِ لَهُ أَوْ لِذَاتِهِ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَعَلَى هَذَا خَرَجَ الْعَبْدُ عَنْ كَوْنِهِ مُكَلَّفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ أَفْعَالُ الرَّبِّ غَيْرَ مَقْدُورَةٍ بِعَيْنِ مَا ذَكَرُوهُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَمَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ أَفْعَالِ اللَّهِ يَكُونُ مُشْتَرِكًا.   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ ص 134. (2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ ص 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهِيَ بِعَيْنِهَا أَيْضًا لَازِمَةٌ عَلَى أَفْعَالِ اللَّهِ ; إِذْ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: فِعْلُ اللَّهِ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ أَوْ يَكُونَ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَفْتَقِرَ إِلَى مُرَجِّحٍ أَوْ لَا، وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى مُرَجِّحٍ: فَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ عَادَ التَّقْسِيمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مَعَهُ أَوْ لَا يَجِبُ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى آخِرِهِ، وَالْجَوَابُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا. وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ أَيْضًا لَازِمَةٌ عَلَى أَفْعَالِ اللَّهِ مَعَ أَنَّهَا مَقْدُورَةٌ لَهُ إِجْمَاعًا. (1) وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَيَلْزَمُ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ قُدْرَةُ الرَّبِّ تَعَالَى حَادِثَةً مَوْجُودَةً مَعَ فِعْلِهِ لَا قَبْلَهُ، وَهُوَ مَعَ إِحَالَتِهِ فَقَائِلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ غَيْرُ قَائِلٍ بِهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ: لَوْ وُجِدَتْ قُدْرَةُ الرَّبِّ قَبْلَ وُجُودِ فِعْلِهِ لَكَانَ لَهَا مُتَعَلِّقٌ وَلَيْسَ مُتَعَلِّقَهَا الْعَدَمُ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْوُجُودِ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ قَبْلَ الْفِعْلِ، بِعَيْنِ مَا ذَكَرُوهُ. وَأَمَّا الْخَامِسَةُ: فَأَشَدُّ ضَعْفًا مِمَّا قَبْلَهَا ; إِذْ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى امْتِنَاعِ اكْتِسَابِ التَّصَوُّرَاتِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي كِتَابِ " دَقَائِقِ الْحَقَائِقِ " إِبْطَالًا لَا رِيبَةَ فِيهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ هَذَا الْكِتَابُ، فَعَلَى النَّاظِرِ بِمُرَاجَعَتِهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا تَكُونَ التَّصَوُّرَاتُ مُكْتَسَبَةً، فَالْعِلْمُ بِهَا يَكُونُ حَاصِلًا بِالضَّرُورَةِ. وَالتَّكْلِيفُ بِالنَّظَرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى مَا يَنْقَطِعُ التَّسَلْسُلُ عِنْدَهُ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الضَّرُورِيَّةِ لَا يَكُونُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ مَسْلَكَانِ: الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ خَالِقٍ لِفِعْلِهِ فَكَانَ مُكَلَّفًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ (2) وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَبَيَانُ أَنَّهُ غَيْرُ خَالِقٍ لِفِعْلِهِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَالِقًا لِفِعْلِهِ فَلَيْسَ خَالِقًا لَهُ بِالذَّاتِ وَالطَّبْعِ إِجْمَاعًا بَلْ بِالِاخْتِيَارِ، وَالْخَالِقُ بِالِاخْتِيَارِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِمَخْلُوقِهِ بِالْإِرَادَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُرِيدًا لَهُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِهِ ضَرُورَةً، وَالْعَبْدُ غَيْرُ عَالِمٍ   (1) أَجَابَ عَنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بِالنَّقْضِ ; حَيْثُ بَيَّنَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الدَّلِيلَيْنِ وُجِدَ فِي غَيْرِ مَحِلِّ النِّزَاعِ فَتَخَلَّفَتْ عَنْهُ النَّتِيجَةُ إِجْمَاعًا. (2) تَقَدَّمَ فِي ص 134 بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا بِفِعْلِ غَيْرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ حَرَكَاتِهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالَةِ إِسْرَاعِهِ فَلَا يَكُونُ خَالِقًا لَهَا. (1) الْمَسْلَكُ الثَّانِي: إِنَّ إِجْمَاعَ السَّلَفِ مُنْعَقِدٌ قَبْلَ وُجُودِ الْمُخَالِفِينَ مِنَ الثَّنَوِيَّةِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُكَلِّفٌ بِالْإِيمَانِ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ كَمَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، وَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِلْمُ الْبَارِي تَعَالَى جَهْلًا وَهُوَ مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يَخْلُقُهُ مِنْ أَفْعَالِهِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، الْأَوَّلُ لَا سَبِيلَ إِلَى نَفْيِهِ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ خَالِقٍ لِفِعْلِهِ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى خَلْقِهِ لَهُ، وَدَلِيلُهُ: الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ. أَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ مِنَّا وَمِنْكُمْ عَلَى فِعْلِهِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ هِيَ الْمُؤَثِّرَةَ فِيهِ لَانْتَفَى الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَقْدُورِ وَغَيْرِهِ، وَكَانَ الْمُؤَثِّرُ غَيْرَ الْعَبْدِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ (2) وَلَمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ، وَلَجَازَ أَنْ تكُونَ مُتَعَلِّقَهُ (3) بِالْجَوَاهِرِ وَالْأَلْوَانِ كَمَا فِي الْعِلْمِ، وَلَكَانَ الْعَبْدُ مُضْطَرًّا بِمَا خُلِقَ فِيهِ مِنَ الْفِعْلِ لَا مُخْتَارًا،   (1) هَذَا حِجَاجٌ مَعَ الْمُخَالِفِينَ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْعَبْدِ لِفِعْلِ نَفْسِهِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ، فَلَا يَنْهَضُ حُجَّةً عَلَى مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّة بِمَنْعِ التَّكْلِيفِ بِالْمُسْتَحِيلِ لِذَاتِهِ، وَالْمُسْتَحِيلِ عَادَةً، أَوْ لِطَارِئٍ مِنَ الْآفَاتِ الَّتِي تَقْعُدُ بِالْمُكَلَّفِ عَنِ الْفِعْلِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ خَالِقٍ لِفِعْلِهِ لَكِنَّهُ كَاسِبٌ لَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ ص 134، وَيَكْفِي فِي تَحْصِيلِهِ لِمُتَعَلِّقِ قُدْرَتِهِ وَكَسْبِهِ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ وَالْقَصْدُ إِلَيْهِ إِجْمَالًا فِيمَا صَارَ مِنَ الْأَفْعَالِ عَادَةً لَهُ، أَمَّا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ عَادَةً لَهُ فَهُوَ عَالِمٌ بِتَفْصِيلِ فِعْلِهِ، مُرِيدٌ لِأَجْزَائِهِ وَآحَادِهِ فِي حُدُودِ طَاقَتِهِ ; وَلِذَا يَكُونُ فِي فِعْلِهِ مِنَ النَّقْصِ وَالْخَلَلِ بِقَدْرِ قُصُورِهِ فِي عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَغَفْلَتِهِ، وَقُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ، بِخِلَافِ الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ اسْتِقْلَالًا عَلَى وَجْهِ الْإِحْكَامِ وَتَمَامِ الْإِبْدَاعِ، لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَسَائِرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. (2) قُدْرَةُ الْعَبْدِ مُؤَثِّرَةٌ بِإِقْدَارِ اللَّهِ لَهُ، وَتَمْكِينِهِ إِيَّاهُ مِنَ الْفِعْلِ لَا اسْتِقْلَالًا، فَلَا يَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقْدُورِ وَغَيْرِهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ فِي فِعْلِهِ غَيْرَهُ، فَإِنَّ مُتَعَلِّقَ قُدْرَتِهِ الْكَسْبُ وَالتَّسَبُّبُ، وَمُتَعَلِّقَ قُدْرَةِ اللَّهِ إِقْدَارُ الْعَبْدِ وَتَمْكِينُهُ، وَتَرْتِيبُ الْآثَارِ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ وُقُوعُ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ، وَبِمَا ذُكِرَ يُعْرَفُ مَنْعُ بَقِيَّةِ اللَّازِمَاتِ الَّتِي فِي الْمُعَارَضَةِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ. (3) صَوَابُهُ: مُتَعَلِّقَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَلَجَازَ أَنْ يَصْدُرَ عَنِ الْعَبْدِ أَفْعَالٌ مَحْكَمَةٌ بَدِيعَةٌ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهَا، وَلَمَا انْقَسَمَ فِعْلُهُ إِلَى طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَكَانَ الرَّبُّ تَعَالَى أَضَرَّ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ إِبْلِيسَ ; حَيْثُ إِنَّهُ خَلَقَ فِيهِ الْكُفْرَ وَعَاقَبَهُ عَلَيْهِ وَإِبْلِيسُ دَاعٍ لَا غَيْرُ، وَلَمَا حَسُنَ شُكْرُ الْعَبْدِ وَلَا ذَمُّهُ عَلَى أَفْعَالِهِ وَلَا أَمْرُهُ وَلَا نَهْيُهُ وَلَا عِقَابُهُ وَلَا ثَوَابُهُ، وَلَكَانَ الرَّبُّ تَعَالَى آمِرًا لِلْعَبْدِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ قَبِيحٌ مَعْدُودٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْجَهْلِ وَالْحُمْقِ، وَلَكَانَ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا: فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْكُفْرُ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَالْإِيمَانُ بَاطِلٌ. وَلَكَانَ الرَّبُّ تَعَالَى إِمَّا رَاضِيًا بِهِ رَاضٍ أَوْ غَيْرَ رَاضٍ، وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَالثَّانِي يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الرِّضَا بِالْإِيمَانِ، وَالْكُلُّ مُحَالٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «اعْمَلُوا وَقَارِبُوا وَسَدِّدُوا» "، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى نِسْبَةِ الْعَمَلِ إِلَى الْعَبْدِ. وَالْعُقَلَاءُ مُتَوَافِقُونَ عَلَى إِطْلَاقِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَى الْعَبْدِ بِقَوْلِهِمْ: فُلَانٌ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. وَأَمَّا الْمَسْلَكُ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ تَعَلُّقَ عِلْمِ الْبَارِي تَعَالَى بِالْفِعْلِ أَوْ بِعَدَمِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِوُجُودِ مَا عَلِمَ وُجُودَهُ وَامْتِنَاعِ وُجُودِ مَا عَلِمَ عَدَمَهُ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَيَلْزَمُهُ مُحَالَاتٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ هُوَ الْقُدْرَةَ، أَوْ أَنْ يُسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الْقُدْرَةِ، وَلَا يَكُونُ الرَّبُّ قَادِرًا عَلَى إِيجَادِ شَيْءٍ أَوْ عَدَمِهِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لِلرَّبِّ اخْتِيَارٌ، وَلَا لِلْعَبْدِ فِي وُجُودِ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ لِكَوْنِهِ وَاجِبًا بِالْعِلْمِ أَوْ مُمْتَنِعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْوُجُودِ وَلَا لِلْعَدَمِ فَقَدْ بَطَلَ الِاسْتِدْلَالُ، وَإِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ لَكِنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ أَوَّلًا عَنِ الْمَسْلَكِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَخْلُوقَ لِلْعَبْدِ بِتَقْدِيرِ خَلْقِهِ لَهُ مَخْلُوقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ مَخْلُوقٌ لَهُ بِانْفِرَادِهِ، فَيَجِبُ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 يَكُونَ عَالِمًا بِهِ لِمَا سَبَقَ، وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ بِالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ لِمَا حَقَّقْنَاهُ (1) . وَعَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِلْزَامِ الْأَوَّلِ بِمَنْعِ عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقْدُورِ وَغَيْرِهِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ خَالِقَيْنِ أَوْ مُكْتَسِبَيْنِ، أَمَّا بَيْنَ خَالِقٍ وَمُكْتَسِبٍ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. (2) وَعَنِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ إِنَّمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي كَثْرَةِ مَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَقْدُورَاتِ فِي أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، لَا فِي التَّأْثِيرِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ بِالْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فِيهَا (3) ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مُضْطَرًّا أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُكْتَسَبًا لَهُ وَمَقْدُورًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ التَّأْثِيرِ عَدَمُ الِاكْتِسَابِ. (4) وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ تَلَازُمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الشَّيْءِ وَالْعِلْمِ بِهِ. (5) وَعَنِ السَّابِعِ: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِانْقِسَامِ فِعْلِ الْعَبْدِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ غَيْرَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهَذَا وَمَنْهِيًّا عَنْ هَذَا لِكَسْبِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ. وَعَنِ الثَّامِنِ: أَنَّهُ لَازِمٌ عَلَى أَصْلِهِمْ أَيْضًا فَإِنَّ التَّمَكُّنَ (6) مِنَ الْكُفْرِ بِخَلْقِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَضَرُّ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَيْهِ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِالْعَبْدِ، فَمَا هُوَ جَوَابٌ لَهُمْ هُوَ جَوَابُنَا. وَعَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالشُّكْرِ وَالذَّمِّ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالْأَمْرِ لِلْعَبْدِ بِمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، بِالْمَنْعِ مِنْ تَقْبِيحِ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا غَيْرَ مُؤَثِّرٍ، كَيْفَ وَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. (7) وَعَنِ الْإِلْزَامِ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، أَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ وَالْأَمْرِ وَالِاخْتِرَاعِ، وَانْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَإِلْزَامِ الْحُكْمِ، وَتَوْفِيَةِ الْحُقُوقِ، وَالْإِرَادَةِ، لُغَةً.   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ ص 141 (2) تَقَدَّمَ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْقُدْرَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ (3) الْعِلْمُ بِالْأَمْرِ الْإِحَاطَةُ بِهِ وَبِأَحْوَالِهِ وَكَشْفُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ صِفَةَ تَأْثِيرٍ. (4) إِنْ أَرَادَ عَدَمَ التَّأْثِيرِ اسْتِقْلَالًا فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ نَفْيَ التَّأْثِيرِ مُطْلَقًا لَزِمَ نَفْيُ الِاكْتِسَابِ. (5) لَعَلَّ فِيهِ سُقُوطًا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا مَانِعَ مِنْ عَدَمِ تَلَازُمِ إِلَخْ. إِذْ هُوَ تَسْلِيمٌ لِلْمُلَازَمَةِ السَّادِسَةِ. (6) صَوَابُهُ: التَّمْكِينُ، وَهَذَا جَوَابٌ إِلْزَامِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ الْخَصْمِ. (7) تَقَدَّمَ مَا فِيهِمَا فِي مَبْحَثِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وَعَلَى هَذَا فَالْإِيمَانُ مِنْ قَضَائِهِ بِجَمِيعِ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ وَهُوَ حَقٌّ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَلَيْسَ مِنْ قَضَائِهِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مَأْمُورًا بَلْ بِمَعْنَى خَلْقِهِ وَإِرَادَةِ وُقُوعِهِ، وَهُوَ حَقٌّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا. (1) وَعَنِ الْإِلْزَامِ بِالرِّضَا أَنَّهُ رَاضٍ بِالْإِيمَانِ، وَغَيْرُ رَاضٍ بِالْكُفْرِ. وَعَنِ الْمَنْقُولِ بِأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ غَايَتُهُ إِضَافَةُ الْفِعْلِ إِلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَإِنَّ الْفَاعِلَ عِنْدَنَا عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ مَنْ وَقَعَ الْفِعْلُ مَقْدُورًا لَهُ (2) ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْمُوجِدِ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ فِي الْمَسْلَكِ الثَّانِي بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْفِعْلِ بِمُلَازَمَةِ الْوُجُودِ الْمَقْدُورِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُعْلَمُ وَجُودُهُ مَقْدُورًا لَا غَيْرَ مَقْدُورٍ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَدَمِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا سَلْبَ اخْتِيَارِهِ فِي فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ فَإِنَّهُ إِنَّمَا عُلِمَ وُقُوعُ فِعْلِ الْعَبْدِ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، وَالْمُعَارَضَاتُ فَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهَا. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ حَاصِلًا حَالَةَ التَّكْلِيفِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ (3) حَاصِلًا حَالَةَ التَّكْلِيفِ، بَلْ لَا مَانِعَ مِنْ وُرُودِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ وَتَقْدِيمِ (4) شَرَطِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ جَائِزٌ عَقْلًا وَوَاقِعٌ سَمْعًا. خِلَافًا لِأَكْثَرِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَبِي حَامِدٍ الْإِسْفِرَايِينِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَذَلِكَ كَتَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ حَالَةَ كُفْرِهِمْ.   (1) أَمْثِلَةُ إِطْلَاقَاتِ الْقَضَاءِ كَمَا يَلِي: 1 - (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ) الْآيَةَ. 2 - (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) . 3 - (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) . 4 - (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) . 5 - (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) . وَقَضَى عَلَيْهِ الْحَاكِمُ. قَضَى دَيْنَهُ، وَبِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْمَعْنَى رَاجِعٌ لِاخْتِلَاف التَّعْدِيَةِ وَاللُّزُومِ وَاخْتِلَافِ مَدْخُولِهَا وَالْحَرْفِ الَّذِي تَعَدَّتْ بِهِ. (2) الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ الْفِعْلُ بِقُدْرَتِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مُسْتَمَدَّةً مِنْ غَيْرِهِ. (3) أَيْ: شَرْطُ صِحَّتِهِ فِي اعْتِبَارِ الشَّرْعِ، لَا شَرْطُ وُجُوبِهِ، كَالْبُلُوغِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا الشَّرْطُ اللُّغَوِيُّ كَمَا فِي حَدِيثِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فَالتَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِهِمَا. (4) مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ، وَالْمَعْنَى تَكْلِيفُ الشَّخْصِ بِالْمَشْرُوطِ كَالصَّلَاةِ، وَبِتَقْدِيمِ شَرْطِ صِحَّتِهَا كَالْإِسْلَامِ عَلَى أَدَائِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَدَلِيلُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ أَنَّهُ لَوْ خَاطَبَ الشَّارِعُ الْكَافِرَ الْمُتَمَكِّنَ مِنْ فَهْمِ الْخِطَابِ وَقَالَ لَهُ: " أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسَ الْمَشْرُوطَ صِحَّتُهَا بِالْإِيمَانِ، وَأَوْجَبْتُ عَلَيْكَ الْإِتْيَانَ بِالْإِيمَانِ مُقَدَّمًا عَلَيْهَا " لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا وَلَا مَعْنَى لِلْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ سِوَى هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: التَّكْلِيفُ بِالْفُرُوعِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْإِيمَانِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَالَةَ وُجُودِ الْإِيمَانِ أَوْ حَالَةَ عَدَمِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَإِنْ كَانَ حَالَةَ عَدَمِهِ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّكْلِيفَ بِالْفُرُوعِ غَيْرُ مُمْكِنِ الِامْتِثَالِ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَدَائِهَا حَالَةَ الْكُفْرِ، وَامْتِنَاعِ أَدَائِهَا بَعْدَ الْإِيمَانِ، لِكَوْنِهِ مُسْقِطًا لَهَا بِالْإِجْمَاعِ. وَمَا لَا يُمْكِنُ امْتِثَالُهُ فَالتَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. قُلْنَا: أَمَّا الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ بِتَقْدِيرِ تَكْلِيفِهِ بِالْفُرُوعِ حَالَةَ الْكُفْرِ أَنْ لَوْ كَانَ تَكْلِيفُهُ بِمَعْنَى إِلْزَامِهِ الْإِتْيَانَ بِهَا مَعَ الْكُفْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَأْتِ بِهَا مَعَ الْإِيمَانِ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ وَلَا إِحَالَةَ فِيهِ. وَبِهَذَا الْحَرْفِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْكَالِ الثَّانِي أَيْضًا. كَيْفَ وَأَنَّ الِامْتِثَالَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ أَنَّ الشَّارِعَ أَسْقَطَهُ تَرْغِيبًا فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» " وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ، حَيْثُ إِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِعْلَ مَا فَاتَهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ الرِّدَّةِ (1) . وَأَمَّا الْوُقُوعُ شَرْعًا فَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَالْحُكْمُ. أَمَّا النَّصُّ فَمِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: (وَمَا أُمِرُوا) عَائِدٌ إِلَى الْمَذْكُورِينَ أَوَّلًا وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ.   (1) أَيْ: أَوْجَبَ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ أَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ الْعَوْدَةِ لِلْإِسْلَامِ مَا فَاتَهُ زَمَنَ الرِّدَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى - وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} ذَمٌّ عَلَى تَرْكِ الْجَمِيعِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِالْكُلِّ لَمَا ذُمَّ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا - يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} حُكْمٌ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ عَلَى مَجْمُوعِ الْمَذْكُورِ وَالزِّنَى مِنْ جُمْلَتِهِ. وَلَوْلَا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ لَمَا أَثَّمَهُ بِهِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ نَفَى التَّكْلِيفَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَ مَنْ جَوَّزَ التَّكْلِيفَ بِالنَّهْيِ دُونَ الْأَمْرِ (1) . وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} وَالْكَافِرُ دَاخِلٌ فِيهِ لِكَوْنِهِ مِنَ النَّاسِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} لَكِنْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (2) وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ - قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ - وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} وَلَوْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ كُلِّفُوا بِالصَّلَاةِ لَمَا عُوقِبُوا عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ حِكَايَةُ قَوْلِ الْكُفَّارِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ حُجَّةً لَكِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ الْمُصَلِّينَ» " وَأَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ حَقِيقَةً، غَيْرَ أَنَّ الْعَذَابَ إِنَّمَا كَانَ لِتَكْذِيبِهِمْ بِيَوْمِ الدِّينِ، غَيْرَ أَنَّهُ غَلِطَ بِإِضَافَةِ تَرْكِ الطَّاعَاتِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُضَافًا إِلَى الصَّلَاةِ لَكِنْ لَا إِلَى تَرْكِهَا، بَلْ إِلَى إِخْرَاجِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْعِلْمِ بِقُبْحِ تَرْكِهَا بِتَرْكِ الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ لَكِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ تَرَكُوا الصَّلَاةَ حَالَةَ رِدَّتِهِمْ وَذَلِكَ مَحَلُّ الْوِفَاقِ.   (1) إِشَارَةً إِلَى قَوْلٍ ثَالِثٍ مِنَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ جَوَازُ التَّكْلِيفِ بِالنَّهْيِ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى النِّيَّةِ، وَمَنْعُ التَّكْلِيفِ بِالْأَمْرِ لِتَوَقُّفِ امْتِثَالِهِ عَلَى النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ وَنَحْوِهِ. (2) اسْتِدْرَاكٌ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِبَيَانِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّكَاةِ الطَّهَارَةُ مِنَ الشِّرْكِ لَا الصَّدَقَةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ حِكَايَةُ قَوْلِ الْكُفَّارِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَغَيْرِهِمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ تَصْدِيقُهُمْ فِيمَا قَالُوهُ وَالتَّحْذِيرُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ ذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَعْذِيبُهُمْ بِالتَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَقَدْ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَالْأَصْلُ اشْتِرَاكُ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ. وَعَنْ حَمْلِ لَفْظِ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُ لَفْظِ الصَّلَاةِ فَبِمَاذَا نَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ الْإِطْعَامُ الْوَاجِبُ لِاسْتِحَالَةِ - (1) - التَّعْذِيبِ عَلَى تَرْكِ إِطْعَامٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ بِتَغْلِيظِ عَذَابِ التَّكْذِيبِ بِإِضَافَةِ تَرْكِ الطَّاعَاتِ إِلَيْهِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُبَاحَةً لَمَا غُلِّظَ الْعَذَابُ بِهَا. وَعَنْ قَوْلِهِمْ بِالتَّعْذِيبِ بِإِخْرَاجِ أَنْفُسِهِمْ عَنِ الْعِلْمِ بِقُبْحِ تَرْكِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ كَافِرٍ ارْتَكَبَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يُبَاشِرْ شَيْئًا مِنْهَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِيمَا قِيلَ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَعَنِ الْحَمْلِ عَلَى صَلَاةِ الْمُرْتَدِّينَ أَنَّ الْآيَةَ بِلَفْظِهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ الْمُجْرِمِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: {يَتَسَاءَلُونَ - عَنِ الْمُجْرِمِينَ} وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمُرْتَدِّينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. هَذَا مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِلْزَامِ، فَهُوَ أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ شَرْطِ الْفِعْلِ - (2) - لَامْتَنَعَ التَّكْلِيفُ بِالصَّلَاةِ مَعَ عَدَمِ الطَّهَارَةِ، وَلَكَانَ مَنْ تَرَكَ الطَّهَارَةَ وَالصَّلَاةَ أَبَدًا لَا يُعَاقَبُ وَلَا يُذَمُّ إِلَّا عَلَى تَرْكِ الطَّهَارَةِ، بَلْ مَا لَا تَتِمُّ الطِّهَارَةُ إِلَّا بِهِ. وَذَلِكَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ التَّكْلِيفَ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ مِنَ الْفِعْلِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِمَا هُوَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ مِنَ الْفِعْلِ وَكَفِّ النَّفْسِ عَنِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ خِلَافًا لِأَبِي هَاشِمٍ - (3) - فِي قَوْلِهِ: إِنَّ التَّكْلِيفَ قَدْ يَكُونُ بِأَنْ لَا يَفْعَلَ الْعَبْدُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ التَّلَبُّسِ بِضِدِّ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِفِعْلٍ.   (1) أَيْ: فِي حِكْمَةِ اللَّهِ وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَتَبَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ تُفَضُّلًا وَإِحْسَانًا مِنْهُ إِلَيْهِمْ. (2) أَيْ: شَرْطُ صِحَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. (3) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ ص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 احْتَجَّ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنَّ مُمْتَثِلَ التَّكْلِيفِ مُطِيعٌ، وَالطَّاعَةُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّوَابِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وَلَا فِعْلَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لَا يَكُونُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَلَا مُتَعَلِّقِ الْقُدْرَةِ، وَمَا لَا يَكُونُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ مُثَابًا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ الْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا وُجُودِيًّا وَلَا ذَاتًا ثَابِتَةً، فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِهِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِثَالُ بِهِ طَاعَةً وَحَسَنَةً مُثَابًا عَلَيْهَا أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ وَمُكْتَسَبًا لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْلِمٍ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ (1) . قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: عَدَمُ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ قَبْلَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ (2) وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ قَبْلَ خَلْقِ قُدْرَتِهِ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ إِلَى مَا بَعْدَ خَلْقِ الْقُدْرَةِ، فَلَا يَكُونُ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ وَلَا مُكْتَسَبًا لَهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ. إِلَّا أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ، لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ عَدَمِ الْفِعْلِ السَّابِقِ عَلَى خَلْقِ الْقُدْرَةِ غَيْرَ مَقْدُورٍ أَنْ يَكُونَ الْمُقَارَنُ مِنْهُ مَقْدُورًا (3) . [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ حُدُوثِهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ حُدُوثِهِ سِوَى شُذُوذٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعَلَى امْتِنَاعِهِ بَعْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَعَلُّقِهِ بِهِ فِي أَوَّلِ زَمَانِ حُدُوثِهِ فَأَثْبَتَهُ أَصْحَابُنَا، وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ. احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْفِعْلَ فِي أَوَّلِ زَمَانِ حُدُوثِهِ مَقْدُورٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسَوَاءٌ قِيلَ بِتَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، أَمْ بِوُجُودِهَا مَعَ وُجُودِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا (4) وَإِذَا كَانَ مَقْدُورًا أَمْكَنَ تَعَلُّقُ التَّكْلِيفِ بِهِ:   (1) جَوَابُ قَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ. (2) مُرَادُهُمُ الْقُدْرَةُ الَّتِي بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ، لَا الَّتِي بِمَعْنَى تَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ. (3) بَلْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ الَّتِي بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ أَلَّا تَكُونَ مَقْدُورًا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَنَاطًا لِلتَّكْلِيفِ بِخِلَافِ الْقُدْرَةِ، بِمَعْنَى تَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ حَالَ عَدَمِ الْفِعْلِ، وَهِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ. (4) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 134. 8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِجَوَازِ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِهِ فِي أَوَّلِ زَمَانِ حُدُوثِهِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِإِيجَادِ الْمَوْجُودِ، وَهُوَ مُحَالٌ. قُلْنَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِإِيجَادِ مَا كَانَ مَوْجُودًا، أَوْ بِمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا. الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ. وَالثَّانِي، فَدَعْوَى إِحَالَتِهِ نَفْسُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ الْفِعْلُ فِي أَوَّلِ زَمَانِ حُدُوثِهِ أَثَرًا لِلْقُدْرَةِ الْقَدِيمَةِ، وَلَا لِلْحَادِثَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ (1) ، وَلَا مَوْجِدَةَ لَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيجَادِ الْمَوْجُودِ، وَهُوَ مُحَالٌ. فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ فِي إِيجَادِ الْقُدْرَةِ لَهُ فَهُوَ جَوَابُنَا فِي تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِهِ. [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ حكم النيابة في التكاليف] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ (2) . اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي جَوَازِ دُخُولِ النِّيَابَةِ فِيمَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْبَدَنِيَّةِ فَأَثْبَتَهُ أَصْحَابُنَا وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ. حُجَّةُ أَصْحَابِنَا عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ " أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ خِيَاطَةَ هَذَا الثَّوْبِ، فَإِنْ خِطْتَهُ أَوِ اسْتَنَبْتَ فِي خِيَاطَتِهِ أَثَبْتُكَ، وَإِنْ تَرَكْتَ الْأَمْرَيْنِ عَاقَبْتُكَ " كَانَ مَعْقُولًا غَيْرَ مَرْدُودٍ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَوُرُودُهُ مِنَ الشَّارِعِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا. وَيَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ «رَأَى شَخْصًا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ عَنْ شُبْرُمَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ، فَقَالَ: لَا، فَقَالَ لَهُ: حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ» " (3) . وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: وُجُوبُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إِنَّمَا كَانَ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْعَبْدِ، فَإِنَّهُ مَطْلُوبٌ لِلشَّارِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَقَهْرِهَا، لِكَوْنِهَا عَدُوَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ: " عَادِ نَفْسَكَ، فَإِنَّهَا   (1) مَذْهَبُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ، وَمَذْهَبٌ يَقُولُ: إِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلْعَبْدِ. (2) انْظُرْ شَرْحَ الطَّحَاوِيَّةِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَفِي دُعَاءِ الْأَحْيَاءِ، وَصَدَقَاتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لِلْأَمْوَاتِ، وَكِتَابَ الرُّوحِ الْمَسْأَلَةَ: 16، وَكِتَابَ الْمُوَافَقَاتِ، الْمَسْأَلَةَ السَّابِعَةَ مِنْ مَسَائِلِ النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ أَنْوَاعِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ (3) الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، لَكِنِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَرَجَّحَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَقْفَهُ، وَقَدْ تَصَرَّفَ الْمُؤَلِّفُ فِي مَتْنِ الْحَدِيثِ كَثِيرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 انْتَصَبَتْ لِمُعَادَاتِي تَحْصِيلًا لِلثَّوَابِ عَلَى ذَلِكَ. وَذَلِكَ مِمَّا لَا مَدْخَلَ لِلنِّيَابَةِ فِيهِ كَمَا لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي بَاقِي الصِّفَاتِ مِنَ الْآلَامِ وَاللَّذَّاتِ وَنَحْوِهَا. قُلْنَا: أَمَّا الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ بِالتَّكْلِيفِ لِمَا ذَكَرُوهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ تَعْيِينِ الْمُكَلَّفِ لِأَدَاءِ مَا كُلِّفَ بِهِ أَشَقَّ مِمَّا كُلِّفَ بِهِ مَعَ تَسْوِيغِ النِّيَابَةِ فِيهِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَرْفَعُ أَصْلَ الْكُلْفَةِ وَالِامْتِحَانِ فِيمَا سُوِّغَ لَهُ فِيهِ الِاسْتِنَابَةُ. فَإِنَّ الْمَشَقَّةَ لَازِمَةٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ بِهِ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْغَالِبُ وَبِمَا يَبْذُلُهُ مِنَ الْعِوَضِ لِلنَّائِبِ بِتَقْدِيرِ النِّيَابَةِ وَيَلْتَزِمُهُ مِنَ الْمِنَّةِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْعِوَضِ، وَلَيْسَ الْمُرَاعَى فِي بَابِ التَّكَالِيفِ أَشَقَّهَا وَأَعْلَاهَا رُتْبَةً وَلِذَلِكَ كَانَتْ مُتَفَاوِتَةً (1) . وَأَمَّا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلَيْسَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي مُقَابَلَةِ الْفِعْلِ، بَلْ إِنْ أَثَابَ فَبِفَضْلِهِ وَإِنْ عَاقَبَ فَبِعَدْلِهِ كَمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا، بَلْ لَهُ أَنْ يُثِيبَ الْعَاصِيَ وَيُعَاقِبَ الطَّائِعَ (2) [الْأَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى شَرْطَ الْمُكَلَّفِ] الْأَصْلُ الرَّابِعُ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ وَفِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُكَلَّفِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَاهِمًا لِلتَّكْلِيفِ ; لِأَنَّ التَّكْلِيفَ وَخِطَابَ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ وَلَا فَهْمَ مُحَالٌ كَالْجَمَادِ وَالْبَهِيمَةِ. وَمَنْ وُجِدَ لَهُ أَصْلُ الْفَهْمِ لِأَصْلِ الْخِطَابِ، دُونَ تَفَاصِيلِهِ مِنْ كَوْنِهِ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَمُقْتَضِيًا لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَمِنْ كَوْنِ الْآمِرِ بِهِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ وَاجِبُ الطَّاعَةِ، وَكَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَذَا وَكَذَا كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، فَهُوَ بِالنَّظَرِ إِلَى فَهْمِ التَّفَاصِيلِ كَالْجَمَادِ وَالْبَهِيمَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى فَهْمِ أَصْلِ الْخِطَابِ، وَيَتَعَذَّرُ تَكْلِيفُهُ أَيْضًا   (1) الْعِبَادَاتُ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهَا التَّعَبُّدُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَجُوزُ فِيهَا النِّيَابَةُ إِلَّا بِنَصٍّ عَنِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصْلُحُ فِيهَا الْقِيَاسُ (2) كَتَبَ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُثِيبَ الْمُطِيعَ فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً. وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الصَّادِقُ فِي خَبَرِهِ الَّذِي لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ، وَلَا يَظْلِمُ عَبْدَهُ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) ، انْظُرْ مَجْمُوعَ الْفَتَاوَى ج: 6 وَمُخْتَصِرَ الصَّوَاعِقِ الْمُرْسَلَةِ لِابْنِ الْقَيِّمِ ج: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَجُوزُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّكْلِيفِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِ أَصْلِ الْخِطَابِ، فَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فَهْمِ تَفَاصِيلِهِ (1) . وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ وَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ مَا لَا يَفْهَمُهُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَيْضًا غَيْرُ فَاهِمٍ عَلَى الْكَمَالِ مَا يَعْرِفُهُ كَامِلُ الْعَقْلِ مِنْ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا مُخَاطَبًا مُكَلَّفًا بِالْعِبَادَةِ وَمِنْ وُجُودِ الرَّسُولِ الصَّادِقِ الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَقْصُودُ التَّكْلِيفِ. فَنِسْبَتُهُ إِلَى غَيْرِ الْمُمَيِّزِ كَنِسْبَةِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ إِلَى الْبَهِيمَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِفَوَاتِ شَرْطِ التَّكْلِيفِ وَإِنْ كَانَ مُقَارِبًا لِحَالَةِ الْبُلُوغِ، بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبُلُوغِ سِوَى لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ. فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فَهْمُهُ كَفَهْمِهِ الْمُوجِبِ لِتَكْلِيفِهِ بَعْدَ لَحْظَةٍ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَقْلُ وَالْفَهْمُ فِيهِ خَفِيًّا، وَظُهُورُهُ فِيهِ عَلَى التَّدْرِيجِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ضَابِطٌ يُعْرَفُ بِهِ، جَعَلَ لَهُ الشَّارِعُ ضَابِطًا وَهُوَ الْبُلُوغُ، وَحَطَّ عَنْهُ التَّكْلِيفَ قَبْلَهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» " (2) . فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، فَكَيْفَ وَجَبَتْ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ وَالنَّفَقَاتُ وَالضَّمَانَاتُ، وَكَيْفَ أُمِرَ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ بِالصَّلَاةِ؟ قُلْنَا: هَذِهِ الْوَاجِبَاتُ لَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، بَلْ بِمَالِهِ أَوْ بِذِمَّتِهِ. فَإِنَّهُ أَهَّلٌ لِلذِّمَّةِ بِإِنْسَانِيَّتِهِ الْمُتَهَيِّئِ بِهَا لِقَبُولِ فَهْمِ الْخِطَابِ عِنْدَ الْبُلُوغِ، بِخِلَافِ الْبَهِيمَةِ وَالْمُتَوَلِّي لِأَدَائِهَا الْوَلِيُّ عَنْهُمَا، أَوْ هُمَا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ وَالْبُلُوغِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ الْمُمَيِّزَ فَلَيْسَ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ» " وَ (3) ، ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ الْوَلِيَّ وَيَفْهَمُ خِطَابَهُ بِخِلَافِ الشَّارِعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.   (1) مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَحْثُ فِي التَّكْلِيفِ الْمُحَالِ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَحْكُومِ فِيهِ الْبَحْثُ فِي التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَاضِحٌ لِمَنْ قَارَنَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَالتَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ يَرْجِعُ إِلَى اسْتِحَالَةِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، وَيُسَمَّى التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَالتَّكْلِيفُ الْمُحَالُ يَرْجِعُ إِلَى اسْتِحَالَةِ التَّكْلِيفِ نَفْسِهِ، لِعَدَمِ فَهْمِ الْخِطَابِ الْمُصَحَّحِ لِقَصْدِ مَا كُلِّفَ بِهِ كَتَكْلِيفِ الْمَجْنُونِ وَالْغَافِلِ وَنَحْوِهِمَا. (2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ عَنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. (3) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بِلَفْظِ: مُرُوا أَوْلَادَكُمْ. . إِلَخْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَعَلَى هَذَا فَالْغَافِلُ عَمَّا كُلِّفَ بِهِ، وَالسَّكْرَانُ الْمُتَخَبِّطُ لَا يَكُونُ خِطَابُهُ وَتَكْلِيفُهُ فِي حَالَةِ غَفْلَتِهِ وَسُكْرِهِ أَيْضًا، إِذْ هُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى فَهْمِ خِطَابِ الشَّارِعِ وَحُصُولِ مَقْصُودِهِ مِنْهُ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنَ الْغَرَامَاتِ وَالضَّمَانَاتِ بِفِعْلِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ. فَتَخْرِيجُهُ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَنُفُوذُ طَلَاقِ السَّكْرَانِ فَفِيهِ مَنْعُ خِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ، وَإِنْ نَفَذَ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ فِي شَيْءٍ، بَلْ مِنْ بَابِ مَا ثَبَتَ بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارُ يُجْعَلُ تَلْفُظُهُ بِالطَّلَاقِ عَلَامَةً عَلَى نُفُوذِهِ، كَمَا جُعِلَ زَوَالُ الشَّمْسِ وَطُلُوعُ الْهِلَالِ عَلَامَةً عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَالزِّنَى وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِنَهْيِ السَّكْرَانِ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ النَّهْيَ عَنِ الصَّلَاةِ حَالَةَ السُّكْرِ، بَلِ النَّهْيُ عَنِ السُّكْرِ فِي وَقْتِ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ. وَتَقْدِيرُهُ إِذَا أَرَدْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَسْكَرُوا. كَمَا يُقَالُ لِمَنْ أَرَادَ التَّهَجُّدَ: لَا تَقْرَبِ التَّهَجُّدَ وَأَنْتَ شَبْعَانُ. أَيْ لَا تَشْبَعْ إِذَا أَرَدْتَ التَّهَجُّدَ، حَتَّى لَا يَشْتَغِلَ عَلَيْكَ التَّهَجُّدُ. وَهُوَ وَإِنْ دَلَّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى عَدَمِ النَّهْيِ عَنِ السُّكْرِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، فَغَيْرُ مَانِعٍ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حَيْتُ لَمْ يَكُنِ الشُّرْبُ حَرَامًا وَإِنْ كَانَ وُرُودُهُ بَعْدَ التَّحْرِيمِ وَفِي حَالَةِ السُّكْرِ، لَكِنْ يَجِبُ حَمْلُ لَفْظِ السَّكْرَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى مَنْ دَبَّ الْخَمْرُ فِي شُئُونِهِ وَكَانَ ثَمِلًا نَشْوَانًا، وَأَصْلُ عَقْلِهِ ثَابِتٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُئَوِّلُ إِلَى السُّكْرِ غَالِبًا. وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يُئَوِّلُ إِلَيْهِ يَكُونُ تَجَوُّزًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} ; فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كَمَالِ التَّثَبُّتِ عَلَى مَا يُقَالُ إِذْ هُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ حَالَةَ الِانْتِشَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ وَالْفَهْمُ حَاصِلًا. وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ أَرَادَ فِعْلَ أَمْرٍ وَهُوَ غَضْبَانُ: لَا تَفْعَلْ حَتَّى تَعْلَمَ مَا تَفْعَلُ أَيْ حَتَّى يَزُولَ عَنْكَ الْغَضَبُ الْمَانِعُ مِنَ التَّثَبُّتِ عَلَى مَا تَفْعَلُ، وَإِنْ كَانَ عَقْلُهُ وَفَهْمُهُ حَاصِلًا. وَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ الْمَانِعِ مِنَ التَّكْلِيفِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ تَكْلِيفِ الْمَعْدُومِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (1) مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمَعْدُومِ، وَرُبَّمَا أَشْكَلَ فَهْمُ ذَلِكَ مَعَ إِحَالَتِنَا لِتَكْلِيفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَافِلِ وَالسَّكْرَانِ، لِعَدَمِ الْفَهْمِ لِلتَّكَالِيفِ. وَالْمَعْدُومُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، لِوُجُودِ أَصْلِ الْفَهْمِ فِي حَقِّهِمْ وَعَدَمِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي حَقِّ الْمَعْدُومِ، حَتَّى أَنْكَرَ ذَلِكَ جَمِيعُ الطَّوَائِفِ. وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّا لَا نَقُولُ بِكَوْنِ الْمَعْدُومِ مُكَلَّفًا بِالْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ حَالَةَ عَدَمِهِ بَلْ مَعْنَى كَوْنِهِ مُكَلَّفًا حَالَةَ الْعَدَمِ قِيَامُ الطَّلَبِ الْقَدِيمِ (2) بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لِلْفِعْلِ مِنَ الْمَعْدُومِ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِ وَتَهْيِئَتِهِ لِفَهْمِ الْخِطَابِ، فَإِذَا وَجَدُوا مُهَيَّأً لِلتَّكْلِيفِ صَارَ مُكَلَّفًا بِذَلِكَ الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ الْقَدِيمِ. فَإِنَّ الْوَالِدَ لَوْ وَصَّى عِنْدَ مَوْتِهِ لِمَنْ سَيُوجَدُ بَعْدَهُ مِنْ أَوْلَادِهِ بِوَصِيَّةٍ فَإِنَّ الْوَلَدَ - بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِ وَفَهْمِهِ - يَصِيرُ مُكَلَّفًا بِوَصِيَّةِ وَالِدِهِ حَتَّى إِنَّهُ يُوَصَفُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ بِتَقْدِيرِ الْمُخَالَفَةِ وَالِامْتِثَالِ. وَأَيْضًا فَإِنَّنَا فِي وَقْتِنَا هَذَا نُوصَفُ بِكَوْنِنَا مَأْمُورِينَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنْ كَانَ أَمْرُهُ فِي الْحَالِ مَعْدُومًا. وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِمَا وُجِدَ مِنْهُ مِنَ الْأَمْرِ حَالَ وُجُودِهِ. وَمِثْلُ هَذَا التَّكْلِيفِ ثَابِتٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِتَقْدِيرِ فَهْمِهِ أَيْضًا، بَلْ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُشْتَرَطَ فِي حَقِّهِ الْفَهْمُ لَا غَيْرَ، وَفِي حَقِّ الْمَعْدُومِ الْفَهْمُ وَالْوُجُودُ (3) . وَهَلْ يُسَمَّى التَّكْلِيفُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فِي الْأَزَلِ خِطَابًا لِلْمَعْدُومِ، وَأَمْرًا لَهُ عُرْفًا.   (1) انْظُرْ مَا ذُكِرَ فِي مُسْوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَقِيلٍ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الصَّبِيِّ بِشَرْطِ الْبُلُوغِ وَأَمْرَ الْمَجْنُونِ بِشَرْطِ الْإِفَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ الْمَعْدُومِ بِشَرْطِ الْوُجُودِ: ص 45. (2) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ نَفْسِيٌّ فَقَطْ، لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ إِنَّمَا التَّعَدُّدُ فِي مُتَعَلِّقِهِ مِنْ مُخْبَرٍ عَنْهُ، أَوْ مَطْلُوبٍ وَفِي تَعَلُّقِهِ بِذَلِكَ، وَقَدِيمٌ فَلَا يَتَكَلَّمُ عِنْدَهُمْ إِذَا شَاءَ، وَالصَّوَابُ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَأَنَّهُ بِصَوْتٍ وَحَرْفٍ، وَأَنَّهُ تَكَلَّمَ مَعَ مَنْ أَرَادَ مِنْ رُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَسَمِعُوا كَلَامَهُ حَقِيقَةً، وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ بِقَضَائِهِ، وَتَسْمَعُهُ مَلَائِكَتُهُ، وَسَيَتَكَلَّمُ مَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَلٌّ بِمَا يُنَاسِبُهُ. (3) إِذَنْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَمْنَعُوا تَكْلِيفَ الْمَعْدُومِ، كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَنَحْوِهِمْ، وَلِمَا ذَكَرُوا مِنَ الْعِلَّةِ أَوْ يُجَوِّزُوا تَكْلِيفَ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَنَحْوِهِمَا بِالتَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الْحَقُّ أَنَّهُ يُسَمَّى أَمْرًا وَلَا يُسَمَّى خِطَابًا. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ لِلْوَالِدِ إِذَا وَصَّى بِأَمْرٍ لِمَنْ سَيُوجَدُ مِنْ أَوْلَادِهِ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ أَنَّهُ أَمَرَ أَوْلَادَهُ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ خَاطَبَهُمْ. لَكِنَّ تَمَامَ فَهْمِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ، وَتَحْقِيقِ كَوْنِ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ. وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي الْكَلَامِيَّاتِ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْأُصُولِيِّ تَقْلِيدُ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ حكم تكليف الملجأ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُلْجَأِ إِلَى الْفِعْلِ بِالْإِكْرَاهِ، بِحَيْثُ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِهِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ إِيجَادًا وَعَدَمًا. وَالْحَقُّ أَنَّهُ إِذَا خَرَجَ بِالْإِكْرَاهِ إِلَى حَدِّ الِاضْطِرَارِ، وَصَارَ نِسْبَةُ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنَ الْفِعْلِ إِلَيْهِ نِسْبَةَ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ إِلَيْهِ أَنَّ تَكْلِيفَهُ بِهِ إِيجَادًا وَعَدَمًا غَيْرُ جَائِزٍ، إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عَقْلًا (1) ، لَكِنَّهُ مُمْتَنِعُ الْوُقُوعِ سَمْعًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» " (2) ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِرَفْعِ التَّكْلِيفِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْغَرَامَاتِ، فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ (3) . وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ الِاضْطِرَارِ فَهُوَ مُخْتَارٌ، وَتَكْلِيفُهُ جَائِزٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. وَأَمَّا الْخَاطِئُ فَغَيْرُ مُكَلِّفٍ إِجْمَاعًا فِيمَا هُوَ مُخْطِئٌ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» " الْحَدِيثَ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَكْلِيفِ الْحَائِضِ بِالصَّوْمِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْلِيفِ الْحَائِضِ بِالصَّوْمِ، فَنَفَاهُ أَصْحَابُنَا وَأَثْبَتَهُ آخَرُونَ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهَا مُكَلَّفَةً بِهِ بِتَقْدِيرِ زَوَالِ الْحَيْضِ الْمَانِعِ، فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهَا مُكَلَّفَةٌ بِالْإِتْيَانِ بِالصَّوْمِ حَالَ الْحَيْضِ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَحْكُومِ فِيهِ. (2) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ. (3) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 فِعْلَهَا لِلصَّوْمِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ حَرَامٌ وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَمَأْمُورًا بِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّضَادِّ الْمُمْتَنِعِ، إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ وَاجِبًا عَلَيْهَا، فَلِمَ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاؤُهُ؟ قُلْنَا: الْقَضَاءُ عِنْدَنَا إِنَّمَا يَجِبُ بِأَمْرٍ مُجَدِّدٍ فَلَا يَسْتَدْعِي أَمْرًا سَابِقًا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ قَضَاءً لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِدْرَاكِ مَصْلَحَةٍ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ مِنَ الصَّوْمِ، وَلَمْ يَجِبْ لِمَانِعِ الْحَيْضِ. [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْمُكَلَّفَ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ هَلْ يَعْلَمُ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ (1) . فِي أَنَّ الْمُكَلَّفَ بِالْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ هَلْ يَعْلَمُ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْآمِرُ لَهُ جَاهِلًا لِعَاقِبَةِ أَمْرِهِ وَأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِمَا كُلِّفَ بِهِ أَمْ لَا، كَأَمْرِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِخِيَاطَةِ الثَّوْبِ فِي الْغَدِ. وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْآمِرُ عَالِمًا بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ دُونَ الْمَأْمُورِ، كَأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّوْمِ لِزَيْدٍ فِي الْغَدِ. فَأَثْبَتَ ذَلِكَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ. احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّاعَاتِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمَعَاصِي مُتَحَقِّقٌ مَعَ جَهْلِ الْمُكَلَّفِ بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا وَيَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ مِنَ السَّلَفِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِينَ عَلَى أَنَّ كُلَّ بَالِغٍ عَاقِلٍ مَأْمُورٌ بِالطَّاعَاتِ مَنْهِيٌّ عَنِ الْمَعَاصِي قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِمَّا أُمِرَ بِهِ وَنُهِيَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ يُعَدُّ مُتَقَرِّبًا بِالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ فِي أَوْقَاتِهَا بِنِيَّةِ الْفَرْضِ وَأَنَّ الْمَانِعَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ بِالْحَبْسِ وَالصَّدِّ عَنْ فِعْلِهَا آثِمٌ عَاصٍ بِصَدِّهِ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ الشَّارِعِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ عَدَمِ النَّهْيِ وَالْأَمْرِ مُحَالٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مَعْلُومًا لَهُ فِي الْحَالِ لَتَعَذَّرَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ فِي الْوَاجِبَاتِ الْمُضَيِّقَةِ، لِاسْتِحَالَةِ الْعِلْمِ بِتَمَامِ التَّمَكُّنِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْوَقْتِ، وَهُوَ مُحَالٌ.   (1) انْظُرْ تَفْصِيلَ الْآرَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْأَصْلَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ رَأْيَهُ فِي مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ آخِرَ مَبَاحِثِ الْأَوَامِرِ ص 52 - 53 - 54 - 63 - 64 - 65 الطَّبْعَةُ الْأُولَى " مَطْبَعَةُ الْمَدَنِيِّ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 فَإِنْ قِيلَ لَا خَفَاءَ بِأَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ عَلَى شَرْطٍ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ وُقُوعُهُ حَالِيًّا كَمَا إِذَا قَالَ: صُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ مَوْجُودًا، أَوْ مَآلِيًّا كَمَا إِذَا قَالَ: صُمْ إِنْ صَعِدَتِ الشَّمْسُ غَدًا، أَوْ مَعْلُومَ الِانْتِفَاءِ كَمَا إِذَا قَالَ: صُمْ إِنِ اجْتَمَعَ الضِّدَّانِ وَهُوَ مُحَالٌ بَلِ الْأَوَّلُ أَمْرٌ مَشْرُوطٌ، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَعْلِيقُ الْأَمْرِ بِشَرْطٍ مُسْتَقْبَلٍ ; لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ حَاصِلًا مَعَ الْمَشْرُوطِ أَوْ قَبْلَهُ. وَالثَّانِي وَإِنْ كَانَ فِيهِ صِيغَةُ افْعَلْ فَلَيْسَ بِأَمْرٍ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَالْبَارِي تَعَالَى عَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ. فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِتَمَكُّنِ الْعَبْدِ مِمَّا كُلِّفَ بِهِ، وَأَنَّهُ سَيَأْتِي بِهِ فَهُوَ أَمْرُ جَزْمٍ لَا شَرْطَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِمَّا قِيلَ لَهُ: افْعَلْهُ، أَوْ لَا تَفْعَلْهُ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِلْعَبْدِ، لِتَجْوِيزِهِ عَدَمَ الشَّرْطِ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا، فَيَجِبُ حَمْلُ الْإِجْمَاعِ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى ظَنِّ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْمُكَلَّفِ بَقَاؤُهُ وَتَمَكُّنُهُ، لَا عَلَى يَقِينِ الْأَمْرِ وَالْعِلْمِ بِهِ. قُلْنَا: أَمَّا امْتِنَاعُ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِشَرْطٍ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ أَوِ الِانْتِفَاءِ عِنْدَ الْمَأْمُورِ، فَلَا نِزَاعَ فِيهِ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْآمِرِ دُونَ الْمَأْمُورِ. فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَمْرُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ بِفِعْلِ شَيْءٍ فِي الْغَدِ مَعَ عِلْمِهِ بِرَفْعِ ذَلِكَ فِي الْغَدِ عَنْهُ، اسْتِصْلَاحًا لِلْعَبْدِ بِاسْتِعْدَادِهِ فِي الْحَالِ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ، وَاشْتِغَالِهِ بِذَلِكَ عَنْ مَعَاصِيهِ أَوِ امْتِحَانِهِ بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْبِشْرِ وَالْكَرَاهَةِ حَتَّى يُثِيبَهُ عَلَى هَذَا، وَيُعَاقِبَهُ عَلَى هَذَا لَا لِقَصْدِ الْإِتْيَانِ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ أَوِ الِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْقُولًا مُفِيدًا، أَمْكَنَ مِثْلُهُ فِي أَمْرِ الْبَارِي تَعَالَى. قَوْلُهُمْ: إِنَّ شَرْطَ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ مُسَلَّمٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ اسْتِحَالَةِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ بِدُونِ شَرْطِهِ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْطَ الْمُتَأَخِّرَ عَنِ الْأَمْرِ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنَ الْفِعْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 لَيْسَ شَرْطًا فِي تَحَقُّقِ الْأَمْرِ وَقِيَامِهِ بِنَفْسِ الْأَمْرِ حَتَّى يُقَالَ بِتَأْخِيرِ شَرْطِ وُجُودِهِ عَنْ وُجُودِهِ بَلْ هُوَ شَرْطُ الِامْتِثَالِ. وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا لَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهُ عَلَى الِامْتِثَالِ كَمَا عُلِمَ مِنْ أَصْلِنَا. وَعَلَى هَذَا فَقَدَ بَطَلَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْعَبْدِ، وَوَجَبَ حَمْلُ الْإِجْمَاعِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى وُجُودِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً لَا عَلَى ظَنِّ وَجُودِهِ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْخَطَإِ فِي الظَّنِّ قَائِمٌ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الْإِجْمَاعِ. وَإِذَا عُرِفَ مَا حَقَّقْنَاهُ فَمَنْ أَفْسَدَ (1) صَوْمَ رَمَضَانَ بِالْوِقَاعِ ثُمَّ مَاتَ أَوْ جُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ صَوْمٍ وَاجِبٍ لَا يَتَعَرَّضُ لِلِانْقِطَاعِ فِي الْيَوْمِ، لَا لِعَدَمِ قِيَامِ الْأَمْرِ بِالصَّوْمِ وَوُجُوبِهِ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ الشُّرُوعُ فِي صَوْمِ يَوْمٍ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهَا تَحِيضُ فِيهِ وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إِنْ شَرَعَتْ فِي الصَّوْمِ أَوِ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَيْنِ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، ثُمَّ شَرَعَتْ وَمَاتَ فِي أَثْنَائِهَا حَنِثَ، وَلَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَلَا كَذَلِكَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا يَرِدُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.   (1) شُرُوعٌ فِي بَيَانِ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 [الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي بَيَانِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِهِ] [مُقَدِّمَةُ فِي بَيَانِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ] الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ فِي بَيَانِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامِهِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَأُصُولٍ أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي بَيَانِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ. فَنَقُولُ: كَمَا بَيَّنَّا فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى حَدَّ الدَّلِيلِ وَانْقِسَامَهُ إِلَى عَقْلِيٍّ وَشَرْعِيٍّ. وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا هَاهُنَا تَعْرِيفُ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ بَلِ الشَّرْعِيِّ. وَالْمُسَمَّى بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا هُوَ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ وَإِلَى مَا ظُنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَهُوَ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِدًا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ أَوْ لَا مِنْ جِهَتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُتْلَى، أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُتْلَى. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُتْلَى فَهُوَ الْكِتَابُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُتْلَى فَهُوَ السُّنَّةُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ عِصْمَةُ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ، أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ صُورَتُهُ بِحَمْلِ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي حُكْمٍ بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ، أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَهُوَ الْقِيَاسُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، فَهُوَ دَلِيلٌ لِظُهُورِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَنَا بِهِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ الْكِتَابُ ; لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشَرِّعِ لِلْأَحْكَامِ، وَالسُّنَّةُ مُخْبِرَةٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى وَحُكْمِهِ، وَمُسْتَنَدِ الْإِجْمَاعِ فَرَاجِعٌ إِلَيْهِمَا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِدْلَالُ، فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِمَعْقُولِ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ فَالنَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ أَصْلٌ، وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِدْلَالُ فَرْعٌ تَابِعٌ لَهُمَا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ مَا ظُنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ، فَكَشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، وَالِاسْتِحْسَانِ وَالْمُصْلِحَةِ الْمُرْسَلَةِ عَلَى مَا الْكَلَامُ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِمَّا يُسَمَّى دَلِيلًا شَرْعِيًّا] [الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا وَعَلِمْنَا أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ فهو حُجَّةٌ] الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِمَّا يُسَمَّى دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَلَمَّا بَانَ أَنَّهُ عَلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ، فَالنَّظَرُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا مِنْهُ مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخُصُوصِهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا. فَلْنَرْسُمْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَصْلًا، وَهِيَ سِتَّةُ أُصُولٍ. الْأَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ ; لِأَنَّهُ الْأَوَّلُ وَالْأَوْلَى بِتَقْدِيمِ النَّظَرِ فِيهِ (1) أَمَّا حَقِيقَةُ الْكِتَابِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ: هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكِتَابِ سِوَى الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْنَا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا مُتَوَاتِرًا بَلْ وَلَا بِعَدَمِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ غَايَتُهُ جَهْلُنَا بِوُجُودِ الْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا وَعَدَمِ عِلْمِنَا بِكَوْنِهِ قُرْآنًا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ تَوَاتُرِهِ، وَعِلْمُنَا بِوُجُودِهِ غَيْرُ مَأْخُوذٍ فِي حَقِيقَتِهِ، فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ فِي تَحْدِيدِهِ. وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ. فَقَوْلُنَا: (الْقُرْآنُ) احْتِرَازٌ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كُتُبًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَتْ هِيَ الْكِتَابَ الْمَعْهُودَ لَنَا الْمُحْتَجَّ بِهِ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَعْرِيفِهِ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنِ الْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَيْسَ بِمَتْلُوٍّ. وَقَوْلُنَا: (الْمُنَزَّلِ) احْتِرَازٌ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِكِتَابٍ، بَلِ الْكِتَابُ هُوَ الْكَلَامُ الْمُعَبِّرُ عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ، (2) وَلِذَلِكَ لَمْ نَقُلْ هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ وَلَمْ نَقُلْ هُوَ الْمُعْجِزُ ; لِأَنَّ الْمُعْجِزَ أَعَمُّ مِنَ الْكِتَابِ وَلَمْ نَقُلْ هُوَ الْكَلَامُ الْمُعْجِزُ ; لِأَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ الْآيَةَ وَبَعْضَ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً.   (1) تَقَدَّمَ بَيَانُ وَجْهِ الْأَوْلَوِيَّةِ عَقِبَ ذِكْرِهِ أَقْسَامَ الْأَدِلَّةِ. (2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى تَعْرِيفِ حَقِيقَةِ الْكِتَابِ (1) ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَهِيَ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى (2) اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْهُ آحَادًا كَمُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَغَيْرِهِ أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً، أَمْ لَا؟ فَنَفَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَثْبَتَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَنَى (3) عَلَيْهِ وُجُوبَ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ بِمَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ مِنْ قَوْلِهِ: " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ". وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَحُجَّتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُكَلَّفًا بِإِلْقَاءِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى طَائِفَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِقَوْلِهِمْ، وَمَنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِقَوْلِهِمْ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِمُ التَّوَافُقُ عَلَى عَدَمِ نَقْلِ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ. فَالرَّاوِي لَهُ إِذَا كَانَ وَاحِدًا إِنْ ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ فَقَدْ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. وَهَذَا بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذَا مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمْ إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ الْقُرْآنِ إِلَى عَدَدٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِقَوْلِهِمْ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ دَعْوَاهُ مَعَ أَنَّ حُفَّاظَ الْقُرْآنِ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ لِقِلَّتِهِمْ، وَأَنَّ جَمْعَهُ إِنَّمَا كَانَ   (1) كِتَابُ اللَّهِ أَوِ الْقُرْآنُ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي يَفْهَمُ الْمُرَادَ مِنْهَا الْأُمِّيُّونَ وَصِبْيَانُ الْكَتَاتِيبِ، وَتَعْرِيفُهُ بِمِثْلِ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِعُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ غُمُوضٍ احْتَاجُوا مَعَهُ إِلَى سُؤَالٍ وَجَوَابٍ، وَإِخْرَاجِ مَا يَجِبُ إِخْرَاجُهُ بِمَا فِيهِ مِنْ قُيُودٍ، فَمَا كَانَ أَغْنَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَكِنَّهَا الصِّنَاعَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ الْمُتَكَلَّفَةُ تَغَلْغَلَتْ فِي نُفُوسِ الْكَثِيرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. (2) انْظُرْ آخِرَ الْجُزْءِ: 13 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى، فَفِيهِ بَيَانُ ضَابِطِ الْمُتَوَاتِرِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، وَبَيَانُ مَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْهَا، وَمَا لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَمَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَمَا تَجُوزُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ. (3) بَيَانٌ لِثَمَرَةِ الْخِلَافِ بَيْنَ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بِطْرِيقِ تَلَقِّي آحَادِ آيَاتِهِ مِنَ الْآحَادِ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ مَصَاحِفُ الصَّحَابَةِ. وَلَوْ كَانَ قَدْ أَلْقَاهُ إِلَى جَمَاعَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَلِهَذَا أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِي الْبَسْمَلَةِ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَوْنَ الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ. سَلَّمْنَا وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ جَمْعٌ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ السُّكُوتُ عَنْ نَقْلِهِ عَلَى الْكُلِّ لِعِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ، وَإِذَا كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَقَدْ رَوَى مَا رَوَاهُ فَلَمْ يَقَعِ الِاتِّفَاقُ مِنَ الْكُلِّ عَلَى الْخَطَأِ بِالسُّكُوتِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ رِوَايَتِهِ لِذَلِكَ فِي مُصْحَفِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهُ. غَايَتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، لِعَدَمِ تَوَاتُرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ لِكَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمْكَنَ أَنْ (1) يَكُونُ لِكَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ قُرْآنًا، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُمَا احْتِمَالَانِ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ، وَهُوَ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالٍ مِنَ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ، وَأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ. إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهِ خَبَرًا رَاجِحٌ ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُ لَهُ مُوهِمٌ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَذْهَبًا لَهُ لَصَرَّحَ بِهِ، نَفْيًا لِلتَّلْبِيسِ عَنِ السَّامِعِ الْمُعْتَقِدِ كَوْنِهِ حُجَّةً مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا. وَالْجَوَابُ: أَمَّا وُجُوبُ إِلْقَائِهِ عَلَى عَدَدٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، فَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطْعًا، وَمَعَ عَدَمِ بُلُوغِهِ إِلَى مَنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ لَا يَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي تَصْدِيقِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ بُلُوغِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ أَنْ يَكُونَ الْحُفَّاظُ لِآحَادِ آيَاتِهِ كَذَلِكَ.   (1) سَقَطَ مِنْهُ حَرْفُ: لَا. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَمْكَنَ أَلَّا يَكُونَ إِلَخْ. فَإِنَّ الْمَعْنَى وَأَمْكَنَ أَلَّا يَكُونَ قُرْآنًا لِكَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَأَمَّا التَّوَقُّفُ فِي جَمْعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي كَوْنِهَا قُرْآنًا بَلْ فِي تَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا وَفِي طُولِهَا وَقِصَرِهَا. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَتْ بِهِ الْمَصَاحِفُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْآحَادِ فَلَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا كَانَ مُتَوَاتِرًا فَهُوَ مِنْهُ. وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ، إِنَّمَا كَانَ فِي وَضْعِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَا فِي كَوْنِهَا مِنَ الْقُرْآنِ. وَأَمَّا إِنْكَارُ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمْ يَكُنْ لِإِنْزَالِ هَذِهِ السُّوَرِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ لِإِجْرَائِهَا مُجْرَى الْقُرْآنِ فِي حُكْمِهِ. قَوْلُهُمْ: إِذَا رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَتَّفِقِ الْكُلُّ عَلَى الْخَطَأِ. قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ سُكُوتَ مَنْ سَكَتَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا (1) إِلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ (2) لِوُجُوبِ نَقْلِهِ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ قُلْنَا إِنَّ مَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ قُرْآنٌ، لَزِمَ ارْتِكَابُ مَنْ عَدَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ لِلْحَرَامِ بِالسُّكُوتِ. وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ ذَلِكَ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاوِي وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَدَاهُ مِنَ السَّاكِتِينَ وَبِتَقْدِيرِ (3) ارْتِكَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْحَرَامِ مَعَ كَوْنِهِ وَاحِدًا أَوْلَى مِنَ ارْتِكَابِ الْجَمَاعَةِ لَهُ، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ بَطَلَ قَوْلُهُمْ بِظُهُورِ صِدْقِهِ فِيمَا نَقَلَهُ مُعَارِضٌ، وَتَعَيَّنَ تَرَدُّدُ نَقْلِهِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمَذْهَبِ. قَوْلُهُمْ: حَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ رَاجِحٌ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ. قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ مَذْهَبًا لَصَرَّحَ بِهِ، نَفْيًا لِلتَّلْبِيسِ. قُلْنَا: أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ لَمْ يُصَرَّحْ بِكَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ (4) ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي مَا صَرَّحَ فِيهِ بِالْخَبَرِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِالِاتِّفَاقِ. كَيْفَ وَفِيهِ مُوَافَقَةُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ التَّتَابُعِ بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ، فَكَانَ أَوْلَى.   (1) أَيْ: عَادَةً. (2) لَيْسَ بِحَرَامٍ ; لِأَنَّ نَقْلَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَبِذَلِكَ يَمْتَنِعُ مَا فَرَّعْتَ عَلَى التَّحْرِيمِ. (3) فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ وَتَقْدِيرُ، وَيَكُونُ مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ " أَوْلَى ". (4) إِنْ أَرَادَ بِمَا لَمْ يُصَرَّحْ بِنِسْبَتِهِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْأَخْبَارِ، مَا يَعُمُّ الْأَحَادِيثَ النَّبَوِيَّةَ وَالْقُدْسِيَّةَ وَالْقِرَاءَاتِ الَّتِي نُقِلَتْ آحَادًا فَلَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَإِنْ أَرَادَ بِمَا لَمْ يُصَرَّحْ بِنِسْبَتِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَالْقُدْسِيَّةِ خَاصَّةً، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ فِيهِ عَلَى عَدَمِ الْحُجِّيَّةِ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هل البسملة من القرآن] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّسْمِيَةَ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهَا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، فَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ. لَكِنَّ مِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ حَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كُتِبَتْ مَعَ الْقُرْآنِ بِخَطِّ الْقُرْآنِ أَمْ لَا (1) . وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ الْقَوْلَيْنِ عَلَى أَنَّهَا هَلْ هِيَ آيَةٌ بِرَأْسِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، أَوْ هِيَ مَعَ أَوَّلِ آيَةٍ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ آيَةٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ. وَقَضَى بِتَخْطِئَةِ مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ، لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ لَهُ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ الْقَاطِعِ بِإِنْكَارِ ذَلِكَ. وَالْحُجَّةُ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ. وَلِذَلِكَ نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ لَا يَعْرِفُ خَتْمَ سُورَةٍ، وَابْتِدَاءَ أُخْرَى حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» "، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ حَيْثُ أُنْزِلَتْ. الثَّانِي: أَنَّهَا كَانَتْ تُكْتَبُ بِخَطِّ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى مَنْ كَتَبَهَا بِخَطِّ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ مَعَ تَخَشُّنِهِمْ فِي الدِّينِ وَتَحَرُّزِهِمْ فِي صِيَانَةِ الْقُرْآنِ عَمَّا لَيْسَ مِنْهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ أَثْبَتَ أَوَائِلَ السُّوَرِ وَالتَّعْشِيرَ وَالنَّقْطَ. وَذَلِكَ كُلُّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا حَيْثُ كُتِبَتْ مَعَ الْقُرْآنِ بِخَطِّ الْقُرْآنِ أَنَّهَا مِنْهُ. الثَّالِثُ: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " سَرَقَ الشَّيْطَانُ مِنَ النَّاسِ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ لَمَّا أَنْ تَرَكَ بَعْضُهُمْ قِرَاءَةَ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ "، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ.   (1) مَعْنَاهُ أَمْ لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يُشْتَرَطَ الْقَطْعُ فِي إِثْبَاتِهَا أَوْ لَا يُشْتَرَطَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوُجُوهِ الدَّالَّةِ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ بَلْ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا تَصْلُحُ لِلْإِثْبَاتِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهَا مِنَ الْقُرْآنِ حَيْثُ كُتِبَتْ مَعَهُ بَيَانًا شَافِيًا شَائِعًا قَاطِعًا لِلشَّكِّ، كَمَا فَعَلَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَلْيُثْبِتِ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ بِمَا نَقَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ. قُلْنَا: الِاخْتِلَافُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَقَعْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ التَّسْمِيَةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَطْعُ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي وَضْعِهَا آيَةً فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ وَالْقَطْعُ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ فِيهِ. وَلِهَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ مِنْ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ لِلْآخَرِ، كَمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي عَدَدِ الْآيَاتِ وَمَقَادِيرِهَا (1) . قَوْلُهُمْ كَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَانُ ذَلِكَ بَيَانًا قَاطِعًا لِلشَّكِّ. قُلْنَا: وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْقُرْآنِ لَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا بَيَانًا قَاطِعًا لِلشَّكِّ، كَمَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي التَّعَوُّذِ، بَلْ أَوْلَى مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّسْمِيَةَ مَكْتُوبَةٌ بِخَطِّ الْقُرْآنِ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ وَمُنَزَّلَةٌ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوهِمُ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَيَانِ بِخِلَافِ التَّعَوُّذِ. فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ فَهُوَ مُنْحَصِرٌ يُمْكِنُ بَيَانُهُ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ، فَلَا يُمْكِنُ بَيَانُهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ، فَلِهَذَا قِيلَ بِوُجُوبِ بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ دُونَ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ.   (1) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى كِتَابَتِهَا بَيْنَ كُلِّ سُورَتَيْنِ سِوَى مَا بَيْنَ الْأَنْفَالِ وَبَرَاءَةَ، وَأَنَّهَا نُقِلَتْ كِتَابَةً نَقْلًا مُتَوَاتِرًا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي قُرْآنِيَّتِهَا فَقَطْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كُتِبَتْ فِيهِ بَيْنَ سُورَتَيْنِ لَا فِي نَقْلِهَا، وَلَا فِي ثُبُوتِهَا قُرْآنًا فِي نَفْسِهَا، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَلِذَا لَمْ يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ مَنْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُفَسِّقْهُ بَلْ خَطَّأَهُ فَقَطْ. وَذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْقَوْلَيْنِ حَقٌ ; فَإِنَّهَا آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ فِي قِرَاءَةِ مَنْ فَصَلَ بِهَا بَيْنَ السُّورَتَيْنِ، وَلَيْسَتْ آيَةً مِنْهُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 قُلْنَا: نَحْنُ لَمْ نُوجِبْ بَيَانَ كُلِّ مَا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ، بَلْ إِنَّمَا أَوْجَبْنَا بَيَانَ مَا يَسْبِقُ إِلَى الْأَفْهَامِ أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ كَمَا فِي التَّسْمِيَةِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُنْحَصِرٌ، بَلْ هُوَ أَقَلُّ مِنْ بَيَانِ مَا هُوَ مِنَ الْقُرْآنِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ (1) مِنْ وَضْعِ (2) كَوْنِ التَّسْمِيَةِ آيَةً مَعَ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِالِاجْتِهَادِ وَالظَّنِّ. وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهَا آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ النَّمْلِ قَطْعًا أَنْ يُقَالَ (3) مِثْلُهُ فِي ثُبُوتِ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي التَّتَابُعِ مَعَ أَنَّهَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهَا مِنَ الْقُرْآنِ قَطْعًا وَلَا ظَنًّا. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ مُحْكَمَةٍ وَمُتَشَابِهَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ (4) الْقُرْآنُ مُشْتَمِلٌ عَلَى آيَاتٍ مُحْكَمَةٍ وَمُتَشَابِهَةٍ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (5) أَمَّا الْمُحْكَمُ فَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ، وَانْكَشَفَ كَشْفًا يُزِيلُ الْإِشْكَالَ وَيَرْفَعُ الِاحْتِمَالَ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُتَشَابِهُ الْمُقَابِلُ لَهُ مَا تَعَارَضَ فِيهِ الِاحْتِمَالُ إِمَّا بِجِهَةِ التَّسَاوِي كَالْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، لِاحْتِمَالِهِ زَمَنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ عَلَى السَّوِيَّةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ. وَقَوْلِهِ: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اللَّمْسِ بِالْيَدِ وَالْوَطْءِ، أَوْ لَا عَلَى جِهَةِ التَّسَاوِي كَالْأَسْمَاءِ الْمَجَازِيَّةِ، وَمَا ظَاهِرُهُ مُوهِمٌ لِلتَّشْبِيهِ، وَهُوَ مُفْتَقِرٌ   (1) جَوَابٌ عَمَّا فَرَّعَهُ عَلَى الشِّقِّ الثَّانِي (وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ فِي إِثْبَاتِ قُرْآنِيَّةِ الْبَسْمَلَةِ) مِنَ الْإِلْزَامِ بِوُجُوبِ تَتَابُعِ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. (2) كَلِمَةُ: وَضَعٍ، زَائِدَةٌ. (3) الْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ فَاعِلُ يَلْزَمُ (4) انْظُرْ مَبْحَثَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ فِي التَّدْمُرِيَّةِ (5) انْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ جَرِيرٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ لِهَذِهِ الْآيَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 إِلَى تَأْوِيلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} ، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} ، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ، وَنَحْوِهِ مِنَ الْكِنَايَاتِ وَالِاسْتِعَارَاتِ الْمُؤَوَّلَةِ بِتَأْوِيلَاتٍ مُنَاسِبَةٍ لِأَفْهَامِ الْعَرَبِ (1) . وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُتَشَابِهًا لِاشْتِبَاهِ مَعْنَاهُ عَلَى السَّامِعِ، وَهَذَا أَيْضًا مَوْجُودٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. الْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْمُحْكَمَ مَا انْتَظَمَ وَتَرَتَّبَ عَلَى وَجْهٍ يُفِيدُ إِمَّا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ، أَوْ مَعَ التَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ وَاخْتِلَافٍ فِيهِ، وَهَذَا أَيْضًا مُتَحَقِّقٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْمُقَابِلُ لَهُ مَا فَسَدَ نَظْمُهُ وَاخْتَلَّ لَفْظُهُ، وَيُقَالُ: فَاسِدٌ، لَا مُتَشَابِهٌ. وَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُجُودِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَرُبَّمَا قِيلَ: الْمُحْكَمُ مَا ثَبَتَ حُكْمُهُ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَنَحْوِهِ. وَالْمُتَشَابِهُ مَا كَانَ مِنَ الْقِصَصِ وَالْأَمْثَالِ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَمَّا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَعَنْ مُنَاسَبَةِ اللَّفْظِ لَهُ لُغَةً.   (1) لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَجْهٌ وَيَمِينٌ حَقِيقَةً عَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَإِسْنَادُهُمَا إِلَيْهِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ لَا تَجُوزُ فِيهِ. وَيَطْوِي سُبْحَانَهُ السَّمَاوَاتِ بِيَمِينِهِ، وَيَجِيءُ هُوَ نَفْسُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقِيقَةً عَلَى مَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ، وَجَاءَ إِسْنَادُ الْبَقَاءِ إِلَى الْوَجْهِ فِي الْآيَةِ عَلَى مَعْهُودِ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ، وَتَعْبِيرِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنْ بَقَاءِ الشَّيْءِ وَصِفَاتِهِ جَمِيعًا، وَاسْتِهْزَاءُ اللَّهِ وَمَكْرُهُ بِمَنِ اسْتَهْزَأَ بِأَوْلِيَائِهِ، وَسَخِرَ مِنْهُمْ وَمَكْرُهُ بِهِمْ حَقٌّ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِهِ مَعَ كَمَالِ عِلْمٍ بِمَا دَبَّرَ، وَإِحْكَامٍ لَهُ وَعَدْلٍ فِيهِ وَقُدْرَةٍ عَلَى الِانْتِقَامِ بِدُونِهِ، بِخِلَافِ عِبَادِهِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي مَكْرِهِمْ، وَتَدْبِيرِهِمْ قُصُورٌ وَضَعْفٌ فِي التَّنْفِيذِ، وَجَوْرٌ فِي الْخُصُومِ، وَعَجْزٌ عَنِ الِانْتِقَامِ بِدُونِهِ إِلَّا بِعِنَايَةٍ مِنَ اللَّهِ وَتَسْدِيدٍ لِعَبْدِهِ. فَمَنْ خَطَرَ بِفِكْرِهِ عِنْدَ تِلَاوَةِ نُصُوصِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ اسْتِلْزَامُهَا أَوْ إِيهَامُ ظَاهِرِهَا بِمَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ مِنْ تَشْبِيهٍ بِخَلْقِهِ فَذَلِكَ مِنْ سَقَمِ فِكْرِهِ، وَوُقُوفِهِ عِنْدَ مَعْهُودِ حِسِّهِ، وَقِيَاسِهِ رَبَّهُ عَلَى خَلْقِهِ، لَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَلَا مِنْ حَدِيثِ رَسُولِهِ فَشَبَّهَ أَوَّلًا. وَظَنَّ السُّوْءَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ ثَانِيًا، فَاعْتَقَدَ أَنَّ ظَاهِرَ مَا ثَبَتَ عَنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى التَّشْبِيهِ، وَاجْتَهَدَ فِي تَحْرِيفِهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا، وَتَأْوِيلِهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا ثَالِثًا، دُونَ بَيِّنَةٍ مِنَ اللَّهِ تَهْدِيهِ الطَّرِيقَ، فَانْتَهَى بِهِ التَّعَسُّفُ إِلَى التَّعْطِيلِ، وَنَفْيِ مَا رَضِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ، وَرَضِيَهُ لَهُ رَسُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْقُرْآنُ لَا يُتَصَوَّرُ اشْتِمَالُهُ عَلَى مَا لَا مَعْنَى لَهُ فِي نَفْسِهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْقُرْآنُ لَا يُتَصَوَّرُ اشْتِمَالُهُ عَلَى مَا لَا مَعْنَى لَهُ فِي نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ هَذَيَانًا وَنَقْصًا يَتَعَالَى كَلَامُ الرَّبِّ عَنْهُ خِلَافًا لِمَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ وَكَلَامُ الرَّبِّ تَعَالَى مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا لَا مَعْنَى لَهُ؟ كَحُرُوفِ الْمُعْجَمِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّورِ، إِذْ هِيَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ فِي اللُّغَةِ لِمَعْنًى، وَعَلَى التَّنَاقُضِ الَّذِي لَا يُفْهَمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} ، وَقَوْلُهُ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} ، وَعَلَى الزِّيَادَةِ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ، وَقَوْلُهُ: (كَامِلَةٌ) غَيْرُ مُفِيدٍ لِمَعْنًى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قُلْنَا: أَمَّا حُرُوفُ الْمُعْجَمِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهَا، بَلْ هِيَ أَسَامِي السُّورِ وَمُعَرِّفَةٌ لَهَا. وَأَمَّا التَّنَاقُضُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، إِذِ التَّنَاقُضُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اتِّحَادِ جِهَةِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَالزَّمَانِ، وَزَمَانُ إِيجَابِهِ وَسَلْبِهِ غَيْرُ مُتَّحِدٍ بَلْ مُخْتَلِفٌ. وَأَمَّا الزِّيَادَاتُ الْمَذْكُورَةُ فَهِيَ لِلتَّأْكِيدِ لَا أَنَّهَا غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى. فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا أَنَّ فِيهِ مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا لَا مَعْنَى لَهُ. وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ وَإِلَّا كَانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} عَائِدًا إِلَى جُمْلَةِ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ مَا عَلِمَهُ الرَّبُّ تَعَالَى مَعْلُومًا لَهُمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْيَدِ وَالْيَمِينِ وَالْوَجْهِ وَالرُّوحِ وَمَكْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى مَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْهُ فِي اللُّغَةِ، وَمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخِطَابَ بِالْقُرْآنِ كَمَا هُوَ مَعَ الْعَرَبِ فَهُوَ مَعَ الْعَجَمِ مَفْهُومٌ لَهُمْ (1) . قُلْنَا: مَنْ قَالَ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ (2) .، جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ فِي الْقُرْآنِ مَا لَهُ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلْمُخَاطَبِ وَلَا بَيَانَ لَهُ (3) .، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا لِكَوْنِهِ هَذَيَانًا. وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزِ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ الْقُرْآنِ عَنْ كَوْنِهِ بَيَانًا لِلنَّاسِ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَفْهُومٍ. وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَجُرُّ إِلَى عَدَمِ الْوُثُوقِ بِشَيْءٍ مِنْ أَخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَا مِنْ خَبَرٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ. وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلشَّرِيعَةِ مُطْلَقًا. وَأَجَابَ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى بِأَنَّ الْوَاوَ فِيهَا لِلْعَطْفِ (4) .، وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا (5) . فِي الْعَوْدِ إِلَى جُمْلَةِ الْمَذْكُورِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُعْدَ فِي تَخْصِيصِهِ بِإِخْرَاجِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْهُ، بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، الْمُحِيلِ لِعَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا بَاقِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَكُلُّهَا كِنَايَاتٌ وَتَجَوُّزَاتٌ مَفْهُومَةٌ لِلْعَرَبِ بِأَدِلَّةٍ صَارِفَةٍ إِلَيْهَا، عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلَامِيَّاتِ (6) [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الاختلاف في اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى أَلْفَاظٍ مَجَازِيَّةٍ وَكَلِمَاتٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى أَلْفَاظٍ مَجَازِيَّةٍ وَكَلِمَاتٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ. وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِمَا فِي الْقَاعِدَةِ الْأُولَى فِي " الْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ ".   (1) آيَاتُ الْقُرْآنِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْهَا الْعَجَمُ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ مِنَ النُّصُوصِ مُبَاشَرَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَفْهَمُوهَا بِتَفْسِيرِهَا لَهُمْ بِلُغَتِهِمْ، وَإِذَنْ لَا يَكُونُ الْعَيْبُ فِيهَا، وَلَكِنْ فِي تَصَوُّرِهِمْ. (2) 8 تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص: 151، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ جَوَّزَهُ عَقْلًا مَنَعَ وُقُوعَ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ عَادَةً، وَلِذَاتِهِ شَرْعًا، فَلَا يَتَأَتَّى عَدَمُ الْبَيَانِ فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ (3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص: 151، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ جَوَّزَهُ عَقْلًا مَنَعَ وُقُوعَ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ عَادَةً، وَلِذَاتِهِ شَرْعًا، فَلَا يَتَأَتَّى عَدَمُ الْبَيَانِ فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ (4) الْمَعْنَى صَحِيحٌ عَلَى الْعَطْفِ وَالِاسْتِئْنَافِ، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَى الْآيَةِ فِي التَّدْمُرِيَّةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَتَفْسِيرَ ابْنِ كَثِيرٍ (5) لَيْسَتِ الْجُمْلَةُ ظَاهِرَةً فِي عَوْدِ ضَمِيرِ، يَقُولُونَ: إِلَى اللَّهِ وَالرَّاسِخِينَ، بَلْ هِيَ صَرِيحَةٌ فِي عَوْدِهِ إِلَى الرَّاسِخِينَ ; لِأَنَّ جُمْلَةَ " كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا " مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، وَلَا يَتَأَتَّى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الْخَبَرِ عَنِ الرَّاسِخِينَ، ثَنَاءً عَلَيْهِمْ، فَكَانَ الْقُرْآنُ مُسْتَغْنِيًا فِي بَيَانِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ دَلِيلُ الْعَقْلِ كَانَ مِنْ تَضَافُرِ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ (6) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص: 166. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 [الْأَصْلُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ] [الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ] الْأَصْلُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الطَّرِيقَةِ، فَسُنَّةُ كُلِّ أَحَدٍ مَا عُهِدَتْ مِنْهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ، كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْحَمِيدَةِ أَوْ غَيْرِهَا. وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ نَافِلَةً مَنْقُولَةً عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَدْ تُطْلَقُ عَلَى مَا صَدَرَ عَنِ الرَّسُولِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا لَيْسَ بِمَتْلُوٍّ، وَلَا هُوَ مُعْجِزٌ وَلَا دَاخِلٌ فِي الْمُعْجِزِ، وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَقْوَالُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَفْعَالُهُ وَتَقَارِيرُهُ. أَمَّا الْأَقْوَالُ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّخْيِيرِ وَالْخَبَرِ وَجِهَاتِ دَلَالَتِهَا فَسَيَأْتِي إِيضَاحُهَا فِي الْأَصْلِ الرَّابِعِ الْمَخْصُوصِ بِبَيَانِ مَا تَشْتَرِكُ فِيهِ الْأَدِلَّةُ الْمَنْقُولَةُ الشَّرْعِيَّةُ. وَلْيَكُنِ الْبَيَانُ هَاهُنَا مَخْصُوصًا بِمَا يَخُصُّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتَّقَارِيرِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَخَمْسِ مَسَائِلَ. الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى (1) . فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَشَرْحِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ وَمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ مِنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْهُ مِنَ الْمَعَاصِي وَمَا فِيهِ الِاخْتِلَافُ أَمَّا قَبْلَ النُّبُوَّةِ، فَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمُ الْمَعْصِيَةُ كَبِيرَةً كَانَتْ أَوْ صَغِيرَةً، بَلْ وَلَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا إِرْسَالُ مَنْ أَسْلَمَ وَآمَنَ بَعْدَ كُفْرِهِ. وَذَهَبَتِ الرَّوَافِضُ إِلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْهُمْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ هَضْمَهُمْ فِي النُّفُوسِ وَاحْتِقَارَهُمْ وَالنُّفْرَةَ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ مِنْ بَعْثَةِ الرُّسُلِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَّا فِي الصَّغَائِرِ.   (1) انْظُرْ كِتَابَ النُّبُوَّاتِ ص 166 وج 2 مِنْ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَالْحَقُّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي ; لِأَنَّهُ لَا سَمْعَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ يَدُلُّ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَالْعَقْلُ دَلَالَتُهُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَوُجُوبِ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا أَبْطَلْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ. وَأَمَّا بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَالِاتِّفَاقُ مِنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ قَاطِبَةً عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْ تَعَمُّدِ كُلِّ مَا يُخِلُّ بِصِدْقِهِمْ فِيمَا دَلَّتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى صِدْقِهِمْ فِيهِ مِنْ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ، فَمَنَعَ مِنْهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُنَاقَضَةِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ الْقَاطِعَةِ. وَجَوَّزَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ مَا كَانَ مِنَ النِّسْيَانِ وَفَلَتَاتِ اللِّسَانِ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ التَّصْدِيقِ الْمَقْصُودِ بِالْمُعْجِزَةِ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْمَعَاصِي الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ الَّتِي لَا دَلَالَةَ لِلْمُعْجِزَةِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْهَا، فَمَا كَانَ مِنْهَا كُفْرًا فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ فِي عِصْمَتِهِمْ عَنْهُ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنِ الْأَزَارِقَةِ (1) . مِنَ الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ بَعْثَةِ نَبِيٍّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بَعْدَ نُبُوَّتِهِ، وَمَا نُقِلَ عَنِ الْفَضْلِيَّةِ (2) . مِنَ الْخَوَارِجِ أَنَّهُمْ قَضَوْا بِأَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ يُوجَدُ فَهُوَ كُفْرٌ مَعَ تَجْوِيزِهِمْ صُدُورَ الذُّنُوبِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَانَتْ كُفْرًا. وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْكَبَائِرِ أَوْ لَيْسَ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ مِنَ الْكَبَائِرِ فَقَدِ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ سِوَى الْحَشْوِيَّةِ (3) . وَمَنْ جَوَّزَ الْكُفْرَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْ تَعَمُّدِهِ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مُدْرِكَ الْعِصْمَةِ السَّمْعُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، أَوِ الْعَقْلُ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَنْ نِسْيَانٍ أَوْ تَأْوِيلٍ خَطَأٍ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى جَوَازِهِ سِوَى الرَّافِضَةِ.   (1) الْأَزَارِقَةُ فِرْقَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ، نُسِبُوا إِلَى رَئِيسِهِمْ نَافِعِ بْنِ الْأَزْرَقِ الْحَرُورِيِّ، خَرَجَ آخَرَ أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقُتِلَ سَنَةَ: 65 هـ (2) طَائِفَةٌ تُنْسَبُ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرَّقَاشِيِّ، وَقَدْ عَدَّهُ الشِّهْرَسْتَانِيُّ فِي رِجَالِ الْخَوَارِجِ، وَنَسَبَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي لِسَانِ الْمِيزَانِ إِلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا لِجَمْعِهِ بَيْنَ أُصُولِ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ (3) أَوَّلُ مَنِ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ: الْحَشْوِيَّةِ، عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حَشْوِيًّا. يُرِيدُ بِالْحَشْوِيَّةِ الْأُمِّيِّينَ، ثُمَّ صَارَ مَنْ يُقَدِّسُ الْعَقْلَ وَيُؤْثِرُهُ عَلَى النَّقْلِ كَالْمُعْتَزِلَةِ يَرْمُونَ بِهَا عُلَمَاءَ الْحَدِيثِ، كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَنَحْوِهِ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى فَاعِلِهِ بِالْخِسَّةِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ وَسُقُوطِ الْمُرُوءَةِ، كَسَرِقَةِ حَبَّةٍ أَوْ كِسْرَةٍ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْكَبِيرَةِ. وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، كَنَظْرَةٍ أَوْ كَلِمَةِ سَفَهٍ نَادِرَةٍ فِي حَالَةِ غَضَبٍ، فَقَدِ اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى جَوَازِهِ عَمْدًا وَسَهْوًا، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ مُطْلَقًا وَخِلَافًا لِلْجِبَائِيِّ (1) وَالنَّظَّامِ (2) . وَجَعْفَرٍ (3) . بْنِ مُبَشِّرٍ فِي الْعَمْدِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْكَلَامُ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ التَّفَاصِيلِ غَيْرُ بَالِغٍ مَبْلَغَ الْقَطْعِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الظُّنُونِ. وَالِاعْتِمَادُ فِيهِ عَلَى مَا يُسَاعِدُ فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَقَدْ أَتَيْنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهَا تَزْيِيفًا وَاخْتِيَارًا بِأَبْلَغِ بَيَانٍ، وَأَوْضَحِ بِرِهَانٍ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ، فَعَلَى النَّاظِرِ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا.   (1) الْجُبَّائِيَّةُ أَتْبَاعُ أَبِي عَلِيٍّ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيِّ نِسْبَةً إِلَى بَلَدِهِ، وَتُسَمَّى جِبَى تَابِعَةٌ لِخُوزِسْتَانَ كَانَ رَأْسًا فِي الِاعْتِزَالِ مَاتَ سَنَةَ 303 هـ. (2) النَّظَّامُ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَيَّارٍ الْمُعْتَزِلِيُّ رَأْسُ الْفِرْقَةِ النَّظَّامِيَّةِ مَاتَ مَا بَيْنَ: 221، 223 هـ (3) أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ عَدَّهُ الشَّهْرَسْتَانِيُّ مِنْ رِجَالِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ وَجَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ زَعِيمَا الْجَعْفَرِيَّةِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 [الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي مَعْنَى التَّأَسِّي وَالْمُتَابَعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ] الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي مَعْنَى التَّأَسِّي وَالْمُتَابَعَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ إِذِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِيمَا نَرُومُهُ مِنَ النَّظَرِ فِي مَسَائِلِ الْأَفْعَالِ. أَمَّا التَّأَسِّي بِالْغَيْرِ: فَقَدْ يَكُونُ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. أَمَّا التَّأَسِّي فِي الْفِعْلِ: فَهُوَ أَنْ تَفْعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ أَجْلِ فِعْلِهِ. فَقَوْلُنَا: (مِثْلَ فِعْلِهِ) لِأَنَّهُ لَا تَأَسِّيَ مَعَ اخْتِلَافِ صُورَةِ الْفِعْلِ، كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ. وَقَوْلُنَا: (عَلَى وَجْهِهِ) مَعْنَاهُ الْمُشَارَكَةُ فِي غَرَضِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَنِيَّتِهِ ; لِأَنَّهُ لَا تَأَسِّيَ مَعَ اخْتِلَافِ الْفِعْلَيْنِ فِي كَوْنِ أَحَدِهِمَا وَاجِبًا وَالْآخِرِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنِ اتَّحَدَتِ الصُّورَةُ. وَقَوْلُنَا: (مِنْ أَجْلِ فِعْلِهِ) لِأَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ فِعْلُ شَخْصَيْنِ فِي الصُّورَةِ وَالصِّفَةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَجْلِ الْآخَرِ، كَاتِّفَاقِ جَمَاعَةٍ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا أَوْ صَوْمِ رَمَضَانَ اتِّبَاعًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ بِتَأَسِّي الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ. وَعَلَى هَذَا، فَلَوْ وَقَعَ فِعْلُهُ فِي مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْمُتَابَعَةِ وَالتَّأَسِّي. وَسَوَاءٌ تَكَرَّرَ أَوْ لَمْ يَتَكَرَّرْ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِ الْعِبَادَةِ بِهِ، كَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِعَرَفَاتٍ، وَاخْتِصَاصِ الصَّلَوَاتِ بِأَوْقَاتِهَا وَصَوْمِ رَمَضَانَ. وَأَمَّا التَّأَسِّي فِي التَّرْكِ، فَهُوَ تَرْكُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ مِثْلَ مَا تَرَكَ الْآخَرُ مِنَ الْأَفْعَالِ عَلَى وَجْهِهِ وَصِفَتِهِ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ تَرَكَ. وَلَا يَخْفَى وَجْهُ مَا فِيهِ مِنَ الْقُيُودِ. وَأَمَّا الْمُتَابَعَةُ، فَقَدْ تَكُونُ فِي الْقَوْلِ وَقَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَاتِّبَاعُ الْقَوْلِ هُوَ امْتِثَالُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَاهُ الْقَوْلُ. وَالِاتِّبَاعُ فِي الْفِعْلِ هُوَ التَّأَسِّي بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الْمُوَافَقَةُ، فَمُشَارَكَةُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لِلْآخَرِ فِي صُورَةِ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ أَوِ اعْتِقَادِ ذَلِكَ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْآخَرِ أَوْ لَا مِنْ أَجْلِهِ. وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ، فَقَدْ تَكُونُ فِي الْقَوْلِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَالْمُخَالَفَةُ فِي الْقَوْلِ تَرْكُ امْتِثَالِ مَا اقْتَضَاهُ الْقَوْلُ. وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ فِي الْفِعْلِ، فَهُوَ الْعُدُولُ عَنْ فِعْلِ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ الْغَيْرُ مَعَ وُجُوبِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا وَلَمْ يُجِبْ عَلَى غَيْرِهِ مِثْلَ فِعْلِهِ لَا يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ مُخَالِفٌ فِي الْفِعْلِ، بِتَقْدِيرِ التَّرْكِ. وَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنِ الْحَائِضُ مُخَالِفَةً بِتَرْكِ الصَّلَاةِ لِغَيْرِهَا. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى وُجُوهُ الْمُخَالَفَةِ فِي التَّرْكِ. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا أَرَدْنَاهُ مِنْ ذِكْرِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى أَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ هِيَ دَلِيلٌ لِشَرْعٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، هَلْ هِيَ دَلِيلٌ لِشَرْعٍ مِثْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا أَمْ لَا؟ وَقَبْلَ النَّظَرِ فِي الْحِجَاجِ لَا بُدَّ مِنْ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَنَقُولُ: أَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْجِبِلِّيَّةِ كَالْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَنَحْوِهِ، فَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى أُمَّتِهِ. وَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ، مِمَّا ثَبَتَ كَوْنُهُ مِنْ خَوَاصِّهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِيهِ إِجْمَاعًا. وَذَلِكَ كَاخْتِصَاصِهِ بِوُجُوبِ الضُّحَى وَالْأَضْحَى وَالْوِتَرِ وَالتَّهَجُّدِ بِاللَّيْلِ وَالْمُشَاوَرَةِ وَالتَّخْيِيرِ لِنِسَائِهِ، وَكَاخْتِصَاصِهِ بِإِبَاحَةِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ، وَصَفِيَّةِ الْمَغْنَمِ، وَالِاسْتِبْدَادِ (1) بِخُمْسِ الْخُمْسِ، وَدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامِ، وَالزِّيَادَةِ فِي النِّكَاحِ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ (2) . وَأَمَّا مَا عُرِفَ كَوْنُ فِعْلِهِ بَيَانًا لَنَا، فَهُوَ دَلِيلٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَذَلِكَ إِمَّا بِصَرِيحِ مَقَالِهِ كَقَوْلِهِ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» «وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ". أَوْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ أَوْ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ أَوْ مُطْلَقٌ أُرِيدَ بِهِ التَّقْيِيدُ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ قَبْلَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، ثُمَّ فَعَلَ عِنْدَ الْحَاجَةِ فِعْلًا صَالِحًا لِلْبَيَانِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا حَتَّى لَا يَكُونَ مُؤَخَّرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ كَقَطْعِهِ يَدَ السَّارِقِ مِنَ الْكُوعِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، وَكَتَيَمُّمِهِ   (1) فِي التَّعْبِيرِ بِالِاسْتِبْدَادِ جَفْوَةٌ وَسُوءُ أَدَبٍ، وَخَاصَّةً فِي جَانِبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (2) فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ نَظَرٌ كَالْمُشَاوَرَةِ، فَإِنَّ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَقْتَدِيَ بِهِ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} ، وَنَحْوِهِ. وَالْبَيَانُ تَابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلْبَيَانِ لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا فَإِمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ. فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ فِعْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّنَا، كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ خَيْرَانَ وَالْحَنَابِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ إِلَى أَنَّهُ لِلنَّدْبِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بِالْوَقْفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ كَالصَّيْرَفِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَأَمَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيهِ عَلَى نَحْوِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ غَيْرَ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ فِيهِ أَبْعَدُ مِمَّا ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، وَالْوَقْفُ وَالْإِبَاحَةُ أَقْرَبُ. وَبَعْضُ مَنْ جَوَّزَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَعَاصِي قَالَ: إِنَّهَا عَلَى الْخَطَرِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قُصِدَ بِهِ بَيَانُ خِطَابٍ سَابِقٍ فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَهُوَ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ لَا غَيْرَ، وَأَنَّ الْإِبَاحَةَ وَهِيَ اسْتِوَاءُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ خَارِجَةٌ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ. وَمَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، فَهُوَ دَلِيلٌ فِي حَقِّهِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، وَهُوَ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ، لَا غَيْرَ وَكَذَلِكَ عَنْ أُمَّتِهِ. وَأَمَّا (1) إِذَا ظَهَرَ مِنْ فِعْلِهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ ; فَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَالْفِعْلُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَيْهِ.   (1) فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: أَمَّا، أَوْ فَأَمَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَأَمَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ الْوَاجِبُ مِنَ الذَّمِّ عَلَى التَّرْكِ، وَمَا اخْتَصَّ بِهِ الْمَنْدُوبُ مِنْ عَدَمِ اللَّوْمِ عَلَى التَّرْكِ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ فِعْلِهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ فَهُوَ، وَإِنْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِهَا مِنْ آحَادِ عُدُولِ الْمُسْلِمِينَ نَادِرٌ، فَكَيْفَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. بَلِ الْغَالِبُ مِنْ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً، وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ فِعْلٍ مِنْ آحَادِ أَفْعَالِهِ، إِلَّا وَاحْتِمَالُ دُخُولِهِ تَحْتَ الْغَالِبِ أَغْلَبُ. وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً وَلَا مَنْهِيًّا عَنْهُ، فَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْكُلِّ إِنَّمَا هُوَ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ دُونَ التَّرْكِ، وَالْفِعْلُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا اخْتَصَّ بِهِ الْوُجُوبُ وَالنَّدْبُ عَنِ الْمُبَاحِ مِنْ تَرَجُّحِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَمَا اخْتَصَّ بِهِ الْمُبَاحُ عَنْهُمَا مِنَ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ. هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُمَّتِهِ؛ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدِ اخْتُصَّ عَنْهُمْ بِخَصَائِصَ لَا يُشَارِكُونَهُ غَيْرَ أَنَّهَا نَادِرَةٌ، بَلْ أَنْدَرُ مِنَ النَّادِرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمُشْتَرَكِ فِيهَا. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَمَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأَفْعَالِ إِلَّا وَاحْتِمَالُ مُشَارَكَةِ الْأُمَّةِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ أَغْلَبُ مِنَ احْتِمَالِ عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ إِدْرَاجًا لِلنَّادِرِ تَحْتَ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ فَكَانَتِ الْمُشَارَكَةُ أَظْهَرُ. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ وَتَقْرِيرِ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ، وَوَجْهِ الِانْفِصَالِ عَنْهَا. وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ، فَمِنْ جِهَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ، فَمِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} أَمْرٌ بِمُتَابَعَتِهِ، وَمُتَابَعَتُهُ امْتِثَالُ الْقَوْلِ وَالْإِتْيَانُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ. وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَالتَّحْذِيرُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَاسْمُ الْأَمْرِ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَرَكَ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ. فَكَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْفِعْلِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، وَفِعْلُهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْتِي بِهِ، فَكَانَ الْأَخْذُ بِهِ وَاجِبًا. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوُةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ، وَهَذَا زَجْرٌ فِي طَيِّ أَمْرٍ. وَتَقْدِيرُهُ: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلَهُ فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، وَمَنْ لَمْ يَتَأَسَّ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} ، وَمَحَبَّةُ اللَّهِ وَاجِبَةٌ وَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَازِمَةٌ لِمَحَبَّةِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ، وَيَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أَمْرٌ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ، وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ. وَمَنْ أَتَى بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ عَلَى قَصْدِ إِعْظَامِهِ، فَهُوَ مُطِيعٌ لَهُ وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ تَشْرِيعٌ وَوَاجِبُ الِاتِّبَاعِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ تَزْوِيجُهُ مُزِيلًا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَرَجَ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ «خَلَعُوا نِعَالَهُمْ فِي الصَّلَاةِ لَمَّا خَلَعَ نَعْلَهُ» ، فَفَهِمُوا وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ لَهُ فِي فِعْلِهِ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ عِلَّةَ انْفِرَادِهِ بِذَلِكَ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، وَلَمْ يَفْسَخْ.، فَقَالُوا لَهُ: " مَا لَكَ أَمَرْتَنَا بِفَسْخِ الْحَجِّ وَلَمْ تَفْسَخْ» " فَفَهِمُوا أَنَّ حُكْمَهُمْ كَحُكْمِهِ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: " لِي حُكْمِي وَلَكُمْ حُكْمُكُمْ بَلْ أَبْدَى عُذْرًا يَخْتَصُّ بِهِ ". وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنَّهُ نَهَى الصَّحَابَةَ عَنِ الْوِصَالِ فِي الصَّوْمِ وَوَاصَلَ، فَقَالُوا لَهُ: " «نَهَيْتَنَا عَنِ الْوِصَالِ، وَوَاصَلْتَ " فَقَالَ: " لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» " فَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَا فَهِمُوهُ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ لَهُ فِي الْحُكْمِ، وَاعْتَذَرَ بِعُذْرٍ يَخْتَصُّ بِهِ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا «سَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ، فَقَالَ لَهَا: " لِمَ لَمْ تَقُولِي لَهُمْ إِنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟ !» وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّبَعًا فِي أَفْعَالِهِ لَمَا كَانَ لِذَلِكَ مَعْنًى. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمَّا «سَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ عَنْ بَلِّ الشَّعْرِ فِي الِاغْتِسَالِ، قَالَ: " أَمَّا أَنَا فَيَكْفِينِي أَنْ أَحْثُوَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ» " وَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا لَهَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ مُتَّبَعٌ فِي فِعْلِهِ لَمَا كَانَ جَوَابًا لَهَا. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ «أَنَّهُ أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِالتَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ وَالذَّبْحِ، فَتَوَقَّفُوا فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ بِأَنْ يَخْرُجَ وَيَحْلِقَ، فَفَعَلَ ذَلِكَ فَذَبَحُوا وَحَلَقُوا» ، وَلَوْلَا أَنَّ فِعْلَهُ مُتَّبَعٌ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ، فَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا «اخْتَلَفُوا فِي الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ أَنْفَذَ عُمَرُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: " فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ وَاغْتَسَلْنَا» "، فَأَخَذَ عُمَرُ وَالنَّاسُ بِذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّ فِعْلَهُ مُتَّبَعٌ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيَقُولُ: " «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنَّنِي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُقَبِّلُكَ لَمَا قَبَّلْتُكَ» "، وَكَانَ ذَلِكَ شَائِعًا فِيمَا بَيْنُ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَى اتِّبَاعِهِ فِي فِعْلِهِ (1) . وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ فِعْلَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْفِعْلِ عَلَيْنَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ مُوجِبًا، وَالْحَمْلُ عَلَى الْإِيجَابِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْنِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ خَمْسٍ مِنْ يَوْمٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَةُ الْكُلِّ حَذَرًا مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْوَاجِبِ. وَكَذَلِكَ مَنْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ نَسِيَهَا، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ جَمِيعُهُنَّ نَظَرًا إِلَى الِاحْتِيَاطِ.   (1) أَخَذَ الْمُؤَلِّفُ مِنْ كُلِّ حَدِيثٍ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي فِعْلِهِ مَوْضِعَ الِاسْتِدْلَالِ، وَتَصَرَّفَ فِي مَتْنِهِ فَمَنْ أَرَادَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ كَامِلَةً بِنَصِّهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى دَوَاوِينِ السُّنَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الثَّانِي أَنَّ النُّبُوَّةَ مِنَ الرُّتَبِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَوْصَافِ السَّنِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الْعَظِيمِ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ أَتَمِّ الْأُمُورِ فِي تَعْظِيمِهِ، وَإِجْلَالِهِ وَأَنَّ عَدَمَ مُتَابَعَتِهِ فِي أَفْعَالِهِ بِأَنْ صَلَّى وَهُمْ جُلُوسٌ أَوْ قَامَ يَطُوفُ وَهُمْ يَتَسَامَرُونَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمُورِ فِي إِسْقَاطِ حُرْمَتِهِ وَالْإِخْلَالِ بِعَظَمَتِهِ، وَهُوَ حَرَامٌ مُمْتَنِعٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَفْعَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمَةٌ مَقَامَ أَقْوَالِهِ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَتَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَكَانَ فِعْلُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْوُجُوبِ كَالْقَوْلِ. الرَّابِعُ: أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَصَوَابًا، وَتَرْكُ الْحَقِّ وَالصَّوَابِ يَكُونُ خَطَأً وَبَاطِلًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ فِعْلَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَظْهَرُ مِنَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَا يَخْتَارُ لِنَفْسِهِ سِوَى الْأَكْمَلِ وَالْأَفْضَلِ، وَالْوَاجِبُ أَكْمَلُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِذَا كَانَ وَاجِبًا فَيَجِبُ اعْتِقَادُ مُشَارَكَةِ الْأُمَّةِ لَهُ فِيهِ لِمَا قَرَّرْتُمُوهُ فِي طَرِيقَتِكُمْ. وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالنَّدْبِ فَنَقْلِيَّةٌ وَعَقْلِيَّةٌ أَيْضًا. أَمَّا النَّقْلِيَّةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} جُعِلَ التَّأَسِّي بِهِ حَسَنَةً، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْحَسَنَةِ الْمَنْدُوبُ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، وَمَا زَادَ فَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ. وَأَمَّا الْعَقْلِيَّةُ: فَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا حَسَنَةً وَالْحَسَنَةُ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ، وَحَمْلُهُ عَلَى فِعْلِ الْمَنْدُوبِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ غَالِبَ أَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ هِيَ الْمَنْدُوبَاتِ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ مَنْدُوبٌ وَزِيَادَةٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْدُوبٍ وَاجِبًا. فَكَانَ فِعْلُ الْمَنْدُوبِ لِعُمُومِهِ أَغْلَبَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ مُشَارَكَةُ أُمَّتِهِ لَهُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي طَرِيقَتِكُمْ. وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ فَهِيَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَفْعَالِ كُلِّهَا إِنَّمَا هُوَ الْإِبَاحَةُ وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَغْيِيرِهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمُغَيَّرِ. وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: فِعْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 يَكُونَ خَاصًّا بِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَكُونَ خَاصًّا بِهِ. وَمَا لَيْسَ خَاصًّا بِهِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ، وَالْفِعْلُ لَا صِيغَةَ لَهُ لِيَدُلَّ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ فَلَزِمَ الْوَقْفُ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّعْيِينِ. وَالْجَوَابُ عَنْ شُبَهِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ. أَمَّا عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: " فَاتَّبِعُوهُ " يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ (1) وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: " فَاتَّبِعُوهُ " صَرِيحٌ فِي اتِّبَاعِ شَخْصِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الْمُتَابَعَةِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَالْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ فَتَمْتَنِعُ الزِّيَادَةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَقَدْ أَمْكَنَ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِإِضْمَارِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ إِضْمَارُ الْمُتَابَعَةِ فِي الْفِعْلِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ، بَلْ إِضْمَارُ الْمُتَابَعَةِ فِي الْقَوْلِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفًا فِي الْفِعْلِ (2) . كَيْفَ وَأَنَّ الْمُتَابَعَةَ فِي الْفِعْلِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُهَا، أَنْ لَوْ عَلِمَ كَوْنَ الْفِعْلِ الْمُتَّبَعِ وَاجِبًا، وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَاجِبٍ، فَمُتَابَعَةُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً وَلَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُ فِعْلِهِ وَاجِبًا فَلَا تَكُونُ مُتَابَعَتُهُ وَاجِبَةً.   (1) الْأَدِلَّةُ مُتَضَافِرَةٌ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّشْرِيعِ فِعْلًا كَانَ أَوْ قَوْلًا، أَمْرًا أَوْ نَهْيًا، إِيمَانًا بِهِ وَتَسْلِيمًا لَهُ، وَعَمَلًا بِمُقْتَضَاهُ، إِلَّا أَنَّ الْمُتَّبَعَ فِيهِ مِنَ التَّشْرِيعِ لَيْسَ وِزَانًا وَاحِدًا فِي حُكْمِهِ، بَلْ جُزْئِيَّاتُهُ مُتَفَاوِتَةٌ فِي الرُّتْبَةِ فَمِنْهُ الْمَطْلُوبُ وَالْمَمْنُوعُ وَالْمُبَاحُ، فَكَانَ وَاجِبًا اتِّبَاعُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَتْهُ الْأَدِلَّةُ التَّفْصِيلِيَّةُ، بِإِيجَابِ الْوَاجِبِ، وَنَدْبِ الْمَنْدُوبِ وَالْعَمَلِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي دَرَجَتِهِ، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْمُبَاحِ بِفِعْلِهِ تَارَةً وَتَرْكِهِ تَارَةً أُخْرَى، وَمَنْعِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوِهِ، وَتَجَنُّبِ كُلٍّ مِنْهُمَا حَسَبَ دَرَجَتِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ الْأَمْرُ ظَاهِرٌ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ وَالْإِجْمَالِ، إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَّبَعِ فِيهِ، فَلْيُرْجَعْ فِي بَيَانِ دَرَجَتِهِ إِلَى الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ ; لِيَنْزِلَ عَلَى ضَوْئِهَا كُلُّ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ مَنْزِلَتَهُ، وَهُوَ شَبِيهٌ فِي الْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ". الْآيَةَ. انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ السَّادِسَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ لِلشَّاطِبِيِّ. (2) لَيْسَ صَرِيحًا فِي اتِّبَاعِ شَخْصِهِ، بَلْ سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ صِرَاطِ اللَّهِ، وَمُتَابَعَةِ كِتَابِهِ وَرَسُولِهِ عُمُومًا، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الْأُخْرَى، قَالَ تَعَالَى: " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ " الْآيَةَ. وَقَالَ " (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) " وَقَالَ " (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا) " الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: " (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ، أَنْ يُقَالَ اسْمُ الْأَمْرِ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ لَكِنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الشَّأْنُ وَالصِّفَةُ (1) نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ لِكَوْنِهِمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَفْظُ الْأَمْرِ الْمُحَذَّرِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ يَكُونُ مُطْلَقًا (2) ، وَالْمُطْلَقُ إِذَا عُمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً ضَرُورَةَ تَوْفِيَةِ الْعَمَلِ بِدَلَالَتِهِ. وَقَدْ عَمِلَ بِهِ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، فَلَا يَبْقَى حُجَّةً فِي الْفِعْلِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَاطِئٍ وَلَكِنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَمُخْتَلَفٌ فِي الْفِعْلِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ دُونَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ أَوْلَى. أَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ، لَكِنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا (3) وَعِنْدَ ذَلِكَ إِنْ قِيلَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ مَدْلُولَاتِهِ فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ، وَإِنْ قِيلَ بِحَمْلِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ، فَالتَّحْذِيرُ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْمُحَذَّرِ مِنْهُ وَاجِبًا لِاسْتِحَالَةِ التَّحْذِيرِ مِنْ تَرْكِ مَا لَيْسَ وَاجِبًا. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْفِعْلِ يَسْتَدْعِي وُجُوبَ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَوُجُوبُهُ إِذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنَ التَّحْذِيرِ كَانَ دَوْرًا. كَيْفَ وَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ دُعَاءِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} ، وَالْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ إِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ، فَكَانَ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ عَائِدًا إِلَى قَوْلِهِ. ثُمَّ قَدْ أَمْكَنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي أَمْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ   (1) هَذَا الِاحْتِمَالُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ فِي مَبْحَثِ الْأَمْرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ مَا يَأْتِي مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجَدَلِيِّينَ فِي الِاسْتِدْلَالِ وَالرَّدِّ، فَإِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ فِي هَذَا الصَّدَدِ مَا يَعْتَقِدُونَ، وَمَا لَا يَعْتَقِدُونَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ إِتْمَامًا لِلْمَطْلُوبِ فِيمَا يَرَوْنَ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَاحْتِمَالٍ. (2) لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ عَامٌّ، فَإِنَّ كَلِمَةَ (أَمْرٍ) اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ لِلضَّمِيرِ فَكَانَ هَامًّا، وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُطْلَقًا فِي نَفْسِهِ فَوُقُوعُهُ بَعْدَ التَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ يَجْعَلُهُ عَامًّا ; إِذِ التَّحْذِيرُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ نَهْيٌّ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْعَمَلِ بِهِ فِي صُورَةِ تَوْفِيَةٍ لِلْعَمَلِ بِدَلَالَتِهِ. (3) أَيْ: لَفْظِيًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 أَقْرَبُ مَذْكُورٍ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الرَّسُولِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} (1) ، فَكَانَ عَوْدُهُ إِلَيْهِ أَوْلَى. وَعَنِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ بِمَنْعِ دَلَالَةِ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَكُونُ أَخْذُ مَا أَتَانَا بِهِ وَاجِبًا إِذَا كَانَ مَا أَتَى بِهِ وَاجِبًا. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَأَخْذُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ فِعْلٍ لَا يَكُونُ وَاجِبًا تَنَاقُضٌ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَتَوَقَّفُ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى كَوْنِ الْفِعْلِ الْمَأْتِيِّ بِهِ وَاجِبًا، وَوُجُوبُهُ إِذَا تَوَقَّفَ عَلَى دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِهِ كَانَ دَوْرًا (2) . كَيْفَ وَإِنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِوُجُوبِ أَخْذِهِ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الْقَوْلِ حَيْثُ إِنَّهُ قَابَلَهُ بِالنَّهْيِ بِقَوْلِهِ: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وَالنَّهْيُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْقَوْلِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُقَابِلُ لَهُ. وَعَنِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالتَّأَسِّي بِهِ فِي فِعْلِهِ أَنْ نَسْتَخِيرَ لِأَنْفُسِنَا مَا اسْتَخَارَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَنْ لَا نَعْتَرِضَ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ، أَوْ مَعْنًى آخَرَ: الْأَوَّلُ: مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا اسْتَخَارَهُ لِنَفْسِهِ وَاجِبًا حَتَّى يَكُونَ مَا نَسْتَخِيرُهُ نَحْنُ لِأَنْفُسِنَا وَاجِبًا. وَالثَّانِي: مَمْنُوعٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّأَسِّي بِهِ فِي فِعْلِهِ أَنْ نُوقِعَ الْفِعْلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعَهُ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ صَلَّى وَاجِبًا وَصَلَّيْنَا مُتَنَفِّلِينَ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ تَأَسِّيًا بِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ مَا فَعَلَهُ وَاجِبًا حَتَّى يَكُونَ مَا نَفْعَلُهُ نَحْنُ وَاجِبًا (3) . وَعَلَى هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْخَامِسَةِ. وَعَنِ الْآيَةِ السَّادِسَةِ، أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الطَّاعَةِ إِنَّمَا هُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَمُتَابَعَتُهُ فِي فِعْلِهِ   (1) جُمْلَةُ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ. . .) جَاءَتْ تَابِعَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: " لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا " تَقْرِيرًا لِلنَّهْيِ وَتَهْدِيدًا لِمَنْ خَالَفَ فَكَانَ الْوَاجِبُ رُجُوعَ الضَّمِيرِ إِلَى الرَّسُولِ، فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ فِي الْآيَةِ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، عَلَى أَنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ قَرَّرَتِ التَّلَازُمَ بَيْنَ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَمَعْصِيَتِهِ اللَّهَ وَرَسُولَهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. (2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 179 (3) الْأَوْلَى فَكَذَلِكَ تَفْرِيعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ إِنْ كَانَ وَاجِبًا فَوَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ نَدْبًا فَنَدْبًا. وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَا فَعَلَهُ وَاجِبٌ حَتَّى تَكُونَ مُتَابَعَتُنَا لَهُ فِيهِ وَاجِبَةً. وَعَنِ الْآيَةِ السَّابِعَةِ أَنَّ غَايَتَهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ أُمَّتِهِ مُسَاوٍ لِحُكْمِهِ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ وَاجِبًا لِيَكُونَ فِعْلُنَا لَهُ وَاجِبًا. وَعَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِجِهَةِ الْوُجُوبِ، بَلْ لَعَلَّهُمْ رَأَوْا مُتَابَعَتَهُ فِي خَلْعِ النَّعْلِ مُبَالَغَةً فِي مُوَافَقَتِهِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلْعَ بِطَرِيقِ الْمُتَابِعَةِ لَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا إِنْكَارُهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: " «لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ» "، وَلَوْ كَانَتْ مُتَابَعَتُهُ فِي فِعْلِهِ وَاجِبَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمَا أَنْكَرَ ذَلِكَ (1) . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ ظَنُّوا وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ، لَكِنْ لَا مِنَ الْفِعْلِ، بَلْ لِقِيَامِ دَلِيلٍ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ قَالَ لَهُمْ " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» " فَفَهِمُوا أَنَّ صَلَاتَهُ بَيَانٌ لِصَلَاتِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ خَلَعَ نَعْلَهُ تَابَعُوهُ فِيهِ لِظَنِّهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِأَخْذِ زِينَتِهِمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَدْ خَلَعَ نَعْلَهُ ظَنُّوا وَجُوبَهُ وَأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْأَمْرَ الْمَسْنُونَ الْمَأْمُورَ إِلَّا لِوَاجِبٍ.، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ وُجُوبَ الْمُتَابَعَةِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ. وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي، أَنَّ فَهْمَهُمْ لِوُجُوبِ مُتَابَعَتِهِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ إِنَّمَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " لَا إِلَى فِعْلِهِ. وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّالِثِ، أَنَّ الْوِصَالَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا لَهُ. وَوُجُوبُ الْمُتَابَعَةِ فِيمَا أَصْلُهُ وَاجِبٌ مُمْتَنِعٌ (2) كَمَا سَبَقَ، بَلْ ظَنُّهُمْ إِنَّمَا كَانَ مُشَارَكَتَهُ فِي إِبَاحَةِ الْوِصَالِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الرَّابِعِ.   (1) قَدْ يُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ سَأَلَهُمْ لِيَبْنِيَ عَلَى جَوَابِهِمْ إِرْشَادَهُمْ وَتَعْلِيمَهُمْ مَا يَفْعَلُونَ بِنِعَالِهِمْ وَنَحْوِهَا إِذَا وَجَدُوا، وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ مِثْلَ مَا وَجَدَ فِي نَعْلِهِ. (2) أَقُولُ: تَجِبُ مُتَابَعَتُهُ فِي اعْتِقَادِ إِبَاحَةِ الْمُبَاحِ، وَالْعَمَلُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ دُونَ غُلُوٍّ فِي فِعْلِهِ، كَالْمَطْلُوبِ أَوْ فِي تَرْكِهِ كَالْمَمْنُوعِ إِنْزَالًا لِلْأَحْكَامِ مَنْزِلَتَهَا فَلَيْسَتِ الْعِبَارَةُ عَلَى إِطْلَاقِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وَعَنِ الْخَبَرِ الْخَامِسِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى وُجُوبِ بَلِّ الشَّعْرِ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا حَقِّ غَيْرِهِ. وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ الْكِفَايَةَ فِي الْكَمَالِ، لَا فِي الْوُجُوبِ بَلْ وُجُوبُ الْبَلِّ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «بُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» " (1) . وَعَنِ الْخَبَرِ السَّادِسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِعْلَهُ وَقَعَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " وَلَا نِزَاعَ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِ فِعْلِهِ إِذَا وَرَدَ بَيَانًا لِخِطَابٍ سَابِقٍ، بَلْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ دَلَالَةِ الْقَوْلِ الْمُجَرَّدِ عَنِ الْفِعْلِ ; لِكَوْنِ الْفِعْلِ يُنْبِئُ عَنِ الْمَقْصُودِ عِيَانًا، بِخِلَافِ الْقَوْلِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِيَانًا. الثَّانِي: أَنَّ وُجُوبَ التَّحَلُّلِ وَقَعَ مُسْتَفَادًا مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ بِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْتَقِبُونَ إِنْجَازَ مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَالظُّهُورِ عَلَى قُرَيْشٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَأَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْأَمْرَ بِالتَّحَلُّلِ وَأَدَاءِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْحَجِّ (2) . فَلَمَّا تَحَلَّلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ آيِسُوا مِنْ ذَلِكَ فَتَحَلَّلُوا. وَعَنِ الِاحْتِجَاجِ بِالْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وُجُوبَ الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ، بَلْ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ» " وَسُؤَالُ عُمَرَ لِعَائِشَةَ إِنَّمَا كَانَ لِيَعْلَمَ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ هَلْ وَقَعَ مُوَافِقًا لِأَمْرِهِ أَمْ لَا (3) . وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ تَقْبِيلَ عُمَرَ الْحَجَرَ غَيْرُ وَاجِبٍ إِنَّمَا كَانَ مُسْتَفَادًا مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ الْمُبَيِّنِ لِقَوْلِهِ: " «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ". كَيْفَ وَأَنَّ تَقْبِيلَ الْحَجَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدُلُّ عَلَى تَرْجِيحِ فِعْلِهِ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ. وَذَلِكَ مِمَّا لَا نُنْكِرُهُ، وَلَا نُنْكِرُ مُشَارَكَةَ الْأُمَّةِ لَهُ فِي ذَلِكَ (4) .   (1) فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً، فَاغْسِلُوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشْرَةَ، وَفِي سَنَدِهِ الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا يُعْرَفُ مِنْ حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ وَجِيهٍ، وَضَعَّفَهُ. انْظُرْ كَلَامَ ابْنِ حَجْرٍ فِي التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. (2) الصَّوَابُ: الْهَمْزَةُ (3) أَوْ لِيَتَبَيَّنَ لِلصَّحَابَةِ نَسْخُ أَحَادِيثِ الِاكْتِفَاءِ بِالْوُضُوءِ إِذَا حَصَلَ إِيلَاجٌ بِلَا إِنْزَالٍ أَوْ عَدَمُ نَسْخِهَا. (4) فِيهِ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 182 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وَعَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ، فَقَدْ قِيلَ فِي دَفْعِهَا إِنَّ الِاحْتِيَاطَ إِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِهِ إِذَا خَلَا عَنِ احْتِمَالِ الضَّرَرِ قَطْعًا، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَرَامًا عَلَى الْأُمَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ لَوْ غَمَّ الْهِلَالُ لَيْلَةَ الثَلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَوْمُ الثَلَاثِينَ مِنْهُ يَوْمَ الْعِيدِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ يَوْمَ الْعِيدِ. وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ صَوْمُهُ احْتِيَاطًا لِلْوَاجِبِ وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا لِكَوْنِهِ مِنْ يَوْمِ الْعِيدِ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ إِنَّمَا يَكُونُ الِاحْتِيَاطُ أَوْلَى لِمَا ثَبَتَ وَجُوبُهُ كَالصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ مِنْ صَلَوَاتِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، أَوْ كَانَ الْأَصْلُ وُجُوبُهُ كَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ الثَلَاثِينَ مِنْ رَمَضَانَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَتُهُ مُغَيَّمَةً. وَأَمَّا مَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا وَغَيْرَ وَاجِبٍ فَلَا. وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَتَحَقَّقْ وُجُوبُ الْفِعْلِ وَلَا الْأَصْلُ وُجُوبُهُ. وَعَنِ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِمِثْلِ مَا يَفْعَلُهُ الْعَظِيمُ يَكُونُ تَعْظِيمًا لَهُ وَأَنَّ تَرْكَهُ يَكُونُ إِهَانَةً لَهُ وَحَطًّا مِنْ قَدْرِهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ تَعَاطِي الْأَدْنَى لِمُسَاوَاتِهِ الْأَعْلَى فِي فِعْلِهِ حَطًّا مِنْ مَنْزِلَتِهِ وَغَضًّا مِنْ مَنْصِبِهِ. وَلِهَذَا يَقْبُحُ مِنَ الْعَبْدِ الْجُلُوسُ عَلَى سَرِيرِ سَيِّدِهِ فِي مَرْتَبَتِهِ، وَالرُّكُوبُ عَلَى مَرْكَبِهِ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ اللَّوْمَ وَالتَّوْبِيخَ. ثُمَّ لَوْ كَانَتْ مُتَابَعَةُ النَّبِيِّ فِي أَفْعَالِهِ مُوجِبَةً لِتَعْظِيمِهِ، وَتَرْكُ الْمُتَابَعَةِ مُوجِبَةً (1) لِإِهَانَتِهِ لَوَجَبَ مُتَابَعَتُهُ عِنْدَنَا إِذَا تَرَكَ بَعْضَ مَا تَعَبَّدْنَا بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَلَمْ يُعْلَمْ سَبَبُ تَرْكِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ (2) . وَعَنِ الشُّبْهَةِ الثَّالِثَةِ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفِعْلِ بَيَانًا لِلْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِمَا يُوجِبُهُ الْقَوْلُ. وَلِهَذَا فَإِنَّ الْخِطَابَ الْقَوْلِيَّ يَسْتَدْعِي وُجُوبَ الْجَوَابِ، وَلَا كَذَلِكَ الْفِعْلُ. وَعَنِ الشُّبْهَةِ الرَّابِعَةِ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا وَصَوَابًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا وَصَوَابًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُمَّتِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مِمَّا يُوجِبُ مُشَارَكَتَهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ (3) .   (1) الصَّوَابُ: مُوجِبٌ. (2) الْأَصْلُ أَنَّ فِي اتِّبَاعِهِ بِقَصْدِ التَّأَسِّي بِهِ تَعْظِيمًا لَهُ، فَإِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ أَوْ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ عُمِلَ بِهِ. (3) بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مِنْ إِحْكَامِ التَّكْلِيفِ حَقًّا وَصَوَابًا فِي حَقِّهِ، فَهُوَ حَقُّهُ، وَصَوَابٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وَعَنِ الشُّبْهَةِ الْخَامِسَةِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الْوَاجِبِ أَفْضَلَ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاجِبًا. وَلِهَذَا فَإِنَّ فِعْلَهُ لِلْمَنْدُوبَاتِ كَانَ أَغْلَبَ مِنْ فِعْلِهِ لِلْوَاجِبَاتِ، بَلْ فِعْلُهُ لِلْمُبَاحَاتِ كَانَ أَغْلَبَ مِنْ فِعْلِهِ لِلْمَنْدُوبَاتِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ حَمْلُ فِعْلِهِ عَلَى النَّادِرِ مِنْ أَفْعَالِهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْغَالِبِ مِنْهَا وَعَنْ شُبَهِ الْقَائِلِينَ بِالنَّدْبِ. أَمَّا الْآيَةُ فَجَوَابُهَا مِثْلُ مَا سَبَقَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى الْوُجُوبِ. وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الْعَقْلِيَّةُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ غَالِبَ فِعْلِهِ الْمَنْدُوبَاتُ بَلِ الْمُبَاحُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَنْدُوبَ دَاخِلٌ فِي الْوَاجِبِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (1) . وَأَمَّا شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ، فَنَحْنُ قَائِلُونَ بِهَا فِي كُلِّ فِعْلٍ لَمْ يَظْهَرْ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِهِ، وَأَمَّا مَا ظَهَرَ مَعَهُ قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِهِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا بِمَعْنَى نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ. وَذَلِكَ (2) مِمَّا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى تَرْجِيحِ جَانِبِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَأَمَّا الْوَاقِفِيَّةُ فَإِنْ أَرَادُوا بِالْوَقْفِ أَنَّا لَا نَحْكُمُ بِإِيجَابٍ وَلَا نَدْبٍ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الْحَقُّ وَهُوَ عَيْنُ مَا قَرَّرْنَاهُ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ الثَّابِتَ أَحَدُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَكِنَّا لَا نَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ فَخَطَأٌ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْفِعْلِ عَلَى شَيْءٍ سِوَى تَرْجِيحِ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ عِنْدَمَا إِذَا ظَهَرَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِفِعْلِهِ أَوْ نَفْيُ الْحَرَجِ مُطْلَقًا عِنْدَمَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلِيلٍ سِوَى الْفِعْلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   (1) أَيْ مِنْ تَنَافِي مَفْهُومَيْهَا عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ، فَإِنَّ تَارِكَ الْوَاجِبِ، بِلَا عُذْرٍ يَأْثَمُ دُونَ تَارِكِ الْمَنْدُوبِ. (2) اسْمُ الْإِشَارَةِ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ مَا ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ التَّقَرُّبِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَأَسًّى بِهِ فِي فِعْلِهِ وَمُتَّبَعٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا فَعَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِعْلًا وَلَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِخِطَابٍ سَابِقٍ، وَلَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَوَاصِّهِ، وَعُلِمَتْ لَنَا صِفَتُهُ مِنَ الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ أَوِ الْإِبَاحَةِ إِمَّا بِنَصِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَتَعْرِيفِهِ لَنَا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَمُعْظَمُ الْأَئِمَّةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّنَا مُتَعَبَّدُونَ بِالتَّأَسِّي بِهِ فِي فِعْلِهِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ خَلَّادٍ، وَقَالَ بِالتَّأَسِّي فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ غَيْرِهَا. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْجُمْهُورِيُّ وَدَلِيلُهُ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مُتَأَسًّى بِهِ فِي فِعْلِهِ وَمُتَّبَعٌ، لَمَا كَانَ لِلْآيَةِ مَعْنًى، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ هَاهُنَا. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَابَعَةَ لَهُ لَازِمَةً مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ الْوَاجِبَةِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمُتَابَعَةُ لَهُ لَازِمَةً لَزِمَ مِنْ عَدَمِهَا عَدَمُ الْمَحَبَّةِ الْوَاجِبَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ (1) . وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَ التَّأَسِّيَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ لَوَازِمِ رَجَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ التَّأَسِّي عَدَمُ الْمَلْزُومِ، وَهُوَ الرَّجَاءُ لِلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَذَلِكَ كُفْرٌ. وَالْمُتَابَعَةُ وَالتَّأَسِّي فِي الْفِعْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ: هُوَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ فَعَلَ.   (1) انْظُرْ ص 179 مِنَ الْأَصْلِ، وَقَارِنْ بَيْنَ بَيَانِهِ لِوَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ هُنَا عَلَى مَطْلُوبِهِ وَمُنَاقَشَتِهِ مَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " فَاتَّبِعُوهُ " عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي فِعْلِهِ، وَمَنِ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ " عَلَى نَدْبِ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي فِعْلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى أَفْعَالِهِ كَرُجُوعِهِمْ إِلَى تَزْوِيجِهِ لِمَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَرَامٌ وَفِي تَقْبِيلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَجَوَازِ تَقْبِيلِهِ وَهُوَ صَائِمٌ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا تُحْصَى. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ الْأُوْلَى وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ وَالْمُتَابَعَةِ فِي التَّزْوِيجِ مِنْ أَزْوَاجِ الْأَدْعِيَاءِ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا، فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّأَسِّي وَالْمُتَابَعَةِ فِي كُلِّ فِعْلٍ. وَأَمَّا الْأَخِيرَتَانِ فَلَا نُسَلِّمُ عُمُومَ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمُتَابَعَةِ وَالتَّأَسِّي فِي كُلِّ شَيْءٍ إِذْ لَا عُمُومَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: (لَكَ فِي فُلَانٍ أُسْوَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ) ، وَيُقَالُ: (لَكَ فِي فُلَانٍ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي هَذَا الشَّيْءِ دُونَ غَيْرِهِ) ، وَلَوْ كَانَ لَفْظُ (الْأُسْوَةِ) عَامًّا فِي كُلِّ شَيْءٍ لَكَانَ قَوْلُهُ: (فِي كُلِّ شَيْءٍ) تَكْرَارًا، وَقَوْلُهُ: (فِي هَذَا الشَّيْءِ دُونَ غَيْرِهِ) مُنَاقَضَةً بَلْ غَايَتُهَا الدَّلَالَةُ عَلَى الْمُتَابَعَةِ وَالتَّأَسِّي فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ. وَنَحْنُ قَائِلُونَ بِذَلِكَ فِي اتِّبَاعِ أَقْوَالِهِ وَالتَّأَسِّي بِمَا دَلَّ الدَّلِيلُ الْقَوْلِيُّ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ فِي أَفْعَالِهِ، كَقَوْلِهِ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» "، وَ " «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» " وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُسْتَنَدَهُمْ فِيمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِالتَّأَسِّي بِالنَّبِيِّ فِي فِعْلِهِ وَإِنَّمَا كَانَ مُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ غَيْرَهُ، أَمَّا فِيمَا كَانَ مُبَاحًا فَالْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ، أَمَّا فِيمَا كَانَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا فَالْأَقْوَالُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى خُصُوصِ مُتَابَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّ التَّأَسِّيَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ لَازِمٌ لَمَا فَهِمَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِبَاحَةَ ذَلِكَ لَهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ فَهْمَ الْإِبَاحَةِ إِنَّمَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِتَعْلِيلِ تَزْوِيجِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ مَعْنًى لِكَوْنِهِ مَدْفُوعًا بِغَيْرِهِ. وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي عَلَى الْآيَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، أَنَّ مَقْصُودَهُمَا إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ كَوْنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُسْوَةً لَنَا وَمُتَّبَعًا، إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ وَإِبَانَةً لِخَطَرِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. فَإِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَإِمَّا أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يَكُونَ مُعَيَّنًا أَوْ مُبْهَمًا، وَالْقَوْلُ بِالتَّعْيِينِ مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالْقَوْلُ بِالْإِبْهَامِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ مِنَ الشَّرْعِ وَلِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنْ إِظْهَارِ شَرَفِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ. وَإِذَا قَالَ: (لَكَ أُسْوَةٌ فِي فُلَانٍ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ) ، فَهُوَ مُفِيدٌ لِلتَّأْكِيدِ وَلَيْسَ تَكْرَارًا خَلِيًّا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَإِذَا قَالَ: (لَكَ أُسْوَةٌ فِي فُلَانٍ فِي هَذَا الشَّيْءِ دُونَ غَيْرِهِ) ، فَلَا يَكُونُ مُنَاقَضَةً لِأَنَّ الْعُمُومَ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ التَّأَسِّي وَالْمُتَابَعَةِ الْمُطْلَقَةِ وَهَذَا لَيْسَ بِمُطْلَقٍ، بَلِ الْكُلُّ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ مُفِيدَةٌ لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ الْمَأْثُورِ عَنْهُمْ عِنْدَ اتِّفَاقِهِمْ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِأَفْعَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالرُّجُوعِ إِلَيْهَا وَسُؤَالِ زَوْجَاتِهِ، وَالْبَحْثِ عَنْ أَفْعَالِهِ فِي ذَلِكَ وَسُكُونِ أَنْفُسِهِمْ إِلَيْهَا وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا وَاحْتِجَاجِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِهَا. وَلَوْ كَانَ ثَمَّ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى الْمُتَابَعَةِ وَالتَّأَسِّي غَيْرَ النَّظَرِ إِلَى أَفْعَالِهِ لَبَادَرُوا إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي فِعْلِهِ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي تَرْكِهِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لفعل غيره] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إِذَا فَعَلَ وَاحِدٌ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِعْلًا أَوْ فِي عَصْرِهِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ قَادِرٌ عَلَى إِنْكَارِهِ، فَسَكَتَ عَنْهُ وَقَرَّرَهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ عَلَيْهِ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ عَرَفَ قُبْحَ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَتَحْرِيمَهُ مِنْ قَبْلُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ إِصْرَارَ ذَلِكَ الْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِهِ، وَعَلِمَ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِصْرَارَ عَلَى قُبْحِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَتَحْرِيمِهِ كَاخْتِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَى كَنَائِسِهِمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَإِبَاحَتِهِ إِجْمَاعًا وَلَا يُوهِمُ كَوْنُهُ مَنْسُوخًا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ إِنْكَارٌ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 عَنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ. وَإِلَّا لَمَا سَاغَ السُّكُوتَ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ عَنْهُ فَيَقَعَ فِي الْمَحْذُورِ، وَفِيهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَلَا عَرَفَ تَحْرِيمَهُ، فَسُكُوتُهُ عَنْ فَاعِلِهِ وَتَقْرِيرُهُ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا إِنْ وُجِدَ مِنْهُ اسْتِبْشَارٌ وَثَنَاءٌ عَلَى الْفَاعِلِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ جَائِزًا لَكَانَ تَقْرِيرُهُ لَهُ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى إِنْكَارِهِ، وَكَانَ اسْتِبْشَارُهُ وَثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ حَرَامًا عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنَ الصَّغَائِرِ الْجَائِزَةِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ قَوْمٍ إِلَّا أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لَا سِيَّمَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِنْكَارُ هُوَ الْغَالِبُ، فَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْهُ دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ غَالِبًا. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ: إِمَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ التَّحْرِيمُ فَلَمْ يَكُنِ الْفِعْلُ عَلَيْهِ حَرَامًا إِذْ ذَاكَ أَوْ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ بُلُوغَ التَّحْرِيمِ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَرْجِعْ فِيهِ وَأَصَرَّ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ مَنَعَهُ مَانِعٌ مِنَ الْإِنْكَارِ. قُلْنَا: عَدَمُ بُلُوغِ التَّحْرِيمِ إِلَيْهِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْإِنْكَارِ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَرَامٌ بَلِ الْإِعْلَامُ بِالتَّحْرِيمِ وَاجِبٌ، حَتَّى لَا يَعُودَ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَإِلَّا كَانَ السُّكُوتُ مِمَّا يُوهِمُ: إِمَّا عَدَمَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ التَّحْرِيمِ أَوِ النَّسْخَ، وَأَمَّا إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ الشَّخْصُ التَّحْرِيمَ وَأَصَرَّ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا مُتَّبِعًا لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ الْإِنْكَارِ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ نَسْخُهُ. وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا تَجْدِيدُ الْإِنْكَارِ عَلَى اخْتِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِلَى كَنَائِسِهِمْ إِذْ هُمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لَهُ، وَلَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ ذَلِكَ حَتَّى يُقَالَ: يُتَوَهَّمُ نَسْخُ ذَلِكَ بِسُكُوتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ احْتِمَالِ الْمَانِعِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا عَقْلًا غَيْرَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ ظُهُورِ شَوْكَتِهِ وَاسْتِيلَائِهِ وَقَهْرِهِ لِمَنْ سِوَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ عدم التَّعَارُضُ بَيْنَ أَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعَارُضُ بَيْنَ أَفْعَالِ رَسُولِ اللَّهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْبَعْضُ مِنْهَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ أَوْ مُخَصِّصًا لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا إِمَّا مِنْ قَبِيلِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَكَفِعْلِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا فِي وَقْتَيْنِ مُتَمَاثِلَيْنِ أَوْ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَإِمَّا مِنْ قَبِيلِ الْمُخْتَلِفَيْنِ. وَالْفِعْلَانِ الْمُخْتَلِفَانِ، إِمَّا أَنْ يُتَصَوَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ أَوْ لَا يُتَصَوَّرَ اجْتِمَاعُهُمَا. وَمَا لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا، إِمَّا أَنْ لَا تَتَنَاقَضَ أَحْكَامُهُمَا كَصَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مَثَلًا، أَوْ تَتَنَاقَضَ كَمَا لَوْ صَامَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَأَكَلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ، فَلَا خَفَاءَ بِعَدَمِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الرَّابِعِ فَلَا تَعَارُضَ أَيْضًا إِذْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي وَقْتٍ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا أَوْ جَائِزًا وَفِي وَقْتٍ آخَرَ بِخِلَافِهِ، وَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا رَافِعًا وَلَا مُبْطِلًا لِحُكْمِ الْآخَرِ إِذَا لَا عُمُومَ لِلْفِعْلَيْنِ وَلَا لِأَحَدِهِمَا. نَعَمْ إِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الصَّوْمِ كَانَ يَجِبُ تَكْرِيرُهُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى لُزُومِ وُجُوبِ تَأَسِّي أُمَّتِهِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالتَّلَبُّسِ بِضِدِّهِ، كَالْأَكْلِ مَعَ الذِّكْرِ لِلصَّوْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ أَكْلَهُ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ حُكْمِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى تَكْرَارِ الصَّوْمِ فِي حَقِّهِ لَا نَسْخِ حُكْمِ ذَلِكَ الصَّوْمِ الْمُتَقَدِّمِ لِعَدَمِ اقْتِضَائِهِ لِلتَّكْرَارِ، وَرَفْعُ حُكْمٍ وُجِدَ مُحَالٌ، أَوْ أَنَّهُ رَأَى بَعْضَ الْأُمَّةِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ يَأْكُلُ، فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْ مَعَ الذِّكْرِ لِلصَّوْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْكَارِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ حُكْمِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِتَعْمِيمِ الصَّوْمِ عَلَى الْأُمَّةِ فِي حَقِّ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوْ تَخْصِيصِهِ لَا نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الرَّسُولِ وَلَا تَخْصِيصِهِ. وَإِنْ قِيلَ بِنَسْخِ فِعْلِ الرَّسُولِ وَتَخْصِيصِهِ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ زَالَ التَّعَبُّدُ بِمِثْلِهِ عَنِ الرَّسُولِ، أَوِ الْوَاحِدِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ وَالتَّوَسُّعِ لَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ التَّعَارُضُ بَيْنَ قول النبي وفعله] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إِذَا تَعَارَضَ فِعْلُ النَّبِيِّ وَقَوْلُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَكَرُّرِهِ فِي حَقِّهِ، وَلَا عَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ فِيهِ أَوْ دَلَّ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَوْلُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ أَوْ بِنَا أَوْ هُوَ عَامٌّ لَهُ وَلَنَا. فَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا أَوْ يُجْهَلَ التَّارِيخُ فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا وَتَأَخُّرُ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الْفِعْلَ أَوِ الْقَوْلَ. فَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الْفِعْلَ مِثْلَ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا فِي وَقْتٍ، وَيَقُولَ بَعْدَهُ إِمَّا عَلَى الْفَوْرِ أَوِ التَّرَاخِي: لَا يَجُوزُ لِي مِثْلُ هَذَا الْفِعْلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ لَمْ يَرْفَعْ حُكْمَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْفِعْلِ فِي الْمَاضِي وَلَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلتَّكْرَارِ عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ الْغَرَضُ، وَقَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ حُكْمِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الْقَوْلَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: الْفِعْلُ الْفُلَانِيُّ وَاجِبٌ عَلَيَّ فِي الْوَقْتِ الْفُلَانِيِّ ثُمَّ يَتَلَبَّسُ بِضِدِّهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَمَنْ جَوَّزَ نَسْخَ الْحُكْمِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ، قَالَ: إِنَّ الْفِعْلَ نَاسِخٌ لِحُكْمِ الْقَوْلِ. وَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ مَنَعَ كَوْنَ الْفِعْلِ رَافِعًا لِحُكْمِ الْقَوْلِ، وَقَالَ: لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مِثْلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مَعَ الْعَمْدِ إِنْ لَمْ نُجَوِّزْ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْصِيَةٌ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَوْلُهُ خَاصًّا بِنَا فَلَا تَعَارُضَ أَيْضًا لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَوْلُهُ عَامًّا لَنَا وَلَهُ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَقَدِّمًا فَلَا مُعَارَضَةَ أَيْضًا بَيْنَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمَّا تَقَدَّمَ فِيمَا إِذَا كَانَ قَوْلُهُ خَاصًّا بِهِ. وَأَمَّا (1) إِلَيْنَا فَلِأَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِنَا عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ الْغَرَضُ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ، فَالْحُكْمُ فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا فِيمَا إِذَا كَانَ قَوْلُهُ خَاصًّا بِهِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا لِعَدَمِ تَوَارُدِ قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ عَلَيْنَا عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ الْغَرَضُ، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ وَلَا تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ. وَأَمَّا إِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَكَرُّرِهِ فِي حَقِّهِ وَعَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ، أَوْ عَلَى تَكَرُّرِهِ فِي حَقِّهِ دُونَ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ، أَوْ عَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ دُونَ تَكَرُّرِهِ فِي حَقِّهِ، فَالْحُكْمُ مُخْتَلِفٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ.   (1) فِيهِ سَقْطٌ وَالتَّقْدِيرُ (بِالنِّسْبَةِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَكَرُّرِهِ فِي حَقِّهِ، وَعَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ فَلَا يَخْلُو قَوْلُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا بِهِ أَوْ بِنَا، أَوْ هُوَ عَامٌّ لَهُ وَلَنَا، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ خَاصًّا بِهِ فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ أَوِ الْقَوْلِ أَوْ يُجْهَلَ التَّارِيخُ، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ فَالْقَوْلُ الْمُتَأَخِّرُ يَكُونُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ أُمَّتِهِ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْقَوْلِ لَهُمْ. وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ، فَفِعْلُهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ أَنْ كَانَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ أَوْ قَبْلَهُ، عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُهُ وَمُوجِبًا لِلْفِعْلِ عَلَى أُمَّتِهِ. وَأَمَّا إِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَقَوْلِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ قَوْلِهِ لَهُمْ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْعَكْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْمُعَارَضَةَ وَالْوَقْفَ إِلَى حِينِ قِيَامِ دَلِيلِ التَّارِيخِ، وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْلَ يَدُلُّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَالْفِعْلُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ بِوَاسِطَةِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَفْعَلُ الْمُحَرَّمَ، وَذَلِكَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلَائِلِ الْغَامِضَةِ الْبَعِيدَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَمَّا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ كَالْمَعْقُولَاتِ الصِّرْفَةِ، وَعَنِ الْمَحْسُوسِ، وَالْفِعْلُ لَا يُنْبِئُ عَنْ غَيْرِ مَحْسُوسٍ، فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْقَوْلِ أَقْوَى وَأَتَمَّ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْلَ قَابِلٌ لِلتَّأْكِيدِ بِقَوْلٍ آخَرَ وَلَا كَذَلِكَ الْفِعْلُ، فَكَانَ الْقَوْلُ لِذَلِكَ أَوْلَى. الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَمَلَ هَاهُنَا مِمَّا يُفْضِي إِلَى نَسْخِ مُقْتَضَى الْفِعْلِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ دُونَ الْأُمَّةِ، وَالْعَمَلُ بِالْفِعْلِ يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ مُقْتَضَى الْقَوْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: بَلِ الْفِعْلُ آكَدُ ; فِي الدَّلَالَةِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ بِهِ الْقَوْلَ، وَالْمُبَيِّنُ لِلشَّيْءِ آكَدُ فِي الدَّلَالَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفِيَّةَ الصَّلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَبَيْنَ مَوَاقِيتِهَا حَيْثُ صَلَّى بِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ، وَقَالَ: " «يَا مُحَمَّدُ الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ» " وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَّنَ الصَّلَاةَ لِلْأُمَّةِ بِفِعْلِهِ، حَيْثُ قَالَ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» " وَبَيْنَ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} بِفِعْلِهِ حَيْثُ قَالَ: " «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» "، وَقَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ: " «صَلِّ مَعَنَا» "، وَبَيَّنَ الشَّهْرَ بِأَصَابِعِهِ حَيْثُ قَالَ: " «إِنَّمَا الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا» ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ مَنْ رَامَ تَعْلِيمَ غَيْرِهِ إِذَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي إِيصَالِ مَعْنَى مَا يَقُولُهُ إِلَى فَهْمِهِ اسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِالْإِشَارَةِ بِيَدِهِ وَالتَّخْطِيطِ وَتَشْكِيلِ الْأَشْكَالِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْفِعْلَ أَدَلُّ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: غَايَةُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ وُجُودُ الْبَيَانِ بِالْفِعْلِ، وَكَمَا وُجِدَ الْبَيَانُ بِالْفِعْلِ فَقَدْ وُجِدَ أَغْلَبُ مِنَ الْبَيَانِ بِالْفِعْلِ. فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ مُسْتَنَدُهَا إِنَّمَا هُوَ الْأَقْوَالُ دُونَ الْأَفْعَالِ، وَغَايَتُهُ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِي ذَلِكَ وَيَبْقَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحَاتِ الْأَوْلَى بِحَالِهَا، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ قَوْلُهُ خَاصًّا بِهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَوْلُهُ خَاصًّا بِنَا دُونَهُ: فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ، أَوِ الْقَوْلِ أَوْ يُجْهَلَ التَّارِيخُ. فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ الْفِعْلِ ; فَالْقَوْلُ الْمُتَأَخِّرُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْحُكْمِ فِي حَقِّنَا دُونَهُ، وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ فَالْحُكْمُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْقَوْلِ فِي حَقِّنَا دُونَ النَّبِيِّ فَكَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِهِ. وَأَمَّا إِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَالْخِلَافُ كَالْخِلَافِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِهِ، وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ لِمَا عُلِمَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلَنَا فَأَيُّهُمَا تَأَخَّرَ كَانَ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ فِي حَقِّهِ وَحَقِّنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ فِي التَّعْقِيبِ وَالتَّرَاخِي. وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَالْخِلَافُ كَالْخِلَافِ، وَالْمُخْتَارُ كَالْمُخْتَارِ. وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَكَرُّرِ الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ وَعَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ. وَأَمَّا إِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَكَرُّرِهِ فِي حَقِّهِ دُونَ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ، فَالْقَوْلُ إِنْ كَانَ خَاصًّا بِالْأُمَّةِ، فَلَا تَعَارُضَ لِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ أَوْ هُوَ عَامٌّ لَهُ وَلِلْأُمَّةِ، فَالتَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ دُونَ أُمَّتِهِ ; لِعَدَمِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ فِي فِعْلِهِ وَلَا يَخْفَى الْحُكْمُ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ أَوْ تَأَخَّرَ أَوْ جُهِلَ التَّارِيخُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وَأَمَّا إِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِهِ فِي فِعْلِهِ دُونَ تَكَرُّرِهِ فِي حَقِّهِ، فَالْقَوْلُ إِنْ كَانَ خَاصًّا بِهِ، فَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْفِعْلِ فَلَا مُعَارَضَةَ لَا فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ أُمَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فَالْفِعْلُ الْمُتَأَخِّرُ عَنْهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ دُونَ أُمَّتِهِ. وَإِنَّ جُهِلَ التَّارِيخُ فَالْخِلَافُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ خَاصًّا بِأُمَّتِهِ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ. وَأَمَّا إِنْ تَحَقَّقَتِ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ فَأَيُّهُمَا كَانَ مُتَأَخِّرًا فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ فَالْخِلَافُ عَلَى مَا سَبَقَ وَكَذَلِكَ الْمُخْتَارُ. وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ عَامًّا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ، فَإِنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ، فَالْقَوْلُ الْمُتَأَخِّرُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِعْلِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا هُوَ نَاسِخٌ لِحُكْمِ الْفِعْلِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ. وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فَالْفِعْلُ نَاسِخٌ لِحُكْمِ الْقَوْلِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ وَالْأُمَّةِ، وَإِنْ جُهِلَ التَّارِيخُ، فَالْخِلَافُ كَالْخِلَافِ وَالْمُخْتَارُ كَالْمُخْتَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 [الْأَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ] [مُقَدِّمَةُ فِي تَعْرِيفِ الْإِجْمَاعِ] الْأَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ (1) وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي تَعْرِيفِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ وَمِنْهُ يُقَالُ: أَجْمَعَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا إِذَا عَزَمَ عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أَيِ اعْزِمُوا، وَبِقُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» " أَيْ يَعْزِمُ، وَعَلَى هَذَا فَيَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَزْمِ الْوَاحِدِ. الثَّانِي: الِاتِّفَاقُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا إِذَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا فَاتِّفَاقُ كُلِّ طَائِفَةٍ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ دِينِيًّا كَانَ أَوْ دُنْيَوِيًّا يُسَمَّى إِجْمَاعًا حَتَّى اتِّفَاقُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَقَدْ قَالَ النَّظَّامُ: هُوَ كُلُّ قَوْلٍ قَامَتْ حُجَّتُهُ حَتَّى قَوْلُ الْوَاحِدِ. وَقَصَدَ بِذَلِكَ الْجَمْعَ بَيْنَ إِنْكَارِهِ كَوْنَ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ حُجَّةً، وَبَيْنَ مُوَافَقَتِهِ لِمَا اشْتُهِرَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْ تَحْرِيمِ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالنِّزَاعُ مَعَهُ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَالْعُرْفِ الْأُصُولِيِّ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْإِجْمَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّفَاقِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَهُوَ مَدْخُولٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يُشْعِرُ بِعَدَمِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ جُمْلَةُ مَنِ اتَّبَعَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ مِنْهُمْ إِنَّمَا يَعُمُّ بَعْضَ الْأُمَّةِ لَا كُلَّهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ وَلَا لِمَنِ اعْتَرَفَ بِوُجُودِ الْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ صَدَقَ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ أَنَّهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرَهُ أَنَّهُ لَوْ خَلَا عَصْرٌ مِنَ الْأَعْصَارِ عَنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ فِيهِ عَامِّيًّا وَاتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ.   (1) انْظُرْ ص 176 - 192 - ج 19 وَص 10 - 11 - ج 20 مِنْ مَجْمُوعَةِ الْفَتَاوَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَقْيِيدِهِ لِلْإِجْمَاعِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَنْ لَا يَكُونَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى قَضِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ أَوْ عُرْفِيَّةٍ حُجَّةً شَرْعِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْإِجْمَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّفَاقِ جُمْلَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى حُكْمِ وَاقِعَةٍ مِنَ الْوَقَائِعِ. هَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: الْإِجْمَاعُ عِبَارَةٌ عَنِ اتِّفَاقِ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ إِلَى آخَرِ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ. فَقَوْلُنَا: (اتِّفَاقُ) يَعُمُّ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ وَالسُّكُوتَ وَالتَّقْرِيرَ. وَقَوْلُنَا: (جُمْلَةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ) احْتِرَازٌ عَنِ اتِّفَاقِ بَعْضِهِمْ وَعَنِ اتِّفَاقِ الْعَامَّةِ. وَقَوْلُنَا: (مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) احْتِرَازٌ عَنِ اتِّفَاقٍ أَهْلِ الْعَقْدِ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ. وَقَوْلُنَا: (فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ) حَتَّى يَنْدَرِجَ فِيهِ إِجْمَاعُ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ، وَإِلَّا أَوْهَمَ ذَلِكَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَوْلُنَا: (عَلَى حُكْمِ وَاقِعَةٍ) لِيَعُمَّ الْإِثْبَاتَ وَالنَّفْيَ وَالْأَحْكَامَ الْعَقْلِيَّةَ وَالشَّرْعِيَّةَ، وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْإِجْمَاعِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ. [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ هل يمكن تصوره] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفُوا فِي تَصَوُّرِ اتِّفَاقِ (1) أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ بِالضَّرُورَةِ فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، أَوْ عَنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ. لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ وَإِلَّا لَكَانَتِ الْعَادَةُ مُحِيلَةً لِعَدَمِ نَقْلِهِ وَتَوَاطُئِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى إِخْفَائِهِ، فَحَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ. كَيْفَ وَأَنَّهُ لَوْ نُقِلَ لَكَانَ كَافِيًا فِي الدَّلَالَةِ عَنْ إِجْمَاعِهِمْ وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي ; لِأَنَّهُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَذْهَانِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ فِي الِاعْتِرَافِ بِالْحَقِّ وَالْعِنَادِ، فَالْعَادَةُ أَيْضًا تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ كَمَا أَنَّهَا تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى أَكْلِ   (1) (تَصَوُّرِ اتِّفَاقِ إِلَخْ) أَيْ: إِمْكَانُ إِجْمَاعِهِمْ لَا مُجَرَّدَ خُطُورِ اتِّفَاقِهِمْ فِي الذِّهْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَأَتَّى فِي الْمُسْتَحِيلِ لِذَاتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 طَعَامٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ عَدَمُ نَقْلِهِ أَنْ لَوْ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ كَافِيًا عَنْهُ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَلَا يَمْتَنِعُ مَعَهُ اتِّفَاقُ الْجَمْعِ الْكَبِيرِ عَلَى حُكْمِهِ بِدَلِيلِ اتِّفَاقِ أَهْلِ الشُّبَهِ عَلَى أَحْكَامِهَا مَعَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ عَلَى مُنَاقَضَتِهَا، كَاتِّفَاقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى إِنْكَارِ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتِّفَاقِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ وَالْمَجُوسِ عَلَى التَّثْنِيَةِ مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ كَثْرَةً لَا تُحْصَى، فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ الْخَالِي عَنْ مُعَارَضَةِ الْقَاطِعِ لَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَمْتَنِعَ عَادَةً (1) وَخَرَجَ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ اتِّفَاقِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ مُعَيَّنٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي الْعَادَةِ لِعَدَمِ الصَّارِفِ إِلَيْهِ، كَيْفَ وَأَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا وُجِدَ مِنَ اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنِ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مَعَ خُرُوجِ عَدَدِهِمْ عَنِ الْحَصْرِ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ التى لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا الضَّرُورَةَ (2) وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ التَّصَوُّرِ وَزِيَادَةٌ.   (1) وُجُوبُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَالْإِجْمَاعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ لِمَنْ رَجَعَ لِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ. (2) قَدْ يُقَالُ: إِنْ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ اخْتَلَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَآمَنَ بِهَا وَبِمَا يَتْبَعُهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ، كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ، وَأَنْكَرَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَاتِّبَاعًا لِدَاعِي الْهَوَى، وَأَغْرُوا بِذَلِكَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ لَا نَظَرَ لَهُمْ فَتَبِعُوهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ، وَانْدِفَاعًا وَرَاءَ الْعَصَبِيَّةِ لِقَوْمِهِمْ، وَتَوَارَثُوا ذَلِكَ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ إِلَى يَوْمِنَا، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عُلَمَائِهِمُ اتِّفَاقٌ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَكَشَفَ دَخَلَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُتَّبِعِيهِمْ إِلَّا التَّقْلِيدَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ إِجْمَاعًا مِنْ أُمَّةٍ، وَمَنْ نَظَرَ فِي التَّارِيخِ وَتَدَبَّرَ مَا نَزَلَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي حَسَدِهِمْ لِلرَّسُولِ، وَأَتْبَاعِهِ وَإِغْرَائِهِمْ قَوْمَهَمْ وَالْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ بِالْمُؤْمِنِينَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ مَا أَنْكَرُوا كَانَ عَنْ تَؤَاطُؤِ بَعْضِ عُلَمَائِهِمْ. وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي اتِّفَاقِ بَعْضِ الْفَلَاسِفَةِ عَلَى قِدَمِ الْعَالَمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمْ عَنْ شُبْهَةٍ طَغَتْ عَلَى أَفْكَارِهِمْ، أَوْ عَنْ هَوًى وَسُوءِ طَوِيَّةٍ، وَقَلَّدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، فَهِيَ زَلَّةُ عَالِمٍ تَبِعَهُ فِيهَا مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ قُوَّةٌ عَلَى الْبَحْثِ وَلَا نَظَرٌ صَحِيحٌ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هل يمكن معرفة انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْمُتَّفِقُونَ عَلَى تَصَوُّرِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ اخْتَلَفُوا فِي إِمْكَانِ مَعْرِفَتِهِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ أَيْضًا وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ، وَمِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنِ ادَّعَى وُجُودَ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ كَاذِبٌ (1) اعْتِمَادًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى اعْتِقَادِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى سَمَاعِ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ مَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَوْ مُشَاهَدَةِ فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَذَلِكَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي الْبِلَادِ النَّائِيَةِ وَالْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ مُتَعَذِّرٌ عَادَةً. وَبِتَقْدِيرِ الْمَعْرِفَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَعْرِفَةُ مُعْتَقَدِهِ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ وَالِاجْتِمَاعِ بِهِ وَهُوَ أَيْضًا مُتَعَذِّرٌ (2) . وَبِتَقْدِيرِ الِاجْتِمَاعِ بِهِ وَسَمَاعِ قَوْلِهِ وَرُؤْيَةِ فِعْلِهِ أَوْ تَرَكِهِ قَدْ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْيَقِينَ بِأَنَّهُ مُعْتَقَدُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارُهُ وَمَا يُشَاهِدُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ (3) . وَبِتَقْدِيرِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِمُعْتَقَدِهِ، فَلَعَلَّهُ يَرْجِعُ عَنْهُ قَبْلَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَاقِينَ وَحُصُولِ الْعِلْمِ بِمُعْتَقَدِهِمْ (4) ، وَمَعَ الِاخْتِلَافِ فَلَا إِجْمَاعَ. وَطَرِيقُ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَالَ: جَمِيعُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَاطِلٌ بِالْوَاقِعِ، وَدَلِيلُ الْوُقُوعِ مَا عَلِمْنَاهُ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ مِنْ أَنَّ مَذْهَبَ جَمِيعِ الشَّافِعِيَّةِ امْتِنَاعُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، وَبُطْلَانُ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ، وَأَنَّ مَذْهَبَ جَمِيعِ الْحَنَفِيَّةِ نَقِيضُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ جَمِيعِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّشْكِيكَاتِ وَالْوُقُوعُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ دَلِيلُ الْجَوَازِ الْعَادِي وَزِيَادَةٌ.   (1) قِيلَ: إِنَّهُ قَالَهَا عَلَى طَرِيقِ الْوَرَعِ، وَزَجْرًا عَنِ الْجُرْأَةِ عَلَى دَعْوَى الْإِجْمَاعِ دُونَ تَحَرٍّ، وَتَتَبُّعٍ لِأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ لَهُ مَعْرِفَةٌ، أَوْ أَنَّهُ أَنْكَرَ إِجْمَاعَ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، أَوِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، أَوْ مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَحْمُودَةِ - انْظُرْ ص 315 - 316 مِنْ مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ، طَبْعَةُ الْمَدَنِيِّ. (2) قَدْ يُعْرَفُ مُعْتَقَدُهُ مِنْ تَأْلِيفِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ تَلَامِيذِهِ فِي رَحَلَاتِهِمْ طَلَبًا لِلْعِلْمِ وَنَشْرِهِ، فَلَا يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ. (3) الْأَصْلُ أَنْ نَحْكُمَ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ، فَيَجِبُ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ مُعْتَقَدِهِ، وَلَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُسِيءَ بِهِ الظَّنَّ. (4) الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَثْبُتَ الْنَّاقِلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فَإِنْ قِيلَ إِنَّمَا عَلِمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ. فَعَلِمْنَا أَنَّ مَذْهَبَ كُلِّ مَنْ يَتْبَعُهُ وَهُوَ مُقَلِّدٌ لَهُ ذَلِكَ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا نَصٌّ عَنِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ يَكُونُ مُسْتَنَدَ إِجْمَاعِهِمْ، وَلَوْ عُرِفَ ذَلِكَ لَكَانَ هُوَ الْحُجَّةَ (1) . قُلْنَا: هَذَا وَإِنِ اسْتَمَرَّ لَكُمْ هَاهُنَا فَلَا يَسْتَمِرُّ (2) فِيمَا نَقَلَهُ قَطْعًا مِنَ اعْتِقَادِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ مِنْ إِنْكَارِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا فِيهِ أَنَّهُ قَوْلُ مُوسَى وَلَا عِيسَى، وَلَا قَوْلُ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يَكُونَ اعْتِقَادُهُمْ ذَلِكَ لِاتِّبَاعِهِمْ لَهُ. (3) فَمَا هُوَ الْجَوَابُ هَاهُنَا فَهُوَ الْجَوَابُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ (4) .   (1) لَمْ يُوجَدْ إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا مَانِعَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِدَلِيلَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عَلَى قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَثِيرًا مَا قِيلَ فِي الِاحْتِجَاجِ دَلِيلُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ تَضَافُرِ الْأَدِلَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لَكَفَى. (2) اسْتَمَرَّ يَسْتَمِرُّ - اطَّرَدَ يَطَّرِدُ. (3) لَمْ يَتَّبِعِ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى مُوسَى وَلَا عِيسَى فِيمَا أَنْكَرُوا مِنَ الْحَقِّ، وَلَكِنَّهُمْ تَبِعُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ فِيمَا شَرَّعُوا لَهُمْ مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَقَلَّدُوهُمْ غُلُوًّا فِيهِمْ وَعَصَبِيَّةً لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ: ص 197. (4) وَأَخِيرًا فَالْقَوْلُ بِثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَالْإِطْلَاعِ عَلَيْهِ قَرِيبٌ لِقِلَّةِ الْعَدَدِ، وَتَقَارُبِ الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْعَدَمِ وَالسَّعْيِ الْحَثِيثِ فِي طَلَبِهِ مَعَ انْحِصَارِ الْخِلَافِ وَضِيقِ دَائِرَتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاطِّلَاعِ عَلَى إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي أَيِّ عَصْرٍ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ لها قوة النصوص] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اتَّفَقَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالنَّظَّامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَدِ احْتَجَّ أَهْلُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَخَمْسُ آيَاتٍ: الْآيَةُ الْأُولَى، وَهِيَ أَقْوَاهَا وَبِهَا تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى مُتَابَعَةِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُحَرَّمًا لَمَا تَوَعَّدَ عَلَيْهِ وَلَمَا حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ مِنْ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّوَعُّدِ كَمَا لَا يَحْسُنُ التَّوَعُّدُ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْكُفْرِ وَأَكْلِ الْخُبْزِ الْمُبَاحِ. فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ " مِنْ " لِلْعُمُومِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي مَسَائِلِ الْعُمُومِ حَتَّى يَتَنَاوَلَ كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلْعُمُومِ، غَيْرَ أَنَّ التَّوَعُّدَ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا وَقَعَ مَشْرُوطًا بِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ، وَالْمَشْرُوطُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ. سَلَّمْنَا لُحُوقَ الذَّمِّ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى انْفِرَادِهِ لَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ عَدَمُ مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونُ (غَيْرَ) بِمَعْنَى إِلَّا، وَبَيْنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ مُتَابَعَةُ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَكُونُ (غَيْرَ) هَاهُنَا صِفَةً لِسَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ (غَيْرَ) صِفَةً لِسَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَبِيلُ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْكُفْرُ. وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ شَاقَقَ الرَّسُولَ وَكَفَرَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَوَعَّدًا بِالْعِقَابِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ. سَلَّمْنَا أَنَّ سَبِيلَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَعُّدِ عَلَى عَدَمِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، بَلْ غَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَعُّدِ عَدَمُ التَّوَعُّدِ عَلَى اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَفْهُومِهِ. وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الْمَفْهُومَ حُجَّةٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ، لَكِنْ فِي عَدَمِ التَّوَعُّدِ عَلَى مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ اتِّبَاعِهِمْ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عَدَمُ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ سَبِيلَ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ حُجَّةٌ، سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ عَصْرٍ، لَكِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ عَالِمٍ وَجَاهِلٍ، وَالْجُهَّالُ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي الْإِجْمَاعِ الْمُتَّبَعِ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ فَالْآيَةُ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَيْهِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي أَيِّ عَصْرٍ اتَّفَقَ، لَكِنَّ لَفْظَ (السَّبِيلِ) مُفْرَدٌ لَا عُمُومَ فِيهِ فَلَا يَقْتَضِي اتِّبَاعَ كُلِّ سَبِيلٍ سَلَّمْنَا عُمُومَهُ، لَكِنَّهُ مِمَّا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى مُتَابَعَةِ كُلِّ سَبِيلٍ وَإِلَّا لَوَجَبَ مُتَابَعَةُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا فَعَلُوهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ ; لِأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ وَلَا يَجِبُ لِحُكْمِهِمْ عَلَيْهِ بِالْإِبَاحَةِ. وَلَوَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ فِي إِجْمَاعِهِمْ قَبْلَ الِاتِّفَاقِ عَلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَاتِّبَاعُهُمْ فِي امْتِنَاعِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ مَحْضٌ (1) . وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مُتَابَعَةَ سَبِيلِهِمْ فِي مُتَابَعَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَرْكِ مُشَاقَّتِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ فِي الْإِيمَانِ وَاعْتِقَادَ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ اتِّبَاعَ سَبِيلِهِمْ فِي الِاجْتِهَادِ دُونَ التَّقْلِيدِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، كَيْفَ وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ وَفِيمَا بَعْدَهُ، وَلَوْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَكَانَ ذَلِكَ خَاصًّا بِمَا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِاسْتِحَالَةِ الِاحْتِجَاجِ بِالْإِجْمَاعِ فِي زَمَانِهِ   (1) يُقَالُ: لَا تُنَاقُضَ لِاخْتِلَافِ الْحَالِ، فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةٍ كَانَ قَبْلَ الِاتِّفَاقِ عَلَى حُكْمٍ فِيهَا، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا كَانَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى حُكْمِهَا فَاخْتَلَفَ الْحَالُ فِي الْإِجْمَاعَيْنِ، وَيَجِبُ اتِّبَاعُهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى الْجَوَازِ إِلَى أَنْ يَتِمَّ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْحُكْمِ، وَاتِّبَاعُهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ الثَّانِي عَلَى تَحْرِيمِ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْحُكْمِ، فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْإِجْمَاعَيْنِ، وَلَا بَيْنَ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيهِمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مُتَابَعَتُهُمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَكِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَابِقَةِ تَبَيُّنِ الْهُدَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} وَالْهُدَى مَذْكُورٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ هُدًى حَتَّى إِجْمَاعُهُمْ عَلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ الْهُدَى بِدَلِيلِهِ وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ مِنْ جُمْلَةِ الْهُدَى فَلَا بُدَّ مِنْ تَقَدُّمِ بَيَانِهِ بِدَلِيلِهِ، وَدَلِيلُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ هُدًى لَا يَكُونُ هُوَ نَفْسَ الْإِجْمَاعِ بَلْ هُوَ غَيْرُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَظُهُورُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ كَافٍ فِي اتِّبَاعِهِ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ. سَلَّمْنَا وُجُوبَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مُطْلَقًا لَكِنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ ; لِأَنَّ سَبِيلَهُمْ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، أَوِ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ لِأَنَّ سَبِيلَهُمْ سَبِيلُهُ، وَسَبِيلُ الْمَعْصُومِ لَا يَكُونُ إِلَّا حَقًّا، فَكَانَ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. سَلَّمْنَا وُجُوبَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ وَلَكِنْ إِذَا عُلِمَ كَوْنُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ بَاطِنٌ لَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُمْ مُؤْمِنِينَ فَالِاتِّبَاعُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِفَوَاتِ شَرْطِهِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْإِجْمَاعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} اقْتَصَرَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَى الْإِجْمَاعِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} نَهَى كُلَّ الْأُمَّةِ عَنْ هَاتَيْنِ الْمَعْصِيَتَيْنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَصَوُّرِهِمَا مِنْهُمْ، وَمَنْ تُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْمَعْصِيَةُ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ وَلَا فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَرَّ مُعَاذًا لَمَّا سَأَلَهُ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمَعْمُولِ بِهَا عَلَى إِهْمَالِهِ لِذِكْرِ الْإِجْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ الْإِجْمَاعُ دَلِيلًا لَمَا سَاغَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ خُلُوِّ الْعَصْرِ عَمَّنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ» ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وَأَيْضًا قَوْلُهُ: " «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا» " نَهَى الْكُلَّ عَنِ الْكُفْرِ، وَهُوَ دَلِيلُ جَوَازِ وُقُوعِهِ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» "، وَقَوْلُهُ: " «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهَا أَوَّلُ مَا يُنْسَى» "، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ» "، وَقَوْلُهُ: " «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ تَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ التَّمْرِ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ» ". وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ دَلِيلًا عَلَيْهَا، كَالتَّوْحِيدِ وَسَائِرِ الْمَسَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ (مِنْ) لِلْعُمُومِ سَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْعُمُومِ. قَوْلُهُمْ: إِنِ التَّوَعُّدَ إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُشَاقَّةِ وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ التَّوَعُّدَ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا بِمُشَاقَّةِ الرَّسُولِ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا بِهِ، فَيَكُونُ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُشَاقَّةِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ خَطَأً لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَوَابًا مُطْلَقًا، وَمَا لَا يَكُونُ صَوَابًا مُطْلَقًا لَا يَكُونُ جَائِزًا مُطْلَقًا وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; لِأَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُشَاقَّةِ لَيْسَتْ خَطَأً. فَقَوْلُهُ: لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَوَابًا مُطْلَقًا، قُلْنَا: إِنْ لَمْ تَكُنْ صَوَابًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الصَّوَابِ خَطَأً أَوْ لَا يَكُونُ خَطَأً، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ نَاقَضَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَمَا لَا يَكُونُ خَطَأً لَا يَلْزَمُ التَّوَعُّدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ شَاقَّ الرَّسُولَ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ مُشَاقَّتِهِ لِلرَّسُولِ، وَمُشَاقَّةُ الرَّسُولِ لَيْسَتْ مَعْصِيَةً فَقَطْ وَإِنَّمَا هِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 مَعْصِيَةٌ عَلَى سَبِيلِ الرَّدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفَعَلَ بَعْضَ الْمَعَاصِي لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُشَاقٌّ لِلرَّسُولِ. وَمَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ بِالسَّمْعِ، وَمَنْ لَا يَصِحُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ غَيْرُ سَدِيدٍ. فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْمُشَاقَّةِ لِلنَّبِيِّ تَكْذِيبُهُ، وَأَنَّ مَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ لَا يَعْلَمُ بِالسَّمْعِ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ الْإِجْمَاعِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَقِيلَ فِي جَوَابِهِ أَيْضًا إِنَّ الْوَعِيدَ إِذَا عُلِّقَ عَلَى أَمْرَيْنِ اقْتَضَى ذَلِكَ التَّوَعُّدَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جُمْلَةً وَإِفْرَادًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} فَإِنَّهُ يَقْتَضِي لُحُوقَ الْمَأْثَمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ جُمْلَةً، وَبِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ الْإِثْمِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى انْفِرَادِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْخَاصَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى لُزُومِ الْمَأْثَمِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ بِخُصُوصِهِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ عَلَى مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ تَكُنِ الْآيَةُ مُقْتَضِيَةً لِتُضَاعُفِ الْعَذَابِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِتَقْدِيرِ الِانْفِرَادِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِذَلِكَ لَكِنَّ نَفْيَ الْمُتَضَاعِفِ بِقَوْلِهِ: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: " إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا وَعُمَرَ أَوْ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، وَدَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِوُجُودِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ عَلَى أَمْرَيْنِ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ أَحَدِهِمَا لَكَانَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَا خِلَافَ فِي التَّوَعُّدِ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 عِنْدَ الْمُشَاقَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَفْسَدَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ (1) أَوْ لَا لِمَفْسَدَةٍ. لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي: فَإِنَّ مَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ لَا تَوَعُّدَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْمَفْسَدَةُ فِي اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِهَةِ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ أَوْ لَا مِنْ جِهَةِ مُشَاقَّتِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَذِكْرُ الْمُشَاقَّةِ كَافٍ فِي التَّوَعُّدِ كَمَا قِيلَ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قَوْلِهِ: " {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} "، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَزِمَ التَّوَعُّدُ لِتَحَقُّقِ الْمَفْسَدَةِ سَوَاءٌ وُجِدَتِ الْمُشَاقَّةُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ (2) . قَوْلُهُمْ إِنَّ (غَيْرَ) مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى إِلَّا أَوْ بِمَعْنَى الصِّفَةِ، قُلْنَا: لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ (غَيْرُ) هَاهُنَا صِفَةً ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ مُتَابِعَةِ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى إِبَاحَةِ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ أَنْ يَحْرُمَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَقُولَ بِحَظْرِهِ أَوْ وُجُوبِهِ، وَالْمُخَالِفُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ تَحْرِيمَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَذَلِكَ يَعُمُّ تَحْرِيمَ كُلِّ سَبِيلٍ هُوَ غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ ; لِأَنَّهُ سَبِيلُ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ حَالَةً، وَتَمَسَّكَ بِهَا وَكَانَ مَعْرُوفًا بِهَا يُقَالُ إِنَّهَا سَبِيلُهُ، سَوَاءٌ تَعَدَّدَتِ الْأَحْوَالُ أَوِ اتَّحَدَتْ.   (1) الصَّوَابُ: مُتَعَقِلَةٌ (2) هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ بَيْنَ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ تَلَازُمًا، كَالتَّلَازُمِ بَيْنَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِهِ، فَكُلُّ مَا كَانَ مُشَاقَّةً لِلرَّسُولِ، فَهُوَ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَذَا الْعَكْسُ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ لِرَسُولِهِ، وَكُلَّ طَاعَةٍ لِلَّهِ أَوْ لِقَضَائِهِ طَاعَةٌ لِرَسُولِهِ وَلِقَضَائِهِ، كَذَا الْعَكْسُ. قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النِّسَاءِ) ، وَقَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (الْأَحْزَابِ) ، وَقَالَ تَعَالَى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) الْآيَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدَ عَصَا اللَّهَ. . إِلَخْ. فَلَمْ يَكْتَفِ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ وَلَمْ يَنْفَكَّ عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ سَلَكَ سَبِيلَ التُّجَّارِ فَهُمْ مِنْهُ أَنَّهُ يَفْعَلُ أَفْعَالَهُمْ وَيَتَزَيَّا بِزِيِّهِمْ، وَيَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِمْ، وَيَجْرِي عَلَى عَادَاتِهِمْ. وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ السَّبِيلِ الْمُتَوَعَّدِ عَلَى اتِّبَاعِهِ إِذَا كَانَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ كُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ يَعُمُّ ذَلِكَ مَا كَانَ مُخَالِفًا لِطَرِيقِ الْأُمَّةِ وَسَبِيلِهِمْ. كَيْفَ وَإِنَّا لَوْ لَمْ نَعْتَقِدْ ذَلِكَ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ (السَّبِيلِ) مُبْهَمًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ عَلَى مَا سَبَقَ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّوَعُّدِ عَلَى مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَفْهُومِهِ، قُلْنَا: إِذَا سَلَّمَ أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّبَاعُ كُلِّ سَبِيلٍ سِوَى سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا نُرِيدُ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً سِوَى هَذَا. قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ) كُلُّ مَنْ آمَنَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَصِحُّ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَفْظُ (الْمُؤْمِنِينَ) حَقِيقَةً يَكُونُ لِمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْإِيمَانِ، وَالِاتِّصَافُ بِالْإِيمَانِ مَشْرُوطٌ بِالْوُجُودِ وَالْحَيَاةِ، وَمَنْ لَا حَيَاةَ لَهُ مِمَّنْ مَاتَ أَوْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَقِيقَةً، فَلَفْظُ (الْمُؤْمِنِينَ) حَقِيقَةً إِنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ دُونَ مَنْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ. وَهَذَا وَإِنْ مَنَعَ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى مَنْ فِي عَصْرِهِمْ وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْخُصُومِ (1) . الثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ الزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْحَثُّ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ عِنْدَ حَمْلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذْ لَا زَجْرَ، وَلَا حَثَّ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَوْلُهُمْ: الْآيَةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ غَيْرَ أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي الْعَالِمِ، وَالْجَاهِلِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا (2) نُسَلِّمُ ذَلِكَ   (1) لَا يُسَلِّمُ الِاحْتِجَاجَ بِذَلِكَ مَنْ يَشْتَرِطُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، كَمَا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ الْخُصُومِ. (2) الصَّوَابُ: لَا نُسَلِّمُ بِحَذْفِ الْوَاوِ ; إِذْ هُوَ جَوَابٌ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِرَاضِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عَلَى مَا يَأْتِي (1) وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ الْآيَةَ حُجَّةٌ فِي اتِّبَاعِ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ فَتَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً فِي الْبَاقِي. قَوْلُهُمْ: لَفْظُ (السَّبِيلِ) مُفْرَدٌ لَا عُمُومَ فِيهِ، عَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (2) . الثَّانِي: أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِلَفْظِهِ، أَوْ لَا يَكُونَ عَامًّا بِلَفْظِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا بِلَفْظِهِ فَهُوَ عَامٌّ بِمَعْنَاهُ وَإِيمَائِهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَّ سَبِيلٍ كَانَ مُنَاسِبٌ لِكَوْنِهِ مَصْلَحِيًّا، وَقَدْ رُتِّبَ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، فَكَانَ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ مَهْمَا تَحَقَّقَ. قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ مُتَابَعَةِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا فَعَلُوهُ وَحَكَمُوا بِكَوْنِهِ مُبَاحًا، وَهُوَ تُنَاقُضٌ. قُلْنَا: الْآيَةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ سَبِيلٍ لَهُمْ، فَفِعْلُهُمْ لِلْمُبَاحِ سَبِيلٌ، وَحُكْمُهُمْ بِجَوَازِ التَّرْكِ سَبِيلٌ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ فِي إِيجَابِ الْفِعْلِ اتِّبَاعًا لِفِعْلِهِمْ لَهُ مُخَالَفَتُهَا فِي اتِّبَاعِهِمْ فِي اعْتِقَادِ جَوَازِ تَرْكِهِ (3) . قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ مُتَابَعَةِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ وَتَحْرِيمِهِ (4) ، قُلْنَا: سَنُبَيِّنُ أَنَّهُ مَهْمَا انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى حُكْمٍ أَنَّهُ يَسْتَحِيلُ انْعِقَادُ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. قَوْلُهُمْ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مُتَابَعَتَهُمْ فِي مُتَابَعَتِهِمْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَرْكِ مُشَاقَّتِهِ أَوِ اتِّبَاعِهِمْ فِي الْإِيمَانِ أَوْ فِي الِاجْتِهَادِ،   (1) أَيْ: فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ اخْتَارَ الْآمِدِيُّ دُخُولَ الْعَامِّيِّ، وَاعْتِبَارَهُ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ. (2) أَيْ: فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ (غَيْرَ) مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى إِلَّا أَوْ بِمَعْنَى الصِّفَةِ. (3) مُقْتَضَى قَوْلِهِ: وَلَا يَلْزَمُ. إِلَى آخِرِهِ أَنَّ مَا ذَكَرَ مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ مِنْ وَجْهٍ وَمُوَافِقٌ لَهَا مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ حُكْمَ الْمُجْمِعِينَ بِإِبَاحَةِ الْفِعْلِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ حِينَمَا فَعَلُوهُ إِنَّمَا فَعَلُوهُ عَنْ وَجْهِ الْإِبَاحَةِ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُمْ فِي إِبَاحَتِهِمْ، وَفِي فِعْلِهِ إِنْ أَرَدْنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْقَعُوهُ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّخْيِيرُ وَالْإِبَاحَةُ، فَلَا مُخَالَفَةَ لِلْآيَةِ بِوَجْهٍ مَا وَلَا تَنَاقُضَ. (4) تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ ص (201) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 قُلْنَا: اللَّفْظُ يَعُمُّ كُلَّ سَبِيلٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَمَا ذَكَرُوهُ تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ الِاتِّبَاعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يُقْبَلُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِسَابِقَةِ تَبَيُّنِ الْهُدَى إِلَى آخِرِهِ، فَجَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَبَيُّنَ الْهُدَى إِنَّمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْوَعِيدِ عَلَى الْمُشَاقَّةِ لَا فِي الْوَعِيدِ عَلَى اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشَاقَّةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ تَبَيُّنِ الْهُدَى وَمَعْرِفَتِهِ بِدَلِيلِهِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ لَا يُوصَفُ بِالْمُشَاقَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ تَبَيُّنَ الْأَحْكَامِ الْفُرُوعِيَّةِ لَيْسَ شَرْطًا فِي مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَبَيَّنَ صِدْقَ النَّبِيِّ، وَحَادَ عَنْهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِالْمُشَاقَّةِ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْفُرُوعِ غَيْرَ مُتَبَيِّنٍ لَهَا. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ شَرْطًا فِي الْمُشَاقَّةِ فَلَا تَكُونُ مُشْتَرَطَةً فِي لُحُوقِ الْوَعِيدِ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا. الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا خَرَجَتْ مَخْرَجَ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِلْحَاقِ الذَّمِّ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِهِمْ. فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا بِتَبَيُّنِ كَوْنِهِ هُدًى، وَلَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُهُمْ فِي سَبِيلِهِمْ لِأَجْلِ أَنَّهُ سَبِيلٌ لَهُمْ بَلْ لِمُشَارَكَتِهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ لِتَبَيُّنِ كَوْنِهِ هُدًى، لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ تَعْظِيمِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَتَمَيُّزِهِمْ بِذَلِكَ. فَإِنَّ كُلَّ مَنْ ظَهَرَ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ وَاعْتِقَادِهِ، فَالْوَعِيدُ حَاصِلٌ بِمُخَالَفَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ كَالْوَعِيدِ عَلَى عَدَمِ مُشَارَكَةِ الْيَهُودِ فِيمَا ظَهَرَ كَوْنُ مُعْتَقَدِهِمْ فِيهِ هُدًى كَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَاعْتِقَادِ كَوْنِ مُوسَى رَسُولًا كَرِيمًا. قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنَ (الْمُؤْمِنِينَ) الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ أَوْ مَنْ كَانَ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ عَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا حَقَّقْنَاهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فَتَخْصِيصُهَا بِالْأَئِمَّةِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (1) الَّذِينَ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ غَيْرُ مَقْبُولٍ.   (1) صَوَابُهُ: أَوْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 كَيْفَ وَأَنَّ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى الْوَعِيدِ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعِنْدَهُمُ التَّوَعُّدُ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْإِمَامِ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ. قَوْلُهُمْ: سَلَّمْنَا وُجُوبَ اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ لَكِنْ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ الْحَثُّ عَلَى مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَالزَّجْرُ عَنْ مُخَالَفَتِهِ فَإِنْ كَانَ سَبِيلُهُمْ مَعْلُومًا فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَالتَّكْلِيفُ بِاتِّبَاعِ مَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا إِمَّا أَنْ لَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ أَوْ يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَةِ الْأُولَى، فَلَيْسَ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً مُتَّبَعَةً بِالْآيَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا (1) مَا يُنَافِي كَوْنَ الْكِتَابِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَأَصْلًا لَهُ، (2) وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِي كُلِّ مُتَنَازَعٍ فِيهِ، وَكَوْنُ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً مُتَّبَعَةً مِمَّا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ، وَقَدْ رَدَدْنَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ أَثْبَتْنَاهُ بِالْقُرْآنِ، وَهُمْ مُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ (3) . وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِمَا رَاجِعٌ إِلَى اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا نُهُوا عَنْهُ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ جَوَازُهَا عَلَى الْجُمْلَةِ. سَلَّمْنَا أَنَّ النَّهْيَ لِجُمْلَةِ الْأُمَّةِ عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَكِنْ غَايَةُ ذَلِكَ جَوَازُ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ عَقْلًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْجَوَازِ الْوُقُوعُ. وَلِهَذَا فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} إِذْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ النَّهْيِ مَعَ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَعْصُومًا مِنْ ذَلِكَ.   (1) صَوَابُهُ: ذَكَرْنَاهَا. (2) إِذْ هُوَ حُجَّةٌ مُصَدَّقَةٌ لِمَا اسْتَنَدَتْ إِلَيْهِ، وَتَفَرَّعَتْ عَنْهُ مِنَ الْكِتَابِ، أَوِ السُّنَّةِ فَيَكُونُ مِنْ تَظَافُرِ الْأَدِلَّةِ. (3) وَأَيْضًا سَيَأْتِي بَيَانُ وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مَنْهِيٌّ عَنِ الزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ بَعْضُ الْمَعَاصِي نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ، فَكَانَ مَعْصُومًا عَنْهَا ضَرُورَةَ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِأَنَّهُ لَا يَأْتِي بِهَا وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا. وَأَمَّا خَبَرُ مُعَاذٍ فَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ الْإِجْمَاعُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَكُنْ مُؤَخَّرًا لِبَيَانِهِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ» " (1) لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى مَنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ هُمُ الْأَقَلُّونَ. وَقَوْلُهُ: " «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا» " (2) ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنِينَ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ الْكُلِّ فَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ فِي آيَاتِ الْمَنَاهِي لِلْأُمَّةِ. وَقَوْلُهُ: " «حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا» " (3) الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ غَايَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ انْقِرَاضِ الْعُلَمَاءِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ امْتِنَاعَ وُجُودِ الْإِجْمَاعِ مَعَ انْقِرَاضِ الْعُلَمَاءِ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي اجْتِمَاعِ مَنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ بَاقِي الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى خُلُوِّ آخِرِ الزَّمَانِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَمَّنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَحَتَّى يَظْهَرَ الدَّجَّالُ» ". وَأَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " «وَاشَوْقَاهُ إِلَى إِخْوَانِي، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، إِخْوَانِي قَوْمٌ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي يَهْرَبُونَ بِدِينِهِمْ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ وَيَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» ". وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ.   (1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. (2) جُزْءٌ مِنْ خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ مِنًى فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. (3) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَأَوَّلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ، وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ إِجْمَاعَ عُلَمَاءِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمِلَلِ أَيْضًا حُجَّةٌ قَبْلَ النَّسْخِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي حَقِّهِمْ مِنَ الدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِهِمْ مَا وَرَدَ فِي عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَافْتَرَقَا. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْأَخِيرَةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ لَا يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا التَّوْحِيدُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِيهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِيهِ، بَلْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا غَيْرَ، غَيْرَ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يَجُوزُ فِيهِ تَقْلِيدُ الْعَامِّيِّ لِلْعَالِمِ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى أَدِلَّةٍ يَشْتَرِكُ فِيهَا الْكُلُّ وَهِيَ أَدِلَّةُ الْعَقْلِ بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْعَالِمِ فِيهَا. وَإِذَا جَازَ أَوْ وَجَبَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ كَانَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى (1) . الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وَصَفَ الْأُمَّةَ بِكَوْنِهِمْ وَسَطًا، وَالْوَسَطُ هُوَ الْعَدْلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَاللُّغَةُ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ} أَعْدَلُهُمْ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا» ". وَأَمَّا اللُّغَةُ فَقَوْلُ الشَّاعِرِ: هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ (2) أَيْ عُدُولٌ.   (1) يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَا وَضَحَ مِنْ أَحْكَامِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، وَتَمَكَّنَ الْمُكَلَّفُ مُطْلَقًا مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَلَوْ بِالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ فِي الْبَحْثِ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّقْلِيدُ فِيهِ، وَمَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِمَا، وَلَوْ مُجْتَهِدًا بَعْدَ الْبَحْثِ حَسَبَ طَاقَتِهِ قَلَّدَ فِيهِ مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ عِبَادَهُ إِلَّا وُسْعَهُمْ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ وَالْبَلَاغِ وَعَدَمِهِ، وَمِنْ جِهَةِ التَّفَاوُتِ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَظُرُوفِ الْحَيَاةِ. (2) الْبَيْتُ لِزُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، انْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ جَرِيرٍ لِلْآيَةِ، وَتَعْلِيقَ الْأُسْتَاذِ مَحْمُودِ مُحَمَّدِ شَاكِرٍ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ أَنَّهُ عَدَّلَهُمْ وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ فِي قَبُولِ أَقْوَالِهِمْ كَمَا جُعِلَ الرَّسُولُ حُجَّةً عَلَيْنَا فِي قَبُولِ قَوْلِهِ عَلَيْنَا، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً سِوَى كَوْنِ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا وَصْفُهُمْ بِالْعَدَالَةِ لِيَكُونُوا شُهَدَاءَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى النَّاسِ بِتَبْلِيغِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهِمُ الرِّسَالَةَ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عَدَالَتَهُمْ وَقَبُولَ شَهَادَتِهِمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَالَةَ مَا يَشْهَدُونَ دُونَ حَالَةِ التَّحَمُّلِ فِي الدُّنْيَا. سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} لَفْظُ عُمُومٍ يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَانَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً وَلَا حُجَّةَ فِي الْمُجْمَلِ. سَلَّمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مُجْمَلَةً، وَلَكِنَّا قَدْ عَمِلْنَا بِهَا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ بِإِيجَابِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِمْ وَتَكْلِيفِهِمْ بِمَا كَلَّفَهُمْ بِهِ فَلَا يَبْقَى حُجَّةٌ فِي غَيْرِهِ لِتَوْفِيَةِ الْعَمَلِ بِدَلَالَةِ الْآيَةِ. سَلَّمْنَا قَبُولَ شَهَادَتِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَالَةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِ، وَهُوَ مُخَصَّصٌ بِالْإِجْمَاعِ بِالْفُسَّاقِ، وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ، وَالْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، لَا يَبْقَى حُجَّةً عَلَى مَا سَيَأْتِي. (لَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ، سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَعِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ بَاطِنًا) (1) بَلْ ظَاهِرًا فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ. سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ مُطْلَقًا لَكِنْ فِيمَا يَشْهَدُونَ بِهِ لَا فِيمَا يَحْكُمُونَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. سَلَّمْنَا قَبُولَ قَوْلِهِمْ مُطْلَقًا، غَيْرَ أَنَّ الْخِطَابَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ جَمِيعِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِمَّا مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي وَقْتِ الْخِطَابِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا حُجَّةَ فِي إِجْمَاعِ كُلِّ عَصْرٍ إِذْ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ.   (1) فِي الْعِبَارَةِ الَّتِي بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ: سَلَّمْنَا أَنَّهَا تَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَالَتِهِمْ، وَعِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ بَاطِنًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ حُجَّةً، وَإِجْمَاعُ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً بَعْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى بَقَاءِ كُلِّ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ بَعْدَ النَّبِيِّ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَقَالَهُ كُلُّ وَاحِدٍ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ جِدًّا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ وَصْفَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ بِالْعَدَالَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَتَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ. وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ فِي الْآخِرَةِ لَا غَيْرَ، لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عُدُولٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَلْ مَعْصُومُونَ عَنِ الْخَطَأِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ مِنْهُمْ (1) ، وَفِيهِ إِبْطَالُ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ سَنَجْعَلُكُمْ عُدُولًا، لَا أَنْ يَقُولَ جَعَلْنَاكُمْ، وَإِنْ كَانَ الْقِسْمَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَعَنِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ نَفْيًا لِلْإِجْمَالِ عَنِ الْكَلَامِ. الثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِجَاجَ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بَلْ فِي وَصْفِهِمْ بِالْعَدَالَةِ، وَمَهْمَا كَانُوا عُدُولًا وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَجَوَابُهُ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى وَصْفِ جُمْلَةِ الْأُمَّةِ بِالْعَدَالَةِ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ عَدَالَتُهُمْ فِيمَا يَقُولُونَهُ جُمْلَةً وَآحَادًا غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي بَعْضِ الْآحَادِ فَتَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً فِي عَدَالَتِهِمْ فِيمَا يَقُولُونَهُ جُمْلَةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.   (1) إِنْ أَرَادَ بِجَمِيعِ الْأُمَمِ أُمَمَ الْإِجَابَةِ، أَيْ: كُلُّ أُمَّةٍ آمَنَتْ بِرَسُولِهَا، فَالْحُكْمُ بِعَدَالَتِهَا وَعِصْمَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِجَمِيعِهَا أُمَمَ الدَّعْوَةِ أَيْ مِمَّا يَشْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، فَدَعْوَى عَدَالَتِهِمْ وَعِصْمَتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ الْخَطَأِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، قَالَ تَعَالَى فِي بَيَانِ حَالِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) ، وَقَالَ (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 قَوْلُهُمْ: الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَا يَبْقَى حُجَّةً سَنُبْطِلُهُ فِيمَا يَأْتِي (1) . وَأَمَّا السُّؤَالُ الْخَامِسُ، فَجَوَابُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِكَوْنِهِمْ عُدُولًا وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حَقِيقَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِكَوْنِهِ عَالِمًا بِالْخَفِيَّاتِ فَإِنَّ الْحَكِيمَ إِذَا عَلِمَ مِنْ حَالِ شَخْصٍ أَنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ عَدْلٌ. وَجَوَابُ السَّادِسِ، أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ وَصْفُهُمْ بِالْعَدَالَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ مِمَّا يَرَوْنَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ يَجِبُ صِدْقُهُمْ فِيهِ وَإِلَّا لَمَا كَانُوا عُدُولًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِذَا كَانُوا صَادِقِينَ فِيهِ فَهُوَ صَوَابٌ لِكَوْنِهِ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ» " (2) وَإِذَا كَانَ صَوَابًا كَانَ خِلَافُهُ خَطَأً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَجَوَابُ السَّابِعِ، أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى حَمْلِ لَفْظِ الْأُمَّةِ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِالرَّسُولِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَلَا عَلَى مَنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ أَقْوَالَهُمْ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهَا فِي زَمَنِهِ وَلَا وُجُودَ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَاتَ بَعْدَ الْخِطَابِ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فَائِدَةٌ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ كَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ (3) . الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ) وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ عَمَّتْ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَمُقْتَضَى صِدْقِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَنَهْيُهُمْ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ، فَإِذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا أَوْ مُنْكَرًا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا وَإِلَّا لَكَانُوا نَاهِينَ عَنْهُ ضَرُورَةَ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا آمِرِينَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ   (1) سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ. (2) هُوَ مِنْ كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ. (3) اعْتَرَضَ الْإِسْنَوِيُّ فِي " نِهَايَةِ السُّولِ فِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الْأُصُولِ " عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِآيَةِ " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ. . . " إِلَخْ. بِأَنَّهُ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى الْمُدَّعِي ; لِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تُنَافِي صُدُورَ الْبَاطِلِ نِسْيَانًا وَغَلَطًا. . . إِلَخْ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 مَعْرُوفًا، فَخِلَافُهُ يَكُونُ مُنْكَرًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِذَا نَهَوْا عَنْ شَيْءٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا، أَوْ مَعْرُوفًا لَا جَائِزًا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا، وَإِلَّا لَكَانُوا آمِرِينَ بِهِ ضَرُورَةَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْعُمُومِ لَا نَاهِينَ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ مُنْكَرًا فَخِلَافُهُ يَكُونُ مَعْرُوفًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ لِلِاسْتِغْرَاقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَعَلَى هَذَا فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ عَامَّةً فِي الْأَمْرِ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَلَا النَّهْيِ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ. سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلْعُمُومِ لَكِنَّ قَوْلَهُ: (كُنْتُمْ) يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِمْ مُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْمَاضِي وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اتِّصَافُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ، بَلْ رُبَّمَا دَلَّ عَلَى عَدَمِ اتِّصَافِهِمْ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ نَظَرًا إِلَى قَاعِدَةِ الْمَفْهُومِ، وَعَلَى هَذَا فَمَا وُجِدَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ لَا نَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَيَكُونُ حُجَّةً، أَوْ بَعْدَهَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. سَلَّمْنَا اتِّصَافَهُمْ بِذَلِكَ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِدَامَتِهِمْ لِذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَعَلَى هَذَا، فَمَا وُجِدَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ مِمَّا لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةِ كَوْنِهِ حُجَّةً أَوْ فِي غَيْرِهَا. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، لَكِنَّهُ مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُمْ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْكُلِّ، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ خِلَافَ ذَلِكَ ضَرُورَةً، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ بَعْضَ الْأُمَّةِ فَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَلَا مَعْلُومٍ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مَا سَيَأْتِي فِي الْعُمُومَاتِ، كَيْفَ وَأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَمْيِيزِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ؟ فَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ مَحْمُولَةً عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَبَطَلَتْ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ أَمَرَتْ بِالْمَعْرُوفِ كَاتِّبَاعِ أَنْبِيَائِهِمْ وَشَرَائِعِهِمْ، وَنَهَتْ عَنِ الْمُنْكَرِ كَنَهْيِهِمْ عَنِ الْإِلْحَادِ وَتَكْذِيبِ أَنْبِيَائِهِمْ. وَعَنِ الثَّانِي، إِنَّهُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ (كَانَ) هَاهُنَا زَائِدَةً أَوْ تَامَّةً أَوْ زَمَانِيَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 فَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً كَمَا فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: فَكَيْفَ إِذَا مَرَرْتُ بِدَارِ قَوْمٍ ... وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامًا (1) فَإِنَّهُ جَعَلَ (كِرَامًا) نَعْتًا لِلْجِيرَانِ وَأَلْغَى (كَانَ) فَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى اتِّصَافِهِمْ بِذَلِكَ حَالًا، لَا فِي الْمَاضِي وَإِنْ أَفَادَتْ نَصْبَ {خَيْرَ أُمَّةٍ} كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} . وَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً، وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ وَالْحُدُوثِ، وَيُكْتَفَى فِيهَا بِاسْمٍ وَاحِدٍ لَا خَبَرَ فِيهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} مَعْنَاهُ حَضَرَ أَوْ وَقَعَ ذُو عُسْرَةٍ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ فَأَدْفِئُونِي ... فَإِنَّ الشَّيْخَ يَهْدِمُهُ الشِّتَاءُ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} أَيْ: وُجِدْتُمْ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: {خَيْرَ أُمَّةٍ} نَصْبًا عَلَى الْحَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى اتِّصَافِهِمْ بِذَلِكَ فِي الْحَالِ لَا فِي الْمَاضِي. وَإِنْ كَانَتْ زَمَانِيَّةً وَهِيَ النَّاقِصَةُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْمٍ وَخَبَرٍ، فَكَانَ، وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى الْمَاضِي فَقَوْلُهُ: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ كَذَلِكَ فِي كُلِّ حَالٍ لِوُرُودِ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ التَّعْظِيمِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ الَّذِي قَبْلَهُ (2) . وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّ قَوْلَهُ: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ صَالِحٌ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا عَلَى الْعُمُومِ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ. وَعَنِ الرَّابِعِ أَنَّهُ إِذَا سُلِّمَ كَوْنُ الْآيَةِ حُجَّةً فِي إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ كَافٍ (3) إِذْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ النِّزَاعِ.   (1) الصَّوَابُ: كِرَامٍ، بِالْجَرِّ صِفَةٌ لِجِيرَانٍ سَوَاءٌ أَكَانَتْ كَانَ نَاقِصَةً، فَتَكُونُ جُمْلَتُهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ، أَمْ كَانَتْ تَامَّةً أَمْ زَائِدَةً، فَتَكُونُ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ فَاعِلِهَا مُعْتَرِضَةً بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ. (2) هَذَا الِاحْتِمَالُ هُوَ الظَّاهِرُ، فَكَانَ نَاقِصَةٌ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ شَأْنَ كُلِّ جَمَاعَةٍ فِي عَصْرِهَا الْأَمْرُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَالنَّهْيُ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. (3) أَيْ: فِي إِبْطَالِ مَذْهَبِ مَنْ لَا يَرَى حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا، لَكِنْ تَبْقَى الْآيَةُ دَلِيلًا لِلْمُسْتَدِلِّ عَلَى حُجِّيَّةِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَقَطْ دُونَ إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَإِذَنْ لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ أَيْضًا مُطَابِقًا لِدَعْوَى الْمُسْتَدِلِّ حُجِّيَّةَ الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مِنَ الْعُصُورِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وَعَنِ الْخَامِسِ أَنَّ الْخِطَابَ إِذَا كَانَ مَعَ الْأُمَّةِ كَانَ ذَلِكَ حُجَّةً فِي مَا وُجِدَ مِنْ أَمْرِهِمْ وَنَهْيِهِمْ جُمْلَةً وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً فِي الْأَفْرَادِ. الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} ) وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، أَنَّهُ تَعَالَى نَهَى عَنِ التَّفَرُّقِ، وَمُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ تَفَرُّقٌ، فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً سِوَى النَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ صِيغَةِ النَّهْيِ - وَإِنْ سَلَّمْنَاهَا - وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي النَّوَاهِي. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، بَلِ التَّفَرُّقُ فِي الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ إِذْ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْآيَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِعَبِيدِهِ: (ادْخُلُوا الْبَلَدَ أَجْمَعِينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا) فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي دُخُولِ الْبَلَدِ، وَمَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَصْرِ اعْتِصَامٌ بِحَبْلِ اللَّهِ؛ فَلَا يَكُونُ التَّفَرُّقُ مَنْهِيًّا عَنْهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ النَّهْيَ عَامٌّ فِي كُلِّ تَفَرُّقٍ، وَلَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا قَبْلَ الْإِجْمَاعِ. فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَإِذَا كَانَتِ الظُّنُونُ وَالْآرَاءُ مُخْتَلِفَةً كَانَ التَّفَرُّقُ مَأْمُورًا بِهِ لَا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَالْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَا يَبْقَى حُجَّةً عَلَى مَا سَيَأْتِي. سَلَّمْنَا صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، لَكِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ. وَإِجْمَاعُ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ غَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهِ فِي زَمَانِهِ إِجْمَاعًا، وَلَا تَحَقُّقَ لِوُجُودِهِمْ بِجُمْلَتِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ؛ حَتَّى يَكُونَ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَا سَيَأْتِي فِي النَّوَاهِي. وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} أَمْرٌ بِالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ، وَقَوْلَهُ: {وَلَا تَفَرَّقُوا} نَهْيٌ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ وَإِلَّا كَانَ النَّهْيُ عَنِ التَّفَرُّقِ فِي الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللَّهِ مُفِيدًا لِمَا أَفَادَهُ الْأَمْرُ بِالِاعْتِصَامِ بِهِ، فَكَانَ تَأْكِيدًا، وَالْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ التَّأْسِيسُ دُونَ التَّأْكِيدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وَعَنِ الرَّابِعِ بَيَانُ كَوْنِ الْعَامِّ حُجَّةً بَعْدَ التَّخْصِيصِ كَمَا يَأْتِي فِي الْعُمُومَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَيَبْقَى حُجَّةً فِي امْتِنَاعِ التَّفَرُّقِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ وَفِي امْتِنَاعِ مُخَالَفَةِ مَنْ وُجِدَ بَعْدَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ لَهُمْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَعَنِ الْخَامِسِ بِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ بِتَقْدِيرِ وَجُودِهِمْ وَفَهْمِهِمْ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي الْأَوَامِرِ. الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ: أَنَّهُ شَرَطَ التَّنَازُعَ فِي وُجُوبِ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْمَشْرُوطُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدِ التَّنَازُعُ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْحُكْمِ كَافٍ عَنِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً سِوَى هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: سُقُوطُ وُجُوبِ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ عَلَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَافِيَانِ فِي الْحُكْمِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَفِيهِ تَجْوِيزُ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ. كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا وُجِدَ التَّنَازُعُ مِمَّنْ تَأَخَّرَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لِإِجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ. قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، فَلَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ دَلِيلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِيَصِحَّ مَا ذَكَرُوهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُمْ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِنْبَاطُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا انْحِصَارَ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اكْتِفَاءِ مَنْ وُجِدَ بَعْدَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، أَوِ اكْتِفَاءِ مَنْ وُجِدَ فِي عَصْرِهِمْ مِنَ الْمُقَلِّدَةِ بِإِجْمَاعِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي فَمُشْكِلٌ جِدًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مُفِيدَةً لِلظَّنِّ فَغَيْرُ مُفِيدَةٍ لِلْقَطْعِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ فَاحْتِجَاجُهُ فِيهَا بِأَمْرٍ ظَنِّيٍّ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْمَطْلُوبِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا اجْتِهَادِيَّةٌ ظَنِّيَّةٌ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِتَابِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وَأَمَّا السُّنَّةُ وَهِيَ أَقْرَبُ الطُّرُقِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَاطِعَةً، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى أَجِلَّاءُ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَغَيْرِهِمْ، بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْأَلْفَاظِ مُتَّفِقَةِ الْمَعْنَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِصْمَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ وَالضَّلَالَةِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ» ، «أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الضَّلَالَةِ» ، «وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ بِالَّذِي يَجْمَعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» ، «لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى الْخَطَأِ» ، «وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ لَا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ فَأَعْطَانِيهِ» ". وَقَوْلِهِ: " «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» (1) ، «يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَلَا يُبَالِي بِشُذُوذِ مَنْ شَذَّ» ، «وَمَنْ سَرَّهُ بُحْبُوحَةُ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ لَتُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» ، «وَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْفَذِّ، وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» ، «وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ خِلَافُ مَنْ خَالَفَهُمْ» ، «وَمَنْ خَرَجَ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ» (2) . «قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» ، «وَمَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ وَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ» ، «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» (3) ". وَقَوْلِهِ: " «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي نَيِّفًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟ قَالَ: هِيَ الْجَمَاعَةُ» ". إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا تُحْصَى كَثْرَةً، وَلَمْ تَزَلْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ مَعْمُولًا بِهَا، وَلَمْ يُنْكِرْهَا مُنْكِرٌ وَلَا دَفَعَهَا دَافِعٌ.   (1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقُنَا فِي ص 214. (2) الْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ أَهْلُ الْحَقِّ الْمُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا (3) عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ لَمْ يَصِحَّ حَدِيثًا، وَقَدْ رُوِيَ ضِمْنَ حَدِيثٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُسَيِّبِ بْنِ وَاضِحٍ السُّلَمِيِّ عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ أَبَدًا، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ إِلَى النَّارِ ". وَالْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ كُلُّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ تَبْلُغُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ وَلَا تُفِيدُ الْيَقِينَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا التَّوَاتُرَ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ (1) الْخَطَأِ وَالضَّلَالَةِ عَنِ الْأُمَّةِ عِصْمَةَ جَمِيعِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ لَا بِتَأْوِيلٍ وَلَا شُبْهَةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِمْ (2) عِصْمَتَهُمْ عَنِ الْخَطَأِ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِيمَا يُوَافِقُ النَّصَّ الْمُتَوَاتِرَ أَوْ دَلِيلَ الْعَقْلِ، دُونَ مَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْ كُلِّ خَطَأٍ وَضَلَالٍ، لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأُمَّةِ كُلَّ مَنْ آمَنَ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ لَيْسُوا كُلَّ الْأُمَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ امْتِنَاعُ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ عَلَيْهِمْ. سَلَّمْنَا انْتِفَاءَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ عَنِ الْإِجْمَاعِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، مَعَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فِي الْفَرْعِيَّاتِ مُصِيبٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدِ الْمُصِيبِينَ اتِّبَاعُ الْمُصِيبِ الْآخَرِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَلَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ وَالْمَعْقُولِ فِي الْآيَةِ الْأَوْلَى (3) . وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَإِنْ كَانَ خَبَرَ وَاحِدٍ يَجُوزُ تَطَرُّقُ الْكَذِبِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ مِنْ جُمْلَتِهَا قَصْدُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعْظِيمَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعِصْمَتَهَا عَنِ الْخَطَأِ كَمَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ سَخَاءُ حَاتِمٍ، وَشَجَاعَةُ عَلِيٍّ، وَفِقْهُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَمَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى عَائِشَةَ دُونَ بَاقِي نِسَائِهِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي آحَادُهَا آحَادٌ، غَيْرَ أَنَّهَا نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ التَّوَاتُرِ (4) .   (1) بِهِ: صَوَابُهُ: بِنَفْيِ. (2) بِهِمْ، صَوَابُهُ: بِهِ، أَيْ بِنَفْيِ الْخَطَأِ. إِلَخْ. (3) انْظُرِ الْمُعَارَضَةَ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ ص 202، 203. (4) صَوَابُهُ: الْمُتَوَاتِرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ لَمْ تَزَلْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُتَمَسَّكًا بِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهَا وَلَا نَكِيرٍ إِلَى زَمَانِ وُجُودِ الْمُخَالِفِينَ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِإِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ، وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ مَعَ تَكَرُّرِ الْأَزْمَانِ وَاخْتِلَافِ هِمَمِهِمْ وَدَوَاعِيهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ الْمَحْكُومُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَبِّهَ أَحَدٌ عَلَى فَسَادِهِ وَإِبْطَالِهِ وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فَلَا قَطْعَ. قَوْلُكُمْ: إِنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى الْإِجْمَاعِ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ اسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ، بَلْ بِغَيْرِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى صِحَّةِ الْأَحَادِيثِ بِالْإِجْمَاعِ. سَلَّمْنَا اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُ دَوْرٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَحَادِيثِ عَلَى الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِحَّتِهَا مِنْ عَدَمِ النَّكِيرِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا. وَذَلِكَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الصِّحَّةِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهَا لِبِنَاءِ هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ عَلَيْهَا لِإِحَالَةِ (1) الْعَادَةِ أَنْ لَا تُعَرِّفَ الصَّحَابَةُ لِلتَّابِعِينَ طَرِيقَ صِحَّتِهَا؛ قَطْعًا لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ. قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ فَلَوْ وُجِدَ فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَيْهِ نَكِيرٌ لَاشْتَهَرَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَعَظُمَ الْخِلَافُ فِيهِ، كَاشْتِهَارِ خِلَافِهِمْ فِيمَا هُوَ دُونَهُ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي دِيَةِ الْجَنِينِ، وَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَحَدِّ الشُّرْبِ، وَمَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتِ الْعَادَةُ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهِ، بَلْ كَانَ نَقْلُهُ أَوْلَى مِنْ نَقْلِ مَا خُولِفَ فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، بَلْ أَوْلَى مِنْ نَقْلِ خِلَافِ النَّظَّامِ فِي ذَلِكَ مَعَ خَفَائِهِ وَقِلَّةِ الِاعْتِبَارِ بِقَوْلِهِ. وَجَوَابُ الثَّانِي: مَا ظَهَرَ وَاشْتَهَرَ مِنْ تَمَسُّكِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ فِي مَعْرِضِ التَّهْدِيدِ لِمُخَالِفِ الْجَمَاعَةِ، وَالزَّجْرِ عَنِ الْخُرُوجِ عَنْهُمْ ظُهُورًا لَا رَيْبَ فِيهِ.   (1) صَوَابُهُ لَأَحَالَتْ، وَالْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ جَوَابُ: لَوْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 وَجَوَابُ الثَّالِثِ: أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى صِحَّةِ الْأَخْبَارِ لَمْ يَكُنْ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ بِالْعَادَةِ الْمُحِيلَةِ لِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِمَا لَا صِحَّةَ لَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الْأَحْكَامِ. وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْعَادَةِ غَيْرُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْعَادَةِ عَلَى إِحَالَةِ دَعْوَى وُجُودِ مُعَارِضٍ لِلْقُرْآنِ وَانْدِرَاسِهِ، وَوُجُودِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ صَلَاةِ الضُّحَى وَصَوْمِ شَوَّالٍ وَنَحْوِهِ. وَجَوَابُ الرَّابِعِ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ قَدْ عَلِمَتْ صِحَّةَ الْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ وَكَوْنَهَا مُفِيدَةً لِلْعِلْمِ، بِعِصْمَةِ الْأُمَّةِ لَا بِصَرِيحِ مَقَالٍ بَلْ بِقَرَائِنِ أَحْوَالٍ وَأَمَارَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى ذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى نَقْلِهَا، وَلَوْ نُقِلَتْ لَتَطَرَّقَ إِلَيْهَا التَّأْوِيلُ وَالِاحْتِمَالُ، وَاكْتَفَوْا بِمَا يَعْلَمُهُ التَّابِعُونَ مِنْ أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ الِاعْتِمَادَ عَلَى مَا لَا أَصْلَ لَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ (1) . قَوْلُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَفَى عَنْهُمُ الضَّلَالَ وَالْخَطَأَ بِمَعْنَى الْكُفْرِ (2) . قُلْنَا: هَذِهِ الْأَخْبَارُ نَعْلَمُ أَنَّهَا إِنَّمَا وَرَدَتْ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ، وَفِي حَمْلِهَا عَلَى نَفْيِ الْكُفْرِ عَنْهُمْ خَاصَّةً إِبْطَالُ فَائِدَةِ اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ لِمُشَارَكَةِ بَعْضِ آحَادِ النَّاسِ لِلْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ أَرَادَ بِهَا الْعِصْمَةَ عَمَّا لَا يُعْصَمُ عَنْهُ الْآحَادُ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ بَاقِي التَّأْوِيلَاتِ فَبَاطِلٌ. فَإِنَّ فَائِدَةَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ إِنَّمَا وَرَدَتْ لِإِيجَابِ مُتَابَعَةِ الْأُمَّةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَالزَّجْرِ عَنْ مُخَالَفَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ، بَلْ عَلَى بَعْضٍ غَيْرِ مَعْلُومٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَخْبَارِ؛ لَامْتَنَعَ إِيجَابُ مُتَابَعَتِهِمْ فِيهِ لَكِنَّهُ (3) غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَبَطَلَتْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ الْأُمَّةِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ قَصْدُ تَعْظِيمِهَا لِمُشَارَكَةِ آحَادِ النَّاسِ لَهُمْ فِي نَفْيِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ عَنْهُمْ عَلَى مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ.   (1) هَذَا آخِرُ الْأَجْوِبَةِ الْأَرْبَعَةِ عَنِ الْأَمْثِلَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّ أَحَدًا أَنْكَرَ. . إِلَخْ. (2) هَذَا مُلَخَّصُ السُّؤَالِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ كُلُّهَا أَخْبَارُ آحَادٍ. . إِلَخْ. (3) لَكِنَّهُ صَوَابُهُ لِكَوْنِهِ، وَهُوَ عِلَّةٌ لِامْتِنَاعِ إِيجَابِ الْمُتَابَعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ: مَا سَبَقَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ انْتِقَاءُ الْخَطَأِ عَنِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قَطْعًا، فَمُخَالِفُهُ يَكُونُ مُخْطِئًا قَطْعًا، وَالْمُخْطِئُ قَطْعًا فِي أُمُورِ الدِّينِ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ لَا يَخْرُجُ عَنِ التَّبْدِيعِ وَالتَّفْسِيقِ، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ سِوَى ذَلِكَ. كَيْفَ وَإِنَّهُ إِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْخَطَأِ عَنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَكَانَ وَاجِبًا نَفْيًا لِلْخَطَأِ عَنْهُمْ وَعَنِ الْمُعَارَضَاتِ (1) النَّقْلِيَّةِ مَا سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْخَلْقَ الْكَثِيرَ - وَهُمْ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ - إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى حُكْمِ قَضِيَّةٍ وَجَزَمُوا بِهِ جَزْمًا قَاطِعًا، فَالْعَادَةُ تُحِيلُ عَلَى مِثْلِهِمُ الْحُكْمَ الْجَزْمَ بِذَلِكَ وَالْقَطْعَ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُسْتَنَدٌ قَاطِعٌ (2) بِحَيْثُ لَا يَتَنَبَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَى الْخَطَأِ فِي الْقَطْعِ بِمَا لَيْسَ بِقَاطِعٍ. وَلِهَذَا وَجَدْنَا أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ قَاطِعِينَ بِتَخْطِئَةِ مُخَالِفِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ إِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُمْ، وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٍ قَاطِعٍ لَاسْتَحَالَ فِي الْعَادَةِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْقَطْعِ بِتَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ وَلَا يَقِفُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ سَلَكَ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ الْمَعْنَوِيَّةَ لَمْ يَرَ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عِنْدَمَا إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُجْمِعِينَ يَنْقُصُ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِجْمَاعُ الْمُحْتَجُّ بِهِ خَصِيصًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي إِجْمَاعِ كُلِّ مَنْ بَلَغَ عَدَدُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. وَقَدِ احْتَجَّ الشِّيعَةُ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ (3) مَا مِنْ عَصْرٍ إِلَّا وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ إِمَامٍ مَعْصُومٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ قَاعِدَتِهِمْ فِي ذَلِكَ فِي " أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ " فَإِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى حُكْمِ حَادِثَةٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِيهِمُ الْإِمَامُ الْمَعْصُومُ لِكَوْنِهِ سَيِّدَ الْعُلَمَاءِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الِاتِّفَاقُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْإِمَامُ الْمَعْصُومُ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا   (1) انْظُرِ الْجَوَابَ عَنِ الْمُعَارَضَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ فِي ص 209 - 210 - 211 (2) جُمْلَةُ وَلَيْسَ لَهُ مُسْتَنَدٌ قَاطِعٌ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ تُحِيلُ. (3) بِأَنَّ - صَوَابُهُ: بِأَنَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 مَقْطُوعًا بِهِ، وَمَا وَافَقَهُ مِنْ قَوْلِ بَاقِي الْأُمَّةِ أَيْضًا يَكُونُ مَقْطُوعًا بِهِ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلْمَقْطُوعِ بِهِ، وَمُخَالِفُ الْقَاطِعِ مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ الْخَطَأَ عَلَى الْخَلْقِ الْكَثِيرِ بِظَنِّهِمْ مَا لَيْسَ قَاطِعًا قَاطِعًا. وَلِهَذَا فَإِنَّ الْيَهُودَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةً تَخْرُجُ عَنْ حَدِّ التَّوَاتُرِ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْكَارِ رِسَالَتِهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِخَطَئِهِمْ فِي ظَنِّ مَا لَيْسَ قَاطِعًا قَاطِعًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِاسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، أَوْ لَا يُقَالَ بِاسْتِحَالَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا حَقًّا لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ (1) . فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي إِبْطَالِ التَّمَسُّكِ هَاهُنَا بِالْعَادَةِ لَازَمٌ عَلَيْكُمْ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالسُّنَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، فَإِنَّ حَاصِلَهُ آيِلٌ إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِالْعَادَةِ، وَفِيهِ إِبْطَالُ مَا قَرَّرْتُمُوهُ. قُلْنَا: الَّذِي تَمَسَّكْنَا بِهِ مِنَ الْعَادَةِ إِحَالَةُ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى إِسْنَادِ الْمَقْطُوعِ إِلَى الْأَخْبَارِ الَّتِي مُسْتَنَدُ الْعِلْمِ بِهَا وَبِمَدْلُولِهَا السَّمَاعُ الْمَحْسُوسُ أَوْ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ، وَالَّذِي لَا نُحِيلُهُ فِي الْعَادَةِ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ الْغَلَطُ بِظَنِّ مَا لَيْسَ مَقْطُوعًا مَقْطُوعًا بِهِ فِيمَا هُوَ نَظَرِيٌّ وَطُرُقُهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْسُوسٍ، وَلَا مُسْتَنَدُ الْعِلْمِ بِهِ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ فَافْتَرَقَ الْبَابَانِ.   (1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا فِي ص 197، وَاقْرَأْ مَا يَأْتِي مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالسِّيرَةِ لِتَعْلَمَ أَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى إِنْكَارِ نُبُوُّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ عِنَادًا وَحَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا خَدَعُوا الْأُمِّيِّينَ مِنْهُمْ فَتَبِعُوهُمْ تَقْلِيدًا لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) الْآيَاتِ - الْمَائِدَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ) الْآيَاتِ - آلِ عِمْرَانَ، وَقَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) الْآيَاتِ، الْقَصَصِ، وَقَالَ تَعَالَى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) الْأَحْقَافِ، وَقَالَ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) الْبَقَرَةِ. وَقَالَ: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) الْآيَاتِ - آلِ عِمْرَانَ، وَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) الْآيَةَ - الْمَائِدَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وَأَمَّا حُجَّةُ الشِّيعَةِ فَمَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُودِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فِي كُلِ عَصْرٍ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ بِالِاعْتِرَاضَاتِ الْقَادِحَةِ وَالْإِشْكَالَاتِ الْمُشَكْلَةِ عَلَى جِهَةِ الْوَفَاءِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي مَوْضِعِهِ اللَّائِقِ بِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، فَعَلَيْكَ بِمُرَاجَعَتِهِ (1) . [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ لا عبرة بغير المسلمين في الإجماع] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً عَلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَةِ مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ، وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّفَاقُ كُلِّ أَهْلِ الْمِلَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا عُرِفَ كَوْنُهُ حُجَّةً بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَهِيَ مَعَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا لَا إِشْعَارَ لَهَا بِإِدْرَاجِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي الْإِجْمَاعِ وَلَا دَلَالَةَ لَهَا إِلَّا عَلَى عِصْمَةِ أَهْلِ الْمِلَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا فِي إِثْبَاتِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا إِبْطَالِهَا، وَإِذَا تَمَّ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ، فَلَا اعْتِبَارَ بِمُخَالَفَتِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَوِ اعْتُبِرَ فِيهِ إِجْمَاعُ كُلِّ أَهْلِ الْمِلَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَمَا أَمْكَنَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، أَمَّا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلِعَدَمِ كَمَالِ الْمُجْمِعِينَ، وَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ وَلَا اسْتِدْلَالَ.   (1) وَانْظُرْ أَيْضًا مِنْهَاجَ السُّنَّةِ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَةِ الْعَامِّيِّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِمُوَافَقَةِ الْعَامِّيِّ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ، وَاعْتَبَرَهُ الْأَقَلُّونَ وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ الْأُمَّةِ إِنَّمَا كَانَ حُجَّةً لِعِصْمَتِهَا عَنِ الْخَطَأِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ السَّمْعِيَّةُ مِنْ قَبْلُ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ مِنْ صِفَاتِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْعِصْمَةُ الثَّابِتَةُ لِلْكُلِّ ثَابِتَةً لِلْبَعْضِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ لِلْجُمْلَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلْأَفْرَادِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ تَخْصِيصُ مَا وَرَدَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ بِأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ لِسِتَّةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ الْمَصِيرُ إِلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا تَكُونُ مُخَالَفَتُهُ مُعْتَبَرَةً فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّقْلِيدُ فِيهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلُهَا حُجَّةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ ; لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُحَالٌ، وَالْعَامِّيُّ لَيْسَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَ الْعَامِّيِّ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ خَطَأٌ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَالْمَقْطُوعُ بِخَطَئِهِ لَا تَأْثِيرَ لِمُوَافَقَتِهِ وَلَا لِمُخَالَفَتِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ عُلَمَاؤُهُمْ وَعَوَامُّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمُوَافَقَةِ الْعَامِّيِّ وَلَا بِمُخَالَفَتِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا عُصِمَتْ عَنِ الْخَطَأِ فِي اسْتِدْلَالِهَا ; لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ وَدَلِيلٍ خَطَأٌ، وَالْعَامِّيُّ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ عِصْمَةِ الِاسْتِدْلَالِ فِي حَقِّهِ. السَّادِسُ: هُوَ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِصَابَةُ إِذَا (1) كَانَ قَائِلًا بِالْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ عِصْمَتُهُ ; لِأَنَّ الْعِصْمَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْإِصَابَةِ.   (1) لَعَلَّ كَلِمَةَ: إِذَا مُحَرَّفَةٌ عَنْ إِذْ، فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِلنَّفْيِ الَّذِي قَبْلَهَا لَا تَقْيِيدًا لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ الرُّجُوعُ إِلَى أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ دُونَهُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الِاحْتِجَاجُ بِأَقْوَالِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ مَشْرُوطًا بِمُوَافَقَةِ الْعَامَّةِ لَهُمْ (1) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعَامَّةِ لَهُمْ فِيمَا يُفْتُونَ بِهِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِي الْإِجْمَاعِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، لَكِنْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ مُطْلَقًا: الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَةُ الْعَامَّةِ لِلْعُلَمَاءِ الْمُسْتَدِلِّينَ شَرْطًا فِي جَعْلِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعَامِّيُّ مُسْتَدِلًّا (2) ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ مُوَافَقَةِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ مُوَافَقَةِ الْعَامَّةِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ فِي قُرْبٍ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ الْمُوجِبُ لِلتَّكْلِيفِ، وَبُعْدُهُ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ الْمَانِعُ مِنَ التَّكْلِيفِ (3) وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْعَامِّيِّ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ خَطَأً، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ مُوَافَقَتِهِ لِلْعُلَمَاءِ فِي أَقْوَالِهِمْ شَرْطًا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ (4) . وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ دَعْوَى لَمْ يَقُمْ عَلَيْهَا دَلِيلٌ (5) وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ الْعَامِّيَّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَتُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ شَرْطًا فِي كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً.   (1) إِذَا سَلَّمَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى رَأْيِهِ، إِذْ لَوْ رَأَى رَأَيًا بِالْخَرْصِ وَالتَّخْمِينِ كَانَ آثِمًا، فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مُوَافَقَتُهُ لِلْعُلَمَاءِ بِمَا هُوَ آثِمٌ بِهِ اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا فُهِمَ رَأْيُهُ عَنْ مُشَارَكَةٍ فِي الْبَحْثِ مَثَلًا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ، وَلَيْسَ عَامِّيًّا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ. (2) جَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ. (3) التَّفَاوُتُ بِقُرْبِ الْفَهْمِ، وَبُعْدُهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِيمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَدُّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وُصُولُهُ بِالْفِعْلِ إِلَى قَوْلٍ نَتِيجَةً لِبَحْثِهِ، وَلَوْ لِمُشَارَكَةِ الْعُلَمَاءِ، وَإِذَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ لَيْسَ بِعَامِّيٍّ كَمَا تَقَدَّمَ. (4) جَوَابُهُ وَجَوَابُ الْخَامِسِ وَالسَّادِسِ مَا تَقَدَّمَ فِي جَوَابِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ. (5) دَلِيلُهُ الِاسْتِقْرَاءُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ أَنَّ خَلِيفَةً مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ اسْتَدْعَى عَامِّيًّا لِأَخْذِ رَأْيِهِ فِي قَضِيَّةٍ إِنَّمَا كَانُوا يَسْتَدْعُونَ الْعُلَمَاءَ، وَمَنْ فِيهِمْ أَهْلِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْعَامِّيُّ إِذَا انْفَرَدَ بِالْحُكْمِ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْإِصَابَةُ، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَصْوِيبِهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ بِتَقْدِيرِ مُوَافَقَتِهِ لَهُمْ فِي أَقْوَالِهِمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَامِّيَّ مُصِيبٌ فِي مُوَافَقَتِهِ لِلْعُلَمَاءِ، وَعَلَى هَذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ مُوَافَقَتُهُ شَرْطًا فِي جَعْلِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ، غَيْرَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْإِجْمَاعِ عِنْدَ دُخُولِ الْعَوَامِّ فِيهِ يَكُونُ قَطْعِيًّا وَبِدُونِهِمْ يَكُونُ ظَنِّيًّا (1) وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ بِإِدْخَالِ الْعَوَامِّ فِي الْإِجْمَاعِ، قَالَ بِإِدْخَالِ الْفَقِيهِ الْحَافِظِ لِأَحْكَامِ الْفُرُوعِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أُصُولِيًّا، وَبِإِدْخَالِ الْأُصُولِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، لِمَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعَامَّةِ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْأَهْلِيَّةِ وَصِحَّةِ النَّظَرِ، هَذَا فِي الْأَحْكَامِ، وَهَذَا فِي الْأُصُولِ. وَمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْعَوَامِّ فِي الْإِجْمَاعِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَقِيهِ وَالْأُصُولِيِّ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَمَنْ أَثْبَتَ نَظَرَ إِلَى مَا اشْتَمَلَا عَلَيْهِ مِنَ الْأَهْلِيَّةِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْعَامِّيِّ، وَدُخُولِهِمَا فِي عُمُومِ لَفْظِ الْأُمَّةِ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا. وَمَنْ نَفَى نَظَرَ إِلَى عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ كَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْفَقِيهِ وَالْأُصُولِيِّ وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْفَقِيهِ الَّذِي لَيْسَ بِأُصُولِيٍّ وَأَلْغَى قَوْلَ الْأُصُولِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ الْحَالَ وَاعْتَبَرَ قَوْلَ الْأُصُولِيِّ دُونَ الْفَقِيهِ ; لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى مَقْصُودِ الِاجْتِهَادِ لِعَمَلِهِ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ عَلَى اخْتِلَافِ أَقْسَامِهَا، وَكَيْفِيَّةِ دَلَالَاتِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنْ مَنْطُوقِهَا وَمَفْهُومِهَا وَمَعْقُولِهَا بِخِلَافِ الْفَقِيهِ. وَمَنِ اعْتَبَرَ قَوْلَ الْأُصُولِيِّ وَالْفَقِيهِ، اعْتَبَرَ قَوْلَ مَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَهِرًا بِالْفَتْوَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَذَلِكَ كَوَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ وَنَحْوِهِ، وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ.   (1) فِيهِ أَنَّ الْمُؤَلِّفَ تَرَكَ مَا اخْتَارَهُ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ، وَنَزَلَ عَنْ مُقْتَضَى دَلِيلِهِ مِنَ اعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ الْعَامِّيِّ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ وَحُجِّيَّتِهِ إِلَى اعْتِبَارِ مُوَافَقَتِهِ فِي قَطْعِيَّةِ الْإِجْمَاعِ، فَالْإِجْمَاعُ إِذَنْ بِدُونِ مُوَافَقَةِ الْعَامِّيِّ لِلْعُلَمَاءِ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ حكم مخالفة المجتهد للإجماع] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْمُجْتَهِدُ الْمُطْلَقُ، إِذَا كَانَ مُبْتَدِعًا لَا يَخْلُو ; إِمَّا أَنْ لَا يُكَفَّرَ بِبِدْعَتِهِ أَوْ يُكَفَّرَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا (1) ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِجْمَاعُ لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَةُ إِجْمَاعِ مَنْ عَدَاهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ، لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَدَاخِلًا فِي مَفْهُومِ لَفْظِ الْأُمَّةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا، وَفِسْقُهُ غَيْرُ مُخِلٍّ بِأَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ فِيمَا يُخْبَرُ بِهِ عَنِ اجْتِهَادِهِ الصِّدْقُ، كَإِخْبَارِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. كَيْفَ وَإِنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ صِدْقُ الْفَاسِقِ بِقَرَائِنِ أَحْوَالِهِ فِي مُبَاحَثَاتِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَإِذَا عُلِمَ صِدْقُهُ، وَهُوَ مُجْتَهِدٌ كَانَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ فَاسِقًا، فَالْفَاسِقُ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ إِجْمَاعًا فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ، فَكَانَ كَالْكَافِرِ وَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ فِيمَا يُفْتِي بِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ خِلَافُهُ كَالصَّبِيِّ. قُلْنَا: إِنَّمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَأَوِّلًا وَكَانَ عَالِمًا بِفِسْقِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا، وَعَلَى هَذَا فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ قَبُولِ فَتْوَاهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ ظَهَرَ صِدْقُهُ عِنْدَهُ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي مُسَمَّى الْأُمَّةِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْعِصْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ كُفْرَ نَفْسِهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ خَالَفَ فِي مَسْأَلَةٍ فَرْعِيَّةٍ وَبَقِيَ مُصِرًّا عَلَى الْمُخَالَفَةِ حَتَّى تَابَ عَنْ بِدْعَتِهِ فَلَا أَثَرَ لِمُخَالَفَتِهِ ; لِانْعِقَادِ إِجْمَاعِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ خَالَفَ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضَ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ،   (1) أَيْ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ لَا عَلَيْهِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَنْعَقِدُ مُطْلَقًا عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وَلَوْ تَرَكَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ الْمُكَفَّرِ فَهُوَ مَعْذُورٌ، إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِبِدْعَتِهِ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِالْمُخَالَفَةِ كَمَا إِذَا عَمِلَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَةِ شَاهِدِ الزُّورِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِتَزْوِيرِهِ، وَإِنْ عَلِمَ بِبِدْعَتِهِ وَخَالَفَ الْإِجْمَاعَ لِجَهْلِهِ بِأَنَّ تِلْكَ الْبِدْعَةَ مُكَفِّرَةٌ فَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ لِتَقْصِيرِهِ عَنِ الْبَحْثِ وَالسُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ لِعُلَمَاءِ الْأُصُولِ (1) الْعَارِفِينَ بِأَدِلَّةِ الْإِيمَانِ وَالتَّكْفِيرِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ بِدَلِيلِهِ إِنْ كَانَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ فَهْمِهِ، وَإِلَّا قَلَّدَهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ مِنَ التَّكْفِيرِ، وَأَمَّا مَاذَا يُكَفَّرُ بِهِ مِنَ الْبِدَعِ فَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فِي حِكَايَاتِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ فِي " أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ " فَعَلَيْكَ بِمُرَاجَعَتِهِ. [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ حكم إِجْمَاعُ أَهَّلِ كُلِّ عَصْرٍ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِجْمَاعِ إِلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُحْتَجَّ بِهِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ بَلْ إِجْمَاعُ أَهَّلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةٌ خِلَافًا لِدَاوُدَ وَشِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ (2) وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ حُجَّةَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً غَيْرُ خَارِجَةٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَهْلِ عَصْرٍ وَعَصْرٍ، بَلْ هُوَ مُتَنَاوِلٌ لِأَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حَسَبَ تَنَاوُلِهِ لِأَهْلِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ إِجْمَاعٌ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ حُجَّةً. فَإِنْ قِيلَ: حُجَّةُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِمْ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} وَالْأَخْبَارُ عَلَى (3) عِصْمَةِ الْأُمَّةِ خَاصَّةٌ   (1) أَيْ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ. (2) انْظُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ إِحْكَامِ الْأَحْكَامِ لِابْنِ حَزْمٍ. (3) لَعَلَّ فِيهِ تَحْرِيفًا أَوْ حَذْفًا، وَالْأَصْلُ وَالْأَخْبَارُ عَنْ عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، أَوْ وَالْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 بِالصَّحَابَةِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِذَا هُمْ كُلُّ الْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ الْأُمَّةِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، لَا يَكُونُ مَوْصُوفًا بِالْإِيمَانِ وَبِكَوْنِهِ مِنَ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا التَّابِعُونَ وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ، فَلَيْسَ هُمْ كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا كُلَّ الْأُمَّةِ، فَلَا يَكُونُ الْخِطَابُ مُتَنَاوِلًا لَهُمْ وَحْدَهُمْ، بَلْ مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَهُمْ ضَرُورَةَ اتِّصَافِهِمْ بِذَلِكَ حَالَةَ وُجُودِهِمْ، وَبِمَوْتِهِمْ لَمْ يَخْرُجُوا عَنْ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنَ الْأُمَّةِ. وَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى حُكْمٍ، وَاتَّفَقَ التَّابِعُونَ عَلَى خِلَافِهِ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعُهُمْ مُنْعَقِدًا، وَلَوْ خَرَجَ بِمَوْتِهِ عَنِ الْأُمَّةِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ التَّابِعُونَ كُلَّ الْأُمَّةِ وَلَا كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَا يَكُونُ هُوَ قَوْلَ كُلِّ الْأُمَّةِ وَلَا كُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. وَسَوَاءٌ وُجِدَ لِمَنْ تَقَدَّمَ قَوْلٌ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، فَمُخَالِفُهُمْ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِكُلِّ الْأُمَّةِ وَلَا لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ وَالتَّوَعُّدِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى انْعِقَادِ إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ حُجَّةً لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا. فَإِنْ كَانَ إِجْمَاعَ مَنْ تَقَدَّمَ فَالْحُكْمُ ثَابِتٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا بِإِجْمَاعِ التَّابِعِينَ. وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا، فَيَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ جَمِيعِ التَّابِعِينَ لِيَكُونَ مَنَاطَ إِجْمَاعِهِمْ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وَإِنْ كَانَ نَصًّا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الصَّحَابَةُ عَالِمَةً بِهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّابِعِينَ بِهِ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ لَمَا تُصُوِّرَ تَوَاطُؤُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَرْكِهِ وَإِهْمَالِهِ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إِلَى قَوْلِ أَحَدٍ سِوَى الصَّادِقِ الْمُؤَيَّدِ بِالْمُعْجِزَةِ لِتَطَرُّقِ الْخَطَأِ وَالْكَذِبِ إِلَى مَنْ عَدَاهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الثَّنَاءُ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 عَلَى الصَّحَابَةِ بِقَوْلِهِ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» (1) "، وَقَوْلِهِ: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» "، وَالذَّمُّ لِأَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُصْبِحُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَحْلِفُ عَلَى مَا لَا يَعْلَمُ وَيَشْهَدُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَأَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ كَالذِّئَابِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الذَّمِّ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا (2) ، أَوْجَبَ قَصْرَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْإِجْمَاعِ إِنَّمَا يُمْكِنُ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَمَعْرِفَتِهِ فِي نَفْسِهِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنْهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ مَشْهُورِينَ مَحْصُورِينَ لِقِلَّتِهِمْ وَانْحِصَارِهِمْ فِي قُطْرٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ لِكَثْرَتِهِمْ وَتَشَتُّتِهِمْ فِي الْبِلَادِ الْمُتَبَاعِدَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ لَا تَكُونُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا وَلَا فِيهَا نَصٌّ قَاطِعٌ أَنَّهُ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا. فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا ثَمَّ نَصٌّ قَاطِعٌ، وَإِلَّا لَمَا سَاغَ مِنَ الصَّحَابَةِ تَرْكُهُ وَإِهْمَالُهُ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مُجْمَعًا عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا مِنْهُمْ، فَلَوْ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى حُكْمِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ مَنَعْنَا مِنَ اجْتِهَادِ غَيْرِهِمْ فِيهَا، فَقَدْ خَرَقْنَا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَإِنْ جَوَّزْنَا، فَإِجْمَاعُ التَّابِعِينَ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ غَائِبٌ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ بِنَفْيٍ، وَلَا إِثْبَاتٍ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ دُونَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِكَوْنِهِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَكَانَ لَهُ فِيهَا قَوْلٌ، فَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ مِنَ الصَّحَابَةِ قَبْلَ التَّابِعِينَ.   (1) قَالَ الْبَزَّارُ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ هُوَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمُعْتَمَدَةِ، انْظُرْ كَلَامَ الذَّهَبِيِّ فِي الْمِيزَانِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي تَرْجَمَةِ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيِّ. (2) مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي ذَمِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ أَجْزَاءٌ مِنْ أَحَادِيثَ اقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى مَوْضِعِ الشَّاهِدِ مَعَ نَوْعِ تَصَرُّفٍ فِي الْجُزْءِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مِمَّا يَحْصُلُ مِنْهُ كَثِيرًا، وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ ص 219 مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى صَنِيعِهِ ص 177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ خَالَفَ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَإِنَّ إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ بَعْدَهُ لَا يَنْعَقِدُ، وَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ خِلَافُ مَنْ تَقَدَّمَ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ لِاحْتِمَالِ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ تَقَدَّمَ خَالَفَ وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ، وَإِذَا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ، فَالْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ مُتَيَقَّنًا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُمْ فِي الْآيَاتِ إِنَّهَا خِطَابٌ مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَلْزَمُهُمْ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ ; لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ لَيْسَ إِجْمَاعَ جَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ وَقْتَ نُزُولِهَا، وَأَنْ لَا يُعْتَدَّ بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِهَا لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنِ الْمُخَاطَبِينَ. وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ يَكُونُ حُجَّةً. قَوْلُهُمْ: التَّابِعُونَ لَيْسَ هُمْ كُلَّ الْأُمَّةِ وَلَا كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ إِجْمَاعُ مَنْ بَقِيَ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ ; لِأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ اسْتُشْهِدَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الْمُؤْمِنِينَ وَالْأُمَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ، إِلَّا لِأَنَّ الْمَاضِيَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَوْلٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَمَا أَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ. وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ ثُمَّ مَاتَ وَأَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى خِلَافِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: إِنَّهُ يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ التَّابِعِينَ وَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِ الْمَاضِي، وَلَيْسَ بِحَقٍّ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى حُكْمٍ، ثُمَّ مَاتُوا وَأَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى خِلَافِ إِجْمَاعِ الْمَاضِينَ، أَنَّهُ يَنْعَقِدُ وَهُوَ مُحَالٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنَّمَا الْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا حَكَمَ الْوَاحِدُ مِنَ الصَّحَابَةِ بِحُكْمٍ ثُمَّ حَكَمَ التَّابِعُونَ بِخِلَافِهِ، فَحُكْمُ التَّابِعِينَ لَيْسَ هُوَ حُكْمَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَ الْخَوْضُ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهَا خِلَافُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ حُكْمُ كُلِّ الْأُمَّةِ الْمُعْتَبِرَينَ، وَهَذَا كَمَا لَوْ أَفْتَى الصَّحَابِيُّ بِحُكْمٍ ثُمَّ مَاتَ، وَأَجْمَعَ بَاقِي الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُهُمْ، وَإِنِ انْعَقَدَ إِجْمَاعُهُمْ إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ ; لِأَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْأَوَّلِ لَيْسَ هُوَ حُكْمَ كُلِّ الْأُمَّةِ الْمُعْتَبِرَينَ بِخِلَافِ حُكْمِهِمْ فِي الثَّانِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وَالْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَلِيلُ التَّابِعِينَ مَعْلُومًا لِلصَّحَابَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةُ الْحُكْمِ لَمْ تَقَعْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِحُكْمِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ فَتَعَرَّضُوا لِإِثْبَاتِ حُكْمِهَا بِنَاءً عَلَى مَا وَجَدُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ الَّذِي كَانَ مَعْلُومًا لِلصَّحَابَةِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ أَهْلِ عَصْرٍ وَعَصْرٍ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» (1) " لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الِاهْتِدَاءِ بِغَيْرِهِمْ إِلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَضْلًا عَنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي مَسَائِلِ الْمَفْهُومِ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ: " «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» " كَيْفَ وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ كَوْنَ إِجْمَاعِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَعَ مُخَالَفَةِ بَاقِي الصَّحَابَةِ لَهُمْ حُجَّةً قَاطِعَةً، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ مِنَ الصَّحَابَةِ؟ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ ذَمَّ أَهْلَ الْأَعْصَارِ الْمُتَأَخِّرَةِ. قُلْنَا: غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ غَلَبَةُ ظُهُورِ الْفَسَادِ وَالْكَذِبِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خُلُوِّ كُلِّ عَصْرٍ مِمَّنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ (2) ، وَأَنَّهُ (3) إِذَا اتَّفَقَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ عَلَى حُكْمٍ لَا يَكُونُونَ مَعْصُومِينَ عَنِ الْخَطَأِ فِيهِ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ تَصَوُّرِ الِاطِّلَاعِ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ وَمَعْرِفَتِهِمْ. وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهُ إِنْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى تَجْوِيزِ الْخِلَافِ مُطْلَقًا فَلَا يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ إِجْمَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْإِجْمَاعَيْنِ الْقَاطِعَيْنِ، وَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ فَلَا تَنَاقُضَ. وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّهَا مُنْتَقِضَةٌ بِالْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ مَاتَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ   (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 232. (2) بَلْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ عَلَى بَقَاءِ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَإِنْ كَانَ كَثُرَ أَهْلُ الشَّرِّ، كَحَدِيثِ: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً عَلَى الْحَقِّ. . . إِلَخْ (3) الْمَصْدَرُ الْمُؤَوَّلُ مِنْ أَنَّ وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا مَعْطُوفٌ عَلَى " خُلُوِّ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 مِنْ بَاقِي الصَّحَابَةِ دُونَهُ وَلَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَنْعَقِدْ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْغَائِبَ فِي الْحَالِ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْقَوْلِ وَالْحُكْمِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ بِخِلَافِ الْمَيِّتِ. وَعَنِ السَّادِسَةِ: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ بِالْمَيِّتِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ ; فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ خَالَفَ وَلَمْ يُنْقَلْ خِلَافُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ إِجْمَاعَ بَاقِي الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ يَكُونُ مُنْعَقِدًا، كَيْفَ وَإِنَّ النَّظَرَ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ مِمَّا لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ. وَإِلَّا لَمَا انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَدْ أَظْهَرَ الْمُوَافَقَةَ وَأَبْطَنَ الْمُخَالَفَةَ لِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مُوَافَقَتِهِ لِعُمَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ وَإِظْهَارِ النَّكِيرِ بَعْدَهُ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ حكم انْعِقَادِ إِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ إِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ، وَذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْخَيَّاطُ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ إِلَى انْعِقَادِهِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ عَدَدَ الْأَقَلِّ إِنْ بَلَغَ التَّوَاتُرَ لَمْ يُعْتَدَّ بِالْإِجْمَاعِ دُونَهُ وَإِلَّا كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ: إِنْ سَوَّغَتِ الْجَمَاعَةُ الِاجْتِهَادَ فِي مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ كَانَ خِلَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ، وَإِنْ أَنْكَرَتِ الْجَمَاعَةُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَخِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ وَالْمَنْعِ مِنْ تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ لَمْ يَكُنْ خِلَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ الْأَكْثَرِ يَكُونُ حُجَّةً وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ اتِّبَاعَ الْأَكْثَرِ أَوْلَى وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ، وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّمَسُّكَ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةٌ إِنَّمَا هُوَ بِالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي السُّنَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَلَفْظُ (الْأُمَّةِ) فِي الْأَخْبَارِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ كُلَّ الْمَوْجُودِينَ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْأَكْثَرَ كَمَا يُقَالُ: بَنُو تَمِيمٍ يَحْمُونَ الْجَارَ وَيُكْرِمُونَ الضَّيْفَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَكْثَرُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْجَمِيعِ مِمَّا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْإِجْمَاعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قَطْعًا لِدُخُولِ الْعَدَدِ الْأَكْثَرِ فِي الْكُلِّ، وَلَا كَذَلِكَ إِذَا حُمِلَ عَلَى الْأَكْثَرِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مَقْطُوعًا بِهِ لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ الْكُلِّ، وَالْأَكْثَرُ لَيْسَ هُوَ الْكُلَّ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى خِلَافِ الْوَاحِدِ، بَلْ سَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَكْثَرِ، وَلَوْ كَانَ إِجْمَاعُ الْأَكْثَرِ حُجَّةً مُلْزِمَةً لِلْغَيْرِ الْأَخْذَ بِهِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ اتِّفَاقُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ عَلَى امْتِنَاعِ قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ مَعَ خِلَافِ أَبِي بَكْرٍ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ خِلَافُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ لِمَا انْفَرَدَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ وَتَحْلِيلِ الْمُتْعَةِ وَأَنَّهُ لَا رِبَا إِلَّا فِي النَّسِيئَةِ. وَكَذَلِكَ خِلَافُهُمْ لِابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا انْفَرَدَ بِهِ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ، وَلِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ، وَلِأَبِي مُوسَى فِي قَوْلِهِ: النَّوْمُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَلِأَبِي طَلْحَةَ فِي قَوْلِهِ بِأَنَّ أَكْلَ الْبَرَدِ لَا يُفْطِرُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَ إِجْمَاعُ الْأَكْثَرِ حُجَّةً، لَبَادَرُوا بِالْإِنْكَارِ وَالتَّخْطِئَةِ وَمَا وُجِدَ مِنْهُمْ مِنَ الْإِنْكَارِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَمْ يَكُنْ إِنْكَارَ تَخْطِئَةٍ، بَلْ إِنْكَارُ مُنَاظَرَةٍ فِي الْمَأْخَذِ كَمَا جَرَتْ عَادَةُ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، وَلِذَلِكَ بَقِيَ الْخِلَافُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَقَلُّونَ جَائِزًا إِلَى وَقْتِنَا هَذَا، وَرُبَّمَا كَانَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَقَلُّ هُوَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ الْآنَ كَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ الْمَقْطُوعِ بِهِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا. وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُهُمْ هَاهُنَا بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ إِنَّهُ لَوِ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْأَكْثَرِ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ فَإِمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ مَا عَلِمَهُ بِالدَّلِيلِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى التَّقْلِيدِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْعَقِدِ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً مَقْطُوعًا بِهَا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ لَمَا سَاغَتْ مُخَالَفَتُهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ مِنَ الْأَكْثَرِ دُونَ الْأَقَلِّ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، فَالْقَوْلُ بِرُجُوعِ الْوَاحِدِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ اجْتِهَادُهُ، لَا يَكُونُ مُنْكَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الِاجْتِهَادِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى حُكْمٍ ثُمَّ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ مُجْتَهِدٌ يُرَى فِي اجْتِهَادِهِ مَا يُخَالِفُ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ السَّابِقَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ الْحُكْمُ بِهِ، بَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْأُمَّةِ (1) .   (1) هَذَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرَ عَنْ عَصْرِ الْإِجْمَاعِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ قَوْلُهُ: فِي انْعِقَادِهِ اتِّفَاقًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ بِدَلِيلِهِ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ فِي عَصْرِ الْإِجْمَاعِ فَقَوْلُهُ مُعْتَبَرٌ فِي انْعِقَادِهِ لِعَدَمِ انْطِبَاقِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِالنُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ النُّصُوصِ فَمِنْهَا مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ، وَلَفْظُ (الْأُمَّةِ) يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ وَإِنْ شَذَّ مِنْهُمُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ كَمَا يُقَالُ: بَنُو تَمِيمٍ يَحْمُونَ الْجَارَ، وَيُكْرِمُونَ الضَّيْفَ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَكْثَرُ، فَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ إِيَّاكُمْ وَالشُّذُوذَ» "، وَالْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَلْقِ الْكَثِيرِ شُذُوذٌ. ( «الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ عَنِ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» ) وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ اعْتَمَدَتْ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ لَمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ كَعَلِيٍّ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَلَوْلَا أَنَّ إِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ حُجَّةٌ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَقَلِّ، لَمَا كَانَتْ إِمَامَةُ أَبِي بَكْرٍ ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ بِأَمْرٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَخَبَرَ الْجَمَاعَةِ إِذَا بَلَغَ عَدَدُهُمْ عَدَدَ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَلْيَكُنْ مِثْلَهُ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ وَالْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: أَنَّ الْكَثْرَةَ يَحْصُلُ بِهَا التَّرْجِيحُ فِي رِوَايَةِ الْخَبَرِ، فَلْيَكُنْ مِثْلَهُ فِي الِاجْتِهَادِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَتْ مُخَالَفَةُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ لَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ مَا مِنْ إِجْمَاعٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ مُخَالَفَةُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فِيهِ إِمَّا سِرًّا وَإِمَّا عَلَانِيَةً. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فِي الْعَصْرِ الَّذِي هُمْ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُخَالِفٌ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرَتْ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ فِي رِبَا الْفَضْلِ فِي النُّقُودِ وَتَحْلِيلِ الْمُتْعَةِ وَالْعَوْلِ، وَلَوْلَا أَنَّ اتِّفَاقَ الْأَكْثَرِ حُجَّةٌ لَمَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمُجْتَهِدِ الْإِنْكَارُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ. وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمْ: لَفْظُ (الْأُمَّةِ) يَصِحُّ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْأَكْثَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قُلْنَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِذَا شَذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ وَاحِدٌ لَيْسَ هُمْ كُلَّ الْأُمَّةِ وَلَا كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَشِذَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ حَمْلُ لَفَظِ (الْأُمَّةِ) عَلَى الْكُلِّ لِكَوْنِ الْحُجَّةِ فِيهِ قَطْعِيَّةً لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي حُجَّتِنَا. وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» (1) " عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْعَصْرِ ; لِأَنَّهُ لَا أَعْظَمَ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَيْسَ الْأَعْظَمَ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ فِي عَصْرِهِمْ مُخَالِفٌ لَهُمْ. قُلْنَا: هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَأْتِي بِعْدَهُمْ أَقَلَّ عَدَدًا مِنْهُمْ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " «عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ» " وَحَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» "، إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ انْعِقَادَ جَمَاعَةِ الصَّلَاةِ بِهِمَا، وَقَوْلِهِ: " «إِيَّاكُمْ وَالشُّذُوذَ» ". قُلْنَا: الشَّاذُّ هُوَ الْمُخَالِفُ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ لَا مَنْ خَالَفَ قَبْلَ الْمُوَافَقَةِ، وَقَوْلِهِ: " «الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ عَنِ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» " أَرَادَ بِهِ الْحَثَّ عَلَى طَلَبِ الرَّفِيقِ فِي الطَّرِيقِ، وَلِهَذَا قَالَ " «وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» ". وَمَا ذَكَرُوهُ فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُعْتَبَرٌ فِي انْعِقَادِ الْإِمَامَةِ، بَلِ الْبَيْعَةُ بِمَحْضَرٍ مِنْ عَدْلَيْنِ كَافِيَةٌ. كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِ الْكُلِّ عَلَى بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَأَخَّرَ عَنِ الْبَيْعَةِ إِنَّمَا تَأَخَّرَ لِعُذْرٍ أَوْ طَرْءِ أَمْرٍ مَعَ ظُهُورِ الْمُوَافَقَةِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي الْإِمَامَةِ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ الْأَكْثَرِ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ، فَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ الصَّادِرِ عَنِ الِاجْتِهَادِ مَعَ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ بِقَوْلِ الْأُمَّةِ، وَالْأَكْثَرُ لَيْسَ هُمْ كُلَّ الْأُمَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ. ثُمَّ لَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَفَادَ خَبَرُهُ الْيَقِينَ يَكُونُ قَوْلُهُ إِجْمَاعًا مُحْتَجًّا بِهِ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ مُحْتَجًّا بِهِ مَعَ مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْبَلَدِ الْآخَرِ لَهُمْ ; لِأَنَّ خَبَرَ أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ يُفِيدُ الْعِلْمَ.   (1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَعَنِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي يُطْلَبُ مِنْهَا غَلَبَةُ الظَّنِّ دُونَ الْيَقِينِ مِثْلُهُ فِي الْإِجْمَاعِ، مَعَ كَوْنِهِ يَقِينِيًّا، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوِ اعْتُبِرَ فِي الْإِجْمَاعِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الرِّوَايَةِ لَكَانَ مَصِيرُ الْوَاحِدِ إِلَى الْحُكْمِ وَحْدَهُ إِجْمَاعًا كَمَا أَنَّ رِوَايَتَهُ وَحْدَهُ مَقْبُولَةٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْإِجْمَاعِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ عُلِمَ الِاتِّفَاقُ مِنَ الْكُلِّ إِمَّا بِصَرِيحِ الْمَقَالِ أَوْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ حَسَبَ إِمْكَانِ الْعِلْمِ بِاتِّفَاقِ الْأَكْثَرِ، وَأَمَّا حَيْثُ لَا يُعْلَمُ فَلَا. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَمِثْلُهُ أَيْضًا جَارٍ فِي الْأَكْثَرِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ أَصْلًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلَيْنِ (1) وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ خَالَفَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْوِفَاقِ فِي زَمَنِهِمْ، وَعَلَى مَنْ يُوجَدُ بِعْدَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ كَانَ الْإِجْمَاعُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا مَعَ الْخِلَافِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ خِلَافٌ لَا يَكُونُ إِجْمَاعٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْإِحَالَةِ. وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّ إِنْكَارَ الصَّحَابَةِ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ بِنَاءً عَلَى إِجْمَاعِهِمْ وَاجْتِهَادِهِمْ، بَلْ بِنَاءً عَلَى مُخَالَفَةِ مَا رَوَوْهُ لَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ وَنَسْخِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مُنَاظَرَاتِهِمْ، وَالْإِنْكَارِ عَلَى مُخَالَفَةِ مَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الدَّلِيلِ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمُ الْمَأْخَذَ مِنْ جَانِبِ الْخَصْمِ، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ شَاءَ بَاهَلَنِي بَاهَلْتُهُ، وَالَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْفَرِيضَةِ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلْثًا، هَذَانِ نِصْفَانِ ذَهَبَا بِالْمَالِ فَأَيْنَ مَوْضِعُ الثُّلُثِ، وَقَالَ آخَرُ: أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَوْدَ إِلَى قَوْلِهِ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ بَلْ بِمَعْنَى طَلَبِ الْكَشْفِ عَنْ مَأْخَذِ الْمُخَالَفَةِ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ اتِّفَاقُ الْأَكْثَرِ إِجْمَاعًا، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِخُرُوجِهِ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا. وَهِيَ النَّصُّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالْقِيَاسُ، وَعَدَمُ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ ; لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا فِي بَابِ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُهُورِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الدَّلِيلِ لِمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ فِيهِ دَلِيلٌ، أَوْ ظَهَرَ غَيْرَ أَنَّهُ مَرْجُوحٌ فِي نَظَرِهِ.   (1) أَيْ: أَصْلُ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ، وَهُوَ إِمْكَانُ حُصُولِ الْإِجْمَاعِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ هَلْ يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَعَ مُخَالَفَة التَّابِعِيِّ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي التَّابِعِيِّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ هَلْ يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ أَمْ لَا. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ بِإِجْمَاعِهِمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ. فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ قَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ قَبْلَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ; فَلَا يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ مَعَ مُخَالَفَتِهِ، وَإِنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ انْعِقَادِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَمِنْ شَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، قَالَ لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مَعَ مُخَالَفَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَةَ إِجْمَاعِهِمْ أَوْ صَارَ مُجْتَهِدًا بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ لَكِنْ فِي عَصْرِهِمْ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِمُخَالَفَتِهِ أَصْلًا، وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ حَالَةَ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُهُمْ دُونَ مُوَافَقَتِهِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِقَوْلِهِمْ إِنَّ الصَّحَابَةَ سَوَّغَتْ لِلتَّابِعِينَ الْمُعَاصِرِينَ لَهُمُ الِاجْتِهَادَ مَعَهُمْ فِي الْوَقَائِعِ الْحَادِثَةِ فِي عَصْرِهِمْ، كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَمَسْرُوقٍ، وَأَبِي وَائِلٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى إِنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا وَلَّيَا شُرَيْحًا الْقَضَاءَ وَلَمْ يَعْتَرِضَا عَلَيْهِ فِيمَا خَالَفَهُمَا فِيهِ وَحَكَمَ عَلَى عَلِيٍّ فِي خُصُومَةٍ عَرَضَتْ لَهُ عِنْدَهُ عَلَى خِلَافِ رَأْيِ عَلِيٍّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَرِيضَةٍ، فَقَالَ: اسْأَلُوا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَا مِنِّي. وَسُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: اسْأَلُوا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ نَذْرِ ذَبْحِ الْوَلَدِ، فَقَالَ: اسْأَلُوا مَسْرُوقًا، فَلَمَّا أَتَاهُ السَّائِلُ بِجَوَابِهِ اتَّبَعَهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ قَالَ: تَذَاكَرْتُ أَنَا وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ، وَقُلْتُ أَنَا: عِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي، فَسَوَّغَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَبِي سَلَمَةَ أَنْ يُخَالِفَهُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وَلَوْ كَانَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ بَاطِلًا لَمَا سَاغَ لِلصَّحَابَةِ تَجْوِيزُهُ وَالرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَفِي هَذِهِ الْحُجَّةِ نَظَرٌ فَإِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا كَانَ الِاجْتِهَادُ مُسَوَّغًا لِلتَّابِعِيِّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الِاعْتِدَادِ بِقَوْلِهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ الِاعْتِدَادُ بِقَوْلِهِ مَعَ الِاتِّفَاقِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمُ اتِّفَاقٌ، وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ إِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ اتِّفَاقِهِمْ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً إِنَّمَا هِيَ الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَهَذَا الِاسْمُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ مَعَ خُرُوجِ التَّابِعِينَ الْمُجْتَهِدِينَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ إِجْمَاعُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ بَلْ إِجْمَاعُ بَعْضِهِمْ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. احْتَجَّ الْخُصُومُ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ وَالْآثَارِ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» "، وَقَوْلُهُ: " «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» "، وَقَوْلُهُ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ". وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَهُمْ مَزِيَّةُ الصُّحْبَةِ وَشَهَادَةُ التَّنْزِيلِ وَسَمَاعُ التَّأْوِيلِ وَأَنَّهُمْ مَرَضِيٌّ عَنْهُمْ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ فِي حَقِّهِمْ: «لَوْ أَنْفَقَ غَيْرُهُمْ (1) مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَمَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ» ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ لَا مَعَ مُخَالِفِهِمْ. وَأَمَّا الْآثَارُ فَمِنْهَا أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ نَقَضَ عَلَى شُرَيْحٍ حُكْمَهُ فِي ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ، لَمَّا جَعَلَ الْمَالَ كُلَّهُ لِلْأَخِ. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مُجَارَاتَهُ لِلصَّحَابَةِ، وَكَلَامَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَزَجَرَتْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَتْ: " فَرُّوجُ يَصِيحُ مَعَ الدِّيَكَةِ ". وَالْجَوَابُ عَنِ النُّصُوصِ مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ انْعِقَادِ إِجْمَاعِ غَيْرِ الصَّحَابَةِ.   (1) رِوَايَةُ الصَّحِيحَيْنِ أَحَدُكُمْ، وَالْخِطَابُ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَمَنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ بَيَانًا لِحَقِّ مَنْ تَقَدَّمَ إِسْلَامُهُ، فَأَسْلَمَ قَبْلَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَبَبُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ سَبَبَهُ خُصُومَةٌ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَبُّ خَالِدٍ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وَعَنِ الْمَعْقُولِ قَوْلُهُمْ إِنَّ الصَّحَابَةَ لَهُمْ مَزِيَّةُ الصُّحْبَةِ وَالْفَضِيلَةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْإِجْمَاعِ بِهِمْ لَمَا اعْتُبِرَ قَوْلُ الْأَنْصَارَ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَا قَوْلُ الْمُهَاجِرِينَ مَعَ قَوْلِ الْعَشَرَةِ، وَلَا قَوْلُ بَاقِي الْعَشَرَةِ مَعَ قَوْلِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَلَا قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ مَعَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَلَا قَوْلُ غَيْرِ الْأَهْلِ مَعَ الْأَهْلِ وَلَا الزَّوْجَاتِ مَعَ الزَّوْجَاتِ لِوُقُوعِ التَّفَاوُتِ وَالتَّفَاضُلِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ. وَعَنِ الْآثَارِ، أَمَّا نَقْضُ عَلِيٍّ عَلَى شُرَيْحٍ حُكْمَهُ ; فَلَيْسَ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَمَ عَلَيْهِ فِي مُخَاصَمَتِهِ بِخِلَافِ رَأْيِهِ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا نَقَضَ حُكْمَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاعْتِرَاضِ كَمَا يُقَالُ: نَقَضَ فُلَانٌ كِتَابَ فُلَانٍ وَكَلَامَهُ إِذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ نَقَضَهُ بِنَصٍّ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَوْجَبَ نَقْضَ حُكْمِهِ. وَأَمَّا إِنْكَارُ عَائِشَةَ عَلَى أَبِي سَلَمَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ أَوْ بِطْرِيقِ التَّأْدِيبِ مَعَ الصَّحَابَةِ، أَوْ لِأَنَّهَا رَأَتْ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهَا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 [الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحْدَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ فِي حَالَةِ انْعِقَادِ إِجْمَاعِهِمْ خِلَافًا لِمَالِكٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَكُونُ حُجَّةً، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ تَرْجِيحَ رِوَايَتِهِمْ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِهِ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُهُمْ أَوْلَى، وَلَا تَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرَادَ بِذَلِكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً مُتَنَاوَلِةً لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْخَارِجِ عَنْ أَهْلِهَا وَبِدُونِهِ لَا يَكُونُونَ كُلَّ الْأُمَّةِ وَلَا كُلَّ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. احْتَجَّ مَنْ نَصَرَ مَذْهَبَ مَالِكٍ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنَّ الْمَدِينَةَ طَيِّبَةٌ تَنْفِي خَبَثَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» " وَالْخَطَأُ مِنَ الْخَبَثِ فَكَانَ مَنْفِيًّا عَنْهَا. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنَّ الْإِسْلَامَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا» "، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَا يُكَايِدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ» ". وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْمَدِينَةَ دَارُ هِجْرَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ (1) ، وَمَهْبِطُ الْوَحْيِ وَمُسْتَقَرُّ الْإِسْلَامِ وَمَجْمَعُ الصَّحَابَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ الْحَقُّ عَنْ قَوْلِ أَهْلِهَا. الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ، وَسَمِعُوا التَّأْوِيلَ وَكَانُوا أَعْرَفَ بِأَحْوَالِ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْرُجَ الْحَقُّ عَنْهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ رِوَايَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ، فَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ. وَالْجَوَابُ عَنِ النَّصِّ الْأَوَّلِ أَنَّهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى خُلُوصِ الْمَدِينَةِ عَنِ الْخَبَثِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهَا لَا يَكُونُ خَالِصًا عَنِ الْخَبَثِ، وَلَا عَلَى كَوْنِ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ دُونَهُ حُجَّةً، وَتَخْصِيصُهُ لِلْمَدِينَةِ بِالذِّكْرِ إِنَّمَا كَانَ إِظْهَارًا لِشَرَفِهَا وَإِبَانَةً لِخَطَرِهَا وَتَمْيِيزًا لَهَا عَنْ غَيْرِهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْمَذْكُورَةُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ بَاقِي النُّصُوصِ.   (1) لَا مَدْخَلَ لِكَوْنِ الْمَدِينَةِ مَوْضِعَ قَبْرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي جَوَازِ خُرُوجِ الْحَقِّ عَنْ أَهْلِهَا، وَعَدَمِ جَوَازِهِ فَيَنْبَغِي حَذْفُ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وَعَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ غَايَتَهُ اشْتِمَالُ الْمَدِينَةِ عَلَى صِفَاتٍ مُوجِبَةٍ لِفَضْلِهَا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْفَضِيلَةِ عَنْ غَيْرِهَا وَلَا عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِهَا. وَلِهَذَا فَإِنَّ مَكَّةَ أَيْضًا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أُمُورٍ مُوجِبَةٍ لِفَضْلِهَا كَالْبَيْتِ الْمُحْتَرَمِ، وَالْمَقَامِ وَزَمْزَمَ، وَالْحَجَرِ الْمُسْتَلَمِ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَمَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ، وَهِيَ مَوْلِدُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَبْعَثُهُ وَمَوْلِدُ إِسْمَاعِيلَ (1) وَمَنْزِلُ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِهَا عَلَى مُخَالِفِيهِمْ إِذْ لَا قَائِلَ بِهِ، وَإِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِعِلْمِ الْعُلَمَاءِ وَاجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا أَثَرَ لِلْبِقَاعِ فِي ذَلِكَ. وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى انْحِصَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا وَالْمُعْتَبَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَمَنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُنْتَشِرِينَ فِي الْبِلَادِ مُتَفَرِّقِينَ فِي الْأَمْصَارِ وَكُلُّهُمْ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ سَوَاءٌ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» (2) " وَلَمْ يُخَصِّصْ ذَلِكَ بِمَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ لِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْمَوَاضِعِ فِي ذَلِكَ. وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَنَّهُ تَمْثِيلٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالدِّرَايَةِ. كَيْفَ وَإِنَّ الْفَرْقَ حَاصِلٌ، وَذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ. وَأَمَّا الْإِجْمَالُ: فَهُوَ أَنَّ الرِّوَايَةَ يُرَجَّحُ فِيهَا بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ حَتَّى إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْأَخْذُ بِقَوْلِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَا بِقَوْلِ الْوَاحِدِ أَيْضًا. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ: فَهُوَ أَنَّ الرِّوَايَةَ مُسْتَنَدُهَا السَّمَاعُ وَوُقُوعُ الْحَوَادِثِ الْمَرْوِيَّةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِحَضْرَتِهِ. وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْرَفَ بِذَلِكَ وَأَقْرَبَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَرْوِيِّ كَانَتْ رِوَايَتُهُمْ أَرْجَحَ. وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ: فَإِنَّ طَرِيقَهُ النَّظَرُ وَالْبَحْثُ بِالْقَلْبِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْحُكْمِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ. وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ - مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْمِصْرَيْنِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ - حُجَّةً عَلَى مُخَالِفِيهِمْ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ.   (1) وِلَادَةُ إِسْمَاعِيلَ بِفِلَسْطِينَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي الْكَامِلِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَكَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ التَّعْبِيرُ بِالْإِسْكَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ". (2) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 [الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْبَيْتِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ لَا يَكْفِي فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْبَيْتِ، مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ خِلَافًا لِلشِّيعَةِ لِلدَّلِيلِ السَّابِقِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} أَخْبَرَ بِذَهَابِ الرِّجْسِ عَنْ أَهْلِ الْبَيْتِ " بِإِنَّمَا "، وَهِيَ لِلْحَصْرِ فِيهِمْ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَدَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِسَاءَ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَقَالَ: " «هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي» (1) " وَالْخَطَأُ (2) . وَالضَّلَالُ مِنَ الرِّجْسِ فَكَانَ مُنْتَفِيًا عَنْهُمْ.   (1) قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) : إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهَ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ يَا أَهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ وَيُطَهِّرَكُمْ مِنَ الدَّنَسِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَهْلِ مَعَاصِي اللَّهِ تَطْهِيرًا، ثُمَّ ذَكَرَ كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِيمَنْ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَفِي الْكِسَاءِ أَوِ الْعَبَاءِ أَوِ الْمِرْطِ الَّذِي غَطَّى بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا، أَوْ أَدَارَهُ عَلَيْهِمْ أَوْ أَدْخَلَهُمْ فِيهِ، وَلَكِنَّ كُلَّ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ مَطْعَنٍ أَوْ أَكْثَرَ. فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِيهَا مِنْدَلٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَمِنْدَلٌ هُوَ ابْنُ عَلِيٍّ الْعَنْزِيُّ، لَيَّنَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَضَعَّفَهُ أَحْمَدُ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: ضَعِيفُ الْحَدِيثِ مُتَشَيِّعٌ، وَالْأَعْمَشُ مُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ شِيعِيٌّ كَثِيرُ الْخَطَأِ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ عَنْعَنَ. وَالثَّانِيَةُ: مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ فِيهَا مُصْعَبُ بْنُ شَيْبَةَ الْمَكِّيُّ، ضَعَّفَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَقَالَ أَحْمَدُ: أَحَادِيثُهُ مَنَاكِيرُ. وَالثَّالِثَةُ: مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَفِيهَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وَهُوَ شِيعِيٌّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ لِاخْتِلَاطِهِ وَسُوءِ حِفْظِهِ. وَالرَّابِعَةُ: مِنْ طَرِيقِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَفِيهَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّقْرِيبِ: كَثِيرُ الْإِرْسَالِ وَالْأَوْهَامِ. وَأُخْرَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَفِيهَا شَهْرٌ، وَفُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ الْكُوفِيُّ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، وَفُضَيْلٌ كَانَ مَعْرُوفًا بِالتَّشَيُّعِ وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ يَرْوِي عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ الْمَوْضُوعَاتِ، وَأُخْرَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَفِيهَا مُصْعَبُ بْنُ الْمِقْدَامِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَرْبِيٍّ أَبِي عُبَيْدٍ الْبَصْرِيِّ، وَمُصْعَبٍ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَضَعَّفَهُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَسَعِيدٌ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِيهِ: عِنْدَهُ عَجَائِبُ. وَضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَأُخْرَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَفِيهَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا، وَأُخْرَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَفِيهَا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيُّ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ النَّسَائِيُّ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَأُخْرَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَفِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَصْبَهَانِيُّ، وَهُوَ مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ، وَأُخْرَى عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، وَفِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ التَّمِيمِيُّ، وَهُوَ رَافِضِيٌّ يُخْطِئُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَ. الرِّوَايَةُ الْخَامِسَةُ: مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُدَ الْأَعْمَى، وَاسْمُهُ نُفَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي الْحَمْرَاءِ، وَأَبُو دَاوُدَ الْأَعْمَى مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَذَّبَهُ ابْنُ مَعِينٍ. السَّادِسَةُ: مِنْ طَرِيقِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، وَفِيهَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو - هُوَ الْأَوْزَاعِيُّ - وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ يُدَلِّسُ تَدْلِيسَ التَّسَوِّيةِ وَأَحَادِيثُهُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ مُنْكَرَةٌ، هَذَا إِلَى نَحْوِهِ مِنَ الْآثَارِ الَّتِي يَغْلِبُ عَلَى مَنْ رَوَاهَا أَنَّهُ رَافِضِيٌّ أَوْ شِيعِيٌّ مُتَّهَمٌ أَوْ ضَعِيفٌ. وَمَنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَنَقْدَهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى دَوَاوِينِ السُّنَّةِ وَكُتُبِ الرِّجَالِ. وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ فَغَايَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَأَنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُهُمْ لَا أَنَّهَا نَازِلَةٌ فِيهِمْ، أَوْ خَاصَّةٌ بِهِمْ، فَإِنَّ سِيَاقَ الْآيَاتِ سَابِقِهَا وَلَاحِقِهَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (2) الْخَطَأُ عَنِ اجْتِهَادٍ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَيْسَ بِرِجْسٍ، بَلْ يُؤْجَرُ صَاحِبُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَيُعْذَرُ فِي خَطَئِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثِّقْلَيْنِ، فَإِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي» (1) " حَصْرُ التَّمَسُّكِ بِهِمَا فَلَا تَقِفُ الْحُجَّةُ عَلَى غَيْرِهِمَا. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ اخْتُصُّوا بِالشَّرَفِ وَالنَّسَبِ، وَأَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتِ الرِّسَالَةِ، وَمَعْدِنُ النُّبُوَّةِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ وَأَفْعَالِ الرَّسُولِ وَأَقْوَالِهِ ; لِكَثْرَةِ مُخَالَطَتِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ عَنِ الْخَطَأِ   (1) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَرَ ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّذُرُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَقَالَ لَهُ حُصَيْنُ بْنُ سَبْرَةَ وَمَنْ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَقِيلٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُلُّ هَؤُلَاءِ حُرِمَ الصَّدَقَةَ، قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَمَنْ نَظَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا حَثَّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ السُّنَّةَ، كَمَا فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ، وَلَيْسَ فِيهِ حَثٌّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِقَوْلِ أَهْلِ الْبَيْتِ، وَلَكِنَّهُ حَثٌّ عَلَى صِلَتِهِمْ وَمُرَاعَاتِهِمْ كَمَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ قَوْلُ زَيْدٍ بَعْدَ جَوَابِهِ السَّائِلَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ مِنَ الْإِمَامَةِ، وَالْآيَةِ (1) الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا ; فَكَانَتْ أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ، بَلْ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ ضَرُورَةَ عِصْمَتِهِ عَنِ الْخَطَأِ كَمَا فِي أَقْوَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَفْعَالِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْآيَةِ أَنَّهَا إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي زَوْجَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَصْدِ دَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْهُنَّ وَامْتِدَادِ الْأَعْيُنِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِنَّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُ الْآيَةِ وَآخِرُهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «هَؤُلَاءِ أَهْلُ بَيْتِي» " لَا يُنَافِي كَوْنَ الزَّوْجَاتِ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْمُخَاطِبَةُ لَهُمْ بِأَهْلِ الْبَيْتِ. وَالْخَبَرُ وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ «أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَلَسْتُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ " قَالَ: " بَلَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ» " (2) . فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} الزَّوْجَاتِ لَقَالَ: (عَنْكُنَّ) . قُلْنَا: إِنَّمَا قَالَ (عَنْكُمْ) لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَإِنْ كَانَ خِطَابًا مَعَ الزَّوْجَاتِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا خَاطَبَهُنَّ بِأَهْلِ الْبَيْتِ أَدْخَلَ مَعَهُنَّ غَيْرَهُنَّ مِنَ الذُّكُورِ كَعَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، فَجَاءَ بِخِطَابِ التَّذْكِيرِ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ إِذَا اشْتَمَلَ عَلَى مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ غُلِّبَ جَمْعُ التَّذْكِيرِ، وَصَارَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ زَوْجِةِ إِبْرَاهِيمَ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ - قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ - قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} فَكَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَيْهَا وَإِلَى مَنْ حَوَاهُ بَيْتُ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.   (1) الْآيَةِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْإِمَامَةِ. (2) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَا رَوِيَ مِنْ طَرِيقِهَا تَعْلِيقًا ص 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وَعَنِ الْخَبَرِ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْآحَادِ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ (1) وَإِنْ كَانَ حُجَّةً وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثِّقْلَيْنِ الْكِتَابُ وَالْعِتْرَةُ، بَلِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ: " «كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّتِي» " وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ غَيْرَ أَنَّهُ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَرِوَايَتُهُمْ حُجَّةٌ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُ بِحَالِهِ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ (2) ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» (3) ، " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» " (4) ، وَبِقَوْلِهِ: " «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» "، وَبِقَولِهِ: " «خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ» " (5) وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. وَعَنِ الْمَعْقُولِ ; أَمَّا اخْتِصَاصُهُمْ بِالشَّرَفِ وَالنَّسَبِ فَلَا أَثَرَ لَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ مَدَارِكِهَا، بَلِ الْمُعَوَّلُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ لِلنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَمَعْرِفَةِ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الشَّرَفُ وَلَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ. وَأَمَّا كَثْرَةُ الْمُخَالَطَةِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَذَلِكَ مِمَّا يُشَارِكُ الْعِتْرَةُ فِيهِ الزَّوْجَاتِ وَمَنْ كَانَ يَصْحَبُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ مِنْ خَدَمِهِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا الْعِصْمَةُ فَلَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهَا لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْيِ الرِّجْسِ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ الظِّنَّةِ وَالتُّهْمَةِ عَنْ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَلِكَ بِمَعْزِلٍ عَنِ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ فِي الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.   (1) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ، فَهُوَ جَوَابٌ إِلْزَامِيٌّ. (2) بَلْ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي سَفَرِهِ وَحَضَرِهِ، أَخْبَرُ بِحَالِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَكَذَا نِسَاؤُهُ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا، فَإِنَّ بَعْدَهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ) . الْآيَةَ. (3) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 232 (4) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ. (5) ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ فِي كِتَابِهِ " الْفَوَائِدِ الْمَجْمُوعَةِ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ " عَنِ ابْنِ حَجَرٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: لَا أَعْرِفُ لَهُ إِسْنَادًا، وَلَا رَأَيْتُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، إِلَّا فِي النِّهَايَةِ لِابْنِ الْأَثِيرِ وَإِلَّا فِي الْفِرْدَوْسِ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ، وَسُئِلَ الْمِزِّيُّ وَالذَّهَبِيُّ عَنْهُ، فَلَمْ يَعْرِفَاهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وَعَلَى هَذَا فَقَدْ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ أَيْضًا حُجَّةً. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ عَلِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ خَالَفَهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ إِنَّ الْحُجَّةَ فِيمَا أَقُولُ مَعَ كَثْرَةِ مُخَالِفِيهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا، فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنَ الْإِنْكَارِ فِيمَا خُولِفَ فِيهِ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ وَظُهُورِ شَوْكَتِهِ ; فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ يَكُونُ خَطَأً مِنْهُ، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ الْعِصْمَةِ وَعَنْ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إِجْمَاعُ الخلفاء الْأَرْبَعَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ مَعَ وُجُودِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَلِلْقَاضِي أَبِي حَازِمٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَلِكَ لَا يَنْعَقِدُ إِجْمَاعُ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِمَا لَهُمَا، خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا سَبَقَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِانْعِقَادِ إِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» " أَوْجَبَ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِمْ كَمَا أَوْجَبَ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِ، وَالْمُخَالِفُ لِسُنَّتِهِ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُخَالِفُ لِسُنَّتِهِمْ. وَحَجَّةُ مَنْ قَالَ بِانْعِقَادِ إِجْمَاعِ الشَّيْخَيْنِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ". وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْحَصْرِ فِي الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْحَصْرِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» (1) " الْحَدِيثَ. وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَإِذَا تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ سَلِمَ لَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ بِالْخَبَرِ الْآخَرِ أَيْضًا.   (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 232 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ اشْتِرَاطِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ فِي الْإِجْمَاعِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ فِي الْإِجْمَاعِ، فَمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ عِنْدَهُ لِتَصَوُّرِ الْخَطَأِ عَلَى مَنْ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ. وَأَمَّا مَنِ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَرَطٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ إِثْبَاتَ الْإِجْمَاعِ بِطَرِيقِ الْعَقْلِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ سِوَى الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَمَهْمَا كَانَ عَدَدُ الْإِجْمَاعِ أَنْقَصَ مِنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ صَدَقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ (الْأُمَّةِ) وَ (الْمُؤْمِنِينَ) وَكَانَتِ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ مُوجِبَةً لِعِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ، وَوَجَبَ اتِّبَاعُهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ إِنَّمَا يَصِحُّ بِتَقْدِيرِ عَوْدِ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَا دُونُ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مَهْمَا دَامَ التَّكْلِيفُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِدِينِ الْإِسْلَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْحُجَّةُ عَلَى ذَلِكَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالنَّقْلِ الْمُفِيدِ لِوُجُودِ مُحَمَّدٍ وَتَحَدِّيهِ بِالرِّسَالَةِ، وَمَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ مُعْجِزِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ يَقِينًا، وَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ غَيْرُ التَّوَاتُرِ مِنْ أَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ لِعَدَمِ نَقْلِ غَيْرِهِمْ لِذَلِكَ وَمُبَالَغَتِهِمْ فِي مَحْوِ ذَلِكَ وَإِعْدَامِهِ. سَلَّمْنَا إِمْكَانَ انْتِفَاءِ التَّكْلِيفِ مَعَ عَوْدِ عَدَدِ الْمُجْمِعِينَ إِلَى مَا دُونُ عَدَدِ التَّوَاتُرِ وَلَكِنْ مَا دُونُ عَدَدِ التَّوَاتُرِ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِسْلَامُهُمْ وَإِيمَانُهُمْ بِأَقْوَالِهِمْ، وَمَنْ لَا يُعْلَمُ إِيمَانُهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الدِّينِ. سَلَّمْنَا إِمْكَانَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِأَقْوَالِ مَنْ عَدَدُهُمْ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ فَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الْأُمَّةِ سِوَى وَاحِدٍ هَلْ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّا إِنْ قُلْنَا إِنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نُقْصَانِ عَدَدِهِمْ عَنْ عَدَدِ التَّوَاتُرِ انْقِطَاعُ الْحُجَّةِ بِالتَّكْلِيفِ؛ لِإِمْكَانِ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ مِنْ أَخْبَارِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْعَامَّةِ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّوَاتُرِ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 يَكُونَ نَاقِلُهُ مُجْتَهِدًا، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْعَوَامَّ دَاخِلَةٌ فِي الْإِجْمَاعِ وَمَعَ ذَلِكَ فَعَدَدُ الْجَمِيعِ دُونَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، فَلَا يَلْزَمُ أَيْضًا انْقِطَاعُ ذَلِكَ لِإِمْكَانِ إِدَامَةِ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْبَارِ الْكُفَّارِ مَعَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِخَبَرِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ لِاحْتِفَافِ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْعَلَمِ بِأَخْبَارِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي تَقُومُ بِالْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» "، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ كُلِّهِ فَانْقِطَاعُ التَّكْلِيفِ وَانْتِهَاءُ الْإِسْلَامِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا. وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَوَّلُ مَا يُفْقَدُ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ الصَّلَاةُ» "، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْزِعُ الْعِلْمَ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ يَنْزِعُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَإِذَا سُئِلُوا أَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» ". وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا بُعْدَ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ بِمَا يَحْتَفُّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ، بَلْ وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ وَاحِدًا، وَأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَنَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِذَلِكَ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ جَوَابُ الْأَصْحَابِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ يَكُونُ حُجَّةً مُتَّبَعَةً ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدُ مِنَ الْأُمَّةِ سِوَاهُ صَدَقَ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ لَفْظِ (الْأُمَّةِ) . وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} أَطْلَقَ لَفْظَ (الْأُمَّةِ) عَلَيْهِ وَهُوَ وَاحِدٌ. وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَإِذَا كَانَ أُمَّةً كَانْتِ النُّصُوصُ السَّابِقُ ذِكْرُهَا مُتَنَاوِلَةً لَهُ حَسَبَ تَنَاوُلِهَا لِلْجَمْعِ الْكَثِيرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ لَفْظَ (الْإِجْمَاعِ) مُشْعِرٌ بِالِاجْتِمَاعِ وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ الإجماع السكوتي] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إِلَى حُكْمٍ، وَعَرَفَ بِهِ أَهْلُ عَصْرِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ إِجْمَاعًا؟ فَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالْجُبَّائِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ. لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ كَالْجُبَّائِيِّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى نَفْيِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ دَاوُدَ وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. وَذَهَبَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مِنْ حَاكِمٍ لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ فُتْيَا كَانَ إِجْمَاعًا. وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ لِكَوْنِهِ إِجْمَاعًا بِأَنَّ سُكُوتَ مَنْ سَكَتَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَهِدْ بَعْدُ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ اجْتَهَدَ لَكِنْ لَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُ إِلَى شَيْءٍ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى شَيْءٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُخَالِفًا لِلْقَوْلِ الَّذِي ظَهَرَ، لَكِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْهُ إِمَّا لِلتَّرَوِّي وَالتَّفَكُّرِ فِي ارْتِيَادِ وَقْتٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِهِ، وَإِمَّا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْقَائِلَ بِذَلِكَ مُجْتَهِدٌ وَلَمْ يَرَ الْإِنْكَارَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ لِأَنَّهُ سَكَتَ خَشْيَةً وَمَهَابَةً وَخَوْفَ ثَوَرَانِ فِتْنَةٍ، كَمَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ وَافَقَ عُمَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ وَأَظْهَرَ النَّكِيرَ بَعْدَهُ، وَقَالَ: هِبْتُهُ وَكَانَ رَجُلًا مَهِيبًا، وَإِمَّا لِظَنِّهِ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ كَفَاهُ مُؤْنَةَ الْإِنْكَارِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ. وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ مَعَ انْتِشَارِ قَوْلٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وَأَمَّا حُجَّةُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْحَاضِرَ مَجَالِسَ الْحُكَّامِ يَحْضُرُ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ خِلَافِهِمْ لَهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ لِمَا فِي الْإِنْكَارِ مِنَ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهِمْ ; وَلِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَقْطَعُ الْخِلَافَ وَيُسْقِطُ الِاعْتِرَاضَ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفْتِي، فَإِنَّ فَتْوَاهُ غَيْرُ لَازِمَةٍ وَلَا مَانِعَةٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ، وَفِي هَاتَيْنِ الْحُجَّتَيْنِ نَظَرٌ: أَمَّا الْأُولَى: فَمَا ذُكِرَ فِيهَا مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَدِحَةً عَقْلًا، فَهِيَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ أَحْوَالِ أَرْبَابِ الدِّينِ وَأَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ. أَمَّا احْتِمَالُ عَدَمِ الِاجْتِهَادِ فِي الْوَاقِعَةِ فَبَعِيدٌ مِنَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِهْمَالِ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا حَدَثَ مَعَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ وَإِلْزَامِهِمْ بِهِ وَامْتِنَاعِ تَقْلِيدِهِمْ لِغَيْرِهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ؛ فَإِنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَالظَّاهِرُ عَدَمَ ارْتِكَابِهَا مِنَ الْمُتَدَيِّنِ الْمُسْلِمِ. وَأَمَّا احْتِمَالُ عَدَمِ تَأْدِيَةِ الِاجْتِهَادِ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَا مِنْ حُكْمٍ إِلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلَائِلُ وَأَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ مِمَّنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا هُوَ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَالظَّفْرُ بِهَا. وَأَمَّا احْتِمَالُ تَأْخِيرِ الْإِنْكَارِ لِلتَّرَوِّي وَالتَّفَكُّرِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا، غَيْرَ أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا مَضَتْ عَلَيْهِمْ أَزْمِنَةٌ كَثِيرَةٌ حَتَّى انْقَرَضَ الْعُمْرُ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَأَمَّا احْتِمَالُ السُّكُوتِ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْنَعُ مِنْ مُبَاحَثَتِهِ وَمُنَاظَرَتِهِ وَطَلَبِ الْكَشْفِ عَنْ مَأْخَذِهِ، لَا بِطَرِيقٍ كَالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ إِلَى زَمَنِنَا هَذَا بِمُنَاظَرَةِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَئِمَّةِ الدِّينِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ; لِتَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ، كَمُنَاظَرَتِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَالْعَوْلِ، وِدِيَةِ الْجَنِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ. وَأَمَّا احْتِمَالُ التَّقِيَّةِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّقِيَّةَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْمَخَافَةَ ظَاهِرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ مَبَاحِثَ الْمُجْتَهِدِينَ غَيْرُ مُسْتَلْزِمَةٍ لِذَلِكَ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ مِنْ سَادَاتِ أَرْبَابِ الدِّينِ، أَنَّ مُبَاحَثَتَهُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَا تُوجِبُ خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا حِقْدًا فِي صَدْرِهِ تُخَافُ عَاقِبَتُهُ، إِذْ هُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الدِّينِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الثَّانِي أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَامِلًا غَيْرَ مُخَوِّفٍ، فَلَا تَقِيَّةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ذَا شَوْكَةٍ وَقُوَّةٍ كَالْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، فَمُحَابَاتُهُ فِي ذَلِكَ تَكُونُ غِشًّا فِي الدِّينِ، وَالْكَلَامُ مَعَهُ فِيهِ يُعَدُّ نُصْحًا. وَالْغَالِبُ إِنَّمَا هُوَ سُلُوكُ طَرِيقِ النُّصْحِ وَتَرْكِ الْغِشِّ مِنْ أَرْبَابِ الدِّينِ كَمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ فِي رَدِّهِ عَلَى عُمَرَ فِي عَزْمِهِ عَلَى إِعَادَةِ الْجَلْدِ عَلَى أَحَدِ الشُّهُودِ عَلَى الْمُغِيرَةِ (1) بِقَوْلِهِ: " إِنْ جَلَدْتَهُ، ارْجُمْ (2) صَاحِبَكَ ". وَرَدُّ مُعَاذٍ عَلَيْهِ فِي عَزْمِهِ عَلَى جَلْدِ الْحَامِلِ بِقَوْلِهِ: إِنْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ عَلَى ظَهْرِهَا سَبِيلًا فَمَا جَعَلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا سَبِيلًا، حَتَّى قَالَ عُمَرُ: لَوْلَا مُعَاذٌ لَهَلَكَ عُمَرُ. وَمِنْ ذَلِكَ رَدُّ الْمَرْأَةِ عَلَى عُمَرَ لَمَّا نَهَى عَنِ الْمُغَالَاةِ فِي مُهُورِ النِّسَاءِ بِقَوْلِهَا: أَيُعْطِينَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} ، وَيَمْنَعُنَا عُمَرُ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ: امْرَأَةٌ خَاصَمَتْ عُمَرَ فَخَصَمَتْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ لَعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ قَدْ تَجَدَّدَ لَهُ رَأْيٌ فِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ: رَأْيُكُ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَأْيِكِ وَحْدَكَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ. وَأَمَّا حُجَّةُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّمَا تَصِحُّ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ السُّكُوتَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ رِضًا، وَعَلَى هَذَا فَالْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ ظَنِّيٌّ وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ ظَاهِرٌ لَا قَطْعِيٌّ.   (1) لَمَّا جَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ حَدَّ الْقَذْفِ، قَالَ أَبُو بَكْرَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ: أَشْهَدُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ زَنَا، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يُعِيدَ حَدَّهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: إِنْ جِلَدْتَهُ، فَارْجُمِ الْمُغِيرَةَ. (2) ارْجُمْ - صَوَابُهُ: فَارْجُمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قول المجتهد إذا لم يعرف له مخالف] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ (1) إِذَا ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إِلَى حُكْمٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَلَمْ يَنْتَشِرْ بَيْنَ أَهْلِ عَصْرِهِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مُخَالِفٌ هَلْ يَكُونُ إِجْمَاعًا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُتَخَيَّلُ كَوْنُهُ إِجْمَاعًا مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ إِذَا عَلِمُوا بِقَوْلِهِ وَسَكَتُوا عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَيَمْتَنِعُ رِضَاهُمْ بِهِ أَوْ سَخَطُهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمْ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ لِعَدَمِ خُطُورِهَا بِبَالِهِمْ. وَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا قَوْلٌ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْمَنْقُولِ إِلَيْنَا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُ احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ. وَمَنْ لَا قَوْلَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَوْ لَهُ قَوْلٌ لَكِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ فَلَا تَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْمُوَافَقَةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِجْمَاعًا فَهَلْ يَكُونُ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً مُتَّبَعَةً أَوْ لَا؟ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ فِيمَا بَعْدُ (2)   (1) عَقَدَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَصْلًا فِي جَوَازِ الْفَتْوَى بِالْآثَارِ السَّلَفِيَّةِ وَالْفَتَاوَى الصَّحَابِيَّةِ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِ أَعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ. (2) سَيَأْتِي النَّوْعُ مِنْ أَنْوَاعِ مَا ظَنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ ذفَوْرَكٍ إِلَى اعْتِبَارِهِ شَرْطًا. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ فَصَّلَ وَقَالَ: إِنْ كَانَ قَدِ اتَّفَقُوا بِأَقْوَالِهِمْ أَوْ أَفْعَالِهِمْ أَوْ بِهِمَا، لَا يَكُونُ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ شَرْطًا. وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ بِذَهَابِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ إِلَى حُكْمٍ وَسَكَتَ الْبَاقُونَ عَنِ الْإِنْكَارِ مَعَ اشْتِهَارِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَهُوَ شَرْطٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. لَكِنْ قَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الِاشْتِرَاطِ بِمَسْلَكَيْنِ ضَعِيفَيْنِ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِمَا وَوَجْهِ ضَعْفِهِمَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً بَعْدَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ إِذَا لَمْ يُوجَدُ لَهُمْ مُخَالِفٌ، فَالْحُجَّةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي نَفْسِ الِاتِّفَاقِ أَوْ نَفْسِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ أَوْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ. لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي، وَإِلَّا كَانَ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ دُونَ الِاتِّفَاقِ حُجَّةً وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّالِثِ وَإِلَّا كَانَ مَوْتُهُمْ مُؤَثِّرًا فِي جَعْلِ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً وَهُوَ مُحَالٌ كَمَا فِي مَوْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ ثَابِتٌ قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ الْحُجَّةُ فِي اتِّفَاقِهِمْ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَعْوَى إِحَالَةِ ذَلِكَ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ عَدَمِ مُخَالَفَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إِذْ هُوَ تَمْثِيلٌ جَامِعٌ صَحِيحٌ، كَيْفَ وَالْفَرْقُ حَاصِلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْوَحْيِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وَقَوْلُ غَيْرِهِ لَيْسَ عَنْ وَحْيٍ حَتَّى يَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُ غَيْرِهِ فَمُسْتَنِدٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَقَوْلُ الْمُخَالِفِ لَهُ أَيْضًا مُسْتَنِدٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَافْتَرَقَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 الْمَسْلَكُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِاشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا مَعَ كَوْنِهِ حُجَّةً مُتَّبَعَةً، وَكُلُّ شَرْطٍ أَفْضَى إِلَى إِبْطَالِ الْمَشْرُوطِ الْمُتَّفَقِ عَلَى تَحْقِيقِهِ كَانَ بَاطِلًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَنِ اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ جَوَّزَ لِمَنْ حَدَّثَ مِنَ التَّابِعِينَ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ مُخَالَفَتَهُمْ، وَشَرَطَ فِي صِحَّةِ إِجْمَاعِهِمْ مُوَافَقَتَهُ لَهُمْ، وَإِذَا صَارَ التَّابِعِيُّ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ لَا يَنْقَرِضُ عَصْرُهُمْ حَتَّى يُحْدِثَ تَابِعُ التَّابِعِيِّ. وَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُتَحَقِّقًا فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْقَائِلُونَ بِاشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ اخْتَلَفُوا فِي إِدْخَالِ مَنْ أَدْرَكَ الْمُجْمِعِينَ مِنَ التَّابِعِينَ لَهُمْ فِي إِجْمَاعِهِمْ، فَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلتَّابِعِيِّ فِي إِجْمَاعِ أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ. وَفَائِدَةُ اشْتِرَاطِهِ لِذَلِكَ إِمْكَانُ رُجُوعِ الْمُجْمِعِينَ أَوْ بَعْضِهِمْ عَمَّا حَكَمُوا بِهِ أَوَّلًا لَا لِجَوَازِ وُجُودِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِشْكَالُ يَكُونُ مُنْدَفِعًا. وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ دُخُولِ التَّابِعِ لَهُمْ فِي إِجْمَاعِهِمْ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ هُوَ انْقِرَاضَ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ عِنْدَ حُدُوثِ الْحَادِثَةِ، وَاعْتِبَارَ مُوَافَقَةِ مَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْعَصْرَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا عَصْرَ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ، وَعَلَى هَذَا فَالْإِشْكَالُ لَا يَكُونُ مُتَّجِهًا. وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا اتَّفَقَ إِجْمَاعُ أُمَّةِ عَصْرٍ (1) مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى حُكْمِ حَادِثَةٍ، فَهُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَتَجِبُ عِصْمَتُهُمْ فِي ذَلِكَ عَنِ الْخَطَأِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ النُّصُوصِ فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ. هَذَا فِيمَا إِذَا اتَّفَقُوا عَلَى الْحُكْمِ بِأَقْوَالِهِمْ أَوْ أَفْعَالِهِمْ أَوْ بِهِمَا، وَأَمَّا إِنْ حَكَمَ وَاحِدٌ بِحُكْمٍ وَانْتَشَرَ حُكْمُهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَسَكَتُوا عَنِ الْإِنْكَارِ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ الْمُوَافَقَةَ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنْ إِظْهَارِ بَعْضِهِمُ   (1) لَعَلَّهُ: فِي عَصْرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الْمُخَالَفَةَ فِي وَقْتٍ آخَرَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ الدَّلِيلُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ هَذَا الِاحْتِمَالِ إِظْهَارُهُ لِلْمُخَالَفَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ سُكُوتُهُ عَنْ مُوَافَقَةٍ وَدَلِيلٍ لَكَانَ الظَّاهِرُ عَدَمَ مُخَالَفَتِهِ لِذَلِكَ الدَّلِيلِ. وَأَمَّا إِنْ حَدَّثَ تَابِعِيٌّ مُخَالِفٌ مَعَ إِصْرَارِ الْبَاقِينَ عَلَى السُّكُوتِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِمُخَالَفَتِهِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِجْمَاعِ الظَّاهِرِ. احْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِالنَّصِّ وَالْآثَارِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّهُ جَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ، وَمَنْ جَعَلَ إِجْمَاعَهُمْ مَانِعًا لَهُمْ مِنَ الرُّجُوعِ فَقَدْ جَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَأَمَّا الْآثَارُ فَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَنْ لَا تُبَاعَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ، وَالْآنَ فَقَدْ رَأَيْتُ بَيْعَهُنَّ - أَظْهَرَ الْخِلَافَ بَعْدَ الْوِفَاقِ - وَدَلِيلُهُ قَوْلُ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ: رَأْيُكُ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ، وَقَوْلُ عَبِيدَةَ دَلِيلُ سَبْقِ الْإِجْمَاعِ. وَمِنْهَا أَنَّ عُمَرَ خَالَفَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَالصَّحَابَةِ فِي زَمَانِهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ فِي الْقَسْمِ، وَأَقَرَّهُ الصَّحَابَةُ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْهَا أَنَّ عُمَرَ حَدَّ الشَّارِبَ ثَمَانِينَ، وَخَالَفَ مَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَالصَّحَابَةُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَدِّ أَرْبَعِينَ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ ; فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ رُبَّمَا كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ وَظَنٍّ، وَلَا حَجْرَ عَلَى الْمُجْتَهِدِ إِذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، وَإِلَّا كَانَ الِاجْتِهَادُ مَانِعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الرَّأْيَ وَالنَّظَرَ عِنْدَ الْمُرَاجَعَةِ وَتَكَرُّرِ النَّظَرِ يَكُونُ أَوْضَحَ وَأَصَحَّ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} ، جَعَلُوا بَادِيَ الرَّأْيِ ذَمًّا وَطَعْنًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُحَكِّمًا عَلَى الرَّأْيِ الثَّانِي. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ تُعْتَبَرِ الْمُخَالَفَةُ فِي عَصْرِهِمْ لَبَطَلَ مَذْهَبُ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي عَصْرِهِمْ بِمَوْتِهِ ; لِأَنَّ مَنْ بَقِيَ بَعْدَهُ كُلُّ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوَفَاةُ النَّبِيِّ شَرْطٌ فِي اسْتِقْرَارِ الْحُجَّةِ فِيمَا يَقُولُهُ، فَاشْتِرَاطُ ذَاكَ فِي اسْتِقْرَارِ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ أَوْلَى. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُشْتَرَطِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَتَذَكَّرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَوْ جُمْلَتُهُمْ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى خِلَافِ إِجْمَاعِهِمْ، فَإِنْ جَازَ رُجُوعُهُمْ إِلَيْهِ كَانَ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ خَطَأً، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الرُّجُوعُ كَانَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْحُكْمِ مَعَ ظُهُورِ دَلِيلٍ يُنَاقِضُهُ، وَهُوَ أَيْضًا خَطَأٌ وَلَا مَخْلَصَ مِنْهُ إِلَّا بِاشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ وَحُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمُ امْتِنَاعُ كَوْنِ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِلَّا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَا يَأْتِي، بَلْ رُبَّمَا كَانَ قَبُولُ قَوْلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْلَى مِنْ قَبُولِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَتَكُونُ فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ التَّنْبِيهَ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ قَدْ يُقْبَلُ إِقْرَارُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِجَعْلِهِمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِإِبْلَاغِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَيْهِمْ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَعَنِ الْآثَارِ (1) : أَمَّا قَوْلُ عَلِيٍّ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَإِلَّا قَالَ: رَأْيِي وَرَأْيُ الْأُمَّةِ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ كَانَ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهِنَّ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَمَعَ مُخَالَفَتِهِ فَلَا إِجْمَاعَ، وَقَوْلُ السَّلْمَانِيِّ لَيْسَ فِيهِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّفَاقِ الْجَمَاعَةِ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ: رَأْيُكَ مَعَ رَأْيِ الْجَمَاعَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ: رَأْيُكَ فِي زَمَنِ الْجَمَاعَةِ وَالْإِلْفَةِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَأْيِكَ فِي زَمَنِ الْفِتْنَةِ وَتَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ، نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ عَنْ عَلِيٍّ فِي تَطَرُّقِهَا إِلَيْهِ فِي   (1) وَأَيْضًا الِاحْتِجَاجُ بِالْآثَارِ الْمَذْكُورَةِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ لَا يَتَأَتَّى بِالنِّسْبَةِ لِمَنِ اشْتَرَطَ انْقِرَاضَ عَصْرِ الْمُجْمِعِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ مَثَلًا دُونَ اعْتِبَارٍ لِرَأْيِ مَنْ بَلَغَ مِنْ تَابِعِيهِمْ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِي عَصْرِهِمْ كَالرِّوَايَةِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا عَنْ أَحْمَدَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 مُخَالَفَةِ الشَّيْخَيْنِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ عَلِيٌّ قَدْ خَالَفَ بَعْدَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ فَلَعَلَّهُ كَانَ مِمَّنْ يَرَى اشْتِرَاطَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ الْوَاحِدِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَأَمَّا قَضِيَّةُ التَّسْوِيَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ عُمَرَ خَالَفَ فِيهَا بَعْدَ الْوِفَاقِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ فِي ذَلِكَ فِي زَمَانِهِ، وَقَالَ لَهُ: أَتَجْعَلُ مَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كَرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا عَمِلُوا لِلَّهِ وَإِنَّمَا أَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بِلَاغٌ. وَلَمْ يُرْوَ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَإِنَّمَا فَضَّلَ فِي زَمَانِهِ وَعَوْدُ الْأَمْرِ إِلَيْهِ (1) ; لِأَنَّهُ كَانَ مُصِرًّا عَلَى الْمُخَالَفَةِ. وَأَمَّا حَدُّهُ لِلشَّارِبِ ثَمَانِينَ، فَغَايَتُهُ أَنَّهُ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيِّ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِجَوَازِ ذَلِكَ ; لِكَوْنِهِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ السَّاكِتِينَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَعَنِ الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ، أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَصِيرُ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ إِلَى الْحُكْمِ عَنِ اجْتِهَادٍ وَظَنٍّ وَلَكِنْ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْحُكْمِ إِنَّمَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ أَنْ لَوْ لَمْ يَصِرِ الْحُكْمُ بِإِجْمَاعِهِمْ قَطْعِيًّا. وَأَمَّا إِذَا صَارَ قَطْعِيًّا فَيَمْتَنِعُ الْعَوْدُ عَنْهُ وَتَرْكُهُ بِالِاجْتِهَادِ الظَّنِّيِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَوْدِ عَنِ الِاجْتِهَادِ الظَّنِّيِّ بِالِاجْتِهَادِ الظَّنِّيِّ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ مَنْ نَصَّ هَذَا الْمَذْهَبُ إِلَى إِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ بِمَوْتِهِ، وَقَالَ بِانْعِقَادِ إِجْمَاعِ مَنْ بَقِيَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا (2) لَمْ يَبْطُلْ مَذْهَبُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بَعْدَهُ ; لِأَنَّ مَنْ بَعْدَهُ لَيْسَ هُمْ كُلَّ الْأُمَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا الْمَيِّتُ، فَإِنَّ فَتْوَاهُ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: بِالْفَرْقِ بَيْنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأُمَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ إِنَّمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ قَبْلَ مَوْتِهِ لِإِمْكَانِ نَسْخِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُرْتَقَبٌ. وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ الْقَاطِعِ، وَرَفْعُ الْقَاطِعِ بِالْقَاطِعِ عَلَى طَرِيقِ النَّسْخِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ بِخِلَافِ رَفْعِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ. وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّ مَا فَرَضُوهُ مِنْ تَذَكُّرِ الْخَبَرِ الْمُخَالِفِ لِإِجْمَاعِهِمْ فَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ، بَلِ اللَّهُ تَعَالَى يَعْصِمُ الْأُمَّةَ عَنِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ الْخَبَرِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ إِمَّا عَدَمَ الْخَبَرِ الْمُخَالِفِ أَوْ أَنْ يَعْصِمَ الرَّاوِيَ لَهُ عَنِ النِّسْيَانِ إِلَى تَمَامِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا يُقَالُ مِنَ اطِّلَاعِ التَّابِعِينَ عَلَى خَبَرٍ مُخَالِفٍ لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ.   (1) أَيْ فَضَّلَ فِي الْأُعْطِيَّةِ بَعْدَ مَا آلَتِ الْخِلَافَةُ إِلَيْهِ فَمَيَّزَ مَنْ لَهُ قِدَمٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَامَتِ الدَّوْلَةُ عَلَيْهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُمْ حَتَّى قَوِيَتْ شَوْكَةُ الْمُسْلِمِينَ. (2) لَعَلَّهُ: أَنَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ لابد للإجماع من مستند] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُمَّةَ لَا تَجْتَمِعُ عَنْ (1) الْحُكْمِ إِلَّا عَنْ مَأْخَذٍ وَمُسْتَنَدٍ يُوجِبُ اجْتِمَاعَهَا خِلَافًا لِطَائِفَةٍ شَاذَّةٍ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِجَوَازِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ تَوْفِيقٍ لَا تَوْقِيفٍ بِأَنْ يُوَفِّقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ. وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ لِذَلِكَ بِمَسَالِكَ: الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا مَعَ فَقْدِ الدَّلِيلِ وَالْمُسْتَنَدِ لَا يَجِبُ الْوُصُولُ إِلَى الْحَقِّ، أَيْ: لَا يَلْزَمُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَتَى لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ تُجْمِعِ الْأُمَّةُ عَلَى الْحُكْمِ أَوْ إِذَا أَجْمَعَتْ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّهُ مَا الْمَانِعُ أَنَّهُمْ إِذَا اتَّفَقَ إِجْمَاعُهُمْ أَنْ يُوَفِّقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِلصَّوَابِ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ لِمَا سَبَقَ فِي الْمَسَالِكِ السَّمْعِيَّةِ، وَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ لَا فِي وُقُوعِهِ. الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّحَابَةَ لَيْسُوا بِآكَدِ حَالٍ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَقُولُ وَلَا يَحْكُمُ إِلَّا عَنْ وَحْيٍ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، فَالْأُمَّةُ أَوْلَى أَنْ لَا تَقُولَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ الْخَطَأِ عَلَى الرَّسُولِ فِيمَا يَقُولُ وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ، فَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ قَوْلًا وَحَكَمَ بِحُكْمٍ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَمَا كَانَ إِلَّا حَقًّا ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ (2) ، غَيْرَ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْهُ الْحُكْمُ وَالْقَوْلُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) وَأَمَّا الْأُمَّةُ فَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَحْكُمُونَ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ (4) فَافْتَرَقَا.   (1) فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ: عَلَى. (2) قَدْ يُخْطِئُ فِي اجْتِهَادِهِ، لَكِنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَى خَطَئِهِ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. (3) سَيَأْتِي بَيَانُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْقَوْلُ بِالِاجْتِهَادِ، وَأَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ دَلَّ عَلَى وُقُوعِهِ مِنْهُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ عَنْ هَوًى. (4) بَلْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ مِنَ النُّصُوصِ، فَلَمْ يَفْتَرِقَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَحْكُمُوا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنِدٍ لَجَازَ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُجْمِعُونَ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ بِهِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لِآحَادِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِلْجَمْعِ فِي ذَلِكَ مَزِيَّةٌ عَلَى الْآحَادِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمَزِيَّةُ لِلْجَمْعِ عَلَى الْآحَادِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَكُونُ حُجَّةً بِخِلَافِ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآحَادِ (1) الثَّانِي: أَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ لِلْآحَادِ مَشْرُوطٌ بِضَمِّ قَوْلِ الْبَاقِي إِلَيْهِ لَا أَنَّهُ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ ضَمٍّ، وَلَا كَذَلِكَ قَوْلُ الْجَمِيعِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ (2) . الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ: إِنَّ الْقَوْلَ فِي الدِّينِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ وَلَا أَمَارَةِ خَطَأٌ، فَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى الْخَطَأِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ قَادِحٌ فِي الْإِجْمَاعِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ خَطَأً، إِذَا لَمْ تُجْمِعِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ أَوْ إِذَا أَجْمَعَتْ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي دَعْوَى مَحَلُّ النِّزَاعِ. الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُقَالَةَ إِذَا لَمْ تَسْتَنِدْ إِلَى دَلِيلٍ لَا يُعْلَمُ انْتِسَابُهَا إِلَى وَضْعِ الشَّارِعِ، وَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ انْتِسَابُهَا إِلَى وَضْعِ الشَّارِعِ: أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مُصِيبَةً لِحُكْمِ الشَّارِعِ، أَوْ مَعْنًى آخَرَ. الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَهَذَا هُوَ عَيْنُ صُورَةِ الْوَاقِعِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ، وَالثَّانِي دَعْوَى مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَالثَّالِثُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ (3) .   (1) فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي جَوَازِ إِقْدَامِ الْآحَادِ عَلَى قَوْلٍ قَدْ يَنْتَهِي إِلَى إِجْمَاعٍ لَا فِي حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوعِ صُدْفَةً. (2) مِنَ الْمُحَالِ عَادَةً صُدُورُ الْقَوْلِ الْوَاحِدِ عَنْهُمْ مَعًا دُونَ تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ فِي إِبْدَائِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ كُلُّ مَنْ أَبْدَى رَأْيَهُ قَبْلَ الْأَخِيرِ مُخْطِئًا لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْإِجْمَاعُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ بَعْدُ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الرَّابِعِ. (3) قَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهَا إِلَى الشَّرْعِ ; لِأَنَّهَا خَرْصٌ وَتَخْمِينٌ وَقَوْلٌ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى دَلِيلٍ، فَلَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ لِلشَّرْعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ فِي قَوْلِ الْمُجْمِعِينَ مَعْنًى، وَهُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الِاجْتِهَادِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاجْتِهَادُ مُشْتَرَطٌ لَا حَالَةَ الْإِجْمَاعِ، أَوْ حَالَةَ الْإِجْمَاعِ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي دَعْوَى مَحَلُّ النِّزَاعِ. فَإِنَّ الْخَصْمَ إِذَا قَالَ بِجَوَازِ الْإِصَابَةِ وَامْتِنَاعِ الْخَطَأِ عَلَى الْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، كَيْفَ يُسَلَّمُ اشْتِرَاطُ الِاجْتِهَادِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؟ فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا ظَفِرْتُ بِهِ مِنْ مَسَالِكِ النَّافِينَ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُوجِبًا لِاسْتِبْعَادِ مَقَالَةِ الْمُخَالِفِ، وَالْحُكْمِ بِبُعْدِهِ عَنِ الصَّوَابِ. وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِمَسْلَكَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، فَلَوِ افْتَقَرَ فِي جَعْلِهِ حُجَّةً إِلَى دَلِيلٍ لَكَانَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ هُوَ الْحُجَّةَ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَائِدَةٌ وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ فَائِدَةُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةٌ جَوَازُ الْأَخْذِ بِهِ، وَإِسْقَاطُ الْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَحُرْمَةُ الْمُخَالَفَةِ الْجَائِزَةِ قَبْلَ الِاتِّفَاقِ. الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ يُوجِبُ عَدَمُ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الدَّلِيلِ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِقَوْلِ الرَّسُولِ، فَإِنَّهُ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقُولُ مَا يَقُولُهُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ، وَهُوَ مَا يُوحِي بِهِ إِلَيْهِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ (1) . الْمَسْلَكُ الثَّانِي: اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْوَاقِعِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أُجْرَةِ الْحَمَّامِ، وَنَاصِبِ الْحِبَابِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَأُجْرَةِ الْحَلَّاقِ وَآخِذِ الْخَرَاجِ وَنَحْوِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ وُقُوعَ شَيْءٍ مِنَ الْإِجْمَاعَاتِ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلِ الِاكْتِفَاءُ بِالْإِجْمَاعِ عَنْهُ، وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ إِنْ أَجْمَعُوا عَنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَلَا يَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ إِلَّا حَقًّا ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ الْخَطَأِ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إِجْمَاعُهُمْ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ أَوْ يُتَصَوَّرُ، فَذَلِكَ مِمَّا قَدْ ظَهَرَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ فِيهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ (2) .   (1) أَيْ وَيَكُونُ مِنْ تَظَاهُرِ الْأَدِلَّةِ. (2) سَبَقَ لِلْمُؤَلِّفِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ ص 218 أَنَّهُ سَلَّمَ لِخَصْمِهِ قَوْلَهُ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَدُلُّهُ مِنْ دَلِيلٍ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ الاختلاف في جواز انعقاد الإجماع عن الاجتهاد والقياس] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ إِلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ انْعِقَادِهِ عَنِ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ، فَجَوَّزَهُ الْأَكْثَرُونَ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْوُقُوعِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَالْقَائِلُونَ بِثُبُوتِهِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ ; لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ يَفْتَحُ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَلَا يُحَرِّمُهُ. وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ، وَدَاوُدُ الظَّاهِرِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ وَوُقُوعُهُ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ تَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُ. أَمَّا دَلِيلُ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، فَهُوَ أَنَّا قَدْ وَحَّدْنَا الْخَلْقَ الْكَثِيرَ الزَّائِدَ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ مُجْمِعِينَ عَلَى أَحْكَامٍ بَاطِلَةٍ لَا تَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَلَا دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ تَصَوُّرِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ (1) ، فَجَوَازُ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ الظَّاهِرِ أَوْلَى، كَيْفَ وَأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا وُقُوعَ ذَلِكَ لَمَا لَزِمَ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقَلًا (2) ، وَلَا مَعْنَى لِلْجَائِزِ سِوَى هَذَا. وَأَمَّا دَلِيلُ الْوُقُوعِ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعَتْ عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ حَتَّى قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ: رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: " إِنْ تُوَلُّوهَا أَبَا بَكْرٍ تَجِدُوهُ قَوِيًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ ضَعِيفًا فِي بَدَنِهِ "، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ: " وَاللَّهِ لَا فَرَّقْتُ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ: (أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُو الزَّكَاةَ) . " وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ قِيَاسًا عَلَى تَحْرِيمِ لَحْمِهِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى إِرَاقَةِ الشَّيْرَجِ وَالدِّبْسِ السَّيَّالِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ وَمَاتَتْ قِيَاسًا عَلَى فَأْرَةِ السَّمْنِ، وَعَلَى تَأْمِيرِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي مَوْضِعٍ كَانُوا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِمْ.   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 197، 224. (2) لَلْنُفَاةِ أَنْ يَقُولُوا: إِنْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ عَقْلًا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ عَادَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وَأَجْمَعُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ بِالِاجْتِهَادِ، حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَأَرَى أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِينَ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: هَذَا حَدٌّ وَأَقَلُّ الْحُدُودِ ثَمَانُونَ. وَأَجْمَعُوا أَيْضًا بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ عَلَى جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَمِقْدَارِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَمِقْدَارِ نَفَقَةِ الْقَرِيبِ، وَعَدَالَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِذَا ثَبَتَ الْجَوَازُ وَالْوُقُوعُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مُتَّبَعَةً لِمَا ثَبَتَ فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ دَلِيلِ الْجَوَازِ مَعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا مِنْ عَصْرٍ إِلَّا وَفِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْ نُفَاةِ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدًا إِلَى الْقِيَاسِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقِيَاسَ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ، وَقُوَى النَّاسِ وَأَفْهَامُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ فِي إِدْرَاكِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ عَادَةً، كَمَا يَسْتَحِيلُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لِاخْتِلَافِ أَمْزِجَتِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلٌ مَقْطُوعٌ بِهِ ; حَتَّى إِنَّ مُخَالِفَهُ يُبَدَّعُ وَيُفَسَّقُ وَالدَّلِيلُ الْمَظْنُونُ الثَّابِتُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى ضِدِّهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ إِسْنَادَ الْإِجْمَاعِ إِلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ وَهُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ، وَالْقِيَاسُ فَرْعٌ وَعُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ، وَاسْتِنَادُ الْأَصْلِ وَمَا هُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَأِ إِلَى الْفَرْعِ وَمَا هُوَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ مُمْتَنِعٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ مُخَالَفَةِ الْمُجْتَهِدِ، فَلَوِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَنِ اجْتِهَادٍ أَوْ قِيَاسٍ لَحَرُمَتِ الْمُخَالَفَةُ الْجَائِزَةُ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ تَنَاقُضٌ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ دَلِيلِ الْوُقُوعِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْإِجْمَاعِ كَانَ عَنِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَنْ نُصُوصٍ ظَهَرَتْ لِلْمُجْمِعِينَ مِنْهَا مَا ظَهَرَ لَنَا وَذَلِكَ كَتَمَسُّكِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وَبِاسْتِثْنَاءِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ (إِلَّا بِحَقِّهَا) مِنْ قَوْلِهِ: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ» " وَكَاسْتِدْلَالِ الصَّحَابَةِ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ بِفِعْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالُوا: أَيُّكُمْ يَطِيبُ نَفْسًا أَنْ يَتَقَدَّمَ قَدَمَيْنِ قَدَّمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا لِلِاكْتِفَاءِ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ نَقْلِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِي الْقِيَاسِ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ لِيَصِحَّ مَا ذَكَرُوهُ، وَوُجُودُ الْخِلَافِ بَعْدَهُ فِي الْقِيَاسِ غَايَتُهُ الْمَنْعُ مِنْ وُقُوعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْقِيَاسِ بَعْدَ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِيهِ وَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، كَيْفَ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَفِي أَسْبَابِ تَزْكِيَتِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ وَافَقُوا عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بِنَاءً عَلَيْهِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا ظَهَرَ وَعُدِمَ الْمَيْلُ وَالْهَوَى، فَلَا يَبْعُدُ اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ دَاعِيًا إِلَى الْحُكْمِ بِهِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِتَفَاوُتِ أَفْهَامِهِمْ وَجِدِّهِمْ فِي النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فَلَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي أَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ كَمَا لَا يَتَعَذَّرُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ عَدَالَتَهُ مَظْنُونَةٌ بِمَا يَظْهَرُ مِنَ الْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا وَالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِتَزْكِيَتِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ اتِّفَاقِ الْكَافَّةِ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ اخْتِلَافَ أَمْزِجَتِهِمْ مُوجِبٌ لِاخْتِلَافِ أَغْرَاضِهِمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَلَا دَاعِيَ لَهُمْ إِلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ كَمَا وُجِدَ الدَّاعِي لَهُمْ عِنْدَ ظُهُورِ الْقِيَاسِ إِلَى الْحُكْمِ بِمُقْتَضَاهُ. وَعَنِ الثَّالِثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اتَّفَقَتْ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْقِيَاسِ فَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَسْبِقُهُ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ ظَنِّيًّا فَإِذًا اسْتِنَادُ الْإِجْمَاعِ الْقَطْعِيِّ إِنَّمَا هُوَ إِلَى قَطْعِيٍّ لَا إِلَى ظَنِّيٍّ. الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ يَنْتَقِضُ بِمَا وَافَقُوا عَلَيْهِ مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، بِنَاءً عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ كَوْنِهِ ظَنِّيًّا، وَالْإِجْمَاعُ الْمُسْتَنَدُ إِلَيْهِ قَطْعِيٌّ فَمَا هُوَ الْجَوَابُ فِي صُورَةِ الْإِلْزَامِ يَكُونُ جَوَابًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي هُوَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ هُوَ فَرْعًا لِلْإِجْمَاعِ، بَلْ لِغَيْرِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَهُ بِنَاءُ الْإِجْمَاعِ عَلَى فَرْعِهِ. قَوْلُهُمْ إِنَّ الْقِيَاسَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ، فَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ فِي جَوَابِ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ إِنَّمَا انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِ مُخَالَفَةِ الْمُجْتَهِدِ الْمُنْفَرِدِ بِاجْتِهَادِهِ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ دُونَ اجْتِهَادِ الْأُمَّةِ. قَوْلُهُمْ: الْأُمَّةُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا أَجْمَعَتْ عَلَى نُصُوصٍ. قُلْنَا: وَإِنْ أَمْكَنَ التَّشَبُّثُ بِمَا أَوْرَدُوهُ مِنَ النُّصُوصِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، فَمَا الْعُذْرُ فِيمَا لَا يَظْهَرُ فِيهِ نَصٌّ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِالْقِيَاسِ وَإِلْحَاقِ صُورَةٍ بِصُورَةٍ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ فِيهَا نَصٌّ لَمَا عَدَلُوا عَنْهُ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالْقِيَاسِ (1) وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الْقِيَاسِ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، فَلَوْ ظَهَرَ دَلِيلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ وَرَأَيْنَا الْأُمَّةَ قَدْ حَكَمَتْ بِمُقْتَضَاهُ - وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ هُوَ الْمُسْتَنَدَ - فَلَا يَجِبُ تَعْيِينُهُ لِجَوَازِ أَنَّ الْمُسْتَنَدَ غَيْرُهُ (2) لِتَكْثُرَ الْأَدِلَّةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، خِلَافًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ.   (1) قَدْ يُقَالُ: لَمْ يَعْدِلُوا عَنِ النَّصِّ، وَإِنَّمَا ضَمُّوا إِلَيْهِ آخَرَ هُوَ الْقِيَاسُ كَمَا ذُكِرَ بَعْدُ. (2) أَيْ غَيْرُهُ مَعَهُ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ هَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشِّيعَةِ وَبَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَصْرِ: إِنَّ الْجَارِيَةَ الثَّيِّبَ إِذَا وَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا يُمْنَعُ الرَّدُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالرَّدِّ مَعَ الْعَقْرِ، فَالْقَوْلُ بِالرَّدِّ مَجَّانًا قَوْلٌ ثَالِثٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الْجَدُّ يَرِثُ جَمِيعَ الْمَالِ مَعَ الْأَخِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْمُقَاسَمَةِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَرِثُ شَيْئًا قَوْلٌ ثَالِثٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: النِّيَّةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي جَمِيعِ الطَّهَارَاتِ، وَقَالَ الْبَعْضُ: النِّيَّةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا لَا فِي شَيْءٍ مِنَ الطَّهَارَاتِ قَوْلٌ ثَالِثٌ. وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ: بِجَوَازِ فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ، وَقَالَ الْبَعْضُ: لَا يَجُوزُ الْفَسْخُ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَالْقَوْلُ بِالْفَسْخِ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ قَوْلٌ ثَالِثٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ: لِلْأُمِّ ثُلْثٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَهَا ثُلْثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ لَهَا ثُلْثَ الْأَصْلِ فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ وَثُلْثَ مَا يَبْقَى فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى؛ قَوْلٌ ثَالِثٌ. احْتَجَّ الْغَزَالِيُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ أَوْ لَهُ دَلِيلٌ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَالْقَوْلُ بِهِ مُمْتَنِعٌ (1) ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ يَلْزَمُ مِنْهُ نِسْبَتُهُ الْخَطَأَ إِلَى الْأُمَّةِ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى تَضْيِيعِهِ وَالْغَفْلَةِ عَنْهُ (2) ، وَهُوَ مُحَالٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ   (1) إِنَّمَا امْتَنَعَ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ. (2) إِنَّمَا يَلْزَمُ تَخْطِئَةُ جَمِيعِ الْأُمَّةِ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ إِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ مُطْلَقًا، أَمَّا مَنْ قَالَ بِالتَّفْضِيلِ فَيَلْزَمُهُ تَخْطِئَةُ بَعْضِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا مُحَالًا، كَمَا سَيَتَبَيَّنُ مِنَ الْأَجْوِبَةِ عَنِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّفْصِيلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 مِنْ ذَلِكَ نِسْبَةُ الْأُمَّةِ إِلَى الْخَطَأِ، أَنْ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ مُعَيَّنًا وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي (1) ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا فَالتَّخْطِئَةُ تَكُونُ مُمْتَنِعَةٌ. وَاحْتَجَّ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَدْ أَجْمَعَتْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عَلَى الْمَنْعِ مِنْ إِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ ; لِأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُوجِبُ الْأَخْذَ بِقَوْلِهَا أَوْ بِقَوْلِ مُخَالِفِهَا، وَيَحْرُمُ الْأَخْذُ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَصْمَ إِنَّمَا يُسَلِّمُ إِيجَابَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْأَخْذَ بِقَوْلِهَا أَوْ قَوْلِ مُخَالِفِهَا بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتِهَادُ الْغَيْرِ قَدْ يُفْضِي إِلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ. وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ مِمَّا يَرْفَعُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَاةِ، فَإِنَّهُ إِذَا اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا امْتِنَاعُ الرَّدِّ، وَالرَّدُّ مَعَ الْعَقْرِ فَالْقَوْلَانِ مُتَّفِقَانِ عَلَى امْتِنَاعِ الرَّدِّ مَجَّانًا، فَالْقَوْلُ بِهِ يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ. وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ، فَإِنَّهُ إِذَا اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلَيْنِ وَهُمَا: اسْتِقْلَالُهُ بِالْمِيرَاثِ وَمُقَاسَمَتُهُ لِلْأَخِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّ لِلْجَدِّ قِسْطًا مِنَ الْمَالِ، فَالْقَوْلُ الْحَادِثُ أَنَّهُ لَا يَرِثُ شَيْئًا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ. وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ إِذَا اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَهُمَا اعْتِبَارُ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الطَّهَارَاتِ وَعَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْقَوْلَانِ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْبَعْضِ، فَالْقَوْلُ الْمُحْدَثُ النَّافِي لِاعْتِبَارِهَا مُطْلَقًا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ لَا يَرْفَعُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ، بَلْ وَافَقَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهٍ وَخَالَفَهُ مِنْ وَجْهٍ، فَهُوَ جَائِزٌ إِذْ لَيْسَ فِيهِ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الطَّهَارَاتِ، وَقَالَ الْبَعْضُ بِنَفْيِ اعْتِبَارِهَا فِي جَمِيعِ الطَّهَارَاتِ، فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ وَهُوَ اعْتِبَارُهَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ خَرْقَ الْإِجْمَاعِ إِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ بِمَا   (1) سَيَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْبَابِ الْأَوَّلِ فِي الْمُجْتَهِدِينَ مَعَ التَّعْلِيقِ عَلَيْهِ، وَبَيَانِ مَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ مَذْهَبِ الْمُصَوِّبَةِ وَالْمُخَطِّئَةِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 يُخَالِفُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْقَائِلَ بِالنَّفْيِ فِي الْبَعْضِ وَالْإِثْبَاتِ فِي الْبَعْضِ قَدْ وَافَقَ فِي كُلِّ صُورَةٍ مَذْهَبَ ذِي مَذْهَبٍ، فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ لَا فِي صُورَةِ اعْتِبَارِ النِّيَّةِ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ بِاعْتِبَارِهَا فِي الْكُلِّ، وَلَا فِي صُورَةِ النَّفْيِ لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِمَنْ قَالَ بِنَفْيِ الِاعْتِبَارِ فِي الْكُلِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْغَائِبِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِجَوَازِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ وَبِصِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ، فَمَنْ قَالَ بِجَوَازِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ وَبِنَفْيِ صِحَّةِ بَيْعِ الْغَائِبِ أَوْ بِالْعَكْسِ لَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي مَسْأَلَةِ فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ (1) . فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ قَالَ بِالْإِثْبَاتِ مُطْلَقًا لَمْ يَقُلْ بِالتَّفْصِيلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِالنَّفْيِ مُطْلَقًا، فَالْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ. قُلْنَا: وَعَدَمُ الْقَائِلِ بِهِ مِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِهِ وَإِلَّا لَمَا جَازَ أَنْ يَحْكُمَ فِي وَاقِعَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ بِحُكْمٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَ فِيهَا لِأَحَدٍ قَوْلٌ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَكُلٌّ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مُطْلَقًا قَائِلٌ بِنَفْيِ التَّفْصِيلِ؛ فَالْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفْيِ التَّفْصِيلِ إِمَّا أَنْ يُعْرَفَ مِنْ صَرِيحِ مَقَالِهِ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ مُطْلَقًا، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ حَتَّى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لَوْ صَرَّحَ بِنَفْيِ التَّفْصِيلِ لَمَا سَاغَ الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ، وَالثَّانِي غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْقَوْلِ بِنَفْيِ التَّفْصِيلِ وَإِلَّا لَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ وَبَيْعِ الْغَائِبِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ فِيهِ تَخْطِئَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي بَعْضِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَتَخْطِئَةُ الْفَرِيقَيْنِ تَخْطِئَةٌ لِلْأُمَّةِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.   (1) وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي الْعُمَرِيَّتَيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ، وَضَابِطُ ذَلِكَ تَعَدُّدُ مَحَلِّ الْحُكْمِ، وَاخْتِلَافُ طَائِفَتَيْنِ فِي الْحُكْمِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مُطْلَقًا، فَلِمَنْ جَاءَ بَعْدُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ أَنْ يُحْدِثَ قَوْلًا ثَالِثًا بِالتَّفْصِيلِ، فَيُوَافِقُ طَائِفَةً فِي حُكْمِ الْحِلِّ وَيُوَافِقُ الْأُخْرَى فِي حُكْمِ الْمَحَلِّ الْآخَرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 قُلْنَا: الْمُحَالُ إِنَّمَا هُوَ تَخْطِئَةُ الْأُمَّةِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَأَمَّا تَخْطِئَةُ كُلِّ بَعْضٍ فِيمَا لَمْ يُتَّفَقْ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُحَالًا، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ انْقِسَامُ الْأُمَّةِ إِلَى قِسْمَيْنِ، وَكُلُّ قِسْمٍ مُخْطِئٌ فِي مَسْأَلَةٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ الْأَكْثَرُونَ. (شُبَهُ الْمُخَالِفِينَ) الْأُولَى: أَنَّ اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ دَلِيلُ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ، وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ حَادِثٌ عَنْ الِاجْتِهَادِ فَكَانَ جَائِزًا. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ لَوِ انْقَرَضَ عَصْرُهُمْ وَكَانُوا قَدِ اسْتَدَلُّوا فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ بِدَلِيلَيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلتَّابِعِيِّ الِاسْتِدْلَالُ بِدَلِيلٍ ثَالِثٍ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: دَلِيلُ جَوَازِ إِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثِ الْوُقُوعُ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ مِنَ الْأُمَّةِ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَزَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْأُمِّ ثُلْثُ الْأَصْلِ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَقَالَ الْبَاقُونَ: لِلْأُمِّ ثُلْثُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَقَدْ أَحْدَثَ التَّابِعُونَ قَوْلًا ثَالِثًا، فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ (1) بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ دُونَ الزَّوْجَةِ وَالْأَبَوَيْنِ، وَقَالَ تَابِعِيٌّ آخَرُ بِالْعَكْسِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ (أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ) (2) عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ، فَأَحْدَثَ مَسْرُوقٌ وَهُوَ مِنَ التَّابِعِينَ مَذْهَبًا سَابِعًا وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ حُكْمٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ: الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ بِالْفَرْقِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِدَلِيلٍ ثَالِثٍ يُؤَكِّدُ مَا صَارَتْ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنَ الْحُكْمِ، وَلَا يُبْطِلُهُ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ.   (1) فِيهِ تَحْرِيفٌ فِي حِكَايَةِ قَوْلِ ابْنِ سِيرِينَ، وَالصَّوَابُ: فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ فِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ، بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ. (2) انْظُرْ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فِي كِتَابِ " إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الثَّانِي أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى دَلِيلٍ وَاحِدٍ لَا يَمْنَعُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ مَانِعٌ مِنْ إِبْدَاعِ حُكْمٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ فَافْتَرَقَا. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَمَّا مَسْأَلَةُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَرْفَعُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ، بَلْ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ فِيمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْإِجْمَاعِ، بَلْ هُوَ قَائِلٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِمَذْهَبِ ذِي مَذْهَبٍ كَمَا قَرَّرْنَاهُ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْفَرِيقَانِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَسْتَقِرَّ قَوْلُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بَلْ قَوْلُ الْبَعْضِ، أَوْ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمَا قَوْلُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَ فِيهِ مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ بَلْ مُخَالَفَةُ الْبَعْضِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَفَهُمْ فِي وَقْتِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَقَدْ خَالَفَهُمْ حَالَةَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، فَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ خَارِقًا لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قُدِّرَ إِحْدَاثُ قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَعَدَمُ نَقْلِ الْإِنْكَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ فِي مَسْأَلَةِ (أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 [الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ إِذَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ بِدَلِيلٍ فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ دَلِيلٍ آخَرَ] الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ إِذَا اسْتَدَلَّ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ بِدَلِيلٍ، أَوْ تَأَوَّلُوا تَأْوِيلًا فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ إِحْدَاثُ دَلِيلٍ أَوْ تَأْوِيلٍ آخَرَ؟ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ قَدْ نَصُّوا عَلَى إِبْطَالِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ التَّأْوِيلِ أَوْ عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ سَكَتُوا عَنِ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَجُزْ إِحْدَاثُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْطِئَةِ الْأُمَّةِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ جَازَ إِحْدَاثُهُ إِذْ لَا تَخْطِئَةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِهِ وَمَنَعَ مِنْهُ الْأَقَلُّونَ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ إِلَّا إِذَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْحُ فِيمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَصْرِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَدْحُ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا كَمَا لَوْ لَمْ يَسْبِقْهُ تَأْوِيلٌ أَوْ دَلِيلٌ آخَرُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ النَّاسَ فِي كُلِّ عَصْرٍ لَمْ يَزَالُوا يَسْتَخْرِجُونَ الْأَدِلَّةَ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْمُغَايِرَةَ لِأَدِلَّةِ مَنْ تَقَدَّمَ وَتَأْوِيلَاتِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَعَارَضٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وَالدَّلِيلُ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي لَيْسَ هُوَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَعْرُوفَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقَةِ لِلْجِنْسِ، وَلَوْ كَانَ الدَّلِيلُ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي مَعْرُوفًا لَأُمِرُوا بِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُأْمَرُوا بِهِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فَكَانَ مُنْكَرًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ» "، وَقَدْ ذَهَبُوا عَنِ الدَّلِيلِ وَالتَّأْوِيلِ الثَّانِي، فَلَا يَكُونُ ذَهَابُهُمْ عَنْهُ خَطَأً، وَلَوْ كَانَ دَلِيلًا صَحِيحًا أَوْ تَأْوِيلًا صَحِيحًا لَكَانَ الذَّهَابُ عَنْهُ خَطَأً وَهُوَ مُحَالٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ (1) جَازَ أَنْ يَذْهَبَ عَلَى أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ الدَّلِيلُ الثَّانِي لَجَازَ أَنْ يُوحِيَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِدَلِيلَيْنِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُشَرِّعُ الْحُكْمَ لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ وَيَذْهَبُ عَنِ الْآخَرِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الذَّمَّ فِيهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ إِثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ، وَإِمَّا بِسُلُوكِ مَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ. الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْمُحْدِثَ لِلدَّلِيلِ وَالتَّأْوِيلِ الثَّانِي غَيْرُ تَارِكٍ لِدَلِيلِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَلَا لِتَأْوِيلِهِمْ، بَلْ غَايَتُهُ ضَمُّ دَلِيلٍ إِلَى دَلِيلٍ وَتَأْوِيلٍ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَلَا هُوَ تَارِكٌ لِمَا نَهُوا عَنْهُ مِنَ الدَّلِيلِ وَالتَّأْوِيلِ الثَّانِي، إِذِ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ نَهُوا عَنْهُ. وَالثَّانِي مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى حَمْلِ الْآيَةِ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْحَاقِ الذَّمِّ بِمَا لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِإِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ. وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا مُشْتَرِكَةُ الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} يَقْتَضِي كَوْنَهُمْ نَاهِينَ عَنْ كُلِّ مُنْكَرٍ لِمَا ذَكَرُوهُ مِنْ لَامِ الِاسْتِغْرَاقِ، وَلَوْ كَانَ الدَّلِيلُ وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي مُنْكَرًا لَنَهَوْا عَنْهُ، وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْهُ فَلَا يَكُونُ مُنْكَرًا. وَعَنِ السُّنَّةِ أَنَّ ذَهَابَهُمْ عَنِ الدَّلِيلِ وَالتَّأْوِيلِ الثَّانِي مَعَ صِحَّتِهِ إِنَّمَا يَكُونُ خَطَأً أَنْ لَوْ لَمْ يَسْتَغْنُوا عَنْهُ بِدَلِيلِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ. وَعَنِ الْمَعْقُولِ أَنَّهُ قِيَاسٌ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ صَحِيحٍ فَلَا يُقْبَلُ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ تَعْرِيفِهِ (2) الْحُكْمَ الْوَاحِدَ بِدَلِيلَيْنِ قَدْ كَلَّفَ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا مَانِعَ مِنْ إِثْبَاتِهِ لِلْحُكْمِ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَلْزَمُ مِنَ امْتِنَاعِ إِثْبَاتِهِ لِلْحُكْمِ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ مَعَ تَكْلِيفِهِ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ بِهِمَا امْتِنَاعُ إِثْبَاتِ الْأُمَّةِ لِلْحُكْمِ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا قَدْ كُلِّفُوا بِذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ.   (1) فِيهِ سَقْطٌ وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ جَازَ. (2) مَعَ تَعْرِيفِهِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ مَعَ عَدَمِ تَعْرِيفِهِ، كَمَا يُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ وَالْجَوَابُ عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 [الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ الخلاف في إجماع عصر لاحق على أحد قولي عصر سابق] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاسْتَقَرَّ خِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ، فَهَلْ يُتَصَوَّرُ انْعِقَادُ إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَصِيرِ إِلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَمْ لَا؟ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى امْتِنَاعِهِ. وَذَهَبَ الْمُعْتَزِلَةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِهِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُخْتَارُ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَاسْتَقَرَّ خِلَافُهُمْ فِي ذَلِكَ بَعْدَ تَمَامِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فَقَدِ انْعَقَدَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بِاجْتِهَادٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ. فَلَوْ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْمَصِيرُ إِلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ - مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مُجْمِعَةٌ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ (1) - فَفِيهِ تَخْطِئَةُ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ. وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ، وَالْمَنْعِ مِنَ الْأَخْذِ بِهِ مَعًا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ خَطَأً أَوْ يَلْزَمُهُ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ الْقَاطِعَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ يُفْضِي إِلَى أَمْرٍ مُمْتَنِعٍ، فَكَانَ مُمْتَنِعًا. لَكِنْ لَيْسَ هَذَا الِامْتِنَاعُ عَقْلِيًّا بَلْ سَمْعِيًّا.   (1) جَوَابُ لَوْ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ " فَفِيهِ " إِلَى آخِرِهِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَأَفْضَى إِلَى أَمْرٍ مُمْتَنِعٍ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْطِئَةُ أَحَدِ الْإِجْمَاعَيْنِ إِنِ اعْتَبَرْنَا أَحَدَهُمَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ، فِي إِجْمَاعِهَا، وَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ إِنِ اعْتَبَرْنَا الْإِجْمَاعَيْنِ وَأَوْجَبْنَا الْعَمَلَ بِهِمَا، وَهُوَ مُحَالٌ بِالضَّرُورَةِ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ مَا فِي الْعِبَارَةِ مِنَ الِاضْطِرَابِ. وَبَعْدَ هَذَا فَالْمُلَازَمَةُ مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا أَجْمَعُوا عَلَى تَسْوِيغِ الْعَمَلِ بِكُلٍّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اسْتِنَادًا إِلَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِاجْتِهَادِهِ، لِكَوْنِهِ صَوَابًا فِي نَظَرِهِ، وَلَوْ كَانَ خَطَأً فِي نَظَرِ مُخَالِفِيهِ، أَوْ فِي الْوَاقِعِ حَتَّى لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَرَأَى رَأْيَ مُخَالِفِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِالْآخِرِ مِنْ قَوْلَيْهِ دُونَ الْأَوَّلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 فَإِنْ قِيلَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ (1) لَا يَلْزَمُ مِنْهُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ; لِأَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَطَأً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» "، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِالْخَطَأِ خَطَأٌ (2) ، وَإِنْ سَلَّمْنَا إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ وَالْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَظْهَرَ إِجْمَاعٌ كَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْعَادِمِ لِلْمَاءِ هُوَ التَّيَمُّمُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْمَاءِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ زَالَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ. سَلَّمْنَا أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ وَلَكِنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. فَإِذَا أَجْمَعَ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِجْمَاعُهُمْ عَلَيْهِ مُوَافِقٌ لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ (3) مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِهِمْ، وَمَا يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا سَمْعًا. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الِامْتِنَاعِ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ وَبَيَانِهِ بِالْوُقُوعِ وَذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى دَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَوْضِعِ دَفْنِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَنْ يَكُونُ إِمَامًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَاتَّفَقَ التَّابِعُونَ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بَعْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ الْخِلَافِ مُمْتَنِعًا لَمَا كَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدَ الْقَوْلَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ خَطَأً بَلْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ مُصِيبٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ (4) . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْخَبَرِ فَسَيَأْتِي تَأْوِيلُهُ كَيْفَ وَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ الْإِصَابَةِ نَظَرًا إِلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْوَالِ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَوَابًا   (1) لَوْ قَالَ: اخْتِلَافُ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ إِلَخْ. لَكَانَ مُوَافِقًا لِلْوَاقِعِ، فَإِنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُخَطِّئُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهَا، وَلَكَانَ مُنَاسِبًا لِمَا ذُكِرَ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ، وَلَمْ يُنَاقَضْ مَعَ بَقِيَّةِ الْفِقْرَةِ الْأُولَى مِنَ الِاعْتِرَاضِ. (2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 257. (3) إِلَّا أَنَّهُ فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ لَا أَنَّهُ. (4) سَيَأْتِي أَيْضًا بَيَانُ أَنَّ الْحَقَّ مَعَ الْمُخَطِّئَةِ، وَالرَّدُّ عَلَى تَأْوِيلِ الْمُصَوِّبَةِ لِلْحَدِيثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وَإِلَّا كَانَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِالْخَطَأِ (1) ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ مِثْلَ هَذَا الِاشْتِرَاطِ فِي إِجْمَاعِهِمْ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ أَطْلَقُوا وَلَمْ يَشْتَرِطُوا؛ لَسَاغَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ إِجْمَاعٍ، وَلَسَاغَ أَنْ تَتَّفِقَ الْأُمَّةُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى خِلَافِهِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعُهُمْ مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا يَظْهَرَ إِجْمَاعٌ مُخَالِفٌ لَهُ بَلْ وَلَجَازَ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ بَعْدِهِمُ الْمُخَالَفَةُ، لِمَا قِيلَ مِنَ الشَّرْطِ وَهُوَ مُحَالٌ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشَّرْطِ فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ (2) ، وَبِهِ إِبْطَالُ مَا صَارَ إِلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ مِنْ جَوَازِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ السَّابِقِ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَنَّ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مُحَالًا لِنَفْسِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ لِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنِ امْتِنَاعِ الْأَخْذِ الْآخَرِ (3) . وَعَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ أَنَّ الِاتِّفَاقَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الدَّفْنِ وَالْإِمَامَةِ وَقِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاسْتِمْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى الْجَزْمِ بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْخِلَافُ عَلَى طَرِيقِ الْمَشُورَةِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ فِي حَالَةِ الْبَحْثِ عَمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ غَيْرَ أَنَّهُ اتِّفَاقٌ مِنَ الْمُخْتَلِفِينَ بِأَعْيَانِهِمْ، وَمَنْ شَرَطَ فِي الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضَ عَصْرِ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ رُجُوعِهِمْ أَوْ رُجُوعِ بَعْضِهِمْ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَالْخِلَافُ مَعَهُ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمُجْمِعِينَ عَلَى خِلَافِهِمْ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِ الْأَوَّلِينَ، غَيْرَ أَنَّ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمُخْتَارُ (4) .   (1) أَجْمَعُوا عَلَى تَجْوِيزِ أَخْذِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِاجْتِهَادِهِ لِكَوْنِهِ صَوَابًا فِي نَظَرِهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فِي نَظَرِ مُخَالِفِيهِ، بَلْ فِي الْوَاقِعِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يُجْمِعُوا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا هُوَ خَطَأٌ فِي الْوَاقِعِ، بَلْ بِمَا هُوَ خَطَأٌ فِي نَظَرِ بَعْضِهِمْ صَوَابٌ فِي نَظَرِ مُخَالِفِيهِمْ. (2) لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ لِوُجُودِ الْفَارِقِ، فَإِنَّ إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الصَّحَابَةِ مَثَلًا لَزِمَ مِنْهُ تَخْطِئَةُ بَعْضِ الْأُمَّةِ، وَبَعْضُهُا غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْطِئَةُ كُلِّ الْأُمَّةِ أَوْ جَوَازُ تَخْطِئَتِهَا، وَهِيَ مَعْصُومَةٌ، فَلَا يَصْلُحُ مَا ذَكَرَ إِلَّا لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ جَوَّزَ الْإِجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ إِجْمَاعٍ سَابِقٍ. (3) إِنَّمَا جَازَ لَهُمُ الْعَمَلُ بِهِ لِكَوْنِهِ صَوَابًا فِي نَظَرِهِمْ فَلَمَّا تَبَيَّنَ خَطَؤُهُمْ بِمَا جَدَّ مِنَ الْإِجْمَاعِ حَرُمَ عَلَيْهِمُ الْعَمَلُ بِهِ. (4) لِأَنَّهُ اخْتَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ 16 أَنْ لَا يُشْتَرَطَ فِي انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ عَلَى تَفْصِيلٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 وَأَمَّا مَسْأَلَةُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَإِنْ كَانَ خِلَافُ الصَّحَابَةِ قَدِ اسْتَقَرَّ وَاسْتَمَرَّ إِلَى انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ فَلَا نُسَلِّمُ إِجْمَاعَ التَّابِعِينَ قَاطِبَةً عَلَى امْتِنَاعِ بَيْعِهِنَّ. فَإِنَّ مَذْهَبَ عَلِيٍّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِنَّ لَمْ يَزَلْ بَلْ جَمِيعُ الشِّيعَةِ وَكُلُّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى مَذْهَبِهِ قَائِلٌ بِهِ وَإِلَى الْآنَ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ الخلاف في إجماع أهل عصر على أحد أقوالهم] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ إِذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ أَوْ أَهْلُ أَيِّ عَصْرٍ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَهَلْ يَجُوزُ اتِّفَاقُهُمْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ خِلَافِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَالْمَنْعُ مِنْ جَوَازِ الْمَصِيرِ إِلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَنِ اعْتَبَرَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ قَطَعَ بِجَوَازِهِ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرِ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْخِلَافِ الْقِيَاسَ وَالِاجْتِهَادَ لَا دَلِيلًا قَاطِعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَلَمْ يُجَوِّزِ انْعِقَادَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ عَلَى الْحُكْمِ وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ (1) إِلَى دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ أَوْ قَطْعِيٍّ أَنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً مَانِعَةً مِنْ مُخَالَفَتِهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا اسْتَقَرَّ خِلَافُهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَهُوَ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى تَجْوِيزِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، فَلَوْ تُصُوِّرَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ مِنْهُ الْمُحَالُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَقْرِيرِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (2) . وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنَ الِاعْتِرَاضِ وَالِانْفِصَالِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ مُتَوَجِّهٌ هَاهُنَا فَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِهِ وَنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا، غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَخْتَصُّ بِسُؤَالٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا اتَّفَقَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ أَوْ أَهْلُ أَيِّ عَصْرٍ كَانَ عَلَى حُكْمٍ وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَظْهَرَ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ مَا ظَهَرَ لِبَاقِي الْأُمَّةِ، وَمَعَ ظُهُورِ ذَلِكَ لَهُ إِنْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى   (1) الصَّوَابُ: نَصْبُ مُسْتَنِدٌ ; لِكَوْنِهِ خَبَرَ كَانَ. (2) لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُحَالُ لِمَا تَقَدَّمَ ص 275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 مُقْتَضَاهُ فَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنَ الْحُكْمِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ وَلِبَاقِي الْأُمَّةِ مَعَهُ وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِمَا يُخَالِفُ ذَلِكَ وَيَقْطَعُ بِبُطْلَانِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ لَمْ نَمْنَعْهُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْوِفَاقُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْخِلَافِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. قُلْنَا: لَوْ ظَهَرَ لَهُ مَا ظَهَرَ لِلْأُمَّةِ فَنَحْنُ لَا نُحِيلُ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِاسْتِحَالَةِ ظُهُورِهِ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ وَهُوَ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنْ تَعَارُضِ الْإِجْمَاعَيْنِ وَلُزُومِ الْخَطَأِ فِي أَحَدِهِمَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (1) . وَلَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُمُ الرَّاجِعُونَ بِأَعْيَانِهِمْ عَمَّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَالْمُخَالِفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَأَنَّ الْمُخَالِفَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَدْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ بَعْضَ الْأُمَّةِ (2) الْخَائِضِينَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اتَّفَقُوا عَلَيْهَا وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْمُجْمِعُونَ هُمْ كُلُّ الْأُمَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْإِشْكَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْأُولَى. وَعَلَى هَذَا نَقُولُ إِنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَصْرِ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ وَبَقِيَ الْقِسْمُ الْآخَرُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَوْلُهُمْ إِجْمَاعًا مَانِعًا مِنَ الْأَخْذِ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ، وَالْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِهِ مَا سَبَقَ وَإِنْ خَالَفَ فِيهِ قَوْمٌ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أَوْ دَلِيلٍ وَلَا مَعَارِضَ لَهُ وَتَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ هَلْ يُمْكِنُ وُجُودُ خَبَرٍ أَوْ دَلِيلٍ وَلَا مَعَارِضَ لَهُ وَتَشْتَرِكُ الْأُمَّةُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ مَصيِرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِالْعَمَلِ (3) ، بِمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ، فَاشْتِرَاكُهُمْ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَكُونُ خَطَأً فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَخَطَأُ الْمُكَلَّفِ مِنْ أَوْصَافِ فِعْلِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَحَالَهُ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّهُمْ لَوِ اشْتَرَكُوا فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، لَكَانَ ذَلِكَ سَبِيلًا لَهُمْ وَلَوَجَبَ عَلَى غَيْرِهِمُ اتِّبَاعُهُ، وَامْتَنَعَ تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) الْآيَةَ.   (1) يُرِيدُ بِذَلِكَ دَلِيلَهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا الْجَوَابُ عَنْهُ. (2) أَنَّ بَعْضَ الْأُمَّةِ. . . إِلَخْ. فِي الْعِبَارَةِ سَقْطٌ، وَالصَّوَابُ فِيهَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْمُجْمِعِينَ بَعْضُ. (3) بِالْعَمَلِ صَوَابُهُ: بِالْعِلْمِ، بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنِ اشْتِرَاكِهِمْ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُمْ مُوَافِقًا لِمُقْتَضَاهُ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِمْ بِمَعْرِفَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُمْ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا هَاهُنَا، لِأَنَّ سَبِيلَ كُلِّ طَائِفَةٍ مَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَقْصُودَةِ لَهُمُ الْمُتَدَاوَلَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: سَبِيلُ فُلَانٍ كَذَا وَسَبِيلُ فُلَانٍ كَذَا. وَعَدَمُ الْعِلْمِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْأُمَّةِ فَلَا يَكُونُ سَبِيلًا لَهُمْ، كَيْفَ وَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ الْحَثُّ عَلَى مُتَابَعَةِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ سَبِيلًا لَهُمْ لَكَانَتِ الْآيَةُ حَاثَّةً عَلَى مُتَابَعَتِهِ، وَالشَّارِعُ لَا يَحُثُّ عَلَى الْجَهْلِ بِأَدِلَّتِهِ الشَّرْعِيَّةِ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَمَلُهُمْ عَلَى خِلَافِهِ فَهُوَ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الْخَطَأِ الْمَنْفِيِّ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ هل يمكن ارتداد الأمة] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفُوا فِي تَصَوُّرِ ارْتِدَادِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَلَا شَكَّ فِي تَصَوُّرِ ذَلِكَ عَقْلًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي امْتِنَاعِهِ سَمْعًا، وَالْمُخْتَارُ امْتِنَاعُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلَالَةٍ، أُمَّتِي لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ» " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنْ فِعْلِ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ (1) . فَإِنْ قِيلَ: حَالُ ارْتِدَادِهِمْ لَيْسَ هُمْ مِنْ أُمَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا تَكُونُ الْأَخْبَارُ مُتَنَاوِلَةً لَهُمْ. قُلْنَا: الْأَخْبَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمُ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْخَطَأِ، وَإِذَا ارْتَدَّتِ الْأُمَّةُ صَدَقَ قَوْلُ الْقَائِلِ: إِنَّ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ قَدِ اتَّفَقَتْ عَلَى الرِّدَّةِ، وَالرِّدَّةُ مِنَ الْخَطَأِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ.   (1) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللَّهُ اللَّهُ ". وَفِي رِوَايَةٍ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ. فَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا أَشْبَهَهُ يُعَارِضُ عُمُومَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ فِي إِجْمَاعِهَا فِي أَيِّ عَصْرٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَلَكِنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ لَا تَتَنَاقَضُ، فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، وَذَلِكَ بِتَخْصِيصِ عُمُومِ أَحَادِيثِ عِصْمَةِ الْأُمَّةِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الْمُتَقَدِّمِ وَنَحْوِهِ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى شِرَارِ الْخَلْقِ، وَحَدِيثُ قَبْضِ الْعِلْمِ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، وَيُرْشِدُ إِلَى ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَفِيهِ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ رِيحًا لَيِّنَةً عِنْدَهَا تَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، ثُمَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى رِدَّةِ الْأُمَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ هل التمسك بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي دِيَةِ الْيَهُودِيِّ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا عَلَى الثُّلُثِ. فَمَنْ حَصَرَهَا فِي الثُّلُثِ كَالشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَظَنَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْحَصْرُ فِي الثُّلُثِ مُشْتَمِلٌ عَلَى وُجُوبِ الثُّلُثِ وَنَفْيِ الزِّيَادَةِ، فَوُجُوبُ الثُّلُثِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا نَفْيُ الزِّيَادَةِ فَغَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ ; لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، بَلْ نَفْيُهُ عِنْدَ مَنْ نَفَى إِنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِمَّا إِلَى ظُهُورِ دَلِيلٍ فِي نَظَرِهِ بِنَفْيِهِ مِنْ وُجُودِ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ عَدَمِ الْمَدَارِكِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى اسْتِصْحَابِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْإِجْمَاعِ فِي شَيْءٍ. [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ هل يثبت الإجماع بخبر الواحد] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَأَجَازَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَأَنْكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا كَالْغَزَالِيِّ مَعَ اتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ إِلَّا ظَنِّيًّا فِي سَنَدِهِ (1) وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا فِي مَتْنِهِ. وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ النَّصُّ وَالْقِيَاسُ، أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» "، ذَكَرَ (الظَّاهِرَ) بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْمُسْتَغْرِقَةِ فَدَخَلَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا ظَنِّيًّا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ عَنِ الْإِجْمَاعِ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ، فَكَانَ حُجَّةً كَخَبَرِهِ عَنْ نَصِّ الرَّسُولِ. وَحُجَّةُ الْمَانِعِينَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَوْنَ (2) الْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ عَلَى لِسَانِ الْآحَادِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ عَنِ الرَّسُولِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَرِدْ مِنَ الْأُمَّةِ   (1) لَا يَكُونُ إِلَّا ظَنِّيًّا فِي سَنَدِهِ، أَيْ: فِي ذَاتِهِ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْقَرَائِنِ الَّتِي قَدْ تَحْتَفِ بِهِ فَيُفِيدُ مَعَهَا الْعِلْمَ. (2) كَلِمَةُ كَوْنٍ زَائِدَةٌ، وَالصَّوَابُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فِيهِ إِجْمَاعٌ قَاطِعٌ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ وَلَا نَصَّ قَاطِعٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الظَّوَاهِرِ فَغَيْرُ مُحْتَجٍّ بِهَا فِي الْأُصُولِ (1) وَإِنِ احْتُجَّ بِهَا فِي الْفُرُوعِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ دَائِرَةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ دَلِيلِ الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ وَعَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، فَمَنِ اشْتَرَطَ الْقَطْعَ مَنَعَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُفِيدًا فِي نَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ كَانَ الْإِجْمَاعُ الْمَنْقُولُ عَلَى لِسَانِ الْآحَادِ عِنْدَهُ حُجَّةً، وَالظُّهُورُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْمُعْتَرِضِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْمُسْتَدِلِّ فِيهَا. [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ حكم جَاحِدِ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ جَاحِدِ الْحُكْمِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، فَأَثْبَتَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ إِنْكَارَ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ مُوجِبٌ لِلتَّكْفِيرِ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْإِجْمَاعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِ اسْمِ الْإِسْلَامِ كَالْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ، وَوُجُوبِ اعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ، أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ كَالْحُكْمِ بِحِلِّ الْبَيْعِ وَصِحَّةِ الْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَجَاحِدُهُ كَافِرٌ لِمُزَايَلَةِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ لَهُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا (2) .   (1) الْوَاقِعُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ يَسْتَدِلُّ بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ الصَّحِيحَةِ، وَالَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا، وَاسْتِقْرَاءُ كُتُبِهِمْ يُثْبِتُ ذَلِكَ كَاسْتِدْلَالِهِمْ بِخَبَرِ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ ". . إِلَخْ، وَخَبَرِ: " عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ ". . . إِلَخْ، وَخَبَرِ: " مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا ". . . إِلَخْ. فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ. (2) إِنْ أَرَادَ الْحُكْمَ بِحِلِّ عَقْدِ بَيْعٍ جُزْئِيٍّ، وَصِحَّةِ عَقْدِ إِجَارَةٍ جُزْئِيٍّ مِنَ الْعُقُودِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، فَحُكْمُهُ بِعَدَمِ كُفْرِ مُنْكِرِهَا صَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادَ حِلَّ عَقْدِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَصِحَّةَ عُقُودِ الْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ، فَحُكْمُهُ بِعَدَمِ كُفْرِ مُنْكِرِ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّ الْحُكْمَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِمَّا عُلِمَ مِنَ النُّصُوصِ يَقِينًا، وَثَبَتَ إِجْمَاعًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 [خَاتِمَةٌ فِيمَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً فِيهِ وَمَا لَا يَكُونُ وهل الْإِجْمَاعَ فِي الْأَدْيَانِ السَّالِفَةِ كَانَ حُجَّةً] خَاتِمَةٌ فِيمَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً فِيهِ، وَمَا لَا يَكُونُ، وَأَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي الْأَدْيَانِ السَّالِفَةِ كَانَ حُجَّةً أَمْ لَا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ الْإِجْمَاعِ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهِ، أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالِاحْتِجَاجُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا لِتَوَقُّفِ صِحَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ دَوْرٌ. وَذَلِكَ كَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى وَصِحَّةِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ صِحَّةَ الْإِجْمَاعِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ وَصِحَّةُ النُّصُوصِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ الْمُرْسِلِ، وَكَوْنِ مُحَمَّدٍ رَسُولًا. فَإِذَا تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَةُ وُجُودِ الرَّبِّ وَرِسَالَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ عَلَى صِحَّةِ الْإِجْمَاعِ كَانَ دَوْرًا، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، فَالْمُجْمَعُ عَلَيْهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَهُوَ حُجَّةٌ مَانِعَةٌ مِنَ الْمُخَالَفَةِ إِنْ كَانَ قَطْعِيًّا مِنْ غَيْرِ خِلَافِ الْقَائِلِينَ بِالْإِجْمَاعِ. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَقْلِيًّا كَرُؤْيَةِ الرَّبِّ لَا فِي جِهَةٍ، وَنَفْيِ الشَّرِيكِ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ شَرْعِيًّا كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِ (1) .   (1) لَمْ يَرِدْ فِي النُّصُوصِ نِسْبَةُ الْجِهَةِ إِلَى اللَّهِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا، ثُمَّ هِيَ كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ تَحْتَمِلُ حَقًّا، وَبَاطِلًا، فَإِنَّ إِثْبَاتَهَا لِلَّهِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ عِبَادِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَهَذَا حَقٌّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ. وَنَفْيُهَا عَنِ اللَّهِ يَحْتَمِلُ نَفْيَ عُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ. وَيَحْتَمِلُ تَنْزِيهَهُ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا حَقٌّ. وَإِذَنْ لَا يَصِحُّ نِسْبَةُ الْجِهَةِ إِلَى اللَّهِ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا لِعَدَمِ وُرُودِهَا وَلِاحْتِمَالِهَا الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. ثُمَّ مُقَابَلَةُ الْعَقْلِيِّ بِالشَّرْعِيِّ تُشْعِرُ بِأَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ وَتَنْزِيهَهُ عَنِ الشَّرِيكِ وَنَحْوَهُمَا إِنَّمَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، لَا بِدَلِيلِ الشَّرْعِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ أَدِلَّةَ النُّصُوصِ خَطَابِيَّةٌ لَا بُرْهَانِيَّةٌ لَا تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ كِتَابًا وَسُنَّةً بَعْدَ الِاسْتِقْرَاءِ، وَبَعْدَ ثُبُوتِ أَصْلِ الشَّرْعِ بِالْعَقْلِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ نُصُوصَ الشَّرْعِ كَمَا جَاءَتْ بِالْخَبَرِ الصَّادِقِ فِي الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرِهَا جَاءَتْ بِتَقْرِيرِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ وَأَقْوَى بُرْهَانٍ، لَكِنَّهَا لَمْ تَجِئْ عَلَى أُسْلُوبِ الصِّنَاعَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ الْمُتَكَلَّفَةِ، بَلْ عَلَى أُسْلُوبِ مَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِلُغَتِهِمْ أَفْصَحَ عِبَارَةٍ، وَأَعْلَى بَيَانٍ، وَأَقْرَبَ طَرِيقٍ إِلَى الْفَهْمِ، وَأَيْسَرَهُ لِأَخْذِ الْأَحْكَامِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ أَدِلَّةَ الْقُرْآنِ فِي إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ التَّشْرِيعِ، وَاسْتَقْرَأَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَهُ خَطَأُ أُولَئِكَ الَّذِينَ وَصَمُوا رَبَّهُمْ وَكِتَابَهُ وَنَبِيَّهُ وَسُنَّتَهُ، بِمَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ عَدُوٍّ لِلْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ الْكَيْدَ لَهُمْ فِي أُصُولِ دِينِهِمْ وَمَصَادِرِ تَشْرِيعِهِمْ؛ لِيَرُدُّوهُمْ بِذَلِكَ إِلَى مَا يَزْعُمُهُ أُصُولًا عَقْلِيَّةً، وَغَالِبُهَا شُكُوكٌ وَمَجَازَاتٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْحَقَّةِ، فَقَدْ جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ، فَاللَّهُمَّ اغْنِنَا بِكِتَابِكَ وَسُنَّةِ نَبِيِّكَ عَنْ مَوَارِدِ الْوَهْمِ وَمَزَالِقِ الضَّلَالِ، وَصَلَّى اللَّهُ مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا يَتَّفِقُ مِنَ الْآرَاءِ فِي الْحَرْبِ وَتَرْتِيبِ الْجُيُوشِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِ الرَّعِيَّةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَقَالَ تَارَةً بِامْتِنَاعِ مُخَالَفَتِهِ، وَتَارَةً بِالْجَوَازِ، وَتَابَعَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ جَمَاعَةٌ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الْمَنْعُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ ; لِأَنَّ الْعُمُومَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنِ الْخَطَأِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِمْ فِيمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ فِي الْأَدْيَانِ السَّالِفَةِ كَانَ حُجَّةً أَمْ لَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْأُصُولِيُّونَ، وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ إِثْبَاتَ ذَلِكَ أَوْ نَفْيَهُ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ عَقْلٌ وَلَا نَقْلٌ، فَالْحُكْمُ بِنَفْيِهِ أَوْ إِثْبَاتِهِ مُتَعَذِّرٌ. وَهَذَا آخِرُ الْكَلَامِ فِي الْإِجْمَاعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 [الْأَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ النَّظَرُ فِي السَّنَدِ] [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ الْخَبَرِ وَأَقْسَامِهِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْأَصْلُ الرَّابِعُ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَهُوَ نَوْعَانِ؛ يَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالنَّظَرِ فِي السَّنَدِ، وَالْآخَرُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَتْنِ النَّوْعُ الْأَوَّلُ - النَّظَرُ فِي السَّنَدِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الْمَتْنِ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ الْخَبَرِ وَأَقْسَامِهِ أَمَّا حَقِيقَةُ الْخَبَرِ، فَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ اسْمَ الْخَبَرِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِشَارَاتِ الْحَالِيَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: " عَيْنَاكَ تُخْبِرُنِي بِكَذَا؛ وَالْغُرَابُ يُخْبِرُ بِكَذَا ". وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَكَمْ لِظَلَامِ اللَّيْلِ عِنْدَكَ مِنْ يَدٍ ... تُخَبِّرُ أَنَّ الْمَانَوِيَّةَ تَكْذِبُ (1) وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى قَوْلٍ مَخْصُوصٍ لَكِنَّهُ مَجَازٌ فِي الْأَوَّلِ وَحَقِيقَةٌ فِي الثَّانِي بِدَلِيلِ تَبَادُرِهِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْخَبَرِ، وَالْغَالِبُ إِنَّمَا هُوَ اشْتِهَارُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ دُونَ مَجَازِهِ. ثُمَّ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الصِّيغَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: قَامَ زَيْدٌ، وَقَعَدَ   (1) هَذَا الْبَيْتُ لِأَبِي الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي مِنْ قَصِيدَةٍ يَمْدَحُ بِهَا كَافُورَ الْإِخْشِيدِيَّ مَطْلَعُهَا: أُغَالِبُ الشَّوْقَ وَالشَّوْقُ أَغْلَبُ - وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا الْهَجْرِ وَالْوَصْلُ أَعْجَبُ وَالْمَانَوِيَّةُ أَصْحَابُ مَانِي بْنِ فَاتِكٍ الثَّنَوِيِّ الْقَائِلِ بِقِدَمِ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَأَنَّهُمَا أَصْلُ الْكَائِنَاتِ. انْظُرْ مَذْهَبَهُمْ فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ لِلشَّهْرَسْتَانِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 عَمْرٌو. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالصِّيغَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْكَلَامِيَّاتِ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ فِي اللُّغَةِ حَقِيقَةً فِي الصِّيغَةِ؛ لِتَبَادُرِهَا إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْخَبَرِ (1) وَإِذَا عُرِفَ مُسَمَّى الْخَبَرِ حَقِيقَةً فَمَا حَدُّهُ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَى تَحْدِيدِهِ، بَلْ مَعْنَاهُ مَعْلُومٌ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ. وَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ، وَأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا مَعْدُومًا. وَمُطْلَقُ الْخَبَرِ جُزْءٌ مِنْ مَعْنَى الْخَبَرِ الْخَاصِّ، وَالْعِلْمُ بِالْكُلِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِالْجُزْءِ، فَلَوْ كَانَ تَصَوُّرُ مَاهِيَّةِ مُطْلَقِ الْخَبَرِ مَوْقُوفًا عَلَى الِاكْتِسَابِ، لَكَانَ تَصَوُّرُ الْخَبَرِ الْخَاصِّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ (2) عَنِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْسُنُ فِيهِ الْأَمْرُ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذِهِ الْحَقَائِقَ مُتَصَوَّرَةٌ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ فَدَعْوَى مُجَرَّدَةٌ، وَهِيَ مُقَابَلَةٌ بِنَقِيضِهَا. وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ؛ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ هُوَ الَّذِي لَا يَفْتَقِرُ فِي الْعِلْمِ بِهِ إِلَى نَظَرٍ وَدَلِيلٍ يُوصِلُ إِلَيْهِ، وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى ذَلِكَ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ التَّنْبِيهِ، لَا بِطْرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ مَا يَفْتَقِرُ إِلَى نَوْعِ تَذْكِيرٍ وَتَنْبِيهٍ عَلَى مَا عُلِمَ فِي مَوَاضِعِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَأَمْكَنَ دَعْوَى الضَّرُورَةِ فِي كُلِّ عِلْمٍ نَظَرِيٍّ. وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ التَّنْبِيهِ دُونَ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ التَّنْبِيهِ غَيْرُ مُفِيدٍ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا مَعًا. فَغَايَتُهُ أَنَّهُ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ بِنِسْبَةٍ خَاصَّةٍ،   (1) الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَقَدْ يَنْصَرِفُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِقَرِينَةٍ. (2) يُحْتَمَلُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَالتَّقْدِيرُ وَيُمَيِّزُهُ عَنْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ضَمَّنَ يَعْلَمُ مَعْنَى يُمَيِّزُ فَعَدَّاهُ بِعْنَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 أَوْ بِسَلْبِ نِسْبَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِلْمًا بِحَقِيقَةِ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَتْ تِلْكَ النِّسْبَةُ الْخَاصَّةُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ فَلَا مَعْنَى لِكَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ خَبَرًا سِوَى تِلْكَ النِّسْبَةِ الْخَاصَّةِ فَهُوَ (1) عَوْدٌ إِلَى التَّحْدِيدِ وَتَرْكٌ لِمَا قِيلَ. الثَّانِي: إِنَّا؛ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْخَاصَّةِ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ الْمُطْلَقُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ كَذَلِكَ، قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُطْلَقَ جُزْءٌ مِنَ الْخَبَرِ الْخَاصِّ، لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمُطْلَقَ أَعَمُّ مِنَ الْخَبَرِ الْخَاصِّ فَلَوْ كَانَ جُزْءًا مِنْ مَعْنَى الْخَبَرِ الْخَاصِّ، لَكَانَ الْأَعَمُّ مُنْحَصِرًا فِي الْأَخَصِّ وَهُوَ مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْأَعَمُّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا فِيهِ بَيْنَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَحْتَهُ، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاكِهَا فِيهِ سِوَى كَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ مَعْنَاهَا. قُلْنَا: أَمَّا أَوَّلًا، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ (2) الْأَعَمِّ مُشْتَرَكًا فِيهِ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْأَنْوَاعِ أَوِ الْأَشْخَاصِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْهُ، بَلْ بِمَعْنَى لِحَدِّ أَنَّ حَدَّ الطَّبِيعَةِ الَّتِي عَرَضَ لَهَا إِنْ كَانَتْ كُلِّيَّةً مُطْلَقَةً مُطَابِقٌ طَبَائِعَ الْأُمُورِ الْخَاصَّةِ تَحْتَهَا. وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَامٍّ يَكُونُ جُزْءًا مِنْ مَعْنَى الْخَاصِّ، وَمُقَوِّمًا لَهُ بِجَوَازِ (3) أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَعْرَاضِ الْعَامَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ مَفْهُومِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ، كَالْأَسْوَدِ وَالْأَبْيَضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُمَا مِنْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَبَاطِلٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ إِنَّمَا هُوَ وَاقِعٌ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يَحْسُنُ فِيهِ بَيَانُ الْأَمْرِ وَمَا يَحْسُنُ فِيهِ الْخَبَرُ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. نَعَمْ؛ غَايَةُ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ مَا يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ وَالنِّسْبَةِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ، وَلَيْسَ هُوَ الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ وَالْخَبَرِ سِوَى ذَلِكَ الْمَعْلُومِ الْخَاصِّ، فَهُوَ أَيْضًا عَوْدٌ إِلَى التَّحْدِيدِ. كَيْفَ وَإِنَّ   (1) جَوَابُ قَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ وَرَدَ لِلِاعْتِرَاضِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ إِذَا الشَّرْطِيَّةِ لَا تَفْرِيعَ عَلَيْهَا. (2) فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ، فِيهِ تَحْرِيفٌ، الصَّوَابُ: فَإِنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْأَعَمِّ مُشْتَرَكًا. (3) لَعَلَّهُ لِجَوَازِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 مَا ذَكَرَهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ أَيْضًا مُسْتَغْنِيًا عَنِ التَّحْدِيدِ كَاسْتِغْنَاءِ الْخَبَرِ. وَهَذَا الْقَائِلُ بِعَيْنِهِ قَدْ عَرَفَ الْأَمْرَ بِالتَّحْدِيدِ، حَيْثُ قَالَ: الْأَمْرُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي مَفْهُومِ الْخَبَرِ اللَّفْظِيِّ. وَحَقَائِقُ أَنْوَاعِ الْأَلْفَاظِ وَانْقِسَامِهَا إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ، لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ. وَلِهَذَا، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَوْ أَطْلَقُوا اسْمَ الْأَمْرِ عَلَى الْمَفْهُومِ مِنَ الْخَبَرِ الْآنَ، وَاسْمَ الْخَبَرِ عَلَى مَفْهُومِ الْأَمْرِ؛ لَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا، وَمَا يَتَبَدَّلُ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَاتِ فَالْعِلْمُ بِمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ ضَرُورِيًّا. وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجْمَعَ الْبَاقُونَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِمَفْهُومِ الْخَبَرِ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْحَدِّ وَالنَّظَرِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّهِ، فَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ كَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِمْ: إِنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْكَلَامُ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَيْهِ إِشْكَالَاتٌ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: مُحَمَّدٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقَانِ فِي دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَلَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ، وَإِلَّا كَانَ مُسَيْلِمَةُ صَادِقًا، وَلَا الْكَذِبُ، وَإِلَّا كَانَ مُحَمَّدٌ كَاذِبًا وَهُوَ خَبَرٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَذَبَ فِي جَمِيعِ أَخْبَارِهِ فَقَالَ: جَمِيعُ أَخْبَارِي كَذِبٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ هَذَا خَبَرٌ، وَلَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ. وَإِلَّا كَانَتْ جَمِيعُ أَخْبَارِهِ كَذِبًا، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَخْبَارِهِ وَلَا يَدْخُلُهُ الْكَذِبُ، وَإِلَّا كَانَتْ جَمِيعُ أَخْبَارِهِ مَعَ هَذَا الْخَبَرِ كَذِبًا، وَصَدَقَ فِي قَوْلِهِ (جَمِيعُ أَخْبَارِي كَذِبٌ) . الثَّانِي: أَنَّ تَعْرِيفَ الْخَبَرِ بِمَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ إِلَى يُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الصِّدْقَ هُوَ الْخَبَرُ الْمُوَافِقُ لِلْمُخْبَرِ، وَالْكَذِبَ بِضِدِّهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. الثَّالِثُ: إِنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ مُتَقَابِلَانِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِمَّا امْتِنَاعُ وُجُودِ الْخَبَرِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا وُجُودُ الْخَبَرِ مَعَ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ دُخُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِيهِ، فَيَكُونُ الْمَحْدُودُ مُتَحَقِّقًا دُونَ مَا قِيلَ بِكَوْنِهِ حَدًّا لَهُ وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الرَّابِعُ: أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى لَهُ خَبَرٌ، وَلَا يُتَصَوَّرُ دُخُولُ الْكَذِبِ فِيهِ. وَقَدْ أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ " مُحَمَّدٌ وَمُسَيْلِمَةُ صَادِقَانِ " بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُفِيدُ صِدْقَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ صِدْقِ الْآخَرِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَحَدُهُمَا صَادِقٌ حَالَ صِدْقِ الْآخَرِ. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ كَاذِبًا، فَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: هُمَا صَادِقَانِ وَهُوَ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ مَا قِيلَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ قَوْلُهُ: هُمَا صَادِقَانِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ أَحَدِهِمَا صَادِقًا، حَالَ صِدْقِ الْآخَرِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ. وَالْأَعَمُّ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِالْأَخَصِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَذِبِ الْأَخَصِّ كَذِبُ الْأَعَمِّ. وَأَجَابَ أَبُو هَاشِمٍ بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ جَارٍ مَجْرَى خَبَرَيْنِ أَحَدُهُمَا خَبَرٌ بِصِدْقِ الرَّسُولِ، وَالْآخَرُ خَبَرٌ بِصِدْقِ مُسَيْلِمَةَ. وَالْخَبَرَانِ لَا يُوصَفَانِ بِالصِّدْقِ وَلَا بِالْكَذِبِ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا. وَإِنَّمَا الَّذِي يُوصَفُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْخَبَرُ الْوَاحِدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَبَرٌ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ أَيْضًا فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَفَادَ حُكْمًا وَاحِدًا لِشَخْصَيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وَصْفِهِ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، بِدَلِيلِ الْكَذِبِ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: كُلُّ مَوْجُودٍ حَادِثٌ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ حُكْمًا وَاحِدًا لِأَشْخَاصٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بِأَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِنَا: " مَا دَخَلَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ " أَنَّ اللُّغَةَ لَا تُحَرِّمُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ: صَدَقْتَ أَوْ كَذَبْتَ. وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَهُوَ غَيْرُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ. وَأَجَابَ عَنْهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّهُ كَذِبٌ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ إِضَافَةَ الصِّدْقِ إِلَيْهِمَا مَعًا مَعَ عَدَمِ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِمَا مَعًا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ كَاذِبًا فَلَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ، وَقَدْ قِيلَ: الْخَبَرُ مَا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ حَاصِلُ هَذَا وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ خَبَرٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى خَبَرَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا صَادِقٌ وَهُوَ إِضَافَةُ الصِّدْقِ إِلَى مُحَمَّدٍ. وَالْآخَرُ كَاذِبٌ وَهُوَ إِضَافَتُهُ إِلَى مُسَيْلِمَةَ. وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو الْخَبَرُ فِيهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ صِدْقٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ كَذِبٌ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ فِي السَّلْبِ أَوِ الْإِيجَابِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّانِي، فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ بِأَنَّ الْخَبَرَ مَعْلُومٌ لَنَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ نَقْصِدْ بِهِ تَعْرِيفَ الْخَبَرِ؛ بَلْ فَصْلَهُ وَتَمْيِيزَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا عَرَّفَنَا الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِالْخَبَرِ فَلَا يَكُونُ دَوْرًا، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ تَمْيِيزُ الْخَبَرِ عَنْ غَيْرِهِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالنَّظَرِ إِلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَتَمْيِيزُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِالْخَبَرِ يُوجِبُ تَوَقُّفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ فِي تَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ عَيْنُ الدَّوْرِ بَلْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي حَدِّ الْخَبَرِ وَمُمَيِّزًا لَهُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ مُفْتَقِرٌ فِي مَعْرِفَتِهِ إِلَى الْخَبَرِ، بَلِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ مَعْلُومٌ لَنَا بِالضَّرُورَةِ، لَكَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الثَّالِثُ، فَقَدْ قِيلَ فِي جَوَابِهِ إِنَّ الْمَحْدُودَ إِنَّمَا هُوَ جِنْسُ الْخَبَرِ، وَهُوَ قَابِلٌ لِدُخُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فِيهِ كَاجْتِمَاعِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي جِنْسِ اللَّوْنِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّ الْحَدَّ ـ وَإِنْ كَانَ لِجِنْسِ الْخَبَرِ ـ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْحَدُّ مَوْجُودًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْأَخْبَارِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْهُ وُجُودُ الْخَبَرِ دُونَ حَدِّ الْخَبَرِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ آحَادَ الْأَخْبَارِ الشَّخْصِيَّةِ مِمَّا لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ (الْوَاوَ) وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّرْدِيدُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ تَجَوُّزًا. وَأَمَّا الْإِشْكَالُ الرَّابِعُ فَقَدْ قِيلَ فِي جَوَابِهِ مِثْلُ جَوَابِ الْإِشْكَالِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْخَبَرُ مَا دَخَلَهُ الصِّدْقُ أَوِ الْكَذِبُ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْإِشْكَالَانِ الْأَوَّلَانِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْحَدِّ الْأَوَّلِ دُونَ الْأَخِيرَيْنِ (1) وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِمَا. وَيَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالٌ آخَرُ خَاصٌّ بِهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مَعْرُوفٌ لِلْمَحْدُودِ، وَحَرْفُ (أَوْ) لِلتَّرْدِيدِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِلتَّعْرِيفِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِهِ: إِنَّ الْحُكْمَ بِقَبُولِ الْخَبَرِ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ جَازِمٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ فِي التَّحْدِيدِ. وَإِنَّمَا التَّرَدُّدُ فِي اتِّصَافِهِ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا، وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحَدِّ. وَقِيلَ مَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ. .   (1) أَيْ: لِتَعْبِيرِهِ بِـ " أَوْ " بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ مَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا تَعْرِيفُ الْخَبَرِ بِالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَبَرِ وَالتَّرْدِيدِ. وَقَدْ عُرِفَ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْخَبَرُ كَلَامٌ يُفِيدُ بِنَفْسِهِ إِضَافَةَ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا. وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ (بِنَفْسِهِ) عَنِ الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبًا لَكِنْ لَا بِنَفْسِهِ، بَلْ بِوَاسِطَةِ مَا اسْتَدْعَاهُ الْأَمْرُ بِنَفْسِهِ مِنْ طَلَبِ الْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنَ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِالنِّسَبِ التَّقْيِيدِيَّةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: حَيَوَانٌ نَاطِقٌ، فَإِنَّهُ أَفَادَ بِنَفْسِهِ إِثْبَاتَ النُّطْقِ لِلْحَيَوَانِ، وَلَيْسَ بِخَبَرٍ. فَإِنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِكَلَامٍ. وَنَحْنُ. فَقَدْ قَيَّدْنَا الْحَدَّ بِالْكَلَامِ. قُلْنَا: هَذَا مِنْهُ لَا يَصِحُّ فَإِنَّ (1) حَدَّ الْكَلَامِ بِمَا انْتَظَمَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُمَيَّزَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ قَيْدٌ آخَرُ. وَحَدُّ الْكَلَامِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مُتَحَقِّقٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَكَانَ عَلَى أَصْلِهِ كَلَامًا. وَالْمُخْتَارُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: الْخَبَرُ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّفْظِ الدَّالِّ بِالْوَضْعِ عَلَى نِسْبَةِ مَعْلُومٍ إِلَى مَعْلُومٍ أَوْ سَلْبِهَا عَلَى وَجْهٍ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى تَمَامٍ مَعَ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى النِّسْبَةِ أَوْ سَلْبِهَا. أَمَّا قَوْلُنَا (اللَّفْظِ) فَهُوَ كَالْجِنْسِ لِلْخَبَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَرَزَ بِهِ عَنِ الْخَبَرِ الْمَجَازِيِّ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. وَقَوْلُنَا: (الدَّالِّ) احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الْمُهْمَلِ. وَقَوْلُنَا: (بِالْوَضْعِ) احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الدَّالِّ بِجِهَةِ الْمُلَازَمَةِ. وَقَوْلُنَا: (عَلَى نِسْبَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَعَنْ كُلِّ مَا لَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى نِسْبَةٍ. وَقَوْلُنَا: (مَعْلُومٍ إِلَى مَعْلُومٍ) حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ الْمَوْجُودُ وَالْمَعْدُومُ. وَقَوْلُنَا: (سَلْبًا أَوْ إِيجَابًا) حَتَّى يَعُمَّ " مَا " مِثْلُ قَوْلِنَا: زَيْدٌ فِي الدَّارِ، لَيْسَ فِي الدَّارِ. وَقَوْلُنَا: (يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى إِتْمَامٍ) احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى النِّسَبِ التَّقْيِيدِيَّةِ.   (1) " فَإِنَّ " صَوَابُهُ " فَإِنَّهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وَقَوْلُنَا (مَعَ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى النِّسْبَةِ أَوْ سَلْبِهَا) احْتِرَازٌ عَنْ صِيغَةِ الْخَبَرِ إِذَا وَرَدَتْ. وَلَا تَكُونُ خَبَرًا، كَالْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِ النَّائِمِ وَالسَّاهِي وَالْحَاكِي لَهَا، أَوْ لِقَصْدِ الْأَمْرِ مَجَازًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ، وَقَوْلِهِ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} ، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} ، {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَنَحْوِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الدَّلَالَةَ عَلَى النِّسْبَةِ وَلَا سَلْبَهَا. [الْقِسْمَةُ الْأُولَى الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى صَادِقٍ وَكَاذِبٍ] وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْخَبَرِ فَهُوَ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَ قِسَمٍ: الْقِسْمَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى صَادِقٍ وَكَاذِبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ بِهِ (1) أَوْ غَيْرَ مُطَابِقٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ الصَّادِقُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْكَاذِبُ. وَقَالَ الْجَاحِظُ: الْخَبَرُ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: صَادِقٌ، وَكَاذِبٌ، وَمَا لَيْسَ بِصَادِقٍ، وَلَا كَاذِبٍ. وَقَدِ احْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا النَّصُّ فَحِكَايَةُ الْقُرْآنِ عَنِ الْكُفَّارِ قَوْلَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} حَصَرُوا دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ فِي الْكَذِبِ وَالْجِنَّةِ، وَلَيْسَ إِخْبَارُهُ بِالنُّبُوَّةِ حَالَةَ جُنُونِهِ كَذِبًا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهَا فِي مُقَابَلَةِ الْكَذِبِ، وَلَا صِدْقًا، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا صِدْقَهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. فَإِخْبَارُهُ حَالَةَ جِنَّةٍ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَيْسَ الصَّادِقُ هُوَ الْخَبَرَ الْمُطَابِقَ لِلْمُخْبَرِ. فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ، عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا، وَكَانَ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا يُوَصَفُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ. وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا لِمُطَابَقَةِ خَبَرِهِ لِلْمُخْبَرِ. وَكَذَلِكَ لَيْسَ الْكَذِبُ هُوَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْمُخْبَرِ لِوَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ مِنْهُ الْكَذِبُ فِي كَلَامِ اللَّهِ (تَعَالَى) بِتَخْصِيصِ عُمُومِ خَبَرِهِ وَتَقْيِيدِ مُطْلَقِهِ لِعَدَمِ الْمُطَابَقَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ أَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ، عَلَى اعْتِقَادِ كَوْنِهِ فِيهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا،   (1) بِهِ الصَّوَابُ إِبْدَالُهَا بِكَلِمَةِ عَنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا؛ وَلَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْمُخْبَرِ. وَإِنَّمَا الصَّادِقُ مَا طَابَقَ الْمُخْبَرَ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ أَنَّهُ كَذَلِكَ. وَالْكَذِبُ مَا لَمْ يُطَابِقِ الْمُخْبَرَ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَفْرِضَ فِي الِاعْتِقَادِ وَاسِطَةً بَيْنَ كَوْنِهِ عِلْمًا أَوْ جَهْلًا، لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ عِلْمًا، وَلَا جَهْلًا مُرَكَّبًا، كَاعْتِقَادِ الْعَامِّيِّ الْمُقَلِّدِ وُجُودَ الْإِلَهِ تَعَالَى، جَازَ أَنْ يُفْرَضَ بَيْنَ الصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ خَبَرٌ لَيْسَ بِصَادِقٍ وَلَا كَاذِبٍ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا حَصَرُوا أَمْرَهُ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالْجِنَّةِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الدَّلَالَةِ بِهِ عَلَى مَدْلُولِهِ شَرْطٌ فِي كَوْنِهِ خَبَرًا، وَالْمَجْنُونُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ صَحِيحٌ، فَصَارَ كَالنَّائِمِ وَالسَّاهِي، إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ صِيغَةُ الْخَبَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ خَبَرًا وَحَيْثُ لَمْ يَعْتَقِدُوا صِدْقَهُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، أَوْ لَا يَكُونُ مَا أَتَى بِهِ خَبَرًا وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الْخَبَرِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَلَيْسَ صَادِقًا فِيهِ وَلَا كَاذِبًا؛ فَلَا. وَعَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كَوْنِ زَيْدٍ فِي الدَّارِ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا وَهُوَ فِيهَا أَنَّ خَبَرُهُ لَا يَكُونُ صَادِقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ عَلَى الصِّدْقِ. وَكَذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّ زَيْدًا فِي الدَّارِ، عَلَى اعْتِقَادِ كَوْنِهِ فِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا أَنَّهُ لَيْسَ كَاذِبًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ عَلَى كَذِبِهِ؛ لِأَنَّ الْمَدْحَ وَالذَّمَّ لَيْسَ عَلَى نَفْسِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَا غَيْرُ، بَلْ عَلَى الصِّدْقِ مَعَ قَصْدِهِ وَالْكَذِبِ مَعَ قَصْدِهِ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّ الْأُمَّةَ حَاكِمَةٌ بِأَنَّ الْكَافِرَ الَّذِي عُلِمَ مِنْهُ اعْتِقَادُ بُطْلَانِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَادِقٌ بِإِخْبَارِهِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ لَمَّا كَانَ خَبَرُهُ مُطَابِقًا لِلْمُخْبَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا لِذَلِكَ وَلَا قَاصِدًا لِلصِّدْقِ، وَحَاكِمَةٌ بِكَذِبِهِ فِي إِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرَسُولٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَا أَخْبَرَ بِهِ لَمَّا كَانَ خَبَرُهُ غَيْرَ مُطَابِقٍ لِلْمُخْبَرِ. وَأَمَّا تَخْصِيصُ عُمُومِ خَبَرِ الْقُرْآنِ وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ، فَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ كَذِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَبَرُ مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ، وَصَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ إِلَى الْآخَرِ لَا يَكُونُ كَذِبًا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ اللَّفْظُ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الْمَجَازِيَّةِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ وَأَرَادَ بِهِ بَعْضَ مَدْلُولَاتِهِ دُونَ الْبَعْضِ. كَمَا لَوْ قَالَ: (رَأَيْتُ عَيْنًا) وَأَرَادَ بِهِ الْعَيْنَ الْجَارِيَةَ دُونَ الْبَاصِرَةِ، وَبِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ كَاذِبًا. وَكَذَلِكَ مَنْ أَخْبَرَ بِلَفْظٍ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي شَيْءٍ وَمَجَازٌ فِي شَيْءٍ، وَأَرَادَ جِهَةَ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ كَاذِبًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: (رَأَيْتُ أَسَدًا) وَأَرَادَ بِهِ الْمَحْمَلَ الْمَجَازِيَّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ الْإِنْسَانُ. وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ انْقِسَامِ الِاعْتِقَادِ إِلَى عِلْمٍ وَجَهْلٍ مُرَكَّبٍ، وَحَالَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ لَيْسَتْ عِلْمًا وَلَا جَهْلًا مُرَكَّبًا، انْقِسَامُ الْخَبَرِ إِلَى صِدْقٍ وَكَذِبٍ، وَمَا لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ، إِذْ هُوَ قِيَاسٌ تَمْثِيلِيٌّ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا، لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَيْضًا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَاسِطَةٌ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَالنِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ حَيْثُ إِنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ يُطْلِقُ اسْمَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ عَلَى مَا لَا يُطْلِقُهُ الْآخَرُ إِلَّا بِشَرْطٍ زَائِدٍ. [الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَإِلَى مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ وَإِلَى مَا لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ] الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ، وَإِلَى مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ، وَإِلَى مَا لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ. فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ فَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ، كَخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَمَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ لَا بِنَفْسِ الْخَبَرِ، بَلْ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ صَادِقًا، كَخَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ الرَّسُولِ فِيمَا يُخْبَرُ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ وَخَبَرِ مَنْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْ رَسُولُهُ أَوْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ أَنَّهُ صَادِقٌ، وَخَبَرُ مَنْ وَافَقَ خَبَرُهُ خَبَرَ الصَّادِقِ أَوْ دَلِيلَ الْعَقْلِ وَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا ادُّعِيَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الصِّدْقِ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَأَمَّا مَا يُعْلَمُ كَذِبُهُ، فَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوِ النَّظَرِ، أَوِ الْحِسِّ أَوْ أَخْبَارِ التَّوَاتُرِ، أَوِ النَّصِّ الْقَاطِعِ، أَوِ الْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ، أَوْ مَا صَرَّحَ الْجَمْعُ الَّذِينَ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِتَكْذِيبِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ " أَنَا كَاذِبٌ " فَخَبَرُهُ ذَلِكَ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ هَذَا الْخَبَرِ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَلَا مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ أَخْبَارِهِ، فَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْأَخْبَارِ السَّالِفَةِ. وَقَدْ كَانَ صَادِقًا فِيهَا فَخَبَرُهُ عَنْهَا بِأَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهَا يَكُونُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 كَذِبًا. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَخْبَارٍ قِيلَ إِنَّهَا مَعْلُومَةُ الْكَذِبِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا بَعْدَ هَذَا فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَأَمَّا مَا لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ وَلَا كَذِبُهُ، فَمِنْهُ مَا يُظَنُّ صِدْقُهُ كَكَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ وَالْعَادَاتِ مِمَّنْ هُوَ مَشْهُورٌ بِالْعَدَالَةِ وَالصِّدْقِ. وَمِنْهُ مَا يُظَنُّ كَذِبُهُ كَخَبَرِ مَنِ اشْتُهِرَ بِالْكَذِبِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مَظْنُونِ الصِّدْقِ وَلَا الْكَذِبِ، بَلْ مَشْكُوكٌ فِيهِ، كَخَبَرِ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ وَلَمْ يَشْتَهِرْ أَمْرُهُ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ. فَإِنْ قِيلَ: كُلُّ خَبَرٍ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا فَهُوَ كَاذِبٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَادِقًا لَمَا أَخْلَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَصْبِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْمُتَحَدِّيَ بِالنُّبُوَّةِ، إِذَا لَمْ تَظْهَرْ عَلَى يَدِهِ مُعْجِزَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، فَإِنَّا نَقْطَعُ بِكَذِبِهِ، قُلْنَا: جَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ الْخُلُوِّ مِنْ نَصْبِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَمَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا بَنَاهُ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الصَّلَاحِ أَوِ الْأَصْلَحِ وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: وَلَوْ كَانَ كَاذِبًا لَمَا أَخْلَانَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَصْبِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ أَنْ يُقْطَعَ بِكَذِبِ كُلِّ شَاهِدٍ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى صِدْقِهِ، وَكُفْرِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَفِسْقِهِ، إِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَدَالَتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْمُتَحَدِّي بِالرِّسَالَةِ إِذَا لَمْ تَظْهَرِ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ إِنَّمَا قَطَعْنَا بِكَذِبِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْعَادَةِ لَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْعَقْلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، وَالْعَادَةُ تَقْضِي بِكَذِبِ مَنْ يَدَّعِي مَا يُخَالِفُ الْعَادَةَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَلَا كَذَلِكَ الصِّدْقُ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ الْأُمُورِ الْمَحْسُوسَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْعَادَةِ. [الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ] الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْخَبَرَ يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَوَاتِرٍ وَآحَادٍ، وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، وَجَبَ رَسْم ُ الْبَابِ الثَّانِي فِي الْمُتَوَاتِرِ، وَالْبَابِ الثَّالِثِ فِي الْآحَادِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 [الْبَابُ الثَّانِي فِي الْمُتَوَاتِرِ] [مُقَدِّمَةُ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّوَاتُرِ وَالْمُتَوَاتِرِ] الْبَابُ الثَّانِي فِي الْمُتَوَاتِرِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي بَيَانِ مَعْنَى التَّوَاتُرِ وَالْمُتَوَاتِرِ. أَمَّا التَّوَاتُرُ فِي اللُّغَةِ، فَعِبَارَةٌ عَنْ تَتَابُعِ أَشْيَاءَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أَيْ: وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ بِمُهْلَةٍ. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ بَلَغُوا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَيْثُ حَصَلَ الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ. وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا هُوَ حَدُّ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ، لَا حَدُّ نَفْسِ التَّوَاتُرِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ التَّوَاتُرِ وَالْمُتَوَاتِرِ. وَإِنَّمَا التَّوَاتُرُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَشَرِّعَةِ؛ عِبَارَةٌ عَنْ تَتَابُعِ الْخَبَرِ عَنْ جَمَاعَةٍ مُفِيدٍ (1) لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ. وَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَيْضًا: إِنَّهُ الْخَبَرُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ بِمُخْبَرِهِ، مَانِعٌ لِدُخُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الصَّادِقِ فِيهِ. كَيْفَ وَفِيهِ زِيَادَةٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ: (الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ) فَإِنَّ أَحَدَهُمَا كَافٍ عَنِ الْآخَرِ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَشَرِّعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ مُفِيدٍ بِنَفْسِهِ لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ. فَقَوْلُنَا: (خَبَرِ) كَالْجِنْسِ لِلْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، وَقَوْلُنَا: (جَمَاعَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَوْلُنَا: (مُفِيدٍ لِلْعِلْمِ) احْتِرَازٌ عَنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَوَاتِرًا، وَقَوْلُنَا: (بِنَفْسِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ وَافَقَ دَلِيلَ الْعَقْلِ، أَوْ دَلَّ قَوْلُ الصَّادِقِ عَلَى صِدْقِهِمْ، كَمَا سَبَقَ. وَقَوْلُنَا: (بِمُخْبَرِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ خَبَرِ جَمَاعَةٍ أَفَادَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ لَا (بِمُخْبَرِهِ) فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَوَاتِرًا، وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى بَيَانِ الْمُقَدِّمَةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَهِيَ سِتُّ مَسَائِلَ:   (1) " مُفِيدٍ " صَوَابُهُ مُفِيدًا بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ؛ إِذْ لَا يَصْلُحْ صِفَةً لِلْخَبَرِ، وَلَا لِـ " تَتَابُعِ " لِلِاخْتِلَافِ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى خَبَرَ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ خِلَافًا لِلسُّمَنِيَّةِ (1) وَالْبَرَاهِمَةُ (2) فِي قَوْلِهِمْ: لَا عِلْمَ فِي غَيْرِ الضَّرُورِيَّاتِ إِلَّا بِالْحَوَاسِّ دُونَ الْأَخْبَارِ وَغَيْرِهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا يَجِدُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مِنْ نَفْسِهِ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِالْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَالْأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ، وَالْمُلُوكِ، وَالْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْفُضَلَاءِ الْمَشْهُورِينَ وَالْوَقَائِعِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، بِمَا يَرِدُ عَلَيْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ حَسَبَ وِجْدَانِنَا كَالْعِلْمِ بِالْمَحْسُوسَاتِ عِنْدَ إِدْرَاكِنَا لَهَا بِالْحَوَاسِّ. وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَتْ مُكَالَمَتُهُ، وَظَهَرَ جُنُونُهُ أَوْ مُجَاحَدَتُهُ. فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَرْعُ تَصَوُّرِ اجْتِمَاعِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ وَالْجَمِّ الْغَفِيرِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَمْزِجَةِ وَالْآرَاءِ وَالْأَغْرَاضِ وَقَصْدِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ اتِّفَاقُ أَهْلِ بَلَدٍ مِنَ الْبِلَادِ عَلَى حُبِّ طَعَامٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، وَحُبِّ الْخَيْرِ أَوِ الشَّرِّ. وَإِنْ سَلَّمْنَا تَصَوُّرَ اتِّفَاقِ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ، بِتَقْدِيرِ انْفِرَادِهِ كَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الصِّدْقُ. فَلَوِ امْتَنَعَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَالَةَ الِاجْتِمَاعِ لَانْقَلَبَ الْجَائِزُ مُمْتَنِعًا، وَهُوَ مُحَالٌ وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَالْجُمْلَةُ لَا تَخْرُجُ عَنِ الْآحَادِ، كَانَ خَبَرُ الْجُمْلَةِ جَائِزَ الْكَذِبِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، لَا يَكُونُ الْعِلْمُ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ وَاقِعًا. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنَّ مَا ثَبَتَ لِلْآحَادِ يَكُونُ ثَابِتًا لِلْجُمْلَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْقَوْلَ بِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَمْرٌ مُمْتَنِعٌ فَيَمْتَنِعُ، وَبَيَانُهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تُخْبِرَ جَمَاعَةٌ بِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ، لَجَازَ عَلَى مِثْلِهِمُ الْخَبَرُ بِنَقِيضِ خَبَرِهِمْ، كَمَا لَوْ أَخْبَرَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ زَيْدًا كَانَ فِي وَقْتِ كَذَا مَيِّتًا، وَنَقَلَ الْآخَرُونَ حَيَاتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِالْخَبَرَيْنِ، لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِمَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَلَا أَوْلَوِيَّةَ مَعَ فَرْضِ تَسَاوِي الْمُخْبِرِينَ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ.   (1) السُّمَنِيَّةُ كَعُرَنِيَّةٍ قَوْمٌ بِالْهِنْدِ دَهْرِيُّونَ قَائِلُونَ بِالتَّنَاسُخِ - الْقَامُوسَ الْمُحِيطَ. (2) الْبَرَاهِمَةُ - انْظُرْ لِلتَّعْلِيقِ ص 80 ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْجَمَاعَةِ الْكَثِيرَةِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ بِمَا يَنْقُلُهُ الْيَهُودُ عَنْ مُوسَى، وَالنَّصَارَى عَنْ عِيسَى، مِنَ الْأُمُورِ الْمُكَذِّبَةِ لِرِسَالَةِ نَبِيِّنَا، الَّتِي دَلَّتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى صِدْقِهِ فِيهَا وَوُجُوبِ عِلْمِنَا بِهَا، وَاجْتِمَاعُ عِلْمَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ مُحَالٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، لَمَا خَالَفَ فِي نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا أَحَدٌ، لِأَنَّ مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ لَا يُخَالَفُ؛ وَحَيْثُ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ عَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ (1) الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلًا بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، لَمَا وَقَعَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ عِلْمِنَا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ أَهْلُ التَّوَاتُرِ مِنْ وُجُودِ بَعْضِ الْمُلُوكِ، وَعِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، وَأَنَّ الْجِسْمَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ فِي آنٍ وَاحِدٍ فِي مَكَانَيْنِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّاتِ لَا تَخْتَلِفُ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الِاخْتِلَافِ فِي سُكُونِ النَّفْسِ إِلَيْهِمَا. الْخَامِسُ: هُوَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ أَهْلُ التَّوَاتُرِ لَا يَزِيدُ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ بِأَنَّ مَا شَاهَدْنَاهُ بِالْأَمْسِ مِنْ وُجُودِ الْأَفْلَاكِ الدَّائِرَةِ، وَالْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ، وَالْجِبَالِ الشَّامِخَةِ، أَنَّهُ الَّذِي نُشَاهِدُهُ الْيَوْمَ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْدَمَ ذَلِكَ، وَمَا نُشَاهِدُهُ الْآنَ قَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مِثَالِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا يَقِينِيًّا فَمَا لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي الْجَزْمِ وَالِاعْتِقَادِ أَيْضًا لَا يَكُونُ يَقِينِيًّا. السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ حَاصِلًا مِنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ لَمَا خَالَفْنَاكُمْ فِيهِ لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ لَا يُخَالَفُ: وَالْجَوَابُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ. أَمَّا الْإِجْمَالُ: فَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ تَشْكِيكٌ عَلَى مَا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ، فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَأَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ، فَجَوَابُهُ بِمَا سَبَقَ فِي بَيَانِ تَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنَّ مَا كَانَ لِآحَادِ الْجُمْلَةِ وَجَائِزًا عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا لِلْجُمْلَةِ وَجَائِزًا عَلَيْهَا. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ إِلَّا وَهُوَ مُتَنَاهٍ، وَجُمْلَةُ مَعْلُومَاتِهِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْجُمْلَةِ   (1) يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازِمَةَ؛ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُخَالِفَ بَعْضُ النَّاسِ مَا عُلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا، مُكَابَرَةً وَعِنَادًا. سَلَّمْنَا الْمُلَازَمَةَ غَيْرَ أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، لَا عَدَمَ الْعِلْمِ مُطْلَقًا، فَكَانَ الدَّلِيلُ أَخَصَّ مِنَ الدَّعْوَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْجُمْلَةِ، وَالْجُمْلَةُ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنَ الْجُمْلَةِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ لَبِنَةٍ أَوْ خَشَبَةٍ دَاخِلَةٍ فِي مُسَمَّى الدَّارِ وَهِيَ جُزْءٌ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ دَارًا، وَالْمُجْتَمِعُ مِنَ الْكُلِّ دَارٌ، وَكَذَلِكَ الْعَشَرَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَخَمْسَةٍ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْخَمْسَتَيْنِ لَيْسَتْ عَشَرَةً، وَالْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ وَنَحْوُهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي السُّؤَالِ الثَّالِثِ مِنَ الْإِلْزَامِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ فَرْضٌ مُحَالٌ، فَإِنَّهُ مَهْمَا أَخْبَرَ جَمْعٌ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِالْمُخْبَرِ، فَيَمْتَنِعُ إِخْبَارُ مِثْلِهِمْ فِي الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ بِمَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّانِي، فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ قُلْنَا إِنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ مِنْ خَبَرِ كُلِّ جَمَاعَةٍ؛ وَإِنَّ خَبَرَ كُلِّ جَمَاعَةٍ تَوَاتُرٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ وَإِنَّمَا دَعْوَانَا أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يَحْصُلُ مِنْ خَبَرِ الْجَمَاعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ كُلِّ جَمَاعَةٍ مُحَصِّلًا لِلْعِلْمِ. وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّالِثُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ التَّوَاتُرَ إِنَّمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْمَحْسُوسَاتِ وَالْمُشَاهَدَاتِ، وَالنُّبُوَّةُ حُكْمٌ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ (1) كَيْفَ وَإِنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ كُلَّ تَوَاتُرٍ يَجِبُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِمُخْبَرِهِ مُطْلَقًا لِكُلِّ أَحَدٍ لِتَفَاوُتِ   (1) الْأُمُورُ الَّتِي تَصِلُ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا نُقِلَ تَوَاتُرًا مِنْ أَخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَدَعَوْتُهُ النَّاسَ لِاتِّبَاعِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَمِنْهَا مَا نُقِلَ تَوَاتُرًا مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهَا دَلَالَةُ مَا شُوهِدَ أَوْ نُقِلَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنَ الرِّسَالَةِ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَالْأَخْبَارُ فِيهِمَا مُتَوَاتِرَةٌ عَنْ مُحَسَّاتٍ وَمُشَاهَدَاتٍ، وَهِيَ أَقْوَى نَقْلًا وَآكَدُ إِثْبَاتًا لِصُدُورِ مَا تَضَمَّنَتْهُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَسَبَتْهُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَالْخُلَفَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْوُجَهَاءِ فِي الْعُصُورِ الْمَاضِيَةِ، وَمِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شَجَاعَةِ عَلِيٍّ وَكَرَمِ حَاتِمٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الِاسْتِفَاضَةِ وَالتَّوَاتُرِ، فَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَهُوَ إِمَّا مَجْنُونٌ أَوْ مُكَابِرٌ لَا تَصِحُّ مُنَاظَرَتُهُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَيَكْفِي بَعْضُ مَا نُقِلَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ فِي إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ يَقِينًا، وَلَوْ بِطْرِيقِ النَّظَرِ، وَإِلَّا مَا قَامَتْ بِذَلِكَ الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَلَا سَقَطَتْ بِهِ مَعَاذِيرُهُ وَلَا اسْتُبِيحَتْ بِهِ دِمَاءُ الْمُخَالِفِينَ وَأَمْوَالُهُمْ، وَلَا كَانَ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ. وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَفِيضَةِ، بَلِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَمَنْ أَنْكَرَ رِسَالَتَهُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ أَوِ الْبَلَاغِ الصَّحِيحِ فَهُوَ أَيْضًا، إِمَّا مَجْنُونٌ أَوْ مُكَابِرٌ حَسُودٌ أَوْ مُقَلِّدٌ مَخْدُوعٌ غَلَبَهُ عَلَى أَمْرِهِ مَنْ هُمْ فِي نَظَرِهِ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ. وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ مَا فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنْ جَوَابِ الْآمِدِيِّ عَنِ الْإِلْزَامِ الثَّالِثِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 النَّاسِ فِي السَّمَاعِ وَقُوَّةِ الْفَهْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْقَرَائِنِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْأَخْبَارِ الْمُفِيدَةِ لِلْعِلْمِ، فَمُخَالَفَةُ مَنْ يُخَالِفُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِيمَا نَدَّعِيهِ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بِهِ لِبَعْضِ النَّاسِ. وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الرَّابِعُ وَالْخَامِسُ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوِ ادَّعَيْنَا أَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنَ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنَ الْأُمُورِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا نَدَّعِي الْعِلْمَ الْعَادِيَّ. وَعَلَى هَذَا، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ عِلْمًا بِتَقَاصُرِهِ عَنِ الْعُلُومِ الْبَدِيهِيَّةِ، وَلَا بِمُسَاوَاتِهِ لِمَا قِيلَ مِنَ الْعُلُومِ الْعَادِيَّةِ. وَأَمَّا الْإِلْزَامُ السَّادِسُ: فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُكَابَرَةِ وَالْمُجَاحَدَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْعَادَةِ فِي خَلْقٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْخَطَأِ. ثُمَّ لَوْ كَانَ الْخِلَافُ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا؛ لَكَانَ خِلَافُ السُّوفِسْطَائِيَّةِ (1) فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَحْسُوسَاتِ مِمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ السُّمَنِيَّةِ، وَمَا هُوَ اعْتِذَارُهُمْ فِي خِلَافِ السُّوفِسْطَائِيَّةِ فِي الْعِلْمِ بِالْمُحَسَّاتِ يَكُونُ عُذْرًا لَنَا فِي خِلَافِهِمْ لَنَا فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ هل الْعِلْمَ الْحَاصِلَ عَنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيٌّ أو نَظَرِي] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ عَنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيٌّ. وَقَالَ الْكَعْبِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالدَّقَّاقُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ نَظَرِيٌّ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ إِنَّهُ ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حُصُولِهِ إِلَى الشُّعُورِ بِتَوَسُّطِ وَاسِطَةٍ مُفْضِيَةٍ إِلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْوَاسِطَةَ حَاضِرَةٌ فِي الذِّهْنِ، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى   (1) السُّوفِسْطَائِيَّةُ: قِيلَ إِنَّهَا ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْأُولَى عِنَادِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي تُنْكِرُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَتُكَذِّبُ حِسَّهَا وَعَقْلَهَا، وَتَرَى ذَلِكَ وَهْمًا وَخَيَالًا. الثَّانِيَةُ: اللَّا أَدْرِيَّةُ، وَهِيَ الَّتِي تَشُكُّ فِي حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَتَتَرَدَّدُ فِيهَا، وَتَقُولُ: لَا أَدْرِي، أَلَهَا وُجُودٌ أَوْ لَا؟ الثَّالِثَةُ: عِنْدِيَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي تَرَى أَنْ لَيْسَ لِلْأَشْيَاءِ حَقِيقَةٌ ثَابِتَةٌ فِي نَفْسِهَا، بَلْ تَتْبَعُ إِدْرَاكَ مَنْ أَدْرَكَهَا وَعَقِيدَةَ مَنْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ، وَهَذِهِ مَذَاهِبُ بَاطِلَةٌ بِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ، وَمَعْنَى السَّفْسَطَةِ الْحِكْمَةُ الْمُمَوَّهَةُ، وَتُطْلَقُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ مَا كَانَتْ مُقَدِّمَاتُهُ وَهْمِيَّةً كَاذِبَةً أَوْ شَبِيهَةً بِالْحَقِّ وَلَيْسَتْ بِهِ، انْظُرْ نَقْدَ ذَلِكَ فِي ج 19 مِنْ فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 أَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَقَوْلِنَا: الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا، وَالْمَوْجُودُ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا، فَإِنَّهُ (1) لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُصُولِ مُقَدِّمَتَيْنِ فِي النَّفْسِ. إِحْدَاهُمَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ لَا يَجْمَعُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ جَامِعٌ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْوَاقِعَةِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِلَفْظٍ مَنْظُومٍ، وَلَا إِلَى الشُّعُورِ بِتَوَسُّطِهِمَا وَإِفْضَائِهِمَا إِلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ، كَالشَّرِيفِ الْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حُجَجِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. أَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالضَّرُورَةِ، فَأَوَّلُهَا وَهِيَ الْأَقْوَى، أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ، لَمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَالصِّبْيَانِ وَالْعَوَامِّ. وَهُوَ وَاقِعٌ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصِّبْيَانَ وَالْعَوَامَّ الَّذِينَ يَحْصُلُ لَهُمُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ لَيْسَ لَهُمْ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْعِلْمِ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الْمَسَائِلِ الْغَامِضَةِ، كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَوُجُودِ الصَّانِعِ وَنَحْوِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا مُقَدِّمَاتُهُ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهِ نَظَرِيَّةٌ، فَيَكُونُ خَفِيًّا، وَإِلَى مَا مُقَدِّمَاتُهُ الْمُفْضِيَةُ إِلَيْهِ ضَرُورِيَّةٌ غَيْرُ نَظَرِيَّةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنَ الْقَبِيلِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِأَحْوَالِ الْمُخْبِرِينَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْعِلْمُ بِمُخْبَرِهِمْ حَاصِلَةً بِالضَّرُورَةِ لِلصِّبْيَانِ وَالْعَوَامِّ، وَيَكُونُ (2) الْعِلْمُ بِالنَّتِيجَةِ اللَّازِمَةِ عَنْهَا ضَرُورِيًّا. وَإِنَّمَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ الْمَذْكُورَةُ أَنْ لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْعِلْمَ بِمُخْبَرِهِمْ مِنْ قَبِيلِ مَا مُقَدِّمَاتُهُ نَظَرِيَّةٌ لَا ضَرُورِيَّةٌ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى بَيَانِهِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ الْعِلْمَ بِوُجُودِ مَكَّةَ وَبَغْدَادَ وَالْبِلَادِ النَّائِيَةِ عِنْدَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ بِهَا، مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ سَابِقَةَ فِكْرٍ وَلَا نَظَرٍ فِيمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْعُلُومِ   (1) فَإِنَّهُ - تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا، بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاصِلٌ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. . إِلَخْ. (2) وَيَكُونُ - الصَّوَابُ وَلَا يَكُونُ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ قِسْمَيِ النَّظَرِيِّ السَّابِقَيْنِ أَوَّلَ الِاعْتِرَاضِ، وَلِمَا سَيَجِيءُ فِي الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنْ حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِإِفَادَةِ الْمُتَوَاتِرِ الْعِلْمَ النَّظَرِيَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَيْهِ، وَلَا فِي تَرْتِيبِهَا الْمُفْضِي إِلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ نَظَرِيًّا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إِلَى الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَتَرْتِيبِهَا، إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِتِلْكَ الْأُمُورِ حَاصِلًا بِالضَّرُورَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي إِبْطَالِ الْحُجَّةِ الْأُولَى. وَأَمَّا إِذَا كَانَ حَاصِلًا بِالضَّرُورَةِ فَلَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْعِلْمَ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ لَا يَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ. وَهَذِهِ هِيَ أَمَارَةُ الضَّرُورَةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْمَنْفِيُّ بِالشُّبْهَةِ: الْعِلْمُ النَّظَرِيُّ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ نَظَرِيَّةٌ أَوِ الَّذِي مُقَدِّمَاتُهُ ضَرُورِيَّةٌ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا، لَأَمْكَنَ الْإِضْرَابُ عَنْهُ، كَمَا فِي سَائِرِ النَّظَرِيَّاتِ، وَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الَّذِي يُمْكِنُ الْإِضْرَابُ عَنْهُ مِنَ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ الْمُفْتَقِرُ إِلَى الْمُقَدِّمَاتِ النَّظَرِيَّةِ. وَأَمَّا مَا لَزِمَهُ (1) مِنْ مُقَدِّمَاتِ حَاصِلَةٍ بِالضَّرُورَةِ؛ فَلَا. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا، لَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَحَيْثُ لَمْ يَقَعْ إِلَّا مِنْ مُعَانِدٍ كَمَا سَبَقَ كَانَ ضَرُورِيًّا كَالْعِلْمِ بِالْمُحَسَّاتِ وَنَحْوِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَسْوِيغُ الْخِلَافِ عَقْلًا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ الَّتِي مُقَدِّمَاتُهَا نَظَرِيَّةٌ. وَأَمَّا مُقَدِّمَاتُهَا ضَرُورِيَّةٌ؛ فَلَا، كَمَا فِي الْمُحَسَّاتِ. وَأَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالنَّظَرِ؛ فَأَوَّلُهَا وَهِيَ مَا اسْتَدَلَّ بِهَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنْ قَالَ: الِاسْتِدْلَالُ تَرْتِيبُ عُلُومٍ يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى عِلْمٍ آخَرَ، فَكُلَّمَا وَقَفَ وُجُودَهُ عَلَى تَرْتِيبٍ فَهُوَ نَظَرِيٌّ، وَالْعِلْمُ الْوَاقِعُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ كَذَلِكَ فَكَانَ نَظَرِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنَّمَا نَعْلَمُ ذَلِكَ، إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُخْبِرَ لَمْ يُخْبِرْ عَنْ رَأْيِهِ، بَلْ عَنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ، لَا لَبْسَ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا دَاعِيَ لَهُ إِلَى الْكَذِبِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذِبًا. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذِبًا تَعَيَّنَ كَوْنُهُ صِدْقًا. وَمَهْمَا اخْتَلَّ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ لَمْ نَعْلَمْ صِحَّةَ الْخَبَرِ، وَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ نَظَرِيًّا سِوَى ذَلِكَ.   (1) مَا لَزِمَهُ، وَالصَّوَابُ مَا لَزِمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَمَّا ذُكِرَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لَا لِغَرَضٍ مَعَ كَوْنِهِ مَقْدُورًا لَهُمْ، فَإِنْ قَالَ بِأَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى الْكَذِبِ لَا لِغَرَضٍ وَمَقْصُودٍ. قُلْنَا: وَالْعَادَةُ أَيْضًا تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الصِّدْقِ لَا لِغَرَضٍ وَمَقْصُودٍ، فَلِمَ قُلْتَ بِعَدَمِ الْغَرَضِ فِي الصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَرَضٌ، فَلَيْسَ الصِّدْقُ أَوْلَى مِنَ الْكَذِبِ. فَإِنْ قُلْنَا: الْغَرَضُ فِي الصِّدْقِ كَوْنُهُ صِدْقًا، لِكَوْنِهِ حَسَنًا وَلَا كَذَلِكَ الْكَذِبُ لِكَوْنِهِ قَبِيحًا، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. فَإِنْ قَالَ: الْمُرَادُ إِنَّمَا هُوَ التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعُرْفِيُّ دُونَ الْعَقْلِيِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَعُدُّونَ الْكَذِبَ قَبِيحًا وَالصِّدْقَ حَسَنًا. قُلْنَا: التَّحْسِينُ وَالتَّقْبِيحُ الْعُرْفِيُّ رَاجِعٌ إِلَى مُوَافَقَةِ الْغَرَضِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَعَلَّ الْكَذِبَ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذِبٌ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مُوَافِقٌ لِأَغْرَاضِهِمْ دُونَ الصِّدْقِ، فَكَانَ حَسَنًا، كَمَا فِي اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الصِّدْقِ فِي بَعْضِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى الْكَذِبِ إِلَّا لِغَرَضٍ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ مِنْهُ؟ فَإِنَّا قَدْ نَجِدُ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ مُتَّفِقِينَ عَلَى وَضْعِ الْأَحَادِيثِ وَالْأَخْبَارِ لِحِكْمَةٍ عَائِدَةٍ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ كَأَهْلِ مَدِينَةٍ أَوْ جَيْشٍ عَظِيمٍ اتَّفَقُوا عَلَى وَضْعِ خَبَرٍ لَا أَصْلَ لَهُ، إِمَّا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ عَنْهُمْ لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهَا إِلَّا بِهِ، وَإِمَّا لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِهِ. وَهَذَا مِمَّا يَغْلِبُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَ الْأَخْبَارِ الْعَامَّةِ الشَّائِعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمُعْتَادِ كَذَلِكَ. فَإِنْ قَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا، إِلَّا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ دَوَامَهُ، وَتُوجِبُ انْكِشَافَهُ عَنْ قُرْبٍ مِنَ الزَّمَانِ. قُلْنَا: فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْعَادَةِ فِي اسْتِحَالَةِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ دَائِمًا فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْعَادَةَ مُوجِبَةٌ لِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ، إِذَا كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا، وَحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ، وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الصِّدْقُ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُقَالَ الْعَادَةُ تُوجِبُ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الصِّدْقِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَخْرُجُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ عَنْ كَوْنِهِ نَظَرِيًّا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بِامْتِنَاعِ الْكَذِبِ عَلَى الْمُخْبِرِينَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ كَافِيًا فِي كَوْنِ الْعِلْمِ مِنَ التَّوَاتُرِ نَظَرِيًّا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْمُقَدِّمَاتِ قَدْ عُلِمَ مَعَهُ أَنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ بِالْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَأَنَّهَا الْوَاسِطَةُ الْمُفْضِيَةُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمِ الْوُجُودِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْغَزَالِيُّ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيًّا لَنَا لَكُنَّا عَالِمِينَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، كَمَا فِي سَائِرِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ حُصُولَ عِلْمٍ لِلْإِنْسَانِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ مُحَالٌ. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِلْمُ ضَرُورِيًّا، وَجَبَ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ ضَرُورِيًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ ضَرُورِيًّا لَا بُدَّ وَأَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْعِلْمِ بِالْمُخْبَرِ بِالضَّرُورَةِ وَالْعِلْمُ بِصِفَتِهِ؛ وَهِيَ الضَّرُورَةُ، غَيْرَ ضَرُورِيٍّ. كَيْفَ وَأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَظَرِيًّا، لَعَلِمْنَاهُ عَلَى صِفَتِهِ نَظَرِيًّا عَلَى مَا قَرَّرُوهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيًّا، لَمَا اخْتَلَفَ الْعُقَلَاءُ فِيهِ، كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ، وَإِلَّا كَانَ خِلَافُ السُّوفِسْطَائِيَّةِ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِالضَّرُورِيَّاتِ، مَانِعًا مِنْ كَوْنِهَا ضَرُورِيَّةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ هَاهُنَا، بَلْ وَلَكَانَ خِلَافُ السُّمَنِيَّةِ فِي حُصُولِ أَصْلِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مَانِعًا مِنْهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يَزِيدُ فِي الْقُوَّةِ عَلَى خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِ رَسُولِهِ، بَلْ هُوَ مُمَاثِلٌ أَوْ أَدْنَى، وَالْعِلْمُ بِخَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ غَيْرُ حَاصِلٍ بِالضَّرُورَةِ، بَلْ بِالِاسْتِدْلَالِ فَمَا هُوَ مِثْلُهُ كَذَلِكَ، وَالْأَدْنَى أَوْلَى. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَاصِلُ مَا ذُكِرَ رَاجِعٌ إِلَى التَّمْثِيلِ، مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ كَمَا عَرَفْنَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ. كَيْفَ وَإِنَّ الْعِلْمَ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عِلْمٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ، فَكَذَلِكَ لَا تَفَاوُتَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 بَيْنَ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَى ضَرُورِيَّتِهَا، كَالْعِلْمِ بِأَنْ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْوَاحِدَ أَقَلُّ مِنَ الِاثْنَيْنِ وَنَحْوِهِ، وَبَيْنَ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِخَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلْمٌ. وَمَعَ ذَلِكَ مَا لَزِمَ مِنْ كَوْنِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ ضَرُورِيَّةً أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ مِنْ خَبَرِ اللَّهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ ضَرُورِيًّا، وَلَا مِنْ كَوْنِ خَبَرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ، أَنْ تَكُونَ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ غَيْرَ ضَرُورِيَّةٍ. وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَتَقَاوُمُ الْكَلَامِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ عَنِ الْجَزْمِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اتَّفَقَتِ الْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَجَمِيعُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَا يُوَلِّدُ الْعِلْمَ خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ. وَقَدِ اعْتَمَدَ الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ عَلَى مَسْلَكَيْنِ ضَعِيفَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ مُوَلِّدًا لِلْعِلْمِ، فَالْعِلْمُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا مِنَ الْخَبَرِ الْأَخِيرِ أَوْ مِنْهُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَخْبَارِ الْمُتَقَضِّيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُحَالٌ وَإِلَّا لَتَوَلَّدَ مِنْهُ بِتَقْدِيرِ انْفِرَادِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ مُتَعَدِّدَةٌ وَالْمُسَبِّبُ الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْ سَبَبَيْنِ، كَمَا لَا يَكُونُ مَخْلُوقًا بَيْنَ خَالِقَيْنِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا عَنِ الْخَبَرِ الْأَخِيرِ مَشْرُوطًا بِتَقَدُّمِ مَا وُجِدَ مِنَ الْأَخْبَارِ قَبْلَهُ وَعَدِمَتْ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَلِّدًا عَنِ الْجَمِيعِ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّدًا عَنِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَهِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْ كُلٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَخْبَارِ. وَهَذَا مِمَّا لَا مَدْفَعَ لَهُ. نَعَمْ لَوْ قِيلَ أَنَّ تَوَلُّدَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَخْبَارِ مُمْتَنِعٌ ضَرُورَةَ أَنَّ مَا تَقَضَّى مِنَ الْأَخْبَارِ مَعْدُومٌ وَلَا تَوَلَّدَ عَنِ الْمَعْدُومِ كَانَ مُتَّجِهًا. الْمَسْلَكُ الثَّانِي، أَنَّهُمْ قَالُوا: قَدِ اسْتَقَرَّ مِنْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالتَّوَلُّدِ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ طَالِبٌ لِجِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّدَ عَنْهُ شَيْءٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، كَالِاعْتِمَادَاتِ وَالْحَرَكَاتِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ لَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ شَيْءٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَالْقَوْلُ وَالْخَبَرُ لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 لَهُ جِهَةٌ فَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ الْعِلْمُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَلَّدَ عَنْهُ الْعِلْمُ لَتَوَلَّدَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَذَلِكَ (1) مِمَّا لَا اتِّجَاهَ لَهُ مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ مَذَاهِبِ الْخُصُومِ، أَنَّ إِرْعَابَ الْإِنْسَانِ لِغَيْرِهِ مِمَّا يُوَلِّدُ فِيهِ الْوَجَلَ الْمُوَلِّدَ لِلِاصْفِرَارِ بَعْدَ الِاحْمِرَارِ، وَأَنَّ تَهْجِينَهُ لَهُ مِمَّا يُوَلِّدُ فِيهِ الْخَجَلَ الْمُوَلِّدَ لِلِاحْمِرَارِ بَعْدَ الِاصْفِرَارِ، وَإِنْ كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَنِ الْقَوْلِ الْمُرْهِبِ وَالْمُهَجِّنِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي إِبْطَالِ ذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا مَا حَقَّقْنَاهُ فِي أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ، مِنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى امْتِنَاعِ مُوجِدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ، فَوُجُودُهُ لَيْسَ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، فَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِهِ وَنَقْلِهِ إِلَى هُنَا. فَإِنْ قِيلَ: اخْتِيَارُكُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ عَنِ الْجَزْمِ بِكَوْنِ الْحَاصِلِ عَنْ خَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ هَاهُنَا مِنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى يُوجِبُ كَوْنَهُ اضْطِرَارِيًّا لِلْعَبْدِ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ. كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَأَمْكَنَ حُصُولُهُ عَنْ خَبَرِ الْجَمَاعَةِ الْمَفْرُوضِينَ بِسَبَبِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَأَمْكَنَ أَنْ لَا يَحْصُلَ بِسَبَبِ عَدَمِ خَلْقِهِ. فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ وَاجِبَ الْحُصُولِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ بِالِاخْتِيَارِ مُبَاشَرَةً، بَلْ بِالتَّوَلُّدِ عَمَّا هُوَ مُبَاشَرٌ بِالْقُدْرَةِ. قُلْنَا: أَمَّا التَّنَاقُضُ فَمُنْدَفِعٌ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْعِلْمَ مُكْتَسَبٌ لِلْعَبْدِ، أَوْ هُوَ حَاصِلٌ لَهُ ضَرُورِيًّا، فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا (2) . قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَأَمْكَنَ أَنْ يَحْصُلَ وَأَنْ لَا يَحْصُلَ. قُلْنَا: ذَلِكَ مُمْكِنٌ عَقْلًا، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجْرَى الْعَادَةَ بِخَلْقِهِ لِلْعِلْمِ عِنْدَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ، كَمَا أَجْرَى الْعَادَةَ بِالشِّبَعِ عِنْدَ أَكْلِ الْخُبْزِ، وَالرِّيِّ عِنْدَ شُرْبِ الْمَاءِ وَنَحْوِهِ.   (1) وَذَلِكَ. إِلَخْ. جَوَابٌ عَنِ الْمَسْلَكِ الثَّانِي وَبَيَانٌ لِضَعْفِهِ. (2) أَيْ: أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ مَكْسُوبَةٌ لِلْعَبْدِ، فَخَلْقُهُ تَعَالَى إِيَّاهَا لَا يُنَافِي كَسْبَ الْعَبْدِ لَهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ شروط التواتر] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِحُصُولِ الْعِلْمِ عَنِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى شُرُوطٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي شُرُوطٍ. فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُسْتَمِعِينَ. فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُخْبِرِينَ، فَأَرْبَعَةُ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونُوا قَدِ انْتَهَوْا فِي الْكَثْرَةِ إِلَى حَدٍّ يَمْتَنِعُ مَعَهُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِمَا أَخْبَرُوا بِهِ لَا ظَانِّينَ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ مُسْتَنِدًا إِلَى الْحِسِّ، لَا إِلَى دَلِيلِ الْعَقْلِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفَا الْخَبَرِ وَوَسَطُهُ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ مُسْتَقِلٌ بِنَفْسِهِ، فَكَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةً فِيهِ. وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُسْتَمِعِينَ، فَأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ مُتَأَهِّلًا لِقَبُولِ الْعِلْمِ بِمَا أُخْبِرَ بِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِلَّا كَانَ فِيهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ. غَيْرَ أَنَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ نَظَرِيٌّ؛ شَرَطَ تَقَدُّمَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ. وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ لَمْ يَشْتَرِطْ سَبْقَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ عِنْدَهُ حَاصِلٌ عِنْدَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ خَلَقَ الْعِلْمَ لَهُ عُلِمَ أَنَّ الْخَبَرَ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُقْ لَهُ الْعِلْمَ عُلِمَ اخْتِلَالُ هَذِهِ الشُّرُوطِ أَوْ بَعْضِهَا، فَضَابِطُ الْعِلْمِ بِتَكَامُلِ هَذِهِ الشُّرُوطِ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ عِنْدَهُ، لَا أَنَّ ضَابِطَ حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ سَابِقَةُ (1) حُصُولِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي أَقَلِّ عَدَدٍ يَحْصُلُ مَعَهُ الْعِلْمُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ خَمْسَةٌ؛ لِأَنَّ مَا دُونُ ذَلِكَ، كَالْأَرْبَعَةِ بَيِّنَةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجُوزُ لِلْقَاضِي عَرْضُهَا عَلَى الْمُزَكِّينَ بِالْإِجْمَاعِ لِتَحْصِيلِ غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِقَوْلِ الْأَرْبَعَةِ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَقَدْ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ عَدَدٌ نَاقِصٌ، وَتَشَكَّكَ فِي الْخَمْسَةِ.   (1) سَابِقَةُ - صَوَابُهُ سَبَقَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ ذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ، بِعَدَدِ النُّقَبَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ الْعَدَدِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّهُ عِشْرُونَ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ أَخْذًا مِنْ عَدَدِ أَهْلِ الْجُمُعَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّهُمْ سَبْعُونَ، تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا} وَإِنَّمَا خَصَّهُمْ بِذَلِكَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِمَا يُخْبِرُونَ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، نَظَرًا إِلَى عَدَدِ أَهْلِ بَدْرٍ، إِنَّمَا خُصُّوا بِذَلِكَ لِيُعْلَمَ مَا يُخْبِرُونَ بِهِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَقَلُّ عَدَدٍ يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ تَعَالَى، غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا مَعْرِفَةَ الْعَدَدِ الَّذِي حَصَلَ عِلْمُنَا بِوُجُودِ مَكَّةَ، وَبَغْدَادَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُتَوَاتِرَاتِ عِنْدَهُ. وَلَوْ كَلَّفْنَا أَنْفُسَنَا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عِنْدَ تَوَارُدِ الْمُخْبِرِينَ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ بِتَرَقُّبِ الْحَالَةِ الَّتِي يَكْمُلُ عِلْمُنَا فِيهَا بَعْدَ تَزَايُدِ ظَنِّنَا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ لَمْ نَجِدْ إِلَيْهِ سَبِيلًا عَادَةً، كَمَا لَمْ نَجِدْ مِنْ أَنْفُسِنَا الْعِلْمَ بِالْحَالَةِ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا كَمَالُ عُقُولِنَا بَعْدَ نَقْصِهَا، بِالتَّدْرِيجِ الْخَفِيِّ، لِقُصُورِ الْقُوَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ يَحْصُلُ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَقِفُ عَلَى أَقَلِّ عَدَدٍ أَفَادَهُ كَمَا نَعْلَمُ حُصُولَ الشِّبَعِ بِأَكْلِ الْخُبْزِ، وَالرِّيِّ بِشُرْبِ الْمَاءِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَقِفُ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ. وَمَا قِيلَ مِنَ الْأَقَاوِيلِ فِي ضَبْطِ عَدَدِ التَّوَاتُرِ، فَهِيَ مَعَ اخْتِلَافِهَا وَتَعَارُضِهَا وَعَدَمِ مُنَاسَبَتِهَا وَمُلَائَمَتِهَا لِلْمَطْلُوبِ مُضْطَرِبَةٌ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَدَدٍ يُفْرَضُ حُصُولُ الْعِلْمُ بِهِ لِقَوْمٍ، إِلَّا وَقَدْ يُمْكِنُ فَرْضُ خَبَرِهِمْ بِعَيْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ لِلْعِلْمِ، بِالنَّظَرِ إِلَى آخَرِينَ، بَلْ وَلَوْ أَخْبَرُوا بِأَعْيَانِهِمْ بِوَاقِعَةٍ أُخْرَى لَمْ يَحْصُلْ بِهَا الْعِلْمُ لِمَنْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمُ الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَدَدُ هُوَ الضَّابِطَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَمَا اخْتُلِفَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَرَائِنِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْخَبَرِ، وَقُوَّةِ سَمَاعِ الْمُسْتَمِعِ وَفَهْمِهِ، وَإِدْرَاكِهِ لِلْقَرَائِنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وَبِالْجُمْلَةِ فَضَابِطُ التَّوَاتُرِ مَا حَصَلَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ مِنْ أَقْوَالِ الْمُخْبِرِينَ، لَا أَنَّ الْعِلْمَ مَضْبُوطٌ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ، وَعَلَى هَذَا فَمَا مِنْ عَدَدٍ يُفْرَضُ كَانَ أَرْبَعَةً أَوْ مَا زَادَ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ الْعِلْمُ، وَيُمْكِنَ أَنْ لَا يَحْصُلَ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْقَرَائِنِ، وَمَا ذُكِرَ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ أَنَّ تَعْيِينَ ذَلِكَ الْعَدَدِ فِيهَا إِنَّمَا كَانَ لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبِرِهِمْ، تَحَكُّمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِأَغْرَاضٍ أُخَرَ غَيْرُ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ. وَعَلَى قَوْلِنَا بِأَنَّ ضَابِطَ التَّوَاتُرِ حُصُولُ الْعِلْمِ عِنْدَهُ يَمْتَنِعُ الِاسْتِدْلَالُ بِالتَّوَاتُرِ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا الْمَرْجِعُ فِيهِ إِلَى الْوِجْدَانِ، هَذَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَسِتَّةٌ: الْأَوَّلُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ شَرْطَ عَدَدِ التَّوَاتُرِ أَنْ لَا يَحْوِيَهُمْ بَلَدٌ وَلَا يَحْصُرَهُمْ عَدَدٌ، وَمَذْهَبُ الْبَاقِينَ خِلَافُهُ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ أَهْلِ بَلَدٍ مِنَ الْبِلَادِ، بَلْ بِخَبَرِ الْحَجِيجِ أَوْ أَهْلِ الْجَامِعِ بِوَاقِعَةٍ وَقَعَتْ، وَحَادِثَةٍ حَدَثَتْ، مَعَ أَنَّهُمْ مَحْصُورُونَ. الثَّانِي: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى اشْتِرَاطِ اخْتِلَافِ أَنْسَابِ الْمُخْبِرِينَ وَأَوْطَانِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ، وَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَهْلَ بَلَدٍ اتَّفَقَتْ أَدْيَانُهُمْ وَأَنْسَابُهُمْ، وَأَخْبَرُوا بِقَضِيَّةٍ شَاهَدُوهَا، لَمْ يَمْتَنِعْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ. الثَّالِثُ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ شَرْطَ الْمُخْبِرِينَ أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ عُدُولًا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ عُرْضَةٌ لِلْكَذِبِ وَالتَّحْرِيفِ، وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ ضَابِطُ الصِّدْقِ وَالتَّحْقِيقِ فِي الْقَوْلِ؛ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ اخْتَصَّ الْمُسْلِمُونَ بِدَلَالَةِ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْقَطْعِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الْعِلْمُ بِتَوَاتُرِ خَبَرِ الْكُفَّارِ لَوَقَعَ الْعِلْمُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّصَارَى مَعَ كَثْرَةِ عَدَدِهِمْ عَنْ قَتْلِ الْمَسِيحِ وَصَلْبِهِ، وَمَا نَقَلُوهُ عَنْهُ مِنْ كَلِمَةِ التَّثْلِيثِ. وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّ نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا الْعِلْمَ بِأَخْبَارِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ، وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا كَمَا لَوْ أَخْبَرَ أَهْلُ قُسْطَنْطِينِيَّةَ بِقَتْلِ مَلِكِهِمْ. وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْكَثْرَةَ مَانِعَةٌ مِنَ التَّوَاطُؤِ عَلَى الْكَذِبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فِيمَا كَانَ دُونَ تِلْكَ الْكَثْرَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّمَا اخْتَصَّ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ لِلْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، دُونَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، كَمَا سَبَقَ بِخِلَافِ التَّوَاتُرِ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا الْعِلْمُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّصَارَى مِنْ قَتْلِ الْمَسِيحِ وَصَلْبِهِ وَكَلِمَةِ التَّثْلِيثِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُحَالًا عَلَى عَدَمِ (1) شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ إِمَّا اخْتِلَالُ اسْتِوَاءِ طَرَفَيِ الْخَبَرِ وَوَسَطِهِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الشُّرُوطِ قَبْلُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوا كَلِمَةَ التَّثْلِيثِ صَرِيحًا، بَلْ سَمِعُوا كَلِمَةً مُوهِمَةً لِذَلِكَ (2) فَنَقَلُوا التَّثْلِيثَ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ نَفْيًا لِلْكُفْرِ عَنِ الْمَسِيحِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} أَوْ لِأَنَّ الْمَسِيحَ شُبِّهَ لَهُمْ، فَنَقَلُوا قَتْلَهُ وَصَلْبَهُ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْغَلَطُ فِيهِ غَيْرَ مُعْتَادٍ إِذَا وَقَعَ فِي زَمَانِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ، وَهُوَ زَمَانُ النُّبُوَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فِي غَيْرِ زَمَانِهِ. وَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} . فَإِنْ قِيلَ: فَخَرْقُ الْعَوَائِدِ جَائِزٌ فِي غَيْرِ زَمَانِ النُّبُوَّةِ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، فَلْيَجُزْ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ عَنِ الْمُحَسَّاتِ وَوُقُوعِ الْغَلَطِ فِيهِ. قُلْنَا: إِنْ حَصَلَ لَنَا الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، عَلِمْنَا اسْتِحَالَةَ الْغَلَطِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدِ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ التَّوَاتُرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّرْطُ مُعَيَّنًا عِنْدَنَا (3) . الرَّابِعُ: ذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونُوا مَحْمُولِينَ عَلَى أَخْبَارِهِمْ بِالسَّيْفِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُمْ إِنْ حُمِلُوا عَلَى الصِّدْقِ لَمْ يَمْتَنِعْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِمْ، كَمَا لَوْ لَمْ يُحْمَلُوا عَلَيْهِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ حَمَلَ الْمَلِكُ أَهْلَ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ أَمْرٍ مُحَسٍّ، وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا عَالِمَةً بِخَبَرِهِمْ حَسَبَ عِلْمِنَا بِخَبَرِهِمْ مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ، وَإِنْ حَمَلُوا عَلَى الْكَذِبِ، فَيَمْتَنِعُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِمْ، لِفَوَاتِ شَرْطٍ، وَهُوَ إِخْبَارُهُمْ عَنْ مَعْلُومٍ مُحَسٍّ.   (1) أَيْ: رَاجِعًا إِلَى عَدَمِ شَرْطٍ. (2) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً تَوَهَّمُوا مِنْهَا ذَلِكَ. (3) هَذَا الْجَوَابُ لَا يَصْلُحُ ضَابِطًا وَلَا مَقْنَعَ فِيهِ لِلْخَصْمِ، بَلْ يَفْتَحُ بَابَ الْفَوْضَى، وَالتَّطَاوُلِ عَلَى النُّصُوصِ، وَرَدَّهَا بِدَعْوَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِهَا، وَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ الْبَقَاءُ مَعَ مَا شُوهِدَ وَمُنِعَ حَمْلُهُ عَلَى الْغَلَطِ لِشُبْهَةٍ حَتَّى يَرِدَ دَلِيلٌ يَخْرُجُ عَنِ الْأَصْلِ كَمَا مَرَّ فِي قِصَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الْخَامِسُ: شَرَطَتِ الشِّيعَةُ وَابْنُ الرَّاوِنْدِيِّ (1) وُجُودَ الْمَعْصُومِ فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ، حَتَّى لَا يَتَّفِقُوا عَلَى الْكَذِبِ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا، لِمَا بَيَّنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ قَتْلِ مَلِكِهِمْ أَوْ أَخْذِ مَدِينَةٍ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَحْصُلُ بِخَبَرِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ كُفَّارًا فَضْلًا عَنْ كَوْنِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ لَيْسَ فِيهِمْ. ثُمَّ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، فَالْعِلْمُ يَكُونُ حَاصِلًا بِقَوْلِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ سَمِعَهُ لَا بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ. السَّادِسُ: شَرَطَتِ الْيَهُودُ فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى أَخْبَارِ أَهْلِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِثْلُ هَؤُلَاءِ، فَلَا يُؤْمَنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِغَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ. بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانُوا أَهْلَ ذِلَّةٍ وَمَسْكَنَةٍ، فَإِنَّ خَوْفَ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِالْكَذِبِ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْكَذِبِ. وَلَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا الشَّرْطُ، لَثَبَتَ غَرَضُهُمْ مِنْ إِبْطَالِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ بِمُعْجِزَاتِ عِيسَى، وَنَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ إِنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْأَخْبَارِ بِهَا، وَهُمْ أَهْلُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ. لَكِنَّهُ بَاطِلٌ بِمَا نَجِدُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا مِنَ الْعِلْمِ بِأَخْبَارِ الْأَكَابِرِ وَالشُّرَفَاءِ الْعُظَمَاءِ إِذَا أَخْبَرُوا بِأَمْرٍ مُحَسٍّ، وَكَانُوا خَلْقًا كَثِيرًا. بَلْ رُبَّمَا كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ مِنْ خَبَرِهِمْ أَسْرَعَ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالذِّلَّةِ لِتَرَفُّعِ هَؤُلَاءِ عَنْ رَذِيلَةِ الْكَذِبِ لِشَرَفِهِمْ وَقِلَّةِ مُبَالَاةِ هَؤُلَاءِ بِهِ لِخِسَّتِهِمْ. وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ إِذَا تَحَقَّقَ كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ مَعَهُ أَسْرَعَ مِنْ غَيْرِهِ. أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا يَنْتَفِي الْعِلْمُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ؛ فَلَا. [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ كُلَّ عَدَدٍ وَقَعَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِ فِي وَاقِعَةٍ لِشَخْصٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ كُلَّ عَدَدٍ وَقَعَ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِ فِي وَاقِعَةٍ لِشَخْصٍ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِغَيْرِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِغَيْرِ ذَلِكَ الشَّخْصِ إِذَا سَمِعَهُ. وَهَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ عَلَى إِطْلَاقِهِ إِذَا كَانَ الْعِلْمُ قَدْ حَصَلَ مِنْ نَفْسِ خَبَرِ ذَلِكَ الْعَدَدِ مُجَرَّدًا عَمَّا احْتَفَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْعَائِدَةِ إِلَى أَخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ وَأَحْوَالِهِمْ وَاسْتِوَاءِ السَّامِعِينَ فِي قُوَّةِ السَّمَاعِ لِلْخَبَرِ وَالْفَهْمِ لِمَدْلُولِهِ مَعَ فَرْضِ التَّسَاوِي فِي   (1) هُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا، وَرُمِيَ بِالْإِلْحَادِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 الْقَرَائِنِ. مَعَ أَنَّ الْقَرَائِنَ قَدْ تُفِيدُ آحَادُهَا الظَّنَّ. وَبِتَضَافُرِهَا وَاجْتِمَاعِهَا الْعِلْمَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَدَدِ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ لِلْمُسْتَمِعِ دُونَ الْبَعْضِ، لِمَا اخْتُصَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا فِي غَيْرِهِ، وَبِتَقْدِيرِ اتِّحَادِ الْوَاقِعَةِ وَقَرَائِنِهَا لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ حُصُولُهُ لِشَخْصٍ آخَرَ، لِتَفَاوُتِهِمَا فِي قُوَّةِ الْإِدْرَاكِ وَالْفَهْمِ لِلْقَرَائِنِ، إِذِ التَّفَاوُتُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ ظَاهِرٌ جِدًّا، حَتَّى إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ قُوَّةُ فَهْمِ أَدَقِّ الْمَعَانِي وَأَغْمَضِهَا فِي أَدْنَى دَقِيقَةٍ مِنْ غَيْرِ كَدٍّ وَلَا تَعَبٍ. وَمِنْهُمْ مَنِ انْتَهَى فِي الْبَلَادَةِ إِلَى حَدٍّ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى فَهْمِ أَظْهَرِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَعَانِي مَعَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَالُهُ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ. وَهَذَا أَمْرٌ وَاضِحٌ لَا مِرَاءَ فِيهِ. وَمَعَ التَّفَاوُتِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ يَظْهَرُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى تَصْحِيحِهِ عَلَى إِطْلَاقِهِ. [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ بَلَغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ لَكِنِ اخْتَلَفَتْ أَخْبَارُهُمْ مَعَ اشْتِرَاكِ جَمِيعِ أَخْبَارِهِمْ فِي مَعْنًى جَلِيٍّ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إِذَا عُرِفَ أَنَّ التَّوَاتُرَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْخَبَرِ الْوَاحِدِ، كَالْإِخْبَارِ عَنْ قَتْلِ مَلِكٍ أَوْ هُجُومِ بَلَدٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَوْ بَلَغَ عَدَدُ الْمُخْبِرِينَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، لَكِنِ اخْتَلَفَتْ أَخْبَارُهُمْ وَالْوَقَائِعُ الَّتِي أَخْبَرُوا عَنْهَا مَعَ اشْتِرَاكِ جَمِيعِ أَخْبَارِهِمْ فِي مَعْنًى جَلِيٍّ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مُخْبِرَاتِهِمْ فَالْكُلُّ مُخْبِرُونَ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرِكِ ضَرُورَةَ إِخْبَارِهِمْ عَنْ جُزْئِيَّاتِهِ، إِمَّا بِجِهَةِ التَّضَمُّنِ، أَوِ الِالْتِزَامِ، فَكَانَ مَعْلُومًا مِنْ أَخْبَارِهِمْ، وَذَلِكَ كَالْأَخْبَارِ الَّتِي وَرَدَتْ خَارِجَةَ الْحَصْرِ عَنْ وَقَائِعِ عَنْتَرَةَ فِي حُرُوبِهِ، وَوَقَائِعِ حَاتِمٍ فِي هِبَاتِهِ وَضِيَافَاتِهِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَقَائِعُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ، فَكُلُّهَا دَالَّةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ شَجَاعَةِ هَذَا، وَكَرَمِ هَذَا، غَيْرَ أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِهَا مِثْلَ (1) التَّوَاتُرِ الْأَوَّلِ؛ لِاتِّحَادِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، أَسْرَعَ حُصُولًا مِنَ الثَّانِي، لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِ وَمَا طَابَقَهَا مِنَ الْمَعَانِي، وَإِنِ اتَّحَدَ مَدْلُولُهَا مِنْ جِهَةِ التَّضَمُّنِ، أَوِ الِالْتِزَامِ، وَهَذَا آخِرُ بَابِ التَّوَاتُرِ.   (1) صَوَابُهُ - مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 [الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ] [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ] [مُقَدِّمَةُ فِي حَقِيقَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَشَرْحِ مَعْنَاهُ] وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَوَّلُهَا: النَّظَرُ فِي حَقِيقَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ. وَثَانِيهَا: النَّظَرُ فِي شَرَائِطِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ. وَثَالِثُهَا: النَّظَرُ فِي مُسْتَنَدِ الرَّاوِي، وَكَيْفِيَّةِ رِوَايَتِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ. وَرَابِعُهَا: النَّظَرُ فِيمَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ وَمَسَائِلِهِ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ - وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ، فَفِي حَقِيقَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَشَرْحِ مَعْنَاهُ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: خَبَرُ الْوَاحِدِ مَا أَفَادَ الظَّنَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ وَلَا مُنْعَكِسٍ (1) . أَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، فَلِأَنَّ الْقِيَاسَ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ، وَلَيْسَ هُوَ خَبَرَ وَاحِدٍ. فَقَدْ وُجِدَ الْحَدُّ وَلَا مَحْدُودَ. وَأَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ، فَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ. وَلَمْ يُفِدِ الظَّنَّ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ لَمْ يُفِدِ الظَّنَّ فَقَدْ وُجِدَ الْمَحْدُودُ وَلَا حَدَّ. كَيْفَ وَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِمَا أَفَادَ الظَّنَّ تَعْرِيفٌ بِلَفْظٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْعِلْمِ، كَمَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} أَيْ: يَعْلَمُونَ وَبَيِّنَ تَرَجُّحَ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ. وَالْحُدُودُ مِمَّا يَجِبُ صِيَانَتُهَا عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرِكَةِ لِإِخْلَالِهَا بِالتَّفَاهُمِ وَافْتِقَارِهَا إِلَى الْقَرِينَةِ. وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ خَبَرُ الْآحَادِ مَا كَانَ مِنَ الْأَخْبَارِ غَيْرُ مُنْتَهٍ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ. وَهُوَ مُنْقَسِمٌ: إِلَى مَا لَا يُفِيدُ الظَّنَّ أَصْلًا، وَهُوَ مَا تَقَابَلَتْ فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ عَلَى السَّوَاءِ، وَإِلَى مَا يُفِيدُ الظَّنَّ وَهُوَ تَرَجُّحُ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمُمْكِنَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ. فَإِنْ نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ تَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ سُمِّي مُسْتَفِيضًا مَشْهُورًا.   (1) التَّعْرِيفُ الْمُطَّرِدُ؛ هُوَ الَّذِي كُلَّمَا وُجِدَ وُجِدَ الْمُعَرَّفُ، وَالْمُنْعَكِسُ هُوَ الَّذِي كُلَّمَا وُجِدَ الْمُعَرَّفُ وُجِدَ التَّعْرِيفُ، وَمُحَصِّلِيهَا مُسَاوَاةُ التَّعْرِيفِ لِلْمُعَرَّفِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَلْنَذْكُرْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَهِيَ سَبْعٌ: [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ هَلْ يُفِيدُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفُوا فِي الْوَاحِدِ الْعَدْلِ. إِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ، هَلْ يُفِيدُ خَبَرُهُ الْعِلْمَ، (1) فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَعْنَى الظَّنِّ لَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ قَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} أَيْ: ظَنَنْتُمُوهُنَّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، لَكِنْ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُطَّرِدٌ فِي خَبَرِ كُلِّ وَاحِدٍ، كَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَخْبَارِ الْآحَادِ لَا فِي الْكُلِّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُفِيدُ الْعِلْمَ، إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرِينَةٌ، كَالنَّظَّامِ، وَمَنْ تَابَعَهُ فِي مَقَالَتِهِ. وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مُطْلَقًا، لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا بِغَيْرِ قَرِينَةٍ. وَالْمُخْتَارُ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ، إِذَا احْتَفَّتْ بِهِ الْقَرَائِنُ. وَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَادَةً دُونَ الْقَرَائِنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ خَرَقَ الْعَادَةَ بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الْعِلْمَ بِخَبَرِهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ. أَمَّا أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمُجَرَّدِهِ، فَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، وَالْإِشَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ الْمُعْتَمِدُ فِي ذَلِكَ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: مِنَ الْحُجَجِ الْوَاهِيَةِ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ لَأَفَادَهُ كُلُّ خَبَرِ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ كَذَلِكَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا قِيَاسٌ تَمْثِيلِيٌّ، وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْعِلْمِ. كَيْفَ وَإِنَّ خَبَرَ التَّوَاتُرِ إِنْ قِيلَ أَنَّ الْعِلْمَ بِهِ ضَرُورِيٌّ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَخْلُقَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ تَوَاتُرٍ؛ لِعِلْمِهِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ مَصْلَحَةٍ مُخْتَصَّةٍ بِهِ، أَوْ لَا لِمَصْلَحَةٍ (2) كَمَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ.   (1) انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ الرِّسَالَةِ لِلشَّافِعِيِّ، وَفِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ مِنَ الْإِحْكَامِ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ لِابْنِ حَزْمٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمَوْصِلِيُّ آخِرَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ مُخْتَصِرِ الصَّوَاعِقِ الْمُرْسَلَةِ لِابْنِ الْمُقَفَّعِ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِالسُّنَّةِ، وَإِفَادَتِهَا الْعِلْمَ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ. (2) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، وَالصَّوَابُ أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَتَشْرِيعِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَعَظِيمِ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ نَظَرِيٌّ مُكْتَسَبٌ، فَلَا مَانِعَ مِنَ اسْتِوَاءِ جَمِيعِ أَخْبَارِ التَّوَاتُرِ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِوَاءُ جَمِيعِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ تَأْثِيرَاتِ الْأَدِلَّةِ فِي النُّفُوسِ بِحَسَبِ الْمُؤَثِّرِ، وَلَا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ؛ وَإِنْ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْعَدَالَةِ، سِوَى تَرَجُّحِ صِدْقِهِ عَلَى كَذِبِهِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى مَحْضِ الدَّعْوَى فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَهِيَ مُقَابَلَةٌ بِمِثْلِهَا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْخَصْمُ: وَأَنَا أَجِدُ فِي نَفْسَيِ الْعِلْمَ بِذَلِكَ. وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعِلْمَ، لَمَا رُوعِيَ فِيهِ شَرْطُ الْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ كَمَا فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ. وَحَاصِلُ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى التَّمْثِيلِ، مُفِيدٌ لِلْيَقِينِ. ثُمَّ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِخَلْقِ الْعِلْمِ عِنْدَهُ إِنْ قِيلَ إِنَّ الْعِلْمَ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيٌّ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي خَلْقِهِ عِنْدَ خَبَرِ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلَا عَدْلٍ، أَوْ أَنْ يَكُونَ التَّوَاتُرُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَوَاتُرٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، إِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْعِلْمَ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ كَسْبِيٌّ، وَخَبَرُ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَلَا عَدْلٍ غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَى ذَلِكَ. وَالْمُعْتَمِدُ فِي ذَلِكَ أَرْبَعُ حُجَجٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِمُجَرَّدِهِ، فَلَوْ أَخْبَرَ ثِقَةٌ آخَرُ بِضِدِّ خَبَرِهِ، فَإِنْ قُلْنَا خَبَرُ كُلِّ وَاحِدٍ يَكُونُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَبِنَقِيضِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ قُلْنَا خَبَرُ أَحَدِهِمَا يُفِيدُ الْعِلْمَ دُونَ الْآخَرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا، أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، ضَرُورَةَ تَسَاوِيهِمَا فِي الْعَدَالَةِ وَالْخَبَرِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا، فَلَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ بِخَبَرِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا جَرَّدْنَا النَّظَرَ إِلَيْهِ، كَانَ خَبَرُهُ غَيْرَ مُفِيدٍ لِلْعِلْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ هُوَ خَبَرَ الْآخَرِ. كَيْفَ وَأَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يُقَالَ بِحُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ، دُونَ خَبَرِ الْآخَرِ (1) .   (1) لِمَنْ يَرَى إِفَادَةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْعِلْمَ أَنْ يَقُولَ هَذَا مُجَرَّدُ فَرْضٍ، فَإِنَّ الْعَادَةَ قَدْ تَمْنَعُ مِنْ إِخْبَارِ عَدْلٍ آخَرَ بِضِدِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الثِّقَةُ الْأَوَّلُ، إِلَّا فِي مِثْلِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ عَقَلًا، وَقَدْ سَبَقَ لِلْمُؤَلِّفِ أَنَّهُ ذَكَرَ لِلْمَانِعِينَ مِنْ إِفَادَةِ الْمُتَوَاتِرِ الْعِلْمَ مِثْلَ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَرَدِّهَا، وَيَأْتِي نَظِيرُهُ فِي خَبَرِ الْآحَادِ الْمُحْتَفِّ بِالْقَرَائِنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَمَا إِذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ بِمَخْبَرٍ وَاحِدٍ تَزَيَّدَ اعْتِقَادُهُ بِذَلِكَ الْمُخْبَرِ، وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُفِيدًا لِلْعِلْمِ فَالْعِلْمُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّزَيُّدِ وَالنُّقْصَانِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُقَالُ بِأَنَّ الْعِلْمَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلُومِ قَدْ يَكُونُ أَجْلَى مِنْ بَعْضٍ وَأَظْهَرَ، كَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، فَإِنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْعِلْمِ الْمُكْتَسَبِ، وَالْعِلْمِ بِالْأَعْيَانِ أَقْوَى مِنَ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْعُلُومِ مِنْ حَيْثُ هِيَ عُلُومٌ بِزِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، لِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ النَّقِيضِ عَنْهَا قَطْعًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا كَانَتْ عُلُومًا، بَلْ ظُنُونًا. وَالتَّفَاوُتُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ وَالْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ لَيْسَ فِي نَفْسِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُفْتَقِرٌ فِي حُصُولِهِ إِلَى النَّظَرِ دُونَ الْآخَرِ، أَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْرَعُ حُصُولًا مِنَ الْآخَرِ، لِتَوَقُّفِهِ عَلَى النَّظَرِ. وَالتَّفَاوُتُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ وَالْعِلْمِ بِالنَّظَرِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِيمَا تَعَلَّقَا بِهِ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ بِالْخَبَرِ يَكُونُ مُدْرَكًا بِالْعِيَانِ وَالنَّظَرِ (1) . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَبَرُ الْوَاحِدُ بِمُجَرَّدِهِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ، لَكَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا بِنُبُوَّةِ مَنْ أَخْبَرَ بِكَوْنِهِ نَبِيًّا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى مُعْجِزَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ لِلْحَاكِمِ الْعِلْمُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَأَنْ لَا يَفْتَقِرَ مَعَهُ إِلَى شَاهِدٍ آخَرَ، وَلَا إِلَى تَزْكِيَتِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ طَلَبِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، إِذِ الْعِلْمُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (2) .   (1) الظَّاهِرُ أَنَّ الْعِلْمَ مُتَفَاوِتٌ فِي نَفْسِهِ كَمًّا وَقُوَّةً، كَمَا أَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ فِي مَسَائِلِهِ وَفِي السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ فِي حُصُولِهِ، وَالْوِجْدَانُ وَالْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ مِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ، وَأَدِلَّةُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ تُؤَيِّدُ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ. (2) لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَمْنَعَ كُلًّا مِنَ الْمُلَازِمَتَيْنِ، فَإِنَّ خَبَرَ الْإِنْسَانِ عَنْ نُبُوَّةِ نَفْسِهِ بِلَا مُعْجِزَةٍ دَعْوَى شَيْءٍ غَيْرِ مَأْلُوفٍ فِي سُنَّةِ اللَّهِ مَعَ خَلْقِهِ، فَلَا تُقْبَلُ حَتَّى تُؤَيَّدَ بِمَا يَجْعَلُهَا جَارِيَةً عَلَى سُنَّتِهِ سُبْحَانَهُ، وَمَا عَهِدَهُ الْبَشَرُ فِي إِرْسَالِهِ رُسُلَهُ، بِخِلَافِ إِخْبَارِ إِنْسَانٍ عَدْلٍ عَنْ مِثْلِهِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَهَا اعْتِبَارَاتٌ أُخْرَى فِي الشَّاهِدِ وَالْمَشْهُودِ وَغَيْرِهِمَا، فَاخْتَلَفَ نِصَابُهَا بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ، فَكَانَ الْوَاجِبُ اعْتِبَارَ مَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِيهَا، وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهَا مُجَرَّدَ حُصُولِ الْعِلْمِ لِلْحَاكِمِ، وَلِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهِ وَلَا بِعِلْمٍ حَصَلَ لَهُ مِنْ شَهَادَةِ شَهَادَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي قَضِيَّةِ زِنًا، أَمَّا أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ أَوِ النُّقْصَانَ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا عَرَفْتَ فِيمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 34 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِمُجَرَّدِهِ لَوَجَبَ تَخْطِئَةُ مُخَالِفِهِ بِالِاجْتِهَادِ وَتَفْسِيقُهُ وَتَبْدِيعُهُ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يُبَدَّعُ بِمُخَالَفَتِهِ، وَيُفَسَّقُ، وَلَكَانَ مِمَّا يَصِحُّ مُعَارَضَتُهُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَأَنْ يَمْتَنِعَ التَّشْكِيكُ بِمَا يُعَارِضُهُ كَمَا فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ (1) . فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارِضٌ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ وَالْأَثَرِ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} نَهَى عَنِ اتِّبَاعِ غَيْرِ الْعِلْمِ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ اتِّبَاعِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلُزُومِ الْعِلْمِ بِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ لَكَانَ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدًا عَلَى مُخَالَفَةِ النَّصِّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَمَّ عَلَى اتِّبَاعِ الظَّنِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ؛ بَلْ لِلظَّنِّ، لَكُنَّا مَذْمُومِينَ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ لِمَا أَوْجَبَهُ، وَإِنْ كَثُرَ الْعَدَدُ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ؛ لِأَنَّ مَا جَازَ عَلَى الْأَوَّلِ جَازَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُهُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ، لَمَا أُبِيحَ قَتْلُ الْمُقِرِّ بِالْقَتْلِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ عَلَيْهِ. وَلَمَا وَجَبَتِ الْحُدُودُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ؛ لِكَوْنِ ذَلِكَ قَاضِيًا عَلَى دَلِيلِ الْعَقْلِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ.   (1) قَدْ يُقَالُ: تَلْتَزِمُ تَخْطِئَةُ الْمُخَالِفِ وَنَعْذُرُهُ قَبْلَ الْبَلَاغِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَنُفَسِّقُهُ وَنُبَدِّعُهُ بَعْدَ الْبَلَاغِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ فِيمَا يُفَسَّقُ أَوْ يُبَدَّعُ بِمِثْلِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَصِحَّ مُعَارَضَتُهُ بِالْمُتَوَاتِرِ لِتَفَاوُتِهِمَا فِي الْعِلْمِ، فَيُقَدَّمُ الْمُتَوَاتِرُ لِزِيَادَتِهِ فِي ذَلِكَ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنِ الْبَاقِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْأَثَرِ، وَنَخُصُّ مَذْهَبَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ خَبَرٍ وَخَبَرٍ كَبَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، فَهُوَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهَ، قَالَ: " مَا حَدَّثَنِي أَحَدٌ بِحَدِيثٍ إِلَّا اسْتَحْلَفْتُهُ سِوَى أَبِي بَكْرٍ " صَدَّقَ أَبَا بَكْرٍ، وَقَطَعَ بِصِدْقِهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ. قُلْنَا: أَمَّا الْآيَاتُ، فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاتِّبَاعِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ إِنَّمَا كَانَ بِنَاءً عَلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَالْإِجْمَاعُ قَاطِعٌ، فَاتِّبَاعُهُ لَا يَكُونُ اتِّبَاعًا لِمَا لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَلَا اتِّبَاعًا لِلظَّنِّ (1) . الثَّانِي: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ إِنَّمَا هُوَ الْمَنْعُ مِنَ اتِّبَاعِ غَيْرِ الْعِلْمِ فِيمَا الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعِلْمُ، كَالِاعْتِقَادَاتِ فِي أُصُولِ الدِّينِ مِنَ اعْتِقَادِ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ عَمَلًا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ (2) . وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ، فَغَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ قَدْ يُغَايِرُ حُكْمَ الْآحَادِ، عَلَى مَا سَبَقَ مِرَارًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لَا تُبْنَى عَلَى غَيْرِ الْعِلْمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَعَلَى خِلَافِ إِجْمَاعِ السَّلَفِ قَبْلَ وُجُودِ الْمُخَالِفِينَ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَثَرِ، فَغَايَتُهُ أَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا صَدَّقَ أَبَا بَكْرٍ؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، لِحُصُولِ ظَنِّهِ بِخَبَرِهِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ دُونَ خَبَرِ غَيْرِهِ لِكَوْنِ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ الرُّتْبَةِ وَعُلُوِّ الشَّأْنِ فِي الْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فِي مُقَابَلَةِ يَمِينِ غَيْرِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ جَائِزٌ فِي بَابِ الظُّنُونِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الصِّدْقُ مَعْلُومًا.   (1) الْجَوَابُ بِهَذَا الْوَجْهِ فِيهِ تَسْلِيمٌ لِلدَّلِيلِ، وَلَيْسَ عَنْهُ فَلْيُتَأَمَّلْ. (2) قَدْ يُقَالُ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالظَّنِّيَّةِ يَثْبُتُ بِهِ أَحْكَامُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، لَكِنْ تَتَفَاوَتُ أَحْكَامُهُمَا فِي قُوَّةِ الِاعْتِبَارِ فَقَدْ تَبْلُغُ مِنَ الْقُوَّةِ دَرَجَةً تَقْتَضِي كُفْرَ الْمُخَالِفِ بَعْدَ الْبَلَاغِ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ دُونَ ذَلِكَ، فَيَكْتَفِي بِتَخْطِئَةِ الْمُخَالِفِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ مَسَائِلَ الْخِلَافِ فِي التَّوْحِيدِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ وَجَدَ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي تُوَضِّحُ مَا ذَكَرْنَا، وَوَجَدَ جَمِيعَ الطَّوَائِفِ تَسْتَدِلُّ عَلَيْهَا بِأَحَادِيثِ الْآحَادِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَوَابِ إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: (وَلَا تَقْفُ) مَا يَشْمَلُ الظَّنَّ الرَّاجِحَ، وَبِالظَّنِّ فِي قَوْلِهِ: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) الْخَرْصَ وَالتَّخْمِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وَأَمَّا جَوَازُ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، إِذَا احْتَفَّتْ بِهِ الْقَرَائِنُ، فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَرِينَةَ قَدْ تُفِيدُ الظَّنَّ مُجَرَّدَةً عَنِ الْخَبَرِ. وَذَلِكَ كَمَا إِذَا رَأَيْنَا إِنْسَانًا يُكْثِرُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى شَخْصٍ مُسْتَحْسَنٍ، فَإِنَّا نَظُنُّ حُبَّهُ لَهُ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِذَلِكَ مُلَازَمَتُهُ لَهُ، زَادَ ذَلِكَ الظَّنُّ وَلَا يَزَالُ فِي التَّزَايُدِ بِزِيَادَةِ خِدْمَتِهِ لَهُ وَبَذْلِ مَا لَهُ وَتَغَيُّرِ حَالِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَرَائِنِ، حَتَّى يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِحُبِّهِ لَهُ كَمَا فِي تَزَايُدِ الظَّنِّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ حَتَّى يَصِيرَ تَوَاتُرًا. وَكَذَلِكَ عِلْمُنَا بِخَجَلِ مَنْ هُجِنَ، وَوَجَلِ مَنْ خُوِّفَ، بِاحْمِرَارِ هَذَا وَاصْفِرَارِ هَذَا. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَعْلَمُ عِنْدَ ارْتِضَاعِ الطِّفْلِ وُصُولَ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِهِ بِكَثْرَةِ امْتِصَاصِهِ وَازْدِرَادِهِ وَحَرَكَةِ حَلْقِهِ مَعَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ شَابَّةً نُفَسَاءَ وَبِسُكُونِ الصَّبِيِّ بَعْدَ بُكَائِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَرَائِنِ. وَإِذَا كَانَتِ الْقَرَائِنُ الْمُتَضَافِرَةُ بِمُجَرَّدِهَا مُفِيدَةً لِلْعِلْمِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَقْتَرِنَ بِالْخَبَرِ الْمُفِيدِ لِلظَّنِّ مُفِيدَةً لِلظَّنِّ، قَائِمَةً مَقَامَ اقْتِرَانِ خَبَرٍ آخَرَ بِهِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ التَّزَايُدُ فِي الظَّنِّ بِزِيَادَةِ اقْتِرَانِ الْقَرَائِنِ إِلَى أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ، كَمَا فِي خَبَرِ التَّوَاتُرِ. وَإِذَا ثَبَتَ الْجَوَازُ فَبَيَانُ الْوُقُوعِ أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ وَاحِدٌ أَنَّ وَلَدَ الْمَلِكِ قَدْ مَاتَ، وَاقْتَرَنَ بِذَلِكَ عِلْمُنَا بِمَرَضِهِ، وَأَنَّهُ لَا مَرِيضَ فِي دَارِ الْمَلِكِ سِوَاهُ، وَمَا شَاهَدْنَاهُ مِنَ الصُّرَاخِ الْعَالِي فِي دَارِهِ، وَالنَّحِيبِ الْخَارِجِ عَنِ الْعَادَةِ، وَخُرُوجِ الْجِنَازَةِ مُحْتَفَّةً بِالْخَدَمِ، وَالْجَوَارِي حَاسِرَاتٍ مُبْرِحَاتٍ يَلْطُمْنَ خُدُودَهُنَّ، وَيَنْتِفْنَ شُعُورَهُنَّ، وَالْمَلِكُ مُمَزَّقُ الثَّوْبِ حَاسِرُ الرَّأْسِ يَلْطُمُ وَجْهَهُ، وَهُوَ مُضْطَرِبُ الْبَالِ، مُشَوَّشُ الْحَالِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ مِنَ الْتِزَامِ الْوَقَارِ وَالْهَيْبَةِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أَسْبَابِ الْمُرُوءَةِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ سَمِعَ ذَلِكَ الْخَبَرَ، وَشَاهَدَ هَذِهِ الْقَرَائِنَ يَعْلَمُ صِدْقَ ذَلِكَ الْمُخْبِرِ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِمُخْبَرِهِ، كَمَا يَعْلَمُ صِدْقَ خَبَرِ التَّوَاتُرِ وَوُقُوعَ مُخْبَرِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ، مَعَ كَمَالِ عَقْلِهِ وَحُبِّهِ لِحَيَاةِ نَفْسِهِ وَكَرَاهَتِهِ لِلْأَلَمِ، وَهُوَ فِي أَرْغَدِ عِيشَةٍ، نَافِذُ الْأَمْرِ، قَائِمُ الْجَاهِ أَنَّهُ قَتَلَ مَنْ يُكَافِئُهُ عَمْدًا عُدْوَانًا، بِآلَةٍ يُقْتَلُ مِثْلُهَا غَالِبًا، مِنْ غَيْرِ شُبْهَةٍ لَهُ فِي قَتْلِهِ، وَلَا مَانِعَ لَهُ مِنَ الْقِصَاصِ، كَانَ خَبَرُهُ مَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِصِدْقِهِ عَادَةً. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِي جِوَارِ إِنْسَانٍ امْرَأَةٌ حَامِلٌ، وَقَدِ انْتَهَتْ مُدَّةُ حَمْلِهَا، فَسَمِعَ الطَّلْقَ مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ، وَضَجَّةَ النِّسْوَانِ حَوْلَ تِلْكَ الْحَامِلِ، ثُمَّ سَمِعَ صُرَاخَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الطِّفْلِ، وَخَرَجَ نِسْوَةٌ يَقُلْنَ إِنَّهَا قَدْ وَلَدَتْ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَرِيبُ فِي ذَلِكَ، وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ قَطْعًا، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ مِمَّا يُخْرِجُ الْمُنَاظَرَةَ إِلَى الْمُكَابَرَةِ. فَإِنْ قِيلَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِمَوْتِ وَلَدِ الْمَلِكِ فِي الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا مِنْ نَفْسِ الْخَبَرِ أَوْ مِنْ نَفْسِ الْقَرَائِنِ، أَوْ مِنَ الْخَبَرِ مَشْرُوطًا بِالْقَرَائِنِ، أَوْ بِالْقَرَائِنِ مَشْرُوطًا بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ أَوْ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُجَرَّدِ الْخَبَرِ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ أَوَّلًا، وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْخَبَرِ مَشْرُوطًا بِالْقَرَائِنِ، وَلَا مِنَ الْقَرَائِنِ بِشَرْطِ الْخَبَرِ وَلَا مِنَ الْخَبَرِ وَالْقَرَائِنِ مَعًا، لِاسْتِقْلَالِ تِلْكَ الْقَرَائِنِ الْمَذْكُورَةِ بِإِفَادَةِ الْعِلْمِ بِالْمَوْتِ، سَوَاءٌ وُجِدَ الْخَبَرُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا مِنْ نَفْسِ الْقَرَائِنِ وَلَا أَثَرَ لِلْخَبَرِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارِضٌ بِمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مُجَرَّدًا عَنِ الْقَرَائِنِ فَإِنَّهَا مُتَّجِهَةٌ بِعَيْنِهَا هَاهُنَا. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ مَا وُجِدَ مِنَ الْقَرَائِنِ مَوْتَ غَيْرِ وَلَدِ الْمَلِكِ فَجْأَةً، فَإِذَا انْضَمَّ إِلَيْهَا الْخَبَرُ بِمَوْتِ ذَلِكَ الْمَرِيضِ بِعَيْنِهِ، كَانَ اعْتِقَادُ مَوْتِهِ آكَدَ مِنِ اعْتِقَادِ مَوْتِهِ مَعَ الْقَرَائِنِ دُونَ الْخَبَرِ (1) . وَعَنِ الْمُعَارَضَاتِ أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى، فَلِأَنَّا إِذَا فَرَضْنَا حُصُولَ الْعِلْمِ بِخَبَرِ مَنِ احْتَفَّتْ بِخَبَرِهِ الْقَرَائِنُ، فَيَمْتَنِعُ تَصَوُّرُ اقْتِرَانِ مِثْلِ تِلْكَ الْقَرَائِنِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا بِالْخَبَرِ الْمُنَاقِضِ لَهُ وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْخَبَرِ مُنَاقِضًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْخَبَرُ بِمُجَرَّدِهِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ خَبَرٍ آخَرَ مُنَاقِضٍ لَهُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الشَّاهِدِ (2) . وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ، فَلِأَنَّ مَا نَجِدُهُ مِنَ التَّزَيُّدِ عِنْدَ أَخْبَارِ الْآحَادِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَمْ يَحْصُلِ الْعِلْمُ فِيهِ بِخَبَرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَأَمَّا مَتَى كَانَ الْعِلْمُ قَدْ حَصَلَ بِخَبَرِ الْأَوَّلِ   (1) جَوَابُهُ يَشْمَلُ مَا إِذَا كَانَتِ الْقَرَائِنُ مُفِيدَةً لِلظَّنِّ، فَتَأَكَّدَتْ بِضَمِّ الْخَبَرِ إِلَيْهَا وَصَارَ الْمَجْمُوعُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ أَوْ لِظَنٍّ أَرْجَحَ، وَمَا إِذَا كَانَتْ مُفِيدَةً لِلْعِلْمِ فَتَأَكَّدَتْ بِضَمِّ الْخَبَرِ إِلَيْهَا. (2) مَتَّى فُرِضَ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ بِمُجَرَّدِهِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ امْتَنَعَ وُرُودُ نَقِيضِهِ عَنْ عَدْلٍ آخَرَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، كَخَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا احْتَفَّتْ بِهِ الْقَرَائِنُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 فَالتَّزَيُّدُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِخَبَرٍ، فَإِنَّا إِذَا جَرَّدْنَا النَّظَرَ إِلَى خَبَرِهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ، وَجَدْنَا أَنْفُسَنَا مِمَّا يَزِيدُ فِيهَا الظَّنُّ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ بِاقْتِرَانِ خَبَرِ غَيْرِهِ بِخَبَرِهِ (1) . وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: فَلِأَنَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمُخْبَرِهِ، لَزِمَ تَصْدِيقُ مُدَّعِي النُّبُوَّةِ فِي خَبَرِهِ، وَلَا كَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْخَبَرَ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ إِلَّا بِالْقَرَائِنِ. فَخَبَرُ الْوَاحِدِ بِنُبُوَّتِهِ لَا يَكُونُ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِصِدْقِهِ دُونَ اقْتِرَانِ الْقَرَائِنِ بِقُولِهِ، وَالْمُعْجِزَةُ مِنَ الْقَرَائِنِ (2) . وَأَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فَغَايَتُهَا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ خَبَرٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ بِمُجَرَّدِهِ (3) ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ ذَلِكَ مُطْلَقًا. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ بِخَبَرٍ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ هَلْ يُعْلَمُ كَوْنَهُ صَادِقًا فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، هَلْ يُعْلَمُ كَوْنَهُ صَادِقًا فِيهِ؟ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَاذِبًا لَأَنْكَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ مُقِرًّا لَهُ عَلَى الْكَذِبِ مَعَ كَوْنِهِ مُحَرَّمًا، وَذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ سَامِعٍ لَهُ، بَلْ هُوَ ذَاهِلٌ عَنْهُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ السَّمَاعُ وَعَدَمُ الْغَفْلَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَعْلَمَ سَمَاعَهُ لَهُ وَعَدَمَ غَفْلَتِهِ عَنْهُ، فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَكُونَ فَاهِمًا لِمَا يَقُولُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ فَهْمُهُ لَهُ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ فَاهِمًا لَهُ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُتَعَلِّقًا بِالدِّينِ، أَوِ الدُّنْيَا: فَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالدِّينِ، وَقُدِّرَ كَوْنُهُ كَاذِبًا فِيهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَيَّنَهُ لَهُ وَعَلِمَ أَنَّ إِنْكَارَهُ عَلَيْهِ وَبَيَانَهُ لَهُ ثَانِيًا غَيْرُ مُنْجِعٍ فِيهِ فَلَمْ يَرَ فِي   (1) فِيهِ أَنَّ الْعِلْمَ يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ كَالظَّنِّ، كَمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 34 ج 2. (2) لَا نُسَلِّمُ الْمُلَازَمَةَ، فَإِنَّ دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ بِلَا مُعْجِزَةٍ عَلَى خِلَافِ سُنَّةِ اللَّهِ فِي إِرْسَالِهِ رُسُلَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 34 ج 2. (3) غَايَتُهَا ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ مَا يُفِيدُ بِمُجَرَّدِهِ الْعِلْمَ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ خَبَرٍ، وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ، لِتَفَاوُتِ الرُّوَاةِ فِي صِفَاتِ الْقَبُولِ وَتَفَاوُتِ السَّامِعِينَ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَبُعْدِ النَّظَرِ وَدِقَّتِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فَائِدَةً، وَرَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي إِهْمَالِهِ إِلَى وَقْتٍ آخَرَ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ كُلِّهِ، احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ كَذِبُهُ فِي ذَلِكَ صَغِيرَةً، وَعَدَمُ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْتِفَاءُ الصَّغَائِرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ. هَذَا، إِنْ كَانَ إِخْبَارُهُ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ إِخْبَارُهُ بِأَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ بِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ ظَنَّ عِلْمَهِ بِهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِكَذِبِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْكَارِ لِمَانِعٍ، أَوْ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِنْكَارِهِ، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ كُلِّهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ الصَّغَائِرِ - الصَّغَائِرُ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ كَمَا عُلِمَ - وَعَلَى هَذَا فَعَدَمُ الْإِنْكَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا، وَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ ظَنًّا (1) . [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِخَبَرٍ عَنْ أَمْرٍ مُحَسٍّ بَيْنَ يَدَيْ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ وَسَكَتُوا عَنْ تَكْذِيبِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِخَبَرٍ عَنْ أَمْرٍ مُحَسٍّ بَيْنَ يَدَيْ جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ وَسَكَتُوا عَنْ تَكْذِيبِهِ قَالَ قَوْمٌ: عُلِمَ مِنْ ذَلِكَ صِدْقُهُ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَادَةً أَنْ لَا يَطَّلِعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى كَذِبِهِ، وَبِتَقْدِيرِ الِاطِّلَاعِ يَمْتَنِعُ عَادَةً سُكُوتُ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ عَنِ التَّكْذِيبِ مَعَ اخْتِلَافِ أَمْزِجَتِهِمْ وَطِبَاعِهِمْ وَاخْتِلَافِ دَوَاعِيهِمْ. فَحَيْثُ سَكَتُوا عَنِ التَّكْذِيبِ دَلَّ عَلَى صِدْقِهِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمُ اطِّلَاعٌ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَلَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ صَادِقًا وَلَا كَاذِبًا، وَلَا وَاحِدَ مِنْهُمْ، وَلَا الْعَادَةَ مِمَّا تُحِيلُ اطِّلَاعَ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَعْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَوِ اثْنَانِ كَذِبَهُ، فَالْعَادَةُ لَا تُحِيلُ سُكُوتَ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ عَنْ تَكْذِيبِهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَعْلَمَ الْكُلُّ بِكَذِبِهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَانِعًا مَنَعَهُمْ مِنْ تَكْذِيبِهِ، وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَمْتَنِعُ الْقَطْعُ بِتَصْدِيقِهِ وَإِنْ كَانَ صِدْقُهُ مَظْنُونًا.   (1) إِنْ دَلَّ عَدَمُ إِنْكَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ الْخَبَرَ عَلَى صِدْقِ قَائِلِهِ يَقِينًا وَلَوْ بِمَا احْتَفَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَدُلَّ عَلَى ظَنِّ صِدْقِهِ، كَمَا ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ كَمَا تَبَيَّنَ قَرِيبًا فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ، وَإِذْنُ الْعَمَلِ بِهَذَا الْخَبَرِ مَشْرُوعٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إِذَا رَوَى وَاحِدٌ خَبَرًا وَرَأَيْنَا الْأُمَّةَ مُجْمِعَةً عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إِذَا رَوَى وَاحِدٌ خَبَرًا، وَرَأَيْنَا الْأُمَّةَ مُجْمِعَةً عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، كَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا، إِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا، وَإِلَّا كَانَ عَمَلُهُمْ بِمُقْتَضَاهُ خَطَأً، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الْخَطَأِ وَهُوَ بَاطِلٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، بَلْ بِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ أَوْ بَعْضُهُمْ بِهِ، وَبَعْضُهُمْ بِغَيْرِهِ. وَبِتَقْدِيرِ عَمَلِ الْكُلِّ بِهِ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَظْنُونَ الصِّدْقِ، فَالْأُمَّةُ مُكَلَّفَةٌ بِالْعَمَلِ بِمُوجِبِهِ، وَعَمَلُهُمْ بِمُوجِبِهِ مَعَ تَكْلِيفِهِمْ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ خَطَأً، لِأَنَّ خَطَأَهُمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِهِمْ لِمَا كَلَّفُوا بِهِ، أَوِ الْعَمَلِ بِمَا نَهَوْا عَنْهُ. وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فَصِدْقُهُ لَا يَكُونُ مَقْطُوعًا، وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا. وَعَلَى هَذَا لَوْ رَوَى وَاحِدٌ خَبَرًا، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَطَائِفَةٌ عَمِلَتْ بِمُقْتَضَاهُ وَطَائِفَةٌ اشْتَغَلَتْ بِتَأْوِيلِهِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ قَطْعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّائِفَةَ الَّتِي عَمِلَتْ بِمُقْتَضَاهُ لَعَلَّهَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ، بَلْ بِغَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ عَامِلَةً بِهِ، فَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى قَبُولِهِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ صَادِقًا قَطْعًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَكْلِيفِهِمْ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّيِّ. [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَجَدَ شَيئا بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ وانْفَرَدَ بِرِوَايَتِهِ عَنْ بَاقِي الْخَلْقِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ وُجِدَ شَيْءٌ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، إِذَا انْفَرَدَ الْوَاحِدُ بِرِوَايَتِهِ عَنْ بَاقِي الْخَلْقِ، كَمَا إِذَا أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ بِبَغْدَادَ قُتِلَ فِي وَسَطِ الْجَامِعِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَمْ يُخْبِرْ بِذَلِكَ أَحَدٌ سِوَاهُ فَذَهَبَ الْكُلُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ، خِلَافًا لِلشِّيعَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَكَّزَ فِي طِبَاعِ الْخَلْقِ مِنْ تَوْفِيرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ مَا عَلِمُوهُ، وَالتَّحَدُّثِ بِمَا عَرَفُوهُ، حَتَّى إِنَّ الْعَادَةَ لَتُحِيلَ كِتْمَانَ مَا لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِمَّا جَرَى مِنْ صِغَارِ الْأُمُورِ عَلَى الْجَمْعِ الْقَلِيلِ، فَكَيْفَ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ فِيمَا هُوَ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ وَمُهِمَّاتِهَا، وَالنُّفُوسُ مُشْرَئِبَّةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَفِي نَقْلِهِ صَلَاحٌ لِلْخَلْقِ، بَلِ السُّكُوتُ عَنْ نَقْلِ ذَلِكَ وَإِشَاعَتِهِ فِي إِحَالَةِ الْعَادَةِ لَهُ أَشَدُّ مِنْ إِحَالَةِ الْعَادَةِ لِسُكُوتِهِمْ وَتَوَاطُئِهِمْ عَلَى عَدَمِ نَقْلِ وُجُودِ مَكَّةَ وَبَغْدَادَ. فَلَوْ جَازَ كِتْمَانُ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُوجَدَ مِثْلُ مِصْرَ وَبَغْدَادَ وَلَمْ يُخْبِرْ أَحَدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 عَنْهُمَا وَذَلِكَ مُحَالٌ عَادَةً (1) . وَبِمِثْلِ هَذَا عَرَفْنَا كَذِبَ مَنِ ادَّعَى مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ وَالتَّنْصِيصَ عَلَى إِمَامٍ بِعَيْنِهِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ لَشَاعَ وَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ (2) . فَإِنْ قِيلَ: الْعَادَةُ إِنَّمَا تُحِيلُ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى كِتْمَانِ مَا جَرَى بِمَشْهَدٍ مِنْهُمْ مَنِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، إِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الدَّاعِي إِلَى الْكِتْمَانِ مُعَارِضًا لِدَاعِي الْإِظْهَارِ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ، إِمَّا لِغَرَضٍ وَاحِدٍ يَعُمُّ الْكُلَّ نَظَرًا إِلَى مَصْلَحَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْكُلِّ فِي أَمْرِ الْوِلَايَةِ وَإِصْلَاحِ الْمَعِيشَةِ، أَوْ خَوْفٍ وَرَهْبَةٍ مِنْ عَدُوٍّ غَالِبٍ وَمَلِكٍ قَاهِرٍ، أَوْ لِأَغْرَاضٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كُلُّ غَرَضٍ لِوَاحِدٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْوُقُوعُ. وَهُوَ أَنَّ النَّصَارَى مَعَ كَثْرَتِهِمْ كَثْرَةً تَخْرُجُ عَنِ الْحَصْرِ، لَمْ يَنْقُلُوا كَلَامَ الْمَسِيحِ فِي الْمَهْدِ، مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَعْجَبِ حَادِثٍ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَإِشَاعَتِهِ وَنَقَلُوا مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّاسَ نَقَلُوا أَعْلَامَ الرُّسُلِ، وَلَمْ يَنْقُلُوا أَعْلَامَ شُعَيْبٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الرُّسُلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ آحَادَ الْمُسْلِمِينَ قَدِ انْفَرَدُوا بِنَقْلِ مَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ مَعَ شُيُوعِهِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالْجَمْعِ الْكَثِيرِ، كَنَقْلِ مَا عَدَا الْقُرْآنَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، كَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَا فِي يَدِهِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ إِلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ الْغَزَالَةِ عَلَيْهِ، وَكَدُخُولِ مَكَّةَ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا، وَتَثْنِيَةِ الْإِقَامَةِ وَإِفْرَادِهَا، وَإِفْرَادِهُ فِي الْحَجِّ، وَقِرَانِهِ وَنِكَاحِهِ لِمَيْمُونَةَ وَهُوَ حَرَامٌ، وَقَبُولِهِ لِشَهَادَةِ الْأَعْرَابِيِّ وَحْدَهُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى.   (1) مُقْتَضَى دَلِيلِهِ إِحَالَةُ الْعَادَةِ كِتْمَانُ مَا تَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ صُدْفَةً أَوْ تَوَاطُؤًا، لَا وُجُوبَ نَقْلِهِ تَوَاتُرًا أَوِ اسْتِفَاضَةً كَمَا هِيَ الدَّعْوَى، وَعَلَيْهِ فَلَا يَمْتَنِعُ نَقْلُ وَاحِدٍ أَوِ اثْنَيْنِ ذَلِكَ الْخَبَرَ وَإِشَاعَتُهُمَا إِيَّاهُ مَعَ اكْتِفَاءِ الْبَاقِينَ بِذَلِكَ، وَقَدْ يَسْتَفِيضُ نَقْلُهُ بَعْدُ، كَمَا فِي حَدِيثِ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وَغَيْرِهِ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ. (2) أَقُولُ لَوْ وُجِدَ ذَلِكَ لَنُقِلَ، وَلَوْ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ صَحِيحٍ، وَحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ نَقْلُهُ وَلَوْ آحَادًا دَلَّ عَلَى كَذِبِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ عَلَى كِتْمَانِ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الْوَقَائِعِ الْعَظِيمَةِ. قَوْلُهُمْ ذَلِكَ: إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الدَّاعِي إِلَى الْكِتْمَانِ. قُلْنَا: وَالْكَلَامُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَادَةَ أَيْضًا تُحِيلُ اشْتِرَاكَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ فِي الدَّاعِي إِلَى الْكِتْمَانِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ اشْتِرَاكُهُمْ فِي الدَّاعِي إِلَى الْكَذِبِ، وَإِلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِشْهَادِ. أَمَّا كَلَامُ عِيسَى فِي الْمَهْدِ، فَإِنَّمَا تَوَلَّى نَقْلَهُ الْآحَادُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَّا بِحَضْرَةِ نَفَرٍ يَسِيرٍ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَمْرُهُ قَدْ ظَهَرَ، وَلَا شَأْنُهُ قَدِ اشْتُهِرَ، وَلَا عُرِفَ بِرِسَالَةٍ وَلَا نُبُوَّةٍ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ إِحْيَاءِ الْمَيِّتِ، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، فَإِنَّهُ كَانَ وَقْتَ اشْتِهَارِهِ وَدَعْوَاهُ الرِّسَالَةِ، مُسْتَدِلًّا بِذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ، وَتَطَلُّعِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَامْتِدَادِ الْأَعْيُنِ إِلَى مَا يَدَّعِيهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَقَعِ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى كِتْمَانِهِ. وَأَمَّا أَعْلَامُ شُعَيْبٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّمَا لَمْ يُنْقُلْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْعُوا حَتَّى يَسْتَدِلُّوا عَلَيْهَا بِالْمُعْجِزَاتِ (1) ، وَلَا كَانَ لَهُمْ شَرِيعَةٌ انْفَرَدُوا بِهَا، بَلْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الرُّسُلِ، كَدَعْوَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَآحَادِ الْعُلَمَاءِ. وَأَمَّا نَقْلُ بَاقِي مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ غَيْرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّمَا تَوَلَّاهُ الْآحَادُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ، بَلْ إِنَّمَا جَرَى مَا جَرَى مِنْهُمْ بِحُضُورِ طَائِفَةٍ يَسِيرَةٍ، وَلَا سِيَّمَا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنَ الْآيَاتِ اللَّيْلِيَّةِ وَقَعَتْ، وَالنَّاسُ بَيْنَ نَائِمٍ وَغَافِلٍ فِي لَمْحِ الْبَصَرِ، وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى رُؤْيَتِهِ وَلَا نَبَّهَهُمْ عَلَى   (1) انْظُرْ هَذِهِ الدَّعْوَى مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) عَطْفًا عَلَى مَعْمُولَيِ الْإِرْسَالِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: (لَقَدْ أَرْسَلَنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) وَعَطْفًا عَلَى مَعْمُولَيِ الْإِرْسَالِ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ هُودٍ: (وَلَقَدْ أَرْسَلَنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) وَانْظُرْهَا أَيْضًا مَعَ قِصَّةِ شُعَيْبٍ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، وَفِيهَا: (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ الْكِفَايَةَ فِي إِبْطَالِ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلَوْ أَجَابَ بِأَنَّهَا لَمْ تُنْقُلِ اكْتِفَاءً بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ الصَّادِقِ، وَلِلْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ بِرِسَالَتِهِ لَكَانَ أَبْعَدَ لَهُ عَنِ الْمَزَالِقِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 ذَلِكَ سِوَى مَنْ رَآهُ مِنَ النَّفَرِ الْيَسِيرِ (1) . وَلِهَذَا، فَإِنَّهُ كَمْ مِنْ أَمْرٍ مَهُولٍ يَقَعُ فِي اللَّيْلِ، مِنْ زَلْزَلَةٍ أَوْ صَاعِقَةٍ أَوْ رِيحٍ عَاصِفٍ أَوِ انْقِضَاضِ شِهَابٍ عَظِيمٍ، وَلَا يَشْعُرُ بِهِ سِوَى الْآحَادِ (2) . وَهَذَا بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَدِّدُهُ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي جَمِيعِ عُمْرِهِ، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فِي زَمَانِهِ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَهُ وَشَاهَدَهُ. فَلِذَلِكَ اسْتَحَالَ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى عَدَمِ نَقْلِهِ (3) . وَأَمَّا دُخُولُ مَكَّةَ، فَقَدْ نَقَلَهُ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ، وَهُوَ مُسْتَفِيضٌ مَشْهُورٌ، أَنَّهُ دَخَلَهَا عَنْوَةً مُتَسَلِّحًا بِالْأَلْوِيَةِ وَالْأَعْلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، مَعَ بَذْلِ الْأَمَانِ لِمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ، وَاعْتَصَمَ بِالْكَعْبَةِ وَدَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَإِنَّمَا خَالَفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ لَمَّا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِأَدَاءِ دِيَةِ مَنْ قَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَا يَبْعُدُ ظَنُّ ذَلِكَ مِنَ الْآحَادِ.   (1) لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ حَنِينَ الْجِذْعِ كَانَ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ عَظِيمٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَنَبْعَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِحَضْرَةِ الْجَيْشِ، وَقَدِ انْتَفَعُوا بِالْمَاءِ شُرْبًا وَطَهَارَةً وَتَزَوَّدُوا مِنْهُ، وَزَالَتْ بِهِ شِدَّتُهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ نُقِلَ آحَادًا. (2) مَتَّى سَلِمَ أَنَّ الْقَمَرَ انْشَقَّ، وَأَنَّهُ آيَةٌ قُصِدَ بِهَا إِقَامَةُ الْحُجَّةِ أَوْ تَقْوِيَتُهَا، اسْتَحَالَ فِي حِكْمَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَالنَّاسُ بَيْنَ نَائِمٍ وَغَافِلٍ مُدَّةَ لَمْحِ الْبَصَرِ، دُونَ دَعْوَةٍ لِرُؤْيَتِهِ، وَلَا تَنْبِيهٍ لِمُشَاهَدَتِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ شَاهِدُهُ كَثِيرًا، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ نُقِلَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا، بَلْ مُتَوَاتِرًا مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَتَوَاتَرْ لَفْظًا، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ يُقَالُ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ اسْتَغْنَى بِذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ عَنْ نَقْلِهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ مِنَ الزَّلَازِلِ وَالشُّهُبِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُمَا سُنَنٌ كَوْنِيَّةٌ عَامَّةٌ قَدْ صَارَتْ لِكَثْرَتِهَا عَادِيَّةٌ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا إِثْبَاتَ رِسَالَةٍ أَوْ تَقْوِيَتَهَا، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ أَمْرُهُمَا عَمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالشَّاذُّ مِنْهَا الَّذِي يَسْتَرْعِي الْأَنْظَارَ قَدْ يُنْقَلُ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا. (3) اسْتِحَالَةُ التَّوَاطُؤِ عَلَى عَدَمِ النَّقْلِ تُصَدَّقُ بِالنَّقْلِ تَوَاتُرًا كَالْقُرْآنِ وَنَحْوِهِ، وَاسْتِفَاضَةً كَمَا فِي فَتْحِ مَكَّةَ عَنْوَةً، وَآحَادًا وَهُوَ كَثِيرٌ حَتَّى فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَتَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ؛ إِذِ الْمُسْتَحِيلُ أَلَّا تَنْقُلَهُ أَصْلًا، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وَأَمَّا تَثْنِيَةُ الْإِقَامَةِ وَإِفْرَادُهَا، فَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ كَانَ يُفْرِدُ تَارَةً، وَيُثَنِّي أُخْرَى، فَنَقَلَ كُلٌّ بَعْضَ مَا سَمِعَهُ، وَأَهْمَلَ الْبَاقِيَ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْفُرُوعِ الْمُتَسَامَحِ فِيهَا، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ. وَأَمَّا إِفْرَادُ النَّبِيِّ وَقِرَانُهُ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّمَا نَقَلَهُ الْآحَادُ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ ظُهُورُهُ وَمُنَادَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ (1) . وَأَمَّا نِكَاحُهُ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَرَامٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا يَجِبُ إِظْهَارُهُ، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ بِمَحْضَرِ جَمَاعَةٍ يَسِيرَةٍ، فَلِذَلِكَ انْفَرَدَ بِهِ الْآحَادُ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْأَعْرَابِيِّ وَحْدَهُ. [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ هل يجوز التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ جَوَازُ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ عَقْلًا، خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ (2) وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَدَلِيلُ جَوَازِهِ عَقْلًا: أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُرُودَ الشَّارِعِ بِالتَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ فِي الْعَقْلِ، وَلَا مَعْنًى لِلْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ سِوَى ذَلِكَ. وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ فِي اتِّبَاعِهِ احْتِمَالُ كَوْنِهِ كَاذِبًا أَوْ مُخْطِئًا. وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّعَبُّدِ بِهِ، بِدَلِيلِ اتِّفَاقِنَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمُفْتِي، وَالْعَمَلِ بِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ، مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ عَلَى الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ فِيمَا أَخْبَرَا بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مُحَالًا لِذَاتِهِ عَقْلًا، لَكِنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ   (1) يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْإِفْرَادِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّةِ - وَهِيَ خَفِيَّةٌ - يَتَعَلَّقُ بِالتَّلْبِيَةِ وَهِيَ مِمَّا يُجْهَرُ بِهِ مِنْ أَذْكَارِ الْحَجِّ. يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ حَجَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنِ احْتِجَاجِ كُلِّ طَائِفَةٍ بِطَرَفٍ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَمَعَ ذَلِكَ نُقِلَتْ تَفَاصِيلُهُ آحَادًا مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ " وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ نُقِلَ أَحْيَانًا آحَادًا، وَأَحْيَانًا اسْتِفَاضَةً أَوْ تَوَاتُرًا مَعَ صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالْجَمِيعِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ. (2) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ تَعْلِيقًا ص 171 ج 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 التَّكَالِيفَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، فَلَوْ تَعَبَّدْنَا بِاتِّبَاعِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَإِذَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ بِسَفْكِ دَمٍ، وَاسْتِحْلَالِ بُضْعٍ مُحَرَّمٍ، مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِهِ كَاذِبًا، فَلَا يَكُونُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ مَصْلَحَةٌ بَلْ مَحْضُ مَفْسَدَةٍ، وَهُوَ خِلَافُ وَضْعِ الشَّرْعِ. وَلِهَذَا امْتُنِعَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ؛ وَمَعْنَاهُ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِجْمَاعًا (1) . وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّعَبُّدِ بِالْعَمَلِ بِقَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْخَبَرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تُقْبَلُ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الصُّلْحُ، وَلَا كَذَلِكَ الْخَبَرُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ فَكَانَتِ الْمَفْسَدَةُ فِي الشَّهَادَةِ أَبْعَدَ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ شَرْعٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ الشَّهَادَةِ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ، وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ لَا مُثْبِتٌ، بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّهُ عِنْدَكُمْ دَلِيلٌ مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ. ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا أَنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْمَنْقُولُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ، فَمِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الرَّسُولِ عِنْدَ ظَنِّنَا بِصِدْقِهِ، لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مَصْلَحَةً، لَجَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَلِكَ دُونَ اقْتِرَانِ الْمُعْجِزَةِ بِقَوْلِهِ مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْفُرُوعِ، لَجَازَ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي   (1) إِذَا تَوَفَّرَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ شُرُوطُ الْقَبُولِ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ، فَاحْتِمَالُ كَذِبِهِ لَغْوٌ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ سَفْكُ الدِّمَاءِ وَاسْتِحْلَالُ الْفُرُوجِ وَنَحْوُهُمَا اسْتِنَادًا إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ مَصْلَحَةً، وَلَا مَفْسَدَةَ تَشُوبُهُ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَفْسَدَةً مَحْضَةً، وَأَمَّا امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ فَلِرُجْحَانِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ أَوِ الْغَلَطِ فِيهِ، أَوْ تَسَاوِي الِاحْتِمَالَاتُ لَا لِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ ذَلِكَ وَلَوْ مَرْجُوحًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 الْأُصُولِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ (1) . الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لَجَازَ التَّعَبُّدُ بِهِ فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ قَدْ تَتَعَارَضُ، فَلَوْ وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِالْعَمَلِ بِهَا، لَكَانَ وَارِدًا بِالْعَمَلِ بِمَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ ضَرُورَةَ التَّعَارُضِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الشَّارِعِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَأَفْعَالِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ فِي الْكَلَامِيَّاتِ (2) . الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ (3) وَقَوْلِ الْمُفْتِي، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفُرُوقِ فَبَاطِلَةٌ، أَمَّا الْفَرْقُ الْأَوَّلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ فِي الْأَخْبَارِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالشَّهَادَةِ فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الصُّلْحُ، كَالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ (4) . وَأَمَّا الْفَرْقُ الثَّانِي: فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخَبَرَ كَمَا يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يَسْتَلْزِمُ إِثْبَاتَ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ وُجُوبُ الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا بُدَّ عِنْدَ الشَّهَادَةِ مِنْ دَلِيلٍ يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهَا، كَمَا فِي الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِالْآيَاتِ، فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:   (1) وَلَيْسَ كَذَلِكَ، هَذِهِ صُغْرَى الدَّلِيلِ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّا نَلْتَزِمُ جَوَازَ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَالْمُخَالِفُونَ فِي ذَلِكَ اسْتَدَلُّوا بِهِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ اسْتِقْرَاءُ كُتُبِهِمْ. انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 282 مِنْ ج 1. وَص 257 ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى. (2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 91 - 94 - 104 مِنْ ج 1. (3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 91 - 94 - 104 مِنْ ج 1. (4) الْجَوَابُ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّ فِي التَّمْثِيلِ بِالدِّمَاءِ نَظَرًا، فَإِنَّهَا قَدْ يَجْرِي فِيهَا الصُّلْحُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الْأَوَّلُ: أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ إِنَّمَا هُوَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَازِمٌ عَلَى الْخُصُومِ فِي اعْتِقَادِهِمُ امْتِنَاعَ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، إِذْ هُوَ مَعْلُومٌ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا لَهُمْ، فَالْآيَاتُ مُشْتَرِكَةُ الدَّلَالَةِ، فَكَمَا تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ اتِّبَاعِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْقَوْلِ بِعَدَمِ اتِّبَاعِهِ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ جِهَاتُ الدَّلَالَةِ فِيهَا، امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِهَا، وَسَلِمَ لَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ (1) . وَعَلَى هَذَا، نَقُولُ بِجَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ عَقْلًا، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَاقِعٍ (2) . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَاتِ الْعَقْلِيَّةِ، فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا عَامٌّ لِلْكُلِّ، وَالثَّانِي خَاصٌّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. أَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِلْزَامًا عَلَيْنَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِقَبُولِ قَوْلِ الشَّاهِدَيْنِ وَالْمُفْتِي، فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ عَنْهُ يَكُونُ جَوَابًا لَنَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا مَا يَخُصُّ كُلَّ مُعَارَضَةٍ: أَمَّا الْأُولَى، فَالْجَوَابُ عَنْهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ دَعْوَى الْوَاحِدِ لِلرِّسَالَةِ وَنُزُولَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنْ أَنْدَرِ الْأَشْيَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَاهُ مَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِدْقِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حُصُولُ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ   (1) هَذَا جَوَابٌ جَدَلِيٌّ إِلْزَامِيٌّ يُرَادُ بِهِ إِسْكَاتُ الْخَصْمِ لَا بَيَانُ الْحَقِّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وَقَوْلِهِ: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) مَا يَشْمَلُ الْإِدْرَاكَ الْجَازِمَ وَالظَّنَّ الرَّاجِحَ، وَالْمُرَادُ بِالظَّنِّ فِي قَوْلِهِ: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) ، وَقَوْلِهِ: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) الْخَرْصُ وَالتَّخْمِينُ وَالْوَهْمُ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. (2) هَذَا مُجَرَّدُ فَرْضٍ، وَتَنَزُّلٍ مَعَ الْخَصْمِ، وَإِلَّا فَغَلَبَةُ الظَّنِّ بِصِدْقِ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ إِنْ حَصَلَتْ فَهِيَ مِمَّا احْتَفَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَالْعَمَلُ مُسْتَنِدٌ حِينَئِذٍ إِلَيْهَا لَا إِلَى مُجَرَّدِ خَبَرِهِمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 بَلِ الَّذِي يُجْزَمُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ كَذِبُهُ، وَنَحْنُ وَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، فَقَدْ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِقَوْلِ مَنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَذِبُهُ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّا إِذَا جَوَّزْنَا وُرُودَ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَوُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى دَلِيلٍ قَاطِعٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ؛ إِذَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِقَوْلِهِ مُعْجِزَةٌ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ بُعِثَ رَسُولٌ، وَظَهَرَتِ الْمُعْجِزَةُ الْقَاطِعَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَهْمَا أَخْبَرَكُمْ إِنْسَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَهُ بِشَرِيعَةٍ، وَظَنَنْتُمْ صِدْقَهُ، فَاعْمَلُوا بِقَوْلِهِ، فَقَدِ اسْتَنَدَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ إِلَى دَلِيلٍ قَاطِعٍ، وَهُوَ قَوْلُ النَّبِيِّ الصَّادِقِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ (1) . قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، مَعَ فَرْضِ هَذَا التَّقْدِيرِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ هُوَ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ اللَّازِمَةَ مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْمُدَّعِي لِلرِّسَالَةِ مِنْ غَيْرِ مُعْجِزَةٍ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ رِئَاسَةَ النُّبُوَّةِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ رِئَاسَةٍ، وَرُتْبَتَهَا أَعْلَى مِنْ كُلِّ رُتْبَةٍ، فَلَوْ وَرَدَ التَّعَبُّدُ بِاتِّبَاعِ كُلِّ مُدَّعٍ لِلرِّسَالَةِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ مِنْ غَيْرِ مُعْجِزَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ، فَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَقَدْ يَسَلُكُ الْمَسَالِكَ الْمُغَلِّبَةَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقَهُ، وَيَتَوَخَّى مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ مَا تَظْهَرُ بِهِ عَدَالَتُهُ، طَمَعًا فِي نَيْلِ مِثْلِ هَذِهِ الرِّئَاسَةِ الْعُظْمَى بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ. وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَدَّعِي نَسْخَ شَرِيعَةِ الْآخَرِ وَرَفْعَهَا عَلَى قُرْبٍ مِنَ الزَّمَانِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي لَا تَحَقُّقَ لِمِثْلِهَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ.   (1) هَذَا مِنَ الْفُرُوضِ الْمَمْقُوتَةِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي الِاسْتِرْسَالُ فِيهَا، وَلَا تَرْتِيبُ حُكْمٍ عَلَيْهَا، وَلَا الْإِجَابَةُ عَنْهَا، فَإِنَّ الْبَحْثَ فِيهَا بَحْثٌ فِي غَيْرِ وَاقِعٍ، وَدُخُولٌ فِيمَا لَا يَعْنِي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الثَّانِيَةُ، فَجَوَابُهَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْأُصُولِ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ، وَلَا قَطْعَ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ، بِخِلَافِ الْفُرُوعِ، فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظُّنُونِ (1) . وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الثَّالِثَةُ، فَجَوَابُهَا أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةُ الرَّسُولِ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهِ قَاطِعًا، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، بِخِلَافِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ مِنْهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ظَنِّيَّةٌ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الرَّابِعَةُ؛ فَجَوَابُهَا أَنَّ التَّعَارُضَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَلِ بِمَا يُرَجَّحُ مِنْهَا. وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ التَّرْجِيحِ مُطْلَقًا، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَبِتَقْدِيرِ امْتِنَاعِ التَّخْيِيرِ، فَغَايَتُهُ امْتِنَاعُ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِمِثْلِ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ.   (1) أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ أُصُولًا وَفُرُوعًا وَعَقِيدَةً وَعَمَلًا كُلٌّ مِنْهَا يَصِحُّ إِثْبَاتُهُ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ مُتَوَاتِرَةً وَآحَادًا قَطْعِيَّةً وَظَنِّيَّةً، فَمَنْ عَلِمَ حُكْمًا عَقِيدَةً أَوَعَمَلًا مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِقَادُهُ فِي دَرَجَتِهِ وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَا يَسَعُهُ إِلْغَاؤُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَا يَتْرُكُهَا سُدًى فِيمَا بَلَغَهَا. انْظُرْ ص 282 ج 1، وَارْجِعْ إِلَى ج 19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَّةَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ الَّذِينَ قَالُوا بِجَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا، اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ؛ كَالْقَاسَانِيِّ وَالرَّافِضَةِ وَابْنِ دَاوُدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ. وَالْقَائِلُونَ بِثُبُوتِهِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَدِلَّةَ السَّمْعِ دَلَّتْ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ وُقُوعِهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، فَأَثْبَتَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْقَفَّالُ وَابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ (1) مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَجَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ. وَنَفَاهُ الْبَاقُونَ. وَفَصَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بَيْنَ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَمَا لَا يَسْقُطُ بِهَا: فَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْأَوَّلِ، وَجَوَّزَهُ فِي الثَّانِي. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً فَقَدِ احْتَجُّوا بِحُجَجٍ ضَعِيفَةٍ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَهِيَ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهَا أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَهِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الْعُقَلَاءُ يَعْلَمُونَ وُجُوبَ الْعِلْمِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمُوا وُجُوبَ ذَلِكَ إِلَّا وَقَدْ عَلِمُوا عِلَّةَ وُجُوبِهِ، وَلَا عِلَّةَ لِذَلِكَ سِوَى أَنَّهُمْ ظَنُّوا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ تَفْصِيلَ جُمْلَةٍ مَعْلُومَةٍ بِالْعَقْلِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ وُجُوبُ التَّحَرُّزِ مِنَ الْمَضَارِّ وَحُسْنِ اجْتِلَابِ الْمَنَافِعِ. فَإِذَا ظَنَنَّا صِدْقَ مَنْ أَخْبَرَنَا بِمَضَرَّةٍ يَلْزَمُنَا أَنْ لَا نَشْرَبَ الدَّوَاءَ الْفُلَانِيَّ، وَأَنْ لَا نَفْصِدَ، وَأَنْ لَا نَقُومَ مِنْ تَحْتِ حَائِطٍ مُسْتَهْدَمٍ، فَقَدْ ظَنَنَّا تَفْصِيلًا لِمَا عَلِمْنَاهُ جُمْلَةً مِنْ وُجُوبِ التَّحَرُّزِ عَنِ الْمَضَارِّ. وَبَيَانُ أَنَّ الْعِلَّةَ لِلْوُجُوبِ مَا ذَكَرَهُ دَوَرَانُهَا مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا، وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا فِي   (1) الْقَفَّالُ هُوَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْكَبِيرُ الشَّاشِيُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ 291، وَمَاتَ 365، وَابْنُ سُرَيْجٍ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سُرَيْجٍ الشَّافِعِيُّ، مَاتَ 306، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الطَّيِّبُ الشَّافِعِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ أَلَّفَ كِتَابَ " الْمُعْتَمَدِ " فِي الْأُصُولِ مَاتَ 263. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 الْجُمْلَةِ وُجُوبَ الِانْقِيَادِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يُخْبِرُنَا بِهِ مِنْ مَصَالِحِنَا وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنَّا. فَإِذَا ظَنَنَّا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَانَا إِلَى الِانْقِيَادِ لَهُ فِي فِعْلٍ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ وَخِلَافُهُ مَضَرَّةٌ، فَقَدْ ظَنَنَّا تَفْصِيلَ مَا عَلِمْنَاهُ فِي الْجُمْلَةِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا أَوَّلًا، فَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، بَلْ غَايَتُهُ إِذَا ظَنَنَّا صِدْقُهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ. وَكَوْنُ الْفِعْلِ أَوْلَى مِنَ التَّرْكِ أَمْرٌ أَعَمُّ مِنَ الْوَاجِبِ لِشُمُولِهِ لِلْمَنْدُوبِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوُجُوبُ (1) . سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِهِ وَاجِبٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّوَرَانِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَدَارَ عِلَّةُ الدَّائِرِ (2) لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْوُجُوبِ غَيْرَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ ظَنِّ تَفْصِيلِ جُمْلَةٍ مَعْلُومَةٍ بِالْعَقْلِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَعْنًا مُلَازِمًا لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَا نَفْسَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّلَازُمِ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ التَّلَازُمُ بَيْنَهُمَا فِي الشَّرْعِيَّاتِ بِجَوَازِ (3) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّلَازُمُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ اتِّفَاقِيًّا. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ الْوُجُوبِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِلَّةً فِي الشَّرْعِيَّاتِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خُصُوصُ مَا ظُنَّ تَفْصِيلَ جُمْلَتِهِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ دَاخِلًا فِي التَّعْلِيلِ، وَتِلْكَ مُحَقَّقَةٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ (4) . سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ بِجِهَةِ عُمُومِهِ، لَكِنْ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا: الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. غَيْرَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي   (1) قَدْ يَكْتَفِي الْمُسْتَدِلُّ بِمَا اقْتَضَاهُ دَلِيلُهُ مِنْ طَلَبِ الْعَمَلِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَلَا يَلْتَزِمُ فِي دَعْوَاهُ خُصُوصُ وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَلْتَزِمُ خُصُوصَ الْوُجُوبِ وَيَكُونُ دَلِيلُهُ مُحَرَّرًا فِيمَا فِي تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ مَضَرَّةٌ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ لَا يُرَادُ الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ. (2) انْظُرْ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْلَكِ الدَّوَرَانِ وَإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِهِ، وَدَلِيلُ كُلٍّ فِي بَابِ الْقِيَاسِ (3) بِجَوَازِ - لَعَلَّهُ لِجَوَازِ. (4) هَذَا الِاعْتِرَاضُ وَالَّذِي قَبْلَهُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، فَلَا يُؤَثِّرُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 الشَّرْعِيَّاتِ (1) . سَلَّمْنَا عَدَمَ الِانْتِقَاضِ، لَكِنْ غَايَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِقِيَاسٍ ظَنِّيٍّ فِي إِفَادَةِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِي الشَّرْعِيَّاتِ مَعَ كَوْنِهِ أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ التَّعَبُّدُ فِي إِثْبَاتِ مِثْلِ ذَلِكَ بِالطُّرُقِ الْيَقِينِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ (2) . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: صِدْقُ الْوَاحِدِ فِي خَبَرِهِ مُمْكِنٌ، فَلَوْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، لَكُنَّا تَارِكِينَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يَقْتَضِيهِ الِاحْتِيَاطُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: صَدَقَ الرَّاوِي، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا وَرَاجِحًا، فَلِمَ قُلْتُمْ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَالِاحْتِيَاطِ (3) بِالْأَخْذِ بِقَوْلِهِ. وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا، وَلَكِنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا شَاهِدَ لَهُ سِوَى خَبَرِ التَّوَاتُرِ (4) وَقَوْلِ الْوَاحِدِ فِي الْفَتْوَى وَالشَّهَادَةِ. وَلَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُفِيدٌ لِلْعِلْمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِفَادَتِهِ لِلْوُجُوبِ إِفَادَةُ الْخَبَرِ الظَّنِّيِّ لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى الثَّانِي، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ مَعْلُومَةٌ، وَهِيَ الْأَصْلُ. وَغَايَةُ قَوْلِ الشَّاهِدِ وَالْمُفْتِي، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ مُخَالَفَةُ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الشَّاهِدِ وَالْمُفْتِي مَعَ مُخَالَفَتِهِ لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالنَّظَرِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُخَالِفِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، بِالنَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْقِيَاسِ، فَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُفِيدٌ لِظَنِّ الْإِلْحَاقِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إِثْبَاتِ الْأُصُولِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي   (1) إِنْ أَرَادَ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ أَوِ الصَّبِيِّ بِمُجَرَّدِهِ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، فَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ وَالشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِمَا احْتَفَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْتَزَمْنَا الْعَمَلَ، لَكِنْ لَمَّا احْتَفَّ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَعَلَيْهِ لَا يَرِدُ خَبَرُهُمَا نَقْضًا. (2) هَذِهِ دَعْوَى خَالَفَهَا الْأُصُولِيُّونَ أَنْفُسُهُمْ، انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 36 - 47 ج 2. (3) جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ مُضْمَرٍ، فُهِمَ مِنْ آخِرِ الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ تَقْدِيرُهُ؛ عَمِلْنَا بِهِ لِلِاحْتِيَاطِ. (4) صَدَقَ الرَّاوِي فِي خَبَرِهِ إِنْ كَانَ رَاجِحًا لَمْ يَحْتَجْ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ إِلَى شَاهِدٍ، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَا يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى شَاهِدِ الِاعْتِبَارِ لَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْمُتَوَاتِرِ وَقَوْلِ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدِ، بَلْ تَكْفِي أَخْبَارُ آحَادٍ أُخْرَى وَقَرَائِنُ أَحْوَالٍ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى قِيَاسِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَبِتَقْدِيرِ الْحَاجَةِ إِلَى الْقِيَاسِ فَقِيَاسُهُ عَلَى الْمُتَوَاتِرِ صَحِيحٌ؛ حَيْثُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِفَادَةُ الْمُتَوَاتِرِ لِلْعِلْمِ وَالْآحَادِ لِلظَّنِّ فَارِقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَإِنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً إِلَّا أَنَّ اسْتِمْرَارَهَا مَظْنُونٌ فَكَيْفَ فِي رَفْعِهِ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ كَالْعِلْمِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا (1) كَيْفَ وَأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِخَبَرِ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ، إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ (2) . الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا إِذَا وَقَعَتْ وَاقِعَةٌ، وَلَمْ يَجْدِ الْمُفْتِي سِوَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَوْ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ لَتَعَطَّلَتِ الْوَاقِعَةُ عَنْ حُكْمِ الشَّارِعِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: خُلُوُّ الْوَاقِعَةِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِهِ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ؛ فَلَا (3) . وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَظْفَرِ الْمُفْتِي فِي الْوَاقِعَةِ بِدَلِيلٍ وَلَا خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ خُلُوُّ الْوَاقِعَةِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْمَصِيرِ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا فَامْتِنَاعُ خُلُوِّ الْوَاقِعَةِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ الظَّفَرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً وَدَلِيلًا، وَكَوْنُهُ حُجَّةً يَتَوَقَّفُ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْوَاقِعَةِ مَعَ وُجُودِهِ عَنِ الْحُكْمِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ. كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ خُلُوَّ الْوَاقِعَةِ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، فَإِنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَدِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ نَفْيُ ذَلِكَ الْحُكْمَ وَمُدْرَكُهُ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ مَدَارِكِ الشَّرْعِ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ مُدْرَكٌ شَرْعِيٌّ لِنَفْيِ الْحُكْمِ.   (1) فِيهِمَا مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا - ص 50، 53. (2) فِيهِمَا مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا - ص 50، 53. (3) الْقَوْلُ بِخُلُوِّ وَقَائِعَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِيهَا تَأْبَاهُ نُصُوصُ الشَّرِيعَةِ، وَإِيتَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ. انْظُرْ ص 280 وَمَا بَعْدَهَا ج 19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَاجِبَ الْقَبُولِ، لَتَعَذَّرَ تَحْقِيقُ بَعْثَةِ الرَّسُولِ إِلَى كُلِّ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى تَعْرِيفِ أَهْلِ عَصْرِهِ إِلَّا بِالْمُشَافَهَةِ أَوِ الرُّسُلِ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الْمُشَافَهَةِ لِلْكُلِّ لِتَعَذُّرِهِ. وَالرِّسَالَةُ مُنْحَصِرَةٌ فِي عَدَدِ التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ، وَالتَّوَاتُرُ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ مُتَعَذَّرٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولًا، لَمَا تَحَقَّقَ مَعْنَى التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فِيمَا أُرْسِلَ بِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، أَنْ لَوْ كَانَ التَّبْلِيغُ إِلَى كُلِّ مَنْ فِي عَصْرِهِ وَاجِبًا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ فِي عَصْرِهِ مُكَلَّفٌ بِمَا بُعِثَ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ إِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِالتَّبْلِيغِ إِلَى مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إِبْلَاغِهِ إِمَّا بِالْمُشَافَهَةِ أَوْ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ (1) . وَكَذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأُمَّةِ إِنَّمَا كُلِّفَ بِمَا أُرْسِلَ بِهِ الرَّسُولُ إِذَا عَلِمَهُ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ؛ فَلَا، وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ فِي الْبِلَادِ النَّائِيَةِ وَالْجَزَائِرِ الْمُنْقَطِعَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِعْلَامِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِتَبْلِيغِهِ، وَلَا ذَلِكَ الشَّخْصُ كَانَ مُكَلَّفًا بِمَا أُرْسِلُ بِهِ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَالُوا قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الرَّسُولِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، فَإِذَا أَخْبَرَ الْوَاحِدُ بِذَلِكَ عَنِ الرَّسُولِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ الْعَمَلُ بِالِاحْتِمَالِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ مَعًا أَوْ تَرْكِهِمَا مَعًا، أَوِ الْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ دُونَ الرَّاجِحِ، أَوْ بِالْعَكْسِ بِالِاحْتِمَالِ لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الرَّابِعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَانِعُ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِ، وَلَا يَجِبُ تَرْكُهُ، بَلْ هُوَ جَائِزُ التَّرْكِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مُخَالَفَةَ أَمْرِ الرَّسُولِ مُوجِبَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ مُسَلَّمٌ فِيمَا عُلِمَ   (1) الْبَلَاغُ وَاجِبٌ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ مُشَافَهَةً أَوْ كِتَابَةً أَوْ بِالرُّسُلِ مُطْلَقًا تَوَاتُرًا أَوَ آحَادًا لَا تَوَاتُرًا فَقَطْ، بِدَلِيلِ مَا تَوَاتَرَ مِنْ بَعْثِهِ لِلرُّسُلِ وَالْوُلَاةِ وَالْمُعَلِّمِينَ لِلْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ آحَادًا، وَمَنْ بَلَغَهُ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ شَرْعُ اللَّهِ أُصُولًا أَوْ فُرُوعًا عِلْمًا أَوْ ظَنًّا غَالِبًا وَجَبَ عَلَيْهِ اعْتِقَادُهُ وَالْعَمَلُ بِمَا اقْتَضَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 فِيهِ أَمْرُ الرَّسُولِ، وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ (1) فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. هَذَا مَا قِيلَ مِنَ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ مِنَ الْحُجَجِ النَّقْلِيَّةِ الْوَاهِيَةِ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ فِرْقَةٍ خَرَجَتْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ إِلَى قَوْمِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (2) أَمَرَ بِالْإِنْذَارِ، وَالْإِنْذَارُ هُوَ الْإِخْبَارُ (3) وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِنْذَارِ طَلَبًا لِلْحَذَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَ (لَعَلَّ) ظَاهِرَةٌ فِي التَّرَجِّي (4) وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَتَعَيَّنَ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّرَجِّي، وَهُوَ الطَّلَبُ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِنْذَارِ طَلَبًا لِلتَّحْذِيرِ، فَكَانَ أَمْرًا بِالتَّحْذِيرِ فَكَانَ الْحَذَرُ وَاجِبًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِخْبَارَ كُلِّ طَائِفَةٍ مُوجِبٌ لِلْحَذَرِ، فَالْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ " الطَّائِفَةِ " إِنَّمَا هُوَ الْعَدَدُ الَّذِي لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ. وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الطَّائِفَةِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى عَدَدٍ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، كَالِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَعَلَى الْعَدَدِ الْمُنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ اتِّحَادِ الْمُسَمَّى؛ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ. وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ وَمَا لَازَمَهُ، فَكَانَ هُوَ الْمُسَمَّى.   (1) مُخَالَفَةُ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوجِبَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ، فِيمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ وَجُوبُهُ، كَمَا أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِذَلِكَ فِيمَا عُلِمَ وُجُوبُهُ حَتَّى عِنْدَ الْآمِدِيِّ وَمَنْ عَلَى طَرِيقِهِ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ وُجُوبَ عَمَلِ الْمُكَلَّفِ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ قَطْعِيٌّ. (2) فِي الْآيَةِ مَعْنَيَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللَّهَ حَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ تَنْفِرَ مَنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لِتَتَفَقَّهَ فِي دِينِهَا وَتُنْذِرَ مَنْ لَمْ يَنْفِرْ إِذَا رَجَعَتْ إِلَيْهِمْ، لِيَحْذَرُوا الْمَعَاصِيَ وَالتَّفْرِيطَ بِالْوَاجِبِ. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ اللَّهَ حَثَّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنْ تَنْفِرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِلْجِهَادِ وَنَحْوِهِ لِتَتَفَقَّهَ الَّتِي بَقِيَتْ، وَتُنْذِرَ الَّتِي خَرَجَتْ عِنْدَ عَوْدَتِهَا؛ لِتَحْذَرَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ وَالتَّفْرِيطَ فِيمَا وَجَبَ لَهُ عَلَيْهِمْ. (3) الْإِنْذَارُ: الْإِخْبَارُ بِمُخَوِّفٍ. (4) لَعَلَّ هُنَا لِلتَّعْلِيلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 الثَّانِي: أَنَّ الثَّلَاثَةَ فِرْقَةٌ، فَالطَّائِفَةُ الْخَارِجَةُ مِنْهَا إِمَّا وَاحِدٌ أَوِ اثْنَانِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ لَفْظِ " الطَّائِفَةِ " الَّتِي وَجَبَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ لِلتَّفَقُّهِ وَالْإِنْذَارِ الْعَدَدَ الَّذِي يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، أَوْ مَا دُونَهُ لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ وَأَهْلِ بَلْدَةٍ، إِذَا كَانَ مَا دُونَهُمْ لَا يَنْتَهُونَ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، أَنْ يَخْرُجُوا بِأَجْمَعِهِمْ لِلتَّفَقُّهِ وَالْإِنْذَارِ، وَذَلِكَ لَا قَائِلَ بِهِ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ، وَلَا فِي عَصْرِ مَنْ بَعْدَهُ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الثَّانِي. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ إِخْبَارَ الْعَدَدِ الَّذِي لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي غَيْرِهَا؛ ضَرُورَةَ أَنْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ. وَصِيغَةُ قَوْلِهِ: (لِيُنْذِرُوا) لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لِلْأَمْرِ (1) . وَإِنْ كَانَتْ لِلْأَمْرِ فَلَا نُسَلِّمُ لِلْوُجُوبِ عَلَى مَا يَأْتِي (2) . سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلْوُجُوبِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِخْبَارُ، بَلْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّخْوِيفَ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ تَرْكِهِ، بِنَاءً عَلَى الْعِلْمِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ. وَالتَّخْوِيفُ خَارِجٌ عَنِ الْإِخْبَارِ (3) .   (1) بَلْ يَجِبُ أَنْ تُنْذِرَ كُلُّ طَائِفَةٍ قَوْمَهَا إِلَّا إِذَا سَبَقَهَا غَيْرُهَا بِالْبَلَاغِ وَالتَّعْلِيمِ، بِدَلِيلِ مَا فِي الْآيَةِ مِنَ التَّحْضِيضِ، وَمَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْبَلَاغِ وَصِيغَةُ " لِيَتَفَقَّهُوا " أَوْ " لِيُنْذِرُوا "، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صِيغَةَ أَمْرٍ، لَكِنَّهَا لِتَعْلِيلِ التَّحْضِيضِ عَلَى نَفَرِ طَائِفَةٍ وَبَقَاءِ أُخْرَى، فَكَانَ كُلٌّ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ مَقْصُودًا بِالْإِيجَابِ أَوَّلًا، وَكَانَ نَفَرُ طَائِفَةٍ وَبَقَاءُ أُخْرَى مَقْصُودًا بِالْقَصْدِ الثَّانِي؛ أَيْ: قَصْدِ الْوَسَائِلِ. (2) سَيَأْتِي لَهُ أَيْضًا فِي مَسَائِلِ الْأَوَامِرِ تَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَإِنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ مِنَ الْقَرَائِنِ، وَالتَّخْصِيصُ فِي الْآيَةِ احْتَفَّتْ بِهِ قَرَائِنُ تُعَيِّنُ الْوُجُوبَ، وَهِيَ أَدِلَّةُ وُجُوبِ الْبَلَاغِ. (3) تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِنْذَارَ: إِخْبَارٌ بِمُخَوِّفٍ مِنْ فَوْتِ مَصْلَحَةٍ، أَوْ تَوَقُّعِ مَضَرَّةٍ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ مِنَ الشَّرْعِ، فَكَانَ التَّخْوِيفُ بِهَا إِخْبَارًا عَنِ الشَّرْعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِخْبَارُ، وَلَكِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى فِي الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ (1) وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِخْبَارُ عَنِ الرَّسُولِ بِمَا سُمِعَ عَنْهُ وَمِنْهُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ إِيجَابِ الْإِخْبَارِ بِذَلِكَ إِيجَابُ الْحَذَرِ عَلَى مَنْ أَخْبَرَ (2) . قَوْلُكُمْ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَعَلَّ) عَلَى طَلَبِ الْحَذِرِ لِكَوْنِهِ مُلَازِمًا لِلتَّرَجِّي. قُلْنَا: الطَّلَبُ الْمُلَازِمُ لِلتَّرَجِّي الطَّلَبُ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى مَيْلِ النَّفْسِ أَوْ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَكِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحَذَرُ مَأْمُورًا بِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا (3) . وَمَعَ تَطَرُّقِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِي خَارِجٍ عَنْ بَابِ الظُّنُونِ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأُصُولِ، وَالْخَصْمُ مَانِعٌ لِصِحَّتِهِ (4) . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَّقَ وُجُوبَ التَّثَبُّتِ عَلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ بِخِلَافِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْجَزْمِ بِرَدِّهِ أَوْ بِقَبُولِهِ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ الْأَوَّلُ، وَإِلَّا كَانَ خَبَرُ الْعَدْلِ أَنْزَلَ دَرَجَةً مِنْ خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَهُوَ مُحَالٌ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ سَاعِيًا إِلَى قَوْمٍ، فَعَادَ وَأَخْبَرَ   (1) الْإِنْذَارُ عَامٌّ لِحَذْفِ مَفْعُولِهِ، فَيَشْمَلُ الْإِنْذَارَ بِالنَّهْيِ وَبِالْفَتْوَى، فَحَمْلُهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْفَتْوَى تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ بِلَا دَلِيلٍ. (2) لَعَلَّ: التَّعْلِيلُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا وَجَبَ إِنْذَارُهُمْ لِيَحْذَرُوا كَانَ حَذَرُهُمْ وَاجِبًا بِالْأَوْلَى. (3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا. (4) تَقَدَّمَ رَدُّ الِاحْتِمَالَاتِ، فَتَمَّ دَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِخْبَارَ الْآحَادِ حُجَّةٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ، فَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ، فَإِنَّ قَوَاعِدَ الْأُصُولِ مِنْهَا قَطْعِيَّةٌ وَظَنِّيَّةٌ، وَهُمْ يَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهَا بِأَدِلَّةٍ ظَنِّيَّةٍ، بَلْ وَهْمِيَّةٍ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ تُفِيدُ بِمَجْمُوعِهَا الْقَطْعَ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا ظَنِّيَّةً كَمَا سَيَجِيءُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِينَ بَعَثَهُ إِلَيْهِمْ قَدِ ارْتَدُّوا، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَأَجْمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَزْوِهِمْ وَقَتْلِهِمْ» . وَذَلِكَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ: وَكَانَ النَّبِيُّ قَدْ أَرَادَ الْعَمَلَ فِيهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا لَمَا أَرَادَهُ وَلَأَنْكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ أَيْضًا ضَعِيفَةٌ؛ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَسَنُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، (1) ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً، لَكِنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي بَابِ الْأُصُولِ (2) . وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّبِيَّ أَجْمَعَ عَلَى قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ بِخَبَرِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَأَمَرَهُ بِالتَّثَبُّتِ فِي أَمْرِهِمْ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا فَبَعَثَ عُيُونَهُ، فَعَادُوا إِلَيْهِ وَأَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُمْ سَمِعُوا أَذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا، أَتَاهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَرَأَى مَا يُعْجِبُهُ مِنْهُمْ، فَرَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ» . الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْأُصُولِ (3) . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وَوَجْهُ الْحُجَّةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُخْبِرَ بِخَبَرٍ لَنَا عَنِ الرَّسُولِ شَاهِدٌ عَلَى النَّاسِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ اللَّهُ شَاهِدًا عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْآيَةُ خِطَابٌ مَعَ الْأُمَّةِ لَا مَعَ الْآحَادِ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ. وَوَجْهُ الْحُجَّةِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَعَّدَ عَلَى كِتْمَانِ الْهُدَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ إِظْهَارِ الْهُدَى، وَمَا يَسْمَعُهُ الْوَاحِدُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنَ الْهُدَى، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ، فَلَوْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْنَا قَبُولُهُ، لَكَانَ الْإِظْهَارُ كَعَدَمِهِ، فَلَا يَجِبُ.   (1) مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ خِلَافٌ إِلَّا أَنَّهُ فِي الْآيَةِ شَهِدَتْ لَهُ الْفِطْرَةُ وَالْعَمَلُ الْمُسْتَمِرُّ مِنْ عَهْدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَوْمِ، فَالْحَيَاةُ عَامَّةٌ قَائِمَةٌ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ خَبَرِ الْعَدْلِ وَالْفَاسِقِ، حَتَّى عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ. (2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِمَا تَعْلِيقًا ص 36 - 47 - 50 ج 2. (3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِمَا تَعْلِيقًا ص 36 - 47 - 50 ج 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْعَدَدَ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَا دُونَ ذَلِكَ (1) . وَبِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ مَا دُونَ ذَلِكَ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِمَا أَنْزَلَ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الْكِتَابَ الْعَزِيزَ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ (2) وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ كُلَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ حَتَّى السُّنَّةِ، فَغَايَةُ التَّهْدِيدِ عَلَى كِتْمَانِ ذَلِكَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ إِظْهَارِ مَا سُمِعَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِهِ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ عَلَى لِسَانِ الْآحَادِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ يَجِبُ عَلَى الْفَاسِقِ إِظْهَارُ مَا سَمِعَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى سَامِعِهِ قَبُولُهُ (3) . وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ الْإِظْهَارِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ، حَتَّى يَتَأَلَّفَ مِنْ خَبَرِ الْمَجْمُوعِ التَّوَاتُرُ الْمُفِيدُ لِلْعِلْمِ (4) . وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَدَلَالَةُ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً فِي الْأُصُولِ لِمَا سَبَقَ (5) . وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَمْرٌ بِسُؤَالِ أَهْلِ الذِّكْرِ؛ وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَغَيْرِهِ. وَسُؤَالُ الْمُجْتَهِدِ لِغَيْرِهِ   (1) يُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ كُلًّا مِنَ الْأَمْرَيْنِ حَمْلًا لِاسْمِ الْمَوْصُولِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْعُمُومِ. (2) إِنْ دَخَلَتِ السُّنَّةُ فِي عُمُومِ الْمَنْزِلِ لَفْظًا فَبِهَا، وَإِلَّا فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ إِذِ الْكُلُّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ الَّذِي أَرْسَلَهُ، فَيَشْمَلُ الْوَعِيدَ مَنْ كَتَمَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ. (3) إِذَا حَرُمَ الْكِتْمَانُ وَجَبَ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ الْوَحْيُ قَبُولُهُ اعْتِقَادًا لِتَشْرِيعِهِ، وَعَمَلًا بِمُوجِبِهِ فِي دَرَجَتِهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ إِلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا تَخَلَّفَ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ لِفَقْدِ شَرْطِ الْقَبُولِ، لَا لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِ وُجُوبِ الْبَلَاغِ لَهُ، وَعَلَى الْفَاسِقِ تَأْهِيلُ نَفْسِهِ بِالتَّوْبَةِ لِيَلْزَمَ قَبُولُ بَلَاغِهِ. (4) الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْبَلَاغِ أَنْ يَكُونَ لِإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِتَقْوِيَةِ خَبَرٍ بِمَا انْضَمَّ إِلَيْهِ، فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ. (5) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 مُنْحَصِرٌ فِي طَلَبِ الْإِخْبَارِ بِمَا سَمِعَهُ دُونَ الْفَتْوَى، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقَبُولُ وَاجِبًا، لَمَا كَانَ السُّؤَالُ وَاجِبًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: " فَاسْأَلُوا " صِيغَةُ أَمْرٍ (1) ، وَإِنْ كَانَتْ أَمْرًا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا لِلْوُجُوبِ، كَمَا يَأْتِي. وَإِنْ كَانَتْ لِلْوُجُوبِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ أَهْلِ الذِّكْرِ أَهْلَ الْعِلْمِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْفَتْوَى (2) . وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ السُّؤَالَ عَنِ الْخَبَرِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ السُّؤَالِ الْعِلْمَ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ وَهُوَ الظَّاهِرُ (3) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ السُّؤَالَ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلْمِ. فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَطْلُوبُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالسُّؤَالِ، لَكَانَ السُّؤَالُ وَاجِبًا بَعْدَ حُصُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ (4) ، لِعَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ غَيْرَ الظَّنِّ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرٍ غَيْرُ وَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِهِ مَعَ وُجُوبِ السُّؤَالِ عَنْ غَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْعِلْمِ مِنَ السُّؤَالِ، فَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، لَا بِمَا دُونَهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ السُّؤَالَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاجِبًا، بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُجَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (5) .   (1) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ، وَسَيَأْتِي الرَّدُّ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ مَبَاحِثِ الْأَمْرِ. (2) الْمُرَادُ بِأَهْلِ الذِّكْرِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنُّصُوصِ وَبِفِقْهِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ النَّصُّ وَالْفَتْوَى عَمَلًا بِالْعُمُومِ؛ حَيْثُ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ. (3) بَلِ الظَّاهِرُ الْعُمُومُ، فَيُرَادُ بِالْعِلْمِ فِي الْآيَةِ مَا يَشْمَلُ الْإِدْرَاكَ الْجَازِمَ وَالرَّاجِحَ، فَيَكُونُ السُّؤَالُ لِتَحْصِيلِ أَحَدِهِمَا، إِمَّا بِمُتَوَاتِرٍ أَوْ آحَادٍ، وَعَلَيْهِ لَا يَكُونُ السُّؤَالُ وَاجِبًا بَعْدَ الْحُصُولِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، لِكِفَايَتِهِ فِي تَحْقِيقِ الْمَطْلُوبِ. (4) كَأَنَّ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ تَحْرِيفًا، وَلَعَلَّ الْأَصْلَ: فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمَطْلُوبُ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالسُّؤَالِ لَمَا كَانَ وَاجِبًا بَعْدَ حُصُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، لَكِنَّهُ وَاجِبٌ بِنَصِّ الْآيَةِ لِعَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ بِخَبَرِهِ. . إِلَخْ. (5) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ صَدْرَ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَةَ الَّتِي بَعْدَهَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي إِثْبَاتِ أَصْلٍ مِنَ الْأُصُولِ، وَهُوَ الرِّسَالَةُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وَبِتَقْدِيرِ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ، لَكِنَّهَا دَلَالَةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا فِي الْأُصُولِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَمَنْ أَخْبَرَ عَنِ الرَّسُولِ بِمَا سَمِعَهُ مِنْهُ، فَقَدْ قَامَ بِالْقِسْطِ وَشَهِدَ لِلَّهِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا إِنْ لَوْ كَانَ الْقَبُولُ وَاجِبًا، وَإِلَّا كَانَ وُجُودُ الشَّهَادَةِ كَعَدَمِهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا أُسَلِّمُ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقِيَامِ بِالْقِسْطِ وَالشَّهَادَةِ لِلَّهِ عَلَى مَا يَأْتِي، وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهَا عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ وَالْقِيَامَ بِالْقِسْطِ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فَلَا يَكُونُ قِيَامًا بِالْقِسْطِ وَلَا شَهَادَةً لِلَّهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ فِي وُجُوبِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ. عَلَى أَنَّهُ قَامَ بِالْقِسْطِ وَأَنَّهُ شَاهِدٌ لِلَّهِ، وَقِيَامُهُ بِالْقِسْطِ وَشَهَادَتُهُ لِلَّهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى قَبُولِ خَبَرِهِ وَجَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ شَهِدَ لِلَّهِ وَقَامَ بِالْقِسْطِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ وَاجِبُ الْقَبُولِ؛ وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ، وَبِتَقْدِيرِ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَبُولِ، وَلَكِنْ لِجِهَةِ الظَّنِّ فَلَا يَصِحُّ (1) . وَمِنْهَا مَا اشْتُهِرَ وَاسْتَفَاضَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُنْفِذُ آحَادَ الصَّحَابَةِ إِلَى النَّوَاحِي وَالْقَبَائِلِ وَالْبِلَادِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَقَبْضِ الزَّكَوَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، مَعَ عِلْمِنَا بِتَكْلِيفِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالِانْقِيَادِ لِقَبُولِ قَوْلِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا يَقُولُ مَعَ كَوْنِ الْمُنَفِّذِ مِنَ الْآحَادِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.   (1) يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ تَعْلِيقًا، وَبِالْجُمْلَةِ فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ مِنَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا لَمْ تَفِدِ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ مُتَفَرِّدَةً، فَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ ذَلِكَ؛ إِذْ لِلِاجْتِمَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ مَا لَيْسَ لِلِانْفِرَادِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَفَادَ كُلٌّ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالِاسْتِقْرَاءِ الْيَقِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ سَلَّمْنَا تَنْفِيذَ الْآحَادِ بِطَرِيقِ الرِّسَالَةِ وَالْقَضَاءِ وَأَخْذِ الزَّكَوَاتِ وَالْفَتْوَى وَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ، فَلَا نُسَلِّمُ وُقُوعَ تَنْفِيذِ الْآحَادِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي هِيَ مَدَارِكُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِيَجْتَهِدُوا فِيهَا (1) وَذَلِكَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. سَلَّمْنَا صِحَّةَ التَّنْفِيذِ بِالْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَتَعْرِيفِهِمْ إِيَّاهَا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ حُجَّةً، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِفَائِدَةِ حُصُولِ الْعِلْمِ لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ بِمَا تَوَاتَرَ بِضَمِّ خَبَرٍ غَيْرِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ إِلَيْهِ (2) . وَمَعَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ سُؤَالَانِ آخَرَانِ لَا وَجْهَ لَهُمَا: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَنَّهُ كَانَ يُنْفِذُ الْآحَادَ لِتَبْلِيغِ الْأَخْبَارِ، كَانَ يُنْفِذُهُمْ لِتَعْرِيفِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْرِيفِ الرِّسَالَةِ. فَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً فِي الْإِخْبَارِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لَكَانَ حُجَّةً فِي تَعْرِيفِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ (3) . الثَّانِي: أَنَّ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ تَنْفِيذُ الْآحَادِ بِالْإِخْبَارِ عَنْ أَحْكَامٍ شَرْعِيَّةٍ كَانَتْ مَعْلُومَةً لِلْمَبْعُوثِ لَهُمْ قَبْلَ إِرْسَالِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ بِهَا، كَمَا أَنَّهُمْ عَلِمُوا وُجُوبَ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهَلْ إِرْسَالُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَصْلِكُمْ.   (1) يَكْفِي فِي رَدِّ هَذَا الِاعْتِرَاضِ أَنَّهُ دَعْوَى يُكَذِّبُهَا الْوَاقِعُ، فَقَدْ أَرْسَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآحَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ لِإِبْلَاغِ الْأَخْبَارِ؛ بَلْ لِتَحْفِيظِ الْقُرْآنِ، وَمَنِ اسْتَقْرَأَ بَعْثَ الْوُلَاةِ وَالدُّعَاةِ كَفَاهُ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ تِلْكَ الدَّعْوَى. (2) يَرَدُّ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يَتَوَقَّفُوا عَنِ الْعَمَلِ بِمَا بَلَغَهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ حَتَّى يَتَوَاتَرَ، وَلَمْ يُنْكِرِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا غَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ. (3) يُجَابُ بِتَسْلِيمِ الْمُلَازَمَةِ، فَنَقُولُ بِصَلَاحِيَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ لِتَعْرِيفِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ وَإِثْبَاتِهِمَا، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ، بَلْ فِيهِ خِلَافٌ، وَالنُّصُوصُ تَشْهَدُ لِمَنْ قَالَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ فِي إِثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا وَأَيْضًا كُلُّ مَا طُلِبَ الْعَمَلُ بِهِ مَسْبُوقٌ بِاعْتِقَادِ مَشْرُوعِيَّتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ إِنْفَاذَ الْآحَادِ لِتَعْرِيفِ التَّوْحِيدِ وَالرِّسَالَةِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبَ الْقَبُولِ، لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ وَاجِبَ الْقَبُولِ مِنْ جِهَةِ مَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَيُعَرِّفُهُمْ مِنَ الدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي تَشْهَدُ بِصِحَّتِهَا عُقُولُهُمْ (1) وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا عَالِمِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ، لَمَا احْتِيجَ إِلَى إِرْسَالِهِ لِتَعْرِيفِهِمْ لِمَا قَدْ عَرَفُوهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، كَيْفَ وَإِنَّ تَعْرِيفَ الْمَعْلُومِ بِالْخَبَرِ الْمَظْنُونِ مُحَالٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا عُلِمَ كَوْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِمَّا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّ تَنْفِيذَ الْوَاحِدِ لَا يُعْرَفُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ بَلْ إِنَّمَا يُعْرَفُ الْمُخْبَرُ بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا قَبْلَ خَبَرِهِ، فَكَانَ تَنْفِيذُهُ لِتَعْرِيفِ ذَلِكَ مُفِيدًا. وَالْأَقْرَبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِنَّمَا هُوَ التَّمَسُّكُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْوَقَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْعَدِّ وَالْحَصْرِ، الْمُتَّفِقَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ عَمِلَ بِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ، «أَنَّ النَّبِيَّ أَطْعَمَهَا السُّدُسَ» ، فَجَعَلَ لَهَا السُّدُسَ. وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنَ الْمَجُوسِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» " وَعَمِلَ أَيْضًا بِخَبَرِ حَمْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْجَنِينِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «كُنْتُ بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي (يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ) فَضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِمِسْطَحٍ، فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيْتًا، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ» ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ لَمْ نَسْمَعْ بِهَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كِدْنَا نَقْضِي فِيهِ بِرَأْيِنَا. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَوْرِيثَ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا، فَأَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَتِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِ» .   (1) هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا تَقَدَّمَ، فَالْحُجَّةُ إِنَّمَا قَامَتْ بِالْأَدِلَّةِ النَّقْلِيَّةِ، وَإِلَّا كَانُوا مُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، أَوْ بُلُوغِهِ لِمُجَرَّدِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى فِي الْأَصَابِعِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَيُفَاضِلُ بَيْنَهَا فَيَجْعَلُ فِي الْخِنْصَرِ سِتَّةً، وَفِي الْبِنْصِرِ تِسْعَةً، وَفِي الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ عَشَرَةً، وَفِي الْإِبْهَامِ خَمْسَةَ عَشْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى خَبَرِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشَرَةٌ» . وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِخَبَرِ فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ فِي اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا، وَهُوَ أَنَّهَا قَالَتْ: «جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِي أَسْتَأْذِنُهُ فِي مَوْضِعِ الْعِدَّةِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْكُثِي حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُكِ» . وَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ عَمَلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَوْلُهُ: كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، وَإِذَا حَدَّثَنِي غَيْرُهُ حَلَّفْتُهُ فَإِذَا حَلَفَ صَدَّقْتُهُ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي الرِّبَا فِي النَّقْدِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ لَا يَحْكُمُ بِالرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بِخَبَرِ امْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَنَّ الْحَائِضَ تَنْفِرُ بِلَا وَدَاعٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ أَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَأَبَا عُبَيْدَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيخِ التَّمْرِ إِذْ أَتَانَا آتٍ فَقَالَ إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ» ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: قُمْ يَا أَنَسُ إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى مِهْرَاسٍ لَنَا فَضَرَبْتُهَا بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ. وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ أَهْلُ قُبَاءٍ فِي التَّحَوُّلِ مِنَ الْقِبْلَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ نُسِخَتْ، فَالْتَفَتُوا إِلَى الْكَعْبَةِ بِخَبَرِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذِبَ عَدُوُّ اللَّهِ. أَخْبَرَنِي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: «خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» ثُمَّ ذَكَرَ مُوسَى وَالْخَضِرَ بِشَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ صَاحِبُ الْخَضِرِ، فَعَمِلَ بِخَبَرِ أُبَيٍّ حَتَّى كَذَّبَ الرَّجُلَ وَسَمَّاهُ عَدُوَّ اللَّهِ.   (1) أَثَرُ اسْتِحْلَافِ عَلِيٍّ لِمَنْ حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصِحَّ. انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَرْجَمَةِ أُسَامَةَ بْنِ الْحَكَمِ الْفَزَارِيِّ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا «بَاعَ مُعَاوِيَةُ شَيْئًا مِنْ أَوَانِي ذَهَبٍ وَوَرَقٍ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ» ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ مُعَاوِيَةَ، أُخْبِرُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْبِرُنِي عَنْ رَأْيِهِ، لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَبَدًا. وَمِنْ ذَلِكَ عَمِلَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مِنْ قَوْلِهِ: " «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» "، وَمِنْ قَوْلِهِ: " «الْأَنْبِيَاءُ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ» "، وَمِنْ قَوْلِهِ: " «نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» ". وَعَمَلُهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فِي الرُّجُوعِ عَنْ سُقُوطِ فَرْضِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: «فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْتَسَلْنَا» . وَعَمِلَ جَمِيعُهُمْ بِخَبَرِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي الْمُخَابَرَةِ، وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَّةً لَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ» فَانْتَهَيْنَا (1) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى عَدَدًا، وَكَانَ ذَلِكَ شَائِعًا ذَائِعًا فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَعَلَى هَذَا جَرَتَ سُنَّةُ التَّابِعِينَ، كَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَخَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، وَطَاوُسٍ وَعَطَاءِ بْنِ مُجَاهِدٍ (2) وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَفُقَهَاءِ الْحَرَمَيْنِ وَالْمِصْرَيْنِ (يَعْنِي الْكُوفَةَ وَالْبَصْرَةَ) إِلَى حِينِ ظُهُورِ الْمُخَالِفِينَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْأَخْبَارِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةَ أَخْبَارِ آحَادٍ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.   (1) أَشَارَ الْآمِدِيُّ كَكَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ إِلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا السَّلَفُ، وَرَجَعُوا إِلَيْهَا فِي الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يَذْكُرْ نَصَّهَا خَشْيَةَ الطُّولِ، فَمَنْ أَرَادَ نُصُوصَهَا مَعَ أَسَانِيدِهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنَ الرِّسَالَةِ لِلشَّافِعِيِّ، وَالْكُتُبِ السِّتَّةِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ أَيْضًا صَحِيحُهَا مِنْ سَقِيمِهَا. (2) طَاوُسٌ هُوَ ابْنُ كَيْسَانَ الْيَمَانِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُمَيْدِيُّ الْجُنْدِيُّ، وَقِيلَ اسْمُهُ ذَكْوَانُ، وَطَاوُسٌ لَقَبٌ، مَاتَ حَوَالَيْ 106 هـ، وَعَطَاءٌ هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ الْقُرَشِيُّ، وَمُجَاهِدٌ هُوَ ابْنُ جَبْرٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 سَلَّمْنَا عَدَمَ الدَّوْرَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ عَمِلُوا بِهَا، بَلْ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِنُصُوصٍ مُتَوَاتِرَةٍ أَوْ بِهَا مَعَ مَا اقْتُرِنَ بِهَا مِنَ الْمَقَايِيسِ، أَوْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهَا لَا غَيْرَ، لَكِنْ كُلُّ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضُهُمْ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا حُجَّةَ فِيهِ. قَوْلُكُمْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا رَدُّ أَبِي بَكْرٍ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى انْضَمَّ إِلَيْهِ خَبَرُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَمِنْهَا رَدُّ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ خَبَرَ عُثْمَانَ فِي إِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَدِّ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ. وَمِنْهَا رَدُّ عُمَرَ خَبَرَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فِي الِاسْتِئْذَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ عَلَى صَاحِبِهِ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، فَلْيَنْصَرِفْ» " حَتَّى رَوَى مَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ. وَمِنْهَا رَدُّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَبَرَ أَبِي سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي الْمُفَوَّضَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ خَبَرَ أَحَدٍ حَتَّى يُحَلِّفَهُ، سِوَى أَبِي بَكْرٍ. وَمِنْهَا رَدُّ عَائِشَةَ خَبَرَ ابْنِ عُمَرَ فِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. سَلَّمْنَا عَدَمَ الرَّدِّ وَالْإِنْكَارِ ظَاهِرًا، غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَ الْبَاقِينَ عَنِ الْإِنْكَارِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمَا سَبَقَ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَافَقَةِ فِيمَا تَلَقَّوْهُ (1) بِالْقَبُولِ، وَعَمِلُوا بِمُوجِبِهِ، أَوْ مُطْلَقًا فِي كُلِّ خَبَرٍ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ قَطْعًا، نَفْيًا لِلْخَطَأِ عَنِ الْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ الِاسْتِدْلَالُ بِكُلِّ خَبَرٍ لَمْ يَقْبَلُوهُ.   (1) فِيمَا تَلَقَّوْهُ - كَانَ فِيهِ سَقْطٌ، وَلَعَلَّ الْأَصْلَ: لَكِنْ فِيمَا تَلَقَّوْهُ. . إِلَخْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، لَكِنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ، فَمِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَبِالظَّنِّ، فَكَانَ مُمْتَنِعًا (1) . وَأَمَّا السُّنَّةُ، فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ حِينَ سَلَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ( «أَقْصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ» ) حَتَّى أَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَنْ كَانَ فِي الصَّفِّ بِصِدْقِهِ، فَأَتَمَّ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِذَا ظُنَّ صِدْقُهُ فِي الْفُرُوعِ، لَجَازَ ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ وَالْأُصُولِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ (2) . الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْعِبَادَاتِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَلَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ كَوْنِهِ مَظْنُونًا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يُفْضِي إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ خَبَرٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ خَبَرٌ آخَرُ مُقَابِلٌ لَهُ. الرَّابِعُ: أَنَّ قَبُولَ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَقْلِيدٌ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا آحَادًا، فَهِيَ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، كَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ بِسَخَاءِ حَاتِمٍ وَشَجَاعَةِ عَنْتَرَةَ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَوْ عَمِلُوا بِغَيْرِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ، لَكَانَتِ الْعَادَةُ تُحِيلُ تَوَاطُؤَهُمْ عَلَى عَدَمِ نَقْلِهِ، وَلَا سِيَّمَا فِي مَوْضِعِ الْإِشْكَالِ وَظُهُورِ اسْتِنَادِهِمْ فِي الْعَمَلِ إِلَى مَا ظَهَرَ   (1) سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُمَا تَعْلِيقًا. (2) سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُمَا تَعْلِيقًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 مِنَ الْأَخْبَارِ. كَيْفَ وَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ عُمَرُ: (لَوْ لَمْ نَسْمَعْ هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِغَيْرِ هَذَا، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ ( «حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَانْتَهَيْنَا» ) وَكَذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مِنْ رُجُوعِهِمْ إِلَى خَبَرِ عَائِشَةَ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَجِدُّهُمْ فِي طَلَبِ الْأَخْبَارِ وَالسُّؤَالُ عَنْهَا عِنْدَ وُقُوعِ الْوَقَائِعِ دَلِيلُ الْعَمَلِ بِهَا. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ عَمَلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، بَلِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ مَعَ سُكُوتِ الْبَاقِينَ عَنِ النَّكِيرِ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ. وَمَا رَوَوْهُ (1) مِنَ الْأَخْبَارِ أَوْ تَوَقَّفُوا فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لِأُمُورٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِ مُعَارِضٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، لَا لِعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي جِنْسِهَا، مَعَ كَوْنِهِمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا. وَلِهَذَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ ظَوَاهِرَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةٌ، وَإِنْ جَازَ تَرْكُهَا وَالتَّوَقُّفُ فِيهَا لِأُمُورٍ خَارِجَةٍ عَنْهَا. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إِنَّمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ، أَنْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مُتَعَبِّدِينَ بِاتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ تَعَبُّدِهِمْ بِاتِّبَاعِ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَالْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا يَأْتِي. وَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُهُمْ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا مَضْبُوطًا بِالْعَدَالَةِ، كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ حُجَّةً مَعْمُولًا بِهَا؛ ضَرُورَةً بِالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَذَلِكَ يَعُمُّ خَبَرَ كُلِّ عَدْلٍ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ بِالْآيَاتِ فَجَوَابُهَا مَا سَبَقَ فِي بَيَانِ جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَقْلًا. وَعَنِ السُّنَّةِ، أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا تَوَقَّفَ فِي خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ لِتَوَهُّمِهِ غَلَطَهُ لِبُعْدِ انْفِرَادِهِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ دُونَ مَنْ حَضَرَهُ مِنَ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ. وَمَعَ ظُهُورِ أَمَارَةِ الْوَهْمِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهِ (2) فَحَيْثُ وَافَقَهُ الْبَاقُونَ عَلَى ذَلِكَ، ارْتَفَعَ حُكْمُ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وَهْمِ ذِي الْيَدَيْنِ، وَعَمِلَ بِمُوجِبِ خَبَرِهِ. كَيْفَ وَإِنَّ   (1) رَوَوْهُ - فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ رَدُّوهُ. (2) قَدْ يُقَالُ أَيْضًا تَوَقَّفَ لِمُعَارَضَةِ مَا اعْتَقَدَهُ لِخَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ، فَلَمَّا تَرَجَّحَ قَوْلُهُ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَجَعَ إِلَى خَبَرِهِمْ عَمَلًا بِالرَّاجِحِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 عَمَلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، مَعَ خَبَرِ ذِي الْيَدَيْنِ عَمَلٌ بِخَبَرٍ لَمْ يَنْتَهِ إِلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ مَوْضِعُ النِّزَاعِ، وَفِي تَسْلِيمِهِ تَسْلِيمُ الْمَطْلُوبِ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّهَا مُنْتَقِضَةٌ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْفَتْوَى وَالشَّهَادَةِ. كَيْفَ وَالْفَرْقُ حَاصِلٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرَطَ فِي إِثْبَاتِ الرِّسَالَةِ وَالْأُصُولِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ، فَلَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ مُعْتَبَرًا فِيهَا، بِخِلَافِ الْفُرُوعِ (1) . وَعَنِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا بَعْدَ الْوُجُودِ وَالتَّكْلِيفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. بَلِ الشُّغْلُ مُحْتَمِلٌ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا سَبَبُ الشُّغْلِ، فَمُخَالَفَةُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ رَفْعَ مَقْطُوعٍ بِمَظْنُونٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالشَّهَادَةِ وَالْفَتْوَى. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ تَجْوِيزَ وُجُودِ خَبَرٍ مُعَارِضٍ لِلْخَبَرِ الَّذِي ظَهَرَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِلَّا لَمَا سَاغَ التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ مِنْ ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَّا وَيَجُوزُ وُرُودُ نَاسِخٍ لَهُ أَوْ مُخَصَّصٍ لَهُ، بَلْ وَلَمَا جَازَ التَّمَسُّكُ بِدَلِيلٍ مُسْتَنْبَطٍ مُعَارِضٍ لَهُ (2) ، وَلَمَا سَاغَ أَيْضًا لِلْقَاضِي الْحُكْمُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا لِلْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِفَتْوَى الْمُجْتَهِدِ لَهُ، لِجَوَازِ وُجُودِ مَا يُعَارِضُهُ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ، لِاسْتِوَائِهِمَا فِي دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، وَلَيْسَ تَقْلِيدُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُ مَعَ الرَّاوِي، فَإِنَّهُمَا لَمْ يَسْتَوِيَا فِي مَعْرِفَةِ مَا اسْتَبَدَّ بِمَعْرِفَتِهِ الرَّاوِي مِنَ الْخَبَرِ فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَقْلِيدُهُ فِيمَا رَوَاهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاحْتِجَاجُ بِمَسْلَكِ الْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَسَالِكِ الظُّنُونِ وَإِنْ كَانَ التَّمَسُّكُ بِهِ أَقْرَبَ مِمَّا سَبَقَ مِنَ الْمَسَالِكِ.   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص. ج. (2) بِدَلِيلٍ مُسْتَنْبَطٍ مُعَارِضٍ لَهُ - فِيهِ سَقْطٌ، وَالتَّقْدِيرُ: بِدَلِيلٍ مُسْتَنْبَطٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وَعَلَى هَذَا فَمَنِ اعْتَقَدَ كَوْنَ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً، فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ لِعَدَمِ مُسَاعَدَةِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى ذَلِكَ. وَمَنِ اعْتَقَدَ كَوْنَهَا ظَنِّيَّةً فَلْيَتَمَسَّكْ بِمَا شَاءَ مِنَ الْمَسَالِكِ الْمُتَقَدِّمَةِ، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ) (1) . [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي شَرَائِطِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ] [الشَّرْطُ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي مُكَلَّفًا] الْقِسْمُ الثَّانِي فِي شَرَائِطِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَمَا يَتَشَعَّبُ عَنْهَا مِنَ الْمَسَائِلِ، أَمَّا الشُّرُوطُ فَمِنْهَا مَا لَا بُدَّ مِنْهَا، وَمِنْهَا مَا ظُنَّ أَنَّهَا شُرُوطٌ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ. أَمَّا الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي مُكَلَّفًا (2) . وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ لَا يَكُونُ مُكَلَّفًا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الضَّبْطِ وَالِاحْتِرَازِ فِيمَا يَتَحَمَّلُهُ وَيُؤَدِّيهِ، كَالْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ (3) لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيهَا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الضَّبْطِ وَالْمَعْرِفَةِ، كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْمُرَاهِقِ الَّذِي لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبُلُوغِ سِوَى الزَّمَانِ الْيَسِيرِ، فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ (4) لَا لِعَدَمِ ضَبْطِهِ، فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ، وَلَا لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالْعَبْدِ وَبِالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ إِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَرِوَايَتُهُ مَقْبُولَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، بَلْ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى عَدَمِ قَبُولِ رِوَايَةِ الْفَاسِقِ، لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ، مَعَ أَنَّهُ يَخَافُ اللَّهَ (تَعَالَى) لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا فَاحْتِمَالُ الْكَذِبِ مِنَ الصَّبِيِّ مَعَ أَنَّهُ لَا يَخَافُ اللَّهَ تَعَالَى لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ يَكُونُ أَظْهَرَ   (1) انْظُرْ مَا خَرَجَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَجِدْ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إِلَّا بِتَرْدِيدٍ بَيْنَ كَوْنِهَا قَطْعِيَّةً وَظَنِّيَّةً، وَلَمْ يَرْكَنْ إِلَى أَحَدِهِمَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا مَعَ دَعْوَاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّ مَسَائِلَ الْأُصُولِ قَطْعِيَّةٌ؟ بَلْ كَيْفَ يَصِحُّ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ وَقَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ بِالْوَقْفِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، كَمَسَائِلِ الْأَوَامِرِ لِشِدَّةِ الْخِلَافِ فِيهَا وَقُوَّةِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، وَقَدْ يَحَارُ بَعْضُهُمْ أَحْيَانًا فِي الْمُسَائَلَةِ، وَيُحِيلُ مَنْ أَرَادَ التَّحْقِيقَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِ. (2) أَيْ: بَالِغًا عَاقِلًا. (3) أَيْ: لَا يُقْبَلُ تَحَمُّلُهُ وَلَا أَدَاؤُهُ. (4) أَيْ: أَدَاؤُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِنْ صَحَّ تَحَمُّلُهُ فِيهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 مِنِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فِي حَقِّ الْفَاسِقِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالرَّدِّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي إِخْبَارِهِ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ، حَتَّى إِنَّهُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّ الظَّنَّ بِكَوْنِهِ مُتَطَهِّرًا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَقَبُولِ (1) رِوَايَتِهِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ وَالتَّحَفُّظَ فِي الرِّوَايَةِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ وَلِهَذَا صَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِالْفَاسِقِ عِنْدَ ظَنِّ طَهَارَتِهِ، وَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَإِنْ ظُنَّ صِدْقُهُ. وَمَنْ قَالَ بِقَبُولِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِيمَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِنَايَاتِ (2) فَإِنَّمَا كَانَ اعْتِمَادُهُ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَاتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِمَّا تَكْثُرُ، وَأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ، وَهِيَ شَهَادَتُهُمْ مَعَ كَثْرَتِهِمْ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ جَارِيًا عَلَى مِنْهَاجِ الشَّهَادَةِ وَلَا الرِّوَايَةِ (3) . وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا تَحَمَّلَ الرِّوَايَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَكَانَ ضَابِطًا لَهَا، وَأَدَّاهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَظُهُورِ رُشْدِهِ فِي دِينِهِ، فَإِنَّهَا تَكُونُ مَقْبُولَةً؛ لِأَنَّهُ لَا خَلَلَ فِي تَحَمُّلِهِ وَلَا فِي أَدَائِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى قَبُولِ رِوَايَتِهِ الْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعَتْ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَحْدَاثِ الصَّحَابَةِ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَا تَحَمَّلُوهُ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ وَبَعْدَ الْبُلُوغِ. الثَّانِي: إِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى مَجَالِسِ الْحَدِيثِ وَقَبُولِ رِوَايَتِهِمْ لِمَا تَحَمَّلُوهُ فِي حَالَةِ الصِّبَا بَعْدَ الْبُلُوغِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ، فَهُوَ أَنَّ التَّحَرُّزَ فِي أَمْرِ الشَّهَادَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الرِّوَايَةِ، وَلِهَذَا اخْتُلِفَ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ الْعَبْدِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى رَدِّهَا. وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْعَبْدِ، وَاعْتُبِرَ الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَةِ (4) بِالْإِجْمَاعِ وَاخْتُلِفَ فِي اعْتِبَارِهِ فِي الرِّوَايَةِ. وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ مَا تَحَمَّلَهُ الصَّبِيُّ مِنَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْبُلُوغِ، إِذَا شَهِدَ بِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، فَالرِّوَايَةُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ.   (1) وَقَبُولِ - صَوَابُهُ بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَهُوَ فَاعِلُ يَلْزَمُ. (2) كَالْمَالِكِيَّةِ. (3) أَيْ: فَلَا يَرِدُ نَقْضًا كَسَائِرِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ. (4) أَيْ: فِي غَالِبِ أَنْوَاعِ الشَّهَادَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 [الشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا] وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُنْتَمِيًا إِلَى الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ (وَنَحْوِهِ) أَوْ هُوَ مُنْتَمٍ إِلَيْهَا كَالْمُجَسَّمِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ قَبُولِ رِوَايَتِهِ، لَا لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ، وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ فَالْكَافِرُ أَوْلَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفَاسِقَ إِنَّمَا لَمْ تُقْبَلْ رِوَايَتُهُ لِمَا عُلِمَ مِنْ جُرْأَتِهِ عَلَى فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ مَعَ اعْتِقَادِ تَحْرِيمِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي حَقِّ الْكَافِرِ، إِذَا كَانَ مُتَرَهِّبًا عَدْلًا فِي دِينِهِ مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِ الْكَذِبِ، مُمْتَنِعًا مِنْهُ حَسَبَ امْتِنَاعِ الْعَدْلِ الْمُسْلِمِ. وَإِنَّمَا الِاعْتِمَادُ فِي امْتِنَاعِ قَبُولِ رِوَايَتِهِ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ عَلَى رَدِّهَا سَلْبًا لِأَهْلِيَّةِ هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ عَنْهُ لِخِسَّتِهِ (1) . وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْغَزَالِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، (2) ، أَنَّهُ مَرْدُودُ الرِّوَايَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّنِ اشْتُهِرَ بِالْكَذِبِ وَالتَّدَيُّنِ بِهِ لِنُصْرَةِ مَذْهَبِهِ، فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِعَدَمِ الْوُثُوقِ بِصِدْقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَحَرِّجًا فِي مَذْهَبِهِ مُتَحَرِّزًا عَنِ الْكَذِبِ حَسَبَ احْتِرَازِ الْعَدْلِ عَنْهُ، فَهُوَ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ صِدْقَهُ ظَاهِرٌ مَظْنُونٌ. وَالْمُخْتَارُ رَدُّهُ لَا لِمَا قِيلَ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى رَدِّهِ، وَلَا لِقِيَاسِهِ عَلَى الْكَافِرِ الْخَارِجِ عَنِ الْمِلَّةِ بِوَاسِطَةِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْكُفْرِ الْمُنَاسِبِ لِسَلْبِ أَهْلِيَّةِ هَذَا الْمَنْصِبِ عَنْهُ، إِذْلَالًا لَهُ.   (1) وَلِأَنَّ خُصُومَتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَعَدَاوَتَهُ لَهُمْ فِي الدِّينِ مِمَّا يَحْمِلُهُ عَلَى الْكَيْدِ لَهُمْ وَالْحِرْصِ عَلَى التَّلْبِيسِ عَلَيْهِمْ فِي دِينِهِمْ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَبْغَضَهُمْ مِنْ أَجْلِهِ. (2) أَصْحَابِنَا؛ أَيِ: الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ الْأَشْعَرِيُّ الْمَالِكِيُّ، مَاتَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ 403، وَالْغَزَالِيُّ هُوَ أَبُو حَامِدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ الشَّافِعِيُّ، مَاتَ 505، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ هُوَ أَبُو الْحَسَنِ الْهَمَذَانِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْمُعْتَزِلِيُّ الشَّافِعِيُّ مَاتَ 405. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ لِلْخَصْمِ مَنْعَ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ عَلَى رَدِّ قَوْلِ الْكَافِرِ مُطْلَقًا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْكَافِرِ الْخَارِجِ عَنِ الْمِلَّةِ مُتَعَذَّرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُفْرَهُ أَشَدُّ وَأَغْلَظُ وَأَظْهَرُ مِنْ كُفْرِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، لِكَثْرَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلْقَاعِدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أُصُولًا وَفُرُوعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُخَالَفَةِ الْمُتَأَوَّلِ لَهَا. فَكَانَ إِذْلَالُهُ بِسَلْبِ هَذَا الْمَنْصِبِ عَنْهُ أَوْلَى، وَمَعَ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ، فَلَا قِيَاسَ. بَلِ الْوَاجِبُ الِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} أَمْرٌ بِالتَّثَبُّتِ عِنْدَ إِخْبَارِ الْفَاسِقِ، وَالْكَافِرُ فَاسِقٌ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْفِسْقِ. وَإِذَا كَانَ فَاسِقًا، فَالْآيَةُ إِنْ كَانَتْ عَامَّةً بِلَفْظِهَا فِي كُلِّ فَاسِقٍ، فَالْكَافِرُ دَاخِلٌ تَحْتَهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَامَّةً بِلَفْظِهَا فِي كُلِّ فَاسِقٍ، فَهِيَ عَامَّةٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَعْنَى الْمُومَى إِلَيْهِ، وَهُوَ الْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَتَّبَ رَدَّ الْخَبَرِ عَلَى كَوْنِ الْآتِي بِهِ فَاسِقًا مُطْلَقًا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ لَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ عِلَّةً لِلرَّدِّ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْأَخْبَارِ إِنَّمَا هُوَ مُسَمَّى الْفَاسِقِ، وَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ خَاصٌّ بِمَنْ هُوَ مُسْلِمٌ صَدَرَتْ مِنْهُ كَبِيرَةٌ، أَوْ وَاظَبَ عَلَى صَغِيرَةٍ فَلَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِلْكَافِرِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا تَنَاوُلَهُ لِلْكَافِرِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ " وَالْكَافِرُ الْمُتَأَوِّلُ إِذَا كَانَ مُتَحَرِّزًا عَنِ الْكَذِبِ فَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ لِلْخَبَرِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ بِمَنْعِ اخْتِصَاصِ اسْمِ الْفَاسِقِ فِي الشَّرْعِ بِالْمُسْلِمِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عُرْفًا لِلْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَكَلَامُ الشَّارِعِ إِنَّمَا يَنْزِلُ عَلَى عُرْفِهِ، لَا عَلَى مَا صَارَ عُرْفًا لِلْفُقَهَاءِ. كَيْفَ وَإِنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى الْفَاسِقِ الْمُسْلِمِ مِمَّا يُوهِمُ قَبُولَ خَبَرِ الْفَاسِقِ الْكَافِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، نَظَرًا إِلَى قَضِيَّةِ الْمَفْهُومِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى مَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ، أَوْ مَا اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِتَوَاتُرِهِ وَخُصُوصِهِ بِالْفَاسِقِ، مُتَّفَقٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ وَمُخَالَفَتِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ آحَادٌ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِلْكَافِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 بِعُمُومِ كَوْنِ خَبَرِهِ ظَاهِرًا، أَوْ هُوَ مُخَالِفٌ لِخَبَرِ الْكَافِرِ الْخَارِجِ عَنِ الْمِلَّةِ، وَالْفَاسِقُ إِذَا ظُنَّ صِدْقُهُ فَإِنَّ خَبَرَهُ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا بِالْإِجْمَاعِ. [الشَّرْطُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ ضَبْطُهُ لِمَا يَسْمَعُهُ أَرْجَحَ مِنْ عَدَمِ ضَبْطِهِ] ِ، وَذِكْرُهُ لَهُ أَرْجَحَ مِنْ سَهْوِهِ، لِحُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ فِيمَا يَرْوِيهِ. وَإِلَّا، فَبِتَقْدِيرِ رُجْحَانٍ مُقَابِلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ أَوْ مُعَادَلَتِهِ لَهُ فَرِوَايَتُهُ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً لِعَدَمِ حُصُولِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ، إِمَّا عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ فَلِكَوْنِ صِدْقِهِ مَرْجُوحًا، وَإِمَّا عَلَى التَّقْدِيرِ الْآخَرِ فَلِضَرُورَةِ التَّسَاوِي. وَإِنْ جُهِلَ حَالُ الرَّاوِي فِي ذَلِكَ، كَانَ الِاعْتِمَادُ عَلَى مَا هُوَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالِ الرُّوَاةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمِ الْأَغْلَبُ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاخْتِبَارِ وَالِامْتِحَانِ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ وَإِنْ غَلَبَ السَّهْوُ عَلَى الذِّكْرِ أَوْ تَعَادَلَا فَالرَّاوِي عَدْلٌ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا مَا يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِذِكْرِهِ لَهُ وَضَبْطِهِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ أَنْكَرَتْ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ كَثْرَةَ رِوَايَتِهِ، حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ، لَقَدْ كَانَ رَجُلًا مِهْزَارًا فِي حَدِيثِ الْمِهْرَاسِ (1) وَمَعَ ذَلِكَ قَبِلُوا أَخْبَارَهُ، لِمَا كَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا مَا يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ بِضَبْطِهِ وَذِكْرِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْخَبَرَ دَلِيلٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ الصِّحَّةُ، فَتَسَاوِي الضَّبْطِ وَالِاخْتِلَالِ وَالذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ غَايَتُهُ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلشَّكِّ فِي الصِّحَّةِ، وَالشَّكُّ فِي ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْأَصْلِ، كَمَا إِذَا كَانَ مُتَطَهِّرًا، ثُمَّ شَكَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ أَوْ طَاهِرٌ فَإِنَّ الْأَصْلَ هَاهُنَا لَا يُتْرَكُ بِهَذَا الشَّكِّ.   (1) حَدِيثُ الْمِهْرَاسِ يُشِيرُ بِهِ إِلَى حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، وَمُرَاجَعَتُهُ فِيهِ هَذَا، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا رَمَتْ أَبَا هُرَيْرَةَ الْهَذْرَ، وَلَا أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: مَا تَصْنُعُ بِالْمِهْرَاسِ؟ إِنَّمَا سَأَلَهُ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ قَيْنٌ الْأَشْجَعِيُّ - انْظُرْ مُسْنَدَ أَحْمَدَ، وَرَدَّ الشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَحْيَى الْمُعَلِّمِيِّ عَلَى أَبِي رَيَّةَ، وَمَا كَتَبَهُ الدُّكْتُورُ مُصْطَفَى السِّبَاعِيُّ فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ مِنَ الْمُجَلَّدِ الْعَاشِرِ مِنْ مَجَلَّةِ الْمُسْلِمُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 قُلْنَا: إِذَا كَانَ الْغَرَضُ (1) إِنَّمَا هُوَ غَلَبَةُ السَّهْوِ أَوِ التَّعَادُلُ، فَالرَّاوِي وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا مَا يَظُنُّ أَنَّهُ ذَاكِرٌ لَهُ، فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ حُصُولَ الظَّنِّ بِصِحَّةِ رِوَايَتِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ النِّسْيَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مَا نَسِيَ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا. وَأَمَّا إِنْكَارُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ كَثْرَةَ الرِّوَايَةِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِاخْتِلَالِ ضَبْطِهِ وَغَلَبَةِ النِّسْيَانِ عَلَيْهِ، بَلْ لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِمَّا لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ اخْتِلَالُ الضَّبْطِ الَّذِي لَا يَعْرِضُ لِمَنْ قَلَّتْ رِوَايَتُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعِيدًا. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ دَلِيلٌ، وَالْأَصْلَ فِيهِ الصِّحَّةُ، فَلَا يُتْرَكُ بِالشَّكِّ. قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ فِيهِ الصِّحَّةُ، إِذَا كَانَ مُغَلِّبًا عَلَى الظَّنِّ، وَمَعَ عَدَمِ تَرْجِيحِ ذِكْرِ الرَّاوِي عَلَى نِسْيَانِهِ لَا يَكُونُ مُغَلِّبًا عَلَى الظَّنِّ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا لِوُقُوعِ التَّرَدُّدِ فِي كَوْنِهِ دَلِيلًا لَا فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا شَكَّ فِي الْحَدَثِ، ثُمَّ تَيَقَّنَ سَابِقَةَ الطَّهَارَةِ، فَإِنَّ تَيَقُّنَ الطَّهَارَةِ السَّابِقَةِ لَا يَقْدَحُ فِيهِ الشَّكُّ الطَّارِئُ، وَبِالنَّظَرِ إِلَيْهِ يَتَرَجَّحُ إِلَيْهِ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ الشَّكُّ فِي الدَّوَامِ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ بَقِيَ الشَّكُّ مَعَ النَّظَرِ إِلَى الْأَصْلِ، لَمَا حُكِمَ بِالطَّهَارَةِ. [الشَّرْطُ الرَّابِعُ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ] ِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ (الْعَدْلِ) لُغَةً وَشَرْعًا. أَمَّا الْعَدْلُ فِي اللُّغَةِ، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُتَوَسِّطِ فِي الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ فِي طَرَفَيِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ عَدْلًا. فَالْوَسَطُ وَالْعَدْلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَدْ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَصْدَرُ الْمُقَابِلُ لِلْجَوْرِ، وَهُوَ اتِّصَافُ الْغَيْرِ بِفِعْلِ مَا يَجِبُ لَهُ، وَتَرْكِ مَا لَا يَجِبُ، وَالْجَوْرُ فِي مُقَابَلَتِهِ. وَقَدْ يُطْلَقُ: وَيُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مِنَ الْأَفْعَالِ الْحَسَنَةِ يَتَعَدَّى الْفَاعِلُ إِلَى غَيْرِهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَلِكِ الْمُحْسِنِ إِلَى رَعِيَّتِهِ: عَادِلٌ. وَأَمَّا فِي لِسَانِ الْمُتَشَرِّعَةِ، فَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ أَهْلِيَّةُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.   (1) الْغَرَضُ؛ بَالْغَيْنِ، صَوَابُهُ: الْفَرْضُ؛ بِالْفَاءِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْأَهْلِيَّةِ إِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِقَامَةِ السِّيرَةِ وَالدِّينِ. وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى هَيْئَةٍ رَاسِخَةٍ فِي النَّفْسِ تَحْمِلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى وَالْمُرُوءَةِ جَمِيعًا، حَتَّى تَحْصُلَ ثِقَةُ النُّفُوسِ بِصِدْقِهِ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبَعْضِ الصَّغَائِرِ وَبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ. أَمَّا الْكَبَائِرُ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «الْكَبَائِرُ تِسْعٌ؛ الشِّرْكُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَالزِّنَا، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَالسِّحْرُ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ، وَالْإِلْحَادُ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ» ". وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مَعَ ذَلِكَ: «أَكْلُ الرِّبَا، وَالِانْقِلَابُ إِلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَةٍ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ: السَّرِقَةُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ (1) . وَأَمَّا بَعْضُ الصَّغَائِرِ فَمَا يَدُلُّ فِعْلُهُ عَلَى نَقْضِ الدِّينِ، وَعَدَمِ التَّرَفُّعِ عَنِ الْكَذِبِ وَذَلِكَ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالتَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وَاشْتِرَاطِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى إِسْمَاعِ الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا بَعْضُ الْمُبَاحَاتِ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى نَقْصِ الْمُرُوءَةِ، وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ، كَالْأَكْلِ فِي السُّوقِ وَالْبَوْلِ فِي الشَّوَارِعِ وَصُحْبَةِ الْأَرَاذِلِ، وَالْإِفْرَاطِ فِي الْمَزْحِ. وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى سُرْعَةِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْكَذِبِ، وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِهِ. وَلَا خِلَافَ فِي اعْتِبَارِ اجْتِنَابِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْعَدَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَجْتَنِبُ هَذِهِ الْأُمُورَ أَحْرَى أَنْ لَا يَجْتَنِبَ الْكَذِبَ، فَلَا يَكُونُ مَوْثُوقًا بِقَوْلِهِ. وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي اشْتِرَاطِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ فِي الشَّهَادَةِ. وَتَخْتَصُّ الشَّهَادَةُ بِشُرُوطٍ أُخَرَ: كَالْحُرِّيَّةِ، وَالذُّكُورَةِ، وَالْعَدَدِ وَالْبَصَرِ، وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَاوَةِ. وَإِذْ أَتَيْنَا شُرُوطَ الرِّوَايَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى ذِكْرِ مَسَائِلَ مُتَشَعِّبَةٍ عَنْ شُرُوطِ الْعَدَالَةِ جَرَتِ الْعَادَةُ بِذِكْرِهَا وَهِيَ ثَمَانُ مَسَائِلَ.   (1) انْظُرْ تَعْرِيفَ الْكَبِيرَةِ وَأَحَادِيثِهَا فِي كُتُبِ الْكَبَائِرِ، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ فِي تَفْسِيرِهِ لِآيَةِ (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) سُورَةُ النِّسَاءِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَجْهُولَ الْحَالِ غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَجْهُولَ الْحَالِ (1) غَيْرُ مَقْبُولِ الرِّوَايَةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خِبْرَةٍ بَاطِنَةٍ بِحَالِهِ وَمَعْرِفَةِ سِيرَتِهِ، وَكَشْفِ سَرِيرَتِهِ، أَوْ تَزْكِيَةِ مَنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ وَتَعْدِيلُهُ لَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُ: يُكْتَفَى فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالسَّلَامَةِ عَنِ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ بِحُجَجٍ: الْأُولَى: أَنَّ الدَّلِيلَ يَنْفِي قَبُولَ خَبَرِ الْفَاسِقِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِيمَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ بِالِاخْتِبَارِ بِمَعْنَى لَا وُجُودَ لَهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ ظُهُورِ الثِّقَةِ بِقَوْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقْبَلَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْآيَةُ إِنَّمَا دَلَّتْ عَلَى امْتِنَاعِ قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ، وَمَنْ ظَهَرَ إِسْلَامُهُ وَسَلِمَ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فَاسِقٌ حَتَّى يَنْدَرِجَ تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ. وَاحْتِمَالُ وُجُودِ الْفِسْقِ فِيهِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ فَاسِقًا بِدَلِيلِ الْعَدْلِ الْمُتَّفِقِ عَلَى عَدَالَتِهِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مَجْهُولُ الْحَالِ فَلَا يُقْبَلُ إِخْبَارُهُ فِي الرِّوَايَةِ؛ دَفْعًا لِاحْتِمَالِ مَفْسَدَةِ الْكَذِبِ، كَالشَّهَادَةِ فِي الْعُقُوبَاتِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَانَ احْتِمَالُ الْكَذِبِ قَائِمًا (ظَاهِرًا) ، غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ الصِّدْقِ مَعَ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا أَظْهَرُ مِنِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ. وَمَعَ ذَلِكَ، فَاحْتِمَالُ الْقَبُولِ يَكُونُ أَوْلَى مِنَ احْتِمَالِ الرَّدِّ، وَلَا يُمْكِنُ الْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ أَتَمُّ مِنْهُ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ. وَلِهَذَا كَانَ الْعَدَدُ وَالْحُرِيَّةُ مُشْتَرَطًا فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ، وَمُتَعَبَّدًا فِيهَا بِأَلْفَاظٍ خَاصَّةٍ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ فِي الرِّوَايَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ قَالَ " أَعْلَمُ " بَدَلَ قَوْلِهِ " أَشْهَدُ " لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا.   (1) مَجْهُولُ الْحَالِ: مَنْ رَوَى عَنْهُ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ وَلَمْ يُوثَّقْ، وَيُسَمَّى مَسْتُورًا، أَمَّا بِمَجْهُولِ الْعَيْنِ فَهُوَ مَنْ عُرِفَ اسْمُهُ وَلَكِنِ انْفَرَدَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ وَاحِدٌ، وَمَنْ لَمْ يُسَمَّ فَمُبْهَمٌ كَحَدَّثَنِي رَجُلٌ وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ وَهُوَ أَدْخُلُ فِي جَهَالَةِ الْعَيْنِ مِمَّا قَبْلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وَعَلَى هَذَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ اشْتِرَاطِ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَالُوا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَنَّ بُلُوغَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْفِقْهِ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الْفَتْوَى، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ حَالُ الرَّاوِي بِالِاخْتِبَارِ، فَلَا تُقْبَلُ أَخْبَارُهُ دَفْعًا لِلْمَفْسَدَةِ اللَّازِمَةِ مِنْ فَوَاتِ الشَّرْطِ كَمَا إِذَا لَمْ يَظْهَرْ بِالِاخْتِبَارِ بُلُوغُ الْمُفْتِي رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقَلِّدِ اتِّبَاعُهُ إِجْمَاعًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُجْمَعُ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْعَدَالَةُ بِمَعْنَى ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، أَوْ بِمَعْنًى آخَرَ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، غَيْرَ أَنَّ مَا هُوَ الشَّرْطُ مُتَحَقِّقٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا سَبَقَ فِي الْحُجَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَبِتَقْدِيرِ ظُهُورِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ، فَالِاعْتِبَارُ بِالْمُفْتِي غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ بُلُوغَ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ أَبْعَدُ فِي الْحُصُولِ مِنْ حُصُولِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ. وَلِهَذَا كَانَتِ الْعَدَالَةُ أَغْلَبَ وُقُوعًا مِنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَاحْتِمَالُ عَدَمِ صِفَةِ الِاجْتِهَادِ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنْ عَدَمِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ قَوْلِ الْمُفْتِي مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ الْقَبُولُ بِعَدَمِ قَوْلِ الرَّاوِي مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ عَدَمَ الْفِسْقِ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ، فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنِيَّةُ مُبَالَغَةً فِي دَفْعِ الضَّرَرِ، كَمَا فِي عَدَمِ الصَّبِيِّ وَالرِّقِّ وَالْكُفْرِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ، وَبِتَقْدِيرِ مُنَاسَبَتِهِ فَالْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا تَقَدَّمَ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: قَالُوا: رَدَّ عُمَرُ رِوَايَةَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لَمَّا كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْحَالِ، وَعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَدَّ قَوْلَ الْأَشْجَعِيِّ فِي الْمُفَوَّضَةِ، وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ مُنْكِرٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِخَبَرِ فَاطِمَةَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ صِدْقُهَا (1) .   (1) الظَّاهِرُ أَنَّهُ اعْتَقَدَ مُعَارَضَةَ حَدِيثِهَا لِمَا فَهِمَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) ، وَقَوْلِهِ: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) سُورَةُ الطَّلَاقِ، فَرَدَّهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِجَهَالَةِ حَالِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وَلِهَذَا قَالَ: كَيْفَ نَقْبَلُ قَوْلَ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصْدَقَتْ أَمْ كَذِبَتْ. وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَنْ ظَهَرَ إِسْلَامُهُ وَسَلَامَتُهُ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، فَاحْتِمَالُ صِدْقِهِ لَا مَحَالَةَ أَظْهَرُ مِنِ احْتِمَالِ كَذِبِهِ. وَأَمَّا رَدُّ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِخَبَرِ الْأَشْجَعِيِّ فَإِنَّمَا كَانَ أَيْضًا لِعَدَمِ ظُهُورِ صِدْقِهِ عِنْدَهُ؛ وَلِهَذَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ بَوَّالًا عَلَى عَقِبَيْهِ؛ أَيْ: غَيْرِ مُحْتَرِزٍ فِي أُمُورِ دِينِهِ. وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ مُخَالِفًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» ". وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّا نَقُولُ: الْقَوْلُ بِوُجُوبِ قَبُولِ رِوَايَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَالْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِيهَا (1) . فَإِنْ قِيلَ: بَيَانُ وُجُودِ الدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا النَّصُّ فَمِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} أَمْرٌ بِالتَّثَبُّتِ مَشْرُوطًا بِالْفِسْقِ فَمَا لَمْ يَظْهَرِ الْفِسْقُ لَا يَجِبُ التَّثَبُّتُ فِيهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» " (2) وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقُ، فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْخَبَرِ. الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ الْأَعْرَابِيُّ، وَقَالَ: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ عِنْدَهُ، قَبْلَ شَهَادَتِهِ، وَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ بِالصَّوْمِ لَمَّا ثَبَتَ عِنْدَهُ إِسْلَامُهُ   (1) فِي هَذَا اعْتِرَافٌ بِأَنَّ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ مَا هُوَ ظَنِّيٌّ بَلْ مَنْ تَتَبَّعَ الْمَسَائِلَ الْخِلَافِيَّةَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَجَدَ أَكْثَرَهَا ظَنِّيًّا بَلْ يَحَارُ الْكَثِيرُ مِنْهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَتَكَافُئِهَا فِي نَظَرِهِ وَلَا يَقْوَى عَلَى التَّرْجِيحِ، وَمِنْ أُولَئِكَ الْآمِدِيُّ (2) قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي الْمَجْمُوعَةِ الْمُفِيدَةِ: حَدِيثُ: نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، يَحْتَجُّ بِهِ أَهْلُ الْأُصُولِ وَلَا أَصْلَ لَهُ: أَقُولُ: قَدْ وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مَا يَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ مِثْلَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُسَامَةَ أَشَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ إِنْكَارًا لِاعْتِذَارِهِ عَنْ قَتْلِهِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ فِسْقًا، فَالرِّوَايَةُ أَوْلَى (1) . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى قَبُولِ أَقْوَالِ الْعَبِيدِ وَالنِّسْوَانِ وَالْأَعْرَابِ الْمَجَاهِيلِ لَمَّا ظَهَرَ إِسْلَامُهُمْ وَسَلَامَتُهُمْ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاوِيَ مُسْلِمٌ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ فِسْقٌ، فَكَانَ خَبَرُهُ مَقْبُولًا كَإِخْبَارِهِ بِكَوْنِ اللَّحْمِ (لَحْمَ) مُذَكًّى، وَكَوْنِ الْمَاءِ طَاهِرًا أَوْ نَجِسًا، وَكَوْنِ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ رَقِيقَةً، وَكَوْنِهِ مُتَطَهِّرًا عَنِ الْحَدَثَيْنِ؛ حَتَّى يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، وَرَوَى عَقِيبَ إِسْلَامِهِ خَبَرًا مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، فَمَعَ ظُهُورِ إِسْلَامِهِ وَعَدَمِ وُجُودِ مَا يُوجِبُ فِسْقَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، يَمْتَنِعُ رَدُّ رِوَايَتِهِ، وَإِذَا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُ حَالَ إِسْلَامِهِ، فَطُولُ مُدَّتِهِ فِي الْإِسْلَامِ أَوْلَى أَنْ لَا تُوجِبَ رَدَّهُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ أَنَّ الْعَمَلَ بِمُوجِبِهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ فَاسِقًا أَوْ لَيْسَ فَاسِقًا، لَا عَلَى عَدَمِ عِلْمِنَا بِفِسْقِهِ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ دُونَ الْبَحْثِ وَالْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ. وَعَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَضَافَ الْحُكْمَ بِالظَّاهِرِ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، لَا بِنَفْسِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ، وَالْقِيَاسُ عَلَيْهِ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ مَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الِاطِّلَاعِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَحْوَالِ الْمُخْبِرِ لِصَفَاءِ جَوْهَرِ نَفْسِهِ وَاخْتِصَاصِهِ عَنِ الْخَلْقِ بِمَعْرِفَةِ مَا لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَنِ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ، غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ (2) . الثَّانِي: أَنَّهُ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لِقَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْعُقُوبَاتِ وَالْفَتْوَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ.   (1) أَصْلُ الْحَدِيثِ رَوَاهُ الْأَرْبَعَةُ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ مُرْسَلٌ (2) حَدِيثُ إِنْكَارِهِ عَلَى أُسَامَةَ بِقَوْلِهِ: " أَشَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ " وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَدُلُّ نَصًّا عَلَى أَنَّ هَذَا حُكْمُ الْأُمَّةِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى قِيَاسٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 الثَّالِثُ، الْمُعَارَضَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ أَحَدِ النَّصَّيْنِ وَتَأْوِيلِ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلِ الْعَمَلُ بِالْآيَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ وَمَا ذَكَرُوهُ آحَادٌ. وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَعْلَمْ مِنْ حَالِ الْأَعْرَابِيِّ سِوَى الْإِسْلَامِ. وَعَنِ الْإِجْمَاعِ، لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَبِلُوا رِوَايَةَ أَحَدٍ مِنَ الْمَجَاهِيلِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَخْبَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلِهَذَا، رَدُّوا رِوَايَةَ مَنْ جَهِلُوهُ كَرَدِّ عُمَرَ شَهَادَةَ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ، (1) وَرَدِّ عَلِيٍّ شَهَادَةَ الْأَعْرَابِيِّ. وَعَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ صُوَرِ الِاسْتِشْهَادِ وَمَحَلِّ النِّزَاعِ. وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ؛ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى رُتْبَةً وَأَشْرَفُ مَنْصِبًا مِنَ الْإِخْبَارِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصُّوَرِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَبُولِ مَعَ الْجَهْلِ بِحَالِ الرَّاوِي فِيمَا هُوَ أَدْنَى الرُّتْبَتَيْنِ قَبُولُهُ فِي أَعْلَاهِمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْإِخْبَارَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصُّوَرِ مَقْبُولٌ مَعَ ظُهُورِ الْفِسْقِ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: مِنَ الْمَعْقُولِ بِمَنْعِ قَبُولِ رِوَايَتِهِ دُونَ الْخِبْرَةِ بِحَالِهِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ كَذُوبًا، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَبْعِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: رِوَايَتُهُ فِي مَبْدَأِ إِسْلَامِهِ، فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي حَالَةِ دَوَامِهِ، لِمَا بَيْنَ ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَدَوَامِهِ مِنْ رِقَّةِ الْقَلْبِ، وَشِدَّةِ الْأَخْذِ بِمُوجِبَاتِهِ، وَالْحِرْصِ عَلَى امْتِثَالِ مَأْمُورَاتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتِهِ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ دَخَلَ فِي أَمْرٍ مَحْبُوبٍ وَالْتَزَمَهُ، فَإِنَّ غَرَامَهُ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ يَكُونُ أَشَدَّ مِنْهُ فِي دَوَامِهِ.   (1) فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ أَوَّلًا لَيْسَتْ مَجْهُولَةَ الْحَالِ عِنْدَ عُمَرَ، وَإِنَّمَا رَدَّ حَدِيثَهَا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُعَارِضٌ لِلْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا، وَثَانِيًا هِيَ صَحَابِيَّةٌ؛ وَالصَّحَابَةُ عُدُولٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 [الْفَاسِقُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فِسْقَ نَفْسِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْفَاسِقُ الْمُتَأَوِّلُ الَّذِي لَا يَعْلَمُ فِسْقَ نَفْسِهِ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِسْقُهُ مَظْنُونًا، أَوْ مَقْطُوعًا بِهِ، فَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا، كَفِسْقِ الْحَنَفِيِّ إِذَا شَرِبَ النَّبِيذَ، فَالْأَظْهَرُ قَبُولُ رِوَايَتِهِ وَشَهَادَتِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِذَا شَرِبَ الْحَنَفِيُّ النَّبِيذَ أُحِدُّهُ وَأَقْبَلُ شَهَادَتَهُ. وَإِنْ كَانَ فِسْقُهُ مَقْطُوعًا بِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى الْكَذِبَ وَيَتَدَيَّنُ بِهِ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي امْتِنَاعِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ كَالْخَطَّابِيَّةِ مِنَ الرَّافِضَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ شَهَادَةَ الزُّورِ لِمُوَافَقِيهِمْ فِي الْمَذْهَبِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَفِسْقِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ اسْتَبَاحُوا الدَّارَ، وَقَتَلُوا الْأَطْفَالَ وَالنِّسْوَانَ فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَتْبَاعِهِ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رِوَايَتَهُ وَشَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْجُبَّائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى امْتِنَاعِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَرِوَايَتِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ بِحُجَّةٍ ضَعِيفَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا، أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ الْمَفْرُوضَ، لَوْ كَانَ عَالِمًا بِفِسْقِهِ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ، فَإِذَا كَانَ جَاهِلًا بِفِسْقِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ لَيْسَ بِفَاسِقٍ، فَقَدِ انْضَمَّ إِلَى فِسْقِهِ فِسْقٌ آخَرُ وَخَطِيئَةٌ أُخْرَى، وَهُوَ اعْتِقَادُهُ فِي الْفِسْقِ أَنَّهُ لَيْسَ بِفِسْقٍ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُقْبَلَ خَبَرُهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّهُ فَاسِقٌ، وَكَانَ مُتَحَرِّجًا مُحْتَرِزًا فِي دِينِهِ عَنِ الْكَذِبِ وَارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ، فَكَانَ (1) إِخْبَارُهُ مُغَلِّبًا عَلَى الظَّنِّ صِدْقَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمَ أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ فِسْقًا، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى قِلَّةٍ مُبَالَاتِهِ بِالْمَعْصِيَةِ، وَعَدَمِ تَحَرُّزِهِ عَنِ الْكَذِبِ فَافْتَرَقَا. وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ: أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} أَمْرٌ بِرَدِّ نَبَأِ الْفَاسِقِ.   (1) فَكَانَ - لَعَلَّهُ كَانَ يَحْذِفُ الْفَاءَ لِكَوْنِهِ جَوَابًا لِـ " إِذَا " الشَّرْطِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَطَعَ بِفِسْقِهِ، فَكَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ، غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِيمَنْ كَانَ فِسْقُهُ مَظْنُونًا، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مَقْطُوعٌ بِفِسْقِهِ، فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي خَبَرِ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَفِيمَنْ كَانَ فِسْقُهُ مَظْنُونًا، فَيَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ، فَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ بِقَبُولِ خَبَرِهِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. فَإِنْ قِيلَ: بَيَانُ وُجُودِ الدَّلِيلِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ: أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» " وَالْفَاسِقُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُحْتَرِزٌ عَنِ الْكَذِبِ، مُتَدَيِّنٌ بِتَحْرِيمِهِ، فَكَانَ صِدْقُهُ فِي خَبَرِهِ ظَاهِرًا، فَكَانَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ عُمُومِ الْخَبَرِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالصَّحَابَةَ قَبِلُوا أَقْوَالَ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَالْخَوَارِجِ مَعَ فِسْقِهِمْ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّ الظَّنَّ بِصِدْقِهِ مَوْجُودٌ، فَكَانَ وَاجِبُ الْقَبُولِ مُبَالَغَةً فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ قِيَاسًا عَلَى الْعَدْلِ وَالْمَظْنُونِ فِسْقُهُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَعَنِ الْإِجْمَاعِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَبِلَ شَهَادَةَ الْخَوَارِجِ وَقَتَلَةِ عُثْمَانَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِسْقَهُمْ، فَإِنَّ الْخَوَارِجَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا مُعْتَقِدِينَ فِسْقَ أَنْفُسِهِمْ. وَمَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ الْجَمِيعِ لِفِسْقِهِمْ، وَإِنْ قَبِلُوا شَهَادَتَهُمْ فَلَا يَتَحَقَّقُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْفَاسِقِ. وَعَنِ الْقِيَاسِ بِالْفَرْقِ فِي الْأُصُولِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا. أَمَّا فِي الْعَدْلِ فَلِظُهُورِ عَدَالَتِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِمَنْصِبِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَذَلِكَ يُنَاسِبُ قَبُولَهُ إِعْظَامًا لَهُ وَإِجْلَالًا (1) بِخِلَافِ الْفَاسِقِ. وَأَمَّا فِي مَظْنُونِ الْفِسْقِ فَلِأَنَّ حَالَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ مَنْصِبِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ أَقْرَبُ مِنْ حَالِ مَنْ كَانَ فِسْقُهُ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَبُولِ ثُمَّ الْقَبُولِ هَاهُنَا.   (1) وَأَيْضًا عَدَالَتُهُ تُبْعِدُهُ عَنْ مَوَاطِنِ التُّهَمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ هَلْ يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: هَلْ يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ مِنِ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدِ فِيهِمَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ (1) . وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ إِنَّمَا هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْوَاحِدِ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ دُونَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْأَشْبَهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ وَلَا إِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِ أَحَدِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّشْبِيهِ وَالْقِيَاسِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ، وَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُ فِي إِثْبَاتِهِ عَلَى مَشْرُوطِهِ، فَكَانَ إِلْحَاقُ الشَّرْطِ بِالْمَشْرُوطِ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِهِ أَوْلَى مِنْ إِلْحَاقِهِ بِغَيْرِهِ. وَقَدِ اعْتُبِرَ الْعَدَدُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ دُونَ قَبُولِ الرِّوَايَةِ، فَكَانَ الْحُكْمُ فِي شَرْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي مَشْرُوطِهِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّزْكِيَةُ وَالتَّعْدِيلُ شَهَادَةٌ، فَكَانَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِيهِمَا كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُقُوقِ. قُلْنَا لَيْسَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ بِأَنَّهَا إِخْبَارٌ، فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي قَبُولِهَا كَنَفْسِ الرِّوَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ. قُلْنَا: بَلْ مَا يَقُولُهُ الْخَصْمُ أَوْلَى حَذَرًا مِنْ تَضْيِيعِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ. كَيْفَ وَأَنَّ اعْتِبَارَهُ قَوْلَ الْوَاحِدِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاعْتِبَارَ ضَمِّ قَوْلِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ أَوْلَى مِمَّا يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَتُهُ (2) .   (1) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ (2) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ فِي الْقَوْلِ بِأَقَلِّ مَا قِيلَ هَلْ تَمَسَّكَ قَائِلُهُ بِالْإِجْمَاعِ أَوِ اسْتَنَدَ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ دُونَ ذِكْرِ سَبَبِهِمَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ دُونَ ذِكْرِ سَبَبِهِمَا فَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ فِيهِمَا، أَمَّا فِي الْجَرْحِ فَلِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يُجْرَحُ بِهِ، فَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَهُ جَارِحًا وَغَيْرُهُ لَا يَرَاهُ جَارِحًا، وَأَمَّا فِي الْعَدَالَةِ فَلِأَنَّ مُطْلَقَ التَّعْدِيلِ لَا يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلثِّقَةِ بِالْعَدَالَةِ لِجَرْيِ الْعَادَةِ بِتَسَارُعِ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ فِيهِمَا اكْتِفَاءً بِبَصِيرَةِ الْمُزَكِّي وَالْجَارِحِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبَى بَكْرٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) " لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ الْجَرْحِ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يُجْرَحُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّ سَبَبَهَا وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ". وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ الْحَالَ وَاعْتَبَرَ ذِكْرَ سَبَبِ الْعَدَالَةِ دُونَ الْجَرْحِ، وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي وَالْجَارِحُ عَدْلًا بَصِيرًا بِمَا يَجْرَحُ بِهِ وَيَعْدِلُ، أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، أَوْ كَانَ عَدْلًا وَلَيْسَ بَصِيرًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا بَصِيرًا وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِمُطْلَقِ جَرْحِهِ وَتَعْدِيلِهِ، إِذِ الْغَالِبُ مَعَ كَوْنِهِ عَدْلًا بَصِيرًا أَنَّهُ مَا أَخْبَرَ بِالْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ إِلَّا وَهُوَ صَادِقٌ فِي مَقَالِهِ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ إِظْهَارِ السَّبَبِ مَعَ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُجْرَحُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ الْبَصِيرِ بِجِهَاتِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَنَّهُ أَيْضًا يَكُونُ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ الْجَرْحُ إِلَّا فِي صُورَةٍ عُلِمَ الْوِفَاقُ عَلَيْهَا (1) وَإِلَّا كَانَ مُدَلِّسًا مُلَبِّسًا بِمَا يُوهِمُ الْجَرْحُ عَلَى مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَدَالَةِ وَالدِّينِ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ مَا أَطْلَقَ التَّعْدِيلَ إِلَّا بَعْدَ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِسَرِيرَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ، وَمَعْرِفَةِ اشْتِمَالِهِ عَلَى سَبَبِ الْعَدَالَةِ دُونَ الْبِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ.   (1) هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ فَقَدْ وُجِدَ مَنْ أَطْلَقَ الْجَرْحَ كَشُعْبَةَ، فَلَمَّا اسْتُفْسِرَ فَسَّرَهُ بِمَا فِي الْجَرْحِ بِهِ خِلَافٌ، انْظُرْ كَلَامَ شُرَّاحِ أَلْفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّ لِلْأَبْيَاتِ الْآتِيَةِ: وَلَمْ يَرَوْا قَبُولَ جَرْحٍ أَبْهَمَا - لِلْخُلْفِ فِي أَسْبَابِهِ وَرُبَّمَا اسْتُفْسِرَ الْجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ كَمَا - فَسَّرَهُ شُعْبَةُ بِالرَّكْضِ فَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْأَثَرِ - كَشَيْخِي الصَّحِيحِ مَعَ أَهْلِ النَّظَرِ اهـ. وَلَيْسَ ذَلِكَ تَدْلِيسًا؛ لِأَنَّهُ جَرَحَ الرَّاوِيَ بِمَا هُوَ جَرْحٌ فِي نَظَرِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إِذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إِذَا تَعَارَضَ الْجَرْحُ وَالتَّعْدِيلُ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجَارِحُ قَدْ عَيَّنَ السَّبَبَ، أَوْ لَمْ يُعَيِّنْهُ: فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ فَقَوْلُ الْجَارِحِ يَكُونُ مُقَدَّمًا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُعَدِّلُ، وَلَا نَفَاهُ لِامْتِنَاعِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّفْيِ. وَإِنْ عَيَّنَ السَّبَبَ بِأَنْ يَقُولَ تَقْدِيرًا: رَأَيْتُهُ، وَقَدْ قَتَلَ فُلَانًا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ الْمُعَدِّلُ لِنَفْيِ ذَلِكَ، أَوْ يَتَعَرَّضَ لِنَفْيِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَقَوْلُ الْجَارِحِ يَكُونُ مُقَدَّمًا لِمَا سَبَقَ، وَإِنْ تَعَرَّضَ لِنَفْيِهِ بِأَنْ قَالَ: رَأَيْتُ فُلَانًا الْمُدَّعَى قَتَلَهُ حَيًّا بَعْدَ ذَلِكَ، فَهَاهُنَا يَتَعَارَضَانِ، وَيَصِحُّ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ، وَشِدَّةِ الْوَرَعِ وَالتَّحَفُّظِ، وَزِيَادَةِ الْبَصِيرَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تُرَجَّحُ بِهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ (1) .   (1) أَيْ فِي قَاعِدَةِ التَّرْجِيحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي طُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ فِي طُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَمَّا طُرُقُ التَّعْدِيلِ فَمُتَفَاوِتَةٌ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُصَرِّحَ الْمُزَكِّي بِالتَّعْدِيلِ قَوْلًا، أَوْ لَا يُصَرِّحُ بِهِ. فَإِنْ صَرَّحَ بِهِ بِأَنْ يَقُولَ: " هُوَ عَدْلٌ " رِضًا، فَإِمَّا أَنْ يَذْكُرَ مَعَ ذَلِكَ السَّبَبَ بِأَنْ يَقُولَ (لِأَنِّي عَرَفْتُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا) أَوْ لَا يَذْكُرُ السَّبَبَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَهُوَ تَعْدِيلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ مِنْهُ التَّعْدِيلُ، كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهَذَا الطَّرِيقُ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوَّلِ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ وَلِنُقْصَانِ الْبَيَانِ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ (1) . وَأَمَّا إِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْدِيلِ قَوْلًا، لَكِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ، أَوْ عَمِلَ بِرِوَايَتِهِ، أَوْ رَوَى عَنْهُ خَبَرًا. فَإِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ فَهُوَ أَيْضًا تَعْدِيلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ الْحَاكِمُ فَاسِقًا بِشَهَادَةِ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ عِنْدَهُ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَعْلَى مِنَ التَّزْكِيَةِ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ سَبَبٍ لِتَفَاوُتِهِمَا فِي الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى الْحُكْمَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّزْكِيَةِ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ، فَالْأَشْبَهُ التَّعَادُلُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِمَا. وَالْأَوَّلُ وَإِنِ اخْتَصَّ بِذِكْرِ السَّبَبِ، فَهَذَا مُخْتَصٌّ بِإِلْزَامِ الْغَيْرِ بِقَبُولِ الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا إِنْ عَمِلَ بِرِوَايَتِهِ عَلَى وَجْهٍ عُلِمَ أَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِي الْعَمَلِ سِوَاهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ أَيْضًا تَعْدِيلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ عَمَلُهُ بِرِوَايَةِ مَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ فِسْقًا. وَهَذَا الطَّرِيقُ، وَإِنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ مُسْتَنِدًا إِلَى ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالسَّلَامَةِ مِنَ الْفِسْقِ ظَاهِرًا، كَمَا فِي التَّعْدِيلِ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ   (1) هَذَا فِيمَا إِذَا أَثْنَى عَلَى مَنْ زَالَتْ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ، أَمَّا إِذَا أَثْنَى عَلَى مُبْهَمٍ، كَأَنْ يَقُولُ حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُتَوَقَّفُ فِي الْحُكْمِ بِعَدَالَتِهِ حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ، وَيُنْظَرُ فِي حَالِهِ فَقَدْ يَعْلَمُ فِيهِ جَرْحًا غَيْرُ مَنْ عَدَّلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 السَّبَبِ، فَهُوَ رَاجِحٌ عَلَى التَّعْدِيلِ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ السَّبَبِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَالِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَمَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّزْكِيَةِ بِالْقَوْلِ مَعَ ذِكْرِ السَّبَبِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ أَعْلَى مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ. وَلِذَلِكَ اشْتُرِطَ فِيهِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَعْرِيفُهُ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ وَالِاحْتِرَازُ فِيهَا أَتَمَّ وَأَوْفَى. وَأَمَّا إِنْ رَوَى عَنْهُ، فَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ تَعْدِيلٌ أَوْ لَا. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ وَقَالَ: إِنْ عُرِفَ مِنْ قَوْلِ الْمُزَكِّي أَوْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنِ الْعَدْلِ، فَهُوَ تَعْدِيلٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالرِّوَايَةِ عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْ عَدَالَتِهِ لَتُوُقِّفَ فِيهَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رِوَايَتِهِ عَنْهُ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِعَدَالَتِهِ، أَنْ يَكُونَ مُلَبِّسًا مُدَلِّسًا فِي الدِّينِ كَمَا قِيلَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ أَوْجَبَتْ رِوَايَتُهُ عَنْهُ عَلَى الْغَيْرِ الْعَمَلَ بِهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ قَالَ: (سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا) فَعَلَى السَّامِعِ بِالْكَشْفِ عَنْ حَالِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ إِنْ رَامَ الْعَمَلَ بِمُقْتَضَى رِوَايَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُقَصِّرًا، وَهَذَا الطَّرِيقُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَاقِي الطُّرُقِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّصْرِيحِ بِالتَّعْدِيلِ فَظَاهِرٌ، وَلَا سِيَّمَا إِنِ اقْتَرَنَ بِذِكْرِ السَّبَبِ لِلِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ. وَلِهَذَا يَكُونُ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَلِاخْتِصَاصِ الشَّهَادَةِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَمَلِ بِالرِّوَايَةِ، فَلِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ الرِّوَايَةِ وَاخْتِصَاصِ أَحَدِهِمَا بِالْعَمَلِ بِهَا. وَأَمَّا طُرُقُ الْجَرْحِ، أَنْ يُصَرِّحَ بِكَوْنِهِ مَجْرُوحًا، وَيَذْكُرَ مَعَ ذَلِكَ سَبَبَ الْجَرْحِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ سَبَبَ الْجَرْحِ، فَهُوَ جَرْحٌ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، لَكِنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ، لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَلِلِاتِّفَاقِ عَلَى الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ مِنَ الْجَرْحِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ وَالْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ غَيْرِ الْجَرْحِ. وَذَلِكَ إِمَّا لِمُعَارِضٍ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ غَيْرُ ضَابِطٍ أَوْ لِغَلَبَةِ النِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهِ، وَلَا الشَّهَادَةُ بِالزِّنَا، وَكُلُّ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إِذَا لَمْ يُكْمِلْ نِصَابَ الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 لَمْ يَأْتِ بِصَرِيحِ الْقَذْفِ، وَإِنَّمَا جَاءَ ذَلِكَ مَجِيءَ الشَّهَادَةِ، وَلَا بِمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَقَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ، كَاللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ وَشُرْبِ النَّبِيذِ وَنَحْوِهِ، وَلَا بِالتَّدْلِيسِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ مَنْ لَمْ يُعَاصِرِ الزُّهْرِيَّ مَثَلًا، وَلَكِنَّهُ رَوَى عَمَّنْ لَقِيَهُ قَوْلًا يُوهِمُ أَنَّهُ لَقِيَهُ (1) وَكَقَوْلِهِ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ وَرَاءَ النَّهْرِ، مُوهِمًا أَنَّهُ يُرِيدُ جَيْحَانَ، وَإِنَّمَا يُشِيرُ بِهِ إِلَى نَهْرِ عِيسَى مَثَلًا، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمَعَارِيضِ الْمُغْنِيَةِ عَنِ الْكَذِبِ. [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْأَئِمَّةِ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ (2) . وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْعَدَالَةِ حُكْمُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي لُزُومِ الْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ عِنْدَ الرِّوَايَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا عُدُولًا إِلَى حِينِ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالْفِتَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَبَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ فِي الْعَدَالَةِ عَنِ الرَّاوِي أَوِ الشَّاهِدِ مِنْهُمْ، إِذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ.   (1) تَدْلِيسُ الْإِسْنَادِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ أَنْ يَرْوِيَ الْمُحَدِّثُ عَمَّنْ لَقِيَهُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، مُوهِمًا أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ بِصِيغَةٍ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الِاتِّصَالِ، كَرِوَايَةِ مَنْ لَقِيَ الزُّهْرِيَّ حَدِيثًا عَنْهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ بِصِيغَةِ عَنْ، وَقَالَ لِيُوهِمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَكَانَ عَاصَرَهُ، وَلَمْ يَلْقَهُ فَمُرْسَلٌ خَفِيٌّ، وَمَنِ اكْتَفَى بِاشْتِرَاطِ الْمُعَاصَرَةِ فِي التَّدْلِيسِ جَعَلَ الْمُرْسَلَ الْخَفِيَّ نَوْعًا مِنْهُ، وَالصَّوَابُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَبِذَلِكَ يُعْرَفُ مَا فِي كَلَامِ الْآمِدِيِّ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ. (2) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ وَطُرُقِ مَعْرِفَةِ صُحْبَتِهِ وَمَعْرِفَةِ حَالِهِ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي جَعَلَهَا فِي مَطْلَعِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْإِصَابَةِ فِي تَمْيِيزِ الصَّحَابَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا عَالِمًا مِنْهُمْ، فَهُوَ فَاسِقٌ مَرْدُودُ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ، لِخُرُوجِهِمْ عَنِ الْإِمَامِ الْحَقِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِرَدِّ رِوَايَةِ الْكُلِّ وَشَهَادَتِهِمْ ; لِأَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ فَاسِقٌ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مُعَيَّنٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِقَبُولِ رِوَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَشَهَادَتِهِ إِذَا انْفَرَدَ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْعَدَالَةُ، وَقَدْ شَكَكْنَا فِي فِسْقِهِ، وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ لِتَحَقُّقِ فِسْقِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَذَلِكَ بِمَا تَحَقَّقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَنَزَاهَتِهِمْ وَتَخْيِيرِهِمْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ عُدُولًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وَهُوَ خِطَابٌ مَعَ الصَّحَابَةِ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» " (1) وَالِاهْتِدَاءُ بِغَيْرِ عَدْلٍ مُحَالٌ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لِي أَصْحَابًا وَأَصْهَارًا وَأَنْصَارًا» " (2) وَاخْتِيَارُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ لِمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ. وَمِنْهَا مَا ظَهَرَ وَاشْتُهِرَ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ مِنْ مُنَاصَرَتِهِمْ لِلرَّسُولِ وَالْهِجْرَةِ إِلَيْهِ، وَالْجِهَادِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى أُمُورِ الدِّينِ، وَإِقَامَةِ الْقَوَانِينِ، وَالتَّشَدُّدِ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ وَنَوَاهِيهِ، وَالْقِيَامِ بِحُدُودِهِ وَمَرَاسِيمِهِ، حَتَّى إِنَّهُمْ قَتَلُوا الْأَهْلَ وَالْأَوْلَادَ حَتَّى قَامَ الدِّينُ وَاسْتَقَامَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْعَدَالَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْمَلَ كُلُّ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْفِتَنِ عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنِ اعْتِقَادِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ مَا صَارَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ أَوْفَقُ لِلدِّينِ وَأَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى هَذَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا أَوْ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ وَالْآخَرُ مُخْطِئٌ فِي اجْتِهَادِهِ.   (1) انْظُرْ مَا سَبَقَ تَعْلِيقًا ص 232 ج1. (2) قَالَ أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْمَقْدِسِيُّ فِي تَذْكِرَةِ الْمَوْضُوعَاتِ: حَدِيثُ (إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ لِي أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا) فِيهِ ابْنُ عُبَيْدٍ، وَقَالَ: قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: وَالْحَدِيثُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، فَالشَّهَادَةُ وَالرِّوَايَةُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لَا تَكُونُ مَرْدُودَةً أَمَّا بِتَقْدِيرِ الْإِصَابَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ الْخَطَأِ مَعَ الِاجْتِهَادِ فَبِالْإِجْمَاعِ. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا أَرَدْنَاهُ مِنْ بَيَانِ عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى بَيَانِ مَنْ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّحَابِيِّ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ الخلاف فِي مُسَمَّى الصَّحَابِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اخْتَلَفُوا فِي مُسَمَّى الصَّحَابِيِّ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصَ الْمَصْحُوبِ، وَلَا رَوَى عَنْهُ، وَلَا طَالَتْ مُدَّةُ صُحْبَتِهِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصَ الْمَصْحُوبِ، وَطَالَتْ مُدَّةُ صُحْبَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ. وَذَهَبَ عَمْرُو بْنُ يَحْيَى إِلَى أَنَّ هَذَا الِاسْمَ إِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخَذَ عَنْهُ الْعِلْمَ. وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَ آيِلًا إِلَى النِّزَاعِ فِي الْإِطْلَاقِ اللَّفْظِيِّ، فَالْأَشْبَهُ إِنَّمَا هُوَ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّاحِبَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الصُّحْبَةِ، وَالصُّحْبَةُ تَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَمِنْهُ يُقَالُ صَحِبْتُهُ سَاعَةً، وَصَحِبْتُهُ يَوْمًا وَشَهْرًا، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ كَلَّمَنِي وَحَدَّثَنِي وَزَارَنِي، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُكَلِّمْهُ وَلَمْ يُحَدِّثْهُ وَلَمْ يَزُرْهُ سِوَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَصْحَبُ فُلَانًا فِي السَّفَرِ، أَوْ لَيَصْحَبَنَّهُ، فَإِنَّهُ يَبَرُّ وَيَحْنَثُ بِصُحْبَتِهِ سَاعَةً. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ: صَحِبْتُ فُلَانًا، فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: صَحِبْتُهُ سَاعَةً أَوْ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَلْ أَخَذْتَ عَنْهُ الْعِلْمَ وَرَوَيْتَ عَنْهُ، أَوْ لَا، وَلَوْلَا أَنَّ الصُّحْبَةَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَلَمْ تَكُنْ مُخْتَصَّةً بِحَالَةٍ مِنْهَا، لَمَا احْتِيجَ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ (1) .   (1) قَدْ يُقَالُ لَوْ كَانَتِ الصُّحْبَةُ شَامِلَةً لِجَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَمَا احْتِيجَ أَيْضًا إِلَى اسْتِفْهَامٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الصَّاحِبَ فِي الْعُرْفِ إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُكَاثِرِ الْمُلَازِمِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: أَصْحَابُ الْقَرْيَةِ، وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ وَأَصْحَابُ الرَّسُولِ، وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ، لِلْمُلَازِمِينَ لِذَلِكَ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ لِلْمُلَازِمِينَ لِدِرَاسَتِهِ وَمُلَازَمَتِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ لَمْ يَصْحَبْ فُلَانًا، لَكِنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهِ أَوْ رَآهُ أَوْ عَامَلَهُ، وَالْأَصْلُ فِي النَّفْيِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَ طُولِ الْمُدَّةِ مِنْ أَخْذِ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ الْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ (1) وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ رَآهُمَا وَعَاشَرَهُمَا طَوِيلًا وَلَمْ يَأْخُذْ عَنْهُمَا، أَنَّهُ صَاحِبٌ لَهُمَا. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْمَ الصَّاحِبِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى الْمُكَاثِرِ الْمُلَازِمِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ إِطْلَاقِ اسْمِ الصَّاحِبِ عَلَى الْمُلَازِمِ الْمُكَاثِرِ كَمَا فِي الصُّوَرِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا امْتِنَاعُ إِطْلَاقِهِ عَلَى غَيْرِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ بِصِحَّةِ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى الْمُكَاثِرِ وَغَيْرِهِ حَقِيقَةً، نَظَرًا إِلَى مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ، وَالِاشْتِرَاكُ عَنِ اللَّفْظِ وَصِحَّةِ النَّفْيِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الصَّاحِبَ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، وَإِنْ كَانَ لِمَنْ قَلَّتْ صُحْبَتُهُ أَوْ كَثُرَتْ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ لِمَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ، فَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُ الصُّحْبَةِ بِالْمَعْنَى الْعُرْفِيِّ فَحَقٌّ، وَإِنْ أُرِيدَ نَفْيُهَا بِالْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فَلَا يَصِحُّ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَمَّا قِيلَ مِنِ اشْتِرَاطِ أَخْذِ الْعِلْمِ وَالرِّوَايَةِ عَنْهُ أَيْضًا. وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ، فَلَوْ قَالَ مَنْ عَاصَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا صَحَابِيٌّ مَعَ إِسْلَامِهِ وَعَدَالَتِهِ، فَالظَّاهِرُ صِدْقُهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي ذَلِكَ، لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا بِدَعْوَى رُتْبَةٍ يُثْبِتُهَا لِنَفْسِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنَا عَدْلٌ، أَوْ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِحَقٍّ. هَذَا مَا أَرَدْنَاهُ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ.   (1) الْمُزَنِيُّ هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ الْمِصْرِيُّ الشَّافِعِيُّ مَاتَ سَنَةَ 264 هـ عَنْ 89 سَنَةً، وَأَبُو يُوسُفَ هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيُّ الْكُوفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْقَاضِي، مَاتَ سَنَةَ 182، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الشَّيْبَانِيُّ مَاتَ سَنَةَ 189. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي ظُنَّ أَنَّهَا شُرُوطٌ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ. فَشُرُوطٌ: مِنْهَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الْخَبَرِ الْعَدَدُ، بَلْ يَكْفِي فِي الْقَبُولِ خَبَرُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ، خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُقْبَلُ إِلَّا أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ خَبَرُ عَدْلٍ آخَرَ، أَوْ مُوَافَقَةٌ ظَاهِرًا، وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَشِرًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، أَوْ عَمَلَ بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ الْخَبَرُ فِي الزِّنَا إِلَّا مِنْ أَرْبَعَةٍ. وَالْوَجْهُ فِي الِاحْتِجَاجِ وَالِانْفِصَالِ مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ وُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَأَيْضًا فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الذُّكُورَةُ لِمَا اشْتُهِرَ مِنْ أَخْذِ الصَّحَابَةِ بِأَخْبَارِ النِّسَاءِ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَلَا الْبَصَرُ، بَلْ يَجُوزُ قَبُولُ رِوَايَةِ الضَّرِيرِ إِذَا كَانَ حَافِظًا لِمَا يَسْمَعُهُ وَلَهُ آلَةُ أَدَائِهِ. وَلِهَذَا كَانَتِ الصَّحَابَةُ تَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ مَا تَسْمَعُهُ مِنْ صَوْتِهَا، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ شَخْصَهَا: وَلَا عَدَمُ الْقَرَابَةِ، بَلْ تَجُوزُ رِوَايَةُ الْوَلَدِ، وَبِالْعَكْسِ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا عَدَمُ الْعَدَاوَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّوَايَةِ عَامٌّ، فَلَا يَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، حَتَّى تَكُونَ الْعَدَاوَةُ مُؤَثِّرَةً فِيهِ، وَلَا الْحُرِّيَّةُ، بَلْ هَذِهِ الْأُمُورُ إِنَّمَا تُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا فِي الرَّاوِي أَنْ يَكُونَ مُكْثِرًا مِنْ سَمَاعِ الْأَحَادِيثِ مَشْهُورَ النَّسَبِ، لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَرْوِ سِوَى خَبَرٍ وَاحِدٍ وَعَلَى قَبُولِ رِوَايَةِ مَنْ لَا يُعْرَفُ نَسَبُهُ، إِذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى الشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ. وَلَا يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ وَبِمَعْنَى الْخَبَرِ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ رِوَايَتُهُ مُوَافِقَةً لِلْقِيَاسِ أَوْ مُخَالِفَةً خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا» " إِلَى قَوْلِهِ: " «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» " دَعَا لَهُ وَأَقَرَّهُ عَلَى الرِّوَايَةِ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولَ الْقَوْلِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ سَمِعُوا أَخْبَارَ آحَادٍ لَمْ يَكُونُوا فُقَهَاءَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَلِأَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى خَبَرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالظَّاهِرُ مِنَ الرَّاوِي إِذَا كَانَ عَدْلًا مُتَدَيِّنًا أَنَّهُ لَا يَرْوِي إِلَّا مَا يَتَحَقَّقُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَمِعَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 [الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي مُسْتَنَدَاتِ الرَّاوِي وَكَيْفِيَّةِ رِوَايَتِهِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى قول الصَّحَابِيُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا] الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي مُسْتَنَدَاتِ الرَّاوِي وَكَيْفِيَّةِ رِوَايَتِهِ الرَّاوِي لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا أَوْ غَيْرَ صَحَابِيٍّ، فَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ كَذَا أَوْ أَخْبَرَنِي أَوْ حَدَّثَنِي أَوْ شَافَهَنِي رَسُولُ اللَّهِ بِكَذَا، فَهُوَ خَبَرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبُ الْقَبُولِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ كَذَا، اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكُونُ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: لَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ قَالَ بِعَدَالَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَا لَوْ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ حُكْمَ الرَّاوِي مِنَ الصَّحَابَةِ حُكْمُ غَيْرِهِمْ فِي وُجُوبِ الْكَشْفِ عَنْ حَالِ الرَّاوِي مِنْهُمْ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَرَاسِيلِ تَابِعِ التَّابِعِينَ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِيهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى سَمَاعِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ مَعَ إِمْكَانِ سَمَاعِهِ مِنَ الْوَاسِطَةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: " قَالَ " يُوهِمُ السَّمَاعَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ إِيهَامًا ظَاهِرًا. وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ الْعَارِفِ بِأَوْضَاعِ اللُّغَةِ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِلَفْظٍ يُوهِمُ مَعْنًى، وَيُرِيدُ غَيْرَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قول الصَّحَابِيُّ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَأْمُرُ بِكَذَا أَوْ يَنْهَى عَنْ كَذَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِكَذَا أَوْ يَنْهَى عَنْ كَذَا) اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حُجَّةً. فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ إِنَّمَا هُوَ بِلَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ " سَمِعْتُهُ يَأْمُرُ وَيَنْهَى " لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي صِيَغِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَعَلَّهُ سَمِعَ صِيغَةً اعْتَقَدَ أَنَّهَا أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِشَيْءٍ، أَوْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ، وَهُوَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ، فَنَقَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ، وَلَيْسَ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ اعْتِمَادُ الْأَكْثَرِينَ، أَنَّهُ حُجَّةٌ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ مَعَ عَدَالَتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَوْضَاعِ اللُّغَةِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقُلُ إِلَّا مَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، نَفْيًا لِلتَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ عَنْهُ بِنَقْلِ مَا يُوجِبُ عَلَى سَامِعِهِ اعْتِقَادَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيمَا لَا يَعْتَقِدُهُ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قول الصَّحَابِيُّ أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِيْنَا عَنْ كَذَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: أُمِرْنَا بِكَذَا أَوْ نُهِيْنَا عَنْ كَذَا، وَأُوْجِبَ عَلَيْنَا كَذَا وَحُرِّمَ عَلَيْنَا كَذَا، أَوْ أُبِيحَ لَنَا كَذَا، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ إِضَافَةُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْكَرْخِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُضَافًا إِلَى أَمْرِ الْكِتَابِ أَوِ الْأُمَّةِ، أَوْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ عَنِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالْقِيَاسِ، وَأَضَافَهُ إِلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُوجَبَ الْقِيَاسِ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِهِ مِنَ الشَّارِعِ. وَإِذَا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ، لَا يَكُونُ مُضَافًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً. وَالظَّاهِرُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى جَمَاعَةٍ وَهُمْ بِصَدَدِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيِهِ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: أُمِرْنَا بِكَذَا، وَنُهِيْنَا عَنْ كَذَا، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَمْرَ ذَلِكَ الْمُقَدَّمِ وَنَهْيَهُ، وَالصَّحَابَةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هَذَا النَّحْوِ. فَإِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ مِنْهُمْ: أُمِرْنَا أَوْ نُهِيْنَا كَانَ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَمْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَهْيَهُ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَمْرِ الْكِتَابِ وَنَهْيِهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ ظَاهِرًا لِلْكُلِّ، فَلَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ، وَلَا عَلَى أَمْرِ الْأُمَّةِ وَنَهْيِهَا ; لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا وَنُهِينَا قَوْلُ الْأُمَّةِ، وَهُمْ لَا يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَلَا عَلَى أَمْرِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذْ لَيْسَ أَمْرُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. كَيْفَ وَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ ثَابِتًا بِأَمْرِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَنَهْيِهِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا قِيلَ مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِنْبَاطِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ أُمِرْنَا وَنُهِيْنَا خِطَابٌ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَا ظَهَرَ لِبَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ حُكْمِهِ، فَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ ذَلِكَ الْقِيَاسُ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ أُمِرْنَا وَنُهِيْنَا بِكَذَا عَنْ كَذَا إِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، لَا الْأَمْرُ بِاتِّبَاعِ حُكْمِ الْقِيَاسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ كَذَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِ الصَّحَابِيِّ: مِنَ السُّنَّةِ كَذَا. فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافًا لِأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ (1) مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ، وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُسَالَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. فَإِنْ قِيلَ اسْمُ السُّنَّةِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ سُنَّةِ النَّبِيِّ، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» ". وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ، فَلَا يَكُونُ صَرْفُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. قُلْنَا: وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ إِطْلَاقِ السُّنَّةِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ إِرَادَةِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلٌ، وَسُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ تَبَعٌ لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَقْصُودُ الصَّحَابِيِّ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الشَّرْعِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِسْنَادَ مَا قُصِدَ بَيَانُهُ إِلَى الْأَصْلِ أَوْلَى مِنْ إِسْنَادِهِ إِلَى التَّابِعِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ السُّنَّةِ فِي كَلَامِ الصَّحَابِيِّ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى.   (1) أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ دَلَهُمِ بْنِ دَلَالٍ الْبَغْدَادِيُّ الْحَنَفِيُّ مَاتَ 340 عَنْ 80 سَنَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قول الصَّحَابِيُّ كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ إِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: كُنَّا نَفْعَلُ كَذَا، وَكَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، وَذَلِكَ كَقَوْلِ عَائِشَةَ: " كَانُوا لَا يَقْطَعُونَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ ". وَكَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ (1) كَانُوا يَحْذِفُونَ التَّكْبِيرَ حَذْفًا، فَهُوَ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مَحْمُولٌ عَلَى فِعْلِ الْجَمَاعَةِ دُونَ بَعْضِهِمْ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ. وَيَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا أَوْرَدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الِاحْتِجَاجِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً إِنْ لَوْ كَانَ مَا نَقَلَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى فِعْلِ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَلَا عَلَى غَيْرِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى فِعْلِ الْجَمِيعِ لَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلَمَا سَاغَ مُخَالَفَتُهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، وَحَيْثُ سَوَّغْتُمْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى عَوْدِهِ إِلَى الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ. قُلْنَا: تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيهِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ إِضَافَةَ ذَلِكَ إِلَى الْجَمِيعِ وَقَعَ ظَنًّا لَا قَطْعًا، وَذَلِكَ كَمَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْقَاطِعَةِ فِي الدَّلَالَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا كَانَ طَرِيقُ اتِّبَاعِهِ ظَنِّيًّا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ عِنْدَمَا إِذَا ثَبَتَ بِطَرِيقٍ قَاطِعٍ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ صَحَابِيٍّ، فَمُسْتَنَدُهُ فِي الرِّوَايَةِ إِمَّا قِرَاءَةُ الشَّيْخِ، لِمَا يَرْوِيهِ عَنْهُ، أَوِ الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ أَوْ إِجَازَةُ الشَّيْخِ لَهُ، أَوْ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِمَا يَرْوِيهِ عَنْهُ، أَوْ يُنَاوِلُهُ الْكِتَابَ الَّذِي يَرْوِيهِ عَنْهُ، أَوْ أَنْ يَرَى خَطًّا يَظُنُّهُ خَطَّ الشَّيْخِ بِأَنِّي سَمِعْتُ عَنْ فُلَانٍ كَذَا. فَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ فِي الرِّوَايَةِ قِرَاءَةَ الشَّيْخِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ قَدْ قَصَدَ إِسْمَاعَهُ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ إِسْمَاعَهُ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ: فَإِنْ قَصَدَ إِسْمَاعَهُ بِالْقِرَاءَةِ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ، فَهَذَا هُوَ أَعْلَى الرُّتَبِ فِي الرِّوَايَةِ، وَلِلرَّاوِي عَنْهُ   (1) إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ أَبُو عِمْرَانَ الْكُوفِيُّ الْفَقِيهُ مَاتَ 96 عَنْ 49 أَوْ عَنْ 58 سَنَةً، وَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحَابِيٍّ فَذِكْرُهُ هُنَا وَهْمٌ وَكَانَ يَجِبُ تَأْخِيرُهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَأَمَّا إِنْ كَانَ الرَّاوِي غَيْرَ صَحَابِيٍّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا، وَقَالَ فُلَانٌ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إِسْمَاعَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي ذَلِكَ، بَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا، وَيُحَدِّثُ بِكَذَا، وَيُخْبِرُ بِكَذَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عَلَى الشَّيْخِ مَعَ سُكُوتِ الشَّيْخِ مِنْ غَيْرِ مَا يُوجِبُ السُّكُوتَ عَنِ الْإِنْكَارِ، مِنْ إِكْرَاهٍ أَوْ غَفْلَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ رِوَايَتُهُ صَحِيحَةً لَكَانَ سُكُوتُهُ عَنِ الْإِنْكَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فِسْقًا، لِمَا فِيهِ مِنْ إِيهَامِ صِحَّةِ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَدْلِ الْمُتَدَيِّنِ. ثُمَّ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالصِّحَّةِ عَلَى تَسْلِيطِ الرَّاوِي عَلَى قَوْلِهِ: أَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا فُلَانٌ قِرَاءَةً عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ قَوْلِهِ: حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا مُطْلَقًا، وَالْأَظْهَرُ امْتِنَاعُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِنُطْقِ الشَّيْخِ، وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نُطْقٍ مِنْهُ كَذِبٍ. وَأَمَّا إِجَازَةُ الشَّيْخِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ، أَوْ مَا صَحَّ عِنْدَكَ مِنْ مَسْمُوعَاتِي، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ: فَجَوَّزَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدِّثِينَ، وَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ عَلَى تَسْلِيطِ الرَّاوِي عَلَى قَوْلِهِ: أَجَازَنِي فُلَانٌ كَذَا وَحَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي إِجَازَةً، وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ حَدَّثَنِي وَأَخْبَرَنِي مُطْلَقًا. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِنُطْقِ الشَّيْخِ بِذَلِكَ وَهُوَ كَذِبٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ مُطْلَقًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ (1) مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، إِنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُجِيزُ وَالْمُجَازُ لَهُ قَدْ عَلِمَا مَا فِي الْكِتَابِ الَّذِي أَجَازَ رِوَايَتَهُ، جَازَتْ رِوَايَتُهُ بِقَوْلِهِ: أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي.   (1) أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ هُوَ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَصَّاصُ الْبَغْدَادِيُّ الْفَقِيهُ الْحَنَفِيُّ مَاتَ سَنَةَ 370 عَنْ 75 سَنَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَتَبَ إِنْسَانٌ صَكًّا، وَالشُّهُودُ يَرَوْنَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِجَمِيعِ مَا فِي هَذَا الصَّكِّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ إِقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَإِلَّا فَلَا. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ جَوَازُ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُجِيزَ عَدْلٌ ثِقَةٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا مَا عُلِمَ صِحَّتُهُ، وَإِلَّا كَانَ بِإِجَازَتِهِ رِوَايَةَ مَا لَمْ يَرَوْهُ فَاسِقًا، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْعَدْلِ. وَإِذَا عُلِمَتِ الرِّوَايَةُ أَوْ ظُنَّتْ بِإِجَازَتِهِ، جَازَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الْقَارِئَ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِتٌ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْمُحَدِّثِ فِعْلُ الْحَدِيثِ، وَلَا مَا يَجْرِي مَجْرَى فِعْلِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي عَنْهُ: أَخْبَرَنِي، وَلَا حَدَّثَنِي لِأَنَّهُ يَكُونُ كَذِبًا، وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، فَحَيْثُ لَمْ يُحَدِّثْ بِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَهُ. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ بِمَا إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَنِ الشَّيْخِ هُوَ الْقَارِئَ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الشَّيْخِ فِعْلُ الْحَدِيثِ، وَلَا مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِنَفْسِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّاوِي أَنْ يَقُولَ: أَخْبَرَنِي وَحَدَّثَنِي حَيْثُ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ عَلَيْهِ مَعَ السُّكُوتِ دَلِيلَ صِحَّةِ الْحَدِيثِ. وَعَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْإِجَازَةِ وَالْمُزَيَّفِ وَالْمُخْتَارِ يَكُونُ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا نَاوَلَهُ كِتَابًا فِيهِ حَدِيثٌ سَمِعَهُ، وَقَالَ لَهُ: قَدْ أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا فِيهِ، وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: نَاوَلَنِي فُلَانٌ كَذَا، وَأَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي مُنَاوَلَةً. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ أَيْضًا إِذَا كَتَبَ إِلَيْهِ بِحَدِيثٍ، وَقَالَ: أَجَزْتُ لَكَ رِوَايَتَهُ عَنِّي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَيُسَلِّطُ الرَّاوِي عَلَى أَنْ يَقُولَ: كَاتَبَنِي بِكَذَا وَحَدَّثَنِي أَوْ أَخْبَرَنِي بِكَذَا كِتَابَةً. وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ دُونَ لَفْظِ الْإِجَازَةِ، لَمْ تَجُزْ لَهُ الرِّوَايَةُ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكِتَابَةِ وَالْمُنَاوَلَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْوِيغِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ وَلَا عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ فِي نَفْسِهِ. أَمَّا رُؤْيَةُ خَطِّ الشَّيْخِ بِأَنِّي سَمِعْتُ مِنْ فُلَانٍ كَذَا، فَلَا يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، وَسَوَاءٌ قَالَ: هَذَا خَطِّي، أَوْ لَمْ يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكْتُبُ مَا سَمِعَهُ، ثُمَّ يُشَكِّكُ فِيهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّسْلِيطِ مِنْ قِبَلِ الشَّيْخِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِطَرِيقَةٍ، إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ رِوَايَةُ مَا شَكَّ فِي رِوَايَتِهِ، إِجْمَاعًا، وَعَلَى هَذَا، فَلَوْ رَوَى كِتَابًا عَنْ بَعْضِ الْمُحَدِّثِينَ، وَشَكَّ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 غَيْرِ مُعَيَّنٍ، لَمْ تَجُزْ لَهُ رِوَايَتُهُ (1) شَيْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَشْكُوكُ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ رَوَى عَنْ جَمَاعَةٍ حَدِيثًا، وَشَكَّ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، فَلَيْسَ لَهُ الرِّوَايَةُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَشْكُوكَ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَالرِّوَايَةُ مَعَ الشَّكِّ مُمْتَنِعَةٌ. نَعَمْ، لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ رِوَايَةُ الْحَدِيثِ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وَسَمَاعِهِ مِنْهُ، فَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ وَلَا الْعَمَلُ بِهِ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ، كَمَا فِي الشَّهَادَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: تَجُوزُ لَهُ الرِّوَايَةُ وَالْعَمَلُ بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِحَّتُهُ. وَلِهَذَا فَإِنَّ آحَادَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَحْمِلُونَ كُتُبَ الرَّسُولِ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ فِي أُمُورِ الصَّدَقَاتِ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْأَخْذُ بِهَا بِإِخْبَارِ حَامِلِهَا أَنَّهَا مِنْ كُتُبِ الرَّسُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا فِيهَا مِمَّا سَمِعَهُ الْحَامِلُ، وَلَا الْمَحْمُولُ إِلَيْهِ لِكَوْنِهَا مُغَلِّبَةً عَلَى الظَّنِّ. وَلَا كَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ ; لِأَنَّهُ قَدِ اعْتُبِرَ فِيهَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ مَا لَمْ يُعْتَبَرْ مِثْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَعَلَى هَذَا، فَلَوْ قَالَ عَدْلٌ مِنْ عُدُولِ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ، إِنَّهُ صَحِيحٌ، فَالْحُكْمُ فِي جَوَازِ الْأَخْذِ بِهِ وَالْخِلَافِ فِيهِ، كَمَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ يَرْوِيهِ، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ رِوَايَتُهُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا ظَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ.   (1) رِوَايَتُهُ - الصَّوَابُ رِوَايَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 [الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِيمَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى نَقْلِ حَدِيثِ النَّبِيِّ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ] الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِيمَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ وَفِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفُوا فِي نَقْلِ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. وَالَّذِي عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى النَّاقِلِ، إِذْ (1) كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ، فَالْأَوْلَى لَهُ النَّقْلُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ إِذْ هُوَ أَبْعَدُ عَنِ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ وَسُوءِ التَّأْوِيلِ. وَإِنْ نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الْمَعْنَى، وَلَا نُقْصَانٍ مِنْهُ، فَهُوَ جَائِزٌ. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ (2) وَجَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ وُجُوبُ نَقْلِ اللَّفْظِ عَلَى صُورَتِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ وَقَالَ: بِجَوَازِ إِبْدَالِ اللَّفْظِ بِمَا يُرَادِفُهُ، وَلَا يَشْتَبِهُ الْحَالُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا عَدَا ذَلِكَ. وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْأَثَرُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا النَّصُّ، فَمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ تُحَدِّثُنَا بِحَدِيثٍ لَا نَقْدِرُ أَنْ نَسُوقَهُ كَمَا سَمِعْنَاهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَصَابَ أَحَدُكُمُ الْمَعْنَى فَلْيُحَدِّثْ» (3) وَأَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُقَرِّرًا لِآحَادِ رُسُلِهِ إِلَى الْبِلَادِ فِي إِبْلَاغِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ بِلُغَةِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ دُونَ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ.   (1) إِذِ الصَّوَابُ إِنْ أَوْ إِذَا (2) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ الْأَنْصَارِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ الْبَصْرِيُّ مَاتَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ 110 عَنْ 77 سَنَةً وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ هُوَ الْجَصَّاصُ تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ. (3) قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي: رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو الْأَزْهَرِ عَلَى وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، فَقُلْنَا لَهُ: يَا أَبَا الْأَسْقَعِ حَدِّثْنَا إِلَخْ، وَمَكْحُولٌ هُوَ أَبُو أَيُّوبَ أَوْ أَبُو مُسْلِمٍ الشَّامِيُّ الدِّمَشْقِيُّ، وَأَبُو الْأَزْهَرِ هُوَ الْمُغِيرَةُ بْنُ فَرْوَةَ الدِّمَشْقِيُّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا حَدَّثَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَكَذَا أَوْ نَحْوَهُ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْأَثَرُ فَمَا رُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ فَقُلْنَا: " حَدِّثْنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَلَا تَأْخِيرٌ "، فَغَضِبَ وَقَالَ: " لَا بَأْسَ إِذَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ إِذَا أَصَبْتُ الْمَعْنَى " (1) . وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ شَرْحِ الشَّرْعِ لِلْعَجَمِ بِلِسَانِهِمْ، وَإِذَا جَازَ الْإِبْدَالُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي تَفَهُّمِ الْمَعْنَى، فَالْعَرَبِيَّةُ أَوْلَى. الثَّانِي: هُوَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ وَنَفْسِهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَذْكُرُ الْمَعْنَى فِي الْكُرَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، بَلِ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى، وَمَعَ حُصُولِ الْمَعْنَى، فَلَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ: أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فَقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ". وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ بِالْعَرَبِيَّةِ وَأَهْلَ الِاجْتِهَادِ، قَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي مَعْنَى اللَّفْظِ الْوَارِدِ مَعَ اتِّحَادِهِ، حَتَّى إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ يَتَنَبَّهُ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَتَنَبَّهُ عَلَيْهِ الْآخَرُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالرَّاوِي وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ وَاخْتِلَافِ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ، فَقَدْ يَحْمِلُ اللَّفْظَ عَلَى مَعْنَى فَهْمِهِ مِنَ الْحَدِيثِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ. فَإِذَا أَتَى بِلَفْظٍ يُؤَدِّي الْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ مِنَ اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ دُونَ غَيْرِهِ، مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا أَخَلَّ بِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ أَوْ بَعْضُ الْمَقْصُودِ، فَلَا يَكُونُ وَافِيًا بِالْغَرَضِ مِنَ اللَّفْظِ، وَرُبَّمَا اخْتَلَّ الْمَقْصُودُ مِنَ اللَّفْظِ بِالْكُلِّيَّةِ بِتَقْدِيرِ تَعَدُّدِ النَّقَلَةِ، بِأَنْ يَنْقِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا سَمِعَهُ مِنَ الرَّاوِي الَّذِي قَبْلَهُ بِأَلْفَاظٍ غَيْرِ أَلْفَاظِهِ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْقِلُهُ مِنْ لَفْظِهِ، مَعَ التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ فِي الْمَعْنَى، حَتَّى يَنْتَهِيَ الْمَعْنَى الْأَخِيرُ إِلَى مُخَالَفَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ بِاللَّفْظِ النَّبَوِيِّ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.   (1) ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي الْحَدِيثَ مُطَوَّلًا، وَقَالَ: رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أُكَيْمَةَ، وَهُوَ السَّائِلُ وَالْحَدِيثُ مُضْطَرِبٌ لَا يَصِحُّ كَمَا قَالَ السَّخَاوِيُّ: وَذَكَرَهُ الْجَوْزَجَانِيُّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلٌ تَعَبَّدْنَا بِاتِّبَاعِهِ، فَلَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهُ بِغَيْرِهِ، كَالْقُرْآنِ وَكَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَالتَّكْبِيرِ. وَالْجَوَابُ: عَنِ النَّصِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: الْقَوْلُ بِمُوجَبِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ نَقَلَ مَعْنَى اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ أَدَّى مَا سَمِعَ كَمَا سَمِعَ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَنْ تَرْجَمَ لُغَةً إِلَى لُغَةٍ، وَلَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى، أَدَّى مَا سَمِعَ كَمَا سَمِعَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَبَرِ إِنَّمَا هُوَ نَقْلُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ، وَهُوَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي الْفِقْهِ، إِذْ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي اخْتِلَافِ الْمَعْنَى. وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي لَا يَخْتَلِفُ اجْتِهَادُ النَّاسِ فِي قِيَامِ بَعْضِهَا مَقَامَ بَعْضٍ، فَذَلِكَ مِمَّا يَسْتَوِي فِيهِ الْفَقِيهُ وَالْأَفْقَهُ وَمَنْ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي تَغْيِيرِ الْمَعْنَى. الثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ بِعَيْنِهِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الْخَبَرِ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخَبَرَ الْمَرْوِيَّ حَدِيثٌ وَاحِدٌ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكَرُّرِهِ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً» «، وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً» ، «وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ» ، وَرُوِيَ لَا فِقْهَ لَهُ (1) . وَعَنِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي نَقْلِ الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ ظَهَرَتْ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا. وَعَنِ الثَّانِي بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأُصُولِ الْمَقِيسِ عَلَيْهَا. أَمَّا الْقُرْآنُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَلْفَاظِهِ الْإِعْجَازُ، فَتَغْيِيرُهُ مِمَّا يُخْرِجُهُ عَنِ الْإِعْجَازِ فَلَا يَجُوزُ، وَلَا كَذَلِكَ الْخَبَرُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ وَالتَّأْخِيرُ فِي الْقُرْآنِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفِ الْمَعْنَى، كَمَا لَوْ قَالَ بَدَلَ اسْجُدِي وَارْكَعِي، ارْكَعِي وَاسْجُدِي، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْخَبَرِ. وَأَمَّا كَلِمَاتُ الْأَذَانِ وَالتَّشَهُّدِ وَالتَّكْبِيرِ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ التَّعَبُّدُ بِهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِمَعْنَاهَا، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ هُوَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. كَيْفَ وَإِنَّهُ لَيْسَ قِيَاسُ الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ؛ حَيْثُ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَةِ الْغَيْرِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُخْتَلِفًا.   (1) أَصْلُ الْحَدِيثِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْجَامِعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا أَنْكَرَ الشَّيْخُ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا أَنْكَرَ الشَّيْخُ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِنْكَارُهُ لِذَلِكَ إِنْكَارَ جُحُودٍ وَتَكْذِيبٍ لِلْفَرْعِ، أَوْ إِنْكَارَ نِسْيَانٍ وَتَوَقُّفٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ (1) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَذِّبٌ لِلْآخَرِ فِيمَا يَدَّعِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَذِبِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقَدْحِ فِي الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ جَرْحَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَدْلٌ، وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي كَذِبِهِ. وَالْأَصْلُ الْعَدَالَةُ فَلَا تُتْرَكُ بِالشَّكِّ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ ذَلِكَ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْخَبَرِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الثَّانِي، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ ذَلِكَ الْخَبَرِ وَالْعَمَلِ بِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى جَوَازِ الْعَمَلِ، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ (2) وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، وَدَلِيلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَمَا رُوِيَ أَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَوَى عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ» (3) ثُمَّ نَسَبَهُ سُهَيْلٌ، فَكَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي أَنِّي حَدَّثْتُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَرْوِيهِ هَكَذَا. وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ التَّابِعِينَ ذَلِكَ، فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهِ.   (1) ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي التَّقْرِيبِ أَنَّهُ الْمُخْتَارُ، وَذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي أَنَّ مُقَابِلَ الْمُخْتَارِ عَدَمُ رَدِّ الْمَرْوِيِّ، قَالَ: وَاخْتَارَهُ السَّمْعَانِيُّ وَعَزَاهُ الشَّاشِيُّ لِلشَّافِعِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلًا ثَالِثًا وَرَابِعًا فَارْجِعْ إِلَيْهِ، وَاخْتَارَ عَدَمَ الرَّدِّ أَيْضًا ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ (2) الْكَرْخِيُّ هُوَ أَبُو الْحَسَنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ دَلْهَمٍ (3) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَرْعَ عَدْلٌ، وَهُوَ جَازِمٌ بِرِوَايَتِهِ عَنِ الْأَصْلِ، غَيْرُ مُكَذِّبٍ لَهُ وَهُمَا عَدْلَانِ، فَوَجَبَ قَبُولُ الرِّوَايَةِ وَالْعَمَلُ بِهَا. الثَّانِي: أَنَّ نِسْيَانَ الْأَصْلِ الرِّوَايَةُ لَا تَزِيدُ عَلَى مَوْتِهِ وَجُنُونِهِ، وَلَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ، كَانَتْ رِوَايَةُ الْفَرْعِ عَنْهُ مَقْبُولَةً، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا إِجْمَاعًا فَكَذَلِكَ إِذَا نَسِيَ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَضِيَّةِ رَبِيعَةَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ سُهَيْلًا ذَكَرَ الرِّوَايَةَ بِرِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ وَمَعَ الذِّكْرِ، فَالرِّوَايَةُ تَكُونُ مَقْبُولَةً. ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمَّا كُنَّا فِي الْإِبِلِ، فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ» (1) فَلَمْ يَقْبَلْ عُمَرُ مِنْ عَمَّارٍ مَا رَوَاهُ، مَعَ كَوْنِهِ عَدْلًا عِنْدَهُ، لِمَا كَانَ نَاسِيًا لَهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، فَالْأَصْلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا لِلْفَرْعِ، غَيْرَ أَنَّ نِسْيَانَهُ لِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ لَهُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ الْحَاكِمُ: لَا أَذْكُرُ ذَلِكَ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَنْكَرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ شَهَادَةَ الْفَرْعِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ النِّسْيَانِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ. الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ سُهَيْلًا ذَكَرَ الرِّوَايَةَ، قُلْنَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَانْطَوَى ذِكْرُ رَبِيعَةَ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْ شَيْخِهِ، كَمَا لَوْ نَسِيَ، ثُمَّ تَذَكَّرَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِرِوَايَةِ عَمَّارٍ عِنْدَ نِسْيَانِهِ، فَلَيْسَ نَظِيرًا لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ عَمَّارًا لَمْ يَكُنْ رَاوِيًا عَنْ عُمَرَ، بَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَيْثُ لَمْ يَعْمَلُ عُمَرُ بِرِوَايَتِهِ فَلَعَلَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي رِوَايَتِهِ أَوْ كَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَذْهَبًا لَهُ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ.   (1) أَثَرُ مُحَاجَّةِ عَمَّارٍ لِعُمَرَ فِي تَيَمُّمِ الْجُنُبِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَمَّا حَدِيثُ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّارًا صِفَةَ التَّيَمُّمِ فَمَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وَأَمَّا الْحَاكِمُ إِذَا نَسِيَ مَا حَكَمَ بِهِ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِحُكْمِهِ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ: يَلْزَمُهُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِمَا، وَعِنْدَنَا وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْقُضَاةِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ أَضْيَقُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ، وَقَدِ اعْتُبِرَ فِيهَا مِنَ الشُّرُوطِ وَالْقُيُودِ مَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الرِّوَايَةِ، وَذَلِكَ كَاعْتِبَارِ الْعَدَدِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ، وَلَا يُقْبَلْ فِيهَا الْعَنْعَنَةُ، وَلَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَلَوْ قَالَ: أَعْلَمُ بَدَلَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ لَا يَصِحُّ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إِذَا رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ حَدِيثًا وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِزِيَادَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إِذَا رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ الثِّقَاتِ حَدِيثًا، وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِزِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ لَا تُخَالِفُ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ رَوَى جَمَاعَةٌ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَانْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِزِيَادَةٍ، فَقَالَ: دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجْلِسُ الرِّوَايَةِ مُخْتَلِفًا بِأَنْ يَكُونَ الْمُنْفَرِدُ بِالزِّيَادَةِ رِوَايَتُهُ عَنْ مَجْلِسٍ غَيْرِ مَجْلِسِ الْبَاقِينَ، أَوْ أَنَّ مَجْلِسَ الرِّوَايَةِ مُتَّحِدٌ، وَيُجْهَلُ الْأَمْرَانِ. فَإِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ مُخْتَلِفًا، فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي قَبُولِ الزِّيَادَةِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ فَعَلَ الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِ الْمَجْلِسَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَالرَّاوِي عَدْلٌ ثِقَةٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَقْدَحُ فِي رِوَايَتِهِ، فَكَانَتْ رِوَايَتُهُ مَقْبُولَةً. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ رَوَى حَدِيثًا لَمْ يَنْقِلْهُ غَيْرُهُ مَعَ عَدَمِ حُضُورِهِ لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَخْصٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ لِزَيْدٍ فِي مَجْلِسٍ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى عَلَيْهِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَلْفٍ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ قَادِحًا فِي الْأَلْفِ الزَّائِدَةِ، مَعَ أَنَّ بَابَ الشَّهَادَةِ أَضْيَقُ مِنْ بَابِ الرِّوَايَةِ كَمَا قَرَّرْنَا. وَأَمَّا إِنِ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، فَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ يَرْوُوا الزِّيَادَةَ قَدِ انْتَهَوْا إِلَى عَدَدٍ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَادَةِ غَفْلَةُ مِثْلِهِمْ عَنْ سَمَاعِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَفَهْمِهَا، فَلَا يَخْفَى أَنَّ تَطَرُّقَ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ إِلَى الْوَاحِدِ فِيمَا نَقَلَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ، يَكُونُ أَوْلَى مِنْ تَطَرُّقِ ذَلِكَ إِلَى الْعَدَدِ الْمَفْرُوضِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 فَيَجِبُ رَدُّهَا (1) وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا إِلَى هَذَا الْحَدِّ، فَقَدِ اتَّفَقَ جَمَاعَةُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى وُجُوبِ قَبُولِ الزِّيَادَةِ، خِلَافًا عَنْهُ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَلِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّاوِيَ عَدْلٌ ثِقَةٌ، وَقَدْ جَزَمَ بِالرِّوَايَةِ، وَعَدَمُ نَقْلِ الْغَيْرِ لَهَا فَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ يَنْقُلِ الزِّيَادَةَ قَدْ دَخَلَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ وَسَمِعَ بَعْضَ الْحَدِيثِ أَوْ خَرَجَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ لِطَارِئٍ أَوْجَبَ لَهُ الْخُرُوجَ قَبْلَ سَمَاعِ الزِّيَادَةِ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا مِنْ أَوَّلِ الْمَجْلِسِ إِلَى آخِرِهِ، فَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَدْ طَرَأَ مَا شَغَلَهُ عَنْ سَمَاعِ الزِّيَادَةِ وَفَهْمِهَا مِنْ سَهْوٍ أَوْ أَلَمٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ مُفْرِطٍ، أَوْ فِكْرَةٍ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ، أَوِ اشْتِغَالٍ بِحَدِيثٍ مَعَ غَيْرِهِ وَالْتِفَاتٍ إِلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ نَسِيَهَا بَعْدَ مَا سَمِعَهَا. وَمَعَ تَطَرُّقِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ وَجَزْمِ الْعَدْلِ بِالرِّوَايَةِ، لَا يَكُونُ عَدَمُ نَقْلِ غَيْرِهِ لِلزِّيَادَةِ قَادِحًا فِي رِوَايَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَدِحَةً فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرْوِ الزِّيَادَةَ، فَاحْتِمَالُ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ عَلَى النَّاقِلِ لِلزِّيَادَةِ أَيْضًا مُنْقَدِحٌ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ سَمِعَهَا، أَوْ أَنَّهُ سَمِعَهَا مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ، وَتَوَهَّمَ سَمَاعَهَا مِنَ الرَّسُولِ، أَوْ أَنَّهُ ذَكَرَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ، فَظَنَّ السَّامِعُ أَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ، وَذَلِكَ كَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَوْفَى» . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا أَحْسَبُ غَيْرَ الطَّعَامِ إِلَّا كَالطَّعَامِ، فَأَدْرَجَهُ بَعْضُ الرُّوَاةِ فِي الْحَدِيثِ. وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " «فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ» " فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ الِاسْتِئْنَافَ إِعَادَةً لِلْفَرْضِ الْأَوَّلِ فِي الْمِائَةِ الْأُولَى، فَقَالَ: فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ، وَأَدْرَجَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَ تَعَارُضِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَلَيْسَ الْعَمَلُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا، بَلِ التَّرْجِيحُ بِجَانِبِ التَّرْكِ لِوَجْهَيْنِ:   (1) وَقِيلَ تُقْبَلُ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْجَمَاعَةُ تَرَكَتْهَا اقْتِصَارًا عَلَى مَحَلِّ الِاسْتِشْهَادِ لَا غَلَطًا وَلَا سَهْوًا، وَمِثَالُ ذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ: جُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، تَفَرَّدَ أَبُو مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ فَقَالَ: وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا، انْظُرِ التَّقْرِيبَ وَشَرْحَهُ لِلسُّيُوطِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الْأَوَّلُ: أَنَّ احْتِمَالَ تَطَرُّقِ الْغَلَطِ وَالسَّهْوِ عَلَى الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنِ احْتِمَالِ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّرْكَ عَلَى وَفْقِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَالْإِثْبَاتَ عَلَى خِلَافِهِ، فَكَانَ أَوْلَى، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْمُقَوِّمُونَ عَلَى قِيمَةِ مُتْلَفٍ، وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ بِزِيَادَةٍ فِي تَقْوِيمِهِ فِي الْقِيمَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تُلْغَى بِالْإِجْمَاعِ. وَالْجَوَابُ عَمَّا عَارَضُوا بِهِ مِنَ السَّهْوِ فِي حَقِّ رَاوِي الزِّيَادَةِ، أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُنْقَدِحًا، غَيْرَ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرْوِ الزِّيَادَةَ أَكْثَرُ، وَلِأَنَّ سَهْوَ الْإِنْسَانِ عَمَّا سَمِعَهُ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ سَهْوِهِ فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الزِّيَادَةِ بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا، غَيْرَ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، إِذِ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ الثِّقَةِ أَنَّهُ لَا يُدْرِجُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّدْلِيسِ وَالتَّلْبِيسِ، وَلَوْ جَوَّزَ مِثْلَ ذَلِكَ فَمَا مِنْ حَدِيثٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَطَرَّقَ إِلَيْهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ الْأَوَّلِ فَغَيْرُ مُطَّرِدٍ فِيمَا إِذَا كَانَ عَدَدُ النَّاقِلِ لِلزِّيَادَةِ مُسَاوِيًا لِعَدَدِ الْآخَرِينَ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ النِّزَاعِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّرْجِيحَ بِجَانِبِ الْوَاحِدِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ الثَّانِي فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا إِذَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُقْتَضِيَةً لِنَفْيِ حُكْمٍ لَوْلَاهَا لَثَبَتَ، وَأَمَّا التَّقْوِيمُ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى ظَنٍّ وَتَخْمِينٍ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَطَرُّقَ الْخَطَأِ فِي ذَلِكَ إِلَى الْوَاحِدِ أَكْثَرُ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْجَمْعِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا بِنَقْلِ مَا هُوَ مَحْسُوسٌ بِالسَّمْعِ، وَتَطَرُّقُ الْخَطَأِ إِلَيْهِ بَعِيدٌ. وَأَمَّا إِنْ جُهِلَ الْحَالُ فِي أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ مَجَالِسٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى مَا سَبَقَ فِيمَا إِذَا اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ، وَقَبُولُ الزِّيَادَةِ فِيهِ أَوْلَى، نَظَرًا إِلَى احْتِمَالِ اخْتِلَافِ مَجْلِسِ الرِّوَايَةِ. هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُخَالِفَةً لِلْمَزِيدِ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لَهُ، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَالظَّاهِرُ التَّعَارُضُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَوَى الْوَاحِدُ الزِّيَادَةَ مَرَّةً، وَأَهْمَلَهَا مَرَّةً، فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ، فَالتَّفْصِيلُ وَالْحُكْمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إِذَا تَعَدَّدَتِ الرُّوَاةُ، فَعَلَيْكَ بِالِاعْتِبَارِ. وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا أَسْنَدَ الْخَبَرَ وَاحِدٌ، وَأَرْسَلَهُ الْبَاقُونَ، أَوْ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَوْقَفَهُ الْبَاقُونَ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إِذَا سَمِعَ الرَّاوِي خَبَرًا وَأَرَادَ نَقْلَ بَعْضِهِ وَحَذْفَ بَعْضِهِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إِذَا سَمِعَ الرَّاوِي خَبَرًا وَأَرَادَ نَقْلَ بَعْضِهِ، وَحَذْفَ بَعْضِهِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُتَضَمِّنًا لِأَحْكَامٍ لَا يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ) فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي جَوَازِ نَقْلِ الْبَعْضِ وَتَرْكِ الْبَعْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَخْبَارٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَمَنْ سَمِعَ أَخْبَارًا مُتَعَدِّدَةً فَلَهُ رِوَايَةُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى إِنَّمَا هُوَ نَقْلُ الْخَبَرِ بِتَمَامِهِ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» ) . وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُشْتَمِلًا عَلَى ذِكْرِ غَايَةٍ، كَنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ؛ حَتَّى تَحُوزَهُ التُّجَّارُ إِلَى رِحَالِهِمْ، وَكَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ، أَوْ شَرْطٍ: كَقَوْلِهِ ( «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمْذَى فَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» ) . أَوِ اسْتِثْنَاءٍ: كَقَوْلِهِ ( «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَى قَوْلِهِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ) . فَإِذَا ذَكَرَ بَعْضَ الْخَبَرِ، وَقَطَعَهُ عَنِ الْغَايَةِ أَوِ الشَّرْطِ أَوِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ وَتَبْدِيلِ الشَّرْعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا وَرَدَ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا وَرَدَ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ (1) فِي نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، وَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، وَخَبَرِهِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ، وَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ نَاسِيًا وَنَحْوِهِ، مَقْبُولٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ (2) وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ، وَالْإِلْزَامُ، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} أَوْجَبَ الْإِنْذَارَ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ خَرَجَتْ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادًا، وَهُوَ مُطْلَقٌ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَا لَا تَعُمُّ، وَلَوْلَا أَنَّهُ وَاجِبُ الْقَبُولِ لَمَا كَانَ لِوُجُوبِهِ فَائِدَةٌ، وَتَقْرِيرُهُ كَمَا سَبَقَ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نُخَابِرُ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا، حَتَّى رَوَى لَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَانْتَهَيْنَا» . وَمِنْ ذَلِكَ رُجُوعُ الصَّحَابَةِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ إِلَى خَبَرِ عَائِشَةَ، وَهُوَ قَوْلُهَا «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ، أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ، فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْتَسَلْنَا» . وَمِنْ ذَلِكَ: رُجُوعُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي سُدُسِ الْجَدَّةِ لَمَّا قَالَ لَهَا " لَا أَجِدُ لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا " إِلَى خَبَرِ الْمُغِيرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْعَمَهَا السُّدُسَ» وَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:   (1) حَدِيثُ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، اشْتُهِرَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ بُسْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْبَابِ أَحَادِيثُ عَنْ غَيْرِ بُسْرَةَ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ بَيْنِهِمْ فِيمَا عَرَفْتُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَلْيُنْظُرْ (2) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ تَعْلِيقًا فِي صَفْحَةِ 106 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاوِيَ عَدْلٌ ثِقَةٌ، وَهُوَ جَازِمٌ بِالرِّوَايَةِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ صِدْقُهُ، وَذَلِكَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ كَخَبَرِهِ فِيمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. الثَّانِي: أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، فَكَانَ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، كَالْقِيَاسِ، وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ، فَكَانَ الظَّنُّ فِيهَا حُجَّةً. وَأَمَّا الْإِلْزَامُ فَهُوَ أَنَّ الْوِتْرَ وَحُكْمَ الْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ وَالْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَوُجُوبَ الْغُسْلِ مِنْ غَسْلِ الْمَيِّتِ، وَإِفْرَادَ الْإِقَامَةِ وَتَثْنِيَتَهَا، فَمِنْ قَبِيلِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَثْبَتَهَا الْخُصُومُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَدَّ خَبَرَ الْمُغِيرَةِ فِي الْجَدَّةِ. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَظْنُونٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَخُرُوجِ الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، وَمَسِّ الذَّكَرِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَلَوْ كَانَتِ الطَّهَارَةُ مِمَّا تُنْتَقَضُ بِهِ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِشَاعَتَهُ وَأَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْآحَادِ بِهِ، بَلْ يُلْقِيهِ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ مُبَالَغَةً فِي إِشَاعَتِهِ، حَتَّى لَا يُفْضِيَ ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ صَلَاةِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَحَيْثُ لَمْ يَنْقُلْهُ سِوَى الْوَاحِدِ دَلَّ عَلَى كَذِبِهِ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ السُّؤَالُ عَنْهُ، وَالْجَوَابُ وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى نَقْلِهِ. فَحَيْثُ انْفَرَدَ بِهِ الْوَاحِدُ دَلَّ عَلَى كَذِبِهِ، كَانْفِرَادِ الْوَاحِدِ بِنَقْلِ قَتْلِ أَمِيرِ الْبَلَدِ فِي السُّوقِ، بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ وَطُرُوءِ حَادِثَةٍ مَنَعَتِ النَّاسَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّ الْخَطِيبَ سَبَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عَلَى رَأْسِ الْمِنْبَرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، بِمَعْرِفَتِهِ امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْإِلْزَامَاتِ فَغَيْرُ مُسَاوِيَةٍ فِي عُمُومِ الْبَلْوَى لِمَسِّ الذَّكَرِ، فَلَا تَكُونُ فِي مَعْنَاهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ رَدِّ أَبِي بَكْرٍ بِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ فِي الْجَدَّةِ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُطْلَقًا ; وَلِهَذَا عَمِلَ بِهِ لِمَا تَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَخَبَرُهُمَا غَيْرُ خَارِجٍ عَنِ الْآحَادِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّكْذِيبِ فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُكَلَّفًا بِالْإِشَاعَةِ عَلَى لِسَانِ أَهْلِ التَّوَاتُرِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ ذَلِكَ إِبْطَالُ صَلَاةِ أَكْثَرِ الْخَلْقِ، لَا نُسَلِّمُ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ ذَلِكَ، فَالنَّقْضُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ. وَلَا تَكْلِيفَ بِمَعْرِفَةِ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَوَفُّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ إِنْ لَوْ كَانَ لَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ سِوَى النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ كَافٍ فِيهِ، وَلِهَذَا جَازَ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ إِجْمَاعًا، وَمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنَ الْوَقَائِعِ فَغَيْرُ مُنَاظِرَةٍ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، إِذِ الطِّبَاعُ مِمَّا تَتَوَفَّرُ عَلَى نَقْلِهَا وَإِشَاعَتِهَا عَادَةً، فَانْفِرَادُ الْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِ (1) . ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ مُنْتَقِضٌ عَلَيْهِمْ حَيْثُ عَمِلُوا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صُوَرِ الْإِلْزَامِ وَمَسِّ الذَّكَرِ، وَإِنْ كَانَ أَعَمَّ فِي الْوُقُوعِ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ، فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ تِلْكَ الصُّورَةَ عَنْ كَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي عُمُومِ الْبَلْوَى. وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَا لِأَنَّهُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، بَلْ لِأَنَّهُ الْمُعْجِزُ فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ إِشَاعَتُهُ وَإِلْقَاؤُهُ عَلَى عَدَدِ التَّوَاتُرِ (2) . وَلَا كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الظَّنَّ كَافٍ فِيهِ، وَلِذَلِكَ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، وَمَا عَدَا الْقُرْآنِ مِمَّا أُشِيعُ إِشَاعَةً اشْتَرَكَ فِيهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، كَالْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ، وَأُصُولِ الْمُعَامَلَاتِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ مِمَّا كَانَ يَجُوزُ أَنْ لَا يَشِيعَ، فَذَلِكَ إِمَّا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِإِشَاعَتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ (3) .   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا (2) هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ كُتُبَهُ مَعَ الْآحَادِ، وَكَانَ يُرْسِلُ الْوُلَاةَ وَالدُّعَاةَ إِلَى الدِّينِ أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ وَالْمُعَلِّمِينَ لَهُ آحَادًا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ سِيرَتِهِ فِي ذَلِكَ (3) بَلْ ذَلِكَ مُتَعَبَّدٌ بِهِ مَقْصُودٌ إِشَاعَتُهُ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إِذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ خَبَرًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمِلًا أَوْ ظَاهِرًا أَوْ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إِذَا رَوَى الصَّحَابِيُّ خَبَرًا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْمِلًا أَوْ ظَاهِرًا أَوْ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ. فَإِنْ كَانَ مُجْمِلًا مُشْتَرِكًا بَيْنَ مَحَامِلَ عَلَى السَّوِيَّةِ، كَلَفْظِ الْقُرُوءِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ حَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَى بَعْضِ مَحَامِلِهِ، فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ ظَاهِرُ الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ مَحَامِلِهِ، كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ. وَإِنْ قُلْنَا: بِامْتِنَاعِ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ حَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى مَا حَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ، لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ وَتَعْرِيفِ الْأَحْكَامِ، وَيُخَلِّيهِ عَنْ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تُعَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ. وَالصَّحَابِيُّ الرَّاوِي الْمُشَاهِدُ لِلْحَالِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ تَعْيِينَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ حَتَّى يَنْظُرَ، فَإِنِ انْقَدَحَ لَهُ وَجْهٌ يُوجِبُ تَعْيِينَ غَيْرِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَإِلَّا فَتَعْيِينُ الرَّاوِي صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي مَعْنًى، وَحَمَلَهُ الرَّاوِي عَلَى غَيْرِهِ، فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيِّ وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ دُونَ تَأْوِيلِ الرَّاوِي: وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ كَيْفَ أَتْرُكُ الْخَبَرَ لِأَقْوَالِ أَقْوَامٍ، لَوْ عَاصَرْتُهُمْ لَحَاجَجْتُهُمْ بِالْحَدِيثِ؟ وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ إِلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَذْهَبِ الرَّاوِي. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ، سِوَى عِلْمِهِ بِقَصْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِذَلِكَ التَّأْوِيلِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ بَلْ جُوزَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ إِلَيْهِ لِدَلِيلٍ ظَهَرَ لَهُ، مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ وَجَبَ النَّظَرُ إِلَى ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ عُلِمَ مَأْخَذُهُ فِي الْمُخَالَفَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ حَمْلَ الْخَبَرِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّاوِي، وَجَبَ اتِّبَاعُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ لَا لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَمِلَ بِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَمَلُ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وَإِنَّ جُهِلَ مَأْخَذُهُ فَالْوَاجِبُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّاوِيَ عَدْلٌ، وَقَدْ جَزَمَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ، وَمُخَالَفَةِ الرَّاوِي لَهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِنِسْيَانٍ طَرَأَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لِدَلِيلٍ اجْتَهَدَ فِيهِ وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ، أَوْ هُوَ مِمَّا يَقُولُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، كَمَا عُرِفَ مِنْ مُخَالَفَةِ مَالِكٍ، لِخَبَرِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِمَا رَآهُ مِنْ إِجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ، مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ لَهُ. وَإِذَا تَرَدَّدَ بَيْنَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ، فَالظَّاهِرُ لَا يُتْرُكُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَبِمُخَالَفَتِهِ لِلْخَبَرِ، لَا يَكُونُ فَاسِقًا، حَتَّى يَمْتَنِعَ الْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ قَوْلُ الْخَصْمِ إِنَّهُ إِنْ أَحْسَنَ الظَّنَّ بِالرَّاوِي وَجَبَ حَمْلُ الْخَبَرِ عَلَى مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُسِيئَ بِهِ الظَّنُّ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَبَرُ نَصًّا فِي دَلَالَتِهِ، غَيْرَ مُحْتَمِلٍ لِلتَّأْوِيلِ وَالْمُخَالَفَةِ، فَلَا وَجْهَ لِمُخَالَفَةِ الرَّاوِي لَهُ سِوَى احْتِمَالِ اطِّلَاعِهِ عَلَى نَاسِخٍ، وَلَعَلَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا فِي نَظَرِهِ، وَلَا يَكُونُ نَاسِخًا عِنْدَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ. وَمَا ظَهَرَ فِي نَظَرِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، فَلَا يُتْرَكُ النَّصُّ الَّذِي لَا احْتِمَالَ فِيهِ لِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ. [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عَمِلَ بِخِلَافِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، إِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَلَا يُرَدُّ لَهُ الْخَبَرُ إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِهِ، أَوْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِهِ، لَكِنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ خَوَاصِّهِ الَّتِي لَا يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ خَوَاصِّهِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ مِنَ الْفِعْلِ أَوِ الْخَبَرِ إِنْ تَعَذَّرَ تَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ فَهُمْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، فَلَا يُرَدُّ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَإِنْ خَالَفَ بَاقِي الْحُفَّاظِ لِلرَّاوِي فِيمَا نَقَلَهُ، فَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ نَظَرًا إِلَى أَنَّ تَطَرُّقَ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ أَبْعَدَ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْوَاحِدِ، غَيْرَ أَنَّ تَطَرُّقَ السَّهْوِ إِلَى مَا لَمْ يُسْمَعْ أَنَّهُ سُمِعَ أَبْعَدُ مِنْ تَطَرُّقِ السَّهْوِ إِلَى مَا سُمِعَ أَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ (1) .   (1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ لِلْآمِدِيِّ فِي تَفَرُّدِ الثِّقَةِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِرِوَايَةٍ زِيَادَةٍ فِي الْحَدِيثِ ص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُوجِبُ الْحَدَّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اتَّفَقَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَفِي كُلِّ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، خِلَافًا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَالْكَرْخِيِّ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، فَوَجَبَ قَبُولُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» " (1) وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ بِالظَّنِّ، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهِ بِالشَّهَادَةِ، وَبِظَاهِرِ الْكِتَابِ، فَجَازَ إِثْبَاتُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الظَّنِّيَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةٌ (2) فَكَانَ الظَّنُّ كَافِيًا فِيهَا. وَسُقُوطُهُ بِالشُّبْهَةِ لَوْ كَانَ لَكَانَ مَانِعًا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ، وَعَلَى مَنْ يَدَّعِيهِ بَيَانُهُ. فَإِنْ قِيلَ: خَبَرُ الْوَاحِدِ مِمَّا يَدْخُلُهُ احْتِمَالُ الْكَذِبِ، فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ) فَهُوَ بَاطِلٌ بِإِثْبَاتِهِ بِالشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلْكَذِبِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِهَا.   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص. . . الْجُزْءُ الثَّانِي، وَارْجِعْ إِلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ مِنِ اسْتِنْكَارِ الْمُزَنِيِّ حَدِيثَ " إِنَّمَا نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ " ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَثَرِ عُمَرَ " إِنَّمَا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ " وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ (2) اعْتَرَفَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ، وَاخْتَارَ الْوَقْفَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ مَعَ هَذَا دَعْوَاهُ مِرَارًا أَنَّ مَسَائِلَ الْأُصُولِ قَطْعِيَّةٌ، انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 71 - 80 ج 2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ خَبَرُ الْوَاحِدِ، إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسَ، فَإِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثْبِتًا لِمَا نَفَاهُ الْآخَرُ، أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُخَصَّصًا لِلْآخَرِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَالْكَرْخِيُّ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ: إِنَّ الْخَبَرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَقَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ، وَقَالَ عِيسَى (1) بْنُ أَبَانَ: إِنْ كَانَ الرَّاوِي ضَابِطًا عَالِمًا غَيْرَ مُتَسَاهِلٍ فِيمَا يَرْوِيهِ، قُدِّمَ خَبَرُهُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ. وَفَصَلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، فَقَالَ: عِلَّةُ الْقِيَاسِ الْجَامِعَةُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً، فَالنَّصُّ عَلَيْهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ، أَوْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ: فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ، وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْعِلَّةِ لِأَنَّ النَّصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَالنَّصِّ عَلَى حُكْمِهَا، وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَظْنُونٌ، فَكَانَتْ مُقَدَّمَةً. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّصُّ عَلَى الْعِلَّةِ مَقْطُوعًا بِهِ، وَلَا حُكْمُهَا فِي الْأَصْلِ مَقْطُوعًا بِهِ، فَيَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ لِاسْتِوَاءِ النَّصَّيْنِ فِي الظَّنِّ، أَوِ اخْتِصَاصِ خَبَرَ الْوَاحِدِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ بِصَرِيْحِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، بِخِلَافِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى الْعِلَّةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا ثَابِتًا قَطْعًا، فَذَلِكَ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً فَحُكْمُ الْأَصْلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِخَبَرٍ وَاحِدٍ، فَالْأَخْذُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ قَطْعًا، قَالَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَوْضِعَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّاسِ، وَمُخْتَارُهُ أَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِالْوَقْفِ. وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَتْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ قَطْعِيًّا، أَوْ ظَنِّيًّا: فَإِنْ كَانَ مَتْنُهُ قَطْعِيًّا فَعِلَّةُ الْقِيَاسِ، إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً، وَقُلْنَا إِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى عِلَّةِ الْقِيَاسِ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْقِيَاسِ فَالنَّصُّ   (1) هُوَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ بْنِ صَدَقَةَ الْكُوفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْقَاضِي مَاتَ سَنَةَ 221 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 الدَّالُّ عَلَيْهَا، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا فِي الدَّلَالَةِ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ، أَوْ رَاجِحًا عَلَيْهِ، أَوْ مَرْجُوحًا. فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى لِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَدَلَالَةِ نَصِّ الْعِلَّةِ عَلَى حُكْمِهَا بِوَاسِطَةٍ. وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا، فَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى مَعَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِنْ كَانَ رَاجِحًا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَوُجُودُ الْعِلَّةِ فِي الْفَزَعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَظْنُونًا: فَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا، فَالْمَصِيرُ إِلَى الْقِيَاسِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا فِيهِ مَظْنُونًا، فَالظَّاهِرُ الْوَقْفُ؛ لِأَنَّ نَصَّ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلَّةِ رَاحِجًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا بِوَاسِطَةٍ، فَاعْتَدَلَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً، فَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ مُطْلَقًا، وَدَلِيلُهُ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حَيْثُ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا: ( «بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلَا آلُو» . أَخَّرَ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ عَنِ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَالْآحَادِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» . وَإِمَّا الْإِجْمَاعُ، فَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، تَرَكَ الْقِيَاسَ فِي الْجَنِينِ لِخَبَرِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ، وَقَالَ: " لَوْلَا هَذَا، لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا ". وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ، فِي تَفْرِيقِ دِيَةِ الْأَصَابِعِ عَلَى قَدْرِ مَنَافِعِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي رَوَى فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ، وَتَرَكَ اجْتِهَادَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَرَكَ اجْتِهَادَهُ فِي مَنْعِ مِيرَاثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَالَ: " أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا " وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، فَصَارَ إِجْمَاعًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ، فَهُوَ أَنْ خَبَرَ الْوَاحِدِ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ، فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْخَبَرِ وَاحْتِمَالَ الْخَطَأِ فِيهِ أَقَلُّ مِنَ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَخْرُجُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ عَنْ عَدَالَةِ الرَّاوِي، وَعَنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ، وَعَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً مَعْمُولًا بِهَا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ حُكْمُ أَصْلِهِ ثَابِتًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مِمَّا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ أَوْ لَا. وَبِتَقْدِيرِ إِمْكَانِ تَعْلِيلِهِ، فَيَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي إِظْهَارِ وَصْفٍ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، وَبِتَقْدِيرِ ظُهُورِ وَصْفٍ صَالِحٍ يَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي نَفْيِ الْمُعَارِضِ لَهُ فِي الْأَصْلِ. وَبِتَقْدِيرِ سَلَامَتِهِ عَنْ ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ، وَبِتَقْدِيرِ وَجُودِهِ فِيهِ، يَفْتَقِرُ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي نَفْيِ الْمُعَارِضِ فِي الْفَرْعِ مِنْ وُجُودِ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، وَبِتَقْدِيرِ انْتِفَاءِ ذَلِكَ، يَحْتَاجُ إِلَى النَّظَرِ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً. فَهَذِهِ سَبْعَةُ أُمُورٍ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا. وَمَا يَفْتَقِرُ فِي دَلَالَتِهِ إِلَى بَيَانِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ لَا غَيْرَ، فَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِيهِ يَكُونُ أَقَلَّ احْتِمَالًا مِنِ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فِيمَا يَفْتَقِرُ فِي بَيَانِهِ إِلَى سَبْعَةِ أُمُورٍ. فَكَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَوْلَى. وَرُبَّمَا قِيلَ فِي تَرْجِيحِ خَبَرِ الْوَاحِدِ هُنَا وُجُوهٌ أُخَرُ وَاهِيَةٌ آثَرْنَا الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِهَا، لِظُهُورِ فَسَادِهَا بِأَوَّلِ نَظَرٍ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ خَبَرِ مُعَاذٍ، فَقَدْ خَالَفْتُمُوهُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ مَقْطُوعًا بِعِلِّيَّتِهَا وَبِوُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَقْدِيمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْقِيَاسِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: " إِذَا «اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا» " لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ رَدَّ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّوَضِّي مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ بِالْقِيَاسِ، وَقَالَ: أَلَسْنَا نَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْحَمِيمِ، فَكَيْفَ نَتَوَضَّأُ بِمَا عَنْهُ نَتَوَضَّأُ؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ، فَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا يَتَطَرَّقُ إِلَى الْخَبَرِ مِنِ احْتِمَالِ كَذِبِ الرَّاوِي، وَأَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مُخْطِئًا. وَاحْتِمَالُ الْإِجْمَالِ فِي دَلَالَةِ الْخَبَرِ وَالتَّجَوُّزِ، وَالْإِضْمَارِ وَالنَّسْخِ، وَكُلِّ ذَلِكَ، غَيْرُ مُتَطَرِّقٍ إِلَى الْقِيَاسِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَجُوزُ بِهِ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَكَانَ تَرْكُ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ الظَّنَّ بِالْقِيَاسِ يَحْصُلُ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَالظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَثِقَةُ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ أَتَمُّ مِنْ ثِقَتِهِ بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ، بِتَقْدِيرِ إِكْذَابِ الْمُخْبِرِ لِنَفْسِهِ، يُخْرِجُ الْخَبَرَ عَنْ كَوْنِهِ شَرْعِيًّا، وَلَا كَذَلِكَ الْقِيَاسُ. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُمْ إِنَّكُمْ خَالَفْتُمْ خَبَرَ مُعَاذٍ، قُلْنَا: غَايَتُهُ أَنَّا خَصَّصْنَاهُ فِي صُورَةٍ لِمَعْنًى لَمْ يُوجَدْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَبَقِينَا عَامِلِينَ بِعُمُومِهِ فِيمَا عَدَا تِلْكَ الصُّورَةِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رَدَّ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ بِالْقِيَاسِ فِيمَا ذَكَرُوهُ، لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا رَدُّهُ لِخَبَرِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ، فَإِنَّمَا يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، أَنْ لَوْ كَانَ قَدْ رَدَّهُ لِمُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِجَوَازِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. أَمَّا أَوَّلًا، فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ، فَهُوَ إِنَّمَا رَدَّهُ لَا لِلْقِيَاسِ، بَلْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ بِهِ ; وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَاذَا تَصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ. وَالْمِهْرَاسُ كَانَ حَجَرًا عَظِيمًا يُصَبُّ فِيهِ الْمَاءُ لِأَجْلِ الْوُضُوءِ، فَاسْتَبْعَدَ الْأَخْذَ بِالْخَبَرِ لِاسْتِبْعَادِهِ صَبَّ الْمَاءَ مِنَ الْمِهْرَاسِ عَلَى الْيَدِ. وَقَدْ وَافَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى مَا تَخَيَّلَهُ مِنَ الِاسْتِبْعَادِ عَائِشَةَ، حَيْثُ قَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ لَقَدْ كَانَ رَجُلًا مِهْذَارًا، فَمَاذَا يُصْنَعُ بِالْمِهْرَاسِ؟ (1) . وَأَمَّا تَرْكُهُ لِخَبَرِ التَّوَضِّي مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ، فَلَمْ يَكُنْ بِالْقِيَاسِ، بَلْ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ مَصْلِيَّةٍ، وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ، ثُمَّ ذَكَرَ الْقِيَاسَ بَعْدَ مُعَارَضَتِهِ بِالْخَبَرِ.   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا فِي ص 75 ج2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَرْجِيحَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ فَمُنْدَفِعَةٌ. أَمَّا تَطَرُّقُ احْتِمَالِ الْكَذِبِ وَالْفِسْقِ وَالْخَطَأِ إِلَى الرَّاوِي، وَإِنْ كَانَ مُنْقَدِحًا، فَمِثْلُهُ مُتَطَرِّقٌ إِلَى دَلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ، إِذَا كَانَ ثَابِتًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ النِّزَاعِ. وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ تَطَرُّقَ ذَلِكَ إِلَى مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَإِسْلَامُهُ أَبْعَدُ مِنْ تَطْرُّقِ الْخَطَأِ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اجْتِهَادِهِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنِ احْتِمَالَاتِ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ، لِكَوْنِهِ مُعَاقَبًا عَلَى الْكَذِبِ وَالْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، بِخِلَافِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعَاقَبٍ عَلَيْهِ، بَلْ مُثَابٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَطَرُّقِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ وَالنَّسْخِ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُوجِبُ تَرْجِيحَ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ الظَّاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُتَطَرَّقٌ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْقِيَاسَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهِ، قُلْنَا وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ، فَلَا تَرْجِيحَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْقِيَاسِ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَطِّلٍ لِلْكِتَابِ، أَنْ يَكُونَ مُعَطِّلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْكُلِّيَّةِ، إِذِ الْكَلَامُ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا تَعَارَضَا وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الظَّنَّ مِنَ الْقِيَاسِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، قُلْنَا: إِلَّا أَنَّ تَطَرُّقَ الْخَطَأِ إِلَيْهِ أَقْرَبُ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَقَوْلُهُمْ إِنَّ الْخَبَرَ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ شَرْعِيًّا بِإِكْذَابِ الْمُخْبِرِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ. قُلْنَا: وَبِتَقْدِيرِ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ قِيَاسِيًّا شَرْعِيًّا فَاسْتَوَيَا، كَيْفَ وَإِنَّ التَّرْجِيحَ لِلْخَبَرِ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهَا أَوَّلًا، وَهُوَ أَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى كَلَامِ الْمَعْصُومِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُفْتَقِرٌ إِلَى جِنْسِ النَّصِّ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَفِي كَوْنِهِ حُجَّةً، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى شَرَفِ الْقِيَاسِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يَصِيرُ قَطْعِيًّا بِمَا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنْ جِنْسِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُتَوَاتِرًا، وَلَا كَذَلِكَ الْقِيَاسُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْقَطْعِ بِمَا يَعْتَضِدُ بِهِ مِنْ جِنْسِ الْأَقْيِسَةِ أَصْلًا، فَكَانَ أَوْلَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا تَعَارَضَا وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَعَمُّ مِنَ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ هُوَ الْأَعَمَّ، جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُخَصَّصًا لَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ أَعَمَّ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْعِلَّةَ لَا تَبْطُلُ بِتَقْدِيرِ تَخْصِيصِهَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ وَبِالْقِيَاسِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَهُمَا. وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ الْعِلَّةَ تَبْطُلُ بِتَقْدِيرِ تَخْصِيصِهَا، فَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا إِذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ. [الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ. اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ الْخَبَرِ الْمُرْسَلِ وَصُورَتِهِ، مَا إِذَا قَالَ مَنْ لَمْ يَلْقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عَدْلًا " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ". فَقَبِلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَجَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ. وَفَصَلَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فَقَبِلَ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ، وَمَنْ هُوَ مِنْ أَئِمَّةِ النَّقْلِ مُطْلَقًا، دُونَ مَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ أَوْ مُرْسَلًا قَدْ أَسْنَدَهُ غَيْرُ مُرْسِلِهِ أَوْ أَرْسَلَهُ رَاوٍ آخَرُ يَرْوِي عَنْ غَيْرِ شُيُوخِ الْأَوَّلِ، أَوْ عَضَّدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ، أَوْ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ قَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ عَمَّنْ فِيهِ عِلَّةٌ مِنْ جَهَالَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، كَمَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، فَهُوَ مَقْبُولٌ وَإِلَّا فَلَا. وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ (1) وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَالْمُخْتَارُ قَبُولُ مَرَاسِيلِ الْعَدْلِ مُطْلَقًا، وَدَلِيلُهُ الْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ أَجْمَعُوا عَلَى قَبُولِ الْمَرَاسِيلِ مِنَ الْعَدْلِ:   (1) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 أَمَّا الصَّحَابَةُ فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا أَخْبَارَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مَعَ كَثْرَةِ رِوَايَتِهِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سِوَى أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ، لِصِغَرِ سِنِّهِ (1) . وَلَمَّا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى حَجَرَ الْعَقَبَةِ» . قَالَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، لَمَّا رُوجِعَ فِيهِ: أَخْبَرَنِي بِهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَالَ فِي الْخَبَرِ الثَّانِي: أَخْبَرَنِي بِهِ أَخِي الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ (2) . وَأَيْضًا مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ، فَلَهُ قِيرَاطٌ» " وَأَسْنَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ. وَأَيْضًا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ فَلَا صَوْمَ لَهُ " وَقَالَ: مَا أَنَا قُلْتُهُ، وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا قَالَهُ» ، فَلَمَّا رُوجِعَ فِيهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُكُمْ بِهِ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ سَمِعْنَا بَعْضَهُ، وَحَدَّثَنَا أَصْحَابُنَا بِبَعْضِهِ. وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِرْسَالُ الْأَخْبَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ إِذَا حَدَّثْتَنِي فَأَسْنِدْ، فَقَالَ: إِذَا قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي حَدَّثَنِي، وَإِذَا قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ عَنْهُ، وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثًا، فَلَمَّا رُوجِعَ فِيهِ قَالَ: (أَخْبَرَنِي بِهِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ إِرْسَالِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا (3) .   (1) قَدْ يُقَالُ إِنَّمَا قَبِلُوا أَخْبَارَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَمْلًا لَهَا عَلَى الظَّاهِرِ مِنَ الِاتِّصَالِ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي رِوَايَةِ كُلِّ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالتَّدْلِيسِ إِذَا رَوَى عَمَّ لَقِيَهُ بِصِيغَةٍ لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي الِاتِّصَالِ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا أَرْبَعَةَ أَحَادِيثَ لِصِغَرِ سِنِّهِ، فَدَعْوَى يَرُدُّهَا الْوَاقِعُ، انْظُرْ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ فِي تَرْجَمَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ (2) انْظُرْ تَخْرِيجَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمُرَاجَعَةِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ لِابْنِ حَجَرٍ وَنَصْبِ الرَّايَةِ (3) أَقُولُ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِرْسَالِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرْسَلَةُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَهَمِّهَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ لِكُلِّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِهَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْبَحْثِ، وَالْمُنَاظَرَةُ دُونَ الْإِنْكَارِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذِ النِّزَاعُ هُنَا فِي حُكْمِ الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُ مِنَ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ هُوَ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالنِّزَاعُ فِيهِ قَائِمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعَدْلَ الثِّقَةَ إِذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، مُظْهِرًا لِلْجَزْمِ بِذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ أَوْ ظَانٌّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ. فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ظَانًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ، أَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ، لَمَا اسْتَجَازَ فِي دِينِهِ النَّقْلَ الْجَازِمَ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْدِيلَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ عَالِمًا وَلَا ظَانًّا بِصِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ (1) . فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ الْإِجْمَاعَ، وَدَلِيلُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، فَلَا يُسَاعِدُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ فَهُوَ أَنَّ غَايَةَ مَا ذَكَرَ مَصِيرُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ إِلَى الْإِرْسَالِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ الْكُلِّ. قَوْلُكُمْ: لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ مُنْكِرٌ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا بَاحَثُوا ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَسْنَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا أَخْبَرَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: لَا نَأْخُذُ بِمَرَاسِيلِ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا عَدَمَ النَّكِيرِ، فَغَايَتُهُ أَنَّهُمْ سَكَتُوا، وَالسُّكُوتُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، سَلَّمْنَا الْمُوَافَقَةَ، غَيْرَ أَنَّ الْإِرْسَالَ الْمُحْتَجَّ بِوُقُوعِهِ، إِنَّمَا وَقَعَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إِنَّمَا يَرْوِي عَنِ الصَّحَابِيِّ، وَالصَّحَابَةُ عُدُولٌ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ.   (1) أَقُولُ إِنْ سَلِمَ عِلْمُ الرَّاوِي أَوْ ظَنُّهُ نِسْبَةَ الْخَبَرِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَدَالَةَ مَنْ رَوَاهُ عَنْهُ فِي نَظَرِهِ دُونَ عَدَالَتِهِ فِي نَظَرِ غَيْرِهِ، وَإِذَنْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ حَتَّى يُنْظَرَ فِي حَالِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ " تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَرْوِي الشَّخْصُ عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ، لَجَرَحَهُ، أَوْ تَوَقَّفَ فِيهِ، فَالرَّاوِي سَاكِتٌ عَنِ التَّعْدِيلِ وَالْجَرْحِ، وَالسُّكُوتُ عَنِ الْجَرْحِ لَا يَكُونُ تَعْدِيلًا، وَإِلَّا كَانَ السُّكُوتُ عَنِ التَّعْدِيلِ جَرْحًا ; وَلِهَذَا فَإِنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ لَوْ أَرْسَلَ شَهَادَةَ الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَعْدِيلًا لِشَاهِدِ الْأَصْلِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. قَوْلُكُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ ظَانًّا لِعَدَالَةِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، أَوْ عَالِمًا بِهَا، لَمَا جَازَ لَهُ أَنْ يَجْزِمَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا إِمْكَانَ الرِّوَايَةِ عَنِ الْكَاذِبِ، وَالْجَزْمَ بِالرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ تَجْوِيزِ كَذِبِ الرَّاوِي، وَذَلِكَ قَادِحٌ فِي الرِّوَايَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا تَعَذَّرَ الْجَزْمُ، فَلَيْسَ حَمْلُ قَوْلِهِ: (قَالَ) عَلَى مَعْنَى (أَظُنُّ أَنَّهُ قَالَ) أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى (أَنِّي سَمِعْتُ أَنَّهُ قَالَ) وَلَوْ حُمِلَ عَلَى (أَنِّي سَمِعْتُ أَنَّهُ قَالَ) لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَعْدِيلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ بِرِوَايَتِهِ مُدَلِّسًا وَلَا مُلَبِّسًا. سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِرْسَالَ تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْدِيلِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ ذِكْرِ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ كَافٍ فِي التَّعْدِيلِ كَمَا سَبَقَ. سَلَّمْنَا أَنَّ مُطْلَقَ التَّعْدِيلِ كَافٍ، لَكِنْ إِذَا عُيِّنَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْرَفْ بِفِسْقٍ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ، فَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَهُ عَدْلًا فِي نَظَرِهِ، وَلَوْ عَيَّنَهُ لَعَرَفْنَا فِيهِ فِسْقًا لَمْ يَطَّلِعِ الْمُعَدِّلُ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُقْبَلْ تَعْدِيلُ شَاهِدِ الْفَرْعِ لِشَاهِدِ الْأَصْلِ مَعَ عَدَمِ تَعْيِينِهِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى التَّعْدِيلِ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّعْدِيلِ، وَبَيَانُهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ أَنَّ الْجَهَالَةَ بِعَيْنِ الرَّاوِي آكَدُ مِنَ الْجَهْلِ بِصِفَتِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ جُهِلَتْ ذَاتُهُ فَقَدْ جُهِلَتْ صِفَتُهُ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَلَوْ كَانَ مَعْلُومَ الْعَيْنِ، مَجْهُولَ الصِّفَةِ، لَمْ يَكُنْ خَبَرُهُ مَقْبُولًا، فَإِذَا كَانَ مَجْهُولَ الْعَيْنِ وَالصِّفَةِ، أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ خَبَرُهُ مَقْبُولًا. الثَّانِي: أَنَّ مِنْ شَرْطِ قَبُولِ الرِّوَايَةِ الْمَعْرِفَةَ بِعَدَالَةِ الرَّاوِي، وَالْمُرْسِلُ لَا يَعْرِفُ عَدَالَةَ الرَّاوِي لَهُ، فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ مَقْبُولًا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ. الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْخَبَرَ كَالشَّهَادَةِ فِي اعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِرْسَالَ فِي الشَّهَادَةِ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِهَا فَكَذَلِكَ الْخَبَرُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ الْعَمَلُ بِالْمَرَاسِيلِ، لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ أَسْمَاءِ الرُّوَاةِ وَالْبَحْثِ عَنْ عَدَالَتِهِمْ مَعْنًى. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمَرَاسِيلِ لَزِمَ فِي عَصْرِنَا هَذَا أَنْ يُعْمَلَ بِقَوْلِ الْإِنْسَانِ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَا " وَإِنْ لَمْ يُذْكَرِ الرُّوَاةُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. السَّادِسُ: أَنَّ الْخَبَرَ خَبَرَانِ: تَوَاتَرٌ وَآحَادٌ، وَلَوْ قَالَ الرَّاوِي " أَخْبَرَنِي مَنْ لَا أُحْصِيهِمْ عَدَدًا " لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّوَاتُرِ، فَكَذَلِكَ فِي الْآحَادِ. وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمُ: الْإِجْمَاعُ لَا يُسَاعِدُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، قُلْنَا: الَّذِي لَا يُسَاعِدُ إِنَّمَا هُوَ الْإِجْمَاعُ الْقَاطِعُ فِي مَتْنِهِ وَسَنَدِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ فَظَنِّيٌّ، فَلَا يُمْتَنَعُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ كَالظَّاهِرِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الْإِنْكَارِ، قُلْنَا: الْأَصْلُ عَدَمُهُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُمْ بَاحَثُوا ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ، قُلْنَا: الْمُرَاجَعَةُ فِي ذَلِكَ لَا تَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْإِرْسَالِ (1) بَلْ غَايَتُهُ طَلَبُ زِيَادَةِ عِلْمٍ لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً بِالْإِرْسَالِ، وَقَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ لَيْسَ إِنْكَارًا لِلْإِرْسَالِ مُطْلَقًا، بَلْ إِرْسَالُ الْحَسَنِ وَأَبِي الْعَالِيَةِ لَا غَيْرَ لِظَنِّهِ أَنَّهُمَا لَمْ يَلْتَزِمَا فِي ذَلِكَ تَعْدِيلَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ (2) . وَلِهَذَا قَالَ فَإِنَّهُمَا لَا يُبَالِيَانِ عَمَّنْ أَخَذَا الْحَدِيثَ مِنْهُ، لَا عَلَى الْإِرْسَالِ. قَوْلُهُمْ: السُّكُوتُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا قَطْعًا فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهَا ظَنًّا، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْإِجْمَاعِ (3) . قَوْلُهُمْ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ إِرْسَالَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِيِنَ حُجَّةٌ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ، أَنْ لَوْ كَانُوا لَا يَرْوُونَ إِلَّا عَنِ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ بَعْدَ الْإِرْسَالِ حَدَّثَنِي بِهِ رَجُلٌ عَلَى بَابِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فِيمَا أَرْسَلَهُ حَدَّثَنِي بِهِ بَعْضُ الْحَرَسِيَّةِ.   (1) سَبَقَ فِي التَّعْلِيقِ أَنَّ النِّزَاعَ هُنَا فِي الْعَمَلِ بِأَحْكَامِ الْمُرْسَلِ لَا فِي نَفْسِ الْإِرْسَالِ ص 125 (2) لَوْ قُدِّرَ أَنَّهُمَا الْتَزَمَا تَعْدِيلَ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ الْمُبْهَمِ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ حَتَّى يُنْظَرَ فِي حَالِهِ (3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 قَوْلُهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ " تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، قُلْنَا دَلِيلُهُ مَا سَبَقَ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَرْوِي عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ لَجَرَّحَهُ أَوْ عَدَّلَهُ، قُلْنَا: ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إِذَا كَانَ قَدْ عَيَّنَ الرَّاوِي، وَوَكَلَ النَّظَرَ فِيهِ إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ فُلَانٌ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ كَذَا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِقَوْلِهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ عَدَالَةَ الرَّاوِي عَلَى مَا سَبَقَ (1) . وَأَمَّا إِرْسَالُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِهَا عَدَمُ قَبُولِ الْإِرْسَالِ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَدِ اعْتُبِرَ فِيهَا مِنَ الِاحْتِيَاطِ مَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي الرِّوَايَةِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْجَزْمَ مَعَ تَجْوِيزِ كَذِبِ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ كَذِبٌ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبًا، إِنْ لَوْ ظُنَّ أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ ذَلِكَ مَعَ ظَنِّ الصِّدْقِ، فَلَا يَكُونُ كَاذِبًا، وَإِنِ احْتَمَلَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ كَاذِبًا، كَمَا لَوْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ الْعَنْعَنَةِ. قَوْلُهُمْ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِرْسَالَ مِنَ الرَّاوِي تَعْدِيلٌ لِلْمَرْوِيِّ عَنْهُ، لَكِنَّهُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقٌ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مُوجِبَةً لِلْعَمَلِ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ، قُلْنَا: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْدِيلَ الْمُطْلَقَ دُونَ تَعْيِينٍ سَبَبُهُ كَافٍ فِيمَا تَقَدَّمَ (2) . قَوْلُهُمْ لَعَلَّهُ: اعْتَقَدَهُ عَدْلًا وَلَوْ عَيَّنَهُ لَعَرَفْنَا فِيهِ فِسْقًا لَمْ يَعْرِفْهُ الْمُعَدِّلُ، قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُحْتَمَلًا، غَيْرَ أَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُهُ (3) وَلَا سِيَّمَا مَعَ تَعْدِيلِ الْعَدْلِ الْعَالِمِ بِأَحْوَالِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِمَا يُوجِبُ الْجَرْحَ. وَأَمَّا اعْتِبَارُ الرِّوَايَةِ بِالشَّهَادَةِ، فَقَدْ عُرِفَ وَجْهُ الْفَارِقِ فِيهِمَا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى، فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ يَلْزَمُ مِنَ الْجَهْلِ بِعَيْنِ الرَّاوِي، الْجَهْلُ بِصِفَتِهِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْإِرْسَالَ يَدُلُّ عَلَى تَعْدِيلِهِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ جُهِلَتْ عَيْنُهُ   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا (2) هَذَا قَدْ يُسَلِّمُ إِنْ كَانَ الرَّاوِي مُعَيَّنًا قَدْ زَالَتْ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ أَمَّا إِنْ كَانَ مُبْهَمًا فَلَا كَمَا تَقَدَّمَ (3) لَيْسَ بِالظَّاهِرِ، بَلِ الِاحْتِمَالَانِ عَلَى السَّوَاءِ، وَأَمَّا عَدَمُ الظَّفَرِ بِالْجَرْحِ فَقَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الرَّاوِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الثَّالِثَةُ، فَقَدْ عُرِفَ جَوَابُهَا بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الرَّابِعَةُ، فَجَوَابُهَا بِبَيَانِ فَائِدَةِ ذِكْرِ الرَّاوِي، وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّاوِيَ قَدْ يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ حَالُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، فَيُعَيِّنُهُ لِيَكِلَ النَّظَرَ فِي أَمْرِهِ إِلَى الْمُجْتَهِدِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أُرْسِلَ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا عُيِّنَ الرَّاوِي، فَالظَّنُّ الْحَاصِلُ لِلْمُجْتَهِدِ بِفَحْصِهِ بِنَفْسِهِ عَنْ حَالِهِ يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ لَهُ بِفَحْصِ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ الْخَامِسَةُ فَمُنْدَفِعَةٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ مَهْمَا كَانَ الْمُرْسِلُ لِلْخَبَرِ فِي زَمَانِنَا عَدْلًا، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ الْحُفَّاظُ، فَهُوَ حُجَّةٌ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ السَّادِسَةُ، فَإِنَّمَا لَمْ يَصِرِ الْخَبَرُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مُتَوَاتِرًا ; لِأَنَّ الْمُتَوَاتِرَ يُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِوَاءُ طَرَفَيْهِ وَوَسَطِهِ، وَالْوَاحِدُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَا يَحْصُلُ بِخَبَرِهِ التَّوَاتُرُ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمُرْسَلَ مَقْبُولٌ مِنَ الْعَدْلِ، فَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ كَالشَّافِعِيِّ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إِنَّهُ يَكُونُ مَقْبُولًا إِذَا أَسْنَدَهُ غَيْرُ الْمُرْسِلِ أَوْ أَسْنَدَهُ الْمُرْسِلُ مَرَّةً ; لِأَنَّ الِاعْتِمَادَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِسْنَادِ، لَا عَلَى الْإِرْسَالِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ يَكُونُ مَقْبُولًا إِذَا أَرْسَلَهُ اثْنَانِ، وَكَانَتْ مَشَايِخُهُمَا مُخْتَلِفَةً ; لِأَنَّ ضَمَّ الْبَاطِلِ إِلَى الْبَاطِلِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَبُولِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; لِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِصِدْقِ الرَّاوِي مِنَ الْإِرْسَالِ مَعَ هَذِهِ الْأُمُورِ أَقْوَى مِنْهُ عِنْدَ عَدَمِهَا. وَعَلَى هَذَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِأَضْعَفِ الظَّنَّيْنِ عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِأَقْوَاهُمَا، وَإِذَا عُرِفَ الْخَبَرُ الْمَقْبُولُ وَغَيْرُ الْمَقْبُولِ، فَإِذَا تَعَارَضَ خَبَرَانِ مَقْبُولَانِ، فَالْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّرْجِيحِ. وَسَيَأْتِي فِي قَاعِدَةِ التَّرْجِيحَاتِ بِأَقْصَى الْمُمْكِنِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 [النَّوْعُ الثَّانِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ فِي الْمَتْنِ] [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ] [الصِّنْفُ الْأَوَّلُ فِي الْأَمْرِ] [الْبَحْثُ الْأَوَّلُ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَمْرِ حَقِيقَةً] النَّوْعُ الثَّانِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ فِي الْمَتْنِ وَفِيهِ بَابَانِ، أَوَّلُهُمَا فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَثَانِيهُمَا فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دُونَ مَا عَدَاهُمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ. الْبَابُ الْأَوَّلُ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ، إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِمَنْظُومِهِ، أَوْ لَا بِمَنْظُومِهِ، فَلْنَفْرِضْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قِسْمًا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي دَلَالَاتِ الْمَنْظُومِ، وَهِيَ تِسْعَةُ أَصْنَافٍ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ - فِي الْأَمْرِ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَبْحَاثٍ أَوَّلُهُمَا: فِيمَا يَدُلُّ اسْمُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً. وَثَانِيهَا: فِي حَدِّ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ. وَثَالِثُهَا: فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، وَرَابِعُهَا: فِي مُقْتَضَاهُ. الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَمْرِ حَقِيقَةً. فَنَقُولُ: اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَلِذَلِكَ قَسَّمَتِ الْعَرَبُ الْكَلَامَ إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَخَبَرٍ وَاسْتِخْبَارٍ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَنِدَاءٍ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْكَلَامَ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، أَوِ الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ بِالْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ، عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ (1) وَالْكَلَامُ الْقَدِيمُ النَّفْسَانِيُّ عِنْدَنَا (2) وَإِنْ كَانَ صِفَةً وَاحِدَةً لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فِي ذَاتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ يُسَمَّى أَمْرًا   (1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْمَجْمُوعِ، فَكُلٌّ مِنَ الْعِبَارَةِ وَمَعْنَاهَا جُزْءٌ مِنْ مَدْلُولِ الْكَلَامِ، وَقَدْ يُرَادُ مِنْهُ أَحَدُهُمَا بِقَرِينَةٍ (2) عِنْدَنَا - أَيِ الْأَشْعَرِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وَنَهْيًا وَخَبَرًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، بِسَبَبِ اخْتِلَافِ تَعَلُّقَاتِهِ، وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (1) فِي (أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ) فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ قِسْمًا مِنْ أَقْسَامِهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ، هَلْ هُوَ حَقِيقَةً أَوْ لَا؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ، وَاخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الشَّيْءِ وَالصِّفَةِ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ الشَّأْنِ وَالطَّرَائِقِ، وَوَافَقَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي نَفْسِ الْفِعْلِ، مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ هُوَ شَيْءٌ. وَهَا نَحْنُ نَذْكُرُ حُجَجَ كُلِّ فَرِيقٍ وَنُنَبِّهُ عَلَى مَا فِيهَا، وَنَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، أَمَّا حُجَّةُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَالَ (هَذَا أَمْرٌ) لَمْ يَدْرِ السَّامِعُ مُرَادَهُ مِنْ قَوْلِهِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِكَوْنِهِ مُصَادَرًا (2) بِدَعْوَى التَّرَدُّدِ فِي إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ، وَلَا يَخْفَى ظُهُورُ الْمَنْعِ مِنْ مُدَّعِي الْحَقِيقَةِ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَأَنَّهُ مَهْمَا أَطْلَقَ اسْمَ الْأَمْرِ عِنْدَهُ كَانَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى فَهْمِهِ الْقَوْلَ الْمَخْصُوصَ، وَأَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَلَا يَخْفَى امْتِنَاعُ تَقْرِيرِ التَّرَدُّدِ مَعَ هَذَا الْمَنْعِ. وَأَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِهِ مَجَازًا فِي الْفِعْلِ فَكَثِيرَةٌ. الْأُولَى مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْقَوْلِ لَزِمَ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ فِي اللَّفْظِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، لِكَوْنِهِ مُخِلًّا بِالتَّفَاهُمِ لِاحْتِيَاجِهِ فِي فَهْمِ الْمَدْلُولِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُ إِلَى قَرِينَةٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ خَفَائِهَا، لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ. الثَّانِيَةُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ لَاطَّرَدَ فِي كُلِّ فِعْلٍ، إِذْ هُوَ لَازِمُ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْعَالِمِ عَلَى مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ حَقِيقَةً، اطَّرَدَ فِي كُلِّ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} مَجَازًا عَنْ أَهْلِهَا، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُجَاوَرَةِ، لَمْ يَصِحَّ التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ السُّؤَالِ لِلْبِسَاطِ وَالْكُوزِ عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمُلَازَمَةُ بَيْنَهُمَا أَشَدَّ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، إِذْ لَا يُقَالُ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَمْرٌ. الثَّالِثَةُ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ، لَاشْتُقَّ لِمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُ اسْمُ الْأَمْرِ، كَمَا فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ إِلَّا أَنْ يَمْنَعَ مَانِعٌ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ   (1) سَبَقَ أَيْضًا بَيَانُ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ تَعْلِيقًا ص 153 ج 1 (2) الْمُصَادَرَةُ - هِيَ أَخْذُ الدَّعْوَى فِي الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 كَمَا اشْتَقُّوا اسْمَ الْقَارُورَةِ لِلزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ، مِنْ قَرَارِ الْمَائِعِ فِيهَا، وَمَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَرَّةِ وَالْكُوزِ وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ جَمْعَ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ بِأَوَامِرَ، وَهُوَ لَازِمٌ لَهُ لِنَفْسِ الْأَمْرِ لَا لِلْمُسَمَّى، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْفِعْلِ، بَلْ إِنْ جُمِعَ فَإِنَّمَا يُجْمَعُ بِأُمُورٍ. الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ الْحَقِيقِيَّ لَهُ مُتَعَلِّقٌ، وَهُوَ الْمَأْمُورُ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ سُمِّيَ أَمْرًا، فَلَا يُقَالُ لَهُ مَأْمُورٌ، وَيَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ. السَّادِسَةُ: أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْأَمْرِ الْحَقِيقِيِّ، وَصْفَهُ بِكَوْنِهِ مُطَاعًا أَوْ مُخَالِفًا، وَلَا كَذَلِكَ الْفِعْلُ، وَفِي هَذِهِ الْحُجَجِ نَظَرٌ. أَمَّا الْأُولَى: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ، أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا (1) إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى مُشْتَرِكٍ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَالْفِعْلِ، فَيَكُونُ مُتَوَاطِئًا (2) . فَإِنْ قِيلَ: الْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ الْمُسَمَّى الْمُشْتَرَكِ، فَلَا تَوَاطُؤَ، قِيلَ: لَا خَفَاءَ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي صِفَاتٍ، وَافْتِرَاقِهِمَا فِي صِفَاتٍ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الصِّفَاتِ الْمُشْتَرِكَةِ هُوَ الْمُسَمَّى، كَيْفَ وَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا وَلَا مَجَازًا، لِمَا فِيهِ مِنَ الِافْتِقَارِ إِلَى الْقَرِينَةِ الْمُخِلَّةِ بِالتَّفَاهُمِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ (3) أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ (4) لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَوْجُودِ وَالصِّفَةِ وَالشَّبِيهِ (5) وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَيُّ أَمْرٍ قُدِّرَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ، فَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي النَّهْيِ وَسَائِرِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَلَا يُسَمَّى أَمْرًا. وَالْقَوْلُ (6) بِأَنَّهُ مُتَوَاطِئٌ مُمْتَنِعٌ، كَيْفَ وَإِنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ، قَائِلٌ إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ (7) وَقَائِلٌ إِنَّهُ مَجَازٌ فِي الْفِعْلِ، فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ (8) يَكُونُ خَرْقًا لِلْإِجْمَاعِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.   (1) أَيْ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا (2) أَيْ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا (3) أَيِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالتَّجَوُّزِ (4) أَيِ الْمَعْنَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ (5) الشَّبِيهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ - كَأَنَّ فِيهِ تَحْرِيفًا وَلَعَلَّ الصَّوَابَ وَالشَّيْءِ أَوِ الشَّأْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (6) لَعَلَّهُ فَالْقَوْلُ بِالْفَاءِ لِيَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى مَا قَبْلَهُ وَنَتِيجَةً لَهُ (7) أَيْ لَفْظِيٌّ (8) هُوَ الْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مُسَمَّى اسْمِ الْأَمْرِ إِنَّمَا هُوَ الشَّأْنُ وَالصِّفَةُ، وَكُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ كَانَ نَهْيًا أَوْ غَيْرَهُ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى أَمْرًا حَقِيقَةً. وَعَلَى هَذَا فَقَدِ انْدَفَعَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ (1) فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جَعْلِ الشَّأْنِ وَالصِّفَةِ، مَدْلُولًا لِاسْمِ الْأَمْرِ، فَمِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ وَإِنْ سَلَّمْنَا (2) أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الِاشْتِرَاكِ، وَلَكِنْ لِمَ قِيلَ بِامْتِنَاعِهِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجَازٌ مُخِلٌّ بِالتَّفَاهُمِ (3) لِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ مَحْمُولًا عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْدِيرُهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ (4) أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ مَحْذُورَ الِاشْتِرَاكِ أَعْظَمُ مِنْ مَحْذُورِ التَّجَوُّزِ، فَكَانَ الْمَجَازُ أَوْلَى، وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ الْمَجَازَ أَغْلَبُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مِنَ الِاشْتِرَاكِ (5) وَلَوْلَا أَنَّهُ أَوْفَى بِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْوَضْعِ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَحْذُورَ اللَّازِمَ مِنَ الِاشْتِرَاكِ بِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ لَازِمٌ لَهُ أَبَدًا، بِخِلَافِ الْمَجَازِ: فَإِنَّ الْمَحْذُورَ إِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ جِهَةِ الْمَجَازِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ نَادِرٌ، إِذِ الْغَالِبُ إِنَّمَا هُوَ إِرَادَةُ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَحْذُورَ لَازِمٌ فِي الْمُشْتَرَكِ فِي كُلِّ مَحَمَلٍ مِنْ مَحَامِلِهِ، لِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقَرِينَةِ بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ جِهَةِ الْمَجَازِ، لَا بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ، قِيلَ هَذَا مُعَارَضٌ (6) مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ،   (1) وَهُوَ الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي بِأَنَّ كَوْنَهُ مَعْنَوِيًّا خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ (2) رُجُوعٌ إِلَى الِاعْتِرَاضِ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْفِعْلِ (3) الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ (4) أَيِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالتَّجَوُّزِ (5) أَيِ اللَّفْظِيِّ (6) سَيَجِيءُ بَحْثُ الْمُعَارَضَةِ فِي الِاعْتِرَاضِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مُسَمَّيَاتِهِ مِمَّا يَطَّرِدُ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ كَمَا سَبَقَ، وَمَا يَطَّرِدُ أَوْلَى لِقِلَّةِ اضْطِرَابِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ، لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَكَانَ أَوْسَعَ فِي اللُّغَةِ وَأَكْثَرَ فَائِدَةً. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لِكَوْنِهِ حَقِيقِيًّا، مِمَّا يَصِحُّ التَّجَوُّزُ بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ الْحَقِيقِيِّ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ، فَكَانَ أَوْلَى لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَإِنِ افْتَقَرَ إِلَى قَرِينَةٍ، لَكِنْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، بِخِلَافِ الْمَجَازِ، لِافْتِقَارِهِ إِلَى مُغَلِّبَةٍ عَلَى الظَّنِّ، وَأَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً عَلَى جِهَةِ ظُهُورِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، فَكَانَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ مَعَهُ لِذَلِكَ أَكْثَرَ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَجَازَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عَلَاقَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ، تَكُونُ مُصَحِّحَةً لِلتَّجَوُّزِ بِاللَّفْظِ، عَلَى مَا سَلَفَ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ. السَّادِسُ: أَنَّ الْمَجَازَ لَا يَتِمُّ فَهْمُهُ دُونَ فَهْمِ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مُسْتَعَارًا مِنْهُ، وَفَهْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْلُولَاتِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى فَهْمِ غَيْرِهِ، فَكَانَ أَوْلَى. السَّابِعُ: أَنَّ الْمَجَازَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَصَرُّفِ مَنْ قَبْلَنَا فِي تَحْقِيقِ الْعَلَاقَةِ الَّتِي هِيَ شَرْطٌ فِي التَّجَوُّزِ، وَرُبَّمَا وَقَعَ الْخَطَأُ فِيهِ: بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ فِي جِهَةِ الْمَجَازِ مُخَالَفَةُ الظُّهُورِ فِي جِهَةِ الْحَقِيقَةِ، بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ فِي أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ مُخَالَفَةُ ظَاهِرٍ أَصْلًا. التَّاسِعُ: أَنَّ الْمَجَازَ تَابِعٌ لِلْحَقِيقَةِ وَلَا عَكْسَ، فَكَانَ الْمُشْتَرَكُ أَوْلَى. الْعَاشِرُ: أَنَّ السَّامِعَ لِلْمَجَازِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِالْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إِلَى الْمَجَازِ، إِذَا كَانَ هُوَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ فَقَدْ يُبَادِرُ إِلَى الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ تَرْكُ الْمُرَادِ وَفِعْلُ مَا لَيْسَ بِمُرَادٍ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ، فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ ظُهُورِ الْقَرِينَةِ مُطْلَقًا، لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَلَا يَلْزَمُ سِوَى عَدَمِ الْمَقْصُودِ. فَإِنْ قِيلَ إِلَّا أَنَّ الْمَجَازَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَوَائِدُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَبْلَغَ وَأَوْجَزَ وَأَوْفَقَ فِي بَدِيعِ الْكَلَامِ وَنَظْمِهِ وَنَثْرِهِ لِلسَّجْعِ وَالْمُطَابَقَةِ وَالْمُجَانَسَةِ وَاتِّحَادِ الرَّوِيِّ فِي الشِّعْرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 قُلْنَا: وَمِثْلُ هَذَا أَيْضًا مُنْقَدِحٌ فِي اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ مَعَ كَوْنِهِ حَقِيقَةً، فَكَانَ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْلَى فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي مَقَامِ الْمُعَارَضَةِ (1) . وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ، فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ إِطْلَاقِ الْأَمْرِ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَعَدَمُ اطِّرَادِهِ فِي كُلِّ فِعْلٍ إِنْ كَانَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ فَعَدَمُ اطِّرَادِهِ فِي كُلِّ قَوْلٍ مِمَّا يَمْنَعُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ قَوْلٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى (2) ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقَوْلِ فَكَذَلِكَ فِي الْفِعْلِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَجِبُ اطِّرَادُ الِاسْمِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ الِاسْمُ حَقِيقَةً فِيهِ، لَا فِي غَيْرِهِ، وَالْأَمْرُ إِنَّمَا كَانَ حَقِيقَةً فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، لَا فِي مُطْلَقِ قَوْلٍ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ، فَمِثْلُهُ (3) لَازِمٌ فِي الْأَفْعَالِ، إِذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ، لَا فِي كُلِّ فِعْلٍ. أَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الْحَقَائِقِ الِاشْتِقَاقَ لَكَانَ الْمَنْعُ مِنِ اشْتِقَاقِ اسْمِ الْقَارُورَةِ لِلْجَرَّةِ وَالْكُوزِ مِنْ قَرَارِ الْمَائِعِ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلَوْ لَمْ يَكُنِ عَلَى وَفْقِ الْأَصْلِ لَكَانَ الِاشْتِقَاقُ فِي صُوَرِ الِاشْتِقَاقِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَالْمَحْذُورُ اللَّازِمُ مِنْهُ أَكْثَرَ ; لِأَنَّ صُوَرَ الِاشْتِقَاقِ أَغْلَبُ وَأَكْثَرُ مِنْ صُوَرِ عَدَمِ الِاشْتِقَاقِ. قِيلَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْأَصَالَةِ فِي الِاشْتِقَاقِ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِقَاقُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِقَاقُ وَعَدَمُهُ لَا عَلَى وَفْقِ أَصْلٍ فَيَقْتَضِيهِ، بَلْ هُمَا تَابِعَانِ لِلنَّقْلِ وَالْوَضْعِ. كَيْفَ وَإِنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الِاشْتِقَاقُ مِنْ تَوَابِعِ الْحَقِيقَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَوَابِعِ بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنَ الِاشْتِقَاقِ فِي بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ الِاشْتِقَاقُ فِي غَيْرِهِ؛ لِعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ فِي ذَلِكَ الْمُسَمَّى.   (1) أَيْ وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ التَّرْجِيحُ (2) جُمْلَةُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ قَوْلٍ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ يَمْنَعُ، أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِتَعْلِيلِ الْمَنْعِ (3) جَوَابُ قَوْلِهِ فَإِنْ قِيلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحُجَّةِ الرَّابِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ، وَالسَّادِسَةِ. كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ فِي الْحُجَّةِ الرَّابِعَةِ إِنَّ (أَوَامِرَ) لَيْسَتْ جَمْعُ (أَمْرٍ) بَلْ جَمْعُ (أَمْرَهُ) وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهِ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِثَلَاثِ حُجَجٍ. الْأُولَى: أَنَّ الْمُسَمَّى فِي نَفْسِهِ مُخْتَلِفٌ، وَكَمَا قَدْ أُطْلِقَ اسْمُ الْأَمْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، فَقَدْ أُطْلِقَ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَيَدُلُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ، أَيْ عَمَلُهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} أَيْ فِعْلُنَا {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} . الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اسْمَ الْأَمْرِ فِي الْفِعْلِ قَدْ جُمِعَ بِأُمُورٍ وَالْجَمْعُ عَلَامَةُ الْحَقِيقَةِ. وَالْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمُ الْأَمْرِ فِي الْفِعْلِ مَجَازًا لَمْ يَخْلُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالنُّقْصَانِ، أَوْ لِمُشَابَهَتِهِ لِمَحَلِّ الْحَقِيقَةِ، أَوْ لِمُجَاوِرٍ لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ سَيَؤُولُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْفِعْلِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَجَازًا كَانَ حَقِيقَةً، وَهَذِهِ الْحُجَجُ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا. أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ إِطْلَاقِ اسْمِ الْأَمْرِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُمْ (أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ) لَيْسَ مُسَمَّاهُ الْفِعْلَ، بَلْ شَأْنُهُ، وَصِفَتُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} ، وَمِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} . وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْجَمْعَ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ فِي جَمْعِ مَنْ سُمِّيَ (حِمَارًا) لِبَلَادَتِهِ (حُمُرٌ) وَهُوَ مَجَازٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا بِأَنَّ الْجَمْعَ يَدُلُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنْ (أُمُورَ) جَمْعُ (أَمْرٍ) بَلِ الْأَمْرُ وَالْأُمُورُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقَعُ مَوْقِعَ الْآخَرِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا جَمْعًا لِلْآخَرِ. وَلِهَذَا يُقَالُ (أَمْرُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمٌ) فَيُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ (أُمُورُ فُلَانٍ مُسْتَقِيمَةٌ) . وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ لَيْسَ مَجَازًا فِي الْفِعْلِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلٌ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْنَى الشَّأْنِ وَالصِّفَةِ كَمَا سَبَقَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وَعَلَى هَذَا، فَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ كَوْنُ اسْمِ الْأَمْرِ مُتَوَاطِئًا فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالْفِعْلِ، لَا أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ (1) وَلَا مَجَازٌ فِي أَحَدِهِمَا. [الْبَحْثُ الثَّانِي فِي حَدِّ الْأَمْرِ] وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْمُعْتَزِلَةُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِكَلَامِ النَّفْسِ، فَذَهَبَ الْبَلْخِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ (افْعَلْ) أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ (يَقُومُ مَقَامَهُ) أَيْ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولِهِ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ إِدْرَاجَ صِيغَةِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ الْعَرَبِيِّ فِي الْحَدِّ، وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يُوجَدُ فِيمَا لَيْسَ بِأَمْرٍ بِالِاتِّفَاقِ (2) كَالتَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، وَالْإِبَاحَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ، وَالْإِرْشَادِ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْتَشْهِدُوا} ، وَالِامْتِنَانِ كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ، وَالْإِكْرَامِ كَقَوْلِهِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} ، وَالتَّسْخِيرِ، وَالتَّعْجِيزِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَحَامِلِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ، أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ (افْعَلْ) الْوَارِدَةُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَنَا، أَمْرًا حَقِيقَةً لِتَحَقُّقِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ شُرُوطِ الْأَمْرِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ لَنَا بِهَا، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ رَسُولًا، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلرَّسُولِ غَيْرِ الْمُبَلِّغِ لِكَلَامِ الْمُرْسِلِ، لَا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ وَالنَّاهِيَ، كَالسَّيِّدِ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ صِيغَتُهُ مَخْلُوقَةً لَهُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمْ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا (3) . الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَرِدُ مِثْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنَ الْأَعْلَى نَحْوَ الْأَدْنَى وَلَا يَكُونُ أَمْرًا، بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّضَرُّعِ وَالْخُضُوعِ، وَقَدْ يَرِدُ مِنَ الْأَدْنَى نَحْوَ الْأَعْلَى إِذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ، وَلِذَلِكَ يُوصَفُ قَائِلُهَا بِالْجَهْلِ وَالْحُمْقِ بِأَمْرِهِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً مِنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، الْأَمْرُ صِيغَةُ (افْعَلْ) عَلَى تَجَرُّدِهَا مِنَ الْقَرَائِنِ الصَّارِفَةِ لَهَا عَنْ جِهَةِ الْأَمْرِ إِلَى التَّهْدِيدِ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْمَحَامِلِ.   (1) أَيْ لَفْظِيٌّ (2) فَلَيْسَ التَّعْرِيفُ مَانِعًا لِدُخُولِ غَيْرِ الْمُعَرَّفِ فِيهِ (3) الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، هَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ أَوْ لِلْعَبْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَخَذَ الْأَمْرَ فِي تَعْرِيفِ الْأَمْرِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ مُحَالٌ، وَإِنِ اقْتَصَرُوا فِي التَّحْدِيدِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَمْرَ صِيغَةُ (افْعَلْ) الْمُجَرَّدَةُ عَنِ الْقَرَائِنِ لَا غَيْرَ، وَزَعَمُوا أَنَّ صِيغَةَ (افْعَلْ) فِيمَا لَيْسَ بِأَمْرٍ لَا تَكُونُ مُجَرَّدَةً عَنِ الْقَرَائِنِ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرُوهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ، التَّهْدِيدُ عِبَارَةٌ عَنْ صِيغَةِ (افْعَلْ) الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْقَرَائِنِ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، الْأَمْرُ صِيغَةُ (افْعَلْ) بِشَرْطِ إِرَادَاتٍ ثَلَاثٍ، إِرَادَةِ إِحْدَاثِ الصِّيغَةِ، وَإِرَادَةِ الدَّلَالَةِ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ، وَإِرَادَةِ الِامْتِثَالِ، فَإِرَادَةُ إِحْدَاثِ الصِّيغَةِ احْتِرَازٌ عَنِ النَّائِمِ إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ مِنْهُ، وَإِرَادَةُ الدَّلَالَةِ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا أُرِيدَ بِهَا التَّهْدِيدُ أَوْ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَحَامِلِ، وَإِرَادَةُ الِامْتِثَالِ احْتِرَازٌ عَنِ الرَّسُولِ الْحَاكِي الْمُبَلِّغِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَرَادَ إِحْدَاثَ الصِّيغَةِ وَالدَّلَالَةَ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ، فَقَدْ لَا يُرِيدُ بِهَا الِامْتِثَالَ. وَهُوَ أَيْضًا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَخَذَ الْأَمْرَ فِي حَدِّ الْأَمْرِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الصِّيغَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الصِّيغَةَ أَوْ غَيْرَ الصِّيغَةِ، فَإِنْ كَانَ هُوَ نَفْسَ الصِّيغَةِ، كَانَ الْكَلَامُ مُتَهَافِتًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى أَنَّ الصِّيغَةَ دَالَّةٌ عَلَى الصِّيغَةِ، وَالدَّالُّ غَيْرُ الْمَدْلُولِ. وَإِنْ كَانَ هُوَ غَيْرَ الصِّيغَةِ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هُوَ الصِّيغَةَ، وَقَدْ قَالَ بِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الصِّيغَةُ (افْعَلْ) بِشَرْطِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْأَمْرِ، فَإِنَّ الشَّرْطَ غَيْرُ الْمَشْرُوطِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ غَيْرَ الصِّيغَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِهِ وَالْكَشْفِ عَنْهُ، إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَلَمَّا انْحَسَمَتْ عَلَيْهِمْ طُرُقُ التَّعْرِيفِ قَالَ قَائِلُونَ مِنْهُمْ: الْأَمْرُ هُوَ إِرَادَةُ الْفِعْلِ، وَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ عَلَى إِبْطَالِهِ بِأَنَّ السَّيِّدَ الْمُعَاتَبَ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ عَلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ، إِذَا اعْتَذَرَ عَنْ ذَلِكَ قَصَدَ إِظْهَارَ أَمَرِهِ، وَأَمَرُهُ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ قَصْدًا لِإِظْهَارِ مُخَالَفَتِهِ لِبَسْطِ عُذْرِهِ، وَالْخَلَاصُ مِنْ عِقَابِ السُّلْطَانِ لَهُ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ آمِرًا، وَالْعَبْدُ مَأْمُورًا، وَمُطِيعًا بِتَقْدِيرِ الِامْتِثَالِ، وَعَاصِيًا بِتَقْدِيرِ الْمُخَالِفَةِ، مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَا يُرِيدُ مِنْهُ الِامْتِثَالَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُهُورِ كَذِبِهِ، وَتَحْقِيقِ عِقَابِ السُّلْطَانِ لَهُ. وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَازِمٌ عَلَى أَصْحَابِنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 إِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي تَفْسِيرِهِمُ الْأَمْرَ، بِطَلَبِ الْفِعْلِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّيِّدَ أَيْضًا آمِرٌ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لِعَبْدِهِ، مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ طَلَبُ الْفِعْلِ مِنْ عَبْدِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ عِقَابِهِ وَكَذِبِهِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَطْلُبُ مَا فِيهِ مُضِرَّتُهُ وَإِظْهَارُ كَذِبِهِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَمَا هُوَ جَوَابُ أَصْحَابِنَا فِي تَفْسِيرِ الْأَمْرِ بِالطَّلَبِ يَكُونُ جَوَابًا لِلْخَصْمِ فِي تَفْسِيرِهِ بِالْإِرَادَةِ. وَإِنْ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ هُوَ الطَّلَبَ، بَلِ الْإِخْبَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرَ لِعَبْدِهِ مِمَّا يَصِحُّ تَصْدِيقُهُ وَتَكْذِيبُهُ فِي أَمْرِهِ لِعَبْدِهِ ضَرُورَةَ كَوْنِ الْأَمْرِ خَبَرًا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. كَيْفَ وَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ تَقْسِيمِ أَهْلِ اللُّغَةِ الْكَلَامَ، إِلَى أَمْرٍ وَخَبَرٍ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ، أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ غَيْرِ مُخَالِفَةٍ مِنَ الْخُصُومِ، عَلَى أَنَّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى كُفْرِهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِيمَانِ، وَلَيْسَ الْإِيمَانُ مِنْهُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى (1) لِأَنَّهُ، لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى سِوَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْفِعْلِ سِوَى تَخْصِيصِهَا لَهُ بِحَالَةِ حُدُوثِهِ، فَلَا يَعْقِلُ تَعَلُّقُهَا بِهِ دُونَ تَخْصِيصِهَا لَهُ بِحَالَةِ حُدُوثِهِ، وَمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ تَكُنِ الْإِرَادَةُ مُخَصَّصَةً لَهُ بِحَالَةِ حُدُوثِهِ، فَلَا تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِهِ، وَلِيَقْنَعَ بِهَذَا هَاهُنَا عَمَّا اسْتَقْصَيْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، الْأَمْرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْخَبَرِ عَلَى الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ تَارَةً، وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ تَارَةً، وَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا سَبَقَ امْتِنَاعٌ مِنْ تَصْدِيقِ الْآمِرِ وَتَكْذِيبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ لُزُومُ الثَّوَابِ عَلَى فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ، مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ حَذَرًا مِنَ الْخَلَفِ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الثَّوَابُ فَلِجَوَازِ إِحْبَاطِ الْعَمَلِ بِالرِّدَّةِ، وَأَمَّا الْعِقَابُ فَلِجَوَازِ الْعَفْوِ وَالشَّفَاعَةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْتَرَزَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنْ يُقَالَ: هُوَ الْإِخْبَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ دَافِعٍ.   (1) أَيْ لَيْسَ إِيمَانُ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَمُوتُ كَافِرًا مُرَادًا لِلَّهِ إِرَادَةً كَوْنِيَّةً، وَإِنْ كَانَ مُرَادًا لَهُ إِرَادَةً شَرْعِيَّةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمُ: الْأَمْرُ هُوَ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَقَوْلُهُمُ (الْقَوْلُ) كَالْجِنْسِ لِلْأَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُمْ: (الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ) لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَلِفَصْلِ الْأَمْرِ عَنِ الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فِي الْحَدِّ (بِنَفْسِهِ) احْتِرَازًا عَنِ الصِّيغَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي الطَّاعَةَ بِنَفْسِهَا، بَلْ بِالتَّوْقِيفِ وَالِاصْطِلَاحِ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْمُشْتَقُّ مِنَ الشَّيْءِ أَخْفَى مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مُحَالٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ عَلَى وَجْهٍ يُعَدُّ فَاعِلُهُ مُطِيعًا، وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِعْلِ، وَالطَّاعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِعْلِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ: وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، كَيْفَ وَإِنَّ فِعْلَ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَا طَلَبَهُ الْعَبْدُ مِنْهُ بِالسُّؤَالِ يُقَالُ لَهُ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ طَلَبِ الْعَبْدِ مُطِيعًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " «إِنْ أَطَعْتَ اللَّهَ أَطَاعَكَ» " أَيْ إِنْ فَعَلْتَ مَا أَرَادَ فَعَلَ مَا تُرِيدُ، وَلَيْسَ طَلَبُ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِجِهَةِ السُّؤَالِ لِلَّهِ أَمْرًا، إِذِ الْأَمْرُ لِلَّهِ قَبِيحٌ شَرَعًا، بِخِلَافِ السُّؤَالِ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِمَا يُعَدُّ فَاعِلُهُ مُطِيعًا فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ، وَالْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ، الْأَمْرُ طَلَبُ الْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ. فَقَوْلُنَا: (طَلَبُ الْفِعْلِ) احْتِرَازٌ عَنِ النَّهْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُنَا: (عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ) احْتِرَازٌ عَنِ الطَّلَبِ بِجِهَةِ الدُّعَاءِ وَالِالْتِمَاسِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمُ (الْأَمْرُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ) إِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْإِرَادَةَ، فَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَيْسَ مَذْهَبًا لَكُمْ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ، وَإِلَّا كَانَ فِيهِ تَعْرِيفُ الْأَمْرِ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ الْأَمْرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 قُلْنَا إِجْمَاعُ الْعُقَلَاءِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ قِسْمٌ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ وَاقِعٌ مَوْجُودٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا امْتِنَاعَ تَفْسِيرِهِ بِالصِّيغَةِ وَالْإِرَادَةِ بِمَا سَبَقَ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْنِيُّ بِالطَّلَبِ، وَالنِّزَاعُ فِي تَسْمِيَتِهِ بِالطَّلَبِ بَعْدَ الْمُوَافَقَةِ عَلَى وُجُودِهِ، فَآيِلٌ إِلَى خِلَافٍ لَفْظِيٍّ. [الْبَحْثُ الثَّالِثُ فِي الصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ] وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِكَلَامِ النَّفْسِ (1) هَلْ لِلْأَمْرِ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فِي اللُّغَةِ، أَمْ لَا. فَذَهَبَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ، رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَابَعَهُ إِلَى النَّفْيِ، وَذَهَبَ مَنْ عَدَاهُمْ إِلَى الْإِثْبَاتِ. قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ، وَالَّذِي نَرَآهُ أَنَّ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ خَطَأٌ. فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ " أَمَرْتُكَ وَأَنْتَ مَأْمُورٌ " صِيغَةٌ خَاصَّةٌ بِالْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ مُنَازَعَةٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ صِيغَةَ " افْعَلْ " هَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِالْأَمْرِ، أَوْ لِكَوْنِهَا مُتَرَدِّدَةً فِي اللُّغَةِ بَيْنِ مَحَامِلٍ كَثِيرَةٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِاسْتِبْعَادِ هَذَا الْخِلَافِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ " أَمَرْتُكَ وَأَنْتَ مَأْمُورٌ " لَا يَرْفَعُ هَذَا الْخِلَافَ، إِذِ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْإِنْشَاءِ، وَمَا مِثْلُ (2) هَذِهِ الصِّيَغِ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا إِخَبَارَاتٌ عَنِ الْأَمْرِ لَا إِنْشَاآتٌ. وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ صِحَّةَ اسْتِعْمَالِهَا لِلْإِنْشَاءِ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنِ اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ الْخَبَرِ لِلْإِنْشَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: طَلَّقْتُ وَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ وَنَحْوِهِ.   (1) كَلَامُ اللَّهِ النَّفْسِيِّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى، لَيْسَتْ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَهِيَ مَعْنًى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ عَبَّرَ عَنْهُ بِافْعَلْ مَثَلًا كَانَ أَمْرًا، وَبِلَا تَفْعَلْ كَانَ نَهْيًا إِلَخْ، قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 153 ج1 (2) وَمَا مِثْلُ - كَانَ فِيهِ تَحْرِيفًا وَلَعَلَّ الصَّوَابَ وَمَا كَانَ مِثْلُ إِلَخْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ (طَلَّقْتُكِ) فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَ إِخْبَارًا لَكَانَ إِخْبَارًا عَنِ الْمَاضِي أَوِ الْحَالِ، لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ هَذِهِ الصِّيغَةِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ الطَّلَاقُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، امْتَنَعَ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ " إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ " لِأَنَّ تَعْلِيقَ وُجُودِ مَا وُجِدَ عَلَى وُجُودِ مَا لَمْ يُوجَدْ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، وَجَبَ أَنْ يُعَدَّ كَاذِبًا، وَأَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ الْإِحَالَةِ، فَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ، وَقَالَ لَهَا سَتَصِيرِينَ طَالِقًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مَعَ أَنَّهُ صَرِيحُ إِخْبَارٍ عَنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا لَيْسَ بِصَرِيحٍ أَوْلَى. وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ إِخْبَارًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ إِنْشَاءً، إِذِ الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى امْتِنَاعِ الْخُلُوِّ مِنْهُمَا، فَإِذَا بَطَلَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ. [الْبَحْثُ الرَّابِعُ فِي مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُوْلَى فِيمَاذَا صِيغَةُ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ] الْبَحْثُ الرَّابِعُ، فِي مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ وَفِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً. الْمَسْأَلَةُ الْأُوْلَى فِيمَاذَا صِيغَةُ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِيهِ إِذَا وَرَدَتْ مُطْلَقَةً عُرْيَةً عَنِ الْقَرَائِنِ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْأُصُولِيُّونَ عَلَى إِطْلَاقِهَا بِإِزَاءِ خَمْسَةَ عَشَرَ اعْتِبَارًا (1) . الْوُجُوبُ، كَقَوْلِهِ: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} . وَالنَّدْبُ، كَقَوْلِهِ: {فَكَاتِبُوهُمْ} . وَالْإِرْشَادُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَشْهِدُوا} ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ النَّدْبِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي طَلَبِ تَحْصِيلٍ، غَيْرَ أَنَّ النَّدْبَ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ، وَالْإِرْشَادَ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ. وَالْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ: {فَاصْطَادُوا} . وَالتَّأْدِيبُ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي النَّدْبِ كَقَوْلِهِ: " كُلْ مِمَّا يَلِيكَ "   (1) أَوْصَلَهَا بَعْضُهُمْ إِلَى 26 مَعْنًى وَأَوْصَلَهَا آخَرُونَ إِلَى بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ، انْظُرْ غَايَةَ الْوُصُولِ عَلَى لُبِّ الْأُصُولِ لِزَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وَالِامْتِنَانُ، كَقَوْلِهِ: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} وَالْإِكْرَامُ، كَقَوْلِهِ: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ} وَالتَّهْدِيدُ، كَقَوْلِهِ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} وَالْإِنْذَارُ، كَقَوْلِهِ: {تَمَتَّعُوا} وَهُوَ فِي مَعْنَى التَّهْدِيدِ. وَالتَّسْخِيرُ، كَقَوْلِهِ: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وَالتَّعْجِيزُ، كَقَوْلِهِ: {كُونُوا حِجَارَةً} وَالْإِهَانَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} وَالتَّسْوِيَةُ، كَقَوْلِهِ: {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} وَالدُّعَاءُ، كَقَوْلِهِ: {اغْفِرْ لِي} وَالتَّمَنِّي، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: ( أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي ) (1) وَكَمَالُ الْقُدْرَةِ، كَقَوْلِهِ: {كُنْ فَيَكُونُ} . وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا مَجَازٌ فِيمَا سِوَى الطَّلَبِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَالْإِبَاحَةِ، غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ كَاشْتِرَاكِ لَفْظِ الْقُرْءِ بَيْنَ الطَّلَبِ لِلْفِعْلِ، وَبَيْنَ التَّهْدِيدِ الْمُسْتَدْعِي لِتَرْكِ الْفِعْلِ، وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ الْمُخَيَّرَةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ، وَمَجَازٌ فِيمَا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ. وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا سَمِعْنَا أَنَّ أَحَدًا قَالَ لِغَيْرِهِ (افْعَلْ كَذَا) وَتَجَرَّدَ ذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ، وَفَرَضْنَاهُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْإِفْهَامِ مِنْهُ طَلَبُ الْفِعْلِ وَاقْتِضَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَمْرٍ خَارِجٍ دُونَ التَّهْدِيدِ الْمُسْتَدْعِي لِتَرْكِ الْفِعْلِ وَالْإِبَاحَةِ الْمُخَيَّرَةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَلَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا (2) أَوْ ظَاهِرًا فِي الْإِبَاحَةِ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ الطَّلَبُ هُوَ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرَائِنِ مُطْلَقًا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ صِيغَةِ (افْعَلْ) ظَاهِرَةً فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عُرْفٍ طَارِئٍ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، كَمَا فِي لَفْظِ الْغَائِطِ وَالدَّابَّةِ، وَإِنْ سَلِمَ دَلَالَةُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الظُّهُورِ فِي الطَّلَبِ.   (1) هَذَا صَدْرُ بَيْتٍ مِنْ مُعَلَّقَةِ امْرِئِ الْقَيْسِ الْمَشْهُورَةِ، وَعَجُزُهُ: وَمَا الْإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ (2) أَيْ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ وَالتَّهْدِيدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِهِ فِي الْإِبَاحَةِ، لِكَوْنِهَا أَقَلَّ الدَّرَجَاتِ فَكَانَتْ مُسْتَيْقَنَةً. قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعُرْفِ الطَّارِئِ وَبَقَاءُ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ بِحَالِهِ. وَجَوَابُ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مُتَيَقَّنَةٌ، إِذْ هِيَ مُقَابِلَةٌ لِلطَّلَبِ وَالتَّهْدِيدِ، لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُسْتَدْعِيَةٍ لِلْفِعْلِ وَلَا لِلتَّرْكِ، وَالطَّلَبُ مُسْتَدْعٍ لِلْفِعْلِ، وَالتَّهْدِيدُ مُسْتَدْعٍ لِتَرْكِ الْفِعْلِ، فَلَا تَيَقُّنَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا (1) . [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ ظَاهِرَةٌ فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ فَالْفِعْلُ الْمَطْلُوبُ يَكُونَ فِعْلُهُ رَاجِحًا عَلَى تَرْكِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ صِيغَةَ (افْعَلْ) ظَاهِرَةٌ فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ، فَالْفِعْلُ الْمَطْلُوبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ رَاجِحًا عَلَى تَرْكِهِ: فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعَ التَّرْكِ. كَانَ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعَ التَّرْكِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَرَجُّحُهُ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ، فَهُوَ الْمَنْدُوبُ، وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ، فَهُوَ الْإِرْشَادُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكُلِّ (2) وَهُوَ مَذْهَبُ الشِّيعَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ بِخُصُوصِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ (3) وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ، مَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُبَاشِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ مِنَ النَّدْبِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي هَاشِمٍ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.   (1) مِنْهُمَا - لَعَلَّهُ مِنْهَا أَيِ التَّهْدِيدِ وَالْإِبَاحَةِ وَطَلَبِ الْفِعْلِ (2) أَيْ مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ (3) فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ (1) وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَهُ مُشْتَرَكًا (2) أَوْ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ، مَجَازًا فِي الْبَعْضِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُهُ عَقْلِيًّا أَوْ نَقْلِيًّا. الْأَوَّلُ: مُحَالٌ، إِذِ الْعُقُولُ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْمَنْقُولِ، لَا ضَرُورَةً وَلَا نَظَرًا، وَالثَّانِي: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا، وَالْقَطْعِيُّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَالظَّنِّيُّ إِنَّمَا يَنْفَعُ أَنْ لَوْ كَانَ إِثْبَاتُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مِمَّا يُقْنَعُ فِيهِ بِالظَّنِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ (3) فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ التَّوَقُّفِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقَطْعِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنَ اللُّغَاتِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُدْرِكُ لَا عَقْلِيًّا مَحْضًا وَلَا نَقْلِيًّا مَحْضًا، بَلْ هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُمَا، كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ، وَإِنْ سَلَّمْنَا الْحَصْرَ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَازِمٌ عَلَيْكُمْ فِي الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ أَيْضًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَقْتَضِيهِ، وَالنَّقْلُ الْقَطْعِيُّ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيهِ، وَالظَّنُّ إِنَّمَا يُكْتَفَى بِهِ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ ظَنِّيَّةً، فَمَا هُوَ جَوَابُكُمْ عَنْهُ فِي الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ يَكُونُ جَوَابًا لِخُصُومِكُمْ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِمْ. قُلْتُ: أَمَّا إِنْكَارُ الْقَطْعِ فِي اللُّغَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يُفْضِي إِلَى إِنْكَارِ الْقَطْعِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الْخِطَابِ بِالْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ وَمَعْقُولِهَا، وَذَلِكَ كُفْرٌ صُرَاحٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَدَارَ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى الْقَطْعِ. قُلْنَا: نَحْنُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُتَعَرِّضِينَ لِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ بَلْ نَحْنُ مُتَوَقِّفُونَ، فَمَنْ رَامَ إِثْبَاتَ اللُّغَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقٍ ظَنِّيٍّ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ لَهُ مَتَى يُكْتَفَى بِذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، أَإِذَا كَانَ شَرْطُ إِثْبَاتِهِ الْقَطْعَ أَمْ لَا؟ وَلَا بُدَّ عِنْدَ تَوَجُّهِ التَّقْسِيمِ مِنْ تَنْزِيلِ الْكَلَامِ عَلَى الْمَمْنُوعِ أَوِ الْمُسَلَّمِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِمَا سَبَقَ:   (1) هُوَ الْبَاقِلَّانِيُّ (2) أَيْ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا (3) كَثْرَةُ الْخِلَافِ وَتَكَافُؤُ الْأَدِلَّةِ فِي نَظَرِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، حَتَّى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الْآمِدِيِّ، مِمَّا يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الْقَوْلَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ ظَنِّيَّةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 قَوْلُهُمْ: مَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِهِ مُرَكَّبًا مِنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ: قُلْنَا: لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ فِي النَّقْلِيِّ، ثَابِتٌ هَاهُنَا كَانَ مُسْتَقِلًّا أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ، وَالْقَطْعُ لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا، فَالْمُرَكَّبُ مِنْهُ وَمِنَ الْعَقْلِيِّ يَكُونُ ظَنِّيًّا، سَوَاءٌ كَانَ الْعَقْلِيُّ ظَنِّيًّا أَوْ قَطْعِيًّا. قَوْلُهُمْ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَازِمٌ عَلَيْكُمْ فِي الْوَقْفِ، قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ الْوَاقِفَ غَيْرُ حَاكِمٍ، بَلْ هُوَ سَاكِتٌ عَنِ الْحُكْمِ (1) وَالسَّاكِتُ عَنِ الْحُكْمِ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ، فَلَا يَكُونُ مَا ذَكَرُوهُ لَازِمًا عَلَيْنَا. شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِي ذَلِكَ مَا يُنَاهِزُ ثَلَاثِينَ شُبْهَةً دَائِرَةً بَيْنَ غَثٍّ وَثَمِينٍ. وَهَا نَحْنُ نُلَخِّصُ حَاصِلَهَا، وَنَأْتِي عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ جُمْلَتِهَا، مَعَ حَذْفِ الزِّيَادَاتِ الْعَرِيَّةِ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَنُشِيرُ إِلَى جِهَةِ الِانْفِصَالِ عَنْهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ شُبَهَ الْقَائِلِينَ بِالنَّدْبِ، وَطُرُقَ تَخْرِيجِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ فَشَرْعِيَّةٌ، وَلُغَوِيَّةٌ، وَعَقْلِيَّةٌ. أَمَّا الشَّرْعِيَّةُ: فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْكِتَابِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى السُّنَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ثُمَّ هَدَّدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} وَالتَّهْدِيدُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ دَلِيلُ الْوُجُوبِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} أَوْرَدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ بِالْمُخَالَفَةِ، لَا فِي مَعْرِضِ الِاسْتِفْهَامِ اتِّفَاقًا، وَهُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ.   (1) إِذَا كَانَ سُكُوتُهُ عَنِ الْحُكْمِ لِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ فِي نَظَرِهِ، فَكَيْفَ يَتَأَتَّى لَهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَسَائِلَ الْأُصُولِ قَطْعِيَّةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} ذَمَّهُمْ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: (قَضَى) أَيْ أَلْزَمَ وَمِنْ قَوْلِهِ: (أَمْرًا) أَيْ مَأْمُورًا وَمَا لَا خِيرَةَ فِيهِ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاجِبًا. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وَقَوْلُهُ: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} وَقَوْلُهُ: {وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} وَصَفَ مُخَالَفَةَ الْأَمْرِ بِالْعِصْيَانِ، وَهُوَ اسْمُ ذَمٍّ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي غَيْرِ الْوُجُوبِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} أَيْ أَمَرْتَ وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَرِيرَةَ وَقَدْ عُتِقَتْ تَحْتَ عَبْدٍ وَكَرِهَتْهُ ( «لَوْ رَاجَعْتِيهِ - فَقَالَتْ بِأَمْرِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - فَقَالَ: لَا إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ - فَقَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ» ) فَقَدْ عَقَلَتْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا لَكَانَ وَاجِبًا، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَّرَهَا عَلَيْهِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» ) وَهُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ، فَالسِّوَاكُ مَنْدُوبٌ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ لِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَيْثُ لَمْ يُجِبْ دُعَاءَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ (أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وَبَّخَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ ( «أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ» ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ لِلْأَبَدِ وَلَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ (1) . وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوَامِرَهُ لِلْوُجُوبِ.   (1) حَدِيثُ بِرَيْرَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ، وَحَدِيثُ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَحَدِيثُ نِدَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سَعِيدٍ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْكَارُهُ عَلَى عَدَمِ إِجَابَتِهِ، وَإِرْشَادُهُ إِلَى فَضْلِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى، وَلَيْسَ بِأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَحَدِيثُ فَرْضِ الْحَجِّ وَسُؤَالُ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ، وَأَصْلُهُ فِي مُسْلِمٍ إِلَّا أَنَّ الْآمِدِيَّ تَصَرَّفَ فِي الْمَتْنِ وَاقْتَصَرَ عَلَى مَوْضِعِ الِاسْتِشْهَادِ مِنْهُ كَعَادَتِهِ طَلَبًا لِلِاخْتِصَارِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ فِي كُلِّ عَصْرٍ لَمْ تَزَلْ رَاجِعَةً فِي إِيجَابِ الْعِبَادَاتِ إِلَى الْأَوَامِرِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَمَا كَانُوا يَعْدِلُونَ إِلَى غَيْرِ الْوُجُوبِ إِلَّا لِمُعَارِضٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى أَهْلِ الرِّدَّةِ بِقَوْلِهِ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَمِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: وَصَفُ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ خَالَفَ الْأَمْرَ بِكَوْنِهِ عَاصِيًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ (أَمَرْتُكَ، فَعَصَيْتَنِي) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: أَمَرْتُكَ أَمْرًا حَازِمًا فَعَصَيْتَنِي (1) وَالْعِصْيَانُ اسْمُ ذَمٍّ، وَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْوُجُوبِ مُمْتَنِعٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ عَبْدَهُ بِأَمْرٍ، فَخَالَفَهُ، حَسُنَ الْحُكْمُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ بِذَمِّهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعَذَابِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَمِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِيجَابَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ فِي مُخَاطَبَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ لَخَلَا الْوُجُوبُ عَنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مَعَ دَعْوَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الطَّلَبَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي النَّدْبِ، لَا بِجِهَةِ الِاشْتِرَاكِ وَلَا التَّعْيِينِ وَلَا بِطَرِيقِ التَّخْيِيرِ   (1) ذَكَرَ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ فِي شَرْحِهِ لِجَمْعِ الْجَوَامِعِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هُوَ الَّذِي قَالَ لِمُعَاوِيَةَ هَذَا الْبَيْتَ (أَمَرْتُكَ أَمْرًا جَازِمًا فَعَصَيْتَنِي) وَكَانَ مِنَ التَّوْفِيقِ قَتْلُ ابْنِ هَاشِمٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 لِأَنَّ حَمْلَ الطَّلَبِ عَلَى النَّدْبِ مَعْنَاهُ، افْعَلْ إِنْ شِئْتَ، وَهَذَا الشَّرْطُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الطَّلَبِ فَيَمْتَنِعُ حَمْلُ الطَّلَبِ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْوُجُوبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ مُقَابِلٌ لِلنَّهْيِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي تَرْكَ الْفِعْلِ وَالِامْتِنَاعِ مِنَ الْفِعْلِ جَزْمًا، فَالْأَمْرُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِلْفِعْلِ وَمَانِعًا مِنَ التَّرْكِ جَزْمًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَضْدَادِهِ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ دُونَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَانَ وَاجِبًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ حَمْلَ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ أَحْوَطُ لِلْمُكَلَّفِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ الرَّاجِحُ وَأَمِنَ مِنْ ضَرَرِ تَرْكِهِ، وَإِنْ كَانَ لِلنَّدْبِ فَحَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ يَكُونُ أَيْضًا نَافِعًا غَيْرَ مُضِرٍّ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى النَّدْبِ، لَمْ نَأْمَنْ مِنَ الضَّرَرِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ وَاجِبًا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ الرَّاجِحِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ دَاخِلٌ فِي الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَحَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ لَا يَفُوتُ مَعَهُ الْمَقْصُودُ مِنَ النَّدْبِ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ عَلَى النَّدْبِ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْلَى. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ لِإِفَادَةِ مَعْنًى، وَهُوَ إِيجَادُ الْفِعْلِ، فَكَانَ مَانِعًا مِنْ نَقِيضِهِ كَالْخَبَرِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يُفِيدُ رُجْحَانَ وُجُودِ الْفِعْلِ عَلَى عَدَمِهِ، وَإِلَّا كَانَ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا، وَلَوْ كَانَ مَرْجُوحًا لَمَا أَمَرَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِالْمَصْلَحَةِ الزَّائِدَةِ فِي التَّرْكِ وَالْتِزَامِ الْمُفْسِدَةِ الرَّاجِحَةِ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ قَبِيحٌ، وَلَوْ كَانَ مُسَاوِيًا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِهِ أَوْلَى مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَذَلِكَ أَيْضًا قَبِيحٌ. وَإِذَا كَانَ رَاجِحًا، فَلَوْ جَازَ تَرْكُهُ، لَزِمَ مِنْهُ الْإِخْلَالُ بِأَرْجَحِ الْمَقْصُودَيْنِ، وَهُوَ قَبِيحٌ، فَلَا يَرِدُ بِهِ الشَّرْعُ فَتَعَيَّنَ الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّرْكِ، وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ. وَالْجَوَابُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ، وَالتَّفْصِيلِ، أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ مَا ذَكَرُوهُ لَا خُرُوجَ لَهُ عَنِ الظَّنِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا فِيمَا يُطْلَبُ فِيهِ الظَّنُّ فَقَطْ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ (1) . وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ; «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» " (2) فَظَنِّي فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ.   (1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا فِي ص 119 ج2 (2) انْظُرْ مَا سَبَقَ تَعْلِيقًا فِي ص 119 ج2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، فَإِنَّا نَخُصُّ كُلَّ شُبْهَةٍ بِجَوَابٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فَهُوَ أَمْرٌ وَالْخِلَافُ فِي اقْتِضَائِهِ لِلْوُجُوبِ بِحَالِهِ، وَقَوْلُهُ: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لِلتَّهْدِيدِ بَلْ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ مِنَ التَّبْلِيغِ، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ مِنَ الْقَبُولِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّهْدِيدِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ فِيمَا هَدَّدَ عَلَى تَرْكِهِ وَمُخَالَفَتِهِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ مُهَدَّدٍ بِمُخَالَفَتِهِ، بِدَلِيلِ أَمْرِ النَّدْبِ، فَإِنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي وَلَيْسَ مُهَدَّدًا عَلَى مُخَالَفَتِهِ. وَإِذَا انْقَسَمَ الْأَمْرُ إِلَى مُهَدَّدٍ عَلَيْهِ، وَغَيْرِ مُهَدَّدٍ، وَجَبَ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ فِيمَا هَدَّدَ عَلَيْهِ، دُونَ غَيْرِهِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ صِيغَةِ أَمْرٍ هَدَّدَ عَلَى مُخَالَفَتِهَا، وَحَذَّرَ مِنْهَا، وَوَصَفَ مُخَالِفَهَا بِكَوْنِهِ عَاصِيًا، وَبِهِ دُفِعَ أَكْثَرُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْآيَاتِ. وَيُخَصُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} بِأَنَّهُ غَيْرُ عَامٍّ فِي كُلِّ أَمْرٍ بِصِيغَتِهِ (1) . وَإِنْ قِيلَ بِالتَّعْمِيمِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَعْقُولِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ رُتِّبَ التَّحْذِيرُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يَتَخَلَّفِ الْحُكْمُ عَنْهُ فِي أَمْرِ النَّدْبِ، وَقَدْ تَخَلَّفَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً (2) وَأَيْضًا، فَإِنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ،. وَمُخَالَفَةُ أَمْرِهِ أَنْ لَا يُعْتَقَدَ مُوجِبُهُ، وَأَنْ لَا يُفْعَلَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِيجَابٍ أَوْ نَدْبٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ لِلْوُجُوبِ. وَيَخُصُّ قَوْلُهُ لِإِبْلِيسَ: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} بِأَنَّهُ غَيْرُ عَامٍّ فِي كُلِّ أَمْرٍ.   (1) الصَّوَابُ أَنَّهُ عَامٌّ بِصِيغَتِهِ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٍ وَسَيَجِيءُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ (2) قَدْ يُقَالُ أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ حُكْمُ الْوُجُوبِ لِقَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْهُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ عِنْدَ عَدَمِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وَيُخَصُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ} الْآيَةُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ، أَيْ فِي اعْتِقَادِ وُجُوبِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوْ نَدْبِهِ وَفِعْلِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، إِنْ كَانَ وَاجِبًا فَوَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ نَدْبًا فَنَدْبٌ. وَيُخَصُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} الْآيَةُ، بِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} أَيْ حَكَمْتَ بِهِ مِنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ وَالتَّحْرِيمِ وَنَحْوِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَقْضِي بِهِ يَكُونُ وَاجِبًا. وَأَمَّا حَدِيثُ بِرَيْرَةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا سَأَلَتْ عَنِ الْأَمْرِ طَلَبًا لِلثَّوَابِ بِطَاعَتِهِ، وَالثَّوَابُ وَالطَّاعَةُ (1) قَدْ يَكُونُ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَهِمَتْ مِنَ الْأَمْرِ الْوُجُوبَ، فَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ لَا بِجِهَةِ الْوُجُوبِ وَلَا بِجِهَةِ النَّدْبِ، قَالَتْ: لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِجَابَةُ شَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهَا، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. قُلْنَا: إِذَا سُلِّمَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ فِي صُورَةِ بِرَيْرَةَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِإِجَابَتِهَا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مَنْدُوبَةً، ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ عِنْدَنَا لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ (2) . وَأَمَّا السِّوَاكُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَمْرِ أَمْرَ الْوُجُوبِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَ بِهِ الْمَشَقَّةَ، وَالْمَشَقَّةُ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ، لِكَوْنِهِ مُتَحَتِّمًا بِخِلَافِ الْمَنْدُوبِ لِكَوْنِهِ فِي مَحَلِّ الْخِيَرَةِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَلَا يَمْتَنِعُ صَرْفُ الْأَمْرِ إِلَى الْوُجُوبِ بِقَرِينَةٍ، وَدُخُولُ حِرَفِ (لَوْلَا) عَلَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ لَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ.   (1) وَالطَّاعَةُ - لَعَلَّهُ بِالطَّاعَةِ (2) الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَنْفِيَّ فِي الْحَدِيثِ أَمَرُ الْوُجُوبِ لِقَرِينَةٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَعْدَهُ، فَيَتَعَيَّنُ الْحَمْلُ عَلَى النَّدْبِ فِيهِمَا لِلْقَرِينَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ (1) فَلَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} إِنَّمَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ النِّدَاءِ، تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِرَسُولِهِ فِي إِجَابَةِ دُعَائِهِ، وَنَفْيًا لِلْإِهَانَةِ عَنْهُ وَالتَّحْقِيرِ لَهُ، بِالْإِعْرَاضِ عَنْ إِجَابَةِ دُعَائِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ هَضْمِهِ فِي النُّفُوسِ، وَإِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى الْإِخْلَالِ بِمَقْصُودِ الْبِعْثَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُ صَرْفُ الْأَمْرِ إِلَى الْوُجُوبِ بِقَرِينَةٍ. وَأَمَّا خَبَرُ الْحَجِّ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ» " لَيْسَ أَمْرًا لِيَكُونَ لِلْوُجُوبِ، بَلْ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فَإِنَّهُ مُقْتَضٍ لِلْوُجُوبِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّكْرَارِ وَالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَقَوْلُهُ: " «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ» " (أَيْ) تَكَرُّرُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَا أَنَّهُ يَكُونُ مُوجَبًا. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْأُمَّةَ كَانَتْ تَرْجِعُ فِي الْوُجُوبِ إِلَى مُطْلَقِ الْأَوَامِرِ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ إِنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ فِي النَّدْبِ إِلَى مُطْلَقِ الْأَوَامِرِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَوَامِرِ لِلْمَنْدُوبَاتِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ فِي الْوُجُوبِ إِلَى الْأَوَامِرِ الْمُقْتَرِنَةِ بِالْقَرَائِنِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ أَبِي بَكْرٍ فَلَا حُجَّةَ فِي احْتِجَاجِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَأْتُوا الزَّكَاةَ) عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِمُطْلَقِهِ لِلْوُجُوبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنْكِرِينَ لِأَصِلِ الْوُجُوبِ، حَتَّى يَسْتَدِلَّ عَلَى الْوُجُوبِ بِالْآيَةِ، بَلْ إِنَّمَا أَنْكَرُوا التَّكْرَارَ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَكْرَارِ مَا وَجَبَ لَا يَكُونُ اسْتِدْلَالًا عَلَى نَفْسِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ بِمُطْلَقِهِ لِلْوُجُوبِ (2) . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَصِفُونَ مَنْ خَالَفَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بِالْعِصْيَانِ، وَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِ الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ، لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْقَوْلُ بِمُلَازِمَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ لِلْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَمُلَازَمَةُ انْتِفَائِهَا لِلْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِالْقَرِينَةِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.   (1) الْخُدْرِيِّ الصَّوَابُ ابْنُ الْمُعَلَّى كَمَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا (2) يَظْهَرُ لِي مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ الِاعْتِرَافُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى إِفَادَةِ الصِّيغَةِ لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا خَالَفُوا أَبَا بَكْرٍ فِي اسْتِمْرَارِهِ أَوْ تَكْرَارِهِ، وَهَذَا أَقْوَى لِإِفَادَةِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ مِمَّا لَوْ نَازَعُوهُ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 فَإِنْ قِيلَ: بَلْ تَقْيِيدُ الْمَنْدُوبِ بِالْقَرِينَةِ، أَوْلَى مِنْ تَقْيِيدِ الْوَاجِبِ بِهَا، فَإِنَّهَا بِتَقْدِيرِ خَفَائِهَا تُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ نَافِعٌ غَيْرُ مُضِرٍّ. وَبِتَقْدِيرِ تَقْيِيدِ الْوَاجِبِ بِهَا يَلْزَمُ الْإِضْرَارُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ بِتَقْدِيرِ خَفَائِهَا، لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ الْأَعْظَمِ مِنْهُ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْأَوَامِرَ الْوَارِدَةَ فِي الْمَنْدُوبَاتِ، أَكْثَرُ مِنْهَا فِي الْوَاجِبَاتِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ وَاجِبٍ إِلَّا وَيَتْبَعُهُ مَنْدُوبَاتٌ، وَالْوَاجِبُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمَنْدُوبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَحْذُورَ فِي تَقْيِيدِ الْأَعَمِّ بِالْقَرِينَةِ لِاحْتِمَالِ خَفَائِهَا، أَعْظَمُ مِنْ مَحْذُورِ ذَلِكَ فِي الْأَخَصِّ. وَأَمَّا الشُّبَهُ الْعَقْلِيَّةُ قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْوُجُوبَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ. قُلْنَا: وَالنَّدْبُ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَلَيْسَ إِخْلَاءُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَإِنْ قِيلَ: بِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَهُ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ: (نَدَبْتُ وَرَغِبْتُ) فَلِلْوُجُوبِ أَيْضًا لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (أَوْجَبْتُ وَأَلْزَمْتُ وَحَتَّمْتُ) . قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِي النَّدْبِ ; لِمَا ذَكَرُوهُ، فَهُوَ مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ فَإِنَّ حَمْلَ الطَّلَبِ عَلَى الْوُجُوبِ مَعْنَاهُ، افْعَلْ وَأَنْتَ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّرْكِ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الطَّلَبِ، فَلَا يَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. قَوْلُهُمْ إِنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْفِعْلِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِلْمَنْعِ مِنَ التَّرْكِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنَ الْفِعْلِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَمْرِ. وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فِي النَّهْيِ فَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ. قَوْلُهُمْ إِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ كَمَا يَأْتِي، وَإِنْ سُلِّمَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِهَا، إِنْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لِلنَّدْبِ فَالنَّهْيُ عَنْ أَضْدَادِهِ يَكُونُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، فَلَا يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَوَقُّفُ الْوُجُوبِ عَلَى كَوْنِ النَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهِ مَانِعًا، وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ حَمْلَ الطَّلَبِ عَلَى الْوُجُوبِ أَحْوَطُ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْوُجُوبِ مِنَ الْإِضْرَارِ اللَّازِمِ مِنَ الْفِعْلِ الشَّاقِّ بِتَقْدِيرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 فِعْلِهِ، وَالْعِقَابِ بِتَقْدِيرِ تَرْكِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ بِمَا اخْتَصَّ بِهِ الْوُجُوبُ مِنْ زِيَادَةِ الذَّمِّ وَالْوَصْفِ بِالْعِصْيَانِ، بِخِلَافِ الْمَنْدُوبِ، كَيْفَ وَإِنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا نَظَرَ وَظَهَرَ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ، فَقَدْ أَمِنَ الضَّرَرَ، وَحَصَلَ مَقْصُودُ الْأَمْرِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْمَنْدُوبَ دَاخِلٌ فِي الْوَاجِبِ، لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْأَمْرَ مَوْضُوعٌ لِمَعْنًى، فَكَانَ مَانِعًا مِنْ نَقِيْضِهِ دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْخَبَرِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ (1) . ثُمَّ إِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْأَمْرِ بِالْمَنْدُوبِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ (2) . فَإِنْ قِيلَ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ فِي الْمَنْدُوبِ الْمُخَالَفَةُ مُطْلَقًا. قُلْنَا: يَجِبُ أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَ مِنْهُ الْمُخَالَفَةُ فِي الْمَنْدُوبِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَخِيرَةِ فَهِيَ مُنْتَقِضَةٌ بِالْمَنْدُوبِ، وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالنَّدْبِ، فَمِنْهَا نَقْلِيَّةٌ وَعَقْلِيَّةٌ. أَمَّا النَّقْلِيَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَانْتَهُوا» " فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى اسْتِطَاعَتِنَا وَمَشِيئَتِنَا وَهُوَ دَلِيلُ النُّدْبِيَّةِ. وَأَمَّا الْعَقْلِيَّةُ فَهُوَ أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَا فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْوَاجِبِ، فَكُلُّ وَاجِبٍ مَنْدُوبٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْدُوبٍ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَا يُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ، وَالْمَنْدُوبُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَوَجَبَ جَعْلُ الْأَمْرِ حَقِيقَةً فِيهِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا. وَجَوَابُهُمَا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ، فَمَا سَبَقَ فِي جَوَابِ شُبَهِ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ. وَمِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ: عَنِ الْأُولَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ " {مَا اسْتَطَعْتُمْ} " تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى مَشِيئَتِنَا، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ فَافْعَلُوا مَا شِئْتُمْ، بَلْ قَالَ: " {مَا اسْتَطَعْتُمْ} " وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصِّيَّةً لِلنَّدْبِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاجِبٍ كَذَلِكَ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ مَا سَبَقَ مِنِ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْمَنْدُوبِ فِي الْوَاجِبِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ تَنْزِيلُ لَفْظِ الْأَمْرِ عَلَى الْمُتَيَقِّنِ لَازِمًا، لَكَانَ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْفِعْلِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِخِلَافِ الْمَنْدُوبِ، فَإِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مُتَرَجِّحًا عَلَى التَّرْكِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ (3) .   (1) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْقِسْمَةِ الرَّابِعَةِ لِلْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ ج 1 (2) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَنْدُوبِ ج1 (3) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَنْدُوبِ، وَالثَّالِثَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْمُبَاحِ ج1 وَالْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْأَمْرِ ج 2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْأَمْرِ الْعُرْيِ عَنِ الْقَرَائِنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي الْأَمْرِ الْعُرْيِ عَنِ الْقَرَائِنِ فَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِنِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّهُ مُقْتَضٍ لِلتَّكْرَارِ الْمُسْتَوْعِبِ لِزَمَانِ الْعُمُرِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَمُحْتَمِلٌ لِلتَّكْرَارِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى احْتِمَالَ التَّكْرَارِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ: وَكَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الزِّيَادَةِ، وَلَمْ يَقْضِ فِيهَا بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْوَاقِفَيَّةِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الِامْتِثَالِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا، وَالتَّكْرَارُ مُحْتَمَلٌ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ قَرِينَةٌ أَشْعَرَتْ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ التَّكْرَارَ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَافِيًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُ " صَلِّ أَوْ صُمْ " فَقَدْ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَهُوَ مَصْدَرُ (افْعَلْ) وَالْمَصْدَرُ مُحْتَمِلٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَالْعَدَدِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا " وَقَعَ بِهِ لَمَا كَانَ تَفْسِيرًا لِلْمَصْدَرِ وَهُوَ الطَّلَاقُ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ " لَمْ يَقَعْ سِوَى طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ مَعَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِلثَّلَاثِ، فَإِذَا قَالَ " صَلِّ " فَقَدْ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الصَّلَاةُ، وَالْمَصْدَرُ مُحْتَمِلٌ لِلْعَدَدِ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ قَرِينَةٌ مُشْعِرَةٌ بِإِرَادَةِ الْعَدَدِ حُمِلَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ تَكُونُ كَافِيَةً. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ صَدَقَةً، أَوْ يَشْتَرِيَ خُبْزًا أَوْ لَحْمًا، فَإِنَّهُ يَكْتَفِي مِنْهُ بِصَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَشِرَاءٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ وَالتَّوْبِيخَ، لِعَدَمِ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ حَالَ الْآمِرِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ إِرَادَةِ الْعَدَدِ، وَعَدَمِ إِرَادَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعَدَدُ مَعَ ظُهُورِ الْإِرَادَةِ، وَلَا ظُهُورَ، إِذِ الْفَرْضُ فِيمَا إِذَا عُدِمَتِ الْقَرَائِنُ الْمُشْعِرَةُ بِهِ. فَقَدْ بَطَلَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ إِشْعَارِ اللَّفْظِ بِالْعَدَدِ مُطْلَقًا وَبَطَلَ الْقَوْلُ بِظُهُورِهِ فِيهِ وَبِالْوَقْفِ أَيْضًا. وَالِاعْتِرَاضُ هَاهُنَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَذَاهِبِ الْخُصُومِ، فَمَنِ اعْتَقَدَ ظُهُورَهُ فِي التَّكْرَارِ اعْتَرَضَ بِشُبَهٍ. الْأُولَى مِنْهَا أَنَّ أَوَامِرَ الشَّارِعِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى التَّكْرَارِ، فَدَلَّ عَلَى إِشْعَارِ الْأَمْرِ بِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 الثَّانِيَةُ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) يَعُمُّ كُلَّ مُشْرِكٍ، فَقَوْلُهُ " صُمْ وَصَلِّ " يَنْبَغِي أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ الْأَزْمَانِ لِأَنَّ نِسْبَةَ اللَّفْظِ إِلَى الْأَزْمَانِ كَنِسْبَتِهِ إِلَى الْأَشْخَاصِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ قَوْلَهُ (صُمْ) كَقَوْلِهِ (لَا تَصُمْ) وَمُقْتَضَى النَّهْيِ التَّرْكُ أَبَدًا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِلْفِعْلِ أَبَدًا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الِاقْتِضَاءِ وَالطَّلَبِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ اقْتَضَى فِعْلَ الصَّوْمِ، وَاقْتَضَى اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ، وَالْعَزْمَ عَلَيْهِ أَبَدًا، فَكَذَلِكَ الْمُوجَبُ الْآخَرُ. الْخَامِسَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، فَوَجَبَ التَّعْمِيمُ. السَّادِسَةُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ لِلتَّكْرَارِ لَمَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ، لِاسْتِحَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا تَطَرُّقُ النُّسَخِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا حُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْآمِرِ أَنَّكَ أَرَدْتَ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ أَوِ التَّكْرَارَ. وَلَكَانَ قَوْلُ الْآمِرِ لِغَيْرِهِ (صَلِّ مَرَّةً وَاحِدَةً) غَيْرَ مُفِيدٍ، وَكَانَ قَوْلُهُ (صَلِّ مِرَارًا) تَنَاقُضًا، وَلَكَانَ إِذَا لَمْ يَفْعَلِ الْمَأْمُورُ مَا أُمِرَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، مُحْتَاجًا فِي فِعْلِهِ ثَانِيًا إِلَى دَلِيلٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. السَّابِعَةُ: أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى التَّكْرَارِ أَحْوَطُ لِلْمُكَلَّفِ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلتَّكْرَارِ، فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَلَا ضَرَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّكْرَارِ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُضِرًّا. الثَّامِنَةُ: إِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَضْدَادِهِ يَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ اسْتِدَامَةَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. التَّاسِعَةُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» " أَيْ فَأْتُوا بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ التَّكْرَارِ. الْعَاشِرَةُ: «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَآهُ قَدْ جَمَعَ بِطَهَارَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ صَلَوَاتٍ عَامَ الْفَتْحِ، وَقَالَ: " أَعَمْدًا فَعَلْتَ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ» وَلَوْلَا أَنَّهُ فَهِمَ تَكْرَارَ الطِّهَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} لَمَا كَانَ لِلسُّؤَالِ مَعْنًى. الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: أَحْسِنْ عِشْرَةَ فُلَانٍ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ وَالدَّوَامُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ احْتِمَالِ التَّكْرَارِ، فَأَوَّلُهَا: أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ " ادْخُلِ الدَّارَ " يُعَدُّ مُمْتَثِلًا بِالدُّخُولِ مَرَّةً وَاحِدَةً، كَمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُمْتَثِلًا لِقَوْلِهِ " اضْرِبْ رَجُلًا " بِضَرْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَلِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُلَامُ بِتَرْكِ التَّكْرَارِ، بَلْ يُلَامُ مَنْ لَامَهُ عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ (صَامَ زَيْدٌ) صَدَقَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ غَيْرِ إِدَامَةٍ فَلْيَكُنْ مِثْلُهُ فِي الْأَمْرِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَيُصَلِّيَنَّ أَوْ لَيَصُومَنَّ، بُرَّتْ يَمِينُهُ بِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَصَوْمِ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وُعُدَّ آتِيًا بِمَا الْتَزَمَهُ، فَكَذَلِكَ فِي الِالْتِزَامِ بِالْأَمْرِ. وَرَابِعُهَا أَنَّهُ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ لِوَكِيلِهِ (طَلِّقْ زَوْجَتِي) لَمْ يَمْلُكْ أَكْثَرَ مِنْ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ. وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ لِلتَّكْرَارِ، لَكَانَ قَوْلُهُ (صَلِّ مِرَارًا) غَيْرَ مُفِيدٍ. وَكَانَ قَوْلُهُ (صَلِّ مَرَّةً وَاحِدَةً) نَقْصًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلتَّكْرَارِ: لَكَانَ الْأَمْرُ بِعِبَادَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، إِمَّا تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مُنَاقِضًا لِلْأَمْرِ بِالْأُخْرَى، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا شُبَهُ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ، فَأَوَّلُهَا أَنَّ الْأَمْرَ بِمُطْلَقِهِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَا فِي التَّكْرَارِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُسْتَفْهَمَ مِنَ الْآمِرِ عِنْدَ قَوْلِهِ " اضْرِبْ " وَيُقَالُ لَهُ " مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مِرَارًا ". وَلَوْ كَانَ ظَاهِرًا فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لَكَانَ قَوْلُ الْآمِرِ " اضْرِبْ مَرَّةً وَاحِدَةً " تَكْرَارًا " أَوْ مِرَارًا " تَنَاقُضًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا فِي التَّكْرَارِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى لِلْقَائِلِينَ بِالتَّكْرَارِ هُوَ أَنَّ حَمْلَ بَعْضِ الْأَوَامِرِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَكَرِّرَةً عَلَى التَّكْرَارِ، لَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِفَادَةِ ذَلِكَ مِنْ ظَاهِرِهَا، وَإِلَّا كَانَ مَا حُمِلَ مِنَ الْأَوَامِرِ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، كَالْحَجِّ وَنَحْوِهِ، مُسْتَفَادًا مِنْ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِمَّا التَّنَاقُضُ أَوِ اعْتِقَادُ الظُّهُورِ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَوْلِيَّةٍ وَهُوَ مُحَالٌ (1) .   (1) أَوْلِيَّةٍ: بِسُكُونِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ نِسْبَةً إِلَى أَوْلَى فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِلنَّسَبِ، وَفِي الْمَخْطُوطَةِ أَوْلَوِيَّةٍ بِقَلْبِ الْأَلْفِ وَاوًا، وَكِلْتَاهُمَا صَحِيحَةٌ وَيَجُوزُ فِيهَا أَوْلَاوِيَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 فَإِنْ قِيلَ: اعْتِقَادُ الظُّهُورِ فِي التَّكْرَارِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا حُمِلَ مِنَ الْأَوَامِرِ عَلَى التَّكْرَارِ أَكْثَرُ مِنَ الْمَحْمُولِ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ ظَاهِرًا فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، لَكَانَ الْمَحْذُورُ اللَّازِمُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي الْحَمْلِ عَلَى التَّكْرَارِ أَقَلَّ مِنَ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ مِنْ جَعْلِهِ ظَاهِرًا فِي التَّكْرَارِ عِنْدَ حَمْلِهِ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. قُلْنَا: هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ ظَاهِرٌ فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الْأَمْرُ عِنْدَنَا إِنَّمَا يَقْتَضِي إِيقَاعَ مَصْدَرِ الْفِعْلِ، وَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ ظَاهِرٌ فِيهَا، وَكَذَلِكَ فِي التَّكْرَارِ (1) فَحَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْقَرِينَةِ لَا يُوجِبُ مُخَالَفَةَ الظَّاهِرِ فِي الْآخَرِ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِيهِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُمُومَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُشْرِكٍ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِعَدَمِ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ " صُمْ " بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْأَزْمَانِ (2) بَلْ لَوْ قَالَ " صُمْ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ " كَانَ نَظِيرًا لِقَوْلِهِ " اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ". وَعَنِ الثَّالِثَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّهْيَ الْمُطْلَقَ لِلدَّوَامِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِيهِ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالدَّوَامِ أَوْ ظُهُورِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، كَمَا فِي الْأَمْرِ وَإِنْ سَلَّمْنَا اقْتِضَاءَهُ لِلدَّوَامِ، لَكِنْ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ إِلْحَاقِ الْأَمْرِ بِالنَّهْيِ بِوَاسِطَةِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي الِاقْتِضَاءِ فَرْعُ صِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَاتِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّا نُفَرِّقُ: وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ مَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَضْرِبَ فَقَدْ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِ مَصْدَرِهِ، وَهُوَ الضَّرْبُ، فَإِذَا ضَرَبَ مَرَّةً وَاحِدَةً يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: لَمْ يَعْدَمِ الضَّرْبَ. (3) . الثَّانِي: إِنَّ حَمْلَ الْأَمْرِ عَلَى التَّكْرَارِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْحَوَائِجِ الْمُهِمَّةِ، وَامْتِنَاعِ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورَاتِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهَا بِخِلَافِ الِانْتِهَاءِ عَنِ الْمَنْهِيِّ مُطْلَقًا.   (1) مَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُجَرَّدَ مِنَ الْقَرَائِنِ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي التَّكْرَارِ أَيْضًا (2) لِأَنَّ اللَّازِمَ مِنْ وُقُوعِ الْحَدَثِ مُطْلَقُ الزَّمَنِ لَا عُمُومُ الْأَزْمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُثْبَتَ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلَا شُمُولَ فِيهِ (3) لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي حُكْمِ النَّكِرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ وَقَعَ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلَا عُمُومَ وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ نَفْيٍ أَوْ شَبَهِهِ عَمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهَا غَيْرُ مُتَّجِهَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَوَامَ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ لَيْسَ مُسْتَفَادًا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ، فَتَرْكُهُ يَكُونُ كُفْرًا، وَالْكُفْرُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ دَائِمًا، وَلِهَذَا كَانَ اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ دَائِمًا فِي الْأَوَامِرِ الْمُقَيَّدَةِ. وَأَمَّا الْعَزْمُ، فَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَهُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَهُوَ نَائِمٌ، لَا يَجِبْ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ إِنْبَاهُهُ وَلَوْ كَانَ الْعَزْمُ وَاجِبًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَوَجَبَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ ضَاقَ وَقْتُ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ نَائِمٌ. وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ الْعَزْمِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَهُ دَائِمًا، بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِوُجُوبِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَهُ دَائِمًا، فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ مُسْتَفَادًا مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ، لِيَلْزَمَ مَا قِيلَ، بَلْ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلِيلٍ اقْتَضَى دَوَامَهُ غَيْرَ الْأَمْرِ الْوَارِدِ بِالْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا وَجَبَ فِي الْأَوَامِرِ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّهَا بَاطِلَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِالزَّمَانِ، وَإِنَّمَا الزَّمَانُ مِنْ ضَرُورَاتِ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِبَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ الْبَعْضِ التَّعْمِيمُ كَالْمَكَانِ. وَعَنِ السَّادِسَةِ: وَهِيَ قَوْلُهُمْ لَوْ كَانَ (الْأَمْرُ) لِلْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لَمَا دَخَلَهُ النَّسْخُ لَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا، فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَ بِالْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، جَازَ نَسْخُهُ عِنْدَنَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ عَلَى مَا يَأْتِي. وَإِنَّمَا ذَلِكَ لَازِمٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، وَأَمَّا دُخُولُ الِاسْتِثْنَاءِ فَمَنْ أَوْجَبَ الْفِعْلَ عَلَى الْفَوْرِ يُمْنَعُ مِنْهُ، وَمَنْ أَوْجَبَهُ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا يُمْنَعُ مِنِ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي إِيقَاعِ الْوَاجِبِ فِيهَا. وَأَمَّا حُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ، فَإِنَّمَا كَانَ لِتَحْصِيلِ الْيَقِينِ فِيمَا اللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لَهُ تَأْكِيدًا، فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِإِرَادَةِ التَّكْرَارِ وَإِرَادَةِ الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " صَلِّ مَرَّةً وَاحِدَةً " وَقَوْلِهِ " صَلِّ مِرَارًا " غَيْرَ مُتَنَاقِضٍ، بَلْ غَايَتُهُ دَلَالَةُ الدَّلِيلِ عَلَى إِرَادَةِ التَّكْرَارِ الْمُحْتَمَلِ. وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَمَنْ قَالَ بِالتَّرَاخِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ ; لِأَنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عِنْدَهُ تَخْيِيرُ الْمَأْمُورِ فِي إِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ مِنْ ذَلِكَ " الْوَقْتِ "، وَمَنْ قَالَ بِالْفَوْرِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ فِي ثَانِي الْحَالِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وَعَنِ السَّابِعَةِ: مَا سَبَقَ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ. وَعَنِ الثَّامِنَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَإِنْ سَلِمَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ اقْتِضَاءَ النَّهْيِ لِلْأَضْدَادِ بِصِفَةِ الدَّوَامِ، فَرْعُ كَوْنِ الْأَمْرِ مُقْتَضِيًا لِلْفِعْلِ عَلَى الدَّوَامِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ» ) الْحَدِيثُ، إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَا زَادَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مَأْمُورًا بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّهَارَةِ يَقْتَضِي تَكْرَارَهَا بِتَكَرُّرِ الصَّلَاةِ، بَلْ لَعَلَّهُ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لِلتَّكْرَارِ فَسَأَلَ النَّبِيَّ عَنْ عَمْدِهِ وَسَهْوِهِ فِي ذَلِكَ لِإِزَاحَةِ الْإِشْكَالِ، بِمَعْرِفَةِ كَوْنِهِ لِلتَّكْرَارِ إِنْ كَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْوًا أَوْ لَا لِلتَّكْرَارِ إِنْ كَانَ فِعْلُهُ عَمْدًا. كَيْفَ وَإِنَّ فَهْمَ عُمَرَ لِذَلِكَ مُقَابَلٌ بِإِعْرَاضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّكْرَارِ، وَلَوْ كَانَ لِلتَّكْرَارِ لَمَا أَعْرَضَ عَنْهُ، وَلَهُ التَّرْجِيحُ (1) . وَأَمَّا الْأَخِيرَةُ: فَإِنَّمَا عَمَّ الْأَمْرُ فِيهَا بِالْإِكْرَامِ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ لِلْأَزْمَانِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ التَّعْظِيمُ، وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي اسْتِحْقَاقَ الْمَأْمُورِ بِإِكْرَامِهِ لِلْإِكْرَامِ، وَهُوَ سَبَبُ الْأَمْرِ، فَمَهْمَا لَمْ يُعْلَمْ زَوَالُ ذَلِكَ السَّبَبِ وَجَبَ دَوَامُ الْمُسَبِّبِ، فَكَانَ الدَّوَامُ مُسْتَفَادًا مِنْ هَذِهِ الْقَرِينَةِ لَا مِنْ مُطْلَقِ الْأَمْرِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأُولَى لِلْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ احْتِمَالِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ لِلتَّكْرَارِ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي التَّكْرَارِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ احْتِمَالِهِ لَهُ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: ادْخُلِ الدَّارَ مِرَارًا بِطَرِيقِ التَّفْسِيرِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُ وَلَوْ عُدِمَ لَمَا صَحَّ التَّفْسِيرُ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ ذَلِكَ قِيَاسٌ فِي اللُّغَاتِ فَلَا يَصِحُّ، وَبِهِ دَفْعُ الشُّبْهَةِ الثَّالِثَةِ. وَإِذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ (طَلِّقْ زَوْجَتِي) إِنَّمَا لَمْ يَمْلُكْ مَا زَادَ عَلَى الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ لِعَدَمِ ظُهُورِ الْأَمْرِ فِيهَا لَا لِعَدَمِ لُغَةِ الِاحْتِمَالِ ; وَلِهَذَا لَوْ قَالَ (طَلِّقْهَا ثَلَاثًا) عَلَى التَّفْسِيرِ صَحَّ. وَعَنِ الْخَامِسَةِ مَا سَبَقَ.   (1) وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ عُمَرَ فَهِمَ التَّكْرَارَ مِنْ تَعْلِيقِ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ عَلَى الْقِيَامِ لِلصَّلَاةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ مِنْ مَوْضُوعِ الْبَحْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ لَا الثَّالِثَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وَعَنِ السَّادِسَةِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَشَقَّةِ مِنْ حَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى التَّكْرَارِ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُنَافِيًا لَهُ أَوْ يَكُونَ مُنَافِيًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا اتِّجَاهَ لِمَا ذَكَرُوهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَغَايَتُهُ تَعَذُّرُ الْعَمَلِ بِالْأَمْرِ فِي التَّكْرَارِ عِنْدَ لُزُومِ الْحَرَجِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَرِينَةً مَانِعَةً مِنْ صَرْفِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ احْتِمَالِهِ لَهُ لُغَةً. وَجَوَابُ شُبْهَةِ الْقَائِلِينَ بِالْوَقْفِ مَا سَبَقَ فِي جَوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ كَقَوْلِهِ: (إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا) (1) أَوْ صِفَةٍ كَقَوْلِهِ: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} هَلْ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ أَمْ لَا؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَهُوَ هَاهُنَا أَوْلَى، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ اخْتَلَفُوا هَاهُنَا: فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ. وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْحِجَاجِ لَا بُدَّ مِنْ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَنَقُولُ: مَا عُلِّقَ بِهِ الْمَأْمُورُ مِنَ الشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ عِلَّةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِوُجُوبِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَالزِّنَا، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، بَلِ الْحُكْمُ مُتَوَقِّفٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ لَهُ فِيهِ، كَالْإِحْصَانِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ فِي الزِّنَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى تَكَرُّرِ الْفِعْلِ بِتَكَرُّرِهِ نَظَرًا إِلَى تَكَرُّرِ الْعِلَّةِ، وَوُقُوعُ الِاتِّفَاقِ عَلَى التَّعَبُّدِ بِاتِّبَاعِ الْعِلَّةِ، مَهْمَا وُجِدَتْ، فَالتَّكْرَارُ مُسْتَنِدٌ إِلَى تَكْرَارِ الْعِلَّةِ، لَا إِلَى الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا تَكْرَارَ. وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ، لَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، الْحُجَّةُ الْأُولَى أَنَّهُمْ قَالُوا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ لَا يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: " إِنْ جَاءَ زَيْدٌ جَاءَ عَمْرٌو " فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَكَرُّرُ مَجِيءِ عَمْرٍو فِي تَكَرُّرِ مَجِيءِ زَيْدٍ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ، وَهِيَ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ (2) .   (1) لَوْ مَثَّلَ بِأَمْثِلَةٍ مِنَ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمُ " الْآيَةُ وَقَوْلُهُ: " وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا " الْآيَةُ لَكَانَ أَوْلَى (2) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ مِنَ الْقِسْمَةِ الرَّابِعَةِ لِلْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ - ج 1 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 الثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ " إِذَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ " فَإِنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ " إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا " وَهُوَ أَيْضًا مِنْ جِنْسِ مَا تَقَدَّمَ، لِمَا فِيهِ مِنْ قِيَاسِ الْأَمْرِ عَلَى إِنْشَاءِ الطَّلَاقِ الَّذِي لَيْسَ بِأَمْرٍ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّفْظَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ إِلَّا عَلَى تَعْلِيقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صُورَةٍ، أَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُشْعِرُ بِالْأَعَمِّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُشْعِرًا بِالْأَخَصِّ. وَحَاصِلُ هَذِهِ الْحُجَّةِ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى مَحْضِ الدَّعْوَى بِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُضَافَ إِلَى الشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ اقْتِضَاءُ التَّكْرَارِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ أَوِ الصِّفَةِ، وَهُوَ عَيْنُ مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ مُشْعِرٌ بِالْأَعَمِّ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ إِشْعَارِهِ بِالْأَخَصِّ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ، أَنْ يُقَالَ لَوْ وَجَبَ التَّكْرَارُ لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضِي لَهُ نَفْسُ الْأَمْرِ أَوِ الشَّرْطِ أَوْ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ لِمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا بِالثَّانِي لِأَنَّ الشَّرْطَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الْمَشْرُوطِ بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ، بَلْ إِنَّمَا تَأْثِيرُهُ فِي انْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَحَيْثُ قِيلَ بِمُلَازَمَةِ الْمَشْرُوطِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ " إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ " إِنَّمَا كَانَ لِضَرُورَةِ وُجُودِ الْمُوجَبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ " أَنْتِ طَالِقٌ " لَا لِنَفْسِ دُخُولِ الدَّارِ، وَإِلَّا كَانَ دُخُولُ الدَّارِ مُوجِبًا لِلطَّلَاقِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالثَّالِثِ، لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ " إِذَا دَخَلْتِ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَحْمًا " أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ تَحَقُّقِ الْمُوجِبِ لِلتَّكْرَارِ، أَوْ لَا مَعَ تَحَقُّقِهِ: لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ. وَإِلَّا فَانْتِفَاءُ التَّكْرَارِ إِمَّا لِمُعَارِضٍ، أَوْ لَا لِمُعَارِضٍ، وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُعَارَضَةِ وَتَعْطِيلِ الدَّلِيلِ عَنْ أَعْمَالِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الثَّانِي، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَامِرُ مُتَعَلِّقَةٌ بِشُرُوطٍ وَصِفَاتٍ وَهِيَ مُتَكَرِّرَةٌ بِتَكَرُّرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} الْآيَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} الْآيَةُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِلتَّكْرَارِ لَمَا كَانَ مُتَكَرِّرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِهَا إِجْمَاعًا، وَالشَّرْطُ أَقْوَى مِنَ الْعِلَّةِ لِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِانْتِفَائِهِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ، فَكَانَ اقْتِضَاؤُهُ لِلتَّكْرَارِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إِلَى إِعْدَادِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالْمَوْجُودِ الْأَوَّلِ مِنْهَا، دُونَ مَا بَعْدَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ ثَانِيًا وَثَالِثًا انْتِفَاؤُهُ مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، أَوْ مِنْ وُجُودِهِ مَعَ الْأَوَّلِ الْوُجُودُ مَعَ الثَّانِي وَمَا بَعْدَهُ ضَرُورَةَ التَّسْوِيَةِ. وَالْأَوَّلُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِجَمِيعِ الشُّرُوطِ، بَلْ بِالْأَوَّلِ مِنْهَا فَيَلْزَمُ، أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ مَعَ الشَّرْطِ الثَّانِي، دُونَ الْأَوَّلِ، قَضَاءٌ، وَكَانَتْ مُفْتَقِرَةً إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ النَّهْيَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مُفِيدٌ لِلتَّكْرَارِ، كَمَا إِذَا قَالَ " إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَلَا تُعْطِهِ دِرْهَمًا " وَالْأَمْرُ ضِدُّ النَّهْيِ، فَكَانَ مُشَارِكًا لَهُ فِي حُكْمِهِ، ضَرُورَةَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ. السَّادِسُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الْأَمْرِ عَلَى الشَّرْطِ الدَّائِمِ مُوجِبٌ لِدَوَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِدَوَامِهِ، كَمَا لَوْ قَالَ (إِذَا وُجِدَ شَهْرُ رَمَضَانَ فَصُمْهُ) فَإِنَّ الصَّوْمَ يَكُونُ دَائِمًا بِدَوَامِ الشَّهْرِ، وَتَعْلِيقُ الْأَمْرِ عَلَى الشَّرْطِ الْمُتَكَرِّرِ فِي مَعْنَاهُ فَكَانَ دَائِمًا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ غَيْرُ مُقْتَضٍ لِلتَّكْرَارِ، فَحَيْثُ قُضِيَ بِالتَّكْرَارِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ وَالصِّفَةُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمُكَرَّرِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، أَوْ لَا يَكُونُ عِلَّةً لَهُ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَالتَّكْرَارُ إِنَّمَا كَانَ لِتَكَرُّرِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُكْمِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مُتَكَرِّرًا لِدَلِيلٍ اقْتَضَاهُ غَيْرُ الْأَمْرِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ اقْتِضَائِهِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ كَمَا قَدْ يَتَكَرَّرُ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، فَقَدْ لَا يَتَكَرَّرُ كَالْأَمْرِ بِالْحَجِّ، فَإِنَّهُ مَشْرُوطٌ بِالِاسْتِطَاعَةِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ بِتَكَرُّرِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وَعَنِ الثَّانِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَكَرُّرِ الْحُكْمِ بِتَكَرُّرِ الْعِلَّةِ لِكَوْنِهَا مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ، تَكَرُّرُهُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُكْمِ، كَمَا تَقَرَّرَ. وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُلْزِمُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ عَلَى الْفَوْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنَا بَلِ الْأَمْرُ مُقْتَضٍ لِلِامْتِثَالِ مَعَ اسْتِوَاءِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِيهِ، إِذَا عُلِمَ تَجَدُّدُ الشَّرْطِ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بَقَاءُ الْمَأْمُورِ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ قَدِ اقْتَضَى تَعَلُّقَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الشُّرُوطِ كُلِّهَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ لَهُ بِبَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ تَجَدُّدُ الشَّرْطِ، وَلَا بَقَاءُ الْمَأْمُورِ إِلَى حَالَةِ وُجُودِ الشَّرْطِ الثَّانِي، فَقَدْ تَعَيَّنَ اخْتِصَاصُ الْمَأْمُورِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، لِعَدَمِ تَحَقُّقِ مَا سِوَاهُ. وَعَلَى هَذَا، فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعِ أَيْضًا. وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى قِيَاسِ الْأَمْرِ عَلَى النَّهْيِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ. كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّهْيَ الْمُضَافَ إِلَى الشَّرْطِ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ، بَلْ مَا اقْتَضَاهُ النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ دَوَامُ الْمَنْعِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ، سَوَاءٌ تَجَدَّدَ الشَّرْطُ ثَانِيًا، أَوْ لَمْ يَتَجَدَّدْ. وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّ الشَّرْطَ الْمُسْتَشْهَدَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ دَوَامٌ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَالْحَكَمُ مَوْجُودٌ مَعَهُ، فَهُوَ وَاحِدٌ، وَالْمَشْرُوطُ بِهِ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ بِتَكَرُّرِهِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ لُزُومِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ تَحَقُّقِ شَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَرُّرٍ، لُزُومُ التَّكَرُّرِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هَلْ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ: هَلْ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ؟ فَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِحَمْلِ الْأَمْرِ عَلَى التَّكْرَارِ، إِلَى وُجُوبِ التَّعْجِيلِ. وَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى التَّرَاخِي، وَجَوَازِ التَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ. وَأَمَّا الْوَاقِفَيَّةُ فَقَدْ تَوَقَّفُوا، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّوَقُّفُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْمُؤَخِّرِ هَلْ هُوَ مُمْتَثِلٌ أَوْ لَا؟ وَأَمَّا الْمُبَادِرُ فَإِنَّهُ مُمْتَثِلٌ قَطْعًا، لَكِنْ هَلْ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالتَّأْثِيمِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤَثِّمْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي الْمُبَادِرِ أَيْضًا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ إِجْمَاعَ السَّلَفِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَهْمَا فَعَلَ، كَانَ مُقَدِّمًا أَوْ مُؤَخِّرًا، كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي طَلَبِ الْفِعْلِ لَا غَيْرَ، فَمَهْمَا أَتَى بِالْفِعْلِ فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ، مُقَدِّمًا أَوْ مُؤَخِّرًا كَانَ آتِيًا بِمَدْلُولِ الْأَمْرِ، فَيَكُونُ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ، لِكَوْنِهِ آتِيًا بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَبَيَانُ أَنَّ مَدْلُولَ الْأَمْرِ طَلَبُ الْفِعْلِ لَا غَيْرَ وَجْهَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلَالَتِهِ عَلَى أَمْرٍ خَارِجٍ، وَالزَّمَانُ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مَدْلُولِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ اللَّازِمَ مِنَ الشَّيْءِ أَعَمُّ مِنَ الدَّاخِلِ فِي مَعْنَاهُ وَلَا أَنْ يَكُونَ مُتَعَيِّنًا، كَمَا لَا تَتَعَيَّنُ الْآلَةُ فِي الضَّرْبِ، وَلَا الشَّخْصُ الْمَضْرُوبُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالضَّرْبِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ وَعَلَى التَّرَاخِي، وَيَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ بِوُجُودِ الْأَمْرِ فِي الصُّورَتَيْنِ. وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَلَا مُشْتَرَكَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ سِوَى طَلَبُ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا سِوَاهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ مَدْلُولَ الْأَمْرِ فِي الصُّورَتَيْنِ، دُونَ مَا بِهِ الِاقْتِرَانُ مِنَ الزَّمَانِ وَغَيْرِهِ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي بَيَانِ امْتِنَاعِ خُرُوجِ الْوَقْتِ (1) عَنِ الدُّخُولِ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ " اسْقِنِي مَاءً " فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ تَعْجِيلُ السَّقْيِ حَتَّى أَنَّهُ يَحْسُنُ لَوْمُ الْعَبْدِ وَذَمِّهِ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ بِتَقْدِيرِ التَّأْخِيرِ. وَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْأَمْرِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَرِينَةِ. الثَّانِي هُوَ أَنَّ مَدْلُولَ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ، لَا يَقَعُ إِلَّا فِي وَقْتٍ وَزَمَانٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِلْفِعْلِ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ كَالْمَكَانِ، وَكَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ " أَنْتِ طَالِقٌ " وَلِعَبْدِهِ " أَنْتَ حُرٌّ " فَإِنَّ مَدْلُولَ لَفْظِهِ يَقَعُ عَلَى الْفَوْرِ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ. الثَّالِثُ أَنَّ الْأَمْرَ مُشَارِكٌ لِلنَّهْيِ فِي مُطْلَقِ الطَّلَبِ، وَالنَّهْيُ مُقْتَضٍ لِلِامْتِثَالِ عَلَى الْفَوْرِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ أَضْدَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُقْتَضٍ لِلِانْتِهَاءِ عَنْهَا عَلَى الْفَوْرِ، وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ، فَكَانَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لَهُ عَلَى الْفَوْرِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى عَاتَبَ إِبْلِيسَ وَوَبَّخَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ مُقْتَضِيًا لَهُ فِي الْحَالِ، لَمَا حَسُنَ تَوْبِيخُهُ عَلَيْهِ، وَلَكَانَ تِلْكَ عُذْرًا لِإِبْلِيسَ فِي تَأْخِيرِهِ. سَلَّمْنَا عَدَمَ دَلَالَةِ الْأَمْرِ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ لَفْظًا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لَهُ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ إِذَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِهِ عَلَى الْفَوْرِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضًى لِلْأَمْرِ، بَلْ هُوَ مِنْ لَوَازِمِ مُقْتَضَاهُ فَكَانَ مُقْتَضَاهُ عَلَى الْفَوْرِ أَوْلَى لِأَصَالَتِهِ. الثَّانِي أَنَّ إِجْمَاعَ السَّلَفِ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْمُبَادِرَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ، وَلَا إِجْمَاعَ فِي الْمُؤَخِّرِ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِالتَّعْجِيلِ أَحْوَطَ وَأَوْلَى.   (1) فِي بَيَانِ امْتِنَاعِ خُرُوجِ الْوَقْتِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ فِي بَيَانِ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ السَّابِقَةَ دَلَّتْ عَلَى خُرُوجِهِ لَا عَلَى امْتِنَاعِ خُرُوجِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 الثَّالِثُ أَنَّ الْفِعْلَ وَاجِبٌ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ جَازَ تَأْخِيرُهُ، إِمَّا أَنْ يَجُوزَ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ لَا إِلَى غَايَةٍ. فَإِنْ جَازَ تَأْخِيرُهُ إِلَى غَايَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمَأْمُورِ، أَوْ لَا تَكُونُ مَعْلُومَةً لَهُ فَإِنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً لَهُ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَذْكُورَةً بِأَنْ يُقَالَ لَهُ (إِلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ) مَثَلًا أَوْ مَوْصُوفَةً. الْأَوَّلُ خِلَافُ الْفَرْضِ، إِذِ الْفَرْضُ فِيمَا إِذَا كَانَ أَمْرًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ فِي الذِّكْرِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْوَقْتُ الْمَوْصُوفُ لَا يَخْرُجُ بِالْإِجْمَاعِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْمَأْمُورَ بِهِ عَنْهُ لَفَاتَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهِيَ بِالْإِجْمَاعِ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنِ الْغَرَضِ الْمَرْجُوِّ وَعُلُوِّ السِّنِّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُضْطَرِبٌ مُخْتَلِفٌ، فَإِنَّهُ قَدْ يَمُوتُ قَبْلَ ذَلِكَ، أَوْ يَعِيشُ بَعْدَهُ فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْهَا، كَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا جَازَ التَّأْخِيرُ إِلَى غَايَةٍ. وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لَا إِلَى غَايَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ بِبَدَلٍ، أَوْ لَا بِبَدَلٍ، فَإِنْ كَانَ بِبَدَلٍ، فَذَلِكَ الْبَدَلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا أَوْ غَيْرَ وَاجِبٍ، لَا جَائِزَ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا وَإِمَّا لَمَا كَانَ بَدَلًا عَنِ الْوَاجِبِ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَوَجَبَ إِنْبَاهُ الْمَأْمُورِ حَالَةَ وُرُودِ الْأَمْرِ نَحْوَهُ عَلَى مَنْ حَضَرَ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْبَدَلُ، كَمَا لَوْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَكَانَ نَائِمًا، الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِوُجُوبِ الْبَدَلِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلِيلٍ آخَرَ، وَيَمْتَنِعُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْبَدَلَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا، لَكَانَ قَائِمًا مَقَامَ الْمُبْدَلِ وَمُحَصِّلًا لِمَقْصُودِهِ، وَإِمَّا لَمَا كَانَ بَدَلًا، لِمَا فِيهِ مِنْ فَوَاتِ مَقْصُودِ الْأَصْلِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْكُلِّيَّةِ بِتَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ بِالْبَدَلِ ضَرُورَةَ حُصُولِ مَقْصُودِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَدَلُ وَاجِبًا لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَجُوزَ تَأْخِيرُهُ عَنِ الْوَقْتِ الثَّانِي، مِنْ وُرُودِ الْأَمْرِ أَوْ لَا يَجُوزُ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي أَصْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَزِيدُ عَلَى نَفْسِ الْمُبْدَلِ، وَوَقْتُ الْمُبْدَلِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَذَلِكَ الْبَدَلُ، وَإِنْ جَازَ التَّأْخِيرُ أَبَدًا لَا بِبَدَلٍ، فَفِيهِ إِخْرَاجُ الْوَاجِبِ عَنْ حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الرَّابِعُ: مِنَ الْوُجُوهِ الْأُوَلِ أَنَّ امْتِثَالَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَهُوَ سَبَبُ الثَّوَابِ فَوَجَبَ تَعْجِيلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} أَمْرٌ بِالْمُسَارَعَةِ وَالْمُسَابَقَةِ وَهِيَ التَّعْجِيلُ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إِنَّمَا فُهِمَ التَّعْجِيلُ مِنْ أَمْرِ السَّيِّدِ بِسَقْيِ الْمَاءِ مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ بِحَاجَةِ السَّيِّدِ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ، إِذِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ سَقْيُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَيْهِ، حَتَّى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَوْ يُظَنَّ أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَيْهِ دَاعِيَةٌ فِي الْحَالِ، لِمَا فُهِمَ مِنْ أَمْرِهِ التَّعْجِيلُ، وَلَا حَسُنَ ذَمُّ الْعَبْدِ بِالتَّأْخِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: أَهْلُ الْعُرْفِ إِنَّمَا يَذُمُّونَ الْعَبْدَ بِمُخَالَفَةِ مُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَيَقُولُونَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ " خَالَفَ أَمْرَ سَيِّدِهِ " وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ هُوَ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْجِيلِ دُونَ غَيْرِهِ. قُلْنَا: إِنَّمَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِالْقَرِينَةِ دُونَ الْمُطْلَقِ، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُقَيَّدٌ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ عِنْدَ مُطْلَقِ الْأَمْرِ بِصِحَّةِ عُذْرِ الْعَبْدِ بِقَوْلِهِ: " إِنَّمَا أَخَّرْتُ لِعَدَمِ عِلْمِي وَظَنِّي بِدَعْوَى حَاجَتِهِ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ " وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَعَنِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ تَعَيُّنَ أَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ " أَنْتِ طَالِقٌ، وَأَنْتَ حُرٌّ " يُفِيدُ صِحَّةَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ بِوَضْعِهِ لَهُ لُغَةً، بَلْ ذَلِكَ لِسَبَبٍ جَعَلَ الشَّرْعُ لَهُ عَلَامَةً عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَالِي، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مَوْضُوعًا لِلْفَوْرِ. الثَّانِي: أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ كَمَا سَبَقَ. وَعَنِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَعَنِ الْخَامِسِ أَنَّ تَوْبِيخَهُ لِإِبْلِيسَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِإِبَائِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} وَلِتَخَيُّرِهِ عَلَى آدَمَ بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} وَلَا يُمْكِنُ إِضَافَةُ التَّوْبِيخِ إِلَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَمْرٌ ; لِأَنَّهُ مُنْقَسِمٌ إِلَى أَمْرِ إِيجَابٍ وَاسْتِحْبَابٍ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَا تَوْبِيخَ عَلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ الِاسْتِحْبَابِ إِجْمَاعًا. وَلَوْ كَانَ التَّوْبِيخُ عَلَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ، لَكَانَ أَمْرُ الِاسْتِحْبَابِ مُوَبَّخًا عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْبِيخُ عَلَى أَمْرِ الْإِيجَابِ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى أَمْرِ إِيجَابٍ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَمْرِ إِيجَابٍ عَلَى التَّرَاخِي، كَمَا إِذَا قَالَ " أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ مُتَرَاخِيًا " وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ حَالًا. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَبَّخَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ كَانَ مُطْلَقًا، بَلْ هُوَ مُقْتَرِنٌ بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ مُوجِبَةٍ لِحَمْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} رَتَّبَ السُّجُودَ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَهِيَ مُقْتَضِيَةٌ لِلسُّجُودِ عَقِبَهَا عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ. قَوْلُهُمْ لِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِلْفَوْرِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ قُلْنَا الْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ اعْتِقَادِ وُجُوبِ الْفِعْلِ، قُلْنَا وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَعْجِيلُ وُجُوبِ الْفِعْلِ (1) . قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ وُجُوبِ الْفِعْلِ، قُلْنَا: مِنْ لَوَازِمِ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ، أَوْ مِنْ لَوَازِمِ وُجُوبِ الْفِعْلِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ تَقْدِيمِ الْفِعْلِ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَوْجَبَ الْفِعْلَ مُصَرِّحًا بِتَأْخِيرِهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْجِيلُ اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وُجُوبُ الْفِعْلِ عَلَى الْفَوْرِ. قَوْلُهُمْ: الْقَوْلُ بِالتَّعْجِيلِ أَحْوَطُ لِلْمُكَلَّفِ، قُلْنَا: الِاحْتِيَاطُ إِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ الْمُكَلَّفِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ: فَإِنْ ظَنَّ الْفَوْرَ، وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَإِنْ ظَنَّ التَّرَاخِي، وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ، وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ التَّرَاخِي، فَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ التَّعْجِيلِ عَلَى خِلَافِ ظَنِّهِ، يَكُونُ حَرَامًا وَارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ يَكُونُ إِضْرَارًا، فَلَا يَكُونُ احْتِيَاطًا. قَوْلُهُمْ: لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِلَى غَايَةٍ، أَوْ لَا إِلَى غَايَةٍ إِلَى آخِرِهِ   (1) تَعْجِيلُ وُجُوبِ الْفِعْلِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ وُجُوبُ تَعْجِيلِ الْفِعْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 فَهُوَ مَنْقُوضٌ بِمَا لَوْ صَرَّحَ الْآمِرُ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَقْسَامِ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، مَعَ جَوَازِ تَأْخِيرِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْآيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَهِيَ غَيْرُ دَالَّةٍ عَلَى وُجُوبِ تَعْجِيلِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَإِنَّهُمَا بِمَنْطُوقِهِمَا يَدُلَّانِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ. وَالْمُرَادُ بِهِ إِنَّمَا هُوَ الْمُسَارَعَةُ إِلَى سَبَبِ ذَلِكَ، وَدَلَالَتُهُمَا عَلَى السَّبَبِ إِنَّمَا هِيَ بِجِهَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَالِاقْتِضَاءُ لَا عُمُومَ لَهُ، عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُمَا عَلَى الْمُسَارَعَةِ إِلَى كُلِّ سَبَبٍ لِلْخَيْرَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا اتَّفَقَ عَلَى وُجُوبِ تَعْجِيلِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَلَا يَعُمُّ كُلَّ فِعْلٍ مَأْمُورٍ بِهِ (1) . [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ عَلَى التَّعْيِينِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ (2) الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ عَلَى التَّعْيِينِ (3) هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: وَتَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ: أَمَّا أَصْحَابُنَا فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ هُوَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ بِعَيْنِهِ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، وَإِنَّ طَلَبَ الْفِعْلِ بِعَيْنِهِ هُوَ طَلَبُ تَرْكِ أَضْدَادِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ فِي أَوَّلِ أَقْوَالِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ نَهْيٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْأَضْدَادِ لَا أَنَّ الْأَمْرَ هُوَ عَيْنُ النَّهْيِ، وَهُوَ آخِرُ مَا اخْتَارَهُ الْقَاضِي فِي آخِرِ أَقْوَالِهِ (4) .   (1) وَأَيْضًا الْأَمْرُ فِي الْآيَتَيْنِ دَالٌّ عَلَى الْفَوْرِ بِمَادَّتِهِ لَا بِصِيغَتِهِ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِمَا اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَأَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ بِهِمَا عَلَى إِفَادَةِ الْأَمْرِ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ النُّصُوصِ الْفَوْرِيَّةِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ، بِدَلِيلٍ خَارِجٍ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ مِنَ الْقَرَائِنِ (2) انْظُرْ ص 118 - 159 مِنْ ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَّةَ (3) يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا، كَصِيَامِ رَمَضَانَ فَإِنْ كَانَ مُبْهَمًا كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِأَحَدِهَا نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ مِنْهَا، فَالْأَمْرُ بِإِطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لَيْسَ لَهَا نَهْيًا عَنِ الْخَصْلَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ وَلَا عَنْ إِحْدَاهُمَا (4) أَبُو بَكْرٍ - هُوَ الْبَاقِلَّانِيُّ - وَقَوْلُهُ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً هُوَ كَلَامٌ نَفْسِيٌّ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ، وَأَنَّهُ يَتَنَوَّعُ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقَاتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 153 مِنْ ج1 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا (1) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ: فَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ نَفْسُ صِيغَةِ " افْعَلْ " وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ عَيْنَ صِيغَةِ " افْعَلْ " لَا تَكُونُ نَهْيًا ; لِأَنَّ صِيغَةَ النَّهْيِ " لَا تَفْعَلْ " وَلَيْسَ إِحْدَاهُمَا عَيْنَ الْأُخْرَى، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ هَلْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. فَذَهَبَ الْقُدَمَاءُ مِنْ مَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى مَنْعِهِ، وَمِنَ الْمُعْتَزِلَةِ مَنْ صَارَ إِلَيْهِ، كَالْعَارِضِيِّ (2) وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْهُمْ. وَمَعْنَى كَوْنِهِ نَهْيًا عَنِ الْأَضْدَادِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى عِنْدَهُمْ، أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تَقْتَضِي إِيجَادَ الْفِعْلِ، وَالْمَنْعَ مِنْ كُلِّ مَا يُمْنَعُ مِنْهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ أَمْرِ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ، وَحَكَمَ بِأَنَّ أَمْرَ الْإِيجَابِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَمُقَبِّحًا لَهَا، لِكَوْنِهَا مَانِعَةً مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبِ، بِخِلَافِ الْمَنْدُوبِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ أَضْدَادَ الْمَنْدُوبِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُبَاحَةِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهَا، لَا نَهْيَ تَحْرِيمٍ وَلَا نَهْيَ تَنْزِيهٍ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ نَقُولَ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، أَوْ لَا نَقُولَ بِهِ، فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ، عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ (رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ) كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَكُونُ بِعَيْنِهِ نَهْيًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَلَا مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ عَنْهَا، بَلْ جَائِزٌ أَنْ نُؤْمَرَ بِالْفِعْلِ وَبِضِدِّهِ فِي الْحَالَةِ الْوَاحِدَةِ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ (3) .   (1) أَيْ لَيْسَ عَيْنُهُ وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ، انْظُرْ مَسْأَلَةَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَالتَّعْلِيقَ عَلَيْهَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ (2) كَالْعَارِضِيِّ - كَأَنَّ فِيهِ تَحْرِيفًا وَلَعَلَّ الْأَصْلَ كَالْقَاضِي وَهُوَ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْهَمْدَانِيُّ، وَهَذَا الرَّأْيُ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ فَانْظُرْهُ (3) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ " الْأَصْلِ الثَّالِثِ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ " وَمَا عَلَيْهَا مِنَ التَّعْلِيقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وَإِنْ مَنَعْنَا ذَلِكَ فَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهِ، لَا أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْأَمْرِ هُوَ عَيْنَ النَّهْيِ عَنِ الضِّدِّ (1) وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ أَمْرَ إِيجَابٍ أَوْ نَدْبٍ. أَمَّا أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْأَضْدَادِ، فَلِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا بِتَرْكِ أَضْدَادِهِ. وَمَا لَا يَتِمُّ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ دُونَ تَرْكِهِ، فَهُوَ وَاجِبُ التَّرْكِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ، وَمَنْدُوبٌ إِلَى تَرْكِهِ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ، عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَضْدَادِ الْوَاجِبِ يَكُونُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ، وَعَنْ أَضْدَادِ الْمَنْدُوبِ نَهْيَ كَرَاهَةٍ وَتَنْزِيهٍ، وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَيْنُ الْأَمْرِ هُوَ عَيْنَ النَّهْيِ. فَإِذَا قُلْنَا إِنَّ الْأَمْرَ هُوَ صِيغَةُ (افْعَلْ) فَظَاهِرٌ، عَلَى مَا سَبَقَ (2) وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ الْأَمْرَ هُوَ الطَّلَبُ الْقَائِمُ بِالنَّفْسِ، فَلِأَنَّا إِذَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِي الطَّلَبِ النَّفْسَانِيِّ الْقَدِيمِ، فَهُوَ وَإِنِ اتَّحَدَ عَلَى أَصْلِنَا (3) فَإِنَّمَا يَكُونُ أَمْرًا بِسَبَبِ تَعَلُّقِهِ بِإِيجَادِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لَا يَكُونُ نَهْيًا، بِسَبَبِ تَعَلُّقِهِ بِتَرْكِ الْفِعْلِ، وَهُمَا بِسَبَبِ التَّغَايُرِ فِي التَّعَلُّقِ وَالْمُتَعَلِّقِ مُتَغَايِرَانِ. وَإِنْ فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِي الطَّلَبِ الْقَائِمِ بِالْمَخْلُوقِ فَهُوَ وَإِنْ تَعَدَّدَ، فَالْأَمْرُ مِنْهُ أَيْضًا إِنَّمَا هُوَ الطَّلَبُ الْمُتَعَلِّقُ بِتَرْكِهِ وَهُمَا غَيْرَانِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهِ لَكَانَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُسْتَلْزِمًا لِلنَّهْيِ عَنْ جَمِيعِ الْمُبَاحَاتِ الْمُضَادَّةِ لَهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ حَرَامًا إِنْ كَانَ النَّهْيُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ مَكْرُوهَةً إِنْ كَانَ النَّهْيُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ. وَخَرَجَ الْمُبَاحُ عَنْ كَوْنِهِ مُبَاحًا، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْكَعْبِيُّ (4) مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ،   (1) لَمْ يَزِدِ الْآمِدِيُّ فِي اخْتِيَارِهِ التَّفْصِيلَ عَلَى أَنْ بَنَاهُ عَلَى التَّرْدِيدِ بَيْنَ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ وَمَنْعِهِ، وَلَمْ يَخْتَرْ هُنَا وَاحِدًا مِنْ طَرَفَيِ التَّرْدِيدِ. وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ قَدِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ قَوْلًا مُعَيَّنًا فِي الْمَسْأَلَةِ (2) أَيْ مِنْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ افْعَلْ وَصِيغَةَ النَّهْيِ لَا تَفْعَلْ وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا عَيْنَ الْأُخْرَى (3) أَيِ الْأَشْعَرِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا فِي ص 153 مِنْ ج 1 وَأَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى وَقَدْ يُرَادُ بِهِ أَحَدُهُمَا بِدَلِيلٍ (4) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ تَعْلِيقًا فِي ص 124 مِنْ ج1 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 بَلْ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَا الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمُضَادَّةِ لَهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا وَمُحَرَّمَةً أَوْ مَكْرُوهَةً وَهُوَ مُحَالٌ. كَيْفَ وَإِنَّ الْآمِرَ بِالْفِعْلِ قَدْ يَكُونُ غَافِلًا عَنْ أَضْدَادِهِ، وَالْغَافِلُ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ نَاهِيًا عَنْهُ ; لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَسْتَدْعِي الْعِلْمَ بِهِ، وَالْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مَعَ الذُّهُولِ عَنْهُ مُحَالٌ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلنَّهْيِ عَنْ أَضْدَادِهِ، لَكِنْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْأَضْدَادِ غَيْرَ الْأَمْرِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ هُوَ بِعَيْنِهِ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَمَأْخَذُهُ أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ النَّهْيُ عَنْ أَضْدَادِهِ، فَذَلِكَ النَّهْيُ إِنْ كَانَ هُوَ غَيْرَ الْأَمْرِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضِدًّا لَهُ أَوْ مِثْلًا (1) أَوْ خِلَافًا. لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْمُضَادَّةِ، وَإِلَّا لَمَا اجْتَمَعَا، وَقَدِ اجْتَمَعَا. وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَاتِ أَضْدَادٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْكَلَامِيَّاتِ. وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ خِلَافًا، وَإِلَّا جَازَ وُجُودُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، كَمَا فِي الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَجَازَ أَنْ يُوجَدَ أَحَدُهُمَا مَعَ ضِدِّ الْآخَرِ، كَمَا يُوجَدُ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ مَعَ الْكَرَاهَةِ الْمُضَادَّةِ لِإِرَادَتِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِالْحَرَكَةِ الْمُضَادَّةِ لِلسُّكُونِ إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ السُّكُونِ مُخَالِفًا لِلْأَمْرِ بِالْحَرَكَةِ أَنْ يَجْتَمِعَ الْأَمْرُ بِالْحَرَكَةِ وَالْأَمْرُ بِالسُّكُونِ الْمُضَادِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَفِيهِ الْأَمْرُ بِالضِّدَّيْنِ مَعًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْضُ، وَإِذَا بَطُلَتِ الْمُغَايَرَةُ تَعَيَّنَ الِاتِّحَادُ. وَعَلَى هَذَا فَالْحَرَكَةُ عَيْنُ تَرْكِ   (1) الضِّدَّانِ هُمَا الْأَمْرَانِ الْوُجُودِيَّانِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا غَايَةُ الْخِلَافِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَقَدْ يَرْتَفِعَانِ مِثْلَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ، وَالْمِثْلَانِ مِثْلُ: سَوَادٍ وَسَوَادٍ. وَهُمَا مُتَضَادَّانِ إِنْ نُظِرَ إِلَى أَشْخَاصِهِمَا فِي النَّوْعِ، وَغَيْرُ مُتَضَادَّيْنِ إِنْ نُظِرَ إِلَى نَوْعِ أَشْخَاصِهِمَا، وَإِنِ اتَّحَدَ الْمَحَلُّ ازْدَادَ النَّوْعُ قُوَّةً بِتَعْدَادِ الْأَشْخَاصِ - انْظُرْ مَبْحَثَ تَعَدُّدِ الْأَحْكَامِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ لِتَعَدُّدِ الْعِلَلِ فِي ص 171 مِنْ ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَّةَ وَانْظُرْ ص 416 وَمَا بَعْدَهُ مِنْ مُسْوَدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 السُّكُونِ، وَشَغْلُ الْجَوْهَرِ بِحَيِّزٍ هُوَ عَيْنُ تَفْرِيغِهِ لِغَيْرِهِ (1) وَعَيْنُ الْقُرْبِ مِنَ الْمَشْرِقِ بِالْفِعْلِ الْوَاحِدِ هُوَ عَيْنُ الْبُعْدِ مِنَ الْمَغْرِبِ، فَطَلَبُ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ طَلَبُ الْآخَرِ لِاتِّحَادِ الْمَطْلُوبِ. وَالْجَوَابُ: عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الْمُبَاحَاتِ بَلِ الْوَاجِبَاتِ الْمُضَادَّةِ الْمَأْمُورِ بِهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مَانِعَةً مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَا فِي ذَاتِهَا كَمَا نَقُولُ فِي فِعْلِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّهُ فِي ذَاتِهِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ جِهَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ شَغْلِ مِلْكِ الْغَيْرِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا يُهَوَّلُ بِهِ مِنْ خُرُوجِ الْمُبَاحَاتِ عَنْ كَوْنِهَا مُبَاحَةً، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ قِيلَ بِكَوْنِهَا مَنْهِيًّا عَنْهَا فِي ذَوَاتِهَا. وَأَمَّا إِذَا قِيلَ بِكَوْنِهَا مَنْهِيًّا مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ يَأْمُرُ بِالْفِعْلِ مَنْ هُوَ غَافِلٌ عَنْ أَضْدَادِهِ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآمِرَ بِالشَّيْءِ عِنْدَ كَوْنِهِ آمِرًا بِهِ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ غَافِلًا عَنْ طَلَبِ تَرْكِ مَا يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ غَافِلًا عَنْ تَفْصِيلِهِ. وَنَحْنُ إِنَّمَا نُرِيدُ بِقَوْلِنَا إِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْأَضْدَادِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْأَضْدَادِ غَيْرَ الْأَمْرِ، قُلْنَا: دَلِيلُهُ مَا سَبَقَ (2) . وَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مِنَ الدَّلِيلِ، فَالْمُخْتَارُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ قِسْمُ التَّخَالُفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ انْفِكَاكِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَا مِنْ قَبِيلِ الْمُخْتَلِفَاتِ الْمُتَلَازِمَةِ كَمَا فِي الْمُتَضَايِفَاتِ (3) وَكُلِّ مُتَلَازِمَيْنِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَبِهِ   (1) فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ، وَشَغْلُ الْحَيِّزُ بِجَوْهَرٍ هُوَ عَيْنُ تَفْرِيغِهِ مِنْ غَيْرِهِ (2) أَيْ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْفِعْلِ، وَالنَّهْيَ طَلَبُ التَّرْكِ (3) الْمُخْتَلِفَانِ كُلُّ مَعْنَيَيْنِ بَيْنَهُمَا تَبَايُنٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِمَا إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ كَالْحُمْرَةِ وَالْمَزَازَةِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ فِي ذَاتِهِمَا، وَيُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَبِّ الزَّمَانِ مَثَلًا. وَقَدْ يَتَلَازَمَانِ كَمَا فِي الْمُتَضَايِفَيْنِ. وَالْمُتَضَايِفَانِ: كُلُّ نِسْبَتَيْنِ تَوَقَّفَ تَعَقُّلُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ فَوَصْفُ الْأُبُوَّةِ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِتَعَقُّلِ وَصْفِ الْبُنُوَّةِ وَكَذَا الْعَكْسُ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتُ الْأَبِ مُتَقَدِّمَةً فِي الْوُجُودِ عَلَى ذَاتِ الِابْنِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَا قَامَ بِكُلٍّ مِنْ صِفَتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 يَمْتَنِعُ (1) الْجَمْعُ بَيْنَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا، وَضِدِّ الْآخَرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمُخْتَلِفَاتِ جَوَازُهُ فِي الْبَاقِي، وَإِذَا بَطَلَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلِيلِ الِاتِّحَادِ بَطَلَ مَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ. [الْمَسْأَلَةُ السابِعَةُ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ] الْمَسْأَلَةُ السابِعَةُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَالْفُقَهَاءِ وَأَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمُتَّبِعِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ. وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْحِجَاجِ، لَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى الْإِجْزَاءِ لِيَكُونَ التَّوَارُدُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَزٍّ وَاحِدٍ، فَنَقُولُ كَوْنُ الْفِعْلِ مُجْزِئًا، قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَنَّهُ امْتَثَلَ بِهِ الْأَمْرُ عِنْدَمَا إِذَا أُتِيَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُسْقِطٌ لِلْقَضَاءِ. وَإِذَا عُلِمَ مَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ مُجْزِئًا فَقَدِ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، يَكُونُ مُجْزِئًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ امْتِثَالًا لِلْأَمْرِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَإِنَّمَا خَالَفَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي كَوْنِهِ مُجْزِئًا بِالِاعْتِبَارِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُسْقِطُ الْقَضَاءَ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ فِعْلِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ وَهُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي عَمْدِهِ. وَعَلَى هَذَا، فَكُلُّ مَنِ اسْتَدَلَّ مِنْ أَصْحَابِنَا كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْإِجْزَاءِ عَلَى كَوْنِ الْفِعْلِ امْتِثَالًا وَخُرُوجًا عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، فَقَدِ اسْتَدَلَّ عَلَى مَحَلِّ الْوِفَاقِ وَحَادَ عَنْ مَوْضِعِ النِّزِاعِ. لَكِنْ قَدْ أَوْرَدَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِشْكَالًا عَلَى تَفْسِيرِ إِجْزَاءِ الْفِعْلِ بِكَوْنِهِ مُسْقِطًا لِلْقَضَاءِ، وَقَالَ: لَوْ أُمِرَ بِالصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ فَأَتَى بِهَا مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، وَمَاتَ عَقِيبَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُجْزِئًا، وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ سَاقِطًا (2) . وَرُبَّمَا زَادَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ: يَمْتَنِعُ تَفْسِيرُ الْإِجْزَاءِ بِسُقُوطِ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّا نُعَلِّلُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ بِكَوْنِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ مُجْزِئًا، وَالْعِلَّةُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُغَايِرَةً لِلْمَعْلُولِ.   (1) وَبِهِ يَمْتَنِعُ - أَيْ بِتَقْدِيرِ التَّلَازُمِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ يَمْتَنِعُ إِلَخْ (2) يَعْنِي أَنَّهُ فَسَّرَ الْإِجْزَاءَ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ فَإِنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ قَدْ يُوجَدُ مَعَ الْإِجْزَاءِ وَنَقِيضِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وَالْوَجْهُ فِي إِبْطَالِهِمَا (1) أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِجْزَاءَ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ سُقُوطِ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا لِيَلْزَمَ مَا قِيلَ، بَلْ سُقُوطُ الْقَضَاءِ بِالْفِعْلِ فِي حَقِّ مَنْ يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ (2) . وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنَّ عِلَّةَ صِحَّةِ (3) وُجُوبِ الْقَضَاءِ إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاكُ مَا فَاتَ مِنْ مَصْلَحَةِ أَصْلِ الْعِبَادَةِ، أَوْ صِفَتِهَا، أَوْ مَصْلَحَةِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ. وَلَمْ يَجِبْ لِمَانِعٍ " لَا مَا قِيلَ " (4) . وَإِذَا تَنَقَّحَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَنَعُودُ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَنَقُولُ: الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَتَى بِهِ الْمَأْمُورُ عَلَى نَحْوِ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ وَلَا نَقْصٍ فِي صِفَتِهِ وَشَرْطِهِ، أَوْ أَتَى بِهِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْخَلَلِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: " أَنَّهُ " لَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ غَيْرَ مُجْزِئٍ وَلَا مُسْقِطٍ لِلْقَضَاءِ وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ وُرُودُ أَمْرٍ مُجَدَّدٍ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِفِعْلٍ مِثْلِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي وُرُودِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ مُتَّصِفًا بِصِفَةِ الْقَضَاءِ، وَالْحَقُّ نَفْيُهُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْأَدَاءِ، أَوْ مَصْلَحَةِ صِفَتِهِ، أَوْ شَرْطِهِ. وَإِذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ قَدْ فَعَلَ عَلَى جِهَةِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ، مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ وَلَا خَلَلٍ فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا قَدْ حَصَلَ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَمَنْ يَنْفِي الْقَضَاءَ إِنَّمَا يَنْفِيهِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَعَذَّرُ مَعَ تَحْقِيقِهِ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَ وُرُودِ الْأَمْرِ خَارِجَ الْوَقْتِ، بِمِثْلِ مَا فَعَلَ أَوَّلًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُسَمِّيهِ قَضَاءً، وَمَنْ سَمَّاهُ قَضَاءً فَحَاصِلُ النِّزَاعِ مَعَهُ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ دُونَ الْمَعْنَى.   (1) فِي إِبْطَالِهِمَا - أَيِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ وَمَا زَادَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ (2) هَذَا جَوَابٌ بِتَحْرِيرِ الْمُرَادِ بِسُقُوطِ الْقَضَاءِ (3) الْمُرَادُ بِالصِّحَّةِ الْإِمْكَانُ الْمُقَابِلُ لِلِامْتِنَاعِ لَا مَا يُقَابِلُ الْبُطْلَانَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سَابِقًا عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ فِعْلِهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ. وَقَوْلُهُ بَعْدُ وَإِنْ كَانَ لَا يُنْكِرُ إِمْكَانَ وُرُودِ الْأَمْرِ خَارِجَ الْوَقْتِ - وَكَذَا مَا يَذْكُرُهُ فِي الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ شُبَهِ الْخُصُومِ (4) أَيْ مِنْ أَنَّ عِلَّةَ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ مُجْزِئًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 شُبَهُ الْخُصُومِ: الْأُولَى أَنَّ مَنْ صَلَّى وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ - وَلَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا - مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا مَعَ الطَّهَارَةِ حَقِيقَةً فَهُوَ عَاصٍ آثِمٌ بِصَلَاتِهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا بِالصَّلَاةِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فَقَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إِذْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا. وَكَذَلِكَ الْمُفْسِدُ لِلْحَجِّ مَأْمُورٌ بِمُضِيِّهِ فِي حَجِّهِ الْفَاسِدِ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى غَيْرِ طَلَبِ الْفِعْلِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى امْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِمِثْلِ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا لَهُ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ مِثْلُ النَّهْيِ فِي الطَّلَبِ، وَالنَّهْيُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَالْأَمْرُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُجْزِئًا. وَجَوَابُ الْأُولَى: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِيمَا إِذَا صَلَّى عَلَى ظَنِّ الطَّهَارَةِ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا عَلَى قَوْلٍ لَنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ الْقَضَاءِ لَكِنَّهُ لَيْسَ وَاجِبًا عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَظْنُونِ طَهَارَتُهَا، وَلَا عَمَّا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ اسْتِدْرَاكٌ لِمَصْلَحَةِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوَّلًا مِنَ الصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ، وَالْحَجُّ الْعُرْيُ عَنِ الْفَسَادِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ أَمْرٍ يَدُلُّ عَلَى مِثْلِ مَا فَعَلَ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا الْمُدَّعَى أَنَّهُ إِذَا أَتَى الْمَأْمُورُ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا أُمِرَ بِهِ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقَضَاءِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ (1) وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ وَإِنْ سُلِّمَ صِحَّتُهُ، غَيْرَ أَنَّا لَا نَقُولُ بِأَنَّ الْأَمْرَ يَدُلُّ عَلَى الْإِجْزَاءِ بِمَعْنَى امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ، بَلِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ (2) وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.   (1) مُحَصِّلُهُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالدَّلِيلِ الثَّانِي اسْتِدْلَالٌ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ لَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. (2) أَيْ مِنْ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ شُرِعَ اسْتِدْرَاكًا لِتَحْصِيلِ مَا فَاتَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، فَوُجُوبُهُ مَعَ الِامْتِثَالِ تَحْصِيلٌ لِلْحَاصِلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ ورود صِيغَةُ افْعَلْ بَعْدَ الْحَظْرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ إِذَا وَرَدَتْ صِيغَةُ " افْعَلْ " بَعْدَ الْحَظْرِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا لِلْوُجُوبِ قَبْلَ الْحَظْرِ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهَا عَلَى الْوُجُوبِ وَلَمْ يَجْعَلْ لِسَبْقِ الْحَظْرِ تَأْثِيرًا كَالْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّهَا لِلْإِبَاحَةِ وَرَفْعِ الْحَجْرِ لَا غَيْرُ وَهُمْ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ، وَمَوْقُوفَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، إِلَّا أَنَّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِلْإِبَاحَةِ وَلِلْإِذْنِ فِي الْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ. فَإِذَا وَرَدَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ احْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مَصْرُوفَةً إِلَى الْإِبَاحَةِ وَرَفْعِ الْحَجْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} ، {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي فَادَّخِرُوا» " وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ مَصْرُوفَةً إِلَى الْوُجُوبِ، كَمَا لَوْ قِيلَ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ: إِذَا زَالَ عَنْكِ الْحَيْضُ فَصَلِّي وَصُومِي. وَعِنْدَ هَذَا فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِتَسَاوِي الِاحْتِمَالَيْنِ، أَوْ بِتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ بِالتَّسَاوِي امْتَنَعَ الْجَزْمُ بِأَحَدِهِمَا وَوَجَبَ التَّوَقُّفُ. وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ التَّرْجِيحِ وَامْتِنَاعِ التَّعَارُضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَيْسَ اخْتِصَاصُ الْوُجُوبِ بِهِ أَوْلَى مِنَ الْإِبَاحَةِ، إِلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ، كَيْفَ وَأَنَّ احْتِمَالَ الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَرْجَحُ؟ نَظَرًا إِلَى غَلَبَةِ وُرُودِ مِثْلِ ذَلِكَ لِلْإِبَاحَةِ دُونَ الْوُجُوبِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَيَمْتَنِعُ الصَّرْفُ إِلَى الْوُجُوبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ مَسْأَلَةِ أَنَّ صِيغَةَ (افْعَلْ) إِذَا وَرَدَتْ مُطْلَقَةً هَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ أَوْ مَوْقُوفَةٌ؟ وَقَدْ تَقَرَّرَ مَأْخَذُ كُلِّ فَرِيقٍ وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِيهِ. (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ إِذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةٍ فِي وَقْتٍ مُقَدَّرٍ فَلَمْ تُفْعَلْ فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ إِذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِعِبَادَةٍ فِي وَقْتٍ مُقَدَّرٍ فَلَمْ تُفْعَلْ فِيهِ لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ فُعِلَتْ فِيهِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْخَلَلِ، اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ قَضَائِهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ هَلْ هُوَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ أَوْ بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ؟ الْأَوَّلُ هُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالثَّانِي هُوَ مَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَالْمُعْتَزِلَةِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الدَّبُوسِيِّ أَنَّهُ قَالَ بِوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِقِيَاسِ الشَّرْعِ. وَإِنْ وَرَدَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ فَمَنْ قَالَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْفَوْرِ. اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا وَقَعَ الْإِخْلَالُ بِهِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ هَلْ يَجِبُ قَضَاؤُهُ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْأَمْرِ أَوْ بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ؟ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَهْمَا قُيِّدَ الْأَمْرُ بِوَقْتٍ فَالْقَضَاءُ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ. وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مُقْتَضِيًا لِلْقَضَاءِ لَكَانَ مُشْعِرًا بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ " صُمْ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ أَوْ صَلِّ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ " فَإِنَّهُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ لُغَةً. الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا عَلَّقَ الْفِعْلَ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ تَرْجِعُ إِلَى الْمُكَلِّفِ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ. وَسَوَاءٌ ظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ أَمْ لَمْ تَظْهَرْ، وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَاصِلَةً مِنَ الْفِعْلِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، أَوْ غَيْرَ حَاصِلَةٍ وَلَيْسَتْ حَاصِلَةً لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ، وَالْأَصْلُ الْعَدَمُ. الثَّانِي: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَاصِلَةً فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِثْلًا لَهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْ أَزْيَدَ، لَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ أَزْيَدَ وَإِلَّا كَانَ الْحَثُّ عَلَى إِيجَادِ الْفِعْلِ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلًا فَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ تَخْصِيصُ أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ بِالذِّكْرِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 الثَّالِثُ: أَنَّ الْفِعْلَ فِي الْوَقْتِ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ أَدَاءً، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (1) : " «لَنْ يَتَقَرَّبَ الْمُتَقَرِّبُونَ إِلَيَّ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ» ". وَإِذَا لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً فِي الْوَقْتِ الثَّانِي حَسَبَ حُصُولِهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنِ اقْتِضَاءِ الْأَمْرِ لِلْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لَهُ فِيمَا بَعْدَهُ. وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ أَمَرَ الطَّبِيبُ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ فِي وَقْتٍ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَكَذَلِكَ إِذَا عَلَّقَ الْأَمْرَ بِشَرْطٍ مُعَيَّنٍ كَاسْتِقْبَالِ جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ كَالْأَمْرِ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْوُجُوهِ الْأُوَلِ: هُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَإِلَى مَا لَا يَجِبُ كَالْجُمُعَةِ وَالْجِهَادِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ مُقْتَضِيًا لِلْقَضَاءِ لَكَانَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْقَضَاءِ فِيمَا فُرِضَ مِنَ الصُّوَرِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» " أَمَرَ بِالْقَضَاءِ، وَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَكَانَتْ فَائِدَةُ الْخَبَرِ التَّأْكِيدَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ لَكَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْسِيسَ، وَهُوَ أَوْلَى لِعِظَمِ فَائِدَتِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» " وَمَنْ فَاتَهُ الْوَقْتُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ لِلْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي. الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ، وَهُوَ مُقْتَضَاهُ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَلَا يَكُونُ مَطْلُوبًا بِالْأَمْرِ إِذْ لَيْسَ هُوَ مِنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ ظَرْفًا لِلْفِعْلِ، فَاخْتِلَالُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَهُوَ الْفِعْلُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْمَأْمُورَاتِ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ الْقَضَاءُ بِتَقْدِيرِ فَوَاتِ أَوْقَاتِهَا الْمُعَيَّنَةِ، وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ مُقْتَضٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ كُلِّ مَا سِوَى الْأَمْرِ السَّابِقِ، فَكَانَ هُوَ الْمُقْتَضَى.   (1) أَيْ عَنْ رَبِّهِ - سُبْحَانَهُ - وَهَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ قُدْسِيٍّ أَوَّلُهُ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ. . . الْحَدِيثَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِأَمْرٍ مُجَدَّدٍ لَكَانَ أَدَاءً كَمَا فِي الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلَمَا كَانَ لِتَسْمِيَتِهِ قَضَاءً مَعْنًى. الْخَامِسُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْوَقْتُ الْمَفْرُوضُ كَالْأَجَلِ لَهَا، فَفَوَاتُ أَجَلِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَهَا كَمَا فِي الدَّيْنِ لِلْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ وُجُوبُ الْفِعْلِ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ لَسَقَطَ الْمَأْثَمُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ وُجُوبِ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْوُجُوبِ، فَالْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ بِفَوَاتِ الْأَجَلِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْأَصْلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْخَبَرَ دَلِيلُ وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِمَا اسْتُطِيعَ مِنَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ أَنْ لَوْ كَانَ الْفِعْلُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي دَاخِلًا تَحْتَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ اقْتَضَى مُطْلَقَ الْفِعْلِ أَوْ فِعْلًا مَخْصُوصًا بِصِفَةِ وُقُوعِهِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّ الْقَضَاءَ فِيمَا قِيلَ بِقَضَائِهِ إِنَّمَا كَانَ بِنَاءً عَلَى أَدِلَّةٍ أُخْرَى، لَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُمُ الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، قُلْنَا: وَالْأَصْلُ عَدَمُ دَلَالَةِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، كَيْفَ وَقَدْ بَيَّنَّا عَدَمَ دَلَالَتِهِ؟ وَعَنِ الرَّابِعِ أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ قَضَاءً لِكَوْنِهِ مُسْتَدْرِكًا لِمَا فَاتَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوَّلًا، أَوْ مَصْلَحَةِ وَصْفِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. وَعَنِ الْخَامِسِ بِمَنْعِ كَوْنِ الْوَقْتِ أَجَلًا لِلْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، إِذِ الْأَجَلُ عِبَارَةٌ عَنْ وَقْتِ مُهْلَةٍ وَتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالْوَاجِبِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ، كَمَا فِي الْحَوْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ. وَلِذَلِكَ لَا يَأْثَمُ بِإِخْرَاجِ وَقْتِ الْأَجَلِ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِخْرَاجِ الْحَوْلِ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فِيهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَقْتُ الْمُقَدَّرُ لِلصَّلَاةِ، بَلْ هُوَ صِفَةُ الْفِعْلِ الْوَاجِبِ. وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ فِعْلٌ بِصِفَةٍ لَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا لَهُ دُونَ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى الْكَلَامُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ إِذَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْفَوْرِ، وَلَمْ يُؤْتَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْإِمْكَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 [الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ الْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَمْرِ الْمُكَلِّفِ لِغَيْرِهِ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ الْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَمْرِ الْمُكَلِّفِ لِغَيْرِهِ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ لَا يَكُونُ أَمْرًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ بِذَلِكَ الْفِعْلِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ لَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ لُغَةً، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَوْلِيَاءِ الصِّبْيَانِ بِقَوْلِهِ: " «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ» " أَمْرًا لِلصِّبْيَانِ بِالصَّلَاةِ مِنَ الشَّارِعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ الْمُوَجَّهَ نَحْوَ الْأَوْلِيَاءِ أَمْرُ تَكْلِيفٍ، وَلِذَلِكَ يُذَمُّ الْوَلِيُّ بِتَرْكِهِ شَرْعًا، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا أَمْرًا لِلصِّبْيَانِ لَكَانُوا مُكَلَّفِينَ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، وَخَاصَّةً ذَلِكَ لِحُقُوقِ الذَّمِّ بِالْمُخَالَفَةِ شَرْعًا، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ الصِّبْيَانِ، لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ لِخِطَابِ الشَّارِعِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ» " الْخَبَرَ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: الْأَمْرُ لِلْوَلِيِّ وَالصَّبِيِّ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا، غَيْرَ أَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِمَا مُخْتَلِفَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ اخْتِلَافُهُمَا فِي الذَّمِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَمْرًا لِلصَّبِيِّ لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لَفَهِمَ الشَّارِعِ، أَوْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لَهُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى أَمْرِ الْوَلِيِّ لَهُ، أَوْ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ تَأْكِيدًا، وَالْأَصْلُ فِي إِفَادَةِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانِيهَا إِنَّمَا هُوَ التَّأْسِيسُ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهُ فَأَمْرُهُ وَخِطَابُهُ مُمْتَنِعٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرُ الْوَلِيِّ بِأَمْرِ الصِّبْيَانِ أَمْرًا لِلصِّبْيَانِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ اقْتِضَائِهِ لِذَلِكَ لُغَةً أَوْ لِمُعَارِضٍ، وَالْمُعَارَضَةُ يَلْزَمُ مِنْهَا تَعْطِيلُ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ عَنْ إِعْمَالِهِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ اقْتِضَائِهِ لَهُ لُغَةً وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ: أَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ سَالِمٍ: " مُرْ غَانِمًا بِكَذَا "، وَيَقُولُ لِغَانِمٍ: " لَا تُطِعْهُ "، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مُنَاقَضَةً فِي كَلَامِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لِغَانِمٍ لَكَانَ كَأَنَّهُ قَالَ: " أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ طَاعَتِي وَلَا تُطِعْنِي " وَهُوَ تَنَاقُضٌ. وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْجَبَ الْآمِرُ عَلَى الْمَأْمُورِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِهِ مَالًا لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِيجَابًا لِلْإِعْطَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ عَلَى الْأُمَّةِ بِنَفْسِ ذَلِكَ الْإِيجَابِ، بَلْ إِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وَجَبَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِدَلِيلٍ آخَرَ مُوجِبٍ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَنَفْيًا لِمَا يَلْزَمُ مِنْ مُخَالَفَتِهِ مِنْ تَحْقِيرِهِ وَهَضْمِهِ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ الْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ، الْمُفْضِي إِلَى الْإِخْلَالِ بِمَقْصُودِ الْبِعْثَةِ، وَإِلَّا فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِأَحَدِ عَبْدَيْهِ: " أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنَ الْعَبْدِ الْآخَرِ كَذَا " وَيَقُولُ لِلْآخَرِ: " حَرَّمْتُ عَلَيْكَ مُوَافَقَتَهُ " مِنْ غَيْرِ مُنَاقَضَةٍ فِيمَا أَوْجَبَهُ، وَلَوْ كَانَ إِيجَابُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ إِيجَابًا عَلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ لَكَانَ تَنَاقُضًا. فَإِنْ قِيلَ وُجُوبُ الْأَخْذِ إِنَّمَا يَتِمُّ بِالْإِعْطَاءِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. قُلْنَا: إِنْ كَانَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الطَّلَبِ فَهُوَ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى الْإِعْطَاءِ. وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الْأَخْذِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ دُونَ الْإِعْطَاءِ فَلَيْسَ كُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ يَكُونُ وَاجِبًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَقْدُورًا لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ، وَإِعْطَاءُ الْغَيْرِ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا. [الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ إِذَا أَمَرَ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي اللَّفْظِ بِقَيْدٍ خَاصٍّ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (1) إِذَا أَمَرَ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي اللَّفْظِ بِقَيْدٍ خَاصٍّ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الْأَمْرُ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا، وَذَلِكَ كَالْأَمْرِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَلَا بِثَمَنِ الْمَثَلِ إِذْ هُمَا مُتَّفِقَانِ فِي مُسَمَّى الْبَيْعِ وَمُخْتَلِفَانِ بِصِفَتِهِمَا. وَالْأَمْرُ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِمَا تَخَصَّصَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَعَمِّ مُتَعَلِّقًا بِالْأَخَصِّ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تَدُلَّ الْقَرِينَةُ عَلَى إِرَادَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. قَالَ: وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْجُزْئِيَّاتِ مَعْنًى كُلِّيٌّ لَا تَصَوُّرَ لِوُجُودِهِ فِي الْأَعْيَانِ وَإِلَّا كَانَ مَوْجُودًا فِي جُزْئِيَّاتِهِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْحِصَارُ مَا يَصْلُحُ اشْتِرَاكُ كَثِيرِينَ فِيهِ فِيمَا لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهُوَ مُحَالٌ.   (1) انْظُرْ ص 196 مِنْ ج 20 وَص 299 مِنْ ج 19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى، وَص 98 مِنْ مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَةَ ط الْمَدَنِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَ مَعْنَى اشْتِرَاكِ الْجُزْئِيَّاتِ فِي الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ سِوَى أَنَّ الْحَدَّ الْمُطَابِقَ لِلطَّبِيعَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِالْكُلِّيَّةِ مُطَابِقٌ لِلطَّبِيعَةِ الْجُزْئِيَّةِ، بَلْ إِنْ تُصُوِّرَ وُجُودُهُ فَلَيْسَ فِي غَيْرِ الْأَذْهَانِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَمْرُ طَلَبُ إِيقَاعِ الْفِعْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَطَلَبُ الشَّيْءِ يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ مُتَصَوَّرًا فِي نَفْسِ الطَّالِبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. وَإِيقَاعُ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ فِي الْأَعْيَانِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَصَوَّرًا فِي نَفْسِ الطَّالِبِ فَلَا يَكُونُ آمِرًا بِهِ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَمَنْ أُمِرَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا لَا يُقَالُ إِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، فَإِذًا الْأَمْرُ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ الْجُزْئِيَّاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْأَعْيَانِ لَا بِالْمَعْنَى الْكُلِّيِّ، وَبَطَلَ مَا ذَكَرَهُ. ثُمَّ وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ الْأَمْرَ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الْمُشْتَرَكِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْبَيْعِ، فَإِذَا أَتَى الْمَأْمُورُ بِبَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ كَالْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ فَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ مُسَمَّى الْبَيْعِ الْمَأْمُورُ بِهِ الْمُوَكَّلُ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ نَظَرًا إِلَى مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ بِالْبَيْعِ. وَإِنْ قِيلَ بِالْبُطْلَانِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِعَدَمِ دَلَالَةِ الْأَمْرِ بِهِ بَلْ لِدَلِيلٍ مُعَارِضٍ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ الْأَمْرَانِ الْمُتَعَاقِبَانِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ الْأَمْرَانِ الْمُتَعَاقِبَانِ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ الثَّانِي مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ يَكُونَ مَعْطُوفًا (1) ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوْ يَتَمَاثَلَ، فَإِنِ اخْتَلَفَ فَلَا خِلَافَ فِي اقْتِضَاءِ الْمَأْمُورِينَ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْوَقْفِ، وَسَوَاءٌ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا كَالصَّلَاةِ مَعَ الصَّوْمِ أَمْ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ كَالصَّلَاةِ فِي مَكَانَيْنِ أَوِ الصَّلَاةِ مَعَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ تَمَاثَلَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ قَابِلًا لِلتَّكْرَارِ أَوْ لَا يَكُونُ قَابِلًا لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهُ كَقَوْلِهِ: " صُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، صُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " فَإِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ الْمَحْضِ، وَإِنْ كَانَ قَابِلًا لِلتَّكْرَارِ فَإِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ مِمَّا تَمْنَعُ مِنْ تَكَرُّرِهِ كَقَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ: " اسْقِنِي مَاءً اسْقِنِي مَاءً " أَوْ كَانَ الثَّانِي مِنْهُمَا   (1) الْحَامِلُ عَلَى التَّقْسِيمِ إِلَى حَالَيْنِ حَالُ الْعَطْفِ وَعَدَمِهِ وَعَلَى التَّرْدِيدِ فِي كُلِّ حَالَةٍ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: تَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ فِي كُلٍّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، الثَّانِي: بَيَانُ اخْتِلَافِ الْقِسْمَيْنِ فِي الْحُكْمِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي الْجُمْلَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 مُعَرَّفًا كَقَوْلِهِ: " أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا أَعْطِ زَيْدًا الدِّرْهَمَ " فَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي كَوْنٍ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لِلْأَوَّلِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا لَمْ تَكُنِ الْعَادَةُ مَانِعَةً مِنَ التَّكْرَارِ وَالثَّانِي غَيْرُ مُعَرَّفٍ كَقَوْلِهِ: " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ " " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ ". فَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنَّ الثَّانِي يُفِيدُ غَيْرَ مَا أَفَادَهُ الْأَوَّلُ، وَيَلْزَمُ الْإِتْيَانُ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ الثَّانِيَ لَوِ انْفَرَدَ أَفَادَ اقْتِضَاءَ الرَّكْعَتَيْنِ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَهُ أَمْرٌ آخَرُ لَأَنَّ الِاقْتِضَاءَ لَا يَخْتَلِفُ. وَخَالَفَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ بِالذَّهَابِ إِلَى الْوَقْفِ وَالتَّرَدُّدِ بَيْنَ حَمْلِ الْأَمْرِ الثَّانِي عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ التَّوْكِيدِ لِلْأَوَّلِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الْعَادَةُ مَانِعَةً مِنَ التَّكْرَارِ؛ وَلَا الثَّانِي مُعَرَّفٌ أَنَّ مُقْتَضَى الثَّانِي غَيْرُ مُقْتَضَى الْأَوَّلِ. وَسَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ مُقْتَضَى الْأَمْرِ الْوُجُوبُ أَمِ النَّدْبُ أَمْ هُوَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ كَمَا سَبَقَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُقْتَضِيًا عَيْنَ مَا اقْتَضَاهُ الْأَوَّلُ كَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْكِيدَ، وَلَوْ كَانَ مُقْتَضِيًا غَيْرَ مَا اقْتَضَاهُ الْأَوَّلُ لَكَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْسِيسَ، وَالتَّأْسِيسُ أَصْلٌ، وَالتَّأْكِيدُ فَرْعٌ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْفَائِدَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ النَّفْيِ الْأَصْلَ، وَدَلِيلُ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنَ الْقَدْرِ الزَّائِدِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا يَلْزَمُ مِنَ التَّأْكِيدِ مِنْ مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، أَوْ هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهٍ لَا خُرُوجَ لَهُ عَنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، وَحَمْلُهُ عَلَى التَّأْكِيدِ خِلَافُ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْأَمْرِ. وَإِذَا تَعَارَضَ التَّرْجِيحَانِ سَلِمَ لَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. كَيْفَ وَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَفِي تَرْكِهِ مَحْذُورٌ فَوَاتُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْوَاجِبِ وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِ التَّأْكِيدِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَفْوِيتَ مَقْصُودِ التَّأْكِيدِ وَتَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْوَاجِبِ أَوْلَى. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْأَمْرُ الثَّانِي مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُخْتَلِفًا فَلَا نِزَاعَ أَيْضًا فِي اقْتِضَائِهِمَا لِلْمَأْمُورِينَ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ يُمْكِنْ. وَإِنْ تَمَاثَلَا فَالْمَأْمُورُ بِهِ إِنْ لَمْ يَقْبَلِ التَّكْرَارَ فَالْأَمْرُ الثَّانِي لِلتَّأْكِيدِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، كَقَوْلِهِ: " صُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ "، وَإِنْ كَانَ قَابِلًا لِلتَّكْرَارِ فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْعَادَةُ مَانِعَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 مِنَ التَّكْرَارِ وَلَا الثَّانِي مُعَرَّفٌ فَالْحُكْمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَرْفَ عَطْفٍ، وَيَزِيدُ تَرْجِيحٌ آخَرُ وَهُوَ مُوَافَقَةُ الظَّاهِرِ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ". وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعَادَةُ تَمْنَعُ مِنَ التَّكْرَارِ أَوْ كَانَ الثَّانِي مُعَرَّفًا كَقَوْلِهِ: " اسْقِنِي مَاءً وَاسْقِنِي مَاءً " وَكَقَوْلِهِ: " صَلِّ رَكْعَتَيْنِ وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ " فَقَدْ تَعَارَضَ الظَّاهِرُ مِنْ حُرُوفِ الْعَطْفِ مَعَ اللَّامِ الْمُعَرَّفِ، أَوْ مَعَ مَنْعِ الْعَادَةِ مِنَ التَّكْرَارِ، وَيَبْقَى الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ حَرْفَ عَطْفٍ، وَلَا ثَمَّ تَعْرِيفٌ وَلَا عَادَةٌ مَانِعَةٌ مِنَ التَّكْرَارِ. وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ. وَأَمَّا إِنِ اجْتَمَعَ التَّعْرِيفُ وَالْعَادَةُ الْمَانِعَةُ مِنَ التَّكْرَارِ فِي مُعَارَضَةِ حَرْفِ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ: " اسْقِنِي مَاءً وَاسْقِنِي الْمَاءَ " فَالظَّاهِرُ الْوَقْفُ لِأَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحِ السَّابِقِ الْمُوجِبِ لِحَمْلِ الْأَمْرِ الثَّانِي عَلَى التَّأْسِيسِ وَاقِعٌ فِي مُقَابَلَةِ الْعَادَةِ الْمَانِعَةِ مِنَ التَّكْرَارِ وَلَامِ التَّعْرِيفِ، وَلَا يَبْعُدُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِمَا يَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ تَرْجِيحَاتٍ أُخَرَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 [الصِّنْفُ الثَّانِي فِي النَّهْيِ] [الْمَسْأَلَةُ النَّهْيَ عَنِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ الْمُفِيدَةِ لِأَحْكَامِهَا هَلْ يَقْتَضِي فَسَادَهَا] اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّهْيُ مُقَابِلًا لِلْأَمْرِ فَكُلُّ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْأَمْرِ عَلَى أُصُولِنَا وَأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مِنَ الْمُزَيَّفِ وَالْمُخْتَارِ. فَقَدْ قِيلَ مُقَابِلُهُ فِي حَدِّ النَّهْيِ وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الْكَلَامِ فِيهِ. وَالْكَلَامُ فِي النَّهْيَ " عَلَى أُصُولِ أَصْحَابِنَا " هَلْ لَهُ صِيغَةٌ تَخُصُّهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ؟ فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ أَيْضًا، وَأَنَّ صِيغَةَ " لَا تَفْعَلْ " وَإِنْ تَرَدَّدَتْ بَيْنَ سَبْعَةِ مَحَامِلَ: وَهِيَ التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْقِيرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ، وَبَيَانُ الْعَاقِبَةِ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا} ، وَالدُّعَاءُ كَقَوْلِهِ: " لَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا "، وَالْيَأْسُ كَقَوْلِهِ: {لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} ، وَالْإِرْشَادُ كَقَوْلِهِ: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} . فَهِيَ حَقِيقَةٌ فِي طَلَبِ التَّرْكِ وَاقْتِضَائِهِ، وَمَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ. وَأَنَّهَا هَلْ هِيَ حَقِّيَّةٌ (1) فِي التَّحْرِيمِ أَوِ الْكَرَاهَةِ أَوْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا أَوْ مَوْقُوفَةٌ؟ فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْمُزَيَّفِ، وَالْمُخْتَارِ، وَالْخِلَافُ فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِهِ، فَعَلَى وَزَانِ الْخِلَافِ فِي مُقَابَلَاتِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأَمْرِ وَمَأْخَذِهَا كَمَأْخَذِهَا فَعَلَى النَّاظِرِ بِالنَّقْلِ وَالِاعْتِبَارِ. غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخَاصَّةِ بِالنَّهْيِ، لِاخْتِصَاصِهَا بِمَأْخَذٍ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي مُقَابَلَاتِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأَمْرِ، وَهِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ.   (1) حَقِّيَّةٌ - الصَّوَابُ حَقِيقَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى (1) اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ الْمُفِيدَةِ لِأَحْكَامِهَا كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا هَلْ يَقْتَضِي فَسَادَهَا أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ جَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْحَنَابِلَةِ وَجَمِيعِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى فَسَادِهَا، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ الْفَسَادِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالْفَسَادِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَالْقَفَّالِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْكَرْخِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ مَشَايِخِهِمْ. وَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي أَنَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَفْسَدُ كَالنَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِعَيْنِهِ (2) فَالنَّهْيُ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ بَلْ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. أَمَّا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنًى لِكَوْنِ التَّصَرُّفُ فَاسِدًا سِوَى انْتِفَاءِ أَحْكَامِهِ وَثَمَرَاتِهِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ وَخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا مُفِيدًا لَهَا، وَالنَّهْيُ هُوَ طَلَبُ تَرْكِ الْفِعْلِ وَلَا إِشْعَارَ لَهُ بِسَلْبِ أَحْكَامِهِ وَثَمَرَاتِهِ وَإِخْرَاجِهِ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا مُفِيدًا لَهَا. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: نَهَيْتُكَ عَنْ ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ حُلَّتِ الذَّبِيحَةُ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْحِلِّ، وَنَهَيْتُكَ عَنِ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ لِعَيْنِهِ وَإِنْ فَعَلْتَ مَلَكْتَهَا، وَنَهَيْتُكَ عَنْ بَيْعِ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا لِعَيْنِهِ وَإِنْ فَعَلْتَ   (1) انْظُرْ ص 281 - 420 مِنْ ج 29 مِنْ مَجْمُوعِ فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ (2) الْمَنْهِيُّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ هُوَ مَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَعْنًى فِيهِ كَالْخَمْرِ فَإِنَّهُ نُهِيَ عَنْ شُرْبِهِ لِإِسْكَارِهِ، انْظُرْ نَقْدَ ابْنِ تَيْمِيَةَ لِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي ج 29 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 ثَبَتَ الْمِلْكُ، وَكَانَ الْبَيْعُ سَبَبًا لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَنَاقِضًا. وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنِ التَّصَرُّفِ لِعَيْنِهِ مُقْتَضِيًا لِفَسَادِهِ لَكَانَ ذَلِكَ مُتَنَاقِضًا (1) . وَأَمَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهْيَ طَلَبُ تَرْكِ الْفِعْلِ، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَقْصُودٍ دَعَا الشَّارِعُ إِلَى طَلَبِ تَرْكِ الْفِعْلِ (2) أَوْ لَا لِمَقْصُودٍ لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ لَا لِمَقْصُودٍ. أَمَّا عَلَى أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلِأَنَّهُ عَبَثٌ وَالْعَبَثُ قَبِيحٌ وَالْقَبِيحُ لَا يَصْدُرُ مِنَ الشَّارِعِ. وَأَمَّا عَلَى أُصُولِنَا (3) فَإِنَّا وَإِنْ جَوَّزْنَا خُلُوَّ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْحِكَمِ وَالْمَقَاصِدِ غَيْرَ أَنَّا نَعْتَقِدُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَشْرُوعَةَ لَا تَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ وَمَقْصُودٍ رَاجِعٍ إِلَى الْعَبْدِ، لَكِنْ لَا بِطْرِيقَ الْوُجُوبِ بَلْ بِحُكْمِ الْوُقُوعِ. فَالْإِجْمَاعُ إِذًا مُنْعَقِدٌ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْحُكْمِ، وَسَوَاءٌ ظَهَرَتْ لَنَا أَمْ لَمْ تَظْهَرْ. وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ خُلُوِّ بَعْضِ الْأَحْكَامِ عَنِ الْحِكْمَةِ إِلَّا أَنَّهُ نَادِرٌ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ الْخُلُوِّ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِدْرَاجُ مَا وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ تَحْتَ الْغَالِبِ يَكُونُ أَغْلَبَ. وَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَا لِمَقْصُودٍ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ لِمَقْصُودٍ، وَإِذَا كَانَ لِمَقْصُودٍ فَلَوْ صَحَّ التَّصَرُّفُ وَكَانَ سَبَبًا لِحُكْمِهِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودَ النَّهْيِ رَاجِحًا عَلَى مَقْصُودِ الصِّحَّةِ أَوْ مُسَاوِيًا أَوْ مَرْجُوحًا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا إِذِ الْمَرْجُوحُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا مَطْلُوبًا فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ. وَالْغَالِبُ مِنَ الشَّارِعِ إِنَّمَا هُوَ التَّقْرِيرُ لَا التَّغْيِيرُ. وَمَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا فَلَا يُرَدُّ طَلَبُ التَّرْكِ لِأَجْلِهِ، وَإِلَّا كَانَ الطَّلَبُ خَلِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ.   (1) هَذِهِ أَمْثِلَةٌ فَرْضِيَّةٌ لَمْ يَأْتِ بِمِثْلِهَا الشَّرْعُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُرُودِهَا يَكُونُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهَا مِنَ الِاسْتِدْرَاكِ وَنَحْوِهِ صَارِفًا لِلنَّهْيِ عَنِ اقْتِضَاءِ التَّحْرِيمِ وَالْفَسَادِ، وَبِذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْعِبَارَاتِ تَنَاقُضٌ (2) دَعَا الشَّارِعُ إِلَى طَلَبِ الْأَنْسَبِ أَنْ يُقَالَ: قَصَدَ إِلَيْهِ الشَّارِعُ، أَوْ رَعَاهُ فِي طَلَبٍ إِلَخْ أَدَبًا مَعَ اللَّهِ (3) عَلَى أُصُولِنَا أَيِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا فِي ج1 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 وَبِمِثْلِ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُسَاوِيًا (1) فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى مَقْصُودِ الصِّحَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ الصِّحَّةِ وَامْتِنَاعُ انْعِقَادِ التَّصَرُّفِ لِإِفَادَةِ أَحْكَامِهِ، وَإِلَّا كَانَ الْحُكْمُ بِالصِّحَّةِ خَلِيًّا عَنْ حِكْمَةٍ وَمَقْصُودٍ، ضَرُورَةَ كَوْنِ مَقْصُودِهَا مَرْجُوحًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ خَلِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ كَوْنِ النَّهْيِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ لُغَةً مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّصِّ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» " وَفِي رِوَايَةٍ: " «أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» " وَالْمَرْدُودُ مَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا مَقْبُولٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ وَلَا هُوَ مِنَ الدِّينِ فَكَانَ مَرْدُودًا. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ الْعُقُودِ بِالنَّهْيِ، فَمِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجُ ابْنِ عُمَرَ عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَمِنْهَا احْتِجَاجُ الصَّحَابَةِ عَلَى فَسَادِ عُقُودِ الرِّبَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ» " الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى حَمْلِ بَعْضِ الْمَنَاهِي عَلَى الْفَسَادِ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْجُزْءِ الْمَجْهُولِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقْتَضَى النَّهْيِ لَكَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ فَكَانَ مُقْتَضَى النَّهْيِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْفَسَادُ حَيْثُ وُجِدَ، وَإِلَّا كَانَ فِيهِ نَفْيُ الْمَدْلُولِ مَعَ تَحَقُّقِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مُخَالِفٌ لِلْأَصْلِ. الثَّانِي: النَّهْيُ مُشَارِكٌ لِلْأَمْرِ فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ وَمُخَالِفٌ لَهُ فِي طَلَبِ التَّرْكِ، وَالْأَمْرُ دَلِيلُ الصِّحَّةِ فَلْيَكُنِ النَّهْيُ دَلِيلُ الْفَسَادِ الْمُقَابِلِ لِلصِّحَّةِ، ضَرُورَةَ كَوْنِ النَّهْيِ مُقَابِلًا لِلْأَمْرِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ مُقَابِلًا لِحُكْمِ الْآخَرِ.   (1) أَيْ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَنْقُوضٌ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعِبَادَةِ لِعَيْنِهَا، فَإِنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ وَلَوْ صَرَّحَ النَّاهِي بِالصِّحَّةِ لَكَانَ مُتَنَاقِضًا. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ لُغَةً، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ دَلَالَتَهُ عَلَى الْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ وُجُوبِ تَرْجِيحِ مَقْصُودِ النَّهْيِ عَلَى مَقْصُودِ الصِّحَّةِ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ يُنَاسِبُ نَفْيَ الصِّحَّةِ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الصِّحَّةِ إِلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ شَاهِدٌ بِالِاعْتِبَارِ. وَلَوْ بَيَّنْتُمْ لَهُ شَاهِدًا بِالِاعْتِبَارِ كَانَ الْفَسَادُ لَازِمًا مِنَ الْقِيَاسِ، لَا مِنْ نَفْسِ النَّهْيِ وَلَا مِنْ مَعْنَاهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» " مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْفِعْلَ الْمَأْتِيَّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ سَبَبٌ لِتَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ حَتَّى يَكُونَ مَرْدُودًا. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْفَاعِلَ وَتَقْدِيرُهُ: مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَالْفَاعِلُ رَدٌّ أَيْ مَرْدُودٌ وَمَعْنَى كَوْنِهِ مَرْدُودًا أَنَّهُ غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهِ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْفِعْلِ أَوْلَى إِذْ هُوَ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ. قُلْنَا: إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا عَادَ إِلَى نَفْسِ الْفَاعِلِ فَكَانَ عَوْدُهُ إِلَى الْفَاعِلِ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَإِنْ عَادَ إِلَى نَفْسِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَّا أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ رَدًّا أَنَّهُ مَرْدُودٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، وَمَا لَا يَكُونُ مَقْبُولًا هُوَ الَّذِي لَا يَكُونُ مُثَابًا عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُثَابٍ غَيْرُ مُثَابٍ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ عَيْنُ مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَعَنِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ. ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُمَا عَلَى الْفَسَادِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ النَّهْيِ، بَلْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ: " «فَهُوَ رَدٌّ» " وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ (1) .   (1) أَيْ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَيُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ أَفَادَ اقْتِضَاءَ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ شَرْعًا لَا لُغَةً لِكَوْنِهِ دَلِيلًا شَرْعِيًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وَعَنِ الْإِجْمَاعِ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ احْتِجَاجِهِمْ بِدَلَالَةِ النَّهْيِ لُغَةً عَلَى الْفَسَادِ، بَلْ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَصِحُّ بِالنَّظَرِ إِلَى دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا (1) ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْنَى. وَعَنِ الثَّانِي مِنَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّهْيَ وَإِنْ كَانَ مُقَابِلًا لِلْأَمْرِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ مُقْتَضٍ لِلصِّحَّةِ، حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلْفَسَادِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا اقْتِضَاءَ الْأَمْرِ لِلصِّحَّةِ وَأَنَّ النَّهْيَ مُقَابِلٌ لَهُ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ اخْتِلَافِ حُكْمَيْهِمَا لِجَوَازِ اشْتِرَاكِ الْمُتَقَابِلَاتِ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَقَابُلُ حُكْمَيْهِمَا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلصِّحَّةِ. أَمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِلْفَسَادِ فَلَا، وَأَمَّا النَّقْضُ بِالنَّهْيِ عَنِ الْعِبَادَةِ فَمُنْدَفِعٌ، لِأَنَّهُ مَهْمَا كَانَ النَّهْيُ عَنِ الْفِعْلِ لِعَيْنِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً مَأْمُورًا بِهَا، وَمَا لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً فَلَا يُتَصَوَّرُ صِحَّتُهُ عِبَادَةً، وَإِنْ قِيلَ بِفَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ خُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِتَرْتِيبِ الْأَحْكَامِ الْخَاصَّةِ بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَخِيرِ أَنَّا لَا نَقْضِي بِالْفَسَادِ لِوُجُودِ مُنَاسِبِ الْفَسَادِ لِيَفْتَقِرَ إِلَى شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ، وَإِنَّمَا قَضَيْنَا بِالْفَسَادِ لِعَدَمِ الْمُنَاسِبِ الْمُعْتَبِرِ بِمَا بَيَّنَاهُ مِنِ اسْتِلْزَامِ النَّهْيِ لِذَلِكَ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ، وَنَقَلَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ (2) وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا قَالَا: يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ. وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّهْيَ لَوْ دَلَّ عَلَى الصِّحَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهَا بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، إِذْ (3) الْأَصْلُ عَدَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ. وَبَيَانُ امْتِنَاعِ دَلَالَتِهِ عَلَى الصِّحَّةِ بِلَفْظِهِ أَنَّ صِحَّةَ الْفِعْلِ لَا مَعْنًى لَهَا سِوَى تَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ عَلَيْهِ، وَالنَّهْيُ لُغَةً لَا يَزِيدُ عَلَى طَلَبِ تَرْكِ الْفِعْلِ وَلَا إِشْعَارَ لَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا.   (1) أَيْ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا كَانَ لِحِكْمَةٍ وَمَعْنًى رَاجِحٍ مَقْصُودٍ لِلشَّرْعِ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إِلَى آخِرِ مَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي اقْتِضَاءِ النَّهْيِ لِلْفَسَادِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى (2) أَبُو زَيْدٍ هُوَ الدَّبُوسِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ هُوَ الشَّيْبَانِيُّ (3) تَعْلِيلٌ لِلْحَصْرِ فِي أَمْرَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وَبَيَانُ امْتِنَاعِ دَلَالَتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ بِمَعْنَاهُ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُفِيدًا لِنَقِيضِهِ وَهُوَ الصِّحَّةُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى وُجُودِ النَّهْيِ حَيْثُ لَا صِحَّةَ كَالنَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَبَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَكَالنَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» "، وَالنَّهْيُ عَنْ نِكَاحِ مَا نَكَحَ الْآبَاءُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ، وَلَوْ كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلصِّحَّةِ لَكَانَ تَخَلُّفَ الصِّحَّةِ مَعَ وُجُودِ النَّهْيِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِمُعَارَضٍ أَوْ لَا لِمُعَارَضٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَمَاكِنِ الْمَكْرُوهَةِ وَعَنْ بَيْعِ الرِّبَا، فَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ لَفْظِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْبَيْعِ عَلَى عُرْفِ الشَّارِعِ وَعُرْفِ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْفِعْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي حُكْمِهِ شَرْعًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّصَرُّفُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ هُوَ التَّصَرُّفُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. قُلْنَا: أَوَّلًا لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِمَا سَبَقَ، (1) وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لَهُ عُرْفًا لَكِنْ فِي طَرَفِ الْأَوَامِرِ أَوِ النَّوَاهِي؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَعَلَى هَذَا فَالنَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ عَنِ التَّصَرُّفِ اللُّغَوِيِّ دُونَ الشَّرْعِيِّ وَإِنْ سَلَّمْنَا عُرْفَ الشَّارِعِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عُرْفَهُ فِيهَا مَا ذَكَرُوهُ، بَلْ مَا هُوَ بِحَالٍ يَصِحُّ وَيُمْكِنُ صِحَّتُهُ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ التَّصَرُّفِ مُمْكِنُ الصِّحَّةِ وُقُوعُ الصِّحَّةِ، كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَنَاهِي (2) مَعَ انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ عَنْ مَنْهِيَّاتِهَا.   (1) انْظُرْ مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ فِي ص 35 مِنْ جـ1 وَمَا عَلَيْهِ مِنَ التَّعْلِيقِ، وَارْجِعْ إِلَى ص 400 مِنْ جـ20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَةَ (2) الْمَنَاهِي: الْأَوْلَى التَّعْبِيرُ بِالنَّوَاهِي لِيَصِحَّ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ: " مَنْهِيَّاتِهَا " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي الِانْتِهَاءَ عَنْهُ دَائِمًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي الِانْتِهَاءَ عَنْهُ دَائِمًا (1) خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّاذِّينَ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " لَا تَفْعَلْ كَذَا " وَقَدَّرْنَا نَهْيَهُ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ الْقَرَائِنِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَيِّ وَقْتٍ قَدَرَ يُعَدُّ مُخَالِفًا لَنَهْيِ سَيِّدِهِ وَمُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ فِي عُرْفِ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلتَّكْرَارِ وَالدَّوَامِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: لَا خَفَاءَ بِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ يَرِدُ وَيُرَادُ بِهِ الدَّوَامُ كَمَا فِي النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ، وَقَدْ يَرِدُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الدَّوَامُ كَمَا فِي نَهْيِ الْحَائِضِ عَنِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ، وَالصُّورَتَانِ مُشْتَرِكَتَانِ فِي طَلَبِ تَرْكِ الْفِعْلِ لَا غَيْرَ، وَمُفْتَرِقَتَانِ فِي دَوَامِهِ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ وَعَدَمِ دَوَامِهِ فِي الْأُخْرَى. وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ (2) وَلَا تَجُوزُ، وَالدَّالُّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ لَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى مَا اخْتُصَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُقْتَضِيًا لِلدَّوَامِ لَكَانَ عَدَمُ الدَّوَامِ فِي بَعْضِ صُوَرِ النَّهْيِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. قُلْنَا: النَّهْيُ حَيْثُ وَرَدَ غَيْرُ مُرَادٍ بِهِ الدَّوَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِقَرِينَةٍ نَظَرًا إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. وَمَا قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاشْتِرَاكُ أَوِ التَّجَوُّزُ، قُلْنَا: وَإِنْ لَزَمَ مِنْهُ التَّجَوُّزُ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ لِافْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ غَيْرَ أَنَّ جَعْلَهُ حَقِيقَةً فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مِمَّا يُوجِبُ جَعْلُهُ مَجَازًا فِي الدَّوَامِ وَالتَّكْرَارِ لِاخْتِلَافِ حَقِيقَتِهِمَا. وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِجَعْلِهِ مَجَازًا فِي التَّكْرَارِ وَحَقِيقَةً فِي الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، بَلْ جَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي التَّكْرَارِ أَوْلَى لِإِمْكَانِ التَّجَوُّزِ بِهِ عَنِ الْبَعْضِ لِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لَهُ. وَلَوْ جَعَلْنَاهُ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ لَمَا أَمْكَنَ التَّجَوُّزُ بِهِ عَنِ التَّكْرَارِ لِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهِ لَهُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْضًا.   (1) الْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ بَعْدَ النَّهْيِ كَالنُّكْرَةِ بَعْدَ النَّفْيِ، فَيُفِيدُ عُمُومَ النَّهْيِ عَنِ الْفِعْلِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ (2) أَيْ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ لَفْظِيٍّ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاشْتِرَاكُ مَعْنَوِيًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 [الصِّنْفُ الثَّالِثُ فِي مَعْنَى الْعَامِّ وَالْخَاصِّ] [مُقَدِّمَةُ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَصِيَغِ الْعُمُومِ] وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي بَيَانِ مَعْنَى الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَصِيَغِ الْعُمُومِ. أَمَّا الْعَامُّ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْمُسْتَغْرِقُ لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَرَّفَ الْعَامَّ بِالْمُسْتَغْرِقِ، وَهُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا مِنَ التَّحْدِيدِ شَرْحَ اسْمِ الْعَامِّ حَتَّى يَكُونَ الْحَدُّ لَفْظِيًّا، بَلْ شَرْحَ الْمُسَمَّى إِمَّا بِالْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ أَوِ الرَّسْمِيِّ (1) ، وَمَا ذَكَرَهُ خَارِجٌ عَنِ الْقِسْمَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ: " ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا " فَإِنَّهُ لَفْظٌ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ مَا هُوَ صَالِحٌ لَهُ وَلَيْسَ بِعَامٍّ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّهُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، وَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ، فَإِنَّ لَفْظَ الْمَعْدُومِ وَالْمُسْتَحِيلِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، إِذِ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَالْمُسْتَحِيلُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كَانَ جَامِعًا إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ. فَإِنَّ قَوْلَنَا: عَشَرَةٌ   (1) التَّعْرِيفُ اللَّفْظِيُّ: تَبْدِيلُ لَفْظٍ بِلَفْظٍ أَوْضَحَ مِنْهُ عِنْدَ السَّامِعِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهُ كَتَعْرِيفِ الْبُرِّ بِالْقَمْحِ، وَالْهِزَبْرِ بِالْأَسَدِ، وَالْقُرْءِ بِالْحَيْضِ أَوِ الطُّهْرِ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ، أَمَّا الْحَدُّ فَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِذِكْرِ ذَاتِيَّاتِهِ أَيْ أَجْزَائِهِ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا حَقِيقَتُهُ كَتَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ أَيْ مُفَكِّرٌ. وَالرَّسْمُ تَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنُعُوتِهِ وَصِفَاتِهِ الَّتِي لَا تَتَأَلَّفُ مِنْهَا حَقِيقَتُهُ، وَلَكِنَّهَا قَائِمَةٌ بِهَا كَتَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ بِالضَّاحِكِ، فَإِنِ اجْتَمَعَ فِي التَّعْرِيفِ ذَاتِيٌّ وَغَيْرُ ذَاتِيٍّ أَيْ وَصْفٌ عَرَضِيٌّ كَانَ رَسْمًا مِثْلَ حَيَوَانٍ ضَاحِكٍ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مَنْطِقِيٌّ فَمَنْ أَرَادَ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِيهِ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كُتُبِ الْمَنْطِقِ، وَإِلَى كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ لِابْنِ تَيْمِيَةَ، لِيَعْرِفَ نَقْدَهُ إِيَّاهُمْ فِي تَقْسِيمِ الْكُلِّيِّ إِلَى ذَاتِيٍّ وَعَرَضِيٍّ، وَعَجْزَهُمْ عَنْ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وَمِائَةٌ لَيْسَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ اتِّحَادِهِ دَالًّا عَلَى شَيْئَيْنِ فَصَاعِدًا، وَهِيَ الْآحَادُ الدَّاخِلَةُ فِيهَا، وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْعَامُّ هُوَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الدَّالُّ عَلَى مُسَمَّيَيْنِ فَصَاعِدًا مُطْلَقًا مَعًا. فَقَوْلُنَا: (اللَّفْظُ) وَإِنْ كَانَ كَالْجِنْسِ لِلْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَفِيهِ فَائِدَةُ تَقْيِيدِ الْعُمُومِ بِالْأَلْفَاظِ، لِكَوْنِهِ مِنَ الْعَوَارِضِ الْحَقِيقِيَّةِ لَهَا دُونَ غَيْرِهَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ كَمَا يَأْتِي تَعْرِيفُهُ (1) . وَقَوْلُنَا: (الْوَاحِدُ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِنَا: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا، وَقَوْلُنَا: (الدَّالُّ عَلَى مُسَمَّيَيْنِ) لِيَنْدَرِجَ فِيهِ الْمَوْجُودُ وَالْمَعْدُومُ، وَفِيهِ أَيْضًا احْتِرَازٌ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُطْلَقَةِ كَقَوْلِنَا: رَجُلٌ وَدِرْهَمٌ وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الرِّجَالِ وَآحَادِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مَعًا، بَلْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. وَقَوْلُنَا: (فَصَاعِدًا) احْتِرَازٌ عَنْ لَفْظِ اثْنَيْنِ، وَقَوْلُنَا: (مُطْلَقًا) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِنَا: عَشَرَةٌ وَمِائَةٌ وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَعْدَادِ الْمُقَيَّدَةِ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى قَوْلِنَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ احْتِرَازًا عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجَازِيَّةِ. أَمَّا عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ كَوْنَهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ (2) فَالْحَدُّ لَا يَكُونُ مَعَ أَخْذِ هَذَا الْقَيْدِ جَامِعًا. وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِالتَّعْمِيمِ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى هَذَا الْقَيْدِ أَيْضًا، إِذِ اللَّفْظُ دَالٌّ عَلَى مُسَمَّيَاتِهِ مَعًا، بَلْ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَفِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ مَا يَدْرَأُ النَّقْصَ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُنَا: (الدَّالُّ عَلَى مُسَمَّيَيْنِ مَعًا) . وَأَمَّا الْخَاصُّ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ: هُوَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِعَامٍّ، وَهُوَ غَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ الْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ فِيهِ، فَإِنَّهَا لِعَدَمِ دَلَالَتِهَا لَا تُوصَفُ بِعُمُومٍ وَلَا بِخُصُوصِ. ثُمَّ فِيهِ تَعْرِيفُ الْخَاصِّ بِسَلْبِ الْعَامِّ عَنْهُ، وَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ سَلْبِ الْعَامِّ تَعَيُّنُ الْخَاصِّ.   (1) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ (2) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ، وَسَبَقَ بَعْضُ الْبَحْثِ فِيهِ بِالْمَبَادِئِ اللُّغَوِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَيْسَ تَعْرِيفُ أَحَدِهِمَا بِسَلْبِ حَقِيقَةِ الْآخَرِ عَنْهُ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّفْظَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لَفْظِ الْحَيَوَانِ وَمَا خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ خَاصٌّ، فَفِيهِ تَعْرِيفُ الْخَاصِّ بِالْخَاصِّ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْخَاصُّ قَدْ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ، الْأَوَّلُ: وَهُوَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ الَّذِي لَا يَصْلُحُ مَدْلُولُهُ لِاشْتِرَاكِ كَثِيرِينَ فِيهِ كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَنَحْوِهِ، الثَّانِي: مَا خُصُوصِيَّتُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَحْدُّهُ أَنَّهُ اللَّفْظُ الَّذِي يُقَالُ عَلَى مَدْلُولِهِ وَعَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ لَفْظٌ آخَرُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ، وَيُقَالُ عَلَى مَدْلُولِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ كَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ لَفْظُ الْحَيَوَانِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذَا تَحَقَّقَ مَعْنَى الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ يَنْقَسِمُ إِلَى عَامٍّ لَا أَعَمَّ مِنْهُ كَالْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَالْمَعْلُومَ وَالْمَجْهُولَ، وَإِلَى خَاصٍّ لَا أَخَصَّ مِنْهُ كَأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَإِلَى مَا هُوَ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ، وَخَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ كَلَفْظِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا تَحْتَهُ مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَخَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُ كَلَفْظِ الْجَوْهَرِ وَالْجِسْمِ. وَأَمَّا صِيَغُ الْعُمُومِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا فَهِيَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً فِيمَنْ يَعْقِلُ جَمْعًا وَأَفْرَادًا مِثْلَ (أَيْ) فِي الْجَزَاءِ وَالِاسْتِفْهَامِ، وَأَسْمَاءِ الْجُمُوعِ الْمُعَرَّفَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ، سَوَاءٌ كَانَ جَمْعَ سَلَامَةٍ أَوْ جَمْعَ تَكْسِيرٍ (كَالْمُسْلِمِينَ وَالرِّجَالِ) ، وَالْمُنَكَّرَةِ (كَرِجَالٍ وَمُسْلِمِينَ) وَالْأَسْمَاءِ الْمُؤَكِّدَةِ لَهَا مِثْلِ (كُلٍّ وَجَمِيعٍ) ، وَاسْمِ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ (كَالرَّجُلِ وَالدِّرْهَمِ) ، وَالنَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ كَقَوْلِكَ (لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ) وَ (مَا فِي الدَّارِ مِنْ رَجُلٍ) ، وَالْإِضَافَةِ كَقَوْلِكَ (ضَرَبْتُ عَبِيدِي) وَ (أَنَفَقْتُ دَرَاهِمِي) . وَإِمَّا عَامَّةً فِيمَنْ يَعْقِلُ دُونَ غَيْرِهِ (كَمَنْ) فِي الْجَزَاءِ وَالِاسْتِفْهَامِ تَقُولُ: مَنْ عِنْدَكَ؟ وَمَنْ جَاءَنِي أَكْرَمْتُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وَإِمَّا عَامَّةً فِيمَا لَا يَعْقِلُ؛ إِمَّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِجِنْسٍ مِثْلَ (مَا) فِي الْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ، وَالِاسْتِفْهَامِ تَقُولُ: مَاذَا صَنَعْتَ؟ ، وَإِمَّا لَا مُطْلَقًا، بَلْ مُخْتَصَّةً بِبَعْضِ أَجْنَاسِ مَا لَا يَعْقِلُ مِثْلَ (مَتَى) فِي الزَّمَانِ جَزَاءً وَاسْتِفْهَامًا، وَ (أَيْنَ) وَ (حَيْثُ) فِي الْمَكَانِ جَزَاءً وَاسْتِفْهَامًا تَقُولُ: مَتَى جَاءَ الْقَوْمُ؟ وَمَتَى جِئْتَنِي أَكْرَمْتُكَ وَأَيْنَ كُنْتَ؟ وَأَيْنَمَا كُنْتَ أَكْرَمْتُكَ. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا أَرَدْنَاهُ مِنْ بَيَانِ الْمُقَدِّمَةِ فَلْنَشْرَعِ الْآنَ فِي الْمَسَائِلِ وَهِيَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً. [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى (1) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ الْأَلْفَاظِ حَقِيقَةً، وَاخْتَلَفُوا فِي عَرُوضِهِ حَقِيقَةً لِلْمَعَانِي فَنَفَاهُ الْجُمْهُورُ وَأَثْبَتَهُ الْأَقَلُّونَ. وَقَدِ احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ بِقَوْلِهِمُ الْإِطْلَاقُ شَائِعٌ ذَائِعٌ فِي لِسَانِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِقَوْلِهِمُ: عَمَّ الْمَلِكُ النَّاسَ بِالْعَطَاءِ وَالْإِنْعَامِ، وَعَمَّهُمُ الْمَطَرُ وَالْخِصْبُ وَالْخَيْرُ وَعَمَّهُمُ الْقَحْطُ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنَ الْمَعَانِي لَا مِنَ الْأَلْفَاظِ. وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. أَجَابَ النَّافُونَ بِأَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي مَجَازٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْمَعَانِي لَاطَّرَدَ فِي كُلِّ مَعْنًى إِذْ هُوَ لَازِمُ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ شَيْءٌ مِنَ الْخَاصَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي امْتِدَادِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا كَزَيْدِ وَعَمْرٍو بِكَوْنِهِ عَامًّا لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. الثَّانِي: أَنَّ مِنْ لَوَازِمِ الْعَامِّ أَنْ يَكُونَ مُتَّحِدًا وَمَعَ اتِّحَادِهِ مُتَنَاوِلًا لِأُمُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالْعَطَاءُ وَالْإِنْعَامُ الْخَاصُّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرُ الْخَاصِّ بِالْآخَرِ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْمَطَرُ فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ اخْتُصَّ مِنْهُ بِجُزْءٍ مِنَ الْأَرْضِ لَا وُجُودَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي الْخِصْبِ وَالْقَحْطِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ   (1) انْظُرْ ص 188 - 191 مِنْ ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَةَ وَص 97 مِنْ مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَةَ ط الْمَدَنِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ذَلِكَ مَا هُوَ مَعَ اتِّحَادِهِ يَتَنَاوَلُ أَشْيَاءَ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يَكُنْ عَامًّا حَقِيقَةً بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ كَلَفْظِ الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ. أَجَابَ الْمُثْبِتُونَ عَنِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ الْعُمُومَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطَّرِدًا فِي كُلِّ مَعْنًى، فَهُوَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِي كُلِّ لَفْظٍ، فَإِنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْلَامِ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَنَحْوِهِ لَا يُتَصَوَّرُ عَرُوضِ الْعُمُومِ لَهَا لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، فَإِنْ كَانَ عَدَمُ اطِّرَادِهِ فِي الْمَعَانِي مِمَّا يُبْطِلُ عَرُوضُهُ لِلْمَعَانِي حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ فِي الْأَلْفَاظِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ فِي الْأَلْفَاظِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَعَانِي، ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَرْقِ. وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ تَعَذَّرَ عَرُوضُ الْعُمُومِ لِلْمَعَانِي الْجُزْئِيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي امْتِدَادِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا حَقِيقَةً، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ عَرُوضِهِ لِلْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ الْمُتَصَوَّرَةِ فِي الْأَذْهَانِ، كَالْمُتَصَوَّرَةِ مِنْ مَعْنَى الْإِنْسَانِ الْمُجَرِّدِ عَنِ الْأُمُورِ الْمُوجِبَةِ لِتَشْخِيصِهِ وَتَعْيِينِهِ، فَإِنَّهُ مَعَ اتِّحَادِهِ فَمُطَابِقٌ لِمَعْنَاهُ وَطَبِيعَتِهِ لِمَعَانِي الْجُزْئِيَّاتِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَمُطَابَقَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْعَامِّ لِمَدْلُولَاتِهِ. وَإِذَا كَانَ عَرُوضُ الْعُمُومِ لِلَّفْظِ حَقِيقَةً إِنَّمَا كَانَ لِمُطَابَقَتِهِ مَعَ اتِّحَادِهِ لِلْمَعَانِي الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. فَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُزْئِيَّاتِهَا، فَكَانَ الْعُمُومُ مِنْ عَوَارِضِهَا حَقِيقَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَعْنَى الْعُمُومِ وهَلْ لَهُ فِي اللُّغَةِ صِيغَةٌ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (1) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ: هَلْ لَهُ فِي اللُّغَةِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لَهُ خَاصَّةٌ بِهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَتِ الْمُرْجِئَةُ (2) إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ لَا صِيغَةَ لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الصِّيَغِ حَقِيقَةٌ فِي الْعُمُومِ مَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَالَفَ فِي الْجَمْعِ الْمُنْكَرِ وَالْمَعْرُوفِ وَاسْمِ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ كَمَا يَأْتِي تَعْرِيفُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي هَاشِمٍ (3) . وَذَهَبَ أَرْبَابُ الْخُصُوصَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ حَقِيقَةٌ فِي الْخُصُوصِ وَمَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ (4) فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَالْآخَرُ: الْوَقْفُ وَهُوَ عَدَمُ الْحُكْمِ بِشَيْءٍ مِمَّا قِيلَ فِي الْحَقِيقَةِ (5) فِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ أَوِ الِاشْتِرَاكِ، وَوَافَقَهُ عَلَى الْوَقْفِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ (6) . وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ.   (1) انْظُرْ ص2 - 3 مِنْ ج4 مِنْ بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ لِابْنِ الْقَيِّمِ طَبْعَ مُنِيرٍ (2) الْإِرْجَاءُ: التَّأْخِيرُ، وَالْمُرْجِئَةُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ أَصْنَافٌ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ كَجَهْمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ مُجَرَّدُ النُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ كَالْكَرَامِيَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: التَّصْدِيقُ وَعَمَلُ الْقَلْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْإِيمَانُ التَّصْدِيقُ وَقَوْلُ اللِّسَانِ وَهُمْ مُرْجِئَةُ الْفُقَهَاءِ، وَسُمُّوا مُرْجِئَةً لِتَأْخِيرِهِمْ بَعْضَ مُسَمَّى الْإِيمَانِ عَنِ الدُّخُولِ فِي مَفْهُومِهِ، وَهُنَاكَ طَوَائِفُ أُخْرَى مِنَ الْمُرْجِئَةِ، فَمَنْ أَرَادَ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِيهَا فَلْيَرْجِعْ إِلَى كِتَابِ الْإِيمَانِ لِابْنِ تَيْمِيَةَ وَكُتُبِ الْفِرَقِ (3) أَبُو هَاشِمٍ: هُوَ عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْجُبَّائِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ (4) أَيِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ (5) فِي الْحَقِيقَةِ - لَعَلَّهُ مِنَ الْحَقِيقَةِ - لِيَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ: مِمَّا قِيلَ (6) هُوَ الْبَاقِلَّانِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وَمِنَ الْوَاقِفِيَّةِ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَقَالَ بِالْوَقْفِ فِي الْإِخْبَارِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي الْخُصُوصِ لِكَوْنِهِ مُرَادًا مِنَ اللَّفْظِ يَقِينًا سَوَاءٌ أُرِيدَ بِهِ الْكُلُّ أَوِ الْبَعْضُ، وَالْوَقْفُ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ (1) وَمِنْهَاجِ الْكَلَامِ، فَعَلَى مَا عُرِفَ فِي التَّوَقُّفِ فِي الْأَمْرِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، فَعَلَيْكَ بِنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِذِكْرِ شُبَهِ الْمُخَالِفِينَ وَالِانْفِصَالِ عَنْهَا. وَلْنَبْدَأْ مِنْ ذَلِكَ بِشُبَهِ أَرْبَابِ الْعُمُومِ وَهِيَ نَصِّيَّةٌ وَإِجْمَاعِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ. أَمَّا النَّصِّيَّةُ فَمِنْهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} تَمَسُّكًا مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَهْلَكَ) وَأَقَرَّهُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَأَجَابَهُ بِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ إِضَافَةَ الْأَهْلِ إِلَى نُوحٍ لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. وَمِنْهَا «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى: " لَأَخْصِمَنَّ مُحَمَّدًا " ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: " وَقَدْ عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ أَفَتَرَاهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ؟» (2) وَاسْتَدَلَّ بِعُمُومِ (مَا) وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ، بَلْ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى غَيْرَ مُنْكِرٍ لِقَوْلِهِ، بَلْ مُخَصِّصًا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (3)   (1) الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ عَلَى أَيِّ حَالٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتِحْكَامِ النِّزَاعِ فِيهَا وَفِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْعُمُومِ مِمَّا يَزِيدُ الْبَاحِثَ يَقِينًا بِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ ظَنِّيٌّ (2) ذَكَرَ الْآمِدِيُّ بَعْضَ قِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزِّبَعْرَى مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُجْمَلَةً وَتَصَرَّفَ فِي الْعِبَارَةِ، وَإِذَا أَرَدْتَهَا مُفَصَّلَةً فَارْجِعْ إِلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَالْبَغَوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عِنْدَ تَفْسِيرِهِمْ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَإِلَى مَا كَتَبَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَلَيْهَا فِي تَخْرِيجِهِ لِأَحَادِيثِ الْكَشَّافِ (3) يَرَى ابْنُ جَرِيرٍ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الْآيَاتُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَلَيْسَ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ) لِأَنَّ (مَا) لِغَيْرِ الْعَاقِلِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَصْنَامُ وَمَا فِي حُكْمِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ - قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ فَهِمْ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الْعُمُومَ حَيْثُ ذَكَرَ لُوطًا، وَالْمَلَائِكَةُ أَقَرُّوهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَابُوهُ بِتَخْصِيصِ لُوطٍ وَأَهْلِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَاسْتِثْنَاءِ امْرَأَتِهِ مِنَ النَّاجِينَ. وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعِيَّةُ فَمِنْهَا احْتِجَاجُ عُمَرَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ: كَيْفَ تُقَاتِلُهُمْ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ» " وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ احْتِجَاجَهُ بِذَلِكَ، بَلْ عَدَلَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى التَّعْلِيقِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِلَّا بِحَقِّهَا» "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ لِلْعُمُومِ. وَمِنْهَا احْتِجَاجُ فَاطِمَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي تَوْرِيثِهَا مِنْ أَبِيهَا فَدَكَ وَالْعَوَالِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ عَدَلَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى مَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى دَلِيلِ التَّخْصِيصِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» " وَمِنْهَا احْتِجَاجُ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} ، وَاحْتِجَاجُ عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا صِحَّةَ مَا احْتَجَّ بِهِ. وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْأَزْوَاجُ الْمُضَافَةَ، وَالْأُخْتَانِ عَلَى الْعُمُومِ. وَمِنْهَا أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ الشَّاعِرِ (1) : أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ قَالَ لَهُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يَزُولُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ، وَلَوْلَا أَنَّ (كُلُّ) لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ.   (1) هُوَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وَمِنْهَا احْتِجَاجُ أَبِي بَكْرٍ عَلَى الْأَنْصَارِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» " (1) وَوَافَقَهُ الْكُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِجَاجِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُ (الْأَئِمَّةُ) عَامًّا لَمَا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ. وَمِنْهَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى إِجْرَاءِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} وَ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وَ {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا} وَ {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وَ {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَ {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» "، " «وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا» "، " «وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ» " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ. وَأَمَّا الشُّبَهُ الْمَعْنَوِيَّةُ فَمِنْهَا أَنَّ الْعُمُومَ مِنَ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ وَالْحَاجَةُ مُشْتَدَّةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ فِي التَّخَاطُبِ، وَذَلِكَ مِمَّا تُحِيلُ الْعَادَةُ مَعَ تَوَالِي الْأَعْصَارِ عَلَى أَهْلِ اللُّغَةِ إِهْمَالَهُ وَعَدَمَ تَوَاضُعِهِمْ عَلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَقَاصَرُ فِي دَعْوَى الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَسَائِرِ الْأَعْدَادِ وَالْخَبَرِ وَالِاسْتِخْبَارِ وَالتَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي وَالنِّدَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي لَهَا الْأَسْمَاءُ، وَرُبَّمَا وَضَعُوا لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُسَمَّيَاتِ أَلْفَاظًا مُتَرَادِفَةً مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا وَمِنْهَا مَا يَخُصُّ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ قَبْلُ. أَمَّا (مَنْ) الِاسْتِفْهَامِيَّةُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَنْ جَاءَكَ؟ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْخُصُوصِ أَوِ الْعُمُومِ أَوْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا أَوْ مَوْقُوفَةً، أَوْ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا حَقِيقَةً وَلَا تَجَوُّزًا، وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ أَنْ يُجَابَ بِجُمْلَةِ الْعُقَلَاءِ، لِكَوْنِهِ جَوَابًا مَا سَأَلَ عَنْهُ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً أَوْ مَوْقُوفَةً، وَإِلَّا لَمَا حَسُنَ الْجَوَابُ بِشَيْءٍ إِلَّا بَعْدَ   (1) حَدِيثُ الْأَئِمَّةِ مِنْ قُرَيْشٍ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ أُخْرَى مِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ "، وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ "، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي رِوَايَاتِ أَحَادِيثِ هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ الْإِمَامَةِ مِنْ تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 الِاسْتِفْهَامِ عَنْ مُرَادِ السَّائِلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالْأَخِيرِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى إِبْطَالِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ. وَأَمَّا الشَّرْطِيَّةُ وَهِيَ عِنْدَمَا إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأُكْرِمَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا أَكْرَمَ كُلَّ دَاخِلٍ لَا يَحْسُنُ مِنَ السَّيِّدِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَخَلَّ بِإِكْرَامِ بَعْضِ الدَّاخِلِينَ فَإِنَّهُ يَحْسُنُ لَوْمُهُ وَتَوْبِيخُهُ فِي الْعُرْفِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ، وَلَوْلَا أَنَّ (مَنْ) لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِي جَمِيعِ الْحُرُوفِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلشَّرْطِ وَالِاسْتِفْهَامِ مِثْلَ مَا وَأَيُّ وَمَتَى وَأَيْنَ وَكَمْ وَكَيْفَ وَنَحْوِهِ وَمُؤَكِّدَاتُهَا مِثْلَ كُلٍّ وَجَمِيعٍ فَإِنَّهَا لِلْعُمُومِ. وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِعَبْدِهِ: أَكْرِمْ كُلَّ مَنْ رَأَيْتَهُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ اللَّوْمُ بِإِكْرَامِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَا يَسْقُطُ بِتَقْدِيرِ إِخْلَالِهِ بِإِكْرَامِ الْبَعْضِ، وَإِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا الْفُسَّاقَ وَذَلِكَ دَلِيلُ الْعُمُومِ كَمَا سَبَقَ (1) . الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: " رَأَيْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْبَلَدِ " فَإِنَّهُ يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ لِبَعْضِهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلَ: " كُلُّ النَّاسِ عُلَمَاءٌ " كَذَّبَهُ قَوْلُ الْقَائِلِ: " كُلُّ النَّاسِ لَيْسُوا عُلَمَاءً ". وَلَوْ لَمْ يَكُنِ اسْمُ (كُلُّ) لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُكَذِّبًا لِلْآخَرِ، لِجَوَازِ أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا تَنَاوَلَهُ الْآخَرُ. الرَّابِعُ: أَنَّا نُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ (كَلُّ) وَ (بَعْضُ) وَلَوْ كَانَ مُفِيدًا لِلْعُمُومِ لَمَا تَحَقَّقَ الْفَرْقُ، لِكَوْنِهِ مُسَاوِيًا فِي الْإِفَادَةِ لِلْبَعْضِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: كُلُّ النَّاسِ يُفِيدُ الْعُمُومَ وَلَكِنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْهُ تَارَةً عَنِ الْبَعْضِ وَتَارَةً عَنِ الْعُمُومِ حَقِيقَةً لَكَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: كُلُّهُمْ بَيَانًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فِيمَا دَخَلَ عَلَيْهِ لَا تَأْكِيدًا لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ عَيْنًا بَاصِرَةً.   (1) أَيْ مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مُفِيدٌ لِلْعُمُومِ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وَأَمَّا الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ (1) فَهُوَ لِلْعُمُومِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَثْرَةَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ تَزِيدُ عَلَى كَثْرَةِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ، وَلِهَذَا يُقَالُ رِجَالٌ مِنَ الرِّجَالِ وَلَا عَكْسَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفِيدًا لِلِاسْتِغْرَاقِ أَوْ لِلْعَدَدِ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي، لِأَنَّ (2) مَا مِنْ عَدَدٍ يُفْرَضُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا وَيَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّهُ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَطْلُوبُ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ تَأْكِيدُهُ بِمَا هُوَ مُفِيدٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَالتَّأْكِيدُ إِنَّمَا يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الْمُؤَكَّدِ لَا أَمْرًا جَدِيدًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُؤَكَّدُ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ لَمَا كَانَ الْمُؤَكِّدُ مُفِيدًا لَهُ، أَوْ كَانَ مُفِيدًا لِأَمْرٍ جَدِيدٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ كَقَوْلِهِ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، أَوْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ رَجُلٍ فَإِنَّ الْقَائِلَ لِذَلِكَ يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ رُؤْيَتِهِ لِرَجُلٍ مَا، وَأَنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ بِقَوْلِهِ إِلَّا زِيدٌ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ تَكْذِيبُهُ بِأَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا كَمَا وَرَدَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} تَكْذِيبًا لِمَنْ قَالَ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا لِلْعُمُومِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ قَوْلُنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَوْحِيدًا، لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ كُلِّ إِلَهٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا الْإِضَافَةُ كَقَوْلِهِ: أَعْتَقْتُ عَبِيدِي وَإِمَائِي فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ بِدَلِيلِ لُزُومِ الْعِتْقِ فِي الْكُلِّ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ أَيِّ الْعَبِيدِ شَاءَ وَأَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ الْإِمَاءِ مَنْ شَاءَ دُونَ رِضَى الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: الْعَبِيدُ الَّذِينَ هُمْ فِي يَدِي لِفُلَانٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الْجِنْسُ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَلَا عَهْدَ فَإِنَّهُ لِلْعُمُومِ لِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلَ: رَأَيْتُ إِنْسَانًا أَفَادَ رُؤْيَةَ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ مُفِيدَةً لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَتْ مُعَطَّلَةً، لِتَعَذُّرِ حَمْلِهَا عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا دُونَهَا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.   (1) أَيْ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ كَمَا تَقَدَّمَ (2) لِأَنَّ - الصَّوَابُ لِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ نَعْتُهُ بِالْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ لِلْعُمُومِ، فَكَذَلِكَ الْمَنْعُوتُ بِهِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمْ: أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ وَالدِّرْهَمُ الْبِيضُ، وَأَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وَهُوَ دَلِيلُ الْعُمُومِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ يَقُولُ: إِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ الدَّاخِلَةَ عَلَى الِاسْمِ الْمُفْرَدِ وَالْجَمْعِ تُفِيدُ الْعُمُومَ، وَقَائِلٌ بِالنَّفْيِ مُطْلَقًا. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ فِي الْجَمْعِ، فَالتَّفْرِقَةُ تَكُونُ قَوْلًا بِتَفْصِيلٍ لَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ (1) . الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْمَعْهُودِ عَائِدَةً إِلَى جَمِيعِهِ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ عَوْدِهَا إِلَى الْبَعْضِ مِنْهُ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ. وَأَمَّا الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِلْعُمُومِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ رِجَالٌ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ جَمْعٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، حَتَّى الْجَمْعُ الْمُسْتَغْرَقُ فَإِذَا حُمِلَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ كَانَ حَمْلًا لَهُ عَلَى جَمِيعِ حَقَائِقِهِ فَكَانَ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ الْبَعْضَ لِعَيْنِهِ، وَإِلَّا كَانَ مُرَادُهُ مُبْهَمًا فَحَيْثُ لَمْ يُعَيِّنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَصِحُّ دُخُولُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْجِنْسِ فَكَانَ لِلْعُمُومِ. وَمِنْ شُبَهِهِمْ أَنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ تَأْكِيدِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، فَقَالُوا فِي الْخُصُوصِ: رَأَيْتُ زَيْدًا عَيْنَهُ نَفْسَهُ، وَلَا يَقُولُونَ كُلُّهُمْ: رَأَيْتُ زَيْدًا أَجْمَعِينَ، وَقَالُوا فِي الْعُمُومِ: رَأَيْتُ الرِّجَالَ كُلَّهُمْ أَجْمَعِينَ، وَلَا يَقُولُونَ: رَأَيْتُ الرِّجَالَ عَيْنَهُ نَفْسَهُ، وَاخْتِلَافُ التَّأْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمُؤَكَّدِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ مُطَابِقٌ لِلْمُؤَكَّدِ. وَمِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْبَارِي تَعَالَى قَدْ كَلَّفَنَا أَحْكَامًا تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تُفِيدُهُ لَمَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ لِعَدَمِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ بِهِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ مُحَالٌ.   (1) هَذَا الدَّلِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ إِحْدَاثِ قَوْلٍ ثَالِثٍ إِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ عَصْرٍ سَابِقٍ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 وَأَمَّا شُبَهُ أَرْبَابِ الْخُصُوصِ، فَأَوَّلُهَا: أَنَّ تَنَاوُلَ اللَّفْظِ لِلْخُصُوصِ مُتَيَقَّنٌ، وَتَنَاوُلَهُ لِلْعُمُومِ مُحْتَمَلٌ، فَجَعْلُهُ حَقِيقَةً فِي الْمُتَيَقَّنِ أَوْلَى. وَثَانِيهُمَا: أَنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الصِّيَغِ فِي الْخُصُوصِ دُونَ الْعُمُومِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: جَمَعَ السُّلْطَانُ التُّجَّارَ وَالصُّنَّاعَ وَكُلَّ صَاحِبِ حِرْفَةٍ، وَأَنْفَقْتُ دَرَاهِمِي، وَصَرَمْتُ نَخِيلِي وَنَحْوُهُ. فَكَانَ جَعْلُهَا حَقِيقَةً فِيمَا اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ أَغْلَبُ، أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَكْرِمِ الرِّجَالَ، وَمَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا، وَمَتَى جَاءَكَ فَقِيرٌ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِ، وَمَتَى جَاءَ زَيْدٌ فَأَكْرِمْهُ " وَأَيْنَ كَانَ، وَحَيْثُ حَلَّ، فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْسَارُ عَنْ إِرَادَةِ الْبَعْضِ وَيَحْسُنُ الِاسْتِفْسَارُ عَمَّا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَكَانَ جَعْلُ هَذِهِ الصِّيَغِ حَقِيقَةً فِيمَا لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْسَارُ عَنْهُ دُونَ مَا يَحْسُنُ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ " رَأَيْتُ الرِّجَالَ " لِلْعُمُومِ لَكَانَ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ كَانَ الْمُخْبِرُ كَاذِبًا، كَمَا لَوْ قَالَ: " رَأَيْتُ عِشْرِينَ وَلَمْ يَرَ غَيْرَ عَشَرَةٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ لِلْخُصُوصِ، وَأُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ. وَخَامِسُهَا: لَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ، لَكَانَ تَأْكِيدُهَا غَيْرَ مُفِيدٍ لِغَيْرِ مَا أَفَادَتْهُ، فَكَانَ عَبَثًا، وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهَا نَقْضًا. وَسَادِسُهَا: (وَيَخُصُّ مَنْ) مِنْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَمَا أُجْمِعَتْ لَأَنَّ الْجَمْعَ لَا بُدَّ وَأَنْ يُفِيدَ مَا لَا يُفِيدُهُ الْمَجْمُوعُ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ كَثْرَةٌ، فَلَا يُجْمَعُ، وَقَدْ جُمِعَتْ فِي بَابِ حِكَايَةِ النَّكِرَاتِ عِنْدَ الِاسْتِفْهَامِ. فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: جَاءَنِي رِجَالٌ. قُلْتُ: مَنُونْ؟ فِي حَالَةِ الْوَقْفِ دُونَ الْوَصْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: أَتَوْا نَارِي، فَقُلْتُ: مَنُونُ أَنْتُمْ؟ ... فَقَالُوا: الْجِنُّ. قُلْتُ عَمُوا ظَلَامَا (1) فَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ شَاذٌّ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ.   (1) 1 - ذَكَرَ الْأُسْتَاذُ مُحْيِي الدِّينِ عَبْدُ الْحَمِيدِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَوْضَحِ الْمَسَالِكِ: أَنَّ هَذَا الْبَيْتَ لِشُمَيْرٍ - بِالْمُعْجَمَةِ وَقِيلَ بِالْمُهْمَلَةِ - ابْنِ الْحَارِثِ الضَّبِّيِّ، وَفِي الْخُضَرِيِّ عَلَى ابْنِ عَقِيلٍ قَوْلٌ آخَرُ: بِأَنَّ الْقِصَّةَ أُكْذُوبَةٌ مِنْ أَكَاذِيبِ الْعَرَبِ، وَالْبَيْتُ شَاذٌّ لِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ وَهِيَ: كَوْنُهُ حِكَايَةً بِمَنْ وَصْلًا لِمُعَرَّفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ تَقْدِيرُهُ: قَالُوا أَتَيْنَا، وَتَحَرُّكُ النُّونِ الثَّانِيَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 وَأَمَّا شُبَهُ أَرْبَابِ الِاشْتِرَاكِ (1) : فَأَوَّلُهَا: أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ وَالصِّيَغَ قَدْ تُطْلَقُ لِلْعُمُومِ تَارَةً وَلِلْخُصُوصِ تَارَةً، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَحَقِيقَةُ الْخُصُوصِ غَيْرُ حَقِيقَةِ الْعُمُومِ، فَكَانَ اللَّفْظُ الْمُتَّحِدُ الدَّالُّ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً مُشْتَرِكًا كَلَفْظِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ وَنَحْوِهِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَحْسُنُ عِنْدَ إِطْلَاقِ هَذِهِ الصِّيَغِ الِاسْتِفْهَامُ مِنْ مُطْلَقِهَا أَنَّكَ أَرَدْتَ الْبَعْضَ أَوِ الْكُلَّ، وَحُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَلِيلُ الِاشْتِرَاكِ (2) ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ جِهَةِ الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا شُبَهُ مَنْ قَالَ بِالتَّعْمِيمِ فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي دُونَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى التَّكَالِيفِ بِأَوَامِرَ عَامَّةٍ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ وَبِنَوَاهٍ عَامَّةٍ لَهُمْ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ التَّكْلِيفُ عَامًّا، أَوْ كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَكْلِيفٍ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ يَجُوزُ وُرُودُهُ بِالْمَجْهُولِ، وَلَا بَيَانَ لَهُ أَصْلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} ، {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرً} بِخِلَافِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وَرَدَ بِالْمُجْمَلِ كَقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، وَقَوْلِهِ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بَيَانٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ مُتَأَخِّرٍ أَوْ مُقَارَنٍ. وَالْجَوَابُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ عَنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الشُّبَهِ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، فَعَلَيْكَ بِنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ: أَمَّا مَا ذَكَرَهُ أَرْبَابُ الْعُمُومِ مِنَ الْآيَاتِ، أَمَّا قِصَّةُ نُوحٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْأَهْلِ قَدْ تُطْلَقُ تَارَةً لِلْعُمُومِ وَتَارَةً لِلْخُصُوصِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جَمَعَ السُّلْطَانُ أَهْلَ الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْمَعِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ وَالْمَرْضَى (3) . وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ (الْقَوْلُ)   (1) الِاشْتِرَاكُ - أَيِ اللَّفْظِيُّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ (2) الِاشْتِرَاكُ - أَيِ اللَّفْظِيُّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ (3) إِنَّمَا أُرِيدَ بِأَهْلِ الْبَلَدِ الْخُصُوصُ فِي هَذَا الْمِثَالِ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِعَدَمِ دَعْوَةِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَرْضَى، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ إِلَى مَجْلِسِ السُّلْطَانِ، وَقَضَاءُ الْعَادَةِ بِعَدَمِ حُضُورِهِمْ فِيهِ لِقِيَامِ الْعُذْرِ فِي الْمَرِيضِ، وَتَرَفُّعِ مَجْلِسِهِ عَنْ حُضُورِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى إِرَادَةِ الْخُصُوصِ مِنْ صِيغَةِ الْعُمُومِ، وَلَوْ قِيلَ: أَكْرَمَ السُّلْطَانُ أَهْلَ الْبَلَدِ لَدَخَلَ هَؤُلَاءِ فِي عُمُومِ الصِّيغَةِ وَشَمَلَهُمْ كَرَمُهُ إِمَّا مُبَاشَرَةً وَإِمَّا عَنْ طَرِيقِ أَوْلِيَاءِ أُمُورِهِمْ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قِصَّةِ نُوحٍ مَعَ ابْنِهِ فَإِنَّهُ فَهِمَ مِنْ عُمُومِ الصِّيغَةِ نَجَاةَ ابْنِهِ، وَإِنَّمَا أَخْطَأَ وَتَوَجَّهَ اللَّوْمُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى سِيَاقِ الْكَلَامِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِهِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَأَنَّ النَّجَاةَ مَعْقُودَةٌ بِالْإِيمَانِ دُونَ قَرَابَةِ النَّسَبِ، وَأَنَّ الْهَلَاكَ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ نَسَبًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 بِحَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ بِقَرِينَةٍ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ بِقَرِينَةٍ. وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ صِحَّةَ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ بِالْقَرِينَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً أَمْ لَا. وَأَمَّا قِصَّةُ ابْنُ الزِّبَعْرَى فَلَا حُجَّةَ فِيهَا أَيْضًا، لِأَنَّ سُؤَالَهُ وَقَعَ فَاسِدًا حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ (مَا) عَامَّةٌ فِيمَنْ يَعْقِلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَلِهَذَا قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْكِرًا عَلَيْهِ: " «مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ» (1) وَهِيَ وَإِنْ أُطْلِقَتْ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا - وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا - وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} فَلَيْسَ حَقِيقَةً، بَلْ مَجَازًا. وَيَجِبُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ» " وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْمَنْقُولِ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَجَوَابُهَا بِمَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ (2) . وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا أَيْضًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَهِمَ الْعِصْمَةَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ، وَهِيَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِذَلِكَ، وَالْحُكْمُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهَا فِي كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَكَانَ ذَلِكَ إِيمَاءً إِلَيْهَا بِالتَّعْلِيلِ. أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ عُمُومِ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَا. وَمُعَارَضَةُ أَبِي بَكْرٍ إِنَّمَا كَانَتْ لِمَا فَهِمَهُ عُمَرُ مِنَ التَّعْلِيلِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ لَا لِغَيْرِهِ (3) .   (1) لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انْظُرْ كَلَامَ ابْنِ حَجْرٍ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ الْكَافِي الشَّافِي فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ (2) سَبْقَ أَيْضًا مُنَاقَشَتُهُ (3) الظَّاهِرُ أَنَّ الْعُمُومَ مَفْهُومٌ مِنْ إِضَافَةِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ لِلضَّمِيرِ لَا مِنَ التَّعْلِيلِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قِيلَ: فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءً وَأَمْوَالًا لَمْ يُفِدِ الْعُمُومَ مَعَ وُجُودِ التَّعْلِيلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 وَأَمَّا قِصَّةُ فَاطِمَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَالْكَلَامُ فِي اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} مَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ نُوحٍ (1) ، وَهُوَ الْجَوَابُ أَيْضًا عَنِ احْتِجَاجِ عُثْمَانَ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، ثُمَّ قَدْ أَمْكَنَ أَنْ يُضَافَ ذَلِكَ إِلَى مَا فُهِمَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ وَهِيَ الزَّوْجِيَّةُ لَا إِلَى عُمُومِ اللَّفْظِ. وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ عَلِيٍّ بِقَوْلِهِ: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} لَمْ يَكُنْ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، بَلْ بِمَا أَوْمَى إِلَيْهِ اللَّفْظُ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْجَمْعِ وَهِيَ الْأُخُوَّةُ فَإِنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِذَلِكَ، دَفْعًا لِلْإِضْرَارِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنَ الْمُزَاحَمَةِ عَلَى الزَّوْجِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِاللَّفْظِ بِمُجَرَّدِهِ أَنْ لَوْ كَانَ لِلْعُمُومِ (2) وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَإِنَّ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْعِلَّةِ الرَّافِعَةِ لِلْحَرَجِ فِي احْتِجَاجِ عُثْمَانَ، وَالْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْجَمْعِ فِي احْتِجَاجِ عَلِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَأَمَّا تَكْذِيبُ عُثْمَانَ لِلشَّاعِرِ فِي قَوْلِهِ: ( وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلٌ ) فَإِنَّمَا كَانَ لِمَا فَهِمَهُ مِنْ حَالِ الشَّاعِرِ الدَّالَّةِ عَلَى قَصْدِ تَعْظِيمِ الرَّبِّ بِبَقَائِهِ، وَبُطْلَانِ كُلِّ مَا سِوَاهُ. أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ مُجَرَّدِ قَوْلِهِ (كُلُّ) فَلَا (3) .   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ أَيْضًا وَأَنَّهُ مَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ إِلَّا مِنْ أَجْلِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ وَهُوَ الْحَدِيثُ، وَلَوْلَاهُ لَبَقِيَتِ الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مَنْعُهَا مِنَ الْمِيرَاثِ (2) الظَّاهِرُ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَهِمَا عُمُومَ كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُمَا لَمَّا تَعَارَضَ عُمُومُهُمَا فِي بَادِئِ النَّظَرِ وَجَبَ عَلَى الْعُلَمَاءِ طَلَبُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي طَرِيقِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَذَهَبَ عَلِيٌّ إِلَى تَخْصِيصِ آيَةِ (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) بِآيَةِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ: أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ. (3) مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مِنْ أَنَّ دَلَالَةَ (كُلُّ نَعِيمٍ) فِي الْبَيْتِ وَدَلَالَةَ جَمِيعِ الصِّيَغِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ عَلَى الْعُمُومِ إِنَّمَا كَانَتْ بِالْقَرَائِنِ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَهِيَ دَعْوَى لَا يَعْجِزُ عَنْهُمَا أَحَدٌ، وَالْإِغْرَاقُ فِي ذَلِكَ مِمَّا يُشْكِلُ فِي وَضْعِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانِيهَا وَدَلَالَتِهَا عَلَيْهَا، وَيَبْعَثُ الْحَيْرَةَ فِي مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ كَلَامِهِمْ، بَلْ مَنْ سَلَكَ ذَلِكَ الْمَسْلَكَ أَقْرَبُ إِلَى الْحَيْرَةِ عَنِ الْحَقِّ وَالْهَرَبِ مِنْ مُوَاجَهَةِ الْأَدِلَّةِ، وَالْتِزَامِ مَا تُوجِبُهُ مِنْهُ إِلَى الْإِجَابَةِ عَنْهَا، وَإِنْصَافِ مُنَاظِرِهِ مِنْ نَفْسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي بَكْرٍ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» " إِنَّمَا فُهِمَ مِنْهُ التَّعْمِيمُ لِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنْ قَصْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَعْظِيمِ قُرَيْشٍ وَمَيْزَتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ فِيهِمْ وَالِاسْتِغْرَاقِ لَمَا حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ. وَأَمَّا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى إِجْرَاءِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي كُلِّ سَارِقٍ وَزَانٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْعِلَلِ الْمُومَى إِلَيْهَا الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْمِيمِ، وَهِيَ السَّرِقَةُ وَالزِّنَى وَقَتْلُ الظَّالِمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ اعْتِقَادُ تَعْمِيمِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ مُسْتَنِدًا إِلَى عُمُومِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ فَلَا. وَأَمَّا مَا ذَكَرَ مِنَ الْأُولَى الْمَعْنَوِيَّةِ فَالْجَوَابُ عَنْهَا أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُمُومَ ظَاهِرٌ، وَأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى وَضْعِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ إِحَالَةَ الْإِخْلَالِ بِهِ عَلَى الْوَاضِعِينَ. وَلِهَذَا قَدْ أَخَلُّوا بِالْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَانِي الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَى تَعْرِيفِهَا بِوَضْعِ اللَّفْظِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ كَالْفِعْلِ الْحَالِيِّ وَرَائِحَةِ الْمِسْكِ وَالْعُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ الْخَاصَّةِ بِمِحَالِّهَا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ أَخَلَّوْا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: رَائِحَةُ الْمِسْكِ وَرَائِحَةُ الْعُودِ وَطَعْمُ الْعَسَلِ وَطَعْمُ السُّكَّرِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْإِضَافَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَوْضَاعِ الْمُعَرَّفَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْبَارِي تَعَالَى قَدْ عَرَّفَ نَفْسَهُ بِالْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ: {ذُو الْعَرْشِ} وَ {ذِي الطَّوْلِ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قُلْنَا: وَعَلَى هَذَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَرَبَ أَخَلَّتْ بِمَا يَعْرِفُ الْعُمُومُ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الْمَجَازِيَّةَ وَالْمُشْتَرَكَةَ أَيْضًا مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُعَرَّفَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَمَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ خَارِجَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَنْ كَوْنِهَا حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ دُونَ غَيْرِهِ، أَوْ مَجَازًا فِيهِ وَحَقِيقَةً (1) فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ فَتَكُونُ مُشْتَرَكَةً. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَمَا خَلَا الْعُمُومُ فِي وَضْعِهِمْ عَنْ مُعَرَّفٍ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جِهَةِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ هَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ؟ وَخَفَاءُ جِهَةِ الدَّلَالَةِ وَالْوُقُوفِ فِي تَعْيِينِهَا لَا يُبْطِلُ أَصْلَ الْوَضْعِ وَالتَّعْرِيفِ.   (1) وَحَقِيقَةً - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ أَوْ حَقِيقَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: وَقَوْلُهُمْ إِنَّ (مَنْ) إِذَا كَانَتِ اسْتِفْهَامِيَّةً لَا تَخْلُو عَنِ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُسَلَّمٌ. وَلَكِنْ لِمَ قَالُوا بِوُجُوبِ تَعْيِينِ بَعْضِهَا مَعَ عَدَمِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى ذَلِكَ؟ قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ لِلْخُصُوصِ لَمَا حَسُنَ الْجَوَابُ بِكُلِّ الْعُقَلَاءِ. قُلْنَا: وَلَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَمَا حَسُنَ الْجَوَابُ بِالْبَعْضِ الْخَاصِّ لِمَا قَرَّرُوهُ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ كَيْفَ وَإِنَّ الْجَوَابَ بِالْكُلِّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لِلْخُصُوصِ يَكُونُ جَوَابًا عَنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَزِيَادَةً؟ وَالْجَوَابُ بِالْخُصُوصِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لِلْعُمُومِ لَا يَكُونُ جَوَابًا عَنِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ. وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَوَابُ بِالْكُلِّ مُسْتَحْسَنًا. ثُمَّ مَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ مُشْتَرَكَةً؟ قَوْلُهُمْ: لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ الْجَوَابُ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِفْهَامِ. قُلْنَا: إِذَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً وَهِيَ اسْتِفْهَامِيَّةٌ فَالِاسْتِفْهَامُ إِنَّمَا هُوَ عَنْ مَدْلُولِهَا، وَمَدْلُولُهَا عِنْدَ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا هُوَ أَحَدُ الْمَدْلُولَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، فَإِذَا أَجَابَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ أَجَابَ عَمَّا سُئِلَ عَنْهُ، فَلَا حَاجَةَ بِالْمَسْئُولِ إِلَى الِاسْتِفْهَامِ. قَوْلُهُمْ: فِي الشَّرْطِيَّةِ إِنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأُكْرِمُهُ الْعُمُومُ لِمَا قَرَّرُوهُ. قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ مَفْهُومًا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ قَرِينَةِ إِكْرَامِ الزَّائِرِ حَتَّى أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ لَا أَصْلًا، وَلَا تَحَقَّقَ لِمَا سِوَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ فَهْمَ الْعُمُومِ مِنْهُ وَلَا جَوَازَ التَّعْمِيمِ دُونَ الِاسْتِفْهَامِ أَوْ ظُهُورِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا بِالْوَقْفِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ الْعَبْدِ وَلَوْ كَانَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ قُدِّرَ، وَحُسْنُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّرْدِيدِ، وَلَوْلَا التَّرْدِيدُ لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ مَا اسْتُثْنِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَثْنَى دَاخِلًا تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَا لَهُ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ (1) . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} ، وَالظَّنُّ دَاخِلٌ تَحْتَ لَفْظِ الْعِلْمِ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:   (1) الْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ وَدُخُولُ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَعَدَمُ دُخُولِهِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَلَا يُعْدَلُ إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَالًا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلَّا أُوَارِيٌّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ (1) فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ إِنَّمَا نَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا كَانَ مِنَ الْجِنْسِ لَا فِي غَيْرِهِ. قُلْنَا: وَإِذَا كَانَ مِنَ الْجِنْسِ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ دُخُولِ مَا اسْتُثْنِيَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، أَوْ عَلَى صَلَاحِيَتِهِ لِلدُّخُولِ تَحْتَهُ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ صِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْجِنْسِ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ، وَهِيَ مَا يَتَنَاوَلُ الْعَشَرَةَ فَمَا دُونَهَا، وَهِيَ أَفْعَلَ نَحْوُ أَفْلَسَ، وَأَفْعَالٌ نَحْوُ أَصْنَامٌ، وَأَفْعِلَةٌ نَحْوٍ أَرْغِفَةٌ، وَفِعْلَةٍ نَحْوُ صِبْيَةٍ، مَعَ أَنَّ آحَادَ الْجِنْسِ غَيْرُ وَاجِبَةِ الدُّخُولِ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ جَمْعِ السَّلَامَةِ إِذَا لَمْ تَدْخُلْهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَإِنَّهُ مِنْ جُمُوعِ الْقِلَّةِ بِنَصِّ سِيبَوَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ إِنَّمَا نَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ مِنْهُ، وَاسْتِثْنَاءُ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ لَا يَصِحُّ مِنْ جَمْعِ الْقِلَّةِ. قُلْنَا: فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِثْنَاءُ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ مِنَ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَثْنَيَاتِ غَيْرَ وَاجِبِ الدُّخُولِ تَحْتَ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ، بَلْ مُمْكِنُ الدُّخُولِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ لِإِخْرَاجِ مَا يَصِحُّ دُخُولُهُ لَا مَا يَجِبُ دُخُولُهُ لَصَحَّ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ رَجُلًا إِلَّا زَيْدًا، لِصَلَاحِيَّةِ دُخُولِهِ تَحْتَ لَفْظِ رَجُلٍ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدْخُلُ فِي الْأَعْدَادِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا دِرْهَمًا وَهُوَ وَاجِبُ الدُّخُولِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا: بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ كُلٍّ، وَالْجُزْءُ وَاجِبُ الدُّخُولِ فِي كُلِّهِ. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ: رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يَكُونُ إِلَّا مُعَيَّنًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ضَرُورَةَ وُقُوعِ الرُّؤْيَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا عِنْدَ الْمُسْتَمِعِ، وَالْمُعَيَّنُ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَبَعِيدٌ عَنِ التَّحْقِيقِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ وُجُوبَ دُخُولِ الْوَاحِدِ فِي الْعَشَرَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ دُخُولِهِ فِيهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ دُخُولُهُ فِيهَا، وَمَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ أَعَمُّ مِنَ   (1) الْبَيْتَانِ لِلنَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ مِنْ قَصِيدَةٍ مَطْلَعُهَا: يَا دَارَ مِيَةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الْوَاجِبِ وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ لِوُجُوبِ الدُّخُولِ، بَلْ لِصِحَّةِ الدُّخُولِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَيْضًا. كَيْفَ وَإِنَّ اسْتِثْنَاءً وَاجِبَ الدُّخُولِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ مُمْكِنِ الدُّخُولِ؟ وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي إِبْطَالِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى عُمُومِ (مَنْ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ وَجَزَائِيَّةٌ يَكُونُ بِعَيْنِهِ جَوَابًا عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي عُمُومِ (كُلٍّ) وَ (جَمِيعٍ) . قَوْلُهُمُ الْوَجْهُ الثَّانِي: إِنَّهُ لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْبَلَدِ يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ رُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ ذَلِكَ مُطْلَقًا. فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلَ: جَمَعَ السُّلْطَانُ كُلَّ التُّجَّارِ وَكُلَّ الصُّنَّاعِ وَجَاءَ كُلُّ الْعَسْكَرِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ تَخَلُّفِ آحَادِ النَّاسِ. وَالْعُرْفُ بِذَلِكَ شَائِعٌ ذَائِعٌ، وَلَيْسَ حَوَالَةُ ذَلِكَ عَلَى الْقَرِينَةِ أَوْلَى مِنْ حَوَالَةِ صُورَةِ التَّكْذِيبِ عَلَى الْقَرِينَةِ (1) . قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ: إِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: كُلُّ النَّاسِ عُلَمَاءٌ يُكَذِّبُهُ قَوْلُ الْآخَرِ: كُلُّ النَّاسِ لَيْسَ عُلَمَاءً لَيْسَ كَذَلِكَ مُطْلَقًا، فَإِنَّهُ لَوْ فَسَّرَ كَلَامَهُ بِالْغَالِبِ عِنْدَهُ كَانَ تَفْسِيرُهُ صَحِيحًا مَقْبُولًا. وَمَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَكَاذُبَ (2) . نَعَمْ إِنَّمَا يَصِحُّ التَّكَاذُبُ بِتَقْدِيرِ ظُهُورِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى إِرَادَةِ الْكُلِّ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْكَرُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ بِمُطْلَقِهِ. قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ: إِنَّا نُدْرِكُ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ (بَعْضٍ) وَ (كُلٍّ) مُسَلَّمٌ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضًا لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَكُلًّا صَالِحٌ لَهُ وَلِمَا دُونَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ ظُهُورُ (كُلٍّ) فِي الْعُمُومِ (3) . قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ: إِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (كُلُّهُمْ) بَيَانًا لَا تَأْكِيدًا.   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا فِي ص 208 ج 2 (2) إِنَّمَا حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُوصِ إِمَّا لِعُرْفٍ وَإِمَّا لِصِيَانَةِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ عَنِ التَّدَافُعِ وَالتَّنَاقُضِ، فَحُمِلَ كُلٌّ مِنَ الْعِبَارَتَيْنِ عَلَى بَعْضِ الْمَعْنَى جَمْعًا بَيْنَ الْمُتَعَارِضَيْنِ (3) كُلٌّ وَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً لِلْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ غَيْرَ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَاطِعَةً فِيهِ وَلَا تَنْصَرِفُ إِلَى الْخُصُوصِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 قُلْنَا: وَإِنْ بَيَّنَ بِهِ مُرَادَهُ مِنْ لَفْظِهِ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ تَأْكِيدًا لِمَا أَرَادَهُ مِنَ الْعُمُومِ، فَإِنَّ لَفْظَهُ صَالِحٌ لَهُ (1) . قَوْلُهُمْ فِي الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ: إِنَّ كَثْرَةَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ تَزِيدُ عَلَى كَثْرَةِ الْمُنَكَّرِ، قُلْنَا: مَتَى إِذَا أُرِيدَ بِهِ الِاسْتِغْرَاقُ أَوْ إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ ذَلِكَ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ صَالِحًا لِلِاسْتِغْرَاقِ أَنْ يَكُونَ مُتَعَيَّنًا لَهُ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: رَأَيْتُ رِجَالًا مِنَ الرِّجَالِ كَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً صَارِفَةً لِلْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَصِحُّ تَأْكِيدُهُ بِمَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ، قُلْنَا: ذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمُؤَكَّدِ صَالِحًا لِلْعُمُومِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَ التَّأْكِيدِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُتَعَيَّنًا بِوَضْعِهِ لِلْعُمُومِ (2) . قَوْلُهُمْ فِي تَعْمِيمِ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ: لَوْ قَالَ: لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ رُؤْيَتِهِ لِرَجُلٍ مَا، قُلْنَا: إِنَّمَا عُدَّ كَاذِبًا بِذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ إِنَّمَا يَنْفِي حَقِيقَةَ رَجُلٍ فِي الدَّارِ، فَإِذَا وُجِدَ رَجُلٌ فِي الدَّارِ كَانَ كَاذِبًا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومُ فِي طَرَفِ النَّفْيِ إِذْ هُوَ نَفْيُ مَا لَيْسَ بِعَامٍّ (3) . قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِثْنَاءُ سَبَقَ جَوَابُهُ (4) . قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَصِحُّ تَكْذِيبُهُ بِأَنَّكَ رَأَيْتَ رَجُلًا، قُلْنَا: سَبَقَ جَوَابُهُ أَيْضًا (5) .   (1) بَلْ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ تَوْكِيدًا، فَإِنَّ الْبَيَانَ يَكُونُ لِمُجْمَلِ مَا اسْتَوَى فِيهِ الِاحْتِمَالَاتُ، وَالتَّوْكِيدُ يَكُونُ لِمَا وَضَحَ مِنْهَا (2) مَتَى سُلِّمَ صِحَّةُ تَوْكِيدِهِ بِمَا يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ وَجَبَ أَنْ يُسَلَّمَ ظُهُورُهُ فِي الْعُمُومِ وَضْعًا وَدَلَالَةً لَا صَلَاحِيَتُهُ لَهُ فَقَطْ، وَإِلَّا سُمِّيَ التَّابِعُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ لَا تَوْكِيدًا (3) مَا ذَكَرَهُ تَقْرِيرٌ لِإِفَادَةِ هَذِهِ الصِّيَغِ لِلْعُمُومِ وَبَيَانٌ لِطَرِيقِ إِفَادَتِهَا لَهُ، فَإِنَّ نَفْيَ حَقِيقَةِ رَجُلٍ فِي الدَّارِ بِوُجُودِهِ فِيهَا، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ الْعُمُومُ فِي طُرُقِ النَّفْيِ وَالتَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ إِذْ هُوَ نَفِيٌ لِمَا لَيْسَ بِعَامٍّ قَلْبٌ لِلْحَقَائِقِ، فَإِنَّهُ نَفْيٌ لِمَا هُوَ عَامٌّ عُمُومًا بِدَلِيلٍ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ ظَاهِرًا أَوْ قَطْعًا بِخِلَافِ نَفْيِ مَا هُوَ عَامٌّ عُمُومًا شُمُولِيًّا، فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى السَّوَاءِ أَوِ الْخُصُوصُ أَسْرَعُ إِلَى الْفَهْمِ نَحْوُ: مَا كُلُّ الدَّرَاهِمِ أَخَذْتُ (4) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِمَا تَعْلِيقًا (5) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِمَا تَعْلِيقًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 قَوْلُهُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ لَمَا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَوْحِيدًا، قُلْنَا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ فَلَا يَمْتَنِعُ إِرَادَةُ الْعُمُومِ بِهَا. وَعَلَى هَذَا فَمَهْمَا لَمْ يُرِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا الْعُمُومَ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَوْحِيدًا، وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ كَانَ تَوْحِيدًا، لَكِنْ لَا يَكُونُ الْعُمُومُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ، بَلْ مِنْ قَرِينَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ الدَّالَّةِ عَلَى إِرَادَةِ التَّوْحِيدِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ أَيْضًا فِيمَا إِذَا قَالَ: مَا فِي الدَّارِ مِنْ رَجُلٍ، وَقَوْلُ أَهْلِ الْأَدَبِ: إِنَّهَا لِلْعُمُومِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى عُمُومِ الصَّلَاحِيَّةِ دُونَ الْوُجُوبِ (1) . قَوْلُهُمْ فِي الْإِضَافَةِ: إِذَا قَالَ: أَعْتَقْتُ عَبِيدِي وَإِمَائِي ثُمَّ مَاتَ جَازَ لِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُزَوِّجَ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَبِيدِ دُونَ رِضَى الْوَرَثَةِ. قُلْنَا: وَلَوْ قَالَ: أَنْفَقْتُ دَرَاهِمِي، وَصَرَمْتُ نَخِيلِي، وَضَرَبْتُ عَبِيدِي، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ إِنْفَاقِ بَعْضِ دَرَاهِمِهِ وَعَدَمِ صَرْمِ بَعْضِ نَخِيلِهِ وَعَدَمِ ضَرْبِ بَعْضِ عَبِيدِهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِلْعُمُومِ لَكَانَ كَاذِبًا، وَلَيْسَ صَرْفُ ذَلِكَ إِلَى الْقَرِينَةِ (2) أَوْلَى مِنْ صَرْفِ مَا ذَكَرُوهُ إِلَى الْقَرِينَةِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: الْعَبِيدُ الَّذِينَ فِي يَدِي لِفُلَانٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى تَعْمِيمِ اسْمِ الْجِنْسِ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ فَائِدَةٍ، قُلْنَا: يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهَا تَعْرِيفُ الْمَعْهُودِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَعْهُودٌ، فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى السَّوِيَّةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ دُخُولِهَا (3) .   (1) هَذَا خِلَافُ مَا ظَهَرَ مِنَ الصِّيغَةِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْأَدَبِ فِيهَا (2) الظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الصِّيَغِ الْعُمُومُ وَقَدْ يُرَادُ بِهَا الْخُصُوصُ بِقَرِينَةِ الْعُرْفِ، وَإِذَنْ لَا تَكُونُ كَاذِبَةً بِالْخُلْفِ، وَقَدْ عُرِفَ بِالِاسْتِقْرَاءِ تَأْثِيرُ الْعُرْفِ فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ، وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ (3) يُقَالُ إِنَّ الْكَلَامَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ، وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ قَرِينَةً عَلَى إِرَادَةِ الْعَهْدِ، وَدَعْوَى أَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ عَلَى السَّوِيَّةِ تُنَاقِضُ الْمَقْصِدَ الْأَوَّلَ مِنْ وَضْعِ اللُّغَاتِ، وَهُوَ الْإِفْهَامُ لَا الْإِبْهَامُ وَإِيقَاعُ السَّامِعِ أَوِ الْقَارِئِ فِي شَكٍّ وَحَيْرَةٍ، فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ الْفَائِدَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى الْعُمُومِ ظَاهِرًا أَوْ نَصًّا، وَانْظُرْ مَا يَدُورُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْآمِدِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَى شُبَهِ الْقَائِلِينَ بِالْخُصُوصِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مِنَ النَّقْلِ الشَّاذِّ الَّذِي لَا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مَجَازٌ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمْ يَطَّرِدْ فِي كُلِّ اسْمٍ فَرْدٍ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ: جَاءَنِي الرَّجُلُ الْعُلَمَاءُ وَالرَّجُلُ الْمُسْلِمُونَ، ثُمَّ وَإِنْ أَمْكَنَ نَعْتُهُ بِالْجَمْعِ، فَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّمَا هُوَ جِنْسُ الدِّينَارِ وَجِنْسُ الدِّرْهَمِ لَا جُمْلَةُ الدَّنَانِيرِ وَجُمْلَةُ الدَّرَاهِمِ. وَحَيْثُ كَانَ الْهَلَاكُ بِجِنْسِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ لِأَمْرٍ مُتَحَقِّقٍ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ جَازَ نَعْتُهُ بِالْجَمْعِ، نَظَرًا إِلَى اقْتِضَاءِ الْمَعْنَى لِلْجَمْعِ، لَا نَظَرًا إِلَى اقْتِضَاءِ لَفْظِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ. وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْآيَةِ فَهُوَ مَجَازٌ. وَلِهَذَا لَمْ يَطَّرِدْ، فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ الرَّجُلَ إِلَّا الْعُلَمَاءَ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ. ثُمَّ لَوْ كَانَ ذَلِكَ صَالِحًا لِلِاسْتِغْرَاقِ لَأَمْكَنَ مَعَ اتِّحَادِهِ أَنْ يُؤَكَّدَ (بِكُلٍّ) وَ (جَمِيعٍ) كَمَا فِي (مَنْ) فِي قَوْلِكَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: جَاءَنِي الرَّجُلُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (1) ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَدَفْعُهُ بِمَنْعِ الْحَصْرِ فِيمَا قِيلَ، بَلِ الْقَائِلُ ثَلَاثَةً، وَالثَّالِثُ هُوَ الْقَائِلُ بِالتَّفْصِيلِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ فِي تَعْمِيمِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ فَعَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: رِجَالٌ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ عَدَدٍ عَلَى خُصُوصِهِ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْجَمْعِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَعْدَادِ فَمُسَلَّمٌ. ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى مَا هُوَ الْأَخَصُّ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. وَعَلَى هَذَا فَقَدَ بَطَلَ الْقَوْلُ بِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ كَانَ حَمْلًا لَهُ عَلَى جَمِيعِ حَقَائِقِهِ، ضَرُورَةَ اتِّحَادِ مَدْلُولِهِ. الثَّانِي: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ عَدَدٍ بِخُصُوصِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِ الْإِرَادَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْأَقَلِّ مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَيْقَنًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ بَيَانُ إِرَادَةِ الْبَعْضِ عَيْنًا أَنْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ.   (1) هَذَا لَا يَصِحُّ رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ بِإِفَادَةِ اسْمِ الْجِنْسِ الْمَجْمُوعِ لِلْعُمُومِ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ دُونَ الْمُفْرَدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 وَأَمَّا إِذَا كَانَ مَوْضُوعًا لِبَعْضٍ مُطْلَقٍ فَلَا. وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَقَدْ عُرِفَ جَوَابُهُ كَيْفَ وَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْمِيَتِهِ نَكِرَةً؟ وَلَوْ كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَ مَعْرُوفًا كُلَّهُ، فَلَا يَكُونُ مُنَكَّرًا مُخْتَلِطًا بِغَيْرِهِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَرَبَ فَرَّقَتْ بَيْنَ تَأْكِيدِ الْوَاحِدِ وَالْعُمُومِ بِمَا ذَكَرُوهُ، إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) تَأْكِيدًا لِلْعُمُومِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ تَأْكِيدٌ لِلَّفْظِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعُمُومُ وَغَيْرُ الْعُمُومِ (1) . قَوْلُهُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ لَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْأُمُورِ الْعَامَّةِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهَا دُونَ التَّكْلِيفِ بِالْمَحَالِّ مَعَ وُجُودِ صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ مَعَ الْقَرِينَةِ. وَأَمَّا شُبَهُ أَرْبَابِ الْخُصُوصِ قَوْلُهُمْ فِي الْأُولَى: إِنَّ الْخُصُوصَ مُتَيَقَّنٌ، قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا فِي الزِّيَادَةِ، فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ مُسْتَيْقَنَةٌ فِي الْعَشَرَةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ لَفْظَ الْعَشَرَةِ حَقِيقَةً فِي الثَّلَاثَةِ مَجَازًا فِي الزِّيَادَةِ. ، فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْعَشَرَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَيْضًا مُسْتَيْقَنَةٌ، قِيلَ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهَا بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً، كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ مَعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُتَكَلِّمِ الْعُمُومَ، فَلَوْ حُمِلَ لَفْظُهُ عَلَى الْخُصُوصِ لَمْ يَحْصُلْ مُرَادُهُ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ لَا يَمْتَنِعُ حُصُولُ مَقْصُودِهِ مِنْهُ بِتَقْدِيرِ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ، بَلِ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ وَزِيَادَةٌ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. قَوْلُهُمْ فِي الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الصِّيَغِ فِي الْخُصُوصِ لَا نُسَلِّمُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ، وَإِن سُلِّمَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الصِّيَغِ حَقِيقَةً فِي الْخُصُوصِ وَمَجَازًا فِي الْعُمُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْغَائِطِ وَالْعَذِرَةِ غَالِبٌ فِي الْخَارِجِ الْمُسْتَقْذَرِ   (1) تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ تَعْلِيقًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فِيهِ وَحَقِيقَةً فِي الْمَوْضِعِ الْمُطَمْئِنِ مِنَ الْأَرْضِ وَفِنَاءِ الدَّارِ. وَكَذَلِكَ لَفْظُ الشُّجَاعِ حَقِيقَةً فِي الْحَيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَإِنْ كَانَ غَالِبُ الِاسْتِخْدَامِ فِي الرَّجُلِ الْمِقْدَامِ. قَوْلُهُمْ فِي الثَّالِثَةِ: إِنَّهُ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ عَنْ إِرَادَةِ الْبَعْضِ بِخِلَافِ الْعُمُومِ. قُلْنَا: حُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ عَنْ إِرَادَةِ الْعُمُومِ لَا يُخْرِجُ الصِّيغَةَ عَنْ كَوْنِهَا حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: دَخَلَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ وَلَقِيتُ بَحْرًا وَنَاطَحْتُ جَبَلًا وَرَأَيْتُ حِمَارًا، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ اسْتِفْهَامُهُ: هَلْ أَرَدْتَ بِالسُّلْطَانِ نَفْسَهُ أَوْ عَسْكَرَهُ؟ وَهَلْ أَرَدْتَ بِالْجَبَلِ الْجَبَلَ الْحَقِيقِيَّ أَوِ الرَّجُلَ الْعَظِيمَ؟ وَهَلْ أَرْدَتْ بِالْحِمَارِ الْحِمَارَ الْحَقِيقِيَّ أَوِ الْبَلِيدَ؟ وَأَرَدْتَ بِالْبَحْرِ الْبَحْرَ الْحَقِيقِيَّ أَوْ رَجُلًا كَرِيمًا؟ وَعَدَمُ حُسْنِ الِاسْتِفْهَامِ عَنِ الْبَعْضِ لِتَيَقُّنِهِ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الصِّيغَةِ حَقِيقَةً فِيهِ (1) بِدَلِيلِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْعَشَرَةِ. قَوْلُهُمْ فِي الرَّابِعَةِ: لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: رَأَيْتُ الرِّجَالَ لِلْعُمُومِ لَكَانَ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ الْخُصُوصِ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ كَاذِبًا مَعَ كَوْنِ لَفْظِهِ حَقِيقَةً فِي الْعُمُومِ إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ صَالِحًا لِإِرَادَةِ الْبَعْضِ تَجَوُّزًا، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ أَسَدًا وَحِمَارًا أَوْ بَحْرًا، وَكَانَ قَدْ رَأَى إِنْسَانًا شُجَاعًا، وَإِنْسَانًا بَلِيدًا، وَإِنْسَانًا كَرِيمًا لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ حَقِيقَةً فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ رَأَيْتُ عَشَرَةَ رِجَالٍ وَلَمْ يَكُنْ خَمْسَةً، فَإِنَّ لَفْظَ الْعَشَرَةِ مِمَّا لَا يَصْلُحُ لِلْخَمْسَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا تَجَوُّزًا. قَوْلُهُمْ فِي الْخَامِسَةِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّيَغُ لِلْعُمُومِ لَكَانَ تَأْكِيدُهَا عَبَثًا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ مُجَازَفَةِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَبْعَدَ عَنْ قَبُولِ التَّخْصِيصِ وَأَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ. كَيْفَ وَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ صِحَّةُ تَأْكِيدِ الْخَاصِّ (2) بِقَوْلِهِمْ: جَاءَ زَيْدٌ عَيْنُهُ نَفْسُهُ، وَتَأْكِيدِ عُقُودِ الْأَعْدَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} ، وَمَا هُوَ الْجَوَابُ هَاهُنَا عَنِ التَّأْكِيدِ يَكُونُ جَوَابًا فِي الْعُمُومِ.   (1) أَيْ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الصِّيغَةِ حَقِيقَةً فِي الْمُتَيَقَّنِ مَجَازًا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ (2) " صِحَّةُ تَأْكِيدِ " - فِيهِ سَقْطٌ لَا يَصِحُّ الْمَعْنَى دُونَ تَقْدِيرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ " عَدَمُ صِحَّةِ تَأْكِيدِ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 قَوْلُهُمْ: وَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْهَا نَقْضًا يَلْزَمُ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْأَعْدَادِ الْمُقَيَّدَةِ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا خَمْسَةً، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْعَشَرَةِ صَرِيحٌ فِيهَا، وَجَوَابُهُ فِي الْأَعْدَادِ جَوَابُهُ فِي الْعُمُومِ. قَوْلُهُمْ فِي السَّادِسَةِ: إِنَّ (مِنْ) لَوْ كَانَتْ لِلْعُمُومِ لَمَا جُمِعَتْ، قُلْنَا: قَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِجَمْعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلْحَاقُ زِيَادَةِ الْوَاوِ وَإِشْبَاعُ الْحَرَكَةِ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا فَقَدْ قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُ لَا عَمَلَ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ جَمْعِ (مَنْ) حَالَةَ الْوَصْلِ، وَإِنَّمَا تُجْمَعُ عِنْدَمَا إِذَا حُكَى بِهَا الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ حَالَةَ الْوَقْفِ. وَإِذ ذَاكَ فَلَا تَكُونُ لِلْعُمُومِ. وَأَمَّا شُبَهُ أَرْبَابِ الِاشْتِرَاكِ قَوْلُهُمْ فِي الْأُولَى: إِنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ قَدْ تُطْلَقُ تَارَةً لِلْعُمُومِ وَتَارَةً لِلْخُصُوصِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. قُلْنَا: الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ بِصِفَةِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ لَا بِصِفَةِ الِاشْتِرَاكِ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا افْتَقَرَ فِي فَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْلُولَاتِهِ إِلَى قَرِينَةٍ تُعَيِّنُهُ ضَرُورَةَ تَسَاوِي نِسْبَةِ اللَّفْظِ فِيهِ إِلَى الْكُلِّ، وَالْقَرِينَةُ قَدْ تَظْهَرُ، وَقَدْ تَخْفَى. وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْإِخْلَالِ بِمَقْصُودِ الْوَضْعِ، وَهُوَ التَّفَاهُمُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي مَدْلُولٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إِلَى قَرِينَةٍ مُخِلَّةٍ بِالْفَهْمِ. قَوْلُهُمْ فِي الثَّانِيَةِ: إِنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ. قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ مَعَ كَوْنِ اللَّفْظِ مُتَّحِدَ الْمَدْلُولِ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: خَاصَمْتُ السُّلْطَانَ، فَيُقَالُ: أَخَصَمْتُهُ؟ مَعَ كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ وَمَجَازًا فِي غَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ تَمْثِيلُهُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: صَدَمْتُ جَبَلًا وَرَأَيْتُ بَحْرًا وَلَقِيتُ حِمَارًا، فَإِنَّهُ يَحْسُنُ اسْتِفْهَامُهُ، إِنَّكَ أَرَدْتَ بِذَلِكَ الْمَدْلُولَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ أَوِ الْمَجَازِيَّةَ مِنَ الرَّجُلِ الْعَظِيمِ وَالْكَرِيمِ وَالْبَلِيدِ. وَذَلِكَ لِفَائِدَةِ زِيَادَةِ الْأَمْنِ مِنَ الْمُجَازَفَةِ فِي الْكَلَامِ، وَزِيَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَتَأَكُّدِهِ بِمَا اللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَلِلْمُبَالَغَةِ فِي دَفْعِ الْمُعَارِضِ كَمَا سَبَقَ فِي التَّأْكِيدِ. وَأَمَّا طَرِيقُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ فَرَّقَ مِنَ الْوَاقِفِيَّةِ بَيْنَ الْأَوَامِرِ وَالْأَخْبَارِ، فَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا يَذْكُرُونَهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ التَّوَقُّفِ فِي الْأَخْبَارِ فَهُوَ بِعَيْنِهِ مُصْطَرِدٌ فِي الْأَوَامِرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 قَوْلُهُمْ: أَوَّلًا إِنَّ الْأَمْرَ تَكْلِيفٌ. قُلْنَا: وَمِنَ الْأَخْبَارِ الْعَامَّةِ مَا كُلِّفْنَا بِمَعْرِفَتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وَ {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وَكَذَلِكَ عُمُومَاتُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَإِنَّا مُكَلَّفُونَ بِمَعْرِفَتِهَا، لِأَنَّ بِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الِانْزِجَارُ عَنِ الْمَعَاصِي وَالِانْقِيَادُ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَمَعَ التَّسَاوِي فِي التَّكْلِيفِ فَلَا مَعْنًى لِلْوُقُوفِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لِيُفْضِيَ إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ فَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عِنْدَنَا عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (1) . قَوْلُهُمْ: ثَانِيًا إِنَّ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يَرِدُ بِالْمَجْهُولِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِخِلَافِ الْأَمْرِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِالْمَجْهُولِ (2) كَيْفَ وَإِنَّ هَذَا الْفَرْقَ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْحَاجَةِ فِيمَا كَانَ مِنَ الْأَخْبَارِ لَمْ نُكَلَّفْ بِمَعْرِفَتِهَا إِلَى وَضْعِ اللَّفْظِ الْعَامِّ بِإِزَائِهِ فَغَيْرُ مُطَّرِدٍ فِيمَا كُلِّفْنَا بِمَعْرِفَتِهِ كَمَا سَبَقَ، وَهُمْ غَيْرُ قَائِلِينَ بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ خَبَرٍ وَخَبَرٍ.   (1) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْمَحْكُومِ فِيهِ (2) لَا يَرِدُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَلَا خَبَرٌ تَضَمَّنُ تَكْلِيفًا بِمَجْهُولٍ إِلَّا وَقَدْ سَبَقَهُ أَوْ لَحِقَهُ بَيَانٌ، وَإِلَّا كَانَ مُنَافِيًا لِلْحِكْمَةِ، وَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ أَقَلِّ الْجُمَعِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ الْجُمَعِ هَلْ هُوَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ؟ وَلَيْسَ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْجَمْعِ لُغَةً، وَهُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ وَمَا زَادَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَإِنَّمَا مَحَلُّ النِّزَاعِ فِي اللَّفْظِ الْمُسَمَّى بِالْجَمْعِ فِي اللُّغَةِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ: رِجَالٌ وَمُسْلِمُونَ. وَإِذْ تُنُقِّحَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَنَقُولُ مَذْهَبُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَمَالِكٍ وَدَاوُدَ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ (1) وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ اثْنَانِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ، وَذَهَبَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ (2) إِلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ رَدُّ لَفْظِ الْجَمْعِ إِلَى الْوَاحِدِ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِحُجَجٍ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِشْعَارِ اللُّغَةِ وَالْإِطْلَاقِ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، وَأَرَادَ بِهِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ - إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وَأَرَادَ بِهِ الْأَخَوَيْنِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} ، وَأَرَادَ بِهِ يُوسُفَ وَأَخَاهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} ، وَأَرَادَ بِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} .   (1) هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، شَارَكَ أَبَا بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيَّ فِي الْأَخْذِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُجَاهِدٍ الطَّائِيِّ صَاحِبِ الْأَشْعَرِيِّ، وَعَنْهُ أَخَذَ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَلِيٍّ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَعَنْ أَبِي الْقَاسِمِ أَخَذَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَعَنْ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ أَخْذَ الْفَرَالِيُّ (2) إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ هُوَ أَبُو الْمَعَالِي عَبْدُ الْمَلِكِ الْجُوَيْنِيُّ مَاتَ سَنَةَ 487 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» " (1) . وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِشْعَارِ اللُّغَوِيِّ فَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْجَمَاعَةِ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ، وَهُوَ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الِاثْنَيْنِ حَسَبَ تَحَقُّقِهِ فِي الثَّلَاثَةِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ تَتَصَرَّفُ الْعَرَبُ وَتَقُولُ: جَمَعْتُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَاجْتَمَعَا وَهُمَا مُجْتَمِعَانِ، كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ، فَكَانَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الِاثْنَيْنِ حَقِيقَةً، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْإِطْلَاقِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاثْنَيْنِ يُخْبِرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَيَقُولَانِ: قُمْنَا وَقَعَدْنَا وَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا كَمَا تَقُولُ الثَّلَاثَةُ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ فِي مَخَافَةٍ: أَقْبَلَ الرِّجَالُ. وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ حَقِيقَةٌ فِي الِاثْنَيْنِ، إِذِ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. قَالَ النَّافُونَ لِذَلِكَ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} ، فَالْمُرَادُ بِهِ مُوسَى وَهَارُونُ وَفِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَهُمْ جَمْعٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} فَكُلُّ طَائِفَةٍ جَمْعٌ. وَأَمَّا قِصَّةُ دَاوُدَ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا، فَإِنَّ الْخَصْمَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ فَيُقَالُ: هَذَا خَصْمِي وَهَؤُلَاءِ خَصْمِي، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَصْمَيْنِ كَانَ وَاحِدًا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ، فَالْمُرَادُ بِهِ الثَّلَاثَةُ، وَحَيْثُ وَرَّثْنَاهَا السُّدُسُ مَعَ الْأَخَوَيْنِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَنْطُوقِ اللَّفْظِ، بَلْ لِمَفْهُومِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَهُوَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ (2) . وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} يُوسُفُ وَأَخُوهُ وَشَمْعُونُ الَّذِي قَالَ {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}   (1) قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: - بَابُ اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ: هَذِهِ التَّرْجَمَةُ لَفْظٌ حَدِيثٌ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ مِنْهَا فِي ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي فَتْحِ الْبَارِي (2) لَمْ يَنْعَقِدْ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَوْرِيثِ الْأُمِّ السُّدُسَ مَعَ الْأَخَوَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا يَجِيءُ مِنْ خِلَافِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ وَمُنَاقَشَتِهِ إِيَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ وَالْمَحْكُومُ لَهُ وَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ دَاوُدَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} فَهُوَ أَشْبَهُ مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ هَاهُنَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْخِطَابَ وَإِنْ كَانَ مَعَ اثْنَيْنِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ سِوَى قَلْبٍ وَاحِدٍ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْقُلُوبِ عَلَى مَا يُوجَدُ لِلْقَلْبِ الْوَاحِدِ مِنَ التَّرَدُّدَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ إِلَى الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ مَجَازًا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ لِمَنْ مَالَ قَلْبُهُ إِلَى جِهَتَيْنِ أَوْ تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا: إِنَّهُ ذُو قَلْبَيْنِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: {قُلُوبُكُمَا} عَلَى جِهَةِ التَّجَوُّزِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ حَقِيقَةً، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا قَالَ: {قُلُوبُكُمَا} تَجَوُّزًا حَذَرًا مِنِ اسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَ تَثْنِيَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» " إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي انْعِقَادِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِهِمَا وَإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ (1) ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَرِّفَنَا الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةِ لَا الْأُمُورَ اللُّغَوِيَّةِ، لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ وَلِمَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْعَارِ اللُّغَوِيِّ فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: وَإِنْ كَانَ مَا مِنْهُ اشْتِقَاقُ لَفْظِ الْجَمَاعَةِ فِي الثَّلَاثَةِ مَوْجُودًا فِي الِاثْنَيْنِ، فَلَا يَلْزَمُ إِطْلَاقُ اسْمِ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِمَا إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي صَحَّ مِنْهُ اشْتِقَاقُ اسْمِ الْقَارُورَةِ لِلزُّجَاجَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَهُوَ قَرَارُ الْمَائِعِ فِيهَا مُتَحَقِّقٌ فِي الْجَرَّةِ وَالْكُوزِ، وَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُمَا قَارُورَةً. كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ فِي اسْمِ الرِّجَالِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ إِذْ مُشْتَقٌّ مِنَ الْجَمْعِ، وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ فِي إِطْلَاقِهِ عَلَى الِاثْنَيْنِ حَقِيقَةً.   (1) الْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَبِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذِ الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي تُسَمَّى فِي اللُّغَةِ جُمُوعًا لَا فِي مَادَّةِ الْجَمْعِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَكَمَا سَيَجِيءُ لَهُ آخِرَ الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْعَارِ اللُّغَوِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وَجَوَابُ الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ بِدَلِيلِ صِحَّةِ قَوْلِ الْوَاحِدِ لِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِجَمَاعَةٍ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِخْبَارُ غَيْرِهِمَا عَنْهُمَا بِذَلِكَ، فَلَا يُقَالُ: عَنِ الِاثْنَيْنِ قَامُوا وَقَعَدُوا، بَلْ قَامَا وَقَعَدَا. وَجَوَابُ الْإِطْلَاقِ الثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمَاعَةٌ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ قَوْلِهِ: جَاءَ الرِّجَالُ عِنْدَمَا إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ فِي حَالِ الْمَخَافَةِ، وَالْوَاحِدُ لَيْسَ بِجَمْعٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ فَسِتٌّ: الْأُولَى: مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لِعُثْمَانَ حِينَ رَدَّ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ بِأَخَوَيْنِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} ، وَلَيْسَ الْأَخَوَانِ إِخْوَةٌ فِي لِسَانِ قَوْمِكَ. فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُضَ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ (1) ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى اللُّغَةِ لَمَا احْتَجَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى عُثْمَانَ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ وَهُمَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَفُصَحَاءِ الْعَرَبِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَرِجَالٍ، فَإِطْلَاقُ اسْمِ الرِّجَالِ عَلَى الرَّجُلَيْنِ رَفْعٌ لِهَذَا الْفَرْقِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ إِطْلَاقُ الرِّجَالِ عَلَى الرَّجُلَيْنِ لَصَحَّ نَعْتُهُمَا بِمَا يُنْعَتُ بِهِ الرِّجَالُ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: جَاءَنِي رَجُلَانِ ثَلَاثَةٌ كَمَا يُقَالُ: جَاءَنِي رِجَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَلَصَحَّ أَنْ يُقَالَ: رَأَيْتُ اثْنَيْنِ رِجَالًا كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ ثَلَاثَةَ رِجَالٍ. الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ وَالْجَمْعِ فَقَالُوا فِي الِاثْنَيْنِ: فَعَلَا، وَفِي الْجَمِيعِ: فَعَلُوا. الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: مَا رَأَيْتُ رِجَالًا، بَلْ رَجُلَيْنِ. وَلَوْ كَانَ اسْمُ الرِّجَالِ لِلرَّجُلَيْنِ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ نَفْيُهُ.   (1) ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَى هَذَا الْأَثَرَ فِي سُنَنِهِ الْكُبْرَى مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: فِي صِحَّةِ هَذَا الْأَثَرِ نَظَرٌ فَإِنَّ شُعْبَةَ هَذَا تَكَلَّمَ فِيهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 السَّادِسَةُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ. وَكَذَلِكَ فِي النَّذْرِ وَالْوَصِيَّةِ. وَهَذِهِ الْحُجَجُ ضَعِيفَةٌ، أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَهِيَ مُعَارَضَةٌ بِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: الْأَخَوَانِ أُخْوَةٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَقَلُّ الْجُمَعِ اثْنَانِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَهُوَ أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ وَالرِّجَالِ أَنَّ اسْمَ الرَّجُلَيْنِ جَمْعٌ خَاصٌّ بِالِاثْنَيْنِ، وَالرِّجَالُ جَمْعٌ عَامٌّ لِلِاثْنَيْنِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِمَا. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَهُوَ أَنَّ الثَّلَاثَةَ نَعْتٌ لِلْجَمْعِ الْعَامِّ، وَهُوَ الرِّجَالُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِلْجَمْعِ الْخَاصِّ، وَهُوَ رَجُلَانِ، وَبِهِ يُعْرَفُ الْجَوَابُ عَنِ امْتِنَاعِ قَوْلِهِمْ: رَأَيْتُ اثْنَيْنِ رِجَالًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ رِجَالًا اسْمٌ لِلْجَمْعِ الْعَامِّ، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ أُعْطِيَ لِمَا دُونَ ذَلِكَ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ وَضَمِيرِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ ضَمِيرَ (فَعَلَا) لِجَمْعٍ خَاصٍّ، وَهُوَ الِاثْنَانِ، وَ (فَعَلُوا) ضَمِيرُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا الْخَامِسَةُ، فَإِنَّهُ إِذَا رَأَى رَجُلَيْنِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَصِحُّ قَوْلُهُ: مَا رَأَيْتُ رِجَالًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَيْنِ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَمَمْنُوعَةٌ عَلَى أَصْلِ مَنْ يَرَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ. وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَعَلَى النَّاظِرِ بِالِاجْتِهَادِ فِي التَّرْجِيحِ وَإِلَّا فَالْوَقْفُ لَازِمٌ (1) .   (1) اعْتَرَفَ الْآمِدِيُّ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَانْتَهَى مِنْهَا دُونَ أَنْ يَخْتَارَ لِنَفْسِهِ رَأْيًا فِيهَا، وَذَلِكَ لِعَدَمِ سَلَامَةِ الْأَدِلَّةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فِي نَظَرِهِ، فَلَزِمَهُ الْقَوْلُ بِأَنَّ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ مَا هُوَ ظَنِّيٌّ بَلْ هُوَ مَشْكُوكٌ فِي صِحَّتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي أَوْ مَجَازٌ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فِي الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي أَوْ مَجَازٌ؟ عَلَى ثَمَانِيَةِ مَذَاهِبَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَبْقَى حَقِيقَةً مُطْلَقًا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ الْمُخَصَّصُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَبْقَى مَجَازًا كَيْفَمَا كَانَ الْمُخَصَّصُ، وَهُوَ مَذْهَبُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ كَعِيسَى بْنِ أَبَانَ وَغَيْرِهِ. وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ الْبَاقِي جَمْعًا فَهُوَ حَقِيقَةٌ وَإِلَّا فَلَا. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ فَهُوَ حَقِيقَةٌ كَيْفَمَا كَانَ الْمُخَصَّصُ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ مِنْ شَرْطٍ كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي وَأَكْرَمَنِي أَكْرَمْتُهُ، أَوِ اسْتِثْنَاءٍ كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ سِوَى بَنِي تَمِيمٍ فَحَقِيقَةٌ وَإِلَّا فَمَجَازٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ (1) . وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنْ كَانَ مُخَصَّصَهُ شَرْطًا كَمَا سَبَقَ تَمْثِيلُهُ أَوْ تَقْيِيدًا بِصِفَةٍ كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي عَالِمًا أَكْرَمْتُهُ فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَهُوَ مَجَازٌ حَتَّى فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْقَرِينَةُ الْمُخَصِّصَةُ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا وَسَوَاءٌ كَانَتْ عَقْلِيَّةً كَالدَّلَالَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْقَادِرِ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْخِطَابِ فِي الْعِبَادَاتِ، أَوْ لَفْظِيَّةً كَقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْعُمُومِ: أَرَدْتُ بِهِ الْبَعْضَ الْفُلَانِيَّ فَهُوَ مَجَازٌ وَإِلَّا فَهُوَ حَقِيقَةٌ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْقَرِينَةُ شَرْطًا أَوْ صِفَةً مُقَيِّدَةً أَوِ اسْتِثْنَاءً. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي تَنَاوُلِ اللَّفْظِ لَهُ، مَجَازٌ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ.   (1) هُوَ الْبَاقِلَّانِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 وَالْمُخْتَارُ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ أَنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا فِي الْمُسْتَبْقِي وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُخَصَّصُ مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا عَقْلِيًّا أَوْ لَفْظِيًّا بِاسْتِثْنَاءٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ تَقْيِيدٍ بِصِفَةٍ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِغْرَاقِ وَالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنْ كُلِّ الْجِنْسِ، فَصَرْفُهُ إِلَى الْبَعْضِ بِالْقَرِينَةِ كَيْفَمَا كَانَتِ الْقَرِينَةُ. أَمَّا أَنْ يَكُونَ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ، وَإِلَّا كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ، ضَرُورَةَ اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْهِمَا بِالْبَعْضِيَّةِ وَالْكُلِّيَّةِ، وَعَدَمِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنًى جَامِعٍ يَكُونُ مَدْلُولًا لِلَّفْظِ، (1) وَالْمُشْتَرَكِ لَا يَكُونُ ظَاهِرًا بِلَفْظِهِ فِي بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ دُونَ الْبَعْضِ (2) ، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَجَازًا. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجِنْسِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا (3) وَلَا مَجَازًا فِي أَحَدِهِمَا؟ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ الْمُسْتَبْقِي أَنَّ اللَّفْظَ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ حَقِيقَةً قَبْلَ التَّخْصِيصِ، فَخُرُوجُ غَيْرِهِ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ، سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الْجِنْسِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ بِمُطْلَقِهِ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِغْرَاقِ؟ وَمَعَ الْقَرِينَةِ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ، سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ بَقَائِهِ حَقِيقَةً فِيهِ، وَلَكِنْ مَتَى إِذَا كَانَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ لَفْظِيًّا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْفَصِلًا، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ الْمُخَصَّصُ لَفْظِيًّا مُتَّصِلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ شَرْطًا أَوْ تَقْيِيدًا بِصِفَةٍ أَوِ اسْتِثْنَاءً، فَإِنَّ الْكَلَامَ يَصِيرُ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ كَلَامًا آخَرَ مُسْتَقِلًّا مَوْضُوعًا لِلْبَعْضِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ كَانَ لَهُ مَعْنًى، فَإِذَا زَادَ شَرْطًا أَوْ صِفَةً أَوِ اسْتِثْنَاءً كَقَوْلِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي وَأَكْرَمَنِي أَكْرَمْتُهُ، وَمَنْ دَخَلَ دَارِي عَالِمًا أَكْرَمْتُهُ، أَوْ مَنْ دَخَلَ دَارِي أَكْرَمْتُهُ   (1) أَيْ فَلَيْسَ مِنَ الْمُشْتَرَكِ الْمَعْنَوِيِّ (2) مَعْنَى الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ اللَّفْظِيَّ لَا يَكُونُ ظَاهِرًا بِنَفْسِهِ فِي بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ دُونَ الْبَعْضِ لِكَوْنِهِ مُجْمَلًا (3) أَيْ لَفْظِيًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 إِلَّا بَنِي تَمِيمٍ تَغَيَّرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَصَارَ مَعْنَى الشَّرْطِ الدَّاخِلَ الْمُكَرَّمَ، وَمَعْنَى الصِّفَةِ الدَّاخِلَ الْعَالِمَ، وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلَ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَكَانَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفًا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ حَقِيقَةٌ فِي مَعْنَاهُ، وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: مُسْلِمٌ فَإِنَّ لَهُ مَعْنًى، فَإِذَا زَادَ فِيهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فَقَالَ الْمُسْلِمُ، أَوْ زَادَ فِيهِ الْوَاوَ وَالنُّونَ فَقَالَ مُسْلِمُونَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ بِإِلْحَاقِ الزِّيَادَةِ فِيهِ صَارَ دَالًّا عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ، لَا بِجِهَةِ التَّجَوُّزِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا نَقُولُ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} إِنَّ مَجْمُوعَ هَذَا الْقَوْلِ دَلَّ عَلَى الْمُسْتَبْقِي بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ: فَلَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ عَامًا، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ وَالْمُسْتَثْنَى فِي كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) فَقَالَ الرَّسُولُ عَقِيبَهُ: إِلَّا زَيْدًا فَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ أَنَّهُ كَالْمُتَّصِلِ الَّذِي لَا يَجْعَلُ لَفْظَ الْمُشْرِكِينَ مَجَازًا أَمْ لَا. فَمَنْ قَالَ بِكَوْنِهِ مُتَّصِلًا نَظَرَ إِلَى أَنَّ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَكُونُ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ بِغَيْرِ الْوَحْيِ، فَكَانَ فِي الْبَيَانِ كَمَا لَوْ كَانَ ذَلِكَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَاهُ مَجْرَى الدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ دُونَ الْمُتَّصِلِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْبَارِي تَعَالَى: زَيْدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَامَ لَا يَكُونُ خَبَرًا صَادِرًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ نَظْمَ الْكَلَامِ إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إِلَّا فِي الشَّرْطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: أُكْرِمُ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي، فَإِنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا مِمَّا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ أَعْيَانِ الْأَشْخَاصِ، بَلْ هُوَ بَاقٍ بِحَالِهِ. وَإِنَّمَا أَخْرَجَ حَالًا مِنَ الْأَحْوَالِ، وَهِيَ حَالَةُ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا. سَلَّمْنَا التَّجَوُّزَ مُطْلَقًا، لَكِنْ مَتَى إِذَا كَانَ الْمُسْتَبْقِي مُنْحَصِرٌ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِيَ مُسَلَّمٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْبَعْضَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكُلِّ إِلَّا أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ حَقِيقَةٌ فِي اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ، لَا فِي الْجِنْسِ مُطْلَقًا وَلِهَذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الْبَعْضِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْجِنْسِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ، وَمَعْنَى مُتَحَقِّقٍ فِي الْمُسْتَبْقِي فَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ اللَّفْظَ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ حَقِيقَةً قَبْلَ التَّخْصِيصِ، قُلْنَا بِانْفِرَادِهِ أَوْ مَعَ الْمُخَصَّصِ (1) الْخَارِجِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مَعَ التَّخْصِيصِ أَنْ يَبْقَى حَقِيقَةً فِيهِ، كَيْفَ وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ؟ فَإِنَّ اللَّفْظَ كَانَ مُتَنَاوِلًا لَهُ حَقِيقَةً قَبْلَ التَّخْصِيصِ وَبَعْدَ التَّخْصِيصِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَرْفَعُ جَمِيعَ الْمَجَازَاتِ عَنِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ مَجَازٍ إِلَّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي مَدْلُولِهِ، وَبِدُونِ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي غَيْرِهِ (2) . الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ لَكَانَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي الِاسْتِغْرَاقِ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِالْقَرِينَةِ الْمُخَصِّصَةِ لَهُ بِالْبَعْضِ اسْتِعْمَالًا لَهُ فِي غَيْرِ الْحَقِيقَةِ، وَصَارِفًا لَهُ عَنِ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عِنْدَ اقْتِرَانِهِ بِالدَّلِيلِ اللَّفْظِيِّ الْمُتَّصِلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَصُورَتِهِ بِمَا اقْتَرَنَ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ مُقْتَرِنٍ بِشَيْءٍ خَارِجًا عَنْ حَقِيقَتِهِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خُرُوجُ الْجِسْمِ عَنْ حَقِيقَتِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِسْمٌ عِنْدَ اتِّصَافِهِ بِالْبَيَاضِ أَوِ السَّوَادِ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِذَا كَانَ بَاقِيًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَمَعْنَاهُ لَا يَكُونُ مُخْتَلِفًا، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَصِيرَ مَصْرُوفًا عَنْ مَعْنَاهُ بِالْقَرِينَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِهِ، وَهُوَ التَّجَوُّزُ بِعَيْنِهِ. وَعَلَى هَذَا فَأَلْفَاظُ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قِصَّةِ نُوحٍ الْأَلْفُ لِلْأَلْفِ وَالْخَمْسُونَ لِلْخَمْسِينَ، وَإِلَّا لِلرَّفْعِ، وَمَعْرِفَةِ مَا بَقِيَ حَاصِلَةٌ بِالْحِسَابِ. وَخَرَجَ عَنْ هَذَا زِيَادَةُ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْمُسْلِمِ، وَالْوَاوِ وَالنُّونِ فِي   (1) الْمُخَصَّصُ - اسْمُ مَفْعُولٍ (2) قَدْ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ مَنْ يُنْكِرُ الْمَجَازَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهَا لَا مَعْنًى لَهَا فِي نَفْسِهَا دُونَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا. فَلِذَلِكَ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّعْيِينِ فِي الْوَضْعِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ: لَا إِلَهَ، فَإِنَّهُ بِمُطْلَقِهِ يَكُونُ كُفْرًا، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا اللَّهُ كَانَ إِيمَانًا، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كَانَ بِمُطْلَقِهِ تَنْجِيزًا لِلطَّلَاقِ، وَلَوِ اقْتَرَنَ بِهِ الشَّرْطُ وَهُوَ قَوْلُهُ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ كَانَ تَعْلِيقًا مَعَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالشَّرْطَ لَهُ مَعْنًى، وَلَوْلَا تَغَيُّرُ الدَّلَالَةِ وَالْوَضْعِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ التَّغْيِيرَ فِي الْوَضْعِ، بَلْ غَايَتُهُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَمَّا اقْتَضَاهُ فِي جِهَةِ إِطْلَاقِهِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْقَرِينَةِ كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرُوهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ؟ وَعَنِ السُّؤَالِ الرَّابِعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَهْمَا أَخْرَجَ الشَّرْطُ بَعْضَ الْأَحْوَالِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْأَعْيَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا دَارِي فَقَدْ أَخْرَجَ مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا مِنَ الْأَعْيَانِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ التَّجَوُّزِ فِي إِخْرَاجِ الْأَعْيَانِ، وَمَا الْمَانِعُ مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّجَوُّزِ فِي إِخْرَاجِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَعَ عُمُومِ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا؟ وَعَنِ السُّؤَالِ الْخَامِسِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْتَبْقِيَ وَإِنْ كَانَ جَمْعًا غَيْرَ مُنْحَصِرٍ أَنَّهُ يَكُونُ عَامًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا لِلْجِنْسِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا عُمُومَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ بَعْضُ مَدْلُولِ اللَّفْظِ الْعَامِّ الْمُخَصَّصِ، وَإِذَا كَانَ بَعْضًا مِنْهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ صَرْفُ اللَّفْظِ إِلَيْهِ مَجَازًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الِاحْتِجَاجِ بِالعمومِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ فِي مَا بَقِيَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ فِي مَا بَقِيَ فَأَثْبَتَهُ الْفُقَهَاءُ مُطْلَقًا، وَأَنْكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَأَبُو ثَوْرٍ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْصِيلِ، فَقَالَ الْبَلْخِيُّ (1) : إِنْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُتَّصِلٍ كَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالِاسْتِثْنَاءِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنَّ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ قَدْ مَنَعَ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ، وَأَوْجَبَ تَعَلُّقَهُ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ الظَّاهِرُ لَمْ يَجُزِ التَّعَلُّقُ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَإِنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ وَمِقْدَارِ الْمَسْرُوقِ مَانِعٌ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِعُمُومِ اسْمِ السَّارِقِ، وَمُوجِبٌ لِتَعَلُّقِهِ بِشَرْطٍ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ ظَاهِرُ اللَّفْظِ. وَإِنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ فَهُوَ حُجَّةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، فَإِنَّ قِيَامَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ قَتْلِ الذِّمِّيِّ غَيْرِ مَانِعٍ مِنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِاسْمِ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنْ كَانَ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ، لَوْ تَرَكْنَا وَظَاهِرُهُ مِنْ دُونِ التَّخْصِيصِ كُنَّا نَمْتَثِلُ مَا أُرِيدَ مِنَّا، وَنَضُمُّ إِلَيْهِ مَا لَمْ يُرَدْ مِنَّا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الْمُخَصَّصُ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ بِحَيْثُ لَوْ تَرَكْنَا وَظَاهِرُهُ تَخْصِيصٌ لَمْ يُمْكِنَّا امْتِثَالُ مَا أُرِيدَ مِنَّا دُونَ بَيَانٍ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} لَوْ تَرَكْنَا وَالْآيَةُ لَمْ يُمْكِنَّا امْتِثَالَ مَا أُرِيدَ مِنَّا مِنَ الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ قَبْلَ تَخْصِيصِهِ بِالْحَائِضِ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ.   (1) أَبُو ثَوْرٍ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ الْكَلْبِيُّ الْفَقِيهُ الْبَغْدَادِيُّ مَاتَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ 240 عَنْ 70 سَنَةً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَكُونُ حُجَّةً فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ لَوْ خُصَّ تَخْصِيصًا مُجْمَلًا، فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى حُجَّةً كَمَا لَوْ قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَعْضَهُمْ. وَالْمُخْتَارُ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِيمَا وَرَاءَ صُوَرِ التَّخْصِيصِ، وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْأَصْحَابِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: اللَّفْظُ الْعَامُّ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ، فَكَوْنُهُ حُجَّةً فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ ذَلِكَ الْكُلِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ، أَوْ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْكُلِّ أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْسَامِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ فَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ كَانَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي بَعْضِ الْأَقْسَامِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ حُجَّةً فِي قَسَمٍ آخَرَ وَلَا عَكْسَ، فَكَوْنُهُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ الْقِسْمِ الْآخَرِ يَبْقَى بِدُونِ كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْقَسَمِ الْمَشْرُوطِ، وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَقْسَامِ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ مَعَ تَسَاوِي نِسْبَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ إِلَى كُلِّ أَقْسَامِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ كَوْنَهُ حُجَّةً فِي الْكُلِّ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ، لِأَنَّ الْكُلَّ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ، وَذَلِكَ أَيْضًا دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ. وَإِذَا بَطَلَ الْقِسْمَانِ ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْسَامِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً فِي الْقِسْمِ الْآخَرِ، وَلَا عَلَى الْكُلِّ ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً فِي الْبَعْضِ الْمُسْتَبْقِي، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ حُجَّةً فِي غَيْرِهِ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَعَ طُولِهَا ضَعِيفَةٌ جِدًّا إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا الْمَانِعُ مِنْ صِحَّةِ تَوَقُّفِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَقْسَامِ عَلَى الْآخَرِ، أَوْ عَلَى الْكُلِّ مَعَ التَّعَاكُسِ؟ قَوْلُهُ إِنَّهُ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا إِذَا كَانَ التَّوَقُّفُ تَوَقُّفَ مَعِيَّةٍ أَوْ تَوَقُّفَ تَقَدُّمٍ؟ (1) الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ بِأَنَّ التَّوَقُّفَ هَاهُنَا بِجِهَةِ التَّقَدُّمِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَيَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ.   (1) الدَّوْرُ نَوْعَانِ سَبْقِيٌّ وَمَعِيٌّ، فَالسَّبْقِيُّ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الْقَبْلِيُّ هُوَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى مَا تُوُقِّفَ عَلَيْهِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: مُصَرَّحٌ وَمُضْمَرٌ، فَالْمُصَرَّحُ مَا كَانَتِ الْوَاسِطَةُ فِيهِ وَاحِدَةً مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ مَثَلًا: خَالِدٌ أَوْجَدَ بَكْرًا وَبَكْرٌ أَوْجَدَ خَالِدًا، فَبَكْرٌ مُتَوَقِّفٌ فِي وُجُودِهِ عَلَى خَالِدٍ وَخَالِدٌ مُتَوَقِّفٌ فِي وُجُودِهِ عَلَى بَكْرٍ، فَالْوَاسِطَةُ وَاحِدَةٌ وَيُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا دَوْرٌ بِمَرْتَبَةٍ، وَالْمُضْمَرُ مَا كَانَتِ الْوَاسِطَةُ فِيهِ أَكْثَرَ مِثَالِهِ: أَنْ يُقَالَ مَثَلًا: خَالِدٌ أَوُجَدَ بَكْرًا، وَبَكْرٌ أَوْجَدَ عَلِيًّا، وَعَلِيٌّ أَوْجَدَ خَالِدًا، فَفِي هَذَا الْمِثَالِ تَوَقَّفَ وُجُودُ خَالِدٍ عَلَى نَفْسِهِ بِوَاسِطَتَيْنِ بَكْرٍ وَعَلِيٍّ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ بِمَرْتَبَتَيْنِ، وَكُلَّمَا زَادَتِ الْوَسَائِطُ كَانَتِ الْمَرَاتِبُ بِحَسَبِهَا، وَهَذَا الدَّوْرُ بِقِسْمَيْهِ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ إِذْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ سَابِقًا لَا سَابِقًا مُؤَثِّرًا لَا مُؤَثِّرًا إِلَخْ، بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ غَيْرَ نَفْسِهِ ضَرُورَةَ التَّغَايُرِ بَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ وَالْأَثَرِ وَالْمُؤَثِّرِ، أَمَّا الدَّوْرُ الْمَعِيُّ فَمِثْلُ تَوَقُّفِ كُلٍّ مِنَ الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ عَلَى الْآخَرِ، فَلَا تُعْقَلُ أُبُوَّةٌ إِلَّا مَعَ عَقْلِ بُنُوَّةٍ، وَلَا بُنُوَّةٌ إِلَّا مَعَ عَقْلِ أُبُوَّةٍ، وَلَا يُوجَدُ كُلٌّ مِنْهُمَا إِلَّا مَعَ وُجُودِ الْآخَرِ دُونَ تَقَدُّمٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَجُودًا وَتَعَقُّلًا، وَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِضَافَاتِ وَهِيَ أُمُورٌ اعْتِبَارِيَّةٌ لَا وُجُودَ لَهَا، وَلِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا لَيْسَ عِلَّةً فِي وُجُودِ الْآخَرِ وَلَا مَعْلُولًا لَهُ، بَلْ كِلَاهُمَا أَثَرٌ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - احْتَجَّتْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ فِي مِيرَاثِهَا مِنْ أَبِيهَا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الْآيَةَ مَعَ أَنَّهُ مُخَصَّصٌ بِالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ، وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ صِحَّةَ احْتِجَاجِهَا مَعَ ظُهُورِهِ وَشُهْرَتِهِ، بَلْ عَدَلَ أَبُو بَكْرٍ فِي حِرْمَانِهَا إِلَى الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» ". وَأَيْضًا، فَإِنَّ عَلِيًّا (1) عَلَيْهِ السَّلَامُ احْتَجَّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْمِلْكِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مَعَ كَوْنِهِ مُخَصَّصًا بِالْأَخَوَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ احْتَجَّ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُرْضِعَةِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ، وَقَالَ: قَضَاءُ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، مَعَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ لِكَوْنِ الرَّضَاعِ الْمُحَرَّمِ مُتَوَقِّفًا عَلَى شُرُوطٍ وَقُيُودٍ، فَلَيْسَ كُلٌّ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ صِحَّةَ احْتِجَاجِهِ بِهِ فَكَانَ إِجْمَاعًا.   (1) عَلِيًّا - الصَّوَابُ: " عُثْمَانَ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعَامَّ قَبْلَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِهِ إِجْمَاعًا. وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ قَبْلَ التَّخْصِيصِ بَعْدَهُ (1) إِلَّا أَنْ يُوجَدَ لَهُ مُعَارِضٌ. وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ حُجَّةً فِي الْبَاقِي بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ تَجَوُّزًا، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُشْتَرِكًا (2) بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِغْرَاقِ، ضَرُورَةَ اتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الِاسْتِغْرَاقِ، وَالِاشْتِرَاكُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَيَمْتَنِعُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَجَازَ فِيمَا وَرَاءَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ وَمَا عَدَا صُورَةَ التَّخْصِيصَ، وَيَمْتَنِعُ الْحَمْلُ عَلَى الْكُلِّ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ، وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ الْمَجَازَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ فَكَانَ مُجْمَلًا. الثَّانِي: أَنَّ الْمَجَازَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَمَا لَا يَكُونُ ظَاهِرًا لَا يَكُونُ حُجَّةً. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَعْضَهُمْ وَالْمُشَبَّهَ بِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَكَذَلِكَ الْمُشَبَّهُ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةً، لَكِنْ فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ أَوْ فِيمَا عَدَا صُورَةَ التَّخْصِيصِ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ مُتَيَقَّنٌ بِخِلَافِ الْحَمْلِ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَكَانَ حُجَّةً فِي الْمُتَيَقَّنِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ، أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ حُجَّةٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِهِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ إِجْمَاعًا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا ضَرُورَةً، وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ تَكُونُ لَازِمَةً، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ حُجَّةٌ وَالْعُذْرُ يَكُونُ مُتَّحِدًا. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَنَقُولُ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا؟ قَوْلُهُمْ: الِاشْتِرَاكُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ خِلَافَ الْأَصْلِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي عَنْ قُرْبٍ (إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) . وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُشْتَرَكًا فَمَا الْمَانِعُ مِنَ التَّجَوُّزِ؟   (1) هَذَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَفِيهِ خِلَافٌ، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ السَّادِسِ مِنَ الْإِحْكَامِ لِلْآمِدِيِّ (2) هَذَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاسْتِصْحَابِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَفِيهِ خِلَافٌ، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ السَّادِسِ مِنَ الْأَحْكَامِ لِلْآمِدِيِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ جِهَاتِ التَّجَوُّزِ. قُلْنَا: يَجِبُ اعْتِقَادُ ظُهُورِهِ فِي بَعْضِهَا نَفْيًا لِلْإِجْمَالِ عَنِ الْكَلَامِ إِذْ هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، ثُمَّ مَتَى يَكُونُ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى مَا عَدَا صُورَةِ التَّخْصِيصِ مَشْهُورًا أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَبَيَانُ اشْتِهَارِهِ مَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ عِلْمِهِمْ بِالْعُمُومَاتِ الْمُخَصَّصَةِ فِيمَا وَرَاءَ صُورَةِ التَّخْصِيصِ، نَقْلًا شَائِعًا ذَائِعًا سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ فِيهِ، وَلَكِنْ يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَقَلِّ الْجَمْعِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا وَكَوْنِ أَقَلِّ الْجَمْعِ مُبْهَمًا فِي الْجِنْسِ. وَالثَّانِي: إِنَّ حَمْلَهُ عَلَيْهِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ أَقَلَّ الْجَمْعِ غَيْرَ مُخِلٍّ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، وَحَمْلَهُ عَلَى أَقَلِّ الْجَمِيعِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ اللَّفْظِ مَا عَدَا صُورَةَ التَّخْصِيصِ مُخِلٌّ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: إِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِيقَةِ فَكَانَ أَوْلَى. قَوْلُهُمْ: الْمَجَازُ لَيْسَ بِظَاهِرٍ إِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحُجَّةُ مُنْحَصِرَةً فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً، فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بَعْضَهُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْخَارِجَ عَنِ الْعُمُومِ إِذَا كَانَ مَجْهُولًا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ فِي أَيِّ وَاحِدٍ قَدْرٌ لَا يُؤْمَنُ مَعَهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَثْنَى بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْخَارِجُ مُعَيَّنًا. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحَاتِ السَّابِقَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إِذَا وَرَدَ خِطَابٌ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ دَاعٍ إِلَى الْجَوَابِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ إِذَا وَرَدَ خِطَابٌ جَوَابًا لِسُؤَالِ سَائِلٍ دَاعٍ إِلَى الْجَوَابِ فَالْجَوَابُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ دُونَ السُّؤَالِ أَوْ هُوَ مُسْتَقِلٌّ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ تَابِعٌ لِلسُّؤَالِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ: أَمَّا فِي عُمُومِهِ خِلَافٌ، وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ فَلَا إِذًا» ". وَأَمَّا فِي خُصُوصِهِ فَكَمَا لَوْ سَأَلَهُ سَائِلٌ وَقَالَ: تَوَضَّأْتُ بِمَاءِ الْبَحْرِ، فَقَالَ لَهُ: يُجْزِئُكَ، فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ، وَإِنْ تُرِكَ فِيهِ الِاسْتِفْصَالُ مَعَ تَعَارُضِ الْأَحْوَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِذِ اللَّفْظُ لَا عُمُومَ لَهُ. وَلَعَلَّ الْحُكْمَ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ كَانَ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِهِ (1) كَتَخْصِيصِ أَبِي بُرْدَةَ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِجَدَعَةٍ مِنَ الْمَعْزِ، وَقَوْلِهِ لَهُ: تُجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ، وَتَخْصِيصِهِ خُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَبِتَقْدِيرِ تَعْمِيمِ الْمَعْنَى الْجَالِبِ لِلْحُكْمِ، فَالْحُكْمُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إِنْ ثَبَتَ فَبِالْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ لَا بِالنَّصِّ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجَوَابُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ دُونَ السُّؤَالِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلسُّؤَالِ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ أَوْ أَخَصَّ.   (1) الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ حَزْمٍ وَجَمَاعَةٌ بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَأَجَابَ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ ذَلِكَ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ بِأَنَّ الدَّارَقُطْنِيَّ قَالَ فِيهِ: إِنَّهُ ثِقَةٌ ثَبَتٌ وَيَقُولُ الْمُنْذِرِيُّ: رَوَى عَنْهُ ثِقَاتٌ وَاعْتَمَدَهُ مَالِكٌ مَعَ شِدَّةٍ نَقْدِهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا طَعَنَ فِيهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ فَالْحُكْمُ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ عِنْدَ كَوْنِ السُّؤَالِ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، فَكَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا. وَمِثَالُهُ عِنْدَ كَوْنِ السُّؤَالِ خَاصًّا سُؤَالُ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ وَطْئِهِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «اعْتِقْ رَقَبَةً» " (1) ، وَمِثَالُهُ عِنْدَ كَوْنِ السُّؤَالِ عَامًّا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ: " إِنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ عَلَى أَرْمَاثٍ لَنَا، (2) وَلَيْسَ مَعَنَا مِنَ الْمَاءِ الْعَذْبِ مَا يَكْفِينَا، أَفَنَتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْبَحْرُ هُوَ الطَّهُورُ» ". وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجَوَابُ أَخَصَّ مِنَ السُّؤَالِ فَالْجَوَابُ يَكُونُ خَاصًّا، وَلَا يَجُوزُ تَعَدِّيهِ الْحُكْمَ مِنْ مَحَلِّ التَّنْصِيصِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ عَنِ اللَّفْظِ، إِذِ اللَّفْظُ لَا عُمُومَ لَهُ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، بَلْ وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْحُكْمُ بِالْخُصُوصِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِهِ فِيمَا إِذَا كَانَ السُّؤَالُ خَاصًّا، وَالْجَوَابُ مُسَاوِيًا لَهُ حَيْثُ إِنَّهُ هَاهُنَا عَدَلَ عَنْ مُطَابَقَةِ سُؤَالِ السَّائِلِ بِالْجَوَابِ مَعَ دَعْوَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ تِلْكَ الصُّورَةِ، فَإِنَّهُ طَابَقَ بِجَوَابِهِ سُؤَالَ السَّائِلِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجَوَابُ أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنَ السُّؤَالِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ، كَسُؤَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَاءِ بِئْرِ بُضَاعَةَ فَقَالَ: " «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ لَوْنَهُ» " أَوْ أَنَّهُ (3) أَعَمُّ مِنَ السُّؤَالِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَسُؤَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: " «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» " (4) .   (1) إِشَارَةً إِلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ أَفْسَدَ صَوْمَهُ بِجِمَاعٍ، لَكِنَّ الْمُؤَلِّفَ اقْتَصَرَ مِنْهُ عَلَى مَوْضِعِ الشَّاهِدِ مَعَ التَّصَرُّفِ فِي حِكَايَةِ سَبَبِ الْوَاقِعَةِ. (2) إِشَارَةً إِلَى مَا رَوَاهُ الْخَمْسَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ بِعِبَارَاتٍ عِدَّةٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَقَالٌ، لَكِنْ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَقَدْ تُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ (3) الْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَلَفْظِ التِّرْمِذِيِّ: " إِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لَا يَبْخَسُهُ شَيْءٌ " وَقَدْ تَصَرَّفَ الْآمِدِيُّ فِي مَتْنِهِ وَزَادَ فِيهِ: " إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ لَوْنَهُ " وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تَصِحُّ رِوَايَةً، وَلَكِنَّهَا مُجْمَعٌ عَلَى مَعْنَاهَا، وَبِالْإِجْمَاعِ اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى بِخَاسَّةِ الْمَاءِ بِتَغَيُّرِ لَوْنِهِ أَوْ طَعْمِهِ أَوْ رِيحِهِ بِنَجَاسَةٍ، انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ (4) إِشَارَةً إِلَى مَا رَوَاهُ الْخَمْسَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ بِعِبَارَاتٍ عِدَّةٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ فِي كُلٍّ مِنْهَا مَقَالٌ، لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَقَدْ تُلُقِّيَ بِالْقَبُولِ، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 فَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي فَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهِ فِي حِلِّ مِيتَتِهِ لِأَنَّهُ عَامٌّ مُبْتَدَأٌ بِهِ لَا فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ، إِذْ هُوَ غَيْرُ مَسْئُولٍ عَنْهُ، وَكُلُّ عَامٍّ وَرَدَ مُبْتَدَأً بِطَرِيقِ الِاسْتِقْلَالِ فَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ أَنَّهُ عَامٌّ، وَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عُمُومُهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ، وَالْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ خِلَافُهُ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا وَرَدَ الْعَامُّ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالسُّؤَالِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مَرَّ بِشَاةٍ مَيْمُونَةٍ وَهِيَ مَيْتَةٌ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا إِهَابٌ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» " (1) . وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ بِالتَّعْمِيمِ إِلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ. وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَوْ عُرِّيَ اللَّفْظُ الْوَارِدُ عَنِ السَّبَبِ كَانَ عَامًّا، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِاقْتِضَائِهِ لِلْعُمُومِ بِلَفْظِهِ لَا لِعَدَمِ السَّبَبِ، فَإِنَّ عَدَمَ السَّبَبِ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، وَدَلَالَةُ الْعُمُومِ لَفْظِيَّةٌ، وَإِذَا كَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى الْعُمُومِ مُسْتَفَادَةً مِنْ لَفْظِهِ فَاللَّفْظُ وَارِدٌ مَعَ وُجُوبِ السَّبَبِ حَسَبَ وُرُودِهِ مَعَ عَدَمِ السَّبَبِ، فَكَانَ مُقْتَضِيًا لِلْعُمُومِ، وَوُجُودُ السَّبَبِ لَوْ كَانَ لَكَانَ مَانِعًا مِنِ اقْتِضَائِهِ لِلْعُمُومِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْمَانِعِيَّةِ، فَمُدَّعِيهَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَانِعًا مِنَ الِاقْتِضَاءِ لِلْعُمُومِ لَكَانَ تَصْرِيحُ الشَّارِعِ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِعُمُومِهِ مَعَ وُجُودِ السَّبَبِ إِمَّا إِثْبَاتَ حُكْمِ الْعُمُومِ مَعَ انْتِفَاءِ الْعُمُومِ، أَوْ إِبْطَالَ الدَّلِيلِ الْمُخَصَّصِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَكْثَرَ الْعُمُومَاتِ وَرَدَتْ عَلَى أَسْبَابٍ خَاصَّةٍ، فَآيَةُ السَّرِقَةِ نَزَلَتْ فِي سَرِقَةِ الْمِجَنِّ أَوْ رِدَاءِ صَفْوَانَ، وَآيَةُ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي حَقِّ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ، وَآيَةُ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي حَقِّ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالصَّحَابَةُ عَمَّمُوا أَحْكَامَ هَذِهِ   (1) الْحَدِيثُ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ: " إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ "، وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بِمَعْنَاهُ، انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 الْآيَاتِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلْعُمُومِ، وَلَوْ كَانَ مُسْقِطًا لِلْعُمُومِ لَكَانَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى التَّعْمِيمِ خِلَافَ الدَّلِيلِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ الْعُمُومِ بِالسَّبَبِ، وَبَيَانُهُ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُرَادُ بَيَانَ حُكْمِ السَّبَبِ لَا غَيْرَ، بَلْ بَيَانَ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ لَمَا أُخِّرَ الْبَيَانُ إِلَى حَالَةِ وُقُوعِ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ. وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ حُكْمِ السَّبَبِ الْخَاصِّ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِطَابُ عَامًّا لَكَانَ جَوَابًا وَابْتِدَاءً، وَقَصْدُ الْجَوَابِ وَالِابْتِدَاءِ مُتَنَافِيَانِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخِطَابُ مَعَ السَّبَبِ عَامًّا لَجَازَ إِخْرَاجُ السَّبَبِ عَنِ الْعُمُومِ بِالِاجْتِهَادِ كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الصُّوَرِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ الْعُمُومِ، ضَرُورَةَ تَسَاوِي نِسْبَةِ الْعُمُومِ إِلَى الْكُلِّ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّبَبِ مَدْخَلٌ فِي التَّأْثِيرِ لَمَا نَقَلَهُ الرَّاوِي لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: تَغَدَّى عِنْدِي، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا تَغَدَّيْتُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ جَوَابًا عَامًّا فَمَقْصُورٌ عَلَى سَبَبِهِ حَتَّى إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِغَدَائِهِ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ السُّؤَالُ خَاصًّا فَلَوْ كَانَ الْجَوَابُ عَامًّا لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، وَالْأَصْلُ الْمُطَابَقَةُ لِكَوْنِ الزِّيَادَةِ عَدِيمَةَ التَّأْثِيرِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ غَرَضُ السَّائِلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْغَرَضِ وَالْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ (1) ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُسَلَّمًا، لَكِنْ لَا مَانِعَ مِنِ اخْتِصَاصِ إِظْهَارِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ الرَّبُّ تَعَالَى بِالْعِلْمِ بِهَا دُونَ غَيْرِهِ،   (1) رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَتَشْرِيعِهِ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِاسْتِقْرَاءِ النُّصُوصِ، وَهُوَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا فِي حِكْمَتِهِ وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا إِلَى عِبَادِهِ وَرَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 ثُمَّ يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرُوهُ أَنْ تَكُونَ الْعُمُومَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مُخْتَصَّةً بِأَسْبَابِهَا، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالتَّنَافِي بَيْنَ الْجَوَابِ وَالِابْتِدَاءِ امْتِنَاعُ ذِكْرِهِ لِحُكْمِ السَّبَبِ مَعَ غَيْرِهِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَإِنْ أَرَادُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي كَوْنِ الْخِطَابِ وَرَدَ بَيَانًا لِحُكْمِ السَّبَبِ فَكَانَ مَقْطُوعًا بِهِ فِيهِ، فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ تَخْصِيصُهُ بِالِاجْتِهَادِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَهُ لَهُ ظَنِّيٌّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ فَلِذَلِكَ جَازَ إِخْرَاجُهُ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ إِخْرَاجُ السَّبَبِ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ بِالِاجْتِهَادِ، حَتَّى إِنَّهُ أَخْرَجَ الْأَمَةَ الْمُسْتَفْرَشَةَ عَنْ عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» " (1) وَلَمْ يَلْحَقْ وَلَدُهَا بِمَوْلَاهَا مَعَ وُرُودِهِ فِي وَلِيدِ زَمْعَةَ. وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ: هُوَ أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَلَعَلَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى وُرُودِ الْخَبَرِ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ. وَعَنِ الرَّابِعَةِ أَنَّ فَائِدَةَ نَقْلِ السَّبَبِ امْتِنَاعُ إِخْرَاجِهِ عَنِ الْعُمُومِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَمَعْرِفَةُ أَسْبَابِ التَّنْزِيلِ. وَعَنِ الْخَامِسَةِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ بِالسَّبَبِ فِي الصُّورَةِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهَا عَادَةُ أَهْلِ الْعُرْفِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى خِطَابِ الشَّارِعِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَعَنِ السَّادِسَةِ إِنْ أَرَادُوا بِمُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ الْكَشْفَ عَنْهُ وَبَيَانَ حُكْمِهِ فَقَدْ وُجِدَ، وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ بَيَانًا لِغَيْرِ مَا سُئِلَ عَنْهُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ الْأَصْلُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سُئِلَ عَنِ التَّوَضُّؤِ بِمَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: " «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» " تَعَرَّضَ لِحِلِّ الْمَيْتَةِ وَلَمْ يَكُنْ مَسْئُولًا عَنْهَا. وَلَوْ كَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى نَفْسِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ هُوَ الْأَصْلُ لَكَانَ بَيَانُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحِلِّ الْمَيْتَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهُوَ بَعِيدٌ.   (1) الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ فِي عِدَّةِ أَبْوَابٍ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 [الْمَسْأَلَةُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ (1) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ مُشْتَرَكًا (2) بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ كَالْقُرْءِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ أَوْ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ كَالنِّكَاحِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ، وَلَمْ تَكُنِ الْفَائِدَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةً، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ مَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجُبَّائِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى جَوَازِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَذَلِكَ كَاسْتِعْمَالِ صِيغَةِ (افْعَلْ) فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مَهْمَا تَجَرَّدَ ذَلِكَ اللَّفْظُ عَنِ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ لَهُ إِلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَا كَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مِنْ مَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا إِلَى الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ مُطْلَقًا. وَفَصَّلَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَالْغَزَالِيُّ فَقَالَا: يَجُوزُ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى الْإِرَادَةِ دُونَ اللُّغَةِ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الْخِلَافِ فِي اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَمْعِهِ كَالْأَقْرَاءِ الَّتِي هِيَ جَمْعُ قُرْءٍ هَلْ يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَيْضِ وَالْأَطْهَارِ مَعًا؟ وَسَوَاءٌ كَانَ إِثْبَاتًا كَمَا لَوْ قِيلَ لِلْمَرْأَةِ: اعْتَدِّي بِالْأَقْرَاءِ، أَوْ نَفْيًا كَمَا لَوْ قِيلَ لَهَا: لَا تَعْتَدِّي بِالْأَقْرَاءِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ جَمْعَ الِاسْمِ يُفِيدُ جَمْعَ مَا اقْتَضَاهُ الِاسْمُ، فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ مُتَنَاوِلًا لِمَعْنَيَيْهِ كَانَ الْجَمْعُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ سِوَى أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا جَمْعُهُ. وَالْحِجَاجُ فِيهِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْحِجَاجِ فِي الْمُفْرَدِ. وَرُبَّمَا قَالَ بِالتَّعْمِيمِ فِي طَرَفِ النَّفْيِ كَانَ فَرْدًا أَوْ جَمْعًا بَعْضُ مَنْ قَالَ بِنَفْيِهِ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: وَفِيهِ بَعْضُ الِاشْتِبَاهِ إِذْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بِنَفْيِ الِاعْتِدَادِ بِالْحَيْضِ وَالطُّهْرِ مَعًا. وَالْحَقُّ أَنَّ النَّفْيَ لِمَا اقْتَضَاهُ الْإِثْبَاتُ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الْإِثْبَاتِ الْجَمْعَ فَكَذَلِكَ النَّفْيُ، وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَاهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ فَكَذَلِكَ النَّفْيُ. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى بَيَانِ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ بِالتَّفْصِيلِ فَلْنَعُدْ إِلَى طَرَفِ الْحِجَاجِ. وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّعْمِيمِ.   (1) انْظُرِ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ وُجُودِ الْمُشْتَرَكِ وَوُقُوعِهِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ فِي ص 19 مِنْ ج 1 (2) كَانَتْ مُشْتَرَكَةً - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: كَانَ مُشْتَرَكًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 أَمَّا فِي إِمْكَانِ إِرَادَةِ الْأَمْرَيْنِ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ فَهُوَ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ التَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْقُرْءِ لَمْ يُمْنَعِ الْجَمْعُ بَيْنَ إِرَادَةِ الِاعْتِدَادِ بِالْحَيْضِ وَإِرَادَةِ الِاعْتِدَادِ بِالطُّهْرِ، فَوُجُودُ اللَّفْظِ لَا يُحِيلُ مَا كَانَ جَائِزًا، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي إِرَادَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَأَمَّا بِالنَّظَرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ لُغَةً، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ، وَالصَّلَاةُ مِنَ اللَّهِ الرَّحْمَةُ وَمِنَ الْمَلَائِكَةِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَقَدْ أُرِيدَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَسُجُودُ النَّاسِ غَيْرُ سُجُودِ غَيْرِ النَّاسِ، وَقَدْ أُرِيدَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ سِيبَوَيْهِ قَالَ: قَوْلُ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: الْوَيْلُ لَكَ خَبَرٌ وَدُعَاءٌ، فَقَدْ جَعَلَهُ مَعَ اتِّحَادِهِ مُفِيدًا لِكِلَا الْأَمْرَيْنِ. اعْتَرَضَ النَّافُونَ، أَمَّا عَلَى إِرَادَةِ إِنْكَارِ الْجَمْعِ (1) بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ فَهُوَ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ إِذَا اسْتَعْمَلَ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا مَعًا كَانَ مُرِيدًا لِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْتَعْمِلَ لِلْكَلِمَةِ فِيمَا هِيَ مَجَازٌ فِيهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُضْمِرَ فِيهَا كَافَ التَّشْبِيهِ، وَالْمُسْتَعْمِلُ لَهَا فِي حَقِيقَتِهَا لَا بُدَّ وَأَنْ لَا يُضْمِرَ فِيهَا ذَلِكَ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِضْمَارِ وَعَدَمِهِ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مُحَالٌ. هَذَا مَا يَخُصُّ الِاسْمَ الْمَجَازِيَّ وَأَمَّا مَا يَخُصُّ الِاسْمَ الْمُشْتَرَكَ فَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُمَا عَلَى الْجَمْعِ، إِذِ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْمَجْمُوعِ وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِهِ وَاقِعَةٌ بِالضَّرُورَةِ، وَالْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ لَازِمَةٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفْرَدَيْنِ مُسَمًّى بِاسْمِ تَسْمِيَةِ الْمَجْمُوعِ بِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْوَاضِعُ إِذَا وَضَعَ لَفْظًا لِأَحَدِ مَفْهُومَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ وَضَعَهُ لِمَجْمُوعِهِمَا فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَجْمُوعِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ كَانَ قَدْ وَضَعَهُ لَهُ فَإِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ لِإِفَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَحْدَهُ، أَوْ لِإِفَادَتِهِ مَعَ إِفَادَةِ الْإِفْرَادِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُفِيدًا لِأَحَدِ مَفْهُومَاتِهِ، لِأَنَّ الْوَاضِعَ إِنْ كَانَ   (1) عَلَى إِرَادَةِ إِنْكَارِ الْجَمْعِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ عَلَى إِمْكَانِ إِرَادَةِ الْجَمْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 قَدْ وَضَعَهُ بِإِزَاءِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَاحِدُهَا ذَلِكَ الْمَجْمُوعُ فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا لِلَّفْظِ فِي جَمِيعِ مَفْهُومَاتِهِ. وَإِنِ اسْتَعْمَلَهُ فِي إِفَادَةِ الْمَجْمُوعِ وَالْإِفْرَادِ عَلَى الْجَمْعِ فَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ إِفَادَةَ الْجُمُوعِ مَعْنَاهَا أَنَّ الِاكْتِفَاءَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِ، وَإِفَادَتُهُ لِلْمُفْرَدِ مَعْنَاهَا أَنَّهُ يَحْصُلُ الِاكْتِفَاءُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُشْتَرَكٌ فِي إِفَادَةِ مَفْهُومَاتِهِ جُمْلَةً. وَأَمَّا عَلَى دَلِيلِ الْوُقُوعِ لُغَةً، أَمَّا النَّصُّ الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ فِيهِ: إِنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ الْمُطْلَقَ عَلَى صَلَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَلَائِكَةِ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي مَعْنَى الْعِنَايَةِ بِأَمْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ وَحُرْمَتِهِ، فَهُوَ لَفْظٌ مُتَوَاطِئٌ لَا مُشْتَرَكٌ (1) ، وَكَذَلِكَ لَفَظُ السُّجُودِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ مُسَمَّاهُ إِنَّمَا هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنْ مَعْنَى الْخُضُوعِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالدُّخُولِ تَحْتَ تَسْخِيرِهِ وَإِرَادَتِهِ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: وَإِنَّ سُلِّمَ اخْتِلَافُ الْمُسَمَّى وَإِرَادَتُهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَا نَقَلَتْهُ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ إِلَى غَيْرِ مَعَانِيهَا فِي اللُّغَةِ. فَأَمَّا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ قَوْلَهُ: الْوَيْلُ لَكَ لِلْخَبَرِ وَالدُّعَاءِ مَعًا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ، أَوِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةٌ فِي شَيْءٍ وَمَجَازٌ فِي شَيْءٍ مَوْضُوعَةٌ لِلْجَمْعِ. كَيْفَ وَأَنَّ قَوْلَ سِيبَوَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْقَوْلِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْخَبَرِ وَالدُّعَاءِ مَعًا، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِلْخَبَرِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الدُّعَاءِ مَجَازًا لَا مَعًا. أَجَابَ الْمُثْبِتُونَ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ عَلَى الْإِمْكَانِ بِمَنْعِ أَنَّ الْمُسْتَعْمِلَ لِلَفْظَةٍ فِي حَقِيقَتِهَا وَمَجَازِهَا مُرِيدٌ لِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، وَمُرِيدٌ لِلْعُدُولِ بِهَا عَمَّا وُضِعَتْ لَهُ، بَلْ هُوَ مُرِيدٌ لِمَا وُضِعَتْ لَهُ حَقِيقَةً وَلِمَا لَمْ تُوضَعُ لَهُ حَقِيقَةً. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ إِضْمَارَ التَّشْبِيهِ وَعَدَمَهُ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْئَيْنِ فَلَا، كَيْفَ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ مَجَازٍ؟ (2)   (1) لَفْظٌ مُتَوَاطِئٌ لَا مُشْتَرَكٌ - أَيْ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ مَعْنَوِيٌّ لَا مُشْتَرَكٌ لَفْظِيٌّ (2) أَيْ لِأَنَّ مِنَ الْمَجَازِ مَا بُنِيَ عَلَى التَّشْبِيهِ كَالْمَجَازِ بِالِاسْتِعَارَةِ تَصْرِيحِيَّةٍ وَمَكْنِيَّةٍ، وَمِنْهُ مَا لَمْ يُبْنَ عَلَى التَّشْبِيهِ كَالْمَجَازِ الْمُرْسَلِ مُفْرَدًا وَمُرَكَّبًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 وَعَنِ الثَّالِثِ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَرَكَ مَوْضُوعٌ لِأَحَدِ مُسَمَّيَاتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْمَجْمُوعِ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْقَرِينَةِ عِنْدَهُمَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَإِنَّمَا فَارَقَ بَاقِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ مِنْ جِهَةِ تَنَاوُلِهِ لِأَشْيَاءَ لَا تَشْتَرِكُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولًا لِلَّفْظِ، بِخِلَافِ بَاقِي الْعُمُومَاتِ فَنِسْبَةُ (1) اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي دَلَالَتِهِ إِلَى جُمْلَةِ مَدْلُولَاتِهَا، وَإِلَى أَفْرَادِهَا كَنِسْبَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ إِلَى مَدْلُولَاتِهَا جُمْلَةً وَأَفْرَادًا. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ بَطَلَ كُلُّ مَا قِيلَ مِنَ التَّقْسِيمِ الْمَبْنِيِّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ مَوْضُوعٌ لِأَحَدِ مُسَمَّيَاتِهِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ حَقِيقَةً، ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لَازِمٌ عَلَى مَشَايِخِ الْمُعْتَزِلَةِ الْمُعْتَقِدِينَ كَوْنَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ مَوْضُوعًا لِأَحَدِ مُسَمَّيَاتِهِ حَقِيقَةً عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ. فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ حَقِيقَةً فِي الْجَمْعِ فَلَا خَفَاءَ بِجَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِي آحَادِ مَدْلُولَاتِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْقَرِينَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَجْمُوعِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْأَفْرَادُ، فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً فِي الْإِفْرَادِ فَاللَّفْظُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ جَمِيعُ مُسَمَّيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا فَلَمْ تَدْخُلْ فِيهِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ مَعًا، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِكُمْ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِفْرَادُ فَهُوَ مُحَالٌ لِأَنَّ إِفَادَتَهُ لِلْمَجْمُوعِ مَعْنَاهَا أَنَّ الِاكْتِفَاءَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِهِ وَإِفَادَتَهُ لِلإِفْرَادِ مَعْنَاهَا أَنَّهُ يَحْصُلُ الِاكْتِفَاءُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ كَمَا سَبَقَ. قُلْنَا: اسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَفْرَادِ مَتَى يَكُونُ مَعْنَاهُ الِاكْتِفَاءُ بِهَا إِذَا كَانَتْ دَاخِلَةً فِي الْمَجْمُوعِ أَوْ إِذَا لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِيهِ؟ وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، بَلْ مَعْنَى اسْتِعْمَالِهِ فِيهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا. وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ التَّنَاقُضُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ، أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ فِي آحَادِ أَفْرَادِهِ مَعَ الِاقْتِصَارِ عِنْدَ ظُهُورِ الْقَرِينَةِ فَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ غَيْرُ مُشْتَرِطَةٍ فِي   (1) فَنِسْبَةُ إِلَخْ - تَفْرِيعٌ عَلَى وُجُوبِ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ عِنْدَ التَّجَرُّدِ مِنَ الْقَرَائِنِ عَلَى جَمِيعِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَحَصْرِ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ فِيمَا ذُكِرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 الِاكْتِفَاءِ، وَأَمَّا عِنْدَ كَوْنِ الْأَفْرَادِ دَاخِلَةً فِي مُسَمَّى الْجُمْلَةِ فَلِأَنَّهَا لَا بُدَّ مِنْهَا لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهَا. فَإِنْ قِيلَ: وَإِذَا كَانَتِ الْأَفْرَادُ دَاخِلَةٌ فِي مُسَمَّى الْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِلَّفْظِ عَلَيْهَا دَلَالَةً بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ وَلَا بِجِهَةِ التَّجَوُّزِ، بَلْ بِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ الذِّهْنِيَّةِ، وَلَيْسَتْ دَلَالَةً لَفْظِيَّةً لِيَلْزَمَ مَا قِيلَ. قُلْنَا: لَا خَفَاءَ بِدُخُولِ الْأَفْرَادِ فِي الْجُمْلَةِ فَتَكُونُ مَفْهُومَةً مِنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَهُ عَلَيْهَا دَلَالَةٌ وَهِيَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِجِهَةِ الْحَقِيقَةِ، أَوِ التَّجَوُّزُ لِمَا سَبَقَ. وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ عَلَى النُّصُوصِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُسَمَّى الصَّلَاةِ هُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنَ الِاعْتِنَاءِ، وَمُسَمَّى السُّجُودِ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ مِنَ الْخُضُوعِ وَالِانْقِيَادِ لَاطَّرَدَ الِاسْمُ بِاطِّرَادِهِمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى كُلُّ اعْتِنَاءٍ بِأَمْرٍ صَلَاةً، وَلَا كُلُّ خُضُوعٍ وَانْقِيَادٍ سُجُودًا. وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى بِاسْمِ الصَّلَاةِ اعْتِنَاءً خَاصًّا، وَبِالسُّجُودِ خُضُوعًا خَاصًّا فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ وَبَيَانِ الِاشْتِرَاكِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَجِبُ اعْتِقَادُهُ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ (1) عَلَى أَنَّ التَّجَوُّزَ وَالِاشْتِرَاكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَعَنِ اعْتِرَاضِ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَحْقِيقِ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ وَنَقْلِهَا مِنْ مَوْضُوعَاتِهَا فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ مَذْهَبِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ (2) . وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ الِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ مَجَازٍ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِمَجْمُوعِ مُسَمَّيَاتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ إِنَّمَا قُصِدَ بِهِ بَيَانُ الْوُقُوعِ لَا غَيْرَ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا انْفِكَاكَ فِي قَوْلِهِ: الْوَيْلُ لَكَ عَنِ الْخَبَرِ وَالدُّعَاءِ، وَاللَّفْظُ وَاحِدٌ، وَلَا مَعْنًى لِاسْتِعْمَالِهِ فِيهِمَا سِوَى فَهْمِهِمَا مِنْهُ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ.   (1) فَهُوَ مَبْنِيٌّ إِلَخْ - جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ إِلَخْ (2) الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ - هُوَ الْبَاقِلَّانِيُّ انْظُرْ رَأْيَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ ج 1، وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ يَقْتَضِي نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} يَقْتَضِي نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا وَقَعَ التَّفَاوُتُ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَقَدْ وَفَّى بِالْعَمَلِ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ. حُجَّةُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَالنَّفْيُ دَاخِلٌ عَلَى مُسَمَّى الْمُسَاوَاةِ، فَلَوْ وُجِدَتِ الْمُسَاوَاةُ مِنْ وَجْهٍ لَمَا كَانَ مُسَمَّى الْمُسَاوَاةِ مُنْتَفِيًا، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى اللَّفْظُ. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِوَاءُ يَنْقَسِمُ إِلَى الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِلَى الِاسْتِوَاءِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَلِهَذَا يَصْدُقُ قَوْلُ الْقَائِلِ: اسْتَوَى زَيْدٌ وَعَمْرٌو عِنْدَ تَحَقُّقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ. وَالِاسْتِوَاءُ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَالنَّفْيُ إِنَّمَا دَخَلَ عَلَى الِاسْتِوَاءِ الْأَعَمِّ فَلَا يَكُونُ مُشْعِرًا بِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ الْخَاصَّيْنِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ الِاسْتِوَاءُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ وَإِلَّا لَوَجَبَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِوَائِهِمَا فِي أَمْرٍ مَا، وَلَوْ فِي نَفْيِ مَا سِوَاهُمَا عَنْهُمَا. وَلَوْ صَدَقَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُسَاوِي لِتَنَاقُضِهِمَا عُرْفًا. وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ: هَذَا مُسَاوٍ لِهَذَا فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قَالَ: لَا يُسَاوِيهِ وَالْمُتَنَاقِضَانِ لَا يَصْدُقَانِ مَعًا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ عَلَى شَيْئَيْنِ أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ مِنَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَكْفِي فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ نَفْيُ الِاسْتِوَاءِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُوجَبِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ فَثَبَتَ أَنَّ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمَا صَدَقَ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ حَقِيقَةً عَلَى شَيْئَيْنِ أَصْلًا، لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَقَدِ اسْتَوَيَا فِي أَمْرٍ مَا كَمَا سَبَقَ. وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ إِذِ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ دُونَ الْمَجَازِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ ذِكْرَ الْأَعَمِّ مَتَى لَا يَكُونُ مُشْعِرًا بِالْأَخَصِّ إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلَ: مَا رَأَيْتُ حَيَوَانًا وَكَانَ قَدْ رَأَى إِنْسَانًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ كَاذِبًا. وَعَنِ الثَّانِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ التَّسَاوِي مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. قَوْلُهُمْ: لَوْ كَفَى ذَلِكَ لَوَجَبَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِمَا قُرِّرَ، مُسَلَّمٌ. قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُسَاوِي، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا قُرِّرَ. فَهُوَ مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَا يَكْفِي فِي إِطْلَاقِ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ إِطْلَاقُ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ عَلَى كُلِّ شَيْئَيْنِ لِأَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَقَدْ تَفَاوَتَا مِنْ وَجْهٍ ضَرُورَةً تُعَيِّنُهُمَا، وَلَوْ صَدَقَ ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيْهِ الْمُسَاوِي لِتَنَاقُضِهِمَا عُرْفًا. وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ: هَذَا غَيْرُ مُسَاوٍ لِهَذَا فَمَنْ أَرَادَ تَكْذِيبَهُ قَالَ: إِنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ، وَالْمُتَنَاقِضَانِ لَا يَصْدُقَانِ مَعًا. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ عَلَى شَيْئَيْنِ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِوَائِهِمَا، وَلَوْ فِي نَفْيِ مَا سِوَاهُمَا عَنْهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي اعْتِبَارِ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ مِنْ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَكْفِي فِي إِثْبَاتِ الْمُسَاوَاةِ الْمُسَاوَاةُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ السَّالِبِ جُزْئِيٌّ مُوجَبٌ. وَفِيهِ إِبْطَالُ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ فِي إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسَاوَاةِ بِالْمُسَاوَاةِ مِنْ وَجْهٍ. وَإِذَا تَقَابَلَ الْأَمْرَانِ سُلِّمَ لَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. وَعَنِ الثَّالِثِ لَا نُسَلِّمُ صِدْقَ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ مُطْلَقًا عَلَى مَا وَقَعَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهٍ. قَوْلُهُمُ: الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، قُلْنَا: إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَفِي مَعْنَى نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ الْمُقْتَضَى وَهُوَ مَا أُضْمِرَ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ لَا عُمُومَ لَهُ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ الْمُقْتَضَى وَهُوَ مَا أُضْمِرَ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ لَا عُمُومَ لَهُ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» " فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ رَفْعِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ، وَيَتَعَذَّرُ حَمْلُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْكَذِبِ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ، ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حُكْمٍ يُمْكِنُ نَفْيُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ أَوِ الْأُخْرَوِيَّةِ، ضَرُورَةَ صِدْقِهِ فِي كَلَامِهِ. وَإِذَا كَانَتْ أَحْكَامُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مُتَعَدِّدَةً فَيَمْتَنِعُ إِضْمَارُ الْجَمِيعِ إِذِ الْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِإِضْمَارِ الْبَعْضِ، فَوَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِهِ ضَرُورَةَ تَقْلِيلِ مُخَالِفَةِ الْأَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الرَّفْعِ دَالًّا عَلَى رَفْعِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَبَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» " يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِمَا مُسْتَلْزِمًا لِرَفْعِ أَحْكَامِهَا (1) . فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِ فِي نَفْيِ الْحَقِيقَةِ تَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِهِ فِي نَفْيِ الْأَحْكَامِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا وَضْعًا، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ؟ وَلِهَذَا يُقَالُ: لَيْسَ لِلْبَلَدِ سُلْطَانٌ، وَلَيْسَ لَهُ نَاظِرٌ وَلَا مُدَبِّرٌ، وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الصِّفَاتِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ غَيْرَ أَنَّ اللَّفْظَ دَالٌّ عَلَى رَفْعِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ. فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ وَجَبَ إِضْمَارُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجْعَلُ وُجُودَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ كَعَدَمِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِإِضْمَارِ الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ أَوْ لَا بِإِضْمَارِ شَيْءٍ أَصْلًا. وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْإِضْمَارِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَلَيْسَ إِضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، ضَرُورَةَ تَسَاوِي نِسْبَةِ اللَّفْظِ إِلَى الْكُلِّ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى إِضْمَارِ الْجَمِيعِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّفْظَ إِنَّمَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَحْكَامِ بِوَاسِطَةِ نَفْيِ حَقِيقَةِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ مُنْتَفِيًا (2) فَلَا يَكُونُ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الْأَحْكَامِ.   (1) أَحْكَامِهَا - الصَّوَابُ أَحْكَامِهِمَا (2) مُنْتَفِيًا - فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ: وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ مَنْفِيًّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ وَعَدَمُ الْعُرْفِ الطَّارِئِ، فَمَنِ ادَّعَاهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِالصُّوَرِ فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ حَمْلِهَا عَلَى جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ السُّلْطَانُ مَوْجُودًا وَلَا عَالِمًا وَلَا قَادِرًا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَعَنِ الثَّالِثِ قَوْلُهُمْ: إِضْمَارُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ نَفْيِ الْحَقِيقَةِ. قُلْنَا: إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِلْأَحْكَامِ، وَهُوَ وُجُودُ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ. قَوْلُهُمْ: لَيْسَ إِضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ قُلْنَا بِإِضْمَارِ حُكْمٍ مُعَيَّنٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ بِإِضْمَارِ حُكْمٍ مَا، وَالتَّعْيِينُ إِلَى الشَّارِعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِجْمَالُ فِي مُرَادِ الشَّارِعِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. قُلْنَا: لَوْ قِيلَ بِإِضْمَارِ الْكُلِّ لَزَمَ مِنْهُ زِيَادَةُ الْإِضْمَارِ، وَتَكْثِيرُ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ كَمَا سَبَقَ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأُصُولِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً عَلَى مَا ذَكَرُوهُ، أَوْ مُسَاوِيَةً لَهُ أَوْ مَرْجُوحَةً. فَإِنْ كَانَتْ رَاجِحَةً لَزِمَ الْعَمَلُ بِهَا. وَإِنْ كَانَتْ مُسَاوِيَةً فَهُوَ كَافٍ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فِي نَفْيِ زِيَادَةِ الْإِضْمَارِ، وَهُمَا تَقْدِيرَانِ، وَمَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ رَاجِحًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَتِمُّ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ أَرْجَحُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 [الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَفْعُولَاتِهِ أَمْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ الْفِعْلُ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا آكُلُ أَوْ إِنْ أَكَلْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَفْعُولَاتِهِ أَمْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَأَثْبَتَهُ أَصْحَابُنَا وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ وَنَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ لَوْ نَوَى بِهِ مَأْكُولًا مُعَيَّنًا قُبِلَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، حَتَّى إِنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ لَهُ وَقَبُولِ الْعَامِّ لِلتَّخْصِيصِ بِبَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ، وَلَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَخْصِيصُهُ بِهِ، لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مِنْ تَوَابِعِ الْعُمُومِ وَلَا عُمُومَ. حُجَّةُ أَصْحَابِنَا، أَمَّا فِي طَرَفِ النَّفْيِ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ، أَنَّ قَوْلَهُ أَكَلْتُ فِعْلٌ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَأْكُولِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ وَصِيغَتِهِ، فَإِذَا قَالَ: لَا أَكَلْتُ فَهُوَ نَافٍ لِحَقِيقَةِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكْلٌ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ نَافِيًا لِحَقِيقَةِ الْأَكْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ أَكْلٌ، وَهُوَ خِلَافُ دَلَالَةِ لَفْظِهِ. وَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ دَالًّا عَلَى نَفْيِ حَقِيقَةِ الْأَكْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ، فَقَدْ ثَبَتَ عُمُومُ لَفْظِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَأْكُولٍ، فَكَانَ قَابِلًا لِلتَّخْصِيصِ. وَأَمَّا فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ الْأَكْلِ الْمُطْلَقِ يَسْتَدْعِي مَأْكُولًا مُطْلَقًا، لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا إِلَيْهِ، وَالْمُطْلَقُ مَا كَانَ شَائِعًا فِي جِنْسِ الْمُقَيَّدَاتِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ، فَكَانَ صَالِحًا لِتَفْسِيرِهِ وَتَقْيِيدِهِ بِأَيٍّ مِنْهَا كَانَ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: اعْتِقْ رَقَبَةً صَحَّ تَقْيِيدُهَا بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ دَلَالَةٌ لَمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْأَكْلِ لَا تَتِمُّ نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا إِلَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ نَوَى بِلَفْظِهِ مَكَانًا مُعَيَّنًا أَوْ زَمَانًا مُعَيَّنًا، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا فَالْفَرْقُ حَاصِلٌ. ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ؛ وَهُوَ قَوْلُهُ: أَكَلْتُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إِلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْفِعْلِ فَلَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 دَالًّا عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلُ تَخْصِيصُ لَفْظِهِ بِهِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ مَدْلُولَاتِهِ، لَا عَلَى غَيْرِ مَدْلُولَاتِهِ بِخِلَافِ الْمَأْكُولِ عَلَى مَا سَبَقَ (1) . فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالْأَكْلُ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ لَفْظِهِ كُلِّيٌّ مُطْلَقٌ، وَالْمُطْلَقُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِالْمُخَصَّصِ فَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِهِ. قُلْنَا: الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَيْسَ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْأَكْلِ الْكُلِّيِّ الَّذِي لَا وُجُودَ لَهُ إِلَّا فِي الْأَذْهَانِ، وَإِلَّا لَمَا حَنِثَ بِالْأَكْلِ الْخَاصِّ إِذْ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَكْلًا مُقَيَّدًا مِنْ جُمْلَةِ الْأَكَلَاتِ الْمُقَيَّدَةِ الَّتِي يُمْكِنُ وُقُوعُهَا فِي الْأَعْيَانِ أَيًّا مِنْهَا كَانَ، وَإِذَا كَانَ لَفْظُهُ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِغَيْرِ الْمُقَيَّدِ صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ: اعْتِقْ رَقَبَةً، وَفَسَّرَهُ بِالرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ كَمَا سَبَقَ. [الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ الْفِعْلُ وَإِنِ انْقَسَمَ إِلَى أَقْسَامٍ وَجِهَاتٍ فَالْوَاقِعُ مِنْهُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْهَا] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ الْفِعْلُ وَإِنِ انْقَسَمَ إِلَى أَقْسَامٍ وَجِهَاتٍ فَالْوَاقِعُ مِنْهُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ مِنْهَا، فَلَا يَكُونُ عَامًّا لِجَمِيعِهَا بِحَيْثُ يُحْمَلُ وُقُوعُهُ عَلَى جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ صَلَّى دَاخِلَ الْكَعْبَةِ، فَصَلَاتُهُ الْوَاقِعَةُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ فَرْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ نَفْلًا، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا فَرْضًا نَفْلًا، فَيَمْتَنِعُ الِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ فِي دَاخِلِ الْكَعْبَةِ جَمِيعًا، إِذْ لَا عُمُومَ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا، وَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ» ، فَالشَّفَقُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، فَصَلَاتُهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ الْحُمْرَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا وَقَعَتْ بَعْدَ الْبَيَاضِ، فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى وُقُوعِ فِعْلِ الصَّلَاةِ بَعْدَهُمَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يَرَى حَمْلَ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. فَإِنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: صَلَّى بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: صَلَّى بَعْدَ الشَّفَقَيْنِ.   (1) الْجَوَابُ الْأَوَّلُ بِعَدَمِ تَسْلِيمِ الْمُلَازَمَةِ هُوَ الظَّاهِرُ، فَإِنَّ لِلنِّيَّةِ تَأْثِيرًا فِي مِثْلِ هَذَا كَالْعُرْفِ وَبِسَاطِ الْيَمِينِ، وَلِحَدِيثِ: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَفِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا قَوْلُ الرَّاوِي: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ» ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ وُقُوعَ ذَلِكَ فِي وَقْتِ الْأُولَى، وَيُحْتَمَلُ وُقُوعُهُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهِ فِيهِمَا، بَلْ فِي أَحَدِهِمَا. وَالتَّعَيُّنُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الدَّلِيلِ. وَأَمَّا وُقُوعُ ذَلِكَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَكَرِّرًا عَلَى وَجْهٍ يَعُمُّ سَفَرَ النُّسُكِ وَغَيْرِهِ، فَلَيْسَ أَيْضًا فِي نَفْسِ وُقُوعِ الْفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، بَلْ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَاسْتِفَادَةُ ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي: كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ: كَانَ فُلَانٌ يُكْرِمُ الضَّيْفَ يُفْهَمُ مِنْهُ التَّكْرَارُ دُونَ الْقُصُورِ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبًا كَانَ عَلَيْهِ أَوْ جَائِزًا لَهُ لَا عُمُومَ لَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ فِي حَقِّهِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ، كَمَا لَوْ صَلَّى وَقَالَ: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (1) . فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَعْمِيمِ سُجُودِ السَّهْوِ فِي كُلِّ سَهْوٍ، بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَهَا فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَ، وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى تَعْمِيمِ مَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنْتُ أَفْرُكُ الْمَنِيِّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ " فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ، حَتَّى إِنَّ الشَّافِعِيَّ اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى طِهَارَةِ مَنِيِّ الْآدَمِيِّ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَرْكِ فِي حَقِّ غَيْرِ النَّبِيِّ مَعَ حُكْمِهِ بِنَجَاسَتِهِ.   (1) أَفْعَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتْ فِي ذَاتِهَا لَا عُمُومَ لَهَا إِلَّا أَنَّ صُدُورَهَا عَنْهُ بِصِفَتِهِ رَسُولًا مُشَرِّعًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَةٌ عَامَّةٌ لِأُمَّتِهِ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِيهَا إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ بِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، وَقَوْلُهُ: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْكَثِيرَةِ كِتَابًا وَسُنَّةً وَإِجْمَاعًا، وَعَلَيْهِ لَا حَاجَةَ إِلَى دَلِيلٍ خَاصٍّ فِي كُلِّ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَى مُسَاوَاةِ أُمَّتِهِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وَكَذَلِكَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بِقَوْلِ عَائِشَةَ: فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاغْتَسَلْنَا، وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ حُكْمٍ أَجَابَ بِمَا يَخُصُّهُ، وَأَحَالَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ لَمَّا سَأَلَتْهُ أَمُّ سَلَمَةَ عَنِ الِاغْتِسَالِ قَالَ: " أَمَّا أَنَا فَأُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِي " وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ قَالَ: " «أَنَا أَفْعَلُ ذَلِكَ» "، وَلَوْلَا أَنَّ لِلْفِعْلِ عُمُومًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: أَمَّا تَعْمِيمُ سُجُودِ السَّهْوِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ السَّهْوُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ رَتَّبَ السُّجُودَ عَلَى السَّهْوِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْعَلِيَّةِ كَمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ لَا لِعُمُومِ الْفِعْلِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ: " «زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ» " وَفِي قَوْلِهِ: " «رَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ فَرَضَخَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسَهُ» ". وَأَمَّا الْعَمَلُ بِخَبَرِ عَائِشَةَ فِي فَرْكِ الْمَنِيِّ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَإِفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ وَقُبْلَةِ الصَّائِمِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْقِيَاسِ لَا إِلَى عُمُومِ الْفِعْلِ لِتَعَذُّرِهِ كَمَا (1) سَبَقَ، (2) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   (1) كَمَا - لَعَلَّهُ لِمَا (2) سَبَقَ أَيْضًا أَنَّ الْفِعْلَ فِي ذَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لَكِنْ قَامَتِ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّشْرِيعُ لِلْأُمَّةِ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُدْوَتُهَا حَتَّى يَثْبُتَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا حَاجَةَ إِلَى إِثْبَاتِ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ بِالْقِيَاسِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ هل يعم كل غرر] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» ، وَقَوْلُهُ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْجَارِ» ، وَنَحْوُهُ، اخْتَلَفُوا فِي تَعْمِيمِهِ لِكُلِّ غَرَرٍ وَكُلِّ جَارٍ. وَالَّذِي عَلَيْهِ مُعَوَّلُ أَكْثَرِ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ لِأَنَّهُ حِكَايَةُ الرَّاوِي، وَلَعَلَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى عَنْ فِعْلٍ خَاصٍّ لَا عُمُومَ لَهُ فِيهِ غَرَرٌ، وَقَضَى لِجَارٍ مَخْصُوصٍ فَنَقَلَ صِيغَةَ الْعُمُومِ لِظَنِّهِ عُمُومَ الْحُكْمِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَ صِيغَةً ظَنَّهَا عَامَّةً، وَلَيْسَتْ عَامَّةً، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَمِعَ صِيغَةً عَامَّةً. وَإِذَا تَعَارَضَتِ الِاحْتِمَالَاتُ لَمْ يَثْبُتِ الْعُمُومُ، وَالِاحْتِجَاجُ إِنَّمَا هُوَ بِالْمَحْكِيِّ لَا بِنَفْسِ الْحِكَايَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مُنْقَدِحَةً غَيْرَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ الرَّاوِيَ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ صِيغَةَ الْعُمُومِ إِلَّا وَقَدْ سَمِعَ صِيغَةً لَا يَشُكُّ فِي عُمُومِهَا، لِمَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ مِنَ الدَّاعِي الدِّينِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الْمَانِعِ لَهُ مِنْ إِيقَاعِ النَّاسِ فِي وَرْطَةِ الِالْتِبَاسِ، وَاتِّبَاعِ مَا لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ قَاطِعًا بِالْعُمُومِ، فَلَا يَكُونُ نَقْلُهُ لِلْعُمُومِ إِلَّا وَقَدْ ظَهَرَ لَهُ الْعُمُومُ وَالْغَالِبُ إِصَابَتُهُ فِيمَا ظَنَّهُ ظَاهِرًا، فَكَانَ صِدْقُهُ فِيمَا نَقَلَهُ غَالِبًا عَلَى الظَّنِّ، وَمَهْمَا ظُنَّ صِدْقُ الرَّاوِي فِيمَا نَقَلَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَبَ اتِّبَاعُهُ (1) .   (1) وَيُؤَيِّدُ الْحَمْلَ عَلَى الْعُمُومِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ حُكْمُ النَّهْيِ وَالْقَضَاءِ مَثَلًا مِنَ الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَعُمُومُ الْمَعْنَى وَالْحِكْمَةِ الَّتِي رَعَاهَا الشَّارِعُ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ إِذَا حَكَمَ النَّبِيُّ بِحُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ وَذَكَرَ عِلَّتَهُ أَنَّهُ يَعُمُّ مَنْ وُجِدَتْ فِي حَقِّهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إِذَا حَكَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ، وَذَكَرَ عِلَّتَهُ أَنَّهُ يَعُمُّ مَنْ وُجِدَتْ فِي حَقِّهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ أَعْرَابِيٍّ مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ: " «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا، فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» " وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلَى أُحُدٍ: " «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا» " وَكَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: حَرَّمْتُ الْمُسْكِرَ لِكَوْنِهِ حُلْوًا، عَمَّ التَّحْرِيمُ كُلَّ حُلْوٍ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنِ ادَّعَى عُمُومَ الْحُكْمِ نَظَرًا إِلَى الصِّيغَةِ الْوَارِدَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، كَيْفَ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّنْصِيصُ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ الْحُكْمَ فِي كُلِّ مَحَلٍّ وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ، لَكَانَ لِلْوَكِيلِ إِذَا قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ: أَعْتِقْ عَبْدِي سَالِمًا لِكَوْنِهِ أَسْوَدَ أَنْ يُعْتِقَ كُلَّ عَبْدٍ أَسْوَدَ لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبِيدِي السُّودَانَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ (1) . وَإِنْ قِيلَ بِالْعُمُومِ نَظَرًا إِلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّعْمِيمِ فِي الْحُكْمِ بِالْعِلَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ شَرْعًا مِثْلُهُ فِيمَا إِذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ: أَعْتِقْ عَبْدِي سَالِمًا لِكَوْنِهِ أَسْوَدَ إِذِ الْوَكِيلُ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ لَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ. وَعَلَى هَذَا فَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ الْعِلَّةِ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْحُكْمِ عَامًّا لِغَيْرِ مَحَلِّ التَّنْصِيصِ. وَمَا يَقُولُهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَعْرَابِيِّ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ مَوْتِهِ مُسْلِمًا مُخْلِصًا فِي عِبَادَتِهِ مَحْشُورًا مُلَبِّيًا وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ لَا بِمُجَرَّدِ إِحْرَامِهِ، وَفِي قَتْلَى أُحُدٍ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ فِي الْجِهَادِ وَتَحَقُّقِ شَهَادَتِهِمْ، لَا بِمُجَرَّدِ الْجِهَادِ. وَفِي تَحْرِيمِ الْمُسْكِرِ لِكَوْنِهِ حُلْوًا مُسْكِرًا، وَذَلِكَ كُلُّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ. وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مُنْقَدِحًا غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ مِنْ تَعْلِيلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ وَالْجِهَادِ، وَتَرْكُ مَا ظَهَرَ مِنَ التَّعْلِيلِ لِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ مُمْتَنِعٌ.   (1) انْظُرْ مَا قَالَهُ مُنْكِرُو الْقِيَاسِ فِي الْمُعَارَضَةِ السَّادِسَةِ بِالْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ أَبْوَابِ الْقِيَاسِ، وَقَارِنْ بَيْنَ كَلَامِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِهِ هَلْ لَهَا عُمُومٌ أَوْ لَا؟ وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: الْمَفْهُومُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَهُوَ مَا كَانَ حُكْمُ السُّكُوتِ عَنْهُ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ، وَإِلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ مَا كَانَ حُكْمُ السُّكُوتِ عَنْهُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ كَمَا فِي تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ تَنْصِيصِهِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ لَهُمَا، فَحُكْمُ التَّحْرِيمِ وَإِنْ كَانَ شَامِلًا لِلصُّورَتَيْنِ، لَكِنْ مَعَ اخْتِلَافِ جِهَةِ الدَّلَالَةِ فَثُبُوتُهُ فِي صُورَةِ النُّطْقِ بِالْمَنْطُوقِ، وَفِي صُورَةِ السُّكُوتِ بِالْمَفْهُومِ فَلَا الْمَنْطُوقُ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصُّورَتَيْنِ، وَلَا الْمَفْهُومُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي عُمُومِ الْمَفْهُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى صُورَةِ السُّكُوتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَاصِلَ النِّزَاعِ فِيهِ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِكَوْنِهِ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمَا إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِهِ فِي جَمِيعِهَا لَا بِالدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ. وَمَنْ نَفَى الْعُمُومَ كَالْغَزَالِيِّ فَلَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ السُّكُوتِ إِذْ هُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْيَ ثُبُوتِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُخَالِفُ فِيهِ الْقَائِلُ بِعُمُومِ الْمَفْهُومِ. وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ كَمَا فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ مِنْ تَنْصِيصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ، فَلَا شَكَّ أَيْضًا بِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهِ غَيْرُ عَامٍّ بِمَنْطُوقِهِ لِلصُّورَتَيْنِ وَلَا بِمَفْهُومِهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي عُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ صُوَرِ السُّكُوتِ، وَحَاصِلُ النِّزَاعِ أَيْضًا فِيهِ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ كَمَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ الْعَطْفُ عَلَى الْعَامِّ هَلْ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي الْمَعْطُوفِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ الْعَطْفُ عَلَى الْعَامِّ هَلْ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي الْمَعْطُوفِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمَنَعَ أَصْحَابُنَا مِنْ ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَمِثَالُهُ اسْتِدْلَالُ أَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» "، وَهُوَ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ كَافِرٍ حَرْبِيًّا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا. فَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَامًّا لِلذِّمِّيِّ لَكَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " «وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» " ضَرُورَةَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ وَصَفْتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَافِرَ الَّذِي لَا يُقْتَلُ بِهِ الْمُعَاهِدُ إِنَّمَا هُوَ الْكَافِرُ الْحَرْبِيُّ دُونَ الذِّمِّيِّ. احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْطُوفَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فِي إِفَادَةِ حُكْمِهِ، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى حُكْمِ الْمَعْطُوفِ بِصَرِيحِهِ، وَإِنَّمَا أُضْمِرَ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْمَعْطُوفِ، ضَرُورَةَ الْإِفَادَةِ وَحَذَرًا مِنَ التَّعْطِيلِ. وَالْإِضْمَارُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَهُوَ التَّشْرِيكُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ دُونَ تَفْصِيلِهِ مِنْ صِفَةِ الْعُمُومِ وَغَيْرِهِ، تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ عَطْفُ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنِ، وَقَوْلُهُ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} خَاصٌّ. وَوَرَدَ عَطْفُ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَنْدُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ} ، فَإِنَّهُ لِلنَّدْبِ، وَقَوْلِهِ: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} لِلْإِيجَابِ، وَوَرَدَ عَطْفُ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُبَاحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} ، فَإِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ، وَقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ} لِلْإِيجَابِ. وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الِاشْتِرَاكُ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ وَتَفْصِيلِهِ لَكَانَ الْعَطْفُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ مُتَيَقَّنٌ، وَفِي صِفَتِهِ مُحْتَمَلٌ، فَجَعْلُ الْعَطْفِ أَصْلًا فِي الْمُتَيَقَّنِ دُونَ الْمُحْتَمَلِ أَوْلَى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الْحُكْمِ، وَتَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ يُوجِبُ جَعْلَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْحُكْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا يَكُونُ حُكْمًا عَلَى الْآخَرِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْطُوفَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيهِ لِتَحَقُّقِ الْإِفَادَةِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِإِضْمَارِ كُلِّ مَا ثَبَتَ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِلْمَعْطُوفِ أَوْ بَعْضِهِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي لِأَنَّ الْإِضْمَارَ إِمَّا لِبَعْضٍ مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِ مُعَيَّنٍ. الْقَوْلُ بِالتَّعْيِينِ مُمْتَنِعٌ إِذْ هُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ مِنْ نَفْسِ الْعَطْفِ. كَيْفَ وَإِنَّهُ لَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّعْيِينِ مُوجِبٌ لِلْإِبْهَامِ وَالْإِجْمَالِ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَطْفَ يُوجِبُ جَعْلَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ فِيمَا فِيهِ الْعَطْفُ أَوْ فِي غَيْرِهِ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ مَا زَادَ عَلَى أَصْلِ الْحُكْمِ مُعْتَبَرٌ فِي الْعَطْفِ إِذْ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَجَوَابُ الثَّانِي أَنْ نَقُولَ بِالتَّشْرِيكِ فِي أَصْلِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ دُونَ صِفَتِهِ، وَهُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ إِبْهَامٍ وَلَا إِجْمَالٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ إِذَا وَرَدَ خِطَابُ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ لَا يَعُمُّ الْأُمَّةَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ إِذَا وَرَدَ خِطَابُ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ} ، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ} ، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} ، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} لَا يَعُمُّ الْأُمَّةَ ذَلِكَ الْخِطَابُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَصْحَابِهِمَا فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ يَكُونُ خِطَابًا لِلْأُمَّةِ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى الْفَرْقِ. وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْخِطَابَ الْوَارِدَ نَحْوَ الْوَاحِدِ مَوْضُوعٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ، فَلَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِهِ بِوَضْعِهِ (1) . وَلِهَذَا فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا أَمَرَ بَعْضَ عَبِيدِهِ بِخِطَابٍ يَخُصُّهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا لِلْبَاقِينَ. وَكَذَلِكَ فِي النَّهْيِ وَالْإِخْبَارِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخِطَابِ. كَيْفَ وَإِنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ مَصْلَحَةً لَهُ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي أَمْرِ الطَّبِيبِ لِبَعْضِ النَّاسِ بِشُرْبِ بَعْضِ الْأَدْوِيَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا لِغَيْرِهِ لِاحْتِمَالِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْأَمْزِجَةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ الْأَمْرِ. وَلِهَذَا خُصَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَحْكَامٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَالْمَحْظُورَاتِ وَالْمُبَاحَاتِ، وَمَعَ امْتِنَاعِ اتِّحَادِ الْخِطَابِ (2) وَجَوَازِ الِاخْتِلَافِ فِي الْحِكْمَةِ وَالْمَقْصُودِ يَمْتَنِعُ التَّشْرِيكُ فِي الْحُكْمِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ، فَالِاشْتِرَاكُ فِي الْحُكْمِ يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى نَفْسِ الْقِيَاسِ لَا إِلَى نَفْسِ الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِمَحَلِّ التَّنْصِيصِ أَوْ دَلِيلٍ آخَرَ.   (1) قَدْ يُقَالُ: إِنَّ الْخِطَابَ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ بِوَضْعِهِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَتَنَاوَلُهُ عُرْفًا أَوْ لِقَرَائِنَ أُخْرَى، كَكَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالْخِطَابِ لِذَاتِهِ، بَلْ لِيَعْمَلَ وَلِيُبَلِّغَ الْأُمَّةَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهَا عَنْ طَرِيقِهِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وَنَحْوُهُ مِنَ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، وَإِذًا فَالْأَصْلُ الْعُمُومُ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ، وَذَلِكَ فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حَالُ أُمَّتِهِ وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذُكِرَ بَعْدُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ لِتَفَاوُتِ أَحْوَالِ النَّاسِ (2) وَمَعَ امْتِنَاعِ اتِّحَادِ الْخِطَابِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: وَمَعَ اتِّحَادِ الْخِطَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِالْوَاحِدِ لَا يَكُونُ خِطَابًا لِغَيْرِهِ مُطْلَقًا، بَلِ الْمُدَّعَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْمٍ، وَقَدْ عُقِدَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ وَالْإِمَارَةُ عَلَيْهِمْ وَجُعِلَ لَهُ مَنْصِبُ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قِيلَ لَهُ: ارْكَبْ لِمُنَاجَزَةِ الْعَدُوِّ وَشَنِّ الْغَارَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى بِلَادِهِ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُعِدُّونَ ذَلِكَ أَمْرًا لِأَتْبَاعِهِ وَأَصْحَابِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا أُخْبِرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَدْ فَتَحَ الْبَلَدَ الْفُلَانِيَّ وَكَسَرَ الْعَدُوَّ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إِخْبَارًا عَنْ أَتْبَاعِهِ أَيْضًا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّنْ قَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ قُدْوَةً لِلْأُمَّةِ وَمُتَّبَعًا لَهُمْ، فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ يَكُونُ أَمْرًا وَنَهْيًا لِأُمَّتِهِ إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى الْفَرْقِ (1) . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ، وَلَمْ يَقُلْ إِذَا طَلَّقْتَ النِّسَاءَ فَطَلِّقْهُنَّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِطَابَهُ لِأُمَّتِهِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} أَخْبَرَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَبَاحَهُ ذَلِكَ لِيَكُونَ ذَلِكَ مُبَاحًا لِلْأُمَّةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْإِبَاحَةُ خَاصَّةً بِهِ لَمَا انْتَفَى الْحَرَجُ عَنِ الْأُمَّةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ الْخِطَابُ بِتَخْصِيصِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَحْكَامٍ دُونَ أُمَّتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} إِلَى قَوْلِهِ: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْخِطَابُ الْمُطْلَقُ لَهُ خِطَابًا لِأُمَّتِهِ، بَلْ خَاصًّا بِهِ لَمَا احْتِيجَ إِلَى بَيَانِ التَّخْصِيصِ بِهِ هَاهُنَا. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنِ احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ فَغَيْرُ قَادِحٍ مَعَ ظُهُورِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْخِطَابِ كَمَا تَقَرَّرَ. وَلِهَذَا جَازَ تَكْلِيفُ الْكُلِّ مَعَ هَذَا لِظُهُورِ الْخِطَابِ، وَجَازَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ عِنْدَ ظَنِّ الِاشْتِرَاكِ فِي الدَّاعِي مَعَ احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ.   (1) حَالُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أُمَّتِهِ أَمْكَنَ فِي إِرَادَةِ أُمَّتِهِ مَعَهُ بِخِطَابِهِ تَعَالَى إِيَّاهُ مِنْ حَالِ الْمُقَدَّمِ فِي قَوْمِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اقْتِضَاءِ صِفَةِ الرِّسَالَةِ ذَلِكَ، وَلِأَمْرِهِ تَعَالَى الْأُمَّةَ بِالِاتِّسَاءِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ كَمَا فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَفِي قَوْلِهِ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) الْآيَتَيْنِ، فَالرَّسُولُ أَوْلَى بِتَبَعِيَّةِ أُمَّتِهِ لَهُ وَقَصْدِهِمْ بِخِطَابِهِ تَعَالَى لَهُ مِنْ تَبَعِيَّةِ الْقَوْمِ لِمُقَدَّمِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 وَالْجَوَابُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَمْرَ الْمُقَدَّمِ يَكُونُ أَمْرًا لِأَتْبَاعِهِ لُغَةً، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أُمِرَ الْمُقَدَّمُ وَلَمْ يَأْمُرِ الْأَتْبَاعَ، وَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرِ الْأَتْبَاعَ لَمْ يَحْنَثْ بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ لِلْمُقَدَّمِ أَمْرًا لِأَتْبَاعِهِ لَحَنَثَ، نَعَمْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يُفْهَمُ عِنْدَ أَمْرِ الْمُقَدَّمِ بِالرُّكُوبِ وَشَنِّ الْغَارَةِ لُزُومُ تَوَقُّفِ مَقْصُودِ الْأَمْرِ عَلَى اتِّبَاعِ أَصْحَابِهِ لَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِلْزَامِ لَا مِنْ بَابِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مُطَابَقَةً وَلَا ضِمْنًا، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوْ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ أَوْ إِبَاحَتِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُشَارَكَةِ الْأُمَّةِ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ، فَخِطَابٌ عَامٌّ مَعَ الْكُلِّ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُمَّةِ، وَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِالنِّدَاءِ جَرَى مَجْرَى التَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيمِ لَهُ (1) . كَيْفَ وَإِنَّ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خِطَابَ النَّبِيِّ لَا يَكُونُ خِطَابًا لِلْأُمَّةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا احْتِيجَ إِلَى قَوْلِهِ: {طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا طَلَّقْتَ النِّسَاءَ فَطَلِّقْهُنَّ كَافٍ فِي خِطَابِ الْأُمَّةِ مَعَ اتِّسَاقِهِ مَعَ أَوَّلِ الْآيَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَقَوْلُهُ: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ مَدْلُولٌ لِقَوْلِهِ زَوَّجْنَاكَهَا، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لِمَقْصُودِ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِقِيَاسِهِمْ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ دَفْعِ الْحَاجَةِ وَحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ، وَعُمُومُ الْخِطَابِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لِذَلِكَ (2) .   (1) سَبَقَ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَّهُمْ خِطَابُهُ بِأَصْلِ وَضْعِ اللُّغَةِ فَإِنَّهُ يَعُمُّهُمْ عُرْفًا أَوْ لِقَرِينَةٍ أُخْرَى إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا، وَالْقَصْدُ إِثْبَاتُ أَنَّ الْأَصْلَ الْعُمُومُ فِي خِطَابِهِ التَّشْرِيعِيِّ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ خِطَابِهِ بِعُنْوَانِ النُّبُوَّةِ أَوِ الرِّسَالَةِ أَوْ بِطَرِيقِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى طَلَبِ الِاتِّسَاءِ بِهِ وَاتِّبَاعِهِ (2) لَا حَاجَةَ إِلَى الْقِيَاسِ مَعَ مَا يُشْعِرُ بِهِ وَصْفُ الرِّسَالَةِ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى عُمُومِ الْخِطَابِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي التَّشْرِيعِ، وَمَعَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَعُمُومُ خِطَابِهِ لِأُمَّتِهِ مُتَعَيَّنٌ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ قِيَاسٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى خُصُوصِيَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ذَكَرُوهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْخِطَابِ لَهُ عَامٌّ لِأُمَّتِهِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِقَطْعِ إِلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَلَوْ لَمْ يَرِدِ التَّخْصِيصُ لَأَمْكَنَ الْإِلْحَاقُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ (1) . الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي خِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ هَلْ هُوَ لِلْبَاقِينَ أَمْ لَا؟ فَنَفَاهُ أَصْحَابُنَا وَأَثْبَتَهُ الْحَنَابِلَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ. وَدَلِيلُنَا مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (2) . فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، وَقَوْلُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» " وَقَوْلُهُ: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ". وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى رُجُوعِهِمْ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ إِلَى مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى آحَادِ الْأُمَّةِ. فَمِنْ ذَلِكَ رُجُوعُهُمْ فِي حَدِّ الزِّنَى إِلَى مَا حَكَمَ بِهِ عَلَى (مَاعِزٍ) ، وَرُجُوعُهُمْ فِي الْمُفَوَّضَةِ إِلَى قِصَّةِ (بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشَقٍ) ، وَرُجُوعُهُمْ فِي ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَى الْمَجُوسِ إِلَى ضَرْبِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْجِزْيَةَ عَلَى مَجُوسِ هَجَرَ. وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَهُ عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَصَّصَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِأَحْكَامٍ دُونَ غَيْرِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ فِي التَّضْحِيَةِ بِعَنَاقٍ: " «تُجْزِئُكَ وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ» "، وَقَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرَةَ لَمَّا دَخَلَ الصَّفَّ رَاكِعًا: " «زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ» " وَقَوْلُهُ لِأَعْرَابِيٍّ زَوَّجَهُ بِمَا مَعَهُ مِنَ الْقُرْآنِ: " «هَذَا لَكَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَكَ» ".   (1) تَقَدَّمَ أَنَّ أَدِلَّةَ إِرَادَةِ الْعُمُومِ لِأُمَّتِهِ تَبَعًا لَهُ بِخِطَابِهِ - تَعَالَى - إِيَّاهُ تُغْنِي عَنِ الْقِيَاسِ (2) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وَتَخْصِيصُهُ لِخُزَيْمَةَ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَتَخْصِيصُهُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمٌ عَلَى الْأُمَّةِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى التَّنْصِيصِ بِالتَّخْصِيصِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ وَعَنْ قَوْلِهِ: " «بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً وَإِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» " أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً فَبِمَعْنَى أَنَّهُ يُعَرِّفُ كُلَّ وَاحِدٍ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ كَأَحْكَامِ الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَالْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اشْتِرَاكُ الْكُلِّ فِيمَا أَثْبَتَ لِلْبَعْضِ مِنْهُمْ (1) . وَعَنْ قَوْلِهِ: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " أَنَّهُ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْجَمَاعَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَالْقِيَاسِ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ (2) لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْخِطَابُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ خِطَابَ الْوَاحِدِ لَيْسَ هُوَ بِعَيْنِهِ خِطَابًا لِلْبَاقِينَ (3) . الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِعَيْنِهِ خِطَابًا لِلْبَاقِينَ لَزِمَ مِنْهُ التَّخْصِيصُ بِإِخْرَاجِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ عَلَيْهِ.   (1) النُّصُوصُ تَعُمُّ تَعْرِيفَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ فَرْدٍ بِعَيْنِهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا فِي قِصَّةِ خُزَيْمَةَ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَقِصَّةِ أَبِي بُرْدَةَ فِي إِجْزَاءِ الْعَنَاقِ عَنْهُ فِي الْأُضْحِيَةِ، وَتَعْرِيفُهُ كُلَّ نَوْعٍ مِنَ الْأُمَّةِ مَا يَخُصُّهُ مِنَ الْأَحْكَامِ كَأَحْكَامِ الْمَرْضَى وَالْأَصِحَّاءِ إِلَى أَمْثَالِ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ، فَيَعُمُّ حُكْمُهُ فِي النَّوْعِ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادٍ ذَلِكَ النَّوْعِ، وَتَعْرِيفُهُ مَا يَعُمُّ الْأُمَّةَ كُلَّهَا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ خُصُوصِ الْفَرْدِ أَوِ النَّوْعِ وَجَبَ حَمْلُ تَعْرِيفِهِ عَلَى الْعُمُومِ لِأَدِلَّةِ عُمُومِ الرِّسَالَةِ وَالتَّشْرِيعِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ وَغَيْرِهَا (2) تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْقِيَاسِ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ عُمُومُ التَّشْرِيعِ حَتَّى يَثْبُتَ تَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِفَرْدٍ أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْأُمَّةِ (3) أَقُولُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خِطَابُ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ خِطَابًا لِلْبَاقِينَ فِي أَصْلِ وَضْعِ اللُّغَةِ، لَكِنْ أُرِيدَ شُمُولُهُ الْبَاقِينَ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ كَثُرَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُ الْخَاصِّ وَإِرَادَةُ الْعَامِّ، وَبِذَلِكَ يُلْتَزَمُ جَوَازُ التَّخْصِيصِ بِإِخْرَاجِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي مُوجِبِ الْحُكْمِ، انْظُرِ الرِّسَالَةَ لِلشَّافِعِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ خِطَابُهُ الْمُطْلَقُ لِلْوَاحِدِ خِطَابًا لِلْجَمَاعَةِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى قَوْلِهِ: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " أَوْ كَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْكِيدَ، وَالْأَصْلُ فِي الدَّلَالَاتِ اللَّفْظِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ التَّأْسِيسُ. ثُمَّ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُ عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمًا عَلَى الْجَمَاعَةِ فَلَا يَلْزَمُ اطِّرَادُهُ فِي حُكْمِهِ لِلْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِلْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِهِ لِلْوَاحِدِ وَحُكْمِهِ عَلَيْهِ وَالْخِلَافُ وَاقِعٌ فِي الْكُلِّ (1) . وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ رُجُوعِ الصَّحَابَةِ فِي أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ إِلَى حُكْمِهِ عَلَى الْآحَادِ فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: بِذَلِكَ مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِالتَّسَاوِي فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ، أَوْ لَا مَعَ مَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ، الثَّانِي خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَمُسْتَنَدُ التَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ الِاشْتِرَاكَ فِي السَّبَبِ لَا فِي الْخِطَابِ (2) . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَقَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ لَا يَدْخُلُ فِي الْجَمْعِ الْخَاصِّ بِالْآخَرِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ لَا يَدْخُلُ فِي الْجَمْعِ الْخَاصِّ بِالْآخَرِ كَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَعَلَى دُخُولِهِمَا فِي الْجَمْعِ الَّذِي لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةُ تَذْكِيرٍ وَلَا تَأْنِيثٍ كَالنَّاسِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الْجَمْعِ الَّذِي ظَهَرَتْ فِيهِ عَلَامَةُ التَّذْكِيرِ كَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ: هَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِي دُخُولِ الْإِنَاثِ فِيهِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْأَشَاعِرَةُ وَالْجَمْعُ الْكَثِيرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ إِلَى نَفْيِهِ. وَذَهَبَتِ الْحَنَابِلَةُ وَابْنُ دَاوُدَ (3) وَشُذُوذٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى إِثْبَاتِهِ.   (1) لَا مَانِعَ مِنْ تَتَابُعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ الِاطِّرَادِ فَإِنَّمَا كَانَ لِاخْتِلَافِ الْمَنَاطِ فَاخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي تَطْبِيقِهِ عَلَى الْأَفْرَادِ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ الْمَنَاطِ فِيهَا (2) نَخْتَارُ الْأَوَّلَ وَنَقُولُ: مُسْتَنَدُ التَّشْرِيكِ فِي الْحُكْمِ الِاشْتِرَاكُ فِي السَّبَبِ، وَأَدِلَّةُ عُمُومِ الشَّرِيعَةِ لِلْأُمَّةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ إِرَادَةَ الْعُمُومِ مِنَ الْخِطَابِ الْخَاصِّ (3) ابْنُ دَاوُدَ: هُوَ مُوسَى بْنُ دَاوُدَ الضَّبِّيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْخُلْقَانِيُّ مَاتَ 217، انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ فِي الْمِيزَانِ لِلذَّهَبِيِّ وَفِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لِابْنِ حَجَرٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 احْتَجَّ النَّافُونَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} عَطَفَ جَمْعَ التَّأْنِيثِ عَلَى جَمْعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ لَمَا حَسُنَ عَطْفُهُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ النِّسَاءَ قُلْنَ مَا نَرَى اللَّهَ ذَكَرَ إِلَّا الرِّجَالَ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الْآيَةَ (1) . وَلَوْ كُنَّ قَدْ دَخَلْنَ فِي جَمْعِ التَّذْكِيرِ، لَكُنَّ مَذْكُورَاتٍ وَامْتَنَعَتْ صِحَّةُ السُّؤَالِ وَالتَّقْرِيرِ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «وَيْلٌ لِلَّذِينَ يَمَسُّونَ فُرُوجَهُمْ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ " فَقَالَتْ عَائِشَةُ: هَذَا لِلرِّجَالِ فَمَا لِلنِّسَاءِ؟» (2) وَلَوْلَا خُرُوجُهُنَّ مِنْ جَمْعِ الذُّكُورِ لَمَا صَحَّ السُّؤَالُ وَلَا التَّقْرِيرُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ تَضْعِيفُ الْوَاحِدِ، فَقَوْلُنَا: قَامَ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُؤَنَّثَ بِالْإِجْمَاعِ، فَالْجَمْعُ الَّذِي هُوَ تَضْعِيفُهُ كَقَوْلِنَا: قَامُوا لَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ فَالْعَطْفُ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْإِنَاثِ فِي جَمْعِ التَّذْكِيرِ. قَوْلُكُمْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ إِذِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظٍ يَخُصُّهُنَّ تَأْكِيدًا فَلَا يَكُونُ عُرْيًا عَنِ الْفَائِدَةِ. وَأَمَّا سُؤَالُ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَائِشَةَ فَلَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ دُخُولِ النِّسَاءِ فِي جَمْعِ الذُّكُورِ، بَلْ لِعَدَمِ تَخْصِيصِهِنَّ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فِيهِنَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْمُذَكَّرِ. وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْجَمْعَ تَضْعِيفُ الْوَاحِدِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ بِامْتِنَاعِ دُخُولِ الْمُؤَنَّثِ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ؟ . وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى دُخُولِ الْمُؤَنَّثِ فِي جَمْعِ التَّذْكِيرِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ:   (1) رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ سَلَمَةَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَمَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِهَا، فَانْظُرْ تِلْكَ الْمَرَاجِعَ لِتَقِفَ عَلَى نُصُوصِ الرِّوَايَاتِ وَتَعْرِفَ دَرَجَتَهَا وَمَا بَيْنَهَا مِنِ اخْتِلَافٍ. (2) الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي بَابِ الْأَحْدَاثِ مِنْ تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ، وَنَسَبَهُ إِلَى الدَّارَقُطْنِيِّ وَذَكَرَ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَعَّفَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَأْلُوفَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ غَلَّبُوا جَانِبَ التَّذْكِيرِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يُقَالُ: لِلنِّسَاءِ إِذَا تَمَحَّضْنَ: ادْخُلْنَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ قِيلَ: ادْخُلُوا. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - لِآدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِبْلِيسَ: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} كَمَا أُلِفَ مِنْهُمْ تَغْلِيبُ جَمْعِ مَنْ يَعْقِلُ إِذَا كَانَ مَعَهُ مَنْ لَا يَعْقِلُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} ، بَلْ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا وَصَفُوا مَا لَا يَعْقِلُ بِصِفَةِ مَنْ يَعْقِلُ غَلَّبُوا فِيهِ مَنْ يَعْقِلُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} جَمَعَهُمْ جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ لِوَصْفِهِمْ بِالسُّجُودِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ مَنْ يَعْقِلُ. وَكَتَغْلِيبِهِمُ الْكَثْرَةَ عَلَى الْقِلَّةِ حَتَّى إِنَّهُمْ يَصِفُونَ بِالْكَرَمِ وَالْبُخْلِ جَمْعًا أَكْثَرُهُمْ مُتَّصِفٌ بِالْكَرَمِ أَوِ الْبُخْلِ. وَكَتَغْلِيبِهِمْ فِي التَّثْنِيَةِ أَحَدَ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِهِمْ: (الْأَسْوَدَانِ) لِلتَّمْرِ ظَاهِرًا، وَالْعُمَرَانِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَالْقَمَرَانِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يُسْتَهْجَنُ مِنَ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَقُولَ لِأَهْلِ حِلَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ: أَنْتُمْ آمِنُونَ وَنِسَاؤُكُمْ آمِنَاتٌ لِحُصُولِ الْأَمْنِ لِلنِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: أَنْتُمْ آمِنُونَ، وَلَوْلَا دُخُولُهُنَّ فِي قَوْلِهِ: أَنْتُمْ آمِنُونَ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لِجَمَاعَةٍ فِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ: قُومُوا وَقُمْنَ، بَلْ لَوْ قَالَ: قُومُوا كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْأَمْرِ لِلنِّسَاءِ بِالْقِيَامِ. وَلَوْلَا دُخُولُهُنَّ فِي جَمْعِ التَّذْكِيرِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ أَكْثَرَ أَوَامِرِ الشَّرْعِ بِخِطَابِ الْمُذَكَّرِ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ يُشَارِكْنَ الرِّجَالَ فِي أَحْكَامِ تِلْكَ الْأَوَامِرِ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ الْخِطَابِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمْ فِي الْآيَةِ: فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِلَفْظٍ يَخُصُّهُنَّ التَّأْكِيدُ. قُلْنَا: لَوِ اعْتَقَدْنَا عَدَمَ دُخُولِهِنَّ فِي جَمْعِ التَّذْكِيرِ كَانَتْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِهِنَّ بِالذِّكْرِ التَّأْسِيسَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فَائِدَةَ التَّأْسِيسِ أَوْلَى فِي كَلَامِ الشَّارِعِ. قَوْلُهُمْ: سُؤَالُ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَائِشَةَ إِنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ تَخْصِيصِ النِّسَاءِ بِلَفْظٍ يَخُصُّهُنَّ، لَا لِعَدَمِ دُخُولِ النِّسَاءِ فِي جَمْعِ التَّذْكِيرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، أَمَّا سُؤَالُ أُمِّ سَلَمَةَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الذِّكْرِ مُطْلَقًا لَا فِي عَدَمِ ذِكْرِ مَا يَخُصُّهُنَّ بِحَيْثُ قَالَتْ: مَا نَرَى اللَّهَ ذَكَرَ إِلَّا الرِّجَالَ، وَلَوْ ذَكَرَ النِّسَاءَ، وَلَوْ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ لَمَا صَحَّ هَذَا الْإِخْبَارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 عَلَى إِطْلَاقِهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَلِأَنَّهَا قَالَتْ: هَذَا لِلرِّجَالِ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ عَامًّا لَمَا صَحَّ مِنْهَا تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالرِّجَالِ. قَوْلُهُمْ: الْمَأْلُوفُ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ تَغْلِيبُ جَانِبِ التَّذْكِيرِ؛ مُسَلَّمٌ، وَنَحْنُ لَا نُنَازِعُ فِي أَنَّ الْعَرَبِيَّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ جَمْعٍ فِيهِمْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ أَنَّهُ يُغَلِّبُ جَانِبَ التَّذْكِيرِ وَيُعَبِّرُ بِلَفْظِ التَّذْكِيرِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّجَوُّزِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ جَمْعَ التَّذْكِيرِ إِذَا أُطْلِقَ هَلْ يَكُونُ ظَاهِرًا فِي دُخُولِ الْمُؤَنَّثِ وَمُسْتَلْزِمًا لَهُ أَوْ لَا؟ وَلَيْسَ فِيمَا قِيلَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ يَصِحُّ التَّجَوُّزُ بِلَفْظِ الْأَسَدِ عَنِ الْإِنْسَانِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِيهِ مَهْمَا أُطْلِقَ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا صَحَّ دُخُولُ الْمُؤَنَّثِ فِي جَمْعِ الْمُذَكِّرِ فَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مُشْعِرًا بِهِ حَقِيقَةً لَا تَجَوُّزًا. قُلْنَا: وَلَوْ كَانَ جَمْعُ التَّذْكِيرِ حَقِيقَةً لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي تَمَحُّضِ الذُّكُورِ كَانَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلَوْ كَانَ مَجَازًا لَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لِدُخُولِ الْمُسَمَّى الْحَقِيقِيِّ فِيهِ وَهُمُ الذُّكُورُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الذُّكُورِ إِلَّا مَعَ الِاقْتِصَارِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ جُزْءًا مِنَ الْمَذْكُورِ لَا مَعَ الِاقْتِصَارِ فَلَا. كَيْفَ وَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ؟ وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَإِنَّمَا اسْتُهْجِنَ مِنَ الْعَرَبِيِّ أَنْ يَقُولَ: أَنْتُمْ آمِنُونَ وَنِسَاؤُكُمْ آمِنَاتٌ؛ لِأَنَّ تَأْمِينَ الرِّجَالِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْنَ مِنْ جَمِيعِ الْمَخَاوِفِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ النِّسَاءُ آمِنَاتٍ لَمَا حَصَلَ أَمْنُ الرِّجَالِ مُطْلَقًا، وَهُوَ تَنَاقُضٌ. أَمَّا أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى ظُهُورِ دُخُولِ النِّسَاءِ فِي الْخِطَابِ فَلَا، وَبِهِ يَظْهَرُ لُزُومُ أَمْنِ النِّسَاءِ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَوْلِهِ لِلرِّجَالِ: أَنْتُمْ آمِنُونَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَغَيْرُ لَازِمٍ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ وَإِنْ شَارَكْنَ الرِّجَالَ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ التَّذْكِيرِ، فَيُفَارِقْنَ لِلرِّجَالِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخِطَابِ التَّذْكِيرِ، كَأَحْكَامِ الْجِهَادِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وَأَحْكَامِ الْجُمُعَةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَلَوْ كَانَ جَمْعُ التَّذْكِيرِ مُقْتَضِيًا لِدُخُولِ الْإِنَاثِ فِيهِ لَكَانَ خُرُوجُهُنَّ عَنْ هَذِهِ الْأَوَامِرِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَحَيْثُ وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ تَارَةً وَالِافْتِرَاقُ تَارَةً عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجٍ، لَا إِلَى نَفْسِ اقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ. [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةُ تَذْكِيرٍ وَلَا تَأْنِيثٍ هَلْ يَعُمُّ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ عَلَامَةُ تَذْكِيرٍ وَلَا تَأْنِيثٍ سِوَى لَفْظِ الْجَمْعِ مِثْلُ (مَنْ) فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ هَلْ يَعُمُّ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ. وَالْمُخْتَارُ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ دُخُولُ الْمُؤَنَّثِ فِيهِ. وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِعَبْدِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَكْرِمْهُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ يُلَامُ بِإِخْرَاجِ الدَّاخِلِ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ عَنِ الْإِكْرَامِ وَيُلَامُ السَّيِّدُ بِلَوْمِ الْعَبْدِ بِإِكْرَامِهِنَّ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي النَّذْرِ وَالْوَصِيَّةِ. وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مَا فُهِمَ مِنَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِ لَا مَجَازًا. فَإِنْ قِيلَ: التَّعْمِيمُ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ إِنَّمَا فُهِمَ مِنَ الْحَالِ، وَهِيَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ مُقَابَلَةِ الدَّاخِلِ إِلَى دَارِ الْإِنْسَانِ وَالْحُلُولِ فِي مَنْزِلِهِ بِالْإِكْرَامِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ لَا أَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً. قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ بِمَا لَوْ قَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَهِنْهُ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْعُمُومُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقَرِينَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهُ: مَنْ قَالَ لَكَ: أَلِفٌ فَقُلْ لَهُ: (بَ) ، فَإِنَّهُ لَا قَرِينَةَ أَصْلًا، وَالْعُمُومُ مَفْهُومٌ مِنْهُ فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ (1) .   (1) إِنَّمَا قَالَ: تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ ; لِأَنَّهُ اخْتَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِصِيَغِ الْعُمُومِ فِي الْخُصُوصِ وَالتَّوَقُّفَ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَبْنِي اخْتِيَارَهُ هُنَا عَلَى مَا رَدَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ؟ وَكَيْفَ يَحْتَجُّ لِاخْتِيَارِهِ الْعُمُومَ هُنَا بِمَا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَنِ احْتَجَّ بِهِ لِعُمُومِ (مَنِ) الشَّرْطِيَّةِ؟ أُرَى مَصْدَرَ ذَلِكَ الْحَيْرَةَ وَالْوَلَعَ بِالْجَدَلِ وَالتَّأْلِيفَ لِلتَّأْلِيفِ لَا عَنْ عَقِيدَةٍ أَوِ اقْتِنَاعٍ وَلَا لِإِثْبَاتِ حَقٍّ أَوْ إِقْنَاعٍ، قَارِنْ بَيْنَ اسْتِدْلَالِهِ وَمُنَاقَشَتِهِ الْأَدِلَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ لِيَتَبَيَّنَ لَكَ مَنْهَجُهُ الْعِلْمِيُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 [الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ هل يدخل الْعَبْدِ تَحْتَ التَّكَالِيفِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ الْمُطْقَلَةِ كَلَفْظِ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ] الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ اخْتَلَفُوا فِي دُخُولِ الْعَبْدِ تَحْتَ التَّكَالِيفِ بِالْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ الْمُطْقَلَةِ كَلَفْظِ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ إِلَّا بِقَرِينَةٍ وَدَلِيلٍ يَخُصُّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِدُخُولِهِ فِي الْعُمُومَاتِ الْمُثْبِتَةِ لِحُقُوقِ اللَّهِ دُونَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الدُّخُولُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ النَّاسِ أَوِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ لِكُلِّ مَنْ هُوَ مِنَ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْعَبْدُ مِنَ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ حَقِيقَةً فَكَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومَاتِ الْخِطَابِ بِوَضْعِهِ لُغَةً إِلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنْهُ (1) . فَإِنْ قِيلَ: الْعَبْدُ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ حَسَبَ تَصَرُّفِهِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَإِذَا كَانَ مَالًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ خِطَابِ الشَّارِعِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ كَالْبَهَائِمِ إِلَّا أَنَّ أَفْعَالَهُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّكْلِيفُ وَيَحْصُلُ بِهَا الِامْتِثَالُ مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهِ، وَيَجِبُ صَرْفُهَا إِلَى مَنَافِعِهِ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، فَلَا يَكُونُ الْخِطَابُ مُتَعَلِّقًا بِصَرْفِهَا إِلَى غَيْرِ مَنَافِعِ السَّيِّدِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ. سَلَّمْنَا عَدَمَ التَّنَاقُضِ غَيْرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى إِخْرَاجِ الْعَبْدِ عَنْ مُطْلَقِ الْخِطَابِ الْعَامِّ بِالْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ بِصِحَّةِ التَّبَرُّعِ وَالْإِقْرَارِ بِالْحُقُوقِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ بِمُطْلَقِهِ لَكَانَ خُرُوجُهُ عَنْهَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ.   (1) اخْتِيَارُهُ هُنَا دُخُولَ الْعَبِيدِ فِي عُمُومِ الْخِطَابِ بِمُقْتَضَى الْوَضْعِ لُغَةً يَتَّفِقُ مَعَ مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: إِنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا تَدُلُّ عَلَيْهِ حَقِيقَةً، وَيَتَنَاقَضُ مَعَ قَوْلِهِ بِالْوَقْفِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَأَنَّ تِلْكَ الصِّيَغَ صَالِحَةٌ لِأَنْ يُرَادُ بِهَا الْعُمُومُ، وَلَيْسَتْ مَوْضُوعَةً فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِإِفَادَتِهِ حَقِيقَةً، فَاللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الْعَثْرَةَ وَأَمِّنَّا مِنَ الْحَيْرَةِ وَلَا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ أَنْسَيْتَهُمْ أَنْفُسَهُمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 سَلَّمْنَا إِمْكَانَ دُخُولِهِ تَحْتَ مُطْلَقِ الْخِطَابِ لُغَةً إِلَّا أَنَّ الرِّقَّ مُقْتَضٍ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ عُمُومَاتِ الْخِطَابِ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِشَغْلِ جَمِيعِ أَوْقَاتِهِ بِخِدْمَةِ سَيِّدِهِ بِخِطَابِ الشَّرْعِ، وَحَقُّ السَّيِّدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السَّيِّدَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ مَنْعِ الْعَبْدِ مِنَ التَّطَوُّعِ بِالنَّوَافِلِ مَعَ أَنَّهَا حَقٌّ لِلَّهِ، تَعَالَى، وَلَوْلَا أَنَّ حَقَّ السَّيِّدِ مُرَجَّحٌ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِ حُقُوقِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِحُصُولِهَا، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالْمُضَايَقَةِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِحُصُولِهِ وَيَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ مَالًا مَمْلُوكًا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ جِنْسِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى جِنْسِ الْبَهَائِمِ، وَإِلَّا لَمَا تَوَجَّهَ نَحْوَ التَّكْلِيفِ بِالْخِطَابِ الْخَاصِّ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِصَرْفِ مَنَافِعِ الْعَبْدِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى فِي وَقْتِ تَضَايُقِ وَقْتِ الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا، بَلْ فِي غَيْرِهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا تَنَاقُضَ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى إِخْرَاجِ الْعَبْدِ عَنْ كَوْنِ الْعُمُومَاتِ مُتَنَاوِلَةً لَهُ لُغَةً لِمَا بَيَّنَاهُ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ خُصَّ بِدَلِيلٍ، وَالتَّخْصِيصُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْعُمُومِ لُغَةً. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالتَّخْصِيصِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِرَفْعِ الْعُمُومِ لُغَةً مَعَ تَحَقُّقِهِ، وَصَارَ كَمَا فِي تَخْصِيصِ الْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ عَنِ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْجُمُعَةِ وَالْجِهَادِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: بِمَنْعِ تَعَلُّقِ حَقِّ السَّيِّدِ بِمَنَافِعِهِ الْمَصْرُوفَةِ إِلَى الْعِبَادَاتِ الْمَأْمُورِ بِهَا عِنْدَ ضِيقِ أَوْقَاتِهَا كَمَا سَبَقَ، وَالرِّقُّ وَإِنِ اقْتَضَى ذَلِكَ لِمُنَاسَبَتِهِ وَاعْتِبَارِهِ، فَلَا يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ الدَّلَالَةِ النَّصِّيَّةِ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ؛ لِقُوَّةِ دَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَى دَلَالَةِ مَا الْحُجَّةُ بِهِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَيْهَا. وَالنُّصُوصُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَاوِلَةً لِلْعَبْدِ بِعُمُومِهَا إِلَّا أَنَّهَا مُتَنَاوِلَةٌ لِلْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُعَيَّنِ بِخُصُوصِهَا. وَالرِّقُّ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِحَقِّ السَّيِّدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 بِخُصُوصِهِ إِلَّا أَنَّ اقْتِضَاءَهُ لِذَلِكَ الْحَقِّ فِي وَقْتِ الْعِبَادَةِ بِعُمُومِهِ، فَيَتَقَابَلَانِ، وَيَسْلَمُ التَّرْجِيحُ بِالتَّنْصِيصِ كَمَا سَبَقَ. قَوْلُهُمْ: حُقٌّ الْآدَمِيِّ مُرَجَّحٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ مُطْلَقًا. وَلِهَذَا فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ - تَعَالَى - مُرَجَّحٌ عَلَى حَقِّ السَّيِّدِ فِيمَا وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ بِالْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ إِجْمَاعًا، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُمْ فِي التَّرْجِيحِ الثَّانِي: إِنَّ السَّيِّدَ يَتَمَكَّنُ مِنْ مَنْعِ الْعَبْدِ مِنَ التَّنَفُّلِ. قُلْنَا: وَإِنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ تَرَجُّحَ جَانِبِ حَقِّ السَّيِّدِ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي النَّوَافِلِ فَغَيْرُ مُوجِبٍ لِتَرَجُّحِهِ عَلَيْهِ فِي الْفَرَائِضِ (1) . [الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ وُرُودُ الْخِطَابِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ يُدْخِلُ الرَّسُولَ فِي عُمُومِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ وُرُودُ الْخِطَابِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، (يَا عِبَادِيَ) يُدْخِلُ الرَّسُولَ فِي عُمُومِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِطَائِفَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: كُلُّ خِطَابٍ وَرَدَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَكُنِ الرَّسُولُ مَأْمُورًا فِي أَوَّلِهِ بِأَمْرِ الْأُمَّةِ بِهِ كَهَذِهِ الْآيَاتِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُورًا فِي صَدْرِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، فَهُوَ غَيْرٌ دَاخِلٍ فِيهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْحَلِيمِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ (2) . حُجَّةُ مَنْ قَالَ: يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، حُجَّتَانِ. الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ عَامَّةٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ وَكُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ عَبْدٍ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدُ النَّاسِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالنُّبُوَّةُ غَيْرُ مُخْرِجَةٍ لَهُ عَنْ إِطْلَاقِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُونُ مُخْرِجَةً لَهُ عَنْ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ.   (1) قَارِنْ بَيْنَ اسْتِدْلَالِهِ وَنِقَاشِهِ الْأَدِلَّةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ (2) أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْرَفِيُّ الشَّافِعِيُّ مَاتَ سَنَةَ 330 هـ، وَالْحَلِيمِيُّ هُوَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَلِيمٍ الشَّافِعِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْحَلِيمِيِّ نِسْبَةً إِلَى جَدِّهِ، وُلِدَ بِجُرْجَانَ سَنَةَ 338 هـ وَتَفَقَّهَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الْقَفَّالِ وَمَاتَ 403 هـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَمَرَ الصَّحَابَةَ بِأَمْرٍ وَتَخَلَّفَ عَنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَهُ: مَا بَالُكَ لَمْ تَفْعَلْهُ؟ وَلَوْ لَمْ يَعْقِلُوا دُخُولَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ لَمَا سَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ. وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَفْسَخْ، فَقَالُوا لَهُ: " أَمَرْتَنَا بِالْفَسْخِ وَلَمْ تَفْسَخْ» "، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مَا فَهِمُوهُ مِنْ دُخُولِهِ فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ، بَلْ عَدَلَ إِلَى الِاعْتِذَارِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " «إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيًا» " وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» " (1) . فَإِنْ قِيلَ: يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آمِرًا لِأُمَّتِهِ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ فَلَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِهَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ آمِرًا وَمَأْمُورًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ آمِرًا لِنَفْسِهِ، وَأَمْرُ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَمْرَ طَلَبُ الْأَعْلَى مِنَ الْأَدْنَى، وَالْوَاحِدُ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ نَفْسِهِ وَأَدْنَى مِنْهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ عَلَى الْخُصُوصِ مُمْتَنِعٌ، فَكَذَلِكَ أَمْرُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى الْعُمُومِ. الثَّانِي مِنَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ مُبَلِّغًا وَمُبَلَّغًا إِلَيْهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِ اخْتَصَّ بِأَحْكَامٍ لَمْ تُشَارِكْهُ فِيهَا الْأُمَّةُ كَوُجُوبِ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى وَتَحْرِيمِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ، وَأُبِيحَ لَهُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَا مَهْرٍ وَلَا شُهُودٍ، وَالصَّفِيُّ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَنَحْوُهُ مِنَ الْخَصَائِصِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّتِهِ، وَانْفِرَادِهِ عَنِ الْأُمَّةِ فِي الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْخِطَابِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُمْ.   (1) قَارِنْ بَيْنَ اخْتِيَارِهِ الْعُمُومَ هُنَا وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِ وَاخْتِيَارِهِ الْوَقْفَ وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِ، وَنِقَاشِهِ أَدِلَّةَ خُصُومِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الرَّسُولِ آمِرًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ مُبَلِّغٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْآمِرِ وَالْمُبَلِّغِ لِلْأَمْرِ. وَلِهَذَا أَعَادَ صِيَغَ الْأَوَامِرِ لَهُ بِالتَّبْلِيغِ كَقَوْلِهِ: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} ، وَ {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} وَنَحْوِهِ. وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُبَلِّغٌ لِلْأُمَّةِ بِمَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِهِ، وَلَيْسَ مُبَلِّغًا لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ الْخِطَابِ، بَلْ بِمَا سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَجَوَابُ الثَّالِثِ: أَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِخُرُوجِهِ عَنْ عُمُومَاتِ الْخِطَابِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ الْحَائِضَ وَالْمَرِيضَ وَالْمُسَافِرَ وَالْمَرْأَةَ كُلَّ وَاحِدٍ قَدِ اخْتَصَّ بِأَحْكَامٍ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا، وَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنِ الدُّخُولِ فِي عُمُومَاتِ الْخِطَابِ (1) ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ الْخِطَابُ الْوَارِدُ شِفَاهًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ هَلْ يَخُصُّ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ فقط] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ (2) الْخِطَابُ الْوَارِدُ شِفَاهًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَوَامِرُ الْعَامَّةُ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وَ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وَنَحْوِهِ هَلْ يَخُصُّ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ أَوْ هُوَ عَامٌّ لَهُمْ وَلِمَنْ بَعْدَهُمْ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُعْتَزِلَةُ إِلَى اخْتِصَاصِهِ بِالْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَذَهَبَتِ الْحَنَابِلَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّالِفِينِ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى تَنَاوُلِ ذَلِكَ لِمَنْ وُجِدَ بَعْدَ عَصْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حُجَّةُ النَّافِينَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُخَاطَبَةَ شِفَاهًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وَ (وَيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تَسْتَدْعِي كَوْنَ الْمُخَاطَبِ مَوْجُودًا أَهْلًا لِلْخِطَابِ إِنْسَانًا مُؤْمِنًا، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ الْخِطَابِ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَلَا يَكُونُ الْخِطَابُ مُتَنَاوِلًا لَهُ (3) .   (1) انْظُرْ جَوَابَهُ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّالِثِ مَعَ مَا سَبَقَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنِ اسْتِدْلَالِهِ بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمَّتِهِ فِي الْأَحْوَالِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ دُخُولِ أُمَّتِهِ مَعَهُ فِي الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ (2) انْظُرِ الْخِلَافَ فِي جَوَازِ تَكْلِيفِ الْمَعْدُومِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْأَصْلِ الرَّابِعِ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ (3) إِنَّمَا تَسْتَدْعِي الْمُخَاطَبَةُ شِفَاهًا بِمِثْلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وَقَوْلِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كَوْنَ الْمُخَاطَبِ مَوْجُودًا مُؤَهَّلًا وَقْتَ الْخِطَابِ إِذَا أُرِيدَ وَصْفُهُ بِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ شِفَاهًا، أَمَّا إِذَا أُرِيدَ مُجَرَّدُ تَنَاوُلِ الْخِطَابِ وَالْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشَافَهًا بِالْخِطَابِ فَذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِهِ وَقْتَ الْخِطَابِ فَضْلًا عَنْ أَهْلِيَّتِهِ لَهُ، بَلْ يَكْفِي فِي تَنَاوُلِهِ لَهُ وَتَكْلِيفِهِ بِهِ أَنْ يَنْطَبِقَ عَلَيْهِ اللَّقَبُ الَّذِي نُودِيَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ وَأَهْلِيَّتِهِ لِلْخِطَابِ فِي زَمَنٍ مَا وَلَوْ بَعْدَ صُدُورِ الْخِطَابِ بِآلَافِ السِّنِينَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ الْخِطَابُ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 الثَّانِي: أَنَّ خِطَابَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ مُمْتَنِعٌ حَتَّى إِنَّ مَنْ شَافَهَهُ بِالْخِطَابِ اسْتُهْجِنَ كَلَامُهُ وَسُفِّهَ فِي رَأْيِهِ، مَعَ أَنَّ حَالَهُمَا لِوُجُودِهِمَا وَاتِّصَافَهُمَا بِصِفَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَأَصْلِ الْفَهْمِ وَقَبُولَهُمَا لِلتَّأْدِيبِ بِالضَّرْبِ وَغَيْرِهِ أَقْرَبُ إِلَى الْخِطَابِ لَهُمَا مِمَّنْ لَا وُجُودَ لَهُ (1) . احْتَجَّ الْخُصُومُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» " (2) ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خِطَابُهُ مُتَنَاوِلًا لِمَنْ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا إِلَيْهِ وَلَا مُبَلِّغًا إِلَيْهِ شَرْعَ اللَّهِ، تَعَالَى، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " (3) ، وَلَفْظُ (الْجَمَاعَةِ) يَسْتَغْرِقُ كُلَّ مَنْ بَعْدَهُ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُهُ عَلَى مَنْ فِي زَمَانِهِ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِمْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ.   (1) هَذَا صَحِيحٌ إِذَا أُرِيدَ مُشَافَهَتُهُمَا بِالْخِطَابِ حَالَةَ عَدَمِ التَّمْيِيزِ، أَمَّا إِذَا أُرِيدَ تَنَاوُلُ الْخِطَابِ لَهُمَا عِنْدَ أَهْلِيَّتِهِمَا لِلتَّكْلِيفِ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، بَلْ تَتَنَاوَلُهُمَا الْأَحْكَامُ عِنْدَ تَحَقُّقِ أَهْلِيَّتِهِمَا لِلتَّكْلِيفِ (2) بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ. لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنْ صَحَّ مَعْنَاهُ فِي أَحَادِيثَ مِنْهَا حَدِيثُ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي "، وَمِنْهُ: " وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ فِي قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً ". (3) حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ " وَفِي لَفْظٍ: " كَحُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ "، قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْبَيْضَاوِيِّ: لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَسُئِلَ عَنْهُ الْمِزِّيُّ وَالذَّهَبِيُّ فَأَنْكَرَاهُ، انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ سُورَةَ الْمُمْتَحَنَةِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْعَجْلُونِيُّ فِي كَشْفِ الْخَفَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ التَّابِعِينِ وَإِلَى زَمَانِنَا هَذَا مَا زَالُوا يَحْتَجُّونَ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَنْ وُجِدَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْلَا عُمُومُ تِلْكَ الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ لِمَنْ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ التَّمَسُّكُ بِهَا صَحِيحًا، وَكَانَ الِاسْتِرْوَاحُ إِلَيْهَا خَطَأً، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنْ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا أَرَادَ التَّخْصِيصَ بِبَعْضِ الْأُمَّةِ نَصَّ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ خِطَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْوَاحِدِ هَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلْبَاقِينَ؟ وَلَوْلَا أَنَّ الْخِطَابَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ يَكُونُ خِطَابًا لِلْكُلِّ لَمَا احْتَاجَ إِلَى التَّخْصِيصِ. وَالْجَوَابُ عَلَى النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْعُوثًا إِلَى النَّاسِ كَافَّةً أَنَّهَا إِنَّمَا تَلْزَمُ أَنْ لَوْ تَوَقَّفَ مَفْهُومُ الرِّسَالَةِ وَالْبَعْثَةِ إِلَى كُلِّ النَّاسِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ لِلْكُلِّ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ شِفَاهًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِتَعْرِيفِ الْبَعْضِ بِالْمُشَافَهَةِ وَتَعْرِيفِ الْبَعْضِ بِنَصْبِ الدَّلَائِلِ وَالْأَمَارَاتِ، وَقِيَاسِ بَعْضِ الْوَقَائِعِ عَلَى بَعْضٍ (1) . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَثْبُتْ بِالْخِطَابِ شِفَاهًا لِقِلَّةِ النُّصُوصِ وَنُدْرَتِهَا وَكَثْرَةِ الْوَقَائِعِ (2) ، وَمَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولًا وَلَا مُبَلِّغًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ بِالْخِطَابِ شِفَاهًا. فَإِنْ قِيلَ: وَالدَّلَائِلُ الَّتِي يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَنْ وُجِدَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ - غَيْرُ الْخِطَابِ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ، إِنَّمَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا حُجَّةً بِالدَّلَائِلِ الْخِطَابِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ الْمَوْجُودُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَنَاوَلُ مَنْ بَعْدَهُ فَقَدْ تَعَذَّرَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَيْهِ.   (1) لَمْ يَدَّعِ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ الْمَعْدُومَ مُشَافَهٌ بِالْخِطَابِ إِنَّمَا ادَّعَى أَنَّ الْخِطَابَ مُتَنَاوِلٌ لَهُ عِنْدَ أَهْلِيَّتِهِ لِلتَّكْلِيفِ وَانْطِبَاقِ اللَّقَبِ الْمُنَادَى بِهِ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي إِثْبَاتِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَا أُجِيبَ بِهِ مُلَاقِيًا لِلدَّلِيلِ. (2) النُّصُوصُ وَإِنْ كَانَتْ مَحْصُورَةً، لَكِنَّهَا قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ بِنَفْسِهَا تَارَةً وَبِالْقَرَائِنِ وَالْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ تَارَةً أُخْرَى، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُحْكَمَ بِهَا فِيمَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْيَانِ الْوَقَائِعِ وَالْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةِ وَقْتَ الْخِطَابِ، وَبِذَلِكَ عَمَّتِ الشَّرِيعَةُ الْمَوْجُودَ وَالْمَعْدُومَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَعْدُومُ مُشَافَهًا بِهَا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 قُلْنَا: أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ كَوْنِهَا حُجَّةً بِالنَّقْلِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ حَكَمَ بِكَوْنِهَا حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ الْمَنْقُولِ عَنِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ (1) . وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " فَالْكَلَامُ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ. وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ وُجِدَ بَعْدَهُ، وَهُوَ أَشْبَهُ حُجَجِ الْخُصُومِ، فَجَوَابُهُ أَنَّا بَيَّنَّا امْتِنَاعَ الْمُخَاطَبَةِ لِمَنْ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بِمَا لَا مِرَاءَ فِيهِ (2) . وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ اسْتِنَادِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ إِلَى النُّصُوصِ مِنْ جِهَةِ مَعْقُولِهَا، لَا مِنْ جِهَةِ أَلْفَاظِهَا جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ فِي مَسْأَلَةِ خِطَابِ النَّبِيِّ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْأُمَّةِ (3) .   (1) وَكَذَلِكَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ تَنَاوُلِهَا الْمَعْدُومَ بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَتَتَضَافَرُ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهَا (2) إِنَّمَا اسْتَدَلَّ بِمَا يُثْبِتُ أَنَّ الْمَعْدُومَ وَقْتَ الْخِطَابِ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُشَافَهٌ بِهِ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَمَّا أَنَّ خِطَابَهُ وَشَرَائِعَهُ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ فَلَمْ تَتَعَرَّضْ لَهُ أَدِلَّتُهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَتَعَارَضُ الْأَدِلَّةُ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرَ. (3) سَبَقَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا هُنَاكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ الْمُخَاطَبِ هَلْ يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ لُغَةً أَوْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ (1) اخْتَلَفُوا فِي الْمُخَاطَبِ هَلْ يُمْكِنُ دُخُولُهُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ لُغَةً أَوْ لَا؟ وَالْمُخْتَارُ دُخُولُهُ، وَعَلَيْهِ اعْتِمَادُ الْأَكْثَرِينَ وَسَوَاءٌ كَانَ خِطَابُهُ الْعَامُّ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا أَوْ خَبَرًا. أَمَّا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فَإِنَّ اللَّفْظَ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ شَيْءٍ مَعْلُومًا لِلَّهِ، تَعَالَى، وَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ أَشْيَاءُ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ. وَالْأَمْرُ فَكَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ فَأَكْرِمْهُ، فَإِنَّ خِطَابَهُ لُغَةً يَقْتَضِي إِكْرَامَ كُلِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَى الْعَبْدِ. فَإِذَا أَحْسَنَ السَّيِّدُ إِلَيْهِ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْسِنِينَ إِلَى الْعَبْدِ، فَكَانَ إِكْرَامُهُ عَلَى الْعَبْدِ لَازِمًا بِمُقْتَضَى عُمُومِ خِطَابِ السَّيِّدِ. وَكَذَلِكَ فِي النَّهْيِ كَمَا إِذَا قَالَ لَهُ: مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ فَلَا تُسِئْ إِلَيْهِ، وَهَذَا فِي الْوُضُوحِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْإِطْنَابِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِ لِلنَّصِّ وَالْمَعْنَى، أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ أَشْيَاءُ وَهُوَ غَيْرُ خَالِقٍ لَهَا، وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ خَبَرِهِ لَكَانَ خَالِقًا لَهَا، وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَتَصَدَّقْ عَلَيْهِ بِدِرْهَمٍ، وَلَوْ دَخَلَ السَّيِّدُ، فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِينَ إِلَى الدَّارِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ بِدِرْهَمٍ. وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ أَمْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ حَسَنًا. قُلْنَا: أَمَّا الْآيَةُ فَإِنَّهَا بِالنَّظَرِ إِلَى عُمُومِ اللَّفْظِ تَقْتَضِي كَوْنَ الرَّبِّ - تَعَالَى - خَالِقًا لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُمْتَنِعًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَقْلًا كَانَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الْآيَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ دُخُولِهِ فِي الْعُمُومِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ وَخُرُوجِهِ عَنْهُ بِالتَّخْصِيصِ (2) . ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمِثَالِ، فَإِنَّهُ بِعُمُومِهِ مُقْتَضٍ لِلتَّصَدُّقِ عَلَى السَّيِّدِ عِنْدَ دُخُولِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ وَالدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ امْتَنَعَ ثُبُوتُ حُكْمِ الْعُمُومِ فِي حَقِّهِ، وَلَا مُنَافَاةَ كَمَا سَبَقَ.   (1) مَا اخْتَارَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ خَصْمِهِ فِي أَنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا، وَيَنْقُضُ مَا اخْتَارَهُ مِنَ التَّوَقُّفِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ وَيَقْضِي عَلَى أَدِلَّتِهِ وَمُنَاقَشَاتِهِ هُنَاكَ. (2) وَأَيْضًا فَإِخْبَارُهُ - تَعَالَى - عَنْ نَفْسِهِ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ خَالِقٌ يَمْنَعُ مِنْ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: " كُلِّ شَيْءٍ " وَإِلَّا كَانَ مَخْلُوقًا لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ سَابِقًا عَلَى نَفْسِهِ، لِكَوْنِهِ خَالِقَهَا مُتَأَخِّرًا عَنْهَا لِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا لَهَا، وَسَبْقُ الشَّيْءِ نَفْسَهُ وَتَأْخِيرُهُ عَنْهَا فِي الْوُجُودِ مُحَالٌ، فَالْآيَةُ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْمَفْعُولِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْلِهِ تَعَالَى خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً هَلْ يَقْتَضِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَالِ كُلِّ مَالِكٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} هَلْ يَقْتَضِي أَخْذَ الصَّدَقَةِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَالِ كُلِّ مَالِكٍ أَوْ أَخْذَ صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ؟ وَالْأَوَّلُ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ، وَالثَّانِي مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ (1) . احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَعْمِيمِ كُلِّ نَوْعٍ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَضَافَ الصَّدَقَةَ إِلَى جَمِيعِ الْأَمْوَالِ بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وَالْجَمْعُ الْمُضَافُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ أَرْبَابِهِ، فَنُزِّلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: خُذْ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، فَكَانَتِ الصَّدَقَةُ مُتَعَدِّدَةً بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الْأَمْوَالِ. وَلِلنَّافِي أَنْ يَقُولَ: الْمَأْمُورُ بِهِ صَدَقَةٌ مُنَكَّرَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ، فَمَهْمَا أُخِذَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنَ الْمَالِكِ صَدَقَةً، صَدَقَ قَوْلُ الْقَائِلِ: أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِهِ صَدَقَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْوَاحِدَ جُزْءٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ. فَإِذَا أُخِذَتِ الصَّدَقَةُ مِنْ جُزْءِ الْمَالِ صَدَقَ أَخْذُهَا مِنَ الْمَالِ. وَلِهَذَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ كُلَّ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ مِنْ دَرَاهِمِ الْمَالِكِ وَدَنَانِيرِهِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مِنْ مَالِهِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ مِنْ خُصُوصِ كُلِّ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ لَهُ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لَا لِلْمُعَارِضِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمَلَةٌ (2) وَمَأْخَذُ الْكَرْخِيِّ دَقِيقٌ.   (1) الْكَرْخِيُّ هُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ دَلْهَمٍ (2) انْتَهَى الْآمِدِيُّ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحِيرَةٍ وَصَرَّحَ بِأَنَّهَا مُحْتَمَلَةٌ، فَكَيْفَ يُقَالُ مَسَائِلُ الْأُصُولِ كُلُّهَا قَطْعِيَّةٌ؟ بَلْ كَيْفَ يُقَالُ كُلُّهَا ظَنِّيَّةٌ وَفِيهَا الْمَشْكُوكُ فِي حُكْمِهِ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْمُخَاطِبُ الذَّمَّ أَوِ الْمَدْحَ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ (1) اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْمُخَاطِبُ الذَّمَّ أَوِ الْمَدْحَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} ، وَكَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَنَعَ مِنْ عُمُومِهِ حَتَّى أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ فِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ، مُصَيِّرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْعُمُومَ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا فِي الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا سِيقَ لِقَصْدِ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ مُبَالَغَةً فِي الْحَثِّ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ الزَّجْرِ عَنْهُ. وَخَالَفَهُ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَصْدَ الذَّمِّ أَوِ الْمَدْحِ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِ الْعُمُومِ مَعَهُ إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَقَدْ أَتَى بِالصِّيغَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعُمُومِ فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَقْصُودَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا وَتَعْطِيلِ الْآخَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   (1) انْظُرْ مَا سَبَقَ تَعْلِيقًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 [الصِّنْفُ الرَّابِعُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ] [مقَدِّمَةُ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ وَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ] وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسْأَلَتَيْنِ: أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي بَيَانِ مَعْنَى التَّخْصِيصِ، وَمَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ. أَمَّا التَّخْصِيصُ فَقَدْ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ عَنْهُ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ عَلَى كُلِّ مَذْهَبٍ. أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَرْبَابِ الْخُصُوصِ؛ فَلِأَنَّ الْخِطَابَ عِنْدَهُمْ مُنَزَّلٌ عَلَى أَقَلِّ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَلَا يُتَصَوَّرُ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْهُ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَرْبَابِ الِاشْتِرَاكِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَمَلَ بِاللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي بَعْضِ مَحَامِلِهِ لَا يَكُونُ إِخْرَاجًا لِبَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ عَنْهُ، بَلْ غَايَتُهُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ مَحَامِلِهِ دُونَ الْبَعْضِ. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَرْبَابِ الْوَقْفِ فَظَاهِرٌ، إِذِ اللَّفْظُ عِنْدَهُمْ مَوْقُوفٌ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ لِلْخُصُوصِ أَوْ لِلْعُمُومِ، وَهُوَ صَالِحٌ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. فَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ وَامْتَنَعَ إِخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْهُ. وَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لِلْخُصُوصِ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ إِذْ ذَاكَ دَلِيلًا عَلَى الْعُمُومِ، وَلَا مُتَنَاوِلًا لَهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْخَاصِّ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ عَلَى بَعْضِ مَحَامِلِهِ الصَّالِحِ لَهَا. وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَرْبَابِ الْعُمُومِ فَغَايَتُهُ أَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَهُمْ حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِغْرَاقِ وَمَجَازٌ فِي الْخُصُوصِ. وَعَلَى هَذَا، فَإِنْ لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْحَقِيقَةِ وَجَبَ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى جَمِيعِ مَحَامِلِهِ مِنْ غَيْرِ إِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْهَا. وَإِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْحَقِيقَةِ وَامْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ فِي الِاسْتِغْرَاقِ، وَجَبَ صَرْفُهُ إِلَى مَحْمَلِهِ الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ الْخُصُوصُ. وَعِنْدَ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ لَا يَكُونُ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِلْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الِاسْتِغْرَاقُ، فَلَا تَحَقُّقَ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْخِطَابُ عَنْهُ إِذْ هُوَ حَالَةَ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَجَازِ لَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَقِيقَةِ. وَعَلَى هَذَا فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَأَنَّ هَذَا عَامٌّ مُخَصَّصٌ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ، فَالتَّخْصِيصُ عَلَى مَا يُنَاسِبُ مَذْهَبَ أَرْبَابِ الْعُمُومِ هُوَ تَعْرِيفُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْعُمُومِ حَقِيقَةً، إِنَّمَا هُوَ الْخُصُوصُ وَعَلَى مَا يُنَاسِبُ مَذْهَبَ أَرْبَابِ الِاشْتِرَاكِ تَعْرِيفُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الصَّالِحِ لِلْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إِنَّمَا هُوَ الْخُصُوصُ. وَالْمُعَرِّفُ لِذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ يُسَمَّى مُخَصِّصًا، وَاللَّفْظُ الْمَصْرُوفُ عَنْ جِهَةِ الْعُمُومِ إِلَى الْخُصُوصِ مُخَصَّصًا (1) . وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ خِطَابٍ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ مَعْنَى الشُّمُولِ. كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ: " «تُجْزِئُكَ وَلَا تُجِزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ» " فَلَا يُتَصَوَّرُ تَخْصِيصُهُ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ عَلَى مَا عُرِفَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ جِهَةِ الْعُمُومِ إِلَى جِهَةِ الْخُصُوصِ، وَمَا لَا عُمُومَ لَهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ هَذَا الصَّرْفُ. وَأَمَّا مَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الشُّمُولُ وَالْعُمُومُ فَيُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّخْصِيصُ، وَسَوَاءٌ كَانَ خِطَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ خِطَابًا كَالْعِلَّةِ الشَّامِلَةِ لِإِمْكَانِ صَرْفِهِ عَنْ جِهَةِ عُمُومِهِ إِلَى جِهَةِ خُصُوصِهِ. هَذَا إِتْمَامُ الْمُقَدِّمَةِ. [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِهِ] وَأَمَّا الْمَسَائِلُ فَمَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِهِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنَ الْإِخْبَارِ وَالْأَمْرِ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِشُذُوذٍ لَا يُؤْبَهُ لَهُمْ فِي تَخْصِيصِهِ الْخَبَرَ. وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ الشَّرْعُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الشَّرْعُ، فَوُقُوعُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} ، وَ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، وَلَيْسَ خَالِقًا لِذَاتِهِ وَلَا قَادِرًا عَلَيْهَا وَهِيَ شَيْءٌ. وَقَوْلِهِ، تَعَالَى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَلَمْ تَجْعَلْهَا رَمِيمًا. وَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} ، (أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْخَبَرِيَّةِ الْمُخَصَّصَةِ حَتَّى إِنَّهُ قَدْ قِيلَ: لَمْ يَرِدْ عَامٌّ إِلَّا وَهُوَ مُخَصَّصٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِ، تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ جَائِزًا لَمَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ.   (1) مُخَصَّصًا فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مُخَصِّصٌ بِالرَّفْعِ لِكَوْنِهِ خَبَرًا عَنْ قَوْلِهِ وَاللَّفْظُ الْمَصْرُوفُ، أَوْ أَنْ يُقَدَّرَ قَبْلَهُ نَاصِبٌ فَيُقَالَ: يُسَمَّى مُخَصِّصًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَخَصُّصِ الْعُمُومِ سِوَى صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ جِهَةِ الْعُمُومِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ إِلَى جِهَةِ الْخُصُوصِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَالتَّجَوُّزُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي ذَاتِهِ. وَلِهَذَا لَوْ قَدَّرْنَا وُقُوعَهُ لَمْ يَلْزَمِ الْمُحَالُ عَنْهُ لِذَاتِهِ، وَلَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَضْعِ اللُّغَةِ. وَلِهَذَا يَصِحُّ مِنَ اللُّغَوِيِّ أَنْ يَقُولَ: جَاءَنِي كُلُّ أَهْلِ الْبَلَدِ، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ بَعْضُهُمْ، وَلَا بِالنَّظَرِ إِلَى الدَّاعِي إِلَى ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ كُلِّ مَانِعٍ سِوَى ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْأَوَامِرِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ لَمْ نَعْرِفْ فِيهَا خِلَافًا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) مَعَ خُرُوجِ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، وَ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ سَارِقٍ يُقْطَعُ، وَلَا كُلُّ زَانٍ يُجْلَدُ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} مَعَ خُرُوجِ الْكَافِرِ وَالرَّقِيقِ وَالْقَاتِلِ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْخَبَرِ مِمَّا يُوجِبُ الْكَذِبَ فِي الْخَبَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمُخْبِرِ لِلْخَبَرِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى الشَّارِعِ كَمَا فِي نَسْخِ الْخَبَرِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ الْكَذِبِ، وَلَا وَهْمَ الْكَذِبِ، بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ جِهَةِ الْمَجَازِ، وَقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ. وَإِلَّا كَانَ الْقَائِلُ إِذَا قَالَ: " رَأَيْتُ أَسَدًا " وَأَرَادَ بِهِ الْإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا إِذَا تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْأَسَدَ الْحَقِيقِيَّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ نَسْخِ الْخَبَرِ كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ (1) . [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْغَايَةِ الَّتِي يَقَعُ انْتِهَاءُ التَّخْصِيصِ إِلَيْهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْعُمُومِ وَتَخْصِيصِهِ فِي الْغَايَةِ الَّتِي يَقَعُ انْتِهَاءُ التَّخْصِيصِ إِلَيْهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ انْتِهَاءِ التَّخْصِيصِ فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ إِلَى الْوَاحِدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فِي (مِنْ) خَاصَّةً دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ كَالرِّجَالِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَجَعَلَ نِهَايَةَ التَّخْصِيصِ فِيهَا أَنْ يَبْقَى تَحْتَهَا ثَلَاثَةٌ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَفَّالِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ نِهَايَةَ التَّخْصِيصِ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ جَمْعًا كَثِيرًا يُعْرَفُ   (1) سَيَأْتِي أَيْضًا فِي التَّعْلِيقِ هُنَاكَ بَيَانُ مَا هُوَ الْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحَدَّدًا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَإِلَيْهِ مَيْلُ إِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا (1) . احْتَجَّ مَنْ جَوَّزَ الِانْتِهَاءَ فِي التَّخْصِيصِ إِلَى الْوَاحِدِ بِالنَّصِّ، وَالْإِطْلَاقِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَأَرَادَ بِهِ نَفْسَهُ وَحْدَهُ. وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ أَنْفَذَ إِلَيْهِ الْقَعْقَاعَ مَعَ أَلْفِ فَارِسٍ: " قَدْ أَنْفَذْتُ إِلَيْكَ أَلْفَيْ رَجُلٍ "، أَطْلَقَ اسْمَ الْأَلْفِ الْأُخْرَى وَأَرَادَ بِهَا الْقَعْقَاعَ (2) . وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ الِانْتِهَاءُ فِي التَّخْصِيصِ إِلَى الْوَاحِدِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ صَارَ مَجَازًا، أَوْ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ مِنَ الِاسْتِغْرَاقِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ لَوْ قِيلَ بِكَوْنِهِ مَانِعًا لَزِمَ امْتِنَاعُ تَخْصِيصِ الْعَامِّ مُطْلَقًا وَلَا بِعَدَدٍ مَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَجَازًا فِي ذَلِكَ الْعَدَدِ، وَغَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِيمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ. وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي الْوَاحِدِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَعْضٌ مِنَ الْكُلِّ يَكُونُ مَجَازًا كَمَا فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي الْكَثْرَةِ، فَإِذَا جَازَ التَّجَوُّزُ بِاللَّفْظِ الْعَامِّ عَنِ الْكَثْرَةِ فَكَذَا فِي الْوَاحِدِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَعْظِيمِ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ بِمَعْزِلٍ عَنِ التَّخْصِيصِ بِالْوَاحِدِ. وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ الْعُمَرِيُّ فَمَحْمُولٌ عَلَى قَصْدِ بَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ الْوَاحِدَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَلْفِ، وَهُوَ غَيْرُ مَعْنَى التَّخْصِيصِ.   (1) سَبَقَ تَعْلِيقًا تَرْجَمَةُ أَبِي بَكْرِ الْقَفَّالِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. (2) سَعْدٌ هُوَ ابْنُ مَالِكٍ الْقُرَشِيُّ الزُّهْرِيُّ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ صَحَابِيُّ مَشْهُورٌ، هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، وَالْقَعْقَاعُ هُوَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ مَعْبَدٍ التَّمِيمِيُّ كَانَ مِنَ الْفُرْسَانِ، انْظُرْ تَرْجَمَتَهُمَا وَمَا قِيلَ فِيهِمَا مِنَ الثَّنَاءِ فِي كِتَابِ الْإِصَابَةِ لِابْنِ حَجَرٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وَأَمَّا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَلَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ فِيمَا قِيلَ مِنَ الْقِسْمَيْنِ، بَلِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ لُغَةً. وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي: فَمَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ الْعَامِّ وَإِرَادَةِ الْوَاحِدِ مَجَازًا، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَأَمَّا حُجَّةُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: قَتَلْتُ كُلَّ مَنْ فِي الْبَلَدِ، وَأَكَلْتُ كُلَّ رُمَّانَةٍ فِي الدَّارِ، وَكَانَ فِيهَا تَقْدِيرًا أَلْفُ رُمَّانَةٍ، وَكَانَ قَدْ قَتَلَ شَخْصًا وَاحِدًا أَوْ ثَلَاثَةً، وَأَكَلَ رُمَّانَةً وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثَ رُمَّانَاتٍ، فَإِنَّ كَلَامَهُ يُعَدُّ مُسْتَقْبَحًا مُسْتَهْجَنًا عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَكْرِمْهُ، أَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: مَنْ عِنْدَكَ؟ وَقَالَ: أَرَدْتُ بِهِ زَيْدًا وَحْدَهُ أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْخَاصِ مُعَيَّنَةً أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَانَ قَبِيحًا مُسْتَهْجَنًا، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا حُمِلَ عَلَى الْكَثْرَةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ مُوَافِقًا مُطَابِقًا لِوَضْعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً مِنَ السَّدَادِ، وَقَدْ قَلَّدَهُ فِيهَا جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَهْجَنًا مِنْهُ، إِذَا كَانَ مُرِيدًا لِلْوَاحِدِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِهِ قَرِينَةٌ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَبَيَانُ ذَلِكَ، النَّصُّ وَصِحَّةُ الْإِطْلَاقِ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} ، وَأَرَادَ بِالنَّاسِ الْقَائِلِينَ، نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ (1) بِعَيْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ النَّاسِ، وَلَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ مُسْتَهْجَنًا لِاقْتِرَانِهِ بِالدَّلِيلِ. وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَصِحَّةُ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَكَلْتُ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ وَشَرِبْتُ الْمَاءَ، وَالْمُرَادُ بِهِ وَاحِدٌ مِنْ جِنْسِ مَدْلُولَاتِ اللَّفْظِ الْعَامِّ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَقْبَحًا لِاقْتِرَانِهِ بِالدَّلِيلِ. نَعَمْ إِذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ الْعَامَّ وَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْهُ إِرَادَةَ الْكُلِّ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فِي الْكَثْرَةِ، وَهُوَ مُرِيدٌ لِلْوَاحِدِ الْبَعِيدِ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ دَلِيلٍ بِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَهْجَنًا. وَإِذَا عُرِفَ ضَعْفُ الْمَأْخَذِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَعَلَيْكَ بِالِاجْتِهَادِ فِي التَّرْجِيحِ (2) .   (1) نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ يُكَنَّى أَبَا سَلَمَةَ الْأَشْجَعِيَّ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ أَسْلَمَ لَيَالِيَ الْخَنْدَقِ، وَقُتِلَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَقِيلَ أَوَّلَ خِلَافَةِ عَلِيٍّ فِي وَاقِعَةِ الْجَمَلِ. (2) اعْتَرَفَ الْمُؤَلِّفُ بِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ وَتَرَكَ التَّرْجِيحَ لِلنَّاظِرِ فِيهَا، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ نِهَايَةَ التَّخْصِيصِ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ التَّرَاكِيبِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ (انْظُرِ الْمِنْهَاجَ لِلْبَيْضَاوِيِّ وَمَا كُتِبَ عَلَيْهِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 [الصِّنْفُ الْخَامِسُ فِي أَدِلَّةِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ] [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُتَّصِلَةِ] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ الِاسْتِثْنَاءُ] [مُقَدِّمَةُ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَصِيَغِهِ وَأَقْسَامِهِ] وَهِيَ قِسْمَانِ: مُتَّصِلَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَدِلَّةِ الْمُتَّصِلَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: الِاسْتِثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ، وَالصِّفَةُ، وَالْغَايَةُ النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الِاسْتِثْنَاءُ وَفِيهِ مُقَدِّمَةٌ وَمَسَائِلُ: أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَصِيَغِهِ وَأَقْسَامِهِ. أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ: فَقَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ قَوْلٌ ذُو صِيَغٍ مَخْصُوصَةٍ مَحْصُورَةٍ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ بِهِ لَمْ يُرَدْ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِآحَادِ الِاسْتِثْنَاءَاتِ كَقَوْلِنَا: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ بِذِي صِيَغٍ، بَلْ صِيغَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ إِلَّا زَيْدًا. الثَّانِي: أَنَّهُ يُبْطَلُ بِالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ الْخَارِجَةِ عَنِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنَّهَا صِيَغٌ مَخْصُوصَةٌ وَهِيَ مَحْصُورَةٌ لِاسْتِحَالَةِ الْقَوْلِ بِعَدَمِ النِّهَايَةِ فِي الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ بِهَا لَمْ يُرَدْ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي شَيْءٍ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: رَأَيْتُ أَهْلَ الْبَلَدِ، وَلَمْ أَرَ زَيْدًا، وَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، وَلَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَمَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَكْرِمْهُ، وَالْفَاسِقُ مِنْهُمْ أَهِنْهُ، وَأَهْلُ الْبَلَدِ كُلُّهُمْ عُلَمَاءُ وَزَيْدٌ جَاهِلٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَبَحِّرِينَ مِنَ النُّحَاةِ: الِاسْتِثْنَاءُ إِخْرَاجُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْجُمْلَةِ بِلَفْظِ (إِلَّا) أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ، وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِقَوْلِ الْقَائِلِ: رَأَيْتُ أَهْلَ الْبَلَدِ وَلَمْ أَرَ زَيْدًا، فَإِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِهِ: إِلَّا زَيْدًا فِي إِخْرَاجِ بَعْضِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْجُمْلَةِ، وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وَقِيلَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا لِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ بِلَفْظِ (إِلَّا) وَلَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مَدْخُولٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا لِإِخْرَاجِ بَعْضِ الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ إِخْرَاجًا لِبَعْضِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: جَاءَ الْقَوْمُ غَيْرَ زَيْدٍ، فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مَعَ أَنَّ لَفْظَةَ (غَيْرَ) قَدْ وُجِدَ فِيهَا جَمِيعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْقُيُودِ سِوَى قَوْلِهِ: لَا يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ إِلَّا لِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ. فَإِنَّ (غَيْرَ) قَدْ يَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ لِغَرَضِ النَّعْتِيَّةِ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي مَوْضِعِهَا (إِلَّا) كَقَوْلِكَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ غَيْرُ جَيِّدٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ تَقُولَ فِي مَوْضِعِهَا: عِنْدِي دِرْهَمٌ إِلَّا جَيِّدًا فَلَا جَرَمَ كَانَتْ نَعْتًا لِلدِّرْهَمِ وَتَابِعَةً لَهُ فِي إِعْرَابِهِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْتَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ غَيْرَ قِيرَاطٍ، فَإِنَّ (غَيْرَ) تَكُونُ اسْتِثْنَائِيَّةً مَنْصُوبَةً لِإِمْكَانِ دُخُولِ (إِلَّا) فِي مَوْضِعِهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا: إِنَّ النَّعْتِيَّةَ لَيْسَتِ اسْتِثْنَائِيَّةً فَلَا تَرِدُ عَلَى الْحَدِّ. وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ لَفْظٍ مُتَّصِلٍ بِجُمْلَةٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ دَالٍّ بِحَرْفِ (إِلَّا) أَوْ أَخَوَاتِهَا عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِمَّا اتَّصَلَ بِهِ، لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا صِفَةٍ وَلَا غَايَةٍ. فَقَوْلُنَا: (لَفْظٍ) احْتِرَازٌ عَنِ الدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْصِيصِ. وَقَوْلُنَا: (مُتَّصِلٍ بِجُمْلَةٍ) احْتِرَازٌ عَنِ الدَّلَائِلِ الْمُنْفَصِلَةِ. وَقَوْلُنَا: (وَلَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ مِثْلِ قَوْلِنَا: قَامَ الْقَوْمُ وَزَيْدٌ لَمْ يَقُمْ، وَقَوْلُنَا: (دَالٍّ) احْتِرَازٌ عَنِ الصِّيَغِ الْمُهْمَلَةِ. وَقَوْلُنَا: (عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ غَيْرُ مُرَادٍ مِمَّا اتَّصَلَ بِهِ) احْتِرَازٌ عَنِ الْأَسْمَاءِ الْمُؤَكِّدَةِ وَالنَّعْتِيَّةِ. كَقَوْلِ الْقَائِلِ: جَاءَنِي الْقَوْمُ الْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ. وَقَوْلُنَا: (بِحَرْفِ (إِلَّا) أَوْ أَخَوَاتِهَا) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِنَا: قَامَ الْقَوْمُ دُونَ زَيْدٍ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ أَكْثَرِ الْإِلْزَامَاتِ السَّابِقِ ذِكْرُهَا. وَقَوْلُنَا: (لَيْسَ بِشَرْطٍ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ: مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَكْرِمْهُ إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَقَوْلُنَا: (لَيْسَ بِصِفَةٍ) احْتِرَازٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: جَاءَنِي بَنُو تَمِيمٍ الطُّوَالُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 وَقَوْلُنَا: (لَيْسَ بِغَايَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لِعَبْدِهِ: (أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا الدَّارَ) وَهَذَا الْحَدُّ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ. وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَصِيَغُهُ كَثِيرَةٌ، وَهِيَ إِلَّا وَغَيْرُ وَسِوَى وَخَلَا وَحَاشَا وَعَدَا وَمَا عَدَا وَمَا خَلَا، وَلَيْسَ وَلَا يَكُونُ وَنَحْوُهُ. وَأُمُّ الْبَابِ فِي هَذِهِ الصِّيَغِ (إِلَّا) لِكَوْنِهَا حَرْفًا مُطْلَقًا، وَلِوُقُوعِهَا فِي جَمِيعِ أَبْوَابِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا غَيْرُ. وَلَهَا أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي الْإِعْرَابِ مُسْتَقْصَاةٌ فِي كُتُبِ أَهْلِ الْأَدَبِ، لَا مُنَاسَبَةَ لِذِكْرِهَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا قَدْ فَعَلَهُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ الْعَرَبِيَّةِ. وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجِنْسِ، وَمِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ عَنْ قَرِيبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ مَعَ الِاتِّصَالِ كَقَوْلِكَ: خَرَجَ إِلَّا زَيْدًا الْقَوْمُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ: فَمَا لِيَ إِلَّا آلَ أَحْمَدَ شِيعَةٌ ... وَمَا لِيَ إِلَّا مَذْهَبَ الْحَقِّ مَذْهَبُ . (1) وَيَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا اثْنَيْنِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا امْرَأَتَهُ} اسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَاسْتَثْنَى الْمَرْأَةَ مِنَ الْآلِ الْمُنْجَيْنَ مِنَ الْهَلَاكِ. وَهَذَا مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ. وَأَمَّا الْمَسَائِلُ فَخَمْسٌ:   (1) وَيُرْوَى: وَمَا لِيَ إِلَّا مَشْعَبَ الْحَقِّ مَشْعَبُ . الْبَيْتُ لِلْكُمَيْتِ بْنِ زَيْدٍ الْأَسَدِيِّ مِنْ قَصِيدَةٍ يَمْدَحُ بِهَا آلَ الْبَيْتِ مَطْلَعُهَا: طَرِبْتُ - وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ وَلَمْ يُلْهِنِي دَارٌ وَلَا رَسْمُ مَنْزِلٍ - وَلَمْ يَتَطَرَّبْنِي بَنَانٌ مُخَضَّبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى شَرْطُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى شَرْطُ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ حَقِيقَةً، مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ فَاصِلٍ بَيْنَهُمَا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ، وَهُوَ مَا لَا يُعَدُّ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ آتِيًا بِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ عُرْفًا، وَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُمَا فَاصِلٌ بِانْقِطَاعِ النَّفَسِ أَوْ سُعَالٍ مَانِعٍ مِنَ الِاتِّصَالِ حَقِيقَةً. وَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ شَهْرًا. وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الِاسْتِثْنَاءِ لَفْظًا، لَكِنْ مَعَ إِضْمَارِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَيَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مَدِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَلَعَلَّهُ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - دُونَ غَيْرِهِ. حُجَّةُ الْقَائِلِينَ بِالِاتِّصَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ فَرَأَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» " وَرُوِيَ: " «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ". (1) وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْفَصِلُ صَحِيحًا لَأَرْشَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ لِكَوْنِهِ طَرِيقًا مُخَلِّصًا لِلْحَالِفِ عِنْدَ تَأَمُّلِ الْخَيْرِ فِي الْبِرِّ وَعَدَمِ الْحِنْثِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا يَقْصِدُ التَّيْسِيرَ وَالتَّسْهِيلَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ أَيْسَرُ وَأَسْهَلُ مِنَ التَّكْفِيرِ، فَحَيْثُ لَمْ يُرْشِدْ إِلَيْهِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ. الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ كَلَامًا مُنْتَظِمًا وَلَا مَعْدُودًا مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ: إِلَّا دِرْهَمًا، وَقَالَ: رَأَيْتُ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ شَهْرٍ: إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ اسْتِثْنَاءً وَلَا كَلَامًا صَحِيحًا كَمَا لَوْ قَالَ: رَأَيْتُ زَيْدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ شَهْرٍ: قَائِمًا، فَإِنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَهُ بِذَلِكَ مُخْبِرًا عَنْ زَيْدٍ بِشَيْءٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَكْرِمْ زَيْدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ شَهْرٍ: إِنْ دَخَلَ دَارِي، فَإِنَّهُمْ لَا يَعُدُّونَ ذَلِكَ شَرْطًا.   (1) الْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَقَدْ رُوِيَ بِمَعْنَاهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ لَمَا عُلِمَ صِدْقُ صَادِقٍ، وَلَا كَذِبُ كَاذِبٍ، وَلَا حَصَلَ وُثُوقٌ بِيَمِينٍ، وَلَا وَعْدٌ وَلَا وَعِيدٌ، وَلَا حَصَلَ الْجَزْمُ بِصِحَّةِ عَقْدِ نِكَاحٍ وَبَيْعٍ وَإِجَارَةٍ، وَلَا لُزُومُ مُعَامَلَةٍ أَصْلًا؛ لِإِمْكَانِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّلَاعُبِ وَإِبْطَالِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. احْتَجَّ الْخُصُومُ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " «وَاللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا» " ثُمَّ سَكَتَ وَقَالَ بَعْدَهُ: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ "، وَلَوْلَا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ السُّكُوتِ لَمَا فَعَلَهُ لِكَوْنِهِ مُقْتَدًى بِهِ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سَأَلَتْهُ الْيَهُودُ عَنْ عِدَّةِ أَهْلِ الْكَهْفِ وَعَنْ مُدَّةِ لَبْثِهِمْ فِيهِ، فَقَالَ: غَدًا أُجِيبُكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَتَأَخَّرَ عَنْهُ الْوَحْيُ مُدَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ نَزَلَ عَلَيْهِ: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} . فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِخَبَرِهِ الْأَوَّلِ (1) . وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا فَعَلَهُ. الثَّانِي: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ، وَمِنْ أَفْصَحِ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَقَدْ قَالَ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ وَتَخْصِيصٌ لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ، فَجَازَ تَأْخِيرُهُ كَالنَّسْخِ وَالْأَدِلَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُخَصِّصَةِ لِلْعُمُومِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَافِعٌ لِحُكْمِ الْيَمِينِ فَجَازَ تَأْخِيرُهُ كَالْكَفَّارَةِ.   (1) انْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ جَرِيرٍ أَوَّلَ سُورَةِ الْكَهْفِ (فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْقِصَّةَ مُفَصَّلَةً مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ) لِيَتَبَيَّنَ لَكَ أَنَّ الْأَثَرَ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِعَنْعَنَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ، وَلِجَهَالَةِ شَيْخِهِ، وَلِيَتَبَيَّنَ لَكَ تَصَرُّفُ الْآمِدِيِّ فِي النَّقْلِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ السَّائِلَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لَكِنْ بِمَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِمُ الْيَهُودُ، وَزَادَ الْآمِدِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وَالْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ: أَنَّ سُكُوتَهُ قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مِنَ السُّكُوتِ الَّذِي لَا يُخِلُّ بِالِاتِّصَالِ الْحُكْمِيِّ كَمَا أَسْلَفْنَاهُ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ مُوَافَقَةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " لَيْسَ عَائِدًا إِلَى خَبَرِ الْأَوَّلِ، بَلْ إِلَى ذِكْرِ رَبِّهِ إِذَا نَسِيَ، تَقْدِيرُهُ: أَذْكُرُ رَبِّي إِذَا نَسِيتُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَذَلِكَ كَمَا إِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ كَذَا فَقَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَيْ أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَعَنِ الْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنْ صَحَّ ذَلِكَ (1) فَلَعَلَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ صِحَّةَ إِضْمَارِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَدِينُ الْمُكَلَّفُ بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنْ تَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ لَفْظًا وَهُوَ غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ أَيْضًا مَخْصُومٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى إِبْطَالِهِ مِمَّنْ سِوَاهُ. وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ فَلَا يَصِحُّ لِمَا سَبَقَ. ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالْخَبَرِ وَالشَّرْطِ كَمَا سَبَقَ. كَيْفَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَاقِعٌ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ التَّخْصِيصَ قَدْ يَكُونُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْحِسَّ؟ وَلَا كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّسْخِ، أَنَّ النَّسْخَ مِمَّا يَمْتَنِعُ اتِّصَالُهُ بِالْمَنْسُوخِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَعَنِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ بِالْفَرْقِ: وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ رَافِعَةٌ لِإِثْمِ الْحِنْثِ لَا لِنَفْسِ الْحِنْثِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مَانِعٌ مِنَ الْحِنْثِ، فَمَا الْتَقَيَا فِي الْحُكْمِ حَتَّى يَصِحَّ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ. كَيْفَ، وَإِنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْفَصِلِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَلَا قِيَاسَ فِي اللُّغَةِ عَلَى مَا سَبَقَ؟ [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، فَجَوَّزَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالنُّحَاةُ وَمَنَعَ مِنْهُ الْأَكْثَرُونَ. وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالنَّفْيِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْإِثْبَاتِ.   (1) هَذَا الْأَثَرُ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ الْأَعْمَشِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَعْمَشُ مُدَلِّسٌ وَقَدْ عَنْعَنَ وَلَمَّا سُئِلَ عَنْ سَمَاعِهِ الْأَثَرَ مِنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، وَلَيْثٌ ضَعِيفٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْبُطْلَانِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِفْعَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الثَّنْيِ، وَمِنْهُ تَقُولُ: ثَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا عَطَفْتَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَثَنَيْتُ فُلَانًا عَنْ رَأْيِهِ، وَثَنَيْتُ عِنَانَ الْفَرَسِ. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّهُ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي مِثْلِ قَوْلِ الْقَائِلِ: رَأَيْتُ النَّاسَ إِلَّا الْحُمُرَ؛ لِأَنَّ الْحُمُرَ الْمُسْتَثْنَاةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي مَدْلُولِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ حَتَّى يُقَالَ بِإِخْرَاجِهَا وَثَنْيِهَا عَنْهُ، بَلِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ، وَلَا تَعَلُّقَ لِلثَّانِي بِالْأَوَّلِ أَصْلًا. وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا تَحَقُّقُ لِلِاسْتِثْنَاءِ مِنَ اللَّفْظِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِنَاءً عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ مِنَ الْمَعْنَى بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَإِلَّا لَصَحَّ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إِلَّا وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي مَعْنًى عَامٍّ لَهُمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: جَاءَ الْعُلَمَاءُ إِلَّا الْكِلَابَ، وَقَدِمَ الْحُجَّاجُ إِلَّا الْحَمِيرَ كَانَ مُسْتَهْجَنًا لُغَةً وَعَقْلًا، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ لَا يَكُونُ وَضْعُهُ مُضَافًا إِلَى أَهْلِ اللُّغَةِ؟ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَأْخُوذٌ مِنَ الثَّنْيِ، بَلْ مِنَ التَّثْنِيَةِ، وَكَأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ وَاحِدًا فَثُنِّيَ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مَأْخُوذًا مِنَ التَّثْنِيَةِ؛ لَكَانَ كُلُّ مَا وُجِدَ فِيهِ مَعْنَى التَّثْنِيَةِ مِنَ الْكَلَامِ اسْتِثْنَاءً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: وَلَوْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنَ الثَّنْيِ لَكَانَ كُلُّ مَا وُجِدَ فِيهِ الثَّنْيُ وَالْعَطْفُ اسْتِثْنَاءً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَلِهَذَا لَا يُقَالُ لِمَنْ عَطَفَ الثَّوْبَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، أَوْ عَطَفَ عِنَانَ الْفَرَسِ إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ. قَوْلُكُمْ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ دَعْوَى فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَكَيْفَ يُدَّعَى ذَلِكَ مَعَ قَوْلِ الْخَصْمِ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَا دُخُولَ لِلْمُسْتَثْنَى تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؟ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الِاسْتِقْبَاحِ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ صِحَّتِهِ فِي اللُّغَةِ. وَلِهَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ فِي دُعَائِهِ: يَا رَبَّ الْكِلَابِ وَالْحَمِيرِ وَخَالِقِهِمُ ارْزُقْنِي وَأَعْطِنِي كَانَ مُسْتَهْجَنًا، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ وَالْمَعْنَى. ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ نَفْسِ الْمَلْفُوظِ بِهِ مُطَابَقَةً، فَمَا الْمَانِعُ مِنْ صِحَّتِهِ، نَظَرًا إِلَى مَا وَقَعَ بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْمَعْنَى اللَّازِمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 الْمَدْلُولِ لِلَّفْظِ مُطَابَقَةً؟ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ إِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلَّا ثَوْبًا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي ثُبُوتِ صِفَةِ الْقِيمَةِ لَهُمَا، وَكَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْمَكِيلِ مِنَ الْمَوْزُونِ وَبِالْعَكْسِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا. قَوْلُكُمْ: لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَصَحَّ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَمَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مَشْرُوطَةً بِمُنَاسَبَةٍ بَيْنِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ؟ كَمَا إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَيْسَ لِي نَخْلٌ إِلَّا شَجَرٌ وَلَا إِبِلٌ إِلَّا بَقَرٌ وَلَا بِنْتٌ إِلَّا ذَكَرٌ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا قَالَ: لَيْسَ لِفُلَانٍ بِنْتٌ إِلَّا أَنَّهُ بَاعَ دَارَهُ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالصِّحَّةِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ، أَمَّا الْمَنْقُولُ، فَمِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ، وَالشِّعْرِ، وَالنَّثْرِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} ، وَإِبْلِيسُ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} وَالْجِنُّ لَيْسُوا مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ، وَلِأَنَّهُ كَانَ مَخْلُوقًا مِنْ نَارٍ عَلَى مَا قَالَ: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَلِأَنَّ إِبْلِيسَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ عَلَى مَا قَالَ - تَعَالَى -: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ} ، وَلَا ذُرِّيَّةَ لِلْمَلَائِكَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوُّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} اسْتَثْنَى الْبَارِي - تَعَالَى - مِنْ جُمْلَةِ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا، وَالْبَارِي - تَعَالَى - لَيْسَ مِنْ جِنْسِ شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} اسْتَثْنَى الظَّنَّ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا - إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} اسْتَثْنَى السَّلَامَ مِنَ اللَّغْوِ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} ، وَالتِّجَارَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْبَاطِلِ، وَقَدِ اسْتَثْنَاهَا مِنْهُ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ - إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} اسْتَثْنَى الرَّحْمَةَ مِنْ نَفْيِ الصَّرِيخِ وَالْإِنْقَاذِ، وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهِ. وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} وَمَنْ رَحِمَ لَيْسَ بِعَاصِمٍ، بَلْ مَعْصُومٌ، وَلَيْسَ الْمَعْصُومُ مِنْ جِنْسِ الْعَاصِمِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} اسْتَثْنَى الْخَطَأَ مِنَ الْقَتْلِ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ. وَأَمَّا الشِّعْرُ: فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ مِنْهُمْ: وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ ... إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ (1) وَالْعِيسُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَنِيسِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ: وَقَفَتْ فِيهَا أَصِيلًا لَا أُسَائِلُهَا ... عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلَّا أُوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ وَالْأَوَارِيُّ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَحَدِ. وَقَالَ: وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ (2) وَلَيْسَ فُلُولُ السُّيُوفِ عَيْبًا لِأَرْبَابِهَا، بَلْ فَخَرًا لَهُمْ، وَقَدِ اسْتَثْنَاهَا مِنَ الْعُيُوبِ، وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا. وَأَمَّا النَّثْرُ فَقَوْلُ الْعَرَبِ: مَا زَادَ إِلَّا مَا نَقَصَ، وَمَا بِالدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا الْوَتِدُ، وَمَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو. اسْتَثْنَوُا النَّقْصَ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالْوَتِدَ مِنْ أَحَدٍ، وَعَمْرًا مِنْ زِيدٍ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ.   (1) قَائِلُ الْبَيْتِ هُوَ عَامِرُ بْنُ الْحَارِثِ النَّمَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِجِرَانِ الْعَوْدِ (بِفَتْحِ الْعَيْنِ) لُقِّبَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ يُخَاطِبُ امْرَأَتَيْهِ: خُذَا حَذَرًا يَا جَارَتَيْ فَإِنَّنِي - رَأَيْتُ جِرَانَ الْعَوْدِ قَدْ كَادَ يَصْلُحُ . يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ اتَّخَذَ مِنْ جِلْدِ الْعَوْدِ سَوْطًا يَضْرِبُ بِهِ نِسَاءَهُ، وَالْيَعَافِيرُ أَوْلَادُ الْبَقَرِ الْوَحْشِيَّةِ، وَالْعِيسُ: إِبِلٌ بِيضٌ يُخَالِطُ بَيَاضَهَا شُقْرَةٌ. (2) أَيِ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِيُّ، وَاسْمُهُ زِيَادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَبُو أُمَامَةَ الْغَطَفَانِيُّ الْمُضَرِيُّ، وَالْبَيْتُ مِنْ قَصِيدَةٍ يَمْدَحُ بِهَا عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ مَطْلَعُهَا: كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبٍ - وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءُ الْكَوَاكِبِ تَطَاوَلَ حَتَّى قُلْتُ لَيْسَ بِمُنْقَضٍ - وَلَيْسَ الَّذِي يَرْعَى النُّجُومَ بِآيِبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَرْفَعُ جَمِيعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَحَّ، كَاسْتِثْنَاءِ الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ وَبِالْعَكْسِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ. قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، قُلْنَا: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنْ قَبِيلٍ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا خُزَّانَ الْجِنَانِ، وَكَانَ إِبْلِيسُ رَئِيسَهُمْ، وَتَسْمِيَتُهُ جِنِّيًّا لِنِسْبَتِهِ إِلَى الْجِنَّةِ كَمَا يُقَالُ: بَغْدَادِيٌّ وَمَكِّيٌّ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِ وَاخْتِفَائِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - اسْتَثْنَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِهِمْ؛ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجِنْسِ وَوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي غَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ إِنَّمَا كَانَ لِلْمَلَائِكَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِبْلِيسُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمَّا كَانَ عَاصِيًا لِلْأَمْرِ الْمُتَوَجِّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ لِكَوْنِهِ، لَيْسَ مِنْهُمْ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُ أَمْرٍ وَرَاءَ ذَلِكَ الْأَمْرِ. وَدَلِيلُ عِصْيَانِهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} . قَوْلُكُمْ: إِنَّ إِبْلِيسَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُنَافِي كَوْنَهُ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ. فَلَئِنْ قُلْتُمْ بِأَنَّ التَّوَالُدَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَالْمَلَائِكَةُ لَا إِنَاثَ فِيهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْإِنْكَارِ وَالتَّوَعُّدِ عَلَى قَوْلِ ذَلِكَ. قُلْنَا: إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاثُ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنْ لَوِ امْتَنَعَ حُصُولُ الذُّرِّيَّةِ إِلَّا مِنْ جِنْسَيْنِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. قَوْلُكُمْ: إِنَّ إِبْلِيسَ مَخْلُوقٌ مِنْ نَارٍ، وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ لَا مُنَافَاةَ أَيْضًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، فَاسْتِثْنَاءُ الرَّبِّ - تَعَالَى - فِيهَا مِنَ الْمَعْبُودِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} ، وَهُمْ كَانُوا مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ مَعَ الْأَصْنَامِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ لَا جَاحِدِينَ لِلَّهِ - تَعَالَى - فَلَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: فَجَوَابُهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُسَمَّى عِلْمًا، وَالظَّنُّ يُسَمَّى عِلْمًا وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} وَأَرَادَ إِنْ ظَنَنْتُمُوهُنَّ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْيَقِينِ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ إِنْ كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَوَاطِئَةِ فَلَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ أَوِ الْمَجَازِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ الْعَامَّةِ كَمَا سَبَقَ. الثَّانِي: أَنَّ (إِلَّا) فِيهَا لَيْسَتْ لِلِاسْتِثْنَاءِ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى (لَكِنْ) ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا بَعْدَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ (الْيَعَافِيرُ وَالْعِيسُ) مِنَ (الْأَنِيسِ) فَلَيْسَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يُؤْنَسُ بِهَا، فَهِيَ مِنْ جِنْسِ الْأَنِيسِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْأُنْسِ، بَلْ وَقَدْ يَحْصُلُ الْأُنْسُ بِالْآثَارِ وَالْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ، فَضْلًا عَنِ الْحَيَوَانِ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْأَوَارِيِّ مِنْ أَحَدٍ، فَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ كَمَا يُطْلَقُ الْأَحَدُ عَلَى الْآدَمِيِّ فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: رَأَيْتُ أَحَدَ الْحِمَارَيْنِ، وَرَكِبْتُ أَحَدَ الْفَرَسَيْنِ، وَرَمَيْتُ أَحَدَ الْحَجَرَيْنِ وَأَحَدَ السَّهْمَيْنِ، فَلَمْ يَكُنِ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَوَارِيَّ مِمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهَا لَفْظَةُ (أَحَدٍ) وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْجِنْسِ فَإِلَّا لَيْسَتِ اسْتِثْنَائِيَّةً حَقِيقَةً، بَلْ بِمَعْنَى (لَكِنْ) كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا (فُلُولُ السُّيُوفِ) فَهُوَ عَيْبٌ فِي السُّيُوفِ، وَإِنْ كَانَ يُسَبِّبُ فُلُولُهَا فَخْرًا وَمِدْحَةً لِأَرْبَابِهَا فَهُوَ فِي الْجُمْلَةِ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ. وَقَوْلُ الْعَرَبِ: (مَا زَادَ إِلَّا مَا نَقَصَ) تَقْدِيرُهُ: مَا زَادَ شَيْءٌ إِلَّا الَّذِي نَقَصَ أَيْ يَنْقُصُ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الْجِنْسِ. وَقَوْلُهُمْ: (مَا فِي الدَّارِ أَحَدٌ إِلَّا الْوَتِدُ) فَجَوَابُهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْأَوَارِيِّ مِنْ أَحَدٍ. وَقَوْلُهُ: (مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إِلَّا عَمْرٌو) فَإِلَّا بِمَعْنَى (لَكِنْ) . وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، قَوْلُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَرْفَعُ جَمِيعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَشَيْءٌ لَا إِشْعَارَ لَهُ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ (الدَّرَاهِمِ) مِنَ (الدَّنَانِيرِ) وَبِالْعَكْسِ، فَهُوَ أَيْضًا مَحَلُّ النِّزَاعِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَإِنْ تَكَلَّفَ بَيَانَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي النَّقْدِيَّةِ وَجَوْهَرِيَّةِ الثَّمَنِيَّةِ فَآيِلٌ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْجِنْسِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ امْتِنَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرِقِ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا عَشْرَةً (1) ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ وَالْأَكْثَرِ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا تِسْعَةً لَمْ يَلْزَمْهُ سِوَى دِرْهَمٍ وَاحِدٍ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي آخِرِ أَقْوَالِهِ، وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ النَّحْوِيُّ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ، وَزَادَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَالْحَنَابِلَةُ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ مِنِ اسْتِثْنَاءِ الْمُسَاوِي. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ اسْتِقْبَاحُ اسْتِثْنَاءِ عَقْدٍ صَحِيحٍ، فَلَا يَقُولُ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إِلَّا عَشْرَةً، بَلْ خَمْسَةً إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِصِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ وَالْمُسَاوِي بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ وَالْحُكْمِ. أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمِنْ جِهَةِ الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ. أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} ، وَقَالَ {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فَقَدِ اسْتَثْنَى الْمُسَاوِيَ، وَإِنْ تَفَاوَتُوا فَأَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ فَقَدِ اسْتَثْنَاهُ. كَيْفَ وَإِنَّ الْغَاوِينَ أَكْثَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ، وَ (لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) ، وَ (لَا يُؤْمِنُونَ) . وَأَمَّا الشِّعْرُ فَقَوْلُهُ: أَدَّوُا الَّتِي نَقَصَتْ تِسْعِينَ مِنْ مِائَةٍ ... ثُمَّ ابْعَثُوا حَكَمًا بِالْحَقِّ قَوَّالَا   (1) ذَكَرَ الْقَرَافِيُّ عَنِ ابْنِ طَلْحَةَ الْمَالِكِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمَدْخَلِ: لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا لَمْ تُطَلَّقْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْكُلِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَفْظٌ يُخْرِجُ مِنَ الْجُمْلَةِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فِيهَا، فَجَازَ إِخْرَاجُ الْأَكْثَرِ بِهِ كَالتَّخْصِيصِ بِالدَّلِيلِ الْمُنْفَصِلِ، كَاسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ. هَذَا مَا يَخُصُّ الْأَكْثَرَ. وَأَمَّا الْمُسَاوِي فَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ - قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا - نِصْفَهُ} اسْتَثْنَى النِّصْفَ، وَلَيْسَ بِأَقَلَّ (1) . وَأَمَّا الْحُكْمُ فَعَامٌّ لِلْأَكْثَرِ وَالْمُسَاوِي، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ وَاسْتَثْنَى مِنْهَا خَمْسَةً أَوْ تِسْعَةً، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَفِي الثَّانِي دِرْهَمٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. وَلَوْلَا صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ الْحُجَجِ ضَعْفٌ إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْآيَةُ فَالْغَاوُونَ فِيهَا، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنَ الْعِبَادِ الْمُخْلَصِينَ بِدَلِيلِ النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ (إِلَّا) فِي قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} لِلِاسْتِثْنَاءِ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى (لَكِنْ) . وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَلَكِنْ نَحْنُ إِنَّمَا نَمْنَعُ مِنِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ إِذَا كَانَ عَدَدُ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُصَرَّحًا بِهِ كَمَا إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إِلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْعَدَدُ مُصَرَّحًا بِهِ، كَمَا إِذَا قَالَ لَهُ: خُذْ مَا فِي الْكِيسِ مِنَ الدَّرَاهِمِ سِوَى الزُّيُوفِ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَتِ الزُّيُوفُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَكْثَرَ فِي الْعَدَدِ، وَكَمَا إِذَا قَالَ: جَاءَنِي بَنُو تَمِيمٍ سِوَى الْأَوْبَاشِ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ اسْتِقْبَاحٍ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُ الْأَوْبَاشِ مِنْهُمْ أَكْثَرَ. وَأَمَّا الشِّعْرُ: فَلَا اسْتِثْنَاءَ فِيهِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَدُّوا الْمِائَةَ الَّتِي سَقَطَ مِنْهَا تِسْعُونَ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ سُقُوطُهَا بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ كَمَا سَبَقَ. كَيْفَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَاقِعٌ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ؟   (1) هَذَا الِاسْتِدْلَالُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ (نِصْفَهُ) بَدَلٌ مِنْ (قَلِيلًا) فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنَ اللَّيْلِ، وَالتَّقْدِيرُ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا نِصْفَهُ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ فِيمَا بَعْدُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ (نِصْفَهُ) بَدَلٌ مِنَ (اللَّيْلِ) ، وَالتَّقْدِيرُ: قُمْ نِصْفَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا، وَكُلٌّ مِنَ الْإِعْرَابَيْنِ قَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وَأَمَّا التَّخْصِيصُ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ وَبِغَيْرِ دَلِيلٍ لَفْظِيٍّ كَمَا يَأْتِي. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْأَقَلِّ فَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَقْبَحٍ، كَمَا إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا وَلَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إِلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ النِّصْفِ إِذِ النِّصْفُ غَيْرُ مُسْتَثْنًى، وَإِنَّمَا هُوَ ظَرْفٌ لِلْقِيَامِ فِيهِ وَتَقْدِيرُهُ: قُمِ اللَّيْلَ نِصْفَهُ إِلَّا قَلِيلًا. وَأَمَّا الْحُكْمُ، فَدَعْوَى الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ خَطَأٌ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَرَى صِحَّةَ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ وَالْمُسَاوِي فَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُسْتَغْرَقِ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا عَشْرَةً لَزِمَهُ الْعَشْرَةٌ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ الْقَائِلُونَ بِصِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ وَالْمُسَاوِي. وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِامْتِنَاعِ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ وَالْمُسَاوِي، فَقَدِ احْتَجَّ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ لِكَوْنِهِ إِنْكَارًا بَعْدَ إِقْرَارٍ، وَجَحْدًا بَعْدَ اعْتِرَافٍ، غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ لِمَعْنًى لَمْ يُوجَدْ فِي الْمُسَاوِي وَالْأَكْثَرِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُقَالَ بِصِحَّتِهِ فِيهِ. وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُقِرَّ رُبَّمَا أَقَرَّ بِمَالٍ، وَقَدْ وَفَّى بَعْضَهُ غَيْرَ أَنَّهُ نَسِيَهُ لِقِلَّتِهِ، وَعِنْدَ إِقْرَارِهِ رُبَّمَا تَذَكَّرَهُ فَاسْتَثْنَاهُ. فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ لَتَضَرَّرَ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ وَالنِّصْفِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ الذُّهُولُ عَنْهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقْبَحًا، وَإِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إِلَّا تِسْعَةً وَتِسْعِينَ كَانَ مُسْتَقْبَحًا وَالْمُسْتَقْبَحُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا يَكُونُ مِنْ لُغَتِهِمْ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ إِنْكَارٌ بَعْدَ إِقْرَارٍ إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ سَلَّمْنَا عَدَمَ الِاتِّحَادِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ مُخَالَفَةَ ذَلِكَ الْأَصْلِ، بَلِ الْأَصْلُ قَبُولُهُ لِإِمْكَانِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَكُونَ قَبُولُ ذَلِكَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَقْبَحٌ رَكِيكٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مَعَ ذَلِكَ مِنِ اسْتِعْمَالِهِ. وَلِهَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا دِرْهَمًا كَانَ مُسْتَحْسَنًا، وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا دَانَقًا وَدَانَقًا. . .، إِلَى تَمَامِ عِشْرِينَ مَرَّةً كَانَ فِي غَايَةِ الِاسْتِقْبَاحِ، وَمَا مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ صِحَّتِهِ وَاسْتِعْمَالِهِ لُغَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْجُمَلُ الْمُتَعَاقِبَةُ بِالْوَاوِ إِذَا تَعَقَّبَهَا الِاسْتِثْنَاءُ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْجُمَلُ الْمُتَعَاقِبَةُ بِالْوَاوِ إِذَا تَعَقَّبَهَا الِاسْتِثْنَاءُ رَجَعَ إِلَى جَمِيعِهَا عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَإِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ عِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: إِنْ كَانَ الشُّرُوعُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ إِضْرَابًا عَنِ الْأُولَى وَلَا يُضْمَرُ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا فِي الْأُولَى فَالِاسْتِثْنَاءُ مُخْتَصٌّ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنِ الْجُمْلَةِ الْأُولَى مَعَ اسْتِقْلَالِهَا بِنَفْسِهَا إِلَى غَيْرِهَا إِلَّا وَقَدْ تَمَّ مَقْصُودُهُ مِنْهَا. وَذَلِكَ عَلَى أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ تَخْتَلِفَ الْجُمْلَتَانِ نَوْعًا كَمَا لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ، وَالنُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ (1) إِلَّا الْبَغَادِدَةَ إِذِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى أَمْرٌ وَالثَّانِيَةُ خَبَرٌ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَتَّحِدَا نَوْعًا، وَتَخْتَلِفَا اسْمًا وَحُكْمًا كَمَا لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَاضْرِبْ رَبِيعَةَ إِلَّا الطُّوَالَ إِذْ هُمَا أَمْرَانِ. الثَّالِثُ: أَنْ تَتَّحِدَا نَوْعًا وَتَشْتَرِكَا حُكْمًا لَا اسْمًا كَمَا لَوْ قَالَ: سَلِّمْ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ وَسَلِّمْ عَلَى بَنِي رَبِيعَةَ إِلَّا الطُّوَالَ. الرَّابِعُ: أَنْ تَتَّحِدَا نَوْعًا وَتَشْتَرِكَا اسْمًا لَا حُكْمًا، وَلَا يَشْتَرِكُ الْحُكْمَانِ فِي غَرَضٍ مِنَ الْأَغْرَاضِ كَمَا لَوْ قَالَ: سَلِّمْ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ، وَاسْتَأْجِرْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَّا الطُّوَالَ. وَأَقْوَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ فِي اقْتِضَاءِ اخْتِصَاصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ تَكُنِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ مُضْرِبَةً عَنِ الْأُولَى، بَلْ لَهَا بِهَا نَوْعُ تَعَلُّقٍ فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْكُلِّ، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ تَتَّحِدَ الْجُمْلَتَانِ نَوْعًا وَاسْمًا لَا حُكْمًا، غَيْرَ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ قَدِ اشْتَرَكَا فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ كَمَا لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَسَلِّمْ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ إِلَّا الطُّوَالَ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي غَرَضِ الْإِعْظَامِ.   (1) (وَالنُّحَاةُ الْبَصْرِيُّونَ) مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ أَيْ وَالنُّحَاةُ هُمُ الْبَصْرِيُّونَ إِلَخْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 الثَّانِي: أَنْ تَتَّحِدَ الْجُمْلَتَانِ نَوْعًا وَتَخْتَلِفَا حُكْمًا، وَاسْمُ الْأُولَى مُضْمَرٌ فِي الثَّانِيَةِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَاسْتَأْجِرْهُمْ إِلَّا الطُّوَالَ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: بِالْعَكْسِ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَرَبِيعَةَ إِلَّا الطُّوَالَ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَ نَوْعُ الْجُمَلِ الْمُتَعَاقِبَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ أُضْمِرَ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ كَانَ غَرَضُ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ فِيهَا وَاحِدًا كَمَا فِي آيَةِ الْقَذْفِ، فَإِنَّ جُمَلَهَا مُخْتَلِفَةُ النَّوْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أَمْرٌ، وَقَوْلَهُ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} نَهْيٌ، وَقَوْلَهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} خَبَرٌ، غَيْرَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِاشْتِرَاكِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي غَرَضِ الِانْتِقَامِ وَالْإِهَانَةِ، وَدَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ جِهَةِ إِضْمَارِ الِاسْمِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهَا. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَخْتَلِفَ نَوْعُ الْجُمَلِ الْمُتَعَاقِبَةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ أُضْمِرَ فِي الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ مَا تَقَدَّمَ، أَوْ كَانَ غَرَضُ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ فِيهَا وَاحِدًا كَمَا فِي آيَةِ الْقَذْفِ، فَإِنَّ جُمَلَهَا مُخْتَلِفَةُ النَّوْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أَمْرٌ، وَقَوْلَهُ: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} نَهْيٌ، وَقَوْلَهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} خَبَرٌ، غَيْرَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِاشْتِرَاكِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْجُمَلِ فِي غَرَضِ الِانْتِقَامِ وَالْإِهَانَةِ، وَدَاخِلَةٌ تَحْتَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ جِهَةِ إِضْمَارِ الِاسْمِ الْمُتَقَدِّمِ فِيهَا. وَذَهَبَ الْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ إِلَى الْقَوْلِ بِالِاشْتِرَاكِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأَصْحَابِ إِلَى الْوَقْفِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَهْمَا ظَهَرَ كَوْنُ (الْوَاوِ) لِلِابْتِدَاءِ فَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ، كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ إِحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَحَيْثُ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ (الْوَاوُ) لِلْعَطْفِ أَوِ الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي بَاقِي الْأَقْسَامِ السَّبْعَةِ فَالْوَاجِبُ إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ذِكْرِ حُجَجِ الْمُخَالِفِينَ وَإِبْطَالِهَا، وَلْنَبْدَأْ مِنْ ذَلِكَ بِحُجَجِ الْقَائِلِينَ بِالْعَوْدِ إِلَى الْجَمِيعِ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الْجُمَلَ الْمَعْطُوفَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِمَنْزِلَةِ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي اللُّغَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ: اضْرِبِ الْجَمَاعَةَ الَّتِي مِنْهَا قَتَلَةٌ وَسُرَّاقٌ وَزُنَاةٌ إِلَّا مَنْ تَابَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: اضْرِبْ مَنْ قَتَلَ وَسَرَقَ وَزَنَى إِلَّا مَنْ تَابَ، فَوَجَبَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجَمِيعِ. وَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ قِيلَ إِنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ الْجُمْلَةِ وَالْجُمْلَتَيْنِ فِي أَمْرٍ مَا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَثِّرُ وَاحِدًا وَالْوَاحِدُ مُتَكَثِّرًا، وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ قِيلَ بِالْفَرْقِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَامِعٍ مُوجِبٍ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْحُكْمِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ الطَّعَامَ، وَلَا دَخَلْتُ الدَّارَ، وَلَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَاسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ أَيْضًا بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَإِنْ أَطْلَقُوا لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى التَّعْلِيقِ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَمَجَازٌ، وَلَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ حَقِيقَةً، بَلْ ذَلِكَ شَرْطٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ، وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ شَرْطًا لَا اسْتِثْنَاءً أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهُ عَلَى الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً إِلَّا طَلْقَةً لَمْ يَصِحَّ وَوَقَعَ بِهِ طَلْقَةٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ إِلَّا دِرْهَمًا، وَإِذَا كَانَ شَرْطًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَوْدِهِ إِلَى الْجَمِيعِ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَلَا بُدَّ مِنْ جَامِعٍ مُؤَثِّرٍ. وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ قِيَاسًا فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ. وَبِهَذَا يَبْطُلُ إِلْحَاقُهُمُ الِاسْتِثْنَاءَ بِالشَّرْطِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الِاسْتِثْنَاءُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَكَانَ عَائِدًا إِلَى الْكُلِّ كَالشَّرْطِ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي رَبِيعَةَ إِنْ دَخَلُوا الدَّارَ، كَيْفَ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؟ فَإِنَّ الشَّرْطَ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْمَعْنَى لِوُجُوبِ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْجَزَاءِ، فَقَوْلُهُ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي رَبِيعَةَ إِنْ دَخَلُوا الدَّارَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنْ دَخَلَ بَنُو تَمِيمٍ وَبَنُو رَبِيعَةَ الدَّارَ فَأَكْرِمْهُمْ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ كَانَ صَحِيحًا وَلَا كَذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. وَلِهَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا اضْرِبْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي رَبِيعَةَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْحَاجَةَ قَدْ تَدْعُو إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْجُمَلِ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ تَكْرَارَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي كُلِّ جُمْلَةِ مُسْتَقْبَحٌ رَكِيكٌ مُسْتَثْقَلٌ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَاضْرِبْهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ، وَإِنْ زَنَى فَاضْرِبْهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى تَعَقُّبِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُطَوَّلًا غَيْرَ أَنَّهُ يُعْرَفُ شُمُولُ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْكُلِّ بِيَقِينٍ فَلَا يَكُونُ مُسْتَقْبَحًا، وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَحًا، فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَوْ كَانَ وَضْعُ اللُّغَةِ مَشْرُوطًا بِالْمُسْتَحْسَنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٌ. وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ لُغَةً وَيَثْبُتُ حُكْمُهُ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَالِحٌ أَنْ يَعُودَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجُمَلِ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ فَوَجَبَ الْعَوْدُ إِلَى الْجَمِيعِ كَالْعَامِّ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُهُ صَالِحًا لِلْعَوْدِ إِلَى الْجَمِيعِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، وَلِهَذَا فَإِنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ وَمَجَازًا فِي شَيْءٍ فَهُوَ صَالِحٌ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ، وَلَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَجَازِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِلْحَاقِ بِالْعُمُومِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا عُلِمَ مِرَارًا. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ: عَلَيَّ خَمْسَةٌ وَخَمْسَةٌ إِلَّا سِتَّةً، فَإِنَّهُ يَصِحُّ. وَلَوْ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ لَمَا صَحَّ؛ لِكَوْنِهِ مُسْتَغْرِقًا لَهَا. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ (عَلَى رَأْيٍ لَنَا) . وَإِنْ سَلَّمْنَا، فَإِنَّمَا عَادَ إِلَى الْجَمِيعِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِعْمَالِ لَفْظِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِثْنَاءُ السِّتَّةِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؛ لِكَوْنِهِ مُسْتَغْرِقًا لَهَا، وَهُوَ صَالِحٌ لِلْعَوْدِ إِلَى الْجَمِيعِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ، وَمَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إِذَا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ مُقَارِنًا لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ يُوجِبُ عَوْدَهُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: بَنُو تَمِيمٍ وَرَبِيعَةُ أَكْرِمُوهُمْ إِلَّا الطُّوَالَ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ، فَكَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْأَمْرُ بِالْإِكْرَامِ ضَرُورَةَ اتِّحَادِ الْمَعْنَى. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا عُلِمَ كَيْفَ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ؟ ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَأَخَّرَ الْأَمْرُ عَنِ الْجُمَلِ فَقَدِ اقْتَرَنَ بِاسْمِ الْجَمِيعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَكْرِمُوهُمْ بِخِلَافِ الْأَمْرِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ بِاسْمِ الْفَرِيقَيْنِ، بَلْ بِاسْمِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: اضْرِبُوا بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي رَبِيعَةَ إِلَّا مَنْ دَخَلَ الدَّارَ فَمَعْنَاهُ مَنْ دَخَلَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ تَقْدِيرُ هَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِ: إِلَّا مَنْ دَخَلَ مِنْ رَبِيعَةَ. وَأَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِعَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَمِنْ جِهَةِ النَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ، فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: " وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَى الْجَلْدِ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، وَقَوْلُهُ: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} رَاجِعٌ إِلَى الدِّيَةِ دُونَ الْإِعْتَاقِ بِالِاتِّفَاقِ. قُلْنَا: أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى، فَلَا نُسَلِّمُ اخْتِصَاصَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْهَا، بَلْ هُوَ عَائِدٌ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ عَدَا الْجَلْدِ لِدَلِيلٍ دَلَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِّ الْآدَمِيِّ. أَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَإِنَّمَا امْتَنَعَ عَوْدُ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَتَصَدُّقُ الْوَلِيِّ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِحَقِّ اللَّهِ - تَعَالَى -. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَحُجَجٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْجُمْلَةِ إِذَا تَعَقَّبَهُ اسْتِثْنَاءٌ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي عَائِدًا إِلَى الْجُمْلَةِ الِاسْتِثْنَائِيَّةِ لَا إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْمُقَارَنَةِ دُونَ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَإِلَّا كَانَ عَدَمُ عَوْدِهِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا اثْنَيْنِ، فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ يَخْتَصُّ بِالْأَرْبَعَةِ دُونَ الْعَشْرَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي، إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ عَطْفٍ أَوْ لَا بِحَرْفِ عَطْفٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً وَإِلَّا اثْنَيْنِ فَيَكُونُ الْمُقَرُّ بِهِ خَمْسَةً. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا أَرْبَعَةً إِلَّا اثْنَيْنِ، فَإِنَّمَا امْتَنَعَ عَوْدُهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا؛ لِدَلِيلٍ لَا لِعَدَمِ اقْتِضَائِهِ لِذَلِكَ لُغَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ لَوْ عَادَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا، فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إِلَيْهَا لَا غَيْرُ، أَوْ إِلَيْهَا وَإِلَى الِاسْتِثْنَاءِ: الْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ تَحْتَ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي، فَقَطْعُهُ عَنْهُ وَرَدُّهُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا لَا غَيْرُ يَكُونُ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إِثْبَاتٌ، فَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْهُ يَكُونُ نَفْيًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ إِثْبَاتًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ عَنْ قَرِيبٍ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَثْبَتَ لِعَوْدِهِ (1) إِلَى أَحَدِهِمَا مِثْلَ مَا نَفَاهُ عَنِ الْآخَرِ، وَيَكُونَ جَابِرًا لِلنَّفْيِ بِالْإِثْبَاتِ وَيَبْقَى مَا كَانَ مُتَحَقِّقًا قَبْلَ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي بِحَالِهِ، وَفِيهِ إِلْغَاءُ الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي، وَخُرُوجُهُ عَنِ التَّأْثِيرِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ بِعَوْدِهِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأُولَى قَدْ نَفَى عَنْهَا مِثْلَ مَا أَثْبَتَهُ لَهَا بِعَوْدِهِ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الثَّانِي، فَيَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدُ مُقْتَضِيًا لِنَفْيِ شَيْءٍ وَإِثْبَاتِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ حَائِلَةٌ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْجُمْلَةِ الْأُولَى، فَكَانَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهَا كَالسُّكُوتِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْكَلَامُ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَلَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ تَعَقَّبَ جُمْلَتَيْنِ فَلَا يَكُونُ بِظَاهِرِهِ عَائِدًا إِلَيْهِمَا، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إِلَّا أَرْبَعَةً، فَإِنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى الْجَمِيعِ، وَإِلَّا لَوَقَعَ بِهِ طَلْقَتَانِ لَا ثَلَاثُ طَلَقَاتٍ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ عَوْدِهِ إِلَى الْجَمِيعِ، بَلْ هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْجَمِيعِ، وَالْوَاقِعُ طَلْقَتَانِ عَلَى رَأْيٍ لَنَا. وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ عَوْدِهِ إِلَى الْجَمِيعِ؛ فَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إِنَّمَا هُوَ الْجُمْلَةُ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ. فَلَوْ عَادَ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَيْهَا لَكَانَ مُسْتَغْرِقًا، وَهُوَ بَاطِلٌ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ دُخُولَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى تَحْتَ لَفْظِهِ مَعْلُومٌ، وَدُخُولَهَا تَحْتَ الِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالشَّكُّ لَا يَرْفَعُ الْيَقِينَ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ تَيَقُّنَ دُخُولِهِ مَعَ اتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْكَلَامِ، ثُمَّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهُوَ مَانِعٌ مِنِ اخْتِصَاصِهِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ لِجَوَازِ عَوْدِهِ بِالدَّلِيلِ إِلَى الْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ دُونَ الْمُتَأَخِّرَةِ، ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَعُودَ الشَّرْطُ وَالصِّفَةُ عَلَى بَاقِي الْجُمَلِ لِمَا ذَكَرُوهُ، وَهُوَ عَائِدٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْقَائِلِينَ بِاخْتِصَاصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ.   (1) لِعَوْدِهِ - لَعَلَّهُ بِعَوْدِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِمَّا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَلَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى عَوْدِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهَذِهِ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ مُنْدَفِعَةٌ بِعَوْدِهِ إِلَى مَا يَلِيهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى عَوْدِهِ إِلَى غَيْرِهِ، إِذْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِمَا يَلِيهِ دُونَ غَيْرِهِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَجَبَ عَوْدُهُ إِلَى مَا يَلِيهِ لِامْتِنَاعِ عَوْدِهِ إِلَى غَيْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ وَالْقُرْبُ مُرَجَّحٌ، وَلِهَذَا وَجَبَ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِمْ: جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَبُوهُ مُنْطَلِقٌ إِلَى عَمْرٍو لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ مَذْكُورٍ (1) ، فَكَانَ مَا يَلِي الْفِعْلَ مِنَ الِاسْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَظْهَرُ فِيهِمَا الْإِعْرَابُ بِالْفَاعِلِيَّةِ أَوْلَى كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَتْ سَلْمَى سُعْدَى. وَهَذِهِ الْحُجَّةُ أَيْضًا مَدْخُولَةٌ؛ إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ تَكُنِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً إِلَى عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِذَا كَانَتِ الْحَاجَةُ مَاسَّةً إِلَى عَوْدِهِ إِلَى كُلِّ مَا تَقَدَّمَ فَلَا تَكُونُ الْحَاجَةُ مُنْدَفِعَةً بِعَوْدِهِ إِلَى مَا يَلِيهِ فَقَطْ. ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُنْتَقِضٌ بِالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ بِامْتِنَاعِ عَوْدِهِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّ ضَرُورَةٌ؟ وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ عَوْدِهِ إِلَى الْجَمِيعِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَائِدًا إِلَيْهِ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْكَلَامِ أَمْ لَا؟ الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرَهَا الْقَلَانِسِيُّ وَهِيَ إِنْ قَالَ: نَصْبُ مَا بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِثْبَاتِ إِنَّمَا كَانَ بِالْفِعْلِ الْمُتَقَدِّمِ بِإِعَانَةِ (إِلَّا) عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ أَكَابِرِ الْبَصْرِيِّينَ، فَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ لَكَانَ مَا بَعْدَ (إِلَّا) مُنْتَصِبًا بِالْأَفْعَالِ الْمُقَدَّرَةِ فِي كُلِّ جُمْلَةٍ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ اجْتِمَاعُ عَامِلَيْنِ عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ مُضَادَّةِ أَحَدِ الْعَامِلَيْنِ فِي عَمَلِهِ لِلْعَامِلِ الْآخَرِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْمُولُ الْوَاحِدُ مَرْفُوعًا مَنْصُوبًا مَعًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قُلْتَ: مَا زَيْدٌ بِذَاهِبٍ وَلَا قَامَ عَمْرٌو، وَهُوَ   (1) فَكَانَ فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ كَمَا أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلًّا بِالْأَعْمَالِ، أَوْ لَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ أَوِ الْمُسْتَقِلُّ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ، ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلًّا إِلَّا أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ فَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا أَنَّ زَيْدًا مَنْصُوبٌ بِقَامَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِقَامَ، لَكِنْ بِالْفِعْلِ الْمُحَقَّقِ أَوِ الْمُقَدَّرِ فِي كُلِّ جُمْلَةٍ. الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَالْفِعْلُ الْمُحَقَّقُ غَيْرُ زَائِدٍ عَلَى وَاحِدٍ. وَأَمَّا حُجَجُ الْقَائِلِينَ بِالِاشْتِرَاكِ فَثَلَاثَةٌ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ عَنْ إِرَادَةِ عَوْدِ الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى مَا يَلِيهِ أَوْ إِلَى الْكُلِّ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِ هَذِهِ الْمَحَامِلِ دُونَ غَيْرِهِ لَمَا حَسُنَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الِاشْتِرَاكِ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ مَدْخُولَةٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَدْلُولِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ أَصْلًا كَمَا تَقُولُهُ الْوَاقِفِيَّةُ، أَوْ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْبَعْضِ، مَجَازٌ فِي الْبَعْضِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلْحُصُولِ عَلَى الْيَقِينِ وَدَفْعِ الْبَعِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَصِحُّ إِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ وَإِرَادَةُ عَوْدِهِ إِلَى مَا يَلِيهِ، وَإِلَى الْجُمَلِ كُلِّهَا وَإِلَى بَعْضِ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ دُونَ الْبَعْضِ، بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَالْمَعَانِي مُخْتَلِفَةٌ فَكَانَ مُشْتَرِكًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَتَى يَكُونُ الْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةَ، إِذَا أَفْضَى إِلَى الِاشْتِرَاكِ الْمُخِلِّ بِمَقْصُودِ أَهْلِ الْوَضْعِ مِنْ وَضْعِهِمْ أَوْ إِذَا لَمْ يُفْضِ إِلَى ذَلِكَ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. ثُمَّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ مُطْلَقًا، غَيْرَ أَنَّهُ أَمْرٌ ظَنِّيٌّ، وَلِمَ قُلْتُمْ بِإِمْكَانِ التَّمَسُّكِ بِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَاعِدَةِ الْوَاقِفِيَّةِ؟ الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فَضْلَةٌ لَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا، فَكَانَ احْتِمَالُ عَوْدِهِ إِلَى مَا يَلِيهِ وَإِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ مُسَاوِيًا، كَالْحَالِ وَظَرْفِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فِي قَوْلِهِ: ضَرَبْتُ زَيْدًا وَعَمْرًا قَائِمًا فِي الدَّارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْحَالِ وَالظَّرْفِ، بَلْ هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْكُلِّ أَوْ مَا يَلِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ، وَإِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ آيِلٌ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا سَبَقَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَمِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ. وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَانَ مُوَحِّدًا مُثْبِتًا لِلْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَنَافِيًا لَهَا عَمَّا سِوَاهُ. وَلَوْ كَانَ نَافِيًا لِلْأُلُوهِيَّةِ عَمَّا سِوَى الرَّبِّ - تَعَالَى - غَيْرَ مُثْبِتٍ لَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ - تَعَالَى - لَمَا كَانَ ذَلِكَ تَوْحِيدًا لِلَّهِ - تَعَالَى - لِعَدَمِ إِشْعَارِ لَفْظِهِ بِإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زِيدٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الْأَلْفَاظِ عَلَى عِلْمِ زَيْدٍ وَفَضِيلَتِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَبَادِرًا إِلَى فَهْمِ كُلِّ سَامِعٍ لُغَوِيٍّ، وَلَوْ كَانَ نَافِيًا لِلْعِلْمِ عَمَّا سِوَى زَيْدٍ، غَيْرَ مُثْبِتٍ لِلْعِلْمِ لِزَيْدٍ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا لَكَانَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَلَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» " مُقْتَضِيًا تَحَقُّقَ الصَّلَاةِ عِنْدَ وُجُودِ الطَّهُورِ، وَالنِّكَاحِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَلِيِّ، وَالْبَيْعِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ إِخْرَاجُ الْمُسْتَثْنَى عَنْ دُخُولِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِنَفْيِهِ وَلَا إِثْبَاتِهِ. قُلْنَا: الطَّهُورُ وَالْوَلِيُّ وَالْمُسَاوَاةُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ مَا اسْتُثْنِيَ مِنْهُ فَكَانَ اسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا سِيقَ ذَلِكَ لِبَيَانِ اشْتِرَاطِ الطَّهُورِ فِي الصَّلَاةِ، وَالْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي صِحَّةِ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ. وَالشَّرْطُ وَإِنْ لَزِمَ مِنْ فَوَاتِهِ فَوَاتُ الْمَشْرُوطِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْمَشْرُوطِ لِجَوَازِ انْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ آخَرَ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 [النَّوْعُ الثَّانِي التَّخْصِيصُ بِالشَّرْطِ] وَالنَّظَرُ فِي حَدِّهِ وَأَقْسَامِهِ وَصِيَغِ الشَّرْطِ اللُّغَوِيِّ وَأَحْكَامِهِ أَمَّا حَدُّهُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: هُوَ مَا لَا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ دُونَهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدَ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ تَعْرِيفَ الشَّرْطِ بِالْمَشْرُوطِ، وَالْمَشْرُوطُ مُشْتَقٌّ مِنَ الشَّرْطِ فَكَانَ أَخْفَى مِنَ الشَّرْطِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ مُمْتَنِعٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ جُزْءُ السَّبَبِ إِذَا اتَّحَدَ، فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ الْحُكْمُ دُونَهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ (1) . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الشَّرْطُ هُوَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ فِي تَأْثِيرِهِ لَا فِي ذَاتِهِ (2) . وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا، فَإِنَّ الْحَيَاةَ الْقَدِيمَةَ شَرْطٌ فِي وُجُودِ عِلْمِ الْبَارِي - تَعَالَى - وَكَوْنِهِ عَالِمًا وَلَا تَأْثِيرَ وَلَا مُؤَثِّرَ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الشَّرْطُ هُوَ مَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ أَمْرٍ مَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِهِ وَلَا دَاخِلًا فِي السَّبَبِ. وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْحَدِّ شَرْطُ الْحُكْمِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَشَرْطُ السَّبَبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ شَرْطِ السَّبَبِ انْتِفَاءُ السَّبَبِ، وَلَيْسَ هُوَ سَبَبُ السَّبَبِ وَلَا جُزْءُهُ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ مَدَارِكِهِ، وَعَنِ انْتِفَاءِ الْمُدْرَكِ الْمُعَيَّنِ وَجُزْئِهِ. وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى شَرْطٍ عَقْلِيٍّ كَالْحَيَاةِ لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ، وَإِلَى شَرْعِيٍّ، كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَالْإِحْصَانِ لِلرَّجْمِ. وَإِلَى لُغَوِيٍّ، وَصِيَغُهُ كَثِيرَةٌ وَهِيَ: إِنِ الْخَفِيفَةُ وَإِذَا وَمَنْ وَمَا وَمَهْمَا وَحَيْثُمَا وَأَيْنَمَا وَإِذْمَا.   (1) أَيْ أَنَّ التَّعْرِيفَ غَيْرُ مُطَّرِدٍ حَيْثُ وُجِدَ التَّعْرِيفُ وَلَمْ يُوجَدِ الْمُعَرَّفُ. (2) كَأَنَّ فِيهِ تَحْرِيفًا، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمُؤَثِّرُ فِي تَأْثِيرِهِ لَا فِي ذَاتِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا قَالَ غَيْرُهُ مَا يَتَوَقَّفُ تَأْثِيرُ الْمُؤَثِّرِ عَلَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وَأُمُّ هَذِهِ الصِّيَغِ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا حَرْفٌ، وَمَا عَدَاهَا مِنْ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ أَسْمَاءٌ. وَالْأَصْلُ فِي إِفَادَةِ الْمَعَانِي لِلْأَسْمَاءِ إِنَّمَا هُوَ الْحُرُوفُ (1) وَلِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ أَخَوَاتِهَا، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَخْتَصُّ بِمَعْنًى لَا تَجْرِي فِي غَيْرِهِ، (فَمَنْ) لِمَنْ يَعْقِلُ، وَ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَ (إِذَا) لِمَا لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ كَقَوْلِكَ: إِذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ فَأْتِنَا وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَأَمَّا أَحْكَامُهُ: فَمِنْهَا أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ فِيهِ، وَذَلِكَ ضَرْبَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَا عَلِمْنَا خُرُوجَهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ أَبَدًا إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ الْكَلَامِ حَالَةَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا دُونَ قَوْلِهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ مُؤَكِّدًا. الثَّانِي: أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ خُرُوجُهُ دُونَهُ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا الدَّارَ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ حَالَةَ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ، وَلَوْلَا الشَّرْطُ لَعَمَّ الْإِكْرَامُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ (2) ، وَلَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْإِكْرَامِ حَالَةَ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ حَاصِلًا لَنَا، فَكَانَ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَتَّحِدَ الشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ، أَوْ يَتَعَدَّدَ الْمَشْرُوطُ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ يَتَعَدَّدَانِ مَعًا (3) . ، فَإِنِ اتَّحَدَ الشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ فَمِثَالُهُ مَا سَبَقَ. وَأَمَّا إِنِ اتَّحَدَ الشَّرْطُ وَتَعَدَّدَ الْمَشْرُوطُ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَشْرُوطَاتُ عَلَى الْجَمْعِ أَوْ عَلَى الْبَدَلِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلَ زِيدٌ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْبَدَلِ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا فَالْحُكْمُ كَمَا لَوِ اتَّحَدَ الْمَشْرُوطُ.   (1) وَالْأَصْلُ فِي إِفَادَةِ الْمَعَانِي لِلْأَسْمَاءِ إِنَّمَا هُوَ الْحُرُوفُ فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ وَالْأَصْلُ فِي إِفَادَةِ الْمَعَانِي إِنَّمَا هُوَ الْحُرُوفُ لَا الْأَسْمَاءُ. (2) فِيهِ اعْتِرَافٌ بِأَنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا وُضِعَتْ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِإِفَادَتِهِ. (3) أَوْ يَتَعَدَّدَانِ مَعًا فِيهِ تَحْرِيفٌ، وَالصَّوَابُ: أَوْ يَتَعَدَّدَا مَعًا؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَنْصُوبِ بِأَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وَأَمَّا إِنْ تَعَدَّدَ الشَّرْطُ وَاتَّحَدَ الْمَشْرُوطُ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الشُّرُوطُ عَلَى الْجَمْعِ أَوِ الْبَدَلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَكَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ أَبَدًا إِنْ دَخَلُوا الدَّارَ وَالسُّوقَ، فَمُقْتَضَى ذَلِكَ تَوَقُّفُ الْإِكْرَامِ عَلَى اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ، وَاخْتِلَالُهُ بِاخْتِلَالِ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ كَانَ عَلَى الْبَدَلِ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِنْ دَخَلُوا السُّوقَ أَوِ الدَّارَ فَمُقْتَضَى ذَلِكَ تَوَقُّفُ الْإِكْرَامِ عَلَى تَحَقُّقِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ، وَاخْتِلَالُهُ عِنْدَ اخْتِلَالِهِمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا إِنْ تَعَدَّدَ الشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ وَالْمَشْرُوطُ عَلَى الْجَمْعِ أَوِ الْبَدَلِ، أَوِ الشَّرْطُ عَلَى الْجَمْعِ، وَالْمَشْرُوطَاتُ عَلَى الْبَدَلِ أَوْ بِالْعَكْسِ. فَإِنْ كَانَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلَ زِيدٌ الدَّارَ وَالسُّوقَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا وَدِينَارًا، فَالْإِعْطَاءُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ وَمُخْتَلٌّ بِاخْتِلَالِهِمَا أَوْ بِاخْتِلَالِ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ كَانَ الْقِسْمُ الثَّانِي، فَكَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ أَوِ السُّوقَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا، فَإِعْطَاءُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَحَقُّقِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ، وَاخْتِلَالُهُ بِاخْتِلَالِ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ وَالسُّوقَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا فَإِعْطَاءُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى اجْتِمَاعِ الشَّرْطَيْنِ، وَاخْتِلَالُهُ بِاخْتِلَالِ أَحَدِهِمَا. وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ كَقَوْلِهِ: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ أَوِ السُّوقَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا وَدِينَارًا، فَإِعْطَاءُ الْأَمْرَيْنِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ وَمُخْتَلٌّ بِاخْتِلَالِهِمَا مَعًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حُصُولُ الشَّرْطِ دُفْعَةً أَوْ لَا دُفْعَةً، بَلْ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَمِنْ أَحْكَامِهِ: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنِ اتِّصَالِهِ بِالْمَشْرُوطِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَتَأْخِيرُهُ، وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ الطَّبِيعِيُّ لَهُ إِنَّمَا هُوَ صَدْرُ الْكَلَامِ، وَالتَّقَدُّمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ لَفْظًا لِكَوْنِهِ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي الْوُجُودِ طَبْعًا. وَلَوْ تَعَقَّبَ الشَّرْطُ لِلْجُمَلِ الْمُتَعَاقِبَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى عَوْدِهِ، خِلَافًا لِبَعْضِ النُّحَاةِ فِي اعْتِقَادِهِ اخْتِصَاصَهُ بِالْجُمْلَةِ الَّتِي تَلِيهِ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً أَوْ مُتَأَخِّرَةً. وَالْكَلَامُ فِي الطَّرَفَيْنِ فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ. وَالْمُخْتَارُ كَالْمُخْتَارِ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 [النَّوْعُ الثَّالِثُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالصِّفَةِ] وَهِيَ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَذْكُورَةً عَقِبَ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جُمَلٍ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ الطُّوَالَ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْإِكْرَامِ بِالطُّوَالِ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمَّ الطُّوَالَ وَالْقِصَارَ، فَكَانَتِ الصِّفَةُ مُخْرِجَةً لِبَعْضِ مَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ اللَّفْظِ لَوْلَا الصِّفَةُ (1) . وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِي رَبِيعَةَ الطُّوَالَ، فَالْكَلَامُ فِي عَوْدِ الصِّفَةِ إِلَى مَا يَلِيهَا أَوْ إِلَى الْجَمِيعِ كَالْكَلَامِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ.   (1) أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ مِنَ الْآمِدِيِّ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ لِلْعُمُومِ صِيَغًا وُضِعَتْ لَهُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 [النَّوْعُ الرَّابِعُ التَّخْصِيصُ بِالْغَايَةِ] وَصِيَغُهَا إِلَى وَحَتَّى وَلَا بُدَّ، وَأَنْ يَكُونَ حُكْمُ مَا بَعْدَهَا مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهَا، وَإِلَّا كَانَتِ الْغَايَةُ وَسَطًا وَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا غَايَةً، وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ إِلْغَاءُ دَلَالَةِ إِلَى وَحَتَّى، وَهِيَ لَا تَخْلُو أَيْضًا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَذْكُورَةً عَقِبَ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ جُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْغَايَةُ وَاحِدَةً أَوْ مُتَعَدِّدَةً. فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا الدَّارَ، فَإِنَّ دُخُولَ الدَّارِ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْإِكْرَامِ بِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَإِخْرَاجَ مَا بَعْدَ الدُّخُولِ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَمَّ الْإِكْرَامُ حَالَةَ مَا بَعْدَ الدُّخُولِ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى الْجَمْعِ أَوْ عَلَى الْبَدَلِ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا الدَّارَ، وَيَأْكُلُوا الطَّعَامَ، فَمُقْتَضَى ذَلِكَ اسْتِمْرَارُ الْإِكْرَامِ إِلَى تَمَامِ الْغَايَتَيْنِ دُونَ مَا بَعْدَهُمَا. وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ: أَكْرِمْ بَنِي تَمِيمٍ إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا الدَّارَ أَوِ السُّوقَ، فَمُقْتَضَى ذَلِكَ اسْتِمْرَارُ الْإِكْرَامِ إِلَى انْتِهَاءِ إِحْدَى الْغَايَتَيْنِ، أَيُّهُمَا كَانَتْ، دُونَ مَا بَعْدَهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْغَايَةُ مَذْكُورَةً عَقِبَ جُمَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَالْكَلَامُ فِي اخْتِصَاصِهَا بِمَا يَلِيهَا وَفِي عَوْدِهَا إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ، كَالْكَلَامِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْغَايَةُ وَاحِدَةً أَوْ مُتَعَدِّدَةً عَلَى الْجَمْعِ أَوِ الْبَدَلِ، وَلَا تَخْفَى أَمْثِلَتُهَا، وَوَجْهُ الْكَلَامِ فِيهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْغَايَةُ مَعْلُومَةَ الْوُقُوعِ فِي وَقْتِهَا كَقَوْلِهِ: إِلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَوْ غَيْرَ مَعْلُومَةِ الْوَقْتِ كَقَوْلِهِ: إِلَى دُخُولِ الدَّارِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي التَّخْصِيصِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى جَوَازُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ] الْقِسْمُ الثَّانِي فِي التَّخْصِيصِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَفِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ جَوَازُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، خِلَافًا لِطَائِفَةٍ شَاذَّةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَوْلَهُ {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} مُتَنَاوِلٌ بِعُمُومِ لَفْظِهِ لُغَةً كُلَّ شَيْءٍ مَعَ أَنَّ ذَاتَهُ وَصَفَاتِهِ أَشْيَاءُ حَقِيقَةٌ، وَلَيْسَ خَالِقًا لَهَا وَلَا هِيَ مَقْدُورَةً لَهُ لِاسْتِحَالَةِ خَلْقِ الْقَدِيمِ (1) الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ مَقْدُورًا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، فَقَدْ خَرَجَتْ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ بِدَلَالَةِ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَلَا نَعْنِي بِالتَّخْصِيصِ سِوَى ذَلِكَ، فَمَنْ خَالَفَ فِي كَوْنِ دَلِيلِ الْعَقْلِ مُخَصِّصًا مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُوَافِقٌ عَلَى مَعْنَى التَّخْصِيصِ وَمُخَالِفٌ فِي التَّسْمِيَةِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ مِنَ النَّاسِ حَقِيقَةً، وَهُمَا غَيْرُ مُرَادَيْنِ مِنَ الْعُمُومِ بِدَلَالَةِ نَظَرِ الْعَقْلِ عَلَى امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ مَنْ لَا يَفْهَمُ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ سِوَى ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ ذَاتَ الْبَارِي - تَعَالَى - وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ مِمَّا لَمْ يُرَدْ بِاللَّفْظِ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ كَوْنَ دَلِيلِ الْعَقْلِ مُخَصِّصًا لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:   (1) أَسْمَاءُ اللَّهِ وَصِفَاتُهُ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَلَمْ يَرِدْ فِي كِتَابِهِ - سُبْحَانَهُ - وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْمِيَتُهُ بِالْقَدِيمِ وَلَا إِضَافَةُ الْقِدَمِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ - سُبْحَانَهُ - فَيَجِبُ أَنْ لَا يُسَمَّى - سُبْحَانَهُ - بِذَلِكَ وَأَلَّا يُضَافَ إِلَيْهِ، وَخَاصَّةً أَنَّ الْقِدَمَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُذَمُّ كَالْبِلَى وَطُولِ الزَّمَنِ وَامْتِدَادِهِ فِي الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ لِمَنِ اتَّصَفَ بِهِ ابْتِدَاءً فِي الْوُجُودِ، انْظُرْ ص 12 ج1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَبَيَانُهُ أَنَّ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي لَيْسَتْ لِذَوَاتِهَا وَإِلَّا كَانَتْ دَالَّةً عَلَيْهَا قَبْلَ الْمَوْضِعَةِ، وَإِنَّمَا دَلَالَتُهَا تَابِعَةٌ لِمَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمِ وَإِرَادَتِهِ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ لَا يُرِيدُ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِصَرِيحِ الْعَقْلِ، فَلَا يَكُونُ لَفْظُهُ دَالًّا عَلَيْهِ لُغَةً وَمَعَ عَدَمِ الدَّلَالَةِ اللُّغَوِيَّةِ عَلَى الصُّورَةِ الْمُخْرِجَةِ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا. الثَّانِي أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ وَالْمُخَصِّصُ مُبَيِّنٌ، وَالْبَيَانُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ سَابِقَةِ الْإِشْكَالِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمُبَيِّنِ، وَدَلِيلُ الْعَقْلِ سَابِقٌ فَلَا يَكُونُ مُبَيِّنًا وَلَا مُخَصِّصًا كَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَقَدِّمِ. الثَّالِثُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ بَيَانٌ فَلَا يَجُوزُ بِالْعَقْلِ كَالنَّسْخِ، ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ اللَّفْظِ لُغَةً عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَجَوَازَ كَوْنِ الْمُخَصِّصِ مُتَقَدِّمًا، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ تَكُونَ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ مَشْرُوطَةً بِعَدَمِ مُعَارَضَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ لَهُ؟ وَبِتَقْدِيرِ الِاشْتِرَاطِ لِذَلِكَ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي التَّمَسُّكِ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ التَّخْصِيصِ فِي الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ أَوَّلًا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ تَخْصِيصِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَنْ عُمُومِ آيَةِ الْحَجِّ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ خِطَابِهِمَا وَكَيْفَ يُمْكِنُ دَعْوَى ذَلِكَ مَعَ دُخُولِهِمَا تَحْتَ الْخِطَابِ بِأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ الصَّبِيِّ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ، وَلَوْلَا إِمْكَانُ دُخُولِهِ تَحْتَ الْخِطَابِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ، قَوْلُهُمْ: إِنَّ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ لَيْسَتْ لِذَوَاتِهَا مُسَلَّمٌ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ (1) فِي دَلَالَتِهَا مِنْ قَصْدِ الْوَاضِعِ لَهَا دَالَّةً عَلَى الْمَعْنَى. قَوْلُهُمْ: الْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ بِلَفْظِهِ (2) الدَّلَالَةَ عَلَى مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ. قُلْنَا: ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا وُضِعَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ لُغَةً بِالنَّظَرِ إِلَى إِرَادَتِهِ مِنَ اللَّفْظِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ اللَّفْظِ دَالًّا عَلَى الْمَعْنَى لُغَةً وَبَيْنَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُرَادٍ مِنَ اللَّفْظِ.   (1) وَأَنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ وَلَكِنْ لَا بُدَّ (2) بِلَفْظَةٍ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ بِلَفْظِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 قَوْلُهُمْ: إِنَّ حَقَّ الْمُخَصِّصِ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا عَمَّا خَصَّصَهُ. قُلْنَا: يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا بِالنَّظَرِ إِلَى ذَاتِهِ أَوْ بِالنَّظَرِ إِلَى صِفَتِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُبَيِّنًا وَمُخَصِّصًا، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ وَإِنْ كَانَ مُتَقَدِّمًا فِي ذَاتِهِ عَلَى الْخِطَابِ الْمَفْرُوضِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوصَفُ قَبْلَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُخَصِّصًا لِمَا لَمْ يُوجَدْ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُخَصِّصًا وَمُبَيِّنًا بَعْدَ وُجُودِ الْخِطَابِ. وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ، فَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ لَا يُعَدُّ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ كَمَا إِذَا قَالَ: إِلَّا زَيْدًا، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: قَامَ الْقَوْمُ. وَهَذَا بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وَقَامَ الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِكَلَامِهِ ذَاتَ (1) الْبَارِي - تَعَالَى - فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ عَنْ كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامِ الْعَرَبِ. وَأَمَّا امْتِنَاعُ النَّسْخِ بِالْعَقْلِ، فَإِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّاسِخَ مُعَرِّفٌ لِبَيَانِ مُدَّةِ الْحُكْمِ الْمَقْصُودَةِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، وَذَلِكَ مَا لَا سَبِيلَ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ بِخِلَافِ مَعْرِفَةِ اسْتِحَالَةِ كَوْنِ ذَاتِ الرَّبِّ - تَعَالَى - مَخْلُوقَةً مَقْدُورَةً. قَوْلُهُمْ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ التَّمَسُّكُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ لَهُ؟ قُلْنَا: إِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا، وَأَحَدُهُمَا مُقْتَضٍ لِلْإِثْبَاتِ وَالْآخَرُ لِلنَّفْيِ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مُوجِبَيْهِمَا؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ، وَلَا إِلَى نَفْيِهِمَا لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُودِ وَاسِطَةٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا وَالْعَمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ مِمَّا يُبْطِلُ دَلَالَةَ صَرِيحِ الْعَقْلِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَالْعَمَلُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ لَا يُبْطِلُ عُمُومَ الْكِتَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ غَايَتُهُ إِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ عَنْ كَوْنِهِ مُرَادًا لِلْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَكَانَ الْعَمَلُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ مُتَعَيِّنًا.   (1) جَرَى عُلَمَاءُ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ عَلَى إِطْلَاقِ كَلِمَةِ ذَاتٍ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ وَعَيْنِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَأَنْ يُدْخِلُوا عَلَيْهَا الْأَلِفَ وَاللَّامَ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّ كَلِمَةَ ذَاتٍ هِيَ مُؤَنَّثُ كَلِمَةِ ذُو وَكِلْتَاهُمَا لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ، وَلَا تُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ، إِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَيْهِ نِسْبَةَ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ، وَتُضَافُ إِلَى مَا لَهَا بِهِ نَوْعُ مُلَابَسَةٍ وَاتِّصَالٍ، وَمَنْ أَرَادَ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ص 6 - 7 - 8 مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ (طَبْعَةَ مُنِيرٍ) ، وَمَا نَقَلَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 قَوْلُهُمْ: إِنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ دَاخِلَانِ تَحْتَ الْخِطَابِ بِأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّا إِنْ نَظَرْنَا إِلَى تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِمَالِهِمَا فَهُوَ ثَابِتٌ بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَإِنْ نَظَرْنَا إِلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ الثَّابِتِ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ وَلَيِّهِمَا لَا بِفِعْلِهِمَا. وَأَمَّا صِحَّةُ صَلَاةِ الصَّبِيِّ، وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي صِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ دَاخِلًا تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ بِالصَّلَاةِ وَالْإِسْلَامِ. أَمَّا صِحَّةُ الصَّلَاةِ فَمَعْنَاهَا انْعِقَادُهَا سَبَبًا لِثَوَابِهِ، وَسُقُوطُ الْخِطَابِ عَنْهُ بِهَا إِذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَبَلَغَ فِي آخِرِهِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الشَّارِعِ حَتَّى يَكُونَ دَاخِلًا تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ مِنَ الشَّارِعِ، بَلْ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ الْوَلِيِّ لِفَهْمِهِ بِخِطَابِهِ دُونَ خِطَابِ الشَّرْعِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ صِحَّةِ إِسْلَامِهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ امْتِنَاعِ تَخْصِيصِ الصَّبِيِّ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ مَعَ تَسْلِيمِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، فَغَيْرُ مُضِرٍّ وَلَا قَادِحٍ (1) ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ. وَكَمَا أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ (قَدْ) يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ فَكَذَلِكَ دَلِيلُ الْحِسِّ، وَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} مَعَ خُرُوجِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَنْ ذَلِكَ حِسًّا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ، وَقَدْ أَتَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَلَمْ تَجْعَلْهَا رَمِيمًا بِدَلَالَةِ الْحِسِّ، فَكَانَ الْحِسُّ هُوَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ عَنْ عُمُومِ اللَّفْظِ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا لِلْمُتَكَلِّمِ؛ فَكَانَ مُخَصِّصًا.   (1) فَغَيْرُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ فَذَلِكَ غَيْرُ مُضِرٍّ وَلَا قَادِحٍ بِتَقْدِيرٍ إِلَخْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ جَوَازِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ خِلَافًا لِبَعْضِ الطَّوَائِفِ، وَدَلِيلُهُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْمَنْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَرَدَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} ، وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَرَدَ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} ، وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ نَصَّانِ مِنَ الْكِتَابِ أَحَدُهُمَا عَامٌّ وَالْآخَرُ خَاصٌّ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا فَإِمَّا أَنْ يُعْمَلَ بِالْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ، فَإِنْ عُمِلَ بِالْعَامِّ لَزِمَ مِنْهُ إِبْطَالُ الدَّلِيلِ الْخَاصِّ مُطْلَقًا، وَلَوْ عُمِلَ بِالْخَاصِّ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعَامِّ مُطْلَقًا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا خَرَجَ عَنْهُ كَمَا سَبَقَ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالْخَاصِّ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْخَاصَّ أَقْوَى فِي دَلَالَتِهِ وَأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ لِبُعْدِهِ عَنِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ بِخِلَافِ الْعَامِّ، فَكَانَ أَوْلَى بِالْعَمَلِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الْخَاصُّ الْمَعْمُولُ بِهِ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْعَامِّ فِي الصُّورَةِ الْخَارِجَةِ عَنْهُ أَوْ مُخَصِّصًا لَهُ، وَالتَّخْصِيصُ أَوْلَى مِنَ النَّسْخِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ، أَنَّ النَّسْخَ يَسْتَدْعِي ثُبُوتَ أَصْلِ الْحُكْمِ فِي الصُّورَةِ الْخَاصَّةِ وَرَفْعَهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، وَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ فِيهِ سِوَى دَلَالَتِهِ عَلَى عَدَمِ إِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ لِلصُّوَرِ الْمَفْرُوضَةِ بِلَفْظِ الْعَامِّ، فَكَانَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ النَّسَخُ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ فَكَانَ التَّخْصِيصُ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ رُفِعَ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ، وَالتَّخْصِيصُ مَنَعَ مِنَ الْإِثْبَاتِ، وَالدَّفْعُ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ وُقُوعَ التَّخْصِيصِ فِي الشَّرْعِ أَغْلَبُ مِنَ النَّسْخِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى التَّخْصِيصِ أَوْلَى إِدْرَاجًا لَهُ تَحْتَ الْأَغْلَبِ، وَسَوَاءٌ جُهِلَ التَّارِيخُ أَوْ عُلِمَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْخَاصُّ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْكِتَابُ مُبَيِّنًا لِلْكِتَابِ لَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلْكِتَابِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. قُلْنَا: إِضَافَةُ الْبَيَانِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلْكِتَابِ بِالْكِتَابِ إِذِ الْكُلُّ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِهِ، فَذِكْرُهُ الْآيَةَ الْمُخَصِّصَةَ يَكُونُ بَيَانًا مِنْهُ وَيَجِبُ حَمْلُ وَصْفِهِ بِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ وَارِدٌ عَلَى لِسَانِهِ، كَانَ الْوَارِدُ عَلَى لِسَانِهِ الْكِتَابُ أَوِ السُّنَّةُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ عُمُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مُبَيِّنًا لِكُلِّ مَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ، لِكَوْنِهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي الْبَعْضِ فَيَجِبُ بِالْبَعْضِ الْآخَرِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ الْعَامِّ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَإِنْ صَحَّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْخَاصُّ مُتَأَخِّرًا فَلَا يَصِحُّ فِيمَا إِذَا جُهِلَ التَّارِيخُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُقَدَّمًا فَيَكُونَ الْعَامُّ بَعْدَهُ نَاسِخًا لَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُتَقَدِّمًا فَيَكُونَ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لَهُ وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَوَجَبَ التَّعَاوُنُ (1) وَالتَّسَاقُطُ وَالرُّجُوعُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي. وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَ الْخَاصِّ مُخَصِّصًا مَعَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْعَامُّ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْخَاصِّ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِمَدْلُولِ الْخَاصِّ، لَا أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَبَيَانُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ: اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ، فَهُوَ جَارٍ مَجْرَى قَوْلِهِ: اقْتُلُوا زَيْدًا الْمُشْرِكَ وَعَمْرًا الْمُشْرِكَ وَخَالِدًا، وَهَلُمَّ جَرَّا. فَإِذَا الْخَاصُّ كَقَوْلِهِ: اقْتُلُوا زَيْدًا الْمُشْرِكَ إِذَا وَرَدَ الْعَامُّ بَعْدَهُ بِنَفْيِ الْقَتْلِ عَنِ الْجَمِيعِ فَهُوَ نَاصٌّ عَلَى زَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: اقْتُلُوا زَيْدًا وَلَا تَقْتُلُوا زَيْدًا كَانَ نَاسِخًا لَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ يُمْكِنُ نَسْخُهُ، وَالْعَامَّ الْوَارِدَ بَعْدَهُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا فَكَانَ نَاسِخًا.   (1) التَّعَاوُنُ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ التَّعَادُلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ الْخَاصَّ الْمُتَقَدِّمَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ كَوْنِهِ مَنْسُوخًا وَمُخَصِّصًا لِمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَكُونُ مُلْتَبِسًا. الرَّابِعُ: قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُنَّا نَأْخُذُ بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ، وَالْعَامُّ الْمُتَأَخِّرُ أَحْدَثُ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ. قُلْنَا: أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ التَّعَارُضِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ عَلَى التَّرْجِيحِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حُجَجِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَمَّا عَنِ الْأَوَّلِ فَيَمْتَنِعُ كَوْنُ الْعَامِّ فِي تَنَاوُلِهِ لِمَا تَحْتَهُ مِنَ الْأَشْخَاصِ جَارٍ مَجْرَى الْأَلْفَاظِ الْخَاصَّةِ، إِذِ الْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ بِكُلِّ وَاحِدٍ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلتَّخْصِيصِ بِخِلَافِ اللَّفْظِ الْعَامِّ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِمْكَانِ نَسْخِهِ لِلْخَاصِّ الْوُقُوعُ، وَلَوْ لَزِمَ مِنَ الْإِمْكَانِ الْوُقُوعُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ لِإِمْكَانِ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا لَهُ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ مَنْسُوخًا وَمُخَصِّصًا لِنَاسِخِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا بِتَرَدُّدِ الْخَاصِّ بَيْنَ كَوْنِهِ مَنْسُوخًا وَمُخَصِّصًا أَنَّ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ مُسَاوٍ لِاحْتِمَالِ النَّسْخِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ تَطَرُّقَ الِاحْتِمَالَيْنِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا. وَلَوْ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا لَمَنَعَ تَطَرُّقَ احْتِمَالِ كَوْنِ الْعَامِّ مُخَصَّصًا بِالْخَاصِّ إِلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ نَاسِخًا. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْأَحْدَثُ هُوَ الْخَاصُّ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ تَخْصِيصُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ جَائِزٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَدَلِيلُهُ الْمَعْقُولُ وَالْمَنْقُولُ. أَمَّا الْمَعْقُولُ فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ، وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» " وَرَدَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ "، فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي النِّصَابِ وَمَا دُونَهُ، وَقَوْلَهُ - تَعَالَى -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} مِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِمَا وَرَدَ عَلَى لِسَانِهِ مِنَ السُّنَّةِ بِسُنَّةٍ أُخْرَى كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَخْصِيصُ عُمُومِ السُّنَّةِ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ السُّنَّةِ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَدَلِيلُهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ. أَمَّا النَّقْلُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَشْيَاءِ فَكَانَتْ دَاخِلَةً تَحْتَ الْعُمُومِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ خُصَّ فِي الْبَعْضِ فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْبَاقِي. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ. فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مُعَارَضَةٌ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ جَعَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَيِّنًا لِلْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِسُنَّتِهِ. فَلَوْ كَانَ الْكِتَابُ مُبَيِّنًا لِلسُّنَّةِ لَكَانَ الْمُبَيَّنُ بِالسُّنَّةِ مُبَيِّنًا لَهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُبَيِّنَ أَصْلٌ، وَالْبَيَانُ تَبَعٌ لَهُ وَمَقْصُودٌ مِنْ أَجْلِهِ، فَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا لِلسُّنَّةِ لَكَانَتِ السُّنَّةُ أَصْلًا وَالْقُرْآنُ تَبَعًا، وَهُوَ مُحَالٌ. وَجَوَابُ الْآيَةِ، أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَصْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِمَا أُنْزِلَ امْتِنَاعُ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا لِلسُّنَّةِ بِمَا يَرِدُ عَلَى لِسَانِهِ مِنَ الْقُرْآنِ، إِذِ السُّنَّةُ أَيْضًا مُنَزَّلَةٌ عَلَى مَا قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} غَيْرَ أَنَّ الْوَحْيَ مِنْهُ مَا يُتْلَى فَيُسَمَّى كِتَابًا، وَمِنْهُ مَا لَا يُتْلَى فَيُسَمَّى سُنَّةً، وَبَيَانُ أَحَدِ الْمُنْزَلَيْنِ بِالْآخَرِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُبَيِّنًا لِشَيْءٍ ضَرُورَةَ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} وَأَيُّ شَيْءٍ قُدِّرَ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُبَيِّنًا لَهُ فَلَيْسَ الْقُرْآنُ تَبَعًا لَهُ، وَلَا ذَلِكَ الشَّيْءُ مَتْبُوعًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْقَطْعِيَّ قَدْ يُبَيَّنُ بِهِ مُرَادُ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، وَلَيْسَ مُنْحَطًّا عَنْ رُتْبَةِ الظَّنِّيِّ. [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، أَمَّا إِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ مُتَوَاتِرَةً فَلَمْ أَعْرِفْ فِيهِ خِلَافًا، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَا مَرَّ مِنَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، فَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ جَوَازُهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ، وَهَؤُلَاءِ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ جَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَلَا. وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَدْ خُصَّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ لَا مُتَّصِلٍ جَازَ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِلَّا فَلَا، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى الْوَقْفِ. وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ، وَدَلِيلُهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ. أَمَّا النَّقْلُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ خَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ: " «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا خَالَتِهَا» " (1) . وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} الْآيَةَ، بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ (2) ، وَلَا يَرِثُ الْكَافِرُ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَلَا الْمُسْلِمُ مِنَ الْكَافِرِ» ". (3)   (1) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ (2) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِلَفْظِ: لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا. (3) حَدِيثُ الْحِرْمَانِ مِنَ الْإِرْثِ لِاخْتِلَافِ الدِّينِ، رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ بِلَفْظِ: لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ، وَبِذَلِكَ تَعْرِفُ إِدْخَالَ الْآمِدِيِّ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْآخَرِ وَتَصَرُّفَهُ فِي مَتْنِهِمَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً» " (1) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ جَعَلَ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ» (2) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ» . (3) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وَأَخْرَجُوا مِنْهُ مَا دُونَ النِّصَابِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا قَطْعَ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» " (4) ، وَخَصُّوا قَوْلَهُ - تَعَالَى -: (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) بِإِخْرَاجِ الْمَجُوسِ مِنْهُ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: " «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَلَمْ يُوجَدْ لِمَا فَعَلُوهُ نَكِيرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَالْوُقُوعُ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَزِيَادَةٌ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّخْصِيصِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَخْصِيصَهَا كَانَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «إِذَا رُوِيَ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَرَدُّوهُ» " وَالْخَبَرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ فَكَانَ مَرْدُودًا. (5) .   (1) الْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ بِلَفْظِ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً (2) حَدِيثُ إِعْطَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّدُسَ لِلْجَدَّةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. (3) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظِ: لَا يَصْلُحُ صَاعٌ بِصَاعَيْنِ وَلَا دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ إِلَخْ، وَهُوَ أَيْضًا فِي مُسْنَدِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ. (4) رَوَى الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْطَعُ يَدَ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِهَا أَيْضًا بِلَفْظِ: لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا. (5) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ عَنِّي أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ، فَمَا أَتَاكُمْ عَنِّي مُوَافِقًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّتِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَا أَتَاكُمْ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، وَفِي سَنَدِهِ مَقَالٌ. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ مِنْ طَرِيقٍ مُنْقَطِعَةٍ، انْظُرِ الْإِبْهَاجَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِتَاجِ الدِّينِ السُّبْكِيِّ، وَفِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ أَحَادِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا عَنْ ثَوْبَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَلَا إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ دَائِرَةٌ " قَالَ: فَكَيْفَ نَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " اعْرِضُوا حَدِيثِي عَلَى الْكِتَابِ فَمَا وَافَقَهُ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا قُلْتُهُ "، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَفِيهِ يَزِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ مَتْرُوكٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " سَأَلْتُ الْيَهُودَ عَنْ مُوسَى فَأَكْثَرُوا فِيهِ وَزَادُوا وَنَقَصُوا حَتَّى كَفَرُوا، وَسَأَلْتُ النَّصَارَى عَنْ عِيسَى فَأَكْثَرُوا فِيهِ وَزَادُوا وَنَقَصُوا حَتَّى كَفَرُوا بِهِ، وَإِنَّهُ سَيَفْشُو عَنِّي أَحَادِيثُ فَمَا أَتَاكُمْ مِنِّي مِنْ حَدِيثِي فَاقْرَءُوا كِتَابَ اللَّهِ فَاعْتَبِرُوهُ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْتُهُ وَمَا لَمْ يُوَافِقْ كِتَابَ اللَّهِ فَلَمْ أَقُلْهُ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ أَبُو حَاضِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبَدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " لَا تُمْسِكُوا عَنِّي شَيْئًا فَإِنِّي لَا أُحِلُّ إِلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَلَا أُحَرِّمُ إِلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ " رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَقَالَ: لَمْ يَرْوِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ إِلَّا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، تَفَرَّدَ بِهِ صَالِحُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّعْفَرَانِيُّ، " فِي هَامِشِ النُّسْخَةِ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ هُوَ الْوَاسِطِيُّ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ "، وَغَنِيٌّ عَنِ الْبَيَانِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَقَالِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهَا فَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا خَالَفَ كِتَابَ اللَّهِ خِلَافَ مُنَاقَضَةٍ، فَإِذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ كَمَا فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ سَائِرِ النُّصُوصِ كِتَابًا وَسُنَّةً، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ تَرُدُّ ذَلِكَ، فَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وَقَوْلُهُ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبَعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) إِلَى أَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي دَلَّتْ بِعُمُومِهَا عَلَى قَبُولِ مَا صَحَّ نَقْلُهُ إِلَيْنَا مِنَ الْوَحْيِ كِتَابًا وَسُنَّةً دُونَ فَرْقٍ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الْأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: مَا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ "، وَمِنْهُ مَا رَوَوْهُ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكَرِبَ قَالَ: " يُوشِكُ الرَّجُلُ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِي يَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَلَالٍ أَحْلَلْنَاهُ وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ مِنْ حَرَامٍ حَرَّمْنَاهُ أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 قَوْلُهُمْ: إِنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ صَحَّ فَالتَّخْصِيصُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ لَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا إِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَذَّبَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فِيمَا رَوَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةً، لِمَا كَانَ ذَلِكَ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وَقَالَ: كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ» ؟ (1) وَإِنْ سَلَّمْنَا الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ كَانَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ بِمُجَرَّدِهِ مُخَصِّصٌ، بَلْ رُبَّمَا قَامَتِ الْحُجَّةُ عِنْدَهُمْ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّةِ قَوْلِهِ بِقَرَائِنَ وَأَدِلَّةٍ اقْتَرَنَتْ بِقَوْلِهِ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدُ إِخْبَارِهِ حُجَّةً. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، فَنَقُولُ: خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ نَصًّا فِي مَدْلُولِهِ نَظَرًا إِلَى مَتْنِهِ غَيْرَ أَنَّ سَنَدَهُ مَظْنُونٌ مُحْتَمِلٌ لِلْكَذِبِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ، فَإِنَّهُ قَطْعِيُّ السَّنَدِ وَقَطْعِيٌّ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآحَادِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا يَكُونُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَاقِعًا فِي مُعَارَضَتِهِ كَمَا فِي النَّسْخِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعُمُومَ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى آحَادِهِ، لَكِنْ مَتَى إِذَا خُصَّ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ عَلَى مَا قَالَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ أَوْ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى مَا قَالَهُ الْكَرْخِيُّ أَوْ قَبْلَ التَّخْصِيصِ؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ لِكَوْنِهِ صَارَ مَجَازًا ظَنِّيًّا، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ لِبَقَائِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا لِتَرْجِيحِ الْعَامِّ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّخْصِيصِ، بِكَوْنِهِ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ وَسَنَدِهِ.   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 79 ج2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ بِالنَّظَرِ إِلَى مَتْنِهِ ظَنِّيَّةٌ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّهُ قَطْعِيُّ السَّنَدِ وَالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ قَاطِعًا فِي مَتْنِهِ فَظَنِّيٌّ فِي سَنَدِهِ فَقَدْ تَقَابَلَا وَتَعَارَضَا وَوَجَبَ التَّوَقُّفُ عَلَى دَلِيلٍ خَارِجٍ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَالْجَوَابُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومَاتِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ حَيْثُ إِنَّهُمْ أَضَافُوا التَّخْصِيصَ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْخَبَرِ، فَإِنَّمَا يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْخَبَرِ أَنْ لَوْ كَانَ الْخَبَرُ الْمُخَصِّصُ مُخَالِفًا لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ هُوَ مُبَيِّنٌ لِلْمُرَادِ مِنْهُ فَكَانَ مُقَرِّرًا لَا مُخَالِفًا، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُفْضِيَ إِلَى تَخْصِيصِ (1) مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْخَبَرِ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ مِنَ السُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مُخَصِّصٌ لِلْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. قَوْلُهُمْ: إِنْ صَحَّ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فَالتَّخْصِيصُ بِإِجْمَاعِهِمْ لَا بِالْخَبَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ لَمْ يَكُنْ عَلَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ مُطْلَقًا، بَلْ عَلَى تَخْصِيصِهَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، وَمَهْمَا كَانَ التَّخْصِيصُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ تَكْذِيبِ عُمَرَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ مَرْدُودٌ عِنْدَهُ، بَلْ لِتَرَدُّدِهِ فِي صِدْقِهَا وَلِهَذَا قَالَ: كَيْفَ نَتْرُكُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصْدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ؟ وَلَوْ كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ مَرْدُودًا مُطْلَقًا لَمَا احْتَاجَ إِلَى هَذَا التَّعْلِيلِ. قَوْلُهُمْ: لَمْ يَكُنْ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ خَبَرِ الْوَاحِدِ. قُلْنَا: وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِأَنَّ مُجَرَّدَ خَبَرِ الْوَاحِدِ يَكُونُ مَقْبُولًا، بَلْ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا كَانَ مُغْلِبًا عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْأَصْلُ عَدَمُ اعْتِبَارِ مَا سِوَاهُ فِي الْقَبُولِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ سَنَدَ الْخَبَرِ ظَنِّيٌّ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ دَلَالَةَ الْعُمُومِ عَلَى الْآحَادِ الدَّاخِلَةِ فِيهِ قَطْعِيَّةٌ، لِاحْتِمَالِهِ لِلتَّخْصِيصِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهَا قُدِّرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ خُصَّ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ.   (1) لَا يُفْضِي إِلَى تَخْصِيصٍ فِيهِ سَقْطٌ، وَالتَّقْدِيرُ لَا يُفْضِي إِلَى مَنْعِ تَخْصِيصِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وَأَمَّا النَّسْخُ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَلِأَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ بَعْدَ إِثْبَاتِهِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لَا رَفْعٌ فَلَا يَلْزَمُ مَعَ ذَلِكَ مِنِ امْتِنَاعِ النَّسْخِ بِهِ امْتِنَاعُ التَّخْصِيصِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ السُّؤَالِ الْأَخِيرِ فِي جِهَةِ التَّعَارُضِ، فَجَوَابُهُ أَنَّ احْتِمَالَ الضَّعْفِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ كَذِبِهِ، وَفِي الْعَامِّ مِنْ جِهَةِ جَوَازِ تَخْصِيصِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ احْتِمَالَ الْكَذِبِ فِي حَقِّ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ أَبْعَدُ مِنِ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ الْعَامِّ. وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْعُمُومَاتِ مُخَصِّصَةً، وَلَيْسَ أَكْثَرُ أَخْبَارِ الْعُدُولِ كَاذِبَةً فَكَانَ الْعَمَلُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ عُمِلَ بِعُمُومِ الْعَامِّ لَزِمَ إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ مُطْلَقًا، وَلَوْ عُمِلَ بِالْخَبَرِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْعَامِّ مُطْلَقًا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا سِوَى صُورَةِ التَّخْصِيصِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْعَامِّ إِبْطَالٌ لِلْخَاصِّ، وَالْعَمَلَ بِالْخَاصِّ بَيَانٌ لِلْعَامِّ لَا إِبْطَالٌ لَهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْبَيَانَ أَوْلَى مِنَ الْإِبْطَالِ. [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ لَا أَعْرِفُ خِلَافًا فِي تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، وَدَلِيلُهُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ، أَمَّا الْمَنْقُولُ، فَهُوَ أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ خَصَّصَ آيَةَ الْقَذْفِ بِتَنْصِيفِ الْجَلْدِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ كَالْأَمَةِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ، فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، وَالْعَامُّ غَيْرُ قَاطِعٍ فِي آحَادِ مُسَمَّيَاتِهِ كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ. فَإِذَا رَأَيْنَا أَهَلَ الْإِجْمَاعِ قَاضِينَ بِمَا يُخَالِفُ الْعُمُومَ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ مَا قَضَوْا بِهِ إِلَّا وَقَدِ اطَّلَعُوا عَلَى دَلِيلٍ مُخَصِّصٍ لَهُ نَفْيًا لِلْخَطَأِ عَنْهُمْ. وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى إِطْلَاقِنَا أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُخَصِّصٌ لِلنَّصِّ أَنَّهُ مُعَرِّفٌ لِلدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ، لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ هُوَ الْمُخَصِّصُ. وَبِالنَّظَرِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا نَقُولُ: إِنَّا إِذَا رَأَيْنَا عَمَلَ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الْإِجْمَاعِ بِمَا يُخَالِفُ النَّصَّ الْخَاصَّ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِاطِّلَاعِهِمْ عَلَى نَاسِخٍ لِلنَّصِّ، فَيَكُونُ الْإِجْمَاعُ مُعَرِّفًا لِلنَّاسِخِ، لَا أَنَّهُ نَاسِخٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ الْإِجْمَاعَ نَفْسَهُ لَا يَكُونُ نَاسِخًا؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِغَيْرِ خِطَابِ الشَّارِعِ، وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ خِطَابًا لِلشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْخِطَابِ النَّاسِخِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ لَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ، وَالْمَفْهُومِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالْمَفْهُومِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: كُلُّ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَاضْرِبْهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ دَارِي فَلَا تَقُلْ لَهُ: أُفٍّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ضَرْبِ زِيدٍ وَإِخْرَاجِهِ عَنِ الْعُمُومِ، نَظَرًا إِلَى مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ كَفِّ الْأَذَى عَنْ زَيْدٍ، وَسَوَاءٌ قِيلَ إِنَّ تَحْرِيمَ الضَّرْبِ مُسْتَفَادٌ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ أَوْ مِنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِي ذَلِكَ كَمَا يَأْتِي. وَكَذَا لَوْ وَرَدَ نَصٌّ عَامٌّ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْأَنْعَامِ كُلِّهَا، ثُمَّ وَرَدَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» "، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ بِإِخْرَاجِ مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ عَنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِمَفْهُومِهِ. وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَفْهُومَيْنِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ خَاصٌّ فِي مَوْرِدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، لِتَرَجُّحِ دَلَالَةِ الْخَاصِّ عَلَى دَلَالَةِ الْعَامِّ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَفْهُومُ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا وَأَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنَ الْعُمُومِ إِلَّا أَنَّ الْعَامَّ مَنْطُوقٌ بِهِ، وَالْمَنْطُوقُ أَقْوَى فِي دَلَالَتِهِ مِنَ الْمَفْهُومِ لِافْتِقَارِ الْمَفْهُومِ فِي دَلَالَتِهِ إِلَى الْمَنْطُوقِ، وَعَدَمِ افْتِقَارِ الْمَنْطُوقِ فِي دَلَالَتِهِ إِلَى الْمَفْهُومِ. قُلْنَا: إِلَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَفْهُومِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ مُطْلَقًا، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِظَاهِرِ أَحَدِهِمَا وَإِبْطَالِ أَصْلِ الْآخَرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِفِعْلِ الرَّسُولِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِفِعْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِ فِعْلِ الرَّسُولِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، هَلْ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ لِلْعُمُومِ أَمْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ الْأَكْثَرُونَ كَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَنَفَاهُ الْأَقَلُّونَ كَالْكَرْخِيِّ. وَتَحْقِيقُ الْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: الْعَامُّ الْوَارِدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِلْأُمَّةِ وَالرَّسُولِ كَمَا لَوْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْوِصَالُ أَوِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ كَشْفِ الْفَخِذِ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَ الرَّسُولِ كَمَا لَوْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْوِصَالِ أَوِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ كَشْفِ الْفَخِذِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَإِذَا رَأَيْنَاهُ قَدْ وَاصَلَ أَوِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ كَشَفَ فَخِذَهُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ فِعْلَهُ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي حَقِّهِ، وَيَكُونُ مُخْرِجًا لَهُ عَنِ الْعُمُومِ وَمُخَصِّصًا. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ نَقُولَ بِأَنَّ اتِّبَاعَهُ فِي فِعْلِهِ وَالتَّأَسِّيَ بِهِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ سِوَاهُ، أَوْ لَا نَقُولُ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ رَفْعُ حُكْمِ الْعُمُومِ مُطْلَقًا فِي حَقِّهِ بِفِعْلِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ بِوُجُوبِ التَّأَسِّي بِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَخْصِيصًا، بَلْ نَسْخًا لِحُكْمِ الْعُمُومِ مُطْلَقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي، كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَهُ عَنِ الْعُمُومِ دُونَ أُمَّتِهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَامًّا لِلْأُمَّةِ دُونَ الرَّسُولِ، فَفِعْلُهُ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِنَفْسِهِ عَنِ الْعُمُومِ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِيهِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ، فَإِنْ قِيلَ أَيْضًا بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الْأُمَّةِ لَهُ فِي فِعْلِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا نَسْخًا عَنْهُمْ لَا تَخْصِيصًا كَمَا سَبَقَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ أَصْلًا، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي الْعُمُومِ، وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأُمَّةِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فَلَا أَرَى لِلْخِلَافِ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ (1) بِفِعْلِ النَّبِيِّ وَجْهًا.   (1) لِلْخِلَافِ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ لِلْخِلَافِ فِي التَّخْصِيصِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 أَمَّا إِذَا كَانَ هُوَ الْمُخَصَّصُ عَنِ الْعُمُومِ وَحْدَهُ فَلِعَدَمِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَأَمَّا فِي بَاقِي الْأَقْسَامِ فَلِعَدَمِ تَحَقُّقِ التَّخْصِيصِ. بَلْ إِنْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي بَاقِي الْأَقْسَامِ، هَلْ فِعْلُهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْعُمُومِ فِيهَا؟ فَخَارِجٌ عَنِ الْخَوْضِ فِي بَابِ التَّخْصِيصِ، وَالْأَظْهَرُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْوَقْفُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ دَلِيلَ وُجُوبِ التَّأَسِّي، وَاتِّبَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا هُوَ بِدَلِيلٍ عَامٍّ لِلْأُمَّةِ، وَهُوَ مُسَاوٍ لِلْعُمُومِ الْآخَرِ فِي عُمُومِهِ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا وَإِبْطَالُ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. (1) فَإِنْ قِيلَ: بَلِ الْعَمَلُ بِالْفِعْلِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ قُلْنَا: الْفِعْلُ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا عَلَى لُزُومِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ بَاقِي الْأُمَّةِ بِنَفْسِهِ، بَلْ لِأَدِلَّةٍ عَامَّةٍ مُوجِبَةٍ عَلَى الْأُمَّةِ لُزُومَ الِاتِّبَاعِ.   (1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّ الْخِطَابَ التَّشْرِيعِيَّ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُمُّ أُمَّتَهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ الْمُخْتَارَ دُخُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمُومِ الْخِطَابِ بِمِثْلِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وَ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) ، وَدُخُولُهُ فِي عُمُومِ خِطَابِهِ لِأُمَّتِهِ، وَقَدْ دَلَّ إِرْسَالُهُ مُشَرِّعًا لِلْأُمَّةِ الْحَثَّ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالِاتِّسَاءَ بِهِ عَلَى أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِ التَّشْرِيعِيَّةِ شَرْعٌ لَنَا إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِهِ، وَأَدِلَّةُ الشَّرْعِ لَا تَتَنَاقَضُ فَوَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا، إِمَّا بِحَمْلِ فِعْلِهِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ بِدَلِيلٍ كَمَا فِي وِصَالِهِ فِي الصَّوْمِ مَعَ نَهْيِ أُمَّتِهِ عَنْهُ، وَإِمَّا بِصَرْفِ الْأَمْرِ عَنِ الْوُجُوبِ إِلَى النَّدْبِ كَمَا فِي الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتِ النَّارُ مَعَ تَرْكِهِ الْوُضُوءَ مِنْ ذَلِكَ، إِنْ لَمْ نَقُلْ بِالنَّسْخِ، وَصَرْفِ النَّهْيِ عَنِ التَّحْرِيمِ إِلَى التَّنْزِيهِ كَمَا فِي شُرْبِهِ قَائِمًا، وَبَوْلِهِ قَائِمًا مَعَ نَهْيِهِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَإِمَّا بِالْحَمْلِ عَلَى حَالَةٍ طَارِئَةٍ اقْتَضَتْ وُقُوعَ الْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ الْعَامِّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُمَثَّلَ لِذَلِكَ بِالْأَخِيرَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ وَجَبَ نَسْخُ الْمُتَقَدِّمِ بِالْمُتَأَخِّرِ إِنْ عُرِفَ التَّارِيخُ وَإِلَّا وَجَبَ التَّرْجِيحُ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا التَّخْيِيرُ أَوِ الْوَقْفُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي فِعْلِهِ تَارِيخُ حُصُولِهِ مِنْهُ لَا تَارِيخُ أَدِلَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، فَإِنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَ النُّصُوصِ وَالْأَفْعَالِ وَلَا نَسْخَ فِيهَا وَلَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا، فَلْيُرْجَعْ إِلَى تَارِيخِ جُزْئِيَّاتِ النُّصُوصِ وَالْأَفْعَالِ الْمُتَعَارِضَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ الْفِعْلَ الْخَاصَّ مَعَ الْعُمُومَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّأَسِّي أَخَصُّ مِنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ مُطْلَقًا، وَلِأَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنِ الْعَامِّ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى بِالْعَمَلِ. قُلْنَا: أَمَّا الْفِعْلُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَهُ دَلَالَةً عَلَى وُجُوبِ تَأَسِّي الْأُمَّةِ بِالنَّبِيِّ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، بَلِ الْمُوجِبُ شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ مُسَاوٍ لِلْعَامِّ الْآخَرِ فِي عُمُومِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْفِعْلُ خَاصًّا أَوْ عَامًّا. وَذَلِكَ الْمُوجِبُ لِلتَّأَسِّي غَيْرُ مُتَأَخِّرٍ عَنِ الْعَامِّ، بَلْ مُحْتَمَلٌ لِلتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ عُلِمَ التَّارِيخُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا. (1) كَيْفَ وَإِنَّ الْقَوْلَ بِوُجُوبِ التَّأَسِّي مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِ الْفِعْلِ، وَعَلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى التَّأَسِّي، وَلَا كَذَلِكَ لِلْعَامِّ الْآخَرِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ يَكُونُ أَبْعَدَ مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ؟ (2) [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ لِمَا يَفْعَلُهُ الْوَاحِدُ مِنْ أُمَّتِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُخَالِفًا لِلْعُمُومِ مُخَصِّصٌ لِذَلِكَ الْعَامِّ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ تَقْرِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا يَفْعَلُهُ الْوَاحِدُ مِنْ أُمَّتِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُخَالِفًا لِلْعُمُومِ، وَعَدَمُ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَعَدَمُ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ عَنْهُ مُخَصِّصٌ لِذَلِكَ الْعَامِّ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ خِلَافًا لِطَائِفَةٍ شَاذَّةٍ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ تَقْرِيرَهُ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَهُ وَإِلَّا كَانَ فِعْلُهُ مُنْكَرًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاسْتَحَالَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السُّكُوتُ عَنْهُ وَعَدَمُ   (1) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّعَارُضِ بَيْنَ جُزْئِيَّاتِ النُّصُوصِ وَالْأَفْعَالِ إِنَّمَا هُوَ تَارِيخُ الْمُتَعَارِضِينَ، لَا تَارِيخُ الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا وُجُوبُ قَبُولِ الشَّرِيعَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، فَإِنَّهَا لَا تَتَعَارَضُ وَلَا يَدْخُلُهَا نَسْخٌ. (2) كُلٌّ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مُتَوَقِّفُ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ قَبُولَ الشَّرِيعَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، وَقَوْلِهِ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وَقَوْلِهِ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ، وَكَكَوْنِهِ رَسُولًا مُشَرِّعًا لِلْأُمَّةِ بِأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 النَّكِيرِ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ التَّقْرِيرُ دَلِيلَ الْجَوَازِ، وَإِنْ أَمْكَنَ نَسْخُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُطْلَقًا أَوْ نَسْخُهُ عَنْ ذَلِكَ الْوَاحِدِ بِعَيْنِهِ، لَكِنَّهُ بَعِيدٌ، وَاحْتِمَالُ تَخْصِيصِهِ مِنَ الْعُمُومِ أَوْلَى وَأَقْرَبُ لِمَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَعَقُّلُ مَعْنًى أَوْجَبَ جَوَازَ مُخَالَفَةِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِلْعُمُومِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مُشَارِكًا لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى فَهُوَ مُشَارِكٌ لَهُ فِي تَخْصِيصِهِ عَنْ ذَلِكَ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَظْهَرِ الْمَعْنَى الْجَامِعُ فَلَا. فَإِنْ قِيلَ: التَّقْرِيرُ لَا صِيغَةَ لَهُ، فَلَا يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَهُ صِيغَةٌ فَلَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُخَصِّصًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ غَيْرُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ مُشَارِكًا لَهُ فِي حُكْمِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ ذَلِكَ الْوَاحِدِ مُشَارِكًا لَهُ فِي حُكْمِهِ لَصَرَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ، دَفْعًا لِمَحْذُورِ التَّلْبِيسِ عَلَى الْأُمَّةِ بِاعْتِقَادِهِمُ الْمُشَارَكَةَ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي حُكْمِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» ". (1) قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ التَّقْرِيرُ لَا صِيغَةَ لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ نَفْيًا لِلْخَطَأِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِ الْعَامِّ، فَإِنَّهُ ظَنِّيٌّ مُحْتَمِلٌ لِلتَّخْصِيصِ فَكَانَ مُوجِبًا لِتَخْصِيصِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ وُجُوبِ الْمُشَارَكَةِ فَبَعِيدٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَقَوْلُهُ: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " لَا يَكُونُ مُرْتَبِطًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " إِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً مُوهِمَةً لِمُشَارَكَةِ الْجَمَاعَةِ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ، أَنْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: (حُكْمِي) عَامًّا فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُجَّةً عَامَّةً فَلَا تَدْلِيسَ وَلَا تَلْبِيسَ، وَبِتَقْدِيرِ مُشَارَكَةِ الْأُمَّةِ لِذَلِكَ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ يَكُونُ نَسْخًا، وَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا كَمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ.   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 275 ج2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 [الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْعُمُومِ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ، وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إِذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ الْعُمُومِ، وَسَوَاءٌ كَانَ هُوَ الرَّاوِي أَوْ لَمْ يَكُنْ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ، خِلَافًا لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْحَنَابِلَةِ وَعِيسَى بْنِ أَبَانٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ. وَدَلِيلُهُ أَنَّ ظَاهِرَ الْعُمُومِ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ، وَمَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ (1) ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْعُمُومِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: إِذَا خَالَفَ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ الْعُمُومَ فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لَا لِدَلِيلٍ، وَإِلَّا وَجَبَ تَفْسِيقُهُ وَالْحُكْمُ بِخُرُوجِهِ عَنِ الْعَدَالَةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ وَجَبَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ، إِذْ هُوَ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ أَحَدِهِمَا كَمَا عُلِمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. قُلْنَا: مُخَالَفَةُ الصَّحَابِيِّ لِلْعُمُومِ إِنَّمَا كَانَتْ لِدَلِيلٍ عَنَّ لَهُ فِي نَظَرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُخْطِئًا فِيهِ أَوْ مُصِيبًا. فَلِذَلِكَ لَمْ نَقْضِ بِتَفْسِيقِهِ لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا بِاتِّبَاعِ اجْتِهَادِهِ وَمَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مَا عَنَّ لَهُ فِي نَظَرِهِ حُجَّةً مُتَّبَعَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ مُخَالَفَةِ صَحَابِيٍّ آخَرَ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْسِيقٍ وَلَا تَبْدِيعٍ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَا صَارَ إِلَيْهِ حُجَّةً وَاجِبَةَ الِاتِّبَاعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْغَيْرِ فَلَا يَكُونُ الْعُمُومُ الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ مُطْلَقًا.   (1) سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ حُجَّةٌ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 [الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمُخَاطَبِينَ تَنَاوُلُ طَعَامٍ خَاصٍّ فَوَرَدَ خِطَابٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ الطَّعَامِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ إِذَا كَانَ مِنْ عَادَةِ الْمُخَاطَبِينَ تَنَاوُلُ طَعَامٍ خَاصٍّ فَوَرَدَ خِطَابٌ عَامٌّ بِتَحْرِيمِ الطَّعَامِ كَقَوْلِهِ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمُ الطَّعَامَ فَقَدِ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى عُمُومِهِ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ طَعَامٍ عَلَى وَجْهٍ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُعْتَادُ وَغَيْرُهُ، وَإِنَّ الْعَادَةَ لَا تَكُونُ مُنَزِّلَةً لِلْعُمُومِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمُعْتَادِ دُونَ غَيْرِهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إِنَّمَا هِيَ فِي اللَّفْظِ الْوَارِدِ، وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ لِكُلِّ مَطْعُومٍ بِلَفْظِهِ وَلَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِالْعَوَائِدِ، وَهُوَ حَاكِمٌ عَلَى الْعَوَائِدِ فَلَا تَكُونُ الْعَوَائِدُ حَاكِمَةً عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا مَنَعْتُمْ مِنْ تَجْوِيزِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَادَةِ وَتَنْزِيلِ لَفْظِ الطَّعَامِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَخْصِيصِ اللَّفْظِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ فِي اللُّغَةِ بِالْعَادَةِ؟ وَذَلِكَ كَتَخْصِيصِ اسْمِ الدَّابَّةِ بِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الدَّابَّةِ عَامًّا فِي كُلِّ مَا يَدِبُّ، وَكَتَخْصِيصِ اسْمِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلَدِ حَتَّى إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الدَّابَّةِ وَالثَّمَنِ غَيْرُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، وَالنَّقْدِ الْغَالِبِ فِي الْبَلَدِ. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ أَنَّ الْعَادَةَ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ إِنَّمَا هِيَ مُطَّرِدَةٌ فِي اعْتِيَادِ أَكْلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ الْمَخْصُوصِ لَا فِي تَخْصِيصِ اسْمِ الطَّعَامِ بِذَلِكَ الطَّعَامِ الْخَاصِّ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَاضِيًا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عُمُومُ لَفْظِ الطَّعَامِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ لَفْظِ الدَّابَّةِ، فَإِنَّهُ صَارَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ظَاهِرًا فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَضْعًا، حَتَّى إِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْ إِطْلَاقِ الدَّابَّةِ غَيْرُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ، فَكَانَ قَاضِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعَادَةُ فِي الطَّعَامِ الْمُعْتَادِ أَكْلُهُ قَدْ خَصَّصَتْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ اسْمَ الطَّعَامِ بِذَلِكَ الطَّعَامِ، لَكَانَ لَفْظُ الطَّعَامِ مُنَزَّلًا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ضَرُورَةَ تَنْزِيلِ مُخَاطَبَةِ الشَّارِعِ لِلْعَرَبِ، عَلَى مَا هُوَ الْمَفْهُومُ لَهُمْ مِنْ لُغَتِهِمْ، وَفِيهِ دِقَّةٌ مَعَ وُضُوحِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ وَلَفْظٌ خَاصٌّ يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَام لَا يَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ، وَلَفْظٌ خَاصٌّ يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَامُّ، لَا يَكُونُ الْخَاصُّ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ بِجِنْسِ مَدْلُولِ الْخَاصِّ وَمُخْرِجًا عَنْهُ مَا سِوَاهُ خِلَافًا لِأَبِي ثَوْرٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا إِهَابٌ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» " فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ إِهَابٍ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ: " «دِبَاغُهَا طَهُورُهَا» "، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُخَصِّصًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ وَإِجْرَاءِ الْعَامِّ عَلَى عُمُومِهِ، وَمَعَ إِمْكَانِ إِجْرَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا حَاجَةَ إِلَى الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا وَمُخَالَفَةِ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتَرْتُمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، وَتَخْصِيصُ (جِلْدِ الشَّاةِ بِالذِّكْرِ) يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا سِوَى الشَّاةِ مِنْ جُلُودِ بَاقِي الْحَيَوَانَاتِ، فَكَانَ مُخَصِّصًا لِلْعُمُومِ الْوَارِدِ بِتَطْهِيرِهَا. قُلْنَا: أَمَّا مَنْ نَفَى كَوْنَ الْمَفْهُومِ حُجَّةً وَأَبْطَلَ دَلَالَتَهُ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ فَلَا أَثَرَ لِإِلْزَامِهِ بِهِ هَاهُنَا. وَمَنْ قَالَ بِالْمَفْهُومِ الْمُخَصِّصِ لِلْعُمُومِ، إِنَّمَا قَالَ بِهِ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ وَمَفْهُومِ الصِّفَةِ الْمُشْتَقَّةِ كَمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَا فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَتَخْصِيصُ جِلْدِ الشَّاةِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الطَّهَارَةِ بِالدِّبَاغِ عَنْ بَاقِي جُلُودِ الْحَيَوَانَاتِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا إِلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ. وَلِهَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: الْحَادِثُ مَوْجُودٌ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَدِيمَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا عُقِّبَ بِمَا فِيهِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى بَعْضِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ هَلْ يَكُونُ خُصُوصُ الْمُتَأَخِّرِ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ اللَّفْظُ الْعَامُّ إِذَا عُقِّبَ بِمَا فِيهِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى بَعْضِ الْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ لَا إِلَى كُلِّهِ، هَلْ يَكُونُ خُصُوصُ الْمُتَأَخِّرِ مُخَصِّصًا لِلْعَامِّ الْمُتَقَدِّمِ بِمَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَيْهِ أَوْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِ إِلَى امْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ بِذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ الْحَرَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ بَوَائِنَ كُنُّ أَوْ رَجْعِيَّاتٍ. ثُمَّ قَالَ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} ، فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى الرَّجْعِيَّاتِ دُونَ الْبَوَائِنِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ. وَالْمُخْتَارُ بَقَاءُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ عَلَى عُمُومِهِ، وَامْتِنَاعُ تَخْصِيصِهِ بِمَا تَعَقَّبَهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنَ الْعُمُومِ وَمُقْتَضَى اللَّفْظِ الثَّانِي عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى جَمِيعِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُتَقَدِّمُ، إِذْ لَا أَوْلَوِيَّةَ لِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ بِهِ دُونَ الْبَعْضِ فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِ الضَّمِيرِ بِبَعْضِ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ وَخُولِفَ ظَاهِرُهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ الْأَخِيرَ، بَلْ يَجِبُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ إِلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى تَخْصِيصِهِ. (1) فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ مَا اقْتَضَاهُ الضَّمِيرُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى كُلِّ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ إِذَا أَجْرَيْنَا اللَّفْظَ السَّابِقَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِإِجْرَائِهِ عَلَى عُمُومِهِ، وَمُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الضَّمِيرِ أَوْلَى مِنْ إِجْرَاءِ ظَاهِرِ الضَّمِيرِ عَلَى مُقْتَضَاهُ، وَتَخْصِيصُ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَإِذَا لَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا وَجَبَ الْوَقْفُ. قُلْنَا: بَلْ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى عُمُومِهِ وَتَخْصِيصُ الْمُتَأَخِّرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْأَوَّلِ ظَاهِرَةٌ، وَدَلَالَةَ الثَّانِي غَيْرُ ظَاهِرَةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ الْمُظْهَرِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْمُضْمَرِ، فَكَانَ رَاجِحًا.   (1) اخْتِيَارُهُ بَقَاءَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ عَلَى عُمُومِهِ، وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَيْهِ يَنْقُضُ مَذْهَبَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُمُومِ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِفَادَتِهِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِ الْعُمُومِ وَالْقِيَاسِ حُجَّةً اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، فَذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ إِلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا، وَذَهَبُ الْجُبَّائِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى تَقْدِيمِ الْعَامِّ عَلَى الْقِيَاسِ، وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِجَلِيِّ الْقِيَاسِ دُونَ خَفِيِّهِ، وَذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ وَالْكَرْخِيُّ إِلَى جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ لِلْعَامِّ الْمُخَصَّصِ دُونَ غَيْرِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْكَرْخِيَّ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ مُخَصَّصًا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَأَطْلَقَ عِيسَى بْنُ أَبَانٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ التَّخْصِيصَ بِالْقِيَاسِ إِذَا كَانَ أَصْلُ الْقِيَاسِ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي خُصَّتْ عَنِ الْعُمُومِ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى الْوَقْفِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ ثَابِتَةً بِالتَّأْثِيرِ أَيْ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ جَازَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ وَإِلَّا فَلَا. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُؤَثِّرَةً فَلِأَنَّهَا نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ النَّصِّ الْخَاصِّ، فَكَانَتْ مُخَصِّصَةً لِلْعُمُومِ كَتَخْصِيصِهِ بِالنَّصِّ كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ، فَإِنَّمَا قُلْنَا بِامْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ بِهَا لِلْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ الْعَامَّ فِي مَحَلِّ التَّخْصِيصِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لَهُ أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا، فَإِنْ كَانَ رَاجِحًا امْتَنَعَ تَخْصِيصُهُ بِالْمَرْجُوحِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا فَلَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ التَّخْصِيصُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ رَاجِحًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالٍ مِنِ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَهُوَ أَنَّ الْعُمُومَ ظَاهِرٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ آحَادِ الصُّوَرِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَهُ، وَجِهَةُ ضَعْفِهِ غَيْرُ خَارِجَةٍ عَنِ احْتِمَالِ تَخْصِيصِهِ أَوْ كَذِبِ الرَّاوِي إِنْ كَانَ الْعَامُّ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ. وَأَمَّا احْتِمَالَاتُ ضَعْفِ الْقِيَاسِ فَكَثِيرَةٌ جِدًّا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِمَحَلِ الْمُعَارَضَةِ بِخُصُوصِهِ إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ الَّتِي يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الْكَذِبُ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهِ قَطْعِيًّا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنْبِطُ الْقِيَاسَ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ فَلَعَلَّهَا غَيْرُ مَا ظَنَّهُ الْقَائِسُ عِلَّةً وَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهَا، أَوْ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ فَأَثْبَتَهَا بِمَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِثْبَاتِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ مَوْجُودَةً فِيهِ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وُجِدَ فِي الْفَرْعِ مَانِعُ السَّبَبِ أَوْ مَانِعُ الْحُكْمِ، أَوْ فَاتَ شَرْطُ السَّبَبِ فِيهِ أَوْ شَرْطُ الْحُكْمِ، فَكَانَ الْعُمُومُ لِذَلِكَ رَاجِحًا. كَيْفَ وَإِنَّ الْعُمُومَ مِنْ جِنْسِ النُّصُوصِ، وَالنَّصُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ فِي جِنْسِهِ إِلَى الْقِيَاسِ، وَالْقِيَاسُ مُتَوَقِّفٌ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً بِالنَّصِّ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ بِالْإِجْمَاعِ فَالْإِجْمَاعُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى النَّصِّ، فَكَانَ الْقِيَاسُ مُتَوَقِّفًا عَلَى النَّصِّ لِذَلِكَ رَاجِحًا. وَلِذَلِكَ وَقَعَ الْقِيَاسُ مُؤَخَّرًا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَنِ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَيْثُ «قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا: " بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا تَتَقَدَّمَ السُّنَّةُ عَلَى الْكِتَابِ، غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي تَقْدِيمِ خَاصِّ السُّنَّةِ عَلَى عَامِّ الْكِتَابِ، فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ فِيمَا عَدَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ كُلُّهَا إِنْ لَمْ تُوجِبِ التَّرْجِيحَ فَلَا أَقَلَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ. وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَيَمْتَنِعُ تَخْصِيصُ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ. (1) فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ قَبْلَ وُجُودِ الْوَاقِفِيَّةِ، إِذِ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي التَّعْيِينِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِالْوَقْفِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الدَّلِيلَيْنِ عَنِ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَالْمَحْذُورُ فِيهِ فَوْقَ الْمَحْذُورِ فِي الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا، فَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى؛ لِأَنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِالْعُمُومِ لَزِمَ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ مُطْلَقًا. وَلَوْ عَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إِبْطَالُ الْعُمُومِ مُطْلَقًا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا عَدَا صُورَةِ التَّخْصِيصِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا وَتَعْطِيلِ الْآخَرِ. قُلْنَا: نَحْنُ لَا نَقُولُ بِالْوَقْفِ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ تَرْجِيحِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، وَبِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ لَا نُسَلِّمُ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى إِبْطَالِ الْوَقْفِ، إِلَّا أَنْ يُوجَدَ مِنْهُمُ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَلِهَذَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا يَقْطَعُ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ مُخَالِفِهِ مَعَ مَصِيرِهِ إِلَى نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ أَوْ إِثْبَاتِ مَا نَفَاهُ فَلِأَنْ لَا يَكُونَ قَاطِعًا بِإِبْطَالِهِ عِنْدَ تَوَقُّفِهِ فِي نَفْيِ مَا أَثْبَتَهُ أَوْ إِثْبَاتِ مَا نَفَاهُ أَوْلَى. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْعَمَلِ بِالْعُمُومِ، قُلْنَا فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا: الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي التَّرْجِيحِ فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْحُكْمُ بِالْوَقْفِ أَوِ التَّرْجِيحِ عَلَى حَسَبِ مَا يَظْهَرُ فِي نَظَرِهِ فِي آحَادِ الْوَقَائِعِ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالتَّرْجِيحَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّفَاوُتِ أَوِ التَّسَاوِي مِنْ غَيْرِ تَخْطِئَةٍ، إِذِ الْأَدِلَّةُ فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا ظَنِّيَّةٌ، غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ، فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ دُونَ الْقَطْعِيَّةِ خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. (2)   (1) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ التَّاسِعَةَ مِنْ مَسَائِلِ مَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ ص 118 ج 2. (2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 312 ج2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 وَيَجِبُ أَنْ نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي أَدِلَّةِ التَّخْصِيصِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ، أَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا سَبَقَ فَلَا خَفَاءَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا، بَلْ هُوَ مُبَايِنٌ لَهُ. وَأَمَّا مَنْ يَرَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَخْصِيصٌ فَهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَّخْصِيصِ عِنْدَهُ فَكُلُّ اسْتِثْنَاءٍ تَخْصِيصٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَخْصِيصٍ اسْتِثْنَاءً؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ التَّخْصِيصِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ أَيْضًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 [الصِّنْفُ السَّادِسُ فِي الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ] الصِّنْفُ السَّادِسُ فِي الْمُطْلَقِ (1) وَالْمُقَيَّدِ. أَمَّا الْمُطْلَقُ فَعِبَارَةٌ عَنِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ. فَقَوْلُنَا: (نَكِرَةٌ) احْتِرَازٌ عَنْ أَسْمَاءِ الْمَعَارِفِ وَمَا مَدْلُولُهُ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ أَوْ عَامٌّ مُسْتَغْرِقٌ. وَقَوْلُنَا: (فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ) احْتِرَازٌ عَنِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، فَإِنَّهَا تَعُمُّ جَمِيعَ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهَا، وَتَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ التَّنْكِيرِ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِكَ فِي مَعْرِضِ الْأَمْرِ " أَعْتِقْ رَقَبَةً " أَوْ مَصْدَرِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أَوِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ كَقَوْلِهِ: " سَأَعْتِقُ رَقَبَةً " وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِطْلَاقُ فِي مَعْرِضِ الْخَبَرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمَاضِي، كَقَوْلِهِ: " رَأَيْتُ رَجُلًا " ضَرُورَةَ تَعْيِنِهِ مِنْ إِسْنَادِ الرُّؤْيَةِ إِلَيْهِ. (2) وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: هُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَدْلُولٍ شَائِعٍ فِي جِنْسِهِ. (3) فَقَوْلُنَا: (لَفْظٌ) كَالْجِنْسِ لِلْمُطْلَقِ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُنَا: (دَالٌّ) احْتِرَازٌ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ. وَقَوْلُنَا: (عَلَى مَدْلُولٍ) لِيَعُمَّ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ.   (1) هَلِ الْأَمْرُ بِمُطْلَقِ الْمَاهِيَّةِ أَمْرٌ بِجُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا، ضَرُورَةَ أَنَّهَا كُلِّيٌّ وَلَا وُجُودَ لِلْكُلِّيِّ خَارِجَ الْأَذْهَانِ إِلَّا فِي الْجُزْئِيَّاتِ، أَوْ أَمْرٌ بِكُلِّ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا، لِإِشْعَارِ عَدَمِ التَّقْيِيدِ بِالتَّعْمِيمِ، أَوْ إِذْنٌ وَتَخْيِيرٌ فِي فِعْلِ كُلِّ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ، وَيَخْرُجُ الْمُكَلَّفُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْهَا كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، فِي ذَلِكَ خِلَافٌ. (2) انْظُرْ نَقْدَ صَاحِبِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ وَشَارِحِهِ لِلتَّعْرِيفَيْنِ، وَرَدِّ الْعَطَّارِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَيْهِمَا وَمَا نَقَلَهُ عَنِ الْعَلَّامَةِ طَاشَ كُبْرَى مِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَوْضُوعَ. (3) وَقِيلَ: الْمُطْلَقُ: مَا دَلَّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِلَا قَيْدٍ أَيْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَيْدٍ سَوَاءٌ وُجِدَ وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَمْ لَمْ يُوجَدْ، فَعَلَى التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي لَا يُسَمَّى اللَّفْظُ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ دُونَ نَظَرٍ إِلَى الْقَيْدِ مُطْلَقًا وَعَلَى الثَّالِثِ يُسَمَّى مُطْلَقًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 وَقَوْلُنَا: (شَائِعٌ فِي جِنْسِهِ) احْتِرَازٌ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ، وَمَا مَدْلُولُهُ مُعَيَّنٌ أَوْ مُسْتَغْرَقٌ. وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ. الْأَوَّلُ: مَا كَانَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى مَدْلُولٍ مُعَيَّنٍ، كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَهَذَا الرَّجُلُ وَنَحْوِهِ. الثَّانِي: مَا كَانَ مِنَ الْأَلْفَاظِ دَالًّا عَلَى وَصْفِ مَدْلُولِهِ الْمُطْلَقِ بِصِفَةٍ زَائِدَةٍ عَلَيْهِ كَقَوْلِكَ: " دِينَارٌ مِصْرِيٌّ، وَدِرْهَمٌ مَكِّيٌّ ". وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمُقَيَّدِ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فِي جِنْسِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ دِينَارٌ مِصْرِيٌّ وَدِرْهَمٌ مَكِّيٌّ، غَيْرَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُطْلَقِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَهُوَ مُطْلَقٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمُقَيَّدٌ مِنْ وَجْهٍ. وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، فَكُلُّ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مُخَصَّصَاتِ الْعُمُومِ مِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَالْمُزَيَّفِ، وَالْمُخْتَارِ ; فَهُوَ بِعَيْنِهِ جَارٍ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، فَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِهِ وَنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا. وَنُزِيدُ مَسْأَلَةً أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ إِذَا وَرَدَ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَلَا يَخْلُو. إِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا، أَوْ لَا يَخْتَلِفَ: فَإِنِ اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا. فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ حَمْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَا مَأْمُورَيْنِ أَوْ مَنْهِيَّيْنِ، أَوْ أَحَدُهُمَا مَأْمُورًا وَالْآخَرُ مَنْهِيًّا، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا أَوِ اخْتَلَفَ؛ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ مَا إِذَا قَالَ مَثَلًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ " أَعْتِقُوا رَقَبَةً " ثُمَّ قَالَ " لَا تُعْتِقُوا رَقَبَةً كَافِرَةً " فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الرَّقَبَةِ الْمُطْلَقَةِ بِالرَّقَبَةِ الْمُسْلِمَةِ. وَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ، فَإِنَّهَا سَهْلَةٌ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهُمَا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَتَّحِدَ سَبَبُهُمَا، أَوْ لَا يَتَّحِدَ: فَإِنِ اتَّحَدَ سَبَبُهُمَا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا عَلَى إِثْبَاتِهِمَا أَوْ نَفْيِهِمَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَمَا لَوْ قَالَ فِي الظِّهَارِ: " أَعْتِقُوا رَقَبَةً "، ثُمَّ قَالَ: " أَعْتِقُوا رَقَبَةً مُسْلِمَةً " فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَنْ عَمِلَ بِالْمُقَيَّدِ فَقَدْ وَفَّى بِالْعَمَلِ بِدَلَالَةِ الْمُطْلَقِ، وَمَنْ عَمِلَ بِالْمُطْلَقِ لَمْ يَفِ بِالْعَمَلِ بِدَلَالَةِ الْمُقَيَّدِ، فَكَانَ الْجَمْعُ هُوَ الْوَاجِبُ وَالْأَوْلَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 فَإِنْ قِيلَ بِطَرِيقِ الشُّبْهَةِ إِذَا كَانَ حُكْمُ الْمُطْلَقِ إِمْكَانَ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ، بِمَا شَاءَ الْمُكَلَّفُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فَالْعَمَلُ بِالْمُقَيَّدِ مِمَّا يُنَافِي مُقْتَضَى الْمُطْلَقِ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ الْمُطْلَقِ، وَإِجْرَاءُ الْمُقَيَّدِ عَلَى ظَاهِرِهِ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ الْمُقَيَّدِ بِحَمْلِهِ عَلَى النَّدْبِ وَإِجْرَاءِ الْمُطْلَقِ عَلَى إِطْلَاقِهِ. قُلْنَا: بَلِ التَّقْيِيدُ أَوْلَى مِنَ التَّأْوِيلِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ، وَلَا كَذَلِكَ فِي التَّأْوِيلِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُطْلَقَ إِذَا حُمِلَ عَلَى الْمُقَيَّدِ، فَالْعَمَلُ بِهِ فِيهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُوفِيًا لِلْعَمَلِ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَدَّاهُ قَبْلَ وُرُودِ التَّقْيِيدِ، كَانَ قَدْ عَمِلَ بِاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ الْمُقَيَّدِ وَصَرْفِهِ عَنْ جِهَةِ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِفِعْلِ أَيِّ وَاحِدٍ كَانَ مِنَ الْآحَادِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ دَلَالَةً عَلَيْهِ بِوَضْعِهِ لُغَةً، بِخِلَافِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُقَيَّدُ مِنْ صِفَةِ التَّقْيِيدِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَحْذُورَ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ لُغَةً أَعْظَمُ مِنْ صَرْفِهِ عَمَّا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ لُغَةً. وَأَمَّا إِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى نَفْيِهِمَا أَوْ نَهْيٍ عَنْهُمَا، كَمَا لَوْ قَالَ مَثَلًا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ: " لَا تَعْتِقُ مُكَاتَبًا كَافِرًا " فَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِي الْعَمَلِ بِمَدْلُولِهِمَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي النَّفْيِ؛ إِذْ لَا تَعَذُّرَ فِيهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ سَبَبُهُمَا مُخْتَلِفًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ. فَنُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَنْزِيلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ الْأَصْحَابُ فِي تَأْوِيلِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى التَّقْيِيدِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إِذَا وُجِدَ بَيْنَهُمَا عِلَّةٌ جَامِعَةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلْإِلْحَاقِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَأَمَّا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وَلْنَذْكُرْ حُجَّةَ كُلِّ فَرِيقٍ، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. أَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّقْيِيدِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَهِيَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَحَدٍّ فِي ذَاتِهِ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ فَإِذَا نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَلِهَذَا حُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالذَّاكِرَاتِ} عَلَى قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا} مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ خَارِجٍ. وَهَذَا مِمَّا لَا اتِّجَاهَ لَهُ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى بِالنَّفْسِ، أَوِ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا لَا تَعَدُّدَ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّقِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِأَحَدِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، أَوِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِالْآخَرِ وَإِلَّا كَانَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ بِبَعْضِ الْمُخْتَلِفَاتِ أَمْرًا وَنَهْيًا بِبَاقِي الْمُخْتَلِفَاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ مُتَنَاقِضٌ، بَلْ وَكَانَ يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالصَّوْمِ الْمُقَيَّدِ فِي الْحَجِّ بِالتَّفْرِيقِ، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وَبِالتَّتَابُعِ فِي الظِّهَارِ حَيْثُ قَالَ {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أَنْ يَتَقَيَّدَ الصَّوْمُ الْمُطْلَقُ فِي الْيَمِينِ، إِمَّا بِالتَّتَابُعِ أَوِ التَّفْرِيقِ، وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَا أَوْلَوِيَّةَ. كَيْفَ وَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، إِبْطَالُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى أَحَدِ الْمُخْتَلِفَيْنِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى الْآخَرِ. وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ، فَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ غَيْرُ مُتَّحِدَةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَلَالَةِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ، دَلَالَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَالِ الَّذِي قَدَّمْنَا لُزُومَهُ فِي الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ. (1) وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ حَمْلِ الذَّاكِرَاتِ عَلَى الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَدَلِيلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَالذَّاكِرَاتِ} مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا}   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 153 ج1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 ) وَلَا اسْتِقْلَالَ لَهُ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى مَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَمُشَارِكٌ لَهُ فِي حُكْمِهِ. وَأَمَّا حُجَّةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا امْتَنَعَ التَّقْيِيدُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لِمَا سَبَقَ. فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ وَلَا نَصَّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَالْقِيَاسُ يَلْزَمُ مِنْهُ رَفْعُ مَا اقْتَضَاهُ الْمُطْلَقُ مِنَ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ، مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَيَكُونُ نَسْخًا، وَنَسْخُ النَّصِّ لَا يَكُونُ بِالْقِيَاسِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقِيَاسِ نَسْخُ النَّصِّ الْمُطْلَقِ، بَلْ تَقْيِيدُهُ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، وَذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ عِنْدَكُمْ، فَكَذَلِكَ التَّقْيِيدُ. كَيْفَ وَإِنَّ لَفْظَ (الرَّقَبَةِ) مُطْلَقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّلِيمَةِ وَالْمَعِيبَةِ، وَقَدْ كَانَ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَيْضًا الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالْمَعِيبَةِ، وَقَدْ شَرَطْتُمْ صِفَةَ السَّلَامَةِ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. وَإِنْ كَانَ بِالْقِيَاسِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ نَسْخًا، أَوْ لَا يَكُونَ نَسْخًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُكُمْ: إِنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا، فَقَدْ بَطَلَ قَوْلُكُمْ: إِنَّ رَفْعَ حُكْمِ الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ يَكُونُ نَسْخًا. وَأَمَّا حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّقْيِيدِ، بِنَاءً عَلَى الْقِيَاسِ فَالْوَجْهُ فِي ضَعْفِهِ مَا سَبَقَ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ فَعَلَيْكَ بِنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ مُؤَثِّرًا أَيْ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالتَّقْيِيدِ، بِنَاءً عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِنَ الْحُكْمِ الْمُقَيَّدِ فَلَا، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 [الصِّنْفُ السَّابِعُ فِي الْمُجْمَلِ] [مُقَدِّمَةُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ] وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ. وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَمْعِ، وَمِنْهُ يُقَالُ " أَجْمَلَ الْحِسَابَ " إِذَا جَمَعَهُ وَرَفَعَ تَفَاصِيلَهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُحَصَّلُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: " جَمَّلْتُ الشَّيْءَ إِذَا حَصَّلْتَهُ " هَكَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُجْمَلِ فِي اللُّغَةِ. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ شَيْءٌ، وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ وَلَا جَامِعٍ. أَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ، فِلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ اللَّفْظُ الْمُهْمَلُ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ، لِأَنَّ الْإِجْمَالَ وَالْبَيَانَ مِنْ صِفَاتِ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ، وَالْمُهْمَلُ لَا دَلَالَةَ لَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُنَا مُسْتَحِيلٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، لِأَنَّ مَدْلُولَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ، فَلِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُجْمَلَ الْمُتَرَدِّدَ بَيْن مَحَامِلَ، قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ وَهُوَ انْحِصَارُ الْمُرَادِ مِنْهُ فِي بَعْضِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا. وَكَذَلِكَ مَا هُوَ مُجْمَلٌ مِنْ وَجْهٍ، وَمُبَيَّنٌ مِنْ وَجْهٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ، فَإِنَّهُ مُجْمَلٌ، وَإِنْ كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ الَّذِي لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مُجْمَلٌ، فَفِيهِ تَعْرِيفُ الْمُجْمَلِ بِالْمُجْمَلِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ مُمْتَنِعٌ. كَيْفَ وَإِنَّ الْإِجْمَالَ كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي دَلَالَةِ الْأَفْعَالِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَجْلِسْ جِلْسَةَ التَّشَهُّدِ الْوَسَطِ، فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ السَّهْوِ الَّذِي لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْجِلْسَةِ، وَبَيْنَ التَّعَمُّدِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ تَرْكِهَا. وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَالُ قَدْ يَعُمُّ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 فَتَقْيِيدُ حَدِّ الْمُجْمَلِ بِاللَّفْظِ يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ جَامِعًا، وَبِهَذَا يَبْطُلُ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي حَدِّ الْمُجْمَلِ مِنْ أَنَّهُ اللَّفْظُ الصَّالِحُ لِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ الَّذِي لَا يَتَعَيَّنُ مَعْنَاهُ لَا بِوَضْعِ اللُّغَةِ وَلَا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ. وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ فِيهِ حَدَّيْنِ آخَرَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ (الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ مِنْهُ) وَيَبْطُلُ بِالْأَلْفَاظِ الْمُهْمَلَةِ، وَبِاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّهُ إِذَا أُرِيدَ بِهِ جِهَةُ مَجَازِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ. الثَّانِي: قَالَ: (الْمُجْمَلُ هُوَ مَا أَفَادَ شَيْئًا مِنْ جُمْلَةِ أَشْيَاءَ هُوَ مُتَعَيِّنٌ فِي نَفْسِهِ، وَاللَّفْظُ لَا بِعَيْنِهِ) ، قَالَ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِكَ: " اضْرِبْ رَجُلًا " فَإِنَّ مَدْلُولَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فِي نَفْسِهِ، وَأَيُّ رَجُلٍ ضَرَبْتَهُ جَازَ، وَلَا كَذَلِكَ لَفْظُ الْقُرْءِ فَإِنَّ مَدْلُولَهُ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ مِنَ الطُّهْرِ أَوِ الْحَيْضِ، وَفِيهِ إِشْعَارٌ بِتَقْيِيدِ الْحَدِّ بِاللَّفْظِ حَيْثُ قَالَ: (وَاللَّفْظُ لَا بِعَيْنِهِ) فَلَا يَكُونُ جَامِعًا بِخُرُوجِ الْإِجْمَالِ فِي دَلَالَةِ الْفِعْلِ عَنْهُ، كَمَا حَقَّقْنَاهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ التَّقْيِيدُ بِاللَّفْظِ، لَوْ أُرِيدَ تَحْدِيدُ الْمُجْمَلِ اللَّفْظِيِّ خَاصَّةً. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: (الْمُجْمَلُ هُوَ مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ) . فَقَوْلُنَا: (مَا لَهُ دَلَالَةٌ) لِيَعُمَّ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُجْمَلَةِ. وَقَوْلُنَا: (عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَا دَلَالَةَ لَهُ إِلَّا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَوْلُنَا: (لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ) احْتِرَازٌ عَنِ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فِي مَعْنًى وَبِعِيدٌ فِي غَيْرِهِ، كَاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي شَيْءٍ وَمَجَازٌ فِي شَيْءٍ عَلَى مَا عُرِفَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي لَفْظٍ مُفْرَدٍ مُشْتَرَكٍ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ تَعْمِيمِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ، كَالْعَيْنِ، لِلذَّهَبِ وَالشَّمْسِ، وَالْمُخْتَارِ لِلْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، أَوْ ضِدَّيْنِ كَالْقُرْءِ، لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ. (1)   (1) انْظُرِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَالضِّدَّيْنِ فِي التَّعْلِيقِ ص 173 - 174 ج 2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وَقَدْ يَكُونُ فِي لَفْظٍ مُرَكَّبٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فَإِنَّ هَذِهِ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ التَّرَدُّدِ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى مَا تَقَدَّمَهُ كَقَوْلِكَ: " كُلُّ مَا عَلِمَهُ الْفَقِيهُ فَهُوَ كَمَا عَلِمَهُ " فَإِنَّ الضَّمِيرَ فِي (هُوَ) مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْعَوْدِ إِلَى الْفَقِيهِ وَإِلَى مَعْلُومِ الْفَقِيهِ، وَالْمَعْنَى يَكُونُ مُخْتَلِفًا، حَتَّى أَنَّهُ إِذَا قِيلَ: بِعَوْدِهِ إِلَى الْفَقِيهِ، كَانَ مَعْنَاهُ فِي الْفَقِيهِ لِمَعْلُومِهِ، وَإِنْ عَادَ إِلَى مَعْلُومِهِ كَانَ مَعْنَاهُ. فَمَعْلُومُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عُلِمَ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ جَمْعِ الْأَجْزَاءِ وَجَمْعِ الصِّفَاتِ، كَقَوْلِكَ: " الْخَمْسَةُ زَوْجٌ وَفَرْدٌ " وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ، حَتَّى أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِهِ جَمْعُ الْأَجْزَاءِ، كَانَ صَادِقًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ جَمْعُ الصِّفَاتِ، كَانَ كَاذِبًا. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بَسَبَبِ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ {وَالرَّاسِخُونَ} مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْعَطْفِ وَالِابْتِدَاءِ، وَالْمَعْنَى يَكُونُ مُخْتَلِفًا. (1) وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَرَدُّدِ الصِّفَةِ (2) وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ زَيْدٌ طَبِيبًا غَيْرَ مَاهِرٍ   (1) الِاخْتِلَافُ بِالْوَقْفِ والِابْتِدَاءِ فِي الْآيَةِ فَرْعُ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُرَادِ بِالْمُتَشَابِهِ وَبِتَأْوِيلِهِ، وَالْجَمِيعُ مِنَ اخْتِلَافِ التَّنَوُّعِ لَا التَّضَادِّ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُتَشَابِهِ حَقِيقَةُ اللَّهِ وَكُنْهُ صِفَاتِهِ وَكُنْهُ الرُّوحِ وَنَعِيمُ الْجَنَّةِ، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، كَانَ تَأْوِيلُهُ بِمَعْنَى مَآلِهِ وَحَقِيقَتِهِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَتَكُونُ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهَا اسْمِيَّةٌ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالْمُتَشَابِهِ مَا اشْتَبَهَ مَعْنَاهُ وَخَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ، كَانَ تَأْوِيلُهُ بِمَعْنَى تَفْسِيرِهِ. وَعَلَيْهِ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى لَفْظِ الْعِلْمِ، وَتَكُونُ الْوَاوُ عَاطِفَةً وَجُمْلَةُ (يَقُولُونَ) حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: (وَالرَّاسِخُونَ) وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا يَعْلَمُ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَةِ إِلَّا مَنْ أَنْزَلَهَا وَإِلَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قَائِلِينَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ تَرَدُّدٌ يُوجِبُ الْإِجْمَالَ وَيَمْنَعُ مِنَ اعْتِقَادِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْإِجْمَالِ، بَلِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ قِرَاءَتَيْنِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَعْنًى صَحِيحٌ. (2) مَعْنَاهُ تَرَدُّدُ اللَّفْظِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا وَخَبَرًا كَمَا فِي الْمِثَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 فِي الطِّبِّ وَهُوَ مَاهِرٌ فِي غَيْرِهِ، فَقُلْتُ: " زِيدٌ طَبِيبٌ مَاهِرٌ " فَإِنَّ قَوْلَكَ: (مَاهِرٌ) مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَوْنُهُ مَاهِرًا فِي الطِّبِّ فَيَكُونُ كَاذِبًا، وَبَيْنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرُهُ فَيَكُونُ صَادِقًا. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَرَدُّدِ اللَّفْظِ بَيْنَ مَجَازَاتِهِ الْمُتَعَدِّدَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِسَبَبِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِصُوَرٍ مَجْهُولَةٍ، كَمَا لَوْ قَالَ: " اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ " ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: " بَعْضُهُمْ غَيْرُ مُرَادٍ لِي مِنْ لَفْظِي " (1) فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مُجْمَلًا غَيْرَ مَعْلُومٍ، أَوْ بِصِفَةٍ مَجْهُولَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْحِلِّ بِالْإِحْصَانِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَا هُوَ الْإِحْصَانُ، مُوجِبٌ لِلْإِجْمَالِ فِيمَا أُحِلَّ (2) أَوْ بِاسْتِثْنَاءٍ مَجْهُولٍ كَقَوْلِهِ: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (3) فَإِنَّهُ مَهْمَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مُجْمَلًا، فَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ. وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ إِخْرَاجِ اللَّفْظِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عَمَّا وُضِعَ لَهُ فِي اللُّغَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ، قَبْل بَيَانِهِ لَنَا، كَقَوْلِهِ: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وَ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فَإِنَّهُ يَكُونُ مُجْمَلًا لِعَدَمِ إِشْعَارِ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِعَيْنِهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الْمَخْصُوصَةِ؛ لِأَنَّهُ (4) مُجْمَلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُوبِ.   (1) هَذَا مِثَالٌ فَرْضِيٌّ لَا يَقَعُ مِثْلُهُ فِي التَّكْلِيفِ. (2) الْإِحْصَانُ وَالسِّفَاحُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَنَّ الْإِحْصَانَ هُنَا بِمَعْنَى الْعِفَّةِ، وَالسِّفَاحَ بِمَعْنَى الزِّنَا. فَمَعْنَى: " مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ " أَعِفَّاءُ بِنِكَاحِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ غَيْرُ زُنَاةٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ سِيَاقُ الْكَلَامِ وَعُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، فَلَا خَفَاءَ فِي الْمَعْنَى وَلَا إِجْمَالَ فِي الْآيَةِ. (3) (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ الْمُسْتَثْنَى فِي آيَةِ (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ، وَآيَةِ (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وَغَيْرِهَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَآيَةِ (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ وَهُمَا قَبْلَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ نُزُولًا. وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولًا وَلَا الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُجْمَلًا. ضَرُورَةَ أَنَّ مَا يُتْلَى مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ قَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. (4) لِأَنَّهُ فِيهِ تَحْرِيفٌ. وَالصَّوَابُ: لَا أَنَّهُ ; بِحَرْفِ النَّفْيِ لَا بِحَرْفِ التَّعْلِيلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 هَذَا كُلُّهُ فِي الْأَقْوَالِ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. وَتَمَامُ كَشْفِ الْغِطَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِمَسَائِلَ وَهِيَ ثَمَانٍ. [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ الْمُضَافَيْنِ إِلَى الْأَعْيَانِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى. الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ أَصْحَابُنَا وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَالْجُبَّائِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ الْمُضَافَيْنِ إِلَى الْأَعْيَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} لَا إِجْمَالَ فِيهِ، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْإِجْمَالِ بِأَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ الْمَقْدُورَةِ، وَالْأَعْيَانُ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لَنَا، فَلَا تَكُونُ هِيَ مُتَعَلَّقَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ يَكُونُ هُوَ مُتَعَلَّقَ ذَلِكَ، حَذَرًا مِنْ إِهْمَالِ الْخِطَابِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ تَقْلِيلًا لِلْإِضْمَارِ الْمُخَالِفِ لِلْأَصْلِ. وَعَلَى هَذَا، فَيَمْتَنِعُ إِضْمَارُ كُلِّ مَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِالْعَيْنِ، مِنَ الْأَفْعَالِ وَلَيْسَ إِضْمَارُ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ، لِعَدَمِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْيِينِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ عَلَى تَعْيِينِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ، لَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَيِّنًا مِنْ تَعَلُّقِ التَّحْرِيمِ بِأَيِّ عَيْنٍ كَانَتْ وَهُوَ مُحَالٌ. قَالَ النَّافُونَ: وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ تَعَلُّقِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بِنَفْسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ مَتَى يَحْتَاجُ إِلَى الْإِضْمَارِ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ فِي الْفِعْلِ الْمَقْصُودِ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ كُلَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى عُرْفِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَمَارَسَ أَلْفَاظَ الْعَرَبِ لَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ " حَرَّمْتُ عَلَيْكَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَحَرَّمْتُ عَلَيْكَ النِّسَاءَ " سِوَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَحْرِيمِ وَطْءِ النِّسَاءِ. وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، إِمَّا بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، أَوْ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ: وَالْإِجْمَالُ مُنْتَفٍ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِهَذَا كَانَ الْإِجْمَالُ مُنْتَفِيًا عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ: " رَأَيْتُ دَابَّةً " لَمَّا كَانَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ. وَعَلَى هَذَا فَقَدَ خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي أَيْضًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 سَلَّمْنَا: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ مِنْ إِضْمَارِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَيْنِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا التَّحْلِيلُ وَالتَّحْرِيمُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ زِيَادَةَ الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. قُلْنَا: فَإِضْمَارُ الْبَعْضِ إِمَّا إِلَى الْإِجْمَالِ أَوْ لَا يُفْضِي إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَقَدْ بَطَلَ مَذْهَبُكُمْ وَإِنْ كَانَ يُفْضِي إِلَى الْإِجْمَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ الْكُلِّ، حَذَرًا مِنْ تَعْطِيلِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ. فَلَئِنْ قَالُوا: إِضْمَارُ الْبَعْضِ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى الْإِجْمَالِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَعْطِيلِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ مُطْلَقًا، لِإِمْكَانِ مَعْرِفَةِ تَعْيِينِ مَدْلُولِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَأَمَا مَحْذُورُ إِضْمَارِ كُلِّ التَّصَرُّفَاتِ فَلَازِمٌ مُطْلَقًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْتِزَامَ الْمَحْذُورِ الدَّائِمِ أَعْظَمُ مِنَ الْتِزَامِ الْمَحْذُورِ الَّذِي لَا يَدُومُ. قُلْنَا: بَلِ الْتِزَامُ مَحْذُورِهِ إِضْمَارُ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ أَوْلَى مِنَ الْتِزَامِ مَحْذُورِ الْإِجْمَالِ فِي اللَّفْظِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِضْمَارَ فِي اللُّغَةِ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنَ اسْتِعْمَالِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمَحْذُورَ فِي الْإِضْمَارِ أَقَلُّ، لَمَا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ أَكْثَرَ. الثَّانِي: أَنَّهُ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُودِ الْإِضْمَارِ فِي اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُودِ الْإِجْمَالِ فِيهِمَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحْذُورَ الْإِضْمَارِ أَقَلُّ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا، وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» ) (1) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى إِضْمَارِ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالشُّحُومِ وَإِلَّا لَمَا لَحِقَهُمُ اللَّعْنُ بِبَيْعِهَا. وَلَوْ كَانَ الْإِجْمَالُ أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ الْكُلِّ، لَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْأَوْلَى.   (1) الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِلَفْظِ (لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ عَلَى قَوْمٍ أَكْلَ شَيْءٍ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ ثَمَنَهُ) ، وَقَدْ رَوَاهُ السِّتَّةُ ضِمْنَ حَدِيثٍ طَوِيلٍ، وَفِيهِ (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 [الْمَسْأَلَةُ الثانية قَوْلَهُ تَعَالَى وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ. ذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ) مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَيَحْتَمِلُ مَسْحَ بَعْضِهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَكَانَ مُجْمَلًا. قَالُوا: وَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ» ، فَهُوَ بَيَانٌ لِمُجْمَلِ الْآيَةِ. وَاتَّفَقَ النَّافُونَ عَلَى نَفْيِ الْإِجْمَالِ، لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِنَّهُ بِحُكْمِ وَضْعِ اللُّغَةِ ظَاهِرٌ فِي مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَابْنِ جِنِّيٍّ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ (الْبَاءَ) فِي اللُّغَةِ أَصْلٌ فِي الْإِلْصَاقِ، كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى الْمَسْحِ وَقَرَنَتْهُ بِالرَّأْسِ، وَاسْمُ الرَّأْسِ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّهِ لَا بَعْضِهِ، وَلِهَذَا، وَلَا يُقَالُ لِبَعْضِ الرَّأْسِ رَأْسٌ، فَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضِيًا لِمَسْحِ جَمِيعِهِ لُغَةً. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ هُوَ الْحَقَّ بِالنَّظَرِ إِلَى أَصْلِ وَضْعِ اللُّغَةِ، غَيْرَ أَنَّ عُرْفَ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ الطَّارِئِ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ حَاكِمٌ عَلَيْهِ، وَالْعُرْفُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي اطِّرَادِ الِاعْتِيَادِ جَابِرٌ بِاقْتِضَاءِ إِلْصَاقِ الْمَسْحِ بِالَّلمْسِ فَقَطْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ؛ وَلِهَذَا فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ امْسَحْ يَدَكَ بِالْمِنْدِيلِ لَا يُفْهَمُ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إِلْصَاقَ يَدِهِ بِجَمِيعِ الْمِنْدِيلِ بَلْ إِنْ شَاءَ بِكُلِّهِ، وَإِنْ شَاءَ بِبَعْضِهِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: " مَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ " فَالسَّامِعُونَ يُجَوِّزُونَ أَنَّهُ مَسَحَ بِكُلِّهِ وَبِبَعْضِهِ، غَيْرَ فَاهِمِينَ لُزُومَ وُقُوعِ الْمَسْحِ بِالْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ، بَلْ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ " بَيْنَ الْكُلِّ وَالْبَعْضِ. وَهُوَ مُطْلَقُ مَسْحٍ (1) وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ فِي الْعُرْفِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالْإِجْمَالِ. لَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ الْأَصْلِيِّ. وَلَا بِالنَّظَرِ إِلَى عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ.   (1) يَظْهَرُ لِي فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) وَقَوْلُ الْقَائِلِ: امْسَحْ يَدكَ بِالْمِنْدِيلِ، وَمَسَحْتُ يَدِي بِالْمِنْدِيلِ، فَإِنَّ عُرْفَ الِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ بِالْخِطَابِ فِي الْآيَةِ إِلَى مَسْحِ الرَّأْسِ، وَالْعُضْوُ الْمَاسِحُ وَسِيلَةٌ، وَأَنَّ الْقَصْدَ فِي طَلَبِ مَسْحِ الْيَدِ بِالْمِنْدِيلِ وَالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ إِلَى مَسْحِ الْيَدِ، وَالْمِنْدِيلُ وَسِيلَةٌ، فَالْمِنْدِيلُ نَظِيرُ الْعُضْوِ الْمَاسِحِ، كِلَاهُمَا آلَةٌ لِلْمَسْحِ لَمْ تُقْصَدْ بِهِ لِنَفْسِهَا، وَالْيَدُ فِي الْمِثَالَيْنِ نَظِيرُ الرَّأْسِ فِي الْآيَةِ وَكِلَاهُمَا مَقْصُودٌ بِالْمَسْحِ، وَكُلٌّ مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ وَعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى تَعْمِيمِهِمَا بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 [الْمَسْأَلَةُ الثالثة قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا إِجْمَالَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» . (1) وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: إِنَّهُ مُجْمَلٌ، مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ اللَّفْظَ بِوَضْعِهِ لُغَةً يَقْتَضِي رَفْعَ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ مَعَ فَرْضِ وُقُوعِهِ فَيُجَلُّ مَنْصِبُ النَّبِيِّ عَنْ نَفْيِهِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يُضْمِرَ نَفْيَ جَمِيعِ أَحْكَامِهِ أَوْ بَعْضِهَا، لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْإِضْمَارَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَيْهِ لِدَفْعِ الضَّرُورَةِ اللَّازِمَةِ مِنْ تَعْطِيلِ الْعَمَلِ بِاللَّفْظِ، فَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ فِيهِ عَلَى أَقَلِّ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ وَهُوَ بَعْضُ الْأَحْكَامِ. كَيْفَ وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ إِضْمَارُ نَفْيِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، لِأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا لُزُومُ الضَّمَانِ وَقَضَاءُ الْعِبَادَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْفِيٍّ بِالْإِجْمَاعِ. ثُمَّ ذَلِكَ الْحُكْمُ الْمُضْمَرُ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِتَعْيِينِهِ لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِجْمَالُ. قَالَ النَّافُونَ لِلْإِجْمَالِ: وَإِنْ تَعَذَّرَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى رَفْعِ عَيْنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْإِضْمَارُ إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ ظَاهِرًا بِعُرْفِ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعِقَابِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَلِهَذَا فَإِنَّ كُلَّ مَنْ عَرَفَ عُرْفَ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَتَشَكَّكُ وَلَا يَتَرَدَّدُ عِنْدَ سَمَاعِهِ قَوْلَ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ " رَفَعْتُ عَنْكَ الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ " فِي أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعِقَابِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِيهِ، إِمَّا بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، أَوِ الْعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِيِّ. وَذَلِكَ لَا إِجْمَالَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ.   (1) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ ثَوْبَانَ بِلَفْظِ (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) وَرَمَزَ لَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرُمُوزِ الصِّحَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ لَارْتَفَعَ عَنْهُ الضَّمَانُ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤَاخَذَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ. قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الضَّمَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ ضَمَانٌ عُقُوبَةٌ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَلَيْسَا أَهْلًا لِلْعُقُوبَةِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْمُضْطَرِّ فِي الْمَخْمَصَةِ إِذَا أَكَلَ مَالَ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَكْلَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ حِفْظًا لِنَفْسِهِ، وَالْوَاجِبُ لَا عُقُوبَةَ عَلَى فِعْلِهِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ رَمَى إِلَى صَفِّ الْكُفَّارِ فَأَصَابَ مُسْلِمًا، مَعَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالرَّمْيِ، وَهُوَ مُثَابٌ عَلَيْهِ. الثَّانِي: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عِقَابٌ، لَكِنَّ غَايَتَهُ لُزُومُ تَخْصِيصِ عُمُومِ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِ كُلِّ عِقَابٍ، وَذَلِكَ أَسْهَلُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِجْمَالِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِطَهُورٍ» " (1) ، " «وَلَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» " (2) ، " «وَلَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» " (3) ، " «وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» " (4) وَنَحْوُهُ.   (1) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا طَهُورَ لَهُ) وَفِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِ (لَا يَقْبَلُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ) . (2) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ بِلَفْظِ (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ) . (3) رَوَاهُ الْخَمْسَةُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ بِلَفْظِ (مَنْ لَمْ يَجْمَعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ) وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي وَقْفِهِ وَرَفْعِهِ: فَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَنُقِلَ فِي الْعِلَلِ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ خَطَأٌ، وَهُوَ حَدِيثٌ فِيهِ اضْطِرَابٌ، وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفٌ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: الصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ. (4) وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَقْفَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 فَمَذْهَبُ الْكُلِّ أَنَّهُ لَا إِجْمَالَ فِيهِ، خِلَافًا لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ فَإِنَّهُمَا قَالَا بِإِجْمَالِهِ لِأَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ دَخَلَ عَلَى هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ مَعَ تَحَقُّقِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ حُكْمٍ يَلْحَقُ، وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لَا إِجْمَالَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الشَّارِعَ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ عُرْفٌ أَوْ لَا عُرْفَ لَهُ فِيهَا، بَلْ هِيَ مُنَزَّلَةٌ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ. فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ، فَيَجِبُ تَنْزِيلُ كَلَامِ الشَّارِعِ عَلَى عُرْفِهِ، إِذِ الْغَالِبُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُنَاطِقُنَا فِيمَا لَهُ فِيهِ عُرْفٌ بِعُرْفِهِ، فَيَكُونُ لَفْظُهُ مُنَزَّلًا عَلَى نَفْيِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَنَفْيُ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ مُمْكِنٌ. وَالْأَصْلُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا، فَلَا إِجْمَالَ، وَإِنْ كَانَ مُسَمَّى هَذِهِ الْأُمُورِ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ غَيْرَ مَنْفِيٍّ. وَإِنَّ قِيلٍ بِالثَّانِي فَالْإِجْمَالُ أَيْضًا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ ظَاهِرًا بِعُرْفِ اسْتِعْمَالِ أَهْلِ اللُّغَةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي نَفْيِ الْفَائِدَةِ وَالْجَدْوَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُتَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ نَفْيِ كُلِّ فِعْلٍ كَانَ مُتَحَقِّقَ الْوُجُودِ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ فَائِدَتِهِ وَجَدْوَاهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: " لَا عِلْمَ إِلَّا مَا نَفَعَ، وَلَا كَلَامَ إِلَّا مَا أَفَادَ، وَلَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَلَا طَاعَةَ إِلَّا لَهُ، وَلَا بَلَدَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ، " إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ النَّفْيُ مَحْمُولًا عَلَى نَفْيِ الْفَائِدَةِ وَالْجَدْوَى فَلَا إِجْمَالَ فِيهِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا عُرْفَ لِلشَّارِعِ، وَلَا لِأَهْلِ اللُّغَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْإِضْمَارِ غَيْرَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَا خُرُوجَ لِلْمُضْمَرِ هَاهُنَا عَنِ الصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ظُهُورِهِ فِي نَفْيِ الصِّحَّةِ وَالْكَمَالِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى النَّفْيِ لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: " لَا صَلَاةَ، لَا صَوْمَ إِلَّا بِكَذَا " فَقَدْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ أَصْلِ الْفِعْلِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَعَلَى صِفَاتِهِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ تَعَيَّنَ الْعَمَلُ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ قَدْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْعَمَلِ وَعَدَمِهِ، فَيَجِبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَمْلُهُ عَلَى أَقْرَبِ الْمَجَازَاتِ الشَّبِيهَةِ بِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُشَابَهَةَ الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا كَامِلٍ لِلْفِعْلِ الْمَعْدُومِ أَكْثَرُ مِنْ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ الَّذِي نُفِيَ عَنْهُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الزِّيَادَةُ فِي الْإِضْمَارِ وَالتَّجَوُّزُ الْمُخَالِفُ لِلْأَصْلِ. الثَّانِي: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى نَفْي الْكَمَالِ دُونَ الصِّحَّةِ مُسْتَيْقَنٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الصِّحَّةِ نَفْيُ الْكَمَالِ، وَلَا عَكْسَ، وَإِذَا تَقَابَلَتِ الِاحْتِمَالَاتُ لَزِمَ الْإِجْمَالُ. قُلْنَا: بَلِ التَّرْجِيحُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْطِيلُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَلِأَنَّهُ عَلَى وَفْقِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى خِلَافِهِ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا، فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ". وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّارِعِ فِيهِ عُرْفٌ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، فَعُرْفُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي نَفْيِهِ نَفْيُ الْفَائِدَةِ وَالْجَدْوَى، كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَا إِجْمَالَ فِيهِ أَيْضًا، خِلَافًا لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ) فَقَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ إِنَّ لَفْظَ الْقَطْعِ وَالْيَدِ مُجْمَلٌ. أَمَّا الْإِجْمَالُ فِي الْقَطْعِ فَلِأَنَّهُ يَصْدُقُ إِطْلَاقُهُ عَلَى بَيْنُونَةِ الْعُضْوِ مِنَ الْعُضْوِ، وَعَلَى شَقِّ الْجِلْدِ الظَّاهِرِ مِنَ الْعُضْوِ بِالْجَرْحِ مِنْ غَيْرِ إِبَانَةٍ لِلْعُضْوِ. وَلِذَلِكَ يُقَالُ عِنْدَمَا إِذَا جَرَحَ يَدَهُ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ، كَبَرْيِ الْقَلَمِ وَغَيْرِهِ " قَطَعَ يَدَهُ " وَأَمَّا الْإِجْمَالُ فِي الْيَدِ، فَلِأَنَّ لَفْظَ الْيَدِ يُطْلَقُ عَلَى جُمْلَتِهَا إِلَى الْمَنْكِبِ، وَعَلَيْهَا إِلَى الْمِرْفَقِ، وَعَلَيْهَا إِلَى الْكُوعِ، وَلَيْسَ أَحَدُ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ أَظْهَرَ مِنَ الْآخَرِ، فَكَانَ لَفْظُ الْيَدِ وَالْقَطْعُ مُجْمَلًا. وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى خِلَافِهِ مُتَمَسِّكِينَ فِي ذَلِكَ بِالْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ: فَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ لَفْظِ الْيَدِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَحَامِلِ، وَكَذَلِكَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْقَطْعِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ أَوْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَعْضِ مَجَازٌ فِي الْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا، أَوْ مُتَوَاطِئًا: الْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِجْمَالُ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ، فَلَيْسَ بِمُجْمَلٍ. كَيْفَ وَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الِاشْتِرَاكُ الْأَصْلَ، إِلَّا أَنَّ الِاحْتِمَالَاتِ ثَلَاثَةٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَا إِجْمَالَ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ مِنْهَا. وَهُمَا حَالَةُ التَّوَاطُؤِ وَالتَّجَوُّزِ فِي أَحَدِهِمَا، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِجْمَالُ عَلَى تَقْدِيرِ الِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ مُتَّحِدٌ، وَوُقُوعُ احْتِمَالٍ مِنَ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. وَإِذَا كَانَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ ظَاهِرًا فِي كُلِّ الْعُضْوِ ضَرُورَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ ظُهُورِهِ فِيمَا سِوَاهُ، أَمَّا عِنْدَ الْخَصْمِ، فَلِدَعْوَاهُ الْإِجْمَالَ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِمَصِيرِنَا إِلَى نَفْيِ الظُّهُورِ عَنْهُ وَانْحِصَارِهِ فِي جُمْلَةِ مُسَمَّى الْعُضْوِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْيَدِ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ إِلَّا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي جُمْلَةِ الْعُضْوِ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَمَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ. وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ، إِذَا أُبِينَتِ الْيَدُ مِنَ الْمِرْفَقِ أَوْ مِنَ الْكُوعِ: هَذَا بَعْضُ الْيَدِ لَا كُلُّهَا. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةً مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُسَمَّى الْيَدِ حَقِيقَةٌ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعْضُ الْيَدِ. وَالثَّانِي: صِحَّةُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَيْسَ كُلَّ الْيَدِ وَلَوْ كَانَ مُسَمَّى الْيَدِ حَقِيقَةً، لَمَا صَحَّ نَفْيُهُ. وَأَمَّا لَفْظُ الْقَطْعِ فَحَقِيقَةٌ فِي إِبَانَةِ الشَّيْءِ عَمَّا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ. فَإِذَا أُضِيفَ الْقَطْعُ إِلَى الْيَدِ، وَكَانَ مُسَمَّى الْيَدِ حَقِيقَةً فِي جُمْلَتِهَا إِلَى الْكُوعِ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى إِبَانَةِ مُسَمَّى الْيَدِ، وَهُوَ جُمْلَتُهَا، وَحَيْثُ أُطْلِقَ قَطْعُ الْيَدِ عِنْدَ إِبَانَةِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا عَنْ بَعْضٍ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً، بَلْ تَجَوُّزًا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ لَمَا وَجَبَ الِاقْتِصَارُ فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ عَلَى قَطْعِهِ مِنَ الْكُوعِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ. قُلْنَا: وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الظَّاهِرِ إِلَّا أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِجْمَالِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، فَكَانَ إِدْرَاجُ مَا نَحْنُ فِيهِ تَحْتَ الْأَغْلَبِ أَغْلَبَ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ بِالْإِجْمَالِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ اللَّفْظِ عَنِ الْعَمَلِ فِي الْحَالِ، إِلَى حِينِ قِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُرَجِّحِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْمَجَازِ: فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَظْهَرْ دَلِيلُ التَّجَوُّزِ عُمِلَ بِاللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ عُمِلَ بِهِ فِي مَجَازِهِ، مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلِ اللَّفْظِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي ثَانِي الْحَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اللَّفْظُ الْوَارِدُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُفِيدُ مَعْنًى وَاحِدًا ومَعْنَيَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اللَّفْظُ الْوَارِدُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يُفِيدُ مَعْنًى وَاحِدًا، وَعَلَى مَا يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ: هُوَ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُجْمَلٍ، بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيمَا يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْحِجَاجِ لَا بُدَّ مِنْ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ. فَنَقُولُ: اللَّفْظُ الْوَارِدُ، إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِيمَا قِيلَ مِنَ الْمَحْمِلَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا أَوْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا، مَجَازًا فِي الْآخَرِ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ: فَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي، فَلَا مَعْنَى لِلْخِلَافِ فِيهِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِتَحَقُّقِ إِجْمَالِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِتَحَقُّقِ الظُّهُورِ فِي أَحَدِ الْمَحْمِلَيْنِ: وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ نَفْيِ الْإِجْمَالِ فِيهِ لِلْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ فَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وُضِعَ لِلْإِفَادَةِ، وَلَا سِيَّمَا كَلَامَ الشَّارِعِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ أَكْثَرُ فِي الْفَائِدَةِ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّرْجِيحُ مُعَارَضٌ بِتَرْجِيحٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ هِيَ الْمُفِيدَةُ لِمَعْنًى وَاحِدٍ بِخِلَافِ الْمُفِيدِ لِمَعْنَيَيْنِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَاعْتِقَادُ إِدْرَاجِ مَا نَحْنُ فِيهِ تَحْتَ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ أَغْلَبُ. قُلْنَا: يَجِبُ اعْتِقَادُ التَّرْجِيحِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِالتَّسَاوِي بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ أَوِ التَّفَاوُتِ. الْقَوْلُ بِالتَّسَاوِي يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْطِيلُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَامْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِهِ مُطْلَقًا، إِلَى حِينِ قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَإِنْ قِيلَ بِالتَّفَاوُتِ وَالتَّرْجِيحِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُفِيدُ مَعْنًى وَاحِدًا، أَوْ فِيمَا يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ: لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ، إِذِ الْقَائِلُ قَائِلَانِ: قَائِلٌ يَقُولُ بِالْإِجْمَالِ، فَفِيهِ نَفْيُ التَّرْجِيحِ عَنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ بِأَنَّهُ ظَاهِرٌ رَاجِحٌ فِيمَا يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ دُونَ مَا يُفِيدُ مَعْنًى وَاحِدًا، فَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى نَفْيِ التَّرْجِيحِ فِيمَا يُفِيدُ مَعْنًى وَاحِدًا، فَتَعَيَّنَ التَّرْجِيحُ لِمَا يُفِيدُ مَعْنَيَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اللَّفْظُ الْوَارِدُ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مُجَدَّدٍ وعَلَى الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اللَّفْظُ الْوَارِدُ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مُجَدَّدٍ، وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ: إِلَى أَنَّهُ مُجْمَلٌ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ مَزِيَّةٍ، وَذَهَبَ غَيْرُهُ: إِلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» " (1) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ كَالصَّلَاةِ حُكْمًا فِي الِافْتِقَارِ إِلَى الطَّهَارَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ صَلَاةٌ لُغَةً، وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» " (2) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُمَا جَمَاعَةٌ حَقِيقَةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ انْعِقَادَ الْجَمَاعَةِ بِهِمَا وَحُصُولَ فَضِيلَتِهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِكَوْنِهِ ظَاهِرًا فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِلْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ فَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَهُوَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا بُعِثَ لِتَعْرِيفِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، الَّتِي لَا تُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ لَا لِتَعْرِيفِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ اللُّغَةِ: فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ مَقْصُودِ الْبَعْثَةِ.   (1) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ " الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ " وَصَحَّحَ ابْنُ السَّكَنِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: رَوَاهُ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، وَرَجَّحَ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَالْمُنْذِرِيُّ وَقْفَهُ (عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ اخْتَلَطَ بِآخِرَةٍ) . (2) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 223 ج 2 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُجَدَّدِ مُخَالِفٌ لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ عَلَى الْمَوْضُوعِ الْأَصْلِيِّ. قُلْنَا: إِلَّا أَنَّا لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى تَعْرِيفِ الْمَوْضُوعِ اللُّغَوِيِّ كَانَتْ فَائِدَةُ لَفْظِ الشَّارِعِ التَّأْكِيدَ بِتَعْرِيفِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لَنَا، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْسِيسَ وَتَعْرِيفَ مَا لَيْسَ مَعْرُوفًا لَنَا، وَفَائِدَةُ التَّأْسِيسِ أَصْلٌ، وَفَائِدَةُ التَّأْكِيدِ تَبَعٌ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَوْلَى. [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ لَفْظُ الشَّارِعِ لَهُ مُسَمًّى لُغَوِيٌّ وَمُسَمًّى شَرْعِيٌّ عِنْدَ الْمُعْتَرِفِ بِالْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ إِذَا وَرَدَ لَفْظُ الشَّارِعِ وَلَهُ مُسَمًّى لُغَوِيٌّ، وَمُسَمًّى شَرْعِيٌّ عِنْدَ الْمُعْتَرِفِ بِالْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ: إِنَّهُ مُجْمَلٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ. وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ وَقَالَ: مَا وَرَدَ فِي الْإِثْبَاتِ، فَهُوَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَمَا وَرَدَ فِي النَّهْيِ فَهُوَ مُجْمَلٌ، وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي طَرَفٍ الْإِثْبَاتِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ فَقَالَ لَهَا: " «أَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ: لَا، قَالَ: إِنِّي إِذًا أَصُومُ» " (1) فَهُوَ إِنْ حُمِلَ عَلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ بِخِلَافِ حَمْلِهِ عَلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ، وَمِثَالُهُ فِي طَرَفِ النَّهْيِ نَهْيُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، (2) فَإِنَّهُ إِنْ حُمِلَ عَلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ دَلَّ عَلَى تَصَوُّرِ وُقُوعِهِ لِاسْتِحَالَةِ النَّهْيِ عَمَّا لَا تَصَوُّرَ لِوُقُوعِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا حُمِلَ عَلَى الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ. وَالْمُخْتَارُ ظُهُورُهُ فِي الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ، وَظُهُورُهُ فِي الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ فِي طَرَفِ التَّرْكِ. (3)   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا: لَا، " قَالَ: فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ " الْحَدِيثَ. (2) رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ " يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ " وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَعَائِشَةَ بِمَعْنَاهُ. (3) التَّرْكُ يَعْنِي بِهِ النَّفْيَ وَالنَّهْيَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبَيَانُهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَزِيدُ هَاهُنَا وَجْهٌ آخَرُ فِي التَّرْجِيحِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ مَهْمَا ثَبَتَ لَهُ عُرْفٌ وَإِنْ كَانَتْ مُنَاطَقَتُهُ لَنَا بِالْأُمُورِ اللُّغَوِيَّةِ غَالِبًا، غَيْرَ أَنَّ مُنَاطَقَتَهُ لَنَا بِعُرْفِهِ فِي مَوْضِعٍ لَهُ فِيهِ عُرْفٌ أَغْلَبُ. وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ فِي طَرَفِ التَّرْكِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» " (1) وَكَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْحُرِّ وَالْخَمْرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْبَيْعِ الشَّرْعِيِّ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَصَوَّرًا لِاسْتِحَالَةِ النَّهْيِ عَمَّا لَا تَصَوُّرَ لَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَأَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ (2) قَدْ نَهَى عَنِ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِهْمَالِ الْمَصْلَحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَرْعِيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ (3) أَوْ أَنْ يُقَالَ مَعَ ظُهُورِهِ فِي الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ بِتَأْوِيلِهِ وَصَرْفِهِ إِلَى الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ اطِّرَادِ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ، مِثْلُهُ فِي طَرَفِ النَّهْيِ أَوِ النَّفْيِ. وَعَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي خِطَابِهِ، عَلَى وَضْعِ اللُّغَةِ، فَيُقَدَّمُ مَا اشْتُهِرَ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي صَارَ لَا يُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ غَيْرُهُ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ الْحَقِيقِيِّ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّجَوُّزُ بِطَرِيقِ نَفْيِ الْكَلَامِ مِنْ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ إِلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ كَلَفْظِ الْغَائِطِ، أَوْ بِطَرِيقِ تَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْعُرْفَ الطَّارِئَ غَالِبٌ لِلْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ وَلَا إِجْمَالَ فِيهِ.   (1) هَذَا مَعْنَى جُزْءٍ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّهَا شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّمَ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ فَانْتَظِرِي، إِذَا أَتَى قَرْؤُكِ فَلَا تُصَلِّي فَإِذَا مَرَّ قَرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي، ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقَرْءِ إِلَى الْقَرْءِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أُمَّ حَبِيبَةَ أَنْ تَدَعَ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا. (2) وَأَنْ يَكُونَ - مَعْطُوفٌ عَلَى فَاعِلِ لَزِمَ. (3) أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِيِّ الصَّحِيحَ شَرْعًا حَتَّى يَلْزَمَ مَا قِيلَ، بَلِ الْمُرَادُ مَا يُسَمِّيهِ الشَّرْعُ بِذَلِكَ الِاسْمِ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْمَخْصُوصَةِ حَيْثُ يَقُولُ: هَذِهِ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ وَهَذِهِ صَلَاةٌ فَاسِدَةٌ، وَإِلَّا لَزِمَ فِي قَوْلِهِ: " وَدَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا بَيْنَ الصَّلَاةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَالدُّعَاءِ، أَوْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي الدُّعَاءِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِظُهُورِهِ فِي الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَشَرْحِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 [الصِّنْفُ الثَّامِنُ فِي الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ] [مقدمة فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِمَا] وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ، أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ، فَفِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ، وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِمَا، وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الْبَيَانُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ بِمَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ وَلَا مَعْلُومٍ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلُ مُرْشِدٌ إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَهُوَ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ الْحَاصِلُ عَنِ الدَّلِيلِ، وَلَمْ يَخْرُجِ الْبَيَانُ عَنِ التَّعْرِيفِ وَالدَّلِيلِ وَالْمَطْلُوبِ الْحَاصِلِ مِنَ الدَّلِيلِ لِعَدَم مَعْنًى رَابِعٍ يُفَسَّرُ بِهِ الْبَيَانُ، فَلَا جَرَمَ اخْتَلَفَ النَّاسُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - وَغَيْرُهُ: إِنَّ الْبَيَانَ هُوَ التَّعْرِيفُ، وَعُبِّرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إِخْرَاجُ الشَّيْءِ عَنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ الْوُضُوحِ وَالتَّجَلِّي. وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ، إِلَى أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الْعِلْمُ مِنَ الدَّلِيلِ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ: كَالْجُبَّائِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِمْ، إِلَى أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الدَّلِيلُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ تَفْسِيرِهِ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ دَلِيلًا لِغَيْرِهِ وَأَوْضَحَهُ غَايَةَ الْإِيضَاحِ يَصِحُّ لُغَةً وَعُرْفًا أَنْ يُقَالَ: تَمَّ بَيَانُهُ، وَهُوَ بَيَانٌ حَسَنٌ إِشَارَةً إِلَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ. وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَطْلُوبِ لِلسَّامِعِ، وَلَا حَصَلَ بِهِ تَعْرِيفُهُ، وَلَا إِخْرَاجُ الْمَطْلُوبِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إِلَى حَيِّزِ الْوُضُوحِ وَالتَّجَلِّي، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَالَّذِي يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ التَّعْرِيفَيْنِ الْآخَرَيْنِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ؛ لِأَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ بَدِيًّا مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ إِجْمَالِ بَيَانٍ، وَهُوَ غَيْرٌ دَاخِلٍ فِي الْحَدِّ، وَشَرْطُ الْحَدِّ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا مَانِعًا، كَيْفَ وَفِيهِ تَجَوُّزٌ وَزِيَادَةٌ؟ أَمَّا التَّجَوُّزُ فَفِي لَفْظِ الْحَيِّزِ، فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْجَوْهَرِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوُضُوحِ وَالتَّجَلِّي، وَأَحَدُهُمَا كَافٍ عَنِ الْآخَرِ، وَالْحَدُّ مِمَّا يَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنِ التَّجَوُّزِ وَالزِّيَادَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وَأَمَّا التَّعْرِيفُ الثَّانِي فَلِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ عَنِ الدَّلِيلِ يُسَمَّى تَبَيُّنًا، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، فَلَوْ كَانَ هُوَ الْبَيَانُ أَيْضًا حَقِيقَةً لَزِمَ مِنْهُ التَّرَادُفُ. وَالْأَصْلُ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَسْمَاءِ تَعَدُّدُ الْمُسَمَّيَاتِ، تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ، وَلِأَنَّ الْحَاصِلَ عَنِ الدَّلِيلِ قَدْ يَكُونُ عِلْمًا، وَقَدْ يَكُونُ ظَنًّا. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَخْصِيصُ اسْمِ الْبَيَانِ بِالْعِلْمِ دُونَ الظَّنِّ لَا مَعْنَى لَهُ، مَعَ أَنَّ اسْمَ الْبَيَانِ يَعُمُّ الْحَالَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ النِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي إِطْلَاقِ أَمْرٍ لَفْظِيٍّ، فَأَوْلَى مَا اتُّبِعَ مَا كَانَ مُوَافِقًا لِلْإِطْلَاقِ اللُّغَوِيِّ، وَأَبْعَدَ عَنِ الِاضْطِرَابِ وَمُخَالَفَةَ الْأُصُولِ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ فَحَدُّ الْبَيَانِ مَا هُوَ حَدُّ الدَّلِيلِ، عَلَى مَا سَبَقَ فِي تَحْرِيرِهِ. (1) وَيَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ دَلِيلٌ، كَانَ مُفِيدًا لِلْقَطْعِ أَوِ الظَّنِّ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَقْلِيًّا أَوْ حِسِّيًّا، أَوْ شَرْعِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا، أَوْ قَوْلًا أَوْ سُكُوتًا، أَوْ فِعْلًا أَوْ تَرْكَ فِعْلٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْمُبَيَّنُ فَقَدْ يُطْلَقُ، وَيُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مِنَ الْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ الْمُسْتَغْنِي بِنَفْسِهِ عَنْ بَيَانٍ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إِلَى الْبَيَانِ، وَقَدْ وَرَدَ عَلَيْهِ بَيَانُهُ، وَذَلِكَ كَاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ إِذَا بُيِّنَ الْمُرَادُ مِنْهُ، وَالْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، وَالْمُطْلَقِ بَعْدَ التَّقْيِيدِ، وَالْفِعْلِ إِذَا اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُصِدَ مِنْهُ ذَلِكَ. [الْمَسْأَلَةُ الأولى الْفِعْلَ يَكُونُ بَيَانًا] وَأَمَّا الْمَسَائِلُ فَثَمَانٍ:   (1) سَبَقَ شَرْحُ الدَّلِيلِ فِي الْمَبَادِئِ الْكَلَامِيَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْفِعْلَ يَكُونُ بَيَانًا، خِلَافًا لِطَائِفَةٍ شَاذَّةٍ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ، أَمَّا النَّقْلُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ عَرَّفَ الصَّلَاةَ وَالْحَجَّ بِفِعْلِهِ حَيْثُ قَالَ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» "، " «وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ". وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى كَوْنِ الْقَوْلِ بَيَانًا، وَالْإِتْيَانُ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ؛ لِكَوْنِهَا مُشَاهَدَةً أَدَلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ تَفْصِيلِهَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهَا بِالْقَوْلِ، فَإِنَّهُ (لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ) (1) وَلِهَذَا كَانَتْ مُشَاهَدَةُ زَيْدٍ فِي الدَّارِ أَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِهِ فِيهَا مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِذَلِكَ. وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بَيَانًا، مَعَ قُصُورِهِ فِي الدَّلَالَةِ عَنِ الْفِعْلِ الْمُشَاهَدِ، فَكَوْنُ الْفِعْلِ بَيَانًا أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا النَّقْلُ فَالْبَيَانُ فِيهِ إِنَّمَا وَقَعَ بِالْقَوْلِ لَا بِالْفِعْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، «وَخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» "، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ وَإِنْ كَانَ مُشَاهَدًا غَيْرَ أَنَّ زَمَانَ الْبَيَانِ بِهِ مِمَّا يَطُولُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ مَعَ إِمْكَانِهِ بِمَا هُوَ أَفْضَى إِلَيْهِ، وَهُوَ الْقَوْلُ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. قُلْنَا: أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْبَيَانَ إِنَّمَا حَصَلَ بِالْقَوْلِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنْ تَعْرِيفَ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، بَلْ غَايَتُهُ تَعْرِيفُ أَنَّ الْفِعْلَ هُوَ الْبَيَانُ لِذَلِكَ. وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْبَيَانَ بِالْفِعْلِ مما يُفْضِي إِلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ مَعَ إِمْكَانِ تَقَدُّمِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلِ التَّعْرِيفُ بِالْقَوْلِ. وَذِكْرُ كُلِّ فِعْلٍ بِصِفَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَبْعَدُ عَنِ التَّشَبُّثِ بِالذِّهْنِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُشَاهَدِ، وَرُبَّمَا احْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى تَكْرِيرٍ فِي أَزْمِنَةٍ تَزِيدُ عَلَى زَمَانِ وُقُوعِ (الْفِعْلِ) بِأَزْمِنَةٍ كَثِيرَةٍ، عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ زَمَانَ التَّعْرِيفِ بِالْفِعْلِ يَكُونُ أَطْوَلَ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْبَيَانِ وَالتَّعْرِيفِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَعَ صَلَاحِيَّتِهِ لِلتَّعْرِيفِ أَدَلُّ مِنَ الْقَوْلِ.   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ، انْظُرْ طُرُقَهُ وَمَنْ خَرَّجَهُ وَالْكَلَامَ عَلَى مَتْنِهِ وَأَسَانِيدِهِ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يُفْضِي إِلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، مَعَ إِمْكَانِ تَقْدِيمِهِ بِالْقَوْلِ. قُلْنَا: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ الْحَاجَةُ قَدْ دَعَتْ إِلَى الْبَيَانِ فِي الْحَالِ، أَوْ دَعَتْ إِلَيْهِ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا مَحْذُورَ فِي التَّأْخِيرِ مَعَ حُصُولِ الْبَيَانِ بِمَا هُوَ أَدَلُّ مِنَ الْقَوْلِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ التَّأْخِيرِ عَلَى قَوْلِنَا بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. وَبِتَقْدِيرِ امْتِنَاعِهِ فَإِنَّمَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ التَّأْخِيرُ لَا لِفَائِدَةٍ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لِفَائِدَةٍ فَلَا. وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَائِدَةَ فِي الْبَيَانِ بِالْفِعْلِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى الْمَقْصُودِ. [الْمَسْأَلَةُ الثانية وَرَدَ بَعْدَ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالَحٌ لِلْبَيَانِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ اللَّفْظِ الْمُجْمَلِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَالَحٌ لِلْبَيَانِ، فَالْبَيَانُ بِمَاذَا مِنْهُمَا؟ وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَتَوَافَقَا فِي الْبَيَانِ أَوْ يَخْتَلِفَا، فَإِنْ تَوَافَقَا، فَإِنْ عُلِمَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا فَهُوَ الْبَيَانُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ، وَالثَّانِي يَكُونُ تَأْكِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الدَّلَالَةِ، لِاسْتِحَالَةِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الدَّلَالَةِ. وَإِنْ جُهِلَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الدَّلَالَةِ، أَوْ أَحَدُهُمَا أَرْجَحُ مِنَ الْآخَرِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْوَقَائِعِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَأَحَدُهُمَا هُوَ الْبَيَانُ، وَالْآخَرُ مُؤَكِّدٌ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْأَشْبَهُ أَنَّ الْمَرْجُوحَ هُوَ الْمُتَقَدِّمُ لِأَنَّا فَرَضْنَا تَأَخُّرَ الْمَرْجُوحِ، امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مُؤَكِّدًا لِلرَّاجِحِ، إِذِ الشَّيْءُ لَا يُؤَكَّدُ بِمَا هُوَ دُونَهُ فِي الدَّلَالَةِ، وَالْبَيَانُ حَاصِلٌ دُونَهُ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ، وَمَنْصِبُ الشَّارِعِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا لَا يُفِيدُ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا إِذَا جَعَلْنَا الْمَرْجُوحَ مُقَدَّمًا، فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِالرَّاجِحِ بَعْدَهُ يَكُونُ مُفِيدًا لِلتَّأْكِيدِ، وَلَا يَكُونُ مُعَطِّلًا. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَتَوَافَقَا فِي الْبَيَانِ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ بَعْدَ آيَةِ الْحَجِّ قَالَ: " «مَنْ قَرَنَ حَجًّا إِلَى عُمْرَةٍ فَلْيَطُفْ طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا» ". (1)   (1) الْحَدِيثُ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ (مَنْ قَرَنَ بَيْنَ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ أَجْزَأَهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ) وَرَمَزَ لَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرُمُوزِ الْحَسَنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَرَنَ فَطَافَ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ» (1) فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يُعْرَفَ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا أَوْ يُجْهَلَ، فَإِنْ عُلِمَ التَّقَدُّمُ قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ: الْمُتَقَدِّمُ هُوَ الْبَيَانُ. فَإِنْ تَقَدَّمَ الْفِعْلُ كَانَ الطَّوَافُ الثَّانِي وَاجِبًا. وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ كَانَ الطَّوَافُ الثَّانِي غَيْرَ وَاجِبٍ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ، بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْقَوْلُ مُتَقَدِّمًا فَالطَّوَافُ الثَّانِي غَيْرُ وَاجِبٍ، وَفِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِهِ مَنْدُوبًا، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ لَهُ دَلِيلَ الْوُجُوبِ، كَانَ نَاسِخًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقَوْلُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ أَوْلَى مِنَ التَّعْطِيلِ، وَفِعْلُهُ لِلطَّوَافِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَأْكِيدًا لِلْقَوْلِ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَقَدِّمًا، فَهُوَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الطَّوَافِ الثَّانِي إِلَّا أَنَّ الْقَوْلَ بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، وَالْقَوْلُ بِإِهْمَالِ دَلَالَةِ الْقَوْلِ مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِوُجُوبِ الطَّوَافِ الثَّانِي الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ، أَوْ أَنْ يُحْمَلَ فِعْلُهُ عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الطَّوَافِ الثَّانِي فِي حَقِّهِ دُونَ أُمَّتِهِ، وَأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَى بَيَانِ وُجُوبِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فِي حَقِّ أُمَّتِهِ دُونَهُ، وَالْأَشْبَهُ إِنَّمَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَيَانَيْنِ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ وَلَا تَعْطِيلٍ. (2) وَأَمَّا إِنْ جُهِلَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا، فَالْأَوْلَى إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيرُ تَقَدُّمِ الْقَوْلِ وَجَعْلُهُ بَيَانًا لِوَجْهَيْنِ   (1) ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي كِتَابِ الدِّرَايَةِ فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْهِدَايَةِ أَنَّ عَلِيًّا جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَطَافَ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ، وَحَدَّثَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ ذَلِكَ، رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي مُسْنَدِ عَلِيٍّ، وَرُوَاتُهُ مَوْثُقُونَ، وَأَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَفِي إِسْنَادِهِ رَاوٍ مَجْهُولٌ. (2) قَدْ يُقَالُ: الْأَشْبَهُ إِنَّمَا هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ لِمَا سَيَجِيءُ لَهُ بَعْدَ قَلِيلٍ مِنْ أَنَّ التَّشْرِيكَ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتِهِ فِي التَّشْرِيعِ هُوَ الْغَالِبُ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إِلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ إِلَّا لِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ، وَدَعْوَى أَنَّ الْأَوَّلَ يَلْزَمُهُ إِمَّا إِهْمَالُ دَلَالَةِ الْقَوْلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وإِمَّا نَسْخُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنِ الْقَوْلَ بَعْدَ الْفِعْلِ الْمُعَارِضِ لَهُ بَيِّنٌ فِي حَمْلِ الْفِعْلِ عَلَى النَّدْبِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَلَا نَسْخَ لِلْفِعْلِ وَلَا تَعْطِيلَ لِلْقَوْلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فِي الدَّلَالَةِ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ كَوْنُهُ بَيَانًا دُونَ اقْتِرَانِ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِقَصْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيَانَ بِهِ أَوْ قَوْلٌ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَيْهِ. (1) الثَّانِي: أَنَّا إِذَا قَدَّرْنَا تَقَدُّمَ الْقَوْلِ أَمْكَنَ حَمْلُ الْفِعْلِ بَعْدَهُ عَلَى نَدْبِيَّةِ الطَّوَافِ الثَّانِي كَمَا تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ. وَلَوْ قَدَّرْنَا تَقَدُّمَ الْفِعْلِ يَلْزَمُ مِنْهُ إِمَّا إِهْمَالُ دَلَالَةِ الْقَوْلِ، أَوْ كَوْنُهُ نَاسِخًا لِحُكْمِ الْفِعْلِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ بَيَانًا لِوُجُوبِ الطَّوَافِ الثَّانِي فِي حَقِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَ أُمَّتِهِ، وَالْقَوْلُ دَلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِهِ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ دُونَهُ، وَالْإِهْمَالُ وَالنَّسْخُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَالِافْتِرَاقُ بَيْنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ الطَّوَافِ الثَّانِي مَرْجُوحٌ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّشْرِيكِ، لِكَوْنِ التَّشْرِيكِ هُوَ الْغَالِبَ دُونَ الِافْتِرَاقِ. (2)   (1) الْأَصْلُ فِي فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّشْرِيعُ لِنَفْسِهِ وَلِأُمَّتِهِ حَتَّى يَصْرِفَهُ عَنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ، فَهُوَ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ كَالْقَوْلِ. (2) تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ الْفِعْلِ السَّابِقِ عَلَى النَّدْبِ وَالْقَوْلِ الْمُعَارِضِ لَهُ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ فَلَا إِهْمَالَ لِلْقَوْلِ وَلَا نَسْخَ لِلْفِعْلِ وَلَا افْتِرَاقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 [الْمَسْأَلَةُ الثالثة هَلْ يَكُونَ الْبَيَانُ مُسَاوِيًا لِلْمُبَيَّنِ فِي الْقُوَّةِ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مِنْهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ مُسَاوِيًا لِلْمُبَيَّنِ فِي الْقُوَّةِ، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مِنْهُ، قَالَ الْكَرْخِيُّ: لَا بُدَّ مِنَ الْمُسَاوَاةِ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَدْنَى مِنْهُ. وَهَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمُبَيَّنِ فِي الْحُكْمِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَفَاهُ. وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا الْمُسَاوَاةُ فِي الْقُوَّةِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْمُبَيَّنُ مُجْمَلًا، كَفَى فِي تَعْيِينِ أَحَدِ احْتِمَالَيْهِ أَدْنَى مَا يُفِيدُ التَّرْجِيحُ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا أَوْ مُطْلَقًا، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصُ وَالْمُقَيِّدُ فِي دَلَالَتِهِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَى صُورَةِ التَّخْصِيصِ، وَدَلَالَةِ الْمُطْلَقِ عَلَى صُورَةِ التَّقْيِيدِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مُسَاوِيًا لَزِمَ الْوَقْفُ (1) وَلَوْ كَانَ مَرْجُوحًا لَزِمَ مِنْهُ إِلْغَاءُ الرَّاجِحِ بِالْمَرْجُوحِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْبَيَانُ مِنَ الْحُكْمِ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُبَيَّنُ، لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بَيَانًا لِلْآخَرِ. وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ بَيَانًا لِلْآخَرِ، إِذَا كَانَ دَالًّا عَلَى صِفَةِ مَدْلُولِ الْآخَرِ، لَا عَلَى مَدْلُولِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا اتِّحَادَ فِي الْحُكْمِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الِاتِّحَادِ فِي الْحُكْمِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ حُكْمُ الْمُبَيَّنِ وَاجِبًا كَانَ بَيَانُهُ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا لَمْ يَكُنِ الْبَيَانُ وَاجِبًا. قُلْنَا: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إِلَى الْبَيَانِ فِي الْحَالِ، أَوْ هِيَ دَاعِيَةٌ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَالْبَيَانُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَسَوَاءٌ كَانَ حُكْمُ الْمُبَيَّنِ وَاجِبًا أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَعَلَى قَوْلِنَا بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ. (2) فَالْبَيَانُ أَيْضًا لَا يَكُونُ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُبَيَّنُ وَاجِبًا.   (1) إِنَّ تَخْصِيصَ الْعَامِّ وَتَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ حَالَ الْمُسَاوَاةِ فِي قُوَّةِ الدَّلَالَةِ أَوْلَى، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِعْمَالِ الدَّلِيلَيْنِ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِالْوَقْفِ فَإِنَّهُ تَعْطِيلٌ لِلدَّلِيلَيْنِ، وَبِخِلَافِ الْقَوْلِ بِإِلْغَاءِ الْبَيَانِ فَإِنَّ فِيهِ الْعَمَلَ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. (2) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الْأَصْلِ الثَّالِثِ فِي الْمَحْكُومِ فِيهِ ج1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 وَأَمَّا إِذَا قُلْنَا بِامْتِنَاعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ فَالْحَقُّ مَا قَالُوهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُبَيَّنُ وَاجِبًا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْبَيَانُ وَاجِبًا لِجَازَ تَرْكُهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ. وَإِذَا كَانَ الْمُبَيَّنُ غَيْرَ وَاجِبٍ، فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ إِيجَابِ الْبَيَانِ لَا يُفْضِي إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ إِذْ لَا تَكْلِيفَ فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ وَاجِبَ الْفِعْلِ، وَلَا وَاجِبَ التَّرْكِ، فَهُوَ إِمَّا مَنْدُوبٌ، أَوْ مُبَاحٌ، أَوْ مَكْرُوهٌ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لَا تَكْلِيفَ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (1) وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ حَذَرًا مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الْوُجُوبُ مَعَ عَدَمِ التَّكْلِيفِ أَصْلًا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُنْظَرَ إِلَى التَّكْلِيفِ بِوُجُوبِ اعْتِقَادِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ إِبَاحَةٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ كَرَاهَةٍ، فَيَكُونُ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ: إِمَّا عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، فَقَدِ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ سِوَى الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَمَدَارُ الْكَلَامِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَقَدْ عُرِفَ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ فَفِيهِ مَذَاهِبُ. فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى جَوَازِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: كَأَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالظَّاهِرِيَّةُ إِلَى امْتِنَاعِهِ، وَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْأَمْرِ دُونَ الْخَبَرِ (2) وَذَهَبَ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ دُونَ غَيْرِهِ، وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ مَا لَيْسَ لَهُ ظَاهِرٌ كَالْمُجْمَلِ، وَإِمَّا لَهُ ظَاهِرٌ وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ ظَاهِرِهِ، كَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمَنْسُوخِ وَنَحْوِهِ، فَقَالَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ التَّفْصِيلِيِّ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ الْإِجْمَالِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَقْتَ الْخِطَابِ: هَذَا الْعُمُومُ مَخْصُوصٌ، وَهَذَا الْمُطْلَقُ مُقَيَّدٌ، وَهَذَا الْحُكْمُ سَيُنْسَخُ.   (1) تَقَدَّمَ فِي مَسَائِلِ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ آخِرَ الْكَلَامِ عَلَى أَقْسَامِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ج1. (2) وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ أَيْضًا إِلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْخَبَرِ دُونَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَالْأَمْرِ فِي الرَّأْيَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 (1) وَإِذَا عُرِفَ تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ فَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ مُطْلَقًا بِحُجَجٍ نَقْلِيَّةٍ، وَعَقْلِيَّةٍ. أَمَّا النَّقْلِيَّةُ، فَالْحُجَّةُ الْأُولَى مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} . {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ قَالَ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} مَعْنَاهُ أَنْزَلْنَاهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاتِّبَاعِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، لِقَوْلِهِ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِنْزَالِ لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْإِنْزَالِ. وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {قَرَأْنَاهُ} الْإِنْزَالَ، فَقَوْلِهِ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْإِنْزَالِ، لِأَنَّ (ثُمَّ) لِلْمُهْلَةِ وَالتَّرَاخِي عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. (2) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} الْإِنْزَالَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} بَيَانُ مُجْمَلِهِ وَخُصُوصِهِ وَتَقْيِيدِهِ وَمَنْسُوخِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ إِظْهَارُهُ وَإِشْهَارُهُ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ هُوَ الْإِظْهَارُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ " بَانَ لَنَا الْكَوْكَبُ الْفُلَانِيُّ، وَبَانَ لَنَا سُورُ الْمَدِينَةِ " إِذَا ظَهَرَ، وَيُقَالُ " بَيَّنَ فُلَانٌ الْأَمْرَ الْفُلَانِيَّ " إِذَا أَظْهَرَهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. (3) كَيْفَ وَإِنَّ التَّرْجِيحَ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} إِنَّمَا هُوَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ اخْتِصَاصُ بَعْضِهِ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ.   (1) هَذَا الْكَلَامُ مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَخَيَالٍ لَيْسَ لَهُ وَاقِعٌ فِي التَّشْرِيعِ. (2) فُسِّرَتِ الْقِرَاءَةُ فِي الْآيَةِ بِالْإِنْزَالِ وَبِتِلَاوَةِ جِبْرِيلَ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفُسِّرَ الِاتِّبَاعُ فِيهَا بِالِاسْتِمَاعِ لِلتِّلَاوَةِ، وَبِالِاتِّبَاعِ عَقِيدَةً وَعَمَلًا، وَهَذَا مِنَ اخْتِلَافِ التَّنَوُّعِ، فَالْقُرْآنُ مُنَزَّلٌ مَقْرُوءٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِمَاعِ لَهُ، وَاعْتِقَادِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، فَلَا يَضُرُّ هَذَا الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ عَلَى الْمَظْلُومِ. (3) قِيلَ: مَعْنَى بَيَانِ الْقُرْآنِ إِظْهَارُهُ وَإِشْهَارُهُ، وَقِيلَ: إِظْهَارُهُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِلَاوَةً بَعْدَ جَمْعِهِ فِي صَدْرِهِ وَتَثْبِيتِهِ فِي قَلْبِهِ، وَعَلَيْهَا لَا يَتِمُّ لِلْمُسْتَدِلِّ الِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ عَلَى مَطْلُوبِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى بَيَانِهِ إِيضَاحُ مُجْمَلِهِ، وَتَحْدِيدُ الْمُرَادِ مِنْ عَامِّهِ وَمُطْلَقِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَنْسُوخِهِ، وَعَلَيْهِ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْبَيَانَ عَامٌّ ; لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٍ فَيَشْمَلُ كُلَّ مَا ذُكِرَ، فَاللَّهُ تَكَفَّلَ لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَنَشْرِهِ وَإِشْهَارِهِ وَتَيْسِيرِ تِلَاوَتِهِ، وَتَكَفَّلَ بِإِيضَاحِ مُتَشَابِهِهِ بِمُحْكَمِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمُرَادِ بِعَامِّهِ وَمُطْلَقِهِ وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 وَأَيْضًا فَإِنَّهُ أَمَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاتِّبَاعِ بِقَوْلِهِ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ غَيْرُ خَاصٍّ بِبَعْضِ الْقُرْآنِ دُونَ الْبَعْضِ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ لَا أَوْلَوِيَّةَ لِلْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ ذَلِكَ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي اللَّفْظِ، كَانَ مُجْمَلًا وَتَكْلِيفًا لَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ أَوَّلِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ جَمِيعُ الْقُرْآنِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ السَّابِقِ، وَهُوَ جُمْلَةُ الْقُرْآنِ لَا إِلَى بَعْضِهِ، لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ. وَإِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِحَمْلِ الْبَيَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ لِاسْتِحَالَةِ افْتِقَارِ كُلِّ الْقُرْآنِ إِلَى الْبَيَانِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ الْقُرْآنِ مُجْمَلًا وَلَا ظَاهِرًا فِي مَعْنًى، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. وَهَذَا إِشْكَالٌ مُشْكِلٌ، وَفِي تَحْرِيرِهِ وَتَقْرِيرِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَتَبَيَّنُ لِلنَّاظِرِ الْمُتَبَحِّرِ فِيهِ إِبْطَالُ كُلِّ مَا يَخْبِطُ بِهِ بَعْضُ الْمُخْبِطِينَ. (1) وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنَ الظَّاهِرِ الَّذِي اسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُ، لَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْبَيَانَ التَّفْصِيلِيَّ، كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ؟   (1) اسْتِحَالَةُ افْتِقَارِ كُلِّ الْقُرْآنِ إِلَى بَيَانٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مِنْهُ الْمُجْمَلُ وَغَيْرُ الْمُجْمَلِ قَرِينَةً عَلَى إِرَادَةِ الْبَيَانِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيَانِ، كَمَا أَنَّ اسْتِحَالَةَ إِبْلَاغِ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ ضَرُورَةَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّكْلِيفِ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ الْبَيَانِ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ الْمُعْتَرِضُ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّكْلِيفِ دُونَ غَيْرِهِ، فَعُمُومُ الْبَيَانِ لِجَمِيعِ الْقُرْآنِ مَحْمُولٌ عَلَى الْخُصُوصِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ فَلَا أَوْلَوِيَّةَ لِتَفْسِيرِ الْمُعْتَرِضِ وَلَا الْمُسْتَدِلِّ، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافُ تَنَوَّعٍ فَيَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 فَإِنْ قِيلَ: لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ مُطْلَقٌ (1) فَحَمْلُهُ عَلَى الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ يَكُونُ تَقْيِيدًا لَهُ، وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُمْتَنِعٌ. قُلْنَا: وَإِذَا كَانَ مُطْلَقًا، فَالْمُطْلَقُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى جَمِيعِ صُوَرِهِ، وَإِلَّا كَانَ عَامًّا لَا مُطْلَقًا، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ إِذَا عَمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ، فَقَدْ وَفَّى بِالْعَمَلِ بِدَلَالَتِهِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ تَنْزِيلَ الْبَيَانِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَالِيِّ دُونَ التَّفْصِيلِيِّ يَكُونُ تَقْيِيدًا لِلْمُطْلَقِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِتَنْزِيلِهِ عَلَيْهِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَيَانُ الْإِجْمَالِيُّ وَالتَّفْصِيلِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ (ثُمَّ) مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَأْخِيرِ بَيَانِ كُلِّ الْقُرْآنِ ضَرُورَةَ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى الْكُلِّ (2) عَلَى مَا سَبَقَ. وَذَلِكَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَا فِي مَجَازِهَا وَهُوَ حَمْلُهَا عَلَى مَعْنَى (الْوَاوِ) كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} فَإِنَّ (ثُمَّ) هَاهُنَا بِمَعْنَى (الْوَاوِ) وَلِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الرَّبِّ شَاهِدًا، بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} وَ (ثُمَّ) لِلتَّأْخِيرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيَانُ الْمُرَادِ مِنَ الْمُجْمَلِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُسْتَعْمَلِ فِي غَيْرِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ " أُحْكِمَتْ " أَيْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفُصِّلَتْ فِي الْإِنْزَالِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} وَأَرَادَ بِهِ: بَيَانُهُ لِلنَّاسِ.   (1) تَقَدَّمَ أَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ فِي الْآيَةِ عَامٌّ لَا مُطْلَقٌ ; لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٍ، وَعَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي الْجَوَابِ لِبِنَائِهِ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْبَيَانِ فِي الْآيَةِ مُطْلَقٌ. (2) الْقُرْآنُ نَزَلَ مُنَجَّمًا، وَكُلَّمَا نَزَلَ مِنْهُ نَجْمٌ بَيَّنَهُ اللَّهُ بَعْدَ نُزُولِهِ إِنْجَازًا لِوَعْدِهِ وَهَذَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ ثُمَّ مِنَ التَّرْتِيبِ، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ تَأْخِيرِ بَيَانِ كُلِّ الْقُرْآنِ حَتَّى يَتِمَّ نُزُولُهُ، وَبِذَلِكَ لَمْ يَتَعَذَّرْ حَمْلُهَا عَلَى ظَاهِرِهَا كَمَا قَالَ الْآمِدِيُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ظَاهِرُ ذَلِكَ لِلْمَنْعِ مِنْ تَعْجِيلِ نَفْسِ الْقُرْآنِ، لَا بَيَانِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْمَارِ الْمُخَالِفِ لِلْأَصْلِ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مِنْ تَعْجِيلِ الْقُرْآنِ أَيْ مِنْ تَعْجِيلِ أَدَائِهِ عَقِيبَ سَمَاعِهِ، حَتَّى لَا يَخْتَلِطَ عَلَيْهِ السَّمَاعُ بِالْأَدَاءِ، وَإِلَّا فَلَوْ أَرَادَ بِهِ الْبَيَانَ لَمَا مَنَعَهُ عَنْهُ بِالنَّهْي لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْبَيَانِ بَعْدَ الْأَدَاءِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ غَيْرَ مُنَكَّرَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وَلَمْ يُعَيِّنْهَا إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِمْ. وَدَلِيلُ كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُعَيَّنًا أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ سَأَلُوا تَعْيِينَهَا بِقَوْلِهِمْ لَهُ: " {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} وَ {مَا لَوْنُهَا} وَلَوْ كَانَتْ مُنَكَّرَةً لَمَا احْتِيجَ إِلَى ذَلِكَ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِأَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ} وَ {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ} وَ {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} وَالضَّمِيرُ فِي هَذِهِ جَمِيعُ الْكِنَايَاتِ (1) يَجِبُ صَرْفُهُ إِلَى مَا أُمِرُوا بِهِ أَوَّلًا. وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ تَكْلِيفًا بِأُمُورٍ مُجَدَّدَةٍ غَيْرَ مَا أُمِرُوا بِهِ أَوَّلًا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْوَاجِبُ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ آخِرًا دُونَ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ كَانَ مُتَّصِفًا بِجَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَلَزِمَ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَقَرَةَ الْمَأْمُورُ بِهَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَلْ مُنَكَّرَةً مُطْلَقًا، فَلَا تَكُونُ مُحْتَاجَةً إِلَى الْبَيَانِ لِإِمْكَانِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِذَبْحِ أَيِّ بَقَرَةٍ اتُّفِقَتْ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ النِّزَاعِ. قَوْلُهُمْ إِنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِهَا، وَلَوْ أُمِرُوا بِمُنَكَّرٍ لَمَا سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِهِ.   (1) فِي هَذِهِ جَمِيعُ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 قُلْنَا ظَاهِرُ الْأَمْرِ يَدُلُّ عَلَى التَّنْكِيرِ حَيْثُ قَالَ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . وَالْقَوْلُ بِالتَّعْيِينِ مُخَالِفٌ لِلتَّنْكِيرِ الْمَفْهُومِ مِنَ اللَّفْظِ، وَلَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى التَّعْيِينِ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ سُؤَالِهِمْ وَمُخَالَفَةِ ظَاهِرِ النَّصِّ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ، بَلْ مُوَافَقَةُ ظَاهِرِ النَّصِّ أَوْلَى. قَوْلُكُمْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي جَمِيعِ الْكِنَايَاتِ عَائِدٌ إِلَى الْمَأْمُورِ بِهِ أَوَّلًا، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ. قَوْلُهُمْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا بِأُمُورٍ مُجَدَّدَةٍ مُسَلَّمٌ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْهُ؟ قَوْلُكُمْ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَكَانَ الْوَاجِبُ مِنَ الْمَذْكُورَةِ آخِرًا دُونَ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ. وَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ ذَبْحَ بَقَرَةٍ مُتَّصِفَةٍ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَوْجَبَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمَذْكُورَةَ ثَانِيًا، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ. قَوْلُكُمْ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَمَا كَانَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أَنَّهُ قَالَ لَوْ ذَبَحُوا أَيَّةَ بَقَرَةٍ أَرَادُوا لَأَجْزَأَتْهُمْ، لَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. (1) وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ ابْتِدَاءَ إِيجَابٍ لَا بَيَانًا، لِأَنَّ الْبَيَانَ لَيْسَ بِتَشْدِيدٍ بَلْ تَعْيِينُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُوَافَقَةَ ظَاهِرِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى تَنْكِيرِ الْبَقَرَةِ وَظَاهِرِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى مِنْ مُوَافَقَةِ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ لُزُومِ مُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ، لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الْأَصْلَيْنِ، وَمُخَالَفَةِ أَصْلٍ وَاحِدٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ بِالْعَكْسِ. ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ كَانَ بَقَرَةً مُعَيَّنَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا الْبَيَانَ الْإِجْمَالِيَّ أَوِ التَّفْصِيلِيَّ؟ الْأَوَّلُ: مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ، تَأْخِيرُ الْبَيَانِ الْإِجْمَالِيِّ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. وَلَيْسَ تَقْيِيدُ سُؤَالِهِمْ بِطَلَبِ الْبَيَانِ مَعَ إِطْلَاقِهِ بِالْإِجْمَالِيِّ أَوْلَى مِنَ التَّفْصِيلِيِّ، وَلَا مَحِيصَ عَنْهُ. وَرُبَّمَا أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الِاحْتِجَاجِ مَا لَا اتِّجَاهَ لَهُ، كَقَوْلِهِمْ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ مُقَارِنًا لِلْمُبَيَّنِ؟ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَبَيَّنُوا أَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ كَانَ نَاجِزًا، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ.   (1) انْظُرْ تَعْلِيقَ ابْنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى هَذَا الْأَثَرِ وَمَا رُوِيَ بِمَعْنَاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 أَمَّا أَوَّلًا: فِلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَيَانُ حَاصِلًا، لَفَهِمُوهُ ظَاهِرًا، وَلَمَا سَأَلُوا عَنْهُ، وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالذَّبْحِ كَانَ مُطْلَقًا، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَلَى التَّرَاخِي عِنْدَ صَاحِبِ هَذِهِ الْحُجَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفَوْرِ فَتَأْخِيرُ بَيَانِهِ عَنْهُ أَيْضًا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَلَى أَصْلِهِ، لِكَوْنِهِ قَائِلًا بِجَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبَعْرَى " فَقَدْ عُبِدَتِ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ أَفَتُرَاهُمْ يُعَذَّبُونَ " وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، بَلْ سَكَتَ إِلَى حِينِ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ حِينٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةً حَتَّى أَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى بَيَانٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ إِنَّمَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِدُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ الْآيَةِ إِذْ لَوْ كَانَتْ (مَا) تَتَنَاوَلُ مَنْ يَعْلَمُ وَيَعْقِلُ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُتَنَاوِلَةً لَهُمْ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِخْرَاجِ مَا لَا دُخُولَ لَهُ فِي الْآيَةِ عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: دَلِيلُ تَنَاوُلِ (مَا) لِمَنْ يَعْلَمُ وَيَعْقِلُ النَّصُّ وَالْإِطْلَاقُ وَالْمَعْنَى. أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} . وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ (مَا) قَدْ تُطْلَقُ بِمَعْنَى (الَّذِي) بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَ (الَّذِي) يَصِحُّ إِطْلَاقُهَا عَلَى مَنْ يَعْقِلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: الَّذِي جَاءَ زَيْدٌ، فَمَا كَذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ - مَا فِي دَارِي مِنَ الْعَبِيدِ أَحْرَارٌ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ ابْنَ الزِّبَعْرَى كَانَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَقَدْ فَهِمَ تَنَاوُلَ (مَا) لِمَنْ يَعْقِلُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 الثَّانِي: أَنَّ (مَا) لَوْ كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِمَنْ لَا يَعْلَمُ، لَمَا احْتِيجَ إِلَى قَوْلِهِ (مِنْ دُونِ اللَّهِ) وَحَيْثُ كَانَتْ بِعُمُومِهَا مُتَنَاوِلَةً لِلَّهِ تَعَالَى احْتَاجَ إِلَى التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ: " مِنْ دُونِ اللَّهِ ". قُلْنَا: أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ النُّصُوصِ وَالْإِطْلَاقَاتِ فَغَايَتُهَا جَوَازُ إِطْلَاقِ (مَا) عَلَى مَنْ يَعْقِلُ وَيَعْلَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً فِيهِ، بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِيمَنْ لَا يَعْقِلُ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ الزِّبَعْرَى لَمَّا ذَكَرَ مَا ذَكَرَ (1) رَادًّا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: " «مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ (مَا) لِمَا لَا يَعْقِلُ وَ (مَنْ) لِمَنْ يَعْقِلُ» . وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعَمَلِ بِمَا ذَكَرُوهُ. وَإِذَا كَانَتْ (مَا) ظَاهِرَةً فِي مَنْ لَا يَعْقِلُ دُونَ مَنْ يَعْقِلُ، وَجَبَ تَنْزِيلُهَا عَلَى مَا هِيَ ظَاهِرَةٌ فِيهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى فَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إِنْكَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَخْفَى أَنَّ اتِّبَاعَ قَوْلِ النَّبِيِّ أَوْلَى مِنَ اتِّبَاعِ مَا ظَنَّهُ ابْنُ الزِّبَعْرَى. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إِلَى قَوْلِهِ {مِنْ دُونِ اللَّهِ} إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَفَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى فَائِدَةِ التَّأْسِيسِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ، غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى فَائِدَةِ التَّأْسِيسِ مُخَالَفَةُ ظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْجَمْعُ أَوْلَى مِنَ التَّعْطِيلِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ (مَا) حَقِيقَةٌ فِيمَنْ يَعْقِلُ، غَيْرَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ بَيَانَ التَّخْصِيصِ لَمْ يَكُنْ مُقَارِنًا لِلْآيَةِ. وَبَيَانُ الْمُقَارَنَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْعَقْلِ صَالِحٌ لِلتَّخْصِيصِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَالْعَقْلُ قَدْ دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ تَعْذِيبِ أَحَدٍ بِجُرْمٍ صَادِرٍ مِنْ غَيْرِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِجُرْمِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَاحِدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ رِضَا الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ بِعِبَادَةِ مَنْ عَبَدَهُمْ وَ (مَا) مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، فَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُقَارَنَتِهِ لِلْآيَةِ. وَأَمَّا نُزُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الْآيَةَ، فَإِنَّمَا وَرَدَ تَأْكِيدًا بِضَمِّ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ إِلَى الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ، مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ أَصْلِهِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَقِلَّ بِالْبَيَانِ فَلَا. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} وَلَمْ يُبَيِّنُوا إِخْرَاجَ لُوطٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْهَلَاكِ بِقَوْلِهِمْ {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْلِهِ {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} .   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 201 ج2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ تَأَخُّرَ الْبَيَانِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، بَلْ هُوَ مُقْتَرِنٌ بِهَا. وَدَلِيلُهُ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ فِي تَعْلِيلِ الْهَلَاكِ: " {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} " وَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ فِيهَا إِلَّا مَنْ كَانَ ظَالِمًا. كَيْفَ وَإِنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ غَيْرُ سُؤَالِ إِبْرَاهِيمَ وَهُوَ قَوْلُهُ {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} وَمَا مِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ قَدْ يَجْرِي إِمَّا بِسَبَبِ انْقِطَاعِ نَفَسِهِ أَوْ سُعَالٍ فِيمَا بَيْنُ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ، وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَيَّنِ تَأْخِيرًا. وَمُبَادَرَةُ إِبْرَاهِيمَ إِلَى السُّؤَالِ وَمَنْعُهُمْ (1) مِنَ اقْتِرَانِ الْبَيَانِ بِالْمُبَيَّنِ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ انْقِطَاعِ النَّفَسِ وَالسُّعَالِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يُبَادِرْ بِالسُّؤَالِ لَبَادَرُوا بِالْبَيَانِ. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْفَذَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ لِيُعَلِّمَهُمُ الزَّكَاةَ وَغَيْرَهَا، فَسَأَلُوهُ عَنِ الْوَقَصِ، فَقَالَ: " مَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْهِ فَأَسْأَلَهُ» " (2) وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيَانَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَوْنُ مُعَاذٍ لَمْ يَسْمَعِ الْبَيَانَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مُقَارَنَةِ الْبَيَانِ لِلْمُبَيَّنِ. كَيْفَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْأَصْلُ عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْأَوْقَاصِ وَغَيْرِهَا، غَيْرَ أَنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ فِيمَا أَوْجَبَ، وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ صَالِحٌ لِلْبَيَانِ وَالتَّخْصِيصِ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَنْقُولِ، وَأَمَّا الْحُجَجُ الْعَقْلِيَّةُ: فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ مُمْتَنِعًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُهُ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يُعْرَفَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ نَظَرِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ، فَلَا امْتِنَاعَ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْ كَانَ جَائِزًا، فَإِمَّا أَنْ يُعْرَفَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ أَوْ نَظَرِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مُنْتَفٍ فَلَا جَوَازَ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ وَكُلُّ مَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ هَاهُنَا فَهُوَ جَوَابُهُ فِيمَا ذُكِرَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ لَامْتَنَعَ تَأْخِيرُهُ فِي الزَّمَنِ الْقَصِيرِ وَامْتَنَعَ عَطْفُ الْجُمَلِ الْمُتَعَدِّدَةِ إِذَا كَانَ بَيَانُ الْأُولَى مُتَأَخِّرًا عَنِ الْجَمَلِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، وَلَمَا جَازَ الْبَيَانُ بِالْكَلَامِ الطَّوِيلِ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ.   (1) وَمَنْعُهُمْ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ لِلْمَفْعُولِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْعُ إِبْرَاهِيمَ إِيَّاهُمْ. (2) حَدِيثُ مُعَاذٍ رُوِيَ مَنْ طُرُقٍ لَمْ تَخْلُ مِنْ مَقَالٍ فَارْجِعْ إِلَى تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ لِتَعْرِفَ طُرُقَ الْحَدِيثِ وَمَا فِي كُلٍّ مِنْهَا مِنَ الْمَقَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي الزَّمَانِ الْقَصِيرِ إِذَا كَانَ مَعَ قِصَرِهِ لَا يُعَدُّ الْمُتَكَلِّمُ مُعْرِضًا عَنْ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ كَلَامَهُ الثَّانِيَ مَعَ الْأَوَّلِ مَعْدُودٌ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَذَلِكَ لَا يُعَدُّ تَأْخِيرًا لِلْبَيَانِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ تَطَاوُلًا يُعَدُّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ مُعْرِضًا عَنْ كَلَامِهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لُغَةً وَعُرْفًا أَنْ يَتَكَلَّمَ الْإِنْسَانُ بِكَلَامٍ يَقْصُرُ فَهْمُ السَّامِعِ عَنْهُ، وَيُبَيِّنُهُ بَعْدَ الزَّمَانِ الْقَصِيرِ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْجَانٍ بِخِلَافِ مَا إِذَا بَيَّنَهُ بَعْدَ الزَّمَانِ الْمُتَطَاوِلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنَ التَّأْخِيرِ ثَمَّ التَّأْخِيرُ هَاهُنَا. وَأَمَّا الْجُمَلُ الْمَعْطُوفَةُ فَنَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَالْبَيَانُ الْمُتَعَقِّبُ لِلْجُمَلِ الْمَعْطُوفَةِ يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ تَعَقُّبِهِ لِلْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ. وَأَمَّا الْبَيَانُ بِالْكَلَامِ الطَّوِيلِ فَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ الْخَصْمُ إِذَا لَمْ يَكُنْ (1) حُصُولُ الْبَيَانِ إِلَّا بِهِ، أَوْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ أَتَمَّ مِنَ الْكَلَامِ الْقَصِيرِ وَإِلَّا فَلَا. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ قَبُحَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، لَكَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَبَيُّنِ الْمُكَلَّفِ، وَذَلِكَ مُقْتَضَى قُبْحِ الْخِطَابِ إِذَا بُيِّنَ لَهُ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا امْتَنَعَ بِأَمْرٍ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ. وَلِهَذَا يَسْقُطُ تَكْلِيفُ الْإِنْسَانِ إِذَا مَاتَ، سَوَاءٌ قَتَلَ هُوَ نَفْسَهُ، أَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نُسَلِّمُ أَنَّ قُبْحَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَقْدِ التَّبْيِنِ الْمَنْسُوبِ إِلَى الْمُخَاطَبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قُبْحُهُ عِنْدَ عَدَمِ تَبَيُّنِ الْمُكَلَّفِ إِذَا بُيِّنَ لَهُ؛ لِكَوْنِهِ مَنْسُوبًا إِلَى تَقْصِيرِ الْمُكَلَّفِ، لَا إِلَى الْمُخَاطَبِ، وَسُقُوطُ التَّكْلِيفِ عَنِ الْمَيِّتِ إِنَّمَا كَانَ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ الْمَشْرُوطِ فِي التَّكْلِيفِ، وَذَلِكَ لَا يَفْتَرِقُ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ فَاتَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِفِعْلِ غَيْرِهِ. وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ: أَمَّا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} إِلَى قَوْلِهِ {وَلِذِي الْقُرْبَى} ثُمَّ بُيِّنَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِذَوِي الْقُرْبَى بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي أُمَيَّةَ وَبَنِي نَوْفَلٍ بِمَنْعِهِ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: «إِنَّا وَبَنُو هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي   (1) لَمْ يَكُنْ - لَعَلَّهُ لَمْ يُمْكِنْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَلَمْ نَزَلْ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» . (1) فَإِنْ قِيلَ: الْمُتَأَخِّرُ إِنَّمَا هُوَ الْبَيَانُ الْمُفَصَّلُ، وَنَحْنُ لَا نَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ الْمُجْمَلِ (2) ، وَلَا دَلَالَةَ لِمَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى تَأْخِيرِهِ. قُلْنَا: إِذَا سَلَّمَ عَدَمَ اقْتِرَانِ الْبَيَانِ التَّفْصِيلِيِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِيهِ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ نَازَعَ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ الْإِجْمَالِيِّ، حَيْثُ إِنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ لِكُلِّ ذَوِي الْقُرْبَى وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ وَأَرْبَابِ الْأَخْبَارِ مَا يُشِيرُ إِلَى الْبَيَانِ الْإِجْمَالِيِّ أَيْضًا، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَلَوْ كَانَ لَمَا أُهْمِلَ نَقْلُهُ غَالِبًا. وَأَيْضًا، مَا رُوِيَ «أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اقْرَأْ، قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ؟ كَرَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ " ثُمَّ قَالَ لَهُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} » (3) أَخَّرَ بَيَانَ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَوَّلًا مِنْ إِجْمَالِهِ إِلَى مَا بَعْدَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ مِنْ أَمْرِ جِبْرِيلَ، وَسُؤَالِ النَّبِيِّ، مَعَ إِمْكَانِ بَيَانِهِ أَوَّلًا. وَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ التَّأْخِيرِ. فَإِنْ قِيلَ: أَمْرُهُ لَهُ بِالْقِرَاءَةِ مُطْلَقٌ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَضَاهُ الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوِ التَّرَاخِي، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَقَدْ أَخَّرَ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا شَكَّ فِي إِفَادَتِهِ جَوَازَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَنِ الثَّانِي مِنْ وَقْتِ الْأَمْرِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْهُ تَأْخِيرٌ لَهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بِالْإِجْمَاعِ. فَتَرْكُ الظَّاهِرِ لَازِمٌ لَنَا وَلَكُمْ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ. قُلْنَا: أَمَّا إِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ مُقْتَضَاهُ الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ، وَإِذَا كَانَ عَلَى التَّرَاخِي، فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. قَوْلُكُمْ إِنَّهُ يُفِيدُ جَوَازَ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي مِنْ وَقْتِ الْأَمْرِ.   (1) هَذَا جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ مُطَوَّلًا بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فَاقْتَصَرَ الْآمِدِيُّ مِنْهُ عَلَى مَوْضِعِ الشَّاهِدِ وَتَصَرَّفَ فِي الْعِبَارَةِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ فِي دَوَاوِينِ السُّنَّةِ الْمَذْكُورَةِ. (2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ 1 ص 33 ج3. (3) الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ عَنْ عَائِشَةَ مُطَوَّلًا فَاقْتَصَرَ الْمُؤَلِّفُ مِنْهُ عَلَى مَوْضِعِ الشَّاهِدِ فِي الْعِبَارَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 قُلْنَا مَتَى، إِذَا كَانَ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مُبَيَّنًا، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبَيَّنًا؟ الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ وُجُوبِهِ وَعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِتَرْكِهِ، بِدَلِيلِ مَا قَبْلَ الْأَمْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَمَا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا مُطْلَقُ الدُّعَاءِ إِجْمَاعًا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا الْبَيَانُ، بَلْ أَخَّرَ بَيَانَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتِهَا إِلَى أَنْ بَيَّنَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ لِغَيْرِهِ بَعْدَ بَيَانِ جِبْرِيلَ لَهُ. وَكَذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} مُطْلَقًا، ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذَلِكَ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ وَصِفَتِهِ فِي النُّقُودِ وَالْمَوَاشِي وَغَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَكَذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ثُمَّ بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ فِي مِقْدَارِهِ وَصِفَتِهِ عَلَى التَّدْرِيجِ. وَكَذَلِكَ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} ثُمَّ نَزَلَ تَخْصِيصُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوَامِرِ الْعَامَّةِ الَّتِي لَمْ تُبَيَّنْ تَفَاصِيلُهَا إِلَّا بَعْدَ مُدَدٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُؤَخَّرُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ إِنَّمَا هُوَ الْبَيَانُ التَّفْصِيلِيُّ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ الْإِجْمَالِيِّ. كَيْفَ وَإِنَّ الْأَمْرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوِ التَّرَاخِي، وَتَمَامُ الْإِشْكَالِ مَا سَبَقَ. قُلْنَا: وَجَوَابُ الْإِشْكَالَيْنِ أَيْضًا مَا سَبَقَ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةَ فِي الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالْإِرْثِ وَرَدَتْ مُطْلَقَةً، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ مَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَصِحُّ، وَمَنْ يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَمَنْ لَا يَحِلُّ، وَصِفَاتُ الْعُقُودِ وَشُرُوطُهَا، وَمَنْ يَرِثُ وَمَنْ لَا يَرِثُ، وَمَقَادِيرُ الْمَوَارِيثِ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَمَنْ نَظَرَ فِي جَمِيعِ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَجَدَهَا كَذَلِكَ. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُزَابَنَةِ، وَشَكَى الْأَنْصَارُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ رَخَّصَ لَهُمْ فِي الْعَرَايَا، وَهِيَ نَوْعٌ مِنَ الْمُزَابَنَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ اقْتَرَنَ بِنَهْيهِ عَنْ ذَلِكَ بَيَانُ مُجْمَلٍ وَلَا مُفَصَّلٍ، وَهُوَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُخَالِفِ فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ لَمْ يَخْلُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ أَوْ لَأَمَرٍ مِنْ خَارِجٍ. لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لِذَاتِهِ، فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَاهُ وَاقِعًا لَا يَلْزَمُ عَنْهُ الْمُحَالُ لِذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ حَالَةِ وُجُودِ الْبَيَانِ وَعَدَمِهِ سِوَى عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِالْمُرَادِ مِنَ الْكَلَامِ، حَالَةَ وُجُودِ الْبَيَانِ، وَجَهْلِهِ بِهِ حَالَةَ عَدَمِهِ. فَلَوِ امْتَنَعَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، لَكَانَ لِمَا قَارَنَهُ مِنْ جَهْلِ الْمُكَلَّفِ بِالْمُرَادِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَامْتَنَعَ تَأْخِيرُ بَيَانِ النَّسْخِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَهْلِ بِمُرَادِ الْكَلَامِ الدَّالِّ بِوَضْعِهِ عَلَى تَكَرُّرِ الْفِعْلِ عَلَى الدَّوَامِ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ فَالْمَلْزُومُ مُمْتَنِعٌ. وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ لَازِمَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ وَالْمُقَيَّدِ وَكُلِّ مَا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ. وَجَوَّزَهُ فِي النَسْخِ، كَالْجُبَّائِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِمْ. اعْتَرَضَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَقَالَ الْفَرْقَ بَيْنَ تَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ وَتَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ هُوَ أَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِ النَّسْخِ مِمَّا لَا يُخِلُّ بِالتَّمَكُّنِ مِنَ الْفِعْلِ فِي وَقْتِهِ، بِخِلَافِ بَيَانِ صِفَةِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مَعَهُ فِعْلُ الْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا لِلْجَهْلِ بِصِفَتِهَا. وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَأْخِيرِ تَخْصِيصِ بَيَانِ الْعُمُومِ وَتَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّل: أَنَّ الْخِطَابَ الْمُطْلَقَ الَّذِي أُرِيدَ نَسْخُهُ مَعْلُومٌ أَنَّ حُكْمَهُ مُرْتَفِعٌ لِعِلْمِهِ بِانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمَخْصُوصُ. الثَّانِي: أَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، مَعَ تَجْوِيزِ إِخْرَاجِ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ مِمَّا يُوجِبُ الشَّكَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَشْخَاصِ الْمُكَلَّفِينَ، هَلْ هُوَ مُرَادٌ بِالْخِطَابِ أَمْ لَا، وَلَا كَذَلِكَ فِي تَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ. وَجَوَابُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْإِجْمَالِ وَالنَّسْخِ أَنَّ وَقْتَ الْعِبَادَةِ إِنَّمَا هُوَ وَقْتُ دَعْوِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، لَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا فَالْبَيَانُ لَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ بَيَانِ صِفَةِ الْعِبَادَةِ عَنْهَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا وَوُجُودِهِ فِي وَقْتِهَا تَعَذُّرُ الْإِتْيَانِ بِالْعِبَادَةِ فِي وَقْتِهَا. وَجَوَابُ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالنَّسْخِ هُوَ أَنَّ حُكْمَ الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ، وَإِنْ عُلِمَ ارْتِفَاعُهُ بِانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ، فَذَلِكَ مِمَّا يَعُمُّ التَّخْصِيصَ وَالنَّسْخَ، لِعِلْمِنَا بِانْقِطَاعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 التَّكْلِيفِ بِالْمَوْتِ فِي الْحَالَتَيْنِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا قَبْلَ حَالَةِ الْمَوْتِ مَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ الْمُتَنَاوِلِ لِكُلِّ الْأَشْخَاصِ وَاللَّفْظِ الظَّاهِرِ الْمُتَنَاوِلِ لِجَمِيعِ أَوْقَاتِ الْحَيَاةِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، إِذَا جَازَ رَفْعُ حُكْمِ الْخِطَابِ الظَّاهِرِ الْمُتَنَاوِلِ لِجَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، مَعَ فَرْضِ الْحَيَاةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ غَيْرَ دَلِيلٍ مُبَيِّنٍ فِي الْحَالِ جَازَ تَخْصِيصُ بَعْضِ مَنْ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ بِظُهُورِهِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُبَيِّنٍ فِي الْحَالِ أَيْضًا؛ لِتَعَذُّرِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ. وَجَوَابُ الْفَرْقِ الثَّانِي أَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ، وَإِنْ أَوْجَبَ التَّرَدُّدَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَشْخَاصِ الْمُكَلَّفِينَ أَنَّهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْخِطَابِ أَمْ لَا، فَتَأْخِيرُ بَيَانِ النَّسْخِ عِنْدَمَا إِذَا أَمَرَ بِعِبَادَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِمَّا يُوجِبُ التَّرَدُّدَ فِي أَنَّ الْعِبَادَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَدَا الْيَوْمِ الْأَوَّلِ. هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْخِطَابِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ الْأَيَّامِ أَمْ لَا. وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، جَازَ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ الْفَرْقِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِعِبَادَةٍ فِي وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ أَمْرًا عَامًّا فَإِنَّ مَا مِنْ شَخْصٍ إِلَّا وَيُحْتَمَلُ اخْتِرَامُهُ قَبْلَ دُخُولِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ دُخُولِهِ تَحْتَ الْخِطَابِ الْعَامِّ. وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ التَّرَدُّدَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْخَاصِ هَلْ هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ ذَلِكَ الْخِطَابِ إِذَا لَمْ يَرِدِ الْبَيَانُ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ إِجْمَاعًا. شُبَهُ الْمُخَالِفِينَ مِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِتَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ، وَمِنْهَا مَا يَخْتَصُّ بِتَأْخِيرِ بَيَانِ مَا لَهُ ظَاهِرٌ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ. أَمَّا الشُّبَهُ الْخَاصَّةُ بِالْمُجْمَلِ فَشُبْهَتَانِ: الْأُولَى: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخِطَابِ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ لَهُ مَدْلُولٌ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَبَيْنَ الْخِطَابِ بِلُغَةٍ يَضَعُهَا الْمُخَاطَبُ مَعَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِحُسْنِ الْمُخَاطَبَةِ بِهِمَا، أَوْ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ أَوْ لَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا: الْأَوَّلُ: يَلْزَمُ مِنْهُ حُسْنُ الْمُخَاطَبَةِ بِمَا وَضَعَهُ مَعَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجَهَالَةِ، وَالثَّانِي أَيْضًا مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَالثَّالِثُ: هُوَ الْمَطْلُوبُ. الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخِطَابِ إِنَّمَا هُوَ التَّفَاهُمُ، وَالْمُجْمَلُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مَدْلُولُهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لَهُ فِي الْحَالِ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ التَّفَاهُمُ، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا تَحْسُنُ الْمُخَاطَبَةُ بِهِ؛ لِكَوْنِهِ لَغْوًا، وَهُوَ قَبِيحٌ مِنَ الشَّارِعِ كَمَا لَوْ خَاطَبَ بِكَلِمَاتٍ مُهْمَلَةٍ لَمْ تُوضَعْ فِي لُغَةٍ مِنَ اللُّغَاتِ لِمَعْنًى عَلَى أَنْ يُبَيِّنَ الْمُرَادَ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وَأَمَّا الشُّبْهَةُ الْخَاصَّةُ بِمَا اسْتُعْمِلَ مِنَ الظَّوَاهِرِ فِي غَيْرِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ فَثَلَاثُ شُبَهٍ، الْأُولَى: إِنَّهُ إِنْ جَازَ الْخِطَابُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لَهُ فِي الْحَالِ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: بِجَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِهِ إِلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَهُوَ تَحَكُّمٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ فَيَلْزَمُ مِنْهُ بَقَاءُ الْمُكَلَّفِ عَامِلًا أَبَدًا بِعُمُومٍ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ التَّجْهِيلِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا خَاطَبَ الشَّارِعُ بِمَا يُرِيدُ بِهِ غَيْرَ ظَاهِرِهِ، فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُخَاطِبًا لَنَا فِي الْحَالِ أَوْ يَكُونَ مُخَاطِبًا لَنَا بِهِ حَالًا: الْأَوَّلُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِتَفْهِيمِنَا بِخِطَابِهِ حَالًا، وَإِلَّا خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُخَاطِبًا لَنَا حَالًا، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ. وَبَيَانُ لُزُومِ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ " خَاطَبَ فُلَانٌ فُلَانًا " أَنَّهُ قَصَدَ تَفْهِيمَ كَلَامِهِ لَهُ. وَإِذَا كَانَ قَاصِدًا لِلتَّفْهِيمِ فِي الْحَالِ، فَإِنْ قَصَدَ تَفْهِيمَ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ فَقَدْ قَصَدَ تَجْهِيلَنَا، وَهُوَ قَبِيحٌ، وَإِنْ قَصَدَ تَفْهِيمَ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْهُ فَقَدْ قَصَدَ مَا لَا سَبِيلَ لَنَا إِلَيْهِ دُونَ الْبَيَانِ، وَهُوَ أَيْضًا قَبِيحٌ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُخَاطِبَنَا بِالْعُمُومِ وَيُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لَهُ فِي الْحَالِ لَتَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ مِنْ كَلَامِهِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا مِنْ لَفْظٍ يُبَيِّنُ بِهِ الْمُرَادَ إِلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَرَادَ بِهِ غَيْرَ (مَا هُوَ) الظَّاهِرُ مِنْهُ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا، وَذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْخِطَابِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأَوْلَى بِالْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُجْمَلَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الْمُرَادُ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِأَحَدِ مَدْلُولَاتِهِ الْمُعَيَّنَةِ الْمَفْهُومَةِ لَهُ، وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ اعْتِقَادُهُ لِلْوُجُوبِ وَالْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ بِتَقْدِيرِ الْبَيَانِ وَالتَّعْيِينِ، فَكَانَ مُفِيدًا بِخِلَافِ الْخِطَابِ، بِمَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا، كَمَا فَرَضُوهُ. وَبِهَذَا يَكُونُ جَوَابُ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ. وَعَنِ الشُّبْهَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ إِنَّمَا يَجُوزُ إِلَى الْوَقْتِ الَّذِي تَدْعُو الْحَاجَةُ فِيهِ إِلَى الْبَيَانِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا مُعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلرَّسُولِ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى (لَهُ) . وَعِنْدَ ذَلِكَ فَأَيُّ وَقْتٍ وَجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 بِمَدْلُولِ اللَّفْظِ فِيهِ، فَذَلِكَ هُوَ وَقْتُ الْحَاجَةِ إِلَى الْبَيَانِ، وَالْبَيَانُ لَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ مُتَأَخِّرًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَقَبْلَ وَقْتِ الْوُجُوبِ، فَلَا عَمَلَ لِلْمُكَلَّفِ، حَتَّى يُقَالَ بِأَنَّهُ عَامِلٌ بِعُمُومٍ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ كَمَا لَوْ أَمَرَ بِعِبَادَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ اعْتِقَادُهُ لِعُمُومِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ، مَعَ جَوَازِ نَسْخِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ بَيَانٌ، وَكُلُّ مَا يُعْتَذَرُ بِهِ فِي النَّسْخِ فَهُوَ عُذْرٌ لَنَا هَاهُنَا. وَعَنِ الشُّبْهَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ وَإِنْ لَزِمَ مِنْ كَوْنِهِ مُخَاطِبًا لَنَا أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِتَفْهِيمِنَا فِي الْحَالِ، لَكِنْ لَا لِنَفْسِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ فَقَطْ، بَلْ يُفْهَمُ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ مَعَ تَجْوِيزِ تَخْصِيصِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَجْهِيلٌ وَلَا إِحَالَةٌ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ وُرُودَ الْمُخَصِّصِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ مُجَوَّزَ التَّخْصِيصِ، وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ الْخِطَابُ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَقْسَامِ بِعَيْنِهَا مُتَحَقِّقَةٌ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَازَ الْخِطَابُ بِهِ مَعَ تَأْخِيرِ بَيَانِهِ. وَعَنِ الْخَامِسَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ، إِمَّا بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ لَا يَسُوغُ فِيهِ احْتِمَالُ التَّأْوِيلِ، أَوْ ظَنِّيٍّ اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ مَا أَوْجَبَ الْعِلْمَ بِمَدْلُولِ كَلَامِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ الْخِطَابُ الْوَارِدُ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ نَسْخَ حُكْمِهِ مَعَ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْهُ، وَالْجَوَابُ يَكُونُ مُتَّحِدًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 [الْمَسْأَلَةُ الخامسة تَأْخِيرِ تَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْعِبَادَاتِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الَّذِينَ مَنَعُوا مِنْ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُرَادِ مِنَ الْخِطَابِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ. اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ تَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْعِبَادَاتِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى جَوَازِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ، لَمْ يَخْلُ: إِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ لِذَاتِهِ، أَوْ لِمَعْنًى مِنْ خَارِجٍ، الْأَوَّلُ مُحَالٌ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ لِذَاتِهِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِأَمْرٍ مِنْ خَارِجٍ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، كَيْفَ وَإِنَّ تَأْخِيرَهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَقْتَضِي التَّأْخِيرَ. وَلِهَذَا لَوْ صَرَّحَ الشَّارِعُ بِذَلِكَ، لَمَا كَانَ مُمْتَنَعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ مَانِعَةٌ مِنَ التَّأْخِيرِ وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: الِامْتِنَاعُ مِنَ التَّأْخِيرِ إِنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ. قَوْلُكُمْ: يَحْتَمِلُ وُجُودُ مَفْسَدَةٍ فِي التَّقْدِيمِ، وَمَصْلَحَةٍ فِي التَّأْخِيرِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. قُلْنَا: فَهَذَا كَمَا لَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجَزْمُ بِامْتِنَاعِ التَّأْخِيرِ، فَلَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْجَزْمُ بِجَوَازِ التَّأْخِيرِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُكُمْ. وَجَوَابُ الْأَوَّلِ: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: (بَلِّغْ) أَمْرٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ (1) وَإِنْ سَلَّمَنَا أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، غَيْرَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ تَبْلِيغَ الْأَحْكَامِ الَّتِي وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهَا، وَإِنَّمَا هُوَ دَالٌّ عَلَى تَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ مِنْ لَفْظِ الْقُرْآنِ؛ إِذْ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْمُنَزَّلِ. وَجَوَابُ الثَّانِي أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، تَسَاقَطَا، وَبَقِينَا عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.   (1) الْأَمْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْوُجُوبِ قَطْعًا وَلَيْسَ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ الْأَمْرِ إِذْ مَحَلُّهُ الْأَمْرُ الْمُجَرَّدُ مِنَ الْقَرَائِنِ وَهُوَ فِي الْآيَةِ قَدِ اقْتَرَنَ بِالتَّهْدِيدِ عَلَى التَّرْكِ فِي قَوْلِهِ (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 [الْمَسْأَلَةُ السادسة إِسْمَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُكَلَّفِ الْعَامَّ دُونَ إِسْمَاعِهِ لِلدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ لَهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إِسْمَاعِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُكَلَّفِ الْعَامَّ دُونَ إِسْمَاعِهِ لِلدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ لَهُ. (1) فَذَهَبَ الْجُبَّائِيُّ وَأَبُو الْهُذَيْلِ (2) إِلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ فِي الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ السَّمْعِيِّ، وَأَجَازَ أَنْ يُسْمِعَهُ الْعَامَّ الْمُخَصَّصَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ السَّامِعُ دَلَالَتَهُ عَلَى التَّخْصِيصِ. وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَالنَّظَّامُ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى جَوَازِ إِسْمَاعِ الْعَامِّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ الدَّلِيلَ الْمُخَصِّصَ لَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُخَصِّصُ سَمْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا. وَهُوَ الْحَقُّ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ تَأْخِيرِ الْمُخَصِّصِ عَنِ الْخِطَابِ إِذَا كَانَ سَمْعِيًّا، مَعَ أَنَّ عَدَمَ سَمَاعِهِ لِعَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ أَتَمُّ مِنْ عَدَمِ سَمَاعِهِ مَعَ وُجُودِهِ فِي نَفْسِهِ. فَإِذَا جَازَ تَأْخِيرُ الْمُخَصِّصِ، فَجَوَازُ تَأْخِيرِ إِسْمَاعِهِ مَعَ وُجُودِهِ أَوْلَى. الثَّانِي: هُوَ أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ، وَدَلِيلُهُ إِسْمَاعُ فَاطِمَةَ قَوْلَهُ تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَسْمَعْ بِقَوْلِهِ: " «نَحْنُ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ» " إِلَّا بَعْدَ حِينٍ. وَكَذَلِكَ أُسْمِعَتِ الصَّحَابَةُ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَلَمْ يَسْمَعْ أَكْثَرُهُمُ الدَّلِيلَ الْمُخَصِّصَ لِلْمَجُوسِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ» ) إِلَّا بَعْدَ حِينٍ، إِلَى وَقَائِعَ كَثِيرَةٍ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ. وَكُلُّ مَا يَتَشَبَّثُ بِهِ الْخُصُومُ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ فَغَيْرُ خَارِجٍ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ لَهُمْ مِنَ الشُّبَهِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَجَوَابُهُا مَا سَبَقَ مَعَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِجَوَازِ إِسْمَاعِهِ الْعَامَّ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ بِالدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ، إِذَا كَانَ عَقْلِيًّا. [الْمَسْأَلَةُ السابعة التَّدْرِيجِ فِي الْبَيَانِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اخْتَلَفَ الْمُجَوِّزُونَ لِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ الْعَامِّ فِي جَوَازِ التَّدْرِيجِ فِي الْبَيَانِ فَمَنَعَ مِنْهُ قَوْمٌ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْبَعْضِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى إِخْرَاجِهِ دُونَ غَيْرِهِ يُوهِمُ وُجُوبَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْبَاقِي، وَامْتِنَاعِ التَّنْصِيصِ بِشَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ   (1) خِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ إِسْمَاعِ اللَّهِ لِلْمُكَلَّفِ الْعَامَّ دُونَ إِسْمَاعِهِ الدَّلِيلَ الْمُخَصِّصَ لَهُ خِلَافٌ لَا جَدْوَى لَهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ فَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِمِثْلِهِ. (2) أَبُو الْهُذَيْلِ هُوَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْهُذَيْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِالْعَلَّافِ رَأَسٌ فِي الِاعْتِزَالِ مَاتَ 235 أَوْ 236 أَوْ 237. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 تَجْهِيلٌ لِلْمُكَلَّفِ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِي هَذَا التَّجْهِيلُ بِالتَّخْصِيصِ عَلَى كُلِّ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْعُمُومِ. وَمَذْهَبُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ. وَدَلِيلُ جَوَازِهِ وُقُوعُهُ. وَبَيَانُ وُقُوعِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ سَارِقٍ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ بِمَا خُصِّصَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ نِصَابِ السَّرِقَة أَوَّلًا، وَعَدَمِ الشُّبْهَةِ ثَانِيًا وَقَعَ عَلَى التَّدْرِيجِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} خُصِّصَ أَوَّلًا بِتَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ بِذِكْرِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، ثُمَّ بِذِكْرِ الْأَمْنِ فِي الطَّرِيقِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ طَلَبِ الْخِفَارَةِ ثَانِيًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} أُخْرِجَ مِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْعَسِيفُ وَالْمَرْأَةُ ثَانِيًا. وَكَذَلِكَ آيَةُ الْمِيرَاثِ أُخْرِجَ مِنْهَا مِيرَاثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقَاتِلِ وَالْكَافِرِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى التَّدْرِيجِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعُمُومَاتِ الْمُخَصَّصَةِ. وَلَوْلَا جَوَازُهُ لَمَا وَقَعَ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْبَعْضِ بِالذِّكْرِ يُوهِمُ نَفْيَ تَخْصِيصِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْخِطَابِ الْعَامِّ دُونَ ذِكْرِ الْمُخَصِّصِ مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا فِي التَّعْمِيمِ بِلَفْظِهِ، إِذَا لَمْ يُوهِمُ الْمَنْعَ مِنَ التَّخْصِيصِ، فَإِخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى إِثْبَاتِ غَيْرِ ذَلِكَ الْبَعْضِ بِلَفْظِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُوهِمًا لِمَنْعِ التَّخْصِيصِ. [الْمَسْأَلَةُ الثامنة إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ بِعِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ إِذَا وَرَدَ لَفْظٌ عَامٌّ بِعِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْعَمَلِ بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: يَجِبُ اعْتِقَادُ عُمُومِهِ جَزْمًا قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَصِّصِ، وَإِذَا ظَهَرَ الْمُخَصِّصُ تَغَيَّرَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ، وَهُوَ خَطَأٌ: فَإِنَّ احْتِمَالَ إِرَادَةِ الْخُصُوصِ بِهِ قَائِمٌ، وَلِهَذَا، لَوْ ظَهَرَ الْمُخَصِّصُ لَمَا كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا، وَوَجَبَ اعْتِقَادُ الْخُصُوصِ. وَمَا هَذَا شَأْنُهُ فَاعْتِقَادُ عُمُومِهِ جَزْمًا قَبْلَ الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَحْثِ عَنْ مُخَصِّصِهِ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ تَرْكَنُ النَّفْسُ إِلَى عَدَمِهِ، يَكُونُ مُمْتَنِعًا، فَإِذًا لَا بُدَّ فِي الْجَزْمِ بِاعْتِقَادِ عُمُومِهِ مِنِ اعْتِقَادِ انْتِفَاءِ مُخَصِّصِهِ بِطَرِيقِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ فِي امْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِمُوجِبِ اللَّفْظِ الْعَامِّ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنِ الْمُخَصِّصِ، وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا: فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى امْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِهِ وَاعْتِقَادِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 عُمُومِهِ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ بِانْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ، وَإِلَّا فَالْجَزْمُ بِعُمُومِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ مَعَ احْتِمَالِ وُجُودِ الْمُعَارِضِ مُمْتَنِعٌ. قَالَ: وَمَعْرِفَةُ انْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ مُمْكِنٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَمَسِّكُ بِالْعُمُومِ فِيهَا مِمَّا كَثُرَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَطَالَ النِّزَاعُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِيهَا، وَلَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى مُوجِبٍ لِلتَّخْصِيصِ، مَعَ كَثْرَةِ بَحْثِهِمْ وَاسْتِقْصَائِهِمْ. وَلَوْ كَانَ ثَمَّ شَيْءٌ لَاسْتَحَالَ أَنْ لَا يُعْرَفَ عَادَةً، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعُمُومِ الْخُصُوصَ لَاسْتَحَالَ أَنْ لَا يَنْصِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَيُبَلِّغَهُ لِلْمُكَلَّفِينَ. وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى امْتِنَاعِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ، وَهُوَ غَيْرُ يَقِينِيٍّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّ مُخَصِّصٌ لَاطَّلَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ غَيْرُ يَقِينِيٍّ لِجَوَازِ وُجُودِهِ مَعَ عَدَمِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ، (1) وَبِتَقْدِيرِ اطِّلَاعِ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ، فَنَقْلُهُ لَهُ أَيْضًا غَيْرُ قَاطِعٍ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا. كَيْفَ وَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِ الْعَامُّ مِمَّا كَثُرَ خَوْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ وَبَحْثُهُمْ عَنْهُ لِيَصِحَّ مَا قِيلَ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَامِّ الْخُصُوصَ لَنَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا، غَيْرُ مُسَلَّمٍ. (2) وَبِتَقْدِيرِ نَصْبِهِ لِلدَّلِيلِ، لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ اطِّلَاعِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَيْهِ. وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ نَقْلِهِمْ لَهُ (3) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَى الْقَطْعِ بِذَلِكَ طَرِيقٌ فَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ لَتَعَطَّلَتِ الْعُمُومَاتُ بِأَسْرِهَا، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الظَّنِّ بِانْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ، فَالْحَدُّ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ عِنْدَهُ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْمُخَصِّصِ بَحْثًا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُهُ وَأَنَّهُ لَوْ بَحَثَ عَنْهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا كَانَ بَحْثُهُ غَيْرَ مُفِيدٍ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْعَمَلِ بِكُلِّ دَلِيلٍ مَعَ مُعَارِضِهِ.   (1) جَوَازُ وُجُودِ الْمُخَصِّصِ لِلْعَامِّ مَعَ عَدَمِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ يُنَافِي عِصْمَةَ الْأُمَّةِ فِي إِجْمَاعِهَا وَيَرُدُّهُ أَيْضًا حَدِيثُ: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً عَلَى الْحَقِّ " الْحَدِيثَ. (2) يُجَابُ عَنْ مَنْعِ الْمُلَازَمَةِ بِأَنَّ نَصْبَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُرَادِ مِمَّا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فَإِنَّ إِرَادَةَ الْخُصُوصِ مِنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ دُونَ دَلِيلٍ تَلْبِيسٌ يُنَافِي حِكْمَةَ اللَّهِ وَعَدْلَهُ وَرَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ. (3) لُزُومُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُخَصِّصِ وَنَقْلِهِ وَلَوْ مِنْ آحَادِ الْمُكَلَّفِينَ هُوَ مُقْتَضَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَةُ عَلَى الْعِصْمَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 [الصِّنْفُ التَّاسِعُ فِي الظَّاهِرِ وَتَأْوِيلِهِ] [مُقَدِّمَةُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الظَّاهِرِ وَالتَّأْوِيلِ] وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ: فَفِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الظَّاهِرِ وَالتَّأْوِيلِ. أَمَّا الظَّاهِرُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ الْوَاضِحِ الْمُنْكَشِفِ وَمِنْهُ يُقَالُ: ظَهَرَ الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ، إِذَا اتَّضَحَ وَانْكَشَفَ، وَفِي لِسَانِ الْمُتَشَرِّعَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: اللَّفْظُ الظَّاهِرُ هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فَهُمْ مَعْنًى مِنْهُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَهُوَ غَيْرُ جَامِعٍ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةٍ مُسْتَغْنًى عَنْهَا. أَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ، فَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ مَا فِيهِ أَصْلُ الظَّنِّ دُونَ غَلَبَةِ الظَّنِّ مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا. وَلِهَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ: ظَنٌّ، وَغَلَبَةُ ظَنٍّ، وَلِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ مَا فِيهِ أَصْلُ الظَّنِّ وَزِيَادَةٌ. وَأَمَّا اشْتِمَالُهُ عَلَى الزِّيَادَةِ الْمُسْتَغْنَى عَنْهَا فَهِيَ قَوْلُهُ: (مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ) فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ مُفِيدًا لِلظَّنِّ أَنْ لَا يَكُونَ قَطْعِيًّا. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: اللَّفْظُ الظَّاهِرُ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، أَوِ الْعُرْفِيِّ، وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا (مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى بِالْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ أَوِ الْعُرْفِيِّ) احْتِرَازًا عَنْ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، إِذَا لَمْ يَصِرْ عُرْفِيًّا، كَلَفْظِ الْأَسَدِ فِي الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ. وَقَوْلُنَا (وَيُحْتَمَلُ غَيْرُهُ) احْتِرَازٌ عَنِ الْقَاطِعِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. وَقَوْلُنَا (احْتِمَالًا مَرْجُوحًا) احْتِرَازٌ عَنِ الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ. وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ بِحُكْمِ الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الْأَسَدِ بِإِزَاءِ الْحَيَوَانِ الْمَخْصُوصِ، وَإِلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ بِحُكْمِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، كَإِطْلَاقِ لَفْظِ الْغَائِطِ بِإِزَاءِ الْخَارِجِ الْمَخْصُوصِ مِنَ الْإِنْسَانِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَفِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ آلَ يَئُولُ، أَيْ رَجَعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} أَيْ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: تَأَوَّلَ فُلَانٌ الْآيَةَ الْفُلَانِيَّةَ، أَيْ نَظَرَ إِلَى مَا يَئُولُ إِلَيْهِ مَعْنَاهَا. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَشَرِّعَةِ قَالَ الْغَزَالِيُّ: التَّأْوِيلُ عِبَارَةٌ عَنِ احْتِمَالٍ يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 أَمَّا أَوَّلًا، فَلِأَنَّ التَّأْوِيلَ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الِاحْتِمَالِ الَّذِي حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَمَا ثَانِيًا: فَلِأَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ التَّأْوِيلُ بِصَرْفِ اللَّفْظِ عَمَّا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ غَيْرِ ظَنِّيٍّ، حَيْثُ قَالَ: يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ يَصِيرُ بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الظَّاهِرُ، وَأَمَا ثَالِثًا: فَلِأُنَّهُ أُخِذَ فِي حَدِّ التَّأْوِيلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَأْوِيلٌ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّأْوِيلِ بِدَلِيلٍ، وَلِهَذَا يُقَالُ تَأْوِيلٌ بِدَلِيلٍ وَتَأْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. فَتَعْرِيفُ التَّأْوِيلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجَدُ مَعَهُ الِاعْتِضَادُ بِالدَّلِيلِ لَا يَكُونُ تَعْرِيفًا لِلتَّأْوِيلِ الْمُطْلَقِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا أَرَادَ تَعْرِيفَ التَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ دُونَ غَيْرِهِ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: أَمَّا التَّأْوِيلُ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَأْوِيلٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، هُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ مِنْهُ، مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الْمَقْبُولُ الصَّحِيحُ فَهُوَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ مِنْهُ مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ بِدَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا (حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى غَيْرِ مَدْلُولِهِ) احْتِرَازًا، عَنْ حَمْلِهِ عَلَى نَفْسِ مَدْلُولِهِ. وَقَوْلُنَا (الظَّاهِرُ مِنْهُ) احْتِرَازٌ عَنْ صَرْفِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ إِلَى الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى تَأْوِيلًا. وَقَوْلُنَا (مَعَ احْتِمَالِهِ لَهُ) احْتِرَازٌ عَمَّا إِذَا صُرِفَ اللَّفْظُ عَنْ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ إِلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ أَصْلًا، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا. وَقَوْلُنَا: (بِدَلِيلٍ يُعَضِّدُهُ) احْتِرَازٌ عَنِ التَّأْوِيلِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ تَأْوِيلًا صَحِيحًا أَيْضًا. وَقَوْلُنَا: (بِدَلِيلٍ يَعُمُّ الْقَاطِعَ وَالظَّنِّيَّ) وَعَلَى هَذَا فَالتَّأْوِيلُ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَى النَّصِّ وَلَا إِلَى الْمُجْمَلِ، وَإِنَّمَا يَتَطَرَّقُ إِلَى مَا كَانَ ظَاهِرًا. (1) وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى التَّأْوِيلِ فَهُوَ مَقْبُولٌ مَعْمُولٌ بِهِ إِذَا تَحَقَّقَ مَعَ شُرُوطِهِ، وَلَمْ يَزَلْ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ فِي كُلِّ عَصْرٍ مَنْ عَهِدَ الصَّحَابَةِ إِلَى زَمَنِنَا عَامِلِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ.   (1) ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَةَ لِلتَّأْوِيلِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ، وَأَوْضَحَ كُلًّا مِنْهَا بِالْأَمْثِلَةِ فَانْظُرْهَا فِي التَّدْمُرِيَّةِ وَالْحَمَوِيَّةِ مِنْ كُتُبِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وَشُرُوطُهُ أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ الْمُتَأَوِّلُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَابِلًا لِتَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِيمَا صُرِفَ عَنْهُ مُحْتَمِلًا لِمَا صُرِفَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الصَّارِفُ لِلَّفْظِ عَنْ مَدْلُولِهِ الظَّاهِرِ رَاجِحًا عَلَى ظُهُورِ اللَّفْظِ فِي مَدْلُولِهِ لِيَتَحَقَّقَ صَرْفُهُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا لَا يَكُونُ صَارِفًا وَلَا مَعْمُولًا بِهِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِظُهُورِ اللَّفْظِ فِي الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَغَايَتُهُ إِيجَابُ التَّرَدُّدِ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَأْوِيلًا غَيْرَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَرِضِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ إِيقَافَ دَلَالَةِ الْمُسْتَدِلِّ، وَلَا يُكْتَفَى بِهِ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ دُونَ ظُهُورِهِ، وَعَلَى حَسَبِ قُوَّةِ الظُّهُورِ وَضَعْفِهِ وَتَوَسُّطِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ. وَتَمَامُ كَشْفِ ذَلِكَ بِمَسَائِلَ ثَمَانٍ: [الْمَسْأَلَةُ الأولى قَوْلُهُ عليه السلام لِغَيْلَانَ وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِغَيْلَانَ وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ نِسْوَةٍ: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» " (1) «وَقَوْلُهُ لِفَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ، وَقَدْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ: " أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ، وَفَارِقِ الْأُخْرَى» " (2) أَمْرٌ بِالْإِمْسَاكِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي اسْتِصْحَابِ النِّكَاحِ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِثَلَاثِ تَأْوِيلَاتٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِمْسَاكِ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ " أَمْسِكْ أَرْبَعًا " أَيِ انْكِحْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ " وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ " لَا تَنْكِحْهُنَّ.   (1) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ (أَسْلَمَ غَيْلَانُ الثَّقَفِيُّ وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا) قَالَ الْبُخَارِيُّ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَحَكَمَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو زُرْعَةَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ أَصَحُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ. (2) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكِ بْنِ فَيْرُوزٍ الدَّيْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: أَسْلَمْتُ وَعِنْدِي امْرَأَتَانِ أُخْتَانِ فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا. وَفِي لَفْظٍ لِلتِّرْمِذِيِّ: " اخْتَرْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ ". صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالدَّرَاقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ وَالْعُقَيْلِيُّ. انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا يُحْتَمَلُ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الصُّورَتَيْنِ كَانَ وَاقِعًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ حَصْرِ عَدَدِ النِّسَاءِ فِي أَرْبَعٍ وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ، فَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، وَالْبَاطِلُ مِنْ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ لَيْسَ إِلَّا مَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ حَالَ وُقُوعِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَ الزَّوْجَ بِاخْتِيَارِ أَوَائِلِ النِّسَاءِ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَدِحَةً عَقْلًا غَيْرَ أَنَّ مَا اقْتَرَنَ بِلَفْظِ الْإِمْسَاكِ مِنَ الْقَرَائِنِ دَارِئَةٌ لَهَا. أَمَّا التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ فَمِنْ وُجُوهٍ، الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُتَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ لَفْظِ (الْإِمْسَاكِ) إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِدَامَةُ دُونَ التَّجْدِيدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ فَوَّضَ الْإِمْسَاكَ وَالْفِرَاقَ إِلَى خِيرَةِ الزَّوْجِ، وَهُمَا غَيْرُ وَاقِعَيْنِ بِخِيرَتِهِ عِنْدَهُمْ؛ لِوُقُوعِ الْفِرَاقِ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ وَتَوَقُّفِ النِّكَاحِ عَلَى رِضَا الزَّوْجَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ شُرُوطَ النِّكَاحِ مَعَ دَعْوِ الْحَاجَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَمَرَ الزَّوْجَ بِإِمْسَاكِ أَرْبَعٍ مِنَ الْعَشْرِ، وَوَاحِدَةٍ مِنَ الْأُخْتَيْنِ، وَبِمُفَارَقَةِ الْبَاقِي، وَالْأَمْرُ إِمَّا لِلْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ ظَاهِرًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَحَصْرُ التَّزْوِيجِ فِي الْعَشْرَةِ وَفِي الْأُخْتَيْنِ لَيْسَ وَاجِبًا وَلَا مَنْدُوبًا، وَالْمُفَارَقَةُ لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الزَّوْجِ، حَتَّى يَكُونَ الْأَمْرُ مُتَعَلِّقًا بِهَا. الْخَامِسُ: هُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ الزَّوْجِ الْمَأْمُورِ إِنَّمَا هُوَ امْتِثَالُ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِمْسَاكِ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ تَجْدِيدَ النِّكَاحِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ. السَّادِسُ: هُوَ أَنَّ الزَّوْجَ إِنَّمَا سَأَلَ عَنِ الْإِمْسَاكِ بِمَعْنَى الِاسْتِدَامَةِ لَا بِمَعْنَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ، وَعَنِ الْفِرَاقِ بِمَعْنَى انْقِطَاعِ النِّكَاحِ. وَالْأَصْلُ فِي جَوَابِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ. وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّانِي فَبَعِيدٌ أَيْضًا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَصْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لَمَا خَلَا ابْتِدَاءُ الْإِسْلَامِ عَنِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ عَادَةً، وَعَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ وَقَعَ لَنُقِلَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: الْمُرَادُ بِهِ مَا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلِهَذَا قَالَ: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ فَيَدْرَؤُهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَوْجِ الْأُخْتَيْنِ " أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الْأُخْرَى» " «وَقَوْلُهُ لِوَاحِدٍ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ عَلَى خَمْسِ نِسْوَةٍ " اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَفَارِقْ وَاحِدَةً» " (1) قَالَ الْمَأْمُورُ بِذَلِكَ فَعَمَدْتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ عِنْدِي، فَفَارَقْتُهَا. [الْمَسْأَلَةُ الثانية تَّأْوِيلَاتِ بَعِيدَةِ فِي قَوْلِهِ عليه السلام فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَمِنْ جُمْلَةِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ( «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ) (2) مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مِقْدَارُ قِيمَةِ الشَّاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ( «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» ) قَوِيُّ الظُّهُورِ فِي وُجُوبِ الشَّاةِ عَيْنًا، حَيْثُ إِنَّهُ خَصَّصَهَا بِالذِّكْرِ، وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ إِضْمَارِ حُكْمٍ، وَهُوَ إِمَّا النَّدْبُ أَوِ الْوُجُوبُ، وَإِضْمَارُ النَّدْبِ مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ النِّصَابِ بِهِ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْوَاجِبِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَأْوِيلِ ذَلِكَ بِالْحَمْلِ عَلَى وُجُوبِ مِقْدَارِ قِيمَةِ الشَّاةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ حَاجَاتِ الْفُقَرَاءِ وَسَدُّ خَلَّاتِهِمْ جَوَازُ دَفْعِ الْقِيمَةِ، وَفِيهِ رَفْعُ الْحُكْمِ، وَهُوَ وُجُوبُ الشَّاةِ بِمَا اسْتُنْبِطَ مِنْهُ مِنَ الْعِلَّةِ، وَهِيَ دَفْعُ حَاجَاتِ الْفُقَرَاءِ وَاسْتِنْبَاطُ الْعِلَّةِ مِنَ الْحُكْمِ (3) إِذَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِرَفْعِهِ كَانَتْ بَاطِلَةً. وَمِمَّا يَلْتَحِقُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ (4) مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الْآيَةَ، مِنْ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ فِي جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ، لَا دَفْعُ   (1) الْحَدِيثُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَنْ نَوْفَلِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقِ الْأُخْرَى ". وَفِي سَنَدِهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ. (2) هَذَا مَعْنَى جُزْءٍ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ أَنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَدِيثَ. (3) وَاسْتِنْبَاطُ الْعِلَّةِ مِنَ الْحُكْمِ - هَذَا مِنْ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ وَالتَّقْدِيرُ: وَالْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنَ الْحُكْمِ - وَلَوْ عَبَّرَ بِهَذَا لَكَانَ أَنْسَبَ لِمَا ذُكِرَ بَعْدُ. (4) أَيْ فِي الْبُعْدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 الْحَاجَةِ عَنِ الْكُلِّ لِأَنَّ الْآيَةَ (1) ظَاهِرَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ لِلصَّدَقَةِ، حَيْثُ إِنَّهُ أَضَافَهَا إِلَيْهِمْ بِلَامِ التَّمْلِيكِ فِي عَطْفِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ، وَمَا اسْتُنْبِطَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ مِنَ الْعِلَّةِ يَكُونُ رَافِعًا لِحُكْمِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ صَحِيحًا. وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ مَقْصُودَ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَشُرُوطِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَنَحْنُ وَإِنْ سَلَّمْنَا كَوْنَ ذَلِكَ مَقْصُودًا مِنَ الْآيَةِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ مِنْهَا سِوَاهُ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ مَقْصُودًا، وَكَوْنِ الِاسْتِحْقَاقِ بِصِفَةِ التَّشْرِيكِ مَقْصُودًا، وَهُوَ الْأَوْلَى مُوَافَقَةً لِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ، وَالْعَطْفِ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ. وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِطْعَامُ طَعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ دَفْعِ حَاجَةِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَدَفْعِ حَاجَةِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فِي سِتِّينَ يَوْمًا، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى {فَإِطْعَامُ} فِعْلٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَفْعُولٍ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ. وَقَوْلَهُ {سِتِّينَ مِسْكِينًا} صَالِحٌ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ الْإِطْعَامِ، وَهُوَ مِمَّا يُمْكِنُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ مَعَ ظُهُورِهِ، وَالطَّعَامُ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَفْعُولَ الْإِطْعَامِ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ فَتَقْدِيرُ حَذْفِ الْمُظْهَرِ وَإِظْهَارِ الْمَفْعُولِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بَعِيدٌ فِي اللُّغَةِ وَالْوَاجِبُ عَكْسُهُ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ الْعَدَدِ فِيمَا اسْتُنْبِطَ مِنْهُ يَكُونُ مُوجِبًا لِرَفْعِهِ فَكَانَ مُمْتَنِعًا، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَقْصِدَ الشَّارِعُ مَعَ ذَلِكَ رِعَايَةَ الْعَدَدِ دَفَعًا لِحَاجَةِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، نَظَرًا لِلْمُكَفِّرِ بِمَا يَنَالُهُ مِنْ دُعَائِهِمْ لَهُ وَاغْتِنَامِهِ لِبَرَكَتِهِمْ (2) وَقَلَّمَا يَخْلُو جَمْعٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ مُغْتَنَمَ الْهِمَّةِ، وَذَلِكَ فِي الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ مِمَّا يَنْدُرُ.   (1) لِأَنَّ الْآيَةَ - إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِبُعْدِ هَذَا التَّأْوِيلِ. (2) وَاغْتِنَامِهِ لِبَرَكَتِهِمْ، أَيْ لِبَرَكَةِ دُعَائِهِمْ لَهُ مِنْ أَجْلِ مُوَاسَاتِهِ لَهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 [الْمَسْأَلَةُ الثالثة قَوْلُهُ عليه السلام أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» " (1) صَدَّرَ الْكَلَامَ (بِأَيِّ وَمَا) فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَذَلِكَ مِنْ أَبْلَغِ أَدَوَاتِ الْعُمُومِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ وَأَكَّدَهُ بِالْبُطْلَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ مَا يَدُلُّ بِهِ الْفَصِيحُ الْمُصْقِعُ عَلَى التَّعْمِيمِ وَالْبُطْلَانِ. وَقَدْ طَرَقَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَ تَأْوِيلَاتٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَرْأَةِ الصَّغِيرَةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْكَبِيرَةَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا الْأَمَةَ وَالْمُكَاتَبَةَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ مَصِيرَهُ إِلَى الْبُطْلَانِ غَالِبًا، بِتَقْدِيرِ اعْتِرَاضِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَيْهَا، إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ. وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا فِي صَرْفِ هَذَا الْعُمُومِ الْقَوِيِّ الْمُقَارِبِ لِلْقَطْعِ عَنْ ظَاهِرِهِ. أَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الصَّغِيرَةِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى امْرَأَةً فِي وَضْعِ اللِّسَانِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِالْبُطْلَانِ، وَنِكَاحُ الصَّغِيرَةِ لِنَفْسِهَا دُونَ إِذْنِ وَلَيِّهَا صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ، مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ. وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْأَمَةِ فَيَدْرَؤُهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» " وَمَهْرُ الْأَمَةِ لَيْسَ لَهَا بَلْ لِسَيِّدِهَا. وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جِنْسِ النِّسَاءِ نَادِرَةٌ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ مِنْ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ مِنَ الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ إِطْلَاقُ مَا هَذَا شَأْنُهُ، وَإِرَادَةُ مَا هُوَ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ وَالشُّذُوذِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ لَقِيتَهَا الْيَوْمَ فَأَعْطِهَا دِرْهَمًا " وَقَالَ: " إِنَّمَا أَرَدْتُ بِهِ الْمُكَاتَبَةَ " كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْإِلْغَازِ فِي الْقَوْلِ وَهُجْرِ الْكَلَامِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى غَيْرُ الْأَقَلِّ النَّادِرِ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ.   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأُعِلَّ بِالْإِرْسَالِ، وَقَوْلُ ابْنِ جُرَيْجٍ: ثُمَّ أَلْفَيْتُ الزُّهْرِيَّ فَسَأَلْتُهُ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وَأَمَّا حَمْلُ بُطْلَانِ النِّكَاحِ عَلَى مَصِيرِهِ إِلَى الْبُطْلَانِ فَبَعِيدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَصِيرَ الْعَقْدِ إِلَى الْبُطْلَانِ مِنْ أَنْدَرِ مَا يَقَعُ: وَالتَّعْبِيرُ بِاسْمِ الشَّيْءِ عَمَّا يَئُولُ إِلَيْهِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَآلُ إِلَيْهِ قَطْعًا: كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أَوْ غَالِبًا كَمَا فِي تَسْمِيَةِ الْعَصِيرِ خَمْرًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} الثَّانِي: قَوْلُهُ: " «فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا» " وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ وَاقِعًا صَحِيحًا لَكَانَ الْمَهْرُ لَهَا بِالْعَقْدِ لَا بِالِاسْتِحْلَالِ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ تأويل بعيد لقوله عليه السلام لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ قَوْلُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» " إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَوْمُ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ مِنْ حَيْثُ (1) إِنَّ الصَّوْمَ نَكِرَةٌ وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ النَّفْيِ فَكَانَ ظَاهِرُهُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ صَوْمٍ. وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ لَفْظِ الصَّوْمِ إِنَّمَا هُوَ الصَّوْمُ الْأَصْلِيُّ الْمُتَخَاطَبُ بِهِ فِي اللُّغَاتِ وَهُوَ الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ (2) دُونَ مَا وُجُوبُهُ بِعَارِضٍ، وَوُقُوعُهُ نَادِرٌ: وَهُوَ الْقَضَاءُ وَالنَّذْرُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ إِطْلَاقَ مَا هُوَ قَوِيٌّ فِي الْعُمُومِ وَإِرَادَةَ مَا هُوَ الْعَارِضُ الْبَعِيدُ النَّادِرُ، وَإِخْرَاجَ الْأَصْلِ الْغَالِبِ مِنْهُ إِلْغَازٌ فِي الْقَوْلِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " مَنْ دَخَلَ دَارِي مِنْ أَقَارِبِي أَكْرِمْهُ " وَقَالَ: " إِنَّمَا أَرَدْتُ قَرَابَةَ السَّبَبِ دُونَ النَّسَبِ أَوْ ذَوَاتِ الْأَرْحَامِ الْبَعِيدَةِ دُونَ الْعَصَبَاتِ الْقَرِيبَةِ " كَانَ قَوْلُهُ مُنْكَرًا مُسْتَبْعَدًا، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْتَهِضُ فِي الْبُعْدِ إِلَى بُعْدِ التَّأْوِيلِ فِي حَمْلِ الْخَبَرِ السَّابِقِ عَلَى الْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبَةِ.   (1) مِنْ حَيْثُ إِلَخْ تَعْلِيلٌ لِبُعْدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَأْوِيلِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ لِلْحَدِيثِ. (2) لَكِنْ دَلَّ حَدِيثُ عَائِشَةَ الَّذِي رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ عَلَى اسْتِثْنَاءِ صِيَامِ التَّطَوُّعِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 [الْمَسْأَلَةُ الخامسة تَأْوِيلُ بعيد لقوله عليه السلام مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ أَيْضًا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ عَتَقَ عَلَيْهِ» (1) فَإِنَّ ظُهُورَ وُرُودِهِ لِتَأْسِيسِ قَاعِدَةٍ، وَتَمْهِيدِ أَصْلٍ، فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى حُرْمَةِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ، وَصِلَتُهُ قَوِيُّ الظُّهُورِ فِي قَصْدِ التَّعْمِيمِ لِكُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَذَلِكَ مِمَّا يُمْتَنَعُ مَعَهُ التَّأْوِيلُ بِالْحَمْلِ عَلَى الْأُصُولِ وَالْفُصُولِ، دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ قَدِ امْتَازُوا بِكَوْنِهِمْ عَلَى عَمُودِ النَّسَبِ عَنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ عَلَى حَوَاشِيهِ مِنَ الْأَرْحَامِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ، إِظْهَارًا لِشَرَفِ قُرْبِهِمْ وَنَسَابَتِهِمْ، فَلَوْ كَانَ الْقَصْدُ مُتَعَلِّقًا بِهِمْ دُونَ غَيْرِهِمْ بِالذِّكْرِ لَمَا عَدَلَ عَنِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ إِلَى مَا يَعُمُّ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حُرْمَتِهِمْ وَإِهْمَالِ خَاصِّيَّتِهِمْ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " أَكْرِمِ النَّاسَ " قَاصِدًا لِإِكْرَامِ أَبَوَيْهِ لَا غَيْرُ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَهْجُورَةِ الْمُسْتَبْعَدَةِ. [الْمَسْأَلَةُ السادسة تَأْوِيلُ بعيد لقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ تَأْوِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} حَيْثُ إِنَّهُ قَالَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مَعَ الْقَرَابَةِ وَحِرْمَانِ مَنْ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، لِأَنَّ الْآيَةَ ظَاهِرَةٌ فِي إِضَافَةِ الْخُمُسِ إِلَى كُلِّ ذَوِي الْقُرْبَى، بِلَامِ التَّمْلِيكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ مُومِئَةٌ إِلَى أَنَّ مَنَاطَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْقَرَابَةُ فَإِنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ إِظْهَارًا لِشَرَفِهَا وَإِبَانَةً لِخَطَرِهَا، وَحَيْثُ رَتَّبَ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى ذِكْرِهَا فِي الْآيَةِ، كَانَ ذَلِكَ إِيمَاءً إِلَى التَّعْلِيلِ بِهَا، فَالْمَصِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ يَكُونُ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ، وَتَرْكًا لِمَا ظَهَرَ كَوْنُهُ عِلَّةً مُومَأً إِلَيْهَا فِي الْآيَةِ، وَهُوَ صِفَةُ الْقَرَابَةِ، وَتَعْلِيلًا بِالْحَاجَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ.   (1) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ، وَطُعِنَ فِيهِ بِمَا فِي سَمَاعِ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ مِنَ الْخِلَافِ، وَبِأَنَّ شُعْبَةَ رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا وَحَمَّادٌ هُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ مُتَّصِلًا، وَشُعْبَةُ أَحْفَظُ مِنْ حَمَّادٍ، وَأَيْضًا يَقُولُ ابْنُ الْمَدِينِيِّ فِيهِ: إِنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ فِيهِ لَا يَصِحُّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ بِعَيْنِهِ لَازِمٌ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مَعَ الْيُتْمِ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ. قُلْنَا: الْمُخْتَارُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْحَاجَةِ مَعَ الْيُتْمِ، وَبِتَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ فَاعْتِبَارُ الْحَاجَةِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ لَفْظَ الْيُتْمِ مَعَ قَرِينَةِ إِعْطَاءِ الْمَالِ مُشْعِرٌ بِهَا، فَاعْتِبَارُهَا يَكُونُ اعْتِبَارًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ إِلْغَاءٌ لَهُ وَالْيُتْمُ بِمُجَرَّدِهِ عَنِ اقْتِرَانِ الْحَاجَةِ بِهِ غَيْرُ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، بِخِلَافِ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ الْقَرَابَةَ بِمُجَرَّدِهَا مُنَاسِبَةٌ لِلْإِكْرَامِ بِاسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ (1) كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَاعْتِبَارُ الْحَاجَةِ مَعَهَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ كَوْنُهُ عِلَّةً وَعُمِلَ بِغَيْرِهِ وَهُوَ مُنَاقَضَةٌ لَا تَأْوِيلٌ. [الْمَسْأَلَةُ السابعة تأويل بعيد لقوله عليه السلام فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَمِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ أَيْضًا مَصِيرُ قَوْمٍ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ» (2) لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إِيجَابِ الْعُشْرِ وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِي الْخُضْرَوَاتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الَّذِي سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِهِ إِنَّمَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعُشْرِ وَنِصْفُ الْعُشْرِ، لَا بَيَانُ مَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَسُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ بِوَضْعِ اللُّغَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ مِمَّا يُقْصَدُ بِهِ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ قَصْدِ التَّعْمِيمِ؛ إِذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَرِدْ إِلَّا لِقَصْدِ الْفَرْقِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ.   (1) أَمَّا إِنَّ الْقَرَابَةَ مُنَاسِبَةٌ بِمُجَرَّدِهَا لِلْعَطَاءِ مِنَ الْخُمُسِ فَمُسَلَّمٌ، وَأَمَّا إِنَّ قَدْرَ الِاسْتِحْقَاقِ خُمُسُ الْخُمُسِ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ سِوَى مُجَرَّدِ الْقَرَابَةِ. (2) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مُسْلِمًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ " وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ بِمَعْنَاهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 [الْمَسْأَلَةُ الثامنة تأويل بعيد لقوله وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَمِنْ أَبْعَدِ التَّأْوِيلَاتِ مَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغَسْلُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ (1) لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْعَطْفِ مِنَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالْأَرْجُلِ فِي الْمَسْحِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. فَإِنْ قِيلَ: الْعَطْفُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْوُجُوهِ وَالْيَدَيْنِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّشْرِيكِ فِي الْغَسْلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قُدِّرَ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا قُدِّرَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْمَسْحَ لَمَا كَانَ مُقَدَّرًا كَمَسْحِ الرَّأْسِ. الثَّانِي: مَا وَرَدَ مِنَ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَرْجُلَكُمْ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْأَيْدِي دُونَ الرُّءُوسِ. وَأَمَّا الْكَسْرُ فَإِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِاسْتِتْبَاعِ الْمُجَاوِرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي عَرَانِينَ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ كُسِرَ (مُزَمَّلِ) اسْتِتْبَاعًا لِمَا قَبْلَهُ، وَإِلَّا فَحَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا لِكَوْنِهِ وَصْفَ (كَبِيرٍ) وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَرْجُلَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي تَفَاصِيلِ حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، بَلْ فِي أَصْلِهِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا قَدْ وَقَعَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ، فَإِنَّ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ قَدِ اشْتَرَكَا فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ إِمْسَاسُ الْعُضْوِ بِالْمَاءِ، وَإِنِ افْتَرَقَا فِي خُصُوصِ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَلَقَدْ رَأَيْتُكَ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا عَطْفُ الرُّمْحِ عَلَى التَّقَلُّدِ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ كَانَ الرُّمْحُ لَا يُتَقَلَّدُ، وَإِنَّمَا يُعْتَقَلُ بِهِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ الْحَمْلِ   (1) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وَكَلَامُ شَارِحِ الطَّحَاوِيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَكَذَلِكَ عَطَفَ الشَّاعِرُ الْمَاءَ عَلَى التِّبْنِ فِي قَوْلِهِ (عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا) (1) وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ التَّنَاوُلِ. وَالْجَوَابُ، قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَطْفَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَيْدِي، فَأَبْعَدُ مِنْ كُلِّ بَعِيدٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْعَطْفِ عَلَى مَا يَلِي الْمَعْطُوفِ إِلَى مَا لَا يَلِيهِ. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فَمِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الرُّءُوسِ الْمَمْسُوحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْحُ الرُّءُوسِ مُقَدَّرًا فِي الْآيَةِ كَمَا عَطَفَ الْأَيْدِي عَلَى الْوُجُوهِ فِي حُكْمِ الْغَسْلِ، وَإِنْ كَانَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ مُقَدَّرًا وَغَسْلُ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّءُوسَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْخَافِضُ عَلَى الرُّءُوسِ، أَوْجَبَ الْكَسْرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا عَطْفُ (الْحَدِيدِ) عَلَى مَوْضِعِ (الْجِبَالِ) إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، غَيْرَ أَنَّهَا خُفِضَتْ بِدُخُولِ الْجَارِّ عَلَيْهَا. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكَسْرَ بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمُتَجَاوِرَيْنِ فَاصْلٌ كَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشِّعْرِ، وَأَمَّا إِذَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ فَلَا. وَإِنْ سَلَّمْنَا جَوَازَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُتَحَمَّلُ إِلَّا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ فَلَا يَنْتَهِضُ مُوجِبًا لِاتِّبَاعِهِ، وَتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَطْفُ. وَمِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ وَرَدَ فِي النَّثْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ (جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ) فَمِنَ النَّوَادِرِ الشَّاذَّةِ الَّتِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَطْفَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الرُّءُوسِ، فَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاشْتِرَاكِ فِي تَفَاصِيلِ حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. قُلْنَا: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى خِلَافِهِ لِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذِهِ النُّبْذَةَ مِنْ مَسَائِلِ التَّأْوِيلَاتِ لِتُدَرِّبَ الْمُبْتَدِئِينَ بِالنَّظَرِ فِي أَمْثَالِهَا. وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ.   (1) تَمَامُهُ (حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا) انْظُرْ هَذَا الْبَيْتَ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَبْيَاتِ فِي بَابِ الْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ مِنْ تَأْوِيلِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 [دَلَالَةِ غَيْرِ الْمَنْظُومِ] [ ما يتعلق بالنظر فيما يشترك فيه الكتاب والسنة والإجماع ] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ] الْقِسْمُ الثَّانِي فِي دَلَالَةِ غَيْرِ الْمَنْظُومِ وَهُوَ مَا دَلَالَتُهُ لَا بِصَرِيحِ صِيغَتِهِ وَوَضْعِهِ، وَذَلِكَ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهُ مَقْصُودًا لِلْمُتَكَلِّمِ، أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ: فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا، فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ صِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ صِحَّةُ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَلَيْهِ، أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ، فَإِنْ تَوَقَّفَ فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ تُسَمَّى دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَفْهُومًا فِي مَحَلِّ تَنَاوُلِهِ اللَّفْظَ نُطْقًا أَوَّلًا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَتُسَمَّى دَلَالَتَهُ دَلَالَةَ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَتُسَمَّى دَلَالَتَهُ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَدْلُولُهُ غَيْرَ مَقْصُودٍ لِلْمُتَكَلِّمِ، فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ تُسَمَّى دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: دَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ وَهِيَ مَا كَانَ الْمَدْلُولُ فِيهِ مُضْمَرًا، إِمَّا لِضَرُورَةِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ، وَإِمَّا لِصِحَّةِ وُقُوعِ الْمَلْفُوظِ بِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» " وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ» "، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ» " (1) فَإِنَّ رَفْعَ الصَّوْمِ وَالْخَطَأِ وَالْعَمَلِ مَعَ تَحَقُّقِهِ مُمْتَنِعٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ نَفْيِ حُكْمٍ يُمْكِنُ نَفْيُهُ، كَنَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعِقَابِ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ، وَنَفْيِ الصِّحَّةِ أَوِ الْكَمَالِ فِي الْخَبَرِ الثَّانِي، وَنَفْيِ الْفَائِدَةِ وَالْجَدْوَى فِي الْخَبَرِ الثَّالِثِ ضَرُورَةَ صِدْقِ الْخَبَرِ.   (1) الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ وَقَدْ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ عِدَّةٍ مِنْهَا (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) ، وَ (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) وَ (الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) ، وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرًا مِنْهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي وَلَيْسَ مِنْ بَيْنِهَا (لَا عَمَلَ إِلَّا بِنِيَّةٍ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وَأَمَّا إِنْ كَانَ لِصِحَّةِ الْمَلْفُوظِ بِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَتَوَقَّفَ صِحَّتُهُ عَلَيْهِ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِصِحَّةِ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَقْلًا. (1) وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَقَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: (أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفٍ) فَإِنَّهُ يَسْتَدْعِي تَقْدِيرَ سَابِقَةِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ الْعِتْقِ الشَّرْعِيِّ عَلَيْهِ. [النَّوْعُ الثَّانِي دَلَالَةُ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ] وَهِيَ خَمْسَةُ أَصْنَافٍ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي الْقِيَاسِ. [النَّوْعُ الثَّالِثُ دَلَالَةُ الْإِشَارَةِ] وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَقِّ النِّسَاءِ: ( «النِّسَاءُ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ) فَقِيلَ لَهُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا نُقْصَانُ دِينِهِنَّ؟ قَالَ: تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ فِي قَعْرِ بَيْتِهَا شَطْرَ دَهْرِهَا لَا تُصَلِّي، وَلَا تَصُومُ» ) (2) فَهَذَا الْخَبَرُ إِنَّمَا سِيقَ لِبَيَانِ نُقْصَانِ دِينِهِنَّ، لَا لِبَيَانِ أَكْثَرِ الْحَيْضِ وَأَقَلِّ الطُّهْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ شَطْرَ الدَّهْرِ مُبَالَغَةً فِي بَيَانِ نُقْصَانِ دِينِهِنَّ، وَلَوْ كَانَ الْحَيْضُ يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَذَكَرَهُ، وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} عَلَى أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةٍ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْصُودًا مِنَ اللَّفْظِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ مُمْتَدَّةً إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} وَكَانَ بَيَانُ ذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَزِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ، وَأَصْبَحَ جُنُبًا لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ، لِأَنَّ مَنْ جَامَعَ فِي آخِرِ اللَّيْلِ، لَا بُدَّ مِنْ تَأَخُّرِ غُسْلِهِ إِلَى النَّهَارِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُفْسِدُ الصَّوْمَ لَمَا أُبِيحَ الْجِمَاعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَقْصُودًا مِنَ الْكَلَامِ إِلَى نَظَائِرِهِ.   (1) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ - انْظُرْ 45 ج1. (2) الْحَدِيثُ مَثَّلَ بِهِ الْأُصُولِيُّونَ لِمَا يَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ ثَانَوِيَّةٍ، وَاسْتَدَلَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَقَلِّ مُدَّةِ الطُّهْرِ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ وَقَالَ: لَا أَصْلَ لَهُ. انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ، وَكَشْفَ الْخَفَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 [النَّوْعُ الرَّابِعُ الْمَفْهُومُ] [ النظر في معنى المفهوم ] وَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي مَعْنَاهُ وَأَصْنَافِهِ قَبْلَ الْحِجَاجِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، أَمَّا مَعْنَاهُ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَفْهُومَ مُقَابِلٌ لِلْمَنْطُوقِ، وَالْمَنْطُوقَ أَصْلٌ لِلْمَفْهُومِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ الْعَوْدُ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَفْهُومِ ثَانِيًا. فَنَقُولُ أَمَّا الْمَنْطُوقُ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: " هُوَ مَا فُهِمَ مِنَ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ "، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُضْمَرَةَ فِي دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ مَفْهُومَةٌ مِنَ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَنْطُوقُ اللَّفْظِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ: " الْمَنْطُوقُ مَا فُهِمَ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ قَطْعًا فِي مَحَلِّ النُّطْقِ " وَذَلِكَ كَمَا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ الْمَفْهُومِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» " وَكَتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} إِلَى نَظَائِرِهِ. وَأَمَّا الْمَفْهُومُ " فَهُوَ مَا فُهِمَ مِنَ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْقِ "، وَالْمَنْطُوقُ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومًا مِنَ اللَّفْظِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَفْهُومًا مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ نُطْقًا خُصَّ بِاسْمِ الْمَنْطُوقِ، وَبَقِيَ مَا عَدَاهُ مُعَرَّفًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ، تَمْيِيزًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. [ مفهوم الموافقة ] وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْمَفْهُومِ، فَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُسَمَّى مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ، وَإِلَى مَا يُسَمَّى مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ. أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَمَا يَكُونُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُوَافِقًا لِمَدْلُولِهِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا فَحْوَى الْخِطَابِ، وَلَحْنَ الْخِطَابِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَعْنَى الْخِطَابِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أَيْ فِي مَعْنَاهُ. وَقَدْ يُطْلَقُ اللَّحْنُ وَيُرَادُ بِهِ اللُّغَةُ، وَمِنْهُ يُقَالُ " لَحَنَ فُلَانٌ بِلَحْنِهِ " إِذَا تَكَلَّمَ بِلُغَتِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْفِطْنَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ " (أَيْ: أَفْطَنُ) ، وَقَدْ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الْخُرُوجُ عَنْ نَاحِيَةِ الصَّوَابِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِزَالَةُ الْإِعْرَابِ عَنْ جِهَةِ الصَّوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وَمِثَالُهُ تَحْرِيمُ شَتْمِ الْوَالِدَيْنِ وَضَرْبِهِمَا مِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمَفْهُومَ مِنَ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُوَافِقٌ لِلْحُكْمِ الْمَفْهُومِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَكَذَلِكَ دَلَالَةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} عَلَى تَحْرِيمِ إِتْلَافِ أَمْوَالِهِمْ، وَكَدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} عَلَى الْمُقَابَلَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى {الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} عَلَى تَأْدِيَةِ مَا دُونَ الْقِنْطَارِ، وَعَدَمِ تَأْدِيَةِ مَا فَوْقَ الدِّينَارِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّظَائِرِ. وَالدَّلَالَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ لَا تَخْرُجُ مِنْ قَبِيلِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَبِالْأَعْلَى عَلَى الْأَدْنَى، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَوْلَى مِنْهُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ عُرِفَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ، وَعُرِفَ أَنَّهُ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً وَاقْتِضَاءً لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مِنِ اقْتِضَائِهِ لَهُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَذَلِكَ كَمَا عَرَفْنَا مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلتَّأْفِيفِ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ الْأَذَى فِي الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ أَشَدُّ مِنَ التَّأْفِيفِ، فَكَانَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى. وَإِلَّا فَلَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ ذَلِكَ، لَمَا لَزِمَ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ تَحْرِيمُ الضَّرْبِ الْعَنِيفِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ مِنَ الْمَلِكِ أَنْ يَأْمُرَ الْجَلَّادَ بِقَتْلِ وَالِدِهِ إِذَا اسْتَيْقَنَ مُنَازَعَتَهُ لَهُ فِي مُلْكِهِ، وَيَنْهَاهُ عَنِ التَّأْفِيفِ، حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ مَحْذُورِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْمُلْكِ، وَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ أَشَدَّ فِي دَفْعِهِ مِنَ التَّأْفِيفِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إِبَاحَةِ أَعْلَى الْمَحْذُورَيْنِ إِبَاحَةُ أَدْنَاهُمَا، وَلَا مِنْ تَحْرِيمِ أَدْنَاهُمَا تَحْرِيمُ أَعْلَاهُمَا. وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَدَلِيلُ كَوْنِهِ حُجَّةً أَنَّهُ إِذَا قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ " لَا تُعْطِ زَيْدًا حَبَّةً، وَلَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ، وَلَا تَظْلِمْهُ بِذَرَّةٍ، وَلَا تَعْبِسْ فِي وَجْهِهِ " فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ إِعْطَاءِ مَا فَوْقَ الْحَبَّةِ، وَامْتِنَاعُ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ، وَامْتِنَاعُ الظُّلْمِ بِالدِّينَارِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وَمَا زَادَ، وَامْتِنَاعُ أَذِيَّتِهِ بِمَا فَوْقَ التَّعْبِيسِ مِنْ هَجْرِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «احْفَظْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا» " حِفْظَ مَا الْتُقِطَ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَمِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي الْغَنِيمَةِ " «أَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ» " أَدَاءَ الرِّحَالِ وَالنُّقُودِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ قَوْلِهِ " «مَنْ سَرَقَ عَصَا مُسْلِمٍ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا» " رَدَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ لِفُلَانٍ لُقْمَةً، وَلَا يَشْرَبُ مِنْ مَائِهِ جَرْعَةً، كَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَكْلِ مَا زَادَ عَلَى اللُّقْمَةِ كَالرَّغِيفِ وَشُرْبِ مَا زَادَ عَلَى الْجَرْعَةِ إِلَى نَظَائِرِهِ غَيْرَ أَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ فِي أَنَّ مُسْتَنَدَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، هَلْ هُوَ فَحْوَى الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ، أَوِ الدَّلَالَةِ الْقِيَاسِيَّةِ. وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِالْفَحْوَى بِأَنَّ الْعَرَبَ إِنَّمَا وَضَعَتْ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّأْكِيدِ لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ. وَأَنَّهَا أَفْصَحُ مِنَ التَّصْرِيحِ بِالْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ إِذَا قَصَدُوا الْمُبَالَغَةَ فِي كَوْنِ أَحَدِ الْفَرَسَيْنِ سَابِقًا لِلْآخَرِ، قَالُوا (هَذَا الْفَرَسُ لَا يَلْحَقُ غُبَارَ هَذَا الْفَرَسِ) وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَبْلَغَ مِنْ قَوْلِهِمْ (هَذَا الْفَرَسُ سَابِقٌ لِهَذَا الْفَرَسِ) وَكَذَلِكَ إِذَا قَالُوا: " فُلَانٌ يَأْسَفُ بِشَمِّ رَائِحَةِ مَطْبَخِهِ " فَإِنَّهُ أَفْصَحُ عِنْدَهُمْ وَأَبْلَغُ مِنْ قَوْلِهِمْ " فُلَانٌ لَا يُطْعِمُ وَلَا يَسْقِي ". وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِكَوْنِهِ قِيَاسًا أَنَّا لَوْ قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنِ الْمَعْنَى الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ مِنْ كَفِّ الْأَذَى عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَعَنْ كَوْنِهِ فِي الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ أَشَدَّ مِنْهُ فِي التَّأْفِيفِ لَمَا قُضِيَ بِتَحْرِيمِ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ إِجْمَاعًا، وَلِمَا سَبَقَ مِنْ جَوَازِ أَمْرِ الْمَلِكِ لِلْجَلَّادِ بِقَتْلِ وَالِدِهِ وَالنَّهْيِ عَنِ التَّأْفِيفِ لَهُ، فَالتَّأْفِيفُ أَصْلٌ، وَالشَّتْمُ وَالضَّرْبُ فَرْعٌ، وَدَفْعُ الْأَذَى عِلَّةٌ، وَالتَّحْرِيمُ حُكْمٌ وَلَا مَعْنَى لِلْقِيَاسِ إِلَّا هَذَا. وَسَمُّوا ذَلِكَ قِيَاسًا جَلِيًّا نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ثَابِتٌ بِالتَّأْثِيرِ. وَالْأَشْبَهُ إِنَّمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْإِسْنَادُ إِلَى فَحْوَى الدَّلَالَةِ اللَّفْظِيَّةِ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فَهْمِ الْمَعْنَى، وَكَوْنِهِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَوْلَى بِالْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَهُوَ شَرْطُ تَحَقُّقِ الْفَحْوَى، وَلَا مُنَاقَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفَحْوَى، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْفَحْوَى لَا بِالْقِيَاسِ أَمْرَانِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ أَشَدَّ مُنَاسَبَةً لَهُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ إِجْمَاعًا، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ لَا يَتِمُّ دُونَهُ، فَلَا يَكُونُ قِيَاسًا. الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ مُنْدَرِجًا فِي الْفَرْعِ وَجُزْءًا مِنْهُ إِجْمَاعًا. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ قَدْ يَكُونُ مَا تُخُيِّلَ أَصْلًا فِيهِ جُزْءٌ مِمَّا تُخُيِّلَ فَرْعًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: " لَا تُعْطِ لِفُلَانٍ حَبَّةً " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ إِعْطَاءِ الدِّينَارِ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ، وَالْحَبَّةُ الْمَنْصُوصَةُ تَكُونُ دَاخِلَةً فِيهِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى رُؤْيَةِ مَا زَادَ عَلَى الذَّرَّةِ، وَالذَّرَّةُ تَكُونُ دَاخِلَةً فِيهِ، إِلَى نَظَائِرِهِ. وَلِهَذَا، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ فِي الْقِيَاسِ مُطْلَقًا وَافَقَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الدَّلَالَةِ سِوَى أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَلَوْ كَانَ قِيَاسًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ. أَمَّا الْقَطْعِيُّ: فَكَمَا ذَكَرْنَا مِنْ آيَةِ التَّأْفِيفِ حَيْثُ إِنَّا عَلِمْنَا مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ أَنَّ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ الْأَذَى عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ الْأَذَى فِي الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ أَشَدُّ. وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فَإِنَّهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، لِكَوْنِهِ أَوْلَى بِالْمُؤَاخَذَةِ كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ لِإِمْكَانِ أَنْ لَا تَكُونَ الْكَفَّارَةُ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ مُوجَبَةً بِطَرِيقِ الْمُؤَاخَذَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» " وَالْمُرَادُ بِهِ رَفْعُ الْمُؤَاخَذَةِ، بَلْ نَظَرًا لِلْخَاطِئِ بِإِيجَابِ مَا يُكَفِّرُ ذَنْبَهُ فِي تَقْصِيرِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتْ كَفَّارَةً، وَجِنَايَةُ الْمُتَعَمِّدِ فَوْقَ جِنَايَةِ الْخَاطِئِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْكَفَّارَةِ رَافِعَةً لِإِثْمِ أَدْنَى الْجِنَايَتَيْنِ أَنْ تَكُونَ رَافِعَةً لِإِثْمِ أَعْلَاهُمَا. [ مفهوم المخالفة ] [ تعريفه وبيان أصنافه ] وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فَهُوَ مَا يَكُونُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُخَالِفًا لِمَدْلُولِهِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَيُسَمَّى دَلِيلَ الْخِطَابِ أَيْضًا، وَهُوَ عِنْدُ الْقَائِلِينَ بِهِ مُنْقَسِمٌ إِلَى عَشَرَةِ أَصْنَافٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: مِنْهَا ذِكْرُ الِاسْمِ الْعَامِّ مُقْتَرِنًا بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ". الصِّنْفُ الثَّانِي: مَفْهُومُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ» ". (1) الصِّنْفُ الثَّالِثُ: مَفْهُومُ الْغَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، وَ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} . الصِّنْفُ الرَّابِعُ: مَفْهُومُ إِنَّمَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ". " «وَإِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ". " «وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ". " «وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ» إِلَى نَظَائِرِهِ ". الصِّنْفُ الْخَامِسُ: التَّخْصِيصُ بِالْأَوْصَافِ الَّتِي تَطْرَأُ وَتَزُولُ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا» ". وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ( «فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ) . الصِّنْفُ السَّادِسُ: مَفْهُومُ اللَّقَبِ، وَذَلِكَ كَتَخْصِيصِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فِي الذِّكْرِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا. (2) الصِّنْفُ السَّابِعُ: مَفْهُومُ الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» " وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَفْهُومِ اللَّقَبِ لِكَوْنِ الطَّعَامِ لَقَبًا لِجِنْسٍ. الصِّنْفُ الثَّامِنُ: مَفْهُومُ الِاسْتِثْنَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} وَقَوْلِ الْقَائِلِ: (لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ) . الصِّنْفُ التَّاسِعُ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ خَاصٍّ، كَتَخْصِيصِ حَدِّ الْقَذْفِ بِثَمَانِينَ. الصِّنْفُ الْعَاشِرُ: مَفْهُومُ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ: (الْعَالِمُ زَيْدٌ وَصَدِيقِي عَمْرٌو) . (3)   (1) حَدِيثُ (إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ) رُوِيَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ بَلْ حَكَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِوَضْعِهِ، وَلَكِنْ عَابَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ وَشَيْخُهُ الْعِرَاقِيُّ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ الَّتِي يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا. (2) فِي الذِّكْرِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا، لَعَلَّهُ بِالذِّكْرِ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا. (3) الظَّاهِرُ أَنَّ الْحَصْرَ فِي قَوْلِهِ: " الْعَالِمُ زَيْدٌ " مِنْ حَصْرِ الْخَبَرِ فِي الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّ الْمَعْنَى عَلَى الْحُكْمِ بِالْعِلْمِ لِزَيْدٍ، وَالْمَحْكُومُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ هُوَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمُتَضَمِّنُ لِلْحُكْمِ هُوَ الْخَبَرُ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جُمْلَةِ صَدِيقِي عَمْرٌو فَهُوَ مِنْ قَصْرِ صَدَاقَةِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَفْهُومَةِ مِنَ الْخَبَرِ عَلَى عَمْرٍو الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 وَإِذَا عُرِفَ الْمَفْهُومُ بِحَدِّهِ وَأَصْنَافِهِ، فَيَجِبُ أَنْ تَعْلَمَ قَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْحِجَاجِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَنَّ مُسْتَنَدَ فَهْمِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ إِلَى فَائِدَةِ تَخْصِيصِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ أَوِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِنِ افْتَرَقَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فِي مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ إِنَّمَا هُوَ تَأْكِيدٌ مِثْلُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ فِي مَحَلِّ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إِنَّمَا هُوَ نَفْيُ مِثْلِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ مِنْ مُجَرَّدِ تَخْصِيصِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ دُونَ نَظَرٍ عَقْلِيٍّ يَتَحَقَّقُ بِهِ أَنَّ التَّخْصِيصَ لِلتَّأْكِيدِ أَوِ النَّفْيِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُنْظَرَ إِلَى حِكْمَةِ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ. فَإِنْ عُرِفَتْ وَعُرِفَ تَحَقُّقُهَا فِي الْمَحَلِّ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ، وَأَنَّهَا أَوْلَى بِاقْتِضَائِهَا الْحُكْمَ فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، عُلِمَ أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ التَّأْكِيدُ، وَأَنَّ الْمَفْهُومَ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ (1) وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حِكْمَةُ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ بِهِ، أَوْ عُلِمَتْ غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مُتَحَقِّقَةً فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، أَوْ كَانَتْ مُتَحَقِّقَةً فِيهِ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ أَوْلَى بِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ (2) عُلِمَ أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ إِنَّمَا هِيَ النَّفْيُ (3) وَأَنَّ الْمَفْهُومَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ. وَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى تَحْقِيقِ الْمَفْهُومِ وَأَصْنَافِهِ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْحِجَاجِ فِي نَفْيِهِ وَإِثْبَاتِهِ، وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْنَافِهِ، فَنَقُولُ: أَمَّا مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ سِوَى الظَّاهِرِيَّةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي دَلَالَتِهِ، هَلْ هِيَ لَفْظِيَّةٌ أَوْ قِيَاسِيَّةٌ، عَلَى مَا سَبَقَ. وَالْمُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، فَيَجِبُ الْخَوْضُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَهِيَ تِسْعُ مَسَائِلَ.   (1) وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ اقْتِضَاءَهَا لِلْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ مُسَاوٍ لِاقْتِضَائِهَا إِيَّاهُ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ فَيُسَمَّى أَيْضًا مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ، أَوِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ. (2) وَلَيْسَتْ مُسَاوِيَةً أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ. (3) إِنَّمَا هِيَ النَّفْيُ، يَعْنِي أَنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْمَنْطُوقِ فِيمَا عَدَا مَا يُسَمَّى مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ فِي الْمَسْكُوتِ بِمِثْلِ مَا حُكِمَ بِهِ فِي الْمَنْطُوقِ، أَمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ فِي الْمَسْكُوتِ مُخَالِفٍ لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ فَهَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَاخْتِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَقَالَتِ الظَّاهِرِيَّةُ: إِنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْمَنْطُوقِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى إِثْبَاتِ حُكْمٍ مَا فِي الْمَسْكُوتِ وَلَا نَفْيِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 [الْمَسْأَلَةُ الأولى الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى حُكْمٍ مُرْتَبِطٍ بِاسْمٍ عَامٍّ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفُوا فِي الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى حُكْمٍ مُرْتَبِطٍ بِاسْمٍ عَامٍّ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ " (1) هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ السَّائِمَةِ أَوْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْأَشْعَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَأَبُو عُبَيْدٍ (2) وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَنَفَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالُ وَالشَّاشِيُّ وَجَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَفَرَّقَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ: الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِالصِّفَةِ دَالٌّ عَلَى النَّفْيِ عَمَّا عَدَاهَا فِي أَحَدِ أَحْوَالٍ ثَلَاثٍ: وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ قَدْ وَرَدَ لِلْبَيَانِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ". أَوِ التَّعْلِيمِ كَمَا فِي خَبَرِ " التَّحَالُفُ عِنْدَ التَّخَالُفِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ " (3) أَوْ يَكُونُ مَا عَدَا الصِّفَةَ دَاخِلًا تَحْتَهَا، كَالْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لِدُخُولِهِ فِي الشَّاهِدَيْنِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ.   (1) هَذَا مَعْنَى جُزْءٍ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بِلَفْظِ: فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ أَرْبَعِينَ إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةِ شَاةٍ فَاقْتَصَرَ الْمُؤَلِّفُ عَلَى مَوْضِعِ الشَّاهِدِ وَتَصَرَّفَ فِي الْعِبَارَةِ. (2) أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ الْبَغْدَادِيُّ مَاتَ بِمَكَّةَ عَامَ 224 هـ عَنْ 76 سَنَةً. (3) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زِيَادَاتِ الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ جَدِّهِ بِلَفْظِ (إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ وَلَا بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا تَحَالَفَا) ، وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلٌّ مِنْهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ مَقَالٍ، قَدْ جَزَمَ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ طُرُقَ هَذَا الْحَدِيثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَوْصُولٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حُجَجِ الْفَرِيقَيْنِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْإِثْبَاتِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِحُجَجٍ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ أَمَّا الْحُجَجُ النَّقْلِيَّةُ فَسِتُّ حُجَجٍ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ أَبَا عُبَيْدٍ الْقَاسِمَ بْنَ سَلَّامٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَقَدْ قَالَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» " (1) حَيْثُ قَالَ إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِوَاجِدٍ لَا يَحِلُّ عِرْضُهُ وَعُقُوبَتُهُ، وَالْوَاجِدُ هُوَ الْغَنِيُّ، وَلَيُّهُ مَطْلُهُ، وَمَعْنَى إِحْلَالِ عِرْضِهِ مُطَالَبَتُهُ وَعُقُوبَتُهُ حَبْسُهُ. وَقَالَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا» " (2) وَقَدْ قِيلَ لَهُ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا أَرَادَ الْهَجَّاءَ مِنَ الشُّعَرَاءِ أَوْ هِجَاءَ الرَّسُولِ، فَقَالَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادَ، لَمْ يَكُنْ لِتَعْلِيقِ ذَلِكَ بِالْكَثْرَةِ وَامْتِلَاءِ الْجَوْفِ مِنْهُ مَعْنًى، لِأَنَّ مَا دُونَ مَلْءِ الْجَوْفِ مِنْ ذَلِكَ كَكَثِيرِهِ. وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ فُهِمَ أَنَّ تَعْلِيقَ الذَّمِّ عَلَى امْتِلَاءِ الْجَوْفِ مِنْ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِمَا دُونَهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُكْمُ أَبِي عُبَيْدٍ بِذَلِكَ إِنِ ادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ كَانَ نَقْلًا عَنِ الْعَرَبِ، فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّقْلِ. وَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ وَاجْتِهَادِهِ فَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ الْمُخَالِفِينَ لَهُ فِي ذَلِكَ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ نَقْلًا فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ حُجَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ اللُّغَوِيَّةِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَذْهَبِ الْأَخْفَشِ (3)   (1) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ. (2) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. (3) الْأَخْفَشُ - الْأَخَافِشُ فِي النَّحْوِ ثَلَاثَةٌ: أَبُو الْخَطَّابِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ مَوْلَى قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ تُوُفِّيَ عَامَ 177 هـ الْمَعْرُوفُ بِالْأَخْفَشِ الْأَكْبَرِ، 2 - أَبُو الْحَسَنِ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْمُجَاشِعِيُّ بِالْوَلَاءِ الْبَلْخِيُّ ثُمَّ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْأَخْفَشِ الْأَوْسَطِ تُوُفِّيَ عَامَ 215، 3 - أَبُو الْمَحَاسِنِ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْفَضْلِ الْمَعْرُوفُ بِالْأَخْفَشِ الْأَصْغَرِ تُوُفِّيَ بِبَغْدَادَ عَامَ 315 هـ عَنْ ثَمَانِينَ سَنَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَمْ يَقُلْ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَعَدَمِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ أَوْلَى جَمْعًا بَيْنَ الْمَذَاهِبِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مَا رَوَى قَتَادَةُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «قَدْ خَيَّرَنِي رَبِّي فَوَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ» " فَعُقِلَ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى السَّبْعِينَ بِخِلَافِهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ حُجَّةً فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَلَكِنْ يَمْتَنِعُ التَّمَسُّكُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ زِيَادَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّبْعِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَهْمِهِ وُقُوعَ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ بِاسْتِغْفَارِهِ زِيَادَةً عَلَى السَّبْعِينَ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ اسْتِمَالَةَ قُلُوبِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الدِّينِ، لَا لِوُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ احْتِمَالُ الِاسْتِمَالَةِ أَوْلَى مِنْ فَهْمِهِ وُقُوعَ الْمَغْفِرَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ فِي الِاسْتِغْفَارِ مِنَ الْآيَةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} . الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَخْصِيصَ نَفْيِ الْمَغْفِرَةِ بِالسَّبْعِينَ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَغْفِرَةِ بِالسَّبْعِينَ قَطْعًا ضَرُورَةَ صِدْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي خَبَرِهِ. وَمَنْ قَالَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فَهُوَ قَائِلٌ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ دَلَّ اخْتِصَاصُ السَّبْعِينَ بِنَفْيِ الْمَغْفِرَةِ قَطْعًا عَلَى نَقِيضِهِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ لَكَانَ دَالًّا عَلَى وُقُوعِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ السَّبْعِينَ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا: الْأَوَّلُ: خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَخِلَافُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ السَّبْعِينَ. وَالثَّانِي: فَلَيْسَ نَقِيضًا لِنَفْيِ الْمَغْفِرَةِ قَطْعًا، بَلْ هُوَ مُقَابِلٌ، وَالْمُقَابِلُ أَعَمُّ مِنَ النَّقِيضِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَفِيهِ دِقَّةٌ فَلْيُتَأَمَّلْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مَصِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِلَى مَنْعِ تَوْرِيثِ الْأُخْتِ مَعَ الْبِنْتِ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} حَيْثُ إِنَّهُ فَهِمَ مِنْ تَوْرِيثِ الْأُخْتِ مَعَ عَدَمِ الْوَلَدِ امْتِنَاعُ تَوْرِيثِهَا مَعَ الْبِنْتِ لِأَنَّهَا وَلَدٌ، وَهُوَ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَتَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ. وَجَوَابُ هَذِهِ الْحُجَّةِ مَا سَبَقَ فِي دَفْعِ الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَرَّثَ الْأُخْتَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ بِالْآيَةِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْبِنْتِ لَمْ يُوَرِّثْهَا بِنَاءً عَلَى اسْتِصْحَابِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، لَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ (1) نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» " (2) وَلَوْلَا أَنَّ قَوْلَهُ: " «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» " يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ إِنْزَالٍ لَمَا كَانَ نَسْخًا لَهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي اللُّغَاتِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ جُلَّةَ الصَّحَابَةِ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُ الْبَعْضِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا اتِّفَاقَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا حَكَمُوا بِكَوْنِهِ نَاسِخًا لَا لِمَدْلُولِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» " كُلُّ غُسْلٍ مِنْ إِنْزَالِ الْمَاءِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «لَا مَاءَ إِلَّا مِنَ الْمَاءِ» " فَكَانَ قَوْلُهُ: " «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْلُ» " نَاسِخًا لِمَدْلُولِ عُمُومِ الْأَوَّلِ، لَا لِمَدْلُولِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلْ حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَمُخْتَلِفًا فِيمَا ذَكَرُوهُ.   (1) رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَأَعَلَّهُ الْبُخَارِيُّ بِأَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ أَخْطَأَ فِيهِ وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ مُرْسَلًا وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ (إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ وَجَبَ الْغُسْلُ) وَصَحَّحَهُ. (2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: مَا رُوِيَ «أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَالَ لِعُمَرَ: " مَا بَالُنَا نَقْصُرُ، وَقَدْ أَمِنَّا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} » وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ تَخْصِيصِ الْقَصْرِ بِحَالَةِ الْخَوْفِ عَدَمَ الْقَصْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ عُمَرُ، بَلْ قَالَ «لَقَدْ: " عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لِي: هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» " وَيَعْلَى بْنُ أُمَيَّةَ وَعُمَرُ مِنْ فُصَحَاءِ الْعَرَبِ، وَقَدْ فَهِمَا ذَلِكَ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمَا عَلَيْهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ هَاهُنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّ يَعْلَى وَعُمَرَ بَنَيَا عَدَمَ الْقَصْرِ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِي حَالَةِ الْأَمْنِ، لَا عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، بَلِ الْبِنَاءُ عَلَى الِاسْتِصْحَابِ أَوْلَى دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الدَّلِيلِ الْمُجَوِّزِ لِلْقَصْرِ حَالَةَ الْأَمْنِ وَالدَّلِيلِ النَّافِي لَهُ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الْعَرَبِيُّ لِوَكِيلِهِ: " اشْتَرِ لِي عَبْدًا أَسْوَدَ " فُهِمَ مِنْهُ عَدَمُ الشِّرَاءِ لِلْأَبْيَضِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوِ اشْتَرَى أَبْيَضَ لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِزَوْجَتِهِ: " أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ " فُهِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ الطَّلَاقِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ ذَلِكَ مَفْهُومًا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ، بَلْ عَدَمُ شِرَاءِ الْأَبْيَضِ وَعَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ إِنَّمَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: " لَا تَشْتَرِ لِي عَبْدًا أَسْوَدَ "، وَقَالَ لِزَوْجَتِهِ: " إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَلَسْتِ طَالِقًا " فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ لِعَبْدٍ غَيْرِ أَسْوَدَ، وَلَا يَقَعُ بِالزَّوْجَةِ الطَّلَاقُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ لِبَقَاءِ ذَلِكَ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَلَوْ كَانَ نَفْيُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ لَصَحَّ شِرَاءُ عَبْدٍ لَيْسَ بِأَسْوَدَ، وَطُلِّقَتِ الزَّوْجَةُ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ خِطَابٍ وَرَدَ فِي الشَّرْعِ أَوِ اللُّغَةِ بِحُكْمٍ مُخَصَّصٍ بِصِفَةٍ، وَهُوَ مَنْفِيٌّ عَمَّا عَدَا تِلْكَ الصِّفَةَ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، لَا عَلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ. وَأَمَّا الْحُجَجُ الْعَقْلِيَّةُ فَخَمْسُ حُجَجٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِ السَّائِمَةِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ، بَلْ كَانَ مُلْغِزًا بِذِكْرِ مَا يُوهِمُ نَفْيَ الزَّكَاةِ فِي الْمَعْلُوفَةِ، وَمُقَصِّرًا فِي الْبَيَانِ مَعَ دَعْوِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَحَيْثُ امْتَنَعَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ فَائِدَةَ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ السَّائِمَةِ نَفْيُ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي إِثْبَاتِ دَلِيلِ الْخِطَابِ يَرْجِعُ إِلَى إِثْبَاتِ الْوَضْعِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْفَائِدَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ إِمْكَانَ إِثْبَاتِ الْوَضْعِ بِذَلِكَ (1) سَلَّمْنَا إِمْكَانَ ذَلِكَ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَخْصِيصِ الصِّفَةِ بِالذِّكْرِ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِهَا عِنْدَ عَدَمِهَا. وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَائِدَةٌ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ لَامْتَنَعَ وُرُودُ نَصٍّ خَاصٍّ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ لِمَحَلِّ النُّطْقِ لِمَا يَلْزَمُ مِنَ اللَّغْوِ فِي كَلَامِ الْحَكِيمِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا ثَبَتَ مِثْلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ لَمْ يَكُنْ مُخَصِّصًا لِلصِّفَةِ بِالْحُكْمِ، حَتَّى يُقَالَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ يَكُونُ لَغْوًا. قُلْنَا: فَإِذًا مُجَرَّدُ تَخْصِيصِ الصِّفَةِ بِالذِّكْرِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهَا دُونَ الْبَحْثِ عَمَّا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَكُمْ، لَكِنَّ نَفْسَ التَّخْصِيصِ دَلِيلٌ، وَوُجُودُ مَا يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ يَكُونُ مُعَارِضًا لَهُ، بَلْ أَمْكَنَ (2) وُجُودُ فَائِدَةٍ أُخْرَى دَعَتْ إِلَى التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ، وَهِيَ إِمَّا عُمُومُ وُقُوعِ الْمَذْكُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وَإِمَّا لِسُؤَالِ سَائِلٍ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ لِحُدُوثِ وَاقِعَةٍ وَقَعَتْ كَذَلِكَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِرَفْعِ وَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ حُكْمَ الصِّفَةِ بِتَقْدِيرِ تَعْمِيمِ اللَّفْظِ يَكُونُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْعُمُومِ   (1) وَذَلِكَ لِأَنَّ مَدَارَ إِثْبَاتِ الْوَضْعِ النَّقْلُ لَا التَّعْلِيلُ وَالْعَقْلُ، إِذِ الْعَقْلُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ. (2) لَمْ يَتَمَيَّزْ بَدْءُ (الْوَجْهِ الثَّانِي) وَلَعَلَّهُ يَبْدَأُ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَمْكَنَ وُجُودُ فَوَائِدَ أُخْرَى دَعَتْ إِلَى التَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ. . . إِلَخْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وَيَكُونُ بِذَلِكَ مُنَبِّهًا عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيمَا عَدَا الصِّفَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: " ضَحُّوا بِشَاةٍ " فَإِنَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِشَاةٍ عَوْرَاءَ، فَإِذَا قَالَ: " ضَحُّوا بِشَاةٍ عَوْرَاءَ " كَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى التَّضْحِيَةِ بِمَا لَيْسَتْ عَوْرَاءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ} عَلَى الْعُمُومِ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِهِمْ عِنْدَ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ، فَإِذَا قَالَ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} كَانَ أَدَلَّ عَلَى النَّهْيِ حَالَةَ الْخَشْيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةِ تَعْرِيفِ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ بِنَصَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، إِذْ هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ التَّعْمِيمِ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَإِمْكَانِ تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ بِالِاجْتِهَادِ إِلَى مَحَلِّ الصِّفَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَ مُرَادًا لِلتَّخْصِيصِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِفَائِدَةِ التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لِيَنَالَ الْمُكَلَّفُ ثَوَابَ الِاجْتِهَادِ، وَحِينَ تَوَفَّرَ دَوَاعِي الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَتَبْقَى غَضَّةً طَرِيَّةً، كَمَا هِيَ فِي سَائِرِ الْأُصُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا مَعَ وُقُوعِهَا فِي الْأَقْيِسَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الصِّفَةِ جَارِيًا عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، وَتَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ تَعْرِيفَ ذَلِكَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الصِّفَةِ بِالنَّصِّ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا بِالْبَقَاءِ عَلَى الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: " «لَا زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ» " وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَكَانَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُخَالِفًا لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْعَقْلِ، كَمَا فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَتَكُونَ فَائِدَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى مَحَلِّ الصِّفَةِ اخْتِصَاصَهُ بِالْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا النَّصُّ لَمَا ثَبَتَ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، مُنْتَفِيًا بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا سَلَّمْتُمُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ فَقَدْ وَافَقْتُمْ عَلَى الْمَطْلُوبِ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي إِسْنَادِ النَّفْيِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ إِلَى دَلِيلِ الْخِطَابِ لَا إِلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ سِوَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ الَّذِي لَمْ يَقُلْ بِهِ مُحَصِّلٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَكُلُّ مَا هُوَ جَوَابٌ لَكُمْ ثَمَّ فَهُوَ جَوَابٌ لَنَا هَاهُنَا. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَقُّوا بَيْنَ الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْخِطَابِ الْمُرْسَلِ وَبَيْنَ الْمُقَيَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْفَرْقَ بَيْنَ حُكْمِ الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ وَبَيْنَ حُكْمِ الْخِطَابِ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ، فَإِنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ الْعِلْمُ أَوِ الظَّنُّ بِثُبُوتِ حُكْمِهِ مُطْلَقًا، وَحُكْمَ الْخِطَابِ الْمُقَيَّدَ بِالصِّفَةِ ثُبُوتُهُ فِي مَحَلِّ التَّنْصِيصِ قَطْعًا أَوْ ظَنًّا، وَفِي غَيْرِ مَحَلِّ الصِّفَةِ مَشْكُوكٌ فِي إِثْبَاتِهِ وَنَفْيِهِ فَقَدِ افْتَرَقَا كَمَا وَقَعَ الِافْتِرَاقُ بَيْنَ الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ وَالْخِطَابِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي إِثْبَاتَ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيَهُ مُطْلَقًا، وَالْخِطَابُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ جَزْمًا. وَعَلَى هَذَا، فَإِنْ قِيلَ بِأَنَّ الْعَرَبَ سَوَّتْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِافْتِرَاقِ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا وَقَعَ الِافْتِرَاقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الْجُمْلَةِ فَهُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ التَّخْصِيصُ بِذِكْرِ الصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ التَّنْصِيصِ، وَعَلَى نَفْيِهِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، كَانَتِ الْفَائِدَةُ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا إِذَا لَمْ يَدُلَّ، فَوَجَبَ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ، غَيْرَ أَنَّ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيَهُ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلِهِ، فَرْعُ دَلَالَةِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ. فَلَوْ قِيلَ بِكَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَيْهِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ كَانَ دَوْرًا. كَيْفَ وَإِنَّهُ لَيْسَ الْقَوْلُ بِكَوْنِ التَّخْصِيصِ دَالًّا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ، وَإِبْطَالُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْفَوَائِدِ الَّتِي سَبَقَتْ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالصِّفَةِ كَالتَّعْلِيقِ بِالْعِلَّةِ، وَالتَّعْلِيقُ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، فَكَذَلِكَ الصِّفَةُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، حَتَّى يُقَالَ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُقَالَ بِاتِّحَادِ الْعِلَّةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهَا نَفْيُ الْحُكْمِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَعَدُّدِ أَصْنَافِ النَّوْعِ وَأَشْخَاصِهِ تَعَدُّدُ صِفَاتِهِ وَإِلَّا لَمَا تَعَدَّدَ، بَلْ كَانَ مُتَّحِدًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعًا» " فَلَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى عَدَمِ الطَّهَارَةِ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ، وَإِلَّا لَمَا طَهُرَ بِالسَّبْعِ، لِأَنَّ السَّابِعَةَ تَكُونُ وَارِدَةً عَلَى مَحَلٍّ طَاهِرٍ، فَلَا يَكُونُ طَهُورُهُ بِالسَّبْعِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ إِبْطَالُ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: " «يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ» " لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ لَمَا كَانَتِ الْخَمْسُ لِمَا عُرِفَ فِي الْغَسَلَاتِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْغَسَلَاتِ السَّبْعِ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى نَفْيِ الطَّهَارَةِ فِيمَا دُونَ السَّبْعِ، وَمِنْ كَوْنِ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ غَيْرَ دَالَّةٍ عَلَى نَفْيِ الْحُرْمَةِ فِيمَا دُونَهَا أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ قَبْلَ السَّابِعَةِ طَاهِرًا وَلَا أَنْ يَكُونَ مَا دُونَ الْخَمْسِ مِنَ الرَّضَعَاتِ مُحَرِّمًا لِجَوَازِ ثُبُوتِ النَّجَاسَةِ قَبْلَ السَّبْعِ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ دَلِيلِ الْخِطَابِ. وَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا دُونَ الرَّضَعَاتِ الْخَمْسِ غَيْرَ مُحَرِّمَةٍ بِدَلِيلٍ غَيْرِ دَلِيلِ الْخِطَابِ. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى حُجَجِ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَتُتْبِعُ مَا فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حُجَجٍ عَوَّلَ عَلَيْهَا الْقَائِلُونَ بِإِبْطَالِ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ لَوْ دَلَّ عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ نَفْيِهَا، إِمَّا أَنْ يُعْرَفَ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ أَوِ النَّقْلِ، وَالْعَقْلُ لَا مَجَالَ لَهُ فِي اللُّغَاتِ، وَالنَّقْلُ إِمَّا مُتَوَاتِرٌ وَآحَادٌ وَلَا سَبِيلَ إِلَى التَّوَاتُرِ، وَالْآحَادُ لَا تُفِيدُ غَيْرَ الظَّنِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى لُغَةٍ يَنْزِلُ عَلَيْهَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِ الْآحَادِ مَعَ جَوَازِ الْخَطَأِ وَالْغَلَطِ عَلَيْهِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالنَّقْلِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ إِثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْآحَادِ، إِذِ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَنَا غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ، بَلْ ظَنِّيَّةٌ مُجْتَهَدٌ فِيهَا بِنَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ، بَلْ غَلَبَةُ ظَنٍّ تَجْرِي فِيهَا التَّخْطِئَةُ الظَّنِّيَّةُ، دُونَ الْقَطْعِيَّةِ كَمَا فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الِاجْتِهَادِيَّةِ كَيْفَ وَإِنَّ اشْتِرَاطَ التَّوَاتُرِ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ كَلِمَةٍ تَرِدُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، أَوْ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، الْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ تَحَكُّمٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا قَائِلَ بِهِ؟ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْكُلِّ فَذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ التَّمَسُّكِ بِأَكْثَرِ اللُّغَةِ لِتَعَذُّرِ التَّوَاتُرِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْطِيلُ الْعَمَلِ بِأَكْثَرِ أَلْفَاظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْمَحْذُورُ فِي ذَلِكَ فَوْقَ الْمَحْذُورِ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ الْمَعْرُوفِ بِالْعَدَالَةِ وَالضَّبْطِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ تَطَرُّقُ الْكَذِبِ أَوِ الْخَطَأِ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهُ وَصِحَّةُ نَقْلِهِ. وَلِهَذَا كَانَ الْعُلَمَاءُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَإِلَى زَمَنِنَا هَذَا يَكْتَفُونَ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسْتَنِدَةِ إِلَى الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ بِنَقْلِ الْآحَادِ الْمَعْرُوفِينَ بِالثِّقَةِ وَالْمَعْرِفَةِ كَالْأَصْمَعِيِّ وَالْخَلِيلِ وَأَبِي عُبَيْدَةَ وَأَمْثَالِهِمْ. (1) الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَقْيِيدُ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا لَمَا حَسُنَ الِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْحُكْمِ فِي حَالِ نَفْيِهَا لَا عَنْ نَفْيِهِ وَلَا عَنْ إِثْبَاتِهِ، لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: " لَا تَقُلْ لِزَيْدٍ أُفٍّ " فَإِنَّهُ دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ ضَرْبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: " فَهَلْ أَضْرِبُهُ " وَلَا شَكَّ فِي حُسْنِهِ، لَوْ قَالَ: " أَدِّ الزَّكَاةَ عَنْ غَنَمِكَ السَّائِمَةِ " فَإِنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ وَهَلْ أُؤَدِّيهَا عَنِ الْمَعْلُوفَةِ؟ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: حُسْنُ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا كَانَ لِطَلَبِ الْأَجْلَى وَالْأَوْضَحِ لِكَوْنِ دَلَالَةِ الْخِطَابِ ظَاهِرَةً ظَنِّيَّةً غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَقْبِحُوا الِاسْتِفْهَامَ مِمَّنْ   (1) هُوَ أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ قَرِيبِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَصْمَعَ الْبَاهِلِيُّ الْأَصْمَعِيُّ الْبَصْرِيُّ مَاتَ بِالْبَصْرَةِ عَامَ 213 - 217 عَنْ 88 سَنَةً. وَالْخَلِيلُ هُوَ ابْنُ أَحْمَدَ الْأَزْدِيُّ الْفَرَاهِيدِيُّ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَصْرِيُّ صَاحِبُ الْعَرُوضِ وَكِتَابِ الْعَيْنِ فِي اللُّغَةِ، مَاتَ عَامَ 170 - 175 هـ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ النَّحْوِيُّ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ بِالْوَلَاءِ الْبَصْرِيُّ، مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ بِالْأَدَبِ وَاللُّغَةِ، وُلِدَ عَامَ 110 هـ، وَتُوُفِّيَ عَامَ 209 هـ، فَإِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ أَبَا عُبَيْدٍ بِلَا تَاءٍ فَقَدْ سَبَقَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي ص 72. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 قَالَ: " رَأَيْتُ أَسَدًا أَوْ بَحْرًا، أَوْ دَخَلَ السُّلْطَانُ الْبَلَدَ " بِأَنْ يُقَالَ: " هَلْ رَأَيْتَ الْحَيَوَانَ الْمَخْصُوصَ أَوْ إِنْسَانًا شُجَاعًا؟ وَهَلْ رَأَيْتَ الْبَحْرَ الَّذِي هُوَ الْمَاءُ الْمَخْصُوصُ أَوْ إِنْسَانًا كَرِيمًا؟ وَهَلْ رَأَيْتَ السُّلْطَانَ نَفْسَهُ أَوْ عَسْكَرَهُ؟ " مَعَ أَنَّ لَفْظَهُ ظَاهِرٌ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ دُونَ الْآخَرِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَوْ كَانَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الصِّفَةِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ غَيْرِ الْمُتَّصِفِ بِهَا لَكَانَ فِي الْخَبَرِ كَذَلِكَ، ضَرُورَةَ اشْتِرَاكِ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ فِي التَّخْصِيصِ بِالصِّفَةِ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " رَأَيْتُ الْغَنَمَ السَّائِمَةَ تَرْعَى " فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ رُؤْيَةِ الْمَعْلُوفَةِ مِنْهَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاسْتِشْهَادُ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا مَا يَسْتَرْوِحُ إِلَيْهِ الْمُنْكِرُونَ لِدَلِيلِ الْخِطَابِ، إِلَّا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: " الْفُقَهَاءُ الشَّافِعِيَّةُ فُضَلَاءُ أَئِمَّةٌ " فَإِنَّ سَامِعَهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ تَشْمَئِزُّ نَفْسُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَكْبُرُ عَنْ سَمَاعِهِ، لَا لِوَصْفِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ، بَلْ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِشْعَارِ بِسَلْبِ ذَلِكَ عَمَّنْ لَيْسَ بِشَافِعِيٍّ. وَهَذَا الشُّعُورُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ سَلِمَ امْتِنَاعُ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ، فَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوهُ يَرْجِعُ إِلَى الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ. وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا أَخْبَرَ وَقَالَ: " رَأَيْتُ خُبْزًا سَمِيدًا، وَلَحْمًا طَرِيًّا، وَرُطَبًا جِنِّيًّا " إِنَّمَا يُخْبِرُ عَمَّا شَاهَدَهُ وَعَلِمَهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُشَاهَدَتِهِ لِذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ شَاهَدَ مَا لَيْسَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ. وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: " اشْتَرِ خُبْزًا سَمِيدًا، وَلَحْمًا طَرِيًّا، وَرُطَبًا جِنِّيًّا " مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ الْخُبْزَ الْخَشْكَارَ، وَاللَّحْمَ وَالرُّطَبَ الْبَايِتَ، مِمَّا يُبَاعُ فِي السُّوقِ، فَقَوْلُهُ ذَلِكَ إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْبَيَانَ وَتَمْيِيزَ مَا يُشْتَرَى عَمَّا لَا يُشْتَرَى، فَكَانَ النَّفْيُ مُلَازِمًا لِلْإِثْبَاتِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْعَطْفِ وَالنَّقْضِ فَقَالُوا: قَوْلُ الْقَائِلِ: " اضْرِبِ الرِّجَالَ الطُّوَالَ وَالْقِصَارَ " فَالْقِصَارُ عَطْفٌ وَلَيْسَ بِنَقْضٍ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: " اضْرِبِ الرِّجَالَ الطُّوَالَ " مُقْتَضِيًا لِنَفْيِ الضَّرْبِ عَنِ الْقِصَارِ لَكَانَ نَقْضًا لَا عَطْفًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وَهِيَ بَعِيدَةٌ عَنِ التَّحْقِيقِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " اضْرِبِ الرِّجَالَ الطُّوَالَ " إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ ضَرْبِ الْقِصَارِ بِتَقْدِيرِ اخْتِصَاصِ الطُّوَالِ بِالذِّكْرِ، وَإِذَا عَطَفَ عَلَيْهِ الْقِصَارَ، فَلَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لِلطُّوَالِ بِالذِّكْرِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الضَّرْبِ عَنِ الْقِصَارِ، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِالتَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: " صُمْ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ " فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: " صُمْ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ " فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَقْضًا. الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ دَالًّا عَلَى نَفْيِهِ عَنِ الْغَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِهَا لَمَا حَسُنَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِهِ: " أَدِّ زَكَاةَ السَّائِمَةِ " وَبَيْنَ قَوْلِهِ " وَالْمَعْلُوفَةِ " لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَاقُضِ، كَمَا لَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: " لَا تَقُلْ لِزَيْدٍ أُفٍّ، وَاضْرِبْهُ ". وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا لَا يَحْسُنُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ قِيلَ بِالْمُنَاقَضَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْحُجَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا. هَذَا إِذَا كَانَ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ، وَأَمَّا إِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: " أَدِّ زَكَاةَ الْمَعْلُوفَةِ " فَإِنَّمَا لَمْ يَمْتَنِعْ، لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنَّ صَرِيحَ قَوْلِهِ: " أَدِّ زَكَاةَ الْغَنَمِ الْمَعْلُوفَةِ " وَقَعَ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَالْمُعَارَضَةُ غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي فَحْوَى الْخِطَابِ امْتِنَاعُهُ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ، إِذْ هُوَ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ. وَبِتَقْدِيرِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ذَلِكَ فِي فَحْوَى الْخِطَابِ إِنَّمَا كَانَ فِيمَا عُلِمَ، لَا فِيمَا ظُنَّ عَلَى مَا سَبَقَ. وَدَلِيلُ الْخِطَابِ مَظْنُونٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ مُعَارَضَةِ الْمَقْطُوعِ امْتِنَاعُ مُعَارَضَةِ الْمَظْنُونِ، ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّخْصِيصُ بِالْغَايَةِ كَمَا سَبَقَ. الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: ذَكَرَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصِّفَةِ إِنَّمَا هُوَ تَمْيِيزُ الْمَوْصُوفِ بِهَا عَمَّا سِوَاهُ. وَكَذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْمِ إِنَّمَا هُوَ تَمْيِيزُ الْمُسَمَّى عَنْ غَيْرِهِ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ، كَمَا لَوْ قَالَ: " زَيْدٌ عَالِمٌ " لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ بِاسْمِ زَيْدٍ، فَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قِيَاسُ التَّخْصِيصِ بِالصِّفَةِ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالِاسْمِ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، فَلَا يَصِحُّ، وَإِنْ صَحَّ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالِاسْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا سِوَاهُ كَمَا يَأْتِي، وَإِنْ سَلِمَ عَدَمُ دَلَالَتِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ مُشَارَكَةُ التَّعْلِيقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 بِالصِّفَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَنْ لَوْ بَيَّنَ أَنَّ مَنَاطَ عَدَمِ دَلَالَةِ التَّعْلِيقِ بِالِاسْمِ كَوْنُهُ مَوْضُوعًا لِلتَّمْيِيزِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ شُعُورَ الْمُتَكَلِّمِ بِالِاسْمِ الْعَامِّ الْمُقَيَّدِ بِالصِّفَةِ الْخَاصَّةِ بِمَا لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الصِّفَةُ (1) أَتَمُّ مِنْ شُعُورِ الْمُتَكَلِّمِ بِاسْمِ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بِالْجِنْسِ الْآخَرِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ بِالِاسْمِ مِثْلُهُ فِي الصِّفَةِ، كَيْفَ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِالتَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِلتَّمْيِيزِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا. الْحُجَّةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَنْ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِهَا، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ، وَلَا زَكَاةَ فِي الْمَعْلُوفَةِ مِنْهَا، وَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» " يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهَا عَنِ الْمَعْلُوفَةِ لَمَا احْتِيجَ إِلَى الْعِبَارَةِ الْأُخْرَى لِعَدَمِ فَائِدَتِهَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُسْتَفَادًا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وَضْعِ عِبَارَةٍ خَاصَّةٍ إِذْ هُوَ أَبْلَغُ فِي الدَّلَالَةِ وَأَقْرَبُ إِلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي التَّقْيِيدِ " بِالْغَايَةِ " كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. الْحُجَّةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّ الْقَوْلَ " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» ، لَهُ دَلَالَةٌ بِمَنْطُوقِهِ عَلَى وُجُوبِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ دَلَالَةُ مَفْهُومٍ لَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ حُكْمُ الْمَنْطُوقِ، وَيَبْقَى حُكْمُ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ حُكْمُ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَيَبْقَى حُكْمُ صَرِيحِ الْخِطَابِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: دَلِيلُ الْخِطَابِ إِنَّمَا هُوَ مُتَفَرِّعٌ مِنْ تَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ فَإِذَا بَطَلَ حُكْمُ الصِّفَةِ، فَلَا تَخْصِيصَ، وَمَعَ عَدَمِ التَّخْصِيصِ، فَلَا دَلَالَةَ لِدَلِيلِ الْخِطَابِ، ثُمَّ هُوَ مَنْقُوضٌ بِالتَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ. الْحُجَّةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمُتَضَادَّيْنِ مَعًا، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: " فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ " دَالًّا عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ: لَكَانَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ دَالًّا عَلَى الضِّدَّيْنِ مَعًا: وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.   (1) بِمَا لَيْسَ لَهُ تِلْكَ الصِّفَةُ مُتَعَلِّقٌ بِشُعُورٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى الْمُتَضَادَّيْنِ مَعًا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَالَةِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ عَلَى الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ مَعًا، كَانَتْ أَضْدَادًا أَوْ لَمْ تَكُنْ. سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ إِلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَتَيْنِ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَهَاهُنَا الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ صَرِيحُ الْخِطَابِ، وَالدَّالُّ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ دَلِيلُ الْخِطَابِ، وَهُمَا غَيْرَانِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُنْتَقِضٌ بِالتَّخْصِيصِ بِالْغَايَةِ. الْحُجَّةُ الْعَاشِرَةُ: أَنَّ صُورَةَ الْغَنَمِ السَّائِمَةِ مُخَالِفَةٌ لِصُورَةِ الْغَنَمِ الَّتِي لَيْسَتْ بِسَائِمَةٍ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الصُّورَتَيْنِ، لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي أَحَدِهِمَا ثُبُوتُهُ فِي الْأُخْرَى وَلَا عَدَمُهُ، لِجَوَازِ اشْتِرَاكِ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي أَحْكَامٍ وَافْتِرَاقِهَا فِي أَحْكَامٍ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا، لَمْ يَلْزَمْ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ حُكْمٍ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ الْإِخْبَارُ عَنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى، لَا وُجُودًا وَلَا عَدَمًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَتَى لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ نَفْيُهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ قَدْ عُلِّقَ ثُبُوتُهُ بِالِاسْمِ الْعَامِّ الْمَوْصُوفِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَدَعْوَاهُ دَعْوَى مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَعَلَى هَذَا، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ حُكْمِ إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ الْإِخْبَارُ عَنِ الصُّورَةِ الْأُخْرَى مُطْلَقًا لَا يَكُونُ صَحِيحًا، ثُمَّ إِنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِفَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِنَّ صُورَةَ الْمَنْطُوقِ بِالْحُكْمِ فِيهَا مُخَالِفَةٌ لِلصُّورَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي صُورَةِ النُّطْقِ لَازِمٌ ثُبُوتُهُ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ، وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ فِي إِحْدَاهُمَا إِخْبَارٌ عَنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا أَرَدْنَاهُ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى إِبْطَالِ الْحُجَجِ الْوَاهِيَةِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ، وَأَقْرَبُ مَا يُقَالُ فِيهِ مَسْلَكَانِ: الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى الصِّفَةِ مُوجِبًا لِنَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِهَا لَمَا كَانَ عِنْدَ عَدَمِهَا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ. وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، لَكِنَّهُ ثَابِتٌ مَعَ عَدَمِهَا. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَقَعَ مُعَلَّقًا بِخَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَيْضًا فِي حَالَةِ عَدَمِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 فَإِنْ قِيلَ: تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ عِنْدَنَا إِنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِهِ حَالَةَ عَدَمِ الصِّفَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَالَةَ عَدَمِ الصِّفَةِ أَوْلَى بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الصِّفَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُكْمِ زَكَاةِ السَّائِمَةِ وَالْمَعْلُوفَةِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي حَالَةِ عَدَمِ الصِّفَةِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِنْ حَالَةِ وُجُودِ الصِّفَةِ فَلَا، وَهَاهُنَا تَحْرِيمُ الْقَتْلِ حَالَةَ عَدَمِ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ أَوْلَى مِنَ التَّحْرِيمِ حَالَةَ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ. فَكَانَ التَّنْصِيصُ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ حَالَةَ خَشْيَةِ الْإِمْلَاقِ مُحَرِّمًا لَهُ حَالَةَ عَدَمِ الْخَشْيَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ فَحْوَى الْخِطَابِ، لَا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ. قُلْنَا: هَذَا وَإِنِ اسْتَمَرَّ لَكُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلَا يَسْتَمِرُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} وَفِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} فَإِنَّ النَّهْيَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَيْسَ هُوَ أَوْلَى مِنْ صُوَرِ السُّكُوتِ (1) فَإِنَّ النَّهْيَ، عَنْ أَكْلِ قَلِيلِ الرِّبَا لَيْسَ أَوْلَى مِنْ كَثِيرِهِ، وَلَا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ أَوْلَى مِنَ الْإِسْرَافِ، وَلَا النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا حَالَةَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ أَوْلَى مِنْ حَالَةِ إِرَادَةِ الزِّنَا. (2) وَمَعَ ذَلِكَ، فَالْحُكْمُ فِي الْكُلِّ مُشْتَرَكٌ. فَإِنْ قِيلَ: مُخَالَفَةُ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ إِنَّمَا كَانَتْ لِمُعَارِضٍ، وَلَا يَلْزَمُ مُخَالَفَتُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ. قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ السُّكُوتِ عَلَى نَحْوِ ثُبُوتِهِ فِي صُورَةِ النُّطْقِ لِدَلِيلٍ، وَلَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةِ دَلِيلٍ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ مَحْذُورِ الْمُعَارَضَةِ. وَلَوْ كَانَ دَلِيلُ الْخِطَابِ دَلِيلًا، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّعَارُضُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ لَوْ كَانَ مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْهُ نَفْيُ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الصِّفَةِ، لَمْ يَخْلُ.   (1) مِنْ صُوَرِ السُّكُوتِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ فِي صُوَرِ السُّكُوتِ. (2) وَلَا النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا حَالَةَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ أَوْلَى مِنْ حَالَةِ إِرَادَةِ الزِّنَا - فِي الْعِبَارَةِ قَلْبٌ وَالصَّوَابُ: وَلَا النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا حَالَةَ إِرَادَةِ الزِّنَا أَوْلَى مِنْ حَالَةِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ صَرِيحِ الْخِطَابِ، أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالصِّفَةِ يَسْتَدْعِي فَائِدَةً، وَلَا فَائِدَةَ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الصِّفَةِ، أَوْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: الْأَوَّلُ مُحَالٌ، فَإِنَّ صَرِيحَ الْخِطَابِ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي السَّائِمَةِ غَيْرُ صَرِيحٍ بِوُجُوبِهَا فِي الْمَعْلُوفَةِ كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا قَائِلَ بِهِ. وَالثَّانِي أَيْضًا مُمْتَنِعٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ فِي إِبْطَالِ الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ لِلْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. وَالثَّالِثُ: فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَعَلَى مُدَّعِيهِ بَيَانُهُ، وَيَلْتَحِقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَخْصِيصُ الْأَوْصَافِ الَّتِي تَطْرَأُ وَتَزُولُ كَقَوْلِهِ: " السَّائِمَةُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ " وَالْحُكْمُ كَالْحُكْمِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَالْمَأْخَذُ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، فَعَلَى مَا عُرِفَ وَالْمُخْتَارُ فِيهَا كَالْمُخْتَارِ ثَمَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَيْءٍ بِكَلِمَةِ إِنْ هَلِ الْحُكْمُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَيْءٍ بِكَلِمَةِ (إِنْ) هَلِ الْحُكْمُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوَّلًا؟ . فَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَالْهَرَّاسِيُّ (1) مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْكَرْخِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الْعَدَمِ مَعَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَبَيَانُهُ أَنَّ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِكَلِمَةِ (إِنْ) ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا لِلْحُكْمِ أَوْ يَكُونَ شَرْطًا: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِ الشَّرْطِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا عِنْدَ انْتِفَائِهِ، وَلَا يَكُونُ لَازِمًا لَهُ، الْأَوَّلُ مُحَالٌ، وَإِلَّا لَامْتَنَعَ وُجُودُ الْقَصْرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى الْخَوْفِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُعَارِضِ، وَلَيْسَ مِنْ لَوَازِمِهِ بِتَقْدِيرِ الْمُعَارِضِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ كَلِمَةَ (إِنْ) مُسَمَّاةٌ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِالشَّرْطِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَلِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ: " إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَكْرِمْهُ " فِي مَعْنَى قَوْلِهِ دُخُولُ زَيْدٍ الدَّارَ شَرْطٌ فِي إِكْرَامِهِ، فَكَانَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ (إِنْ) شَرْطًا فِي الْحُكْمِ، وَإِذَا كَانَ شَرْطًا لَزِمَ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ فَهِمَ مِنْ تَعْلِيقِ الْقَصْرِ عَلَى الْخَوْفِ بِكَلِمَةِ (إِنْ) عَدَمَ الْقَصْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ حَيْثُ «سَأَلَ عُمَرَ قَالَ: " مَا بَالُنَا نَقْصُرُ وَقَدْ أَمِنَّا " وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} » تَرَكَهَا عُمَرُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: «لَقَدْ عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: " صَدَقَةٌ   (1) الْهَرَّاسِيُّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الشَّافِعِيُّ الْمُلَقَّبُ بِعِمَادِ الدِّينِ الْمَعْرُوفُ بِأَلْكِيَا الْهَرَّاسِيِّ، وُلِدَ عَامَ 450 وَتُوُفِّيَ 504 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ". (1) وَفَهْمُ عُمَرَ وَيَعْلَى ذَلِكَ مَعَ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُمَا عَلَى مَا فَهِمَاهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ. الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَيَاةَ شَرْطٌ لِوُجُودِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَإِنَّ الْحَوْلَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَحَكَمُوا بِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَبِانْتِفَاءِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَوْلِ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الشَّرْطِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخَرِ، وَلَا مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ شَرْطًا، وَهُوَ مُحَالٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُمْ إِنَّهُ مِنْ لَوَازِمِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُعَارِضِ. قُلْنَا يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ، حَذَرًا مِنَ التَّعَارُضِ بِتَقْدِيرِ وُجُودِ الْمُعَارِضِ. وَمَا ذَكَرُوهُ ثَانِيًا: إِنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ (إِنْ) شَرْطٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَضِيَّةِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْخَوْفِ مَانِعٌ مِنْ ثُبُوتِ الْقَصْرِ دُونَهُ، بَلْ لَعَلَّهُ فَهِمَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَصْرِ، وَحَيْثُ وَرَدَ الْقَصْرُ حَالَةَ الْخَوْفِ بِقَوْلِهِ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وَلَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَصْرِ حَالَةَ عَدَمِ الْخَوْفِ، فَيَبْقَى عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الصَّلَاةِ الْإِتْمَامَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْأَصْلُ فِي الصَّلَاةِ عَدَمُ الْإِتْمَامِ، وَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَتِ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ، فَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ» (2) فَلَمْ يَبْقَ لِلتَّعَجُّبِ وَجْهٌ سِوَى دَلَالَةِ اشْتِرَاطِ الْخَوْفِ وَعَدَمِ الْقَصْرِ عِنْدَ عَدَمِهِ. قُلْنَا الصَّلَاةُ الْمَشْرُوعَةُ بَدِيًّا رَكْعَتَيْنِ لَا تُسَمَّى مَقْصُورَةً، كَصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلَا فِعْلُهَا قَصْرًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُورَةُ اسْمٌ لِمَا جُوِّزَ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ   (1) حَدِيثُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ. (2) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وَلَفْظُ الْقَصْرِ لِنَفْسِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الرُّبَاعِيَّةِ، فَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْقَصْرِ فِي الْآيَةِ مُشْعِرٌ بِسَابِقَةِ وُجُوبِ الْإِتْمَامِ لَا مَحَالَةَ. وَإِذَا كَانَ الْإِتْمَامُ هُوَ الْأَصْلُ السَّابِقُ عَلَى الْقَصْرِ فَقَدْ بَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ. كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ هُوَ الْأَوْلَى، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الْخَوْفِ فِي الْقَصْرِ مَانِعًا مِنَ الْقَصْرِ مَعَ عَدَمِهِ، لَمَا جَازَ الْقَصْرُ مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ أَوْ كَانَ الْقَصْرُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَأَمَّا (1) عَدَمُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيَاةِ وَعَدَمِ الْحَوْلِ، فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَدَمَ الشَّرْطِ مَانِعٌ مِنْ وُجُودِ الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِهِ وَلَا بُدَّ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَنْتَفِي فِي بَعْضِ صُوَرِ نَفْيِ الشَّرْطِ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي لُزُومِ انْتِفَائِهِ مِنِ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَلَا بُدَّ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَالْوَجْهُ فِي جَوَابِهِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الشَّرْطِ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ، وَلَا مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُهُ، إِذَا كَانَ غَيْرُ الشَّرْطِ مُشَارِكًا لَهُ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ، أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اشْتِرَاكُ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي عَارِضٍ عَامٍّ لَهَا. كَيْفَ وَإِنَّ مَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ شَرْطًا لِغَيْرِهِ أَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِحَالِ الْمَشْرُوطِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ الشَّرْطُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ تَحَقُّقِ مُقْتَضِيهِ دَفْعًا لِوَهْمِ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْخِطَابَ لَوْ وَرَدَ مُطْلَقًا لَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْرُوطُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ مُرَادًا. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: " ضَحِّ بِالشَّاةِ وَإِنْ كَانَتْ عَوْرَاءَ " فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " ضَحُّوا بِالشَّاةِ مُطْلَقًا " لَجَازَ أَنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بِالْعَوْرَاءِ فَكَانَ ذِكْرُ هَذَا الْوَهْمِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ شَيْءٍ شَرْطًا لِكُلِّ شَيْءٍ كَمَا قَالُوهُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ يَمْنَعُ مِنْ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ دُونَهُ، وَلَكِنْ مَتَى إِذَا أَمْكَنَ قِيَامُ شَرْطٍ مَقَامَ ذَلِكَ الشَّرْطِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ شَرْطٌ آخَرُ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. وَعَلَى   (1) جَوَابٌ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّانِي مِنَ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ لِتَأْيِيدِ الْمُعَارَضَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 هَذَا فَكَوْنُهُ شَرْطًا يَتَحَقَّقُ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهِ، إِذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِذَا قَامَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، فَلِمَ قُلْتُمْ إِنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَقُمْ مَقَامَهُ فِي الشَّرْطِيَّةِ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الِاشْتِرَاطِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ شَرْطٍ آخَرَ، وَلَا عَلَى عَدَمِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: " إِنْ دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا "، مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ دُخُولُ الدَّارِ فِي عَطِيَّتِكَ لَهُ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كَمَالُ الشَّرْطِ هُوَ دُخُولُ الدَّارِ، لِأَنَّ لَامَ الْجِنْسِ تَقْتَضِي الْعُمُومَ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: " إِنْ دَخَلَ الدَّارَ فَأَعْطِهِ دِرْهَمًا "، يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِعْطَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ، فَلَوْ قَامَ شَرْطٌ آخَرُ مَقَامَهُ لَزِمَ مِنْهُ جَوَازُ الْإِعْطَاءِ مَعَ عَدَمِ الدُّخُولِ، فَيَقْتَضِي الشَّرْطُ الْأَوَّلُ امْتِنَاعَ وُجُودِ شَرْطٍ آخَرَ يَقُومُ مَقَامَهُ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ عَنْ كَوْنِهِ شَرْطًا. قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: (إِنْ دَخَلَ الدَّارَ) هُوَ الشَّرْطُ، بَلْ هُوَ شَرْطٌ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ شَرْطٍ آخَرَ، وَتَقْدِيرُ لَامِ الْجِنْسِ هَاهُنَا زِيَادَةٌ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ، فَلَا يُصَارُ إِلَيْهَا. وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: (إِنْ دَخَلَ الدَّارَ) يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِعْطَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ مُطْلَقًا، بَلْ إِذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ. (لَكِنْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَاهُنَا إِذَا سُلِّمَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ مَقَامَهُ أَنَّ عَدَمَهُ يَقْتَضِي الْعَدَمَ، فَالْأَصْلُ عَدَمُ قِيَامِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، فَاقْتَضَى عَدَمُهُ الْعَدَمَ.) وَرُبَّمَا احْتَجَّ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّهُ لَوْ مَنَعَ الشَّرْطُ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ لَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} يَمْنَعُ مِنْ تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَهُوَ مُحَالٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: ذِكْرُ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ إِنَّمَا كَانَ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْإِكْرَاهِ لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مُرِيدٌ لَهُ غَيْرُ مُرِيدٍ لِلتَّحَصُّنِ، لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي تَحْرِيمِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الزِّنَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالثةِ الْخِطَابِ إِذَا قُيِّدَ الْحُكْمُ بِغَايَةٍ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْخِطَابِ إِذَا قُيِّدَ الْحُكْمُ بِغَايَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، وَقَوْلِهِ: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، وَقَوْلِهِ: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ (إِلَى) أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ. وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ تَقْيِيدُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ الْمَحْدُودَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ لَمْ يَخْلُ: إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ أَوْ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَالًّا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ لَمَا كَانَ التَّقْيِيدُ بِالْغَايَةِ مُفِيدًا، أَوْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، الْأَوَّلُ مُحَالٌ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِصَرِيحِهِ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ بَعْدَ الْغَايَةِ، وَالثَّانِي إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ سِوَى مَا ذَكَرُوهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ جَازَ أَنْ تَكُونَ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ تَعْرِيفَ بَقَاءِ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْخِطَابِ أَيْ مُتَعَرِّضٌ فِيهِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَلَا نَفْيِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَعَلَى مُدَّعِيهِ بَيَانُهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ وُرُودِ الْخِطَابِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ بِمِثْلِ الْحُكْمِ السَّابِقِ قَبْلَ الْغَايَةِ بِالْإِجْمَاعِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَقْيِيدُ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ نَافِيًا لِلْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَهَا، أَوْ لَا يَكُونَ، وَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ مَعَ تَحَقُّقِ مَا يَنْفِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ كَلِمَةَ (حَتَّى) وَ (إِلَى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى قَوْلِهِ: " «صُومُوا صَوْمًا آخِرُهُ اللَّيْلُ» " وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَمُنِعَ مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ بَعْدَ مَجِيءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 اللَّيْلِ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الصَّوْمُ بَعْدَ ذَلِكَ لَصَارَتِ الْغَايَةُ وَسَطًا وَهُوَ مُحَالٌ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِعَبْدِهِ: " لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا حَتَّى يَقُومَ، وَاضْرِبْ عَمْرًا حَتَّى يَتُوبَ " فَإِنَّهُ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَنْ يُقَالَ: " فَهَلْ أُعْطِيهِ إِذَا قَامَ؟ ، وَهَلْ أَضْرِبُهُ إِذَا تَابَ؟ " وَلَوْلَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْغَايَةِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بَعْدَهَا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. قُلْنَا لَا نُنْكِرُ أَنَّ (حَتَّى) وَ (إِلَى) لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ وَأَنَّهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى قَوْلِهِ: " «صُومُوا صِيَامًا آخِرُهُ اللَّيْلُ» " غَيْرَ أَنَّ الْخِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِالْغَايَةِ هَلْ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنَ التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ دَلَالَةَ التَّقْيِيدِ بِالْغَايَةِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ مُتَعَرَّضٍ فِيهِ بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ لَا بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ صَوْمٍ بَعْدَ الْغَايَةِ أَنْ تَصِيرَ الْغَايَةُ وَسَطًا، بَلْ هِيَ غَايَةٌ لِلصَّوْمِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَوَّلًا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ وَسَطًا أَنْ لَوْ كَانَ الصَّوْمُ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُسْتَنِدًا إِلَى الْخِطَابِ الَّذِي قَبْلَ الْغَايَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: " لَا تُعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا حَتَّى يَقُومَ، وَاضْرِبْ عَمْرًا حَتَّى يَتُوبَ " لِأَنَّ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ غَيْرُ مُتَعَرَّضٍ لَهُ بِنَفْيٍ وَلَا إِثْبَاتٍ فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِفْهَامُ فِيمَا لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ كَمَا قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِعْطَاءِ وَالضَّرْبِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 [الْمَسْأَلَةُ الرابعة تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْعَدَدَ بِخِلَافِهِ أَوْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ الْعَدَدَ بِخِلَافِهِ أَوْ لَا وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا قُيِّدَ بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ فَمِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ حَرَّمَ اللَّهُ جَلْدَ الزَّانِي مِائَةً، وَقَالَ إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا زَادَ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ لَا يَحْمِلُ خَبَثًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى الْقُلَّتَيْنِ فَفِيهِ الْمِائَةُ وَالْقُلَّتَانِ وَزِيَادَةٌ. وَهَلْ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا دُونَ الْمِائَةِ وَدُونَ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْحُكْمِ فِي الْمِائَةِ وَالْقُلَّتَيْنِ؟ هَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. وَمِنْهُ مَا لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا أَوْجَبَ جَلْدَ الزَّانِي مِائَةً أَوْ أَبَاحَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، بَلْ هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ وَمُخْتَلَفٌ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا زَادَ، وَمُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّ حُكْمَ مَا نَقُصَ كَحُكْمِ الْمِائَةِ لِدُخُولِهِ تَحْتَهَا، لَكِنْ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ. (1) وَالْمُخْتَارُ فِيمَا كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ، وَلَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ فِيهِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِالْعَدَدِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ فِي احْتِجَاجِهِ عَلَى مَذْهَبِهِ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ.   (1) لَكِنْ لَا يَمْنَعُ مِنَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: لَكِنْ يَمْتَنِعُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 [الْمَسْأَلَةُ الخامسة مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ خِلَافًا لِلدَّقَّاقِ وَأَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، _رَحِمَهُ اللَّهُ_. وَصُورَتُهُ أَنْ يُعْلَنَ الْحُكْمُ إِمَّا بِاسْمِ جِنْسٍ، كَالتَّخْصِيصِ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا أَوْ بِاسْمِ عَلَمٍ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: زَيْدٌ قَائِمٌ أَوْ قَامَ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، لَكِنْ قَدِ احْتَجَّ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِإِبْطَالِهِ بِحُجَجٍ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ حُجَّةً، لَبَطَلَ الْقِيَاسُ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَبَيَانُ لُزُومِ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَصْلٍ، وَحُكْمُ الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوصًا أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهِ: فَلَوْ كَانَ النَّصُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ أَوِ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنِ الْفَرْعِ فَالْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ إِنْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، فَلَا قِيَاسَ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ الدَّالِّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَلَيْسَ بِصَرِيحِهِ، بَلْ بِمَفْهُومِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِمَعْقُولِ النَّهْيِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فَلَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَغَايَتُهُ التَّعَارُضُ لَا الْإِبْطَالُ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ حُجَّةً وَدَلِيلًا، لَكَانَ الْقَائِلُ إِذَا قَالَ: " عِيسَى رَسُولُ اللَّهِ " فَكَأَنَّهُ قَالَ: " مُحَمَّدٌ لَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ " وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: " زَيْدٌ مَوْجُودٌ " فَكَأَنَّهُ قَالَ: " الْإلَهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ " وَهُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ، وَلَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ قَائِلٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مِنَ الْخُصُومِ إِنَّمَا لَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ كَافِرًا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَنَبِّهًا لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، أَوْ كَانَ مُتَنَبِّهًا لَهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِلَفْظِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُهُ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَنَبِّهًا لِدَلَالَةِ لَفْظِهِ وَهُوَ مُرِيدٌ لِمَدْلُولِهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ كَافِرًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: " زَيْدٌ يَأْكُلُ " لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ عَمْرًا لَا يَأْكُلُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ مَنْ يَعْتَقِدُ دَلَالَةَ مَفْهُومِ اللَّقَبِ، أَوْ مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَعَدَمُ فَهْمِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ لَا يَعْتَقِدُ دَلَالَتَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دَلَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ. الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَفْهُومُ اللَّقَبِ دَلِيلًا لَمَا حَسُنَ مِنَ الْإِنْسَانِ أَنْ يُخْبِرَ أَنَّ زَيْدًا يَأْكُلُ، إِلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَأْكُلْ وَإِلَّا كَانَ مُخْبِرًا بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ، أَوْ بِمَا لَا يَأْمَنُ فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ، وَحَيْثُ اسْتَحْسَنَ الْعُقَلَاءُ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى عَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ الْأَكْلِ عَنْ غَيْرِ زَيْدٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّ غَيْرَ زَيْدٍ يَأْكُلُ، أَوْ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ إِنَّمَا لَمْ يُسْتَقْبَحْ مِنْهُ ذَلِكَ لِظُهُورِ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ سِوَى مَدْلُولِ صَرِيحِ لَفْظِهِ دُونَ مَفْهُومِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَعِلْمِهِ بِوُقُوعِ الْأَكْلِ مِنْ غَيْرِ زَيْدٍ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ لَا يُخْبِرُ عَنْ نَفْيِ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ وَلَا نَفْيِ مَا عَلِمَ وُقُوعَهُ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَتِهِ لِنَفْيِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُهُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ لَكَانَ مُسْتَقْبَحًا. وَالْمُخْتَارُ فِي إِبْطَالِ مَا سَبَقَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَمَّا حُجَجُ الْخُصُومِ وَجَوَابُهَا فَعَلَى مَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ التَّقْيِيدِ بِالصِّفَةِ. وَرُبَّمَا احْتَجُّوا فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحُجَجٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَخَاصَمَ شَخْصَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: " أَمَّا أَنَا فَلَيْسَ لِي أُمٌّ وَلَا أُخْتٌ وَلَا امْرَأَةٌ زَانِيَةٌ " فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ نِسْبَةُ الزِّنَا مِنْهُ إِلَى زَوْجَةِ خَصْمِهِ وَأُمِّهِ وَأُخْتِهِ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمَالِكٍ بِوُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ إِنْ فُهِمَ مِنْهُ فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ حَالِهِ لَا مِنْ دَلَالَةِ مَقَالِهِ بِدَلِيلِ مَا أَسْلَفْنَاهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا وَاجِبًا بِذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي مَفْهُومِ الِاسْمِ الْعَامِّ الْمُشْتَقِّ كَقَوْلِهِ: " «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ» ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 [الْمَسْأَلَةُ السادسة تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِإِنَّمَا هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي تَقْيِيدِ الْحُكْمِ بِإِنَّمَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقَسَّمْ» "، " «وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» "، " «وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» "، " «وَإِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» " هَلْ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْغَزَالِيُّ وَالْهَرَّاسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْحَصْرِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْكِيدِ. وَذَهَبَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِمَّنْ أَنْكَرَ دَلِيلَ الْخِطَابِ إِلَى أَنَّهُ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْحَصْرِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) قَدْ تَرِدُ وَلَا حَصْرَ، كَقَوْلِهِ: " «إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» " وَهُوَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي النَّسِيئَةِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ سِوَى ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَقَدْ تَرِدُ وَالْمُرَادُ بِهَا الْحَصْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (1) وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِهَا حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، وَهُوَ تَأْكِيدُ إِثْبَاتِ الْخَبَرِ لِلْمُبْتَدَأِ، نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ لِكَوْنِهِ (2) عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ كَلِمَةَ (إِنَّمَا) لَوْ كَانَتْ لِلْحَصْرِ لَكَانَ وُرُودُهَا فِي غَيْرِ الْحَصْرِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. فَإِنْ قِيلَ: وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لِلْحَصْرِ، لَكَانَ فَهْمُ الْحَصْرِ فِي صُورَةِ الْحَصْرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. قُلْنَا: إِنَّمَا يَكُونُ فَهْمُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ أَنْ لَوْ كَانَ دَلِيلُ الْحَصْرِ مُنْحَصِرًا فِي كَلِمَةِ (إِنَّمَا) وَلَيْسَ كَذَلِكَ.   (1) الْمَعْنَى أَنَا بَشَرٌ لَا مَلَكٌ فَالْحَصْرُ فِي الْجُمْلَةِ إِضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ، إِذِ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِفَاتٌ أُخْرَى سِوَى الْبَشَرِيَّةِ. (2) لِكَوْنِهِ - الصَّوَابُ - لِكَوْنِهِمَا أَيِ التَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 [الْمَسْأَلَةُ السابعة قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» " وَفِي قَوْلِ الْقَائِلِ: الْعَالِمُ زَيْدٌ وَصَدِيقِي زَيْدٌ، هَلْ يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْأَعْمَالِ فِيمَا كَانَ مَنْوِيًّا، وَعَلَى حَصْرِ الْعَالِمِ وَالصَّدِيقِ فِي زَيْدٍ. فَذَهَبَتِ الْحَنَفِيَّةُ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ وَالْهَرَّاسِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ لِمَا سَبَقَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى حَصْرِ الْأَعْمَالِ فِي الْمَنْوِيِّ، وَالْعَالِمِ وَالصَّدِيقِ فِي زَيْدٍ، لَكَانَ الْمُبْتَدَأُ أَعَمَّ مِنْ خَبَرِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ كَذِبًا كَمَا لَوْ قَالَ: " الْحَيَوَانُ إِنْسَانٌ وَالْإِنْسَانُ زَيْدٌ ". قُلْنَا: إِنَّمَا يَلْزَمُ الْكَذِبُ أَنْ لَوْ كَانَتِ (الْأَلِفُ وَاللَّامُ) فِي الْأَعْمَالِ لِلْعُمُومِ فَإِنَّهَا تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: " كُلُّ عَمَلٍ مَنْوِيٍ " وَهُوَ كَاذِبٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ: " كُلُّ حَيَوَانٍ إِنْسَانٌ " وَلَيْسَ كَذَلِكَ! بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْبَعْضِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: " بَعْضُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ " وَذَلِكَ صَادِقٌ غَيْرُ كَاذِبٍ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ: " الْعَالِمُ زَيْدٌ " وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: " صَدِيقِي زَيْدٌ " لَيْسَ عَامًّا فِي كُلِّ صَدِيقٍ بَلْ كَأَنَّهُ قَالَ: " بَعْضُ أَصْدِقَائِي زَيْدٌ " حَتَّى إِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ (الْأَلِفَ وَاللَّامَ) إِذَا دَخَلَتْ عَلَى اسْمِ الْجِنْسِ تَكُونُ عَامَّةً، وَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُرِيدًا لِلتَّعْمِيمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا بِتَقْدِيرِ ظُهُورِ عَالِمٍ آخَرِ وَصَدِيقٍ آخَرَ لَهُ، وَكَانَ قَوْلُهُ دَالًّا عَلَى الْحَصْرِ لَا مَحَالَةَ. (1) وَرُبَّمَا قِيلَ فِي إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْحَصْرِ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: " الْعَالِمُ زَيْدٌ وَصَدِيقِي زَيْدٌ " يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ الْعَالِمِ وَالصَّدِيقِ فِي زَيْدٍ لَكَانَ إِذَا قَالَ: " الْعَالِمُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَصَدِيقِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو " مُتَنَاقِضًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ فَإِنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مُنَاقِضًا بِشَرْطِ أَنْ يَتَجَرَّدَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ عَمَّا يُغَيِّرُهُ.   (1) الظَّاهِرُ قَصْرُ الْأَعْمَالِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا عَلَى مَا صَحِبَتْهُ النِّيَّةُ، وَقَصْرُ الْعِلْمِ وَالصَّدَاقَةِ فِي الْمِثَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ عَلَى زَيْدٍ قَصْرًا حَقِيقِيًّا إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ عَالِمٌ مِنَ الْخَلْقِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ سِوَى زَيْدٍ، وَلَا صَدِيقَ لِلْمُتَكَلِّمِ فِي الْوَاقِعِ سِوَاهُ، وَإِلَّا فَالْقَصْرُ ادِّعَائِيٌّ وَلَا كَذِبَ فِي الْحَالَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وَأَمَّا إِذْ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ " وَعَمْرٌو " صَارَ الْكُلُّ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَانَ قَوْلُهُ الْعَالِمُ زَيْدٌ مَعَ الِانْفِرَادِ مُغَايِرًا فِي دَلَالَتِهِ لِقَوْلِهِ " الْعَالِمُ زَيْدٌ وَعَمْرٌو " وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: " عَلَيَّ عَشْرَةٌ " ثُمَّ بَعْدَ حِينٍ قَالَ " إِلَّا خَمْسَةً " فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُنَاقَضَةِ لَفْظِهِ الْأَوَّلِ وَلَوْ قَالَ " لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إِلَّا خَمْسَةً " عَلَى الِاتِّصَالِ كَانَ مَقْبُولًا لِعَدَمِ تَنَاقُضِهِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الدَّلَالَةِ لَمَا اخْتَلَفَ الْحَالُ بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا يُقْبَلَ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ أَوْ يُقْبَلَ فِيهِمَا، وَهُوَ مُحَالٌ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَة الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ " لَا عَالِمَ فِي الْبَلَدِ إِلَّا زَيْدٌ " فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَأَكْثَرُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ كُلِّ عَالِمٍ سِوَى زَيْدٍ، وَإِثْبَاتِ كَوْنِ زَيْدٍ عَالِمًا، وَذَهَبَ بَعْضُ مُنْكِرِي الْمَفْهُومِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ زَيْدٍ عَالِمًا، بَلْ هُوَ نُطْقٌ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَسُكُوتٌ عَنِ الْمُسْتَثْنَى. وَمَعْنَى خُرُوجِ الْمُسْتَثْنَى عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي عُمُومِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَأَنَّهُ لَمْ يُتَعَرَّضْ فِيهِ لِكَوْنِ زَيْدٍ عَالِمًا لَا نَفْيًا وَلَا إِثْبَاتًا. وَالْحَقُّ إِنَّمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْجُمْهُورِيُّ، وَدَلِيلُهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " نَافٍ لِلْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُثْبِتٌ لِصِفَةِ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَرَّرْنَاهُ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ، وَحَقَّقْنَا وَجْهَ الِانْفِصَالِ عَنْ كُلِّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ فَعَلَيْكَ بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ وَنَقْلِهِ إِلَى هَاهُنَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 [الْمَسْأَلَةُ التاسعة كُلَّ خِطَابٍ خَصَّصَ مَحَلَّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْأَعَمِّ بِالْأَغْلَبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ عَلَى أَنَّ كُلَّ خِطَابٍ خَصَّصَ مَحَلَّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ لِخُرُوجِهِ مَخْرَجَ الْأَعَمِّ بِالْأَغْلَبِ لَا مَفْهُومَ لَهُ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ، وَقَوْلِهِ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (1) .، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» "، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «فَلْيَسْتَنْجِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» " فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ لِمَحَلِّ النُّطْقِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، إِذِ الْغَالِبُ أَنَّ الرَّبِيبَةَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْحِجْرِ، وَأَنَّ الْخُلْعَ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الشِّقَاقِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُزَوِّجُ نَفْسَهَا إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ إِذْنِ الْوَلِيِّ لَهَا وَإِبَائِهِ مِنْ تَزْوِيجِهَا، وَأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْحِجَارَةِ. وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا ظَهَرَ سَبَبُ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ كَسُؤَالِ سَائِلٍ أَوْ حُدُوثِ حَادِثَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْصِيصِ. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ سَبَبٌ يُوجِبُ تَخْصِيصَ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ دُونَ مَحَلِّ السُّكُوتِ بَلْ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِمَا وَإِلَى ذِكْرِهِمَا مَعَ الْعِلْمِ بِهِمَا مُسْتَوِيَةً، وَلَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ. وَبِالْجُمْلَةِ، لَوْ لَمْ يَظْهَرْ سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّخْصِيصِ سِوَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ فَهَلْ يَجِبُ الْقَوْلُ بِنَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ تَحْقِيقًا لِفَائِدَةِ التَّخْصِيصِ، أَوْ لَا يَجِبُ؟ إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَجِبُ كَانَ التَّخْصِيصُ بِالذِّكْرِ عَبَثًا خَلِيًّا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ مَنْصِبُ آحَادِ الْبُلَغَاءِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ نَفْيِ الْحُكْمِ لَزِمَ الْقَوْلُ بِدَلَالَةِ الْمَفْهُومِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.   (1) الْمُنَاسِبُ لِذِكْرِ الْخُلْعِ أَنْ يُمَثَّلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) فَإِنَّ آيَةَ بَعْثِ الْحَكَمَيْنِ لَيْسَ فِيهَا إِشْعَارٌ بِخُلْعٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وَالْوَجْهُ فِي حِلِّهِ أَنْ يُقَالَ: إِذَا لَمْ يَظْهَرِ السَّبَبُ الْمُخَصِّصُ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِهِ مُحْتَمِلَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ عَلَى السَّوَاءِ، أَوْ أَنَّ عَدَمَهُ أَظَهَرُ مِنْ وُجُودِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَ الْقَوْلُ بِالنَّفْيِ أَوْلَى مِنَ الْقَوْلِ بِالْإِثْبَاتِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مَفْهُومَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَنْ لَوْ كَانَ نَفْيُ الْحُكْمِ فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ الْمُوجِبَةِ لِتَخْصِيصِ مَحَلِّ النُّطْقِ بِالذِّكْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إِنَّمَا هُوَ فَرْعُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَتْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ مُتَوَقِّفَةً عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَانَ دَوْرًا مُمْتَنِعًا. (1) وَإِلَى هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ فِي أَصْنَافِ دَلَالَةِ غَيْرِ الْمَنْظُومِ. هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. [مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ] [ النظر في النسخ ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ] وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ النَّظَرُ فِي النَّسْخِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَتَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ:   (1) انْظُرْ مُخْتَصَرَ الْمُنْتَهَى لِابْنِ الْحَاجِبِ وَشَرْحَهُ لِلْعَضُدِ فَإِنَّهُ أَجَابَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْآمِدِيِّ وَاعْتِرَاضَاتِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَمَّا النَّسْخُ: فَهُوَ فِي اللُّغَةِ قَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ، وَمِنْهُ يُقَالُ نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ أَيْ: أَزَالَتْهُ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ أَثَرَ الْمَشْيِ أَيْ: أَزَالَتْهُ، وَنَسَخَ الشَّيْبُ الشَّبَابَ إِذَا أَزَالَهُ، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْقُرُونِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالْإِزَالَةُ هِيَ الْإِعْدَامُ، وَلِهَذَا يُقَالُ: زَالَ عَنْهُ الْمَرَضُ وَالْأَلَمُ وَزَالَتِ النِّعْمَةُ عَنْ فُلَانٍ، وَيُرَادُ بِهِ الِانْعِدَامُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. وَقَدْ يُطْلَقُ بِمَعْنَى نَقْلِ الشَّيْءِ وَتَحْوِيلِهِ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ مَعَ بَقَائِهِ فِي نَفْسِهِ. قَالَ السِّجِسْتَانِيُّ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: وَالنَّسْخُ أَنْ تُحَوِّلَ مَا فِي الْخَلِيَّةِ مِنَ النَّحْلِ وَالْعَسَلِ إِلَى أُخْرَى، وَمِنْهُ تَنَاسُخُ الْمَوَارِيثِ بِانْتِقَالِهَا مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، وَتَنَاسُخُ الْأَنْفُسِ بِانْتِقَالِهَا مِنْ بَدَنٍ إِلَى غَيْرِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ. وَمِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِمَا فِيهِ مِنْ مُشَابَهَةِ النَّقْلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وَالْمُرَادُ بِهِ نَقْلُ الْأَعْمَالِ إِلَى الصُّحُفِ أَوْ مِنَ الصُّحُفِ إِلَى غَيْرِهَا. اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ: فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ تَابَعَهُ كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ إِلَى أَنَّ اسْمَ النَّسْخِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِزَالَةِ مَجَازٌ فِي النَّقْلِ، وَذَهَبَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ. وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ النَّسْخِ عَلَى النَّقْلِ فِي قَوْلِهِمْ: " نَسَخْتُ الْكِتَابَ " مَجَازٌ لِأَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ لَمْ يُنْقَلْ حَقِيقَةً. وَإِذَا كَانَ اسْمُ النَّسْخِ مَجَازٌ فِي النَّقْلِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِيمَا سِوَاهُمَا. وَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْآخَرِ. وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: إِطْلَاقُ اسْمِ النَّسْخِ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَالْإِعْدَامِ وَاقِعٌ كَمَا سَبَقَ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ النَّسْخِ عَلَى الْكِتَابِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً أَوْ تَجَوُّزًا، فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَبَطَلَ مَا ذَكَرُوهُ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا ضَرُورَةً أَنَّ مَا فِي الْكِتَابِ لَمْ يُنْقَلْ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَمْتَنِعَ أَنْ يَكُونَ التَّجَوُّزُ بِهِ مُسْتَعَارًا مِنَ الْإِزَالَةِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُزَالٍ، وَلَا يُشْبِهُ الْإِزَالَةَ فَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِعَارَتِهِ مِنْ مَعْنًى آخَرَ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى امْتِنَاعِ إِطْلَاقِ اسْمِ النَّسْخِ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ وَالنَّقْلِ فَإِذَا تَعَذَّرَتِ اسْتِعَارَتُهُ مِنَ الْإِزَالَةِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعَارًا مِنَ النَّقْلِ. وَوَجْهُ اسْتَعَارَتِهِ مِنْهُ أَنَّ تَحْصِيلَ مِثْلِ مَا فِي أَحَدِ الْكِتَابَيْنِ فِي الْآخَرِ تَجْرِي مَجْرَى نَقْلِهِ وَتَحْوِيلِهِ إِلَيْهِ فَكَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّجَوُّزِ. وَإِذَا كَانَ مُسْتَعَارًا مِنَ النَّقْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ النَّسْخِ حَقِيقَةً فِي النَّقْلِ إِذِ الْمَجَازُ لَا يُتَجَوَّزُ بِهِ فِي غَيْرِهِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ. ثُمَّ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَجَازًا فِي نَسْخِ الْكِتَابِ فَمَا الِاعْتِذَارُ عَنْ إِطْلَاقِ اسْمِ التَّنَاسُخِ فِي الْمَوَارِيثِ مَعَ كَوْنِهَا مُنْتَقِلَةً حَقِيقَةً، وَإِطْلَاقُ اسْمِ النَّسْخِ عَلَى تَحْوِيلِ النَّحْلِ وَالْعَسَلِ مِنْ خَلِيَّةٍ إِلَى أُخْرَى، فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ فِي تَقْرِيرِ التَّجَوُّزِ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ هَاهُنَا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَمُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: اسْمُ النَّسْخِ قَدْ أُطْلِقَ بِمَعْنَى النَّقْلِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِ أَنْ لَا يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّرْجِيحُ لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْإِزَالَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِزَالَةَ مُطْلَقُ إِعْدَامٍ، وَالنَّقْلُ أَخَصُّ مِنَ الْإِزَالَةِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إِعْدَامَ الصِّفَةِ وَحُدُوثَ أُخْرَى، وَالْإِعْدَامُ الْمُسْتَلْزِمُ حُدُوثَ شَيْءٍ آخَرَ أَخَصُّ مِنَ الْإِعْدَامِ الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِزَالَةُ أَعَمَّ فَجَعْلُ النَّسْخِ حَقِيقَةً فِيهَا أَوْلَى نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِزَالَةَ أَعَمُّ مِنَ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَإِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ إِعْدَامَ صِفَةٍ وَتَجَدُّدَ أُخْرَى فَكُلُّ إِزَالَةٍ هَكَذَا لِأَنَّ الْإِزَالَةَ عَلَى مَا قِيلَ هِيَ الْإِعْدَامُ، وَالْإِعْدَامُ يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْوُجُودُ وَتَجَدُّدَ أُخْرَى، وَهِيَ صِفَةُ الْعَدَمِ، وَهُمَا صِفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ مَهْمَا انْتَفَتْ إِحْدَاهُمَا تَحَقَّقَتِ الْأُخْرَى، وَإِذَا تَسَاوَيَا عُمُومًا وَخُصُوصًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 فَلَيْسَ جَعْلُ اسْمِ النَّسْخِ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَإِذَا تَعَذَّرَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مَعَ صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ فِيهِمَا كَانَ الْقَوْلُ بِالِاشْتِرَاكِ أَشْبَهَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ فِي حَقِيقَةِ النَّقْلِ خُصُوصُ تَبَدُّلِ الصِّفَةِ الْوُجُودِيَّةِ بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ فَيَكُونَ النَّقْلُ أَخَصَّ. وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَالنِّزَاعُ فِي هَذَا لَفْظِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ. وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ إِزَالَةُ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِقَوْلٍ مَنْقُولٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ رَسُولِهِ مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا، وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ إِزَالَةَ الْمِثْلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ وُجُودِ ذَلِكَ الْمِثْلِ أَوْ بَعْدَ عَدَمِهِ، أَوْ فِي حَالَةِ وُجُودِهِ: الْأَوَّلُ: مُحَالٌ، فَإِنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ لَا يُقَالُ إِنَّهُ أُزِيلَ، وَالثَّانِي أَيْضًا مُحَالٌ، فَإِنَّ إِزَالَةَ مَا عُدِمَ بَعْدَ وَجُودِهِ مُمْتَنِعٌ، وَالثَّالِثُ: أَيْضًا مُحَالٌ، لِأَنَّ الْإِزَالَةَ هِيَ الْإِعْدَامُ، وَإِعْدَامُ الشَّيْءِ حَالَ وُجُودِهِ مُحَالٌ. (1) الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ إِذْ يَدْخُلُ فِيهِ إِزَالَةُ مِثْلِ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِخِطَابِ الشَّارِعِ الْمُتَرَاخِي عَلَى وَجْهٍ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ الْمُغَيِّرِ لَكَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُسْتَمِرًّا وَلَيْسَ بِنَسْخٍ فِي مُصْطَلَحِ الْمُتَشَرِّعِينَ إِجْمَاعًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ إِزَالَةُ الْحُكْمِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ، وَيَبْطُلُ بِالْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَبِمَا لَوْ زَالَ الْحُكْمُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ بِمَرَضٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ مَوْتٍ فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا قِيلَ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِجْمَاعًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ نَقْلُ الْحُكْمِ إِلَى خِلَافِهِ، وَيَبْطُلُ بِمَا بَطَلَ بِهِ الْحَدُّ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِمَا لَوْ نُقِلَ الْحُكْمُ إِلَى خِلَافِهِ بِالْغَايَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيمَا قَبْلَ الْغَايَةِ قَدْ قُلِبَ إِلَى خِلَافِهِ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ، وَلَيْسَ بِنَسْخٍ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي حَدِّهِ إِنَّهُ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ.   (1) سَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا التَّرْدِيدِ فِي أَدِلَّةِ الْمَانِعِينَ لِلنَّسْخِ عَقْلًا وَجَوَابُ الْآمِدِيِّ عَنْهُ، وَبِذَلِكَ تَعْرِفُ لَوْنًا مِنْ جَدَلِ الْآمِدِيِّ فِي نِقَاشِهِ وَدِفَاعِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: إِنَّهُ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ أَيْضًا. وَقَصَدَ بِالْقَيْدِ الْأَوَّلِ تَعْمِيمَ كُلِّ خِطَابٍ كَانَ مِنْ بَابِ الْمَنْظُومِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَوْتِ وَالْمَرَضِ وَالْجُنُونِ وَجَمِيعِ الْأَعْذَارِ الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الزَّائِلَةِ بِهَا مَعَ تَرَاخِيهَا، وَلَوْلَاهَا لَكَانَتِ الْأَحْكَامُ الزَّائِلَةُ بِهَا مُسْتَمِرَّةً. وَبِالْقَيْدِ الثَّانِي: وَهُوَ الْخِطَابُ الْمُتَقَدِّمُ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. وَبِالْقَيْدِ الثَّالِثِ: وَهُوَ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ مُسْتَمِرًّا الِاحْتِرَازُ عَمَّا إِذَا وَرَدَ الْخِطَابُ بِحُكْمٍ مُؤَقَّتٍ، ثُمَّ وَرَدَ الْخِطَابُ عِنْدَ تَصَرُّمِ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِحُكْمٍ مُنَاقِضٍ لِلْأَوَّلِ، كَمَا لَوْ وَرَدَ قَوْلُهُ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ (كُلُوا) بَعْدَ قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ الْخِطَابِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ مُسْتَمِرًّا بَلْ مُنْتَهِيًا بِالْغُرُوبِ. وَبِالْقَيْدِ الرَّابِعِ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ، كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لَا نَسْخًا. وَيَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالَاتٌ: الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخِطَابَ الدَّالَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ هُوَ النَّاسِخُ، وَالنَّسْخُ هُوَ نَفْسُ الِارْتِفَاعِ فَلَا يَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ النَّسْخُ. الثَّانِي: وَهُوَ مَا أَوْرَدَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ وَلَا مَانِعٍ. أَمَّا إِنَّهُ لَيْسَ بِجَامِعٍ فِلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسْخُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِفِعْلِ الرَّسُولِ، وَلَيْسَ فِيهِ ارْتِفَاعُ حُكْمٍ ثَبَتَ بِالْخِطَابِ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ فَلِأَنَّهُ لَوِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي الْوَاقِعَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَأَجْمَعُوا بِخِطَابِهِمْ عَلَى تَسْوِيغِ الْأَخْذِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ لِلْمُقَلِّدِ، ثُمَّ أَجْمَعُوا بِأَقْوَالِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنَّ حُكْمَ خِطَابِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِيَ دَلَّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ خِطَابِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ بِنَسْخٍ إِذِ الْإِجْمَاعُ لَا يُنْسَخُ بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّ تَحْدِيدَ النَّسْخِ بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ تَحْدِيدٌ لَهُ بِمَا لَيْسَ بِمُتَصَوَّرٍ لِوُجُوهٍ يَأْتِي ذِكْرُهَا فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ النَّسْخِ. الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهِ زِيَادَةً لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ (مُتَرَاخٍ عَنْهُ) وَقَوْلُهُ (عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ مُسْتَمِرًّا ثَابِتًا) فَإِنَّ ذِكْرَ التَّرَاخِي إِنَّمَا وَقَعَ احْتِرَازًا عَنِ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ وَالْغَايَةِ، وَفِي الْحَدِّ مَا يَدْرَأُ النَّقْضَ بِذَلِكَ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ وَالْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ بِالْخِطَابِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَيْسَ رَافِعًا لِحُكْمِ الْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الذِّكْرِ بَلْ هُوَ مُبَيِّنٌ أَنَّ الْخِطَابَ الْمُتَقَدِّمَ لَمْ يُرِدِ الْحُكْمَ فِيمَا اسْتُثْنِيَ، وَفِيمَا خَرَجَ عَنِ الشَّرْطِ وَالْغَايَةِ، وَبِالتَّقَيُّدِ بِالرَّفْعِ يُدْرَأُ النَّقْضُ بِالْخِطَابِ الْوَارِدِ بِمَا يُخَالِفُ حُكْمَ الْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ إِذَا كَانَ حُكْمُهُ مُؤَقَّتًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخِطَابَ الثَّانِيَ لَا يَدُلُّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ لِانْتِهَائِهِ بِانْتِهَاءِ وَقْتِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّسْخَ هُوَ ارْتِفَاعُ الْحُكْمِ، بَلِ النَّسْخُ نَفْسُ الرَّفْعِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلِارْتِفَاعِ، وَالرَّفْعُ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى الِارْتِفَاعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّسْخَ يَسْتَدْعِي نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَالنَّاسِخُ هُوَ الرَّافِعُ أَيِ الْفَاعِلُ، وَالْمَنْسُوخُ هُوَ الْمَرْفُوعُ أَيِ الْمَفْعُولُ، وَالرَّافِعُ وَالْمَرْفُوعُ، أَيِ الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ يَسْتَدْعِي رَفْعًا وَارْتِفَاعًا، أَيْ فِعْلًا وَانْفِعَالًا، وَالرَّافِعُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَإِنْ سُمِّيَ الْخِطَابُ نَاسِخًا فَإِنَّمَا هُوَ بِطْرِيقِ التَّجَوُّزِ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ، وَالْمَرْفُوعُ هُوَ الْحُكْمُ، وَالرَّفْعُ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ صِفَةُ الرَّافِعِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخِطَابُ، وَالِارْتِفَاعُ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الِانْفِعَالِ صِفَةُ الْمَرْفُوعِ الْمَفْعُولِ، وَذَلِكَ عَلَى نَحْوِ فَسْخِ الْعَقْدِ فَإِنَّ الْفَاسِخَ هُوَ الْعَاقِدُ، وَالْمَفْسُوخَ هُوَ الْعَقْدُ وَالْفَسْخَ صِفَةُ الْعَاقِدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (فَسَخْتُ) وَالِانْفِسَاخُ صِفَةُ الْعَقْدِ، وَهُوَ انْحِلَالُهُ بَعْدَ انْبِرَامِهِ. وَأَمَّا النَّسْخُ بِفِعْلِ الرَّسُولِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِعْلَ الرَّسُولِ نَاسِخٌ حَقِيقَةً إِذْ لَيْسَ لِلرَّسُولِ وِلَايَةُ إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَرَفْعِهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ وَمُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَا يَشْرَعُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَيَرْفَعُهُ، فَفِعْلُهُ إِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَإِنَّمَا هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 دَلِيلٌ عَلَى الْخِطَابِ الدَّالِّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ لَا أَنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ هُوَ الدَّالُّ عَلَى الِارْتِفَاعِ. وَأَمَّا الْإِشْكَالُ بِالْإِجْمَاعِ فَفِيهِ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَهْمَا اجْتَمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَسْوِيغِ الْخِلَافِ فِي حُكْمِ مَسْأَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ قَاطِعًا فَلَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى مُنَاقَضَةِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ أَوَّلًا لِيَصِحَّ مَا قِيلَ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مُسْتَنِدٌ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ الْمُوجِبِ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَعَلَى هَذَا، فَيَكُونُ إِجْمَاعُهُمْ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ النَّسْخُ لَا أَنَّ خِطَابَهُمْ نَسْخٌ. وَمَا وَعَدُوا بِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ أَيْضًا. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الزِّيَادَاتِ فَهِيَ غَيْرُ مُخِلَّةٍ بِصِحَّةِ الْحَدِّ، وَفَائِدَتُهَا الْمَيْزُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مُبَالَغَةً فِي تَحْصِيلِ الْفَائِدَةِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُخْتَارُ فِي تَحْدِيدِهِ أَنْ يُقَالَ: النَّسْخُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ الشَّارِعِ الْمَانِعِ مِنِ اسْتِمْرَارِ مَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ خِطَابٍ شَرْعِيٍّ سَابِقٍ. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الِاحْتِرَازِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى التَّقْيِيدِ بِالتَّرَاخِي، وَلَا بِقَوْلِنَا (لَوْلَاهُ لَكَانَ مُسْتَمِرًّا ثَابِتًا) لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. (1)   (1) هَذَا تَعْرِيفٌ لِلنَّسْخِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَمَّا النَّسْخُ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ فَيَشْمَلُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ، وَتَخْصِيصِ الْعَامِّ، وَبَيَانِ الْمُجْمَلِ، وَرَفْعِ مَا تَوَهَّمَ الْمُكَلَّفُ إِرَادَتَهُ مِنَ النُّصُوصِ وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا - انْظُرْ تَفْسِيرَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الْآيَاتِ، فِي مَجْمُوعِ الْفَتَاوِي لِابْنِ تَيْمِيَةَ ج 14 وَص 397 ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوِي، وَالْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ مَسَائِلِ النَّسْخِ فِي الْمُوَافَقَاتِ لِلشَّاطِبِيِّ وَإِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ لِابْنِ الْقَيِّمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وَأَمَّا النَّاسِخُ فَإِنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَيُقَالُ: نَسَخَ فَهُوَ نَاسِخٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْآيَةِ أَنَّهَا نَاسِخَةٌ فَيُقَالُ آيَةُ السَّيْفِ نَسَخَتْ كَذَا فَهِيَ نَاسِخَةٌ. وَكَذَلِكَ عَلَى طَرِيقٍ يُعْرَفُ بِهِ نَسْخُ الْحُكْمِ مِنْ خَبَرِ الرَّسُولِ وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. وَعَلَى الْحُكْمِ فَيُقَالُ وُجُوبُ صَوْمِ رَمَضَانَ نَسَخَ وُجُوبَ صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَهُوَ نَاسِخٌ، وَعَلَى الْمُعْتَقِدِ لِنَسْخِ الْحُكْمِ، فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ، أَيْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَهُوَ نَاسِخٌ. غَيْرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ نَاسِخٍ عَلَى الْحُكْمِ وَعَلَى الْمُعْتَقِدِ لِلنَّسْخِ مَجَازٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي الطَّرِيقِ الْمُعَرِّفِ لِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ. فَعِنْدَهُمُ النَّاسِخُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الطَّرِيقُ حَتَّى قَالُوا فِي حَدِّهِ: إِنَّ النَّاسِخَ هُوَ قَوْلٌ صَادِرٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ رَسُولِهِ أَوْ فِعْلٌ مَنْقُولٌ عَنْ رَسُولِهِ يُفِيدُ إِزَالَةَ مِثْلِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِنَصٍّ صَادِرٍ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِنَصٍّ أَوْ فِعْلٍ مَنْقُولٍ عَنْ رَسُولِهِ مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ ثَابِتًا. وَأَمَّا نَحْنُ: فَمُعْتَقَدُنَا أَنَّ النَّاسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَنَّ خِطَابَهُ الدَّالَّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ هُوَ النَّسْخُ وَإِنْ سُمِّيَ نَاسِخًا فَمَجَازٌ. وَحَاصِلُ النِّزَاعِ فِي ذَلِكَ آيِلٌ إِلَى اللَّفْظِ. وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ فَهُوَ الْحُكْمُ الْمُرْتَفِعُ كَالْمُرْتَفِعِ مِنْ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحُكْمِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ، وَحُكْمِ التَّرَبُّصِ حَوْلًا كَامِلًا عَنِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 [الْفَصْلُ الثَّانِي الْفَرْقُ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَدَاءَ عِبَارَةٌ عَنِ الظُّهُورِ بَعْدَ الْخَفَاءِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: بَدَا لَنَا سُورُ الْمَدِينَةِ بَعْدَ خَفَائِهِ، وَبَدَا لَنَا الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ، أَيْ ظَهَرَ بَعْدَ خَفَائِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} ، {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} ، {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} . وَحَيْثُ كَانَ فَإِنَّ النَّسْخَ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ وَالنَّهْيَ عَمَّا أُمِرَ بِهِ عَلَى حَدِّهِ وَظَنَّ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِمَصْلَحَةٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ. فَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِمَصْلَحَةٍ فَالْأَمْرُ بِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي نَهَى عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ لِظُهُورِ مَا كَانَ قَدْ خَفِيَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِمَفْسَدَةٍ فَالنَّهْيُ عَنْهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ إِنَّمَا يَكُونُ لِظُهُورِ مَا كَانَ قَدْ خَفِيَ مِنَ الْمَفْسَدَةِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْبَدَاءِ. وَلَمَّا خَفِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَدَاءِ وَالنَّسْخِ عَلَى الْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ، مَنَعَتِ الْيَهُودُ مِنَ النَّسْخِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَجَوَّزَتِ الرَّوَافِضُ الْبَدَاءَ عَلَيْهِ لِاعْتِقَادِهِمْ جَوَازَ النَّسْخِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ تَعَذُّرِ الْفَرْقِ عَلَيْهِمْ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ (1) وَاعْتَضَدُوا فِي ذَلِكَ بِمَا نَقَلُوهُ   (1) اعْتَذَرَ الْآمِدِيُّ عَنِ الْيَهُودِ وَالرَّافِضَةِ فِي انْتِقَاصِهِمْ لِلَّهِ وَطَعْنِهِمْ فِي أَفْعَالِهِ وَشَرَائِعِهِ بِخَفَاءِ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ، وَتَعَذُّرِ الْفَصْلِ بَيْنَهُمَا عَلَيْهِمْ، فَمَنَعَتِ الْيَهُودُ النَّسْخَ حِمَايَةً لِجَنَابِ اللَّهِ فِي زَعْمِهِمْ، وَجَهَّلَتِ الرَّافِضَةُ رَبَّهَا فَحَكَمَتْ بِأَنَّ اللَّهَ يَبْدُو لَهُ مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَا كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِ فَيَنْقُضُ مَا أَبْرَمَهُ (تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا) ، وَمَنْ تَبَيَّنَ أَمْرَ الْيَهُودِ وَحَسَدَهُمْ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ مُوسَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَكَيْدَهُمْ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَتَبَيَّنَ حَالَ الرَّافِضَةِ وَوَقَفَ عَلَى فَسَادِ دَخِيلَتِهِمْ وَزَنْدَقَتِهِمْ بِإِبْطَانِ الْكُفْرِ وَإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُمْ وَرِثُوا مَبَادِئَهُمْ عَنِ الْيَهُودِ وَنَهَجُوا فِي الْكَيْدِ لِلْإِسْلَامِ مَنْهَجَهُمْ عَلِمَ أَنَّ مَا قَالُوهُ مِنَ الزُّورِ وَالْبُهْتَانِ إِنَّمَا كَانَ عَنْ قَصْدٍ سَيِّئٍ وَحَسَدٍ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ وَعُصْبَةٍ مَمْقُوتَةٍ دَفَعَتْهُمْ إِلَى الدَّسِّ وَالْخِدَاعِ وَإِعْمَالِ مَعَاوِلِ الْهَدْمِ سِرًّا وَعَلَنًا لِلشَّرَائِعِ وَدُوَلِهَا الْقَائِمَةِ عَلَيْهَا، وَمَنْ قَرَأَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَتَارِيخَ الْفَرِيقَيْنِ ظَهَرَ لَهُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدَّخَلِ وَالْمَكْرِ السَّيِّئِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " لَوْلَا الْبَدَاءُ لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَنَقَلُوا عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا بَدَا لِلَّهِ تَعَالَى فِي شَيْءٍ كَمَا بَدَا لَهُ فِي إِسْمَاعِيلَ " أَيْ فِي أَمْرِهِ بِذَبْحِهِ. وَنَقَلُوا عَنْ مُوسَى (1) بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ الْبَدَاءُ دِينُنَا وَدِينُ آبَائِنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ شَاعِرُهُمْ: وَلَوْلَا الْبَدَاءُ سَمَّيْتُهُ غَيْرَ هَائِبٍ ... وَذِكْرُ الْبَدَا نَعْتٌ لِمَنْ يَتَقَلَّبُ وَلَوْلَا الْبَدَا مَا كَانَ فِيهِ تَصَرُّفٌ ... وَكَانَ كَنَارِ دَهْرِهِ يَتَلَهَّبُ وَكَانَ كَضَوْءٍ مُشْرِقٍ بِطَبِيعَةٍ ... وَبِاللَّهِ عَنْ ذِكْرِ الطَّبَائِعِ يَرْغَبُ فَلَزِمَ الْيَهُودَ عَلَى ذَلِكَ إِنْكَارُ تَبَدُّلِ الشَّرَائِعِ، وَلَزِمَ الرَّوَافِضَ عَلَى ذَلِكَ وَصْفُ الْبَارِي تَعَالَى بِالْجَهْلِ مَعَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِحَالَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. أَمَّا النُّصُوصُ الْكِتَابِيَّةُ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، وَقَوْلِهِ: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وَقَوْلِهِ {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ فَمَا اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ. وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَمِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي انْتَحَلَهَا الْكَذَّابُ الثَّقَفِيُّ (2)   (1) هُوَ مُوسَى الْكَاظِمُ ابْنُ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ ابْنِ مُحَمَّدٍ الْبَاقِرِ ابْنِ عَلِيٍّ زَيْنِ الْعَابِدِينَ ابْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْهَاشِمِيُّ. (2) الْكَذَّابُ الثَّقَفِيُّ هُوَ: الْمُخْتَارُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، كَانَ خَارِجِيًّا ثُمَّ زُبَيْرِيًّا ثُمَّ شِيعِيًّا وَكِيسَانِيًّا وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْمُخْتَارِيَّةُ مِنْ فِرَقِ الشِّيعَةِ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ جَوَازُ الْبَدَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ فِي الْمِلَلِ لِلشَّهْرَسْتَانِيِّ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْفِرَقِ لِعَبْدِ الْقَاهِرِ الْبَغْدَادِيِّ، قُتِلَ فِي مَوْقِعَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِحَرُورَاءَ عَامَ 67 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَدَّعِي الْعِصْمَةَ لِنَفْسِهِ، وَيُخْبِرُ بِأَشْيَاءَ فَإِذَا ظَهَرَ كَذِبُهُ فِيهَا، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَنِي بِذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ بَدَا لَهُ فِيهِ، وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْبَيْتِ مُبَالَغَةً فِي تَرْوِيجِ أَكَاذِيبِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا إِنَّمَا هُوَ مَحْوُ الْمَنْسُوخِ وَإِثْبَاتُ النَّاسِخِ وَمَحْوُ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وَمَحْوُ الْحَسَنَاتِ بِالرِّدَّةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} أَوْ مَحْوُ الْمُبَاحَاتِ، وَإِثْبَاتُ الطَّاعَاتِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ، أَوْ مَحْوُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْآجَالِ أَوِ الْأَرْزَاقِ وَإِثْبَاتُ غَيْرِهَا. وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ الْجَهْلِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. (1) وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ فَنَقُولُ: إِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْبَدَاءِ وَأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْعِلْمِ بَعْدَ الْجَهْلِ وَالظُّهُورِ بَعْدَ الْخَفَاءِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ فَالنَّسْخُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ اسْتِلْزَامَ الْأَمْرِ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ لِلْمَصْلَحَةِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَاسْتِلْزَامَ نَسْخِهِ لِلْمَصْلَحَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَإِذَا نَسَخَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ نَسْخَهُ فِيهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ قَدْ ظَهَرَ لَهُ مَا كَانَ خَفِيًّا عَنْهُ، وَلَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَمَرَ بِمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ، وَلَا نَهَى عَمَّا فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَذَلِكَ كَإِبَاحَتِهِ الْأَكْلَ فِي اللَّيْلِ مِنْ رَمَضَانَ وَتَحْرِيمِهِ فِي نَهَارِهِ.   (1) بَيَّنَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ مَحْوٍ وَإِثْبَاتٍ وَتَبْدِيلٍ وَتَغْيِيرٍ وَاقِعٌ بِمَشِيئَتِهِ فِعْلًا كَوْنِيًّا أَوْ تَشْرِيعًا، وَمَسْطُورٌ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ نَاسِخٍ وَمَنْسُوخٍ وَسَعَادَةٍ وَشَقَاوَةٍ وَسَائِرِ مَا يَكُونُ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ كُلٌّ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ الَّذِي حُدِّدَ لَهُ فِي عِلْمِهِ (تَعَالَى) وَكِتَابِهِ، وَرَهِينٌ بِأَسْبَابِهِ حَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ، وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ عُمُومًا أَنْ يَكُونَ بَدَا لِلَّهِ أَمْرٌ كَانَ خَفِيًّا عَلَيْهِ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ وَمَا سَيَكُونُ مِنْ فِعْلٍ أَوْ تَشْرِيعٍ تَفْسِيرٌ عَمَلِيٌّ وَتَطْبِيقٌ وَاقِعِيٌّ دَقِيقٌ مُوَافِقٌ لِسَابِقِ عِلْمِهِ وَمَا جَرَى بِهِ قَلَمُهُ فِي كِتَابِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 فَإِنْ قِيلَ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَارِي تَعَالَى قَدْ عَلِمَ اسْتِمْرَارَ أَمْرِهِ بِالْفِعْلِ الْمُعَيَّنِ أَبَدًا، أَوْ إِلَى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ اسْتَحَالَ نَسْخُهُ لِمَا فِيهِ مِنِ انْقِلَابِ عِلْمِهِ جَهْلًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَالْحُكْمُ يَكُونُ مُنْتَهِيًا بِنَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهُ بَعْدُ، وَإِلَّا لَانْقَلَبَ عِلْمُ الْبَارِي جَهْلًا، وَإِذَا كَانَ مُنْتَهِيًا بِنَفْسِهِ فَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ لَا فِي حَالَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يَكُونُ الْفِعْلُ مَأْمُورًا فِيهَا، وَلَا فِي حَالَةِ عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا فِيهَا لِمَا فِيهِ مِنِ انْقِلَابِ عِلْمِهِ إِلَى الْجَهْلِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ النَّاسِخُ مُؤَثِّرًا فِيهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُهُ. قُلْنَا: الْأَمْرُ مُطْلَقٌ، وَالْبَارِي عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَنْتَهِي بِالنَّاسِخِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عَلِمَ أَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ فِيهِ لَا أَنَّهُ عَلِمَ انْتِهَاءَهُ إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ مُطْلَقًا بَلْ عَلِمَ انْتِهَاءَهُ بِالنَّسْخِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُنْتَهِيًا بِالنَّسْخِ لَانْقَلَبَ عِلْمُهُ جَهْلًا، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِهَاءِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالنَّسْخِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَمْرُ مَنْسُوخًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ] نَقُولُ إِنَّ التَّخْصِيصَ وَالنَّسْخَ وَإِنِ اشْتَرَكَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِبَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ لُغَةً غَيْرَ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا خَرَجَ عَنِ الْعُمُومِ لَمْ يَكُنِ الْمُتَكَلِّمُ قَدْ أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ، وَالنَّسْخُ يُبَيِّنُ أَنَّ مَا خَرَجَ لَمْ يُرِدِ التَّكْلِيفَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَرَادَ بِلَفْظِهِ الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَرِدُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ وَاحِدٍ، وَالنَّسْخَ قَدْ يَرِدُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ وَاحِدٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إِلَّا بِخِطَابٍ مِنَ الشَّارِعِ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ النَّاسِخَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَرَاخِيًا عَنِ الْمَنْسُوخِ، بِخِلَافِ الْمُخَصَّصِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُخَصِّصِ وَمُتَأَخِّرًا عَنْهُ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. الْخَامِسُ: أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يُخْرِجُ الْعَامَّ عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ مُطْلَقًا فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ يَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِيمَا عَدَا صُورَةَ التَّخْصِيصِ، بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخْرِجُ الدَّلِيلَ الْمَنْسُوخَ حُكْمُهُ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَا إِذَا وَرَدَ النَّسْخُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَأْمُورٍ وَاحِدٍ. السَّادِسُ: أَنَّهُ يَجُوزُ التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ، وَلَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ. السَّابِعُ: أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ شَرِيعَةٍ بِشَرِيعَةٍ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ شَرِيعَةٍ بِأُخْرَى. التَّاسِعُ: أَنَّ الْعَامَّ يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ شَيْءٌ، بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ. الْعَاشِرُ: وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ، أَنَّ التَّخْصِيصَ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ، وَأَنَّ كُلَّ نَسْخٍ تَخْصِيصٌ، وَلَيْسَ كُلُّ تَخْصِيصٍ نَسْخًا، إِذِ النَّسْخُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَخْصِيصِ الْحُكْمِ بِبَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَالتَّخْصِيصُ يَعُمُّ تَخْصِيصَ الْحُكْمِ بِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ وَبَعْضِ الْأَحْوَالِ وَبَعْضِ الْأَزْمَانِ، وَفِيهِ نَظَرٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ صِفَاتِ التَّخْصِيصِ الْفَارِقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّسْخِ دَاخِلَةٌ فِي مَفْهُومِ التَّخْصِيصِ، أَوْ مُلَازِمَةٌ خَارِجَةٌ فَلَا وُجُودَ لَهَا فِي النَّسْخِ، فَلَا يَكُونُ التَّخْصِيصُ أَعَمَّ مِنَ النَّسْخِ، لِأَنَّ الْأَعَمَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَصْدُقَ الْحُكْمُ بِهِ مَعَ جَمِيعِ صِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ لِذَاتِهِ عَلَى الْأَخَصِّ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصْدُقُ عَلَى النَّسْخِ فَلَا يَكُونُ النَّسْخُ تَخْصِيصًا. وَإِلَّا فَلِقَائِلٍ (1) أَنْ يَقُولَ: مَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ الْفَارِقَةِ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ إِنَّمَا هِيَ فُرُوقٌ بَيْنَ أَنْوَاعِ التَّخْصِيصِ، وَلَيْسَتْ مِنْ لَوَازِمِ مَفْهُومِ التَّخْصِيصِ، بَلِ التَّخْصِيصُ أَعَمُّ مِنَ النَّسْخِ وَمِنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَهُوَ قَادِحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الِاصْطِلَاحِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ التَّخْصِيصِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَالنَّسْخِ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ. فَحَاصِلُ النِّزَاعِ يَرْجِعُ إِلَى الْإِطْلَاقِ اللَّفْظِيِّ، وَلَا مُنَازَعَةَ فِيهِ بَعْدَ فَهْمِ غَوْرِ الْمَعْنَى. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي شُرُوطِ النَّسْخِ الشَّرْعِيِّ] وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ: أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: فَأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ شَرْعِيًّا، أَوْ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا مُتَرَاخِيًا عَنِ الْخِطَابِ الْمَنْسُوخِ حُكْمُهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْخِطَابُ الْمَنْسُوخُ حُكْمُهُ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا: فَأَنْ يَكُونَ قَدْ وَرَدَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَأَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ الْمَنْسُوخُ حُكْمُهُ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ الِاسْتِثْنَاءُ وَالتَّخْصِيصُ، وَأَنْ يَكُونَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ نَصَّيْنِ قَاطِعَيْنِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُقَابِلًا لِلْمَنْسُوخِ مُقَابَلَةَ الْأَمْرِ بِالنَّهْيِ، وَالْمُضَيَّقِ بِالْمُوَسَّعِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّسْخُ بِبَدَلٍ. فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ كَمَا يَأْتِي، وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا أَرَدْنَاهُ مِنَ الْمُقَدِّمَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الْمَسَائِلِ الْمُتَشَعِّبَةِ عَنِ النَّسْخِ، وَهِيَ عِشْرُونَ مَسْأَلَةً.   (1) وَإِلَّا فَلِقَائِلٍ كَانَ فِيهِ تَحْرِيفٌ وَلَعَلَّ الْأَصْلَ وَلِقَائِلٍ، وَيَكُونُ جَوَابًا عَنِ النَّظَرِ الْمُتَقَدِّمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 [مَسَائِلِ مُتَشَعِّبَةِ عَنِ النَّسْخِ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي إِثْبَاتِ النَّسْخِ عَلَى مُنْكِرِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي إِثْبَاتِ النَّسْخِ عَلَى مُنْكِرِيهِ وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عَقْلًا، وَعَلَى وُقُوعِهِ شَرْعًا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَبِي مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيِّ (1) فَإِنَّهُ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا، وَجَوَّزَهُ عَقْلًا، وَمِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ سِوَى الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمُ انْقَسَمُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فَذَهَبَتِ الشَّمْعُنِيَّةُ إِلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا وَسَمْعًا. وَذَهَبَتِ الْعَنَانِيَّةُ مِنْهُمْ إِلَى امْتِنَاعِهِ سَمْعًا لَا عَقْلًا. وَذَهَبَتِ الْعِيسَوِيَّةُ إِلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، وَوُقُوعِهِ سَمْعًا، وَاعْتَرَفُوا بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَكِنْ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً لَا إِلَى الْأُمَمِ كَافَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ. (2) أَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْمُخَالِفَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُوَافِقُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى حِكْمَةٍ وَغَرَضٍ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَعْتَبِرُ الْحِكْمَةَ وَالْغَرَضَ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ، وَيَنْهَى عَنْهُ فِي وَقْتٍ، كَمَا أَمَرَ بِالصِّيَامِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَنَهَى عَنْهُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَمَعَ بُطْلَانِهِ (3) عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ اسْتِلْزَامَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِلْمَصْلَحَةِ، وَاسْتِلْزَامَ   (1) أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ بَحْرٍ الْمُعْتَزِلِيُّ مِنْ كُتُبِهِ: (جَامِعُ التَّأْوِيلِ) وُلِدَ عَامَ 254 هـ، وَمَاتَ عَامَ 322 هـ. (2) الْعَنَانِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنَ الْيَهُودِ تُنْسَبُ إِلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: عَنَانُ بْنُ دَاوُدَ، وَمِنْ مَذْهَبِهِمُ الِاعْتِرَافُ بِوِلَايَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْكَارُ نُبُوَّتِهِ، وَالْعِيسَوِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنَ الْيَهُودِ تَنْتَسِبُ إِلَى أَبِي عِيسَى إِسْحَاقَ بْنِ يَعْقُوبَ الْأَصْفَهَانِيِّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وَبَدَأَ دَعْوَتَهُ زَمَنَ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحِمَارِ، وَحَارَبَ أَصْحَابَ الْمَنْصُورِ بِالرَّيِّ. انْظُرْ تَرَاجِمَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ فِي كِتَابِ الْمِلَلِ لِلشَّهْرَسْتَانِيِّ، وَالْفَصْلِ لِابْنِ حَزْمٍ. (3) انْظُرْ مَا سَبَقَ تَعْلِيقًا ص 91 - 94 104 ج1. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 النَّهْيِ عَنْهُ لِلْمَصْلَحَةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، فَإِنَّ الْمَصَالِحَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ حَتَّى إِنَّ مَصْلَحَةَ بَعْضِ الْأَشْخَاصِ فِي الْغِنَى أَوِ الصِّحَّةِ أَوِ التَّكْلِيفِ، وَمَصْلَحَةَ الْآخَرِ فِي نَقِيضِهِ، فَكَذَلِكَ جَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَصْلَحَةُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ حَتَّى إِنَّ مَصْلَحَةَ بَعْضِ أَهْلِ الْأَزْمَانِ فِي الْمُدَارَاةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَمَصْلَحَةَ أَهْلِ زَمَانٍ آخَرَ فِي الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَإِذَا عُرِفَ جَوَازُ اخْتِلَافِ الْمَصْلَحَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُكَلَّفَ بِالْفِعْلِ فِي زَمَانٍ لِعِلْمِهِ بِمَصْلَحَتِهِ فِيهِ، وَيَنْهَاهُ عَنْهُ فِي زَمَنٍ آخَرَ لِعِلْمِهِ بِمَصْلَحَتِهِ فِيهِ، كَمَا يَفْعَلُ الطَّبِيبُ بِالْمَرِيضِ، حَيْثُ يَأْمُرُهُ بِاسْتِعْمَالِ دَوَاءٍ خَاصٍّ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ، وَيَنْهَاهُ عَنْهُ فِي زَمَنٍ آخَرَ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَصْلَحَتِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مِزَاجِهِ، وَكَمَا يَفْعَلُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ مِنَ التَّأْدِيبِ لَهُ وَضَرْبِهِ فِي زَمَانٍ، وَاللِّينِ لَهُ وَالرِّفْقِ بِهِ فِي زَمَانٍ آخَرَ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَرَاءَى لَهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَلِهَذَا خَصَّ الشَّارِعُ كُلَّ زَمَانٍ بِعِبَادَةٍ غَيْرِ عِبَادَةِ الزَّمَنِ الْآخَرِ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الْمَصَالِحِ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَمَعَ جَوَازِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ لَا يَكُونُ النَّسْخُ مُمْتَنِعًا. هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَرْعًا. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَظَاهِرٌ لِمُوَافَقَتِهِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ كَلَامَهُ صِدْقٌ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَهُودِ فَلِأَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ بِمَا أَثْبَتْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدِ ادَّعَى كَوْنَ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، فَكَانَ صَادِقًا فِي ذَلِكَ، وَكَانَتِ الْآيَةُ حُجَّةً عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وَأَمَّا مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ فِي الشَّرْعِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَالَفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَالسَّلَفَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسِخَةٌ لِجَمِيعِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى نَسْخِ وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ، وَعَلَى نَسْخِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، وَنَسْخِ صَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَنَسْخِ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَوُجُوبِ التَّرَبُّصِ حَوْلًا كَامِلًا عَنِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَوُجُوبِ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الْآيَةَ، بِقَوْلِهِ {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الْآيَةَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ. (1) وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُنْكِرِ ذَلِكَ مِنَ الْيَهُودِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ وَرَدَ فِي التَّوْرِيَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ آدَمَ أَنْ يُزَوِّجَ بَنَاتِهِ مِنْ بَنِيهِ، وَقَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنُوحٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْفُلْكِ إِنِّي جَعَلْتُ لَكَ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلًا لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ، مَا خَلَا الدَّمَ فَلَا تَأْكُلُوهُ، وَقَدْ حَرَّمَ كَثِيرًا مِنَ الدَّوَابِّ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ وَهُوَ عَيْنُ النَّسْخِ. (2) فَإِنْ قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَمْرَ آدَمَ، وَالْإِبَاحَةَ لِنُوحٍ وَذُرِّيَّتِهِ كَانَ مُقَيَّدًا بِظُهُورِ شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ، فَتَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ كَانَ مُقَيَّدًا بِظُهُورِ شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ. قُلْنَا: الْأَمْرُ لِآدَمَ، وَالْإِبَاحَةُ لِنُوحٍ كَانَ مُطْلَقًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِظُهُورِ شَرِيعَةٍ أُخْرَى. قُلْنَا: فَهَذَا هُوَ عَيْنُ النَّسْخِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا أَمَرَ بِالْفِعْلِ مُطْلَقًا فَهُوَ عَالِمٌ بِأَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ وَيَعْلَمُ وَقْتَ نَسْخِهِ، فَتَقْيِيدُهُ فِي عِلْمِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَقِيقَةِ النَّسْخِ.   (1) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ النُّصُوصِ فِي مَوَاضِعِهَا (مِنْ مَسَائِلِ النَّسْخِ) إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (2) الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْيَهُودِ بِمَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ بَابِ الْإِلْزَامِ فَقَطْ، فَإِنَّهَا قَدْ دَخَلَهَا التَّحْرِيفُ وَالتَّبْدِيلُ فَلَا يَصْلُحُ مَا فِيهَا حُجَّةً لِإِثْبَاتِ حَقٍّ إِلَّا مَا ذُكِرَ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ عَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ تَقْرِيرِهِ أَوِ السُّكُوتِ عَنْهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وَقَدِ احْتُجَّ عَلَيْهِمْ بِإِلْزَامَاتٍ أُخَرَ، مِنْهَا: أَنَّ الْعَمَلَ كَانَ مُبَاحًا فِي يَوْمِ السَّبْتِ، ثُمَّ حُرِّمَ عَلَى مُوسَى وَقَوْمِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْخِتَانَ كَانَ فِي شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ جَائِزًا بَعْدَ الْكِبَرِ، وَقَدْ أَوْجَبَهُ مُوسَى يَوْمَ وِلَادَةِ الطِّفْلِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ كَانَ مُبَاحًا فِي شَرِيعَةِ يَعْقُوبَ، وَقَدْ حُرِّمَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ بَعْدَهُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْعَمَلُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ، وَكَذَلِكَ الْخِتَانُ فِي حَالَةِ الْكِبَرِ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ كَانَ مُبَاحًا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَرَفْعُ مَا كَانَ بِحُكْمِ الْأَصْلِ الْعَقْلِيِّ لَا يَكُونُ نَسْخًا كَمَا عُلِمَ فِيمَا تَقَدَّمَ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ النَّسْخُ جَائِزًا عَقْلًا، لَمْ يَخْلُ نَسْخُ مَا أَمَرَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً حَالَةَ الْأَمْرِ، أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ كَانَ عَابِثًا، وَالْعَبَثُ عَلَى الْحَكِيمِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَقَدْ بَدَا لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ وَالْبَدَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ نَسْخُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِكَوْنِ التَّكْلِيفِ بِهَا مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ وَمَفْسَدَةً فِي وَقْتٍ لَجَازَ نَسْخُ مَا وَجَبَ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَا لَا يَجُوزُ وَهُوَ مُحَالٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْخِطَابَ الْمَنْسُوخَ حُكْمُهُ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ، أَوْ هُوَ دَالٌ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلنَّسْخِ لِانْتِهَائِهِ بِانْتِهَاءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُحَالٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْمُكَلَّفِ دَوَامَ الْحُكْمِ وَتَأْبِيدَهُ، وَهُوَ جَهْلٌ قَبِيحٌ، وَمَا لَزِمَ مِنْهُ الْقَبِيحُ فَهُوَ قَبِيحٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَبْقَى لَنَا طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ التَّأْبِيدِ بِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ التَّأْبِيدِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ إِعْجَازَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ إِعْلَامِنَا بِالتَّأْبِيدِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ النَّسْخُ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ لِلتَّأْبِيدِ لَمَا بَقِيَ لَنَا وُثُوقٌ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَعِيدِهِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنَ الظَّوَاهِرِ اللَّفْظِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ وَاتِّجَاهَ قَوْلِ الْبَاطِنِيَّةِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ يَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا جَوَازُ نَسْخِ شَرِيعَتِكُمْ، وَلَمْ تَقُولُوا بِهِ، وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَفْعُهُ قَبْلَ وُجُودِهِ أَوْ بَعْدَ عَدَمِهِ، أَوْ فِي حَالِ وُجُودِهِ: الْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ رَفْعَ مَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. وَالثَّانِي مُحَالٌ لِأَنَّ رَفْعَ الْمَعْدُومِ مُمْتَنِعٌ. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ حَالَةَ وُجُودِهِ مُرْتَفِعًا، وَذَلِكَ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ نَهَى عَنِ الْحَسَنِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ أَمَرَ بِالْقَبِيحِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً، فَإِنْ كَانَ طَاعَةً فَقَدْ نَهَى عَنِ الطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً فَقَدْ أَمَرَ بِالْمَعْصِيَةِ. وَأَيْضًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَوْ مَكْرُوهًا، فَإِنْ كَانَ مُرَادًا فَقَدْ صَارَ بِالنَّهْيِ مَكْرُوهًا، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا فَقَدْ صَارَ بِالْأَمْرِ مُرَادًا. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، فَلَا وَجْهَ لَهُ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} فَالْمُرَادُ بِالنَّسْخِ الْإِزَالَةُ، وَنَسْخُ الْآيَةِ بِإِزَالَتِهَا عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الْوُقُوعِ الشَّرْعِيِّ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ نَاسِخَةٌ لِشَرَائِعِ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ. وَأَمَّا وُجُوبُ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ لِجَوَازِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِشْكَالِ وَمَعَ الْعُذْرِ، فَكَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَا نَسْخًا. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا زَالَتْ لِزَوَالِ سَبَبِهَا، وَهُوَ امْتِيَازُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ لَا يَتَصَدَّقُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وَوُجُوبُ التَّرَبُّصِ حَوْلًا كَامِلًا لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ لِبَقَائِهِ عِنْدَمَا إِذَا كَانَتْ مُدَّةُ حَمْلِهَا سَنَةً فَكَانَ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لَا مِنْ بَابِ النَّسْخِ. سَلَّمْنَا الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْجَوَازَ الشَّرْعِيَّ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} فَلَوْ نُسِخَ لَكَانَ قَدْ أَتَاهُ الْبَاطِلُ، وَهَذِهِ حُجَّةُ مَنْ مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ الْقُرْآنِ مُطْلَقًا. الثَّانِي: أَنَّ مُوسَى الْكَلِيمَ كَانَ نَبِيًّا حَقًّا بِالْإِجْمَاعِ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَبِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي رِسَالَتِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا أَنَّهُ قَالَ: (هَذِهِ الشَّرِيعَةُ مُؤَبَّدَةٌ عَلَيْكُمْ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) . وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (الْزَمُوا يَوْمَ السَّبْتِ أَبَدًا) فَقَدْ كَذَّبَ بِذَلِكَ مَنِ ادَّعَى نَسْخَ شَرِيعَتِهِ، فَلَوْ قِيلَ بِجَوَازِ نَسْخِ شَرِيعَتِهِ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا، وَهُوَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّسْخَ لَمْ يَكُنْ لِحِكْمَةٍ ظَهَرَتْ لَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ ظَاهِرَةً بَلْ (إِنْ قُلْنَا بِرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ) لِحِكْمَةٍ، كَانَ عَالِمًا بِهَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّسْخِ وَالْبَدَاءِ. وَعَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي أَنَّ اعْتِقَادَ التَّوْحِيدِ وَكُلِّ مَا مُسْتَنَدُ مَعْرِفَتِهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ، لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ وُجُوبَهُ (1) ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ، كَمَا قَالَهُ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ بِالشَّرْعِ كَمَا نَقُولُهُ نَحْنُ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَلَا يَخْفَى إِحَالَةُ نَسْخِ مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ عَقْلًا، لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَأْتِي بِمَا يُخَالِفُ الْعَقْلَ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْعَقْلُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَرِدَ الشَّرْعُ بِوُجُوبِهِ ابْتِدَاءً فَضْلًا عَنْ نَسْخِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: قَوْلُهُمْ إِنَّ الْخِطَابَ إِنْ كَانَ مُؤَقَّتًا، فَلَا يَكُونُ قَابِلًا لِلنَّسْخِ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ فِي رَمَضَانَ حُجُّوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لَا تَحُجُّوا، فَإِنَّهُ يَكُونُ جَائِزًا عِنْدَنَا، عَلَى مَا يَأْتِي فِي جَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ. قَوْلُهُمْ: وَإِنْ كَانَ دَالًّا عَلَى التَّأْبِيدِ فَهُوَ مُحَالٌ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ.   (1) أَيْ وُجُوبَ اعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ وَمَا فِي حُكْمِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَهْلُ الْمُكَلَّفِ بِاعْتِقَادِ التَّأْبِيدِ فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّهُ إِلَى ذَلِكَ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اقْتَرَنَ بِالْخِطَابِ الْمَنْسُوخِ مَا يُشْعِرُ بِنَسْخِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَدْ بَيَّنَّا إِبْطَالَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ. (1) وَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ أَنْ نَقُولَ: دَلَالَةُ الْخِطَابِ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يَلْزَمُهَا التَّأْبِيدُ مَعَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ النَّسْخِ، فَإِذَا اعْتَقَدَ الْمُكَلَّفُ التَّأْبِيدَ فَالْجَهْلُ إِنَّمَا جَاءَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ لَا مِنْ قِبَلِ مَا اقْتَضَاهُ الْخِطَابُ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ التَّأْبِيدَ بِشَرْطِ عَدَمِ النَّاسِخِ ثُمَّ وَإِنْ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى الْجَهْلِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، فَالْقَوْلُ بِقُبْحِ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. (2) ثُمَّ مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ قَبِيحًا إِذَا اسْتَلْزَمَ مَصْلَحَةً تَرْبُو عَلَى مَفْسَدَةِ جَهْلِهِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَبَيَانُ لُزُومِ الْمَصْلَحَةِ الزَّائِدَةِ هُنَا مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الثَّوَابِ بِاعْتِقَادِهِ دَوَامَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَالْعَزْمِ عَلَى فِعْلِهِ، وَالِانْقِيَادِ لِقَضَاءِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ: كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْعَبْدِ مِنَ الْغِنَى وَالصِّحَّةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اعْتِقَادَ دَوَامِهِ لَهُ مَعَ جَوَازِ إِزَالَتِهِ بِالْفَقْرِ وَالْمَرَضِ. قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي: إِلَى تَعْجِيزِ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ إِعْلَامِنَا بِالتَّأْبِيدِ، لَيْسَ كَذَلِكَ، لِجَوَازِ أَنْ يَخْلُقَ لَنَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِذَلِكَ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَمُنْدَفِعٌ، فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ اللَّفْظُ الْوَارِدُ فِي الْخِطَابِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، فَالْوُثُوقُ بِهِ حَاصِلٌ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُثُوقُ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَاهُ الظَّاهِرُ لَا قَطْعًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ شَرْعِنَا   (1) انْظُرْ رَأْيَ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، وَالرَّدَّ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ. (2) تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا فِيهِ تَعْلِيقًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنَ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ فِي الْحَاكِمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 عَقْلًا، وَإِنَّمَا نَمْنَعُ مِنْهُ شَرْعًا لِوُرُودِ خَبَرِ الصَّادِقِ بِذَلِكَ عِنْدَنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» " (1) وَالْخُلْفُ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ مُحَالٌ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّا لَا نُحِيلُ عَقْلًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَبَرُ مَشْرُوطًا بِقَيْدٍ. قَوْلُهُمْ: لَوْ جَازَ رَفْعُ الْحُكْمِ، يُنْظَرُ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَمُنْدَفِعٌ. فَإِنَّا وَإِنْ أَطْلَقْنَا لَفْظَةَ الرَّفْعِ فِي النَّسْخِ إِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ امْتِنَاعَ اسْتِمْرَارِ الْمَنْسُوخِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ لَاسْتَمَرَّ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا قِيلَ. (2) قَوْلُهُمْ: الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. قَوْلُهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً، قُلْنَا: هُوَ طَاعَةٌ حَالَةَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا، وَمَعْصِيَةٌ حَالَةَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا، فَالطَّاعَةُ وَالْمَعْصِيَةُ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، بَلْ تَابِعَةٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. قَوْلُهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادًا أَوْ مَكْرُوهًا، لَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادًا وَلَا مَكْرُوهًا إِذِ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَنَا غَيْرُ لَازِمَةٍ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. (3)   (1) فِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الرِّسَالَةَ وَالنُّبُوَّةَ قَدِ انْقَطَعَتْ فَلَا رَسُولَ بَعْدِي وَلَا نَبِيَّ " الْحَدِيثَ، وَفِي آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِلَفْظِ: " لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ " الْحَدِيثَ، وَقَدْ صَحَّ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى أَحَادِيثُ بَلَغَتْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ، وَفِيهَا الرَّدُّ عَلَى الْقَادْيَانِيَّةِ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُمْ فِي عَدَمِ خَتْمِ النُّبُوَّةِ، انْظُرْ تَفْسِيرَ ابْنِ كَثِيرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الْأَحْزَابِ) . (2) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ ص 104 ج3. (3) إِنْ قَصَدَ الْمُسْتَدِلُّ بِالْإِرَادَةِ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ وَبِالْأَمْرِ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنِهِمَا، وَكَذَلِكَ إِنْ قَصَدَ بِالْكَرَاهَةِ الْكَرَاهَةَ الْكَوْنِيَّةَ فَلَا تَلَازُمَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ النَّهْيِ كَمَا قَالَ الْآمِدِيُّ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَادَ كَوْنًا كُفْرَ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ كَأَبِي لَهَبٍ وَأَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ وَكَرِهَ كَرَاهَةً كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةَ إِيمَانِ أَبِي جَهْلٍ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ بَلْ أَمَرَهُ بِهِ، وَإِنْ قَصَدَ الْمُسْتَدِلُّ بِالْإِرَادَةِ فِي دَلِيلِهِ الْإِرَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَبِالْكَرَاهِيَةِ الْكَرَاهَةَ الشَّرْعِيَّةَ فَالتَّلَازُمُ بَيْنَ الْإِرَادَةِ وَالْأَمْرِ الشَّرْعِيَّيْنِ حَقٌّ، وَكَذَلِكَ التَّلَازُمُ بَيْنَ الْكَرَاهَةِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيَّيْنِ، وَالْجَوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَبِتَقْدِيرٍ إِلَى آخِرِهِ) وَقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ فِي الْإِجَابَةِ عَنِ الدَّلِيلِ الَّذِي قَبْلَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا أَمَرَ بِهِ مُرَادًا، جَازَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا حَالَةَ الْأَمْرِ دُونَ حَالَةِ النَّهْيِ. قَوْلُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ نَسْخِ الْآيَةِ إِزَالَتُهَا عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَالْقُرْآنُ خَيْرٌ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِيهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ نَسْخِ الْآيَةِ إِزَالَتَهَا عَنِ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَكِتَابَةَ أُخْرَى بَدَلَهَا، لَمَا تَحَقَّقَ هَذَا الْوَصْفُ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْخَيْرِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَحْكَامِ الْآيَاتِ الْمَرْفُوعَةِ عَنَّا وَالْمَوْضُوعَةِ عَلَيْنَا، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْبَعْضَ قَدْ يَكُونُ أَخَفَّ مِنَ الْبَعْضِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، أَوْ أَنَّ ثَوَابَ الْبَعْضِ أَجْزَلُ مِنْ ثَوَابِ الْبَعْضِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ، فَوَجَبَ حَمْلُ النَّسْخِ عَلَى نَسْخِ أَحْكَامِ الْآيَاتِ لَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. (1) وَأَمَّا مَنْعُ كَوْنِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاسِخَةً لِشَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ فَمُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ قَاطِبَةً. وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ مُنْكِرِ النَّسْخِ مِنَ الْإِسْلَامِيِّينَ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي تَقْدِيرِ ذَلِكَ فَسَيَأْتِي الْجَوَابُ عَنْهُ أَيْضًا، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ عَلَى بَاقِي صُوَرِ النَّسْخِ فَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ إِجْمَاعِ السَّلَفِ. كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّخْرِيجِ لَا وَجْهَ لَهُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ. قُلْنَا: لَا خِلَافَ أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ حَالَةَ عَدَمِ الْإِشْكَالِ وَالْعُذْرِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ نَسْخًا. قَوْلُهُمْ: إِنَّ وُجُوبَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ إِنَّمَا زَالَ لِزَوَالِ سَبَبِهِ. قُلْنَا: الْأَصْلُ بَقَاءُ السَّبَبِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ السَّبَبِ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَصَدَّقْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا، وَلَمْ يَتَصَدَّقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ سِوَى عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا نَقَلَهُ الرُّوَاةُ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ.   (1) انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ جَوَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي أَنَّ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 قَوْلُهُمْ: إِنَّ وُجُوبَ التَّرَبُّصِ لَمْ يَزُلْ بِالْكُلِّيَّةِ. قُلْنَا: لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِي أَنَّهُ كَانَ التَّرَبُّصُ حَوْلًا كَامِلًا وَاجِبًا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُدَّةُ الْحَمْلِ سَنَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَذَلِكَ مِمَّا رُفِعَ بِالْكُلِّيَّةِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنِ امْتِنَاعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} الْآيَةَ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ النَّسْخِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ إِبْطَالًا لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّسْخَ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَى قَطْعِ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مَعَ كَوْنِ الْمُخَاطِبِ مُرِيدًا لِقَطْعِهِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِبْطَالًا لَهُ بَلْ تَحْقِيقًا لِمَقْصُودِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَوْلِ مُوسَى فَمُخْتَلَقٌ لَمْ تَثْبُتْ صِحَّتُهُ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ وَضَعَ ذَلِكَ لَهُمُ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ (1) لِيُعَارِضَ بِهِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ظَهَرَ مِنْ تَسَمُّحِهِ فِي الدِّينِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحْبَارَهُمْ كَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَابْنِ سَلَامٍ وَوَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ (2) وَغَيْرُهُمْ كَانُوا أَعْرَفَ مِنْ غَيْرِهِمْ بِمَا فِي التَّوْرِيَةِ، وَقَدْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يَذْكُرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَكَانَ مِنْ أَقْوَى مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْيَهُودُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُعَارَضَتِهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي نَفْسِ مَتْنِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْحَدِيثَ: " «إِنْ أَطَعْتُمُونِي لِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ثَبَتَ مُلْكُكُمْ كَمَا ثَبَتَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ» " وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِحَالَةِ النَّسْخِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ مَا نَقَلُوهُ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّرِيعَةِ التَّوْحِيدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: " مُؤَبَّدَةً " مَا لَمْ تُنْسَخْ بِشَرِيعَةِ نَبِيٍّ آخَرَ.   (1) ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ هُوَ أَبُو الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ كَانَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ اشْتُهِرَ بِالزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الرَّاوَنْدِيَّةُ إِحْدَى فِرَقِ الْمُعْتَزِلَةِ تُوُفِّيَ عَامَ 798 هـ. (2) كَعْبُ الْأَحْبَارِ بْنُ مَاتِعٍ أَبُو إِسْحَاقَ الْحِمْيَرِيُّ أَسْلَمَ أَيَّامَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ، وَتُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ عَامَ 32 هـ عَنْ 104 سَنَةٍ، وَابْنُ سَلَامٍ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ أَبُو يُوسُفَ الْإِسْرَائِيلِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ عَامَ 43 هـ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ كَامِلٍ الْيَمَانِيُّ الصَّنْعَانِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَبْنَاوِيُّ، وُلِدَ عَامَ 34 هـ، وَمَاتَ عَامَ 110 أَوْ 116. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 وَمَعَ احْتِمَالِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ فَلَا يُعَارِضُ قَوْلُهُ مَا ظَهَرَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاطِعَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ وَنَسْخِ شَرِيعَةِ مَنْ تَقَدَّمَ. كَيْفَ وَإِنَّ لَفْظَ التَّأْبِيدِ قَدْ وَرَدَ فِي التَّوْرِيَةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الدَّوَامَ كَقَوْلِهِ: " إِنَّ الْعَبْدَ يُسْتَخْدَمُ سِتَّ سِنِينَ، ثُمَّ يَعْتِقُ فِي السَّابِعَةِ، فَإِنْ أَبَى الْعِتْقَ فَلْتُثْقَبْ أُذُنُهُ وَيُسْتَخْدَمْ أَبَدًا "، وَكَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِذَبْحِهَا: " هَذِهِ سُنَّةٌ لَكُمْ أَبَدًا "، وَكَقَوْلِهِ: " قَرِّبُوا كُلَّ يَوْمٍ خَرُوفَيْنِ قُرْبَانًا دَائِمًا ". وَأَمَّا الْعِيسَوِيَّةُ، فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ بِصِحَّةِ رِسَالَتِهِ وَصِدْقِهِ فِي دَعْوَاهُ بِمَا اقْتَرَنَ بِهَا مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْقَاطِعَةِ تَكْذِيبُهُ فِيمَا وَرَدَ بِهِ التَّوَاتُرُ الْقَاطِعُ عَنْهُ بِدَعْوَى الْبَعْثَةِ إِلَى الْأُمَمِ كَافَّةً وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} ، وَقَالَ فِي وَصْفِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ: (هَذَا هُدًى لِلنَّاسِ) ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» "، وَقَوْلُهُ: " «بُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً» " (1) ، وَقَوْلُهُ: " «لَوْ كَانَ أَخِي مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» ". وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ عَنْهُ، وَتَوَاتَرَ مِنْ دُعَائِهِ لِطَوَائِفِ الْجَبَابِرَةِ وَالْأَكَاسِرَةِ، وَتَنْفِيذِهِ إِلَى أَقَاصِي الْبِلَادِ، وَطَلَبِ الدُّخُولِ فِي مِلَّتِهِ، وَالْقِتَالِ لِمَنْ جَاحَدَهُ مِنَ الْعَرَبِ، وَغَيْرِهِمْ فِي نُبُوَّتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   (1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 275 ج2. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 [الْمَسْأَلَةُ الْثانية نَسْخِ حُكْمِ الْفِعْلِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ النَّسْخِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ حُكْمِ الْفِعْلِ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ فِي رَمَضَانَ حُجُّوا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، ثُمَّ قَالَ قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ لَا تَحُجُّوا. فَذَهَبَتِ الْأَشَاعِرَةُ، وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِهِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ جَمَاهِيرُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ، وَقَدِ احْتَجَّ الْأَصْحَابُ بِحُجَجٍ ضَعِيفَةٍ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَمْحُو كُلَّ مَا يَشَاءُ مَحْوَهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَحْوُ الْعِبَادَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى مَحْوِ كُلِّ مَا يَشَاءُ مَحْوَهُ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَشَاءُ مَحْوَ الْعِبَادَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا، مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عِنْدَ الْخَصْمِ، وَإِنْ بَيَّنَ إِمْكَانَ مَشِيئَةِ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْآيَةِ، فَفِيهِ تَرْكُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ. كَيْفَ وَإِنَّهُ قَدْ أَمْكَنَ حَمْلُ الْمَحْوِ عَلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَهُوَ مَحْوُ الْكِتَابَةِ مِمَّا يَكْتُبُهُ الْمَلَكَانِ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَتَبْقِيَةُ الْمَعَاصِي وَالطَّاعَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنِ احْتَجَّ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِذَبْحِ وَلَدِهِ وَنَسْخِهِ عَنْهُ بِذَبْحِ الْفِدَاءِ، وَدَلِيلُ أَمْرِهِ بِذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِإِبْرَاهِيمَ: (اذْبَحْ وَلَدَكَ) وَرُوِيَ (وَاحِدَكَ) وَالْقُرْآنُ دَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَأَنَّهُ نُسِخَ بِذَبْحِ الْفِدَاءِ بِقَوْلِهِ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَضْعُفُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ جِدًّا. غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ وَجَّهَ الْخُصُومُ عَلَى هَذِهِ الْحُجَّةِ اعْتِرَاضَاتٍ وَاهِيَةٍ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا وَالْإِشَارَةِ إِلَى الِانْفِصَالِ عَنْهَا تَكْثِيرًا لِلْفَائِدَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَجْهَ الضَّعِيفِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. (1) أَمَّا الْأَسْئِلَةُ فَأَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مَنَامًا لَا أَصْلَ لَهُ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْأَمْرُ، وَلِهَذَا قَالَ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ. سَلَّمْنَا أَنَّ مَنَامَهُ أَصْلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ. وَقَوْلُ وَلَدِهِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ أُمِرَ، وَلِهَذَا عَلَّقَهُ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ. وَمَعْنَاهُ افْعَلْ مَا يَتَحَقَّقُ مِنَ الْأَمْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا. لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ حَقِيقَةً بَلْ بِالْعَزْمِ عَلَى الذَّبْحِ امْتِحَانًا لَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْعَزْمِ، وَذَلِكَ بَلَاءٌ عَظِيمٌ، وَالْفِدَاءُ إِنَّمَا كَانَ عَمَّا يَتَوَقَّعُهُ مِنَ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ لَا عَنْ نَفْسِ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِالذَّبْحِ، أَوْ بِمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ مِنْ إِخْرَاجِهِ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَأَخْذِ الْمُدْيَةِ وَالْحَبْلِ وَتَلِّهِ لِلْجَبِينِ، فَاسْتَشْعَرَ إِبْرَاهِيمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالذَّبْحِ وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} سَلَّمْنَا أَنَّهُ كَانَ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ حَقِيقَةً إِلَّا أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ كُلَّمَا قَطَعَ جُزْءًا عَادَ مُلْتَحِمًا إِلَى آخِرِ الذَّبْحِ، وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} وَإِذَا كَانَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الذَّبْحِ قَدْ وَقَعَ، فَالْفِدَاءُ لَا يَكُونُ نَسْخًا. سَلَّمْنَا أَنَّ الذَّبْحَ حَقِيقَةً لَمْ يُوجَدْ، لَكِنْ قَدْ رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُ مِنَ الذَّبْحِ بِأَنْ جَعَلَ عَلَى عُنُقِ وَلَدِهِ صَفِيحَةً مِنْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ مَانِعَةً مِنَ الذَّبْحِ لَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ النَّسْخِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَنَامَ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَحْيٌ مَعْمُولٌ بِهِ، وَأَكْثَرُ وَحْيِ الْأَنْبِيَاءِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمَنَامِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّ وَحْيَهُ كَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ بِالْمَنَامِ» ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ» " (2) فَكَانَتْ نِسْبَةُ السِّتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةٍ مِنْ نُبُوَّتِهِ،   (1) أَيْ وَجْهَ الضَّعْفِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ. (2) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي رَزِينٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 كَذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا احْتَلَمَ نَبِيٌّ قَطُّ» (1) يَعْنِي مَا تَشَكَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْمَنَامِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَشَكَّلُ لِأَهْلِ الِاحْتِلَامِ. كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيَالًا لَا وَحْيًا لَمَا جَازَ لِإِبْرَاهِيمَ الْعَزْمُ عَلَى الذَّبْحِ الْمُحَرَّمِ بِمَنَامٍ لَا أَصْلَ لَهُ، وَلَمَا سَمَّاهُ بَلَاءً مُبِينًا، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا فِي الْمَاضِي، لَكِنَّهُ قَدْ يَرِدُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَاضِي. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: " قَدْ أَمَرَنِي السُّلْطَانُ بِكَذَا " فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهُ: " افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ " أَيْ مَا أُمِرْتَ بِهِ، وَأَنْتَ مَأْمُورٌ. وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ ضَرُورَةَ حَمْلِ الْوَلَدِ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَأَخْذِ آلَاتِ الذَّبْحِ وَتَرْوِيعِ الْوَلَدِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَحْرُمُ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ وَلَا إِذْنٍ فِي ذَلِكَ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ حَمْلَ الْأَمْرِ عَلَى الْعَزْمِ أَوْ عَلَى مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} ثُمَّ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِالْعَزْمِ عَلَى الذَّبْحِ وَمُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ لَا غَيْرُ، لَمَا سَمَّاهُ بَلَاءً مُبِينًا، وَلَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ لِكَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِمَّا وَقَعَ، وَلَمَا قَالَ الذَّبِيحُ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَقَوْلُهُ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} مَعْنَاهُ أَنَّكَ عَمِلْتَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ عَمَلَ مُصَدِّقٍ لِلرُّؤْيَا بِقَلْبِهِ. لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِذَا كَانَ قَدْ أُمِرَ بِإِخْرَاجِ الْوَلَدِ إِلَى الصَّحْرَاءِ وَأَخْذِ الْمُدْيَةِ وَالْحَبْلِ وَتَلِّهِ لِلْجَبِينِ مَعَ إِبْهَامِ عَاقِبَةِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَلَدِهِ، فَإِنَّهُ يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ لَهُمَا أَنَّ عَاقِبَةَ الْأَمْرِ إِنَّمَا هِيَ الذَّبْحُ، وَذَلِكَ عَيْنُ الْبَلَاءِ، وَبِهِ يَتَحَقَّقُ قَوْلُ الذَّبِيحِ: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} وَأَمَّا تَسْمِيَةُ الْكَبْشِ فِدَاءً فَإِنَّمَا كَانَ عَنِ الْأَمْرِ الْمُتَوَقَّعِ لَا عَنِ الْأَمْرِ الْوَاقِعِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ (2) لِمَا فِيهِ مِنْ تَوْرِيطِ الْمُكَلَّفِ فِي الْجَهْلِ، حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ مَا يَظْهَرُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ وَلَا أَمْرَ.   (1) ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْخَصَائِصِ الْكُبْرَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " مَا احْتَلَمَ نَبِيٌّ قَطُّ، وَإِنَّمَا الِاحْتِلَامُ مِنَ الشَّيْطَانِ " وَنَسَبَهُ إِلَى الطَّبَرَانِيِّ وَالدَّيْنَوَرِيِّ فِي الْمُجَالَسَةِ. (2) انْظُرْ رَأْيَهُ وَالرَّدَّ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْبَيَانِ وَالْمُبَيَّنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدْ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الذَّبْحِ لَمَا احْتَاجَ إِلَى الْفِدَاءِ وَلَا اشْتُهِرَ ذَلِكَ وَظَهَرَ، لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، وَحَيْثُ لَمْ يَنْقُلْهُ سِوَى بَعْضِ الْخُصُومِ دَلَّ عَلَى ضَعْفِهِ. وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَهَذَا تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ لَنُقِلَ أَيْضًا وَاشْتُهِرَ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْعَظِيمَةِ. هَذَا مَا فِي هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ. وَأَمَّا وَجْهُ الضَّعْفِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ نُسِخَ عَنْهُ الْأَمْرُ بِالذَّبْحِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ نُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ. بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا قَبْلَ التَّمَكُّنِ لَا بَعْدَهُ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى بَيَانِ أَنَّهُ نُسِخَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الِامْتِثَالِ إِلَّا بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْفَوْرِ، أَوْ أَنَّ وَقْتَ الْأَمْرِ كَانَ مُضَيَّقًا لَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ صَغَائِرُ الْمَعَاصِي، وَالْكُلُّ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ فِعْلِهَا. وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى رَدِّ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّدِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} . وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مِنَ الْخُصُومِ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَمَرَنَا بِالْمُوَاصَلَةِ فِي الصَّوْمِ سَنَةً، جَازَ أَنْ يَنْسَخَهُ عَنَّا بَعْدَ شَهْرٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ نَسْخٌ لِلصَّوْمِ فِيمَا بَقِيَ مِنَ السَّنَةِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِهِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " «أُحِلَّتْ لِي مَكَّةُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» " وَمَعَ ذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الْقِتَالِ فِيهَا، وَهُوَ نَسْخٌ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ، وَهَذِهِ الْحُجَجُ أَيْضًا ضَعِيفَةٌ. أَمَّا الْأُولَى: فَلِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ نَسْخَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ كَانَ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْوَقْتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: عِتَابُ اللَّهِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الْآيَةَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُ الْفِعْلِ قَدْ حَضَرَ لَمَا حَسُنَ ذَلِكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 الثَّانِي: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَاجَى بَعْدَ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ (1) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُضُورِ وَقْتِ الْفِعْلِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَلِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ تَمَكُّنِ الْمُهَاجَرَةِ فِيهِ إِلَيْهِ مَعَ رَدِّهِنَّ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى وُقُوعِ نَسْخِ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْفِعْلِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ: فَلِأَنَّ النَّسْخَ وَرَدَ عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، فَكَانَ بَيَانًا أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ اللَّفْظِ إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ السَّنَةِ، وَيَكُونُ النَّهْيُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِ مَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا نُسِخَ قَبْلَ دُخُولِ شَيْءٍ مِنَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِغَيْرِ مَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ ثَمَّ جَوَازُهُ هَاهُنَا. وَأَمَّا الرَّابِعَةُ: فَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الْقِتَالِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْقِتَالِ وَلَا بُدَّ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الْقِتَالِ بَعْدَ مُضِيِّ تِلْكَ السَّاعَةِ، وَلَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ النَّسْخِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ. كَيْفَ وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْلِهِ: " «أُحِلَّتْ لِي مَكَّةُ سَاعَةً» " عَلَى إِبَاحَةِ الْقِتَالِ بَلْ لَعَلَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ إِبَاحَةَ قَتْلِ أُنَاسٍ مُعَيَّنِينَ كَابْنِ خَطَلٍ وَغَيْرِهِ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْقِتَالِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِإِبَاحَةِ الْقِتَالِ. وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ حُجَّتَانِ: الْحُجَّةُ الْأُولَى: التَّمَسُّكُ بِقِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَهُوَ مَا صَحَّ بِالرِّوَايَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ عَلَى نَبِيِّهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً، فَأَشَارَ عَلَيْهِ مُوسَى بِالرُّجُوعِ، وَقَالَ لَهُ: " «أُمَّتُكَ ضُعَفَاءُ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَاسْتَنْقِصِ اللَّهَ يَنْقُصْكَ» " وَأَنَّهُ قَبِلَ مَا أَشَارَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَ اللَّهَ فِي ذَلِكَ فَنَسَخَ الْخَمْسِينَ إِلَى أَنْ بَقِيَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، وَذَلِكَ نَسْخٌ لِحُكْمِ الْفِعْلِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى زَيْدًا بِفِعْلٍ فِي الْغَدِ، وَيَمْنَعَهُ مِنْهُ بِمَانِعٍ عَائِقٍ لَهُ عَنْهُ قَبْلَ الْغَدِ، فَيَكُونَ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ فِي الْغَدِ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ. وَإِذَا جَازَ الْأَمْرُ بِشَرْطِ انْتِفَاءِ النَّاسِخِ مَعَ تَعْقِيبِهِ بِالنَّسْخِ إِذِ الْفِعْلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، وَهُوَ إِلْزَامٌ مُلْزِمٌ.   (1) ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مُنَاجَاةَ عَلِيٍّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ تَقْدِيمِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَلَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، فَارْجِعْ إِلَى تَفْصِيلِ الْقِصَّةِ فِيهِ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا قِصَّةُ الْإِسْرَاءِ فَهِيَ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً إِلَّا أَنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ حُكْمِ الْفِعْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، وَقَبْلَ تَمَكُّنِ الْمُكَلَّفِ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ لِنَسْخِهِ قَبْلَ الْإِنْزَالِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ مَعَهُ الثَّوَابُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْأَدْوَاءِ وَالِاعْتِقَادِ لِوُجُوبِهِ وَلَمْ يَقُولُوا بِهِ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ زَيْدًا فِي الْغَدِ، وَيَمْنَعَهُ مِنْهُ قَبْلَ الْغَدِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو. إِمَّا أَنْ يَأْمُرَهُ مُطْلَقًا وَيُرِيدَ مِنْهُ الْفِعْلَ أَوْ بِشَرْطِ زَوَالِ الْمَنْعِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَمَنْعُهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْأَمْرُ بِالشَّرْطِ مِمَّا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنَ الْعَالِمِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْأَوَامِرِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا أَمَرَ جَمَاعَةً بِفِعْلٍ فِي الْغَدِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْنَعَ بَعْضَهُمْ مِنَ الْفِعْلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِخِطَابِهِ مَنْ عَلِمَ مَنْعَهُ وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فِي الْمَنْعِ، فَكَذَلِكَ فِي النَّسْخِ. ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا نَهَى الْمُكَلَّفَ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ، فَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ قَدْ تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَخْلُو الْبَارِي تَعَالَى عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا هُوَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ مِنَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَكَذَلِكَ فِي حَالَةِ النَّهْيِ أَوْ لَا يَكُونَ عَالِمًا بِهِ أَصْلًا أَوْ هُوَ عَالِمٌ بِهِ فِي حَالَةِ النَّهْيِ دُونَ حَالَةِ الْأَمْرِ أَوْ فِي حَالَةِ الْأَمْرِ دُونَ حَالَةِ النَّهْيِ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ حَسَنًا فَقَدْ نَهَى عَنِ الْحَسَنِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا فَقَدْ أَمَرَ بِالْقَبِيحِ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ، وَهُوَ قَبِيحٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُحَالٌ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْجَهْلِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الثَّالِثَ أَوِ الرَّابِعَ. كَيْفَ وَإِنَّهُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ فِي حَالَةِ النَّهْيِ مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حَالَةِ الْأَمْرِ فَهُوَ عَيْنُ الْبَدَاءِ، وَالْبَدَاءُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا أَمَرَ بِالْفِعْلِ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ فَقَدْ بَانَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إِيقَاعَهُ، وَيَكُونُ قَدْ أَمَرَ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا بَقِيَ لَنَا وُثُوقٌ بِقَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ الشَّارِعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ ضِدَّ مَا هُوَ دَالٌّ عَلَى إِرَادَتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مَأْمُورًا مَنْهِيًّا، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عِنْدَكُمْ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَكُونَ الْكَلَامُ الْوَاحِدُ أَمْرًا نَهْيًا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمْ فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ إِنَّهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ. قُلْنَا: وَالْمَسْأَلَةُ عِنْدَنَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَلِذَلِكَ لَا يُكَفَّرُ الْمُخَالِفُ فِيهَا وَلَا يُبَدَّعُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ نُسِخَ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ. قُلْنَا: فَقَدْ نُسِخَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ عِلْمِهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ نُسِخَ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِهِ، وَلَكِنْ لِمَ قَالُوا بِامْتِنَاعِهِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَائِدَةُ الثَّوَابِ بِاعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا. قَوْلُهُمْ عَلَى الْحُجَّةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّا لَا نُسَلِّمُ الْأَمْرَ مَعَ الْمَنْعِ. قُلْنَا: قَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْأَوَامِرِ. قَوْلُهُمْ إِنْ أَرَادَ مِنْهُ الْفِعْلَ فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ. قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ. قَوْلُهُمْ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لَهُ، فَهُوَ أَمْرٌ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمَنْعِ مِنَ الْعَالِمِ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِمَا سَبَقَ. قُلْنَا: وَقَدْ سَبَقَ أَيْضًا فِي الْأَوَامِرِ جَوَازُ ذَلِكَ، وَإِبْطَالُ كُلِّ مَا تَخَيَّلُوهُ مَانِعًا. قَوْلُهُمْ فِي الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى: إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى آمِرًا وَنَاهِيًا عَنْ فِعْلٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ لَا نُسَلِّمُ إِحَالَتَهُ. قَوْلُهُمْ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا، فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا سَبَقَ. فَلَئِنْ قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا وَلَا قَبِيحًا، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَقَدْ نَهَى عَمَّا فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَدْ أَمَرَ بِمَا فِيهِ مَفْسَدَةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 قُلْنَا: وَهَذَا أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَا لِمَصْلَحَةٍ وَلَا لِمَفْسَدَةٍ. وَإِنْ سَلِمَ عَدَمُ خُلُوِّهِ عَنِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَفْسَدَةِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ، بَلْ جَازَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَصْلَحَةِ حَالَةَ الْأَمْرِ، وَمُشْتَمِلٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ حَالَةَ النَّهْيِ، وَلَا مَفْسَدَةَ حَالَةَ الْأَمْرِ، وَلَا مَصْلَحَةَ حَالَةَ النَّهْيِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْجَهْلُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا الْبَدَاءُ لِعِلْمِهِ حَالَةَ الْأَمْرِ بِمَا الْفِعْلُ مُشْتَمِلٌ عَلَيْهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّهُ سَيَنْسَخُهُ فِي ثَانِي الْحَالِ لِمَا يُلَازِمُهُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلنَّسْخِ حَالَةَ النَّسْخِ كَمَا عُلِمَ. قَوْلُهُمْ فِي الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ: إِذَا أَمَرَ بِالْفِعْلِ، ثُمَّ نَهَى عَنْهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَ بِمَا لَمْ يُرِدْ مُسَلَّمٌ. وَعِنْدَنَا لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْأَمْرِ إِرَادَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ. قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْوُثُوقِ بِجَمِيعِ أَقْوَالِ الشَّارِعِ إِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا خَاطَبَ بِمَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، أَنَّا لَا نَقْطَعُ بِإِرَادَتِهِ لِمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ، فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاعْتِمَادُ عَلَى ظَاهِرِهِ مَعَ احْتِمَالِ إِرَادَةِ غَيْرِهِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْبَعِيدَةِ، فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنْ أَرَادُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَهُ. قَوْلُهُمْ: فِي الْمُعَارَضَةِ الثَّالِثَةِ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَأْمُورًا مَنْهِيًا. قُلْنَا: مَأْمُورٌ مَنْهِيٌّ مَعًا، أَوْ لَا مَعًا؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. قَوْلُهُمْ إِنَّ كَلَامَ اللَّهِ عِنْدَكُمْ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، إِنْ سَلَكْنَا مَذْهَبَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَإِنْ سَلَكْنَا مَذْهَبَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ فَلِمَ قَالُوا بِالْإِحَالَةِ. قَوْلُهُمْ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ أَمْرًا نَهْيًا. قُلْنَا: إِنَّمَا تُسَمَّى الصِّفَةُ الْوَاحِدَةُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ تَعَلُّقَاتِهَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْفِعْلِ سُمِّيَتْ أَمْرًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالتَّرْكِ سُمِّيَتْ نَهْيًا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَوِ اتَّحَدَ زَمَانُ التَّعَلُّقِ بِالْفِعْلِ وَالتَّرْكِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ زَمَانُ التَّعَلُّقِ مُخْتَلِفًا فَلَا، وَالْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ وَإِنْ كَانَ زَمَانُهُ مُتَّحِدًا لَكِنَّ تَعَلُّقَ الْأَمْرِ بِهِ غَيْرُ زَمَانِ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِهِ، وَمَعَ التَّغَايُرِ فَلَا امْتِنَاعَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 [الْمَسْأَلَةُ الْثالثة نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ اتَّفَقَ الْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ كَقَوْلِهِ: " صُومُوا أَبَدًا " خِلَافًا لِشُذُوذٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَدَلِيلُ جَوَازِهِ أَنَّ الْخِطَابَ إِذَا كَانَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ بِعُمُومِهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطِبُ مُرِيدًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ دُونَ الْبَعْضِ، كَمَا فِي الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ الْأَشْخَاصِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ النَّاسِخِ الْمُعَرِّفِ لِإِرَادَةِ الْمُخَاطِبِ لِذَلِكَ. وَلَوْ فَرَضْنَا ذَلِكَ لَمَا لَزِمَ عَنْهُ الْمُحَالُ وَكَانَ جَائِزًا. فَإِنْ قِيلَ: لَفْظُ التَّأْبِيدِ جَارٍ مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ الزَّمَانِ بِخُصُوصِهِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ بِخُصُوصٍ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ فَكَذَلِكَ هَذَا. وَأَيْضًا، لَوْ أُمِرْنَا بِالْعِبَادَةِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الِاسْتِمْرَارَ، جَازَ النَّسْخُ، فَلَوْ جَازَ ذَلِكَ مَعَ التَّقْيِيدِ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ مَعْنًى. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ نَسْخُ مَا وَرَدَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ لَمَا بَقِيَ لَنَا طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِدَوَامِ الْعِبَادَةِ فِي زَمَانِ إِرَادَةِ التَّكْلِيفِ. وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْمُخَاطِبَ إِذَا أَخْبَرَ بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ لَمْ يَجُزْ نَسْخُهُ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْخَبَرِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ لَفْظَ التَّأْبِيدِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّنْصِيصِ عَلَى كُلِّ وَقْتٍ بِعَيْنِهِ، بَلْ هُوَ فِي الْعُرْفِ قَدْ يُطْلَقُ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: لَازِمْ فُلَانًا أَبَدًا، وَفُلَانٌ أَبَدًا يُكْرِمُ الضَّيْفَ، وَأَدَامَ اللَّهُ مُلْكَ الْأَمِيرِ أَبَدًا. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، فَعِنْدَنَا لَا يَمْتَنِعُ نَسْخُ حُكْمِ الْخِطَابِ، إِذَا كَانَ مُقَيَّدًا بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا إِذَا قَالَ: " صَلِّ وَقْتَ زَوَالِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَقَبْلَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا. وَعَنِ الثَّانِي أَنَّ فَائِدَةَ التَّأْبِيدِ تَأْكِيدُ الِاسْتِمْرَارِ، فَإِذَا وَرَدَ النَّسْخُ، كَانَتْ فَائِدَتُهُ تَأْكِيدَ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِمْرَارِ لَا نَفْسَ الِاسْتِمْرَارِ. ثُمَّ يَلْزَمُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 مَا إِذَا أَتَى بِلَفْظٍ عَامٍّ، كَمَا لَوْ قَالَ: " كُلُّ مَنْ دَخَلَ دَارِي فَأَكْرِمْهُ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ مَعَ تَأْكِيدِهِ بِكُلٍّ وَجَمِيعٍ، فَمَا هُوَ جَوَابُهُمْ فِي التَّخْصِيصِ فَهُوَ جَوَابٌ لَنَا فِي النَّسْخِ. عَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ لَفْظُ التَّأْبِيدِ يُفِيدُ الْعِلْمَ، وَلَا طَرِيقَ يُفِيدُ سِوَاهُ، وَالْأَمْرَانِ مَمْنُوعَانِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِمَا سَبَقَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِجَوَازِ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِذَلِكَ، أَوْ بِمَا يَقْتَرِنُ بِاللَّفْظِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُفِيدَةِ لِلْيَقِينِ، كَمَا فِي الْقَرَائِنِ الْمُقْتَرِنَةِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ، ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ الْمُؤَكَّدِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ مَعَ تَوَجُّهِ مَا ذَكَرُوهُ فِي النَّسْخِ بِعَيْنِهِ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَّحِدًا. وَعَنِ الرَّابِعِ: بِمَنْعِ ذَلِكَ فِي الْخَبَرِ أَيْضًا. [الْمَسْأَلَةُ الرابعة نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ لَا إِلَى بَدَلٍ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَذْهَبُ الْجَمِيعِ جَوَازُ نَسْخِ حُكْمِ الْخِطَابِ لَا إِلَى بَدَلٍ خِلَافًا لِبَعْضِ الشُّذُوذِ، وَدَلِيلُهُ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ فِي الْعَقْلِ، وَلَا مَعْنَى لِلْجَائِزِ عَقْلًا سِوَى هَذَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ لَا يُقَالَ بِرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى (1) أَوْ يُقَالَ بِذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَرَفْعُ حُكْمِ الْخِطَابِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ دُونَ بَدَلِهِ. الثَّانِي: مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي الشَّرْعِ كَنَسْخِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) وَنَسْخِ الِاعْتِدَادِ بِحَوْلٍ كَامِلٍ فِي حَقِّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَنَسْخِ وُجُوبِ ثَبَاتِ الرَّجُلِ لِعَشَرَةٍ، وَنَسْخِ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ   (1) سَبَقَ تَعْلِيقًا الرَّدُّ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ وَتَشْرِيعِهِ فَتَعَيَّنَ الشِّقُّ الثَّانِي مِنَ التَّرْدِيدِ الْمَذْكُورِ. (2) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 130 ج 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 الْفِطْرِ فِي اللَّيْلِ (1) وَنَسْخِ تَحْرِيمِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ (2) وَكُلُّ ذَلِكَ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي نُسِخَتْ لَا إِلَى بَدَلٍ. وَالْوُقُوعُ فِي الشَّرْعِ أَدَلُّ الدَّلَائِلِ عَلَى الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُنْسَخُ إِلَّا بِبَدَلٍ، وَالْخُلْفُ فِي خَبَرِ الصَّادِقِ مُحَالٌ. قُلْنَا: مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا هُوَ دَلِيلُ لُزُومِ الْبَدَلِ فِي نَسْخِ لَفْظِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نَسْخِ حُكْمِهَا، وَذَلِكَ هُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ حُكْمٍ وَإِنْ سَلَّمْنَا، وَلَكِنَّهُ مُخَصَّصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الصُّوَرِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُخَصَّصٍ، لَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ رَفْعُ الْحُكْمِ بَدَلَ إِثْبَاتِهِ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي نُسِخَ فِيهِ، لِكَوْنِ الْمَصْلَحَةِ فِي الرَّفْعِ دُونَ الْإِثْبَاتِ، وَإِنْ سَلِمَ امْتِنَاعُ وُقُوعِ ذَلِكَ شَرْعًا، لَكِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ.   (1) يَعْنِي وُجُوبَ الْإِمْسَاكِ عَنِ الْجِمَاعِ بَعْدَ الْفِطْرِ لَيْلَةَ الصِّيَامِ. (2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ خُضْرَةَ الْأَضَاحِيِّ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " ادَّخِرُوا ثَلَاثًا ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ "، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمِنَ النَّاسِ يَتَّخِذُونَ الْأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ وَيَجْمُلُونَ فِيهَا الْوَدَكَ، فَقَالَ: " نَهَيْتُ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الْأَضَاحِيِّ بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا "، وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَاتٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 [الْمَسْأَلَةُ الخامسة نَسْخُ حُكْمِ الْخِطَابِ إِلَى بَدَلٍ أَخَفَّ مِنْهُ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَكَمَا يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمِ الْخِطَابِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ، يَجُوزُ نَسْخُهُ إِلَى بَدَلٍ أَخَفَّ مِنْهُ كَنَسْخِ تَحْرِيمِ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيْلِ رَمَضَانَ إِلَى حِلِّهِ، وَإِلَى بَدَلٍ مُمَاثِلٍ، كَنَسْخِ وُجُوبِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقُدْسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ، وَهَذَانِ مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالنَّسْخِ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ إِلَى بَدَلٍ أَثْقَلَ مِنْهُ. وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا وَجُمْهُورِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ، خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَبَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ عَقْلًا، وَمَنَعَ مِنْهُ سَمْعًا. وَدَلِيلُ جَوَازِهِ عَقْلًا مَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ الشَّرْعِيِّ وُقُوعُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ. فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ صِيَامَ رَمَضَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مُخَيِّرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ بِالْمَالِ، وَنَسَخَهُ بِتَحَتُّمِ الصَّوْمِ، وَهُوَ أَثْقَلُ مِنَ الْأَوَّلِ. (1) وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ الْحَبْسَ فِي الْبُيُوتِ وَالتَّعْنِيفَ حَدًّا عَلَى الزِّنَا، وَنَسَخَهُ بِالضَّرْبِ بِالسِّيَاطِ وَالتَّغْرِيبِ عَنِ الْوَطَنِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ وَبِالرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ، (2) وَنَسَخَ صَوْمَ عَاشُورَاءَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ. (3) وَكُلُّ ذَلِكَ أَثْقَلُ مِنَ الْأَوَّلِ.   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الصِّيَامِ وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ " حَتَّى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) . (2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ وَالنَّسَائِيَّ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي "، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ. (3) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا تَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: " مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ ". وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ. أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ: فَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا لِمَصْلَحَةٍ أَوْ لِمَصْلَحَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَهُوَ عَبَثٌ وَقَبِيحٌ، فَلَا يَكُونُ جَائِزًا عَلَى الشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ لِمَصْلَحَةٍ: فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ أَدْنَى مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَنْسُوخِ، أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا، أَوْ رَاجِحَةً عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَهُوَ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِهْمَالِ أَرْجَحِ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَاعْتِبَارِ أَدْنَاهُمَا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَيْسَ النَّاسِخُ أَوْلَى مِنَ الْمَنْسُوخِ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الثَّالِثِ. وَإِذَا كَانَ النَّسْخُ إِنَّمَا يَكُونُ لِلْأَصْلَحِ وَالْأَنْفَعِ وَالْأَقْرَبِ إِلَى حُصُولِ الطَّاعَةِ، وَذَلِكَ (1) إِنَّمَا يَكُونُ بِنَقْلِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْأَشَدِّ إِلَى الْأَخَفِّ، وَمِنَ الْأَصْعَبِ إِلَى الْأَسْهَلِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى حُصُولِ الطَّاعَةِ، وَأَسْهَلَ فِي الِانْقِيَادِ، وَإِذَا كَانَ بِالْعَكْسِ كَانَ إِضْرَارًا بِالْمُكَلَّفِينَ، لِأَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا الْتَزَمُوا الْمَشَقَّةَ الزَّائِدَةَ، وَإِنْ تَرَكُوا اسْتَضَرُّوا بِالْعُقُوبَةِ وَالْمُؤَاخَذَةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ بِحِكْمَةِ الشَّارِعِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ فَنُصُوصٌ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} وَلَا تَخْفِيفَ فِي نَسْخِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وَفِي نَسْخِ الْأَخَفِّ إِلَى الْأَثْقَلِ إِرَادَةُ الْعُسْرِ، وَفِيهِ تَكْذِيبُ خَبَرِ الصَّادِقِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وَالْإِصْرُ هُوَ الثِّقَلُ، أَخْبَرَ أَنَّهُ يَضَعُ عَنْهُمُ الثِّقَلَ الَّذِي حَمَّلَهُ لِلْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، فَلَوْ نَسَخَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ كَانَ تَكْذِيبًا لِخَبَرِهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُحَالٌ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}   (1) وَذَلِكَ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ فَلِذَلِكَ ; لِأَنَّهُ جَوَابُ قَوْلِهِ: وَإِذَا كَانَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنَ الْآيَةِ فِي نَفْسِهَا إِذِ الْقُرْآنُ كُلُّهُ خَيْرٌ لَا تَفَاضُلَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، وَذَلِكَ هُوَ الْأَخَفُّ وَالْأَسْهَلُ فِي الْأَحْكَامِ. (1) وَالْجَوَابُ عَنِ الْمَعْقُولِ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي ابْتِدَاءِ التَّكْلِيفِ، وَنَقْلِ الْخَلْقِ مِنَ الْإِبَاحَةِ وَالْإِطْلَاقِ إِلَى مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ، وَكَذَلِكَ فِي نَقْلِهِمْ مِنَ الصِّحَّةِ إِلَى السَّقَمِ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ إِلَى الْهَرَمِ، وَمِنَ الْجِدَةِ إِلَى الْعَدَمِ، وَإِعْدَامِ الْقَوِيِّ وَالْحَوَاسِّ بَعْدَ وُجُودِهَا، فَإِنَّ مَا نَقَلَهُمْ إِلَيْهِ أَشَقُّ عَلَيْهِمْ مِمَّا نَقَلَهُمْ عَنْهُ. وَكُلُّ مَا ذَكَرُوهُ فَهُوَ بِعَيْنِهِ لَازِمٌ هَاهُنَا، وَمَا هُوَ الْجَوَابُ فِي صُورَةِ الْإِلْزَامِ فَهُوَ جَوَابُنَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَعَنِ الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِيهَا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ ذَلِكَ إِرَادَةُ التَّخْفِيفِ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَبِتَقْدِيرِ الْعُمُومِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّخْفِيفِ عَلَى الْفَوْرِ بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ فِي الْمَآلِ بِرَفْعِ أَثْقَالِ الْآخِرَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعَاصِي بِمَا يَحْصُلُ لَنَا مِنَ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ عَلَيْنَا فِي الدُّنْيَا وَعَلَى طِبَاعِنَا تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ بِعَاقِبَتِهِ. (2) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي} ، وَمِنْهُ يُقَالُ: ( «لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ» ) (3) وَبِتَقْدِيرِ إِرَادَةِ الْفَوْرِ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّخْصِيصُ كَمَا خَصَّ بِأَثْقَالِ تَكَالِيفِهِ الْمُبْتَدَأَةِ وَابْتِلَائِهِ فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ صَالِحٌ لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا فِيهِ الْيُسْرُ وَالْعُسْرُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَآلِ حَتَّى لَا يَلْزَمَ مِنْهُ كَثْرَةُ التَّخْصِيصِ بِابْتِدَاءِ التَّكَالِيفِ، وَمَا وَقَعَ بِهِ الِابْتِلَاءُ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ.   (1) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ تَيْمِيَةَ مِنْ وُجُوهِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِهِ جَوَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي أَنَّ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ. (2) تَسْمِيَةً لِلشَّيْءِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ وَقَعَ عِلَّةً لِقَوْلِهِ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ التَّخْفِيفُ. (3) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا: " إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا " الْحَدِيثَ، وَنَقَلَ الْقَارِيُّ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ مِمَّا يَدُورُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا أَصْلَ لَهُ. انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ وَالْإِلْبَاسِ لِلْعَجْلُونِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا هُوَ أَشَقُّ فِي الدُّنْيَا إِذَا كَانَ ثَوَابُهُ الْمَآلُ أَكْثَرَ وَأَدْفَعَ لِلْعِقَابِ الْمُجْتَلَبِ بِالْمَعَاصِي أَنَّهُ يُسْرٌ لَا عُسْرٌ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِرَادَةُ الْيُسْرِ وَعَدَمُ إِرَادَةِ الْعُسْرِ الْعَاجِلِ، لَكِنَّهُ يَجِبُ تَخْصِيصُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَعَنِ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وَضْعِ الْإِصْرِ وَالثِّقَلِ الَّذِي كَانَ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا عَنَّا، امْتِنَاعُ وُرُودِ نَسْخِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ فِي شَرْعِنَا. وَعَنِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَائِدًا إِلَى نَسْخِ التِّلَاوَةِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، إِذِ النِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَى نَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ فَالْخَيْرُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ فِي الثَّوَابِ. وَمِنْهُ يُقَالُ: الْفَرْضُ خَيْرٌ مِنَ النَّفْلِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ أَكْثَرُ فِي الثَّوَابِ، وَإِنْ كَانَ أَشَقَّ مِنَ النَّفْلِ عَلَى النَّفْسِ، وَفِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ يَرْجِعُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ فِي الْعَاجِلِ وَأَصْلَحُ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْأَسْهَلِ، وَلِهَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَقُولَ الطَّبِيبُ لِلْمَرِيضِ: " الْجُوعُ وَالْعَطَشُ أَصْلَحُ لَكَ وَخَيْرٌ مِنَ الشِّبَعِ وَالرِّيِّ ". وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ بِالْأَشَقِّ أَكْثَرَ ثَوَابًا وَأَصْلَحَ فِي الْمَآلِ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: " «ثَوَابُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» " (1) فَكَانَ التَّكْلِيفُ بِالْأَشَقِّ خَيْرًا مِنَ الْأَخَفِّ.   (1) ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ " أَجْرُ الْعُمْرَةِ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ فَقِيلَ لَهَا: انْتَظِرِي فَإِذَا طَهُرْتِ فَاخْرُجِي إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي ثُمَّ ائْتِينَا بِمَكَانِ كَذَا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ أَوْ نَصَبِكِ " وَذَكَرَ مُسْلِمٌ مِثْلَهُ فِي بَابِ " وُجُوهِ الْإِحْرَامِ ". . . إِلَخْ. وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ لِلْحَاكِمِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا فِي عُمْرَتِهَا: " إِنَّ لَكِ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ ". وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ أَيْضًا شَاهِدًا لَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهَا فِي عُمْرَتِهَا: " إِنَّمَا أَجْرُكِ فِي عُمْرَتِكِ عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِكِ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 [الْمَسْأَلَةُ السادسة نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ وَبِالْعَكْسِ وَنَسْخِهِمَا مَعًا] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، وَبِالْعَكْسِ، وَنَسْخِهِمَا مَعًا خِلَافًا لِطَائِفَةٍ شَاذَّةٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ. أَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ جَوَازَ تِلَاوَةِ الْآيَةِ حُكْمٌ، وَلِهَذَا يُثَابُ عَلَيْهَا بِالْإِجْمَاعِ. وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَهُ، فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» " (1) وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حُكْمٌ، وَإِذَا كَانَا حُكْمَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتُهُمَا مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ، وَمَفْسَدَةً فِي وَقْتٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ إِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا مَصْلَحَةً مُطْلَقًا، وَإِثْبَاتُ أَحَدِهِمَا مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ رَفْعُهُمَا مَعًا، وَرَفْعُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَأَمَّا النَّقْلُ، إِمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا قَالَتْ: " «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٍ، فَنُسِخَتْ بِخَمْسٍ» (2) وَلَيْسَ فِي الْمُصْحَفِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مُحَرِّمَاتٍ، وَلَا حُكْمُهَا، فَهُمَا مَنْسُوخَانِ. وَأَمَّا نَسْخُ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، فَكَنَسْخِ حُكْمِ آيَةِ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ (3) وَنَسْخِ حُكْمِ آيَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ.   (1) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِ: " مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَعْرَبَ فِي قِرَاءَتِهِ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عِشْرُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَرَأَهُ بِغَيْرِ إِعْرَابٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ " انْظُرْ كِتَابَ الْبُرْهَانِ، مَسْأَلَةٌ فِي اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِالتَّفْخِيمِ. (2) فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهَا " نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نَزَلَ خَمْسٌ مَعْلُومَاتٌ ". (3) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا رَآهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ آيَةَ " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذْرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ " نَزَلَتْ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْعِدَّةِ وَالسُّكْنَى، أَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَيَانِ حَقِّ السُّكْنَى دُونَ مُدَّةِ الْعِدَّةِ فَلَيْسَتْ مَنْسُوخَةً لِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنِهَا وَبَيْنَ آيَةِ اعْتِدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِاخْتِلَافِ مَوْضُوعِ الْآيَتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ: فَمَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» " فَإِنَّهُ مَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ. وَهَلْ يَجُوزُ بَعْدَ نَسْخِ تِلَاوَةِ الْآيَةِ أَنْ يَمَسَّهَا الْمُحْدِثُ وَيَتْلُوهَا الْجُنُبُ. فَذَلِكَ مِمَّا تَرَدَّدَ الْأُصُولِيُّونَ فِيهِ، وَالْأَشْبَهُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ مَعَ التِّلَاوَةِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ مَعَ الْعَالَمِيَّةِ، وَالْحَرَكَةِ مَعَ الْمُتَحَرِّكِيَّةِ، وَالْمَنْطُوقِ مَعَ الْمَفْهُومِ، وَكَمَا لَا يُمْكِنُ الِانْفِكَاكُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْعَالَمِيَّةِ وَالْمَنْطُوقِ مَعَ الْمَفْهُومِ، فَكَذَلِكَ التِّلَاوَةُ مَعَ حُكْمِهَا. وَأَمَّا مَا يَخُصُّ نَسْخَ الْحُكْمِ دُونَ التِّلَاوَةِ، فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا نُسِخَ وَبَقِيَتِ التِّلَاوَةُ كَانَتْ مُوِهَمَةً بَقَاءَ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُعَرِّضُ الْمُكَلَّفُ إِلَى اعْتِقَادِ الْجَهْلِ، وَالْحَكِيمُ يَقْبُحُ مِنْهُ ذَلِكَ. وَأَيْضًا إِذَا بَقِيَتِ التِّلَاوَةُ دُونَ حُكْمِهَا، تَبْقَى عَرِيَّةً عَنِ الْفَائِدَةِ، وَيَمْتَنِعُ خُلُوُّ الْقُرْآنِ عَنِ الْفَائِدَةِ. وَأَمَّا مَا يَخُصُّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، فَوَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْآيَةَ ذَرِيعَةٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ، فَإِذَا نُسِخَتِ الْآيَةُ دُونَ الْحُكْمِ أَشْعَرَ ذَلِكَ بِارْتِفَاعِ الْحُكْمِ، وَفِيهِ تَعْرِيضُ الْمُكَلَّفِ لِاعْتِقَادِ الْجَهْلِ، وَهُوَ قَبِيحٌ مِنَ الشَّارِعِ. الثَّانِي: أَنَّ نَسْخَ التِّلَاوَةِ دُونَ حُكْمِهَا يَكُونُ عَرِيًّا عَنِ الْفَائِدَةِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ حُكْمٍ وَلَا رَفْعُهُ، وَمَا عَرِيَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ كَانَ عَبَثًا، وَالْعَبَثُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَوَّلًا أَنَّ الْعَالَمِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِقِيَامِ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَلَا الْمُتَحَرِّكِيَّةَ مُغَايِرَةٌ لِقِيَامِ الْحَرَكَةِ بِالذَّاتِ، وَلَا الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ لِيَصِحَّ التَّمْثِيلُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التِّلَاوَةَ مَعَ الْحُكْمِ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ مَا ذَكَرُوهُ بَلْ هِيَ نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ عَلَى الْحُكْمِ فِي ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ دُونَ حَالَةِ دَوَامِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْأَمَارَةِ فِي طَرَفِ الدَّوَامِ انْتِفَاءُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِدَلِيلِ انْتِفَاءِ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ التِّلَاوَةَ إِذَا ثَبَتَتْ بَعْدَ نَسْخِ الْحُكْمِ عَرَّضَتِ الْمُكَلَّفَ لِاعْتِقَادِ الْجَهْلِ مَتَى إِذَا نَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلًا عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ، أَوْ إِذَا لَمْ يَنْصِبْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا عَرَفَ دَلِيلَ النَّسْخِ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَغَرَضُهُ تَقْلِيدُ الْمُجْتَهِدِ الْعَارِفِ بِدَلِيلِ النَّسْخِ. ثُمَّ وَإِنْ كَانَ كَمَا ذَكَرُوهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا عَلَى فَاسِدِ أَصْلِ مَنْ يَقُولُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. (1) وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَيْسَ فِي بَقَاءِ التِّلَاوَةِ فَائِدَةٌ بَعْدَ نَسْخِ الْحُكْمِ أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. (2) . وَإِنَّ سَلَّمْنَا ذَلِكَ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي تَعَالَى قَدْ عَلِمَ فِي ذَلِكَ حِكْمَةً اسْتَأْثَرَ بِهَا، وَنَحْنُ لَا نَشْعُرُ بِذَلِكَ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْآيَةَ إِذَا نُسِخَتْ عَرَّضَتِ الْمُكَلَّفَ لِاعْتِقَادِ الْجَهْلِ، إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ يَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ فِي الدَّوَامِ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى نَسْخِ التِّلَاوَةِ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ مَا سَبَقَ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ بَقَاءَ التِّلَاوَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ مَعَ نَسْخِ الْحُكْمِ.   (1) 8 انْظُرْ مَسْأَلَةَ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ مَعَ التَّعْلِيقِ عَلَيْهَا فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ. (2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِرَارًا فِي التَّعْلِيقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 [الْمَسْأَلَةُ السابعة مَا يَتَعَلَّقُ بِنَسْخِ الْأَخْبَارِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَسْخِ الْأَخْبَارِ وَالنَّسْخُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِنَسْخِ الْخَبَرِ أَوْ لِمَدْلُولِهِ وَثَمَرَتِهِ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَإِمَّا أَنْ تُنْسَخَ تِلَاوَتُهُ أَوْ تَكْلِيفُنَا بِهِ بِأَنْ نَكُونَ قَدْ كُلِّفْنَا أَنْ نُخْبَرَ بِشَيْءٍ فَيُنْسَخَ عَنَّا التَّكْلِيفُ بِذَلِكَ الْإِخْبَارِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ النَّسْخِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا نُسِخَ تَكْلِيفُ الْإِخْبَارِ بِهِ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ مَدْلُولُهُ، كَالْإِخْبَارِ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُدُوثِ الْعَالَمِ. أَوْ يَتَغَيَّرُ كَالْإِخْبَارِ بِكُفْرِ زَيْدٍ وَإِيمَانِهِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حُكْمٌ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً فِي وَقْتٍ، وَمَفْسَدَةً فِي وَقْتٍ آخَرَ. لَكِنْ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ تَكَلُّفُنَا بِالْإِخْبَارِ عَمَّا لَا يَتَغَيَّرُ، بِتَكْلِيفِنَا بِالْإِخْبَارِ بِنَقِيضِهِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْكَذِبِ قَبِيحٌ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنَ الشَّارِعِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ وَوُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ. وَعَلَى هَذَا، فَلَا مَانِعَ مِنْ نَسْخِ التَّكْلِيفِ بِالْخَبَرِ بِنَقِيضِ الْخَبَرِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ النَّسْخُ لِمَدْلُولِ الْخَبَرِ وَفَائِدَتِهِ، فَذَلِكَ الْمَدْلُولُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَتَغَيَّرُ كَمَدْلُولِ الْخَبَرِ بِوُجُودِ الْإِلَهِ سُبْحَانَهُ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ، أَوْ مِمَّا يَتَغَيَّرُ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَنَسْخُهُ مُحَالٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَدْلُولُهُ مِمَّا يَتَغَيَّرُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَاضِيًا كَالْإِخْبَارِ بِمَا وُجِدَ مِنْ إِيمَانِ زَيْدٍ وَكُفْرِهِ، أَوْ مُسْتَقْبَلًا وَسَوَاءٌ كَانَ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا، أَوْ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي رَفْعِهِ وَنَسْخِهِ. فَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْجُبَّائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى امْتِنَاعِ رَفْعِهِ. وَذَهَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى جَوَازِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْخَبَرِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَمَنَعَهُ فِي الْمَاضِي وَجَوَّزَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ مَاضِيًا كَانَ أَوْ مُسْتَقْبَلًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ كَانَ الْإِخْبَارُ مُتَكَرِّرًا وَالْخَبَرُ عَامٌّ فِيهِ، فَأَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ مُبَيِّنًا لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ، كَمَا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَنَّ نَسْخَ الْخَبَرِ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ كَذِبًا، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا " ثُمَّ قَالَ: " مَا أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا " كَانَ كَذِبًا بِخِلَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا إِمْكَانَ نَسْخِ مَدْلُولِ الْخَبَرِ، لَكِنْ إِذَا كَانَ مَدْلُولُهُ حُكْمًا شَرْعِيًّا تَكْلِيفًا، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ حُكْمُهُ تَكْلِيفًا كَانَ الْخَبَرُ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالْأَمْرُ يَجُوزُ نَسْخُ حُكْمِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: " أَمَرْتُكُمْ وَنَهَيْتُكُمْ وَأَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ " بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُفْضِي إِلَى الْكَذِبِ إِنْ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ النَّاسِخِ عَلَى غَيْرِ مَا أُرِيدُ مِنَ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: (أَهْلَكَ اللَّهُ زَيْدًا) فَإِهْلَاكُهُ إِنَّمَا لَمْ يَدْخُلْهُ النُّسَخُ ; لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ حَتَّى يُمْكِنَ رَفْعُ بَعْضِهِ وَتَبْقِيَةُ الْبَعْضِ، بَلْ إِنَّمَا يَقَعُ دُفْعَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ أَخْبَرَ عَنْ عَدَمِهِ مَعَ اتِّحَادِهِ كَانَ كَذِبًا لِاتِّحَادِ الْمُثْبَتِ وَالْمَنْفِيِّ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ إِنَّ الْخَبَرَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ، أَنَّ صِيغَتَهُ كَصِيغَتِهِ فَهُوَ خِلَافُ الْحَسَنِ (1) وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهُ يُفِيدُ إِيجَابَ الْفِعْلِ كَمَا فِي الْأَمْرِ، فَمُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ هُوَ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ اشْتِرَاكِ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي لَازِمٍ وَاحِدٍ عَامٍّ لَهُمَا - اتِّحَادُهُمَا. وَغَايَتُهُ تَسْلِيمُ نَسْخِ مَدْلُولِ بَعْضِ الْأَخْبَارِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ غَيْرِهِ مَعَ مَا قَدْ بَيَّنَّا.   (1) الْحَسَنُ: الصَّوَابُ الْحِسِّ بِالسِّينِ الْمُشَدَّدَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ مِن السنة بِالْآحَادِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالنَّسْخِ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ ; لِتَسَاوِيهِ فِي الْعِلْمِ بِهِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ، وَذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ نَسْخِ الِاعْتِدَادِ بِالْحَوْلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَنَسْخِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ بِقَوْلِهِ: {أَأَشْفَقْتُمْ} الْآيَةَ. وَنَسْخِ وُجُوبِ ثُبُوتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} وَاتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِالْمُتَوَاتِرَةِ مِنْهَا، وَنَسْخِ الْآحَادِ مِنْهَا بِالْمُتَوَاتِرِ، وَنَسْخِ الْآحَادِ بِالْآحَادِ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ زِيَارَةَ الْقُبُورِ بِنَهْيِهِ عَنْهَا ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، أَلَا فَزُورُوهَا» " (1) وَكَمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ: " «فَإِنْ شَرِبَهَا الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ» " (2) فَنُسِخَ ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حُمِلَ إِلَيْهِ مَنْ شَرِبَهَا الرَّابِعَةَ فَلَمْ يَقْتُلْهُ. وَأَمَّا نَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ مِنْهَا بِالْآحَادِ، فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ عَقْلًا وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ سَمْعًا، فَأَثْبَتَهُ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ وَنَفَاهُ الْبَاقُونَ. وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ لِذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْنَى.   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ. (2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا شَرِبُوا الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا شَرِبُوا فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِذَا شَرِبُوا الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُمْ " قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ثُمَّ نُسِخَ، هَكَذَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ " قَالَ: ثُمَّ أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ قَدْ شَرِبَ فِي الرَّابِعَةِ فَضَرَبَهُ وَلَمْ يَقْتُلْهُ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى قَتْلِهِ، مِنْهُمُ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنْكَرَ الْإِجْمَاعَ عَلَى النَّسْخِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 أَمَّا الْإِجْمَاعُ، فَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا نَدْعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ " (1) وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ ". (2) وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُمَا لَمْ يَعْمَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَحْكُمَا بِهِ عَلَى الْقُرْآنِ، وَمَا ثَبَتَ مِنَ السُّنَّةِ تَوَاتُرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مُشْتَهِرًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ الْآحَادَ ضَعِيفٌ وَالْمُتَوَاتِرَ أَقْوَى مِنْهُ، فَلَا يَقَعُ الْأَضْعَفُ فِي مُقَابَلَةِ الْأَقْوَى. (3) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: عَدَمُ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِيمَا ذُكِرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ قَبُولِهِ لِعَدَمِ حُصُولِ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ. وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ: " لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ " وَقَالَ عَلِيٌّ فِي الْأَعْرَابِيِّ مَا قَالَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِعَدَمِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ مَا بَيَّنَّا مِنْ كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، وَمَعَ مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ جَوَازِ تَخْصِيصِ التَّوَاتُرِ بِالْآحَادِ. (4) وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى فَهُوَ بَاطِلٌ بِالتَّخْصِيصِ عَلَى مَا سَبَقَ.   (1) ثُبُوتُ السُّكْنَى لِلْمَبْتُوتَةِ مِنَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَقَدْ رَأَى عُمَرُ الْحُكْمَ بِهَا لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهَا فِي نَظَرِهِ وَخَالَفَتْهُ فِي ذَلِكَ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ وَغَيْرُهَا وَهِيَ صَاحِبَةُ الْوَاقِعَةِ، وَأَنْكَرَتْ عَلَى عُمَرَ فَهْمَهُ فِي آيَةِ (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) وَآيَةِ (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) ، وَرَأَتْ أَنَّ حَدِيثَ حِرْمَانِ الْمَبْتُوتَةِ مِنْ حَقِّ السُّكْنَى لَا يُعَارِضُ الْآيَةَ فَلَا نَسْخَ. انْظُرْ ص 79 ج2. (2) قِيلَ: إِنَّ مَا رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ مِنْ رَدِّ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيِّ فِي الْمُفَوَّضَةِ لَمْ يَثْبُتْ. (3) انْظُرْ جَوَابَهُ الثَّالِثَ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى فِي مَسْأَلَةِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَالتَّعْلِيقَ ص 151 ج3. (4) تَخْصِيصُ التَّوَاتُرِ بِالْآحَادِ، الصَّوَابُ تَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 كَيْفَ وَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ آحَادًا إِلَّا أَنَّهُ أَقْوَى مِنَ الْمُتَوَاتِرِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَاصًّا وَالْمُتَوَاتِرُ عَامًا. وَالظَّنُّ الْحَاصِلُ مِنَ الْخَاصِّ إِذَا كَانَ آحَادًا أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنَ الْعَامِّ الْمُتَوَاتِرِ ; لِأَنَّ تَطَرُّقَ الضَّعْفِ إِلَى الْوَاحِدِ مِنْ جِهَةِ كَذِبِهِ وَاحْتِمَالِ غَلَطِهِ، وَتَطَرُّقَ الضَّعْفِ إِلَى الْعَامِ مِنْ جِهَةِ تَخْصِيصِهِ وَاحْتِمَالِ إِرَادَةِ بَعْضِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ دُونَ الْبَعْضِ وَاحْتِمَالِ تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ إِلَى الْعَامِّ - أَكْثَرُ مِنْ تَطَرُّقِ الْخَطَأِ وَالْكَذِبِ إِلَى الْعَدْلِ، فَكَانَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَقْوَى. وَأَمَّا الْمُثْبِتُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِالنَّقْلِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا النَّقْلُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ وُجُوبَ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ كَانُوا يُصَلُّونَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِنَاءً عَلَى السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَلَمَّا نُسِخَ «جَاءَهُمْ مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمْ: (إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ» ) (1) فَاسْتَدَارُوا بِخَبَرِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ. الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِذُ الْآحَادَ إِلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ لِتَبْلِيغِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَلَوْلَا قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ لَمَا كَانَ قَبُولُهُ وَاجِبًا. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّسْخَ أَحَدُ الْبَيَانَيْنِ فَكَانَ جَائِزًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَالتَّخْصِيصِ. الثَّانِي: أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ جَائِزٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَنَسْخُ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِهِ أَوْلَى. (2)   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَنَزَلَتْ (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ رُكُوعٌ فِي صَلَاةِ الْفَجْرَ وَقَدْ صَلَّوْا رَكْعَةً فَنَادَى أَلَا إِنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَمَالُوا كَمَا هُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ. (2) هَذِهِ الْقَاعِدَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ لِلنَّظَرِ فِيهَا مَجَالٌ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتْ مَوْضِعَ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ كَأَمْثَالِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنَّ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَنْ يَسْتَدِلُّ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ وَالْمَوْضُوعَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا قِصَّةُ أَهْلِ قُبَاءٍ فَمِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ مِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ بِهِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَنَ بِقَوْلِهِ قَرَائِنُ أَوْجَبَتِ الْعِلْمَ بِصِدْقِهِ مِنْ قُرْبِهِمْ مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَمَاعِهِمْ لِضَجَّةِ الْخَلْقِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ نَازِلًا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ. (1) وَأَمَّا تَنْفِيذُ الْآحَادِ لِلتَّبْلِيغِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَمَا لَا فَلَا. (2) وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى قِيَاسِ النَّسْخِ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَهُوَ إِنَّمَا يُفِيدُ فِي الْأُمُورِ الظَّنِّيَّةِ فَلِمَ قَالُوا: إِنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. (3) كَيْفَ وَالْفَرْقُ حَاصِلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعٌ لِمَا ثَبَتَ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا سَبَقَ مَعْرِفَتُهُ (4) فَلِمَ قَالُوا: بِأَنَّهُ إِذَا قُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا لَا يَقْتَضِي الرَّفْعَ لِمَا ثَبَتَ؛ يُقْبَلُ فِي رَفْعِ مَا ثَبَتَ. وَأَمَّا الْمَعْنَى الثَّانِي: فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا يَأْتِي.   (1) حَدِيثُ تَحَوُّلِ الصَّحَابَةِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ إِلَى الْكَعْبَةِ ظَاهِرٌ فِي إِضَافَةِ تَحَوُّلِهِمْ إِلَى خَبَرِ الْمُنَادِي فَلَا يُعْدَلُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى الْإِضَافَةِ لِلْقَرَائِنِ إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُهَا. (2) ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنْفِذُ الْآحَادَ لِتَبْلِيغِ أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَتَحْفِيظِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَعْمُولٌ بِهِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الدِّينِ. (3) تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ ظَنِّيَّةٌ بَلْ فِيهَا مَا خَرَجَ مِنْهُ الْمُؤَلِّفُ بِالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ، وَإِذًا فَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ مَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِمَا يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ. (4) قَدْ يُقَالُ: إِنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ لِأَمَدِ انْتِهَاءِ الْحُكْمِ وَتَعْرِيفٌ بِمُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ خِطَابِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْ إِطْلَاقِ خِطَابِهِ الْأَوَّلِ الِاسْتِمْرَارَ فَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْحُكْمِ بِبَعْضِ الْأَزْمَانِ، انْظُرْ قَوْلَهُ فِي ص 122 ج 3: " فَإِنَّا وَإِنْ أَطْلَقْنَا لَفْظَةَ الرَّفْعِ فِي النَّسْخِ إِنَّمَا نُرِيدُ بِهِ امْتِنَاعَ اسْتِمْرَارِ الْمَنْسُوخِ. . . إِلَخْ " - وَقَوْلَهُ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ: " بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَلَالَةِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُرِدْ بِخِطَابِهِ الْأَوَّلِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي وَقْتِ النَّسْخِ " لِتَعْرِفَ طَرِيقَتَهُ الْجَدَلِيَّةَ فِي نِقَاشِهِ وَدِفَاعِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 [الْمَسْأَلَةُ الثَّاسعة نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ الْمَنْقُولُ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ جَوَازُهُ عَقْلًا وَوُقُوعُهُ شَرْعًا. احْتَجَّ الْمُثْبِتُونَ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ وَالْوُقُوعِ الشَّرْعِيِّ. أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ: فَهُوَ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} غَيْرَ أَنَّ الْكِتَابَ مَتْلُوٌّ، وَالسُّنَّةَ غَيْرُ مَتْلُوَّةٍ، وَنَسْخُ حُكْمِ أَحَدِ الْوَحْيَيْنِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا، وَلِهَذَا فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا خِطَابَ الشَّارِعِ بِجَعْلِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ لَمَا لَزِمَ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا. وَأَمَّا الْوُقُوعُ الشَّرْعِيُّ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ أُمُورٌ: الْأَوَّلُ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَهُ مُسْلِمًا رَدَّهُ حَتَّى إِنَّهُ رَدَّ أَبَا جَنْدَلٍ وَجَمَاعَةً مِنَ الرِّجَالِ فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} » ) وَهَذَا قُرْآنٌ نَسَخَ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِنَ السُّنَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يُعْرَفْ إِلَّا مِنَ السُّنَّةِ (1) وَقَدْ نُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ التَّوَجُّهَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كَانَ مَعْلُومًا بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ; لِأَنَّ قَوْلَهُ {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقُدْسِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْجِهَاتِ، وَالْمَنْسُوخُ إِنَّمَا هُوَ وُجُوبُ التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ عَيْنًا، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنَ الْقُرْآنِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبَاشَرَةَ فِي اللَّيْلِ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى الصَّائِمِ بِالسُّنَّةِ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} . الرَّابِعُ: أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا بِالسُّنَّةِ، وَنُسِخَ بِصَوْمِ رَمَضَانَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . الْخَامِسُ: أَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إِلَى انْجِلَاءِ الْقِتَالِ كَانَ جَائِزًا بِالسُّنَّةِ، وَلِهَذَا «قَالَ   (1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 149 ج3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَقَدْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ: " حَشَا اللَّهُ قُبُورَهُمْ نَارًا» " ; لِحَبْسِهِمْ لَهُ عَنِ الصَّلَاةِ (1) ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ الْجَوَازُ بِصَلَاةِ الْخَوْفِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ صُوَرِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْتُمُوهُ ثَابِتًا بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ؟ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ النَّسْخُ وَقَعَ بِالسُّنَّةِ، وَدَلَالَةُ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى أَحْكَامِهَا لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ ارْتِفَاعِ الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ بِالسُّنَّةِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَأَحْكَامِ التَّنْزِيلِ، وَقَدْ أَنْكَرَ نَسْخَ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لَمَا كَانَ إِنْكَارُهُ صَحِيحًا، ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى نَسْخِ السُّنَّةِ غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} جَعَلَ السُّنَّةَ بَيَانًا فَلَوْ نُسِخَتْ لَخَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا بَيَانًا، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ نُسِخَتِ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ لَزِمَ تَنْفِيرُ النَّاسِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ طَاعَتِهِ ; لِإِيهَامِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَرْضَ مَا سَنَّهُ الرَّسُولُ، وَذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِمَقْصُودِ الْبَعْثَةِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . الثَّانِي: أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةٌ وَمَتْلُوٌّ وَمُحَرَّمٌ تِلَاوَتُهُ عَلَى الْجُنُبِ وَلَا كَذَلِكَ السُّنَّةُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ مِنْ جِنْسِ السُّنَّةِ امْتَنَعَ نَسْخُهُ لَهَا كَمَا يَمْتَنِعُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِحُكْمِ دَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِالْعَكْسِ.   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: حُبِسْنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهُوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ كُفِينَا، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: " (وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) "، قَالَ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا فَأَقَامَ الظَّهْرَ فَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا ثُمَّ أَمَرَهُ فَأَقَامَ الْعَصْرَ وَصَلَّاهَا فَأَحْسَنَ صَلَاتَهَا كَمَا كَانَ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا، ثُمَّ أَقَامَ الْمَغْرِبَ فَصَلَّاهَا كَذَلِكَ، قَالَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ إِسْنَادَ إِثْبَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَنْسُوخَةِ إِلَى مَا وُجِدَ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِهَا، وَقَدِ اقْتَرَنَ بِهَا الْإِثْبَاتُ فَكَانَ الْإِثْبَاتُ مُسْتَنِدًا إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي إِسْنَادِ نَسْخِهَا إِلَى مَا وُجِدَ مِنَ الْآيَاتِ الصَّالِحَةِ لِلنَّسْخِ مِنْ تَرَتُّبِ النَّسْخِ عَلَيْهَا، فَبِتَقْدِيرِ (1) وُجُودِ خِطَابٍ آخَرَ يَكُونُ إِسْنَادُ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ إِلَيْهِ بِتَقْدِيرِ نَسْخِهِ. وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ وُجُودِ سُنَّةٍ نَاسِخَةٍ لَهَا مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، وَإِمْكَانُ إِسْنَادِ نَسْخِهَا إِلَى مَا وُجِدَ مِنَ الْآيَاتِ الصَّالِحَةِ لِنَسْخِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ يَكُونُ مُمْتَنِعًا. وَلَوْ فُتِحَ هَذَا الْبَابُ لَمَا اسْتَقَرَّ لِأَحَدٍ قَدَمٌ فِي إِثْبَاتِ نَاسِخٍ وَلَا مَنْسُوخٍ ; لِأَنَّ مَا مِنْ نَاسِخٍ يُقَدَّرُ إِلَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ غَيْرُهُ، وَمَا مِنْ مَنْسُوخٍ حُكْمُهُ يُقَدَّرُ إِلَّا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ ذَلِكَ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْحُكْمِ عَلَى كَوْنِ مَا وُجِدَ مِنَ الْخِطَابِ الصَّالِحِ لِنَسْخِ الْحُكْمِ هُوَ النَّاسِخُ، وَأَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الدَّلِيلِ الصَّالِحِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ هُوَ الْمُثْبِتُ، وَإِنِ احْتَمَلَ إِضَافَةَ الْحُكْمِ وَالنَّسْخَ إِلَى غَيْرِ مَا ظَهَرَ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ عَنْهُ، وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ بِالنَّصِّ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} إِنَّمَا هُوَ التَّبْلِيغُ، وَذَلِكَ يَعُمُّ تَبْلِيغَ النَّاسِ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِ الْقُرْآنِ نَاسِخًا لِلسُّنَّةِ. الثَّانِي: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ " {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} " إِنَّمَا هُوَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ وَالْعَامِّ وَالْمُطْلَقِ وَالْمَنْسُوخِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى انْحِصَارِ مَا يَنْطِقُ بِهِ فِي الْبَيَانِ، بَلْ جَازَ مَعَ كَوْنِهِ مُبَيِّنًا أَنْ يَنْطِقَ بِغَيْرِ الْبَيَانِ، وَيَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى بَيَانٍ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَتِ السُّنَّةُ مِنْ عِنْدِ الرَّسُولِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إِنَّمَا هِيَ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} . الثَّانِي: أَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ مَا شَرَعَهُ أَوَّلًا غَيْرُ مَرْضِيٍّ لَامْتَنَعَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْقَائِلِينَ بِالنَّسْخِ.   (1) فَبِتَقْدِيرِ: فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: فَتَقْدِيرُ. . . . إِلَخْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 الثَّالِثُ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ أَوَّلًا غَيْرُ مَرْضِيٍّ أَنْ لَوْ كَانَ النَّسْخُ رَفَعَ مَا ثَبَتَ أَوَّلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ دَلَالَةِ الْخِطَابِ عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَرِدْ بِخِطَابِهِ الْأَوَّلِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي وَقْتِ النَّسْخِ دُونَ مَا قَبْلَهُ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ اخْتِلَافِ جِنْسِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوَحْيِ بِمَا اخْتَصَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - امْتِنَاعُ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا فَنَقُولُ: الْقُرْآنُ يَكُونُ رَافِعًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ نَاسِخًا. [الْمَسْأَلَةُ العاشرة نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ قَطَعَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الظَّاهِرِ بِامْتِنَاعِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ. وَأَجَازَ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنُ سُرَيْجٍ، وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي الْوُقُوعِ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ عَقْلًا ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِهِ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ - نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ". (1) قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ النَّاسِخَ لِلْوَصِيَّةِ آيَةُ الْمِيرَاثِ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ مُمْكِنٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمِيرَاثَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجَانِبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا فِيهِ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ الْقُرْآنِ الْمُتَوَاتِرِ بِخَبَرِ الْآحَادِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا يَأْتِي (2) ، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمِيرَاثِ مَانِعًا مِنَ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْوَصِيَّةِ لِغَيْرِ الْوَارِثِ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ جَلْدَ الزَّانِي الثَّابِتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} نُسِخَ بِالرَّجْمِ الثَّابِتِ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لِمَا فِيهِ مِنْ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِآحَادِ السُّنَّةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا يَأْتِي (3) ، وَفِي حَقِّ الشَّيْخِ وَالشَّيْخَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَمْكَنَ   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ: " إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ "، وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا الْخَمْسَةُ إِلَّا النَّسَائِيَّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ (2) سَيَأْتِي أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ (3) سَيَأْتِي أَيْضًا الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيقًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نَسْخَ الْجَلْدِ بِالرَّجْمِ إِنَّمَا كَانَ بِقُرْآنٍ نُسِخَ رَسْمُهُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ) (1) وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (لَوْلَا أَنَّنِي أَخْشَى أَنْ يُقَالَ زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ لَكَتَبْتُ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا " عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ; لِأَنَّا نَقُولُ: غَايَةُ قَوْلِ عُمَرَ الدَّلَالَةُ عَلَى إِخْرَاجِ ذَلِكَ عَنِ الْمُصْحَفِ وَالْقُرْآنِ لِنَسْخِ تِلَاوَتِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا، فَإِنْ قِيلَ: (الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ) لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ، بَلْ بِقَوْلِ عُمَرَ وَنَسْخُ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا يَأْتِي، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قُرْآنًا أَوْ سُنَّةً.   (1) يَتَلَخَّصُ الْكَلَامُ عَلَى رَجْمِ الْمُحْصَنِ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: نَقْلُهُ عَمَلِيًّا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا، فَلَمْ يَخْلُ عَهْدٌ مِنْ إِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا جَلْدًا لِلْبِكْرِ وَرَجْمًا لِلثَّيِّبِ، وَنَقْلُهُ أَيْضًا بِالْقَوْلِ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَوَاتِرًا، وَكُلٌّ مِنَ النَّقْلَيْنِ يُفِيدُ وَحْدَهُ الْعِلْمَ بِثُبُوتِ حَدِّ الرَّجْمِ وَبِاجْتِمَاعِهِمَا يَتَأَكَّدُ الْعِلْمُ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَلَا مَدْخَلَ بَعْدَ هَذَا لِشُبْهَةٍ وَلَا مَوْضِعَ لِرِيبَةٍ. الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ مِمَّا نَزَلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ قَرَأَهَا الصَّحَابَةُ وَحَفِظُوهَا وَعَمِلَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ وَالصَّحَابَةُ بَعْدَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ فِي خُطْبَةٍ طَوِيلَةٍ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ - آيَةُ الرَّجْمِ، قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ. الْحَدِيثَ، إِلَّا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ لَمْ تَذْكُرْ نَصَّ الْآيَةِ وَلَمْ تُعَيِّنْ مَوْضِعَهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ ذَكَرَهَا النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ: " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ " وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ أَنَّهَا مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ. الثَّالِثُ: قَوْلُ عُمَرَ: وَلَوْلَا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ أَوْ يَتَكَلَّمَ مُتَكَلِّمٌ أَنَّ عُمَرَ زَادَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؛ لَأَثْبَتُّهَا كَمَا نَزَلَتْ "، وَهَذِهِ الْمَقَالَةُ فِيهَا نَظَرٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: الْأُولَى: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ لِيَمْنَعُهُ قَوْلُ النَّاسِ أَوِ الْخَوْفُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنْ يَكْتُبَ فِي الْقُرْآنِ مَا هُوَ مِنْهُ فِي عَقِيدَتِهِ، وَقَدْ عُرِفَ بِالصَّرَاحَةِ فِي الْقَوْلِ وَالصَّلَابَةِ فِي الْحَقِّ، لَا يَخْشَى فِي ذَلِكَ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَلَوْ كَانَ مُعْتَذِرًا فِي ذَلِكَ لَاعْتَذَرَ بِمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا وَبَقِيَ حُكْمُهَا. الثَّانِيَةُ: أَنَّ فِي أَسَانِيدِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ ضَعْفًا، فَفِي أَحَدِ أَسَانِيدِهَا عِنْدَ أَحْمَدَ - هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ السُّلَمِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهُشَيْمٌ كَثِيرُ التَّدْلِيسِ، وَقَدْ عَنْعَنَ وَهُوَ لَيِّنٌ فِي الزُّهْرِيِّ، وَفِي سَنَدٍ آخَرَ عِنْدَهُ: هُشَيْمٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ. وَعَلَيٌّ ضَعِيفٌ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ رِيبَةٌ وَفَتْحٌ لِبَابِ الظِّنَّةِ فِي الصَّحَابَةِ وَالْقُرْآنِ، فَيَجِبُ أَنْ تُبْحَثَ وَتُحَقَّقَ كَمَا يَنْبَغِي وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 قُلْنَا: وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ رَجْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزَّانِي لَمْ يَثْبُتْ بِالتَّوَاتُرِ بَلْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى الرَّجْمِ وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ بِنَاسِخٍ، بَلْ هُوَ دَلِيلُ وُجُودِ النَّاسِخِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَيْسَ إِحَالَتُهُ عَلَى سُنَّةٍ مُتَوَاتِرَةٍ لَمْ تَظْهَرْ لَنَا أَوْلَى مِنْ إِحَالَتِهِ عَلَى قُرْآنٍ مُتَوَاتِرٍ لَمْ يَظْهَرْ لَنَا تَوَاتُرُهُ بِسَبَبِ نَسْخِ تِلَاوَتِهِ. (1) وَأَمَّا النَّافُونَ لِذَلِكَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِحُجَجٍ نَقْلِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ: أَمَّا النَّقْلِيَّةُ فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وَصَفَ نَبِيَّهُ بِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا وَالنَّاسِخُ رَافِعٌ، وَالرَّافِعُ غَيْرُ الْبَيَانِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} أَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يُبَدِّلُ الْآيَةَ بِالْآيَةِ لَا بِالسُّنَّةِ.   (1) الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ فِي إِجْمَاعِهَا عَلَيْهِ إِلَى نَقْلِهِ عَمَلِيًّا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا فِي الدُّوَلِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْحُدُودُ، وَإِلَى نَقْلِهِ بِالْقَوْلِ نَقْلًا صَحِيحًا إِنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ التَّوَاتُرِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفِيضًا اسْتِفَاضَةً يُفِيدُ مَعَهَا الْعِلْمَ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ وَعَدَالَةِ رُوَاتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ تَبْدِيلِ الْآيَةِ مَكَانَ آيَةٍ قَالُوا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَهْمَهُمْ بِقَوْلِهِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّبْدِيلَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ. الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَا تُنْسَخُ إِلَّا بِآيَةٍ. وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلَهُ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ الَّذِي يَأْتِي بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَالنَّاسِخُ قُرْآنٌ لَا سُنَّةٌ. الثَّالِثُ: وَصْفُ الْبَدَلِ بِأَنَّهُ خَيْرٌ أَوْ مِثْلٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَدَلَ مِنْ جِنْسِ الْمُبْدَلِ، أَمَّا الْمَثَلُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا مَا هُوَ خَيْرٌ ; فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: (لَا آخُذُ مِنْكَ دِرْهَمًا إِلَّا وَآتِيكَ بِخَيْرٍ مِنْهُ) فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ يَأْتِيهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٍ مِنَ الْأَوَّلِ. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} دَلَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْقُرْآنُ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا وَجَبَ اتِّبَاعُهَا بِالْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} ، وَقَوْلِهِ (فَاتَّبِعُوهُ) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ فَرْعُ الْقُرْآنِ، وَالْفَرْعُ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ، كَمَا لَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ بِالْفَرْعِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ. الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ أَقْوَى مِنَ السُّنَّةِ، وَدَلِيلُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: «قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ: بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» ، قَدَّمَهُ فِي الْعَمَلِ بِهِ عَلَى السُّنَّةِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَذَلِكَ دَلِيلُ قُوَّتِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ ; لِأَنَّهُ مُعْجِزٌ وَالسُّنَّةُ لَيْسَتْ مُعْجِزَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 الثَّالِثُ: أَنَّهُ أَقْوَى مِنْ حُكْمِهِ حَيْثُ اعْتُبِرَتِ الطَّهَارَةُ فِي تِلَاوَتِهِ عَنِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ، وَفَى مَسِّ مَسْطُورِهِ مُطْلَقًا، وَالْأَقْوَى لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ بِالْأَضْعَفِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} عَلَى مَعْنَى لِتُظْهِرَ لِلنَّاسِ ; لِكَوْنِهِ أَعَمَّ مِنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْعُمُومِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ إِظْهَارَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الْمَنْسُوخِ، وَإِظْهَارُ الْمَنْسُوخِ أَعَمُّ مِنْ إِظْهَارِهِ بِالْقُرْآنِ. الثَّانِي: أَنَّ نَسْخَ حُكْمِ الْآيَةِ بَيَانٌ لَهَا فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} وَتَبَيُّنُ الْقُرْآنِ أَعَمُّ مِنْ تَبْيِينِهِ بِالْقُرْآنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّسْخُ بَيَانًا؛ غَيْرَ أَنَّ وَصْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَوْنِهِ مُبَيِّنًا لَا يُخْرِجُهُ عَنِ اتِّصَافِهِ بِكَوْنِهِ نَاسِخًا. وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي تَبْدِيلِ رَسْمِ آيَةٍ بِآيَةٍ، النِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي تَبْدِيلِ حُكْمِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَبْدِيلِ حُكْمِهَا بِآيَةٍ أُخْرَى. الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ إِذَا بَدَّلَ آيَةً مَكَانَ آيَةٍ قَالُوا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَ الْآيَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِآيَةٍ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: (إِذَا أَكَلْتَ فِي السُّوقِ سَقَطَتْ عَدَالَتُكَ) فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ إِلَّا فِي السُّوقِ. وَعَنْ قَوْلِهِ: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ} أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا رُوحُ الْقُدُسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; إِذِ السُّنَّةُ مِنَ الْوَحْيِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُتْلَى عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَعَنِ الْآيَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} أَيْ فِي تَبْدِيلِ آيَةٍ مَكَانَ آيَةٍ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ تَبْدِيلِ حُكْمِ الْآيَةِ بِغَيْرِ الْآيَةِ. الثَّانِي: أَنَّ النَّسْخَ وَإِنْ كَانَ بِالسُّنَّةِ فَهِيَ مِنَ الْوَحْيِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَلَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيْهِ بِهِ. وَعَنِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَتَهَا عَلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ بِغَيْرِ الْآيَةِ. قَوْلُهُمْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: إِنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ خَيْرًا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَا مِثْلَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 قُلْنَا قَوْلُهُ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ نَسْخُ رَسْمِهَا أَوْ نَسْخُ حُكْمِهَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَإِنَّهُ وَصَفَ الْبَدَلَ بِكَوْنِهِ خَيْرًا مِنْهَا، وَالْقُرْآنُ خَيْرٌ كُلُّهُ وَلَا يُفَضَّلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ (1) ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ النَّاسِخَ يَكُونُ خَيْرًا مِنَ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ أَوْ مِثْلَهُ. وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ النَّاسِخُ أَصْلَحَ فِي التَّكْلِيفِ وَأَنْفَعَ لِلْمُكَلَّفِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِأَنَّ السُّنَّةَ إِذَا كَانَتْ نَاسِخَةً فَالْآتِي بِمَا هُوَ خَيْرٌ، إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالرَّسُولُ مَبْلَغٌ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّاسِخَ لَا يَكُونُ إِلَّا قُرْآنًا بَلِ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ خَيْرٌ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى لُزُومِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ الْآيَةِ الْمَنْسُوخِ حُكْمُهَا وَبَيْنَ نَاسِخِهِ ; لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ خَيْرًا، وَالْقُرْآنُ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ وَالْمُمَاثَلَةَ إِنَّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَالْحُكْمِ النَّاسِخِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَعَلَى هَذَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهُ: " مَا آخُذُ مِنْكَ دِرْهُمًا إِلَّا وَآتِيكَ بِخَيْرٍ مِنْهُ " أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُجَانَسَةِ فَإِنَّ مَا هُوَ خَيْرٌ أَعَمُّ مِنَ الْجِنْسِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: " آتِيكَ بِشَيْءٍ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا أَخَذْتُ مِنْكَ " وَالْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْآيَةُ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ " بِخَيْرٍ مِنْهَا " وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إِلَيْهَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُجَانَسَةُ بَيْنَ الْمُضْمَرِ وَالْمُظْهَرِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فَنَحْنُ قَائِلُونَ بِمُوجِبِهِ، فَإِنَّ الْمُتَمَكِّنَ مِنْ إِزَالَةِ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي نَسْخِ كُلِّ آيَةٍ مِنَ الْإِتْيَانِ بِآيَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْهَا أَوْ مِثْلُهَا ضَرُورَةَ الْإِخْبَارِ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الْمَأْتِيَّ بِهَا هِيَ النَّاسِخَةُ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ النَّاسِخُ غَيْرَهَا.   (1) الْخَيْرِيَّةُ قَدْ تَكُونُ فِي الثَّوَابِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي تَأَثُّرِ التَّالِينَ وَالسَّامِعِينَ، وَقَدْ تَكُونُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَاتُ مِنَ الْأَحْكَامِ أُصُولًا وَفُرُوعًا ضَرُورِيَّاتٍ وَمُكَمِّلَاتٍ، وَقَدْ تَكُونُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ وَأَطْوَارِهِمْ فَيَكُونُ حُكْمٌ فِي حَالٍ وَظُرُوفٍ أَصْلَحَ وَأَنْفَعَ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، انْظُرْ مَا كَتَبَهُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ عَلَى الْآيَةِ فِي كِتَابِهِ " جَوَابُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 الثَّالِثُ: أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ نَسْخَ رَسْمِ الْآيَةِ، وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى نَسْخِ الْحُكْمِ صَرْفُهُ إِلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ لَا فِي نَسْخِ الرَّسْمِ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَوْ كَانَتِ السُّنَّةُ رَافِعَةً لِمَا هِيَ فَرْعٌ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَا هِيَ فَرْعٌ عَلَيْهِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ بِهَا وَمَا هُوَ مَرْفُوعٌ بِهَا لَيْسَتْ فَرْعًا عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِمَا يَأْتِي بِهِ الرَّسُولُ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، فَإِذَا أَتَى بِنَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ وَلَمْ يُتَّبَعْ كَانَ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرُوهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ السُّنَّةَ لَيْسَتْ رَافِعَةً لِلْقُرْآنِ وَإِنَّمَا هِيَ رَافِعَةٌ لِحُكْمِهِ، وَحُكْمُهُ لَيْسَ أَصْلًا لَهَا، فَإِذًا الْمُرْتَفِعُ لَيْسَ هُوَ الْأَصْلُ وَمَا هُوَ الْأَصْلُ غَيْرُ مُرْتَفِعٍ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْقُرْآنَ وَإِنْ كَانَ مُعْجِزًا فِي نَظْمِهِ وَبَلَاغَتِهِ وَمَتْلُوًّا وَمُحْتَرَمًا فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ عَامٌّ مِنَ الْكِتَابِ وَخَاصٌّ مِنَ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَانَتِ السُّنَّةُ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَوْ تَعَارَضَتْ آيَةٌ وَدَلِيلٌ عَقْلِيٌّ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ يَكُونُ حَاكِمًا عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ وَكَثِيرٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي التَّرْجِيحَاتِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ رَفْعُ حُكْمِ الْآيَةِ بِدَلِيلِ السُّنَّةِ. كَيْفَ وَإِنَّ السُّنَّةَ النَّاسِخَةَ لَيْسَتْ مُعَارِضَةً وَلَا نَافِيَةً لِمُقْتَضَى الْآيَةِ، بَلْ مُبَيِّنَةٌ وَمُخَصِّصَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ. (1)   (1) انْظُرْ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي الْجَوَابِ الثَّالِثِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 [الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ نَسْخِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ، فَنَفَاهُ الْأَكْثَرُونَ وَأَثْبَتَهُ الْأَقَلُّونَ. وَالْمُخْتَارُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ مَا وُجِدَ مِنَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْقِرَاضِ زَمَنِ الْوَحْيِ لَوْ نُسِخَ حُكْمُهُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَصٍّ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ بِإِجْمَاعٍ آخَرَ أَوْ قِيَاسٍ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بِنَصٍّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ النَّصَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابِقًا عَلَى هَذَا الْإِجْمَاعِ لِاسْتِحَالَةِ حُدُوثِ نَصٍّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ النَّصُّ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِجْمَاعِ لَكَانَ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَاهُ خَطَأً، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ مِنَ الْأُمَّةِ. وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بِإِجْمَاعٍ آخَرَ ; لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِيَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ رَافِعٍ لِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ أَوْ لَا بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَبْنِيًّا عَلَى دَلِيلٍ كَانَ خَطَأً وَالْأُمَّةُ مَصُونَةٌ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ، فَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا. لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَصًّا ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِجْمَاعَيْنِ مُتَحَقِّقًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ - الْخَطَأُ فِي الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ، وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ مُتَجَدِّدٍ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ أَوْ سَابِقٍ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ مُتَجَدِّدٍ فَهُوَ إِمَّا إِجْمَاعٌ أَوْ قِيَاسٌ لِاسْتِحَالَةِ تَجَدُّدِ النَّصِّ، فَإِنْ كَانَ إِجْمَاعًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، فَإِنْ كَانَ قِيَاسًا عَلَى أَصْلٍ آخَرَ فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلْسَلَ أَوْ يَنْتَهِيَ إِلَى أَصْلٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ، وَالتَّسَلْسُلُ مُحَالٌ، وَالثَّانِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ النَّصُّ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ سَابِقًا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَصِحَّةُ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ مَشْرُوطَةٌ بِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ عَلَى مُنَاقَضَتِهِ، وَنَسْخُ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ بِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِحَّتِهِ، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ. هَذَا كُلُّهُ إِنْ كَانَ دَلِيلُ أَصْلِ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ مُتَجَدِّدًا، وَإِنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ فَعُدُولُ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ إِجْمَاعُهُمْ خَطَأً وَهُوَ مُحَالٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وَأَمَّا إِنْ كَانَ النَّاسِخُ لِحُكْمِ الْإِجْمَاعِ الْأَوَّلِ هُوَ الْقِيَاسُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى أَصْلٍ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ، وَالْكَلَامُ فِي نَسْخِ النَّصِّ بِهِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الْمُقَلِّدَ لَهُ الْأَخْذُ بِأَيِّ الْقَوْلَيْنِ شَاءَ، وَلَوْ أَجْمَعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَقَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى حَصْرِ (1) مَا أَجْمَعَتْ أَوَّلًا عَلَى تَجْوِيزِهِ، وَهُوَ نَسْخُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ. قُلْنَا: نَحْنُ لَا نُسَلِّمُ تَصَوُّرَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَعِيسَى بْنِ أَبَانَ. (2) وَدَلِيلُ الِامْتِنَاعِ أَنَّ الْمَنْسُوخَ بِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمَ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ. الْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ أَوْ لَيْسَ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ فَهُوَ خَطَأٌ. وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ فَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا لِمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ، وَإِنْ كَانَ نَصًّا فَالنَّاسِخُ ذَلِكَ النَّصُّ لَا الْإِجْمَاعُ. وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْإِجْمَاعَ نَاسِخٌ فَلَيْسَ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى النَّاسِخِ وَإِنْ كَانَ نَاسِخًا لِحُكْمِ إِجْمَاعٍ سَابِقٍ، فَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَ نَاسِخًا لِحُكْمِ قِيَاسٍ فَالْقِيَاسُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أَوْ لَا يَكُونُ صَحِيحًا، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَاهُ، إِنْ كَانَ لَا لِدَلِيلٍ فَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنْ كَانَ لِدَلِيلٍ فَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا، فَإِنْ كَانَ نَصًّا فَالرَّافِعُ لِحُكْمِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ هُوَ النَّصُّ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا، فَإِنْ كَانَ رَاجِحًا فَالْأَوَّلُ لَا يَكُونُ مُقْتَضَاهُ ثَابِتًا ; لِأَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ رُجْحَانُ مُقْتَضِيهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُسَاوِيًا، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ الْأَوَّلُ رَاجِحًا فَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْقِيَاسِ الثَّانِي خَطَأٌ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.   (1) حَصْرِ: الصَّوَابُ حَظْرِ بِالظَّاءِ (2) هُوَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ بْنِ صَدَقَةَ أَبُو مُوسَى الْكُوفِيُّ الْحَنَفِيُّ الْقَاضِي مَاتَ عَامَ 221 هـ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَعَارَضٌ بِالنَّقْلِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا النَّقْلُ: فَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ حِينَ قَالَ لِعُثْمَانَ: كَيْفَ تُحْجَبُ الْأُمُّ عَنِ الثُّلُثِ بِالْأَخَوَيْنِ وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} وَالْأَخَوَانِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ؟ قَالَ عُثْمَانُ: حَجَبَهَا قَوْمُكَ يَا غُلَامُ. (1) وَذَلِكَ دَلِيلُ النَّسْخِ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ دَلِيلٌ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْقَطْعِيَّةِ فَجَازَ النَّسْخُ بِهِ كَالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ. قُلْنَا: أَمَّا قِصَّةُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ عُثْمَانَ إِنَّمَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا أَنْ لَوْ كَانَ حُكْمُ الْأُمِّ مَعَ الْأَخَوَيْنِ مَنْسُوخًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَخَوَانِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْعُمُومِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَعْنَى فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى إِثْبَاتِ كَوْنِهِ نَاسِخًا بِالْقِيَاسِ عَلَى النَّصِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمِ الصِّحَّةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا غَيْرَ أَنَّهُ مِمَّا يَمْتَنِعُ التَّمَسُّكُ بِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ.   (1) مُنَاظَرَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي رَدِّ الْأُمِّ لِلسُّدُسِ بِالْأَخَوَيْنِ خَرَّجَهَا الْحَاكِمُ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِآيَاتِ الْمَوَارِيثِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَقَالَ: إِنَّ الْأَخَوَيْنِ لَا يَرُدَّانِ الْأُمَّ عَنِ الثُّلُثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) وَالْأَخَوَانِ لَيْسَا بِلِسَانِ قَوْمِكَ إِخْوَةً، فَقَالَ عُثْمَانُ: لَا أَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَ مَا كَانَ قَبْلِي وَمَضَى فِي الْأَمْصَارِ وَتَوَارَثَ بِهِ النَّاسُ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي صِحَّةِ هَذَا الْأَثَرِ نَظَرٌ فَإِنَّ شُعْبَةَ هَذَا تَكَلَّمَ فِيهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ الْأَخِصَّاءُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ نَسْخِ حُكْمِ الْقِيَاس] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ حُكْمِ الْقِيَاسِ: فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَالْحَنَابِلَةِ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي بَعْضِ أَقْوَالِهِ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ الْقِيَاسَ إِذَا كَانَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ أَصْلٍ، فَالْقِيَاسُ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْأَصْلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ رَفْعُ حُكْمِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، لَكِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقِيَاسِ الْمَوْجُودِ بَعْدَهُ فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْقِيَاسُ مَوْجُودًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ عَلَى أَصْلٍ كَتَنْصِيصِهِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ مُتَفَاضِلًا، وَتَعَبَّدَ النَّاسُ بِقِيَاسِ غَيْرِ الْبُرِّ عَلَى الْبُرِّ بِوَاسِطَةِ الْكَيْلِ مِثْلًا بِأَمَارَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَضَى بِتَحْرِيمِ بَيْعِ الْأُرْزِ بِنَاءً عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى الْبُرِّ فَلَا يَمْتَنِعُ نَسْخُهُ بِالنَّصِّ وَبِالْقِيَاسِ. أَمَّا النَّصُّ: فَبِأَنْ يُنَصَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ الْأُرْزِ وَبِنَسْخِ تَحْرِيمِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَبِأَنْ يُنَصَّ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ وَيُتَعَبَّدُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ مَأْكُولًا بِأَمَارَةٍ هِيَ أَقْوَى مِنَ الْأَمَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ الْبُرِّ هِيَ الْكَيْلُ. وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ مَوْجُودًا بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ قَدِ اجْتَهَدَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فَأَدَّاهُ الْقِيَاسُ إِلَى تَحْرِيمِ شَيْءٍ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْمُعَارِضَةِ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِهَا ثُمَّ اطَّلَعَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ مُتَقَدِّمٍ أَوْ قِيَاسٍ أَرْجَحَ مِنْ قِيَاسِهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ حُكْمِ قِيَاسِهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يُسَمَّى نَسْخًا. قَالَ: وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ حَيْثُ إِنَّهُ تُعُبِّدَ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ ثُمَّ رُفِعَ. وَأَمَّا مَنْ لَا يَقُولُ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ بِتَعَبُّدِهِ بِالْقِيَاسِ الْأَوَّلِ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ مُتَحَقِّقًا، هَذَا جُمْلَةُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً بِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً فَهِيَ فِي مَعْنَى النَّصِّ، وَمَا مِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ فَلْيَكُنْ نُسِخَ حُكْمُهُ بِنَصٍّ أَوْ بِقِيَاسٍ فِي مَعْنَاهُ، وَلَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ ذَاهِبٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى نَاسِخِهِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، فَرَفْعُ حُكْمِهِ فِي حَقِّهِ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى النَّاسِخِ لَا يَكُونُ نَسْخًا مُتَحَدِّدًا بَلْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ مَنْسُوخًا، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ مُسْتَنْبَطَةً بِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَحُكْمُهَا فِي حَقِّهِ غَيْرُ ثَابِتٍ بِالْخِطَابِ، فَرَفْعُهُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ الظَّفَرِ بِدَلِيلٍ يُعَارِضُهُ وَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَسْخًا عَلَى قَوْلِنَا: إِنَّ النَّسْخَ رَفْعُ حُكْمِ خِطَابٍ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ مُشَارِكًا لِلنَّسْخِ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ وَقَطْعِ اسْتِمْرَارِهِ، وَسَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ أَوْ لَمْ نَقُلْ بِذَلِكَ. [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا: الْفَرْقُ بَيْنَ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيِّ (1) مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِي الْقِيَاسِ مَنْصُوصَةً فَهِيَ فِي مَعْنَى النَّصِّ، فَيَصِحُّ النَّسْخُ بِهِ. وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا بِأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةً بِنَظَرِ الْمُجْتَهِدِ. فَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا كَقِيَاسِ الْأَمَةِ عَلَى الْعَبْدِ فِي تَقْوِيمِ النَّصِيبِ عَلَى السَّيِّدِ الْمُعْتِقِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَانِعًا مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمِ دَلِيلٍ آخَرَ كَانَ نَصًّا أَوْ قِيَاسًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِخِطَابٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ خِطَابٍ آخَرَ. وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ ظَنِّيًّا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا ; لِأَنَّ الْمَنْسُوخَ حُكْمُهُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا، الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مُحَالٌ إِنْ كَانَ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ   (1) أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ هُوَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 خَاصًّا لِكَوْنِ النَّصِّ الْخَاصِّ وَالْإِجْمَاعِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقِيَاسِ الظَّنِّيِّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ عَامًا فَلَا نَسْخَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِخِطَابٍ عَلَى مَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ الثَّانِي رَاجِحًا عَلَى الْأَوَّلِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَتَارَةً نَقُولُ: إِنَّ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ قِيَاسًا لِعَدَمِ تَرَجُّحِهِ وَأَنَّ التَّرَجُّحَ شَرْطٌ فِي الِاقْتِضَاءِ، وَتَارَةً نَقُولُ: إِنَّهُ وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ رَفْعُ حُكْمِهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّسْخِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ النَّسْخَ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ خِطَابٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَلِلْمُخَالِفِ شُبْهَتَانِ: الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أَوْجَبَ نَسْخَ ثَبَاتِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ، وَلَيْسَ مُصَرَّحًا بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ نَفْسُ نَسْخِ حُكْمِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: النَّسْخُ أَحَدُ الْبَيَانَيْنِ فَجَازَ بِالْقِيَاسِ كَالتَّخْصِيصِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأُولَى: أَنَّهَا إِنَّمَا تَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ الرَّافِعُ ثُبُوتَ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ مُسْتَفَادًا مِنَ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ اسْتِفَادَتُهُ إِنَّمَا هِيَ مِنْ نَفْسِ مَفْهُومِ اللَّفْظِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهَا مَنْقُوضَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَبِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ. [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ النَّسْخِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ بِفَحْوَى الْخِطَابِ كَدَلَالَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} عَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى، وَعَلَى جَوَازِ نَسْخِ حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ نَسْخِ الْأَصْلِ دُونَ الْفَحْوَى وَالْفَحْوَى دُونَ الْأَصْلِ. غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ عَلَى أَنَّ نَسْخَ الْأَصْلِ يُفِيدُ نَسْخَ الْفَحْوَى ; لِأَنَّ الْفَحْوَى تَابِعٌ لِلْأَصْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ التَّابِعِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَتْبُوعِ. وَأَمَّا نَسْخُ الْفَحْوَى دُونَ الْأَصْلِ، فَقَدْ تَرَدَّدَ فِيهِ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ فَجَوَّزَهُ تَارَةً ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ جَارٍ مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ، وَتَحْرِيمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 الضَّرْبِ الْعَنِيفِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَضْرِبْهُمَا. فَرَفْعُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا يُفِيدُ رَفْعَ حُكْمِ الْآخَرِ، وَمَنَعَ مِنْهُ تَارَةً، وَوَافَقَهُ عَلَى الْمَنْعِ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مَصِيرًا مِنْهُمَا إِلَى أَنَّ تَحْرِيمَ التَّأْفِيفِ إِنَّمَا كَانَ إِعْظَامًا لِلْوَالِدَيْنِ، فَإِذَا أُبِيحَ ضَرْبُهُمَا كَانَ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْغَرَضِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ. وَالْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِثْبَاتُ تَحْرِيمِ الضَّرْبِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْقِيَاسِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، أَوْ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ لُغَةً عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ فِيهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَيَجِبُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ نَسْخَ حُكْمِ الْأَصْلِ يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِ الْفَرْعِ ; لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْفَرْعِ دُونَ أَصْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ نَسْخًا لِمَا سَبَقَ، وَأَنَّ رَفْعَ حُكْمِ الْفَرْعِ لَا يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِ الْأَصْلِ ; إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ التَّابِعِ رَفْعُ الْمَتْبُوعِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَلَا يَخْفَى أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ بِجِهَةِ صَرِيحِ اللَّفْظِ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الضَّرْبِ بِجِهَةِ الْفَحْوَى، وَهُمَا دَلَالَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، غَيْرَ أَنَّ دَلَالَةَ الْفَحْوَى تَابِعَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ رَفْعَ حُكْمِ إِحْدَى الدَّلَالَتَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ رَفْعُ حُكْمِ الدَّلَالَةِ الْأُخْرَى. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ دَلَالَةُ الْفَحْوَى تَابِعَةً لِدَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ فَرَفْعُ الْأَصْلِ مِمَّا يَمْتَنِعُ مَعَهُ بَقَاءُ التَّابِعِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ إِعْظَامُ الْوَالِدَيْنِ، فَرَفْعُ حُكْمِ الْفَحْوَى مِمَّا يُخِلُّ بِالْغَرَضِ مِنْ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ فَيَمْتَنِعُ مَعَهُ بَقَاءُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْفَحْوَى وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً لِدَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ فَنَسْخُ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ لَيْسَ نَسْخًا لِدَلَالَتِهِ بَلْ نَسْخًا لِحُكْمِهِ، وَدَلَالَةُ الْفَحْوَى تَابِعَةٌ لِدَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ عَلَى حُكْمِهِ لَا أَنَّهَا تَابِعَةٌ لِحُكْمِهِ، وَدَلَالَتُهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ نَسْخِ حُكْمِهِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ نَسْخِهِ، فَمَا هُوَ أَصْلٌ لِدَلَالَةِ الْفَحْوَى غَيْرُ مُرْتَفِعٍ، وَمَا هُوَ الْمُرْتَفِعُ لَيْسَ أَصْلًا لِلْفَحْوَى. وَأَمَّا الثَّانِي: فَغَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ حُكْمِ الْفَحْوَى إِبْطَالُ الْغَرَضِ مِنْ أَصْلِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ غَرَضَ إِثْبَاتِ التَّحْرِيمِ لِلتَّأْفِيفِ مُغَايِرٌ لِغَرَضِ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِبْطَالِ أَحَدِ الْغَرَضَيْنِ إِبْطَالُ الْغَرَضِ الْآخَرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ نَسْخِ حُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ حُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ: هَلْ يَبْقَى مَعَهُ حُكْمُ الْفَرْعِ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى بَقَائِهِ وَالْبَاقُونَ إِلَى امْتِنَاعِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ ; لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ تَابِعٌ لِاعْتِبَارِ عِلَّتِهِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِذَا نُسِخَ حُكْمُ الْأَصْلِ خَرَجَتِ الْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْهُ عَنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، فَبَطَلَ مَا كَانَ تَابِعًا لِاعْتِبَارِهَا. فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ نَسْخُ حُكْمِ الْفَرْعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ حَيْثُ جَعَلْتُمْ رَفْعَ حُكْمِ الْفَرْعِ تَابِعًا لِرَفْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالنَّسْخُ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى مَا قَرَّرْتُمُوهُ ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنِ انْتِفَاءِ التَّابِعِ لِانْتِفَاءِ الْمَتْبُوعِ مَتَى يَلْزَمُ ذَلِكَ، إِذَا كَانَ الْحُكْمُ يَفْتَقِرُ فِي دَوَامِهِ إِلَى دَوَامِ سَبَبِهِ أَوْ إِذَا لَمْ يَفْتَقِرْ. الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَلِمَ قُلْتُمْ بِافْتِقَارِهِ إِلَيْهِ؟ وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَلَكِنْ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُنْتَقِضٌ بِالْأَبِ فَإِنَّهُ يَتْبَعُهُ وَلَدُهُ الطِّفْلُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ، وَلَوْ زَالَ إِسْلَامُ الْأَبِ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ زَوَالُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْوَلَدِ مِنَ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لَهُ. قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ كَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى رَفْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَإِلَّا لَافْتَقَرَ إِلَى عِلَّةٍ جَامِعَةٍ نَافِيَةٍ لَهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا قِيلَ بِرَفْعِهِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ مُوجِبِهِ وَبَيْنَ انْتِفَائِهِ بِالْقِيَاسِ. وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ قِيلَ بِافْتِقَارِ الْحُكْمِ فِي دَوَامِهِ إِلَى دَوَامِ عِلَّتِهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرِ الْحُكْمُ فِي دَوَامِهِ إِلَى دَوَامِ ضَابِطِ حِكْمَةِ الْحُكْمِ الْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فِي ابْتِدَائِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَوَامِ احْتِمَالِ الْحِكْمَةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوِ انْتَهَتْ حِكْمَةُ الْحُكْمِ قَطْعًا امْتَنَعَ بَقَاؤُهُ بَعْدَهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ دَوَامِ احْتِمَالِ الْحِكْمَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً لِاسْتِحَالَةِ بَقَاءِ الْحُكْمِ لِحِكْمَةٍ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ، وَبِنَسْخِ حُكْمِ الْأَصْلِ زَالَ اعْتِبَارُهَا وَانْتِفَاءُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي دَوَامِ الْحُكْمِ يُوجِبُ رَفْعَ الْحُكْمِ. وَعَلَى هَذَا فَقَدِ انْدَفَعَ النَّقْضُ، فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِسْلَامَ الْأَبِ عِلَّةٌ مُوجِبَةٌ لِإِسْلَامِ الِابْنِ، حَتَّى يَلْزَمَ مِنِ انْتِفَاءِ إِسْلَامِهِ انْتِفَاءُ إِسْلَامِ الِابْنِ، وَلَا أَنَّ دَوَامَ إِسْلَامِ الْأَبِ مُعْتَبَرٌ فِي دَوَامِ إِسْلَامِ الِابْنِ لِيَلْزَمَ مِنِ انْتِفَائِهِ انْتِفَاؤُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 [الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ وَرَدَ النَّسْخُ إِلَى النَّبِيِّ عليه السلام وَلَمْ يَبْلُغِ الْأُمَّةَ هَلْ يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ النَّسْخُ فِي حَقِّهِمْ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ لَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي أَنَّ النَّاسِخَ إِذَا كَانَ مَعَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمٌ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِينَ، بَلْ هُمْ فِي التَّكْلِيفِ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ إِلْقَاءِ النَّاسِخِ إِلَى جِبْرِيلَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إِذَا وَرَدَ النَّسْخُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْلُغِ الْأُمَّةَ، هَلْ يَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ النَّسْخُ فِي حَقِّهِمْ أَوْ لَا؟ فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى الْإِثْبَاتِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى النَّفْيِ وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّسْخَ لَهُ لَازِمٌ، وَهُوَ ارْتِفَاعُ حُكْمِ الْخِطَابِ السَّابِقِ وَامْتِنَاعُ الْخُرُوجِ بِالْفِعْلِ الْوَاجِبِ أَوَّلًا عَنِ الْعُهْدَةِ، وَلُزُومُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْوَاجِبِ النَّاسِخِ وَالْإِثْمُ بِتَرْكِهِ وَالثَّوَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَهَذِهِ اللَّوَازِمُ مُنْتَفِيَةٌ، وَيَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ، أَمَّا أَنَّ الْحُكْمَ السَّابِقَ لَمْ يَرْتَفِعْ فَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ (1) وَيَخْرُجُ بِهِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ النَّسْخِ إِلَيْهِ (2) بِالْإِجْمَاعِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسْخُ التَّوَجُّهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالتَّوَجُّهِ إِلَى الْكَعْبَةِ اسْتَدَارُوا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَدَّ لَهُمْ بِالرَّكَعَاتِ الَّتِي أَتَوْا بِهَا بَعْدَ نُزُولِ النَّسْخِ قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِالنَّسْخِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا أَنَّ الْخِطَابَ بِالنَّسْخِ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْمُكَلَّفِ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَبَيَانُهُ بِالنَّصِّ وَالْحُكْمِ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} . وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَوْ فَعَلَ الْعِبَادَةَ الَّتِي وَرَدَ بِهَا النَّاسِخُ عَلَى وَجْهِهَا كَانَ آثِمًا عَاصِيًا غَيْرَ خَارِجٍ بِهِ عَنِ الْعُهْدَةِ، كَمَا لَوْ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ قَبْلَ بُلُوغِ النَّسْخِ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مُخَاطَبًا بِذَلِكَ لَخَرَجَ بِهِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَلَمَا كَانَ عَاصِيًا بِفِعْلِ مَا خُوطِبَ بِهِ.   (1) يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ: أَيْ بِتَقْدِيرِ وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ (2) وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ لَهُ قَبْلَ بُلُوغِ النَّسْخِ إِلَيْهِ: أَيْ بِتَقْدِيرِ وُجُوبِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وَلِلْمُخَالِفِينَ خَمْسُ شُبَهٍ: الشُّبْهَةُ الْأُولَى: أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُتَصَرِّفٌ بِالْإِذْنِ مِنَ الشَّارِعِ، فَلَزِمَ رَفْعُهُ بِرَفْعِ الشَّرْعِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَ الْمُكَلَّفُ بِالرَّفْعِ، كَمَا لَوْ عَزَلَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ عَنِ التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِعَزْلِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ النَّسْخَ إِسْقَاطٌ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ رِضَا مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ عِلْمُهُ، كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْإِبْرَاءِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ النَّسْخَ إِبَاحَةُ تَرْكِ الْفِعْلِ بَعْدَ إِيجَابِهِ أَوْ إِبَاحَةُ فِعْلِهِ بَعْدَ حَظْرِهِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ مَنْ أُبِيحَ لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: " إِنْ خَرَجْتِ بِغَيْرِ إِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ " ثُمَّ أَذِنَ لَهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِخُرُوجِهَا. الرَّابِعَةُ: أَنَّ نَسْخَ الْحُكْمِ إِبَاحَةُ تَرْكِ الْمَنْسُوخِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الشَّارِعِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ قَبْلَ عِلْمِ الْمُبَاحِ لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ: " أَبَحْتُ ثَمَرَةَ بُسْتَانِي لِكُلِّ مَنْ دَخَلَهُ " فَإِنَّهُ يُبَاحُ لِكُلِّ دَاخِلٍ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ. الْخَامِسَةُ: أَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِالنَّسْخِ، فَرَفْعُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعِلْمِهِ أَوْ بِالنَّسْخِ، وَالْعِلْمُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الرَّفْعِ فَكَانَ الرَّفْعُ بِالنَّسْخِ، وَلَزِمَ رَفْعُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ النَّسْخِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأُولَى: بِمَنْعِ عَزْلِ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: لِمَ قَالُوا بِأَنَّ النَّسْخَ إِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الْمَنْسُوخِ عَنْهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْعِلْمِ فِي صُورَةِ الِاسْتِشْهَادِ عَدَمُ اعْتِبَارِهِ فِي النَّسْخِ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعِلْمِ ثَمَّ لِعَدَمِ تَضَمُّنِهِ رَفْعَ حُكْمِ خِطَابٍ سَابِقٍ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَكَانَ الْعِلْمُ مُشْتَرَطًا فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ: بِمَنْعِ الْحُكْمِ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَنْ صُوَرِ الِاسْتِشْهَادِ. وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّ رَفْعَ الْحُكْمِ بِالنَّسْخِ مَشْرُوطٌ بِالْعِلْمِ، وَلَا تَحَقُّقَ لِلْمَشْرُوطِ دُونَ شَرْطِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ هَلْ تَكُونُ نَسْخًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ هَلْ تَكُونُ نَسْخًا؟ وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ إِذَا كَانَتْ عِبَادَةً مُنْفَرِدَةً بِنَفْسِهَا عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهَا أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ. وَذَلِكَ كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ عَلَى صَلَوَاتٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجَّةٍ أَوْ زَكَاةٍ إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ زِيَادَةَ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَكُونُ نَسْخًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الصَّلَاةَ الْوُسْطَى الْمَأْمُورَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} تَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا وُسْطَى، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكَوْنُ الْعِبَادَةِ وُسْطَى أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ لَوْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ ثُمَّ أَوْجَبَ صَلَاةً خَامِسَةً أَوْ زَكَاةً أَوْ صَوْمًا؛ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَسْخًا لِإِخْرَاجِ الْعِبَادَةِ الْأَخِيرَةِ عَنْ كَوْنِهَا أَخِيرَةً، وَإِخْرَاجِ الْعِبَادَاتِ السَّابِقَةِ عَنْ كَوْنِهَا أَرْبَعًا وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ: كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى رَكَعَاتِ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَزِيَادَةِ جَلَدَاتٍ عَلَى جَلَدَاتِ حَدٍّ وَاحِدٍ، وَزِيَادَةِ صِفَةٍ فِي رَقَبَةِ الْكَفَّارَةِ كَالْأَيْمَانِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الزِّيَادَاتِ. فَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ كَالْجُبَّائِيِّ وَأَبِي هَاشِمٍ إِلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا. وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: تَكُونُ نَسْخًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَّلَ. ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالتَّفْصِيلِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ قَدْ أَفَادَتْ خِلَافَ مَا أَفَادَهُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ وَالشَّرْطِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ نَسْخًا، كَإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ، فَإِنَّهُ خِلَافُ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» "؛ مِنْ نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ وَإِلَّا فَلَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُغَيِّرَةً لِحُكْمِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى الْحَدِّ، وَزِيَادَةِ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ كَانَتْ نَسْخًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْ حُكْمَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا سَتْرَ الْفَخْذِ فَإِنَّهُ يَجِبُ سَتْرُ بَعْضِ الرُّكْبَةِ، ضَرُورَةَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، أَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَإِيجَابِ قَطْعِ رِجْلِ السَّارِقِ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْكَرْخِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ قَدْ غَيَّرَتِ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ تَغَيُّرًا شَرْعِيًّا، بِحَيْثُ صَارَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ لَوْ فُعِلَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يُفْعَلُ قَبْلَهَا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُهُ، كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا، أَوْ كَانَ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ فِعْلَيْنِ فَزِيدَ فِعْلٌ ثَالِثٌ، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ تَرْكِ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَإِلَّا فَلَا، وَذَلِكَ كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْحَدِّ، وَزِيَادَةِ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، وَزِيَادَةِ شَرْطٍ مُنْفَصِلٍ فِي شَرَائِطِ الصَّلَاةِ كَزِيَادَةِ الْوُضُوءِ. وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً بِالْمَزِيدِ عَلَيْهِ اتِّصَالَ اتِّحَادٍ رَافِعٍ لِلتَّعَدُّدِ، وَالِانْفِصَالِ كَزِيَادَةِ رَكْعَتَيْنِ عَلَى رَكْعَتِيِ الصُّبْحِ، فَهُوَ نَسْخٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ كَذَلِكَ كَزِيَادَةِ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ، فَلَا تَكُونُ نَسْخًا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ رَافِعَةً لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا وَوَجَبَ النَّظَرُ فِي دَلِيلِ الزِّيَادَةِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ بِمِثْلِهِ نَسْخُ حُكْمِ النَّصِّ فَهُوَ نَسْخٌ وَإِلَّا فَلَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الزِّيَادَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، أَوْ كَانَتْ رَافِعَةً لِحُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ لَا غَيْرَ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ نَسْخًا شَرْعِيًّا وَإِنْ كَانَ نَسْخًا لُغَوِيًّا، وَجَازَ بِكُلِّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا فِي مَوْضِعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بِهِ النَّسْخُ، كَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى شَرْحِ الْمَذَاهِبِ بِالتَّفْصِيلِ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ، وَالْكَشْفِ عَنْ وَجْهِ الْحَقِّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَتِمَّةً لِلْمَقْصُودِ، وَهِيَ عَشَرَةُ فُرُوعٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 الْفَرْعُ الْأَوَّلُ: إِذَا وَجَبَتِ الزَّكَاةُ فِي مَعْلُوفَةِ الْغَنَمِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِحُكْمِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» " ; لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ كَمَا سَبَقَ فِي إِبْطَالِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي نَفْيَ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ بِنَاءً عَلَى حُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ حُجَّةٌ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنِ الْمَعْلُوفَةِ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيهَا يَكُونُ رَافِعًا لِمَا اقْتَضَاهُ دَلِيلُ الْخِطَابِ فَيَكُونُ نَسْخًا. الْفَرْعُ الثَّانِي: إِذَا زِيدَتْ رَكْعَةٌ عَلَى رَكْعَتِيِ الصُّبْحِ بِحَيْثُ صَارَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هَذَا لَيْسَ بِنَسْخٍ لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةِ الصُّبْحِ ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الرَّكْعَةِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَسْخًا لِلرَّكْعَتَيْنِ، أَوْ نَسْخًا لِأَجْزَائِهَا وَوُجُوبِهَا، أَوْ نَسْخًا لِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ. لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِلرَّكْعَتَيْنِ ; لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ، كَيْفَ وَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ قَارَّتَانِ لَمْ يَرْتَفِعَا. وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِأَجْزَائِهَا، وَإِلَّا كَانَ زِيَادَةُ غَسْلِ عُضْوٍ آخَرَ فِي طَهَارَةِ الصَّلَاةِ نَاسِخًا لِأَجْزَائِهَا وَوُجُوبِهَا الَّذِي كَانَ قَبْلَ إِيجَابِ غَسْلِ الْعُضْوِ الزَّائِدِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْمَذْهَبِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ كَمَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ. وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِوُجُوبِ التَّشَهُّدِ عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ وَاجِبًا آخِرَ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُرْتَفِعٍ وَلَا مُتَغَيِّرٍ، وَإِنَّمَا الْمُتَغَيِّرُ آخِرُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ آخِرَهَا كَانَ بِآخِرِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالْآنَ صَارَ آخِرَ الثَّلَاثِ. وَقَدْ قِيلَ فِي إِبْطَالِهِ: لَا نُسَلِّمُ الْحَصْرَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحْرُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ وَالتَّحْرِيمُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ ; إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالرَّكْعَتَيْنِ مُقْتَضِيًا لِلنَّهْيِ عَنِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ، فَزِيَادَةُ الرَّكْعَةِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وَقَدْ قِيلَ فِي إِبْطَالِهِ أَيْضًا: إِنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا هُوَ لِأَجْزَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ بِتَقْدِيرِ انْفِرَادِهَا، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالزِّيَادَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ; إِذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مَعْنَى كَوْنِ الرَّكْعَتَيْنِ مُجْزِيَةً أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ. وَمَعْنَى الْخُرُوجِ بِهَا عَنِ الْعُهْدَةِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَ فِعْلِهَا شَيْءٌ آخَرُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ حُكْمًا شَرْعِيًّا لِيَكُونَ رَفْعُهُ نَسْخًا شَرْعِيًّا، بَلْ هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ الرَّدِّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِلْزَامِ بِاشْتِرَاطِ غَسْلِ الْعُضْوِ الزَّائِدِ، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا عَلَى الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ، فَغَيْرُ لَازِمٍ لِغَيْرِهِ كَالْغَزَالِيِّ وَنَحْوِهِ مِنَ الْقَائِلِينَ بِكَوْنِ ذَلِكَ نَسْخًا فَلَا بُدَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ وَإِنْ قُدِّرَ لُزُومُ ذَلِكَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ وُجُوبَ التَّشَهُّدِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْمُغَيَّرَ إِنَّمَا هُوَ آخِرُ الصَّلَاةِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّشَهُّدَ كَانَ وَاجِبًا عَقِيبَ الرَّكْعَتَيْنِ وَبِالزِّيَادَةِ صَارَ غَيْرَ وَاجِبٍ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: زِيَادَةُ التَّغْرِيبِ عَلَى الْحَدِّ، وَزِيَادَةُ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَ بِنَسْخٍ ; لِأَنَّ النَّسْخَ يَسْتَدْعِي رَفْعَ مَا ثَبَتَ لِلثَّمَانِينَ مِنَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا تَحْقِيقَ لَهُ إِذِ الْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ لَهَا مِنَ الْحُكْمِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ بَعْدَهَا. فَإِنْ قِيلَ: بَيَانُ ارْتِفَاعِ حُكْمِ الثَّمَانِينَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الثَّمَانِينَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتْ كُلَّ الْحَدِّ الْوَاجِبِ، وَقَدْ صَارَتْ بَعْدَ الزِّيَادَةِ بَعْضَ الْحَدِّ. الثَّانِي: أَنَّ الثَّمَانِينَ كَانَتْ مُجْزِئَةً قَبْلَ الزِّيَادَةِ وَقَدِ ارْتَفَعَ إِجْزَاؤُهَا بِالزِّيَادَةِ. الثَّالِثُ: الثَّمَانُونَ وَحْدَهَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّفْسِيقُ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ زَالَ تَعَلُّقُ ذَلِكَ بِالثَّمَانِينَ. الرَّابِعُ: أَنَّ الثَّمَانِينَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَ يَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا، وَبَعْدَ الزِّيَادَةِ زَالَ هَذَا الْوُجُوبُ. الْخَامِسُ: أَنَّ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ (1) وَقَدْ زَالَ هَذَا الْحُكْمُ بِإِيجَابِ الزِّيَادَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الثَّمَانِينَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كُلَّ الْوَاجِبِ إِلَّا   (1) أَنَّ قَبْلَ الزِّيَادَةِ كَانَتِ الزِّيَادَةُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ: فِيهِ تَحْرِيفٌ وَلَعَلَّ الْأَصْلَ: أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ قَبْلَ الزِّيَادَةِ غَيْرَ وَاجِبَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَغَيْرُهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَوُجُوبُهَا لَمْ يَرْتَفِعْ وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ بِالزِّيَادَةِ عَدَمُ وُجُوبِ الزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا شَرْعِيًّا. وَعَنِ الثَّانِي: مَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَعَنِ الثَّالِثِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّفْسِيقَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّمَانِينَ بَلْ بِالْقَذْفِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا تَعَلُّقَ ذَلِكَ بِالثَّمَانِينَ، إِلَّا أَنَّ مَعْنَى التَّفْسِيقِ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ مُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ إِلَى عَدَمِ قَبُولِهَا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَرَدِّ الشَّهَادَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً} فَلَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ دَلِيلِ إِيجَابِ الثَّمَانِينَ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ مَعْنَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الثَّمَانِينَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا، وَوُجُوبُهَا لَمْ يَرْتَفِعْ وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ عَدَمُ الْجَوَازِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِنَسْخٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَعَلَى هَذَا، فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنِ الْإِلْزَامِ الْخَامِسِ أَيْضًا. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: إِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ، ثُمَّ خَيَّرَنَا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَوْ خَيَّرَنَا فِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، ثُمَّ زَادَ ثَالِثًا وَهُوَ الْإِعْتَاقُ، هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ وَوُجُوبِ التَّخَيُّرِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ الْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ (1) ; لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْعَمَلِ وَاجِبًا عَلَى التَّعْيِينِ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَنَّ غَيْرَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَكَوْنُهُ   (1) حَكَى الْإِسْنَوِيُّ فِي كِتَابِهِ " نِهَايَةُ السُّولِ فِي شَرْحِ مِنْهَاجِ الْوُصُولِ " لِلْبَيْضَاوِيِّ عَنِ الْآمِدِيِّ أَنَّهُ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَقَالَ فِي الْإِحْكَامِ: إِنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَقَالَ فِي مُنْتَهَى السُّولِ: إِنَّهُ نَسْخٌ فِي الْأُولَى وَلَيْسَ بِنَسْخٍ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَدْ وَجَدْتُ بِمَخْطُوطَةِ الْمَدِينَةِ الَّتِي هِيَ الْعُمْدَةُ فِي هَذِهِ الطَّبْعَةِ قَوْلَ الْآمِدِيِّ أَنَّهُ لَا نَسْخَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَآثَرْتُ أَنْ أَجْعَلَ مَا فِيهَا فِي أَصْلِ هَذِهِ الطَّبْعَةِ وَأَجْعَلَ فِي التَّعْلِيقِ قَوْلَ الْآمِدِيِّ الْآخَرَ الَّذِي ذَكَرَ الْإِسْنَوِيُّ أَنَّهُ قَوْلُهُ فِي مُنْتَهَى السُّولِ لَا فِي الْإِحْكَامِ وَهَذَا نَصُّهُ: (الْحَقُّ أَنَّهُ نَسْخٌ لِغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَيْسَ نَسْخًا لِلتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، لِأَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ عَلَى التَّعْيِينِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وَاجِبًا لَمْ يَرْتَفِعْ، وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ كَوْنُ غَيْرِهِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا، وَكَذَلِكَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ عَلَى التَّعْيِينِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَأَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُرْتَفِعٍ، وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ كَوْنُ غَيْرِهِمَا لَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: إِذَا أَوْقَفَ اللَّهُ تَعَالَى الْحُكْمَ عَلَى شَاهِدَيْنِ بِقَوْلِهِ: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} فَإِذَا جَوَّزَ الْحُكْمَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ؟ الْحَقُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْآيَةِ جَوَازُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدَيْنِ وَأَنَّ شَهَادَتَهُمَا حُجَّةٌ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِحُجَّةٍ أُخْرَى إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَفْهُومِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً فَرَفْعُهُ يَكُونُ نَسْخًا وَلَا يَجُوزُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. (1) الْفَرْعُ السَّادِسُ: إِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عِتْقَ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَتَقْيِيدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِيمَانِ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِكَلَامِهِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَجْزَاءِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ وَغَيْرِهَا، كَانَ التَّقْيِيدُ بِالْإِيمَانِ نَسْخًا وَلَا يَجُوزُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا كَانَ تَقْيِيدًا لِلْمُطْلَقِ لَا نَسْخًا. (2) الْفَرْعُ السَّابِعُ: إِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى قَطْعَ يَدِ السَّارِقِ وَرِجْلِهِ عَلَى التَّعْيِينِ، فَإِبَاحَةُ قَطْعِ رِجْلِهِ الْأُخْرَى بَعْدَ ذَلِكَ إِنْ كَانَ رَافِعًا لِعَدَمِ الْإِبَاحَةِ الثَّابِتَةِ بِحُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا وَإِنْ كَانَ رَافِعًا لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ   (1) مَتَّى صَحَّ خَبَرُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ مُطْلَقًا، إِمَّا لِعَدَمِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ) ، وَإِمَّا لِرُجْحَانِ الْخَبَرِ عَلَيْهِ، إِنْ قُلْنَا إِنَّ الْمَفْهُومَ حَجَّةٌ وَجُهِلَ التَّارِيخُ ; لِأَنَّهُ مَنْطُوقٌ مُتَّفَقٌ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حُجِّيَّةِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ نَاسِخٌ لَهُ إِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ وَكَانَ مُتَأَخِّرًا (2) يَجِبُ الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ تَقْيِيدًا أَوْ نَسْخًا فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ إِفَادَتِهِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ فَقَطْ، فَإِفَادَةُ الْمُتَوَاتِرِ لِاسْتِمْرَارِ حُكْمِهِ ظَنِّيَّةٌ مَا دَامَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ، فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُقْطَعَ الِاسْتِمْرَارُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، إِذْ كِلَاهُمَا ظَنِّيٌّ: انْظُرِ التَّعْلِيقَ 4 ص 149 ج3 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 يَكُونَ نَسْخًا، فَلَيْسَ نَسْخًا لِمُقْتَضَى النَّصِّ الْأَوَّلِ (لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ) . الْفَرْعُ الثَّامِنُ: إِذَا زِيدَ فِي الطَّهَارَةِ اشْتِرَاطُ غَسْلِ عُضْوٍ زَائِدٍ عَلَى الْأَعْضَاءِ السِّتَّةِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِوُجُوبِ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ السِّتَّةِ ; إِذْ هِيَ وَاجِبَةٌ مَعَ وُجُوبِ غَسْلِ الْعُضْوِ الزَّائِدِ، وَلَا لِأَجْزَائِهَا عِنْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهَا مُجْزِئَةً أَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ بِفِعْلِهَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ غَيْرُ مُرْتَفِعٍ وَإِنَّمَا الْمُرْتَفِعُ عَدَمُ التَّوَقُّفِ عَلَى شَرْطٍ آخَرَ، وَذَلِكَ الْمُرْتَفِعُ وَهُوَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ أَمْرٍ آخَرَ إِنَّمَا كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى حُكْمِ الْعَقْلِ الْأَصْلِيِّ، فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا شَرْعِيًّا. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا زِيدَ فِي الصَّلَاةِ شَرْطٌ آخَرُ. الْفَرْعُ التَّاسِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [الْبَقَرَةِ: 187] دَالٌّ عَلَى جَعْلِ أَوَّلِ اللَّيْلِ غَايَةً لِلصَّوْمِ، فَإِيجَابُ صَوْمِ أَوَّلِ اللَّيْلِ بَعْدَ ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ كَوْنِ أَوَّلِ اللَّيْلِ غَايَةً لِلصَّوْمِ وَظَرْفًا لَهُ؟ وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَدِّ الْحُكْمِ إِلَى غَايَةٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِيمَا بَعْدَ الْغَايَةِ عَلَى خِلَافِ مَا قَبْلَهَا، فَإِيجَابُ صَوْمِ أَوَّلِ اللَّيْلِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِمَدْلُولِ الْآيَةِ، وَإِلَّا كَانَ نَسْخًا وَامْتَنَعَ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ. (1) الْفَرْعُ الْعَاشِرُ: إِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " صَلُّوا إِنْ كُنْتُمْ مُتَطَهِّرِينَ " فَاشْتِرَاطُ شَرْطٍ آخَرَ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَسْخًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ مَعَ الطَّهَارَةِ، أَوْ لِأَجْزَائِهَا، أَوْ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ شَرْطٍ آخَرَ، أَوْ لِشَيْءٍ آخَرَ. لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مَعَ الطَّهَارَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ. وَالثَّانِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ لِمَا سَبَقَ فِي الْفَرْعِ الثَّامِنِ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى الثَّالِثِ لِأَنَّهُ رَفَعَ حُكْمَ الْعَقْلِ الْأَصْلُ، فَلَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا. وَالرَّابِعُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مُوجِبٌ لِلطَّوَافِ مُطْلَقًا مَعَ الطَّهَارَةِ وَمِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، فَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 175 ج3 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 صَلَاةٌ» ". لَا يَكُونُ نَسْخًا لِوُجُوبِ الطَّوَافِ لِبَقَاءِ وُجُوبِهِ، وَلَا لِإِجْزَائِهِ وَلَا لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الطِّهَارَةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ. وَلِذَلِكَ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْإِجْزَاءِ بِقَوْلِهِ: " «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ» ". (1) وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمَّا لَمْ يَسَعْهُ مُخَالَفَةُ الْخَبَرِ قَالَ بِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ مَعَ بَقَاءِ الطَّوَافِ مُجْزِئًا مِنْ غَيْرِ طَهَارَةٍ، حَيْثُ اعْتَقَدَ أَنَّ رَفْعَ الْإِجْزَاءِ يَكُونُ نَسْخًا لِحُكْمِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ.   (1) " الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ ". رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ فُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ، كِلَاهُمَا عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ فَمَنْ نَطَقَ فِيهِ فَلَا يَنْطِقُ إِلَّا بِخَيْرٍ ". وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ بِهِ بِلَفْظِ: " الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ " قَالَ: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ وَغَيْرِهِ عَنْ طَاوُسٍ مَوْقُوفًا، وَلَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَى مَتْنِهِ وَطُرُقِهِ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ وَتَلْخِيصِ الْحَبِيرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 [الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ نَسْخَ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ نَسْخَ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ الْعِبَادَةِ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ، كَنَسْخِ سَتْرِ الرَّأْسِ وَالْوُقُوفِ عَلَى يَمِينِ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ نَسْخَ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ هَلْ يَكُونُ نَسْخًا لِتِلْكَ الْعِبَادَةِ؟ فَذَهَبَ الْكَرْخِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ. وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْسُوخُ جُزْءًا مِنْ مَفْهُومِ الْعِبَادَةِ كَالرَّكْعَةِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مَثَلًا، أَوْ شَرْطًا خَارِجًا عَنْ مَفْهُومِ الصَّلَاةِ كَالْوُضُوءِ. وَمِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ نَسْخٌ لِلْعِبَادَةِ مُطْلَقًا، وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْغَزَالِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْجُزْءِ وَالشَّرْطِ، وَأَوْجَبَ نَسْخَ الْعِبَادَةِ بِنَسْخِ جُزْئِهَا دُونَ شَرْطِهَا كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِلْعِبَادَةِ مُطْلَقًا، أَمَّا إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَكُلُّ رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا وَاجِبَةٌ، فَنَسْخُ أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ لَا يُوجِبُ نَسْخَ الْوَاجِبِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً، وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِيهَا، فَنَسْخُ اشْتِرَاطِ الطِّهَارَةِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِنَسْخِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ، بَلِ الْوُجُوبُ بَاقٍ بِحَالِهِ فَلَا نَسْخَ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا أَوْجَبَ الشَّارِعُ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ نَسَخَ مِنْهَا وُجُوبَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَدْ نَسَخَ وُجُوبَ أَصْلِ الْعِبَادَةِ لَا أَنَّهُ نَسْخٌ لِلْبَعْضِ وَتَبْقِيَةٌ لِلْبَعْضِ، فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ لَيْسَتْ بَعْضَ الْأَرْبَعِ بَلْ هِيَ عِبَادَةٌ أُخْرَى، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ بَعْضًا مِنْهَا لَكَانَ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ آتِيًا بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٍ كَمَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ التَّصَدُّقَ بِدِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمَيْنِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ وُجُوبَ الرَّكْعَتَيْنِ بَاقٍ بِحَالِهِ غَيْرَ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ نَسْخِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا تُجْزِي، وَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بِنَسْخِ الرَّكْعَتَيْنِ الزَّائِدَتَيْنِ حَيْثُ صَارَتْ تُجْزِئُ، وَكَانَ يَجِبُ تَأْخِيرُ التَّشَهُّدِ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ وَهُوَ عَيْنُ النَّسْخِ. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا نُسِخَ - شَرْطَ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ النَّسْخِ لَا تُجْزِئُ، وَقَدِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بِنَسْخِ الشَّرْطِ. وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمْ: إِنَّ نَسْخَ الرَّكْعَتَيْنِ نَسْخٌ لِوُجُوبِ أَصْلِ الْعِبَادَةِ - لَيْسَ كَذَلِكَ بِدَلِيلِ بَقَاءِ وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 قَوْلُهُمْ: الرَّكْعَتَانِ عِبَادَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْعِبَادَةِ الْأُولَى، إِنْ أَرَادُوا بِالْغَيْرِيَّةِ أَنَّهَا بَعْضٌ مِنْهَا وَالْبَعْضُ غَيْرُ الْكُلِّ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِلرَّكْعَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ نَسْخًا لِوُجُوبِ الْكُلِّ، وَإِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بَعْضًا مِنَ الْأَرْبَعِ فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ بَعْضًا مِنَ الْأَرْبَعِ لَكَانَ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ أَرْبَعًا قَدْ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٍ. قُلْنَا: وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بَعْضًا مِنَ الْوَاجِبِ الْأَوَّلِ بَلْ عِبَادَةً أُخْرَى لَافْتَقَرَتْ فِي وُجُوبِهَا إِلَى وُرُودِ أَمْرٍ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَحَيْثُ لَمْ تَصِحَّ صَلَاةُ الصُّبْحِ عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَإِنَّمَا كَانَ لِإِدْخَالِ مَا لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهَا. قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ نَسْخِ الرَّكْعَتَيْنِ لَا تُجْزِئُ. قُلْنَا: إِنْ أُرِيدَ بِهِ عَدَمُ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَالثَّوَابِ عَلَيْهَا فَذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إِلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ وُجُوبُ الْقَضَاءِ فَهُوَ نَسْخٌ لَكِنْ لَا لِنَفْسِ الْعِبَادَةِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ كَانَ يَجِبُ تَأْخِيرُ التَّشَهُّدِ إِلَى مَا بَعْدَ الْأَرْبَعِ - لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ التَّشَهُّدَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ جَائِزٌ. نَعَمْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا وَعَدَمُ وُجُوبِهِ فَلِبَقَائِهِ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَرَفْعُهُ لَا يَكُونُ نَسْخًا شَرْعِيًّا عَلَى مَا عُرِفَ. نَعَمْ لَوْ قِيلَ بِرَفْعِ جَوَازِهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا. وَعَلَى هَذَا عُرِفَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْعِبَادَةَ كَانَتْ لَا تُجْزِئُ دُونَ الطَّهَارَةِ ثُمَّ صَارَتْ مُجْزِئَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 [الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ بِإِعْدَامِ الْعَقْلِ] الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ بِإِعْدَامِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ أَحَدًا بِالنَّهْيِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَكْلِيفَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ يَسْتَدْعِي الْعِلْمَ بِنَهْيِهِ، وَالْعِلْمُ بِنَهْيِهِ يَسْتَدْعِي الْعِلْمَ بِذَاتِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْبَارِي تَعَالَى يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِنَهْيِهِ، فَإِذًا تَحْرِيمُ مَعْرِفَتِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هَلْ يُتَصَوَّرُ نَسْخُ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَنَسْخُ تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ لِحُسْنِهِ وَتَحْرِيمِهِ لِقُبْحِهِ فِي ذَاتِهِ؟ فَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِنَاءً عَلَى فَاسِدِ أُصُولِهِمْ فِي اعْتِقَادِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الذَّاتِيِّ وَرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمُقْتَضَى لِوُجُوبِهَا وَتَحْرِيمِهَا إِنَّمَا هُوَ صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ لَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا وَلَا تَغْيِيرُهَا، وَنَحْنُ قَدْ أَبْطَلْنَا هَذِهِ الْأُصُولَ وَنَبَّهْنَا عَلَى فَسَادِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنَّ جَازَ نَسْخُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَبَعْدَ أَنْ كَلَّفَ اللَّهُ الْعَبْدَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ عَنْهُ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ أَوْ لَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَنْسُوخَ عَنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ وَالدَّلِيلِ الْمَنْصُوبِ عَلَيْهِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يُمْكِنُ نَسْخُهُ بَلْ هُوَ بَاقٍ بِالضَّرُورَةِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ دُونَ عِلْمِهِ بِنُزُولِ النَّسْخِ فَلَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ النَّسْخِ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ فِي حَقِّهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِمَعْرِفَةِ النَّسْخِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 [خَاتِمَةٌ فِي طَرِيقِ مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ] فَنَقُولُ: النَّصَّانِ إِذَا تَعَارَضَا إِمَّا أَنْ يَتَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَإِنْ تَنَافَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا مَعْلُومَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخِرُ مَظْنُونًا، فَإِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ أَوْ مَظْنُونَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ أَوِ اقْتِرَانُهُمَا أَوْ لَا يُعْلَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ عُلِمَ تَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ فَهُوَ نَاسِخٌ وَالْمُتَقَدِّمُ مَنْسُوخٌ. وَذَلِكَ قَدْ يُعْرَفُ إِمَّا بِلَفْظِ النَّسْخِ وَالْمَنْسُوخِ كَمَا لَوْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا نَاسِخٌ وَهَذَا مَنْسُوخٌ " (1) أَوْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى ذَلِكَ. وَإِمَّا بِالتَّارِيخِ، وَذَلِكَ قَدْ يُعْلَمُ إِمَّا بِأَنْ يَكُونَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا» ". وَإِمَّا بِإِسْنَادِ الرَّاوِي أَحَدَهُمَا إِلَى شَيْءٍ مُتَقَدِّمٍ كَقَوْلِهِ: كَانَ هَذَا فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ وَهَذَا فِي السَّنَةِ الْفُلَانِيَّةِ. وَإِحْدَاهُمَا مَعْلُومَةُ التَّقَدُّمِ عَلَى الْأُخْرَى، هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ سَنَدُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مُسْتَوِيًا. وَلَيْسَ مِنَ الطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ فِي مَعْرِفَةِ النَّسْخِ أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ: " كَانَ الْحُكْمُ كَذَا ثُمَّ نُسِخَ " فَإِنَّهُ رُبَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَنِ اجْتِهَادٍ، وَلَا أَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ إِنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْآخَرِ ; لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ ضِمْنًا مِنْ قَبُولِ قَوْلِ الْقَابِلَةِ فِي الْوَلَدِ إِنَّهُ مِنْ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ، وَأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهَا ابْتِدَاءً مِثْلَ ذَلِكَ هَاهُنَا كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، فَإِنَّ غَايَةَ ذَلِكَ الْجَوَازُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوُقُوعُ. وَلَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُثْبَتًا فِي الْمُصْحَفِ بَعْدَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَرْتِيبُ الْآيَاتِ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى تَرْتِيبِهَا فِي النُّزُولِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ رَاوِي أَحَدِهِمَا مِنْ أَحْدَاثِ   (1) هَذَا مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ إِذْ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُ هَذَا فِي عِبَارَاتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَهُوَ غَيْرُ عَمَلِيٍّ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْقُلُ عَمَّنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ، وَإِنْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، فَلِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ مُتَقَدِّمِ الصُّحْبَةِ مُتَأَخِّرَةً. وَلَا أَنْ يَكُونَ إِسْلَامُ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ بَعْدَ إِسْلَامِ الْآخَرِ ; لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي رِوَايَةِ الْحَدَثِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مُتَجَدِّدَ الصُّحْبَةِ بَعْدَ انْقِطَاعِ صُحْبَةِ الرَّاوِي الْآخَرِ ; لِجَوَازِ سَمَاعِهِ عَمَّنْ تَقَدَّمَتْ صُحْبَتُهُ. وَلَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ النَّصَّيْنِ عَلَى وِفْقِ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ تَقَدُّمُ الْمُوَافِقِ لِذَلِكَ أَوْلَى مِنَ الْمُخَالِفِ. وَأَمَّا إِنْ عُلِمَ اقْتِرَانُهُمَا مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَعِنْدِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الْوُقُوعِ وَإِنْ جَوَّزَهُ قَوْمٌ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ فَالْوَاجِبُ إِمَّا الْوَقْفُ عَنِ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا (1) أَوِ التَّخْيِيرُ بَيْنَهُمَا إِنْ أَمْكَنَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا لَمْ يُعْلَمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا وَالْآخِرُ مَظْنُونًا، فَالْعَمَلُ بِالْمَعْلُومِ وَاجِبٌ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ (2) ، أَوْ جُهِلَ الْحَالُ فِي ذَلِكَ لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمَظْنُونِ كَانَ نَاسِخًا وَإِلَّا كَانَ مَعَ وُجُوبِهِ الْعَمَلُ غَيْرَ نَاسِخٍ. هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا تَنَافَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَأَمَّا إِنْ تَنَافَيَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعَمَّ مِنَ الْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ) (3) فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُبَدِّلِ وَعَامٌّ فِي النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ، وَقَوْلُهُ: " «نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ النِّسْوَانِ» " (4) فَإِنَّهُ خَاصٌّ فِي النِّسَاءِ وَعَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُبَدِّلِ، فَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَمَا لَوْ تَنَافَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَعَلَيْكَ بِالِاعْتِبَارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ   (1) عَنِ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا: لَعَلَّهُ عَنِ الْعَمَلِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا (2) بَلِ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ مِنْهُمَا وَاجِبٌ فَإِنَّ الْمُتَوَاتِرَ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الثُّبُوتِ لَكِنَّهُ ظَنِّيُّ الِاسْتِمْرَارِ مَا دَامَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ، فَيَجُوزُ قَطْعُ اسْتِمْرَارِهِ بِالْآحَادِ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ تَخْصِيصِ مُتَوَاتِرٍ، ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي الزَّمَانِ - بِآحَادٍ، يُبَيِّنُ اخْتِصَاصَهُ بِبَعْضِ الزَّمَانِ، وَتَخْصِيصُ الْمُتَوَاتِرِ الْعَامِّ بِالْآحَادِ لَا غَرَابَةَ فِيهِ، انْظُرِ التَّعْلِيقَ 4 ص 149 ج3 (3) مَنْ بَدَّلَ: رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ (4) رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 [الْأَصْلُ الْخَامِسُ فِي الْقِيَاسِ] [مُقَدِّمَةُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْقِيَاسِ وَبَيَانِ أَرْكَانِهِ] وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَخَمْسَةِ أَبْوَابٍ. أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَفِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْقِيَاسِ وَبَيَانِ أَرْكَانِهِ. أَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّقْدِيرِ، وَمِنْهُ يُقَالُ: قِسْتُ الْأَرْضَ بِالْقَصَبَةِ وَقِسْتُ الثَّوْبَ بِالذِّرَاعِ أَيْ قَدَّرْتُهُ بِذَلِكَ. وَهُوَ يَسْتَدْعِي أَمْرَيْنِ يُضَافُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِالْمُسَاوَاةِ، فَهُوَ نِسْبَةٌ وَإِضَافَةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ يُقَاسُ بِفُلَانٍ وَلَا يُقَاسُ بِفُلَانٍ أَيْ يُسَاوِيهِ وَلَا يُسَاوِيهِ. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى قِيَاسِ الْعَكْسِ وَقِيَاسِ الطَّرْدِ. أَمَّا قِيَاسُ الْعَكْسِ فَعِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ نَقِيضِ حُكْمٍ مَعْلُومٍ مَا فِي غَيْرِهِ ; لِافْتِرَاقِهِمَا (1) فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الصَّوْمُ شَرْطًا فِي الِاعْتِكَافِ لَمَا كَانَ شَرْطًا لَهُ عِنْدَ نَذْرِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ صَائِمًا، كَالصَّلَاةِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَمَّا لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي الِاعْتِكَافِ لَمْ تَكُنْ مِنْ شَرْطِهِ إِذَا نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُصَلِّيًا، فَالْأَصْلُ هُوَ الصَّلَاةُ وَالْفَرْعُ هُوَ الصَّوْمُ، وَحُكْمُ الصَّلَاةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الِاعْتِكَافِ، وَالثَّابِتُ فِي الصَّوْمِ نَقِيضُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ وَقَدِ افْتَرَقَا فِي الْعِلَّةِ (2) لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَمْ تَكُنِ الصَّلَاةُ شَرْطًا فِي الِاعْتِكَافِ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِيهِ حَالَةَ النَّذْرِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الصَّوْمِ ; لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الِاعْتِكَافِ حَالَةَ النَّذْرِ إِجْمَاعًا. (3)   (1) لِافْتِرَاقِهِمَا: الصَّوَابُ لِتَنَافِيهِمَا فَإِنَّ مُجَرَّدَ الِافْتِرَاقِ فِي الْعِلَّةِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا لَا يُوجِبُ التَّنَاقُضَ فِي الْحُكْمِ (2) افْتَرَقَا فِي الْعِلَّةِ أَيْ تَنَافَيَا فِيهَا وَتَقَابَلَا بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ (3) وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَيْضًا مَا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} " فَقَدْ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ التَّفَرُّدَ بِاسْتِحْقَاقِ الْأُلُوهِيَّةِ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مُسْتَحِقًّا لِذَلِكَ اسْتِقْلَالًا أَوِ اشْتِرَاكًا لِتَنَافِيهِمَا فِي الْمُوجِبِ، وَهُوَ الْخَلْقُ فَلِلَّهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَحْدَهُ، وَغَيْرُهُ لَيْسَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} " الْآيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 وَأَمَّا قِيَاسُ الطَّرْدِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ عِبَارَاتٌ غَيْرُ مَرْضِيَّةٍ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَإِلَى إِبْطَالِهَا ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِيهِ. فَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِصَابَةِ الْحَقِّ وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّهُ عَلَى مَا قِيلَ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ، كَيْفَ وَإِنَّ إِصَابَةَ الْحَقِّ فَرْعٌ لِلْقِيَاسِ وَحُكْمٌ لَهُ، وَحُكْمُ الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ هُوَ الْقِيَاسَ. وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّهُ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ بِمَا أَبْطَلْنَا بِهِ الْحَدَّ الَّذِي قَبْلَهُ. كَيْفَ وَإِنَّ بَذْلَ الْجُهْدِ إِنَّمَا هُوَ مُنْبِئٌ عَنْ حَالِ الْقَائِسِ لَا عَنْ نَفْسِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ قِيلَ فِي إِبْطَالِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ لِوُجُودِ الْمَحْدُودِ دُونَ الْحَدِّ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ رَأَى حُكْمًا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَعَلَى عِلَّتِهِ وَكَانَتْ عِلَّتُهُ مِمَّا يَشْهَدُ الْحِسُّ بِهَا فِي الْفَرْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ بَذْلُ جُهْدٍ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ فَقَدْ وُجِدَ الْمَحْدُودُ دُونَ حَدِّهِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقِ الْمُكَلَّفَ بِذْلُ جُهْدٍ فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ لِكَوْنِهِمَا مَنْصُوصَيْنِ وَلَا فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ لِكَوْنِهَا مُحَسَّةً فِيهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي مَعْرِفَةِ صِحَّةِ النَّصِّ إِنْ كَانَ آحَادًا وَإِنْ كَانَ مُتَوَاتِرًا، وَلَا بُدَّ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ كَوْنِهِ مَنْسُوخًا أَمْ لَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْسُوخًا فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي الْأَصْلِ هَلْ لِلْعِلَّةِ فِيهِ مُعَارِضٌ أَوْ لَا؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مُعَارِضٌ فِي الْأَصْلِ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي الْفَرْعِ هَلْ وُجِدَ فِيهِ مَانِعٌ أَوْ فَاتَ شَرْطٌ أَوْ لَا؟ ثُمَّ وَإِنْ قُدِّرَ انْتِفَاءُ الِاجْتِهَادِ مُطْلَقًا فِي الصُّورَةِ الْمَفْرُوضَةِ فَلَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَ الْقِيَاسِ فِيهَا بَلِ الْحُكْمُ إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ. وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ الْقِيَاسَ هُوَ التَّشْبِيهُ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ تَشْبِيهُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ بِالْآخَرِ فِي الْمِقْدَارِ، وَفِي بَعْضِ صِفَاتِ الْكَيْفِيَّاتِ كَالْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَنَحْوِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 قِيَاسًا شَرْعِيًّا ; إِذِ الْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي حَدِّ الْقِيَاسِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَشَرِّعِينَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَمِنْهَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْقِيَاسُ هُوَ الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْحَقِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُوَ الْعِلْمُ الْوَاقِعُ بِالْمَعْلُومِ عَنْ نَظَرٍ، وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ بِالْعِلْمِ الْحَاصِلِ بِالنَّظَرِ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. كَيْفَ وَإِنَّ الْعِلْمَ غَيْرُ حَاصِلٍ مِنَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ غَيْرَ الظَّنِّ، وَإِنْ كَانَ حَاصِلًا مِنْهُ فَهُوَ ثَمَرَةُ الْقِيَاسِ فَلَا يَكُونُ هُوَ الْقِيَاسَ. وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِجْرَاءِ حُكْمِهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ ; لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْهُ الْقِيَاسُ الَّذِي فَرْعُهُ مَعْدُومٌ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. الثَّانِي: أَنَّ حَمْلَ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِجْرَاءَ حُكْمِهِ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ فَلَا يَكُونُ قِيَاسًا، وَإِنْ كَانَ بِجَامِعٍ فَيَكُونُ قِيَاسًا وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَامِعِ، فَكَانَ لَفْظُهُ عَامًّا لِلْقِيَاسِ وَلِمَا لَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: إِنَّهُ حَمْلُ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِ بِضَرْبٍ مِنَ الشَّبَهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا أَبْطَلْنَا بِهِ حَدَّ أَبِي هَاشِمٍ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: الْقِيَاسُ تَحْصِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ إِشْكَالًا وَأَجَابَ عَنْهُ، أَمَّا الْإِشْكَالُ فَهُوَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ يُسَمُّونَ قِيَاسَ الْعَكْسِ قِيَاسًا، وَلَيْسَ هُوَ تَحْصِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ لِاشْتِبَاهِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ، بَلْ هُوَ تَحْصِيلُ نَقِيضِ حُكْمِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِهِ لِافْتِرَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ فَحَاصِلُهُ أَنَّ تَسْمِيَةَ قِيَاسِ الْعَكْسِ قِيَاسًا إِنَّمَا كَانَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لِفَوَاتِ خَاصِّيَّةِ الْقِيَاسِ فِيهِ، وَهُوَ إِلْحَاقُ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْمُشَابَهَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِهِ أَيْضًا: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا حَقِيقَةً غَيْرَ أَنَّ اسْمَ الْقِيَاسِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ قِيَاسِ الطَّرْدِ وَقِيَاسِ الْعَكْسِ، فَتَحْدِيدُ أَحَدِهِمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 بِخَاصِّيَّتِهِ لَا يُنْتَقَضُ بِالْمُسَمَّى الْآخَرِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي خَاصِّيَّتِهِ وَإِنْ كَانَ مُسَمًّى بِاسْمِهِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ حُدَّتِ الْعَيْنُ بِحَدٍّ يَخُصُّهَا لَا يَنْتَقِضُ بِالْعَيْنِ الْجَارِيَةِ الْمُخَالِفَةِ لَهَا فِي حَدِّهَا وَإِنِ اشْتَرَكَا فِي الِاسْمِ، وَالْمَحْدُودُ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ قِيَاسُ الطَّرْدِ الْمُخَالِفِ فِي حَقِيقَتِهِ لِقِيَاسِ الْعَكْسِ، غَيْرَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحَدِّ مَدْخُولٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تَحْصِيلُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ مُشْعِرٌ بِتَحْصِيلِ عَيْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: مِثْلُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ. الثَّانِي: أَنَّ تَحْصِيلَ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ هُوَ حُكْمُ الْفَرْعِ وَنَتِيجَةُ الْقِيَاسِ، وَنَتِيجَةُ الشَّيْءِ لَا تَكُونُ هِيَ نَفْسَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: الْقِيَاسُ هُوَ اشْتِبَاهُ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَلْزِمُ تَحْصِيلَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: (1) الْقِيَاسُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِمَا عَنْهُمَا، وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى خَمْسَةِ قُيُودٍ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: بِنَاءً عَلَى جَامِعٍ بَيْنَهُمَا. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: مِنْ إِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ لَهُمَا. الْخَامِسُ: قَوْلُهُ: أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا. أَمَّا الْقَيْدُ الْأَوَّلُ فَيَسْتَدْعِي بَيَانَ مَعْنَى الْحَمْلِ، وَبَيَانَ فَائِدَةِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْمَعْلُومِ وَفَائِدَةِ حَمْلِ الْمَعْلُومِ عَلَى الْمَعْلُومِ. أَمَّا الْحَمْلُ فَمَعْنَاهُ مُشَارَكَةُ أَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ لِلْآخَرِ فِي حُكْمِهِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَتْ صُورَةُ الْمَحْمُولِ وَالْمَحْمُولِ عَلَيْهِ عَدَمِيَّةً، وَرُبَّمَا كَانَتْ وُجُودِيَّةً، فَلَفْظُ الْمَعْلُومِ يَكُونُ شَامِلًا لَهُمَا، فَإِنَّهُ لَوْ أُطْلِقَ لَفْظُ الْمَوْجُودِ لَخَرَجَ مِنْهُ الْمَعْدُومُ، وَلَوْ أُطْلِقَ لَفْظُ الشَّيْءِ لَاخْتَصَّ أَيْضًا بِالْمَوْجُودِ عَلَى رَأْيِ أَهْلِ الْحَقِّ.   (1) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 وَلَوْ قَالَ: حَمْلُ فَرْعٍ عَلَى أَصْلٍ، رُبَّمَا أَوْهَمَ اخْتِصَاصَهُ بِالْمَوْجُودِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ وَصْفَ أَحَدِهِمَا بِكَوْنِهِ فَرْعًا وَالْآخِرَ بِكَوْنِهِ أَصْلًا قَدْ يُظَنُّ أَنَّهُ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ، وَالصِّفَاتُ الْوُجُودِيَّةُ لَا تَكُونُ صِفَةً لِلْمَعْدُومِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا، فَكَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْمَعْلُومِ أَجْمَعَ وَأَمْنَعَ وَأَبْعَدَ عَنِ الْوَهْمِ الْفَاسِدِ، وَإِنَّمَا قَالَ: حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَسْتَدْعِي الْمُقَايَسَةَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْلَاهُ لَكَانَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيُهُ فِي الْفَرْعِ غَيْرَ مُسْتَفَادٍ مِنَ الْقِيَاسِ، أَوْ كَانَ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ غَيْرِ مُعْتَبَرَةٍ فَيَكُونُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ وَالتَّحَكُّمِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّانِي فَإِنَّمَا ذِكْرُهُ لِأَنَّ حَمْلَ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ قَدْ بَانَ أَنَّ مَعْنَاهُ التَّشْرِيكُ فِي الْحُكْمِ، وَحُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَحْمُولُ عَلَيْهِ قَدْ يَكُونُ إِثْبَاتًا وَقَدْ يَكُونُ نَفْيًا، وَكَانَتْ عِبَارَتُهُ بِذَلِكَ أَجْمَعَ لِلنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ. وَأَمَّا الْقَيْدُ الثَّالِثُ: فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْجَامِعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِلَّا كَانَ حَمْلُ الْفَرْعِ عَلَى الْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا الْقَيْدُ الرَّابِعُ: فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قَدْ يَكُونُ تَارَةً حُكْمًا شَرْعِيًّا، كَمَا لَوْ قَالَ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِ الْكَلْبِ: نَجِسٌّ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخِنْزِيرِ، وَقَدْ يَكُونُ وَصْفًا حَقِيقِيًّا كَمَا لَوْ قَالَ فِي النَّبِيذِ: مُسْكِرٌ، فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ. وَأَمَّا الْقَيْدُ الْخَامِسُ فَإِنَّمَا ذَكَرَهُ لِأَنَّ الْجَامِعَ مِنَ الْحُكْمِ أَوِ الصِّفَةِ قَدْ يَكُونُ إِثْبَاتًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمِثَالَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ نَفْيًا: إِمَّا فِي الْحُكْمِ لَوْ قَالَ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ إِذَا غُسِلَ بِالْخَلِّ: غَيْرُ طَاهِرٍ فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِيهِ كَمَا لَوْ غَسَلَهُ بِاللَّبَنِ وَالْمَرَقِ. وَإِمَّا فِي الصِّفَةِ فَكَمَا لَوْ قَالَ فِي الصَّبِيِّ: غَيْرُ عَاقِلٍ فَلَا يُكَلَّفُ كَالْمَجْنُونِ. وَقَدْ أَوْرَدَ عَلَيْهِ تَشْكِيكَاتٌ لَا بُدَّ فِي ذِكْرِهَا وَالْإِشَارَةِ إِلَى دَفْعِهَا: الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْقَوْلَ بِحَمْلِ الْمَعْلُومِ عَلَى الْمَعْلُومِ إِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَالْقَوْلُ ثَانِيًا فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا يَكُونُ تَكْرَارًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ فَلَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ فِي تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ مَاهِيَّةَ الْقِيَاسِ تَتِمُّ بِإِثْبَاتِ مِثْلِ حُكْمِ أَحَدِ الْمَعْلُومَيْنِ لِلْآخَرِ بِأَمْرٍ جَامِعٍ، فَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ زَائِدًا عَمَّا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مُثْبَتٌ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ مُحَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعٌ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، فَلَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ فَرْعًا عَلَى الْقِيَاسِ كَانَ دَوْرًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ فَقَدْ ثَبَتَتِ الصِّفَةُ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ، كَقَوْلِنَا فِي الْبَارِي تَعَالَى: (عَالِمٌ) فَكَانَ لَهُ عِلْمٌ كَالشَّاهِدِ، فَالْقِيَاسُ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مُنْدَرِجَةً فِي الْحُكْمِ أَوْ لَا تَكُونُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ كَانَ الْقَوْلُ بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا مِنْ حُكْمٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ نَفْيِهِمَا تَكْرَارًا لِكَوْنِ الصِّفَةِ أَحَدَ أَقْسَامِ الْحُكْمِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي كَانَ التَّعْرِيفُ نَاقِصًا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي مَاهِيَّةِ الْقِيَاسِ الْجَامِعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جَامِعٌ لِأَقْسَامِ الْجَامِعِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَاهِيَّةَ الْقِيَاسِ قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَقْسَامِهِ بِعَيْنِهِ، وَمَا تَنْفَكُّ عَنْهُ الْمَاهِيَّةُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي حَدِّهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ وَجَبَ فِي ذِكْرِ مَاهِيَّةِ الْقِيَاسِ ذِكْرُ أَقْسَامِ الْجَامِعِ فَالْحُكْمُ وَالصِّفَةُ الْجَامِعَةُ أَيْضًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْقَسِمٌ إِلَى أَقْسَامٍ كَثِيرَةٍ لَا تُحْصَى، فَكَانَ يَجِبُ اسْتِقْصَاؤُهَا فِي الذِّكْرِ وَإِلَّا كَانَ الْحَدُّ نَاقِصًا وَهُوَ مُحَالٌ. الْخَامِسُ: أَنَّ كَلِمَةَ (أَوْ) لِلتَّرْدِيدِ وَالشَّكِّ، وَالتَّحْدِيدُ إِنَّمَا هُوَ لِلتَّعْيِينِ، وَالتَّرْدِيدُ يُنَافِي التَّعْيِينَ. السَّادِسُ: أَنَّ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ قِيَاسٌ، وَهُوَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْحَدِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْقَائِلَ قَدِ اعْتَبَرَ فِي حَدِّهِ حُصُولَ الْجَامِعِ، وَمَهْمَا حَصَلَ الْجَامِعُ كَانَ صَحِيحًا، فَالْفَاسِدُ الَّذِي لَمْ يَحْصُلِ الْجَامِعُ فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيهِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ بِأَمْرٍ جَامِعٍ فِي ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ الَّذِي لَمْ يَحْصُلِ الْجَامِعُ فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِحَمْلِ الْمَعْلُومِ عَلَى الْمَعْلُومِ إِنَّمَا هُوَ التَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ أَحَدِهِمَا مُطْلَقًا. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ (فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ نَفْيِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى ذِكْرِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَأَقْسَامِهِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 وَهِيَ زَائِدَةٌ عَلَى نَفْسِ التَّسْوِيَةِ فِي مَفْهُومِ الْحُكْمِ، فَذِكْرُهَا ثَانِيًا لَا يَكُونُ تَكْرَارًا. وَعَنِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ هُوَ أَقْوَى الْإِشْكَالَاتِ الْوَارِدَةِ هَاهُنَا - أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: (حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا) مُشْعِرٌ بِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْقِيَاسِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ الدَّوْرُ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مَا عُلِمَ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَصْلِ، وَالْفَرْعِ، وَحُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْوَصْفِ الْجَامِعِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَالْحَكْمُ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مُسْتَنِدٍ فِي ثُبُوتِهِ وَلَا نَفْيِهِ إِلَى مَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ ; إِذْ هُوَ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى الْفَرْعِ وَلَا عَلَى نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَوَقِّفٌ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى الْوَصْفِ الْجَامِعِ، وَهُوَ الْعِلَّةُ حَيْثُ إِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُثْبِتِ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ إِلَّا بِنَاءً عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَادُّ فِي هَذِهِ: (فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا) وَالْوَصْفُ الْجَامِعُ رُكْنُ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْقِيَاسِ، فَلَا يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَلَا نَفْيُهُ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالْعِلَّةِ، وَلَيْسَتْ هِيَ نَفْسَ الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا الثَّابِتُ وَالْمَنْفِيُّ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا هُوَ حُكْمُ الْفَرْعِ لَا غَيْرَ. (1) وَعَنِ الثَّالِثِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصَوُّرِ الْقِيَاسِ فِي غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ (2) وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمِثَالِ فَقَدْ أَبْطَلْنَا صِحَّةَ الْقِيَاسِ فِيهِ فِي " أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ ". الثَّانِي وَإِنْ سَلَّمْنَا تَصَوُّرَ الْقِيَاسِ فِي غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ، غَيْرَ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا وَقَعَ فِي تَحْدِيدِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فِي مُصْطَلَحِ أَهْلِ الشَّرْعِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِيمَا كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ فِيهِ شَرْعِيًّا وَالصِّفَةُ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَلَا   (1) إِنَّمَا الْأُولَى زَائِدَةٌ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَالثَّابِتُ وَالْمَنْفِيُّ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا هُوَ حُكْمُ الْفَرْعِ لَا غَيْرُ (2) قِيَاسُ التَّعْلِيلِ وَالتَّمْثِيلِ كَمَا يَجْرِي فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ يَجْرِي فِي طَبَائِعِ الْأَشْيَاءِ وَخَوَاصِّهَا، وَفِي الْعَقْلِيَّاتِ صِفَاتٍ وَأَفْعَالًا بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْعِلَّةِ، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي ص 366 مِنْ مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ، وَاللُّمَعِ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَرَوْضَةِ النَّاظِرِ لِابْنِ قُدَامَةَ، وَالْكَوْكَبِ الْمُنِيرِ لِلْفُتُوحِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 تَكُونُ مُنْدَرِجَةً فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَخُرُوجُ الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ عَنِ الْحَدِّ الْمَذْكُورِ لِلْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِنُقْصَانِهِ وَقُصُورِهِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ أَقْسَامِ الْجَامِعِ مِنَ الْحُكْمِ وَالصِّفَةِ وَتَعْيِينُ كُلِ دَاخِلٍ فِي مَفْهُومِ الْقِيَاسِ فَذِكْرُهُ لَمْ يَكُنْ لِتُوقِفِ مَفْهُومِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ حَتَّى يُقَالَ بِقُصُورِ التَّعْرِيفِ، بَلْ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْكَشْفِ وَالْإِيضَاحِ بِذِكْرِ الْأَقْسَامِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُخِلُّ بِالْحَدِّ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِقْصَاءُ بِذِكْرِ بَاقِي أَقْسَامِ الْحُكْمِ وَالصِّفَةِ لِعَدَمِ وُجُوبِهِ. وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ التَّحْدِيدَ وَالتَّعْرِيفَ قَدْ تَمَّ بِقَوْلِنَا: (حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ بِأَمْرٍ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا) وَمَا وَقَعَ فِيهِ التَّرْدِيدُ بِحَرْفِ (أَوْ) فَقَدْ بَانَ التَّحْدِيدُ (1) وَالتَّعْرِيفُ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَالْإِيضَاحِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَعْرِيفِ الْمَحْدُودِ، كَيْفَ وَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّرْدِيدِ سِوَى بَيَانِ صِحَّةِ انْقِسَامِ الْحُكْمِ وَالْجَامِعِ إِلَى مَا قِيلَ، وَصِحَّةُ الِانْقِسَامِ مِنَ الصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ الَّتِي لَا تَرْدِيدَ فِيهَا. وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا هُوَ تَحْدِيدُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ الشَّرْعِيِّ، وَالْفَاسِدُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَخُرُوجُهُ عَنِ الْحَدِّ لَا يَكُونُ مُبْطِلًا لَهُ لَكِنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ إِشْكَالُ مُشْكِلٍ لَا مَحِيصَ عَنْهُ وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْقِيَاسِ إِجْمَاعًا وَلَيْسَ هُوَ رُكْنًا فِي الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ نَتِيجَةَ الدَّلِيلِ لَا تَكُونُ رُكْنًا فِي الدَّلِيلِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّوْرِ الْمُمْتَنِعِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ مِنْ أَخْذِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَنَفْيِهِ فِي الْفَرْعِ فِي حَدِّ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا فِي الْقِيَاسِ وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، وَقَدْ أَخَذَهُ فِي حَدِّ الْقِيَاسِ حَيْثُ قَالَ: (فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لَهُمَا أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُمَا) إِشَارَةً إِلَى الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ. وَالْمُخْتَارُ فِي حَدِّ الْقِيَاسِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ جَامِعَةٌ مَانِعَةٌ وَافِيَةٌ بِالْغَرَضِ عَرِيَّةٌ عَمَّا يَعْتَرِضُهَا مِنَ التَّشْكِيكَاتِ الْعَارِضَةِ لِغَيْرِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (2)   (1) بَانَ التَّحْدِيدُ: تَمَّ وَانْتَهَى (2) هَذِهِ التَّعَارِيفُ دَخَلَتْهَا الصِّنَاعَةُ الْمَنْطِقِيَّةُ الْمُتَكَلِّفَةُ فَصَارَتْ خَفِيَّةً غَامِضَةً وَاحْتَاجَتْ إِلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ تَسْلَمْ مِنَ النَّقْدِ وَالْأَخْذِ وَالرَّدِّ، وَلَوْ سَلَكُوا فِي الْبَيَانِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَمَعْهُودَ الْعَرَبِ، وَمَأْلُوفَهُمْ مِنَ الْإِيضَاحِ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَسَهُلَ الْأَمْرُ وَهَانَ الْخَطْبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْقِيَاسِ فَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: الْأَصْلِ، وَالْفَرْعِ، وَحُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْوَصْفِ الْجَامِعِ. أَمَّا الْأَصْلُ، فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَقَوْلِنَا: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ رِسَالَةِ الرَّسُولِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْرِفَةَ الرَّسُولِ تَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُرْسَلِ. الثَّانِي: مَا عُرِفَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إِلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُهُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ فَإِنَّهُ أَصْلٌ وَإِنْ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَصْلِ فِي الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا قِسْنَا النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا» " (1) فِي تَحْرِيمِ الشَّرَابِ هَلِ الْأَصْلُ هُوَ النَّصُّ أَوِ الْخَمْرُ أَوِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْخَمْرِ؟ وَهُوَ التَّحْرِيمُ مَعَ اتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْخَمْرِ وَهِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْأَصْلَ. فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْأَصْلُ هُوَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ، وَالْأَصْلُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ.   (1) حَدِيثُ " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا "، وَيُرْوَى: " بِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ ". رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيِّ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلَيٍّ مَرْفُوعًا، وَأَعَلَّهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَرَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ الْغَطْفَانِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلَيٍّ مَرْفُوعًا، وَقَالَ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَجْهُولٌ فِي الرِّوَايَةِ وَالنَّسَبِ وَحَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ، وَالْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْعِبَارَةِ، وَمَنْ أَرَادَ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كِتَابِ نَصْبِ الرَّايَةِ لِلزَّيْلَعِيِّ وَإِلَى تَرْجَمَةِ أَبِي إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيِّ وَالْحَارِثِ الْأَعْوَرَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لِابْنِ حَجَرٍ، فَإِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ يُدَلِّسُ وَقَدْ عَنْعَنَ، وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ كَذَّابٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلُغَةُ أَهْلِ الْجَدَلِ وَاصْطِلَاحُ عُلَمَاءِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ بَعْدَ اسْتِحْكَامِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ ظَاهِرَةٌ فِي صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ وَوَضْعِهِ لِنُصْرَةِ الْمَذْهَبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 وَقَالَتِ الْفُقَهَاءُ: الْأَصْلُ إِنَّمَا هُوَ الْخَمْرُ الثَّابِتَةُ حُرْمَتُهُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ مَا كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُقْتَبَسًا مِنْهُ وَمَرْدُودًا إِلَيْهِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي نَفْسِ الْخَمْرِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَصْلُ إِنَّمَا هُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْخَمْرِ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ مَا انْبَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ مَوْصُلًا إِلَى الْعِلْمِ بِغَيْرِهِ أَوِ الظَّنِّ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي حُكْمِ الْخَمْرِ فَكَانَ هُوَ الْأَصْلَ. قَالُوا: وَلَيْسَ الْأَصْلُ هُوَ النَّصَّ ; لِأَنَّ النَّصَّ هُوَ الطَّرِيقُ إِلَى الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ، وَلَوْ تُصُوِّرَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ فِي الْخَمْرِ دُونَ النَّصِّ كَانَ الْقِيَاسُ مُمْكِنًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّصُّ هُوَ الْأَصْلَ لِكَوْنِهِ طَرِيقًا إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِاتِّفَاقٍ لَكَانَ قَوْلُ الرَّاوِي هُوَ أَصْلَ الْقِيَاسِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِكَوْنِهِ طَرِيقًا إِلَى مَعْرِفَةِ النَّصِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَيْسَ الْأَصْلُ أَيْضًا هُوَ الْخَمْرَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يُعْلَمُ الْخَمْرُ وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحُرْمَةَ جَارِيَةٌ فِيهِ وَلَا فِي الْفَرْعِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا عُلِمَ الْحُكْمُ فَكَانَ هُوَ الْأَصْلَ. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْنَى الْأَصْلِ: مَا يُبْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَالْحُكْمُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا لِبِنَاءِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ عَلَيْهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْخَمْرِ أَصْلًا فَالنَّصُّ الَّذِي بِهِ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ يَكُونُ أَصْلًا لِلْأَصْلِ، وَعَلَى هَذَا: أَيُّ طَرِيقٍ عُرِفَ بِهِ حُكْمُ الْخَمْرِ مِنْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ الْمَوْصُوفِ بِالْحُرْمَةِ فَهُوَ أَيْضًا أَصْلٌ لِلْأَصْلِ فَكَانَ أَصْلًا. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ هُوَ الْمَحَلَّ عَلَى مَا قَالَهُ الْفُقَهَاءُ لِافْتِقَارِ الْحُكْمِ وَالنَّصِّ إِلَيْهِ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَإِنَّ الْمَحَلَّ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى النَّصِّ وَلَا إِلَى الْحُكْمِ. وَأَمَّا الْفَرْعُ فَهَلْ هُوَ نَفْسُ الْحُكْمِ الْمُتَنَازِعِ فِيهِ أَوْ مَحَلُّهُ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحُكْمُ فِي الْخَمْرِ قَالَ: الْفَرْعُ هُوَ الْحُكْمُ فِي النَّبِيذِ. وَمَنْ قَالَ بِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمَحَلُّ قَالَ: الْفَرْعُ هُوَ الْمَحَلُّ وَهُوَ النَّبِيذُ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ هُوَ الْحُكْمَ الْمُتَفَرِّعَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالْمَحَلُّ أَصْلُ الْحُكْمِ الْمُفَرَّعِ عَلَى الْقِيَاسِ، فَتَسْمِيَةُ الْخَمْرِ أَصْلٌ أَوْلَى مِنْ تَسْمِيَةِ النَّبِيذِ فَرْعًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْخَمْرَ أَصْلٌ لِلتَّحْرِيمِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ بِخِلَافِ النَّبِيذِ فَإِنَّهُ أَصْلٌ لِلْفَرْعِ لَا أَنَّهُ فَرْعٌ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وَأَمَّا الْوَصْفُ الْجَامِعُ فَهُوَ فَرْعٌ فِي الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ مُسْتَنْبَطًا مِنْ مَحَلِّ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَهُوَ تَبَعٌ لِلنَّصِّ وَالْحُكْمِ وَمَحَلِّهِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْفَرْعِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فِي النَّبِيذِ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ، وَتَسْمِيَةُ الْوَصْفِ الْجَامِعِ فِي الْفَرْعِ أَصْلًا أَوْلَى مِنْ تَسْمِيَةِ النَّصِّ فِي الْخَمْرِ وَالتَّحْرِيمِ وَمَحَلِّهِ أَصْلًا لِلِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ فِي ذَلِكَ أَصْلًا. [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي شَرَائِطِ الْقِيَاسِ] [ مقدمة أن للقياس أركانا لا يتم دونها ] وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْقِيَاسِ وَأَرْكَانِهِ فَلْنَشْرَعْ فِي بَيَانِ أَبْوَابِهِ: الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي شَرَائِطِ الْقِيَاسِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَأَقْسَامٍ: أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ يَسْتَدْعِي أَرْكَانًا لَا يَتِمُّ دُونَهَا، وَثَمَرَةً، هِيَ نَتِيجَتُهُ: فَأَمَّا الْأَرْكَانُ فَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْفَرْعُ الْمُسَمَّى بِصُورَةِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهِيَ الْوَاقِعَةُ الْمُتَنَازَعِ فِي حُكْمِهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَالْأَصْلُ: وَهُوَ الْوَاقِعَةُ الَّتِي يُقْصَدُ تَعْدِيَةُ حُكْمِهَا إِلَى الْفَرْعِ. وَالْحُكْمُ: الشَّرْعِيُّ الْخَاصُّ بِالْأَصْلِ. وَالْعِلَّةُ: الْجَامِعَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَأَمَّا ثَمَرَتُهُ: فَحُكْمُ الْفَرْعِ فَإِنَّهُ إِذَا تَمَّ الْقِيَاسُ أَنْتَجَ حُكْمَ الْفَرْعِ، وَلَيْسَ حُكْمُ الْفَرْعِ مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ ; إِذِ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ، فَلَوْ كَانَ رُكْنًا مِنْهُ لَتَوَقَّفَ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَعَلَى هَذَا فَشُرُوطُ الْقِيَاسِ لَا تَخْرُجُ عَنْ شُرُوطِ هَذِهِ الْأَرْكَانِ، فَمِنْهَا مَا يَعُودُ إِلَى الْأَصْلِ، وَمِنْهَا مَا يَعُودُ إِلَى الْفَرْعِ. وَمَا يَعُودُ إِلَى الْأَصْلِ: فَمِنْهَا مَا يَعُودُ إِلَى حُكْمِهِ، وَمِنْهَا مَا يَعُودُ إِلَى عِلَّتِهِ. فَلْنَرْسُمْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِسْمًا (1)   (1) مِنْهُمَا: الصَّوَابُ مِنْهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي شَرَائِطِ حُكْمِ الْأَصْلِ] ِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ. الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا ; لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ إِنَّمَا هُوَ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْفَرْعِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ شَرْعِيًّا بِأَنْ كَانَ قَضِيَّةً لُغَوِيَّةً أَوْ عَقْلِيَّةً، فَالْحُكْمُ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْفَرْعِ لَا يَكُونُ شَرْعِيًّا فَلَا يَكُونُ الْغَرَضُ مِنَ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ حَاصِلًا، كَيْفَ وَإِنَّهُ إِذَا كَانَ قَضِيَّةً لُغَوِيَّةً فَقَدْ بَيَّنَّا امْتِنَاعَ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيهِ فِي اللُّغَاتِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: يَكُونُ ثَابِتًا غَيْرَ مَنْسُوخٍ، حَتَّى يُمْكِنَ بِنَاءُ الْفَرْعِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونُ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ نَاظِرٌ وَلَا مُنَاظِرٌ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَعَدَّى الْحُكْمُ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ بِنَاءً عَلَى الْوَصْفِ الْجَامِعِ، وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى اعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى وَصْفِهِ فِي الشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ ثُبُوتِهِ شَرْعِيًّا ; لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ دَلِيلُهُ شَرْعِيًّا لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَلَّا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُتَفَرِّعًا عَنْ أَصْلٍ آخَرَ، وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْكَرْخِيُّ خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ (1) وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْلِهِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَرْعِهِ، أَوْ هِيَ غَيْرُهَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَالْأَصْلُ الَّذِي بِهِ الشَّهَادَةُ بِالِاعْتِبَارِ إِنَّمَا هُوَ الْأَصْلُ الْأَخِيرُ لَا الْأَصْلُ الْأَوَّلُ، فَلْيَقَعِ الرَّدُّ إِلَيْهِ وَإِلَّا فَهُوَ تَطْوِيلٌ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ ; وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ   (1) ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ فِي قَوْلِهِ: خِلَافًا لِلْحَنَابِلَةِ - جَوَازُ بِنَاءِ الْقِيَاسِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ قَوْلَانِ فِي ذَلِكَ: الْمَنْعُ، وَالْجَوَازُ؛ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَبِي الْخَطَّابِ، انْظُرْ: رَوْضَةَ النَّاظِرِ لِابْنِ قُدَامَةَ، وَالْكَوْكَبَ الْمُنِيرَ لِأَبِي الْعَبَّاسِ الْفُتُوحِيِّ، وَاللُّمَعَ لِأَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ، وَانْظُرْ خِلَافَ الْحَنَابِلَةِ فِي حُكْمِ بِنَاءِ الْقِيَاسِ عَلَى الْقِيَاسِ فِي ص 394 وَ 395 مِنْ مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ طَبْعَةَ الْمَدَنِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 الشَّافِعِيُّ مَثَلًا فِي السَّفَرْجَلِ مَطْعُومٌ، فَجَرَى فِيهِ الرِّبَا قِيَاسًا عَلَى التُّفَّاحِ، ثُمَّ قَاسَ التُّفَّاحَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى الْبُرِّ بِوَاسِطَةِ الطَّعْمِ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْقِيَاسَيْنِ مُخْتَلِفَةً، فَلَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي عُدِّيَ بِهَا الْحُكْمُ مِنَ الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ حُكْمُهُ إِلَى فَرْعِهِ - مُؤَثِّرَةً، أَيْ: ثَابِتَةً بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، أَوْ مُسْتَنْبَطَةً مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَدْ أَمْكَنَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ بِالْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَلَمْ يَبْقَ لِلْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ حُكْمُهُ، وَقِيَاسِهِ عَلَى الْأَصْلِ الْأَخِيرِ - حَاجَةٌ، بَلْ هُوَ تَطْوِيلٌ غَيْرُ مُفِيدٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْجُذَامِ: عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ الْفَسْخُ فِي الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ بِهِ الْفَسْخُ فِي النِّكَاحِ، قِيَاسًا عَلَى الرَّتْقِ وَالْقَرْنِ ثُمَّ قَاسَ الرَّتْقَ وَالْقَرْنَ عِنْدَ تَوَجُّهِ مَنْعِهِ عَلَى الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ بِوَاسِطَةِ فَوَاتِ غَرَضِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ أَوَّلًا إِنَّمَا يَثْبُتُ بِمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ أَصْلِهِ، فَإِذَا كَانَ حُكْمُ أَصْلِهِ ثَابِتًا بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَهِيَ مَا اسْتُنْبِطَتْ مِنَ الْأَصْلِ الْآخَرِ، فَيُمْتَنَعُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِغَيْرِهَا ; لِأَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَثْبُتِ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ لَهُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ مَعَهُ ثَابِتٌ بِغَيْرِهِ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ بِهِ فِي الْفَرْعِ الْأَوَّلِ مَعَ عَدَمِ اعْتِبَارِهِ كَانَ ذَلِكَ إِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمُرْسَلِ الْخَلِيِّ عَنِ الِاعْتِبَارِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَعَلَى هَذَا فَإِنْ قُلْنَا بِجَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ مُمْتَنِعًا كَمَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ (1) ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ هَاهُنَا حَيْثُ إِنَّا قَطَعْنَا بِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنَ الْأَصْلِ الْمَمْنُوعِ مِمَّا لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا الشَّارِعُ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي أَصْلِهَا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى ثُبُوتِهِ بِغَيْرِهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْعِلَلِ إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ يُمْكِنُ الظَّنُّ بِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهَا مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ عَلَى وِفْقِهَا. هَذَا كُلُّهُ إِنْ كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَقُولًا بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ مَمْنُوعًا مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَرِضِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَقُولًا بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتَرِضِ مَمْنُوعًا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَدِلِّ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ عِنْدَمَا إِذَا نَوَى النَّفْلَ أَتَى بِمَا أَمَرَ بِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كَمَا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ وَنَوَى النَّفْلَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ   (1) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيقًا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 فِي الْأَصْلِ مِمَّا لَا يَقُولُ بِهِ الْحَنَفِيُّ بَلِ الشَّافِعِيُّ، فَلَا يَصِحُّ مِنَ الْمُسْتَدِلِّ بِنَاءُ الْفَرْعِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ لِمَأْخَذِ مَنْ هُوَ مُنْتَمٍ إِلَيْهِ أَوْ فِي مَعْرِضِ الْإِلْزَامِ لِلْخَصْمِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُعْرَفُ كَوْنُ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مَأْخَذًا لِإِمَامِهِ؛ بِإِثْبَاتِهِ لِلْحُكْمِ عَلَى وِفْقِهِ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَا يَقُولُ بِهِ إِمَامُهُ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا هُوَ عِنْدَكَ عِلَّةُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَيَلْزَمُكَ الِاعْتِرَافُ بِحُكْمِهِ وَإِلَّا فَيَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الْمَعْنَى وَانْتِقَاضُهُ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ إِبْطَالِ التَّعْلِيلِ بِهِ امْتِنَاعُ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ فِي الْأَصْلِ، فَهُوَ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ عِنْدِي ثَابِتًا بِنَاءً عَلَى هَذَا الْوَصْفِ بَلْ بِنَاءً عَلَى غَيْرِهِ، وَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيهِ لِكَوْنِهِ عَدْلًا، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقُ وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَأْخَذِ مَذْهَبِهِ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مُعَلَّلًا بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ غَيْرَ أَنَّ حَاصِلَ الْإِلْزَامِ يَرْجِعُ إِلَى إِلْزَامِ الْمُعْتَرِضِ بِالتَّخْطِئَةِ فِي الْفَرْعِ بِإِثْبَاتِ خِلَافِ حُكْمِهِ، ضَرُورَةَ تَصْوِيبِهِ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ ; إِذْ لَيْسَ تَخْطِئَتُهُ فِي الْفَرْعِ ضَرُورَةَ تَصْوِيبِهِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ - أَوْلَى مِنْ تَخْطِئَتِهِ فِي تَعْلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ، وَتَصْوِيبِهِ فِي حُكْمِ الْفَرْعِ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَلَّا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، وَالْمَعْدُولُ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِمَّا مُسْتَثْنَى مِنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ أَوْ مُبْتَدَأٌ بِهِ، فَالْأَوَّلُ كَقَبُولِ شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى - مُسْتَثْنًى مِنْ قَاعِدَةِ الشَّهَادَةِ. وَالثَّانِي: كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَتَقْدِيرِ نُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 وَالْكَفَّارَاتِ، فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى غَيْرَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَاعِدَةٍ سَابِقَةٍ عَامَّةٍ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ يَمْتَنِعُ فِيهِ الْقِيَاسُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا شُرِعَ ابْتِدَاءً وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ لِعَدَمِ النَّظِيرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَرُخَصِ السَّفَرِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ لِعِلَّةِ دَفْعِ الْمَشَقَّةِ، أَوْ هُوَ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، كَالْيَمِينِ فِي الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَنَحْوِهِ. الشَّرْطُ السَّادِسُ: إِذَا كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الْإِنْفَاقِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَا غَيْرَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكْفِي ذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَطْ، فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ وَسَمَّوْهُ قِيَاسًا مُرَكَّبًا. وَقَبْلَ النَّظَرِ فِي مَأْخَذِ الْحِجَاجِ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي مَعْنَى الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ وَأَقْسَامِهِ. أَمَّا الْقِيَاسُ الْمُرَكَّبُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلَا مُجَمَّعٍ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمَّةِ (1) وَهُوَ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ مُرَكَّبُ الْأَصْلِ، وَالثَّانِي مُرَكَّبُ الْوَصْفِ. أَمَّا التَّرْكِيبُ فِي الْأَصْلِ: فَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَيَجْمَعَ بِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَرْعِهِ فَيُعَيِّنُ الْمُعْتَرِضُ فِيهِ عِلَّةً أُخْرَى وَيَقُولُ: الْحُكْمُ عِنْدِي ثَابِتٌ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ مَثَلًا: عَبْدٌ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ كَالْمُكَاتَبِ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلَا مُجْمَعٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ; لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى قَاتِلِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلِلْحَنَفِيِّ أَنْ يَقُولَ: الْعِلَّةُ فِي الْمُكَاتَبِ (2) الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمَانِعَةُ مِنْ جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيهِ عِنْدِي إِنَّمَا هُوَ جَهَالَةُ (3) الْمُسْتَحِقِّ مِنَ السَّيِّدِ أَوِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ سَلَّمَ ذَلِكَ امْتَنَعَتِ التَّعْدِيَةُ إِلَى الْفَرْعِ لِخُلُوِّ الْفَرْعِ عَنِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ أَبْطَلَ التَّعْلِيلَ بِهَا فَأَنَا أَمْنَعُ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدِي بِهَذِهِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ مَدْرَكُ إِثْبَاتِهِ وَلَا مَحْذُورَ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ   (1) وَلَكِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنَ الْخَصْمَيْنِ الْمُسْتَدِلِّ وَالْمُعْتَرِضِ (2) الْعِلَّةُ فِي الْمُكَاتَبِ أَيْ عِلَّةُ الْحُكْمِ بِتَرْكِ الْقِصَاصِ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ قَاتِلِهِ الْحُرِّ (3) إِنَّمَا هُوَ جَهَالَةُ: الصَّوَابُ إِنَّمَا هِيَ جَهَالَةُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْ مَرْجِعِ الضَّمِيرِ وَخَبَرِهِ مُؤَنَّثٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 لِانْتِفَاءِ مَدْرَكِهِ ; إِذْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُخَالَفَةُ نَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْقِيَاسُ يَكُونُ مُمْتَنِعًا إِمَّا لِمَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَإِمَّا لِعَدَمِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ. قَالَ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ: وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ قِيَاسًا مُرَكَّبًا ; لِاخْتِلَافِ الْخَصْمَيْنِ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، وَإِلَّا كَانَ كُلُّ قِيَاسٍ اخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ أَصْلِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْصُوصًا أَوْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ مُرَكَّبًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْخَصْمَيْنِ فِي تَرْكِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ الْمُسْتَدِلَّ يَزْعُمُ أَنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهِيَ فَرْعٌ لَهُ، وَالْمُعْتَرِضُ يَزْعُمُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ فَرْعٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ الْمُثْبِتَةُ لَهُ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى إِثْبَاتِهِ سِوَاهَا، وَأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْهُ وَلَا هِيَ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ إِبْطَالِهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُرَكَّبَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ نَظِيرٌ فِي عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ. (1) وَأَمَّا مُرَكَّبُ الْوَصْفِ فَهُوَ مَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ، هَلْ لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَصْلِ أَوْ لَا؟ وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي مَسْأَلَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ: تَعْلِيقٌ، فَلَا يَصِحُّ قَبْلَ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ قَالَ: زَيْنَبُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ، فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ التَّعْلِيقِ فِي الْأَصْلِ بَلْ هُوَ تَنْجِيزٌ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ فَأَنَا أَمْنَعُ الْحُكْمَ وَأَقُولُ بِصِحَّتِهِ كَمَا فِي الْفَرْعِ، وَلَا يَلْزَمُنِي مِنَ الْمَنْعِ مَحْذُورٌ لِعَدَمِ النَّصِّ عَلَيْهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مُرَكَّبَ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ خِلَافٌ فِي تَعْيِينِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى بَيَانِ مَعْنَى الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ وَأَقْسَامِهِ. فَنَقُولُ: لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُنْظَرَ فِي ذَلِكَ إِلَى النَّاظِرِ الْمُجْتَهِدِ أَوِ الْمُنَاظِرِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مُدْرَكٌ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ سِوَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ فَالْقِيَاسُ صَحِيحٌ ; لِأَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِحَّةُ الْقِيَاسِ فَلَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَإِنْ   (1) قَارِنْ بَيْنَ خِلَافِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ هُنَا فِيمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَبَيَانِ الْآمِدِيِّ عِلَّةَ تَسْمِيَةِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ مُرَكَّبَ الْأَصْلِ، وَبَيْنَ خِلَافِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِيمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ مَعَ مُرَاعَاةِ أَنَّ الْعِلَّةَ هُنَا مُسْتَنْبَطَةٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ مَنْصُوصَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 لَمْ يَكُنْ لَهُ مَدْرَكٌ سِوَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، فَالْقِيَاسُ مُتَعَذِّرٌ لِتَعَذُّرِ إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَالْمُخْتَارُ بَعْدَ إِبْطَالِ مَا يُعَارِضُ بِهِ الْخَصْمُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّرْكِيبِ، وَتَحْقِيقِ وُجُودِ مَا يَدَّعِيهِ فِي الْأَصْلِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْهُ - إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ الْخَصْمَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا أَوْ مُقَلِّدًا. فَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا وَظَهَرَ فِي نَظَرِهِ إِبْطَالُ الْمَدْرَكِ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْأَصْلِ، فَلَهُ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ لَا يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَصْمِ. وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَتَخْطِئَةُ إِمَامِهِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى عَجْزِهِ هُوَ عَنْ تَمْشِيَةِ الْكَلَامِ مَعَ الْمُسْتَدِلِّ، وَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونُ مَا عَيَّنَهُ الْمُعْتَرِضُ هُوَ الْمَأْخَذَ فِي نَظَرِ إِمَامِهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَأْخَذَ فِي نَظَرِ إِمَامِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَجْزِ الْمُقَلِّدِ عَنْ تَقْرِيرِهِ عَجْزُ إِمَامِهِ عَنْهُ لِكَوْنِهِ أَكْمَلَ حَالًا مِنْهُ وَأَعْرَفَ بِوَجْهِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ وَتَقْرِيرِهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْ تَخْطِئَةِ إِمَامِ الْمُعْتَرِضِ إِمَّا فِي حُكْمِ الْأَصْلِ أَوِ الْفَرْعِ، فَلَيْسَ لِلْخَصْمِ تَخْطِئَةُ إِمَامِهِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْخَصْمِ تَخْطِئَةُ إِمَامِهِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَدِلِّ تَخْطِئَةُ إِمَامِ الْمُعْتَرِضِ فِي الْفَرْعِ دُونَ الْأَصْلِ، وَلَا أَوْلَوِيَّةَ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ تَخْطِئَتُهُ فِي الْفَرْعِ أَوْلَى لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ إِمَامِ الْمُسْتَدِلِّ وَإِمَامِ الْمُعْتَرِضِ بِخِلَافِ حُكْمِ الْأَصْلِ فَيُقَالُ: كَمَا أَنَّ الْخِلَافَ وَاقِعٌ فِي الْفَرْعِ بَيْنَ الْإِمَامَيْنِ فَالْخِلَافُ فِي الْأَصْلِ أَيْضًا وَاقِعٌ بَيْنِ الْأَئِمَّةِ ; إِذْ هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مُوَافَقَةُ إِمَامِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْفَرْعِ أَوْلَى مِنْ مُوَافَقَةِ الْمُخَالِفِ فِي الْأَصْلِ. الشَّرْطُ السَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ دَالًّا عَلَى إِثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ جَعْلُ أَحَدِهِمَا أَصْلًا لِلْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. الشَّرْطُ الثَّامِنُ: اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي اشْتِرَاطِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ - أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا خَاصًّا بِذَلِكَ الْأَصْلِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ فَهُوَ بَاطِلٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ بِجِهَةِ الْعُمُومِ وَالشُّمُولِ فَهُوَ حَقٌّ، وَذَلِكَ لِأَنَّا سَنُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ أَمْكَنَ تَعْلِيلُ حُكْمِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَعْلِيلُهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَدْرَكَ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى مَا يَأْتِي. (1) وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ تَتَبُّعِ أَحْوَالِهِمْ فِي مَجَارِي اجْتِهَادَاتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقِيسُونَ الْفَرْعَ عَلَى الْأَصْلِ عِنْدَ وُجُودِ مَا يُظَنُّ كَوْنُهُ عِلَّةً لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْأَصْلِ، فَظَنِّ وُجُودِهِ فِي الْفَرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِ حُكْمِ ذَلِكَ الْأَصْلِ وَجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: (اعْرِفِ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ ثُمَّ قِسِ الْأُمُورَ بِرَأْيِكَ) (2) وَلَمْ يُفَصِّلْ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: (أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ) حَتَّى قَاسَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الظِّهَارِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْيَمِينِ، وَلَمْ يُنْقَلْ نَصٌّ خَاصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ وَلَا عَلَى جَوَازِ تَعْلِيلِهَا.   (1) سَيَأْتِي فِي أَدِلَّةِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، فَحَصْرُهُ مُدْرَكَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ هُنَا عَلَى الْإِجْمَاعِ - حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ يُقْصَدُ بِهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي إِثْبَاتِهِ لَا نَفْيُ الْمَدَارِكِ الْأُخْرَى الَّتِي اسْتُدِلَّ بِهَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ (2) سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى أَدِلَّةِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي شُرُوطِ عِلَّةِ الْأَصْلِ] وَقَدِ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى جَوَازِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ الْعَرِيَّةِ عَنِ الِاضْطِرَابِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْوَصْفُ مَعْقُولًا كَالرِّضَا وَالسُّخْطِ، أَمْ مُحَسًّا كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ، أَمْ عُرْفِيًّا كَالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَوْجُودًا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ كَمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ، أَمْ مُلَازِمًا لَهُ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِيهِ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِعِلَّةِ رِقِّ الْوَلَدِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي شُرُوطٍ، فَلْنَفْرِضْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَسْأَلَةً. [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى شَرْطَ عِلَّةِ الْأَصْلِ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّ شَرْطَ عِلَّةِ الْأَصْلِ (1) أَلَّا يَكُونَ مَحَلَّ حُكْمِ الْأَصْلِ وَلَا جُزْءً مِنْ مَحَلِّهِ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى جَوَازِهِ، وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ وَهُوَ امْتِنَاعُ ذَلِكَ فِي الْمَحَلِّ دُونَ الْجُزْءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي عِلَّةِ أَصْلِ الْقِيَاسِ، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ هِيَ مَحَلَّ حُكْمِ الْأَصْلِ بِخُصُوصِهِ لَكَانَتِ الْعِلَّةُ قَاصِرَةً لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ مَحَلِّ حُكْمِ الْأَصْلِ بِخُصُوصِهِ مُتَحَقِّقًا فِي الْفَرْعِ، وَإِلَّا كَانَ الْأَصْلُ وَالْفَرْعُ مُتَّحِدًا وَهُوَ مُحَالٌ. نَعَمْ، إِنَّمَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةُ حُكْمِ الْأَصْلِ مُتَعَدِّيَةً ; لِأَنَّهُ لَا يُعَدَّ فِي اسْتِلْزَامِ مَحَلِّ الْحُكْمِ لِحِكْمَةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ كَاسْتِلْزَامِ الْأَوْصَافِ الْعَامَّةِ لِمَحَلِّ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَأَمَّا الْجُزْءُ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهِ لِاحْتِمَالِ عُمُومِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ.   (1) عِلَّةُ الْأَصْلِ أَيْ عِلَّةٌ بِحُكْمِ الْأَصْلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 [الْمَسْأَلَةُ الثانية كَوْنِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُجَرَّدَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ كَوْنِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ (1) ، أَيْ مُشْتَمِلَةً عَلَى حِكْمَةٍ صَالِحَةٍ أَنْ تَكُونَ مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ وَصْفًا طَرْدِيًّا لَا حِكْمَةَ فِيهِ بَلْ أَمَارَةً مُجَرَّدَةً فَالتَّعْلِيلُ بِهَا فِي الْأَصْلِ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْأَمَارَةِ سِوَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَعْرُوفٌ بِالْخِطَابِ لَا بِالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ. الثَّانِي: أَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَمُتَفَرِّعَةٌ عَنْهُ، فَلَوْ كَانَتْ مُعَرِّفَةً لِحُكْمِ الْأَصْلِ لَكَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهَا وَمُتَفَرِّعًا عَنْهَا، وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ. [الْمَسْأَلَةُ الثالثة الْحُكْمِ بِالْحِكْمَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الضَّابِطِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ ذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى امْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِالْحِكْمَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الضَّابِطِ (2) وَجَوَّزَهُ الْأَقَلُّونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْحِكْمَةِ الظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبَةِ بِنَفْسِهَا وَالْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ الْمُضْطَرِبَةِ، فَجَوَّزَ التَّعْلِيلَ بِالْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ.   (1) اخْتَارَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ لَا لِأَمَارَةٍ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُكَلَّفِ مُنَاسِبًا فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ثَبَتَ الْحُكْمُ مِنْ أَجْلِهِ يَبْعَثُ الْمُكَلَّفَ عَلَى الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ، لَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمَ أَدَبًا مَعَ اللَّهِ. قَالَ فِي مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَّةَ: قَدْ أَطْلَقَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَالْحُلْوَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ إِنَّمَا هِيَ أَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ نَصَبَهَا اللَّهُ أَدِلَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ فَهِيَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْكَلَامُ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، ثُمَّ قَالَ: ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ أَمَارَاتٍ فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِمَصَالِحَ وَدَافِعَةٌ لِمَفَاسِدَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَمَارَاتِ السَّاذَجَةِ الْعَاطِلَةِ عَنِ الْإِيجَابِ (2) الْمُرَادُ بِالضَّابِطِ هُنَا الْوَصْفُ الظَّاهِرُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا اقْتَرَنَ بِوَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى حِكْمَةٍ غَيْرِ مُنْضَبِطَةٍ بِنَفْسِهَا أَنَّهُ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمَقْصُودَ مَنْ شَرْعِ الْحُكْمِ، بَلْ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ، فَإِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ وَهِيَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ مُسَاوِيَةً لِلْوَصْفِ فِي الظُّهُورِ وَالِانْضِبَاطِ كَانَتْ أَوْلَى بِالتَّعْلِيلِ بِهَا. وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهَا لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا إِذَا كَانَتْ خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مَا هُوَ مَنَاطُ الْحُكْمِ مِنْهَا وَالْوُقُوفُ عَلَيْهِ إِلَّا بِعُسْرٍ وَحَرَجٍ، وَدَأْبُ الشَّارِعِ فِيمَا هَذَا شَأْنُهُ عَلَى مَا أَلِفْنَاهُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ رَدُّ النَّاسِ فِيهِ إِلَى الْمَظَانِّ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ دَفْعًا لِلْعُسْرِ عَنِ النَّاسِ وَالتَّخَبُّطِ فِي الْأَحْكَامِ، وَلِهَذَا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا قَضَى بِالتَّرَخُّصِ فِي السَّفَرِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ الْمَضْبُوطَةِ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ إِلَى مَقْصِدٍ مُعَيَّنٍ، وَلَمْ يُعَلِّقْهَا بِنَفْسِ الْمَشَقَّةِ لَمَّا كَانَتْ مِمَّا يَضْطَرِبُ وَيَخْتَلِفُ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخَّصْ لِلْحَمَّالِ الْمَشْقُوقِ عَلَيْهِ فِي الْحَضَرِ وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ مَشَقَّتَهُ تَزِيدُ عَلَى مَشَقَّةِ الْمُسَافِرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَرْسَخًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الرَّفَاهِيَةِ وَالدَّعَةِ؛ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ وَيَضْطَرِبُ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّةِ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ بِالْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى احْتِمَالِ الْحُكْمِ، كَتَعْلِيلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ لِحِكْمَةِ الزَّجْرِ أَوِ الْجَبْرِ، وَتَعْلِيلِ صِحَّةِ الْبَيْعِ بِالتَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ لِحِكْمَةِ الِانْتِفَاعِ، وَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَإِيجَابِ الْحَدِّ بِهِ لِحِكْمَةِ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ النَّاشِئَةِ مِنْهُ وَنَحْوِهِ، وَلَوْ كَانَ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ مِمَّا يَصِحُّ لَمَ احْتِيجَ إِلَى التَّعْلِيلِ بِضَوَابِطَ هَذِهِ الْحِكَمِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَلِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْحَرَجِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْحِكْمَةِ وَعَنْ ضَابِطِهَا مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ بِأَحَدِهِمَا. الثَّالِثُ: أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْحِكْمَةِ الْمُجَرَّدَةِ إِذَا كَانَتْ خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً مِمَّا يُفْضِي إِلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِالْبَحْثِ عَنْهَا وَالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ؛ لِكَوْنِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ أَدْنَى، فَبَقِينَا عَامِلِينَ بِعُمُومِ النَّصِّ فِيمَا عَدَاهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ الظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ فَهُوَ فَرْعُ إِمْكَانِ ذَلِكَ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فِي الْحِكْمَةِ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْحَاجَاتِ إِلَى الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَفَاسِدِ، وَالْحَاجَاتُ مِمَّا تَخْفَى وَتَزِيدُ وَتَنْقُصُ فَلَا تَكُونُ ظَاهِرَةً وَلَا مُنْضَبِطَةً، وَإِنْ سَلَّمْنَا إِمْكَانَ ذَلِكَ نَادِرًا. غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ التَّوَسُّلِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا فِي آحَادِ الصُّوَرِ لِتَعْيِينِ الْقَلِيلِ مِنْهَا نَوْعُ عُسْرٍ وَحَرِجٍ لَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي التَّوَسُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الضَّوَابِطِ الْجَلِيَّةِ وَالْمَظَانِّ الظَّاهِرَةِ الْمُنْضَبِطَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى احْتِمَالِ الْحُكْمِ فِي الْغَالِبِ، وَذَلِكَ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي امْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: فَالْبَحْثُ عَنِ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ حَرِجٍ وَمَشَقَّةٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الظَّاهِرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَيْهَا ضَرُورَةَ أَنَّهَا عِلَّةٌ لِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً، وَلَوْلَا اشْتِمَالُ الْوَصْفِ عَلَيْهَا لَمَا كَانَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا فِي جَعْلِ الْوَصْفِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ وَقَدْ جُعِلَتْ عِلَّةً لِلْعِلَّةِ أَمْكَنَ أَنْ تُجْعَلَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى ضَابِطِهَا، وَحَيْثُ لَمْ نَقْضِ بِالتَّرَخُّصِ فِي حَقِّ الْحَمَّالِ فِي الْحَضَرِ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ عَنْهُ، فَغَايَتُهُ امْتِنَاعُ تَعْلِيلِ الرُّخْصَةِ بِمُطْلَقِ الْمَشَقَّةِ بَلْ بِالْمَشَقَّةِ الْخَاصَّةِ بِالسَّفَرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَغَايَةُ مَا فِيهِ جَوَازُ التَّعْلِيلِ بِالضَّابِطِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ، قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ أَسْهَلُ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْحِكْمَةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَهُوَ أَنَّ الْحَرَجَ اللَّازِمَ عَنِ الْبَحْثِ عَنِ الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ شَاقًّا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْهَا عِنْدَ التَّعْلِيلِ بِضَابِطِهَا، بَلِ الْمَشَقَّةُ فِي تَعَرُّفِهَا مَعَ تَعَرُّفِ ضَابِطِهَا أَشَقُّ مِنْ تَعَرُّفِهَا دُونَ ضَابِطِهَا، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى مُخَالَفَةِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ عِنْدَ التَّعْلِيلِ بِالضَّابِطِ، وَكَانَتْ مُخَالَفَتُهُ عِنْدَ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ لَا غَيْرَ - أَقَلَّ مَشَقَّةً وَحَرَجًا، فَكَانَ أَوْلَى بِالْمُخَالَفَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 وَالْجَوَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْحِكْمَةُ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا فِيمَا لَمْ يَكُنْ. قَوْلُهُمْ: " إِنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا وَالْبَحْثَ عَنْهَا أَشَقُّ مِنَ الْبَحْثِ عَنِ الضَّابِطِ " لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً مُنْضَبِطَةً كَالْوَصْفِ فَلَا تَفَاوُتَ. وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي (1) : أَنَّ الْبَحْثَ عَنِ الْحِكْمَةِ عِنْدَ تَجَرُّدِهَا عَنِ الضَّابِطِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مَعْرِفَةِ كَمِّيَّتِهَا وَخُصُوصِيَّتِهَا حَتَّى نَأْمَنَ مِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِيهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْحِكْمَةِ الْخَفِيَّةِ الْمُضْطَرِبَةِ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ مَعْرِفَةِ احْتِمَالِهَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَتْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ نَكْتَفِي بِمَعْرِفَةِ الضَّابِطِ، وَمَعْرِفَةِ أَصْلِ احْتِمَالِ الْحِكْمَةِ لَا غَيْرَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ، وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَيْهِ فَهُوَ اعْتِرَافٌ بِامْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِمُجَرَّدِ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ التَّعْلِيلُ بِالْحِكْمَةِ لَمَا احْتِيجَ إِلَى التَّعْلِيلِ بِالضَّابِطِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِ أَسْهَلُ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى الْحِكْمَةِ بِمُجَرَّدِهَا. قُلْنَا: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأْخِيرِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إِلَى زَمَانِ إِمْكَانِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْحِكْمَةِ مَعَ إِمْكَانِ إِثْبَاتِهِ بِالضَّابِطِ فِي أَقْرَبِ زَمَانٍ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ التَّسَاوِيَ فِي الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ فِي الْبَحْثِ عَنِ الْحِكْمَةِ مَعَ ضَابِطِهَا وَمَعَ خُلُوِّهَا عَنِ الضَّابِطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَفْتَقِرُ فِي الْبَحْثِ عَنْهَا عِنْدَ خُلُوِّهَا عَنِ الضَّابِطِ إِلَى مَعْرِفَةِ خُصُوصِيَّتِهَا وَكَمِّيَّتِهَا حَتَّى نَأْمَنَ مِنَ التَّفَاوُتِ فِيهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ كَمَا سَبَقَ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْبَحْثِ عَنْهَا مَعَ ضَابِطِهَا، فَإِنَّا لَا نَفْتَقِرُ فِي الْبَحْثِ عَنْهَا إِلَى أَكْثَرَ مِنْ مَعْرِفَةِ أَصْلِ احْتِمَالِهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَرَجَ فِي تَعَرُّفِهَا عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ أَتَمُّ مِنْ تَعَرُّفِهَا لَا بِجِهَةِ التَّفْصِيلِ.   (1) وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: فِيهِ تَحْرِيفٌ الصَّوَابُ: وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 [الْمَسْأَلَةُ الرابعة تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ بِالْعَدَمِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ بِالْعَدَمِ، فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ، وَشَرَطُوا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ لِلْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ أَمْرًا وُجُودِيًّا وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً - صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ ; لِأَنَّ نَقِيضَ الْعِلَّةِ (لَا عِلَّةَ) ، وَ (لَا عِلَّةَ) أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِبَعْضِ الْأَعْدَامِ، وَلَوْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ (لَا عِلَّةَ) وُجُودِيًّا لَكَانَ الْوُجُودُ صِفَةً لِلْعَدَمِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانَ (لَا عِلَّةَ) عَدَمًا فَالْمَفْهُومُ مِنْ نَقِيضِهَا وُجُودِيٌّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ قَوْلُ الْقَائِلِ: " أَيُّ شَيْءٍ وُجِدَ حَتَّى حَدَثَ هَذَا الْأَمْرُ؟ " وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحُدُوثُ مُتَوَقِّفًا عَلَى وُجُودِ شَيْءٍ لَمَا صَحَّ هَذَا الْكَلَامُ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَيُّ رَجُلٍ مَاتَ حَتَّى حَدَثَ لِفُلَانٍ هَذَا الْمَالُ؟ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ حُدُوثُ الْمَالِ لِفُلَانٍ مُتَوَقِّفًا عَلَى مَا قِيلَ. الثَّالِثُ: وَهُوَ خَاصٌّ بِمَا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ كَالْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: " قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنَ الْحُكْمِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ لَا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ، وَالْبَاعِثُ مَا اشْتَمَلَ عَلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَكْمِيلِهَا أَوْ دَفْعِ مَفْسَدَةً أَوْ تَعْلِيلِهَا كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ لِمِثْلِ هَذَا الْغَرَضِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ضَابِطُ ذَلِكَ الْغَرَضِ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فِي إِيجَادِهِ وَإِعْدَامِهِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ شَرْعُ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُفِيدًا لِمِثْلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ، لِعَدَمِ إِفْضَائِهِ إِلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ، وَالْعَدَمُ الْمَحْضُ لَا انْتِسَابَ لَهُ إِلَى قُدْرَةِ الْمُكَلَّفِ لَا بِإِيجَادٍ وَلَا إِعْدَامٍ، فَجُعِلَ ضَابِطًا لِغَرَضِ الْحُكْمِ وَمَقْصُودِهِ لَا يَكُونُ مُفْضِيًا إِلَى مَقْصُودِ شَرْعِ الْحُكْمِ فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ صِفَةِ الْعِلَّةِ عَدَمٌ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ صِفَةُ الْعِلَّةِ أَمْرًا وُجُودِيًّا لَمْ يَخْلُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِذَاتِهَا، أَوْ مُمْكِنَةً، الْأَوَّلُ مُحَالٌ، وَإِلَّا لَمَا افْتَقَرَتْ إِلَى الْمَوْصُوفِ بِهَا. وَالثَّانِي يُوجِبُ افْتِقَارَهَا إِلَى عِلَّةٍ مُرَجِّحَةٍ لَهَا، فِي صِفَةِ تِلْكَ الْعِلَّةِ كَالْكَلَامِ فِي الْأُولَى وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِحُّ وَصْفُ الْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ بِكَوْنِهِ عِلَّةً لِلْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا لَمْ أُسَلِّمْ عَلَى فُلَانٍ لِأَنِّي لَمْ أَرَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ أَفْعَلْ كَذَا لِعَدَمِ الدَّاعِي إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَوَقُّفِ حُدُوثِ ذَلِكَ الْأَمْرِ عَلَى تَجَدُّدِ وُجُودِ أَمْرٍ آخَرَ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ صَنَعَ هَذَا حَتَّى حَدَثَ لَهُ هَذَا الْمَالُ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُصُولُ الْمَالِ لَهُ مَوْقُوفًا عَلَى صُنْعٍ مِنْ جِهَتِهِ ; لِجَوَازِ حُدُوثِهِ لَهُ عَنْ إِرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ. وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى التَّوَقُّفِ عَلَى الْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ بِالْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ. وَبَيَانُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: ضَرَبَ فُلَانٌ عَبْدَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ، وَشَتَمَ فُلَانٌ فُلَانًا لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ بِالْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فَهُوَ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَأَنَّ الْبَاعِثَ عِبَارَةٌ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ كَوْنِ الْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ بَاعِثًا، وَذَلِكَ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْوُجُودِيِّ الظَّاهِرِ الْمُنْضَبِطِ إِذَا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وِفْقِهِ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ ظَاهِرًا، فَالْعَدَمُ الْمُقَابِلُ لَهُ يَكُونُ أَيْضًا ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا، وَيَكُونُ مُشْتَمِلًا عَلَى نَقِيضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ مَصْلَحَةً فَعَدَمُهُ يَلْزَمُهُ عَدَمُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَعَدَمُ الْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ، وَإِنْ كَانَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ مَفْسَدَةً، فَعَدَمُهُ يَلْزَمُهُ عَدَمُ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ، وَعَدَمُ الْمَفْسَدَةِ مَصْلَحَةٌ وَهُوَ مَقْدُورٌ لِلْمُكَلَّفِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُقَابِلُهُ وَهُوَ الْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ مَقْدُورًا، فَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ مَقْدُورًا إِلَّا أَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَى إِيجَادِهِ وَإِعْدَامِهِ، فَإِذًا الْعَدَمُ الْمُقَابِلُ لِلْوُجُودِ مَقْدُورٌ وَإِذَا كَانَ مَقْدُورًا وَهُوَ ظَاهِرٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 مُنْضَبِطٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ مَفْسَدَةٍ، فَقَدْ أَمْكَنَ التَّعْلِيلُ بِهِ كَمَا أَمْكَنَ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الْوُجُودِيِّ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ لُزُومِ التَّسَلْسُلِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ الْعِلِّيَّةِ صِفَةً وُجُودِيَّةً - لَازِمٌ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا عَدَمِيَّةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ صِفَةِ الْعِلِّيَّةِ إِذَا كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِنَفْسِهِ وَمَفْهُومِهِ أَوْ مُمْكِنًا. لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ وَإِلَّا لَمَا افْتَقَرَ فِي تَحْقِيقِهِ إِلَى نِسْبَتِهِ إِلَى ذَاتِ الْعِلَّةِ، وَكَوْنِهِ وَصْفًا لَهَا، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُرَجِّحَةٍ، وَالتَّسَلْسُلُ لَازِمٌ لَهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْجَوَابُ يَكُونُ مُتَّحِدًا. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ ثَانِيًا فَلَا يَصِحُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُودَ الدَّاعِي إِلَى الْفِعْلِ شَرْطٌ لِوُجُودِ الْفِعْلِ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ لِزَيْدٍ شَرْطٌ فِي السَّلَامِ عَلَيْهِ لَا أَنَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ لَهُ، وَإِنَّمَا أُضِيفَ عَدَمُ الْأَثَرِ إِلَيْهِ بِلَامِ التَّعْلِيلِ بِجِهَةِ التَّجَوُّزِ لِمُشَابَهَتِهِ لِلْعِلَّةِ فِي افْتِقَارِ الْأَثَرِ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلِذَلِكَ يُقَالُ فِي صُورَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ بِدُخُولِ الدَّارِ: (إِنَّمَا طُلِّقَتِ الزَّوْجَةُ وَعُتِقَ الْعَبْدُ لِدُخُولِ الدَّارِ) وَيَجِبُ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّجَوُّزِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. قَوْلُهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى تَوَقُّفِ الْحُدُوثِ عَلَى تَجَدُّدِ الْوُجُودِ. قُلْنَا: دَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ، فَإِنَّمَا صَحَّ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي حُدُوثِ الْمَالِ لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى صَنْعَةٍ لَا إِلَى مَا ذَكَرُوهُ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَتَمَسَّكُ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِالظَّاهِرِ لَا بِالْقَطْعِ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ بِالْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْمُعَلَّلَ بِهِ لَيْسَ هُوَ الْعَدَمُ الْمَحْضُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْتَسِبٍ إِلَى فِعْلِ الشَّخْصِ فَلَا يَحْسُنُ جَعْلُهُ عِلَّةً لِلْعِقَابِ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْ ذَلِكَ وَكَفِّ النَّفْسِ عَنْهُ، وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا عَدَمِيٌّ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ فَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى التَّعْلِيلِ بِالْإِعْدَامِ الْمَقْدُورِ، وَهُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ لَا بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَا وَقَعَ فِيهِ النِّزَاعُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 وَإِذَا عُرِفَ امْتِنَاعُ الْوُجُودِ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فَبِمِثْلِهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ جُزْءًا مِنَ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْأَمْرِ الْوُجُودِيِّ وَلَا دَاخِلًا فِيهَا، وَالْوَجْهُ فِي الِاعْتِرَاضِ عَلَى ذَلِكَ وَالِانْفِصَالِ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَيَخُصُّهُ اعْتِرَاضٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ انْتِفَاءَ مُعَارَضَةِ الْمُعْجِزَةِ بِمِثْلِهَا جُزْءٌ مِنَ الْمُعَرِّفِ لِكَوْنِهَا مُعْجِزَةً، وَكَذَلِكَ الدَّوَرَانُ فَإِنَّهُ مُعَرِّفٌ لِعِلِّيَّةِ الْمُدَارِ، وَأَحَدُ أَجْزَاءِ الدَّوَرَانِ الْعَدَمُ مَعَ الْعَدَمِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَدَمَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الِاسْتِشْهَادِ جُزْءٌ مِنَ الْمُعَرِّفِ بَلْ شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ غَيْرُ الْجُزْءِ. وَإِذَا عُرِفَ امْتِنَاعُ الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ بِالْعَدَمِ الْمَحْضِ وَامْتِنَاعُ جَعْلِهِ جُزْءًا مِنَ الْعِلَّةِ لَزِمَ امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ بِالصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ (1) ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الصِّفَةِ الْإِضَافِيَّةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وُجُودًا ; لِأَنَّ الصِّفَةَ الْإِضَافِيَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ صِفَةً لِلْمُضَافِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ قِيَامُ الصِّفَةِ الْوُجُودِيَّةِ بِالْمَعْدُومِ الْمَحْضِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَبَيَانُ لُزُومِ ذَلِكَ أَنَّ الْإِضَافَةَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَبَيْنَ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ قَائِمَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَحَدُ الْمُتَقَابِلَيْنِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا، وَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَفْهُومُ مِنَ الْإِضَافَةِ وُجُودًا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا.   (1) انْظُرْ تَعْرِيفَ الصِّفَةِ الْإِضَافِيَّةِ فِي التَّعْلِيقِ ص 174 ج2 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 [الْمَسْأَلَةُ الخامسة الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ وَمَنَعَ مِنْهُ آخَرُونَ، وَشَرَطُوا فِي الْعِلَّةِ أَلَّا تَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا. وَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى مَأْخَذِ الْفَرِيقَيْنِ وَنُنَبِّهُ عَلَى مَا فِيهِ، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْحُكْمَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ قَدْ يَكُونُ دَائِرًا مَعَ الْحُكْمِ الْآخَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَالدَّوَرَانُ دَلِيلُ كَوْنِ الْمُدَارِ عَلَيْهِ الدَّائِرَ (1) وَسَنُبَيِّنُ أَنَّ الدَّوَرَانَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ فِيمَا بَعْدُ. وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِامْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْحُكْمِ فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا كَانَ عِلَّةً لِحُكْمٍ آخَرَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ. لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ وَإِلَّا لَزِمَ مِنْهُ وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا، وَهُوَ نَقْضٌ لِلْعِلَّةِ. وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي ; لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرَ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلْمُتَقَدِّمِ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ، فَلَيْسَ جَعْلُ أَحَدِهِمَا عِلَّةً لِلْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونُ لِحُكْمِ الْأَصْلِ عِلَّةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ، وَإِذَا كَانَ مُعَلَّلًا احْتَمَلَ أَلَّا يَكُونَ الْحُكْمُ بِهِ هُوَ الْعِلَّةَ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ عِلَّةً عَلَى تَقْدِيرَيْنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ عِلَّةً عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالٍ مِنِ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُعَرِّفَةِ أَوْ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ. لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ لِمَا سَبَقَ (2) ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الْحُكْمِ دَاعِيًا وَبَاعِثًا عَلَى الْحُكْمِ مُحَالٌ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ.   (1) عَلَيْهِ الدَّائِرَ: الصَّوَابُ عِلَّةٌ لِلدَّائِرِ (2) لِمَا سَبَقَ، يَعْنِي لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهَا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ التَّقَدُّمِ. قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْهُ نَقْضُ الْعِلَّةَ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لِنَفْسِهِ وَذَاتِهِ بَلْ إِنَّمَا يَصِيرُ عِلَّةً بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهُ بِقِرَانِ الْحُكْمِ الْآخَرِ بِهِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي تَعْلِيلِ تَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ بِالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فَإِنَّ الشِّدَّةَ الْمُطْرِبَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى التَّحْرِيمِ فَلَا يُقَالُ إِنَّهَا عِلَّةٌ قَبْلَ اعْتِبَارِهَا مِنَ الشَّرْعِ بِقِرَانِ التَّحْرِيمِ بِهَا، فَلَا تَكُونُ مُنْتَقِضَةً بِتَخَلُّفِ التَّحْرِيمِ عَنْهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ التَّقَدُّمِ فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُقَارَنًا؟ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ جَعْلُ أَحَدِ الْمُقْتَرِنَيْنِ عِلَّةً لِلْآخَرِ أَوْلَى لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا كَانَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، وَإِلَّا فَمَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ جِهَةِ الْبَعْثِ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ فَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِمْ فِي التَّعْلِيلِ بِالْأَوْصَافِ الْحَقِيقَيَّةِ، وَمَا هُوَ جَوَابٌ ثَمَّ فَهُوَ الْجَوَابُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ، فَالْمُخْتَارُ مِنْ قِسْمَيْهَا أَنَّهُ عِلَّةٌ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مُمْتَنِعٌ خَارِقٌ لِلْإِجْمَاعِ - دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَعِنْدَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُعَرِّفَةِ، لَكِنْ لَا فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ بَلْ فِي غَيْرِهِ، فَقَدْ حَرَّمَتْ، كَذَا فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: مَهْمَا رَأَيْتُمْ أَنَّنِي حَرَّمْتُ كَذَا فَقَدْ حَرَّمْتُ كَذَا، وَمَهْمَا أَبَحْتُ كَذَا، كَمَا لَوْ قَالَ: مَهْمَا زَالَتِ الشَّمْسُ فَصَلُّوا، وَمَهْمَا طَلَعَ هِلَالُ رَمَضَانَ فَصُومُوا. وَأَمَّا فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُعَرِّفَةِ بَلْ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، فَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ عِلَّةً لِحُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَاعِثًا عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا فَحُكْمُ الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا تَكْلِيفِيًّا أَوْ بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالْأَخْبَارِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عِلَّةً لَهُ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْمُكَلَّفِ لَا فِي إِيجَادِهِ وَلَا فِي إِعْدَامِهِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي امْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْعَدَمِيِّ، وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ أَيْضًا يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُهُ بِالْوَصْفِ الْعُرْفِيِّ وَالتَّقْدِيرِيِّ، وَالْوَصْفُ الْوُجُودِيُّ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لِلْمُكَلَّفِ عَلَى تَحْصِلِهِ، كَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ وَالطَّعْمِ وَالنَّقْدِيَّةِ وَالصِّغَرِ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ ثَابِتًا بِخِطَابِ الْوَضْعِ وَالْإِخْبَارِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ بِهِ بَاعِثًا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، إِمَّا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ لَزِمَتْ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ، وَإِمَّا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ تَلْزَمُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عِلَّةً ; لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ اللَّازِمَةَ مِنَ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهِ كَانَتْ مَطْلُوبَةَ الِانْتِفَاءِ بِشَرْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ ; لَمَّا شَرَعَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّلُ بِهِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِهِ مِنْ وُجُوهِ مَفْسَدَةٍ مَطْلُوبَةِ الِانْتِفَاءِ لِلشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ بِالْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ يَسْتَلْزِمُ حُصُولَ مَصْلَحَةٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا أَحَدُهُمَا، فَقَدْ يَنْحَلُّ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ إِطْلَاقَ الْقَوْلِ بِامْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَجَوَازِهِ مُمْتَنِعٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّفْصِيلِ. [الْمَسْأَلَةُ السادسة اشْتَرَطَ قَوْمٌ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اشْتَرَطَ قَوْمٌ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفٍ وَاحِدٍ لَا تَرْكِيبَ فِيهِ كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بِالْإِسْكَارِ وَنَحْوِهِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَذَلِكَ كَتَعْلِيلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْمُحَدَّدِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ. وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِمَّا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَى ظَنِّ التَّعْلِيلِ بِهَا إِمَّا بِمُنَاسَبَةٍ أَوْ شِبْهٍ أَوْ سَبْرٍ وَتَقَسُّمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ طُرُقِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالتَّخْرِيجِ مَعَ اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِهَا حَسَبَ دَلَالَتِهِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ، فَكَانَتْ عِلَّةً. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ ذَاتِ أَوْصَافٍ، غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 وَبَيَانُهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْمُعَارَضَةُ الْأُولَى: أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَوْصَافِ إِذَا كَانَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فَالْعِلِّيَّةُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَجْمُوعِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَدَلِيلُهُ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَعْقِلُ الْهَيْئَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ مِنَ الْأَوْصَافِ وَنَجْهَلُ كَوْنَهَا عِلَّةً وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ الْمَجْهُولِ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنَ الْأَوْصَافِ عِلَّةٌ فَنَصِفُهَا بِهَا، وَالصِّفَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ الْمَوْصُوفِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ صِفَةُ الْعِلِّيَّةِ بِتَمَامِهَا قَائِمَةً بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوْصَافِ أَوْ بِوَاحِدٍ مِنْهَا أَوْ أَنَّهَا مَعَ اتِّحَادِهَا قَائِمَةٌ بِالْمَجْمُوعِ، كُلُّ بَعْضٍ مِنْهَا قَائِمٌ بِوَصْفٍ. لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ وَإِلَّا كَانَ كُلُّ وَصْفٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَجْمُوعُ الْأَوْصَافِ وَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ، كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ كَمَا يَأْتِي. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي: فَالْعِلَّةُ ذَلِكَ الْوَصْفُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ صِفَةُ الْعِلِّيَّةِ لَا مَجْمُوعُ الْأَوْصَافِ، وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْفَرْضِ. وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّالِثِ ; لِأَنَّ صِفَةَ الْعِلِّيَّةِ مُتَّحِدَةٌ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعَدُّدُ الْمُتَّحِدِ لِقِيَامِهِ بِالْمُتَعَدِّدِ أَوِ اتِّحَادُ الْمُتَعَدِّدِ وَهُوَ مُحَالٌ. الْمُعَارَضَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلِّيَّةُ صِفَةً لِأَوْصَافٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَهِيَ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ كُلِّ وَصْفٍ مِنْهَا عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِعَدَمِ صِفَةِ الْعِلِّيَّةِ ضَرُورَةَ انْتِفَائِهَا عِنْدَ عَدَمِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا انْتَفَتْ جَمِيعُ الْأَوْصَافِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُ كُلِّ وَصْفٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِعَدَمِ الْعِلِّيَّةِ أَوِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ، أَوْ أَنَّهُ لَا وَاحِدَ مِنْهَا مُسْتَقِلٌّ بَلِ الْمُسْتَقِلُّ الْجَمِيعُ. لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مَعْنَى اسْتِقْلَالِ عَدَمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوْصَافِ بِعَدَمِ الْعِلِّيَّةِ لَا مَعْنَى لَهُ سِوَى أَنَّهُ الْمُفِيدُ لِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا. وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي، لِأَنَّهُ لَا أَوْلَوِيَّةَ لِاخْتِصَاصِ الْبَعْضِ بِذَلِكَ دُونَ الْبَعْضِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 وَلَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالثَّالِثِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِالْعِلِّيَّةِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ مُسْتَقِلٌّ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ عَدَمُ كُلِّ وَصْفٍ مِنْهَا يَسْتَقِلُّ عِنْدَ انْفِرَادِهِ بِعَدَمِ الْعِلِّيَّةِ فَبِتَقْدِيرِ انْتِفَاءِ الْعِلِّيَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ، يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا انْتَفَى بَعْدَ ذَلِكَ وَصْفٌ آخَرُ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ أَنْ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِعَدَمِ الْعِلِّيَّةِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَقْضُ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ وَهُوَ مُحَالٌ. الْمُعَارِضَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ، أَوْ لَا وَاحِدَ مِنْهَا مُنَاسِبٌ لَهُ، أَوِ الْمُنَاسِبُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَيَلْزَمُ مِنْ مُنَاسَبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْحُكْمِ مَعَ اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلًّا بِالتَّعْلِيلِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْحُكْمُ إِمَّا أَنْ يُضَافَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، أَوْ إِلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، أَوْ إِلَى الْجُمْلَةِ، وَالْكُلُّ مُحَالٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُعَارَضَةِ السَّابِقَةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَضَمُّ مَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ إِلَى مَا يَصْلُحُ لَهُ لَا يَكُونُ مُفِيدًا لِلتَّعْلِيلِ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ: فَذَلِكَ هُوَ الْعِلَّةُ الْمُسْتَقِلَّةُ لِمُنَاسَبَتِهِ وَقِرَانِ الْحُكْمِ بِهِ وَلَا مَدْخَلَ لِغَيْرِهِ فِي التَّعْلِيلِ. الْمُعَارَضَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوْصَافِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِلَّةً عِنْدَ انْفِرَادِهِ فَعِنْدَ انْضِمَامِهِ إِنْ تَجَدَّدَتْ صِفَةُ الْعِلِّيَّةِ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَجَدُّدِ أَمْرٍ يَقْتَضِي الْعِلِّيَّةَ. وَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُتَجَدِّدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ مُتَجَدِّدَةٍ تُوجِبُهُ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْمُتَجَدِّدِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ. الْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ مَجْمُوعِ الْأَوْصَافِ عِلَّةً سِوَى أَنَّ الشَّارِعَ قَضَى بِالْحُكْمِ رِعَايَةً لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْأَوْصَافُ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لَهَا فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرُوهُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي امْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِ الثَّانِي. الثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْعِلِّيَّةُ صِفَةً لِلْأَوْصَافِ غَيْرَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ صِفَةً وُجُودِيَّةً، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 الْأَوَّلُ: أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صِفَةً وُجُودِيَّةً لَكَانَتْ عَرَضًا، وَالصِّفَاتُ الْمُعَلَّلُ بِهَا أَعْرَاضٌ، وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ بِالْعَرَضِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي (أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ) وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: أَنَّهَا صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الصِّفَةِ الْإِضَافِيَّةِ غَيْرُ وُجُودِيٍّ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُحَالِ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا صِفَةً وُجُودِيَّةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ. غَيْرَ أَنَّ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ يُنَاقِضَانِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي امْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقَضٌ بِكَوْنِ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ خَبَرًا أَوِ اسْتِخْبَارًا أَوْ وَعْدًا أَوْ وَعِيدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، مَعَ تَعَدُّدِ أَلْفَاظِهِ وَحُرُوفِهِ فَإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَقْسَامِ بِعَيْنِهِ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وَصْفُهُ بِمَا وُصِفَ بِهِ، فَمَا هُوَ الْجَوَابُ هَاهُنَا يَكُونُ جَوَابًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ عَدَمِ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِعَدَمِ الْعِلِّيَّةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَدَمَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِمَا تَقَدَّمَ. الثَّانِي: أَنَّ وُجُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوْصَافِ شَرْطٌ فِي تَحَقُّقِ الْعِلِّيَّةِ، فَانْتِفَاءُ الْعِلِّيَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ أَوْ كُلِّهَا إِنَّمَا هُوَ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ لَا لِعِلَّةِ عَدَمِ الْعِلِّيَّةِ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوْصَافِ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ مُنَاسَبَةَ اسْتِقْلَالٍ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ مُنَاسَبَةُ الِاسْتِقْلَالِ نَاشِئَةً أَوْ مُلَازِمَةً لِلْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ، كَمَا فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِهِ. وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّ الْمُتَجَدِّدَ وَالْمُسْتَلْزِمَ لِلْعَلِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ الِانْضِمَامُ الْحَادِثُ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، فَلَا تَسَلْسُلٌ ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ تَجَدُّدُ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُتَعَدِّدَةِ، فَإِنَّهَا غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَوْصَافِ مَعَ لُزُومِ مَا ذَكَرُوهُ، فَمَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ تَجَدُّدِ الْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ يَكُونُ جَوَابًا عَنْ تَجَدُّدِ صِفَةِ الْعِلِّيَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 [الْمَسْأَلَةُ السابعة الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْصُوصَةً وَلَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ تَعْدِيَةَ الْعِلَّةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ، وَعَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِحَّةِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مَنْصُوصَةً وَلَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا. وَذَلِكَ كَتَعْلِيلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ حُرْمَةَ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ بِجَوْهَرِيَّةِ الثَّمِينَةِ. فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى صِحَّتِهَا. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ وَالْكَرْخِيُّ إِلَى إِبْطَالِهَا. وَالْمُخْتَارُ صِحَّتُهَا، وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ بِمَسَالِكَ: الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: تَعْدِيَةُ الْعِلَّةِ إِلَى الْفَرْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى صِحَّتِهَا فِي نَفْسِهَا، فَلَوْ كَانَتْ صِحَّتُهَا مُتَوَقِّفَةً عَلَى تَعْدِيَتِهَا كَانَ دَوْرًا مُمْتَنِعًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِالتَّعْدِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِهَا فِي الْفَرْعِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالتَّعْدِيَةِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ لَا غَيْرُ، فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَعَلَى هَذَا فَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِلَّةِ لِيَكُونَ دَوْرًا، وَإِنَّمَا نَقُولُ بِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ التَّعْدِيَةُ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي، وَهُوَ غَيْرُ مُفْضٍ إِلَى الدَّوْرِ، فَإِنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مَشْرُوطَةً بِوُجُودِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ، فَوُجُودُهَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى صِحَّتِهَا فِي نَفْسِهَا فَلَا دَوْرَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا تَوَقُّفَ التَّعْدِيَةِ عَلَى الصِّحَّةِ وَتَوَقُّفَ الصِّحَّةِ عَلَى التَّعْدِيَةِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ التَّوَقُّفُ مَشْرُوطًا بِتَقَدُّمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِجِهَةِ الْمَعِيَّةِ كَمَا فِي تَوَقُّفِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُضَافَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا دَوْرَ. الْمَسْلَكُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا دَارَ الْحُكْمُ مَعَ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ وُجُودًا وَعَدَمًا دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً كَالْمُتَعَدِّي، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا سَنُبَيِّنُهُ مِنْ إِبْطَالِ التَّمَسُّكِ بِالدَّوَرَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً عِنْدَ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَيْهَا جَازَ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً بِالِاسْتِنْبَاطِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلِّيَّتَهَا عِنْدَ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَيْهَا مُسْتَفَادَةٌ مِنَ النَّصِّ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ عَلَيْهَا غَيْرُ مُتَحَقِّقَةِ حَالَةَ اسْتِنْبَاطِهَا، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا دَلَّ النَّصُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِعِلِّيَّةِ الْمُسْتَنْبَطِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْحِكْمَةِ، قُلْنَا: هَذَا قِيَاسٌ فِي الْأَسْبَابِ وَسَيَأْتِي إِبْطَالُهُ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِذَا كَانَ الْوَصْفُ الْقَاصِرُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ وَالْحُكْمُ ثَابِتٌ عَلَى وِفْقِهِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ، بِمَعْنَى كَوْنِهِ بَاعِثًا عَلَيْهِ، وَلَا مَعْنَى لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ سِوَى ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَضَاءُ بِصِحَّةِ الْعِلَّةِ يَسْتَدْعِي فَائِدَةً، فَإِنَّ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِصِحَّتِهِ، وَفَائِدَةُ الْعِلَّةِ إِنَّمَا هِيَ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهَا، وَالْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ غَيْرُ مُثْبِتَةٍ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ ; لِكَوْنِهِ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ فَتَكُونُ فَرْعًا عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَتْ مُثْبِتَةً لَهُ لَكَانَ فَرْعًا عَلَيْهَا وَهُوَ دَوْرٌ، وَلَا هِيَ مُثْبِتَةٌ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لِعَدَمِ تَعْدِيَتِهَا، فَقَدْ تَعَرَّتْ عَنِ الْفَائِدَةِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً. قُلْنَا: وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْعِلِّيَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَأَنَّ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ بِهَا فَائِدَةٌ لَهَا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ فَائِدَتِهَا فِي ذَلِكَ بَلْ لَهَا ثَلَاثُ فَوَائِدَ أُخَرَ: الْأُولَى: مَعْرِفَةُ كَوْنِهَا بَاعِثَةً عَلَى الْحُكْمِ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ أَوِ الشَّبَهِ، وَإِذَا كَانَتْ بَاعِثَةً عَلَى الْحُكْمِ كَانَ الْحُكْمُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَكَانَ أَدْعَى إِلَى الِانْقِيَادِ وَأَسْرَعَ فِي الْقَبُولِ لَهُ مِمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ الْبَاعِثُ، وَكَانَ تَعَبُّدًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَفْضَى إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّرْعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِهَا مُفِيدًا. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَتْ قَاصِرَةً فَبِتَقْدِيرِ ظُهُورِ وَصْفٍ آخَرَ مُتَعَدٍّ فِي مَحَلِّهَا يَمْتَنِعُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِهِ دُونَ تَرْجِيحِهِ عَلَى الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أَجَلِّ الْفَوَائِدِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْقَاصِرَةُ عِلَّةً وَعَرَّفْنَاهَا، فَقَدِ امْتَنَعَ بِسَبَبِهَا تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ إِلَى الْفَرْعِ وَذَلِكَ أَيْضًا مِنْ أَتَمِّ الْفَوَائِدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَائِدِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ الصِّحَّةَ، غَيْرَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وَحَيْثُ خَالَفْنَاهُ فِي الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْفَوَائِدِ وَزِيَادَةِ فَائِدَةِ التَّعْدِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُخَالَفَةُ فِيهَا (1) دُونَ ذَلِكَ. قُلْنَا: يَجِبُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى مَا الْمَطْلُوبُ فِيهِ الْقَطْعُ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ الْقَضَاءِ بِصِحَّتِهَا بِدَلِيلِ مَا لَوْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً. [الْمَسْأَلَةُ الثامنة تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ (2) ، جَوَّزَهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ مَنْقُولٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ.   (1) فِيهَا: فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ فِيمَا بِالْمِيمِ (2) ذُكِرَ فِي رَوْضَةِ النَّاظِرِ أَنَّ أَبَا حَفْصٍ الْبَرْمَكِيَّ حَكَى وَجْهَيْنِ فِي اشْتِرَاطِ الِاطِّرَادِ لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاطِّرَادَ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ كُلَّمَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ - شَرْطُ صِحَّتِهَا، فَمَتَى تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ إِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً، وَعَلَى أَنَّهَا بَعْضُ الْعِلَّةِ إِنْ كَانَتْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا، وَنَصَرَهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ، وَيُسَمَّى تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ نَقْضًا. الثَّانِي: أَنَّ الِاطِّرَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا فَتَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَا الْمَحَلَّ الْمَخْصُوصَ كَالْعُمُومِ إِذَا خُصَّ وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ إِلَخْ. وَفِي الْمِنْهَاجِ لِلْبَيْضَاوِيِّ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ فِي الْمَسْأَلَةِ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، الْمَنْعُ مُطْلَقًا، الْجَوَازُ فِي الْمَنْصُوصَةِ دُونَ الْمُسْتَنْبَطَةِ، الْجَوَازُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ وَلَوْ بِلَا مَانِعٍ، أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ دُونَ الْمَنْصُوصَةِ، فَارْجِعْ إِلَى الْكِتَابَيْنِ تَجِدْ ذَلِكَ مَعَ الْأَمْثِلَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ تَخْصِيصِهَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْمُسْتَنْبَطَةِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي مَحَلِّ التَّخَلُّفِ مَانِعٌ وَلَا فَوَاتُ شَرْطٍ، فَمَنَعَ مِنْهُ الْأَكْثَرُونَ وَجَوَّزَهُ الْأَقَلُّونَ. وَالْقَائِلُونَ بِالْمَنْعِ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ قَطْعِيَّةً، فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَا بِدَلِيلٍ أَوْ بِدَلِيلٍ، لَا جَائِزٌ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالدَّلِيلُ إِمَّا ظَنِّيٌّ أَوْ قَطْعِيٌّ، وَالظَّنِّيُّ لَا يُعَارِضُ الْقَطْعِيَّ، وَتَعَارُضُ قَاطِعَيْنِ أَيْضًا مُحَالٌ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ. وَإِنْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا إِمَّا فِي مَعْرِضِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْ لَا فِي مَعْرِضِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: كَتَخَلُّفِ إِيجَابِ الْمِثْلِ فِي لَبَنِ الْمُصَرَّاةِ عَنِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لَهُ، وَهِيَ تَمَاثُلُ الْأَجْزَاءِ بِالْعُدُولِ إِلَى إِيجَابِ صَاعٍ مِنَ التَّمْرِ، وَتَخَلُّفِ وُجُوبِ الْغَرَامَةِ عَمَّنْ صَدَرَتْ عَنْهُ الْجِنَايَةُ فِي بَابِ ضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَتَخَلُّفِ حُكْمِ الرِّبَا مَعَ وُجُودِ الطُّعْمِ فِي الْعَرَايَا وَنَحْوِهِ، فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْعِلَّةِ، بَلْ تَبْقَى حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْمَخْصُوصَةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مِنَ النَّصِّ، أَوِ الِاسْتِنْبَاطَ قَدْ دَلَّ عَلَى كَوْنِهَا عِلَّةً، وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا حَيْثُ وَرَدَ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ كَانَ مُقَرِّرًا لِصِحَّةِ الْعِلَّةِ لَا مُلْغِيًا لَهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا لَا بِطْرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، فَإِنْ كَانَتْ مَنْصُوصَةً فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُمْكِنَ حَمْلُ النَّصِّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 كَتَعْلِيلِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ مَأْخُوذًا (1) مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «الْوُضُوءُ مِمَّا خَرَجَ» " (2) ، فَإِنَّهُ إِذَا تَخَلَّفَ عَنْهُ الْوُضُوءُ فِي الْحِجَامَةِ أَمْكَنَ أَخْذُ قَيْدِ الْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ فِي الْعِلَّةِ، وَتَأْوِيلُ النَّصِّ بِصَرْفِهِ عَنْ عُمُومِ الْخَارِجِ النَّجِسِ إِلَى الْخَارِجِ مِنَ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ أَوْ حَمْلُهُ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ غَيْرِ الْحُكْمِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي النَّصِّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ (3) تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} مُعَلَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ الْمُصَرَّحَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ خَرَابُ الْبَيْتِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُخَرِّبُ بَيْتَهُ فَأَمْكَنَ حَمْلُ الْخَرَابِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْخَرَابِ وُجِدَ الْخَرَابُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، أَوْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فَإِنْ أَمْكَنَ تَأْوِيلُ النَّصِّ بِالْحَمْلِ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ أَوْ حُكْمٍ آخَرَ خَاصٍّ وَجَبَ التَّأْوِيلُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ دَلِيلِ التَّعْلِيلِ بِتَأْوِيلِهِ وَدَلِيلِ إِبْطَالِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ بِغَيْرِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَالْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ فَغَايَتُهُ امْتِنَاعُ إِثْبَاتِ حُكْمِ الْعِلِّيَّةِ لِمَا عَارَضَهَا مِنَ النَّصِّ النَّافِي لِحُكْمِهَا. وَالْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ فِي مَعْنَى النَّصِّ وَتَخَلُّفُ حُكْمِ النَّصِّ عَنْهُ فِي صُوَرِهِ (4) لِمَا عَارَضَهُ - لَا يُوجِبُ إِبْطَالَ الْعَمَلِ بِهِ فِي غَيْرِ صُورَةِ الْمُعَارَضَةِ، فَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصَةُ. وَأَمَّا إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لَا يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: وَذَلِكَ كَمَا فِي إِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهُ فِي الْأَبِ وَالسَّيِّدِ بِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ وَالسِّيَادَةِ، فَلَا يَكُونُ   (1) كَتَعْلِيلِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ مَأْخُوذًا إِلَخْ، فِيهِ سَقْطٌ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: كَتَعْلِيلِ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ بِالْخَارِجِ النَّجِسِ مَأْخُوذًا، وَبِالْخَارِجِ الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقٌ بِانْتِقَاضٍ، وَالثَّانِي مُتَعَلِّقٌ بِتَعْلِيلٍ، وَسَيَأْتِي لِلْمُؤَلِّفِ مِثْلُ هَذَا فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ. (2) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ " الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ وَلَيْسَ مِمَّا يَدْخُلُ " وَفِي إِسْنَادِهِ الْفَضْلُ بْنُ الْمُخْتَارِ وَشُعْبَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ، انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ (3) وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّوَابُ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ (4) فِي صُوَرِهِ: الصَّوَابُ فِي صُورَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْعِلِيَّةِ فِيمَا وَرَاءَ صُورَةِ الْمُخَالَفَةِ ; لِأَنَّ دَلِيلَ الِاسْتِنْبَاطِ قَدْ دَلَّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِالْمُنَاسَبَةِ وَالِاعْتِبَارِ، وَقَدْ أَمْكَنَ إِحَالَةُ نَفْيِ الْحُكْمِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنَ الْمَانِعِ لَا عَلَى إِلْغَاءِ الْعِلَّةِ، فَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْعِلَّةِ وَالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى مَانِعِيَّةِ الْوَصْفِ النَّافِي لِلْحُكْمِ، فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَوْلَى مِنْ إِبْطَالِهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ بِإِبْطَالِ الْعِلَّةِ بِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا مِمَّا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْعِلَّةِ، وَالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى مَانِعِيَّةِ الْمَانِعِ، فَكَانَ الْقَوْلُ بِإِحَالَةِ نَفْيِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَانِعِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ وَقِرَانَ الْحُكْمِ بِهَا فَقَطْ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ، بَلْ مَعَ الِاطِّرَادِ وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ إِمْكَانَ تَعْلِيلِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِالْمَانِعِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ تَعْلِيلَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِالْمَانِعِ أَوْ فَوَاتِ الشَّرْطِ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ مَوْجُودًا فِيهَا لَكَانَ الْحُكْمُ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لَا لِلْمَانِعِ وَلَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ، وَالْقَوْلُ بِكَوْنِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ عِلَّةً يَتَوَقَّفُ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ عَلَى وُجُودِ الْمَانِعِ أَوْ فَوَاتِ الشَّرْطِ، فَإِنَّا إِذَا لَمْ نَتَبَيَّنْ وُجُودَ الْمَانِعِ وَلَا فَوَاتَ الشَّرْطِ فَالْحُكْمُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَاءِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَإِذَا تَوَقَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ عَلَى الْآخَرِ كَانَ دَوْرًا مُمْتَنِعًا، وَهَذَا الِامْتِنَاعُ إِنَّمَا لَزِمَ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْمَانِعِ أَوْ فَوَاتِ الشَّرْطِ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ فَكَانَ مُمْتَنِعًا. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ كَانَ مُتَحَقِّقًا قَبْلَ وُجُودِ الْمَانِعِ، وَفِي تَعْلِيلِهِ بِالْمَانِعِ - تَعْلِيلُ الْمُتَقَدِّمِ بِالْمُتَأَخِّرِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَانِعُ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ أَوِ الْبَاعِثِ. قُلْنَا: جَوَابُ الْأَوَّلِ: أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا الْوَصْفَ مُنَاسِبًا وَالْحُكْمَ مُقْتَرِنًا بِهِ، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ تَأَوُّلُ النَّظَرِ (1) إِلَيْهِ أَنَّهُ عِلَّةٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْبَحْثِ فِي جَمِيعِ مَجَارِي الْعِلَّةِ، هَلِ الْحُكْمُ مُقَارِنٌ لَهَا أَوْ لَا؟   (1) تَأَوُّلُ: الصَّوَابُ بِأَوَّلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 وَأَمَّا الِاطِّرَادُ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى السَّلَامَةِ عَنِ النَّقْضِ الْمُعَارِضِ لِدَلِيلِ الْعِلِّيَّةِ، وَعَدَمُ الْمُعَارِضِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي دَلِيلِ الْعِلِّيَّةِ، وَعَنِ الدَّوْرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعْلِيلَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِالْمَانِعِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمُقْتَضِي. وَدَلِيلُهُ: أَنَّهُ يَصِحُّ انْتِفَاؤُهُ بِالْمَانِعِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي وَمَعَ كَوْنِ الْمُقْتَضِي مُعَارِضًا لِلْمَانِعِ، فَلِأَنْ يَصِحَّ النَّفْيُ بِهِ مَعَ عَدَمِ الْمُقْتَضِي كَانَ أَوْلَى. (1) الثَّانِي: وَإِنْ سَلَّمْنَا تَوَقُّفَ التَّعْلِيلِ بِالْمَانِعِ عَلَى وُجُودِ الْمُقْتَضِي، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ تَوَقُّفَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي عَلَى وُجُودِ الْمَانِعِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْمُقْتَضِي مُقْتَضِيًا إِنَّمَا يُعْرَفُ بِدَلِيلِهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاعْتِبَارِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الطُّرُقِ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِكَوْنِهِ مُقْتَضِيًا، وَالْمَانِعُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَارِضِ فَإِنْ وُجِدَ انْتَفَى الْحُكْمُ الْمُقْتَضَى مَعَ بَقَاءِ الْمُقْتَضِي بِحَالِهِ مُقْتَضِيًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ؛ عَمِلَ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ. الثَّالِثُ: سَلَّمْنَا تَوَقُّفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، لَكِنْ تَوَقُّفُ مَعِيَّةٍ أَوْ تَوَقُّفُ تَقَدُّمٍ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَا دَوْرَ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: فِيهِ تَعْلِيلُ الْمُتَقَدِّمِ بِالْمُتَأَخِّرِ، أَنَّ الْمُعَلَّلَ نَفْيُهُ بِالْمَانِعِ إِنَّمَا هُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ الَّذِي صَارَ بِسَبَبِ وُجُودِ الْمُقْتَضَى بِعَرَضِيَّةِ الثُّبُوتِ عَرَضِيَّةً لَازِمَةً لَا مُطْلَقَ حُكْمٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْلَمُ تَقَدُّمُهُ عَلَى الْمَانِعِ الْمَفْرُوضِ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَظْهَرْ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ مَانِعٌ وَلَا فَوَاتُ شَرْطٍ، فَالْحَقُّ بُطْلَانُ الْعِلَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ إِنَّمَا عُرِفَ كَوْنُهَا عِلَّةً بِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهَا بِثُبُوتِ الْحُكْمِ عَلَى وِفْقِهَا، وَذَلِكَ إِنْ دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهَا، فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا مَعَ ظُهُورِ مَا يَكُونُ مُسْتَنِدًا لِنَفْيِهِ يَدُلُّ عَلَى إِلْغَائِهَا وَلَيْسَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَيَتَقَاوَمَانِ، وَيَبْقَى الْوَصْفُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الِاعْتِبَارِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ عِلَّةً فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ. فَإِنْ قِيلَ: مُنَاسَبَةُ الْوَصْفِ وَقِرَانُ الْحُكْمِ بِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً وَكَذَلِكَ سَائِرُ طُرُقِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ قَائِمٌ وَإِنْ وُجِدَ النَّقْصُ، وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ   (1) كَانَ أَوْلَى: الْمُنَاسِبُ حَذْفُ كَانَ، وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الْمُؤَلِّفُ هَذَا الْأُسْلُوبَ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 عَنِ الْوَصْفِ غَايَتُهُ أَنَّهُ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي فَسَادِ الْعِلَّةِ وَتُقَاوِمُ احْتِمَالَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ أَوْ وُجُودِ الْمُعَارِضِ عَلَى السَّوَاءِ، وَإِذَا كَانَ دَلِيلُ الْعِلَّةِ ظَاهِرًا وَدَلِيلُ الْفَسَادِ مَشْكُوكًا فِيهِ فَالْمَشْكُوكُ فِيهِ لَا يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ الظَّاهِرِ. وَدَلِيلُ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي فَسَادِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَتَقَاوُمِ الِاحْتِمَالِ فِيهَا - أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ لِمُعَارِضٍ مِنْ وُجُودِ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لِفَسَادِ الْعِلَّةِ وَهُمَا مُتَقَاوِمَانِ. وَبَيَانُ التَّقَاوُمِ أَنَّ احْتِمَالَ الِانْتِفَاءِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى احْتِمَالِ انْتِفَائِهِ لِلْمُعَارِضِ ; دَفْعًا لِمَحْذُورِ الْمُعَارَضَةِ غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِالنَّظَرِ إِلَى إِبْطَالِ الْعِلَّةِ مَعَ قِيَامِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً. وَاحْتِمَالُ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِلْمُعَارِضِ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ الْحُكْمِ مَعَ قِيَامِ دَلِيلِهِ؛ غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى وِفْقِ الْأَصْلِ مِنْ جِهَةِ مُوَافَقَةِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً. فَإِذًا احْتِمَالُ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ مُوَافِقٌ لِلْأَصْلِ مِنْ وَجْهٍ وَمُخَالِفٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ فَيَتَقَاوَمُ الِاحْتِمَالَانِ عَلَى السَّوَاءِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الشَّكَّ فِي فَسَادِ الْعِلَّةِ، وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ بِوَجْهٍ. قُلْنَا: إِذَا اعْتَرَفَ بِالشَّكِّ فِي دَلِيلِ فَسَادِ الْعِلَّةِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ الشَّكُّ فِي فَسَادِ الْعِلَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنَ الشَّكِّ فِي فَسَادِ الْعِلَّةِ انْتِفَاءُ الظَّنِّ بِكَوْنِهَا عِلَّةً ; لِأَنَّ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ مُتَقَابِلَانِ فَمَهْمَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَاهِرًا وَالْآخَرُ بَعِيدًا فَالْقَوْلُ بِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ مَعَ ظُهُورِ الْآخَرِ مُمْتَنِعٌ كَمَا يَمْتَنِعُ الشَّكُّ فِي الْغَيْمِ مَعَ ظَنِّ الصَّحْوِ، وَالشَّكُّ فِي مَوْتِ زَيْدٍ مَعَ ظَنِّ حَيَاتِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا شَكَكْنَا فِي الطَّهَارَةِ وَحَكَمْنَا بِالنَّجَاسَةِ نَظَرًا إِلَى النَّجَاسَةِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ الشَّكَّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يُجَامِعُ النَّظَرَ إِلَى الْأَصْلِ بَلْ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى الْأَصْلِ يَتَرَجَّحُ أَحَدُ احْتِمَالَيِ الشَّكِّ عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَبْقَى الشَّكُّ مُتَحَقِّقًا، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي النَّجَاسَةِ أَوِ الطَّهَارَةِ مَعَ النَّظَرِ إِلَى الْأَصْلِ لَبَقِيَ الشَّكُّ مَعْمُولًا بِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الشَّكَّ إِنَّمَا وَقَعَ فِي فَسَادِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَعَ النَّظَرِ إِلَى دَلِيلِ الْعِلَّةِ، وَلَوْلَا النَّظَرُ إِلَى دَلِيلِ الْعِلَّةِ لَكَانَ الظَّاهِرُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ لَا انْتِفَاءَ الْعِلَّةِ، وَمَهْمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِظُهُورِ الْعِلَّةِ مَعَ أَنَّ تَقَاوُمَ الِاحْتِمَالِ إِنَّمَا كَانَ بِالنَّظَرِ إِلَى دَلِيلِ الْعِلَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 كَيْفَ وَإِنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: انْتِفَاءُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْوَصْفِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى وِفْقِهِ مَعَ مُنَاسَبَتِهِ مِمَّا يُوجِبُ الشَّكَّ فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهِ فِي مَحَلِّ الِاعْتِبَارِ، وَالْمَشْكُوكُ فِيهِ لَا يُعَارِضُ الظَّاهِرَ، وَبَيَانُ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ فِي الْأَصْلِ الْمُسْتَرْوَحِ إِلَيْهِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِهِ عَلَى وِفْقِ الْأَصْلِ، غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ بِالنَّظَرِ إِلَى دَلِيلِ الْفَسَادِ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ إِلَّا أَنَّهُ عَلَى وِفْقِ الْأَصْلِ بِالنَّظَرِ إِلَى دَلِيلِ الْفَسَادِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تُقَاوُمُ الِاحْتِمَالَاتِ فِي صِحَّةِ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ قَدْ دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا فَلَا يُتْرَكُ بِالْمَشْكُوكِ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ دَلَائِلِ عَدَمِ الِانْتِقَاضِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ مُعَارَضٌ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ: (1) الْأَوَّلُ: وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ مِمَّا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْفُرُوعِ، سَوَاءٌ ظَنَّ بِهَا أَنَّهَا جِهَةٌ لِلْمَصْلَحَةِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنَّ بِهَا ذَلِكَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ عِلَّةَ تَحْرِيمِ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مُتَفَاضِلًا هِيَ كَوْنُهُ مَوْزُونًا، ثُمَّ عَلِمْنَا إِبَاحَةَ بَيْعِ الرَّصَاصِ بِالرَّصَاصِ مُتَفَاضِلًا مَعَ أَنَّهُ مَوْزُونٌ، لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يُعْلَمَ ذَلِكَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى تَقْتَضِي إِبَاحَتَهُ أَوْ بِنَصٍّ، فَإِنْ عَلِمْنَا إِبَاحَتَهُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى يُقَايَسُ بِهَا الرَّصَاصُ عَلَى أَصْلٍ مُبَاحٍ لِكَوْنِهِ أَبْيَضَ مَثَلًا، فَإِنَّا عِنْدَ ذَلِكَ لَا نَعْلَمُ تَحْرِيمَ بَيْعِ الْحَدِيدِ بِالْحَدِيدِ مُتَفَاضِلًا إِلَّا بِكَوْنِهِ مَوْزُونًا غَيْرَ أَبْيَضَ، فَإِنَّا لَوْ شَكَكْنَا فِي كَوْنِهِ أَبْيَضَ لَمْ نَعْلَمْ قُبْحَ بَيْعِهِ مُتَفَاضِلًا كَمَا لَوْ شَكَكْنَا فِي كَوْنِهِ مَوْزُونًا، فَبَانَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ بَعْدَ التَّخْصِيصِ تَحْرِيمَ شَيْءٍ لِكَوْنِهِ مَوْزُونًا فَقَطْ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْزُونُ   (1) هَذِهِ مُعَارَضَاتٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِمَنْعِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مُطْلَقًا لِأَدِلَّةِ مَنْ يَقُولُونَ بِجَوَازِ تَخْصِيصِهَا فِي الصُّوَرِ الْآتِيَةِ: الْعِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ مُطْلَقًا، وَالظَّنِّيَّةُ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَنْصُوصَةُ الظَّنِّيَّةُ فِي غَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُسْتَنْبَطَةُ إِذَا كَانَ لَهَا مُعَارِضٌ مِنْ مَانِعٍ أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ أَبْيَضَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ بَيْعِ الرَّصَاصِ نَصٌّ، وَسَوَاءٌ عَلِمْتَ عِلَّةَ الْإِبَاحَةِ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: اقْتِضَاءُ الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ إِمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ انْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ أَوْ لَا يُعْتَبَرَ، فَإِنِ اعْتُبِرَ لَمْ تَكُنِ الْعِلَّةُ عِلَّةً إِلَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَاصِلَ قَبْلَ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ لَيْسَ هُوَ تَمَامُ الْعِلَّةِ بَلْ بَعْضُهَا، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فَسَوَاءٌ حَصَلَ الْمُعَارِضُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ يَكُونُ الْحُكْمُ حَاصِلًا، وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْمُعَارِضِ مُعَارِضًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُقْتَضِي مُقْتَضِيًا اقْتِضَاءً حَقِيقِيًّا بِالْفِعْلِ وَبَيْنَ كَوْنِ الْمَانِعِ مَانِعًا حَقِيقِيًّا بِالْفِعْلِ ; مُنَافَاةٌ بِالذَّاتِ، وَشَرْطُ طَرَيَانِ أَحَدِ الْمُتَنَافِيَيْنِ بِالذَّاتِ انْتِفَاءُ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ انْتِفَاءُ الْأَوَّلِ لَطَرَيَانِ اللَّاحِقِ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ وَحَيْثُ كَانَ شَرْطُ كَوْنِ الْمَانِعِ مَانِعًا خُرُوجَ الْمُقْتَضِي عَنْ كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا بِالْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ عَنْ كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا بِالْفِعْلِ لِأَجْلِ تَحَقُّقٍ، وَإِلَّا لَزِمَ الدَّوْرُ، فَإِذًا الْمُقْتَضِي إِنَّمَا خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مُقْتَضِيًا لَا بِالْمَانِعِ بَلْ بِذَاتِهِ، وَقَدِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْعِلِّيَّةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ وُجِدَ مَعَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ فَقَدْ وُجِدَ مَعَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ، وَوُجُودُهُ مَعَ الْحُكْمِ لَا يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِكَوْنِهِ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَوُجُودُهُ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، وَالْوَصْفُ الْحَاصِلُ فِي الْفَرْعِ كَمَا إِنَّهُ مِثْلُ الْوَصْفِ الْحَاصِلِ فِي الْأَصْلِ فَهُوَ مِثْلُ الْوَصْفِ الْحَاصِلِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، وَلَيْسَ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَلَمْ يَجُزِ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ عِلَّةً. الْخَامِسُ: قَالُوا: لَا طَرِيقَ إِلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ سِوَى جَرَيَانِهَا مَعَ مَعْلُولِهَا، فَإِذَا لَمْ تَجْرِ مَعَهُ لَمْ يَكُنْ إِلَى صِحَّتِهَا طَرِيقٌ. السَّادِسُ: قَالُوا: الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ إِذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا، امْتَنَعَ تَخْصِيصُهَا كَالْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 السَّابِعُ: قَالُوا: الْعِلَّةُ فِي الْقِيَاسِ طَرِيقٌ إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ فِي نَوْعَيْنِ امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ طَرِيقًا إِلَى الْعِلْمِ بِحُكْمِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَمَا فِي الْإِدْرَاكَاتِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ. الثَّامِنُ: قَالُوا: لَوْ جَازَ وُجُودُ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي فُرُوعٍ يَثْبُتُ الْحُكْمُ مَعَهَا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَكُنِ الْبَعْضُ بِالْإِثْبَاتِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ الْآخَرِ. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ دَلِيلِ الِانْتِقَاضِ فِي الصُّورَةِ الْأَخِيرَةِ مُعَارَضٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: (1) الْأَوَّلُ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هَذَا حُكْمٌ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ (2) وَاشْتُهِرَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَصَارَ إِجْمَاعًا. الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَوُجُودُهَا فِي مَوْضِعٍ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَمَارَةٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْأَمَارَةِ أَمَارَةً عَلَى شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُلَازِمًا لَهَا دَائِمًا، بِدَلِيلِ وُجُودِ جَمِيعِ الْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْأَحْكَامُ مُلَازِمَةً لَهَا قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَبِدَلِيلِ الْغَيْمِ الرَّطْبِ فَإِنَّهُ أَمَارَةٌ عَلَى وُجُودِ الْمَطَرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَطَرُ مُلَازِمًا لَهُ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ وُقُوفَ مَرْكُوبِ الْقَاضِي عَلَى بَابِ الْمَلِكِ أَمَارَةٌ عَلَى كَوْنِهِ فِي دَارِ الْمَلِكِ، وَلَا يَخْرُجُ فِي ذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ أَمَارَةً لِوُجُودِهِ (3) فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْقَاضِي غَيْرُ مَوْجُودٍ   (1) الصُّورَةُ الْأَخِيرَةُ هِيَ مَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً وَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا عَلَى غَيْرِ طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَبِدُونِ مُعَارِضٍ لَهَا مِنْ وُجُودِ مَانِعٍ أَوْ فَقْدِ شَرْطٍ، وَقَدِ اخْتَارَ الْآمِدِيُّ بُطْلَانَ الْعِلَّةِ بِتَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ فَعَارَضَهُ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ مُطْلَقًا بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ذَكَرَهَا الْآمِدِيُّ وَأَجَابَ عَنْهَا (2) هَذَا حُكْمٌ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، لَمْ أَجِدْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يُشْبِهُ لُغَةَ عَهْدِ الصَّحَابَةِ لَكِنَّهَا شَبِيهَةٌ بِلُغَةِ عُلَمَاءِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ فِي نِقَاشِهِمْ وَجِدَالِهِمْ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ وَاشْتِدَادِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي ص 504 وَمَا بَعْدَهَا مِنْ ج 20 كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي ادَّعَى فِيهَا عُلَمَاءُ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ أَنَّهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ قَاعِدَةِ الْقِيَاسِ فَارْجِعْ إِلَيْهِ (3) لِوُجُودِهِ - فِي الْعِبَارَةِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ بِوُجُودِهِ، وَالْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَجُمْلَةُ " وَالْقَاضِي غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي دَارِ الْمَلِكِ " حَالِيَّةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 فِي دَارِ الْمَلِكِ بِأَنْ يَكُونَ مَرْكُوبُهُ مُسْتَعَارًا، وَكَذَلِكَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ أَمَارَةٌ عَلَى وُجُودِ الْحُكْمِ وَتَخَلُّفِ حُكْمِهِ عِنْدَ وُجُودِ النَّصِّ الرَّاجِحِ الْمُخَالِفِ لَهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ أَمَارَةً عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ النَّصِّ. (1) الثَّالِثُ: أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُسْتَنْبَطَةَ أَمَارَةٌ فَجَازَ تَخْصِيصُهَا كَالْمَنْصُوصَةِ. الرَّابِعُ: أَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ، إِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى كَوْنِهِ أَمَارَةً عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، فَإِنْ تَوَقَّفَ فَإِمَّا أَنْ لَا يَتَعَاكَسَ الْحَالُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَتَعَاكَسَ (2) ، الْأَوَّلُ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّوْرِ. وَالثَّانِي أَيْضًا مُحَالٌ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنَ الْمُعَارَضَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ التَّخْصِيصِ: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ الْقِيَاسِ أَمَارَةٌ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ مُعَرِّفَةٌ لَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهَا فِي صُورَةٍ أُخْرَى لِلْمَعَارِضِ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَا فِي فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ دُونَ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ ذَلِكَ الْمُعَارِضِ لَهَا الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ ذَلِكَ الْمُعَارِضِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ، بَلِ الْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ مَا كَانَ بَاعِثًا عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، وَانْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ إِنَّمَا تَوَقَّفَ إِثْبَاتُ حُكْمِ الْأَمَارَةِ عَلَيْهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَثْبُتُ مَعَ تَحَقُّقِ الْمُعَارِضِ النَّافِي لَهُ، فَكَانَ نَفْيُهُ شَرْطًا فِي إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَمَارَةِ لَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الْأَمَارَةِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ اقْتِضَاءَ الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الْمُعَارِضِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْهُ قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ حَاصِلًا، وَإِنْ حَصَلَ الْمُعَارِضُ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْعِلَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِلْحُكْمِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْحُكْمِ أَنْ لَوِ انْتَفَى الْمُعَارِضُ الرَّاجِحُ أَوِ الْمُسَاوِي.   (1) أَيْ: عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ النَّصِّ الرَّاجِحِ الْمُعَارِضِ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ (2) فَإِمَّا أَنْ لَا يَتَعَاكَسَ الْحَالُ فِي ذَلِكَ أَوْ يَتَعَاكَسَ، هَكَذَا فِي الْمَخْطُوطَةِ وَالنُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ وَفِي جَمِيعِهَا تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: فَإِمَّا أَنْ يَتَعَاكَسَ الْحَالُ فِي ذَلِكَ أَوْ لَا يَتَعَاكَسَ، وَبِذَلِكَ يَتَّفِقُ مَعَ تَعْلِيلِ رَدِّ الْأَوَّلِ بِمَا فِيهِ مِنَ الدَّوْرِ، وَرَدِّ الثَّانِي بِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنِ النَّفْيِ الْقَدْحُ فِي الْمُعَارِضِ وَلَا فِي الْعِلَّةِ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: لَا نُسَلِّمُ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ اقْتِضَاءِ الْمُقْتَضِي وَاقْتِضَاءِ الْمَانِعِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَإِنِ اسْتَحَالَ الْجَمْعُ بَيْنَ حُكْمِهِمَا. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَقُّقِ الْمَانِعِ خُرُوجُ الْمُقْتَضِي عَنْ جِهَةِ اقْتِضَائِهِ لَا بِذَاتِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمُتَنَافِيَاتِ بِالذَّاتِ. وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ وُجُودُ الْوَصْفِ مَعَ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِكَوْنِهِ عِلَّةً لَكِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ عِلَّةً، وَوُجُودُهُ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْصِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِذَلِكَ الْحُكْمِ، بَلِ الظَّنُّ بِالْعِلِّيَّةِ بَاقٍ بِحَالِهِ وَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ النَّافِي لِلْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَاعِدَةِ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَعَنِ الْخَامِسَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اطِّرَادَ الْعِلَّةِ طَرِيقٌ إِلَى صِحَّتِهَا كَمَا يَأْتِي مُفَصَّلًا مِنْ كَوْنِهِ (1) لَا طَرِيقَ سِوَاهُ. وَعَنِ السَّادِسَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ يَمْتَنِعُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا، بَلْ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ فَوَاتِ الْقَابِلِ لِحُكْمِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلَامِيَاتِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهِا عَنْهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا وَلَا لِكَوْنِهَا عِلَّةً، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا مُقْتَضِيَةً لِلْحُكْمِ لِذَاتِهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مُقْتَضِيَةً لِلْحُكْمِ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا هِيَ عِلَّةٌ بِوَضْعِ الشَّارِعِ لَهَا أَمَارَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ. وَعَنِ السَّابِعَةِ: أَنَّهُ لَيْسَتِ الْعِلَّةُ فِي امْتِنَاعِ الِافْتِرَاقِ فِي الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ الْمُتَعَلِّقِ بِمَدْلُولَيْنِ، وَامْتِنَاعِ الِافْتِرَاقِ فِي الْإِدْرَاكِ الْمُتَعَلِّقِ بِمُدْرَكَيْنَ كَوْنُهُ طَرِيقًا لَا دَلِيلًا، بَلْ لِكَوْنِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ مُوجِبًا لِذَاتِهِ وَلِكَوْنِ الْإِدْرَاكِ مِمَّا يَجِبُ الْعِلْمُ بِالْمُدْرَكِ عِنْدَهُ عَادَةً (2) بِخِلَافِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ.   (1) مُفَصَّلًا مِنْ كَوْنِهِ - هَكَذَا فِي الْمَطْبُوعَةِ وَالْمَخْطُوطَةِ وَالصَّوَابُ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ إِلَخْ (2) جَرَى فِي التَّعْبِيرِ بِلَفْظِ عِنْدَهُ عَادَةً عَلَى طَرِيقَةِ الْأَشْعَرِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: الْمُسَبِّبَاتُ تُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ لَا بِهَا، وَالنَّتَائِجُ تُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ الْأَدِلَّةِ لَا بِهَا، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّهَا تُوجَدُ بِهَا لَكِنْ لَا بِذَاتِهَا بَلْ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهَا أَسْبَابًا لِمُسَبِّبَاتِهَا وَدَلَائِلَ عَلَى نَتَائِجِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 وَعَنِ الثَّامِنَةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا اخْتُصَّ الْبَعْضُ بِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ دُونَ الْبَعْضِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمُعَارِضٍ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِيمَا كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا فِيهِ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنَ الْمُعَارَضَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّخْصِيصِ: أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا عَلَى خِلَافِهِ أَنَّهُ حُجَّةٌ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُفِيدًا. وَإِنْ كَانَ حُجَّةً لَكِنْ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إِذَا كَانَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْأَمَارَةِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ التَّعْرِيفُ فِي صُورَةٍ كَانَتِ الْأَمَارَةُ أَمَارَةً فِيهِ قَدْ تَحَقَّقَ فِي صُورَةِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ أَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْمَوْجُودُ فِي صُورَةِ التَّخَلُّفِ لَيْسَ هُوَ الْأَمَارَةَ الَّتِي تَوَقَّفَ عَلَيْهَا التَّعْرِيفُ بَلِ الْبَعْضُ مِنْهَا. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ تَخْرِيجُ كُلِّ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصُّوَرِ. (1) وَعَنِ الثَّالِثَةِ: بِمَنْعِ كَوْنِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ مَعَارِضٍ أَمَارَةً، وَعَلَى هَذَا فَلَمْ يُوجَدِ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَإِنْ دَلُّوا عَلَى كَوْنِهَا أَمَارَةً مَعَ التَّخْصِيصِ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَهُوَ كَافٍ فِي الْمَطْلُوبِ، وَخُرُوجٌ عَنْ خُصُوصِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ. وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّ الْمُخْتَارَ مِمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْأَقْسَامِ قِسْمُ التَّوَقُّفِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الدَّوْرِ، إِنَّمَا يَلْزَمُ إِنْ لَوْ تَوَقَّفَ كَوْنُ الْأَمَارَةِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصُّورَتَيْنِ عَلَى كَوْنِهَا أَمَارَةً فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى تَوَقُّفٌ تَقَدَّمَ، أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَعِيَّةِ فَلَا كَمَا عُرِفَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.   (1) يَعْنِي صُورَةَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْغَيْمِ الرَّطْبِ عَلَى الْمَطَرِ، وَبِوُجُودِ مَرْكُوبِ الْقَاضِي فِي مَكَانٍ عَلَى وُجُودِهِ فِيهِ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ وَإِنْ تَخَلَّفَ مَعَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ الرَّاجِحِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 [الْمَسْأَلَةُ التاسعة الْحِكْمَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْحُكْمِ هَلْ هُوَ مُبْطِلٌ لِلْعِلَّةِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ اخْتَلَفُوا فِي الْكَسْرِ، وَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ عَنْ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَهُوَ الْحِكْمَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنَ الْحُكْمِ، هَلْ هُوَ مُبْطِلٌ لِلْعِلَّةِ أَوْ لَا؟ . وَصُوَرُتُهُ مَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْعَاصِي بِسَفَرِ مُسَافِرٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَرَخَّصَ فِي سَفَرِهِ كَغَيْرِ الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ، وَبَيْنَ مُنَاسِبَةِ السَّفَرِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ مُنْتَقِضَةٌ، فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّ الْحَمَّالِ وَأَرْبَابِ الصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ فِي الْحَضَرِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا رُخْصَةَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْعِلَّةِ. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي الْحِكْمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا بَلْ بِضَابِطِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَخْفَى أَنَّ مِقْدَارَهَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ، بَلْ هُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ فَدَأْبُ الشَّارِعِ فِيهِ رَدُّ النَّاسِ إِلَى الْمَظَانِّ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ دَفْعًا لِلْعُسْرِ عَنِ النَّاسِ وَالتَّخَبُّطِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِهَا دُونَ ضَابِطِهَا، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةً فَلَا مَعْنَى لِإِيرَادِ النَّقْضِ عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ الْحِكْمَةُ دُونَ ضَابِطِهَا، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ الْحِكْمَةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مُسَاوِيًا لِمِقْدَارِهَا فِي صُورَةِ التَّعْلِيلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَزْيَدَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ وَالزِّيَادَةِ فَقَدْ وُجِدَ فِي صُورَةِ النَّقْصِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي صُورَةِ التَّعْلِيلِ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ مَوْجُودًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَنْقَصَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِمَّا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَيَظْهَرُ إِلْغَاءُ مَا ظُنَّ أَنَّ الْحُكْمَ مُعَلَّلٌ بِهِ. قُلْنَا: الْحِكْمَةُ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ مَضْبُوطَةً إِمَّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِضَابِطِهَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا فُرِضَ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مُجَرَّدَةً عَنْ ضَابِطِهَا فَامْتَنَعَ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 مَقْصُودَةً فَالنَّقْضُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَارِضِ لِدَلِيلِ كَوْنِهَا مُعَلَّلًا بِهَا، وَعَلَى هَذَا فَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى إِبْطَالِ التَّعْلِيلِ بِالْحِكْمَةِ مَرْجُوحٌ بِالنَّظَرِ إِلَى دَلِيلِ التَّعْلِيلِ بِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ لِمُعَارِضٍ، وَمَعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهَا لَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِهَا. فَإِنْ قِيلَ: بَحَثْنَا وَسَبَرْنَا فَلَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا فِي صُورَةِ النَّقْصِ (1) فَيَظْهَرُ أَنَّ انْتِفَاءَهُ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ الْمُسْتَدِلِّ: بَحَثْتُ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ فَلَمْ أَطَّلِعْ عَلَى مَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ، فَدَلَّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: بَحْثُنَا رَاجِحٌ ; لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ نَفْيًا لِلتَّعَارُضِ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا بَحَثَ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ مُوَافَقَةِ مَا ظَهَرَ مِنْ دَلِيلِ الْعِلَّةِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ وَالِاعْتِبَارِ فَيَتَقَاوَمَانِ، وَيَتَرَجَّحُ كَلَامُ الْمُسْتَدِلِّ بِأَنَّ مِقْدَارَ الْحِكْمَةِ فِي صُورَةِ التَّعْلِيلِ وَإِنْ كَانَ مَظْنُونُ الْوُجُودِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهَا، وَإِلَّا كَانَ مَقْطُوعًا لَا مَظْنُونًا، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ التَّعْلِيلِ قَطْعًا مَعَ قِرَانِ الْحُكْمِ بِهِ قَطْعًا، وَهُوَ دَلِيلُ الْعِلِّيَّةِ، وَمَا هُوَ دَلِيلُ الْبُطْلَانِ فَوُجُودُهَا (2) فِي صُورَةِ النَّقْضِ ظَنًّا مَعَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ قَطْعًا، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ رَاجِحٌ عَلَى مَا هُوَ مَقْطُوعٌ مِنْ وَجْهٍ وَمَظْنُونٌ مِنْ وَجْهٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْجِيحِ مِمَّا لَا يَتَّجِهُ عَلَى النَّقْضِ عَلَى الْمَظَنَّةِ، فَلِذَلِكَ كَانَ لَازِمًا عَلَى الْمَظَنَّةِ دُونَ الْحِكْمَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ فُرِضَ وُجُودُ الْحِكْمَةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ قَطْعًا فَمَا الْمُخْتَارُ فِيهِ؟ قُلْنَا: ذَلِكَ مِمَّا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ، وَبِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِنَّهُ لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ التَّوَسُّلَ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ بِخَفَائِهِ وَنُدْرَتِهِ مِمَّا يَلْزَمُ مِنْهُ نَوْعٌ عَسِرٌ وَحَرِجٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي التَّوَسُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الضَّوَابِطِ الْجَلِيَّةِ، فَكَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ حَطُّ هَذِهِ الْكُلْفَةِ عَنْ وِرْدِ النَّاسِ إِلَى الضَّوَابِطِ الْجَلِيَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى احْتِمَالِ الْحُكْمِ فِي الْغَالِبِ.   (1) فِي صُورَةِ النَّقْصِ - الصَّوَابُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ (2) فِي الْمَخْطُوطِ: فَوُجُودُهَا، وَفِي الْمَطْبُوعَاتِ: مَوْجُودُهُا، وَكُلُّهَا مُحَرَّفَةٌ وَالصَّوَابُ فَمَوْجُودُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْبَحْثُ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ هَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ يُفْضِي إِلَى الْعُسْرِ وَالْحَرَجِ؟ إِلَّا أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَنَفْيِهَا إِنَّمَا هُوَ الْحِكَمُ وَالْمَقَاصِدُ، فَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ مُمَاثِلَةً لَهَا فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ قَطْعًا لَوْ لَمْ نَقُلْ بِوُجُوبِ التَّعْلِيلِ بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ التَّعْلِيلِ لَزِمَ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ حِكْمَتِهِ قَطْعًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ كَمَا يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ مَعَ انْتِفَاءِ حِكْمَتِهِ قَطْعًا فِيمَا عَدَا الصُّورَةِ النَّادِرَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ نَقُلْ بِإِلْغَائِهَا عِنْدَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا، فَيَصِحُّ مَعَ تَيَقُّنِهَا فَيَلْزَمُ مِنْهُ (1) إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَا مَعَ الضَّابِطِ مَعَ كَوْنِهَا مُلْغَاةً قَطْعًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحْذُورَ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ لِحِكْمَةٍ أَلْغَاهَا الشَّارِعُ، أَوْ نَفْيَ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ حِكْمَتِهِ يَقِينًا أَعْظَمُ مِنَ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ لِلْمُجْتَهِدِ مِنَ الْبَحْثِ عَنِ الْحِكْمَةِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِيمَا إِذَا فُرِضَ وُجُودُ الْحِكْمَةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ أَزْيَدَ مِنْهَا فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ يَقِينًا، لَكِنْ إِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ مَعَهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ حُكْمٌ هُوَ أَلْيَقُ بِهَا بِأَنْ يَكُونَ وَافِيًا بِتَحْصِيلِ أَصْلِ الْحِكْمَةِ وَزِيَادَةً، وَلَوْ رَتَّبَ عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ كَانَ فِيهِ الْإِخْلَالُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْحِكْمَةِ وَلَا إِلْغَاءً لَهَا، بَلِ الْوَاجِبُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ عَنْهَا وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ اللَّائِقِ بِهَا الْوَافِي بِتَحْصِيلِ الزِّيَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ رِعَايَةِ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ وَزِيَادَتِهَا، فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ وَإِلْغَاءِ الزِّيَادَةِ، فَإِذًا انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى إِلْغَاءِ الْحِكْمَةِ بَلْ عَلَى اعْتِبَارِهَا بِأَصْلِهَا وَصِفَتِهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ مَا إِذَا عَلَّلَ الْمُسْتَدِلُّ وُجُوبَ الْقَطْعِ قَصَاصًا بِحِكْمَةِ الزَّجْرِ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَقْصُودُ الزَّجْرِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ أَعْظَمُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْقَطْعُ، فَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: الْحِكْمَةُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَإِنْ كَانَتْ أَزْيَدَ مِنْهَا فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مَعَهَا فِي حُكْمٍ هُوَ أَلْيَقُ بِهَا وَهُوَ وُجُوبُ الْقَتْلِ.   (1) فَيَلْزَمُ مِنْهُ - الْمُنَاسِبُ لَلَزِمَ مِنْهُ لِأَنَّهُ جَوَابُ لَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 [الْمَسْأَلَةُ العاشرة النَّقْضِ الْمَكْسُورِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ اخْتَلَفُوا فِي النَّقْضِ الْمَكْسُورِ، وَهُوَ النَّقْضُ عَلَى بَعْضِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ. (1) وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ: مَبِيعُ مَجْهُولِ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ حَالَ الْعَقْدِ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ كَمَا لَوْ قَالَ: " بِعْتُكَ عَبْدًا ". فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ يَرَهَا فَإِنَّهَا مَجْهُولَةُ الصِّفَةِ عِنْدَ الْعَاقِدِ لَدَى الْعَقْدِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَصِحُّ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى رَدِّهِ وَإِبْطَالِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ إِنَّمَا وَقَعَ بِكَوْنِهِ مَبِيعًا مَجْهُولَ الصِّفَةِ لَا بِكَوْنِهِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ فَقَطْ، وَالْمَنْكُوحَةُ لَيْسَتْ مَبِيعَةً وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةَ الصِّفَةِ، وَإِبْطَالُ التَّعْلِيلِ بِبَعْضِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ لَا يَكُونُ إِبْطَالًا بِجُمْلَةِ الْعِلَّةِ. نَعَمْ، إِنْ بَيَّنَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْوَصْفِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنِ النَّقْصِ فِي الْحُكْمِ لَا بِانْفِرَادِهِ وَلَا مَعَ ضَمِيمَةٍ إِلَى الْوَصْفِ الْآخَرِ، فَالْمُسْتَدِلُّ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: بَيْنَ أَنْ يَبْقَى مُصِرًّا عَلَى التَّعْلِيلِ بِمَجْمُوعِ الْوَصْفَيْنِ، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الْكَلَامَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمَنْقُوضِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَقَدْ بَطَلَ التَّعْلِيلُ بِمَا عَلَّلَ بِهِ لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ لَا بِالنَّقْضِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَقَدْ بَطَلَ التَّعْلِيلُ بِالنَّقْضِ لِكَوْنِهِ وَارِدًا عَلَى كُلِّ الْعِلَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْوَصْفُ الْمَحْذُوفُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا وَلَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ لَا بِانْفِرَادِهِ وَلَا مَعَ ضَمِيمَةٍ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَخْذُهُ فِي التَّعْلِيلِ لِفَائِدَةِ الِاحْتِرَازِ عَنِ النَّقْضِ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنِ التَّعْلِيلِ أَنْ لَوْ تَعَرَّى عَنِ الْفَائِدَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَيْسَتِ الْفَائِدَةُ مُنْحَصِرَةً فِي الْمُنَاسَبَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قُلْنَا: فَائِدَةُ الِاحْتِرَازِ بِهِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى كَوْنِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ لَكَانَتِ الْعِلَّةُ مَا وَرَاءَهُ، وَالنَّقْضُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ وَارِدًا عَلَيْهَا، وَكَوْنُهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ بِهِ وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ.   (1) النَّقْضُ الْمَكْسُورُ كَمَا عَرَّفَهُ الْمُؤَلِّفُ إِلَخْ أَمَّا النَّقْضُ فَهُوَ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 [الْمَسْأَلَةُ الحادية عشرة اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ (1) اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ أَصْحَابُنَا وَالْمُعْتَزِلَةُ. وَقَبْلَ الْخَوْضِ فِي الْحِجَاجِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَقْسَامِ الْعَكْسِ، وَاخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَاتِ فِيهِ وَتَعْيِينِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مِنْهَا. فَنَقُولُ: أَمَّا الْعَكْسُ فِي اللُّغَةِ فَمَأْخُوذٌ مِنْ رَدِّ أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَى آخِرِهِ، وَآخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ، وَأَصْلُهُ شَدُّ رَأْسِ الْبَعِيرِ بِخِطَامِهِ إِلَى ذِرَاعِهِ. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْحُكَمَاءِ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ اللَّازِمِ مَلْزُومًا وَالْمَلْزُومِ لَازِمًا مَعَ بِقَاءِ كَيْفِيَّةِ الْقَضِيَّةِ بِحَالِهَا مِنَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ (2) وَذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ فِي عَكْسِ الْقَضِيَّةِ الْحَمْلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ مُوجِبَةً كُلِّيَّةً كَقَوْلِنَا: (كُلُّ إِنْسَانٍ حَيَوَانٌ) ، أَوْ جُزْئِيَّةً كَقَوْلِنَا: (بَعْضُ الْإِنْسَانِ حَيَوَانٌ) ، (بَعْضُ الْحَيَوَانِ إِنْسَانٌ) ، أَوْ كُلِّيَّةً سَالِبَةً كَقَوْلِنَا: (لَا شَيْءَ مِنَ الْإِنْسَانِ بِحَجَرٍ) ، (لَا شَيْءَ مِنَ الْحَجَرِ بِإِنْسَانٍ) ، وَعَلَى قِيَاسِهِ عَكْسُ الْقَضِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ فَقَدْ يَتَعَلَّقُ الْعَكْسُ بِاعْتِبَارَيْنِ: الْأَوَّلُ مِنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِ الْحَنَفِيِّ: لَمَّا لَمْ يَجِبِ الْقَتْلُ بِصَغِيرِ الْمُثَقَّلِ لَمْ يَجِبْ بِكَبِيرِهِ، بِدَلِيلِ عَكْسِهِ فِي الْمُحَدَّدِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ بِكَبِيرِ الْجَارِحِ وَجَبَ بِصَغِيرِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ   (1) الْخِلَافُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَكْسِ مُتَفَرِّعٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ تُجْعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بَعْدَ مَسْأَلَةِ تَعَدُّدِ الْعِلَلِ (2) فِي الْمَخْطُوطَةِ بِجَعْلِ الْخَبَرِ مُبْتَدَأً وَالْمُبْتَدَأِ خَبَرًا مَعَ بَقَاءِ. . . إِلَخْ وَتَعْرِيفُ الْمَطْبُوعَةِ خَاصٌّ بِعَكْسِ الْقَضِيَّةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَتَعْرِيفُ الْمَخْطُوطَةِ خَاصٌّ بِعَكْسِ الْقَضِيَّةِ الْحَمْلِيَّةِ، وَقَدْ عَرَّفَهُ صَاحِبُ مَتْنِ الْمُسْلِمِ بِتَعْرِيفٍ يَشْمَلُهُمَا فَقَالَ: الْعَكْسُ قَلْبُ جُزْأَيِ الْقَضِيَّةِ مَعَ بَقَاءِ الْكَمِّ وَالْكَيْفِيَّةِ وَلَا صِدْقَ إِلَّا الْمُوجِبُ الْكُلِّيَّةِ فَعَوَّضُوهَا الْمُوجِبَ الْجُزْئِيَّةِ فَهَذَا أَجْمَعُ مِنْ كُلٍّ مِنَ التَّعْرِيفَيْنِ وَأَنْسَبُ لِمَا ذَكَرَ بَعْدُ مِنَ التَّمْثِيلِ لِعَكْسِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْقَضِيَّةُ: الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ، وَالْكَمُّ: الْعَدَدُ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِكُلٍّ وَبَعْضٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، وَالْكَيْفِيَّةُ: السَّلْبُ وَالْإِيجَابُ أَيِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ وُرُودِ الشَّارِعِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِكُلِّ جَارِحٍ وَإِنْ تَخَصَّصَ وُجُوبُهُ فِي الْمُثَقَّلِ بِالْكَبِيرِ مِنْهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ (1) وَالْعَكْسُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْخِلَافِ هَاهُنَا. وَالْمُخْتَارُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ جِنْسَ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ سِوَى عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعِلَلٍ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِعِلَّةٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، وَذَلِكَ كَتَعْلِيلِ جِنْسِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَإِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ سِوَاهُ، فَلَا شَكَّ فِي لُزُومِ انْتِفَائِهِ عِنْدَ انْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، لَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ نَفْيُ الْحُكْمِ، بَلْ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، كَمَا فِي إِبَاحَةِ الدَّمِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ. وَالرِّدَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالزِّنَى فِي الْإِحْصَانِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَتَعْلِيلِ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ وَاللَّمْسِ وَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ بَعْضِ هَذِهِ الْعِلَلِ نَفْيُ جِنْسِ الْحُكْمِ لِجَوَازِ وُجُودِ عِلَّةٍ أُخْرَى، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ نَفْيُهُ بِتَقْدِيرِ انْتِفَاءِ جَمِيعِ الْعِلَلِ. هَذَا فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ، وَأَمَّا آحَادُ أَشْخَاصِ الْحِكَمِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُهُ بِعِلَّتَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْعِلَّةِ الْمُعَيَّنَةِ نَفْيُهُ لِجَوَازِ وُجُودِ بَدَلِهَا لِمَا سَبَقَ. فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا عِلَّةَ لَهُ سِوَاهَا فِي دَلِيلٍ عَلَيْهِ فَكَانَتْ مُشَابِهَةً لِلدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الدَّلِيلِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ نَفْيُ الْمَدْلُولِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الصَّنْعَةَ دَلِيلُ وُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى، وَلَوْ قُدِّرَ انْتِفَاؤُهَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ انْتِفَاءُ وُجُودِ الرَّبِّ تَعَالَى فَكَذَلِكَ الْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ. قُلْنَا: الْعِلَّةُ وَإِنْ كَانَتْ دَلِيلَ الْحُكْمِ فَلَا نَعْنِي بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَائِهَا انْتِفَاءَهُ فِي نَفْسِهِ، بَلِ انْتِفَاءُ الْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِهِ ضَرُورَةُ تَوَقُّفِ ذَلِكَ عَلَى النَّظَرِ الصَّحِيحِ فِي الدَّلِيلِ وَلَا دَلِيلَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الصَّنْعَةِ مَعَ الصَّانِعِ.   (1) وَيُقَابِلُ الْعَكْسَ بِهَذَا الْمَعْنَى الطَّرْدُ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كُلَّمَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ وُجِدَ الْحُكْمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 [الْمَسْأَلَةُ الثانية عشرة تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِعِلَّتَيْنِ مَعًا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ (1) اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَلٍ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِعِلَّةٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ (2) فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِعِلَّتَيْنِ مَعًا. فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ مُطْلَقًا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ تَابَعَهُمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ الْعِلَلِ الْمُنَصْوُصَةِ وَالْمُسْتَنْبَطَةِ، فَجَوَّزَهُ فِي الْمُنَصْوُصَةِ وَمَنَعَ مِنْهُ فِي الْمُسْتَنْبَطَةِ كَالْغَزَالِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ تَسْتَقِلَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِالتَّعْلِيلِ، أَوْ أَنَّ الْمُسْتَقِلَّ بِالتَّعْلِيلِ إِحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى، أَوْ أَنَّهُ لَا اسْتِقْلَالَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَلِ التَّعْلِيلُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا. لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْوَصْفِ مُسْتَقِلًّا بِالتَّعْلِيلِ أَنَّهُ عِلَّةُ الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَلْزَمُ مِنَ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ امْتِنَاعُ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ أَوِ الثَّالِثَ فَالْعِلَّةُ لَيْسَتْ إِلَّا وَاحِدَةً، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي التَّعْلِيلِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ أَوْ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُفَسِّرُ اسْتِقْلَالَ الْعِلَّةِ بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ بِهَا لَا غَيْرَ لِيَلْزَمَنَا مَا قِيلَ، بَلْ مَعْنَى اسْتِقْلَالِهَا أَنَّهَا لَوِ انْفَرَدَتْ لَكَانَ الْحُكْمُ لَهَا وَلَا أَثَرَ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهَا. وَلَا يَخْفَى وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى امْتِنَاعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَقِلَّةً بِالْحُكْمِ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا هُوَ الْوَاقِعُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ. وَذَلِكَ أَنَّا قَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ عَقِيبَ عِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ، كُلِّ وَاحِدَةٍ قَدْ ثَبَتَ اسْتِقْلَالُهَا بِالتَّعْلِيلِ فِي صُورَةٍ.   (1) انْظُرْ ص 167 ج 20 وَص 273 - 274 ج 18 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى (2) الْوَاحِدُ أَيْ بِالشَّخْصِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 وَعِنْدَ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: الْعِلَّةُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ أَوِ الْكُلُّ (عِلَّةٌ) وَاحِدَةٌ ذَاتُ أَوْصَافٍ، أَوْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ وَإِلَّا فَهِيَ مُعَيَّنَةٌ أَوْ مُبْهَمَةٌ: الْقَوْلُ بِالتَّعْيِينِ مُمْتَنِعٌ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ خُرُوجِ الْبَاقِي عَنِ التَّعْلِيلِ مَعَ اسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِهِ، وَبِهَذَا يَبْطُلُ الْإِبْهَامُ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَيْضًا، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ الِاسْتِقْلَالُ. وَدَلِيلُ ثُبُوتِ مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ: الْإِجْمَاعُ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْلِ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا قَتْلًا عَمْدًا عُدْوَانًا، وَارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَزَنَا مُحْصَنًا وَقَطَعَ الطَّرِيقَ مَعًا، وَعَلَى ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ الْمَجْنُونِ، وَعَلَى امْتِنَاعِ نِكَاحِ مَنْ أَوْلَدَتْهُ وَأَرْضَعَتْهُ، وَعَلَى تَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَائِضِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُحْرِمَةِ، وَعَلَى انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ وَاللَّمْسِ وَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ مَعًا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ لَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَالتَّقْسِيمُ فِي حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ، فَعَلَى مَا سَبَقَ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فَالْوَجْهُ فِي دَفْعِهَا أَنْ تَقُولَ: أَمَّا إِبَاحَةُ قَتْلِ مَنْ قَتَلَ وَارْتَدَّ وَزَنَى مُحْصَنًا وَقَطَعَ الطَّرِيقَ، فَالْعِلَلُ وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مُتَعَدِّدَةً فَالْحُكْمُ أَيْضًا مُتَعَدِّدٌ شَخْصًا وَإِنِ اتَّحَدَ نَوْعًا، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ إِبَاحَةِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْعَوْدَةِ عَنِ الرِّدَّةِ إِلَى الْإِسْلَامِ انْتِفَاؤُهَا بِبَاقِي الْأَسْبَابِ الْأُخَرِ، وَلَا مِنَ انْتِفَاءِ الْإِبَاحَةِ بِسَبَبِ إِسْقَاطِ الْقِصَاصِ انْتِفَاؤُهَا بِبَاقِي الْأَسْبَابِ. وَيَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْحُكْمِ أَيْضًا أَنَّ الْإِبَاحَةَ بِجِهَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ بِجِهَةِ الْخُلُوصِ، وَلِذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِسْقَاطِهِ مُطْلَقًا، وَالْإِبَاحَةُ بِجِهَةِ الزِّنَا وَالرِّدَّةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى بِجِهَةِ الْخُلُوصِ دُونَ الْآدَمِيِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِيفَاءِ فَالْمُقَدَّمُ حَقُّ الْآدَمِيِّ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ بِجِهَةِ الْقَصَاصِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الشُّحِّ وَالْمُضَايَقَةِ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْآدَمِيَّ يَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِ حَقِّهِ دُونَ الْبَارِي تَعَالَى. وَأَمَّا ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ الْمَجْنُونِ فَمُسْتَنِدَةٌ إِلَى الصِّغَرِ لِسَبْقِهِ عَلَى الْجُنُونِ لِكَوْنِ الْجُنُونِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بَعْدَ حِينٍ، وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ نِكَاحِ الْوَالِدَةِ الْمُرْضِعَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْوِلَادَةِ دُونَ الرَّضَاعِ لِسَبْقِهَا عَلَيْهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وَأَمَّا الْوَطْءُ فِي حَقِّ الْحَائِضِ الْمُعْتَدَّةِ الْمُحْرِمَةِ فَغَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ فِي حَقِّ الْحَائِضِ مُلَابَسَةُ الْأَذَى، وَفِي حَقِّ الْمُعْتَدَّةِ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ، وَفِي حَقِّ الْمُحْرِمَةِ إِفْسَادُ الْعِبَادَةِ، وَهِيَ أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَا أَنَّهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْمَسُّ وَاللَّمْسُ وَبَاقِي الْأَسْبَابِ فَالْأَحْدَاثُ الْمُرَتَّبَةُ عَلَيْهَا مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى رَأْيٍ لَنَا. وَعَلَى هَذَا فَلَوْ نَوَى رَفْعَ حَدَثٍ وَاحِدٍ مِنْهَا لَارْتَفَعَ الْبَاقِي، فَأَحْكَامُهَا أَيْضًا مُتَعَدِّدَةٌ لَا أَنَّهَا حُكْمٌ وَاحِدٌ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِالشَّخْصِ بِعِلَّتَيْنِ لَا فِي تَعْلِيلِ حُكْمَيْنِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى وَجْهُ التَّخْرِيجِ لِكُلِّ مَا يَرِدُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. [الْمَسْأَلَةُ الثالثة عشرة الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ تَكُونُ عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ تَكُونُ عِلَّةً لِحُكْمَيْنِ شَرْعِيَّيْنِ أَوْ لَا؟ وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِمَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ أَوِ الْبَاعِثِ. فَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ فَغَيْرُ مُمْتَنِعٍ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، نَصْبُ أَمَارَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا نَعْرِفُ فِيهِ خِلَافًا كَمَا لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: جَعَلْتُ طُلُوعَ الْهِلَالِ أَمَارَةً عَلَى وُجُوبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ. (1) وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ بَاعِثًا لِلشَّرْعِ عَلَى حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أَيْ مُنَاسِبًا لَهُمَا، وَذَلِكَ كَمُنَاسِبَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّحْرِيمِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ، وَكَذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِالْبَيْعِ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ الْمَرْئِيِّ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ وَلُزُومِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا كَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا لِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ فَمَعْنَى كَوْنِهِ مُنَاسِبًا لَهُ أَنَّهُ لَوْ رُتِّبَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ لَحَصَلَ مَقْصُودُهُ. وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَوْ نَاسَبَهُ لَكَانَ بِمَعْنَى أَنَّ تَرْتِيبَهُ عَلَيْهِ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ لِكَوْنِهِ حَاصِلًا بِهِ لِحُكْمِ الْآخَرِ.   (1) هَذَا مِثَالٌ فَرْضِيٌّ وَمِثَالُهُ مِنْ وَاقِعِ التَّشْرِيعِ: جَعْلُ غُرُوبِ شَمْسِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَمَارَةً عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْفِطْرِ لِلصَّائِمِ وَوُجُوبِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ مُنَاسِبًا لِحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يُنَاسِبَهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ ; إِذِ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا لِشَيْءٍ مِنْ جِهَةِ مَا يُنَاسِبُ مُخَالِفَهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فِعِلَّةُ الْحُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَةٌ لَا أَنَّهَا مُتَّحِدَةٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ مَعْنَى الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ أَعَمُّ مِمَّا ذَكَرُوهُ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا تَرْتِيبُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ، يَسْتَقِلُّ بِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ كَوْنُهُ مُنَاسِبًا لِحُكْمَيْنِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَإِلَى مَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُ مَقْصُودِهِ عَلَى تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَافِيًا بِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ دُونَ الْحُكْمِ الْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا فَامْتِنَاعُ مُنَاسِبَةِ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ لِلْحُكْمَيْنِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ لَازِمًا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمَيْنِ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي. وَعَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا عُرِفَ أَنَّ مَعْنَى مُنَاسِبَةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمَيْنِ تَوَقُّفُ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ عَلَى شَرْعِ الْحُكْمَيْنِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا لَهُمَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ. [الْمَسْأَلَةُ الرابعة عشرة شرط الْعِلَّة إذا كَانَتِ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ، فَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ ضَابِطُ الْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ لِلشَّرْعِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيِهِ بِحَيْثُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ (1) إِثْبَاتُ الْحُكْمِ مَعَ تَيَقُّنِ انْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فِي صُورَةٍ، وَإِلَّا كَانَ فِيهِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ يَقِينًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قِيلَ بِأَنَّ حِكْمَةَ الْقِصَاصِ إِنَّمَا هِيَ صِيَانَةُ النَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ عَنِ الْفَوَاتِ، فَمَنْ ضَبَطَ صِيَانَةَ النَّفْسِ عَنِ الْفَوَاتِ بِالْجُرْحِ لَا غَيْرَ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو حَنِيفَةَ، فَيَلْزَمُهُ شَرْعُ الْقِصَاصِ فِي حَقِّ مَنْ جَرَحَ مَيِّتًا ضَرُورَةَ وُجُودِ الضَّابِطِ مَعَ تَيَقُّنِ انْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ أَوْ نَفْيِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ عِلَّتِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ بِدُونِ حِكْمَةٍ وَاحِدَةٍ.   (1) أَيِ الْوَصْفُ الَّذِي جُعِلَ ضَابِطًا لِلْحِكْمَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وَذَلِكَ الضَّابِطُ (1) فِي الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الضَّبْطُ بِهِ إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى حِكْمَةٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا إِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ ضَابِطًا فِي كُلِّ صُورَةٍ لِحِكْمَةٍ، فَانْتِفَاءُ حِكْمَةِ إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ عَنِ الْأُخْرَى لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الصُّورَةِ الَّتِي انْتَفَتْ عَنْهَا تِلْكَ الْحِكْمَةُ عَرِيًّا عَنِ الْفَائِدَةِ، بَلْ يَكُونُ ثُبُوتُهُ بِالْحِكْمَةِ الْخَاصَّةِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ، وَالضَّابِطُ لَهَا وَلِحِكْمَةِ الْحُكْمِ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى شَيْءٌ وَاحِدٌ. قُلْنَا: إِذَا اتَّحَدَ الضَّابِطُ فَاخْتِصَاصُهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِحِكْمَةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْحِكْمَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى، إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِذَاتِهِ أَوْ لِمُخَصِّصٍ مُخْتَصٍّ بِتِلْكَ الصُّورَةِ دُونَ الصُّورَةِ الْأُخْرَى. لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَزِمَ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فِي الْحِكْمَتَيْنِ ضَرُورَةَ اتِّحَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لَهَا. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي، فَمَا بِهِ التَّخْصِيصُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصُّورَتَيْنِ وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الضَّابِطِ، فَالضَّابِطُ لِلْحِكْمَتَيْنِ يَكُونُ مُخْتَلِفًا، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنَ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ وَمَا بِهِ تَخَصَّصَتْ كُلُّ صُورَةٍ مِنَ الْمُخَصِّصِ الزَّائِدِ. (2) [الْمَسْأَلَةُ الخامسة عشرة شَرْطَ ضَابِطِ الْحِكْمَةِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ شَرْطَ ضَابِطِ الْحِكْمَةِ أَنْ يَكُونَ جَامِعًا بِحَيْثُ لَا تُوجَدُ الْحِكْمَةُ يَقِينًا فِي صُورَةٍ دُونَهُ، مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يُثْبِتَ الْحُكْمَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي وُجِدَتْ فِيهَا الْحِكْمَةُ دُونَ ذَلِكَ الضَّابِطِ أَوْ لَا يُثْبِتَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ إِدَارَةُ الْحُكْمِ عَلَى الْحِكْمَةِ دُونَ ضَابِطِهَا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الضَّابِطِ لِإِمْكَانِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْحِكْمَةِ دُونَهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ إِهْمَالُ الْحِكْمَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا بِهَا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَصُورَةُ ذَلِكَ ضَبْطُ الْحَنَفِيِّ الْعَمْدِيَّةِ بِاسْتِعْمَالِ الْجَارِحِ، حَيْثُ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِهْمَالُ الْعَمْدِيَّةِ مَعَ تَيَقُّنِ وَجُودِهَا فِيمَا إِذَا أَدَارَ حَجَرَ الْبَزَارَةِ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ أَلْقَاهُ فِي بَحْرٍ مُغْرِقٍ أَوْ نَارٍ مُحْرِقَةٍ.   (1) وَذَلِكَ - الْأَوْلَى فَذَلِكَ (2) مِنَ الْمُخَصِّصِ الزَّائِدِ - بَيَانٌ لِكَلِمَةِ " مَا " فِي قَوْلِهِ: وَمَا بِهِ تَخَصَّصَتْ كُلُّ صُورَةٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرَ مِنَ الْمَحْذُورِ إِنَّمَا يَلْزَمُ إِنْ لَوِ امْتَنَعَ الْحُكْمُ فِي صُورَتَيْنِ بِعِلَّتَيْنِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا سَبَقَ. وَمَعَ جَوَازِ الْحُكْمِ فِي صُورَتَيْنِ بِعِلَّتَيْنِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ حِكْمَةُ الْحُكْمِ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدَةٌ، وَلَهَا فِي كُلِّ صُورَةٍ ضَابِطٌ بِحَسْبِ تِلْكَ الصُّورَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُرُّ إِلَى إِهْمَالِ الْحِكْمَةِ وَلَا إِلَى إِلْغَاءِ الضَّابِطِ. [الْمَسْأَلَةُ السادسة عشرة تَعْلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْوُجُودِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَعْلِيلِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْوُجُودِ، وَذَلِكَ كَتَعْلِيلِ إِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ لِلْأَبِ عَلَى الصَّغِيرِ الَّذِي عَرَضَ لَهُ الْجُنُونُ بِالْجُنُونِ، فَإِنَّ الْوِلَايَةَ ثَابِتَةٌ قَبْلَ عُرُوضِ الْجُنُونِ. وَالْمُخْتَارُ امْتِنَاعُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلَّةَ حُكْمِ الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ أَوْ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ الْمُعَرِّفَةِ لَهُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَيَلْزَمُ مِنْ تَأَخُّرِ الْعِلَّةِ عَنِ الْحُكْمِ فِي الْوُجُودِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَبْلَ ذَلِكَ إِمَّا لَا بِبَاعِثٍ أَوْ بِبَاعِثٍ غَيْرِ الْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْهُ ; لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بِبَاعِثٍ لَا تَحَقُّقَ لَهُ مَعَ الْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ. الثَّانِي: أَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، وَقَدْ عَرَفَ قَبْلَهَا ضَرُورَةَ سَبْقِهِ فِي الْوُجُودِ عَلَيْهَا، وَتَعْرِيفُ الْمَعْرُوفِ مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ بِتَقْدِيرِ امْتِنَاعِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ بِعِلَّتَيْنِ وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ تَعْلِيلِهِ بِعِلَّتَيْنِ، فَلَا يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُهُ بِعِلَّةٍ مَوْجُودَةٍ مَعَهُ وَعِلَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْهُ. قُلْنَا: أَمَّا أَوَّلًا فَقَدْ بَيَّنَّا امْتِنَاعَ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبِتَقْدِيرِ جَوَازِ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ لِتَقْدِيرِ أَنْ لَا تَكُونَ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مُتَقَدَّمَةً عَلَى الْأُخْرَى لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 [الْمَسْأَلَةُ السابعة عشرة كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ نَفْيًا وَالْعِلَّةُ لَهُ وُجُودُ مَانِعٍ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِإِثْبَاتِهِ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ نَفْيًا وَالْعِلَّةُ لَهُ وُجُودُ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ فَقْدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِإِثْبَاتِهِ. وَالْمُخْتَارُ اشْتِرَاطُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا شُرِّعَتْ لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ، فَمَا لَا فَائِدَةَ فِي إِثْبَاتِهِ فَلَا يُشَرَّعُ، فَانْتِفَاؤُهُ يَكُونُ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ، وَسَوَاءٌ وُجِدَتْ ثَمَّ حِكْمَةٌ تَقْتَضِي نَفْيَهُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ، وَفَرْقٌ بَيْنَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ وَبَيْنَ انْتِفَائِهِ لِوُجُودِ فَائِدَةٍ نَافِيَةٍ لَهُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا لَمْ يُوجَدِ الْمُقْتَضِي لِلْإِثْبَاتِ كَانَ نَفْيُ الْحُكْمِ لِلْمَانِعِ أَوْ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ مُمْتَنِعًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا خَفَاءَ بِأَنَّ وُجُودَ الْمُقْتَضِي مِنْ قَبِيلِ الْمُعَارِضِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ، فَإِذَا اسْتَقَلَّ الْمَانِعُ وَفَوَاتُ الشَّرْطِ بِنَفْيِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ مَا يُعَارِضُهُ وَيَكْسِرُ سَوْرَتَهُ، فَلِأَنْ يَسْتَقِلَّ بِالنَّفْيِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ كَانَ أَوْلَى. (1) وَأَيْضًا لَوِ اشْتَرَطْنَا وُجُودَ الْمُقْتَضِي فَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّعَارُضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَانِعِ، أَوْ فَوَاتُ الشَّرْطِ، وَالتَّعَارُضُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِهْمَالِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ، وَعِنْدَ انْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لَوْ أَحَلْنَا نَفْيَ الْحُكْمِ عَلَى نَفْيِ الْمُقْتَضَى مَعَ تَحَقُّقِ مَا يُنَاسِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ مِنَ الْمَانِعِ أَوْ فَوَاتِ الشَّرْطِ، لَزِمَ مِنْهُ إِهْمَالُ مُنَاسِبَةِ الْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ مَعَ اقْتِرَانِ نَفْيِ الْحُكْمِ بِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. قُلْنَا: جَوَابُ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ بِالْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي الْمُشْتَرَطِ فِي إِعْمَالِهِ ; لِمَا بَيَّنَّاهُ انْتِفَاؤُهُ لَهُ مَعَ فَوَاتِ شَرْطِ إِعْمَالِهِ. وَجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ لَزِمَ مِنْ وُجُودِ الْمُقْتَضِي التَّعَارُضُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَانِعِ أَوْ فَوَاتُ الشَّرْطِ، فَهُوَ أَهْوَنُ مِنْ نَفْيِهِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ مَعَ فَوَاتِ شَرْطِ إِعْمَالِهِ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ.   (1) كَانَ أَوْلَى - الظَّاهِرُ أَنَّ " كَانَ " زَائِدَةٌ وَ " أَوْلَى " خَبَرٌ لِلْمَصْدَرِ الْمُؤَوَّلِ مِنْ أَنْ وَالْفِعْلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لِلْمُؤَلِّفِ اسْتِعْمَالُ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي ص 222 ج 3 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وَلِهَذَا كَانَ نَفْيُ الْحُكْمِ بِالْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بَيْنَ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَمُخْتَلَفًا فِيهِ مَعَ انْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي. وَبِتَقْدِيرِ انْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي فَنَفْيُ الْحُكْمِ لَهُ دُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْمَانِعِ، وَفَوَاتِ الشَّرْطِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى إِلْغَاءِ مُنَاسِبَةِ الْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ مَعَ اعْتِبَارِهِ إِلَّا أَنَّهُ أَوْلَى مِنَ انْتِفَائِهِ لِلْمَانِعِ أَوْ فَوَاتِ الشَّرْطِ. وَلِهَذَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ مِنَ الْكُلِّ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِالنَّفْيِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي اسْتِقْلَالِ الْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ بِالنَّفْيِ مَعَ الْقَائِلِينَ بِامْتِنَاعِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، فَكَانَ النَّفْيُ لَهُ أَوْلَى. (1) وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِإِحَالَةِ النَّفْيِ عَلَى نَفْيِ الْمُقْتَضِي وَالْمَانِعِ مَعًا ; لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلًّا بِالنَّفْيِ، أَوْ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِلنَّفْيِ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنْهُمَا، وَهُمَا بِمَنْزِلَةِ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ النَّافِيَةِ. لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ امْتِنَاعِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الثَّانِي لِأَنَّ نَفْيَ الْمُقْتَضِي بِتَقْدِيرِ انْتِفَاءِ مُعَارِضِهِ مُسْتَقِلٌّ بِالنَّفْيِ إِجْمَاعًا، وَفِيهِ إِخْرَاجُ الْمُسْتَقِلِّ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي التَّعْلِيلِ بِالْمَانِعِ وَفَوَاتِ الشَّرْطِ مِنْ وُجُودِ الْمُقْتَضِي فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ بِطَرِيقٍ تَفْصِيلِيٍّ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ وَعِلِّيَّتِهِ بِمَا يُسَاعِدُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَإِنِ اتَّفَقَ إِنْ كَانَ الشَّارِعُ قَدْ نَصَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى وُجُودِ الْمُقْتَضِي ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا كَانَتْ فَائِدَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى النَّفْيِ التَّأْكِيدَ لِاسْتِقْلَالِ نَفْيِ الْمُقْتَضِي بِالنَّفْيِ. وَالْأَصْلُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الشَّارِعِ عَلَى فَائِدَةِ التَّأْسِيسِ لِكَوْنِهَا أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى وُجُودِ الْمُقْتَضِي. فَإِنْ قِيلَ: اعْتِقَادُ وُجُودِ الْمُقْتَضِي حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى فَائِدَةِ التَّأْسِيسِ يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ مَحْذُورٍ مُخَالَفَةَ الْمُقْتَضِي مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الْأَصْلِ دَفْعًا لِمَحْذُورِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى فَائِدَةِ التَّأْكِيدِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ.   (1) فَكَانَ النَّفْيُ لَهُ أَوْلَى - يَعْنِي فَكَانَ النَّفْيُ لِأَجْلِهِ أَوْلَى، فَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 قُلْنَا: بَلِ الْمَحْذُورُ اللَّازِمُ مِنْ نَفْيِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِيهِ مُخَالَفَةُ الْمُقْتَضِي لَا غَيْرَ، وَهُوَ غَالِبٌ فِي الشَّرْعِ وَمَحْذُورُ التَّأْكِيدِ مَعَ كَوْنِهِ نَادِرًا، فِيهِ مُخَالَفَةُ مَا ظَهَرَ مِنْ مُنَاسَبَةِ الْمَانِعِ وَاعْتِبَارِهِ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الشَّارِعِ اعْتِبَارُ الْمُنَاسَبَاتِ لَا إِلْغَاؤُهَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْتِزَامَ مَحْذُورٍ عُهِدَ الْتِزَامُهُ فِي الشَّرْعِ غَالِبًا، وَلَيْسَ فِيهِ الْتِزَامُ مَحْذُورٍ آخَرَ، أَوْلَى مِنَ الْتِزَامِ مَحْذُورٍ لَمْ يُعْهَدِ الْتِزَامُهُ فِي الشَّرْعِ غَالِبًا وَفِيهِ الْتِزَامُ مَحْذُورٍ آخَرَ. [الْمَسْأَلَةُ الثامنة عشرة الْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنَ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ يَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنَ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِهَا مِمَّا تَرْجِعُ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي اسْتُنْبِطَتْ مِنْهُ بِالْإِبْطَالِ. وَذَلِكَ كَتَعْلِيلِ وُجُوبِ الشَّاةِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ بِدَفْعِ حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ وُجُوبِ الشَّاةِ (1) وَإِنَّ ارْتِفَاعَ الْأَصْلِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ يُوجِبُ إِبْطَالَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ عِلِّيَّتِهَا عَلَى اعْتِبَارِهَا بِهِ، وَأَنْ لَا تَكُونَ طَرْدِيَّةً مَحْضَةً كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِهِ ; لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَالْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ (2) لَا يَكُونُ بَاعِثًا، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِمَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ لَهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِي الْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ، وَأَنْ لَا يَكُونَ لَهَا فِي الْأَصْلِ مُعَارِضٌ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْفَرْعِ لِمَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، وَأَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِلنَّصِّ الْخَاصِّ أَوْ لِلْإِجْمَاعِ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا. وَقَدِ اشْتُرِطَ فِيهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُخَصِّصَةً لِعُمُومِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ (3) وَأَنْ لَا تُعَارِضَهَا عِلَّةٌ أُخْرَى تَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِهَا.   (1) بَيَانُهُ أَنَّ وُجُوبَ الشَّاةِ زَكَاةً عَنْ أَرْبَعِينَ شَاةً إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مُجَرَّدَ دَفْعِ حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَلَوْ بِبَذْلِ الْقِيمَةِ ارْتَفَعَ وُجُوبُ الشَّاةِ عَلَى التَّعْيِينِ فِي الزَّكَاةِ (2) الْعِلَّةُ الطَّرْدِيَّةُ أَوِ الْوَصْفُ الطَّرْدِيُّ هُوَ الَّذِي لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى مَعْنًى مُنَاسِبٍ يَقْتَضِي بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ (3) تَقَدَّمَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَسَائِلِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْمُعَارِضَةُ لَهَا رَاجِحَةً عَلَيْهَا وَمُمْتَنِعَةَ التَّخْصِيصِ، وَقَدْ عُرِفَ مَا فِي ذَلِكَ. (1) وَأَنْ لَا تَتَضَمَّنَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مُنَافِيَةً لِمُقْتَضَى النَّصِّ. (2) وَأَنْ تَكُونَ مُنْتَزَعَةً مِنْ أَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِحُكْمِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ حُكْمُهُ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ. وَأَنْ لَا تَكُونَ مُخَالِفَةً لِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ مُسْتَنِدًا إِلَى عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ أَصْلٍ آخَرَ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ عِلَّتُهُ مَعَ ظُهُورِهَا رَاجِحَةً. وَأَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ مَقْطُوعًا بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ وُجُودَهَا أَحَدُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ، فَكَانَ الظَّنُّ كَافِيًا فِيهِ، كَمَا فِي وُجُودِهَا فِي الْأَصْلِ، وَفِي كَوْنِهَا عِلَّةً، وَفِي نَفْيِ الْمُعَارِضِ عَنْهَا فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. [الْمَسْأَلَةُ التاسعة عشرة الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فِي الْقِيَاسِ] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ نَصْبَ الْوَصْفِ سَبَبًا وَعِلَّةً مِنَ الشَّارِعِ، وَأَنَّ دَلِيلَهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا. وَسَوَاءٌ كَانَ كَوْنُهُ سَبَبًا وَعِلَّةً وَحُكْمًا شَرْعِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ، كَمَا سَبَقَ وَجْهُ الْكَلَامِ فِيهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فِي الْقِيَاسِ. فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْفَوَاكِهِ: (مَطْعُومٌ) فَجَرَى فِيهِ الرِّبَا قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ، ثُمَّ دَلَّ عَلَى كَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةً بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ   (1) تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّامِنَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ (2) انْظُرْ ذَلِكَ مَعَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ، هَلْ هِيَ نَسْخٌ أَوْ لَا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ» ) (1) فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةً بِالْإِيمَاءِ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الْفَوَاكِهِ بِعُمُومِهِ. وَرُبَّمَا كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الْعِلَّةِ مُتَنَاوِلًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ بِخُصُوصِهِ دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ (خَارِجٌ نَجِسٌ) فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ كَالْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ، ثُمَّ دَلَّ عَلَى كَوْنِ الْخَارِجِ النَّجِسِ عِلَّةً لِلنَّقْضِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمْذَى فَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ» ) (2) فَإِنَّ الْقَيْءَ وَالرُّعَافَ وَالْمَذْيَ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَارِجٌ نَجِسٌ مُنَاسِبٌ لِنَقْضِ الْوُضُوءِ، فَتَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ، كَمَا يَأْتِي فِي طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ، وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُتَنَاوِلٌ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ بِخُصُوصِهِ دُونَ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَإِنَّمَا شَرَطُوا امْتِنَاعَ ذَلِكَ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ دَلِيلُ الْعِلَّةِ يَسْتَقِلُّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْعِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ لَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهَا بِدَلِيلٍ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ يَكُونُ تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ فَلْيَعْدِلْ إِلَيْهِ أَوَّلًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الِاسْتِدْلَالُ بِالْعِلَّةِ الْمُثْبَتَةِ بِالنَّصِّ الْمُتَنَاوِلِ لِحُكْمِ الْفَرْعِ، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى التَّطْوِيلِ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى مُنَاقَشَةٍ جَدَلِيَّةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ، وَلَا يَكُونُ قَادِحًا فِي الْمَقْصُودِ، وَقَدْ يَنْقَدِحُ عَنْهُ جَوَابٌ آخَرُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهُوَ عِنْدَمَا إِذَا كَانَ الْعَامُّ الدَّالُّ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ قَدْ خُصَّ فِي صُورَةٍ، وَكَانَ الْمُسْتَدِلُّ مِمَّنْ يَرَى أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَا يَبْقَى حُجَّةً إِلَّا فِي أَقَلِّ الْجَمْعِ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا لَمْ أَتَمَسَّكْ بِعُمُومِ النَّصِّ فِي إِثْبَاتِ حُكْمِ الْفَرْعِ ; لِعَدَمِ مُسَاعَدَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إِدْرَاجِ الْفَرْعِ فِيهِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ وَلَوْ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَهْمَا كَانَ كَذَلِكَ، لَزِمَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِتِلْكَ الْعِلَّةِ فِي أَيِّ صُورَةٍ وُجِدَتْ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ دُونَ الْحُكْمِ.   (1) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَكَانَ طَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ. (2) رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " مَنْ أَصَابَهُ قَيْءٌ أَوْ رُعَافٌ أَوْ قَلَسٌ أَوْ مَذْيٌ فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُ ". وَفِي سَنَدِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِيمَا رَوَاهُ عَنِ الْحِجَازِيِّينَ، وَأَيْضًا الصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ، وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِلَفْظِ: إِذَا قَاءَ أَحَدُكُمْ أَوْ رَعَفَ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ أَحْدَثَ، فَلْيَنْصَرِفْ فَلْيَتَوَضَّأْ ثُمَّ لِيَجِئْ فَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى. وَفِي سَنَدِهِ أَبُو بَكْرٍ الدَّاهِرِيُّ وَهُوَ كَذَّابٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 [الْمَسْأَلَةُ العشرون حُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ أَوِ النَّصِّ] الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ اخْتَلَفَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي حُكْمِ أَصْلِ الْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ أَوِ النَّصِّ؟ فَقَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ، وَقَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، مُحْتَجِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَالْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْهُ مَظْنُونَةٌ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ لَا يَكُونُ ثَابِتًا بِالْمَظْنُونِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَمُتَفَرِّعَةٌ عَلَيْهِ وَتَابِعَةٌ لَهُ فِي الْوُجُودِ، فَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِهَا لَكَانَ الْأَصْلُ بِمَا لَا ثُبُوتَ لَهُ دُونَ ثُبُوتِهِ وَهُوَ دَوْرٌ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ تَعَبُّدًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ، فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا بِالْعِلَّةِ لَمَا ثَبَتَ مَعَ عَدَمِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ آيِلٌ إِلَى اخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ. وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بِالْعِلَّةِ، لَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ الْعِلَّةَ مُعَرِّفَةٌ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا ضَرُورَةَ أَنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ وَأَنَّهَا لَا تُعْرَفُ دُونَ مَعْرِفَتِهِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهَا الْبَاعِثَةُ لِلشَّارِعِ عَلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَأَنَّهَا الَّتِي لِأَجْلِهَا أَثْبَتَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ، وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ. وَحَيْثُ قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْعِلَّةَ غَيْرُ مُثْبِتَةٍ لِلْحُكْمِ، لَمْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بَاعِثَةً، وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّهَا غَيْرُ مُعَرِّفَةٍ لِحُكْمِ الْأَصْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا. وَأَصْحَابُنَا غَيْرُ مُنْكِرِينَ، لِذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى بَلْ فِي اللَّفْظِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 [الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي شُرُوطِ الْفَرْعِ] ِ وَهِيَ خَمْسَةٌ: الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عَنْ مَعَارِضٍ رَاجِحٍ يَقْتَضِي نَقِيضَ مَا اقْتَضَتْهُ عِلَّةُ الْقِيَاسِ، عَلَى رَأْيِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِيَكُونَ الْقِيَاسُ مُفِيدًا. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِ مُشَارِكَةً لِعِلَّةِ الْأَصْلِ: إِمَّا فِي عَيْنِهَا كَتَعْلِيلِ تَحْرِيمِ شُرْبِ النَّبِيذِ بِالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَمْرِ، أَوْ فِي جِنْسِهَا كَتَعْلِيلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بِجَامِعِ الْجِنَايَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إِنَّمَا هُوَ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ بِوَاسِطَةِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عِلَّةُ الْفَرْعِ مُشَارِكَةً لَهَا فِي صِفَةِ عُمُومِهَا وَلَا خُصُوصِهَا فَلَمْ تَكُنْ (1) عِلَّةَ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، فَلَا يُمْكِنُ تَعْدِيَةُ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ مُمَاثِلًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي عَيْنِهِ، كَوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمُثَقَّلِ وَالْمُحَدَّدِ، أَوْ جِنْسِهِ كَإِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرَةِ فِي نِكَاحِهَا قِيَاسًا عَلَى إِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ فِي مَالِهَا، فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ جِنْسُ الْوِلَايَةِ لَا عَيْنُهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَكَانَ الْقِيَاسُ بَاطِلًا ; وَذَلِكَ لِأَنَّ شَرْعَ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا لِذَاتِهِ بَلْ إِلَيْهِ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَبْدِ، وَسَوَاءٌ ظَهَرَ الْمَقْصُودُ أَمْ لَمْ يَظْهَرْ فَإِنْ كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُمَاثِلًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ عَلِمْنَا أَنَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الْمَقْصُودِ مِثْلُ مَا يَحْصُلُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ ضَرُورَةَ اتِّحَادِ الْوَسِيلَةِ فَيَجِبُ إِثْبَاتُهُ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ مَعَ أَنَّهُ الْوَسِيلَةُ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ، فَإِفْضَاؤُهُ إِلَى الْحِكْمَةِ الْمَطْلُوبَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِإِفْضَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَيْهَا، وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْإِفْضَاءِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِزِيَادَةٍ فِي إِفْضَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَيْهَا أَوْ فِي إِفْضَاءِ حُكْمِ الْفَرْعِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ رِعَايَةُ الْأَصْلِ الْمَقْصُودِ وَزِيَادَةُ الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِ شُرِعَ حُكْمُ الْفَرْعِ تَحْصِيلًا لِأَصْلِ الْمَقْصُودِ دُونَ زِيَادَةِ الْإِفْضَاءِ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ زِيَادَةَ الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمَقْصُودِ مَقْصُودَةٌ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ.   (1) فَلَمْ تَكُنْ عِلَّةَ - الصَّوَابُ لَمْ تَكُنْ عِلَّةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى امْتِنَاعِ ثُبُوتِ مِثْلَ حُكْمِ الْفَرْعِ فِي الْأَصْلِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَنْصِيصُ الشَّارِعِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ دُونَ حُكْمِ الْفَرْعِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ أَفْضَى إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ حُكْمِ الْفَرْعِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ أَفْضَى إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ لَكَانَ أَوْلَى بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَرْعُ تَصَوُّرِ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ كَلَامُهُ وَخِطَابُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي تَعَلُّقَاتِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، وَحُكْمُ الشَّارِعِ بِالْوُجُوبِ لَا يُخَالِفُ حُكْمَهُ بِالتَّحْرِيمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ، وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ كَالذَّمِّ عَلَى الْفِعْلِ، وَالذَّمِّ عَلَى التَّرْكِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ مَحِلِّ الْخِطَابِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ اخْتِلَافَ مَحِلِّ الْخِطَابِ غَيْرُ مَوْجُودٍ لِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ، بِدَلِيلِ اشْتِرَاكِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْوُجُوبِ، وَالْقَتْلِ وَالزِّنَى فِي التَّحْرِيمِ. (1)   (1) هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ قَدِيمَةٌ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا تَعَدُّدَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ فَأَمْرُهُ عَيْنُ نَهْيِهِ وَخَبَرُهُ عَيْنُ اسْتِخْبَارِهِ وَوَعْدُهُ عَيْنُ وَعِيدِهِ، وَإِنَّمَا يَتَنَوَّعُ عِنْدَهُمْ إِلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ وَيَخْتَلِفُ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقَاتِهِ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ يُطْلَقُ عِنْدَهُمْ عَلَى اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى حَقِيقَةً، وَقَدْ يَنْصَرِفُ إِلَى أَحَدِهِمَا بِقَرِينَةٍ وَيَتَنَوَّعُ فِي نَفْسِهِ إِلَى أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ وَخَبَرٍ وَإِنْشَاءٍ، وَقَدْ تَكَلَّمَ سُبْحَانَهُ فِيمَا مَضَى وَلَا يَزَالُ يَتَكَلَّمُ وَسَيَتَكَلَّمُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَمَعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُكَلِّمُ كُلًّا بِمَا يُنَاسِبُهُ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، وَإِذَنْ فَالِاعْتِرَاضُ سَاقِطٌ مِنْ أَصْلِهِ وَمَا ذُكِرَ بَعْدُ مِنِ اشْتَرَاكِ حُكْمِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْوُجُوبِ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ اشْتَرَاكٌ فِي جِنْسِ الْوُجُوبِ لَا فِي عَيْنِهِ وَشَخْصِهِ، فَوُجُوبُ الصَّلَاةِ ثَبَتَ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ وَقْتَ فَرْضِهِ الصَّلَاةَ، وَوُجُوبُ الصِّيَامِ ثَبَتَ بِأَمْرٍ يَخُصُّهُ تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ فَرْضِهِ الصَّلَاةَ بِسَنَوَاتٍ، وَالْقَصْدُ أَنَّ وُجُوبَ كُلٍّ مِنْهُمَا يَخْتَلِفُ عَنِ الْآخَرِ فِي شَخْصِهِ وَفِيمَا وَجَبَ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ وَفِي دَرَجَتِهِ وَآثَارِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَالرِّبَا وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ فَهِيَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ فِي أَعْيَانِهَا وَفِيمَا وَجَبَتْ بِهِ مِنْ كَلَامِهِ تَعَالَى، وَفِي الزَّمَنِ الَّذِي تَكَلَّمَ اللَّهُ بِتَحْرِيمِ كُلٍّ مِنْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وَإِنْ سَلَّمْنَا تَصَوُّرَ الِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ إِفْضَاءُ حُكْمِ الْفَرْعِ إِلَى الْمَقْصُودِ أَتَمَّ مِنْ إِفْضَاءِ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَيْهِ. قَوْلُكُمْ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ أَوْلَى، إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ لَمْ تَكُنْ فَائِدَةُ التَّنْصِيصِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ لِقَصْدِ التَّنْبِيهَ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مَقْصُودًا لِلشَّارِعِ، فَإِنَّمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَانِعٍ مُخْتَصٍّ بِهِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَيْسَ حُكْمُ الشَّارِعِ عِبَارَةً عَنْ مُطْلَقِ كَلَامِهِ وَخِطَابِهِ لِيَصِحَّ مَا قِيلَ، بَلِ الْخِطَابُ الْمُقَيَّدُ بِتَعَلُّقٍ خَاصٍّ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي حَدِّ الْحُكْمِ. وَإِذَا كَانَ التَّعَلُّقُ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِ الْحُكْمِ فَالْمُتَعَلِّقَاتُ مُخْتَلِفَةٌ وَيَلْزَمُ مِنَ اخْتِلَافِهَا اخْتِلَافُ الْأَحْكَامِ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ فَائِدَةُ تَخْصِيصِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ التَّنْبِيهَ بِهِ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ لَكَانَ حُكْمُ الْفَرْعِ ثَابِتًا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ لَا بِالْقِيَاسِ، وَلَجَازَ إِثْبَاتُهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. قَوْلُهُمْ: إِنَّمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ لِاحْتِمَالِ اخْتِصَاصِهِ بِمَانِعٍ. قُلْنَا: الْمَانِعُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ لَوَازِمِ صُورَةِ الْأَصْلِ أَوْ مِنْ لَوَازِمِ مَثَلِ حُكْمِ الْفَرْعِ، أَوْ مِنْ لَوَازِمِ اجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ضَرُورَةَ كَوْنِ مَقْصُودِهِ أَدْنَى مِنْ مَقْصُودِ حُكْمِ الْفَرْعِ عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْضُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ ثُبُوتِهِ فِي الْفَرْعِ أَيْضًا ضَرُورَةَ أَنَّ مَا هُوَ الْمَانِعُ مِنْ إِثْبَاتِهِ فِي الْأَصْلِ مِنْ لَوَازِمِ نَفْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ، فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَفِيهِ قِيَاسُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالْقِيَاسِ عَلَى الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. وَهَذَا مِمَّا لَا نَعْرِفُ خِلَافًا بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ فِي اشْتِرَاطِهِ. الشَّرْطُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُتَقَدِّمًا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَاسَ الشَّافِعِيُّ الْوُضُوءَ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي الِافْتِقَارِ إِلَى النِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ ثَابِتًا قَبْلَ كَوْنِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فِي قِيَاسِهِ عِلَّةً، ضَرُورَةَ كَوْنِهَا مُسْتَنْبَطَةً مِنْ حُكْمٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُذْكَرَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِلْزَامِ لِلْخَصْمِ لَا بِطَرِيقِ مَأْخَذِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ شَرَطَ قَوْمٌ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا، وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَاسُوا قَوْلَهُ: (أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ) عَلَى الطَّلَاقِ وَالْيَمِينِ وَالظِّهَارِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ نَصٌّ لَا جُمْلَةً وَلَا تَفْصِيلًا. [الْبَابُ الثَّانِي فِي مَسَالِكِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فِي الْقِيَاسِ] [المسلك الأول الْإِجْمَاعُ] الْبَابُ الثَّانِي فِي مَسَالِكِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ فِي الْقِيَاسِ الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: الْإِجْمَاعُ وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ عِلَّةً لِحُكْمِ الْأَصْلِ، إِمَّا قَطْعًا أَوْ ظَنًّا، فَإِنَّهُ كَافٍ فِي الْمَقْصُودِ. وَذَلِكَ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى كَوْنِ الصِّغَرِ عِلَّةً لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي قِيَاسِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ عَلَى وِلَايَةِ الْمَالِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا قَطْعًا فَكَيْفَ يُسَوَّغُ الْخِلَافُ مَعَهَا فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ؟ قُلْنَا بِأَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا ظَنِّيًّا فِي الْأَصْلِ أَوِ الْفَرْعِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ وُجُودُهَا فِيهِمَا مَعَ كَوْنِهَا مَقْطُوعًا بِعِلِّيَّتِهِمَا فَلَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 [المسلك الثَّانِي النَّصُّ الصَّرِيحُ] وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ دَلِيلٌ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ بِلَفْظٍ مَوْضُوعٍ لَهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ فِيهِ إِلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ: مَا صَرَّحَ فِيهِ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً أَوْ سَبَبًا لِلْحُكْمِ الْفُلَانِيِّ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ: الْعِلَّةُ كَذَا أَوِ السَّبَبُ كَذَا. (1) الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا وَرَدَ فِيهِ حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ التَّعْلِيلِ كَاللَّامِ، وَكَيْ، وَمِنْ، وَإِنَّ، وَالْبَاءِ. أَمَّا (اللَّامُ) فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أَيْ: زَوَالِ الشَّمْسِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي لِأَجَلِ الدَّافَّةِ» ) (2) أَيِ الْقَوَافِلِ السَّيَّارَةِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ (اللَّامُ) لِتَصْرِيحِ أَهْلِ اللُّغَةِ بِأَنَّهَا لِلتَّعْلِيلِ. وَأَمَّا (كَيْ) فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} أَيْ: كَيْ لَا تَبْقَى الدُّولَةُ بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ، بَلْ تَنْتَقِلُ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَأَمَّا (مِنْ) فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} . وَأَمَّا (إِنَّ) فَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَتْلَى أُحُدٍ: ( «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» ) (3) ، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَقِّ مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ: " «لَا تُخَمِّرُوا   (1) هَذَا التَّعْبِيرُ لَمْ يَرِدْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ فَهُوَ مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ. (2) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 136 ج 3. (3) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ. وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا، وَرَوَاهُ غَيْرُهُمَا مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ انْظُرْ نَصْبَ الرَّايَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» ". (1) وَأَمَّا (الْبَاءُ) فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فَهَذِهِ هِيَ الصِّيَغُ الصَّرِيحَةُ فِي التَّعْلِيلِ وَعِنْدَ وُرُودِهَا يَجِبُ اعْتِقَادُ التَّعْلِيلِ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَمْ يُقْصَدْ بِهَا التَّعْلِيلُ فَتَكُونُ مَجَازًا فِيمَا قُصِدَ بِهَا، وَذَلِكَ فِي (اللَّامِ) كَمَا لَوْ قِيلَ: (لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟) فَقَالَ: (لِأَنِّي قَصَدْتُ أَنْ أَفْعَلَ) وَكَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: (أُصَلِّي لِلَّهِ) وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: ( لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ ) (2) فَقَصْدُ الْفِعْلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِلْفِعْلِ وَغَرَضًا لَهُ، وَكَذَلِكَ ذَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً لِلصَّلَاةِ وَلَا الْمَوْتُ عِلَّةً لِلْوِلَادَةِ وَلَا الْخَرَابُ عِلَّةً لِلْبِنَاءِ، بَلْ عِلَّةُ الْفِعْلِ مَا يَكُونُ بَاعِثًا عَلَى الْفِعْلِ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَوَاعِثَ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ شَاقَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُخْرِبُ بَيْتَهُ، فَلَيْسَتِ الْمُشَاقَّةُ عِلَّةً لِخَرَابِ الْبَيْتِ اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُحْمَلَ لِفَظُّ الْخَرَابِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْخَرَابِ، أَوْ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعَلَّلًا بِالْمُشَاقَّةِ.   (1) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ وَلَا تَمَسُّوهُ بِطِيبٍ وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا. وَقَدْ رُوِيَ بِعِدَّةِ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ وَنَصْبَ الرَّايَةِ. (2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَالزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: إِنَّ مَلَكًا بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ. . . الْحَدِيثَ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، انْظُرْ كَشْفَ الْخَفَاءِ وَالْإِلْبَاسِ لِلْعَجْلُونِيِّ لِتَعْرِفَ طُرُقَهُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَطَاعِنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 [الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِالتَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ ويشتمل على أقسام] [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ وَالتَّسْبِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ] الْمَسْلَكُ الثَّالِثُ: مَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِالتَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلُ لَازِمًا مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَضْعًا لَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ دَالًّا بِوَضْعِهِ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ وَالتَّسْبِيبِ فِي كَلَامِ اللَّهِ أَوْ رَسُولِهِ أَوِ الرَّاوِي عَنِ الرَّسُولِ. أَمَّا فِي كَلَامِ اللَّهِ فَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . وَأَمَّا فِي كَلَامِ رَسُولِهِ فَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ» " (1) ، وَقَوْلُهُ: " مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي ". (2) وَأَمَّا فِي كَلَامِ الرَّاوِي فَكَمَا فِي قَوْلِهِ: ( «سَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ فَسَجَدَ» ) ، ( «وَزَنَا مَاعِزٌ فَرَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» -) . وَذَلِكَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا رُتِّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ (بِالْفَاءِ) يَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ لِكَوْنِ (الْفَاءِ) فِي اللُّغَةِ ظَاهِرَةٌ فِي التَّعْقِيبِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: " جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو " فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَجِيءِ عَمْرٍو عَقِيبَ مَجِيءِ زِيدٍ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبِيَّةُ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْوَصْفِ سَبَبًا إِلَّا مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ قَطْعًا بَلْ ظَاهِرًا   (1) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْمُزَارِعَةِ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ " وَتَرْجَمَ لَهُ بِبَابِ " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا "، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ. (2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ: أَعْتَقَتْ فَخُيِّرَتْ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبُرْمَةٌ عَلَى النَّارِ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ خُبْزٌ وَإِدَامٌ مِنْ أُدْمِ الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَلَمْ أَرَ الْبُرْمَةَ؟ فَقِيلَ: لَحْمٌ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ وَأَنْتَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، قَالَ: هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 لِأَنَّ (الْفَاءَ) فِي اللُّغَةِ قَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى (الْوَاوِ) فِي إِرَادَةِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى (ثُمَّ) فِي إِرَادَةِ التَّأْخِيرِ مَعَ الْمُهْلَةِ، كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ غَيْرَ أَنَّهَا ظَاهِرَةٌ فِي التَّعْقِيبِ بَعِيدَةٌ فِيمَا سِوَاهُ. وَهَذِهِ الرُّتَبُ مُتَفَاوِتَةٌ، فَأَعْلَاهَا مَا وَرَدَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ مَا وَرَدَ فِي كَلَامِ رَسُولِهِ، ثُمَّ مَا وَرَدَ فِي كَلَامِ الرَّاوِي. وَسَوَاءٌ كَانَ فَقِيهًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، لَكِنَّهُ إِنْ كَانَ فَقِيهًا كَانَ الظَّنُّ بِقَوْلِهِ أَظَهَرَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا وَإِنْ كَانَ فِي أَدْنَى الرُّتَبِ غَيْرَ أَنَّهُ مُغَلِّبٌ عَلَى الظَّنِّ ; لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: سَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَجَدَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَدَيِّنًا عَالِمًا بِكَوْنِ (الْفَاءِ) مَوْضُوعَةً لِلتَّعْقِيبِ، أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْهَمْ أَنَّ السَّهْوَ سَبَبٌ لِلسُّجُودِ، وَإِلَّا لَمَا رَتَّبَ السُّجُودَ عَلَى السَّهْوِ بِالْفَاءِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّلْبِيسِ بِنَقْلِ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ السَّبَبِيَّةُ، وَلَا يَكُونُ سَبَبًا بَلْ وَلَمَا كَانَ تَعْلِيقُهُ لِلسُّجُودِ بِالسَّهْوِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. [القسم الثاني حَدَثَتْ وَاقِعَةٌ فَرُفِعَتْ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَحَكَمَ عَقِيبَهَا بِحُكْمٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ مَا حَدَثَ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ] الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَوْ حَدَثَتْ وَاقِعَةٌ فَرُفِعَتْ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَحَكَمَ عَقِيبَهَا بِحُكْمٍ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ مَا حَدَثَ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ. وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ أَنَّ «أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَاذَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: اعْتِقْ رَقَبَةً» (1) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْوِقَاعِ عِلَّةً لِلْعِتْقِ. وَذَلِكَ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ إِنَّمَا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وَاقِعَتِهِ لِبَيَانَ حُكْمِهَا شَرْعًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحُكْمَ فِي مَعْرِضِ الْجَوَابِ لَهُ،   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تَعْتِقُ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: ثُمَّ جَلَسَ قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ قَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، قَالَ: فَهَلْ عَلَى أَفْقَرِ مِنَّا فَمَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ بِنَا، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، وَقَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ. وَقَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 لَا أَنَّهُ ذَكَرَهُ ابْتِدَاءً مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِخْلَاءِ السُّؤَالِ عَنِ الْجَوَابِ وَتَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا إِلَّا أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِ فَالسُّؤَالُ الَّذِي عَنْهُ الْجَوَابُ يَكُونُ ذِكْرُهُ مُقَدَّرًا فِي الْجَوَابِ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاقَعْتَ فَكَفِّرْ. وَقَدْ عَرَفَ أَنَّ الْوَصْفَ إِذَا رُتِّبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ تَحْقِيقًا، فَإِنَّهُ يَكُونُ عِلَّةً فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مُرَتَّبًا عَلَيْهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ تَقْدِيرًا. وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقِسْمُ مُلْحَقًا بِالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فِي الظُّهُورِ وَالدَّلَالَةِ لِكَوْنِ (الْفَاءِ) فِيهِ مُقَدَّرَةً، وَفِي الْأَوَّلِ مُحَقَّقَةً، وَالِاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَأَ بِهِ لَا عَنْ قَصْدِ الْجَوَابِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ: قَدْ طَلَعَتِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ، فَقَالَ لَهُ: اسْقِنِي مَاءً فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْجَوَابُ لِسُؤَالِهِ وَلَا التَّعْلِيلُ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ لَهُ ابْتِدَاءً بِسَقْيِ الْمَاءِ وَعُدُولٌ عَنِ السُّؤَالِ بِالْكُلِّيَّةِ، إِمَّا لِذُهُولِهِ عَنِ السُّؤَالِ أَوْ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ وَإِنْ كَانَ مُنْقَدِحًا هَاهُنَا فَهُوَ بَعِيدٌ فِي حَقِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيمَا فُرِضَ السُّؤَالُ عَنْهُ ; إِذِ الْغَالِبُ عَدَمُ الذُّهُولِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَصَدَ الْجَوَابَ حَتَّى لَا يَكُونَ مُؤَخَّرًا لِلْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ. [الْقِسْمُ الثَّالِثُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا لَوْ لَمْ يُقَدَّرِ التَّعْلِيلُ بِهِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِ فَائِدَةٌ] ٌ، وَمُنْصَبُ الشَّارِعِ مِمَّا يُنَزَّهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا مَعَ الْحُكْمِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ كَلَامِ رَسُولِهِ. فَإِنْ كَانَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَّرْنَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدَّرِ التَّعْلِيلُ بِهِ فَذِكْرُهُ لَا يَكُونُ مُفِيدًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِجْمَاعًا نَفْيًا لِمَا لَا يَلِيقُ بِكَلَامِهِ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ رَسُولِهِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا هُوَ انْتِفَاءُ الْعَبَثِ عَنِ الْعَاقِلِ فِي فِعْلِهِ وَكَلَامِهِ وَنِسْبَةُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَيْهِ ; لِكَوْنِهِ عَارِفًا بِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، فَلَا يُقَدَّمُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الظَّاهِرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 مِنْ آحَادِ الْعُقَلَاءِ فَمَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلرِّسَالَةِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ وَتَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ أَوْلَى. وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ كَوْنِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِهِ مَعَ الْحُكْمِ عِلَّةً لَهُ. وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى أَصْنَافٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّارِعَ إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ أَوْ بَعْدَ السُّؤَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَهُوَ (الصِّنْفُ الْأَوَّلُ) وَذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ الْجِنِّ، حَيْثُ تَوَضَّأَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمَاءٍ كَانَ قَدْ نَبَذَ فِيهِ تُمَيْرَاتٍ لِاجْتِنَابِ مُلُوحَتِهِ فَقَالَ: ( «ثَمَرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ» ) (1) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ ذِكْرُهُ ضَائِعًا ; لِكَوْنِ مَا ذَكَرَ ظَاهِرٌ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى بَيَانٍ. وِإِنْ كَانَ مَعَ السُّؤَالِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الْوَصْفَ فِي مَحَلِّ السُّؤَالِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَحَلِّ السُّؤَالِ فَهُوَ (الصِّنْفُ الثَّانِي) وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ جَوَازِ بِيعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَيُنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: فَلَا إِذًا» " (2) فَهَذَا وَإِنْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ النُّقْصَانَ عِلَّةُ امْتِنَاعِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِنْ تَرْتِيبِهِ الْحُكْمَ عَلَى الْوَصْفِ بِالْفَاءِ وَاقْتِرَانِهِ بِحَرْفِ (إِذَا) وَهِيَ مِنْ صِيَغِ التَّعْلِيلِ غَيْرَ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا انْتِفَاءَ هَذَيْنِ لَبَقِيَ فَهْمُ التَّعْلِيلِ بِالنُّقْصَانِ بِحَالِهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّرِ التَّعْلِيلَ بِهِ لَكَانَ ذِكْرُهُ وَالِاسْتِفْسَارُ عَنْهُ غَيْرَ مُفِيدٍ. وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ السُّؤَالِ، وَهُوَ أَنْ يَعْدِلَ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ إِلَى ذِكْرِ نَظِيرٍ لِمَحَلِّ السُّؤَالِ، فَهُوَ (الصِّنْفُ الثَّالِثُ) ، وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ لَمَّا   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ لَيْلَةَ الْجِنَّ: عِنْدَكَ طَهُورٌ، قَالَ: لَا، إِلَّا شَيْءٌ مِنْ نَبِيذٍ فِي إِدَاوَةٍ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ. زَادَ التِّرْمِذِيُّ: فَتَوَضَّأَ مِنْهُ. وَفِي سَنَدِهِ أَبُو زَيْدٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَفِي سَنَدِهِ أَيْضًا أَبُو فَزَارَةَ وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَأُعِلَّ أَيْضًا بِالِاخْتِلَافِ فِي حُضُورِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ الْجِنِّ (2) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 237 ج 2، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي نَصْبِ الرَّايَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 سَأَلَتْهُ الْجَارِيَةُ الْخَثْعَمِيَّةُ وَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ الْوَفَاةُ وَعَلَيْهِ فَرِيضَةُ الْحَجِّ فَإِنْ حَجَجْتُ عَنْهُ أَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» . (1) فَالْخَثْعَمِيَّةُ إِنَّمَا سَأَلَتْ عَنِ الْحَجِّ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَكَرَ دَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْحَجِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ دَيْنٌ نَظِيرٌ لِدَيْنِ الْآدَمِيِّ، فَذَكَرَهُ لِنَظِيرِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ مَعَ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِهِ وَإِلَّا كَانَ ذِكْرُهُ عَبَثًا. وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ نَظِيرِ الْوَاقِعَةِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ أَيْضًا عِلَّةً لِمِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ضَرُورَةَ الْمُمَاثَلَةِ. وَمَا مِثْلُ هَذَا يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، فَكَأَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى الْأَصْلِ وَعَلَى عِلَّةِ حُكْمِهِ وَعَلَى صِحَّةِ إِلْحَاقِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ الْمُومِي إِلَيْهَا. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَا مَثَّلَ بِهِ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ، وَذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنْ «عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ هَلْ تُفْسِدُ الصَّوْمَ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ أَكَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ؟ فَقَالَ: لَا» . وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ النَّقْضِ لِمَا تَوَهَّمَهُ عُمَرُ مِنْ كَوْنِ الْقُبْلَةِ مُفْسِدَةً لِلصَّوْمِ لِكَوْنِهَا مُقَدِّمَةً لِلْوِقَاعِ الْمُفْسِدِ لِلصَّوْمِ، فَنَقَضَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَلِكَ بِالْمَضْمَضَةِ فَإِنَّهَا مُقَدِّمَةٌ لِلشُّرْبِ الْمُفْسِدِ لِلصَّوْمِ وَلَيْسَتْ مَفْسَدَةً لِلصَّوْمِ. أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى عَدَمِ الْإِفْسَادِ بِكَوْنِ الْمَضْمَضَةِ مُقَدِّمَةً لِلْفَسَادِ فَلَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَ الْقُبْلَةِ وَالْمَضْمَضَةِ مُقَدِّمَةً لِإِفْسَادِ الصَّوْمِ لَيْسَ فِيهِ مَا يُتَخَيَّلُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْإِفْطَارِ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفْطِرًا، فَكَانَ الْأَشْبَهُ بِمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنْ يَكُونَ نَقْضًا لَا تَعْلِيلًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ لَا زَائِدًا عَلَيْهِ وَلَا نَاقِصًا عَنْهُ   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحَجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. . . . إِلَخِ انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلِعَدَمِ الْغَرَضِ بِهَا. وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِمَقْصُودِ السَّائِلِ. وَعُمَرُ إِنَّمَا سَأَلَ عَنْ كَوْنِ الْقُبْلَةِ مُفْسِدَةً لِلصَّوْمِ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ الْمُطَابِقُ إِنَّمَا يَكُونُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْإِفْسَادِ أَوْ عَدَمِهِ، وَكَوْنُ الْقُبْلَةِ عِلَّةً لِنَفْيِ الْفَسَادِ غَيْرَ مَسْئُولٍ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ جَوَابًا مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ، بِخِلَافِ النَّقْضِ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهِ أَنَّ الْقُبْلَةَ غَيْرُ مُفْسِدَةٍ، فَكَانَ جَوَابًا مُطَابِقًا لِلسُّؤَالِ. [الْقِسْمُ الرَّابِعُ أَنْ يُفَرِّقَ الشَّارِعُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فِي الْحُكْمِ بِذِكْرِ صِفَةٍ] ٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ هِيَ عِلَّةُ التَّفْرِقَةِ فِي الْحُكْمِ، حَيْثُ خَصَّصَهَا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ عِلَّةً لَكَانَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ مَا أَشْعَرَ بِهِ اللَّفْظُ، وَهُوَ تَلْبِيسٌ يُصَانُ بِنَصْبِ الشَّارِعِ عَنْهُ. وَذَلِكَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا يَكُونُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ مَذْكُورًا فِي ذَلِكَ الْخِطَابِ دُونَ ذِكْرِ الْآخَرِ، وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِيهِ (1) الْأَوَّلُ: كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» " فَإِنَّهُ خَصَّصَ الْقَاتِلُ بِعَدَمِ الْمِيرَاثِ بَعْدَ سَابِقَةِ إِرْثِ مَنْ يَرِثُ. وَالثَّانِي: فَمِنْهُ مَا تَكُونُ التَّفْرِقَةُ فِيهِ بِلَفْظِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: " «لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ» " إِلَى قَوْلِهِ: " فَإِذَا «اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» " وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالْغَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} . وَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِلَفْظِ الِاسْتِدْرَاكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} . وَمِنْهُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ بِذِكْرِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْآخَرِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ» ".   (1) وَإِلَى مَا لَا يَكُونُ مَذْكُورًا فِيهِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: وَإِلَى مَا يَكُونُ كُلُّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَذْكُورًا فِيهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 [الْقِسْمُ الْخَامِسُ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ أَنْشَأَ الْكَلَامَ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ وَتَحْقِيقِ مَطْلُوبٍ ثُمَّ يَذْكُرُ فِي أَثْنَائِهِ شَيْئًا آخَرَ] الْقِسْمُ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدْ أَنْشَأَ الْكَلَامَ لِبَيَانِ مَقْصُودٍ وَتَحْقِيقِ مَطْلُوبٍ ثُمَّ يَذْكُرُ فِي أَثْنَائِهِ شَيْئًا آخَرَ لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ كَوْنُهُ عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْكَلَامِ لَا بِأَوَّلِهِ وَلَا بِآخِرِهِ، فَإِنَّهُ يُعَدُّ خَبْطًا فِي اللُّغَةِ وَاضْطِرَابًا فِي الْكَلَامِ، وَذَلِكَ مِمَّا تَبْعُدُ نِسْبَتُهُ إِلَى الشَّارِعِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} . فَالْآيَةُ إِنَّمَا سِيقَتْ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْجُمُعَةِ لَا لِبَيَانِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ، فَلَوْ لَمْ يُعْتَقَدْ كَوْنُ النَّهْيِ عَنِ الْبَيْعِ عِلَّةً لِلْمَنْعِ عَنِ السَّعْيِ الْوَاجِبِ إِلَى الْجُمُعَةِ لَمَا كَانَ مُرْتَبِطًا بِأَحْكَامِ الْجُمُعَةِ، وَمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ وَلَا تَعَلَّقَ بِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ أَمْرٍ إِلَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ إِذِ النَّهْيُ طَلَبُ تَرْكِ الْفِعْلِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} طَلَبٌ لِتَرْكِ الْبَيْعِ فَكَانَ نَهْيًا. [الْقِسْمُ السَّادِسُ أَنْ يَذْكُرَ الشَّارِعُ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا مُنَاسِبًا] كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» " فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِكَوْنِ الْغَضَبِ عِلَّةً مَانِعَةً مِنَ الْقَضَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ وَاضْطِرَابِ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: أَكْرِمِ الْعَالِمَ وَأَهِنِ الْجَاهِلَ، فَإِنَّهُ يَسْبِقُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْهُ أَنَّ الْعِلْمَ عِلَّةٌ لِلْإِكْرَامِ وَالْجَهْلَ عِلَّةٌ لِلْإِهَانَةِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا أُلِفَ مِنْ عَادَةِ الشَّارِعِ مِنَ اعْتِبَارِ الْمُنَاسَبَاتِ دُونَ إِلْغَائِهَا، فَإِذَا قَرَنَ بِالْحُكْمِ فِي لَفْظِهِ وَصْفًا مُنَاسِبًا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اعْتِبَارُهُ لَهُ. الثَّانِي: مَا عَلِمْنَا مِنْ حَالِ الشَّارِعِ أَنَّهُ لَا يَرِدُ بِالْحُكْمِ خَلِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ ; إِذِ الْأَحْكَامُ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعَبِيدِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ إِلَى جَرْيِ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ (1) فَإِذَا ذَكَرَ مَعَ الْحُكْمِ وَصْفًا مُنَاسِبًا غَلَبَ   (1) رِعَايَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي شَرْعِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُوجِبْهَا أَحَدٌ سِوَى اللَّهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا سُبْحَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ، وَيُقَالُ أَيْضًا: إِنْ رِعَايَةَ الْمَصْلَحَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَمُوجِبُ الرَّحْمَةِ، فَكَانَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ فِي فِعْلِهِ وَشَرْعِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ عِلَّةٌ لَهُ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْهُ فَيَجُوزُ تَرْكُهُ. وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ: ( «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» ) فَإِنَّهُ وَإِنْ دَلَّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْغَضَبِ عِلَّةٌ فَجَوَازُ الْقَضَاءِ مَعَ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْغَضَبِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، بَلِ الْغَضَبُ الْمَانِعُ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ. وَإِذَا عَرِفْتَ أَقْسَامَ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إِلَيْهِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ فِي اشْتِرَاطِ مُنَاسِبَةِ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إِلَيْهِ، فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ كَالْغَزَالِيِّ وَأَتْبَاعِهِ. حُجَّةُ مَنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الشَّارِعِ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ (1) ، وَلَوْ قَالَ الْوَاحِدُ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ لِغَيْرِهِ: (أَكْرِمِ الْجَاهِلَ وَأَهِنِ الْعَالِمَ) قَضَى كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِإِكْرَامِ الْجَاهِلِ لِجَهْلِهِ، وَلَا أَنَّ أَمْرَهُ بِإِهَانَةِ الْعَالَمِ لِعِلْمِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ لَا تَتَعَدَّى مَسَالِكَ الْحِكْمَةِ وَقَضَايَا الْعَقْلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَاقِعٌ عَلَى امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنِ الْحُكْمِ إِمَّا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ عَلَى رَأْيِ الْمُعْتَزَلَةِ، وَإِمَّا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ عَلَى رَأْيِ أَصْحَابِنَا (2) وَسَوَاءٌ ظَهَرَتِ الْحِكْمَةُ أَمْ لَمْ تَظْهَرْ. وَمَا يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ وَلَا وَهْمَ الْمُنَاسَبَةِ يُعْلَمُ امْتِنَاعُ التَّعْلِيلِ بِهِ. وَالْمُخْتَارُ أَنْ تَقُولَ: أَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْقِسْمِ السَّادِسِ الَّذِي فُهِمَ التَّعْلِيلُ فِيهِ مُسْتَنِدًا إِلَى ذِكْرِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ التَّعْلِيلِ فِيهِ دُونَ فَهْمِ الْمُنَاسَبَةِ ; لِأَنَّ عَدَمَ الْمُنَاسَبَةِ فِيمَا الْمُنَاسَبَةُ شَرْطٌ فِيهِ يَكُونُ تَنَاقُضًا، وَأَمَّا مَا سِوَاهُ مِنْ   (1) لَوْ قَالَ: تَصَرُّفَاتُ الْعُقَلَاءِ لَا تَتَعَدَّى مَسَالِكَ الْحِكْمَةِ وَقَضَايَا الْعَقْلِ فَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ، لَكَانَ أَنْسَبَ فِي حَقِّ اللَّهِ وَمُغْنِيًا عَنْ قَوْلِهِ: الْغَالِبُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الشَّارِعِ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ فَإِنَّ فِيهَا مَا فِيهَا. (2) أَصْحَابِنَا يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ تَعْلِيقًا ص 260 ج3 إِلَخْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 الْأَقْسَامِ فَلَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ فِيهَا بِمَا لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَأَمَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ فَلَا. وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْحُجَّةِ عَلَى امْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ قِيلَ: إِنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَلَا اتِّجَاهَ لَهَا فِي التَّعْلِيلِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا امْتِنَاعَ فِي جَعْلِ الْجَهْلِ عَلَامَةً عَلَى الْإِكْرَامِ وَالْعِلْمِ عَلَامَةً عَلَى الْإِهَانَةِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْبَاعِثُ بَلِ الْبَاعِثُ غَيْرُهُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ الْإِيمَاءِ فِيمَا إِذَا كَانَ حُكْمُ الْوَصْفِ الْمُومَأِ إِلَيْهِ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ كَالْأَمْثِلَةِ السَّابِقِ ذَكْرِهَا. وَأَمَّا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ بِصَرِيحِهِ وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ غَيْرُ مُصَرَّحٍ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فَإِنَّ اللَّفْظَ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى الْحِلِّ وَالصِّحَّةُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ. وَوَجَّهَ اسْتِنْبَاطِ الصِّحَّةِ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْبَيْعِ صَحِيحًا لَمْ يَكُنْ مُثْمِرًا ; إِذْ هُوَ مَعْنَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُثْمِرًا مُفِيدًا كَانَ تَعَاطِيهِ عَبَثًا، وَالْعَبَثُ مَكْرُوهٌ وَالْمَكْرُوهُ لَا يَحِلُّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ مِنَ الْحِلِّ الصِّحَّةِ لِتَعَذُّرِ الْحِلِّ مَعَ انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ. وَهَذَا (1) مِمَّا اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ مُومَأً إِلَيْهِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى امْتِنَاعِ الْإِيمَاءِ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ بِأَنَّ الْإِيمَاءَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إِذَا دَلَّ اللَّفْظُ بِوَضْعِهِ عَلَى الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ كَمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ. وَأَمَّا إِذَا دَلَّ عَلَى الْوَصْفِ بِالْوَضْعِ وَكَانَ الْحُكْمُ مُسْتَنْبَطًا مِنْهُ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَوْمَأً إِلَيْهِ، كَمَا إِذَا دَلَّ اللَّفْظُ عَلَى الْحُكْمِ بِوَضْعِهِ وَكَانَ الْوَصْفُ مُسْتَنْبَطًا مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيمَاءِ إِلَى الْوَصْفِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا» " (2) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ وَضْعًا، وَالشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ عِلَّةٌ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ وَلَيْسَتْ مَوْمَأً إِلَيْهَا.   (1) وَهَذَا - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: فَهَذَا ; لِأَنَّهُ جَوَابُ قَوْلِهِ: وَأَمَّا إِذَا كَانَ اللَّفْظُ. (2) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 191 ج3 أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّمْثِيلِ بِهِ لِمَا حُكْمُهُ مَنْصُوصٌ وَعِلَّتَهُ مُسْتَنْبَطٌ غَيْرُ صَحِيحٍ أَيْضًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَعِلَّتِهِ الْمُوجِبَةِ لَهُ مَنْصُوصٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا " إِلَى قَوْلِهِ: " فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ "، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى كَوْنِهِ مَوْمَأً إِلَيْهِ وَهُوَ الْحَقُّ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ بِصَرِيحِهِ يَدُلُّ عَلَى الْوَصْفِ وَهُوَ الْحِلُّ، وَالصِّحَّةُ لَازِمَةٌ لَهُ لِمَا تَقَرَّرَ، فَإِثْبَاتُ الْحِلِّ وَضْعًا يَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ ثُبُوتِ الصِّحَّةِ ضَرُورَةَ كَوْنِهَا لَازِمَةً لِلْحِلِّ فَيَكُونُ ثَابِتًا بِإِثْبَاتِ الشَّارِعِ لَهُ مَعَ وَصْفِ الْحِلِّ، وَإِثْبَاتُ الشَّارِعِ لِلْحُكْمِ مُقْتَرِنًا بِذِكْرِ وَصْفٍ مُنَاسِبٍ دَلِيلُ الْإِيمَاءِ إِلَى الْوَصْفِ، كَمَا لَوْ ذَكَرَ مَعَهُ الْحُكْمَ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعًا ضَرُورَةَ تَسَاوِيهِمَا فِي الثُّبُوتِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي طَرِيقِ الثُّبُوتِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ثَابِتًا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَضْعًا، وَالْآخِرِ مُسْتَنْبَطًا مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَضْعًا ; لِأَنَّ الْإِيمَاءَ إِنَّمَا كَانَ مُسْتَفَادًا عِنْدَ ذِكْرِ الْحُكْمِ وَالْوَصْفِ بِطَرِيقِ الْوَضْعِ مِنْ جِهَةِ اقْتِرَانِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْوَضْعِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَدْلُولًا عَلَيْهِ وَضْعًا وَالْوَصْفُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمُسْتَنْبَطَ مِنَ الْحُكْمِ الْمُصَرَّحِ بِهِ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ لَازِمًا مِنَ الْحُكْمِ الْمُصَرَّحِ بِهِ، وَلَا مُنَاسَبَتُهُ لِتَحَقُّقِهِ قَبْلَ شَرْعِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الصِّحَّةِ مَعَ الْحِلِّ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِيمَاءِ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُومَأُ إِلَيْهِ مَذْكُورًا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ مَعَ الْحُكْمِ أَوْ لَازِمًا مِنْ مَدْلُولِ كَلَامِهِ (1) ، وَالْأَمْرَانِ مَفْقُودَانِ فِي الْوَصْفِ الْمُسْتَنْبَطِ بِخِلَافِ الْحِلِّ مَعَ الصِّحَّةِ. (2)   (1) أَوْ لَازِمًا مِنْ مَدْلُولِ كَلَامِهِ - فِيهِ سَقْطٌ وَالْأَصْلُ: أَوِ الْحُكْمُ لَازِمًا مِنْ مَدْلُولِ كَلَامِهِ. (2) الْحَاصِلُ أَنَّ الْأَقْسَامَ الْعَقْلِيَّةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: ذِكْرُ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ فِي النَّصِّ كَمَا فِي حَدِيثِ: " لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ " وَهَذَا مُتَّفَقٌ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ مُومَأٌ إِلَيْهِ. الثَّانِي: ذِكْرُ الْوَصْفِ وَالْحُكْمُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ لَازِمٌ لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) فَحِلُّ الْبَيْعِ هُنَا وَصَفٌّ مُسْتَلْزِمٌ لِلصِّحَّةِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلْحِلِّ فَائِدَةً وَلَا ارْتَفَعَ بِارْتِفَاعِ الصِّحَّةِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فَإِنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، وَهَذَا الْقِسْمُ مُخْتَلِفٌ فِي كَوْنِ الْوَصْفِ مُومَأً إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: ذِكْرُ الْحُكْمِ فِي النَّصِّ وَالْوَصْفُ لَازِمٌ لَهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ كَحِلِّ الْبَيْعِ لِلْحَاجَةِ إِلَى تَبَادُلِ الْمَنَافِعِ، فَالْحِلُّ مَنْصُوصٌ وَالْحَاجَةُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَوْمَأً إِلَيْهِ. الرَّابِعُ: وَهُوَ أَلَّا يُذْكَرَ الْحُكْمُ وَلَا الْوَصْفُ فَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 [الْمَسْلَكُ الرَّابِعُ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ] (1) وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِعِلَّةٍ أَوْ لَا لِعِلَّةَ. لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي ; إِذْ هُوَ خِلَافُ إِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْلُو عَنْ عِلَّةٍ إِمَّا بِجِهَةِ الْوُجُوبِ كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ لَا بِجِهَةِ الْوُجُوبِ كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا (2) ، وَبِتَقْدِيرِ جَوَازِ خُلُوِّهِ عَنِ الْعِلَّةِ، فَالْخُلُوُّ عَنْهَا عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ الْمَأْلُوفِ مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى اسْتِلْزَامِ الْحُكْمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِلْعِلَّةِ. وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ فَإِمَّا بِأَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً أَوْ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ. لَا جَائِزَ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ، وَإِلَّا كَانَ الْحُكْمُ تَعَبُّدًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ بِجِهَةِ التَّعَقُّلِ أَغْلَبُ مِنْ إِثْبَاتِهِ بِجِهَةِ التَّعَبُّدِ، وَإِدْرَاجُ مَا نَحْنُ فِيهِ تَحْتَ الْغَالِبِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْحُكْمُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَانَ عَلَى وَفْقِ الْمَأْلُوفِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ، وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وِزَانِ التَّصَرُّفَاتِ الْعُرْفِيَّةِ.   (1) التَّقْسِيمُ لُغَةً التَّجْزِئَةُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا تَرْدِيدُ الْمُسْتَدِلِّ بَيْنَ مَا جَمَعَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا عِلَّةَ الْحُكْمِ، وَالسَّبْرُ لُغَةً الِاخْتِبَارُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ هُنَا اخْتِبَارُ كُلِّ وَصْفٍ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي انْحَصَرَ التَّعْلِيلُ فِيهَا بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الْآتِيَةِ لِيَتَمَيَّزَ مَا يَصْلُحُ مِنْهَا لِلتَّعْلِيلِ فَيُضَافُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ وَيُلْغَى مِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ. (2) تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ تَعْلِيقًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَأَسْرَعَ فِي الْقَبُولِ، فَكَانَ أَفْضَى إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ فَكَانَ أَوْلَى. وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ عِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ، فَإِذَا قَالَ الْمَنَاظِرُ: الْمَوْجُودُ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ وَصْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مَثَلًا ; لِأَنِّي بَحَثْتُ وَسَبَرْتُ فَلَمْ أَطَّلِعْ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَكَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ بِأَنْ كَانَتْ مَدَارِكُ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ لَدَيْهِ مُتَحَقِّقَةً مِنَ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَكَانَ عَدْلًا ثِقَةً فِيمَا يَقُولُ وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقُ، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ انْتِفَاءَ مَا سِوَى الْمَذْكُورِ مِنَ الْأَوْصَافِ، أَوْ قَالَ (1) : الْأَصْلُ عَدَمُ كُلِّ مَوْجُودٍ سِوَى مَا وُجِدَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، إِلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الْحَصْرَ فِيمَا عَيَّنَهُ. وَإِذَا ثَبَتَ حَصْرُ الْأَوْصَافِ فِيمَا عَيَّنَهُ فَإِذَا بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ حَذْفَ الْبَعْضِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ فِي التَّعْلِيلِ بِدَلِيلٍ صَالِحٍ مُسَاعِدٍ لَهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ، فَيَلْزَمُ مِنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ (2) انْحِصَارُ التَّعْلِيلِ فِيمَا اسْتَبْقَاهُ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ خُلُوِّ مَحَلِّ الْحُكْمِ عَنْ عِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَامْتِنَاعُ وُجُودِ مَا وَرَاءَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ وَامْتِنَاعُ إِدْرَاجِ الْمَحْذُوفِ فِي التَّعْلِيلِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ. فَإِنْ قِيلَ: لَعَلَّهُ لَمْ يَبْحَثْ وَلَمْ يَسْبُرْ، وَإِنْ بَحَثَ وَسَبَرَ، فَلَعَلَّهُ وَجَدَ وَصْفًا وَرَاءَ مَا ادَّعَى الْحَصْرَ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ تَرْوِيجًا لِكَلَامِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا وَرَاءَ الْمَذْكُورِ فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِهِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالْوَصْفِ جَهْلٌ بِهِ، وَالْجَهْلُ بِوُجُودِ الْوَصْفِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاحِثِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَصْمِ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَالِمًا بِوُجُودِ وَصْفٍ آخَرَ وَرَاءَ الْمَذْكُورِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَنْتَهِضُ بَحْثُ الْمُسْتَدِلِّ دَلِيلًا فِي نَظَرِ خَصْمِهِ عَلَى الْعَدَمِ لِعِلْمِهِ بِمُنَاقَضَتِهِ، ثُمَّ وَإِنْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى حَصْرِ الْأَوْصَافِ فِيمَا ذَكَرَهُ فَحَذَفَ بَعْضَ الْأَوْصَافِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ فِي التَّعْلِيلِ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْهُ انْحِصَارُ التَّعْلِيلَ فِي الْمُسْتَبْقِي أَنْ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ فِي   (1) أَوْ قَالَ - عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قَالَ النَّاظِرُ. (2) الْأَمْرَانِ هُمَا: حَصْرُ مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَإِلْغَاءُ مَا لَا يَصْلُحُ مِنْهَا لِلتَّعْلِيلِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْإِلْغَاءِ الْآتِيَةِ لِيَتَمَحَّضَ مَا بَقِيَ مِنْهَا لِلتَّعْلِيلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 التَّعْلِيلِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلَا ; لِأَنَّهُ جَازَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْمَحْذُوفُ وَالْمُسْتَبْقِي فِي انْتِفَاءِ الِاعْتِبَارِ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَغَايَةُ مَا فِي حَذْفِ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ إِبْطَالُ مُعَارِضِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صِحَّةُ كَوْنَ الْمُسْتَبْقِي عِلَّةً ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ إِنَّمَا إِلَى وُجُودِ مُصَحِّحِهَا لَا بِالنَّظَرِ إِلَى انْتِفَاءِ مَعَارِضِهَا. (1) قُلْنَا: إِذَا كَانَ الْبَاحِثُ مُسْلِمًا عَدْلًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنَ الْبَحْثِ وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى وَصْفٍ آخَرَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْقَضَاءُ بِنَفْيِ الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مُسْتَنِدًا إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِهِ، بَلْ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ بِعَدَمِهِ، فَإِنَّ الظَّنَّ بِعَدَمِ الشَّيْءِ مُلَازِمٌ لِلْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْخَصْمُ يَعْلَمُ وُجُودَ وَصْفٍ آخَرَ لَأَبْرَزَهُ وَأَظْهَرَهُ ; إِفْحَامًا لِخَصْمِهِ وَإِظْهَارًا لِعِلْمٍ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ، فَدَعْوَى الْعِلْمِ مِنْهُ بِوُجُودِ وَصْفٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مَعَ إِمْكَانِ الْبَيَانِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا لِظُهُورِ الْعِنَادِ فِيهِ، وَلَوْ بَيَّنَ الْخَصْمُ وُجُودَ وَصْفٍ آخَرَ، فَإِنَّا وَإِنْ تَبَيَّنَّا انْخِرَامَ حَصْرِ الْمُسْتَدِلِّ بِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أَدْرَجَهُ فِي الْإِبْطَالِ مَعَ مَا أَبْطَلَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا فِيمَا يَقْصِدُهُ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي، وَإِذَا ثَبَتَ انْحِصَارُ الْأَوْصَافِ فِي الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا أَخْرَجَ الْبَعْضَ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ تَعَيَّنَ انْحِصَارُ التَّعْلِيلِ فِي الْمُسْتَبْقِي، فَإِنَّهُ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ تَعَبُّدًا غَيْرَ أَنَّهُ بَعِيدٌ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِكَوْنِ الْمُسْتَبْقِي عِلَّةً بِنَاءً عَلَى إِبْطَالِ الْمُعَارِضِ، بَلْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عِلَّةٍ ظَاهِرًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ انْحِصَارُهَا فِي الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إِبْطَالِ الْبَعْضِ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ التَّعْلِيلُ بِالْمُسْتَبْقِي، وَيَكُونُ ذَلِكَ الظَّنُّ مُسْتَفَادًا مِنْ جُمْلَةِ الْقَوَاعِدِ الْمُمَهِّدَةِ لَا مِنْ نَفْسِ إِبْطَالِ الْمُعَارِضِ. هَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ الْمَنَاظِرِ. (2)   (1) هَذِهِ سِتَّةُ اعْتِرَاضَاتٍ وَارِدَةٍ عَلَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ النَّاظِرُ مِنْ قَوْلِهِ: لِأَنِّي بَحَثْتُ إِلَخْ، وَقَدْ أَجَابَ عَنْهَا الْمُسْتَدِلُّ بِسِتَّةِ أَجْوِبَةٍ مُرَتِّبَةٍ تَرْتِيبَهَا. (2) النَّاظِرُ مَنْ بَحَثَ لِنَفْسِهِ فَمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَالْمُنَاظَرُ بِهِ بَحْثٌ مَعَ خَصْمٍ يُنَاقِشُهُ فِي دَلِيلِهِ فَإِنْ أَقْنَعَ الْمُسْتَدِلُّ خَصْمَهُ أَوْ أَلْزَمَهُ الْحُجَّةَ كَانَ إِفْحَامًا، وَإِنْ عَجَزَ الْمُسْتَدِلُّ عَنْ إِتْمَامِ دَلِيلِهِ أَوِ انْتَقَلَ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ كَانَ مُنْقَطِعًا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 وَأَمَّا النَّاظِرُ الْمُجْتَهِدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ، وَكَانَ مُؤَاخَذًا بِمَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ طُرُقِ الْحَذْفِ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنْ يُبَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي اسْتَبْقَاهُ قَدْ ثَبَتَ بِهِ الْحُكْمُ فِي صُورَةٍ بِدُونِ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ، وَهُوَ مُلَقَّبٌ بِالْإِلْغَاءِ وَهُوَ شَدِيدُ الشَّبَهِ بِنَفْيِ الْعَكْسِ الَّذِي لَيْسَ بِمَقْبُولٍ، وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ دُونَهُ كَمَا ثَبَتَ دُونَ الْمَحْذُوفِ (1) كَانَ ذَلِكَ إِلْغَاءً لِلْمُسْتَبْقِي أَيْضًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ (2) فَيَتَبَيَّنُ اسْتِقْلَالُ الْمُسْتَبْقِي بِالتَّعْلِيلِ، وَمَعَ ظُهُورِ ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ إِدْخَالُ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ فِي التَّعْلِيلِ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ ; لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِلْغَاءُ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْفَرْعِ مَعَ اسْتِقْلَالِهِ ضَرُورَةَ تَخَلُّفِ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مُسْتَقِلًّا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَيَمْتَنِعُ أَيْضًا إِضَافَةُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ إِلَى الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ لَا غَيْرَ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِمَا لَمْ يَثْبُتِ اسْتِقْلَالُهُ وَإِلْغَاءِ مَا ثَبَتَ اسْتِقْلَالُهُ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: دَعْوَى اسْتِقْلَالِ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ بِالتَّعْلِيلِ مِنْ مُجَرَّدِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِهِ وَانْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ، غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُجَرَّدُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ كَافِيًا فِي التَّعْلِيلِ بِدُونِ ضَمِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْلَالِهِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَى الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ حَاجَةٌ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِنَ الطُّرُقِ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الِاسْتِقْلَالِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِبَعْضِ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِنْ شَرَعَ الْمُسْتَدِلُّ فِي بَيَانِ الِاسْتِقْلَالِ بِبَعْضِ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ، فَإِنْ بَيَّنَ الِاسْتِقْلَالَ فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ   (1) كَمَا ثَبَتَ الْمَحْذُوفُ - فِيهِ سَقْطٌ، وَالْأَصْلُ كَمَا ثَبَتَ دُونَ الْمَحْذُوفِ. (2) وَعِنْدَ ذَلِكَ - يَعْنِي عِنْدَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ دُونَ الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ، وَثُبُوتِهِ مَعَ الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي فِي كُلِّ صُورَةٍ فَيَتَبَيَّنُ. . . إِلَخْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 بِالْبَحْثِ وَالسَّبْرِ، كَمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، فَقَدِ اسْتَقَلَّتْ صُورَةُ الْإِلْغَاءِ بِالِاعْتِبَارِ، وَأَمْكَنْ أَنْ تَكُونَ أَصْلًا لِعِلَّتِهِ، وَتَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَصْلَ الْأَوَّلَ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَصِيرَ إِلَى أَصْلٍ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الِاعْتِبَارِ إِلَّا بِذِكْرِ صُورَةٍ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٍ بِالِاعْتِبَارِ يَكُونُ تَطْوِيلًا بِلَا فَائِدَةٍ. وَإِنْ بَيَّنَ الِاسْتِقْلَالَ بِطَرِيقٍ آخَرَ فَيَلْزَمَهُ مَعَ هَذَا الْمَحْذُورِ مَحْذُورٌ آخَرُ وَهُوَ الِانْتِقَالُ فِي إِثْبَاتِ كَوْنَ الْوَصْفِ عِلَّةً مِنْ طَرِيقٍ إِلَى طَرِيقٍ آخَرَ، وَهُوَ شَنِيعٌ فِي مَقَامِ النَّظَرِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَا يَحْذِفُهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَلِفْنَا مِنَ الشَّارِعِ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِهِ. الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَا يَحْذِفُهُ مِنْ جِنْسِ مَا أَلِفْنَا مِنَ الشَّارِعِ إِلْغَاءَهُ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ، فَيَجِبُ إِلْغَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ مِنْ عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ» ) (1) فَإِنَّهُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَقْرِيرُ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَ صِفَةِ الذُّكُورَةِ وَسَرَايَةِ الْعِتْقِ غَيْرَ أَنَّا لَمَّا عَهِدْنَا مِنَ الشَّارِعِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ أَلْغَيْنَا صِفَةَ الذُّكُورَةِ فِي السَّرَايَةِ بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ. الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: إِذَا قَالَ: بَحَثْتُ فِي الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مُنَاسِبَةً، وَلَا مَا يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ، وَكَانَ أَهْلًا لِلنَّظَرِ وَالْبَحْثِ عَدْلًا، فَالظَّاهِرُ صِدْقُهُ وَأَنَّ الْوَصْفَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ حَذْفُهُ ضَرُورَةَ كَوْنِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ قَبْلُ، وَامْتِنَاعُ اعْتِبَارِ مَا لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا.   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَخَلَاصُهُ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ اسْتُعِيَ الْعَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدَ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 فَإِنْ قِيلَ: الْبَحْثُ وَالسَّبْرُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ فَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: بَحَثْتُ فِي الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مُنَاسِبَةً. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ بَيَّنَ الْمُسْتَدِلُّ الْمُنَاسَبَةَ فِيهِ فَقَدِ انْتَقَلَ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ مِنْ طَرِيقِ السَّبْرِ إِلَى الْمُنَاسَبَةِ. وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ بِالْحَذْفِ أَوْلَى مِنْ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ. قُلْنَا: إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ مِنَ الْمُعْتَرِضِ تَسْلِيمُ مُنَاسَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ، فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ بَعْدَ بَيَانِ الْمُسْتَدِلِّ نَفْيِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ الْمَحْذُوفِ، مَنْعُ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْمُسْتَبْقِي، لِكَوْنِهِ مَانِعًا لِمَا سَلَّمَهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي، وَإِنْ لَمْ يَسْبِقْ مِنَ الْمُعْتَرِضِ تَسْلِيمُ ذَلِكَ، فَلِلْمُسْتَدِلِّ طَرِيقٌ صَالِحٌ فِي دَفْعِ السُّؤَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى بَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ فِي الْوَصْفِ الْمُسْتَبْقِي، وَهُوَ تَرْجِيحُ سَبْرِهِ عَلَى سَبْرِ الْمُعْتَرِضِ بِمُوَافَقَتِهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وَمُوَافَقَةُ سَبْرِ الْمُعْتَرِضِ لِلْقُصُورِ، وَالتَّعْدِيَةِ أَوْلَى مِنَ الْقُصُورِ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ فِي التَّرْجِيحَاتِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 [الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْمُنَاسَبَةِ وَالْإِحَالَةِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُنَاسِبِ] (1) وَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانِيَةِ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمُنَاسِبِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ: (2) (الْمُنَاسِبُ عِبَارَةٌ عَمَّا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ) . وَمَا ذَكَرَهُ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ حَيْثُ يُقَالُ: هَذَا الشَّيْءُ مُنَاسِبٌ لِهَذَا الشَّيْءِ، أَيْ: مُلَائِمٌ، غَيْرَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُنَاسِبِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَتَحَقَّقَهُ النَّاظِرُ مَعَ نَفْسِهِ، فَلَا طَرِيقَ لِلْمَنَاظِرِ إِلَى إِثْبَاتِهِ عَلَى خَصْمِهِ فِي مَقَامِ النَّظَرِ ; لِإِمْكَانِ أَنْ يَقُولَ الْخَصْمُ: هَذَا مِمَّا لَمْ يَتَلَقَّهُ عَقْلِي بِالْقَبُولِ، فَلَا يَكُونُ مُنَاسِبًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيَّ وَإِنْ تَلَقَّاهُ عَقْلُ غَيْرِي بِالْقَبُولِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الِاحْتِجَاجُ عَلَيَّ بِتَلَقِّي عَقْلِ غَيْرِي لَهُ بِالْقَبُولِ أَوْلَى مِنَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى غَيْرِي بِعَدَمِ تَلَقِّي عَقْلِي لَهُ بِالْقَبُولِ. وَعَلَى هَذَا بَنَى أَبُو زَيْدٍ امْتِنَاعَ التَّمَسُّكِ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ فِي مَقَامِ النَّظَرِ بِالْمُنَاسَبَةِ وَقِرَانِ الْحُكْمِ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعِ التَّمَسُّكُ بِذَلِكَ فِي حَقِّ النَّاظِرِ ; لِأَنَّهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا يَقْضِي بِهِ عَقْلُهُ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْمُنَاسِبُ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ حُصُولُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ شَرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ. وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ نَفْيًا أَوْ إِثْبَاتًا، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعَ مَفْسَدَةٍ، وَهُوَ أَيْضًا غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ وَضْعِ اللُّغَةِ لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ مِنَ التَّعَلُّقِ وَالِارْتِبَاطِ، وَكُلُّ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِغَيْرِهِ وَارْتِبَاطٌ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لُغَةً أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ، وَلَا يَخْفَى إِمْكَانُ إِثْبَاتِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي مَقَامِ النَّظَرِ عَلَى الْخَصْمِ بِمَا لَوْ أَعْرَضَ عَنْهُ الْخَصْمُ وَأَصَرَّ مَعَهُ عَلَى الْمَنْعِ كَانَ مُعَانِدًا.   (1) وَالْإِحَالَةِ - الصَّوَابُ وَالْإِخَالَةِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. (2) أَبُو زَيْدٍ، هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الدَّبُوسِيُّ الْقَاضِي مَاتَ عَامَ 430 هـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَقْصُودِ الْمَطْلُوبِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ] الْفَصْلُ الثَّانِي فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَقْصُودِ الْمَطْلُوبِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ. الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ إِمَّا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَفْعُ مَضَرَّةٍ أَوْ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَبْدِ ; لِتَعَالِي الرَّبِّ تَعَالَى عَنِ الضَّرَرِ وَالِانْتِفَاعِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مَقْصُودًا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لَهُ وَمُوَافِقٌ لِنَفْسِهِ. وَلِذَلِكَ إِذَا خُيِّرَ الْعَاقِلُ بَيْنَ وُجُودِ ذَلِكَ وَعَدِمَهُ اخْتَارَ وُجُودَهُ عَلَى عَدَمِهِ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَضَرَّةِ، فَذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا فَشَرْعُ الْحُكْمِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُفْضِيًا إِلَى تَحْصِيلِ أَصْلِ الْمَقْصُودِ ابْتِدَاءً أَوْ دَوَامًا أَوْ تَكْمِيلًا. فَالْأَوَّلُ: مِثْلُ الْقَضَاءِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ الصَّادِرِ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ تَحْصِيلًا لِأَصْلِ الْمَقْصُودِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ مِنَ الْمِلْكِ أَوِ الْمَنْفَعَةِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَالْقَضَاءِ بِتَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى مَنْ قَتَلَ عَمْدًا عُدْوَانًا لِإِفْضَائِهِ إِلَى دَوَامِ الْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْمَعْصُومَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَكَالْحُكْمِ بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مُكَمِّلٌ لِمَصْلَحَةِ النِّكَاحِ لَا أَنَّهُ مُحَصِّلٌ لِأَصِلِهَا لِحُصُولِهَا بِنَفْسِ اعْتِبَارِ التَّصَرُّفِ وَصِحَّتِهِ. وَأَمَّا فِي الْأُخْرَى فَالْمَقْصُودُ الْعَائِدُ إِلَيْهَا مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ جَلْبِ الثَّوَابِ وَدَفْعِ الْعِقَابِ. فَالْأَوَّلُ: كَالْحُكْمِ بِإِيجَابِ الطَّاعَاتِ وَأَفْعَالِ الْعِبَادَاتِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى نَيْلِ الثَّوَابِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ. وَالثَّانِي: فَكَالْحُكْمِ بِتَحْرِيمِ أَفْعَالِ الْمَعَاصِي وَشَرْعِ الزَّوَاجِرِ عَلَيْهَا دَفْعًا لِمَحْذُورِ الْعِقَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَرَاتِبِ إِفْضَاءِ الْحُكْمِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ وَاخْتِلَافِهَا] الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي بَيَانِ مَرَاتِبِ إِفْضَاءِ الْحُكْمِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ وَاخْتِلَافِهَا الْمَقْصُودُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ يَقِينًا أَوْ ظَنًّا، أَوْ أَنَّ الْحُصُولَ وَعَدَمَهُ مُتَسَاوِيَانِ، أَوْ أَنَّ عَدَمَ الْحُصُولِ رَاجِحٌ عَلَى الْحُصُولِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَمِثَالُهُ إِفْضَاءُ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ التَّصَرُّفِ بِالْبَيْعِ إِلَى إِثْبَاتِ الْمِلْكِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَكَشَرْعِ الْقِصَاصِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ صِيَانَةً لِلنَّفْسِ الْمَعْصُومَةِ عَنِ الْفَوَاتِ، فَإِنَّهُ مَظْنُونُ الْحُصُولِ رَاجِحُ الْوُقُوعِ ; إِذِ الْغَالِبُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا قَتَلَ قُتِلَ أَنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَتْلِ، فَتَبْقَى نَفْسُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إِلَى نَظَائِرِهِ مِنَ الزَّوَاجِرِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَقْطُوعًا بِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ، مَعَ شَرْعِ الْقِصَاصِ كَثِيرًا. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَقَلَّمَا يَتَّفِقُ لَهُ فِي الشَّرْعِ مِثَالٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، بَلْ عَلَى طَرِيقِ التَّقْرِيبِ، وَذَلِكَ كَشَرْعِ الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِحِفْظِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ إِفْضَاءَهُ إِلَى ذَلِكَ مُتَرَدِّدٌ حَيْثُ إِنَّا نَجِدُ كَثْرَةَ الْمُمْتَنِعِينَ عَنْهُ مُقَاوُمَةً لِكَثْرَةِ الْمُقْدِمِينَ عَلَيْهِ لَا عَلَى وَجْهِ التَّرْجِيحِ وَالْغَلَبَةِ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي الْعَادَةِ. وَمِثَالُ الْقِسْمِ الرَّابِعِ: إِفْضَاءُ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْآيِسَةِ إِلَى مَقْصُودِ التَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا عَقْلًا غَيْرُ أَنَّهُ بَعِيدٌ عَادَةً، فَكَانَ الْإِفْضَاءُ إِلَيْهِ مَرْجُوحًا. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ وَإِنْ كَانَتْ مُنَاسِبَةً نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِلنَّفْسِ غَيْرَ أَنَّ أَعْلَاهَا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ لِتَيَقُّنِهِ، وَيَلِيهِ الثَّانِي لِكَوْنِهِ مَظْنُونًا رَاجِحًا، وَيَلِيهِ الثَّالِثُ لِتَرَدُّدِهِ، وَيَلِيهِ الرَّابِعُ لِكَوْنِهِ مَرْجُوحًا. وَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهِمَا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمُنَاسَبَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فَلِكَوْنِ الْمَقْصُودِ فِيهِمَا غَيْرَ ظَاهِرٍ لِلْمُسَاوَاةِ فِي الثَّالِثِ وَالْمَرْجُوحِيَّةِ فِي الرَّابِعِ، فَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهِمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ، وَكَانَ الْمَقْصُودُ ظَاهِرًا مِنَ الْوَصْفِ فِي غَالِبِ صُوَرِ الْجِنْسِ وَإِلَّا فَلَا، وَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مِثَالِ صِحَّةِ نِكَاحِ الْآيِسَةِ لِمَقْصُودِ التَّوَالُدِ فَإِنَّهُ وَإِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآيِسَةِ إِلَّا أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِيمَا عَدَاهَا. (1) وَعَلَى هَذَا فَلَوْ خَلَا الْوَصْفُ الَّذِي رُتِّبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَنِ الْمَقْصُودِ الْمُوَافِقِ لِلنَّفْسِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي غَالِبِ صُوَرَ الْجِنْسِ كَمَا فِي: لُحُوقِ النَّسَبِ فِي نِكَاحِ الْمَشْرِقِيِّ لِلْمَغْرِبِيَّةِ، وَشَرْعِ الِاسْتِبْرَاءِ فِي شِرَاءِ الْجَارِيَةِ لِمَعْرِفَةِ فَرَاغِ الرَّحِمِ فِيمَا إِذَا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ مِمَّنْ بَاعَهَا مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ لِعِلْمِنَا بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ غَيْرِهِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا فِي غَالِبِ صُوَرِ الْجِنْسِ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الصُّوَرِ فَلَا يَكُونُ مُنَاسِبًا وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ الْأَحْكَامِ الْحِكَمِ (2) فَشَرْعُ الْأَحْكَامِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ يَقِينًا لَا يَكُونُ مُفِيدًا، فَلَا يُرَدُّ بِهِ الشَّرْعُ خِلَافًا لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ.   (1) إِذَا كَانَ التَّسَاوِي وَالْرُجُوحِيَّةُ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الشَّاذَّةِ عَادَ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ إِلَى الثَّانِي، ثُمَّ لِلنِّكَاحِ مَقَاصِدٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا التَّنَاسُلُ وَعِفَّةُ الْفَرْجِ وَإِتْرَافُ النَّفْسِ وَالتَّعَاوُنُ عَلَى مَتَاعِبِ الْحَيَاةِ، وَبَعْضُ مَقَاصِدِهِ أَهَمُّ مِنْ بَعْضٍ، وَإِذَنْ فَبُعْدُ التَّنَاسُلِ فِي نِكَاحِ الْآيِسَةِ لَا يُفْضِي إِلَى عَدَمِ الْحِكْمَةِ أَوِ الْمَقْصُودِ مُطْلَقًا، وَإِنْ أَفْضَى إِلَى ظَنِّ عَدَمِ مَقْصُودٍ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ. (2) الْحِكَمُ بِكَسْرِ الْحَاءِ جَمْعُ حِكْمَةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 [الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي أَقْسَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِ فِي نَفْسِهِ وَذَاتِهِ] الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي أَقْسَامِ الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِ فِي نَفْسِهِ وَذَاتِهِ (1) وَهُوَ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ، أَوْ لَا يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا، أَوْ لَا يَكُونَ أَصْلًا. فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَهُوَ الرَّاجِعُ إِلَى الْمَقَاصِدِ الْخَمْسَةِ الَّتِي لَمْ تَخْلُ مِنْ رِعَايَتِهَا مِلَّةٌ مِنَ الْمِلَلِ وَلَا شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَهِيَ: حَفِظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْلِ، وَالنَّسْلِ، وَالْمَالِ. فَإِنَّ حَفِظَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْخَمْسَةِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَهِيَ أَعْلَى مَرَاتِبِ الْمُنَاسَبَاتِ. وَالْحَصْرُ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ الْأَنْوَاعِ إِنَّمَا كَانَ نَظَرًا إِلَى الْوَاقِعِ وَالْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ مَقْصَدٍ ضَرُورِيٍّ خَارِجٍ عَنْهَا فِي الْعَادَةِ. أَمَّا حِفْظُ الدِّينِ: فَبِشَرْعِ قَتْلِ الْكَافِرِ الْمُضِلِّ، وَعُقُوبَةِ الدَّاعِي إِلَى الْبِدَعِ. وَأَمَّا حِفْظُ النُّفُوسِ: فَبِشَرْعِ الْقِصَاصِ. وَأَمَّا حِفْظُ الْعُقُولِ: فَبِشَرْعِ الْحَدِّ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ. وَأَمَّا حِفْظُ الْأَمْوَالِ الَّتِي بِهَا مَعَاشُ الْخَلْقِ: فَبِشَرْعِ الزَّوَاجِرِ لِلْغُصَّابِ وَالسُّرَّاقِ. (2) وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا فَهُوَ التَّابِعُ الْمُكَمِّلُ لِلْمَقْصُودِ الضَّرُورِيِّ. وَذَلِكَ كَالْمُبَالَغَةِ فِي حِفْظِ الْعَقْلِ بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُسْكِرِ الدَّاعِي إِلَى الْكَثِيرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْكِرًا، فَإِنَّ أَصْلَ الْمَقْصُودِ مِنْ حِفْظِ الْعَقْلِ حَاصِلٌ بِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْمُسْكِرِ لَا بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ، وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ الْقَلِيلُ لِلتَّكْمِيلِ وَالتَّتْمِيمِ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ مَا تَدْعُو حَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَوْ لَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ. فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا، أَوْ لَا يَكُونَ أَصْلًا.   (1) ارْجِعْ إِلَى كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافِقَاتِ لِلشَّاطِبِيِّ، فَإِنَّهُ قَسَّمَهَا إِلَى: ضَرُورِيَّاتٍ، وَحَاجِيَّاتٍ، وَتَحْسِينِيَّاتٍ، وَذَكَرَ مُكَمِّلَاتِ كُلٍّ مِنْهَا وَأَوْضَحَهَا بِالتَّعَارِيفِ وَالْأَمْثِلَةِ. (2) فِيهِ سَقْطٌ - تَقْدِيرُهُ وَأَمَّا حِفْظُ النَّسْلِ فَبِشَرْعِ النِّكَاحِ وَحَدِّ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 فَإِنْ كَانَ أَصْلًا فَهُوَ الْقِسَمُ الثَّانِي الرَّاجِعُ إِلَى الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ، وَذَلِكَ كَتَسْلِيطِ الْوَلِيِّ عَلَى تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ لَا لِضَرُورَةٍ أَلْجَأَتْ إِلَيْهِ بَلْ لِحَاجَةِ تَقْيِيدِ الْكُفْءِ الرَّاغِبِ ; خِيفَةَ فَوَاتِهِ عِنْدَ دُعُوِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا إِلَى خُلْفٍ. وَأَمَّا تَسْلِيطُ الْوَلِيِّ عَلَى تَرْبِيَةِ الصَّغِيرِ وَإِرْضَاعِهِ وَشِرَاءِ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ لَهُ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي لَا تَخْلُو شَرِيعَةٌ عَنْ رِعَايَتِهَا. وَهَذَا الْقِسْمُ فِي الرُّتْبَةِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا جَازَ اخْتِلَافُ الشَّرَائِعِ فِيهِ دُونَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ فِي مَحَلِّ الْمُعَارَضَةِ مَعَ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْمِلَةِ وَالتَّتِمَّةِ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا اشْتَرَكَا فِي جَوَازِ اخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فِيهِمَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلًا فَهُوَ التَّابِعُ الْجَارِي مَجْرَى التَّتِمَّةِ وَالتَّكْمِلَةِ لِلْقِسْمِ الثَّانِي، وَذَلِكَ كَرِعَايَةِ الْكَفَاءَةِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ، فَإِنَّهُ أَفْضَى إِلَى دَوَامِ النِّكَاحِ وَتَكْمِيلِ مَقَاصِدِهِ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَقْصُودِ حَاصِلًا دُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا النَّوْعُ فِي الرُّتْبَةِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى مَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْمِلَةِ لِلْمَقْصُودِ الضَّرُورِيِّ، فَلِكَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِمَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ، فَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ، وَهُوَ مَا يَقَعُ مَوْقِعَ التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ وَرِعَايَةِ أَحْسَنِ الْمَنَاهِجِ فِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَذَلِكَ كَسَلْبِ الْعَبِيدِ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَبْدَ نَازِلُ الْقَدْرِ وَالْمَنْزِلَةِ لِكَوْنِهِ مُسْتَسْخَرًا لِلْمَالِكِ مَشْغُولًا بِخِدْمَتِهِ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ مَنْصِبُ الشَّهَادَةِ لِشَرَفِهَا وَعِظَمِ خَطَرِهَا ; جَرْيًا لِلنَّاسِ عَلَى مَا أَلِفُوهُ وَعَدُّوهُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَإِنْ كَانَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ وَلَا زَائِدَةٌ وَلَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّكْمِلَةِ لِأَحَدِهِمَا، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ سَلْبِ وِلَايَتِهِ عَلَى الطِّفْلِ فَإِنَّ سَلْبَ وِلَايَتِهِ مِنْ قَبِيلِ الْحَاجَاتِ ; لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الطِّفْلِ تَسْتَدْعِي الْخُلُوَّ وَالْفَرَاغَ وَالنَّظَرَ فِي أَحْوَالِهِ، وَاسْتِغْرَاقُ الْعَبْدِ بِمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِنْ خِدْمَةِ مَالِكِهِ مَانِعٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 [الْفَصْلُ الْخَامِسُ الْحُكْمِ إِذَا ثَبَتَ لِوَصْفٍ مَصْلَحِيٍّ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ مَفْسَدَةٍ مُسَاوِيَةٍ لَهُ أَوْ رَاجِحَةٍ عَلَيْهِ] الْفَصْلُ الْخَامِسُ (1) اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ إِذَا ثَبَتَ لِوَصْفٍ مَصْلَحِيٍّ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ مَفْسَدَةٍ مُسَاوِيَةٍ لَهُ أَوْ رَاجِحَةٍ عَلَيْهِ، هَلْ تَنْخَرِمُ مُنَاسَبَتُهُ أَوْ لَا؟ فَأَثْبَتَهُ قَوْمٌ وَنَفَاهُ آخَرُونَ. وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِبَقَاءِ الْمُنَاسَبَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُنَاسَبَةَ الْوَصْفِ تَنْبَنِي عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَالْمَصْلَحَةُ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا تَخْتَلُّ (2) بِمُعَارَضَةِ الْمَفْسَدَةِ، وَدَلِيلُهُ (3) أَنَّ الْمَصْلَحَةَ وَالْمَفْسَدَةَ الْمُتَعَارِضَتَانِ إِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا أَوْ تَتَرَجَّحُ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَإِمَّا أَنْ تُبْطَلَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى، أَوْ أَنْ تُبْطَلَ إِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، أَوْ لَا تُبْطَلَ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِالْأُخْرَى. الْأَوَّلُ مُحَالٌ ; لِأَنَّ عَدَمَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا هُوَ بِوُجُودِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى وُجُودِهِمَا مَعَ عَدَمِهِمَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُتَحَقِّقَةً مَعَ الْمَعْلُولِ. وَالثَّانِي مُحَالٌ (4) ; لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَالثَّالِثُ (5) هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَرْجَحَ مِنَ الْأُخْرَى فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ الْمَرْجُوحَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ، وَلَا مُنَافَاةَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الرَّاجِحَةَ مِنْهُمَا إِذَا كَانَتْ مُعَارَضَةً بِالْمَرْجُوحَةِ، فَإِمَّا أَنْ يَنْتَفِيَ شَيْءٌ مِنَ الرَّاجِحَةِ لِأَجْلِ الْمَرْجُوحَةِ أَوْ لَا يَنْتَفِي مِنْهَا شَيْءٌ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُحَالٌ أَنْ تَتَسَاوَيَا لِمَا سَبَقَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ انْتِفَاءُ بَعْضِ الرَّاجِحِ وَبَقَاءُ بَعْضِهِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ ; ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ تَفَاوَتَا، فَالْكَلَامُ فِي الرَّاجِحِ كَالْكَلَامِ فِي   (1) انْظُرْ ص 290 - 306 ج19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَالْجُزْءَ الثَّانِي مِنَ الْمُوَافِقَاتِ، وَمَبْحَثَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مِنَ الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْهَا. (2) لَا تَخْتَلُّ - الْجُمْلَةُ خَبَرٌ ثَانٍ لِلْمَصْلَحَةِ. (3) وَدَلِيلُهُ - دَلِيلُ قَوْلِهِ: " الْمَصْلَحَةُ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ لَا تَخْتَلُّ إِلَخْ. (4) وَالثَّانِي مُحَالٌ، تَحْتَهُ صُورَتَانِ: الْأُولَى: بُطْلَانُ الْمَصْلَحَةِ بِالْمَفْسَدَةِ دُونَ الْعَكْسِ، وَالثَّانِي بُطْلَانُ الْمَفْسَدَةِ بِالْمَصْلَحَةِ دُونَ الْعَكْسِ، وَعِلَّةُ الْبُطْلَانِ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ هِيَ عَدَمُ الْأَوْلَوِيَّةِ. (5) هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَابِعٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنِ الثَّانِي تَحْتَهُ صُورَتَانِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ لَا تَخْتَلُّ بِمُعَارَضَةِ الْمَفْسَدَةِ، فَالْعَقْلُ يَقْضِي بِمُنَاسَبَتِهَا لِلْحُكْمِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْمُعَارِضِ يَقْضِي بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِأَجْلِ الْمُعَارَضِ، وَلِهَذَا يَحْسُنُ مِنَ الْعَاقِلِ أَنْ يَقُولَ: الدَّاعِي إِلَى إِثْبَاتِ الْحُكْمِ مَوْجُودٌ غَيْرَ أَنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْهُ مَانِعٌ، وَلَوِ اخْتَلَّتْ مُنَاسَبَةُ الْوَصْفِ لَمَا حَسُنَ مِنَ الْعَاقِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةُ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ قَدْ يَتَعَارَضُ فِي نَظَرِ الْمَلِكِ عِنْدَ الظَّفَرِ بِجَاسُوسِ عَدُوِّهِ الْمُنَازِعِ لَهُ فِي مُلْكِهِ قَتْلُهُ وَعُقُوبَتُهُ زَجْرًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ عَنِ الْحَبْسِ (1) الْمُضِرِّ بِهِ وَالْإِحْسَانُ إِلَيْهِ وَإِكْرَامُهُ، إِمَّا لِلِاسْتِهَانَةِ بِعَدُوِّهِ أَوْ لِقَصْدِ كَشْفِ أَسْرَارِهِ، وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ سَلَكَ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ خَارِجًا عَنْ مَذَاقِ الْحِكْمَةِ وَمُقْتَضَى الْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ فَوَاتُ الْمَقْصُودِ الْحَاصِلِ مِنْ سُلُوكِ مُقَابِلِهِ، وَسَوَاءٌ تَسَاوَيَا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الْأَخُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ مَعَ الْأَخِ مِنَ الْأَبِ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَعَارَضُ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ تَقْدِيمُ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِقَرَابَةِ الْأُمُومَةِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي جِهَةِ الْعُصُوبَةِ وَإِلْغَاءُ قَرَابَةِ الْأُمُومَةِ، وَتَفْضِيلُ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمَزِيدِ الْقَرَابَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْعَقْلُ يَقْضِي بِتَأَدِّي النَّظَرِ (2) مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَرْجِيحٍ بِأَنَّ وُرُودَ الشَّرْعِ بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ مُنَاسِبٌ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَذَاقِ الْعُقُولِ، وَلَوْ كَانَ تَرْجِيحُ الْوَصْفِ الْمَصْلَحِيِّ مُعْتَبَرًا فِي مُنَاسَبَتِهِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ وَرَدَ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ نَظَرًا إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَبِتَحْرِيمِهَا نَظَرًا إِلَى مَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ. فَلَوِ اشْتَرَطَ التَّرْجِيحَ فِي الْمُنَاسَبَةِ لَمَا ثَبَتَ الصِّحَّةُ وَلَا التَّحْرِيمُ بِتَقْدِيرِ التَّسَاوِي بَيْنَ مَصْلَحَةِ الصِّحَّةِ وَمَفْسَدَةِ التَّحْرِيمِ، وَلَا حُكْمَ الصِّحَّةِ بِتَقْدِيرِ رُجْحَانِ مَفْسَدَةِ الْغَصْبِ وَلَا التَّحْرِيمِ بِتَقْدِيرِ رُجْحَانِ مَصْلَحَةِ الصِّحَّةِ لِعَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ. وَهَذِهِ الْحُجَجُ ضَعِيفَةٌ.   (1) الْحَبْسِ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ: التَّجَسُّسِ. (2) بِتَأَدِّي النَّظَرِ - لَعَلَّهُ بِبَادِئِ النَّظَرِ بِبَاءَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 أَمَّا الْحُجَّةُ الْأُولَى فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَرَدْتَ أَنَّ مُنَاسَبَةَ الْوَصْفِ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُنَاسَبَةِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِلُّ بِالْمُنَاسَبَةِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ بَعْضِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمُنَاسَبَةِ تَحَقُّقُ الْمُنَاسَبَةِ، وَإِنْ أَرَدْتَ أَنَّهَا مُسْتَقِلَّةٌ بِتَحْقِيقِ الْمُنَاسَبَةِ فَمَمْنُوعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَحَقِّقَةً فِي نَفْسِهَا فَالْمُنَاسَبَةُ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ، وَأَهْلُ الْعُرْفِ لَا يَعُدُّونَ الْمَصْلَحَةَ الْعَارِضَةَ بِالْمَفْسَدَةِ الْمُسَاوِيَةِ أَوِ الرَّاجِحَةِ مُنَاسِبَةً، وَلِهَذَا إِنَّ مَنْ حَصَّلَ مَصْلَحَةَ دِرْهَمٍ عَلَى وَجْهٍ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ عَشْرَةً يُعَدُّ سَفِيهًا خَارِجًا فِي تَصَرُّفِهِ عَنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَاسِبًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ تَحَقُّقُ الْمُنَاسَبَةِ. وَقَوْلُهُ: غَيْرَ أَنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْهُ مَانِعٌ. وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْعُرْفِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِإِخْلَالِ الْمَانِعِ الْمَفْسَدِيِّ بِمُنَاسَبَةِ الْمَصْلَحَةِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الِانْتِفَاءَ مُحَالٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ (1) مَعَ وُجُودِ الْمُنَاسِبِ لِلْحُكْمِ. وَعَلَى هَذَا نَقُولُ بِأَنَّ مُنَاسَبَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ تَخْتَلُّ بِتَقْدِيرِ التَّسَاوِي وَبِتَقْدِيرِ مَرْجُوحِيَّةِ إِحْدَاهُمَا، فَالْمُخْتَلُّ مُنَاسَبَتُهَا دُونَ مُنَاسَبَةِ الرَّاجِحَةِ ضَرُورَةَ فَوَاتِ شَرْطِ الْمُنَاسَبَةِ، لَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ عِلَّةٌ لِلْإِخْلَالِ بِمُنَاسَبَةِ الْأُخْرَى أَوْ إِحْدَاهُمَا لِيَلْزَمَ فِي ذَلِكَ مَا قِيلَ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ أَيْضًا: مَهْمَا لَمْ يَتَرَجَّحْ فِي نَظَرِ الْمَلِكِ وَأَهْلِ الْعُرْفِ مَصْلَحَةٌ مَا عَيَّنَهُ مِنْ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ مِنَ الْإِحْسَانِ أَوِ الْإِسَاءَةِ بِمُقْتَضَى الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ، فَإِنَّ فِعْلَهُ لَا يَكُونُ مُنَاسِبًا، وَيَكُونُ بِتَصَرُّفِهِ خَارِجًا عَنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ الْجَزْمِ بِمُنَاسَبَةِ مَا عُيِّنَ دُونَ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ، وَبَعْدَ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ فَلَيْسَ الْجَزْمُ بِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَطْعًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مَرْجُوحًا وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ.   (1) مُحَالٌ عَلَى الْمَفْسَدَةِ - أَيْ: رَاجِعٌ إِلَيْهَا نَاشِئٌ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُحَالِ مَا يُقَابِلُ الْوَاجِبَ وَالْجَائِزَ الْعَقْلِيَّيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 وَأَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: فَبَعِيدَةٌ عَنِ التَّحْقِيقِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي إِثْبَاتِ حُكْمٍ لِمَصْلَحَةٍ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِهِ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ أَوْ رَاجِحَةٌ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ مَفْسَدَةِ تَحْرِيمِ الْغَصْبِ، وَهِيَ شَغْلُ مِلْكِ الْغَيْرِ غَيْرُ لَازِمَةٍ مِنْ تَرْتِيبِ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ عَلَيْهَا، وَهُوَ صِحَّةُ الصَّلَاةِ، فَإِنَّا وَإِنْ لَمْ نَقْضِ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فَالْمَفْسَدَةُ اللَّازِمَةُ مِنَ الْغَصْبِ لَا تَخْتَلُّ بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا، وَلَوْ كَانَتْ لَازِمَةً مِنْ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ لَا غَيْرَ لَانْتَفَتِ الْمَفْسَدَةُ الْمَفْرُوضَةُ بِانْتِفَاءِ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَحَيْثُ لَمْ تَكُنْ مَفْسَدَةُ تَحْرِيمِ الْغَصْبِ لَازِمَةً عَنْ حُكْمِ الْمَصْلَحَةِ كَانَ مِنَ الْمُنَاسِبِ اعْتِبَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِهَا، وَهِيَ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ ; إِذْ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا تَقَرَّرَ. وَإِذَا تَقَرَّرَ تَوَقُّفُ الْمُنَاسَبَةِ عَلَى التَّرْجِيحِ فَلِلْمُعَلِّلِ تَرْجِيحُ وَصْفِهِ بِطُرُقٍ تَفْصِيلِيَّةٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَسَائِلِ، وَلَهُ التَّرْجِيحُ بِطَرِيقٍ إِجْمَالِيٍّ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ. وَحَاصِلُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُعَلِّلُ: لَوْ لَمْ يُقَدَّرْ تَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى مَا عَارَضَهَا مِنَ الْمَفْسَدَةِ مَعَ الْبَحْثِ وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا يُمْكِنُ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ تَعَبُّدًا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْأَحْكَامِ التَّعَقُّلُ دُونَ التَّعَبُّدِ، فَإِدْرَاجُ مَا نَحْنُ فِيهِ تَحْتَهُ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى كَانَ الْحُكْمُ أَقْرَبَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَأَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ، فَإِنَّ الِانْقِيَادَ إِلَى الْمَعْقُولِ الْمَأْلُوفِ أَقْرَبُ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَكَانَ أَفْضَى إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ. لَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْبَحْثِ عَنْ وَصْفٍ آخَرَ يُمْكِنُ إِضَافَةُ الْحُكْمِ إِلَيْهِ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى تَرْجِيحِ جِهَةِ الْمَصْلَحَةِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِهَا، وَهُوَ عَدَمُ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا بِهِ تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى مَعَارِضِهَا مَعَ الْبَحْثِ عَنْهُ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْبَحْثَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. فَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَحْثَنَا عَنْ وَصْفٍ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى مَحَلَّ الْحُكْمِ فَمَحَلُّهُ مُتَّحِدٌ، وَبَحْثُكُمْ إِنَّمَا هُوَ عَمَّا بِهِ التَّرْجِيحُ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ، فَإِنَّ مَا بِهِ التَّرْجِيحُ قَدْ يَكُونُ بِمَا يَعُودُ إِلَى ذَاتِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهَا كَمَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 قُلْنَا: مَا بِهِ التَّرْجِيحُ إِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ الْحُكْمِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّرْجِيحُ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ. وَإِنْ كَانَ فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ فَقَدِ اسْتَوَى الْبَحْثَانِ فِي اتِّحَادِ مَحَلِّهِمَا وَلَا تَرْجِيحَ بِهَذِهِ الْجِهَةِ. وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ اتِّحَادِ مَحَلِّ بَحْثِ الْمُسْتَدِلِّ وَالتَّعَدُّدِ فِي مَحَلِّ بَحْثِ الْمُعْتَرِضِ غَيْرَ أَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ مِنَ الْبَحْثَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَسَاوِيًا، أَوْ مُتَفَاوِتًا. وَبِتَقْدِيرِ الْمُسَاوَاةِ وَرُجْحَانِ ظَنِّ الْمُعْتَرِضِ، فَلَا تَرْجِيحَ فِي جَانِبِ الْمُسْتَدِلِّ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ظَنُّهُ رَاجِحًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَقَعُ عَلَى تَقْدِيرٍ مِنْ تَقْدِيرَيْنِ يَكُونُ أَغْلَبَ مِمَّا لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اشْتِرَاطَ التَّرْجِيحِ فِي تَحْقِيقِ الْمُنَاسَبَةِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يَرَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ. وَأَمَّا مَنْ يَرَى جَوَازَ تَخْصِيصِهَا وَجَوَازَ إِحَالَةِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ عَلَى تَحَقُّقِ الْمُعَارِضِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْمُنَاسَبَةِ وَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ مَرْجُوحَةً أَوْ مُسَاوِيَةً، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ بِالْمَانِعِ مَعَ وُجُودِ الْمُقْتَضِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَقْصُودٍ رَاجِحٍ عَلَى مَقْصُودِ الْمُقْتَضِي لِلْإِثْبَاتِ، أَوْ مُسَاوٍ لَهُ، أَوْ مَرْجُوحٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ رَاجِحًا فَقَدْ قِيلَ بِمُنَاسَبَةِ الْمُقْتَضِي لِلْإِثْبَاتِ مَعَ كَوْنِ مَقْصُودِهِ مَرْجُوحًا، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا كَانَ الْحُكْمُ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَاءِ الْمُنَاسِبِ لَا لِوُجُودِ الْمَانِعِ، وَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا فَكَذَلِكَ أَيْضًا. وَإِنْ كَانَتْ مَفْسَدَةُ الْمَانِعِ مَرْجُوحَةً فَقَدْ قِيلَ بِانْتِفَاءِ الْحُكْمِ لَهُ، وَلَوْلَا مُنَاسَبَتُهُ لِلِانْتِفَاءِ لَمَا انْتَفَى الْحُكْمُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ بِمَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ لَجَازَ أَنْ يُثْبَتَ بِمَا لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 [الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي كَيْفِيَّةِ مُلَازَمَةِ الْحِكْمَةِ لِضَابِطِهَا وَبَيَانِ أَقْسَامِهَا] الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي كَيْفِيَّةِ مُلَازَمَةِ الْحِكْمَةِ لِضَابِطِهَا وَبَيَانِ أَقْسَامِهَا فَنَقُولُ: الْحِكْمَةُ اللَّازِمَةُ لِضَابِطِهَا إِمَّا أَنْ تَكُونَ نَاشِئَةً عَنْهُ، وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ نَاشِئَةً عَنْهُ. وَالَّتِي لَا تَكُونُ نَاشِئَةً عَنْهُ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ لِلْوَصْفِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، أَوْ لَا تَكُونَ كَذَلِكَ. فَالْأَوَّلُ كَشَرْعِ الرُّخْصَةِ فِي السَّفَرِ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ النَّاشِئَةِ مِنَ السَّفَرِ. وَالثَّانِي: كَالْحُكْمِ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ بِإِفْضَائِهِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِالْعِوَضِ، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ لَازِمٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ ظَاهِرًا وَلَيْسَ نَاشِئًا عَنِ الْبَيْعِ، وَلَكِنْ لِلْبَيْعِ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ الصَّادِرُ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ، وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ دَلَالَةً عَلَى الْحَاجَةِ إِلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: كَمَا فِي مِلْكِ نِصَابِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُنَاسِبُ إِيجَابَ الزَّكَاةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ نِعْمَةٌ، وَالنِّعْمَةُ تُنَاسِبُ الشُّكْرَ لِإِفْضَاءِ الشُّكْرِ إِلَى زِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} ، وَالزَّكَاةُ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونُ شُكْرًا لِمَا فِيهَا مِنْ إِظْهَارِ النِّعْمَةِ، وَإِظْهَارُ النِّعْمَةِ فِي الْعُرْفِ يُعَدُّ شُكْرًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا مِثْلَ هَذَا الْمَقْصُودِ (1) وَهُوَ زِيَادَةُ النِّعْمَةِ مُلَازِمٌ لِتَرْتِيبِ إِيجَابِ الزَّكَاةِ عَلَى ذَلِكَ النِّصَابِ، وَلَيْسَ زِيَادَةُ النِّعْمَةِ نَاشِئَةً عَنْ نَفْسِ مِلْكِ النِصَابِ، كَمَا كَانَتِ الْمَشَقَّةُ نَاشِئَةً عَنِ السَّفَرِ، وَلَا لِمِلْكِ النِّصَابِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى زِيَادَةِ النِّعْمَةِ كَدَلَالَةِ الْبَيْعِ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى الِانْتِفَاعِ   (1) وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا مِثْلَ هَذَا الْمَقْصُودِ - تَكَرَّرَ مِنَ الْآمِدِيِّ اسْتِعْمَالُ هَذَا التَّرْكِيبِ وَعِبَارَتُهُ قَلِقَةٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ تَعْلِيقًا ص 141 ج 2 وَأَقُولُ: لَوْ حُذِفَتْ " مَا " أَوْ بَقِيَتْ وَزِيدَ بِعْدَهَا كَانَ لَسَهُلَتِ الْعِبَارَةُ وَوَضُحَ مَعْنَاهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 [الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ بِالنَّظَرِ إِلَى اعْتِبَارِهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ وهو أقسام] الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ بِالنَّظَرِ إِلَى اعْتِبَارِهِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فَنَقُولُ: الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي نَظَرِ الشَّارِعِ أَوْ لَا يَكُونَ مُعْتَبَرًا، فَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فَاعْتِبَارُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وِفْقِهِ فِي صُورَةٍ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ. فَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فَيُسَمَّى الْمُؤَثِّرَ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَإِذَا كَانَ مُعْتَبَرًا بِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ فِي صُورَةٍ، فَالَّذِي تَقْتَضِيهِ الْقِسْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ تِسْعَةُ أَقْسَامٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا بِخُصُوصِ وَصْفِهِ، أَوْ بِعُمُومِ وَصْفِهِ، أَوْ بِخُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِخُصُوصِ وَصْفِهِ دُونَ عُمُومِ وَصْفِهِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ، أَوْ فِي جِنْسِهِ، أَوْ فِي عَيْنِهِ وَجِنْسِهِ. وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِعُمُومِ وَصْفِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ فِي عَيْنِهِ وَجِنْسِهِ. وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا بِعُمُومِ وَصْفِهِ وَخُصُوصِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، أَوْ جِنْسِهِ، أَوْ فِي عَيْنِهِ وَجِنْسِهِ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ مُعْتَبَرًا فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ مَعَ ذَلِكَ إِلْغَاؤُهُ، أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاقِعَ مِنْهَا فِي الشَّرْعِ لَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةٍ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدِ اعْتَبَرَ خُصُوصَ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ، وَعُمُومَ الْوَصْفِ فِي عُمُومِ الْحُكْمِ فِي أَصْلٍ آخَرَ. وَذَلِكَ كَمَا فِي إِلْحَاقِ الْقَتْلِ بِالْمُثَقَّلِ بِالْمُحَدَّدِ لِجَامِعِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ وُجُوبُ الْقَتْلِ فِي الْمُحَدَّدِ، وَظَهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمَحَلِّ الْمَعْصُومِ بِالْقَوَدِ فِي جِنْسِ الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ قِصَاصٌ فِي الْأَيْدِي، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُلَائِمِ، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْقِيَاسِيِّينَ وَمُخْتَلَفٌ فِيمَا عَدَاهُ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدِ اعْتَبَرَ خُصُوصَ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي أَصْلٍ آخَرَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَلَا جِنْسِهِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَا جِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ، وَلَا دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةَ نَصٍّ، وَلَا إِجْمَاعَ لَا بِصَرِيحِهِ وَلَا إِيمَائِهِ. وَذَلِكَ كَمَعْنَى الْإِسْكَارِ فَإِنَّهُ يُنَاسِبُ تَحْرِيمَ تَنَاوُلِ النَّبِيذِ، وَقَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ التَّحْرِيمِ فِي الْخَمْرِ، وَلَمْ يَظْهَرْ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَلَا جِنْسِهِ فِي عَيْنِهِ وَلَا جِنْسِهِ فِي جِنْسِهِ وَلَا إِجْمَاعَ عَلَيْهِ، فَلَوْ قَدَّرْنَا انْتِفَاءَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْإِسْكَارِ عِلَّةً فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِنَصٍّ أَيْضًا، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ الْغَرِيبُ، وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْقِيَاسِيِّنِ وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ، وَإِنْكَارُهُ غَيْرُ مُتَّجِهٍ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الظَّنَّ بِالتَّعْلِيلِ. وَلِهَذَا فَإِنَّا إِذَا رَأَيْنَا شَخْصًا قَابَلَ الْإِحْسَانَ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةَ بِالْإِسَاءَةِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُكَافَأَةِ وَعَدَمِهَا، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مَا رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ. وَالَّذِي يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ لِعِلَّةٍ أَوْ لَا لِعِلَّةٍ. فَإِنْ كَانَ لَا لِعِلَّةٍ فَهُوَ بَعِيدٌ ; لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ مِنَ امْتِنَاعِ خُلُوِّ الْأَحْكَامِ عَنِ الْعِلَلِ. وَإِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِمَا لَمْ يَظْهَرْ، أَوْ لِمَا ظَهَرَ. الْأَوَّلُ وَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّعَبُّدُ وَهُوَ بَعِيدٌ عَلَى مَا عُرِفَ، وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ صُورَةِ الِاسْتِشْهَادِ أَنَّا قَدْ أَلِفْنَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ مُقَابَلَةَ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ وَالْإِسَاءَةِ بِالْإِسَاءَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْقِسْمِ الثَّانِي وَهُوَ الْغَرِيبُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ. قُلْنَا: نَحْنُ إِنَّمَا نَفْرِضُ الْكَلَامَ فِي شَخْصٍ لَمْ يُعْهَدْ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الْفِعْلِ مُوَافَقَةٌ وَلَا مُخَالَفَةٌ، فَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُلَائِمِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَلَا مِنَ الْمُلْغَى، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ يَظْهَرُ مَنْ فِعْلِهِ لِكُلِّ عَاقِلٍ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْغَالِبَ إِنَّمَا هُوَ غَلَبَةُ طَبِيعَةِ الْمُكَافَأَةِ بِالِانْتِقَامِ وَالْإِحْسَانِ فِي حَقِّ الْعَاقِلِ، كَمَا أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُ الْمُنَاسَبَاتِ دُونَ إِلْغَائِهَا. وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فِي شَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ مَفْرُوضٌ فِيمَا عُلِمَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ فِيهِ وَالْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ظَاهِرٌ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ قَدِ اعْتَبَرَ جِنْسَ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ لَا غَيْرَ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ مَعَ ذَلِكَ عَيْنَهُ فِي عَيْنِهِ وَلَا عَيْنَهُ فِي جِنْسِهِ وَلَا جِنْسَهُ فِي عَيْنِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعَ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ جِنْسِ الْمُنَاسِبِ الْغَرِيبِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْقِيَاسِيِّينَ، إِلَّا أَنَّهُ دُونَ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَذَلِكَ لِأَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِاعْتِبَارِ الْخُصُوصِ فِي الْخُصُوصِ لِكَثْرَةِ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ أَقْوَى مِنَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنَ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِي الْعُمُومِ، وَذَلِكَ كَاعْتِبَارِ جِنْسِ الْمَشَقَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْحَائِضِ وَالْمُسَافِرِ فِي جِنْسِ التَّخْفِيفِ، فَإِنَّ عَيْنَ مَشَقَّةِ الْحَائِضِ لَيْسَتْ عَيْنَ مَشَقَّةِ الْمُسَافِرِ بَلْ مِنْ جِنْسِهَا، وَعَيْنُ التَّخْفِيفِ عَنِ الْمُسَافِرِ بِإِسْقَاطِ الرَّكْعَتَيْنِ الزَّائِدَتَيْنِ لَيْسَ عَيْنَ التَّخْفِيفِ عَنِ الْحَائِضِ بِإِسْقَاطِ أَصْلِ الصَّلَاةِ بَلْ مِنْ جِنْسِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَلَّلَ بِهِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ لَهُ أَجْنَاسٌ: مِنْهَا مَا هُوَ عَالٍ لَيْسَ فَوْقَهُ مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ. وَمِنْهَا مَا هُوَ قَرِيبٌ إِلَيْهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَاسِطَةٌ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ إِمَّا عَلَى السَّوَاءِ أَوْ أَنَّهُ إِلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَقَرِبُ مِنَ الْآخَرِ. فَأَمَّا الْجِنْسُ الْعَالِي لِلْحُكْمِ الْخَاصِّ فَكَوْنُهُ حُكْمًا، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ وُجُوبًا أَوْ تَحْرِيمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَأَخَصُّ مِنَ الْوُجُوبِ الْعِبَادَةُ وَغَيْرُ الْعِبَادَةِ، وَأَخَصُّ مِنَ الْعِبَادَةِ الصَّلَاةُ وَغَيْرُ الصَّلَاةِ، وَأَخَصُّ مِنَ الصَّلَاةِ الْفَرْضُ وَالنَّفْلُ. وَأَمَّا الْجِنْسُ الْعَالِي لِلْوَصْفِ الْخَاصِّ فَكَوْنُهُ وَصْفًا تُنَاطُ الْأَحْكَامُ بِهِ، وَأَخَصُّ مِنْهُ كَوْنُهُ مُنَاسِبًا بِحَيْثُ يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّبَهِيُّ، وَأَخَصُّ مِنْهُ الْمَصْلَحَةُ الضَّرُورِيَّةُ، وَأَخَصُّ مِنْهُ حِفْظُ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ فَالظَّنُّ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِمَّا يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِسَبَبِ التَّفَاوُتِ فِيمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ مِنَ الْجِنْسِ الْعَالِي وَالْمُتَوَسِّطِ. فَمَا كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ بِالْجِنْسِ السَّافِلِ فَهُوَ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ، وَمَا كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ بِالْأَعَمِّ فَهُوَ أَبْعَدُ، وَمَا كَانَ بِالْمُتَوَسِّطِ فَمُتَوَسِّطٌ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الْمُنَاسِبُ الَّذِي لَمْ يُشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالِاعْتِبَارِ بِطَرِيقٍ مِنَ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا ظَهْرَ إِلْغَاؤُهُ فِي صُورَةٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ (1) ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَنْهُ فِيمَا بَعْدُ.   (1) يُعَبَّرُ عَنْهُ أَيْضًا بِالْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 الْقِسْمُ الْخَامِسُ: الْمُنَاسِبُ الَّذِي لَمْ يُشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَظَهَرَ مَعَ ذَلِكَ إِلْغَاؤُهُ وَإِعْرَاضُ الشَّارِعِ عَنْهُ فِي صُوَرِهِ، فَهَذَا مِمَّا اتُّفِقَ عَلَى إِبْطَالِهِ وَامْتِنَاعِ التَّمَسُّكِ بِهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ لَمَّا جَامَعَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَهُوَ صَائِمٌ: (يَجِبُ عَلَيْكَ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) . فَلَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ مَعَ اتِّسَاعِ مَالِهِ، قَالَ: لَوْ أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ لَسَهُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَاسْتَحْقَرَ إِعْتَاقَ رَقَبَةٍ فِي قَضَاءِ شَهْوَةِ فَرْجِهِ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي إِيجَابِ الصَّوْمِ مُبَالَغَةً فِي زَجْرِهِ، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُشْهَدْ لَهُ شَاهِدٌ فِي الشَّرْعِ بِالِاعْتِبَارِ مَعَ ثُبُوتِ إِلْغَائِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ. [الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ وَالِاعْتِبَارِ دَلِيلُ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً] الْفَصْلُ الثَّامِنُ فِي إِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ وَالِاعْتِبَارِ دَلِيلُ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَقَاصِدِ الْعِبَادِ، أَمَّا أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِمَقَاصِدَ وَحِكَمٍ فِيدِلُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ أَئِمَّةَ الْفِقْهِ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ وَمَقْصُودٍ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ، أَوْ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ وَالْوُقُوعِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ كَقَوْلِ أَصْحَابِنَا. (1) وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ فِي صُنْعِهِ، فَرِعَايَةُ الْغَرَضِ فِي صُنْعِهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، أَوْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَلَمْ يَخْلُ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فَفِعْلُهُ لِلْمَقْصُودِ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى مُوَافَقَةِ الْمَعْقُولِ مِنْ فِعْلِهِ بِغَيْرِ مَقْصُودٍ، فَكَانَ الْمَقْصُودُ لَازِمًا مِنْ فِعْلِهِ ظَنًّا، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ لَازِمًا فِي صُنْعِهِ فَالْأَحْكَامُ مِنْ صُنْعِهِ (2) فَكَانَتْ لِغَرَضٍ وَمَقْصُودٍ، وَالْغَرَضُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا غَيْرَ مَرَّةٍ. (2) لَوْ قَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: أَحْكَامُ اللَّهِ مِنْ صُنْعِهِ، لَقُلْنَا: إِنَّهُ بَنَى تَعْبِيرَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ، لَكِنَّ الْآمِدِيَّ أَشْعَرِيٌّ يَرَى أَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ خِطَابُهُ، وَأَنَّهَا قَدِيمَةٌ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ، وَأَنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ بِاعْتِبَارِ مُتَعَلِّقَاتِهَا وَتَعَلُّقَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ 249 ج3، فَكَيْفَ يَقُولُ هُنَا: إِنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ مِنْ صُنْعِهِ ; فَكَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ: أَحْكَامُ اللَّهِ مِنْ شَرْعِهِ إِحْقَاقًا لِلْحَقِّ وَتَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ فِي نِسْبَةِ صِفَاتِهِ إِلَيْهِ وَلِيَسْلَمَ مِنَ التَّنَاقُضِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إِلَى الْعِبَادِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِتَعَالِيهِ عَنِ الضَّرَرِ وَالِانْتِفَاعِ وَلِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الثَّانِي. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَحْكَامَ مِمَّا جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ فَكَانَتْ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، فَلَوْ خَلَتِ الْأَحْكَامُ عَنْ حِكْمَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْعَالَمِينَ مَا كَانَتْ رَحْمَةً بَلْ نِقْمَةً ; لِكَوْنِ التَّكْلِيفِ بِهَا مَحْضَ تَعَبٍ وَنَصَبٍ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} فَلَوْ كَانَ شَرْعُ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ لَا لِحِكْمَةٍ لَكَانَتْ نِقْمَةً لَا رَحْمَةً لَمَا سَبَقَ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» " (1) ، فَلَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ بِالْأَحْكَامِ لَا لِحِكْمَةٍ عَائِدَةٍ إِلَى الْعِبَادِ لَكَانَ شَرْعُهَا ضَرَرًا مَحْضًا، وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَحْكَامَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَإِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا مَشْرُوعًا مُسْتَلْزِمًا لِأَمْرٍ مَصْلَحِيٍّ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ هُوَ الْغَرَضُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ، أَوْ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا، وَإِلَّا كَانَ شَرْعُ الْحُكْمِ تَعَبُّدًا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِمَا ظَهَرَ،   (1) رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ "، وَفِي سَنَدِهِ جَابِرُ بْنُ يَزِيدِ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ رَافِضِيٌّ مُدَلِّسٌّ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَرَمَاهُ آخَرُونَ بِالْكَذِبِ، مَاتَ عَامَ 128 أَوْ 132 هـ، وَقَدْ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْوَسَطِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ " وَفِي إِسْنَادِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ مُدَلِّسٌ وَقَدْ عُنْعِنَ، وَلِلْحَدِيثِ طُرُقٌ أُخْرَى لَا يَخْلُو بَعْضُهَا مِنْ مَطْعَنٍ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ يَشْهَدُ لَهُ اسْتِقْرَاءُ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَالْأُصُولِ الْعَامَّةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَظْنُونًا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ; لِأَنَّ الظَّنَّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ فِي الشَّرْعِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِالظَّنِّ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ عَنْهُمْ فِي زَمَنِ عُمَرَ مِنْ تَقْدِيرِ حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ بِثَمَانِينَ جَلْدَةً ; بِسَبَبِ ظَنٍّ وَقَعَ لَهُمْ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " أَرَى أَنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذِيَ وَإِذَا هَذِيَ افْتَرَى، فَأَرَى أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْمُفْتَرِينَ " (1) ; إِقَامَةٌ لِلشُّرْبِ الَّذِي هُوَ مَظَنَّةُ الِافْتِرَاءِ مَقَامَ الِافْتِرَاءِ فِي حُكْمِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُهُمْ فِي إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ بِالرَّأْيِ وَالظَّنِّ، وَقِيَاسُهُمُ الْعَهْدَ عَلَى الْعَقْدِ فِي الْإِمَامَةِ، وَرُجُوعُهُمْ إِلَى اجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ فِي قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ حَيْثُ امْتَنَعُوا مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى كَتَبَةِ الصُّحُفِ وَجَمْعِ الْقُرْآنِ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ بِالرَّأْيِ وَالظَّنِّ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا اشْتَهَرَ عَنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ وَالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ عَلَيْهِ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: " أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي " وَحُكْمُهُ بِالرَّأْيِ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ: " أَقُولُ فِي الْجَدِّ بِرَأْيِي وَأَقْضِي فِيهِ بِرَأْيِي " وَقَضَى فِيهِ بِآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْجَنِينِ: " لَوْلَا هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا ". وَتَشْرِيكُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحِمَارِيَّةِ لِمَا قِيلَ لَهُ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ؟ ". وَمِنْ ذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ إِنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ: " إِنِ اتَّبَعْتُ رَأْيَكَ فَرَأْيُكَ أَشَدُّ، وَإِنْ تَتَّبِعْ مَنْ قَبْلَكَ فَنِعْمَ ذَلِكَ الرَّأْيُ "، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَلِأَنَّ عَمَلَهُمْ بِالرَّأْيِ مَعَ الِاخْتِلَافِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ وُجُودِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ   (1) رَوَى الْقِصَّةَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ الدِّيلِيِّ عَنْ عُمَرَ، وَأَخْرَجَهَا الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ طَرِيقِ ثَوْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ الْقِصَّةَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَفِيهَا: أَنَّ الَّذِي أَشَارَ عَلَى عُمَرَ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَشَارَ عَلَى عُمَرَ أَنْ يَجْلِدَ الشَّارِبَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أَوْ لَا مَعَ وُجُودِ دَلِيلٍ قَاطِعٍ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ وَإِلَّا كَانَ الْمُخَالِفُ فَاسِقًا وَالْمُوَافِقُ بِالسُّكُوتِ عَنِ الْإِنْكَارِ فَاسِقًا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعْمِيمُ الْفِسْقِ بِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الثَّانِي وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ اسْتِلْزَامَ شَرْعِ الْأَحْكَامَ لِلْحِكَمِ وَالْمَقَاصِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ شَرْعَ الْأَحْكَامِ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى (1) وَصُنْعُهُ إِمَّا أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْحِكْمَةَ وَالْمَقْصُودَ، أَوْ لَا يَسْتَلْزِمَ، وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ لِسَبْعَةَ عَشَرَ وَجْهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ يَقُولُ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعَبِيدِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَقَائِلٌ إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْعَبِيدِ، فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، فَيَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي وَأَنْوَاعِ الشُّرُورِ مَعَ أَنَّهُ لَا حِكْمَةَ وَلَا مَقْصُودَ فِي خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْعَبِيدِ، فَإِنَّمَا كَانَتْ مَخْلُوقَةً لَهُمْ بِوَاسِطَةِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الْقُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَخَلْقُهُ لِلْقُدْرَةِ الْمُوجِبَةِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ لَا يَكُونُ أَيْضًا لِحِكْمَةٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوِ اسْتَلْزَمَ فِعْلُهُ لِلْحِكْمَةِ، مَا أَمَاتَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَنْظَرَ إِبْلِيسَ، وَمَا أَوْجَبَ تَخْلِيدَ أَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ لِعَدَمِ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحِكْمَةٍ وَمَقْصُودٍ فَعِنْدَ تَحَقُّقِ الْحِكْمَةِ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَجِبَ الْفِعْلُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ عَدَمُهُ، أَوْ لَا يَجِبَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ الْبَارِي تَعَالَى مُضْطَرًّا غَيْرَ مُخْتَارٍ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْفِعْلُ فَقَدْ أَمْكَنَ وُجُودُهُ تَارَةً وَعَدَمُهُ تَارَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْمُمْكِنَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِمَقْصُودٍ أَوْ لَا لِمَقْصُودٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَالْكَلَامُ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ صُنْعُ الرَّبِّ تَعَالَى يَسْتَلْزِمُ الْغَرَضَ وَالْمَقْصُودَ، فَذَلِكَ الْمَقْصُودُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا أَوْ قَدِيمًا، فَإِنْ كَانَ قَدِيمًا فَيَلْزَمُ مِنْهُ قِدَمِ الصُّنْعِ وَالْمَصْنُوعِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَإِمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ حُدُوثُهُ عَلَى مَقْصُودٍ آخَرَ أَوْ لَا يَتَوَقَّفَ، فَالْأَوَّلُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّسَلْسُلُ وَالثَّانِي هُوَ الْمَطْلُوبُ.   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 285 ج3، وَقَدْ يُقَالُ هُنَا: إِنَّ شَرْعَ الْأَحْكَامِ غَيْرُ الْأَحْكَامِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 الْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ كَلَّفَ بِالْإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مَعَهُ الْإِيمَانُ وَإِلَّا كَانَ عِلْمُهُ جَهْلًا، وَالتَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ عَلَى وَجْهٍ يُعَاقَبُ الْمُكَلَّفُ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهِ مُجَرَّدٌ عَنِ الْغَرَضِ وَالْحِكْمَةِ. السَّادِسُ: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ هُوَ كَلَامُهُ وَخِطَابُهُ، وَكَلَامُهُ وَخِطَابُهُ قَدِيمٌ، وَالْمَقْصُودُ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا وَإِلَّا لَزِمَ مِنْهُ مَوْجُودُ قَدِيمٌ غَيْرَ الْبَارِي تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا فَيَلْزَمُ مِنْهُ تَعْلِيلُ الْقَدِيمِ بِالْحَادِثِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. السَّابِعُ: أَنَّ خَلْقَ الْبَارِي تَعَالَى لِلْعَالَمِ فِي وَقْتِهِ الْمَعْلُومِ الْمَحْدُودِ مِنْ جَوَازِ خَلْقِهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَتَقْدِيرُهُ بِشَكْلِهِ الْمُقَدَّرِ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ مِمَّا لَا يُوقَفُ مِنْهُ عَلَى غَرَضٍ وَمَقْصُودٍ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ فِي فِعْلِهِ غَرَضٌ وَمَقْصُودٌ لَمْ يَخْلُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ لِذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ أَوْ لَا يَكُونَ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَيَلْزَمُهُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى مُسْتَكْمِلًا بِذَلِكَ الصُّنْعِ وَنَاقِصًا قَبْلَهُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ أَوْلَى مِنَ التَّرْكِ امْتَنَعَ الْفِعْلُ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ. التَّاسِعُ: أَنَّ الْحِكَمَ وَالْمَقَاصِدَ خَفِيَّةٌ، وَفِي رَبْطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَا مَا يُوجِبُ الْحَرَجَ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِاطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا بِالْبَحْثِ عَنْهَا، وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . الْعَاشِرُ: أَنَّ وُجُودَ الْحِكْمَةِ مِمَّا يَجِبُ تَأَخُّرُهُ عَنْ وُجُودِ شَرْعِ الْحُكْمِ، وَمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِمَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعُ الْأَحْكَامِ لِلْحِكَمِ لَكَانَتْ مُفِيدَةً لَهَا قَطْعًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ قَطْعًا، فَلَوْ فَعَلَ مَا فَعَلَهُ قَصْدًا لِتَحْصِيلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ لَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ الْحِكْمَةُ بِهِ قَطْعًا، وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ مِنَ الزَّوَاجِرِ غَيْرُ مُفِيدَةٍ لِمَا ظُنَّ أَنَّهَا حِكَمٌ لَهَا قَطْعًا. الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ دُونَ شَرْعِ الْحُكْمِ، أَوْ لَا يَكُونَ قَادِرًا عَلَيْهِ، لَا جَائِزَ أَنْ لَا يَكُونَ قَادِرًا ; إِذْ هُوَ صِفَةُ نَقْصٍ وَالنَّقْصُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ فَشَرْعُ الْحُكْمِ وَتَوَسُّطُهُ فِي الْبَيْنِ لَا يَكُونُ مُفِيدًا بَلْ هُوَ مَحْضُ عَنَاءٍ وَتَعَبٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ خَلْقَ الْكَافِرِ شَقِيًّا فِي الدُّنْيَا مُخَلَّدًا فِي الْعَذَابِ فِي الْأُخْرَى مِمَّا لَا حِكْمَةَ فِيهِ وَلَا مَقْصُودَ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتَهُ، وَذَلِكَ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْعَارِفِ بِهِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْعَارِفِ. الْأَوَّلُ: فِيهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَالثَّانِي: يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُحَالُ، حَيْثُ أَوْجَبَ مَعْرِفَتَهُ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُهُ مَعَ تَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ إِيجَابِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَهُوَ دَوْرٌ وَلَا مَصْلَحَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَقْدَرَ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي وَتَرَكَهُمْ يَرْتَكِبُونَ الْفَوَاحِشَ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ وَقَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا حِكْمَةَ فِيهِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ الْحِكْمَةَ إِنَّمَا تُطْلَبُ فِي حَقِّ مَنْ تَمِيلُ نَفْسُهُ فِي صُنْعِهِ إِلَى جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ وَالرَّبُّ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّ الْحِكْمَةَ إِنَّمَا تُطْلَبُ فِي فِعْلِ مَنْ لَوْ خَلَا فِعْلُهُ عَنِ الْحِكْمَةِ لَحِقَهُ الذَّمُّ وَكَانَ عَابِثًا، وَالرَّبُّ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا فِي مُلْكِهِ بِحَسْبِ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ عَمَّا يَفْعَلُ، عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُسْتَلْزِمًا لِلْحِكْمَةِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. سَلَّمْنَا اسْتِلْزَامَ شَرْعِ الْحُكْمِ لِلْحِكْمَةِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْمُنَاسِبِ عِلَّةً، وَلَوْ كَانَ يَدُلُّ الْمُنَاسِبُ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لَكَانَتْ أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ الْمُنَاسَبَةِ عِلَلًا، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ تَكُونَ جُزْءَ عِلَّةٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ جُزْءِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وُجُودُ الْحُكْمِ. سَلَّمْنَا غَلَبَةَ الظَّنِّ بِكَوْنِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْمُنَاسِبِ عِلَّةً، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ مُطْلَقًا لِمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلَائِلِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَنْعِ مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (1) وَعَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقُدْرَةَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْحُدُوثِ وَالْوُجُودِ لَا غَيْرَ، وَالْكُفْرُ وَأَنْوَاعُ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ رَاجِعَةٌ إِلَى مُخَالَفَةِ نَهْيِ الشَّارِعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مُتَعَلِّقِ الْقُدْرَةِ فِي شَيْءٍ. (2)   (1) يَعْنِي دَلِيلَ الْإِجْمَاعِ وَأَدِلَّةَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَوَّلَ الْفَصْلِ الثَّامِنِ ص 285 ج3. (2) هَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمُورَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا مِنَ الْكُفْرِ وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَنَحْوِهَا مِنَ الْمَعَاصِي وَالشُّرُورِ أَفْعَالٌ تَتَعَلَّقُ بِهَا الْقُدْرَةُ، فَمُخَالِفُ الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ بِإِحْدَاثِهَا وَإِيجَادِهَا، وَأَمَّا مُوَافَقَةُ النَّهْيِ بِتَرْكِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَمِنْ بَابِ التُّرُوكِ، وَالتُّرُوكُ قَدْ يُدَّعَى فِيهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَفْعَالٍ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا قُدْرَةٌ وَلَا يَكُونُ فِيهَا تَكْلِيفٌ، وَقَدْ يُفَسَّرُ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ بِالْكَفِّ عَنْهُ، وَالْكَفُّ فِعْلٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ وَالتَّكْلِيفُ. وَالثَّانِي: أَنَّ مُخَالَفَةَ نَهْيِ الشَّارِعِ بِالْكُفْرِ وَنَحْوِهِ لَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ الْقُدْرَةُ لَمْ يَكُنِ الْعَبْدُ مُكَلَّفًا بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ كَسْبِهِ فَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 الثَّانِي: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَنَحْنُ لَا نَدَّعِي مُلَازَمَةَ الْحِكْمَةِ لِأَفْعَالِهِ مُطْلَقًا حَتَّى يَطَّرِدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَخْلُوقٍ، بَلْ إِنَّمَا نَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْحِكْمَةِ فِيهِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِيمَا عَدَا أَنْوَاعِ الشُّرُورِ وَالْمَعَاصِي (1) وَلَا نَدَّعِي ذَلِكَ قَطْعًا بَلْ ظَاهِرًا. الثَّالِثُ: وَإِنْ سَلَّمَنَا لُزُومَ الْحِكْمَةِ لِأَفْعَالِهِ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصُّوَرِ قَطْعًا ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَازِمُهَا حُكْمٌ لَا يَعْلَمُهَا سِوَى الرَّبِّ تَعَالَى. وَبِهَذَيْنِ الْجَوَّابَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَكُونُ جَوَابُ الثَّانِيَةِ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ وَإِنَّ قُدِّرَ تَحَقُّقُ الْحِكْمَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ، بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ بِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْبَارِي لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا بَلْ مُخْتَارًا. وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ حَادِثٌ، وَلَكِنْ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى مَقْصُودٍ آخَرَ إِنَّمَا نَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مُمْكِنٌ، وَافْتِقَارُ الْمَقْصُودِ إِلَى مَقْصُودٍ آخَرَ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّسَلْسُلِ الْمُمْتَنِعِ، وَإِنْ كَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى مَقْصُودٍ فَذَلِكَ الْمَقْصُودُ هُوَ نَفْسُهُ لَا غَيْرُهُ فَلَا تُسَلْسُلُ.   (1) الْجَوَابُ الثَّانِي: أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ مِنَ الْإِجْمَاعِ وَأَدِلَّةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ أَوَّلَ الْفَصْلِ الثَّامِنِ دَلَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِ شَرْعِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِكْمَةِ دُونَ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْوَاعِهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَأَمْرٍ وَنَهْيٍ، فَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْأَفْعَالَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ وَهِيَ بِاعْتِبَارِ صُدُورِهَا عِنْدَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَمُوجَبِ الْعَدَالَةِ، وَإِنْ تَأَلَّمَ مِنْهَا الْعِبَادُ وَكَانَتْ فِي ظَاهِرِهَا شَرًّا فَقَدْ تَكُونُ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَتَمْيِيزِ الطَّيِّبِ مِنَ الْخَبِيثِ، وَقَدْ تَكُونُ تَمْحِيصًا لِلذُّنُوبِ وَتَكْفِيرًا لِلسَّيِّئَاتِ، وَقَدْ تَكُونُ عُقُوبَةً وَجَزَاءً عَادِلًا عَلَى ذَنْبٍ سَابِقٍ، وَقَدْ تَكُونُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ مِنَ الْجَوَابِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّا لَا نَدَّعِي لُزُومَ الْمَقْصُودِ فِي كُلِّ فِعْلٍ لِيَلْزَمَنَا مَا قِيلَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ الرَّبُّ تَعَالَى بِالْعِلْمِ بِهَا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ. وَعَنِ السَّادِسَةِ: أَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ هُوَ نَفْسُ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، بَلِ الْكَلَامُ بِصِفَةِ التَّعَلُّقِ فَكَانَ حَادِثًا (1) وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ قَدِيمًا، وَالْمَقْصُودُ حَادِثًا، فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُهُ بِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ (2) ، بَلْ إِمَّا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَالْحَادِثُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَمَارَةً عَلَى الْقَدِيمِ، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا، وَيَكُونُ حُكْمُ اللَّهِ الْقَدِيمِ بِمَا حَكَمَ بِهِ لِأَجْلِ مَا سَيُوجَدُ مِنَ الْمَقْصُودِ الْحَادِثِ. وَعَنِ السَّابِعَةِ: بِمَنْعِ انْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فِيمَا قِيلَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً لَنَا. وَعَنِ الثَّامِنَةِ: أَنَّ فِعْلَهُ لِذَلِكَ الْغَرَضِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ، لَكِنْ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ. وَعَنِ التَّاسِعَةِ: أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي رَبْطِ الْأَحْكَامِ بِالْحِكَمِ إِذَا كَانَتْ مُنْضَبِطَةً بِأَنْفُسِهَا أَوْ بِأَوْصَافٍ ظَاهِرَةٍ ضَابِطَةٍ لَهَا ; لِعَدَمِ الْعُسْرِ فِي مَعْرِفَتِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعٌ عَسِرٌ وَحَرِجٌ يُكَدُّ الْعَقْلُ فِي الِاجْتِهَادِ فِيهَا فَلَا نُسَلِّمُ خُلُوَّ ذَلِكَ عَنِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ زِيَادَةُ الثَّوَابِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «ثَوَابُكَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكَ» ". (3)   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 249 ج3 وَالتَّعَلُّقُ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا يَنْفَعُهُ التَّعَلُّلُ بِهِ. (2) بَلِ الْحِكَمُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْأَحْكَامِ مُوجِبَةٌ لَهَا، لَكِنْ لَا بِنَفْسِهَا بَلْ بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهَا، فَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا حُكْمُهَا إِلَّا لِمَعَارِضٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا مِنْ فَقْدِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنِ الشُّبْهَةِ السَّادِسَةِ أَنَّ آحَادَ كَلَامِ اللَّهِ وَخِطَابَهُ وَآحَادَ أَحْكَامِ شَرِيعَتِهِ حَادِثَةٌ وَقْتَ نُزُولِ الْوَحْيِ بِشَرْعِهَا، وَأَنَّهَا لِحِكَمٍ وَمَقَاصِدَ اقْتَضَتْ شَرْعَهَا وَخِطَابَ الْمُكَلَّفِينَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وُجُودٌ فِي نَفْسِهِ قَبْلَ زَمَنِهِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ وُجُودَهُ فِيهِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ بِالْحِكَمِ وَالْمَقَاصِدِ. (3) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْحَدِيثِ تَعْلِيقًا ص 140 ج3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 وَعَنِ الْعَاشِرَةِ: أَنَّ الْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي الْوُجُودِ عَنْ شَرْعِ الْحُكْمِ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً بِمَعْنَى الْمُؤَثِّرِ لَا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ. (1) وَعَنِ الْحَادِيَةِ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْحِكْمَةِ ظَاهِرًا لَا قَطْعًا. وَعَنِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى بَعْضِ آرَاءِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الرَّبَّ تَعَالَى غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْغَرَضِ الْخَاصِّ مِنْ شَرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ شَرْعِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعَجْزُ ; ضَرُورَةَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُمْكِنٍ، وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْحَقُّ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْعُ الْحُكْمِ غَيْرَ مُفِيدٍ مَعَ حُصُولِ الْفَائِدَةِ بِهِ، وَإِنْ قُدِّرَ إِمْكَانُ حُصُولِ الْفَائِدَةِ بِطَرِيقٍ آخَرَ. وَعَنِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الْحِكْمَةَ فِيمَا ذَكَرُوهُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً أَوْ جَائِزَةً. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ، فَلَا يَلْزَمُ امْتِنَاعُهَا فِيمَا هِيَ مُمْكِنَةٌ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَلَا مَانِعَ مِنْ وُجُودِهَا وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ نَحْنُ عَلَيْهَا. وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ. كَيْفَ وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ الْمُمْتَنِعُ أَنْ لَوْ قِيلَ بِتَوَقُّفِ الْوُجُوبِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُكَلَّفِ لِلْوُجُوبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي شُكْرِ الْمُنَعَّمِ. وَعَنِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: مَا هُوَ جَوَابُ الشُّبْهَتَيْنِ قَبْلَهَا. وَعَنِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: بِمَنْعِ مَا ذَكَرُوهُ فِي رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ بَلِ الْحِكْمَةُ إِنَّمَا تُطْلَبُ فِي فِعْلِ مَنْ لَوْ وُجِدَتِ الْحِكْمَةُ فِي فِعْلِهِ لَمَا كَانَ مُمْتَنِعًا، بَلْ وَاقِعًا فِي الْغَالِبِ. وَعَنِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ مُرَاعَاةُ الْحِكْمَةِ فِي فِعْلِهِ وَالْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ (2) عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ.   (1) لِحِكْمَةِ الْحُكْمِ جِهَتَانِ: الْأُولَى رِعَايَتُهَا وَالْقَصْدُ إِلَى تَحْصِيلِهَا فَشُرِعَ الْحُكْمُ لِأَجْلِهَا، وَالثَّانِيَةُ تَحَقُّقُهَا فِي الْخَارِجِ ثَمَرَةً لِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ وَتَطْبِيقِهِ، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ الْأُولَى عِلْمِيَّةٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ عِلْمًا وَقَصْدًا، وَبِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ الثَّانِيَةِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْخَارِجِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنِ الْحُكْمِ وَعَنْ تَطَّبِيقِهِ، وَقَدْ تَكُونُ مُقَارِنَةً لِتَطْبِيقِهِ، وَقَدِيمًا قِيلَ: أَوَّلُ الْفِكْرَةِ آخِرُ الْعَمَلِ. (2) الْحَقُّ أَنَّ مِنْ كَمَالِ اللَّهِ وُجُوبَ مُرَاعَاتِهِ الْحِكْمَةَ فِي فِعْلِهِ وَشَرْعِهِ، فَذَلِكَ مُقْتَضَى كَمَالِهِ وَمُوجَبُ عَدْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَإِنْ قِيلَ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانُهُ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 قَوْلُهُمْ: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْمُنَاسِبِ عِلَّةً. قُلْنَا: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً قَطْعًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً ظَاهِرًا ; ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ ظَاهِرَةٍ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ وَلَا ظَاهِرَ سِوَاهُ. وَأَمَّا أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَاسِبَةً فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِمَا سَبَقَ مِنَ امْتِنَاعِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِعِلَلٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اتَّحَدَ الْوَصْفُ أَوْ تَعَدَّدَ وَكَانَتِ الْعِلَّةُ مَجْمُوعَ الْأَوْصَافِ. قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَظْنُونًا. قُلْنَا: دَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَمَا سَيَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ. وَمَا يَذْكُرُونَهُ عَلَى ذَلِكَ فَسَيَأْتِي جَوَابُهُ ثَمَّ أَيْضًا. [الْمَسْلَكُ السَّادِسُ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالشَّبَهِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ الشَّبَهِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِيهِ] الْمَسْلَكُ السَّادِسُ: إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالشَّبَهِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حَقِيقَةِ الشَّبَهِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِيهِ نَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ اسْمَ الشَّبَهِ وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى كُلِّ قِيَاسٍ أُلْحِقَ الْفَرْعُ فِيهِ بِالْأَصْلِ لِجَامِعٍ يُشْبِهُهُ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ آرَاءَ الْأُصُولِيِّينَ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ. (1) فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا تَرَدَّدَ فِيهِ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ، وَوُجِدَ فِيهِ الْمَنَاطُ الْمَوْجُودُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ، إِلَّا أَنَّهُ يُشْبِهُ أَحَدَهُمَا فِي أَوْصَافٍ هِيَ أَكْثَرُ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي بِهَا مُشَابَهَتُهُ لِلْأَصْلِ الْآخَرِ، فَإِلْحَاقُهُ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مُشَابَهَةً هُوَ الشُّبْهَةُ، وَذَلِكَ كَالْعَبْدِ الْمَقْتُولِ خَطَأً إِذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، فَإِنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مَنَاطَانِ مُتَعَارَضَانِ   (1) لَوْ قَالَ: غَيْرَ أَنَّهُ أُطْلِقَ فِي الِاصْطِلَاحِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْأَقْيِسَةِ مُعَيَّنٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَتْ آرَاءُ الْأُصُولِيِّينَ فِي تَعْرِيفِهِ لَكَانَ أَنْسَبَ ; فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ فِي هَذَا الْفَصْلِ تَعْرِيفَ كُلِّ قِيَاسٍ وَلَا تَعْرِيفَ الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ نَوْعًا مُعَيَّنًا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ بِدَلِيلِ بِنَائِهِ عَلَى جَامِعٍ مُعَيَّنٍ، وَاخْتِيَارُهُ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ تَعْرِيفًا لَهُ لَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرَهُ مِنَ الْأَقْيِسَةِ، وَجَعَلَهُ أَثْنَاءَ الْمَسْأَلَةِ قَسِيمًا لِلْقِيَاسِ الْمُنَاسِبِ وَالْقِيَاسِ الطَّرْدِيِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 أَحَدُهُمَا: النَّفْسِيَّةُ، وَهُوَ مُشَابِهٌ لِلْحُرِّ فِيهَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يُزَادَ فِيهِ عَلَى الدِّيَةِ. وَالثَّانِي: الْمَالِيَّةُ، وَهُوَ مُشَابِهٌ لِلْفَرَسِ فِيهَا وَمُقْتَضَى ذَلِكَ الزِّيَادَةُ. إِلَّا أَنَّ مُشَابَهَتَهُ لِلْحُرِّ فِي كَوْنِهِ آدَمِيًّا مُثَابًا مُعَاقَبًا، وَمُشَابَهَتَهُ لِلْفَرَسِ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي الْأَسْوَاقِ، فَكَانَ إِلْحَاقُهُ بِالْحُرِّ أَوْلَى لِكَثْرَةِ مُشَابَهَتِهِ لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الشَّبَهِ فِي شَيْءٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَنَاطَيْنِ مُنَاسِبٌ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ كَثْرَةِ الْمُشَابَهَةِ إِنْ كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فَلَيْسَتْ إِلَّا مِنْ بَابِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِ الْمَنَاطَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنِ الْمُنَاسِبِ وَإِنْ كَانَ يَفْتَقِرُ إِلَى نَوْعِ تَرْجِيحٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا عُرِفَ الْمَنَاطُ فِيهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي آحَادِ الصُّوَرِ إِلَى تَحْقِيقِهِ. وَذَلِكَ كَمَا فِي طَلَبِ الْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بَعْدَ أَنْ عُرِفَ أَنَّ الْمِثْلَ وَاجِبٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ، وَلَيْسَ هَذَا أَيْضًا مِنَ الشَّبَهِ ; إِذِ الْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِي الْعِلَّةِ الشَّبَهِيَّةِ، وَالنَّظَرُ هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ الْحُكْمُ الْوَاجِبُ وَهُوَ الْأَشْبَهُ لَا فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَهُوَ مَعْلُومٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ. وَدَلِيلُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَشْبَهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْمِثْلَ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الصَّيْدَ لَا يُمَاثِلُهُ شَيْءٌ مِنَ النَّعَمِ، فَكَانَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى الْأَشْبَهِ، كَيْفَ وَهُوَ مَجْزُومٌ مَقْطُوعٌ بِهِ وَالشَّبَهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ هُوَ نَفْسُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَنَاطَانِ مُخْتَلِفَانِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَغْلَبُ مِنَ الْآخَرِ، فَالْحُكْمُ بِالْأَغْلَبِ حُكْمٌ بِالْأَشْبَهِ، وَذَلِكَ كَاللَّعَّانِ فَإِنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ وَلَيْسَا بِمُتَمَحِّضَيْنِ ; لِأَنَّ الْمُلَاعِنَ مُدَّعٍ وَالْمُدَّعِي لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمِينُهُ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنَ الْمَذَاهِبِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِلَّا أَنَّهُ مَهْمَا غَلَبَتْ إِحْدَى الشَّائِبَتَيْنِ فَقَدْ ظَهَرَتِ الْمَصْلَحَةُ الْمُلَازِمَةُ لَهَا فِي نَظَرِنَا، فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهَا، وَلَكِنَّهُ غَيْرَ خَارِجٍ عَنِ التَّعْلِيلِ بِالْمُنَاسِبِ. وَقَدْ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إِلَى تَفْسِيرِهِ بِقِيَاسِ الدَّلَالَةِ، وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِمَا لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ، وَلَكِنْ يَسْتَلْزِمُ مَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ بَعْدُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا يُوهِمُ الْمُنَاسَبَةَ مِنْ غَيْرِ اطِّلَاعٍ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَلَّلَ بِهِ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَظْهَرَ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ، أَوْ لَا تَظْهَرَ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ (1) بِوُقُوفِ مَنْ هُوَ أَهْلُ مَعْرِفَةِ الْمُنَاسَبَةِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودٍ مِنَ الْمَقَاصِدِ الْمُبَيَّنَةِ مِنْ قَبْلُ، فَهُوَ الْمُنَاسِبُ. وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُؤْلَفْ مِنَ الشَّارِعِ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، أَوْ هُوَ مِمَّا أُلِفَ مِنَ الشَّارِعِ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ. فَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَوَّلِ، فَهُوَ الطَّرْدِيُّ الَّذِي لَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ، وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَثَلًا فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِمَائِعٍ: لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ فَلَا تَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ كَالدُّهْنِ. وَكَمَا لَوْ عَلَّلَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَنَحْوِهِمَا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، فَهُوَ الشَّبَهِيُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ بَعْدَ الْبَحْثِ، يَجْزِمُ الْمُجْتَهِدُ بِانْتِفَاءِ مُنَاسَبَتِهِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى اعْتِبَارِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ يُوجِبُ إِيقَافَ الْمُجْتَهِدِ عَنِ الْجَزْمِ بِانْتِفَاءِ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ، فَهُوَ مُشَابِهٌ لِلْمُنَاسِبِ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَجْزُومٍ بِنَفْيِ الْمُنَاسَبَةِ عَنْهُ، وَمُشَابِهٌ لِلطَّرْدِيِّ فِي أَنَّهُ غَيْرُ مَجْزُومٍ بِظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ فِيهِ. فَهُوَ دُونُ الْمُنَاسِبِ وَفَوْقَ الطَّرْدِيِّ، وَلَعَلَّ الْمُسْتَنَدَ فِي تَسْمِيَتِهِ شَبَهِيًّا إِنَّمَا هُوَ هَذَا الْمَعْنَى. وَمِثَالُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مَسْأَلَةِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ: طَهَارَةٌ تُرَادُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَلَا تَجُوزُ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، فَإِنَّ الْجَامِعَ هُوَ الطَّهَارَةُ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِتَعْيِينِ الْمَاءِ فِيهَا بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ. وَبِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِ الشَّارِعِ اعْتَبَرَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ كَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ، يُوهِمُ اشْتِمَالَهَا عَلَى الْمُنَاسَبَةِ كَمَا تَقَرَّرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَ اسْمِ الشَّبَهِ وَإِنْ كَانَ حَاصِلُهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ رَاجِعًا إِلَى الِاصْطِلَاحَاتِ اللَّفْظِيَّةِ غَيْرَ أَنَّ أَقْرَبَهَا إِلَى قَوَاعِدِ الْأُصُولِ الِاصْطِلَاحُ الْأَخِيرُ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَلِيهِ فِي الْقُرْبِ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ.   (1) فِيهِ سَقْطُ حَرْفِ الشَّرْطِ وَفِعْلِهِ وَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ ظَهَرَتْ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ بِوُقُوفٍ إِلَخْ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: بَعْدُ فَهُوَ الْمُنَاسِبُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَنَّ الشَّبَهَ مَعَ قِرَانِ الْحُكْمِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً] الْفَصْلُ الثَّانِي فِي أَنَّ الشَّبَهَ مَعَ قِرَانِ الْحُكْمِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وَبَيَانُهُ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا حُكْمًا ثَابِتًا عَقِيبَ وَصْفَيْنِ، وَأَحَدُ الْوَصْفَيْنِ شَبَهِيٌّ بِالتَّفْسِيرِ الْأَخِيرِ وَالْآخَرُ طَرْدِيٌّ، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا لِمَصْلَحَةٍ أَوْ لَا لِمَصْلَحَةٍ. لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالثَّانِي ; إِذِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَخْلُو عَنْ مَصْلَحَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ كَمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ (1) فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّهُ ثَابِتٌ لِمَصْلَحَةٍ، وَتِلْكَ الْمَصْلَحَةُ لَا تَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فِي ضِمْنِ الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ أَوِ الطَّرْدِيِّ لِعَدَمِ مَا سِوَاهُمَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ اشْتِمَالَ الْوَصْفِ الشَّبَهِيِّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنِ اشْتِمَالِ الطَّرْدِيِّ عَلَيْهَا ; لِأَنَّ الطَّرْدِيَّ مَجْزُومٌ بِنَفْيِ مُنَاسَبَتِهِ وَالشَّبَهِيُّ مُتَرَدِّدٌ فِيهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى الظَّنِّ فَالظَّنُّ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ الشَّبَهِيَّ إِذَا اعْتُبِرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ دُونَ اعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي عَيْنِهِ] الْفَصْلُ الثَّالِثُ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الشَّبَهِيَّ إِذَا اعْتُبِرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ دُونَ اعْتِبَارِ عَيْنِهِ فِي عَيْنِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، بِخِلَافِ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ ; مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الشَّبَهِيَّ إِذَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ فَالظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِ الظَّنِّ، فَإِذَا انْحَطَّ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ فَقَدِ اضْمَحَلَّ الظَّنُّ بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ أَدْنَى دَرَجَاتِ الظَّنِّ دَرَجَةٌ سِوَى مَا لَيْسَ بِظَنٍّ، وَمَا لَيْسَ بِمَظْنُونٍ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ فَإِنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ قَوِيٌّ جِدًّا، فَنُزُولُهُ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ إِلَى رُتْبَةِ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ وَإِنْ فَاتَ مَعَهُ ذَلِكَ الظَّنُّ الْغَالِبُ، فَقَدْ بَقِيَ لَهُ أَصْلُ الظَّنِّ فَكَانَ حُجَّةً.   (1) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا غَيْرَ مَرَّةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَصْفَ الشَّبَهِيَّ إِنَّمَا صَارَ شَبَهِيًّا بِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ، وَذَلِكَ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ دُونَ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ، وَالْمُنَاسِبُ الْمُرْسَلُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ (1) فَمَا هُوَ دُونَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ حُجَّةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاسِبِ الْمُتَأَيِّدِ بِشَهَادَةِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُرْسَلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الشَّبَهِيَّ بِشَهَادَةِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِ الظُّنُونِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: مَا هُوَ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِ الظُّنُونِ إِنَّمَا هُوَ الشَّبَهِيُّ الْمُتَأَيِّدُ بِشَهَادَةِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، وَالنُّزُولُ عَنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إِلَى مَا دُونَهَا (2) لَا يُوجِبُ انْمِحَاقَ الظَّنِّ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا قِيلَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّ الشَّبَهِيَّ إِنَّمَا صَارَ شَبَهِيًّا بِالْتِفَاتِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَأَنَّهُ أَدْنَى مِنَ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُنَاسَبَةَ الْمُرْسَلِ ظَاهِرَةٌ وَمُنَاسَبَةَ الشَّبَهِيِّ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ بَلْ مَوْهُومَةٌ مُتَرَدَّدٌ فِيهَا، غَيْرَ أَنَّ الشَّبَهِيَّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ كَوْنُهُ شَبَهِيًّا بِالْتِفَاتِ الشَّارِعِ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ إِذَا رَأَيْنَا الشَّارِعَ قَدِ اعْتَبَرَ جِنْسَهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ فَقَدْ صَارَ مُعْتَبَرًا، وَلَا كَذَلِكَ الْمُرْسَلُ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِمَا لَيْسَ مُعْتَبَرًا عَدَمُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُعْتَبَرِ.   (1) سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِي حُجِّيَّتِهَا تَحْتَ عُنْوَانِ " الْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ ". (2) يَعْنِي: وَالنُّزُولُ عَنْ رُتْبَةِ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ فِي الْعَيْنِ إِلَى رُتْبَةِ تَأْثِيرِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ لَا يُوجِبُ. . . إِلَخْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 [الْمَسْلَكُ السَّابِعُ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ بِالطَّرْدِ وَالْعَكْسِ] وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً. لَكِنِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ قَطْعًا كَبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَدُلُّ عَلَيْهَا ظَنًّا كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَبْنَاءِ زَمَانِنَا. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْعِلِّيَّةِ لَا قَطْعًا وَلَا ظَنًّا وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَصُورَتُهُ مَا إِذَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ النَّبِيذِ مَثَلًا: (مُسْكِرٌ) فَكَانَ حَرَامًا كَالْخَمْرِ، وَأَثْبَتَ كَوْنَ الْمُسْكِرِ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ بِدَوَرَانِهِ مَعَ التَّحْرِيمِ وُجُودًا وَعَدَمًا فِي الْخَمْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا صَارَ مُسْكِرًا حُرِّمَ، وَإِنْ زَالَ الْإِسْكَارُ عَنْهُ بِأَنْ صَارَ خَلًّا فَإِنَّهُ لَا يُحَرَّمُ. وَقَدِ احْتَجَّ الْقَائِلُونَ إِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَهُوَ أَنْ قَالَ: حَاصِلُ الِاطِّرَادِ يَرْجِعُ إِلَى سَلَامَةِ الْعِلَّةِ عَنِ النَّقْضِ، وَسَلَامَةُ الْعِلَّةِ عَنْ مُفْسِدٍ وَاحِدٍ لَا يُوجِبُ سَلَامَتَهَا عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ، وَعَلَى تَقْدِيرِ السَّلَامَةِ عَنْ كُلِّ مُفْسِدٍ فَصِحَّةُ الشَّيْءِ لَا تَكُونُ بِسَلَامَتِهِ عَنِ الْمُفْسِدَاتِ بَلْ لِوُجُودِ الْمُصَحِّحِ، وَالْعَكْسُ لَيْسَ شَرْطًا فِي الْعِلَلِ فَلَا يُؤَثِّرُ، وَهَذِهِ الْحُجَّةُ ضَعِيفَةٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ سُلِّمَ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى انْفِرَادِهِ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ التَّأْثِيرِ بِتَقْدِيرِ الِاجْتِمَاعِ، وَدَلِيلُهُ أَجْزَاءُ الْعِلَّةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ اسْتِقْلَالِ الْمَجْمُوعِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا قَالَ: إِنَّ الصُّوَرَ الَّتِي دَارَ الْحُكْمُ فِيهَا مَعَ الْوَصْفِ وُجُودًا وَعَدَمًا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُتَمَايِزَةً بِصِفَاتٍ خَاصَّةٍ بِهَا، وَإِلَّا كَانَتْ مُتَّحِدَةً لَا مُتَعَدِّدَةً. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَصْفَ الْخَاصَّ بِكُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فِي الْعِلَّةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ، وَيَجْعَلَ الْعِلَّةَ فِي كُلِّ صُورَةٍ مَجْمُوعَ الْوَصْفَيْنِ، وَهُمَا: الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ وَالْوَصْفُ الْخَاصُّ بِهَا، وَهِيَ مِنَ النَّمَطِ الْأَوَّلِ ; إِذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّرْجِيحُ لِلتَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ لِكَوْنِهِ مُطَّرِدًا فِي جَمِيعِ مَجَارِي الْحُكْمِ، فَيَكُونُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْمُرَكَّبِ مِنَ الْوَصْفِ الْخَاصِّ وَالْمُشْتَرَكِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 فَإِنْ قِيلَ: بَلِ التَّعْلِيلُ بِالْمُرَكَّبِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَعَدُّدِ مَدَارِكِ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنِ اتِّحَادِهِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنَ الْحُكْمِ، فَهُوَ مُقَابَلٌ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ يَكُونُ مُنْعَكِسًا بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْمُرَكَّبِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ فِي كُلِّ صُورَةٍ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْمُطَّرِدِ الْمُنْعَكِسِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْمُطَّرِدِ الَّذِي لَا يَنْعَكِسُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْمُرَكَّبِ مِنَ الْوَصْفَيْنِ فِي كُلِّ صُورَةٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ قَاصِرًا، وَالتَّعْلِيلُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ أَوْلَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا وَالِاخْتِلَافِ فِي الْقَاصِرَةِ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: مُجَرَّدُ الدَّوَرَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ وَصْفًا مُلَازِمًا لِلْعِلَّةِ وَلَيْسَ هُوَ الْعِلَّةَ، وَذَلِكَ كَالرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ الْمُلَازِمَةِ لِلشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّعَرُّضِ لِانْتِفَاءِ وَصْفِ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ أَوْ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الِانْتِقَالُ مِنْ طَرِيقَةِ الدَّوَرَانِ إِلَى طَرِيقَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَهُوَ كَافٍ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ الدَّوَرَانَ قَدْ وُجِدَ فِيمَا لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْعِلِّيَّةِ، كَدَوَرَانِ أَحَدِ الْمُتَلَازِمَيْنِ الْمُتَعَاكِسَيْنِ كَالْمُتَضَايِفَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا عِلَّةً لِلْآخَرِ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الدَّوَرَانَ كَمَا وُجِدَ فِي جَانِبِ الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْفِ فَقَدْ وُجِدَ فِي جَانِبِ الْوَصْفِ مَعَ الْحُكْمِ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ عِلَّةً لِلْوَصْفِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ مُطْلَقَ الدَّوَرَانِ دَلِيلٌ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِيَلْزَمَ مَا قِيلَ، بَلْ بِقُيُودٍ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ ذَلِكَ الْأَثَرِ مُرَتَّبًا عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ تَرَتُّبًا عَقْلِيًّا بِحَيْثُ يُصَدَّقُ قَوْلُ الْقَائِلِ: وُجِدَ هَذَا الشَّيْءُ فَحَدَثَ ذَلِكَ الْأَثَرُ، وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِخُرُوجِ هَذَا الْوَصْفِ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَمُوجِبًا لِحُدُوثِ ذَلِكَ الْأَثَرِ، وَأَنْ لَا يَقْطَعَ بِوُجُودِ عِلَّةٍ أُخْرَى لِهَذَا الْحُكْمِ سِوَى هَذَا الْوَصْفِ. وَمَهْمَا وُجِدَ الدَّوَرَانُ عَلَى هَذِهِ الْقُيُودِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى الْعِلِّيَّةِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا دُعِيَ الْإِنْسَانُ بِاسْمٍ فَغَضِبَ مِنْهُ وَإِذَا لَمْ يُدْعَ بِهِ لَمْ يَغْضَبْ، وَرَأَيْنَا ذَلِكَ مِنْهُ مِرَارًا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وُجُودًا وَعَدَمًا، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الِاسْمَ هُوَ سَبَبُ الْغَضَبِ حَتَّى أَنَّ الصِّبْيَانَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْهُ وَيَتْبَعُونَهُ فِي الدُّرُوبِ دَاعِينَ لَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ الْمُغْضِبِ لَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وَالدَّوَرَانُ بِهَذِهِ الْقُيُودِ مُتَحَقِّقٌ فِي السُّكْرِ مَعَ التَّحْرِيمِ، فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً وَخُرِّجَ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ مِنَ الرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ حَيْثُ قَطَعْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةً، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَضَايِفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ، وَلِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَرْتِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْآخَرِ فِي الْوُجُودِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ فِي نِسْبَةِ الْحُكْمِ إِلَى الْوَصْفِ، وَخُرِّجَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا إِذَا ظَهَرَ ثَمَّ عِلَّةٌ مُغَايِرَةٌ لِلْمَدَارِ. قُلْنَا: إِذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ قُيُودِ صِحَّةِ دَلَالَةِ الدَّوَرَانِ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ ذَلِكَ الْأَمْرِ مُرَتَّبًا عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الْوَصْفِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ: فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ يَتَعَقَّبُ وُجُودَ الْوَصْفِ، أَوْ أَنَّهُ أَمَارَةٌ عَلَيْهِ أَوْ بَاعِثٌ عَلَيْهِ، أَوْ مَعْنًى آخَرَ. وَالْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ ; إِذِ الْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي شَرْعِيَّةِ الْحُكْمِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ تَكُونُ سَابِقَةً فِي الْوُجُودِ عَلَى وُجُودِ سَبَبِهَا، وَالثَّانِي أَيْضًا مُمْتَنِعٌ ; إِذِ الْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهِيَ فَلَا تَكُونُ إِلَّا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ: فَإِمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ مَعْنَى يَقْتَضِي كَوْنَهُ بَاعِثًا عَلَى الْحُكْمِ مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ شَبَهٍ، أَوْ لَا يَظْهَرَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا يَكُونُ بَاعِثًا، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْمُنَاسَبَةُ مَعَ قِرَانِ الْحُكْمِ بِهَا كَافٍ فِي التَّعْلِيلِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الدَّوَرَانِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ وَالدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَرِدُ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ. قُلْنَا: مَا ذَكَرُوهُ مِنْ دَوَرَانِ غَضَبِ الْإِنْسَانِ مَعَ دُعَائِهِ بِبَعْضِ الْأَسْمَاءِ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ لَا نُسَلِّمُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِكَوْنِ ذَلِكَ الِاسْمِ عِلَّةً، بَلْ بِهِ أَوْ بِمُلَازِمِهِ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ عِلَّةً مَعَ ظُهُورِ انْتِفَاءِ الْمُلَازِمِ، وَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ التَّمَسُّكُ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ أَوْ بِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ الِانْتِقَالُ مِنْ طَرِيقَةِ الدَّوَرَانِ إِلَى طَرِيقَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي التَّعْلِيلِ. وَقَدْ تَرِدُ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ أُخْرَى مَشْهُورَةُ الْجَوَابِ آثَرْنَا الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِهَا اكْتِفَاءً فِي إِبْطَالِ الدَّوَرَانِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَالدِّقَّةِ. وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الْعِلِّيَّةِ، فَالِاطِّرَادُ بِانْفِرَادِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ الِاطِّرَادَ عِبَارَةٌ عَنِ السَّلَامَةِ عَنِ النَّقْدِ الْمُفْسِدِ، وَالسَّلَامَةُ عَنْ مُفْسِدٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِلتَّصْحِيحِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 [خَاتِمَةُ فِي أَنْوَاعِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْعِلَّةُ] الْخَاتِمَةُ فِي أَنْوَاعِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْعِلَّةُ. (1) وَلَمَّا كَانَتِ الْعِلَّةُ مُتَعَلِّقَ الْحُكْمِ وَمَنَاطَهُ فَالنَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِيهِ إِمَّا فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ أَوْ تَنْقِيحِهِ أَوْ تَخْرِيجِهِ. أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فَهُوَ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا فِي نَفْسِهَا (2) وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوِ اسْتِنْبَاطٍ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِالنَّصِّ، فَكَمَا فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ اسْتِقْبَالِهَا وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ بِإِيمَاءِ النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} وَكَوْنُ هَذِهِ الْجِهَةِ هِيَ جِهَةُ الْقِبْلَةِ فِي حَالَةِ الِاشْتِبَاهِ، فَمَظْنُونٌ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ فِي الْأَمَارَاتِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً بِالْإِجْمَاعِ فَكَالْعَدَالَةِ، فَإِنَّهَا مَنَاطُ وُجُوبِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الشَّخْصِ عَدْلًا فَمَظْنُونٌ بِالِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَظْنُونَةً بِالِاسْتِنْبَاطِ، فَكَالشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ فَإِنَّهَا مَنَاطُ تَحْرِيمِ الشُّرْبِ فِي الْخَمْرِ (3) فَالنَّظَرُ فِي مَعْرِفَتِهَا فِي النَّبِيذِ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ، وَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ (4) ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيهِ فِيمَا إِذَا كَانَ مَدْرَكُ مَعْرِفَتِهَا الِاسْتِنْبَاطُ.   (1) مَنَاطُ الْحُكْمِ وَمُتَعَلِّقُهُ كَمَا يَكُونُ عِلَّةً مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً يَكُونُ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا، فَتَفْسِيرُ الْمَنَاطِ بِالْعِلَّةِ تَفْسِيرٌ لَهُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِهِ. (2) تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ قَدْ يَكُونُ بِتَطْبِيقِ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَنْصُوصَةِ أَوِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فِي آحَادِ الصُّوَرِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالنَّظَرِ فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، فَتَعْرِيفُ الْآمِدِيِّ لَهُ بِمَا ذَكَرَ تَعْرِيفٌ بِالْأَخَصِّ. (3) مَنَاطُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ مَنْصُوصٌ لَا مُسْتَنْبَطٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ ". رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا الْبُخَارِيَّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: " كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ. " (4) وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي تَحْقِيقِ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الثَّابِتَةِ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 وَأَمَّا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ فَهُوَ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي تَعْيِينِ مَا دَلَّ النَّصُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِحَذْفِ مَا لَا مُدْخَلَ لَهُ فِي الِاعْتِبَارِ مِمَّا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْأَوْصَافِ، كُلُّ وَاحِدٍ بِطَرِيقَةٍ (1) كَمَا عُلِمَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْوِقَاعِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُومَى إِلَيْهِ بِالنَّصِّ غَيْرَ أَنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي مَعْرِفَتِهِ عَيْنًا إِلَى حَذْفِ كُلِّ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْأَوْصَافِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُبَيَّنَ أَنَّ كَوْنَهُ أَعْرَابِيًّا وَكَوْنَهُ شَخْصًا مُعَيَّنًا، وَأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَذَلِكَ الشَّهْرِ بِخُصُوصِهِ، وَذَلِكَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ، وَكَوْنَ الْمَوْطُوءَةِ زَوْجَةً وَامْرَأَةً مُعَيَّنَةً لَا مُدْخَلَ لَهُ فِي التَّأْثِيرِ، بِمَا يُسَاعِدُ مِنَ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَتَعَدَّى إِلَى كُلِّ مَنْ وَطَأَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا وَهُوَ مُكَلَّفٌ صَائِمٌ. وَهَذَا النَّوْعُ وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكِرِي الْقِيَاسِ فَهُوَ دُونُ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ فَهُوَ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي إِثْبَاتِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ النَّصُّ أَوِ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ دُونَ عِلِيَّتِهِ. وَذَلِكَ كَالِاجْتِهَادِ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ عِلَّةً لِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَوْنِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْمُحَدَّدِ (2) ، وَكَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةَ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْبُرِّ وَنَحْوِهِ حَتَّى يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا سِوَاهُ فِي عِلَّتِهِ، وَهَذَا فِي الرُّتْبَةِ دُونَ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الظَّاهِرِ وَالشِّيعَةُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ.   (1) بِطَرِيقَةٍ - الصَّوَابُ بِطَرِيقِهِ، بِالْهَاءِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ أَنْ يَكُونَ إِلْغَاءُ كُلِّ وَصْفٍ بِطَرِيقَةٍ خَاصَّةٍ بَلْ قَدْ تَجْتَمِعُ أَوْصَافٌ فِي الْحَذْفِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي سَبَقَ ذِكْرُهَا فِي السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ. (2) تَحْرِيمُ الْخَمْرِ مَنْصُوصُ الْعِلَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَكَذَا وُجُوبُ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) وَلِلْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 [الْبَابُ الثَّالث فِي أَقْسَامِ الْقِيَاسِ وَأَنْوَاعِهِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَقْسَامِ الْقِيَاسِ وَأَنْوَاعِهِ وَهِيَ خَمْسُ قِسَمٍ: الْقِسْمَةُ الْأُولَى: الْقِيَاسُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا الْمَعْنَى الْجَامِعُ فِيهِ بِاقْتِضَاءِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْأَصْلِ، وَإِلَى مَا هُوَ مُسَاوٍ وَإِلَى مَا هُوَ أَدْنَى. فَالْأَوَّلُ كَتَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ لَهُمَا، وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَسَوَاءٌ كَانَ قَطْعِيًّا أَوْ ظَنِّيًّا كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَسَائِلِ الْمَفْهُومِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَكَمَا فِي إِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي تَقْوِيمِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى الْمُعْتِقِ وَكَمَا فِي إِلْحَاقِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ بِصَبِّ الْبَوْلِ فِيهِ مِنْ كُوزٍ بِنَجَاسَتِهِ بِالْبَوْلِ فِيهِ وَنَحْوِهِ (1) . وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ فَكَمَا فِي إِلْحَاقِ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ وَإِيجَابِ الْحَدِّ وَنَحْوِهِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الثَّالِثَ مُتَّفَقٌ عَلَى كَوْنِهِ قِيَاسًا وَمُخْتَلَفٌ فِي النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَمَا سَبَقَ. الْقِسْمَةُ الثَّانِيَةُ: الْقِيَاسُ يَنْقَسِمُ إِلَى جَلِيٍّ وَخَفِيٍّ. فَالْجَلِيُّ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مَنْصُوصَةً أَوْ غَيْرَ مَنْصُوصَةٍ غَيْرَ أَنَّ الْفَارِقَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَقْطُوعٌ بِنَفْيِ تَأْثِيرِهِ. فَالْأَوَّلُ: كَإِلْحَاقِ تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ بِتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ لَهُمَا بِعِلَّةِ كَفِّ الْأَذَى عَنْهُمَا. وَالثَّانِي: كَإِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي تَقْوِيمِ النَّصِيبِ حَيْثُ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا سِوَى الذُّكُورَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْفَرْعِ، وَعَلِمْنَا عَدَمَ الْتِفَاتِ الشَّارِعِ إِلَى ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْعِتْقِ خَاصَّةً. وَأَمَّا الْخَفِيُّ فَمَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةً مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ كَقِيَاسِ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ عَلَى الْمُحَدَّدِ وَنَحْوِهِ. الْقِسْمَةُ الثَّالِثَةُ: الْقِيَاسُ يَنْقَسِمُ إِلَى مُؤَثِّرٍ، وَمُلَائِمٍ. أَمَّا الْمُؤَثِّرُ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ: الْأَوَّلُ: مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ فِيهِ مَنْصُوصَةً بِالصَّرِيحِ أَوِ الْإِيمَاءِ أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: مَا أَثَّرَ عَيْنُ الْوَصْفِ الْجَامِعِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ عَيْنُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ.   (1) فِيهِ مُؤَاخَذَةٌ وَهِيَ أَنَّهُ أَلْحَقَ حُكْمَ الْفَرْعِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ التَّرْكِيبُ هُوَ إِلْحَاقُ مَاءٍ صُبَّ فِيهِ بَوْلٌ مِنْ كُوزٍ مَثَلًا بِمَاءٍ بَالَ فِيهِ إِنْسَانٌ وَنَحْوُهُ فِي الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ بِجَامِعِ. . . إِلَخْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 وَأَمَّا الْمُلَائِمُ فَمَا أَثَّرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الْمُؤَثِّرَ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ لَا غَيْرُ، وَالْمُلَائِمُ مَا بَعْدَهُ مِنَ الْأَقْسَامِ. الْقِسْمَةُ الرَّابِعَةُ: الْقِيَاسُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِيَاسِ عِلَّةٍ وَدَلَالَةٍ، وَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ قَدْ صُرِّحَ بِهِ أَوْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ، فَإِنَّ صُرِّحَ بِهِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ أَوْ لَا يَكُونَ هُوَ الْعِلَّةُ بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ; فَيُسَمَّى قِيَاسَ الْعِلَّةِ وَذَلِكَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّبِيذِ وَالْخَمْرِ فِي تَحْرِيمِ الشُّرْبِ بِوَاسِطَةِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ وَنَحْوِهِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ قِيَاسَ الْعِلَّةِ لِلتَّصْرِيحِ فِيهِ بِالْعِلَّةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَيُسَمَّى قِيَاسَ الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ كَالْجَمْعِ بَيْنَ النَّبِيذِ وَالْخَمْرِ بِالرَّائِحَةِ الْمُلَازِمَةِ لِلشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، أَوِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِإِحْدَى مُوجَبَيِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ اسْتِدْلَالًا بِهِ عَلَى الْمُوجَبِ الْآخَرِ كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَطْعِ الْجَمَاعَةِ لِيَدِ الْوَاحِدِ، وَقَتْلِ الْجَمَاعَةِ لِلْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ بِوَاسِطَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ بِتَقْدِيرِ إِيجَابِهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي الْقِيَاسِ كَمَا فِي إِلْحَاقِ الْأَمَةِ بِالْعَبْدِ فِي تَقْوِيمِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى الْمُعْتِقِ بِوَاسِطَةِ نَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا، فَيُسَمَّى الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ. الْقِسْمَةُ الْخَامِسَةُ: الْقِيَاسُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ فِيهِ الْمُنَاسَبَةِ أَوِ الشَّبَهِ أَوِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ أَوِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَيُسَمَّى قِيَاسَ الْإِحَالَةِ (1) . وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَيُسَمَّى قِيَاسَ الشَّبَهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثَ فَيُسَمَّى قِيَاسَ السَّبْرِ. وَإِنْ كَانَ الرَّابِعَ فَيُسَمَّى قِيَاسَ الِاطِّرَادِ.   (1) الْإِحَالَةُ - الصَّوَابُ الْإِخَالَةُ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 [الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ فِي الْقِيَاسِ وَإِثْبَاتِهِ عَلَى مُنْكِرِيهِ وَفِيهِ مَسَائِلَ] [المسألة الأولى التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَقْلًا] الْبَابُ الرَّابِعُ فِي مَوَاقِعِ الْخِلَافِ فِي الْقِيَاسِ وَإِثْبَاتِهِ عَلَى مُنْكِرِيهِ وَفِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَقْلًا (1) . وَبِهِ قَالَ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَالَتِ الشِّيعَةُ وَالنَّظَّامُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ كَيَحْيَى الْإِسْكَافِيِّ وَجَعْفَرِ بْنِ مُبَشِّرٍ وَجَعْفَرِ بْنِ حَرْبٍ (2) بِإِحَالَةِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِهِ عَقْلًا ; وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي مَأْخَذِ الْإِحَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَالَ الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ بِأَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ لِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ.   (1) التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: الْأَوَّلُ: إِثْبَاتُ الْأَحْكَامِ بِهِ وَاعْتِقَادُهُ حُجَّةً فِي الشَّرْعِ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَيُلْحِقُ الْمُجْتَهِدُ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ لِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي بَحَثَهُ الْآمِدِيُّ تَعْرِيفًا وَاسْتِدْلَالًا وَجَدَلًا، وَالثَّانِي وُجُوبُ الْعَمَلِ عَلَى الْأُمَّةِ مُجْتَهِدِيهَا وَمُقَلِّدِيهَا بِمَا ثَبَتَ مِنَ الْأَحْكَامِ بِالْقِيَاسِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْعَضُدِ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَإِنْ كَانَتْ طَرِيقَتُهُ تَبَعًا لِلْمُخْتَصَرِ فِي التَّعْرِيفِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَا تَخْرُجُ عَمَّا سَلَكَهُ الْآمِدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْخَطْبُ فِي ذَلِكَ سَهْلٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ حُجِّيَّتِهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِنَتِيجَتِهِ وَلَا يَكُونُ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ إِلَّا إِذَا ثَبَتَتْ حُجِّيَّتُهُ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. (2) جَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ مِنَ الطَّبَقَةِ السَّابِعَةِ مِنْ طَبَقَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ وُلِدَ بِبَغْدَادَ وَمَاتَ عَامَ 234 هـ وَجَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ هُوَ أَبُو الْفَضْلِ الْهَمْدَانِيُّ مِنَ الطَّبَقَةِ السَّابِعَةِ مِنْ طَبَقَاتِ الْمُعْتَزِلَةِ مَاتَ 236 هـ وَإِلَى الْجَعْفَرَيْنِ تُنْسَبُ الْجَعْفَرِيَّةُ فِرْقَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَيُقَالُ إِنَّهُمَا كَانَا يُضْرَبُ بِهِمَا الْمَثَلُ فِي الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ فَيُقَالُ عِلْمُ الْجَعْفَرَيْنِ وَزُهْدُ الْجَعْفَرَيْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الْجَوَازُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَالُ وَالتَّفْصِيلُ، أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُقَلَاءِ أَنَّهُ يَحْسُنُ مِنَ الشَّارِعِ أَنْ يَنُصَّ وَيَقُولَ لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ ; لِأَنَّ الْغَضَبَ مِمَّا يُوجِبُ اضْطِرَابَ رَأْيِهِ وَفَهْمِهِ، فَقِيسُوا عَلَى الْغَضَبِ مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْإِعْيَاءِ الْمُفْرِطِ، وَأَنْ يَقُولَ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمْ شَرَابَ الْخَمْرِ وَمَهْمَا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِكُمْ أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ الصَّادَّةُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ الْمُفْضِيَةُ إِلَى وُقُوعِ الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ لِتَغْطِيَتِهَا عَلَى الْعَقْلِ، فَقِيسُوا عَلَيْهَا كُلَّ مَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ النَّبِيذِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا عَقْلًا لَمَا حَسُنَ وُرُودُ الشَّرْعِ بِذَلِكَ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ هُوَ أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا صَحَّ نَظَرُهُ وَاسْتِدْلَالُهُ أَدْرَكَ بِالْأَمَارَاتِ الْحَاضِرَةِ الْمَدْلُولَاتِ الْغَائِبَةَ، وَذَلِكَ كَمَنْ رَأَى جِدَارًا مَائِلًا مُنْشَقًّا فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِهُبُوطِهِ، أَوْ رَأَى غَيْمًا رَطْبًا وَهَوَاءً بَارِدًا حَكَمَ بِنُزُولِ الْمَطَرِ، أَوْ رَأَى إِنْسَانًا خَارِجًا مِنْ بَيْتٍ فِيهِ قَتِيلٌ وَبِيَدِهِ سِكِّينٌ مُخَضَّبَةٌ بِالدَّمِ ; حَكَمَ بِكَوْنِهِ قَاتِلًا، فَإِذَا رَأَى الشَّارِعَ قَدْ أَثْبَتَ حُكْمًا فِي صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ وَرَأَى ثَمَّ مَعْنًى يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَاعِيًا إِلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَا يُبْطِلُهُ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ وَالسَّبْرِ الْكَامِلِ، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ لَهُ، وَإِذَا وَجَدَ ذَلِكَ الْوَصْفَ فِي صُورَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الصُّورَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَيْضًا مَا يُعَارِضُهُ ; فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِهِ فِي حَقِّنَا، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مُخَالَفَةَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى سَبَبٌ لِلْعِقَابِ، فَالْعَقْلُ يُرَجِّحُ فِعْلَ مَا ظُنَّ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا مَعْنَى لِلْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ سِوَى ذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ التَّعَبُّدَ بِالْقِيَاسِ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَا تَحْصُلُ دُونَهُ وَهِيَ ثَوَابُ الْمُجْتَهِدِ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَإِعْمَالِ فِكْرِهِ وَبَحْثِهِ فِي اسْتِخْرَاجِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِتَعْدِيَتِهِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «ثَوَابُكَ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكَ» " (1) وَمَا كَانَ طَرِيقًا إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْمُكَلَّفِ، فَالْعَقْلُ لَا يُحِيلُهُ بَلْ يُجَوِّزُهُ.   (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 140 ج3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ ; إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا لَمْ يُمْكِنِ الْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ بِطَرِيقٍ يَقِينِيٍّ، وَأَمَّا إِذَا أَمْكَنَ فَلَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ الْوُصُولُ إِلَى الْمَطْلُوبِ بِطَرِيقٍ يُؤْمَنُ فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ، فَالْعَقْلُ يَمْنَعُ مِنْ سُلُوكِ طَرِيقٍ لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْخَطَأُ، فَمَا لَمْ تُثْبِتُوا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ قَاطِعٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعِ أُمَّةٍ، فَاتِّبَاعُ الظَّنِّ يَكُونُ مُمْتَنِعًا عَقْلًا. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ إِنَّمَا يُسَوِّغُ الْعَقْلُ التَّمَسُّكَ بِالظَّنِّ إِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ رَاجِعٌ عَلَى ظَنِّ الْقِيَاسِ مُفْضٍ إِلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ، وَإِلَّا كَانَ الْعَمَلُ بِمَا الْخَطَأُ فِيهِ أَقْرَبُ مِمَّا تُرِكَ (1) ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَقْلًا. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى تَجْوِيزِ الْعَقْلِ لِذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ وَمُعَارَضٌ. أَمَّا النَّقْضُ فَبِصُوَرٍ مِنْهَا أَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، بَلِ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ الْمِتَمَحِّضَاتِ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ، بَلِ الْفُسَّاقِ مُغَلِّبٌ عَلَى ظَنِّ الْقَاضِي الصِّدْقَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ مُدَّعِيَ النُّبُوَّةِ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِقَوْلِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ وَإِنْ غَلَبَتْ عَلَى الظَّنِّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَوِ اشْتَبَهَتْ رَضِيعَةٌ بِعَشْرِ أَجْنَبِيَّاتٍ أَوْ مَيْتَةٌ بِعَشْرِ مُذَكَّيَاتٍ ; لَمْ يَجُزْ مَدُّ الْيَدِ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا ; وَإِنْ وُجِدَتْ عَلَامَاتٌ بِغَلَبَةٍ عَلَى الظَّنِّ. وَأَمَّا الْمُعَارَضَةُ فَمِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ النَّظَّامُ: إِنَّ الْعَقْلَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ فِي أَحْكَامِهَا، وَالِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فِي أَحْكَامِهَا، وَالشَّارِعُ قَدْ رَأَيْنَاهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ قَضِيَّةِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ الشَّرْعِيَّ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى مَذَاقِ الْعَقْلِ، فَلَا يَكُونُ الْعَقْلُ مُجَوِّزًا لَهُ.   (1) وَإِلَّا كَانَ الْعَمَلُ. . . إِلَخْ - كَانَ تَامَّةٌ وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: وَإِلَّا وُجِدَ مِنْكُمُ الْعَمَلُ بِدَلِيلٍ الْخَطَأُ فِيهِ أَقْرَبُ مِنَ الْخَطَأِ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي تُرِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 أَمَّا تَفْرِقَتُهُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ ; فَإِنَّهُ فَرَضَ الْغُسْلَ مِنَ الْمَنِيِّ وَأَبْطَلَ الصَّوْمَ بِإِنْزَالِهِ عَمْدًا دُونَ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ، وَأَوْجَبَ غَسْلَ الثَّوْبِ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وَالرَّشَّ عَلَيْهِ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَنَقَصَ مِنْ عَدَدِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ الشَّطْرَ دُونَ الثُّنَائِيَّةِ، وَأَوْجَبَ الصَّوْمَ عَلَى الْحَائِضِ دُونَ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَحَرَّمَ النَّظَرَ إِلَى الْعَجُوزِ الْقَبِيحَةِ الْمَنْظَرِ وَأَبَاحَهُ فِي حَقِّ الْأَمَةِ الْحَسْنَاءِ، وَقَطَعَ سَارِقَ الْقَلِيلِ دُونَ غَاصِبِ الْكَثِيرِ، وَأَوْجَبَ الْجَلْدَ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ بِالْكُفْرِ، وَقَبِلَ فِي الْقَتْلِ شَاهِدَيْنِ دُونَ الزِّنَا، وَجَلَدَ قَاذِفَ الْحُرِّ الْفَاسِقِ دُونَ الْعَبْدِ الْعَفِيفِ، وَفَرَّقَ فِي الْعِدَّةِ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ مَعَ اسْتِوَاءِ حَالِ الرَّحِمِ فِيهِمَا، وَجَعَلَ اسْتِبْرَاءَ الرَّحِمِ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَقِّ الْأَمَةِ، وَالْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ بِثَلَاثِ حَيْضَاتٍ، وَأَوْجَبَ تَطْهِيرَ غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الرِّيحُ مَعَ أَنَّ الْقِيَاسَ كَانَ مُقْتَضِيًا لِلتَّسْوِيَةِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا الْحُكْمُ أَوْلَى بِهِ مِمَّا ثَبَتَ فِيهَا. وَأَمَّا تَسْوِيَتُهُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنِ قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا وَخَطَأً فِي إِيجَابِ الضَّمَانِ، وَسَوَّى فِي إِيجَابِ الْقَتْلِ بَيْنَ الرِّدَّةِ وَالزِّنَا، وَسَوَّى فِي إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بَيْنَ قَتْلِ النَّفْسِ وَالْوَطْءِ فِي رَمَضَانَ وَالظِّهَارِ مَعَ الِاخْتِلَافِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُبْطِلُ الِاعْتِبَارَ بِالْأَمْثَالِ وَيُوجِبُ امْتِنَاعَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ (1) . الثَّانِي: قَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّ الْقَوْلَ بِالتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ يُفْضِي إِلَى الِاخْتِلَافِ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَا إِذَا ظَهَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ قِيَاسٌ مُقْتَضَاهُ نَقِيضُ حُكْمِ الْآخَرِ، وَالِاخْتِلَافُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} . وَقَوْلِهِ {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} . وَقَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} . ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ، وَلَا ذَمَّ عَلَى مَا يَكُونُ مِنَ الدِّينِ، وَقَدْ ذَمَّ الصَّحَابَةُ الِاخْتِلَافَ حَتَّى قَالَ عُمَرُ: " لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّكُمْ إِنِ اخْتَلَفْتُمْ كَانَ مَنْ بَعْدَكُمْ أَشَدَّ اخْتِلَافًا "   (1) انْظُرْ ص 52 مِنْ ج2 مِنْ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ لِابْنِ الْقَيِّمِ طُبِعَ. مَطْبَعَةُ السَّعَادَةِ بِمِصْرَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 وَأَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ يَخْتَلِفَانِ فِي صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أَوِ الثَّوْبَيْنِ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَقَالَ: " رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اخْتَلَفَا، فَعَنْ أَيْ فُتْيَاكُمْ يَصْدُرُ الْمُسْلِمُونَ؟ لَا أَسْمَعُ اثْنَيْنِ يَخْتَلِفَانِ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا إِلَّا فَعَلْتُ وَصَنَعْتُ "، وَقَالَ جَرِيرُ (1) . بْنُ كُلَيْبٍ: " رَأَيْتُ عُمَرَ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَعَلِيًّا يَأْمُرُ بِهَا، فَقُلْتُ إِنَّ بَيْنَكُمَا لَشَرًّا ". وَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى قُضَاتِهِ أَيَّامَ خِلَافَتِهِ: أَنِ اقْضُوا كَمَا كُنْتُمْ تَقْضُونَ، فَإِنِّي أَكْرَهُ الْخِلَافَ وَأَرْجُو أَنْ أَمُوتَ كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَقْيِسَةُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَنَقِيضُهُ حَقًّا، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ، فَإِنَّهُ لَيْسَ تَصْوِيبُ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا دُونَ الْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. الرَّابِعُ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَتْ لِيَ الْحِكْمَةُ اخْتِصَارًا» " (2) ، فَلَوْ كَانَ التَّنْصِيصُ مِنْهُ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الرِّبَوِيَّةِ قَصْدًا لِقِيَاسِ مَا عَدَاهَا مِنَ الْمَطْعُومَاتِ عَلَيْهَا، مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى مَا هُوَ أَصْرَحُ مِنْهُ، وَلِلْخِلَافِ وَالْجَهْلِ أَدْفَعُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: " حَرَّمْتُ الرِّبَا فِي كُلِّ مَطْعُومٍ " لَكَانَ عُدُولًا مِنْهُ عَنِ الظَّاهِرِ الْمَفْهُومِ إِلَى الْخَفِيِّ الْمَوْهُومِ (3) وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِفَصَاحَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَهُوَ خِلَافُ نَصِّهِ.   (1) جَرِيرٌ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ جُرَيٌّ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ مُصَغَّرًا ابْنُ كُلَيْبٍ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ رَوَى لَهُ الْأَرْبَعَةُ وَكَانَ مِنَ الْأَزَارِقَةِ، قِيلَ إِنَّهُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ، انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ (2) قَالَ الْعَجْلُونِيُّ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ: رَوَاهُ الْعَسْكَرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ أُعْطِيتُ، وَلَهُ شَوَاهِدُ فِي الصَّحِيحِ. اه. (3) عِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ: " فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ الْوَجِيزَ الْمُفْهِمَ إِلَى الطَّوِيلِ الْمُوهِمِ " وَهِيَ أَدَقُّ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ فِي كَلَامِ الْآمِدِيِّ وَأَمْكَنُ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 الْخَامِسُ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ إِنْ كَانَ ثَابِتًا بِالنَّصِّ امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ فِي الْفَرْعِ ; لِعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ وَامْتِنَاعِ ثُبُوتِهِ فِيهِ بِغَيْرِ طَرِيقِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ تَابِعًا لِلْأَصْلِ وَلَا فَرْعًا لَهُ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِالْعِلَّةِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ مَقْطُوعٌ وَالْعِلَّةَ مَظْنُونَةٌ، وَالْمَقْطُوعُ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِالْمَظْنُونِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ وَمُتَفَرِّعَةٌ عَلَيْهِ وَالْمُتَفَرِّعُ عَلَى الشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ وَإِلَّا كَانَ دَوْرًا مُمْتَنِعًا (1) . السَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً كَمَا لَوْ قَالَ: " حَرَّمْتُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا " فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فِي غَيْرِ الْبُرِّ فَالْمُسْتَنْبَطَةُ أَوْلَى بِعَدَمِ التَّعْدِيَةِ، وَبَيَانُ أَنَّ الْمَنْصُوصَةَ لَا تَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ قُصُورُ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَنْ ذَلِكَ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " أَعْتَقْتُ كُلَّ عَبْدٍ لِي أَسْوَدَ " عُتِقَ كُلُّ السُّودَانِ مِنْ عَبِيدِهِ، وَلَوْ قَالَ: " أَعْتَقْتُ عَبْدِي سَالِمًا لِسَوَادِهِ أَوْ لِسُوءِ خُلُقِهِ " فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ غَانِمٌ، وَإِنْ كَانَ أَشَدَّ سَوَادًا مِنْ سَالِمٍ وَأَسْوَأَ خُلُقًا. السَّابِعُ: أَنَّ حُكْمَ الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِلْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، أَوْ مُخَالِفًا لَهَا.   (1) يُجَابُ عَنْ ذَلِكَ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ النَّصَّ أَوِ الْإِجْمَاعَ كَمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ ثَبَتَ بِهِ اعْتِبَارُ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ فِي الْأَصْلِ عِلَّةً لِحُكْمِهِ، وَتِلْكَ الْعِلَّةُ هِيَ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا حُكْمُ الْفَرْعِ، وَإِذْ ذَاكَ يَكُونُ الدَّلِيلُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ مُبَاشَرَةً هُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْفَرْعِ لَكِنْ بِوَسَاطَةِ الْعِلَّةِ، وَيُجَابُ عَنْهُ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي أَوَّلًا بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ قَطْعِيَّةً حُكْمَ الْأَصْلِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا ظَنِّيَّةً حُكْمَ الْفَرْعِ بِإِطْلَاقٍ، فَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَطْعِيًّا وَقَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا وَقَدْ يَخْتَلِفَانِ، وَثَانِيًا بِأَنَّ عِلَّةَ حُكْمِ الْأَصْلِ مَقْصُودٌ إِلَيْهَا فِي شَرْعِ حُكْمِهِ، وَعَلَيْهَا بُنِيَ فَكَانَتْ مُثْبِتَةً لَهُ تَشْرِيعًا، وَهِيَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ بِبَحْثِ الْمُجْتَهِدِ فَكَانَتْ فَرْعًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ لِعَمَلِ الْمُجْتَهِدِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَا دَوْرَ لِاخْتِلَافِ جِهَةِ التَّوَقُّفِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنِ الْقِيَاسُ مُفِيدًا ; لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ عَدَمُهُ كَانَ مُقْتَضَاهُ مُتَحَقِّقًا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَهُوَ مُمْتَنِعٌ ; لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْأَصْلِيَّةَ مُتَيَقِّنَةٌ وَالْقِيَاسَ مَظْنُونٌ وَالْيَقِينَ تَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُ بِالظَّنِّ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ عَقْلًا فِي الْفُرُوعِ لِظَنِّ الْمَصْلَحَةِ ; لَجَازَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْأَقْيِسَةِ وَهُوَ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسَلْسُلِ. التَّاسِعُ: أَنَّ الشَّرْعِيَّاتِ مَصَالِحٌ، فَلَوْ جَازَ إِثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ لَجَازَ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِالْإِخْبَارِ عَنْ كَوْنِ زَيْدٍ فِي الدَّارِ عِنْدَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِكَوْنِهِ فِيهَا بِالْأَمَارَاتِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الرَّجْمَ بِالظَّنِّ جَهْلٌ وَلَا صَلَاحَ لِلْخُلُقِ فِي إِقْحَامِهِمْ وَرْطَةَ الْجَهْلِ حَتَّى يَتَخَبَّطُوا فِيهِ وَيَحْكُمُوا بِمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى (1) . الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسٌ إِلَّا بِعِلَّةٍ، وَالْعِلَّةُ مَا تُوجِبُ الْحُكْمَ بِذَاتِهَا، وَعِلَلُ الشَّرْعِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَلَا قِيَاسَ (2) . الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى خَبَرُهُ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ فِعْلِنَا لَا مِنْ تَوْقِيفِ الشَّارِعِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنَّ جَلِيَّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالنُّصُوصِ فَكَذَلِكَ خَفِيُّهَا كَالْمُدْرَكَاتِ، فَإِنَّ جَلِيَّهَا وَخَفِيَّهَا لَا يُدْرَكُ بِغَيْرِ الْحِسِّ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلشَّرْعِيَّاتِ عِلَلٌ لَاسْتَحَالَ انْفِكَاكُهَا عَنْ أَحْكَامِهَا كَمَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ انْفِكَاكُ الْحَرَكَةِ الْقَائِمَةِ بِالْجِسْمِ عَنْ كَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا   (1) وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَعْتَمِدُ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَالْعِلَلِ الَّتِي اعْتُبِرَتْ بِأَدِلَّتِهَا فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَلَا إِقْحَامًا لِلنَّاسِ فِي وَرْطَةِ الْجَهْلِ إِذْ كَانَ مُعَرَّفًا لِلْأَحْكَامِ بِإِرْشَادِ الشَّارِعِ إِلَى عِلَلِهَا وَمَقَاصِدِهَا. (2) عِلَلُ الشَّرْعِ وَإِنْ لَمْ تُوجِبِ الْحُكْمَ بِذَاتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا بَعْدَ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَهَا وَبِنَائِهِ الْحُكْمَ عَلَيْهَا صَارَتْ مُوجِبَةً لِلْأَحْكَامِ حَيْثُ وُجِدَتْ إِلَّا لِمُعَارِضٍ مِنْ فَقْدِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، انْظُرْ جَوَابَ الْآمِدِيِّ عَنِ الشُّبْهَةِ 14، 19 فِيمَا يَأْتِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 لَمَّا كَانَتِ الْحَرَكَةُ عِلَّةً لِكَوْنِهِ مُتَحَرِّكًا، وَذَلِكَ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لِتَقَدُّمِ الْعِلَلِ عَلَيْهَا وَهُوَ مُحَالٌ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا لَكَانَ حُجَّةً مَعَ النَّصِّ، وَذَلِكَ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لِتَقَدُّمِ الْعِلَلِ عَلَيْهَا وَهُوَ مُحَالٌ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ صَحِيحًا لَكَانَ حُجَّةً مَعَ النَّصِّ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بِالْإِجْمَاعِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنَّ نَظَرَ الْقَائِسِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ فِي مَنْظُورٍ فِيهِ، وَالْمَنْظُورُ فِيهِ لَيْسَ سِوَى النَّصِّ وَالْحُكْمِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ وَالْحَرَامُ مَثَلًا وَلَيْسَ الْمَنْظُورُ فِيهِ هُوَ النَّصُّ، إِذْ هُوَ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلْفَرْعِ وَالْحُكْمِ، فَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُوجَدْ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يَصِحَّ الْقِيَاسُ: وَيَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الْأَمْرَيْنِ فَسَادُ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ أَوْ وُجُوبِهِ عِنْدَ ظَنِّنَا أَنَّهُ مُشَابِهٌ لِأَصْلٍ مُحَرَّمٍ أَوْ وَاجِبٍ بِنَاءً عَلَى أَمَارَةٍ، لَجَازَ أَنْ يُتَعَبَّدَ بِذَلِكَ عِنْدَ ظَنِّنَا الْمُشَابَهَةَ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ ; لَكَانَ عَلَى عِلِّيَّتِهِ دَلَالَةٌ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهَا، إِمَّا النَّصُّ، وَالْعِلَّةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ الَّتِي فِيهَا الْخِلَافُ غَيْرُ مَنْصُوصَةٍ. وَإِمَّا الْعَادَاتُ، وَالْعَادَاتُ تَكُونُ مُثْبِتَةً لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا تَكُونُ مُثْبِتَةً لِأَمَارَاتِهَا. التَّاسِعَ عَشَرَ: لَوْ كَانَتِ الْمَعَانِي الْمَشْرُوعَةُ مِنَ الْأُصُولِ أَدِلَّةً عَلَى ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ فِي الْفُرُوعِ، وَلَمْ يَقِفْ كَوْنُهَا أَدِلَّةً عَلَى شَيْءٍ سِوَاهَا كَمَا فِي النُّصُوصِ، وَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى احْتِيَاجِ الْمُسْتَنْبَطَةِ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا كَمَا فِي الْأَحْكَامِ. الْعِشْرُونَ: أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ تَحْرِيمُ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْبَرِّ، إِمَّا لِكَوْنِهِ مَطْعُومَ جِنْسٍ أَوْ مَكِيلَ جِنْسٍ أَوْ قُوتًا أَوْ مَالًا ; فَلَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ، وَأَيُّ مَصْلَحَةٍ فِي تَحْرِيمِ بَيْعِ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَعَ كَوْنِهِ غَيْبِيًّا بِالْقِيَاسِ لَصَحَّ مَعْرِفَةُ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْقِيَاسَ فِعْلُ الْقَائِسِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُعَلِّلًا وَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مُعَلِّلًا. وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مُعَلِّلًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِغَيْرِ مَا اسْتُنْبِطَ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِمَا اسْتُنْبِطَ، يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مُتَحَقِّقًا فِي الْفَرْعِ إِذَا كَانَ وُجُودُهُ فِيهِ ظَنِّيًّا، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ لَا يَصْلُحُ لِلدَّلَالَةِ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِالْقِيَاسِ ; لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى تَقَابُلِ الْأَدِلَّةِ وَتَكَافُئِهَا، وَأَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى مُوجِبًا لِلشَّيْءِ وَمُحَرِّمًا لَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَتَرَدَّدُ الْفَرْعُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ حُكْمُ أَحَدِهِمَا الْحِلُّ وَالْآخَرِ الْحُرْمَةُ، فَإِذَا ظَهَرَ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ شِبْهُ الْفَرْعِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَزِمَ الْحُكْمُ لِلْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مُحَالٌ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ عِلَّةٍ جَامِعَةٍ، وَالْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ عَلَى وِزَانِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَالْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ يَجُوزُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ أَوْصَافٍ، وَالْعِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِحُكْمِهَا كَاسْتِقْلَالِ الْحَرَكَةِ بِكَوْنِ الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ مُتَحَرِّكًا وَاسْتِقْلَالِ السَّوَادِ بِكَوْنِ مَحَلِّهِ أَسْوَدَ وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ لِلتَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، فَقَدِ احْتَجَّ بِثَلَاثِ شُبَهٍ: الْأُولَى: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَأْمُورُونَ بِتَعْمِيمِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ، وَالصُّوَرُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلَا تُمْكِنُ إِحَاطَةُ النُّصُوصِ بِهَا، فَاقْتَضَى الْعَقْلُ وُجُوبَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ أَنْفَى لِلضَّرَرِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَقْلًا تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ وَدَفْعًا لِلْمَضَرَّةِ كَمَا يَجِبُ الْقِيَامُ مِنْ تَحْتِ حَائِطٍ ظُنَّ سُقُوطُهُ لِفَرْطِ مَيْلِهِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ تَكُونَ السَّلَامَةُ فِي الْقُعُودِ وَالْهَلَاكُ فِي النُّهُوضِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ وَمُنَاسَبَتَهَا لِلْأَحْكَامِ مُدْرَكَةٌ بِالْعَقْلِ ; فَكَانَ الْعَقْلُ مُوجِبًا لِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِهَا كَمَا تُوجِبُ أَحْكَامُ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ أَنَّ الْقِيَاسَ مُغَلِّبٌ عَلَى الظَّنِّ وُجُودَ الْمَصْلَحَةِ، فَهُوَ بَيَانٌ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ الْبَيَانُ فِيهِ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَيَانِ الْقَاطِعِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ التَّعَبُّدِ بِهِ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِالْبَيَانِ الْقَاطِعِ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنَ الْوُجُودِ وَإِلَّا لَمَا جَازَ التَّعَبُّدُ بِالنُّصُوصِ الظَّنِّيَّةِ وَأَخْبَارِ الْآحَادِ مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِالْأَحْكَامِ، وَإِمْكَانِ وُجُودِ النُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ الْجَلِيَّةِ. وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَيْضًا. وَعَنِ النَّقْضِ بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصُّوَرِ أَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّزُ وُرُودَ التَّعَبُّدِ بِكُلِّ مَا هُوَ مُغَلِّبٌ عَلَى الظَّنِّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ التَّعَبُّدُ مِنَ الشَّارِعِ بِامْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِهِ، كَانَ ذَلِكَ لِمَانِعِ الشَّرْعِ لَا لِعَدَمِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى: أَنَّ كُلَّ مَا ظُنَّ فِيهِ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَظَهَرَتْ صَلَاحِيَتُهُ لِلتَّعْلِيلِ، فَالْعَقْلُ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُرُودِ التَّعَبُّدِ مِنَ الشَّارِعِ فِيهِ بِالْإِلْحَاقِ، وَحَيْثُ فَرَّقَ الشَّارِعُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إِمَّا لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ مَا وَقَعَ جَامِعًا أَوْ لِمُعَارِضٍ لَهُ فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ، وَحَيْثُ جَمَعَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِ الصِّفَاتِ فَإِنَّمَا كَانَ لِاشْتِرَاكِهَا فِي مَعْنًى جَامِعٍ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيلِ، أَوْ لِاخْتِصَاصِ كُلِّ صُورَةٍ بِعِلَّةٍ صَالِحَةٍ لِلتَّعْلِيلِ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصُّوَرِ، وَإِنِ اتَّحَدَ نَوْعُ الْحُكْمِ أَنْ تَعَلَّلَ بِعِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ فِي الْكُلِّ بِالْقِيَاسِ. وَعَلَى هَذَا نَقُولُ مَا لَمْ يَظْهَرْ تَعْلِيلُهُ وَصِحَّةُ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ إِمَّا لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الْجَامِعِ أَوْ لِتَحَقُّقِ الْفَارِقِ أَوْ لِظُهُورِ دَلِيلِ التَّعَبُّدِ، فَلَا قِيَاسَ فِيهِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ فِيمَا ظَهَرَ كَوْنُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مُعَلِّلًا فِيهِ، وَظَهَرَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِلَّةِ وَانْتَفَى الْفَارِقُ (1) . وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْذُورٍ مُطْلَقًا، فَإِنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ كُلَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ وَلَا مَحْذُورَ فِيهَا، وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.   (1) انْظُرْ ص 280 ج19 مِنْ فَتَاوَى ابْنِ تَيْمِيَّةَ وَص 55 ج2 مِنْ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 كَيْفَ وَإِنَّ الْأُمَّةَ الْإِسْلَامِيَّةَ مَعْصُومَةٌ عَنِ الْخَطَأِ عَلَى مَا عُرِفَ (1) ، فَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ مَذْمُومًا وَمَحْذُورًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَكَانَتِ الصَّحَابَةُ مَعَ اشْتِهَارِ اخْتِلَافِهِمْ وَتَبَايُنِ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، مُخْطِئَةً، بَلِ الْأُمَّةُ قَاطِبَةً وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَعَلَى هَذَا، فَيَجِبُ حَمْلُ مَا وَرَدَ مِنْ ذَمِّ الِاخْتِلَافِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ، وَفِيمَا الْمَطْلُوبُ فِيهِ الْقَطْعُ دُونَ الظَّنِّ وَالِاخْتِلَافِ بَعْدَ الْوِفَاقِ، وَاخْتِلَافُ الْعَامَّةِ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاخْتِلَافُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ التَّنَاقُضِ وَالِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافِ الْمُنَاقِضِ لِلْبَلَاغَةِ عَنِ الْقُرْآنِ، لَا نَفْيُ الِاخْتِلَافِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. (2) . وَأَمَّا إِنْكَارُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَيَجِبُ أَيْضًا حَمْلُهُ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِيمَا سَبَقَ فِيهِ الْإِجْمَاعُ أَوْ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا بِالنَّظَرِ إِلَى مُسْتَفْتٍ وَاحِدٍ حَذَرًا مِنْ تَحَيُّرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ جَرِيرٍ (3) لِعَلِيٍّ وَعُمَرَ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا ظَنَّهُ مِنْ إِفْضَاءِ ذَلِكَ إِلَى فِتْنَةٍ وَثَوَرَانِ أَمْرٍ. وَأَمَّا مَا كَتَبَهُ عَلِيٌّ إِلَى قُضَاتِهِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ أَيْضًا عَلَى خَوْفِهِ مِنِ انْفِتَاقِ فَتْقٍ بِسَبَبِ نِسْبَتِهِ إِلَى تَعَصُّبٍ لِمُخَالَفَةِ مَنْ سَبَقَ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: بِاخْتِيَارِ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ حَقًّا   (1) أَيْ فِي مَبَاحِثِ الْإِجْمَاعِ مِنْ عِصْمَتِهَا فِي إِجْمَاعِهَا. (2) الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِ اخْتِلَافِ التَّنَاقُضِ عُمُومًا عَنِ الْقُرْآنِ، فَلَا تَنَاقُضَ فِي أَخْبَارِهِ بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا فِي أَحْكَامِهِ بَلْ هِيَ مَحْضُ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْعَدَالَةِ التَّامَّةِ، وَلَا ضَعْفَ فِي أُسْلُوبِهِ وَعِبَارَاتِهِ فَإِنَّهُ فِي ذُرْوَةِ الْكَمَالِ فَصَاحَةً وَبَلَاغَةً فَكَانَ بِذَلِكَ مُعْجِزًا فِي أَخْبَارِهِ وَأَحْكَامِهِ وَحُجَجِهِ وَفِي بَرَاعَةِ أُسْلُوبِهِ، وَقَدْ يَكُونُ التَّنَاقُضُ بَيْنَ آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ لِاخْتِلَافِ مَدَارِكِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ فَمُخْطِئُهُمْ مَعْذُورٌ مَأْجُورٌ. (3) جَرِيرٌ سَبَقَ تَعْلِيقًا أَنَّ فِيهِ تَحْرِيفًا وَأَنَّ الصَّوَابَ جُرَيٌّ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ مُصَغَّرًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَتَرْكِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَائِضِ وَالطَّاهِرِ، وَكَالْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْقِبْلَةِ حَالَ اشْتِبَاهِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، وَكَجَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ، وَتَحْرِيمُهُ فِي حَقِّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْهَلَاكُ (1) . وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ، وَمَا الْحَقُّ فِيهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا مُعَيَّنًا، كَحُدُوثِ الْعَالَمِ وَقِدَمِهِ وَوُجُودِ الصَّانِعِ وَعَدَمِهِ (2) . وَعَنِ الرَّابِعَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعُدُولُ مِنْ أَصْرَحِ الطَّرِيقَيْنِ وَأَبْيَنِهِمَا إِلَى أَدْنَاهُمَا مِمَّا يَمْتَنِعُ وَيُخِلُّ بِالْبَلَاغَةِ، لَمَا سَاغَ وُرُودُ الْكِتَابِ بِالْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ وَإِرَادَةِ الْمُعَيَّنِ، وَالْعَامَّةُ وَإِرَادَةُ الْخَاصِّ وَالْمُطْلَقَةُ وَإِرَادَةُ الْمُقَيَّدِ وَالْأَلْفَاظِ الْمُحْتَمَلَةِ، وَلَمَا سَاغَ أَيْضًا مِثْلُ ذَلِكَ مِنَ الرَّسُولِ مَعَ إِمْكَانِ الْإِتْيَانِ بِأَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ نَاصَّةٍ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ خِلَافَ الْوَاقِعِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ فِي التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ مَصْلَحَةً لِلْمُكَلَّفِينَ لَا تَحْصُلُ مِنَ التَّنْصِيصِ. وَذَلِكَ بِسَبَبِ بَعْثِ دَوَاعِيهِمْ عَلَى الِاجْتِهَادِ طَلَبًا لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِهِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ فِي حَقِّ عَائِشَةَ، حَتَّى تَبْقَى الشَّرِيعَةُ مُسْتَمِرَّةً غَضَّةً طَرِيَّةً. وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ لَا بِالْعِلَّةِ وَأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْفَرْعِ، فَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِمِثْلِ طَرِيقِ إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مَعَ كَوْنِهِ مَقْطُوعًا   (1) أَقُولُ مَا ذُكِرَ وَنَحْوُهُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَلَيْسَ مِنَ التَّنَاقُضِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّ التَّنَاقُضَ يُشْتَرَطُ فِيهِ وَحْدَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فِي الْأَحْوَالِ الَّتِي لَهَا مُدْخَلٌ فِي الْحُكْمِ أَوْ كَمَا يُقَالُ وَحِدَّةُ النِّسْبَةِ، وَفِيمَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ اخْتَلَفَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِصِفَاتٍ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْحُكْمِ فَلَا تَنَاقُضَ. (2) وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَلَمْ يَعْرِفِ التَّارِيخَ رَجَّحَ بِمَا ظَهَرَ لَهُ مِنَ الْمُرَجِّحَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُرَجِّحٌ كَفَاهُ أَنْ يَحْكُمَ إِجْمَالًا بِأَنَّ مَا وَافَقَ الْوَاقِعَ مِنَ الْأَقْوَالِ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَا خَالَفَ فَهُوَ الْخَطَأُ وَبِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 بِهِ وَفِي الْفَرْعِ بِوُجُودِ مَا كَانَ قَدْ ظَهَرَ كَوْنُهُ بَاعِثًا عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْفَرْعِ تَابِعًا فِي حُكْمِهِ لِلْأَصْلِ اتِّحَادَ الطَّرِيقِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ فِيهِمَا، وَإِلَّا لَمَا كَانَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ بَلِ التَّبَعِيَّةُ مُتَحَقِّقَةٌ بِمُجَرَّدِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِمَا عُرِفَ كَوْنُهُ بَاعِثًا عَلَى الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ (1) . وَعَنِ السَّادِسَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ عُلِمَ قَطْعًا قَصْدُهُ لِلسَّوَادِ أُعْتِقَ كُلُّ عَبْدٍ أَسْوَدَ لَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكْفِي مُجَرَّدُ الْقَصْدِ، بَلْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ بِهَذَا اللَّفْظِ عِتْقَ جَمِيعِ السُّودَانِ، فَإِنَّهُ كَافٍ فِي عِتْقِ كُلِّ عَبْدٍ لَهُ أَسْوَدَ، وَغَايَتُهُ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ الْخَاصِّ، وَإِرَادَةُ الْعَامِّ وَهُوَ سَائِغٌ لُغَةً. كَمَا حُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ} عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِتْلَافِ الْعَامِّ، وَكَمَا حُمِلَ قَوْلُ الْقَائِلَ: " وَاللَّهِ لَا أَكَلْتُ لِفُلَانٍ خُبْزًا وَلَا شَرِبْتُ مِنْ مَائِهِ جُرْعَةً " إِذَا قَصَدَ بِهِ دَفْعَ الْمِنَّةِ عَلَى أَخْذِ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعُرُوضِ حَتَّى إِنَّهُ يَحْنَثُ بِكُلِّ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَكْفِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ النِّيَّةِ وَالْإِرَادَةِ لِذَلِكَ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِي الْعِتْقِ، بَلْ إِنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ: " وَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ " عُتِقَ كُلُّ عَبْدٍ لَهُ أَسْوَدَ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الصَّيْرَفِيِّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ التَّعْدِيَةِ هَاهُنَا امْتِنَاعُ التَّعْدِيَةِ فِي الْعِلَلِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ فِي أَمْلَاكِ الْعَبِيدِ بِالزَّوَالِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ التَّعْدِيَةِ هَاهُنَا مُبَالَغَةً فِي صِيَانَةِ مِلْكِ الْعَبِيدِ، مِثْلُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.   (1) سَبَقَ لِلْآمِدِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِشْرِينَ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ الْعِلَّةِ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِيمَا ثَبَتَ بِهِ حُكْمُ الْأَصْلِ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ، فَكِلَاهُمَا يَقُولُ إِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عُرِفَ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ وَأَنَّ الْعِلَّةَ بَاعِثَةٌ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ وَمَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ فِي بِنَاءِ حُكْمِهِ عَلَيْهَا، وَعَلَى ذَلِكَ فَالْعِلَّةُ الَّتِي بَنَى الشَّارِعُ الْحُكْمَ عَلَيْهَا فِي الْأَصْلِ هِيَ الَّتِي قَصَدَ بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهَا فِي الْفَرْعِ، وَتَعْرِيفُهُ لِحُكْمِ الْأَصْلِ بِالنَّصِّ تَعْرِيفٌ مُبَاشِرٌ وَتَعْرِيفُهُ لِحُكْمِ الْفَرْعِ بِالنَّصِّ بِوَسَاطَةِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ مَحَلِّ حُكْمِ الْأَصْلِ فَاتَّحَدَ طَرِيقُ الْحُكْمَيْنِ، انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 10 ج4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ فِي الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ حَقَّانِ لِلَّهِ وَلِلْآدَمِيِّ، وَتَضَايَقَ الْمَحَلُّ عَنِ اسْتِيفَائِهِمَا كَمَا لَوْ وَجَبَ الْقَتْلُ عَلَى شَخْصٍ بِالرِّدَّةِ وَبِالْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ حَقَّ الْآدَمِيِّ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْتَلُ قِصَاصًا لَا بِالرِّدَّةِ. وَلِهَذَا طَرَدَ أَهْلُ اللُّغَةِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَدُّوهُ فِيمَا لَا يَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الْقَائِلُ لِغَيْرِهِ: " لَا تَأْكُلْ هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ وَلَا تَشْرَبْ هَذَا الشَّرَابَ فَإِنَّهُ مُسْهِلٌ وَلَا تُجَالِسْ فُلَانًا لِسَوَادِهِ " فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يُعِدُّونَهُ إِلَى كُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْعِلَّةِ. وَعَلَى هَذَا نَقُولُ إِنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ بِعْ هَذَا الْعَبْدَ لِسَوَادِهِ أَوْ لِسُوءِ خُلُقِهِ، وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهُ مَهْمَا ظَهَرَ لَكَ رِضَائِي بِشَيْءٍ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ دُونَ صَرِيحِ الْأَقْوَالِ فَافْعَلْهُ، وَعَلِمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي إِطْلَاقِ الْبَيْعِ السَّوَادُ وَسُوءُ الْخُلُقِ خَاصَّةً، فَلَهُ بَيْعُ كُلِّ مَا شَارَكَهُ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ عَلَى وَزَانِ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ. وَعَنِ السَّابِعَةِ: أَنَّهَا مَنْقُوضَةٌ بِمُخَالَفَةِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بِالنُّصُوصِ الظَّنِّيَّةِ وَبِالْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْفَتْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَنِ الثَّامِنَةِ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِالْحُكْمِ فِي أُصُولِ الْأَقْيِسَةِ، وَإِلَّا كَانَ التَّعَبُّدُ بِإِثْبَاتِ أَحْكَامِهَا بِالْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ جَائِزًا، وَإِنِ امْتَنَعَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسَلْسُلِ فَلَا يَرِدُ بِهِ التَّعَبُّدُ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ. وَعَنِ التَّاسِعَةِ: أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَقْلِ أَيْضًا وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِإِخْبَارِنَا عَنْ كَوْنِ زَيْدٍ فِي الدَّارِ عَنْ ظَنٍّ إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَةُ كَوْنِهِ فِي الدَّارِ. وَعَنِ الْعَاشِرَةِ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى فَاسِدِ أُصُولِ الْخُصُومِ فِي وُجُوبِ رِعَايَةِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ، وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا. (1) وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ مَصْلَحَةٌ، وَقَدِ اسْتَأْثَرَ الرَّبُّ تَعَالَى بِالْعِلْمِ بِهَا. كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مَنْقُوضٌ بِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالنُّصُوصِ الظَّنِّيَّةِ وَقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ، وَبِقَبُولِ قَوْلِ الْعُدُولِ فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأَرْشِ الْجِنَايَاتِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ.   (1) أَصْلُنَا - أَيِ الْأَشْعَرِيَّةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ تَعْلِيقًا عَلَى أَصْلِهِمْ فِي ص 91 - 94 - 104 ج1. . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وَعَنِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْقِيَاسِ إِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَمْتَنِعُ التَّعَبُّدُ بِاتِّبَاعِهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: " مَهْمَا رَأَيْتُمْ وَصْفَ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، فَاعْلَمُوا أَنِّي قَضَيْتُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ الْمُشْتَدِّ الْمُطْرِبِ " كَانَ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ (1) وَعَنِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ مَهْمَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، فَإِنَّا لَا نُثْبِتُ بِهِ الْحُكْمَ وَلَا نَنْفِيهِ. وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ عَقْلًا، فَإِذَا قَالَ الشَّارِعُ: " قَدْ تَعَبَّدْتُكُمْ بِالْقِيَاسِ، فَمَهْمَا رَأَيْتُمُ الْحُكْمَ قَدْ ثَبَتَ فِي صُورَةٍ وَغَلَبَ عَلَى ظُنُونِكُمْ أَنَّهُ ثَبَتَ لِعِلَّةٍ، وَأَنَّهَا مُتَحَقِّقَةٌ فِي صُورَةٍ أُخْرَى، فَقِيسُوهَا " كَانَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ. وَإِنْ لَمْ يَرِدْ مِثْلُ هَذَا النَّصِّ، فَانْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ كَافِيًا. وَعَنِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهَا قِيَاسٌ تَمْثِيلِيٌّ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ، فَلَا يَصِحُّ. وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ كَثِيرَ الزَّعْفَرَانِ الْوَاقِعَ فِي الْمَاءِ يُعْلَمُ بِالْإِدْرَاكِ، وَخَفِيُّهُ إِنَّمَا يُعْلَمُ بِإِخْبَارٍ مِنْ شَاهِدِهِ لَا بِنَفْسِ الْإِدْرَاكِ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَإِنَّ الْخَبَرَ مُسْتَنِدٌ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ أَيْضًا مُسْتَنِدٌ إِلَى الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ، فَكَانَ جَلِيُّ الْأَحْكَامِ وَخَفِيُّهَا مُسْتَنِدًا إِلَى النَّصِّ. قِيلَ: النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا فِي الْفَرْعِ، وَلَوْ وَرَدَ فِي الْفَرْعِ لَمَا احْتِيجَ إِلَى الْقِيَاسِ. وَعَنِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَوْنَ الْمُتَحَرِّكِ مُتَحَرِّكًا يَزِيدُ عَلَى قِيَامِ الْحَرَكَةِ بِالْمَحَلِّ، فَلَا عِلَّةَ وَلَا مَعْلُولَ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَةَ مُعَلَّلَةٌ بِالْحَرَكَةِ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرُوهُ تَمْثِيلٌ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْعِلَّةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلْحُكْمِ بِذَاتِهَا لَا بِوَضْعٍ، بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهَا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ عَلَامَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ دُونَ الْبَعْضِ، اتِّبَاعًا لِوَضْعِ الشَّارِعِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ بَاعِثًا لِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا أُبِيحَتِ الْخَمْرَةُ فِي زَمَانٍ وَحُرِّمَتْ   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 11 ج4. . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 فِي زَمَانٍ، وَجُوِّزَ الصَّوْمُ فِي زَمَانٍ وَحُرِّمَ فِي زَمَانٍ، وَيَكُونُ مَنَاطُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ اعْتِبَارَ الشَّارِعِ لِلْوَصْفِ فِي وَقْتٍ وَإِلْغَاءَهُ فِي آخَرَ. وَعَنِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَنَا حُجَّةٌ مَعَ النَّصِّ الْمُوَافِقِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً مَعَ النَّصِّ الْمُخَالِفِ الرَّاجِحِ ; بِدَلِيلِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ حُجَّةٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً مَعَ النَّصِّ الْمُخَالِفِ الرَّاجِحِ. وَعَنِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ نَظَرَ الْقَائِسِ فِي الْفَرْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَلَالَةِ النَّصِّ فَهُوَ نَاظِرٌ فِي الْمَعْنَى الْجَامِعِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى عِلِّيَّتِهِ وَفِي الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ، وَلَيْسَ الْحُكْمُ هُوَ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ بَلِ الْحُكْمُ إِنَّمَا هُوَ الْوُجُوبُ أَوِ التَّحْرِيمُ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِهِ. وَعَنِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ إِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ مُشَابَهَةُ شَيْءٍ لِشَيْءٍ مُحَرَّمٍ، وَأَمْكَنَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَمَارَةٍ، فَالْعَقْلُ يُجَوِّزُ وُرُودَ الشَّرْعِ بِالتَّعَبُّدِ بِتَحْرِيمِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِهِ (1) وَعَنِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: بِمَنْعِ الْحَصْرِ فِيمَا ذَكَرُوهُ، وَمَا الْمَانِعُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ يُعْرَفُ كَوْنُ الْوَصْفِ الْجَامِعِ عِلَّةً مِنَ الْإِيمَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ التَّخْرِيجِ كَمَا عُرِفَ. وَعَنِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ الْعِلَلَ الْمُسْتَنْبَطَةَ مِنَ الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَتْ أَدِلَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ فِي الْفُرُوعِ، فَلَيْسَتْ أَدِلَّةً لِذَوَاتِهَا وَصِفَاتِ أَنْفُسِهَا الذَّاتِيَّةِ كَمَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَتْ أَدِلَّةً بِالْوَضْعِ وَالتَّوْقِيفِ، وَجَعَلَ الشَّارِعُ لَهَا أَدِلَّةً، فَلِذَلِكَ افْتَقَرَتْ فِي جَعْلِهَا أَدِلَّةً إِلَى غَيْرِهَا. وَعَنِ الْعِشْرِينَ: أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِتَصْحِيحِ الْقِيَاسِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، بَلْ إِنَّمَا هُوَ فِي جَوَازِ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ فِي الْجُمْلَةِ كَيْفَ وَإِنَّ الْوَجْهَ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِي التَّعْلِيلِ بِمَطْعُومِ جِنْسٍ أَوْ مَكِيلِ جِنْسٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مِمَّا قَدْ تُكُلِّفَ - (2) . قَدْ تُكُلِّفَ بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ، فَعَلَى النَّاظِرِ فِي ذَلِكَ بِالِاعْتِبَارِ حَتَّى إِنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمُسْتَنْبَطَةِ بِدَلِيلِهِ فَالْقِيَاسُ فِيهِ غَيْرُ جَائِزٍ.   (1) جَوَابُهُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ تَنْزِلُ مِنْهُ مَعَ الْخَصْمِ وَإِلَّا فَهِيَ مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَمَحْضُ خَيَالٍ فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى جَوَابٍ. . (2) الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرَانِ، لَا بَيَانَ لِقَوْلِهِ: غَيْرِ ذَلِكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 وَعَنِ الْحَادِيَةِ وَالْعِشْرِينَ: أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ لَوْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمَارَةً تَدُلُّ عَلَيْهِ كَمَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ; كَانَ الْحُكْمُ فِي مَعْرِفَتِهِ كَمَا فِي الْأَحْكَامِ، وَحَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَمَارَةً تَدُلُّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا. وَعَنِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّوَصُّلَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ بِفِعْلِ الْقَائِسِ وَإِنَّمَا فِعْلُ الْقَائِسِ وَهُوَ إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ تَبَعٌ لِمَعْرِفَةِ الْمَصْلَحَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ (1) وَعَنِ الثَّالِثَةِ وَالْعِشْرِينَ: أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْقَائِسِ كَوْنُ الْحُكْمِ مُعَلِّلًا وَظَهَرَتْ لَهُ عِلَّةٌ فِي نَظَرِهِ مُجَرَّدَةٌ عَنِ الْمَعَارِضِ، وَتَحَقَّقَ وُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ كَانَ لَهُ الْقِيَاسُ وَإِلَّا فَلَا. وَعَنِ الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ: أَنَّهُ مَهْمَا تَقَابَلَ فِي نَظَرِ الْقَائِسِ قِيَاسَانِ عَلَى التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ مَثَلًا ; فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِحُكْمِهَا لِذَاتِهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْحُكْمَيْنِ، وَعَلَى هَذَا إِنْ تَرَجَّحَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى كَانَ الْعَمَلُ بِهَا، وَإِنْ تَعَارَضَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِالْوَقْفِ إِلَى حِينِ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ، وَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بِتَخْيِيرٍ فِي الْعَمَلِ بِأَيِّ الْقِيَاسَيْنِ شَاءَ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَعَنِ الْخَامِسَةِ وَالْعِشْرِينَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى وَزَانِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ، وَمَا كَانَ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ وَالْعَلَامَةِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ مِنْهُ مِنْ مَجْمُوعِ أَوْصَافٍ لَا يَسْتَقِلُّ الْبَعْضُ بِهَا (2) ، وَذَلِكَ   (1) فِعْلُ الْقَائِسِ فِي كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ كَلِمَةٌ مُجْمَلَةٌ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهَا إِثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ فَمُسَلَّمٌ أَنَّهُ لَا يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ، بَلْ هُوَ تَبَعٌ لَهَا كَمَا قَالَ الْآمِدِيُّ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا بَحْثُ الْمُجْتَهِدِ عَنِ الْمَنَاطِ فِي مَحَلِّ حُكْمِ الْأَصْلِ مَعَ دَلِيلِهِ، فَاجْتِهَادُهُ فِي ذَلِكَ مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَصَالِحِ وَالْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الشَّارِعُ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَنَقَلَ بِهَا الْمُجْتَهِدُ الْحُكْمَ مِنْهُ إِلَى مَا وُجِدَ فِيهِ مِنَ الْفُرُوعِ. . (2) وَكَذَا لَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ إِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ الْمُعْتَبَرُ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ مُؤَلَّفًا مِنْ مَجْمُوعِ أَوْصَافٍ كَالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ الْمُقْتَضِي لِلْقِصَاصِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 كَالظَّنِّ الْحَاصِلِ بِنُزُولِ الْمَطَرِ عِنْدَ طُلُوعِ الْغَيْمِ وَتَكَاثُفِهِ وَدُنُوِّهِ مِنَ الْأَرْضِ وَهُبُوبِ الْهَوَاءِ الْبَارِدِ، وَكَذَلِكَ ظَنُّ سُقُوطِ الْجِدَارِ بِمَيْلِهِ وَانْشِقَاقِهِ وَتَخَلْخُلِ أَجْزَائِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى لِلْقَائِلِينَ بِكَوْنِ الْعَقْلِ مُوجِبًا لِوُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ أَنَّ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى إِنَّمَا هُوَ الْجُزْئِيَّاتُ الدَّاخِلَةُ تَحْتَ الْأَجْنَاسِ الْكُلِّيَّةِ، أَمَّا الْأَجْنَاسُ الْكُلِّيَّةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ. وَعَلَى هَذَا فَقَدْ أَمْكَنَ التَّنْصِيصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَجْنَاسِ بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ: " كُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٍّ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَكُلُّ قَاتِلٍ عَمْدًا عُدْوَانًا مَقْتُولٌ، وَكُلُّ سَارِقٍ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ مَقْطُوعٌ " إِلَى نَظَائِرِهِ، وَالْحُكْمُ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْجِنْسِ يَكُونُ ثَابِتًا بِالنَّصِّ، وَإِنِ افْتَقَرْنَا فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي إِدْرَاجِ كُلِّ وَاحِدٍ تَحْتَ جِنْسِهِ لِيَتِمَّ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِيهِ بِالنَّصِّ، فَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ تَحْقِيقِ مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ لَا أَنَّهُ قِيَاسٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقِيَاسِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ التَّعْمِيمِ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ فَإِنَّمَا يَجِبُ التَّعَبُّدُ بِهِ أَنْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُكَلَّفًا بِالتَّعْمِيمِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَى تَبْلِيغِهِ بِطَرِيقِ الْمُخَاطَبَةِ (1) . وَمَا ذَكَرُوهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ (2) عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ فِي الْكَلَامِيَّاتِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْعَقْلِ مُوجِبًا، وَعَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي التَّشْرِيعِ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِاسْتِقْرَاءِ النُّصُوصِ وَهُوَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ قُلْنَا أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَرَحْمَةً بِعِبَادِهِ. .   (1) نَعَمِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُكَلَّفٌ بِالتَّبْلِيغِ فِي حُدُودِ طَاقَتِهِ بِالْمُشَافَهَةِ لِمَنِ اجْتَمَعَ بِهِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ لِمَنْ غَابَ عَنْهُ، أَوْ بِأَمْرِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ أَنْ يُبَلِّغَهَا غَيْرَهُ، فَمَنْ بَلَغَتْهُ شَرِيعَةُ اللَّهِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْذُورٌ لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَوْضُوعَ الْبَحْثِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ وَبَيَانِهَا لِأَحْكَامِ جَمِيعِ الْوَقَائِعِ لَا فِي تَعْمِيمِ الْبَلَاغِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ. (2) رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي التَّشْرِيعِ وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِاسْتِقْرَاءِ النُّصُوصِ وَهُوَ مُقْتَضَى حِكْمَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَإِنْ قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي كَتَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَضْلًا مِنْهُ وَإِحْسَانًا وَرَحْمَةً بِعِبَادِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَقْلَ مُوجِبٌ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِي نَظَرِ الْعَاقِلِ، لَكِنْ مَتَى إِذَا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقًا بِمَا ظَنَّهُ الْعَبْدُ عَلَى وَفْقِ مَا ظَنَّهُ الْعَبْدُ أَوْ عَلَى خِلَافِهِ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِينَ فِي الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ مُضِرٌّ فِي حَقِّهِمْ عَلَى خِلَافِ مَظْنُونِ الْعَبْدِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ الْعَقْلُ مُوجِبًا لِلْقِيَاسِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا إِيجَابَ ذَلِكَ مُطْلَقًا لَكِنْ إِذَا أَمْكَنَ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ الْقِيَاسِ أَوْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا إِمْكَانَ ذَلِكَ فِي دَفْعِ الشُّبْهَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْعَقْلِ مُوجِبًا، وَعَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ سِوَى الْقِيَاسِ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي الْقِيَاسِ كَمَا ظَنَّهُ الْعَبْدُ وَكُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْعِلَّةَ الْجَامِعَةَ قَدْ لَا يَكُونُ طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا الْمُنَاسِبَةَ كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَا طَرِيقَ سِوَى الْمُنَاسَبَةِ، وَأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا بِالْعَقْلِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ التَّعَبُّدِ بِهَا عَقْلًا. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ (1) الْعَقْلِيَّيْنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَبِتَقْدِيرِ تَحَقُّقِ ذَلِكَ، فَالْعَقْلُ إِنَّمَا يَقْضِي بِمُلَازَمَةِ مَعْلُولِ الْعِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لَهَا، لِكَوْنِهَا مُقْتَضِيَةً لِمَعْلُولِهَا بِذَاتِهَا، وَلَا كَذَلِكَ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ فَإِنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ عِلَلًا بِمَعْنَى الْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ (2) .   (1) مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ - فِيهِ سَقْطٌ وَالْأَصْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ. (2) وَكَذَا لَوْ كَانَتْ عِلَلًا بِمَعْنَى الْمَقْصُودِ الْمُنَاسِبِ لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا إِنَّمَا كَانَتْ عِلَلًا بِاعْتِبَارِ الشَّارِعِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ لِلْحُكْمِ لَا بِذَاتِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 [المسألة الثانية التَّعَبُّدُ الشَّرْعِيُّ بِالقياس] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ عَقْلًا اخْتَلَفُوا: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يَرِدِ التَّعَبُّدُ الشَّرْعِيُّ بِهِ، بَلْ وَرَدَ بِحَظْرِهِ كَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيِّ وَابْنِهِ الْقَاشَانِيِّ وَالنَّهْرَوَانِيِّ (1) ، وَلَمْ يَقْضُوا بِوُقُوعِ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُومَأً إِلَيْهَا. وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى أَنَّ التَّعَبُّدَ الشَّرْعِيَّ بِهِ وَاقِعٌ بِدَلِيلِ السَّمْعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي وَأَوْمَأْنَا إِلَى إِبْطَالِهِ. ثُمَّ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ هَلْ هُوَ قَاطِعٌ أَوْ ظَنِّيٌّ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ الْكُلُّ: إِنَّهُ قَطْعِيٌّ سِوَى أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ إِنَّهُ ظَنِّيٌّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَقَدِ احْتُجَّ عَلَى ذَلِكَ بِحُجَجٍ ضَعِيفَةٍ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَى ضَعْفِهَا ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، فَمِنْهَا كِتَابِيَّةٌ وَإِجْمَاعِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ: أَمَّا الْكِتَابِيَّةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} . وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالرَّسُولِ، وَالْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ امْتِثَالُ أَمْرِهِمَا وَنَهْيِهِمَا، فَقَوْلُهُ ثَانِيًا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} وَالظَّاهِرُ مِنَ الرَّدِّ هُوَ الْقِيَاسُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهِ اتِّبَاعَ أَوَامِرِهِمَا وَنَوَاهِيهِمَا، لَكَانَ ذَلِكَ تَكْرَارًا فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الرَّدَّ إِلَى مَا اسْتُنْبِطَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرُدُّوهُ} الْقِيَاسُ عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْبَحْثَ عَنْ كَوْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَأْمُورًا أَوْ مَنْهِيًّا، حَتَّى يَدْخُلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: { (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} ، فَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ بِالطَّاعَةِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالثَّانِي بِالْبَحْثِ عَنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ أَوْ مَنْهِيٌّ أَوْ لَا فَلَا تَكْرَارَ.   (1) هُوَ أَبُو سُلَيْمَانَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَصْبَهَانِيُّ الْفَقِيهُ الظَّاهِرِيُّ وُلِدَ بِالْكُوفَةِ عَامَ 200 أَوْ 202 هـ وَمَاتَ بِبَغْدَادَ عَامَ 275 هـ وَقَدْ رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ الْفَقِيهُ وَغَيْرُهُ وَالْقَاشَانِيُّ هُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّازِيُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 وَإِنَّمَا يُمْكِنُ (1) حَمْلُ الرَّدِّ عَلَى الْقِيَاسِ مَعَ كَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، أَنْ لَوْ تَعَذَّرَ حَمْلُ لَفْظِ الرَّدِّ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ بِمُتَعَذِّرٍ. وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ حَمْلِهِ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ كَوْنِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَأْمُورًا أَوْ مَنْهِيًّا، أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: " {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} " فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: " {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} " أَيْ: فِيمَا لَمْ يَسْبِقْ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ " {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} " بِالسُّؤَالِ لِلرَّسُولِ لِيُنْبِئَكُمْ عَنْ مُقْتَضَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْآيَةِ بِمَنْ وُجِدَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى تَعْمِيمِ وُجُوبِ الطَّاعَةِ وَالرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ فِي كُلِّ زَمَانٍ، فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الرَّدِّ السُّؤَالَ لِلرَّسُولِ لَمَا تُصُوِّرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ وُجِدَ بَعْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قُلْنَا: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّاعَةَ وَاجِبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ زَمَانٍ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ ثَابِتٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ ; لِأَنَّهُ إِنْ حُمِلَ الرَّدُّ عَلَى الْقِيَاسِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى السُّؤَالِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ لَمْ يَرَهُ (2) . فَإِنْ قِيلَ: الضَّمِيرُ فِي الْمُخَاطَبِ بِالرَّدِّ عَائِدٌ إِلَى الْمُخَاطَبِ بِالطَّاعَةِ، فَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِالطَّاعَةِ عَامًّا، فَكَذَلِكَ الْخِطَابُ بِالرَّدِّ وَإِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُ الرَّدِّ عَلَى السُّؤَالِ فِي حَقِّ الْكُلِّ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْقِيَاسَ. قُلْنَا: وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الطَّاعَةَ وَاجِبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ زَمَانٍ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِقَوْلِهِ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} لِأَنَّهَا مُشَافَهَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ   (1) وَإِنَّمَا يُمْكِنُ - فِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ إِلَخْ بِدَلِيلِ بَقِيَّةِ الْكَلَامِ إِلَى قَوْلِهِ وَلَيْسَ بِمُتَعَذِّرٍ. (2) الْآيَةُ لَمْ يُقَيَّدْ وُجُوبُ الرَّدِّ فِيهَا بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ وَلَا بِحَالٍ دُونَ حَالٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ وُجُوبُ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ بِفَهْمِ النُّصُوصِ وَإِلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسُؤَالِهِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَبِفَهْمِ النُّصُوصِ بِرَدِّ مُجْمَلِهَا إِلَى مُفَصَّلِهَا وَمُتَشَابِهِهَا إِلَى مُحْكَمِهَا وَبِرَدِّ النَّظِيرِ إِلَى نَظِيرِهِ وَإِعْطَائِهِ حُكْمَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 تَقْرِيرُهُ فِي الْأَوَامِرِ (1) . وَإِنْ سَلَّمْنَا عُمُومَ خِطَابِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، فَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: " {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} " ظَاهِرًا فِي الْعَوْدِ إِلَى كُلِّ مَنْ أَمَرَ بِالطَّاعَةِ، فَعَوْدُهُ إِلَى الْبَعْضِ وَهُوَ مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِضَرُورَةِ حَمْلِ الرَّدِّ عَلَى السُّؤَالِ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ، غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ تَخْصِيصًا لِلْعُمُومِ وَهُوَ مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ فِي حَمْلِ الرَّدِّ عَلَى الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَعَامِّيٍّ، وَيَلْزَمُ مِنْ حَمْلِ لَفْظِ الرَّدِّ عَلَى الْقِيَاسِ تَخْصِيصُ الْآيَةِ بِالْمُجْتَهِدِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ مُخَالَفَةُ أَحَدِ الْعُمُومَيْنِ وَالتَّمَسُّكُ بِالْآخَرِ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ (2) . وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وَالِاسْتِنْبَاطُ هُوَ الْقِيَاسُ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَجِبُ حَمْلُ الِاسْتِنْبَاطِ فِي الْآيَةِ عَلَى الْقِيَاسِ أَنْ لَوْ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذْ أَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِهِ اسْتِخْرَاجُ الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِمُسْتَخْرِجِ الْحُكْمِ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ إِنَّهُ مُسْتَنْبِطٌ. كَيْفَ وَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي صَدْرِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ الْأَمْنُ وَالْخَوْفُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ {أَذَاعُوا بِهِ} وَفِي قَوْلِهِ {وَلَوْ رَدُّوهُ} وَفِي قَوْلِهِ {لَعَلِمَهُ} وَفِي قَوْلِهِ {يَسْتَنْبِطُونَهُ} عَائِدًا إِلَيْهِ ; لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ لَا إِلَى غَيْرِهِ مَذْكُورٌ.، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُمْ أَوْرَدُوا ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ صَدِّهِمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ أَبَاؤُهُمْ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمُشَابَهَةِ فِي الْبَشَرِيَّةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَهُوَ عَيْنُ الْقِيَاسِ فَكَانَ حُجَّةً، وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا لِوَجْهَيْنِ:   (1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ وَمَا كُتِبَ عَلَيْهَا تَعْلِيقًا ص 274 وَ 275 مِنْ ج2. (2) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ لَمْ يُخَصَّ بِحَالٍ وَلَا زَمَنٍ وَلَا بِأَحَدٍ، فَيَجِبُ بَقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا الرَّدُّ إِلَيْهِ بِسُؤَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لِتَعَذُّرِهِ وَإِلَّا مَنْ عَجَزَ عَنِ الرَّدِّ إِلَيْهِ لِضِعْفِ اسْتِعْدَادِهِ أَوْ مُؤَهِّلَاتِهِ، فَلَا يُكَلَّفُ ذَلِكَ عَمَلًا بِنُصُوصِ رَفْعِ الْحَرَجِ وَأَدِلَّةِ مَنْعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ أَهْلَ الذِّكْرِ وَيَسْتَعِينَ بِهِمْ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ قَدْرَ الطَّاقَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 الْأَوَّلُ: لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ النَّكِيرِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا خَرَجَتْ مُخْرَجَ الْإِنْكَارِ لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} . الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا وَتَشْبِيهًا فِي الْأُمُورِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَيْضًا، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعِيَّةُ: فَمِنْهَا أَنَّهُمْ قَالُوا: الْأُمَّةُ قَدْ عَقِلَتْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} تَحْرِيمَ الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِإِمْكَانِ قَوْلِ الْخَصْمِ إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا عَقْلٌ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ وَفَحْوَى الْخِطَابِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، غَيْرَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ مَعْلُومَةٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَهِيَ كَفُّ الْأَذَى عَنِ الْوَالِدَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِيمَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةً مَظْنُونَةً كَمَا قَالَهُ النَّظَّامُ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ قِيَاسًا عَلَى رَجْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لِمَاعِزٍ) ، وَهُوَ ضَعِيفٌ وَأَيْضًا لِإِمْكَانِ أَنْ يُقَالَ: بَلْ إِنَّمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " (1) . وَمِنْهَا أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَنَا بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ عَلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ اشْتِبَاهِهَا، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ ; لِأَنَّ الْخَصْمَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَسُّكِ بِالْأَمَارَاتِ مُطْلَقًا، بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ وَفِي تَقْوِيمِ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَتَقْدِيرِ النَّفَقَاتِ، وَفِيمَا كَانَتِ الْأَمَارَاتُ فِيهِ خَفِيَّةً، وَلَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْأَمَارَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ. كَيْفَ وَإِنَّ مِنَ الْخُصُومِ مَنْ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ ثُمَّ اشْتِبَاهِ الْقِبْلَةِ وَيُوجِبُ التَّوَجُّهَ إِلَى الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ حَتَّى يَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ؟ ! وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ: فَهِيَ أَنَّ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ مِمَّا يَقِلُّ فِي الْحَوَادِثِ وَيَنْدُرُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْقِيَاسُ حُجَّةً أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى خُلُوِّ أَكْثَرِ الْوَقَائِعِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَقْصُودِ مِنْ بِعْثَةِ الرُّسُلِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ أَيْضًا.   (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا فِي ص 275 مِنْ ج2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقَائِعَ الَّتِي خَلَتْ عَنِ النُّصُوصِ وَالْإِجْمَاعِ، إِنَّمَا يَلْزَمُ خُلُوُّهَا عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَفْيُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ حُكْمًا شَرْعِيًّا. وَأَمَّا إِذَا كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَكَانَ مُدْرِكُهُ شَرْعِيًّا وَهُوَ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ وَانْتِفَاءُ الْمَدَارِكِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْأَحْكَامِ الْإِثْبَاتِيَّةِ فَلَا (1) . وَإِنَّ سَلَّمْنَا أَنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا (2) ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كُنَّا مُكَلَّفِينَ بِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّارِعَ كَمَا يُورِدُ إِثْبَاتَ الْأَحْكَامِ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ قَدْ يُورِدُ نَفْيَهَا (3) فِي بَعْضٍ آخَرَ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَصَالِحِ. ثُمَّ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ أَنْ تَكُونَ الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ الْخَلِيَّةُ عَنِ الِاعْتِبَارِ حُجَجًا فِي الشَّرِيعَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَاقِعَةٍ يُمْكِنُ وُجُودُ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَوِ الْقِيَاسِ فِيهَا، فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ حُجَّةً أَفْضَى ذَلِكَ أَيْضًا إِلَى خُلُوِّ الْوَقَائِعِ عَنِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لِعَدَمِ وُجُودِ النَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ أَوِ الْقِيَاسِ فِيهَا، وَالْعُذْرُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ مُشْتَرِكًا (4) .   (1) انْظُرِ الشُّبْهَةَ الْأُولَى مِنْ شُبَهِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ ص 13، وَمَا أَجَابَ بِهِ الْآمِدِيُّ عَنْهَا ص 22 ج4 وَانْظُرِ الْجَوَابَ أَيْضًا عَنْهَا أَوَّلَ الْجُزْءِ الثَّامِنِ مِنَ الْأَحْكَامِ لِابْنِ حَزْمٍ، طُبِعَ، مَطْبَعَةُ الْإِمَامِ. (2) هَذَا تَسْلِيمٌ جَدَلِيٌّ وَتَقْدِيرٌ مُخَالِفٌ لِلْوَاقِعِ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ وَعَدَمِ مُدْرِكٍ شَرْعِيٍّ سِوَاهَا أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ. (3) فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ يُورِدُ، وَفِي مَخْطُوطَةِ الْمَدِينَةِ يَرِدُ، وَكَأَنَّ فِي الْجَمِيعِ تَحْرِيفًا وَلَعَلَّ الصَّوَابَ " يُرِيدُ " وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى مَا فِي الْمَطْبُوعَةِ وَالْمَخْطُوطَةِ قَدْ بُيِّنَ إِثْبَاتًا أَوْ نَفْيًا وَهُوَ خِلَافُ السِّيَاقِ، فَإِنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ لَا نَصَّ وَلَا إِجْمَاعَ بِخِلَافِ مَا إِذَا قُلْنَا يُرِيدُ فَإِنَّهُ يَتَأَتَّى مَعَهُ تَرْكُ بَيَانِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ. (4) قَدْ يَلْتَزِمُ الْمُسْتَدِلُّ حُجِّيَّةَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، لِأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهَا دَلِيلٌ مُعَيَّنٌ بِالِاعْتِبَارِ فَقَدْ شَهِدَتْ لَهَا مَقَاصِدُ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدُهَا الْعَامَّةُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ، وَالِاعْتِبَارُ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْقِيَاسِ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ نَقْلَ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْأَسْنَانِ: اعْتُبِرَ حُكْمُهَا بِالْأَصَابِعِ فِي أَنَّ دِيَتَهَا مُتَسَاوِيَةٌ، أَطْلَقَ الِاعْتِبَارَ وَأَرَادَ بِهِ نَقْلَ حُكْمِ الْأَصَابِعِ إِلَى الْأَسْنَانِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَأْمُورٌ بِهِ، فَالْأَمْرُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدْبِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْأَوَامِرِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ يَكُونُ مَشْرُوعًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ وَصِيغَةُ افْعَلُوا مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الْأَوَامِرِ، وَلَيْسَ جَعْلُهَا ظَاهِرَةً فِي الْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ. سَلَّمْنَا أَنَّهَا لِلْأَمْرِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاتِّعَاظِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} ، وَالْمُرَادُ بِهِ الِاتِّعَاظُ إِذْ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَائِسَ فِي الْفُرُوعِ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَعَاصِي وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ ; يُقَالُ إِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ هُوَ الِاعْتِبَارَ لَمَا صَحَّ سَلْبُ ذَلِكَ عَنْهُ. سَلَّمْنَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ ظَاهِرٌ فِي الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ قَدْ وُجِدَ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ وَيَصْرِفُهُ إِلَى الِاعْتِبَارِ بِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِبَارُ بِمَعْنَى الْقِيَاسِ لَمَا حَسُنَ تَرْتِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ عِنْدَ إِرَادَةِ الِاتِّعَاظِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقِيَاسُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ صِيغَةُ عُمُومٍ تَقْتَضِي الْعَمَلَ بِكُلِّ قِيَاسٍ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مُطْلَقَةً، وَالْمُطْلَقُ إِذَا عُمِلَ بِهِ فِي صُورَةٍ أَوْ صُوَرٍ لَا يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهَا، ضَرُورَةُ الْوَفَاءِ وَمَعْنَاهُ بِدَلَالَتِهِ، وَقَدْ عَمِلْنَا بِذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 وَالْقِيَاسُ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ أَوْ مُومَأٌ إِلَيْهَا وَبِقِيَاسِ الْفُرُوعِ عَلَى الْأُصُولِ فِي امْتِنَاعِ إِثْبَاتِهَا بِالْقِيَاسِ. سَلَّمْنَا الْعُمُومَ لَكِنَّهُ قَدْ خُصَّ بِمَا كُلِّفْنَا فِيهِ بِالْيَقِينِ وَبِمَا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَبِمَا لَمْ نَعْلَمْ لَهُ أَصْلًا وَلَا وَصْفًا جَامِعًا، فَإِنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ: " أَعْتِقْ غَانِمًا لِسَوَادِهِ " فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْدِيَةُ ذَلِكَ إِلَى سَالِمٍ وَإِنْ كَانَ مُسْوَدًّا. وَالْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ لَا يَبْقَى حُجَّةً، وَإِنْ بَقِيَ حُجَّةً فَفِي أَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ الْعَامُّ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْعُمُومِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَا مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، غَيْرَ أَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ مَعَ الْمَوْجُودِينَ، فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ نُزُولِ الْوَحْيِ بِالْآيَةِ، وَإِنْ عَمَّ جَمِيعَ الْأَزْمَانِ وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ مُطْلَقٌ، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا لِلْفَوْرِ وَلَا لِلتَّكْرَارِ، وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا لِذَلِكَ لَكِنْ بِطَرِيقٍ ظَنِّيٍّ لَا قَطْعِيٍّ، وَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صِيغَةَ (افْعَلْ) ظَاهِرَةٌ فِي الطَّلَبِ، وَأَنَّ الطَّلَبَ لَا يَخْرُجُ عَنِ اقْتِضَاءِ الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ فِي الْأَوَامِرِ وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ قَدَرَ كَانَ دَلِيلًا عَلَى شَرْعِ الْقِيَاسِ. قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِبَارَةٌ عَمَّا ذَكَرْتُمُوهُ. قُلْنَا: دَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ (1) . قَوْلُهُمْ: يُطْلَقُ بِمَعْنَى الِاتِّعَاظِ. قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: الْمَنْعُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: اعْتَبَرَ فُلَانٌ فَاتَّعَظَ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِبَارُ هُوَ الِاتِّعَاظُ لَمَا حَسُنَ هَذَا الْكَلَامُ وَالتَّرْتِيبُ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ مُمْتَنِعٌ. الثَّانِي: أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى (2) (غَيْرِهِ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَالِاتِّعَاظِ أَمَّا أَنَّ الِانْتِقَالَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْقِيَاسِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا أَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ فِي الِاتِّعَاظِ) فَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُتَّعِظَ بِغَيْرِهِ مُنْتَقِلٌ مِنَ الْعِلْمِ بِحَالِ ذَلِكَ الْغَيْرِ إِلَى الْعِلْمِ بِحَالِ نَفْسِهِ (3) (وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الِاعْتِبَارِ حَقِيقَةً فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ نَفْيًا لِلتَّجَوُّزِ وَالِاشْتِرَاكِ عَنِ اللَّفْظِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْأَمْرُ بِالِاعْتِبَارِ أَمْرٌ بِالْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَالِاتِّعَاظِ،   (1) دَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ - أَيْ مِنْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْقِيَاسِ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ وَيَشْهَدُ لَهُ. (2) مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ مِنَ الْمَخْطُوطَةِ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَطْبُوعَاتِ. (3) مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ مِنَ الْمَخْطُوطَةِ زِيَادَةٌ عَلَى الْمَطْبُوعَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 وَهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لِوَاحِدٍ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ أَوْ لِكُلِّ اعْتِبَارٍ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ بِهِ إِنَّمَا كَانَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَتِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فَكَمَا تَحْصُلُ مِنَ الْوَاحِدِ الْفَرْدِ تَحْصُلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ ضَرُورَةَ الِاشْتِرَاكِ فِي مَلْزُومِهَا، فَاللَّفْظُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا بِلَفْظِهِ فَيَكُونُ عَامًّا بِمَعْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ الْمَطْلُوبُ) فَكَانَ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنَ الِانْتِقَالِ وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنِ الْآيَتَيْنِ. قَوْلُهُمْ: الْقَائِسُ إِذَا كَانَ مُعْرِضًا عَنْ أَمْرِ آخِرَتِهِ يُقَالُ إِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ. قُلْنَا: لَا يَصِحُّ إِلَى كَوْنِهِ قَائِسًا، وَإِنَّمَا صَحَّ إِلَى أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ النَّفْيَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ نَظَرًا إِلَى إِخْلَالِهِ بِأَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ وَهُوَ أَمْرُ الْمَعَادِ. (وَعَنِ الثَّالِثِ (1) أَنَّهُ إِذَا كَانَ الِانْتِقَالُ مُتَحَقِّقًا فِي الِاتِّعَاظِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ - وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ - فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ تَرْتِيبِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ اللَّفْظَ إِنْ كَانَ عَامًّا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ (2) نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهُ إِنَّمَا يُخَاطِبُنَا بِالْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، وَهُوَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيهِ مَنْصُوصَةً أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِقِيَاسٍ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ قَبْلُ. وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَنْبَطَةً فَقَدْ سَلَّمَ صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِبَعْضِ الْأَقْيِسَةِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَسْلِيمُ الْبَاقِي ضَرُورَةَ أَنْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ) . وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا وَرَاءَ صُوَرِ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْعُمُومِ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَا يَعُمُّ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَعُمُّ بِتَقْدِيرِ الْوُجُودِ وَالْفَهْمِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَعُمُّ بِلَفْظِهِ، فَهُوَ عَامٌّ بِمَعْنَاهُ، نَظَرًا إِلَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْخِطَابِ الثَّابِثِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ مَنْ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْخِطَابُ عَامًّا بِلَفْظِهِ   (1) مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ خَالَفْتُ فِيهِ الْمَخْطُوطَةَ الْمَطْبُوعَةَ فَرَأْيُنَا أَنَّ مَا فِي الْمَطْبُوعَةِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ. (2) أَقُولُ هَذَا فَرْعُ كَوْنِ الْقِيَاسِ الْمَبْنِيِّ عَلَى عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ شَرْعِيًّا وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَامًّا بِمَعْنَاهُ ضَرُورَةَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ (1) . وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ عَامًّا لَا بِلَفْظِهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْخُصُومِ فِي بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْبَاقِي، ضَرُورَةَ أَنْ لَا قَائِلَ بِالتَّفْصِيلِ. وَبِهَذَا الْجَوَابِ يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَلَا التَّكْرَارَ. وَعَنِ السُّؤَالِ الْأَخِيرِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ (2) . وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، فَمَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا: " بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي " وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» (3) وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَرْدُودًا إِلَى أَصْلٍ وَإِلَّا كَانَ مُرْسَلًا، وَالرَّأْيُ الْمُرْسَلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ.   (1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ لِلْآمِدِيِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ وَمَا عَلَيْهَا مِنَ التَّعْلِيقِ. (2) الْقِيَاسُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُهِمَّةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَتَكَادُ مَبَاحِثُهُ تَأْخُذُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِنْ رُبْعِ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الْآمِدِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، فَكَيْفَ يَتَّفِقُ ذَلِكَ مَعَ مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مِرَارًا مِنْ أَنَّ مَسَائِلَ أُصُولِ الْفِقْهِ قَطْعِيَّةٌ. (3) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَمَدَارُهُ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ الثَّقَفِيِّ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ إِلَّا أَبُو عَوْنِ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ: رَوَى عَنْهُ أَبُو عَوْنٍ وَلَا يَصِحُّ وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهَذَا مُرْسَلٌ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ اهـ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْحَارِثَ رَوَاهُ عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ، وَهُمْ أَيْضًا مَجْهُولُونَ لَا يُدْرَى مَنْ هُمْ، وَلَا يَنْهَضُ بِهِمْ صُحْبَتُهُمْ لِمُعَاذٍ فَإِنَّهُ وَغَيْرَهُ صَحِبَهُمْ مَنْ رَوَى عَنْهُمُ الْكَذِبَ كَالْحَارِثِ الْأَعْوَرِ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ عَلِيٍّ الْأَكَاذِيبَ، وَدَعْوَى تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ يُكَذِّبُهَا مَا نُقِلَ عَنِ الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَدَمِ قَبُولِهِ فَإِنْ أُرِيدَ بِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ تَلَقِّي عُلَمَاءِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ فَقَطْ وَعُلَمَاءِ السِّيَرِ، فَلِذَلِكَ لَا مُقْنِعَ فِيهِ، فَإِنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي كُتُبِهِمْ بِالطَّوَامِ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنَ الْعَجَبِ دَعْوَى أَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ أَنَّ الْحَدِيثَ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحِ وَقَدْ وَهَمَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ حَجَرٍ، انْظُرْ تَهْذِيبَ التَّهْذِيبِ وَنَصْبَ الرَّايَةِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ رُوِيَ مُتَّصِلًا مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ لَا يُجْدِي أَيْضًا مَا دَامَ مَنْ دُونَ عُبَادَةَ مَجْهُولًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَدْ أَنْفَذَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ: " «بِمَ تَقْضِيَانِ؟ فَقَالَا: إِنْ لَمْ نَجِدِ الْحُكْمَ فِي الْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ قِسْنَا الْأَمْرَ بِالْأَمْرِ، فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْحَقِّ عَمِلْنَا بِهِ» " صَرَّحُوا بِالْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّهُمَا عَلَيْهِ، فَكَانَ حُجَّةً. وَأَيْضًا: مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: " «اقْضِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِذَا وَجَدْتَهُمَا، فَإِذَا لَمْ تَجِدِ الْحُكْمَ فِيهِمَا اجْتَهِدْ رَأْيَكَ» "، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخَبَرِ الْأَوَّلِ. وَأَيْضًا: مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا سَأَلَتْهُ الْجَارِيَةُ الْخَثْعَمِيَّةُ وَقَالَتْ: " «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ شَيْخًا زَمِنًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحُجَّ، إِنْ حَجَجْتُ عَنْهُ أَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهَا: أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ، أَكَانَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ» " (1) وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ أَلْحَقَ دَيْنَ اللَّهِ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَنَفْعِهِ، وَهُوَ عَيْنُ الْقِيَاسِ. وَمَا مِثْلُ هَذَا (2) يُسَمِّيهِ الْأُصُولِيُّونَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ.   (1) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ ص 258 ج3، انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ. (2) وَمَا مِثْلُ هَذَا إِلَخْ تَكَرَّرَ اسْتِعْمَالُ الْآمِدِيِّ لِهَذَا التَّعْبِيرِ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا عَرَبِيَّةً إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْلُوفٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص 281 ج3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ، وَقَدْ سُئِلَتْ عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ: " «هَلْ أَخْبَرْتِهِ أَنِّي أُقَبِّلُ وَأَنَا صَائِمٌ» " (1) وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى قِيَاسِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا: مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِرَأْيِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالنُّزُولِ عَلَى حُكْمِهِ فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ نِسَائِهِمْ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَقَدْ وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ» ". وَأَيْضًا: مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» " حَكَمَ بِتَحْرِيمِ ثَمَنِهَا بِاعْتِبَارِ تَحْرِيمِ أَكْلِهَا. وَأَيْضًا: مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّهُ عَلَّلَ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ، وَالتَّعْلِيلُ مُوجِبٌ لِاتِّبَاعِ الْعِلَّةِ أَيْنَ كَانَتْ، وَذَلِكَ هُوَ نَفْسُ الْقِيَاسِ. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِي لِأَجْلِ الدَّافَّةِ، فَادَّخِرُوهَا» ". وَقَوْلُهُ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ بِالْآخِرَةِ» ". وَمِنْهَا قَوْلُهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ: " «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ: فَلَا إِذَا» ". وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَقِّ مُحْرِمٍ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ: " «لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» ". وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي حَقِّ شُهَدَاءِ أُحُدٍ: " «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» ".   (1) رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ فَقَالَ لَهُ: سَلْ هَذِهِ (لِأُمِّ سَلَمَةَ) فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ ذَلِكَ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَخْشَاكُمْ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِي الْهِرَّةِ: " «إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» " (1) . وَقَوْلُهُ: " إِذَا «اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» ". وَقَوْلُهُ فِي الصَّيْدِ: " «فَإِنْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ لَعَلَّ الْمَاءَ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ» " (2) . وَأَيْضًا قَوْلُهُ: " «أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ» " (3) وَالرَّأْيُ إِنَّمَا هُوَ تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفِ لَفْظُهَا الْمُتَّحِدِ مَعْنَاهَا النَّازِلِ جُمْلَتُهَا مَنْزِلَةَ التَّوَاتُرِ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا آحَادًا. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ، وَخَبَرٌ وَاحِدٌ وَرَدَ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً، وَهُوَ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَالْمُرْسَلُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْإِجْمَاعُ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَدْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ اشْتِمَالِ مُعَاذٍ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا بِهِ يَقْضِي، فَالسُّؤَالُ عَمَّا عُلِمَ لَا مَعْنَى لَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ وَقَّفَ الْعَمَلَ بِالرَّأْيِ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَوَقَّفَ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْكِتَابِ. وَالْأَوَّلُ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، وَعَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (الْأَنْعَامِ 59) ، وَالثَّانِي عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ وَتَخْصِيصِهِ بِالسُّنَّةِ.   (1) رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ ابْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ كَبَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ " يَعْنِي: الْهِرَّةَ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ خُزَيْمَةَ وَمِثْلُهُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ، وَمَنْصُورٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَجْبِيُّ ثِقَةٌ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَصَفِيَّةُ هِيَ بِنْتُ شَيْبَةَ مِنْ رُوَاةِ السِّتَّةِ. (2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ، وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمَا " لَعَلَّ الْمَاءَ أَعَانَ عَلَى قَتْلِهِ ". (3) أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ: بَحَثْتُ عَنْهُ فَلَمْ أَجِدْهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ وَأَنَّهُ حُجَّةٌ، غَيْرَ أَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ كَمَا يَكُونُ بِالْقِيَاسِ قَدْ يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِخَفِيِّ النُّصُوصِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَلَبِ الْحُكْمِ فِيهِمَا، وَعَلَى التَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَفْظُهُ غَيْرُ عَامٍّ فِي كُلِّ رَأْيٍ، فَلَا يَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ بِالْقِيَاسِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ بِالْقِيَاسِ، غَيْرَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ أَوْ مُومَأٌ إِلَيْهَا، وَإِلَى مَا عِلَّتُهُ مُسْتَنْبَطَةٌ بِالرَّأْيِ، وَاللَّفْظُ أَيْضًا مُطْلَقٌ، وَقَدْ عَمِلْنَا بِهِ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةٌ عَلَى مَا قَالَهُ النَّظَّامُ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقًا فِي كُلِّ قِيَاسٍ، وَلَكِنْ قَبْلَ إِكْمَالِ الدِّينِ أَوْ بَعْدَهُ؟ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} . الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَذَلِكَ أَنَّ إِكْمَالَ الدِّينِ إِنَّمَا يَكُونُ بِاشْتِمَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى تَعْرِيفِ كُلِّ مَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْقِيَاسُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ حُجَّةً مُطْلَقًا لَكِنْ فِيمَا تَعَبَّدْنَا فِي إِثْبَاتِهِ بِالظَّنِّ لَا بِالْيَقِينِ، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَبِهَذَا يَكُونُ الِاعْتِرَاضُ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا. وَأَمَّا حَدِيثُ الْجَارِيَةِ الْخَثْعَمِيَّةِ، فَالْوَارِدُ عَلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى حَدِيثِ مُعَاذٍ أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَأَنَّهُ ظَنِّيٌّ فَلَا يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ وَهُمَا عَامَّانِ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَخْبَارِ، وَيَخُصُّهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا ذَكَرَ دَيْنَ الْآدَمِيِّ بِطَرِيقِ التَّقْرِيبِ إِلَى فَهْمِ الْجَارِيَةِ فِي حُصُولِ نَفْعِ الْقَضَاءِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ، فَلَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا. وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ أَمْرَهُ لَهُ بِأَنْ يَحْكُمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ بِرَأْيِهِ لَا يَخُصُّ الْقِيَاسَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ، فَلَعَلَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِاجْتِهَادِ رَأْيِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِخَفِيِّ النُّصُوصِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَقَدْ وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ". وَأَمَّا خَبَرُ تَحْرِيمِ الشُّحُومِ عَلَى الْيَهُودِ، فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْبَيْعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ أَعَمُّ مِنْ تَحْرِيمِ أَكْلِهِ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشَّيْءِ تَحْرِيمٌ لِلتَّصَرُّفِ فِيهِ مُطْلَقًا، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ مُصَرَّحًا بِهِ، فَالْمُرَادُ بِهِ تَحْرِيمُ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ} ، وَقَوْلِهِ: (وَلَا تَأْكُلُوا مَالَ الْيَتِيمِ) . وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَنْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الدَّالَّةُ عَلَى تَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ، فَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنَ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِعِلَّةٍ إِلْحَاقِ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ، إِذْ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَلَيْسَ فِي الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِلْحَاقِ، بَلِ التَّعْلِيلُ إِنَّمَا كَانَ لِتَعْرِيفِ الْبَاعِثِ عَلَى الْحُكْمِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الِانْقِيَادِ وَأَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ، وَلِهَذَا أَمْكَنَ التَّنْصِيصُ عَلَى الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ وَلَا قِيَاسَ عَنْهَا. وَبِتَقْدِيرِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْإِلْحَاقِ، فَالْعِلَلُ فِيهَا مَنْصُوصَةٌ وَمُومَأٌ إِلَيْهَا. وَنَحْنُ نَقُولُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقِيَاسِ كَمَا قَالَهُ النَّظَّامُ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «إِنِّي أَحْكُمُ بَيْنَكُمْ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ» " فَهُوَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِالرَّأْيِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ لِمَا تَقَدَّمَ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ بِالْقِيَاسِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِالْقِيَاسِ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ كَوْنِهِ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ مُسَدَّدًا فِي أَحْكَامِهِ جَوَازُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ عَلَى خَبَرِ مُعَاذٍ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْسَلَ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى حُجَّةٌ. وَأَمَّا سُؤَالُ مُعَاذٍ عَمَّا بِهِ يَقْضِي ; فَإِنَّمَا كَانَ قَبْلَ تَوَلِّيهِ الْقَضَاءَ لِيَعْلَمَ صَلَاحِيَتَهُ لِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ تَوَلِّيهِ الْقَضَاءَ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّأْكِيدِ أَوْ بِإِعْلَامِ الْغَيْرِ بِأَهْلِيَّتِهِ لِلْقَضَاءِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 وَأَمَّا تَوْقِيفُهُ لِلْعَمَلِ بِالرَّأْيِ عَلَى عَدَمِ وِجْدَانِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَغَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} إِذِ الْمُرَادُ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ عَدَمُ التَّفْرِيطِ فِيمَا وَرَدَ مِنَ الْكِتَابِ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَانُ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّا نَعْلَمُ عَدَمَ اشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ مِنَ الْهَنْدَسِيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ بَيَانَ كُلِّ شَيْءٍ لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الصَّرِيحِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ أَصْلٌ لِبَيَانِ كُلِّ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ أَصْلٌ لِبَيَانِ صِدْقِ الرَّسُولِ فِي قَوْلِهِ، وَقَوْلُهُ بَيَانٌ لِلْقِيَاسِ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُخْرَى. وَأَمَّا تَوْقِيفُهُ الْعَمَلَ بِالسُّنَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكِتَابِ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْكِتَابُ الَّذِي لَا مُعَارِضَ لَهُ وَلَا نَاسِخَ، وَيَجِبُ تَنْزِيلُهُ عَلَى ذَلِكَ ; ضَرُورَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَبَيْنَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى نَسْخِ الْكِتَابِ وَتَخْصِيصِهِ بِالسُّنَّةِ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّهُ يَمْتَنِعُ حَمْلُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِخَفِيِّ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ) عَامٌّ فِي الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ (1) بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَوُرُودِ الِاسْتِفْهَامِ، فَتَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْجَلِيِّ دُونَ الْخَفِيِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُمْتَنِعٌ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فِي نَفْيِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا يَأْتِي، فَلَا يَكُونُ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِيهِ مُسْتَنِدًا لِلْحُكْمِ (2) . وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فَذَلِكَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ عَاقِلٍ، فَلَا يَكُونُ مُفْتَقِرًا إِلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا كَانَتْ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً يَكُونُ قِيَاسًا عَلَى مَا سَيَأْتِي (3) . وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ قِيَاسٌ فَمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَى النَّظَّامِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّ إِكْمَالَ الدِّينِ إِنَّمَا يَكُونُ بِبَيَانِ كُلِّ شَيْءٍ، إِمَّا بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ   (1) قَارِنْ بَيْنَ رَأْيِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ وَحُكْمِهِ هُنَا بِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ يُفِيدُ الْعُمُومَ. (2) انْظُرْ جَوَابَهُ هُنَا عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَاعْتِرَاضَهُ عَلَى الْحُجَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِيمَا تَقَدَّمَ بِالتَّمَسُّكِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَأَنَّهَا مُدْرِكٌ شَرْعِيٌّ لِلْأَحْكَامِ ص 28 ج4. (3) سَيَأْتِي أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 بِوَاسِطَةٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ بَعْدَ إِكْمَالِ الدِّينِ لِكَوْنِهِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَسَائِطِ. وَعَنِ الْخَامِسِ: مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ظَنِّيَّةٌ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ (1) وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى الْجَوَابُ عَمَّا يَعْتَرِضُ بِهِ عَلَى خَبَرَ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَكَذَلِكَ جَوَابُ كُلِّ مَا يَعْتَرِضُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ عَلَى بَاقِي الْأَخْبَارِ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى خَبَرِ الْجَارِيَةِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكُ الْحُكْمِ فِيمَا سَأَلَتْ عَنْهُ الْقِيَاسَ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ ; لَمَا كَانَ التَّعَرُّضُ لِذِكْرِهِ مُفِيدًا، بَلْ كَانَ يَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى قَوْلِهِ نَعَمْ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُنَا لَهُ فِي فِعْلِهِ بِطَرِيقِ التَّأَسِّي بِهِ لَمَا كَانَ حُكْمُ فِعْلِهِ ثَابِتًا فِي حَقِّنَا، وَلَا مَعْنَى لِلْقِيَاسِ سِوَى ذَلِكَ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَاطِلٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ حُكْمَهُ لَوْ كَانَ مُسْتَنِدًا إِلَى الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ، وَقَدْ قَالَ: " «احْكُمْ فِيهِمْ بِرَأْيِكَ» " 8 (2) ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَقَدْ وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» " لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ طُرُقِ الشَّرْعِ ; فَالْحُكْمُ الْمُسْتَنَدُ إِلَيْهِ يَكُونُ حُكْمًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى خَبَرِ الشُّحُومِ مُنْدَفِعٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إِضَافَةِ التَّحْرِيمِ إِلَى الْمَأْكُولِ إِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمُ الْأَكْلِ. وَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إِلَى النِّسَاءِ إِنَّمَا هُوَ تَحْرِيمُ الْوَطْءِ، وَإِلَى الدَّابَّةِ تَحْرِيمُ الرُّكُوبِ، وَإِلَى الدَّارِ تَحْرِيمُ السُّكْنَى. وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَلَى حَسَبِهِ، وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ إِلَى الْفَهْمِ عِنْدَ إِطْلَاقِهِ، فَتَحْرِيمُ   (1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 32 ج4. (2) تَحْكِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدًا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ لِسَعْدٍ احْكُمْ فِيهِمْ بِرَأْيِكَ فَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 الْبَيْعِ لَا يَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ مُطْلَقِ التَّحْرِيمِ الْمُضَافِ إِلَى أَكْلِ الشُّحُومِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ (1) . وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْعِلَلِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْدِيَةِ فَحَقٌّ، غَيْرَ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ بِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ التَّعْدِيَةِ عَلَى مَذْهَبِ النَّظَّامِ فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهُ (2) . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ - وَهُوَ أَقْوَى الْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ - (3) فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ ; (4) فَمِنْ ذَلِكَ (5) رُجُوعُ الصَّحَابَةِ إِلَى اجْتِهَادِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، وَقِتَالِهِمْ عَلَى ذَلِكَ   (1) انْظُرِ الْخِلَافَ فِي عُمُومِ الْمُقْتَضَى فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ. (2) انْظُرِ الْجَوَابَ عَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ ص 38 ج4. (3) قَدْ يُقَالُ لَيْسَ الْإِجْمَاعُ بِأَقْوَى الْحُجَجِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ مُتُونِ الْآثَارِ أَوْ أَسَانِيدِهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ فَإِنَّ مَا سَيَذْكُرُ مِنْ نُصُوصِ الْآثَارِ قَدْ دَخَلَ كُلًّا مِنْهُمَا الِاحْتِمَالُ، كَمَا دَخَلَ فِي كُلِّ نَصٍّ مِنْ نُصُوصِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَبْلُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَكَذَلِكَ فَإِنَّ أَسَانِيدَ الْآثَارِ مِنْهَا مَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَمِنْهَا مَا صَحَّ إِلَّا أَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ أَوْ خَبَرٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَبَقَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ، وَتَمْتَازُ الْآيَاتُ بِالتَّوَاتُرِ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَى وَحْدَةِ مَعَانِي الْآثَارِ وَاشْتِرَاكِهَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْقِيَاسِ فَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأَحَادِيثِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي قَوْلِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلِفِ لَفْظُهَا الْمُتَّحِدِ مَعْنَاهَا النَّازِلِ جُمْلَتُهَا مَنْزِلَةَ الْمُتَوَاتِرِ وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا آحَادًا. (4) انْظُرْ مُنَاقَشَةَ ابْنِ حَزْمٍ لِأَدِلَّةِ مُثْبِتِي الْقِيَاسِ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ وَالثَّامِنِ مِنَ الْإِحْكَامِ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ لَهُ. (5) قَدْ يُقَالُ أَنَّ مُوَافَقَةَ الصَّحَابَةِ أَبَا بَكْرٍ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَقِتَالِ مَنْ مَنَعَهَا بَعْدَ الْمُرَاجَعَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ بَيْنَهُمْ إِنَّمَا كَانَ لِفَهْمِهِمْ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) ، وَكَحَدِيثِ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ " لَا مِنْ قِيَاسِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ قِيَاسِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 وَقِيَاسُ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى الرَّسُولِ فِي ذَلِكَ بِوَسَاطَةِ أَخْذِ الزَّكَاةِ لِلْفُقَرَاءِ وَأَرْبَابِ الْمَصَارِفِ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ: " أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ " الْكَلَالَةُ مَا عَدَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ (2) . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَرَّثَ أُمَّ الْأُمِّ دُونَ أُمِّ الْأَبِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْصَارِ: " لَقَدْ وَرَّثْتَ امْرَأَةً مِنْ مَيِّتٍ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ لَمْ يَرِثْهَا، وَتَرَكْتَ امْرَأَةً لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَيِّتَةَ وَرِثَ جَمِيعَ مَا تَرَكَتْ "، فَرَجَعَ إِلَى التَّشْرِيكِ بَيْنَهُمَا فِي السُّدُسِ (3) . وَمِنْ ذَلِكَ حُكْمُ أَبِي بَكْرٍ بِالرَّأْيِ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ حَتَّى قَالَ لَهُ عُمَرُ: " كَيْفَ تَجْعَلُ مَنْ تَرَكَ دِيَارَهُ وَأَمْوَالَهُ وَهَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ كَمَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ كُرْهًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ وَأُجُورُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ "، وَحَيْثُ انْتَهَتِ   (1) الْأَثَرُ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ. . . . . . إِلَخْ، وَفِيهِ انْقِطَاعٌ، فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ وُلِدَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَيْضًا لَيْسَ فِي الْأَثَرِ قِيَاسٌ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ فِي حُكْمٍ لِجَامِعٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْأَثَرِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ رَأْيًا مُجَرَّدًا وَإِنَّمَا اسْتَنْبَطَهُ أَبُو بَكْرٍ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِمَّنْ ذَكَرَ وَتَرَكَ مِنَ الْوَرَثَةِ فِي آيَتَيِ الْكَلَالَةِ. (2) رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: جَاءَتِ الْجَدَّتَانِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ. . . . إِلَخْ، وَالْقَاسِمُ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا بَكْرٍ فَالْأَثَرُ مُنْقَطِعٌ. وَأَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَنَدَ فِي تَشْرِيكِ الْجَدَّتَيْنِ فِي السُّدُسِ إِلَى مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنَ النَّصِّ، فَطَبَّقَ حَدِيثَ تَوْرِيثِ الْجَدَّةِ عَلَيْهِمَا. (3) هَذَا مِنِ اخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ فِي مَنَاطِ الْعَطَاءِ وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَثَرِ إِلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 النَّوْبَةُ إِلَى عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ قِيَاسُ أَبِي بَكْرٍ تَعْيِينَ الْإِمَامِ بِالْعَهْدِ عَلَى تَعْيِينِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ، حَتَّى إِنَّهُ عَهِدَ إِلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ الصَّحَابَةُ (2) . وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ: " اعْرِفِ الْأَشْبَاهَ وَالْأَمْثَالَ ثُمَّ قِسِ الْأُمُورَ بِرَأْيِكَ ". وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ: " أَقْضِي فِي الْجَدِّ بِرَأْيِي، وَأَقُولُ فِيهِ بِرَأْيِي "، وَقَضَى فِيهِ بِآرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ (3) . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ لَمَّا سَمِعَ حَدِيثَ الْجَنِينِ: " لَوْلَا هَذَا لَقَضَيْنَا فِيهِ بِرَأْيِنَا ".   (1) قَدْ يَمْنَعُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُ إِنَّ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ كَابْنِ حَزْمٍ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ أَبُو بَكْرٍ فِي عَهْدِهِ إِلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ مُتَأَسِّيًا بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا قَائِسًا نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنَّ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ ثَبَتَتْ بِالْبَيْعَةِ فَقَطْ لَا يَتَعَيَّنُ قِيَاسُ الْعَهْدِ عَلَى الْبَيْعَةِ طَرِيقًا لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ لِعُمَرَ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَهْدُ أَبِي بَكْرٍ إِلَيْهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْإِمَامِ الَّتِي لَهُ بِاخْتِيَارِ الْأُمَّةِ إِيَّاهُ وَوَضْعِهِمُ الثِّقَةَ فِيهِ، أَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ امْتِدَادٌ لِتَصَرُّفَاتِهِ الَّتِي لَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ إِيَّاهُ خَلِيفَةً، وَأَثَرٌ مِنْ آثَارِ بَيْعَتِهِمْ لِأَبِي بَكْرٍ. (2) كِتَابُ عُمَرَ إِلَى أَبِي مُوسَى رَوَاهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ مِنْ كِتَابِ الْأَحْكَامِ لَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ: الْأُولَى فِيهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ. . . . . إِلَخْ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَعَبْدُ الْمَلِكِ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ سَاقِطٌ بِلَا خِلَافٍ وَأَبُوهُ مَجْهُولٌ، وَذَكَرَ أَنَّ فِي الطَّرِيقِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةً مَجْهُولِينَ وَأَنَّهَا مُنْقَطِعَةٌ، ارْجِعْ إِلَيْهِ فِي تَفْصِيلِ الْقَوْلِ عَلَى الْأَثَرِ وَإِلَى إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ لِابْنِ الْقَيِّمِ. (3) أَقْوَالُ عُمَرَ الْمُخْتَلِفَةُ فِي الْجَدِّ وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ فِي الْجَدِّ ذَكَرَهَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُشَرَّكَةِ " هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ " فَشَرَّكَ بَيْنَهُمْ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ «لَمَّا قِيلَ لِعُمَرَ: إِنَّ سَمُرَةَ قَدْ أَخَذَ الْخَمْرَ مِنْ تُجَّارِ الْيَهُودِ فِي الْعُشُورِ وَخَلَّلَهَا وَبَاعَهَا، قَالَ: " قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ، أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» ، قَاسَ الْخَمْرَ عَلَى الشَّحْمِ وَأَنَّ تَحْرِيمَهَا تَحْرِيمٌ لِثَمَنِهَا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ حَيْثُ لَمْ يُكْمِلُ نِصَابَ الشَّهَادَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْقَاذِفِ وَإِنْ كَانَ شَاهِدًا لَا قَاذِفًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُثْمَانَ لِعُمَرَ فِي وَاقِعَةٍ: " إِنْ تَتْبَعْ رَأْيَكَ فَرَأْيُكَ أَسَدُّ وَإِنْ تَتْبَعْ رَأْيَ مَنْ قَبْلَكَ فَنِعْمَ ذَلِكَ الرَّأْيُ كَانَ " وَلَوْ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ تَصْوِيبُهُمَا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ وَرَّثَ الْمَبْتُوتَةَ بِالرَّأْيِ (2) . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ: " «إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى، فَحُدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِينَ» " (3) قَاسَ حَدَّ الشَّارِبِ عَلَى الْقَاذِفِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَشُكُّ فِي قَوْدِ الْقَتِيلِ الَّذِي اشْتَرَكَ فِي قَتْلِهِ سَبْعَةٌ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ نَفَرًا اشْتَرَكُوا فِي سَرِقَةٍ ; أَكُنْتَ تَقْطَعُهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَذَلِكَ وَهُوَ قِيَاسٌ لِلْقَتْلِ عَلَى السَّرِقَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ (اتَّفَقَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى أَنْ لَا يُبَعْنَ، وَقَدْ رَأَيْتُ الْآنَ بَيْعَهُنَّ) حَتَّى قَالَ لَهُ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: (رَأْيُكَ مَعَ الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ) (4) .   (1) وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي قِصَّةٍ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. (2) ذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ أَنَّهَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا، وَذَكَرَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ وَرَّثَ زَوْجَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْهُ وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ الْبَتَّةَ. (3) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 287 ج3. (4) رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ طَرِيقِ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ أَنْ لَا يُبَعْنَ ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدُ أَنْ يُبَعْنَ، قَالَ عَبِيدَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: فَرَأْيُكَ وَرَأْيُ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ فِي الْفُرْقَةِ، قَالَ: فَضَحِكَ عَلِيٌّ. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَبِيدَةَ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَلِيٍّ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي أَجْهَضَتْ بِفَزَعِهَا بِإِرْسَالِ عُمَرَ إِلَيْهَا: أَمَّا الْمَأْثَمُ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ مُنْحَطًّا عَنْكَ وَأَرَى عَلَيْكَ الدِّيَةَ، فَقَالَ لَهُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ لَا تَبْرَحَ حَتَّى تَضْرِبَهَا عَلَى بَنِي عَدِيٍّ - يَعْنِي قَوْمَهُ - وَأَلْحَقَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بِالْمُؤَدِّبِ، وَقَالَا: إِنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْكَ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ; لَمَّا وَرَّثَ زَيْدٌ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ أَيْنَ: (وَجَدْتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ثُلُثَ مَا بَقِيَ؟) فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أَقُولُ بِرَأْيِي وَتَقُولُ بِرَأْيِكَ (2) . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَدِّ (أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَا الْأَبِ أَبًا) . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوَّضَةِ بِرَأْيِهِ بَعْدَ أَنِ اسْتَمْهَلَ شَهْرًا، وَأَنَّهُ كَانَ يُوصِي مَنْ يَلِي الْقَضَاءَ بِالرَّأْيِ وَيَقُولُ: (لَا ضَيْرَ فِي الْقَضَاءِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَضَايَا الصَّالِحِينَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ) . وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ حَتَّى أَلْحَقَهُ بَعْضُهُمْ بِالْأَبِ فِي إِسْقَاطِ الْأُخُوَّةِ وَأَلْحَقَهُ بَعْضُهُمْ بِالْأُخُوَّةِ.   (1) أَثَرُ عُمَرَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأَجْهَضَتْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحَسَنُ لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ فَالْأَثَرُ مُنْقَطِعٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَالْخِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَطَبَّقَ عَلَيْهِ عَلِيٌّ ضَابِطَ قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَمْ يَعْذُرْهُ بِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ التَّأْدِيبِ، وَرَأَى غَيْرُهُ أَنَّ مَا لَهُ مِنْ حَقِّ التَّأْدِيبِ يُعْفِيهِ مِنَ الدِّيَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْقِيَاسِ فِي شَيْءٍ - انْظُرْ كِتَابَ الدِّيَاتِ مِنْ تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ. (2) أَقُولُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ أَنَّ زَيْدًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَقُولُ بِرَأْيِي وَتَقُولُ بِرَأْيِكَ، لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقِيَاسَ بَلِ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) وَبِحَدِيثِ: أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا. . . إِلَخْ وَالْجُمْهُورُ اسْتَدَلَّ بِمَا فُهِمَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ النُّصُوصِ مِنْ أَنَّ الْأُنْثَى إِذَا كَانَتْ فِي دَرَجَةِ الذَّكَرِ يَكُونُ حَظُّهَا مِنَ الْإِرْثِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَظِّهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِزَوْجَتِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ "، حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: هُوَ يَمِينٌ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ: هُوَ طَلَاقٌ ثَلَاثٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ ظِهَارٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا تُحْصَى، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ مَثَّلُوا الْوَقَائِعَ بِنَظَائِرِهَا وَشَبَّهُوهَا بِأَمْثَالِهَا وَرَدُّوا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ فِي أَحْكَامِهَا، وَأَنَّهُ مَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ مِنْهُمْ إِلَّا وَقَدْ قَالَ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. وَمَنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْحُكْمُ بِذَلِكَ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِي ذَلِكَ إِنْكَارٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا وَهُوَ حُجَّةٌ مُغَلِّبَةٌ عَلَى الظَّنِّ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُمْ قَالُوا بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ لَا بُدَّ لَهُمْ فِيهَا مِنْ مُسْتَنَدٍ وَإِلَّا كَانَتْ أَحْكَامُهُمْ بِمَحْضِ التَّشَهِّي وَالتَّحَكُّمِ فِي دِينِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَذَلِكَ الْمُسْتَنَدُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ نَصًّا، وَإِلَّا لَأَظْهَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ مِنَ النَّصِّ ; إِقَامَةً لِعُذْرِهِ وَرَدًّا لِغَيْرِهِ عَنِ الْخَطَأِ بِمُخَالَفَتِهِ عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ بَيْنَ النُّظَّارِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ عَلَى الْجَمْعِ الْكَثِيرِ كِتْمَانَ نَصٍّ دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ فِي وَاقِعَةٍ بِنَاءً عَلَى نَصٍّ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى عَدَمِ نَقْلِهِ بِنَاءً عَلَى الِاكْتِفَاءِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بِإِجْمَاعِهِمْ، وَلَوْ أَظْهَرُوا تِلْكَ النُّصُوصَ وَاحْتَجُّوا بِهَا ; لَكَانَتِ الْعَادَةُ تُحِيلُ عَدَمَ نَقْلِهَا، فَحَيْثُ لَمْ تُنْقَلْ دَلَّ عَلَى عَدَمِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَصًّا تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا وَاسْتِنْبَاطًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ عَمِلَ بِالْقِيَاسِ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي الْوَقَائِعِ الْمَذْكُورَةِ وَالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ، فَلَعَلَّهُمْ إِنَّمَا اسْتَنَدُوا فِيهِ إِلَى الِاجْتِهَادِ فِي دَلَالَاتِ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، كَحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَتَرْجِيحُ أَحَدِ النَّصَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالنَّظَرُ فِي تَقْرِيرِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَدَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ وَالْإِشَارَةُ وَالتَّنْبِيهُ وَالْإِيمَاءُ وَأَدِلَّةُ الْخِطَابِ وَتَحْقِيقُ الْمَنَاطِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الِاجْتِهَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَدِلَّةِ النَّصِّيَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 قَوْلُكُمْ: لَوْ كَانَ ثَمَّ نَصٌّ لَظَهَرَ، وَلَوْ كَانُوا قَائِسِينَ لِتِلْكَ الصُّوَرِ عَلَى غَيْرِهَا ; لَأَظْهَرُوا الْعِلَلَ الْجَامِعَةَ فِيهَا وَصَرَّحُوا بِهَا كَمَا فِي النُّصُوصِ، وَلَوْ أَظْهَرُوهَا وَاحْتَجُّوا بِهَا لَنُقِلَتْ أَيْضًا، فَعَدَمُ نَقْلِهَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قِيَاسٌ وَاسْتِنْبَاطٌ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَنَدُ إِنَّمَا هُوَ النَّصُّ وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنَ التَّصْرِيحِ وَمَعْنَاهُ بِالرَّأْيِ فِي الْوَقَائِعِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا، فَإِنَّ اجْتِهَادَ الرَّأْيِ أَعَمُّ مِنِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْأَعَمِّ وُجُودُ الْأَخَصِّ. سَلَّمْنَا أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِالْقِيَاسِ، غَيْرَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَمَلَ الْكُلِّ بِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ جَمَاعَةٍ يَسِيرَةٍ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ. قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ غَيْرِهِمْ نَكِيرٌ عَلَيْهِمْ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ. وَبَيَانُ وُجُودِ الْإِنْكَارِ (1) مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْكَلَالَةِ قَالَ: " أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي ". وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا ". وَقَالَ: " إِيَّاكُمْ وَالْمُكَايَلَةَ " فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: " الْمُقَايَسَةُ "، وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ كَتَبَ إِلَيَّ عُمَرُ: (اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِمَا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ فَاقْضِ بِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَلَا عَلَيْكَ أَنْ لَا تَقْضِيَ) . وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَنِينِ: (إِنِ اجْتَهَدُوا فَقَدْ أَخْطَئُوا وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدُوا فَقَدْ غَشُّوكَ) .   (1) انْظُرْ آثَارَ الْإِنْكَارِ وَالْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّامِنِ فِي إِبْطَالِ الْقِيَاسِ مِنْ كِتَابِ الْإِحْكَامِ لِابْنِ حَزْمٍ وَفِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ لِابْنِ الْقَيِّمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَالَا: (لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ ; لَكَانَ الْمَسْحُ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ) . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وَلَمْ يَقُلْ بِمَا رَأَيْتَ، وَلَوْ جُعِلَ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ بِرَأْيِهِ لَجُعِلَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَقَالَ: إِيَّاكُمْ وَالْمَقَايِيسَ، فَإِنَّمَا عُبِدَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِالْمَقَايِيسِ، وَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي دِينِهِ بِرَأْيِهِ) . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: (السُّنَّةُ مَا سَنَّهُ رَسُولِ اللَّهِ، لَا تَجْعَلُوا الرَّأْيَ سُنَّةً) ، وَقَالَ أَيْضًا: (إِنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ بِآرَائِهِمْ لَوْ نَزَلَ الْقُرْآنُ لَنَزَلَ بِخِلَافِ مَا يُفْتُونَ) ، وَقَالَ أَيْضًا: (اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ، فَإِنَّهُ مِنَّا تَكَلُّفٌ وَظَنٌّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: (إِذَا قُلْتُمْ فِي دِينِكُمْ بِالْقِيَاسِ أَحْلَلْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَحَرَّمْتُمْ كَثِيرًا مِمَّا حَلَّلَ اللَّهُ) ، وَقَالَ أَيْضًا: (قُرَّاؤُكُمْ صُلَحَاؤُكُمْ يَذْهَبُونَ، وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا يَقِيسُونَ مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا كَانَ) . وَقَالَتْ عَائِشَةُ: (أَخْبِرُوا زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ أُحْبِطَ جِهَادُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ بِفَتْوَاهُ بِالرَّأْيِ فِي مَسْأَلَةِ الْعِينَةِ) . وَقَدْ أَنْكَرَ التَّابِعُونَ ذَلِكَ أَيْضًا حَتَّى قَالَ الشَّعْبِيُّ: (مَا أَخْبَرُوكَ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَاقْبَلْهُ وَمَا أَخْبَرُوكَ عَنْ رَأْيِهِمْ فَأَلْقِهِ فِي الْحُشِّ) ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ: (لَا أَقِيسُ شَيْئًا بِشَيْءٍ أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا) ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَذُمُّ الْمَقَايِيسَ وَيَقُولُ: (أَوَّلُ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ) . وَمَعَ هَذِهِ الْإِنْكَارَاتِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنِ فَلَا إِجْمَاعَ. سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرِ النَّكِيرُ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُ الْبَاقِينَ عَنْ مُوَافَقَةٍ، لِمَا ذَكَرَ فِي الْإِجْمَاعِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُوَافَقَةٌ، لَكِنَّهُ لَا حُجَّةَ فِي إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. وَكَيْفَ يُقَالُ بِذَلِكَ، وَقَدْ عَدَلُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ وَنُهُوا عَنْهُ وَتَجَبَّرُوا وَتَآمَرُوا وَجَعَلُوا الْخِلَافَ طَرِيقًا إِلَى أَغْرَاضِهِمُ الْفَاسِدَةِ؟ حَتَّى جَرَى بَيْنَهُمْ مَا جَرَى مِنَ الْفِتَنِ وَالْحُرُوبِ وَتَأَلَّبُوا عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ، وَكَتَمُوا النَّصَّ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَصَبُوهُ الْخِلَافَةَ، وَمَنَعُوا فَاطِمَةَ إِرْثَهَا مِنْ أَبِيهَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرِوَايَةٍ انْفَرَدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ، وَعَدَلُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُحِيطِ بِجَمِيعِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَجُوزُ مَعَهَا الِاحْتِجَاجُ بِأَقْوَالِهِمْ، وَهَذَا السُّؤَالُ مِمَّا أَوْرَدَهُ الرَّافِضَةُ. سَلَّمْنَا أَنَّ قَوْلَ الْبَعْضِ بِالْقِيَاسِ وَسُكُوتَ الْبَاقِينَ حُجَّةٌ، لَكِنَّهَا حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْإِجْمَاعِ، وَكَوْنُ الْقِيَاسِ حُجَّةً أَمْرٌ قَدْ تَعَبَّدْنَا فِيهِ بِالْعِلْمِ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَفَادًا مِنَ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ. سَلَّمْنَا صِحَّةَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ بِالْقِيَاسِ الْمَنْصُوصَ عَلَى عِلَّتِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ كَمَا قَالَهُ النَّظَّامُ وَالْقَاشَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيُّ. سَلَّمْنَا عَمَلَهُمْ بِكُلِّ قِيَاسٍ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ إِذَا جَازَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ لِلصَّحَابَةِ جَازَ ذَلِكَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الْيَقِينِ وَالصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ وَمُشَاهَدَةِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ وَكَثْرَةِ التَّحَفُّظِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ، حَتَّى نُقِلَ عَنْهُمْ قَتْلُ الْأَبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَبَذْلُ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَمُهَاجَرَةُ الْأَهْلِ وَالْأَوْطَانِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ، حَتَّى وَرَدَ فِي حَقِّهِمْ مِنَ التَّفْضِيلِ وَالتَّعْظِيمِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا لَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْإِجْمَاعِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ عَمَلِهِمْ بِالْقِيَاسِ جَوَازُهُ لِغَيْرِهِمْ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ وَأَنَّا مُتَعَبِّدُونَ بِهِ لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وَالْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ قَوْلَيْهِمَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، وَالْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ قَوْلٌ بِمَا لَا يُعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، وَالْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ حُكْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} ، وَالْحُكْمُ بِالْقِيَاسِ لَا يَكُونُ حُكْمًا لِلَّهِ وَلَا مَرْدُودًا إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَى الْقِيَاسِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ فَمَا رَوَى عُمَرُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي فِرَقًا أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِالرَّأْيِ» " (1) وَأَيْضًا مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: " «تَعْمَلُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بُرْهَةً بِكِتَابِ اللَّهِ، وَبُرْهَةً بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَبُرْهَةً بِالرَّأْيِ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَلُّوا وَأَضَلُّوا» " (2) ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ وَالْعَمَلَ بِالرَّأْيِ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَالْجَوَابُ: قَوْلُهُمْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الصَّحَابَةِ عَمِلَ بِالْقِيَاسِ، قُلْنَا: دَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. قَوْلُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ بِدَلَالَاتِ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ. قُلْنَا: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَظَهَرَ الْمُسْتَنَدُ وَاشْتَهَرَ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ. قَوْلُهُمْ: وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِمَحْضِ الْقِيَاسِ لَأَظْهَرُوا الْعِلَلَ الْجَامِعَةَ وَصَرَّحُوا بِهَا كَمَا فِي النُّصُوصِ. قُلْنَا: مِنْهُمْ مَنْ صَرَّحَ كَتَصْرِيحِ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ فِي الْعَطَاءِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: " إِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ " وَتَصْرِيحِ عَلِيٍّ فِي قِيَاسِهِ حَدَّ شَارِبِ الْخَمْرِ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ بِوَاسِطَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي الِافْتِرَاءِ، وَتَصْرِيحِ عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي إِلْحَاقِهِمْ عُمَرَ فِي صُورَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَجْهَضَتِ الْجَنِينَ بِالْمُؤَدِّبِ بِوَاسِطَةِ التَّأْدِيبِ. وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَمَدَ فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا بِفَتْوَاهُ، وَجَرْيُ الْعَادَةِ بِفَهْمِ الْمُسْتَمِعِ وَجْهَ الْمَأْخَذِ وَالشَّبَهِ بَيْنَ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَمَحَلِّ الْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ مِنْ بَعْضِ   (1) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْبَزَارُ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. (2) رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَفِي سَنَدِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 الْمُلُوكِ بِقَتْلِ الْجَاسُوسِ إِذَا ظَفِرَ بِهِ ; زَجْرًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنِ التَّجَسُّسِ عَلَيْهِ، وَعَادَةُ الْبَعْضِ الْإِحْسَانُ إِلَيْهِ لِاسْتِمَالَتِهِ لَهُ حَتَّى يَدُلَّهُ عَلَى أَحْوَالِ عَدُوِّهِ، فَإِذَا رَأَيْنَا مَلِكًا قَدْ قَتَلَ جَاسُوسًا أَوْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ، وَلَمْ نَعْهَدْ مِنْ عَادَتِهِ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي التَّنْبِيهِ عَلَى رِعَايَةِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْلِ أَوِ الْإِحْسَانِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، وَلَا كَذَلِكَ النُّصُوصُ فَإِنَّ الْأَذْهَانَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِمَعْرِفَتِهَا، فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى التَّصْرِيحِ بِهَا. وَعَلَى هَذَا فَمَنْ قَالَ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ ": إِنَّهُ طَلَاقٌ ثَلَاثٌ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ التَّحْرِيمِ يَقْتَضِي نِهَايَةَ التَّحْرِيمِ، وَذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَلِذَلِكَ عَدَّى الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ إِلَيْهِ. وَمَنْ جَعَلَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهِ أَقَلَّ مَا يَثْبُتُ مَعَهُ التَّحْرِيمُ، فَلِذَلِكَ أَلْحَقَهُ بِالطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ ظِهَارًا أَلْحَقَهُ بِالظِّهَارِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ بِلَفْظٍ لَيْسَ هُوَ لَفْظَ الطَّلَاقِ، وَلَا لَفْظَ الْإِيلَاءِ. وَمَنْ شَرَّكَ بَيْنَ الْجَدِّ وَابْنِ الِابْنِ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْإِدْلَاءِ إِلَى الْمَيِّتِ فِي طَرَفَيِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ، وَلِهَذَا شَبَّهَهُمَا بِغُصْنَيْ شَجَرَةٍ وَجَدْوَلَيْ نَهْرٍ. وَمِنْ ذَلِكَ تَنْبِيهُ عُمَرَ فِي قِيَاسِهِ الْخُمُورَ عَلَى الشُّحُومِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ أَثْمَانِهَا تَحْرِيمُهَا. وَمِنْ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ فِي التَّشْرِيكِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الِاشْتِرَاكُ فِي جِهَةِ الْأُمُومَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّنْبِيهَاتِ. وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِبَعْضِ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ فِيمَا عَمِلُوا بِهِ بِالرَّأْيِ. قَوْلُهُمُ: اجْتِهَادُ الرَّأْيِ أَعَمُّ مِنَ الْقِيَاسِ. قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قِيلَ، غَيْرَ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إِلَى النُّصُوصِ، فَتَعَيَّنَ اسْتِنَادُهُ إِلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِنْبَاطِ (1) . قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ عَمَلَ الْكُلِّ بِالْقِيَاسِ.   (1) سَبَقَ تَعْلِيقًا مَا فِي ذَلِكَ ص 41 - 42 - 44 - ج4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 قُلْنَا: وَإِنْ عَمِلَ بِهِ الْبَعْضُ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْبَاقِينَ فِي ذَلِكَ نَكِيرٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. قَوْلُهُمْ: قَدْ وُجِدَ الْإِنْكَارُ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُوَرِ الْإِنْكَارِ فَهِيَ مَنْقُولَةٌ عَمَّنْ نَقَلْنَا عَنْهُمُ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ النَّقْلَيْنِ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَالْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَوْلَوِيَّةٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ حَمْلُ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ مِنْ إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ صَادِرًا عَنِ الْجُهَّالِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ، وَمَا كَانَ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ، وَمَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَشْهَدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ، وَمَا كَانَ عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا اسْتُعْمِلَ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا تَعَبَّدْنَا فِيهِ بِالْعِلْمِ دُونَ الظَّنِّ جَمْعًا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ، هَذَا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ: أَمَّا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: " أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إِذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي " فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُسْتَنِدًا إِلَى مَحْضِ السَّمْعِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلِ اللُّغَةِ بِخِلَافِ الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ: " إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ " الْخَبَرُ إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ ذَمَّ مَنْ تَرَكَ الْأَحَادِيثَ وَحَفِظَ مَا وَجَدَ مِنْهَا وَعَدَلَ إِلَى الرَّأْيِ مَعَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ النُّصُوصِ. وَقَوْلُهُ: (إِيَّاكُمْ وَالْمُكَايَلَةَ) أَيِ الْمُقَايَسَةَ، فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُقَايَسَةُ الْبَاطِلَةُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ (1) فَإِنَّمَا يُفِيدُ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْقِيَاسُ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَإِلَّا فَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ وَاجِدًا لَهُ ; فَلَا.   (1) قَوْلُهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - الصَّوَابُ قَوْلُهُ لِشُرَيْحٍ، وَنَصُّ الْأَثَرِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ يَسْأَلُهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنِ اقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاقْضِ بِمَا قَضَى الصَّالِحُونَ فَإِنْ شِئْتَ فَتَقَدَّمْ وَإِنْ شِئْتَ فَتَأَخَّرْ وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ وَالسَّلَامُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وَقَوْلُ عَلِيٍّ لِعُمَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَنِينِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ اجْتِهَادٍ خَطَأٌ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ الْخَطَأَ فِي بَعْضِ الِاجْتِهَادَاتِ كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ. وَأَمَّا قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ: " لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالْقِيَاسِ " الْخَبَرُ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُ الدِّينِ بِالْقِيَاسِ، لَكَانَ الْمَسْحُ عَلَى بَاطِنِ الْخُفِّ أَوْلَى مِنْ ظَاهِرِهِ، وَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا أَتَتْ بِهِ السُّنَنُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ " إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ " الْخَبَرُ، لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ بِالْقِيَاسِ إِلَّا بِمَفْهُومِهِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ. وَقَوْلُهُ: (إِيَّاكُمْ وَالْمَقَايِيسَ) يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَقَايِيسِ الْفَاسِدَةِ كَالْمَقَايِيسِ الَّتِي عُبِدَتْ بِهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَاهُ لِمَا سَلَفَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ: " إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي دِينِهِ بِرَأْيِهِ " يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الرَّأْيِ الْمُجَرَّدِ عَنِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ لِمَا سَبَقَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: " السُّنَّةُ مَا سَنَّهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِنَّمَا يَنْفَعُ أَنْ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ لَيْسَ مِمَّا سَنَّهُ الرَّسُولُ. وَقَوْلُهُ: " لَا تَجْعَلُوا الرَّأْيَ سُنَّةً " أَرَادَ بِهِ الرَّأْيَ الَّذِي لَا اعْتِبَارَ لَهُ، وَإِلَّا فَالرَّأْيُ الْمُعْتَبَرُ مِنَ السُّنَّةِ لَا يَكُونُ خَارِجًا عَنِ السُّنَّةِ. وَقَوْلُهُ: " إِنَّ قَوْمًا يُفْتُونَ بِآرَائِهِمُ " الْخَبَرُ، لَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْتَى بِرَأْيِهِ يَكُونُ كَذَلِكَ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ بَعْضَ الْآرَاءِ بَاطِلٌ. وَقَوْلُهُ: " اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ " غَايَتُهُ الدَّلَالَةُ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ فِيهِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِبْطَالِهِ. وَقَوْلُهُ: (وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) الْمُرَادُ بِهِ اسْتِعْمَالُ الظَّنِّ فِي مَوَاضِعِ الْيَقِينِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِبْطَالُ الظَّنِّ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الْعَمَلِ بِظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (1) . وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ: (إِذَا قُلْتُمْ فِي دِينِكُمْ بِالْقِيَاسِ. . .) الْخَبَرُ، يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ لِمَا سَبَقَ، وَقَوْلُهُ: " وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا " إِلَى آخِرِهِ فَالْمُرَادُ   (1) أَوِ الْمُرَادُ الظَّنُّ الْمَحْضُ الَّذِي لَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ دَلِيلٌ إِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ حَدْسٍ وَتَخْمِينٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 بِهِ أَيْضًا الْقِيَاسُ الْبَاطِلُ، وَلِهَذَا وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ جُهَّالًا. وَعَلَى ذَلِكَ يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِ عَائِشَةَ فِي حَقِّ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَابْنِ سِيرِينَ، جَمْعًا بَيْنَ النَّقْلَيْنِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السُّكُوتَ يَدُلُّ عَلَى الْمُوَافَقَةِ. قُلْنَا: دَلِيلُهُ مَا سَبَقَ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ. قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْفَوَادِحِ فِي الصَّحَابَةِ فَمِنْ أَقْوَالِ الْمُبْتَدِعَةِ الزَّائِغِينَ كَالنَّظَّامِ وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ الرَّافِضَةِ الضُّلَّالِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي كِتَابِ (أَبْكَارِ الْأَفْكَارِ) فِي الْمَوَاضِعِ اللَّائِقَةِ بِذَلِكَ (1) . قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ، قُلْنَا: وَالْمَسْأَلَةُ أَيْضًا عِنْدَنَا ظَنِّيَّةٌ. قَوْلُهُمْ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ بِالْأَقْيِسَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَى عِلَلِهَا؟ عَنْهُ أَجْوِبَةٌ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّ نَصٌّ لَنُقِلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً، فَإِنْ لَمْ يَرِدِ التَّعَبُّدُ بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ، فَيَمْتَنِعُ إِثْبَاتُهُ لِمَا يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا، وَإِنْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ فَالْحُكْمُ يَكُونُ فِي الْفَرْعِ ثَابِتًا بِالِاسْتِدْلَالِ، أَيْ بِعِلَّةٍ مَنْصُوصَةٍ لَا بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُونَ عَامِلِينَ بِالْقِيَاسِ. الثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْقِيَاسَ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَى النَّظَّامِ وَالْقَائِلِينَ بِقَوْلِهِ. قَوْلُهُمْ: لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ حُجَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ الصَّحَابَةِ. قُلْنَا: الْقَائِلُ قَائِلَانِ: قَائِلٌ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ مُطْلَقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ، وَقَائِلٌ بِنَفْيِهِ مُطْلَقًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُلِّ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى نَفْيِ التَّفْصِيلِ (2) ، كَيْفَ وَإِنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ بِنَفْيِهِ مُطْلَقًا.   (1) أَهَمُّ الْمَرَاجِعِ فِي دَفْعِ التُّهَمِ الَّتِي وَجَّهَهَا الرَّافِضَةُ إِلَى الصَّحَابَةِ كِتَابُ مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ لِابْنِ تَيْمِيَّةَ. (2) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُعَارَضَةِ أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَإِنَّمَا تُفِيدُ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْقِيَاسُ مِمَّا عُرِفَ التَّعَبُّدُ بِهِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَتَوَقَّفُ كَوْنُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ بِهِ غَيْرَ مُسْتَفَادٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ بِهِ تَقَدُّمًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فَجَوَابُهُمَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِذَا حَكَمْنَا بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ عِنْدَ ظَنِّنَا بِهِ، فَحُكْمُنَا بِهِ يَكُونُ مَعْلُومَ الْوُجُوبِ لَنَا بِالْإِجْمَاعِ لَا أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْقَوْلِ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ عَلَى مَا تَعَبَّدْنَا فِيهِ بِالْعِلْمِ جَمْعًا بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَتَيْنِ حُجَّةٌ عَلَى الْخُصُومِ فِي الْقَوْلِ بِإِبْطَالِ الْقِيَاسِ، إِذَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَهُمْ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ عِلْمِيَّةٍ، فَكَانَتْ مُشْتَرِكَةَ الدَّلَالَةِ. وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْأَجْوِبَةِ يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} ، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، فَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَإِنَّ مَنْ حَكَمَ بِمَا هُوَ مُسْتَنْبَطٌ مِنَ الْمَنْزِلِ فَقَدْ حَكَمَ بِالْمَنْزِلِ، كَيْفَ وَأَنَّ ذَلِكَ مَعَ الرَّسُولِ؟ وَلَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الرَّسُولِ لِإِمْكَانِ تَعَرُّفِهِ أَحْكَامَ الْوَقَائِعِ بِالْوَحْيِ امْتِنَاعُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ (1) . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، وَقَوْلُهُ: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} غَيْرُ مَانِعٍ مِنَ الْقِيَاسِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُسْتَنْبَطِ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ الرَّسُولِ حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ وَرَدٌّ إِلَيْهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِإِبْطَالِ الْقِيَاسِ، فَلَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ الرَّسُولِ وَلَا بِمَا اسْتُنْبِطَ مِنْهُمَا، فَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ،   (1) أَيْ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وَقَوْلُهُ: {وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} . فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّ الْكِتَابَ بَيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ إِمَّا بِدَلَائِلِ أَلْفَاظِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَإِمَّا بِوَاسِطَةِ الِاسْتِنْبَاطِ مِنْهُ أَوْ دَلَالَتِهِ عَلَى السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الدَّالَّيْنِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ، فَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ يَكُونُ عَمَلًا بِمَا بَيَّنَهُ الْكِتَابُ لَا أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ. كَيْفَ وَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّا نَعْلَمُ عَدَمَ اشْتِمَالِهِ عَلَى تَعْرِيفِ الْعُلُومِ الرِّيَاضِيَّةِ مِنَ الْهَنْدَسِيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ، بَلْ وَكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ (1) كَمَسَائِلِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَالْمُفَوَّضَةِ، وَمَسَائِلِ الْعَوْلِ وَنَحْوِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُبَيَّنَةِ بِهِ لَا تَفْرِيطَ فِيهَا ; حَذَرًا مِنْ مُخَالَفَةِ عُمُومِ اللَّفْظِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ السُّنَّةِ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الرَّأْيِ الْبَاطِلِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. [المسألة الثالثة نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ هَلْ يَكْفِي ذَلِكَ فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهَا إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إِذَا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ، هَلْ يَكْفِي ذَلِكَ فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ بِهَا إِلَى غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ دُونَ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ بِهَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ وَجَعْفَرُ بْنُ حَرْبٍ وَبَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ: لَا يَكْفِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالنَّظَّامُ وَالْقَاشَانِيُّ وَالنَّهْرَوَانِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْكَرْخِيُّ: يَكْفِي ذَلِكَ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهَا أَيْنَ وُجِدَتْ وَإِنْ لَمْ يُتَعَبَّدْ بِالْقِيَاسِ بِهَا. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ وَتَرْكِ الْفِعْلِ كَانَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا كَافِيًا فِي تَحْرِيمِ الْفِعْلِ بِهَا أَيْنَ وُجِدَتْ وَإِنْ كَانَتْ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْفِعْلِ أَوْ نَدْبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَافِيًا فِي إِيجَابِ الْفِعْلِ بِهَا وَلَا فِي نَدْبِهِ أَيْنَ وُجِدَتْ دُونَ وُرُودِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرِهِ لِفَقْرِهِ بِدِرْهَمٍ ; لَا يَجِبُ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ، وَمَنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنَ السُّكَّرِ لِأَنَّهُ حُلْوٌ   (1) الْقَوْلُ بِعَدَمِ تَعْرِيفِ الْقُرْآنِ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دَعْوَى يُنَازِعُ فِيهَا الْمُخَالِفُ وَمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ قَدْ رَدَّهَا الْمُخَالِفُ إِلَى النُّصُوصِ أَوِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّ سُكَّرٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ أَكْلَ رُمَّانَةٍ لِحُمُوضَتِهَا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ رُمَّانَةٍ حَامِضَةٍ. وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِأَنَّهُ مُسْكِرٌ وَلَمْ يُرِدِ التَّعَبُّدَ بِإِثْبَاتِ التَّحْرِيمِ بِالْمُسْكِرِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ، فَالْقَضَاءُ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ كَالنَّبِيذِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ اقْتَضَى بِعُمُومِهِ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ حَرَّمْتُ الْخَمْرَ ; لِأَنَّهُ مُسْكِرٌ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ كُلَّ مُسْكِرٍ كَمَا قَالَهُ النَّظَّامُ وَمَنْ قَالَ بِمَقَالَتِهِ، وَإِمَّا لِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ قِسْمٍ ثَالِثٍ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ قَوْلَهُ حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِإِسْكَارِهِ، لَا دَلَالَةَ لَهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ كَدَلَالَةِ قَوْلِهِ: حَرَّمْتُ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ عَبِيدِي السُّودَانِ عُتِقَ كُلُّ عَبْدٍ أَسْوَدَ لَهُ، وَلَوْ قَالَ: أَعْتَقْتُ سَالِمًا لِسَوَادِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتِقُ كُلَّ عَبْدٍ لَهُ أَسْوَدَ وَإِنْ كَانَ أَشَدَّ سَوَادًا مِنْ سَالِمٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ سَالِمًا لِسُوءِ خُلُقِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْعَبِيدِ بِالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ أَسْوَأَ خُلُقًا مِنْ سَالِمٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ وُجُودُ مَا نَصَّ عَلَى عِلِّيَّتِهِ كَافِيًا فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَيْنَمَا وُجِدَتِ الْعِلَّةُ دُونَ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ لَلَزِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَعْتَقْتُ سَالِمًا لِسَوَادِهِ عِتْقُ غَانِمٍ إِذَا كَانَ مُشَارِكًا لَهُ فِي السَّوَادِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ هُوَ عُمُومُ الْإِسْكَارِ، وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ خُصُوصُ إِسْكَارِ الْخَمْرِ لِمَا عَلِمَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا فِي غَيْرِ الْخَمْرِ. وَإِذَا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ فَالتَّعْدِيَةُ بِهِ تَكُونُ مُمْتَنِعَةً، إِلَّا أَنْ يَرِدَ التَّعَبُّدُ بِالتَّعْدِيَةِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ اللَّفْظَ لَا يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَقَوْلُهُ: أَعْتَقْتُ عَبْدِي سَالِمًا لِسَوَادِهِ دَالٌّ عَلَى عِتْقِ غَانِمٍ أَيْضًا إِذَا كَانَ أَسْوَدَ، وَلِهَذَا فَإِنَّ أَهْلَ اللِّسَانِ وَكُلَّ عَاقِلٍ يُنَاقِضُهُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ إِعْتَاقِهِ، وَيَقُولُ لَهُ فَغَانِمٌ أَيْضًا أَسْوَدُ، فَلِمَ خَصَّصْتَ سَالِمًا بِالْعِتْقِ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ لِوَكِيلِهِ: بِعْ سَالِمًا لِسَوَادِهِ. هَذَا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَفْهُومِ مِنَ اللَّفْظَةِ لُغَةً، وَحَيْثُ لَمْ يَقَعِ الْعِتْقُ بِغَيْرِ سَالِمٍ وَلَا جَازَ بَيْعُهُ شَرْعًا فَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةٌ، لَكِنَّهَا غَيْرُ صَرِيحَةٍ، فَالشَّارِعُ قَيَّدَ التَّصَرُّفَ فِي أَمْلَاكِ الْعَبِيدِ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ، نَظَرًا لَهُمْ فِي عَاقِبَةِ الْأَمْرِ لِجَوَازِ طُرُوِّ النَّدَمِ وَالْبَدَاءِ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الشَّارِعِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِإِسْكَارِهِ، وَقِيسُوا عَلَيْهِ كُلَّ مُسْكِرٍ لَزِمَ مِنْهُ تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَلَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ سَالِمًا لِسَوَادِهِ وَقِسْ عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِذَلِكَ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي اللَّفْظِ، وَلَكِنْ لَمَّا قُلْتُمْ إِنَّهُ يَمْتَنِعُ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَالْعُذْرُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْيِيدِ الشَّارِعِ التَّصَرُّفَ فِي أَمْلَاكِ الْعَبِيدِ بِصَرِيحِ الْقَوْلِ دُونَ غَيْرِهِ. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِسِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعُرْفَ شَاهِدٌ بِأَنَّ الْأَبَ إِذَا قَالَ لِوَلَدِهِ: لَا تَأْكُلْ هَذَا فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ، وَكُلْ هَذَا لِأَنَّهُ غِذَاءٌ نَافِعٌ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ أَكْلِ كُلِّ طَعَامٍ مَسْمُومٍ وَجَوَازُ أَكْلِ كُلِّ غِذَاءٍ نَافِعٍ، وَلَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِخُصُوصِ الْإِضَافَةِ تَأْثِيرٌ أَوِ احْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ دَاخِلَةً فِي التَّعْلِيلِ لَمَا تَبَادَرَ إِلَى الْفَهْمِ التَّعْمِيمُ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وَفْقِ التَّصَرُّفَاتِ الْعُرْفِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ مُنَاسِبَةً لِلْحُكْمِ حَتَّى تَخْرُجَ عَنِ التَّعَبُّدِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ فِي خُصُوصِ إِضَافَةِ الْإِسْكَارِ إِلَى الْخَمْرِ، بَلِ الْمُنَاسَبَةُ فِي كَوْنِهِ مُسْكِرًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْوَصْفُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ عِلَّةً بِعُمُومِهِ بِحَيْثُ يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، بَلِ الْعِلَّةُ خُصُوصُ إِضَافَةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ إِلَى مَحَلِّهِ، لَمْ يَكُنْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ اخْتِصَاصَ الْخَمْرِ بِوَصْفِ الْإِسْكَارِ مُلَازِمٌ لَهُ غَيْرُ مُفَارِقٍ فَكَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لَا غَيْرَ. الرَّابِعُ: أَنَّ أَخْذَ خُصُوصِ إِضَافَةِ الْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ عَلَى عِلِّيَّتِهِ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ فِي جَمِيعِ التَّعَالِيلِ ; وَلِهَذَا فَإِنَّ عُقَلَاءَ الْعَرَبِ مَا نَطَقُوا بِعِلَّةٍ إِلَّا وَطَرَدُوهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ الَّذِي أَضَافُوهَا إِلَيْهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُمْ إِذَا قَالُوا: اضْرِبْ هَذَا الْأَسْوَدَ لِكَوْنِهِ سَارِقًا، فَإِنَّهُمْ يُلْغُونَ خُصُوصَ إِضَافَةِ السَّرِقَةِ إِلَى الْأَسْوَدِ، حَتَّى إِنَّ السَّرِقَةَ لَوْ وُجِدَتْ مِنْ أَبْيَضَ كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِضَرْبِهِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ أَخْذُ خُصُوصِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى مَحَلِّهَا فِي التَّعْلِيلِ لَمَا صَحَّ قِيَاسٌ أَصْلًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. السَّادِسُ: أَنَّهُ إِذَا قَالَ الشَّارِعُ: حَرَّمْتُ التَّأْفِيفَ لِلْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنْهُ كُلُّ عَاقِلٍ تَحْرِيمَ ضَرْبِهِمَا لِمَا كَانَ الشَّارِعُ مُومِئًا إِلَى الْعِلَّةِ - وَهِيَ كَفُّ الْأَذَى عَنْهُمَا - فَإِذَا صَرَّحَ بِالْعِلَّةِ وَنَصَّ عَلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالتَّعْدِيَةِ، وَلَوْ كَانَ لِخُصُوصِ الْأَذَى بِالتَّأْفِيفِ مُدْخَلٌ فِي التَّعْلِيلِ، لَمَا فَهِمَ تَحْرِيمَ الضَّرْبِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى امْتِنَاعِ التَّعْدِيَةِ فِيمَا إِذَا قَالَ: حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِكَوْنِهَا مُسْكِرَةً، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ فِيمَا إِذَا قَالَ: عِلَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ الْإِسْكَارُ، حَيْثُ إِنَّهُ لَا إِضَافَةَ. وَالْجَوَابُ: (1) قَوْلُهُمْ: لِمَ قُلْتُمْ إِنَّ اللَّفْظَ بِعُمُومِهِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، قُلْنَا: (2) . قَوْلُهُمْ: إِنَّ قَوْلَهُ أَعْتَقْتُ سَالِمًا لِسَوَادِهِ مُقْتَضٍ بِلَفْظِهِ عِتْقَ غَيْرِهِ مِنَ الْعَبِيدِ السُّودَانِ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْعِتْقِ إِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ: أَعْتَقْتُ سَالِمًا، وَذَلِكَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ التَّعْلِيلِ، فَهُوَ عَوْدٌ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعُقَلَاءَ يُنَاقِضُونَهُ فِي ذَلِكَ بِغَانِمٍ. قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عُمُومِ لَفْظِ الْعِتْقِ لَهُمَا، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُمْ طَلَبًا لِفَائِدَةِ التَّخْصِيصِ لِسَالِمٍ بِالْعِتْقِ مَعَ ظَنِّهِمْ عُمُومَ الْعِلَّةِ الَّتِي عُلِّلَ بِهَا، وَإِذَا بَطَلَ الْقَوْلُ بِتَعْمِيمِ اللَّفْظِ، فَالْعِتْقُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا فِي غَانِمٍ لِعَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى عِتْقِهِ (3) لَا لِمَا ذَكَرُوهُ   (1) انْظُرِ الْوَجْهَ السَّادِسَ مِنْ مُعَارَضَاتِ مَنْ مَنَعَ الْقِيَاسَ ص 10 وَجَوَابُهُ ص 17 ج4. (2) لِمَا ذَكَرْنَاهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا تَمَاثُلَ بَيْنَ دَلَالَةِ الْجُمْلَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ اللُّغَةِ ; جُمْلَةِ حَرَّمْتُ كُلَّ مُسْكِرٍ وَجُمْلَةِ حَرَّمْتُ الْخَمْرَ لِإِسْكَارِهِ. (3) أَقُولُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ اللُّغَةِ انْتِفَاءُ عِتْقِ غَانِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يُسْتَفَادَ عِتْقُهُ مِنَ الْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ الْعِلَّةِ، وَإِذَنْ لَا بُدَّ فِي انْتِفَاءِ عِتْقِ غَانِمٍ مِنْ بُطْلَانِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ مِنْ جِهَةِ الْعِلَّةِ أَيْضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 كَيْفَ وَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَلْزَمَ مِنْهُ نَفْيُ الْعِتْقِ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِهِ فِي حَقِّ غَانِمٍ ; لِأَنَّهُ لَوْ دَلَّ اللَّفْظُ عَلَيْهِ لَكَانَ الْأَصْلُ اعْتِبَارَ لَفْظِهِ فِي مَدْلُولِهِ نَظَرًا إِلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْعَاقِلِ الَّتِي دَلَّ لَفْظُهُ عَلَيْهَا. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ: بِعْ سَالِمًا لِسَوَادِهِ، وَقِسْ عَلَيْهِ كُلَّ أَسْوَدَ مِنْ عَبِيدِي لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي غَيْرِ سَالِمٍ. لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: مَهْمَا ظَهَرَ لَكَ مِنْ إِرَادَتِي وَرِضَائِي بِشَيْءٍ بِالِاسْتِدْلَالِ دُونَ صَرِيحِ الْمَقَالِ فَافْعَلْهُ، فَلَهُ فِعْلُهُ. فَإِذَا قَالَ لَهُ: أَعْتِقْ سَالِمًا لِسَوَادِهِ، وَقِسْ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْعِلَّةَ السَّوَادُ الْجَامِعُ بَيْنَ سَالِمٍ وَغَانِمٍ وَأَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ ظَهَرَ لَهُ إِرَادَتُهُ لِعِتْقِ غَانِمٍ، فَكَانَ لَهُ عِتْقُهُ. قَوْلُهُمْ: لِمَ قُلْتُمْ بِامْتِنَاعِ الْحُكْمِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ؟ قُلْنَا: لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ، وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْعِلَّةِ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النَّصِّ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ ; حَذَرًا مِنَ التَّعَارُضِ فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ، أَنَّا إِنَّمَا قَضَيْنَا فِيمَا ذَكَرُوهُ بِالتَّعْمِيمِ نَظَرًا إِلَى حَالِ الْآبَاءِ مَعَ الْأَبْنَاءِ، وَأَنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ فِي حَقِّهِمْ بَيْنَ سُمٍّ وَسُمٍّ، وَغِذَاءٍ نَافِعٍ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْأَغْذِيَةِ النَّافِعَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا حَرَّمَ اللَّهُ شَيْئًا أَوْ أَوْجَبَهُ، فَإِنَّ الْعَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ مُطَّرِدَةٌ بِإِبَاحَةِ مِثْلِ مَا حَرَّمَ وَتَحْرِيمِ مِثْلِ مَا أَوْجَبَ، حَتَّى أَنَّهُ يُوجِبُ الصَّوْمَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَيُحَرِّمُهُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ، وَيُبِيحُ شُرْبَ الْخَمْرِ فِي زَمَانٍ وَيُحَرِّمُهُ فِي زَمَانٍ، وَيُوجِبُ الْغَسْلَ مِنْ بَوْلِ الصَّبِيَّةِ وَالرَّشَّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَيُوجِبُ الْغَسْلَ مِنَ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ وَالْمَذْيِ مَعَ اتِّحَادِ مَخْرَجِهِمَا، وَيُوجِبُ عَلَى الْحَائِضِ قَضَاءَ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَيُبِيحُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ الرَّقِيقَةِ الْحَسْنَاءِ دُونَ الْحُرَّةِ الْعَجُوزِ الشَّوْهَاءِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَعَلَى عَكْسِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ (1)   (1) دَعْوَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ وَجَمَعَتْ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، انْظُرْ جَوَابَ الْآمِدِيِّ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنْ مُعَارَضَاتِ مَانِعِيِ الْقِيَاسِ ص 17 ج4 وَمَا كَتَبَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي ذَلِكَ ص 52 ج2 مِنْ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ طُبِعَ، مَطْبَعَةُ دَارِ السَّعَادَةِ بِمِصْرَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 وَذَلِكَ لِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنِ اخْتِصَاصِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ بِمَصْلَحَةٍ مُقَارِنَةٍ لِزَمَانِهِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي مِثْلِهِ (1) ، إِذْ لَيْسَتِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ مِنَ الْأُمُورِ التَّابِعَةِ لِذَوَاتِ الْأَوْصَافِ وَطِبَاعِهَا حَتَّى تَكُونَ لَازِمَةً لَهَا، بَلْ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، هَذَا كُلُّهُ إِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصَالِحِ وَإِلَّا فَلِلَّهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمَ مَا يُرِيدُ (2) . وَعَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي: أَنَّ النَّظَرَ فِي التَّعْلِيلِ إِلَى مُنَاسَبَةِ الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ وَإِلْغَاءِ مَا بِهِ الِافْتِرَاقُ مِنَ الْخُصُوصِيَّةِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى وُجُوبِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَوْ لَا يَكُونَ مُوجِبًا لَهُ، فَإِنْ كَانَ مُوجِبًا فَهُوَ دَلِيلُ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْعِلَّةِ دُونَهُ لَا يَكُونُ كَافِيًا فِي تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلتَّعْدِيَةِ فَلَا أَثَرَ لِإِيرَادِهِ. وَعَنِ الْإِشْكَالِ الثَّالِثِ: بِأَنَّ فَائِدَةَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ أَنْ تُعْلَمَ حَتَّى يَكُونَ الْحُكْمُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، إِنْ كَانَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَسْرَعَ فِي الِانْقِيَادِ   (1) قَوْلُهُ: وَذَلِكَ لِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنِ اخْتِصَاصِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ بِمَصْلَحَةٍ مُقَارِنَةٍ لِزَمَانِهِ لَا وُجُودَ لَهَا فِي مِثْلِهِ، يَنْقُضُ دَعْوَاهُ مِنْ قَبْلُ - أَنَّ الْعَادَةَ الشَّرْعِيَّةَ مُطَّرِدَةٌ بِإِبَاحَةِ مِثْلِ مَا حَرَّمَ إِذِ اخْتِصَاصُ كُلٍّ بِمَصْلَحَةٍ عَلِمَهَا اللَّهُ ظَهَرَتْ لَنَا أَمْ لَا - يَجْعَلُهُ مُخَالِفًا لِلْآخَرِ فَيَحْكُمُ لَهُ بِغَيْرِ حُكْمِهِ، وَإِذَنْ لَيْسَ مِثْلَهُ لِاخْتِلَافِ مُقْتَضَى الْحُكْمِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَكَذَا الْمُخْتَلِفَاتُ قَدْ يُوجَدُ بَيْنَهُمَا مَعْنًى مُشْتَرِكٌ يَقْتَضِي وَحْدَتَهَا فِي حُكْمٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مِنْ جِهَاتٍ أُخْرَى. (2) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا الْكَلَامُ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ اللَّهِ لِلْمَصْلَحَةِ فِي فِعْلِهِ وَتَشْرِيعِهِ، وَكَوْنُهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُ لَا يَتَنَافَى مَعَ وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فَإِنَّهُ كَمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عُمُومُ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ وَلَا يُشَرِّعُ إِلَّا مَا هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، وَإِذَنْ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَشَاءُ إِلَّا مَا كَانَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَالْعَدَالَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 وَأَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ وَأَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ فِي مَحَلِّ التَّنْصِيصِ عِنْدَ انْتِفَائِهَا، وَلِمِثْلِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ يَكُونُ التَّنْصِيصُ عَلَى الْوَصْفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا لِلْحُكْمِ. وَعَنِ الْإِشْكَالِ الرَّابِعِ: مَا ذَكَرْنَاهُ فِي حَلِّ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ. وَعَنِ الْإِشْكَالِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِمْكَانِ أَخْذِ خُصُوصِ الْمَحَلِّ فِي التَّعْلِيلِ إِبْطَالُ الْقِيَاسِ لِجَوَازِ أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى إِبْطَالِ أَخْذِهِ فِي التَّعْلِيلِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، وَمَهْمَا لَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ فَالْقِيَاسُ يَكُونُ مُتَعَذِّرًا. وَعَنِ السَّادِسِ: أَنَّهُ إِنَّمَا فُهِمَ تَحْرِيمُ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ لَهُمَا، نَظَرًا إِلَى الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ إِنْشَاءِ الْكَلَامِ وَسِيَاقِهِ لِقَصْدِ إِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ وَدَفْعِ الْأَذَى عَنْهُمَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ اقْتِضَاءَ ذَلِكَ لِتَحْرِيمِ الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ لِتَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ، وَلِذَلِكَ كَانَ سَابِقًا إِلَى الْفَهْمِ مِنْ تَحْرِيمِ التَّأْفِيفِ وَالتَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُسْتَفَادًا مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ بِمَجْرَدِهِ، فَلَا. وَعَنِ الْإِشْكَالِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ مَهْمَا قَالَ جَعَلْتُ شُرْبَ الْمُسْكِرِ عِلَّةً لِلتَّحْرِيمِ ; فَالْحُكْمُ يَكُونُ ثَابِتًا فِي كُلِّ صُورَةٍ وُجِدَ فِيهَا شُرْبُ الْمُسْكِرِ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِجِهَةِ الْعُمُومِ حَتَّى فِي الْخَمْرِ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ لَا مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ قِيَاسُ بَعْضِ الْمُسْكِرِ هَاهُنَا عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى لِتَسَاوِي نِسْبَةِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ إِلَى الْكُلِّ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا مَعْنَى لِمَا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ مِنَ التَّفْصِيلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ وَلَا بُعْدَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِشِدَّةِ الْخَمْرِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ، وَلِعِلْمِ اللَّهِ بِاخْتِصَاصِهِ بِالْحِكْمَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى التَّحْرِيمِ وَأَنْ يَشْرِكَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ فِي إِيجَابِ الْفِعْلِ أَوْ تَرْكِهِ أَوْ نَدْبِهِ لِعِلْمِهِ بِاشْتِرَاكِهَا فِي الْحِكْمَةِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ. وَأَمَّا مَنْ أَكَلَ سُكَّرًا فَلَمْ يَأْكُلْهُ لِمُجَرَّدِ حَلَاوَتِهِ بَلْ لِحَلَاوَتِهِ وَصِدْقِ شَهْوَتِهِ عِنْدَ فَرَاغِ مَعِدَتِهِ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّهْوَةُ بِالْأَكْلِ وَامْتَلَأَتِ الْمَعِدَةُ وَتَبَدَّلَتِ الْحَالَةُ الْأُولَى إِلَى مُقَابِلِهَا ; امْتَنَعَ لُزُومُ الْأَكْلِ لِكُلِّ سُكَّرٍ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَتَبَدَّلِ الْحَالُ لَعَمَّ ذَلِكَ كُلَّ سُكَّرٍ وَحُلْوٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 [المسألة الرابعة إِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَأَكْثَرِ النَّاسِ جَوَازُ إِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِالْقِيَاسِ خِلَافًا لِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا النَّصُّ: فَتَقْرِيرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ فِي قَوْلِهِ: " «أَجْتَهِدُ رَأْيِي» " (1) مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ، وَإِلَّا لَوَجَبَ التَّفْصِيلُ لِأَنَّهُ فِي مَظِنَّةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اشْتَوَرُوا فِي حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ( «إِنَّهُ إِذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ; فَحُدُّوهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي» ) (2) قَاسَهُ عَلَى حَدِّ الْمُفْتَرِي، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نَكِيرٌ، فَكَانَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهُ مُغَلِّبٌ عَلَى الظَّنِّ، فَجَازَ إِثْبَاتُ الْحَدِّ وَالْكَفَّارَةِ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» "، وَقِيَاسًا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ (3) فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الدَّلَائِلِ ظَنِّيَّةً، وَالْمَسْأَلَةُ أُصُولِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، فَلَا يَسُوغُ التَّمَسُّكُ بِالظَّنِّ فِيهَا. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُدُودَ وَالْكَفَّارَاتِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُقَدَّرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَعَقُّلُ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِتَقْدِيرِهَا، وَالْقِيَاسُ فَرْعُ تَعَقُّلِ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ، فَمَا لَا تَعَقُّلَ لَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ عِلَّةٌ ; فَالْقِيَاسُ فِيهِ مُتَعَذِّرٌ كَمَا فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَأَنْصِبَةِ الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْحُدُودَ عُقُوبَاتٌ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتٌ فِيهَا شَائِبَةُ الْعُقُوبَةِ، وَالْقِيَاسُ   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص 32 ج4. (2) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 287 ج3. (3) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 80 - 117 ج2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 مِمَّا يَدْخُلُهُ احْتِمَالُ الْخَطَأِ، وَذَلِكَ شُبْهَةٌ وَالْعُقُوبَاتُ مِمَّا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» " (1) . الثَّالِثُ: أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَوْجَبَ حَدَّ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَلَمْ يُوجِبْهُ بِمُكَاتَبَةِ الْكُفَّارِ مَعَ أَنَّهُ أَوْلَى بِالْقَطْعِ وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالظِّهَارِ لِكَوْنِهِ مُنْكَرًا وَزُورًا وَلَمْ يُوجِبْهَا فِي الرِّدَّةِ مَعَ أَنَّهَا أَشَدُّ فِي الْمُنْكَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ، فَحَيْثُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ أَوْلَى دَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِيهِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَدَّى مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ إِنَّمَا هُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وُجُوبٌ، وَذَلِكَ مَعْقُولٌ بِمَا عُلِمَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ لَا أَنَّهُ مَجْهُولٌ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: لَا نُسَلِّمُ احْتِمَالَ الْخَطَأِ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِنَا إِنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَإِنْ سَلَّمْنَا احْتِمَالَ الْخَطَأِ فِيهِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ شُبْهَةً مَعَ ظُهُورِ الظَّنِّ الْغَالِبِ بِدَلِيلِ جَوَازِ إِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فِيهِ لِمَا كَانَ الظَّنُّ فِيهِ غَالِبًا. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ غَايَةَ مَا يُقَدَّرُ أَنَّ الشَّارِعَ قَدْ مُنِعَ مِنْ إِجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِي بَعْضِ صُوَرِ وُجُوبِ الْحَدِّ وَالْكَفَّارَةِ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مُطْلَقًا، بَلْ يَجِبُ اعْتِقَادُ اخْتِصَاصِ تِلْكَ الصُّوَرِ بِمَعْنًى لَا وُجُودَ لَهُ فِي غَيْرِهَا ; تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ.   (1) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَفِي سَنَدِهِ الْمُخْتَارُ بْنُ نَافِعٍ التَّمَّارُ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ: ادْفَعُوا الْحُدُودَ مَا وَجَدْتُمْ لَهَا مَدْفَعًا، وَفِي سَنَدِهِ يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ أَوِ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقُرَشِيُّ الدِّمَشْقِيُّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ضَعِيفٌ فِي الْحَدِيثِ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَبِالْجُمْلَةِ قَدْ رُوِيَ الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ مَرْفُوعًا كُلٌّ مِنْهَا فِيهِ مَطْعَنٌ وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الصَّحَابَةِ، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ انْظُرْ نَصْبَ الرَّايَةِ وَتَلْخِيصَ الْحَبِيرِ وَمَعَ ذَلِكَ يَشْهَدُ لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ الْبَرَاءَةُ حَتَّى يَثْبُتَ النَّاقِلُ عَنْهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 الثَّانِي الْفَرْقُ، وَذَلِكَ إِمَّا بَيْنَ السَّرِقَةِ، وَمُكَاتَبَةِ الْكُفَّارِ ; فَلِأَنَّ دَاعِيَةَ الْأَرَاذِلِ وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ مُتَحَقِّقَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا، فَلَوْلَا شَرْعُ الْقَطْعِ لَكَانَتْ مَفْسَدَةُ السَّرِقَةِ مِمَّا تَقَعُ غَالِبًا، وَلَا كَذَلِكَ فِي مُكَاتَبَةِ الْكُفَّارِ. وَإِمَّا بَيْنَ الظِّهَارِ وَالرِّدَّةِ فَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى شَرْعِ الْكَفَّارَةِ فِي الرِّدَّةِ دُونَ الْحَاجَةِ إِلَى شَرْعِهَا فِي الظِّهَارِ، وَذَلِكَ لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى الرِّدَّةِ مِنْ شَرْعِ الْقَتْلِ الْوَازِعِ عَنْهَا بِخِلَافِ الظِّهَارِ، وَرُبَّمَا أَوْرَدَ الْأَصْحَابُ مُنَاقَضَةً عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْقِيَاسِ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُجَامِعِ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ عَلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَهُمْ فِي حَقِّ الْمُجَامِعِ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ مُومَأٌ إِلَيْهَا فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ، وَهِيَ عُمُومُ الْإِفْسَادِ، فَالْحُكْمُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ يَكُونُ ثَابِتًا بِالِاسْتِدْلَالِ أَيْ بِعِلَّةٍ مُومَأٍ إِلَيْهَا لَا بِالْقِيَاسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، إِذْ هُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ لِضَرُورَةِ اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ، وَالْعِلَّةُ إِذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً أَوْ مُومَأً إِلَيْهَا، فَقَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا بِالنَّصِّ لَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَمَهْمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ غَيْرَ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ فِي اعْتِبَارِ الْعِلَّةِ لِاسْتِقْلَالِ النَّصِّ بِاعْتِبَارِهَا، فَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ بِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ لَا نَظَرَ إِلَيْهِ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّ النَّصَّ قَدْ دَلَّ فِي الْوِقَاعِ عَلَى الْحُكْمِ وَعَلَى الْعِلَّةِ، فَالْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ إِذَا كَانَ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ لَا يَكُونُ حُكْمًا بِالْقِيَاسِ وَلَا بِالنَّصِّ ; لِعَدَمِ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَيْهِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى الْعِلَّةِ، وَلَا إِجْمَاعَ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَمَا كَانَ ثَابِتًا لَا بِنَصٍّ وَلَا إِجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ، فَالَّذِي ثَبَتَ بِهِ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاسْتِدْلَالِ (1) .   (1) انْظُرِ الْأَصْلَ السَّادِسَ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ وَأَنْوَاعِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 [المسألة الخامسة جَوَازِ إِجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى جَوَازِ إِجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ (1) وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَصُورَتُهُ إِثْبَاتُ كَوْنِ اللِّوَاطِ سَبَبًا لِلْحَدِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الزِّنَا. وَدَلِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْحِكْمَةَ " وَهِيَ كَوْنُهُ إِيلَاجَ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى طَبْعًا " الَّتِي يَكُونُ الْوَصْفُ سَبَبًا بِهَا، وَهِيَ الْحِكْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا يَكُونُ الْحُكْمُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْوَصْفِ ثَابِتًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَقِيَاسُ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فِي حُكْمِ السَّبَبِيَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي حِكْمَةِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِيَّةِ. وَتِلْكَ الْحِكْمَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا ظَاهِرَةً جَلِيَّةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْحِكْمَةَ إِذَا كَانَتْ مُنْضَبِطَةً بِنَفْسِهَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِهَا أَوْ لَا يَصِحُّ؟ إِذِ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ وَاقِعٌ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ كَانَتْ مُسْتَقِلَّةً بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْحَدُّ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْوَصْفِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْوَصْفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدِ امْتَنَعَ التَّعْلِيلُ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَتْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ فَذَلِكَ الضَّابِطُ لَهَا هُوَ السَّبَبُ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى النَّظَرِ إِلَى خُصُوصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَهُمَا الزِّنَا وَاللِّوَاطُ هُنَا الْمَقْضِيُّ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْأَصَالَةِ وَالْآخَرِ بِالْفَرْعِيَّةِ. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَضْبُوطَةً بِضَابِطٍ، فَالْجَمْعُ بِهَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا إِجْمَاعًا لِاحْتِمَالِ التَّفَاوُتِ فِيهَا بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصُّوَرِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْحِكْمَةَ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ كَوْنِ الْحِكْمَةِ إِذَا كَانَتْ خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بِهَا ; لِاحْتِمَالِ التَّفَاوُتِ فِيهَا.   (1) هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْحَنَفِيُّ الْقَاضِي الدَّبُوسِيُّ نِسْبَةً إِلَى دَبُوسِيَّةَ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى صَفْدِ سَمَرْقَنْدَ مَاتَ بِبُخَارَى عَامَ 403 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 قُلْنَا: احْتِمَالُ التَّفَاوُتِ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا، غَيْرَ أَنَّ احْتِمَالَ التَّسَاوِي رَاجِحٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ الَّتِي فِي الْفَرْعِ مُسَاوِيَةً لِمَا فِي الْأَصْلِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ رَاجِحَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَرْجُوحَةً. وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَالْمُسَاوَاةُ حَاصِلَةٌ، وَزِيَادَةٌ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَرْجُوحَةً عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّالِثِ، وَهُوَ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالٍ مِنِ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ وُقُوعًا مِنِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ الْجَمْعُ أَوْلَى، ثُمَّ كَيْفَ وَقَدْ جَعَلْتُمُ الْقَتْلَ بِالْمُثْقَلِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ، وَجَعَلْتُمُ اللِّوَاطَ سَبَبًا لِلْحَدِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى الزِّنَا، وَجَعَلْتُمُ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى نِيَّةِ التَّيَمُّمِ؟ (1) . وَالْجَوَابُ: أَمَّا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ دَلِيلِ ظُهُورِ التَّسَاوِي فِي الْحِكْمَةِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي الْجَمْعِ أَوْ لَا يَكُونُ كَافِيًا، فَإِنْ كَانَ كَافِيًا فَلْيَجْمَعْ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَى السَّبَبِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْجَمْعِ بِالسَّبَبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَافِيًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْإِلْزَامَاتِ، فَلَا وَجْهَ لَهَا. أَمَّا قِيَاسُ الْقَتْلِ بِالثِّقَلِ عَلَى الْمُحَدَّدِ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي السَّبَبِيَّةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي إِيجَابِ الْقِصَاصِ بِجَامِعِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَهُوَ السَّبَبُ لَا غَيْرُ. وَأَمَّا قِيَاسُ اللِّوَاطِ عَلَى الزِّنَا، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِجَامِعِ إِيلَاجِ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٍ شَرْعًا ; وَذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ خُصُوصِيَّةِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ. وَأَمَّا قِيَاسُ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي اعْتِبَارِ النِّيَّةِ بِجَامِعِ الطَّهَارَةِ الْمَقْصُودَةِ لِلصَّلَاةِ، وَذَلِكَ هُوَ السَّبَبُ لَا أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الِاشْتِرَاطِ. وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ كُلُّ مَا يَرِدُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.   (1) هَذَا مِثَالٌ لِإِثْبَاتِ الشُّرُوطِ بِالْقِيَاسِ، وَصُورَتُهُ قِيَاسُ الْوُضُوءِ عَلَى التَّيَمُّمِ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ لِلصِّحَّةِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا طَهَارَةٌ تُرَادُ لِلصَّلَاةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 [المسألة السادسة إِجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ إِجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَأَثْبَتَهُ بَعْضُ الشُّذُوذِ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلِهَذَا تَدْخُلُ جَمِيعُهَا تَحْتَ حَدٍّ وَاحِدٍ، وَهُوَ حَدُّ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَتَشْتَرِكُ فِيهِ، وَقَدْ جَازَ عَلَى بَعْضِهَا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ، وَمَا جَازَ عَلَى بَعْضِ الْمُتَمَاثِلَاتِ كَانَ جَائِزًا عَلَى الْبَاقِي، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَذَلِكَ أَنَّهُ وَإِنْ دَخَلَتْ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ تَحْتَ حَدِّ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَكَانَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ جِنْسًا لَهَا غَيْرَ أَنَّهَا مُتَنَوِّعَةٌ وَمُتَمَايِزَةٌ بِأُمُورٍ مُوجِبَةٍ لِتَنَوُّعِهَا. وَعَلَى هَذَا فَلَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ مَا جَازَ عَلَى بَعْضِهَا وَثَبَتَ لَهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهُ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِيَّتِهِ وَتَعَيُّنِهِ، لَا بِاعْتِبَارِ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ وَهُوَ عَامٌّ لَهَا. كَيْفَ وَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْتَنِعُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا امْتِنَاعَ إِجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الشَّارِعِ عَلَى الْوَصْفِ بِكَوْنِهِ سَبَبًا وَشَرْطًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ إِلَى أَمْرٍ مُمْتَنِعٍ، فَكَانَ مُمْتَنِعًا. وَبَيَانُ لُزُومِ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ قِيَاسٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَصْلٍ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ - عَلَى مَا عُلِمَ - فَلَوْ كَانَ كُلُّ حُكْمٍ يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ لَكَانَ حُكْمُ أَصْلِ الْقِيَاسِ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ أَصْلِ أَصْلِهِ، فَإِنْ تَسَلْسَلَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ امْتَنَعَ وُجُودُ قِيَاسٍ مَا لِتَوَقُّفِهِ عَلَى أُصُولٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَإِنِ انْتَهَى إِلَى أَصْلٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ، فَهُوَ خِلَافُ الْفَرْضِ (1) . الثَّالِثُ: أَنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا ثَبَتَ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى كَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَنَحْوِهِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِجْرَاءُ الْقِيَاسِ فِيهِ مُتَعَذِّرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فَرْعُ تَعَقُّلِ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَتَعْدِيَتِهَا إِلَى الْفَرْعِ فَمَا لَا يُعْقَلُ لَهُ عِلَّةٌ فَإِثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا.   (1) انْظُرِ الْمُعَارَضَةَ الثَّامِنَةَ مِنْ مُعَارَضَاتِ مَانِعِي الْقِيَاسِ ص 11 وَجَوَابَهَا ص 18 ج4، وَانْظُرْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي ص708 - 709 الْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْمُعْتَمِدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 خَاتِمَةٌ لِهَذَا الْبَابِ الْقِيَاسُ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ. وَالْوَاجِبُ مِنْهُ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى بَعْضِ الْأَعْيَانِ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ فِيهَا مَقَامَهُ مَعَ ضِيقِ الْوَقْتِ. وَإِلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي تَعْرِيفِ حُكْمِ مَا حَدَثَ مِنَ الْوَاقِعَةِ بِالْقِيَاسِ. وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِيمَا يَجُوزُ حُدُوثُهُ مِنَ الْوَقَائِعِ وَلَمْ يَحْدُثْ بَعْدُ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَنْدُبُ إِلَيْهِ لِيَكُونَ حُكْمُهُ مُعَدًّا لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَهَلْ يُوصَفُ الْقِيَاسُ بِكَوْنِهِ دِينًا لِلَّهِ تَعَالَى؟ فَذَلِكَ مِمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ مُطْلَقًا، وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو الْهُذَيْلِ، وَفَصَلَ الْجُبَّائِيُّ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ مِنْهُ، فَوَصَفَ الْوَاجِبَ بِذَلِكَ دُونَ الْمَنْدُوبِ. وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عُنِيَ بِالدِّينِ مَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمَقْصُودَةِ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ كَوُجُوبِ الْفِعْلِ وَحُرْمَتِهِ وَنَحْوِهِ، فَالْقِيَاسُ وَاعْتِبَارُهُ لَيْسَ بِدِينٍ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ. وَإِنْ عُنِيَ بِالدِّينِ مَا تَعَبَّدْنَا بِهِ كَانَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا أَوْ تَابِعًا، فَالْقِيَاسُ مِنَ الدِّينِ لِأَنَّا مُتَعَبِّدُونَ بِهِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ لَفْظِيَّةٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 [الْبَابُ الخامس فِي الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَجِهَاتِ الِانْفِصَالِ عَنْهَا] الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَجِهَاتِ الِانْفِصَالِ عَنْهَا (1) . [الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ الِاسْتِفْسَارُ] أَمَّا الِاعْتِرَاضَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ فَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ اعْتِرَاضًا. الِاعْتِرَاضُ الْأَوَّلُ: الِاسْتِفْسَارُ وَهُوَ طَلَبُ شَرْحِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ مَحَامِلَ عَلَى السَّوِيَّةِ، أَوْ غَرِيبًا لَا يَعْرِفُهُ السَّامِعُ الْمُخَاطَبُ، فَعَلَى السَّائِلِ (2) بَيَانُ كَوْنِهِ مُجْمَلًا أَوْ غَرِيبًا ; لِأَنَّ الِاسْتِفْسَارَ عَنِ الْوَاضِحِ عِنَادٌ أَوْ جَهْلٌ. وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: (3) مَا ثَبَتَ فِيهِ الِاسْتِبْهَامُ صَحَّ عَنْهُ الِاسْتِفْهَامُ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ أَوَّلًا وَمَا سِوَاهُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ لِكَوْنِهِ فَرْعًا عَلَى فَهْمِ مَعْنَى اللَّفْظِ، وَصِيَغُهُ مُتَعَدِّدَةٌ:   (1) ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ خَاتِمَةً لِلْبَابِ الرَّابِعِ مِنْ أَبْوَابِ الْقِيَاسِ بَيَّنَ فِيهَا مَا يُفْسِدُ الْعِلَّةَ قَطْعًا وَمَا يُفْسِدُهَا ظَنًّا وَاجْتِهَادًا، ثُمَّ قَالَ هَذِهِ الْمُفْسِدَاتُ، وَوَرَاءُ هَذَا اعْتِرَاضَاتٌ مِثْلُ الْمَنْعِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْكَسْرِ وَالْفَرْقِ وَالْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ وَالتَّرْكِيبِ وَالتَّعْدِيَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ تَصْوِيبُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ قَدِ انْطَوَى تَحْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَنْدَرِجْ تَحْتَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَهُوَ نَظَرٌ جَدَلِيٌّ يَتْبَعُ شَرِيعَةَ الْجَدَلِ الَّتِي وَضَعَهَا الْجَدَلِيُّونَ بِاصْطِلَاحِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا فَائِدَةٌ دِينِيَّةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ نُشِحَّ عَلَى الْأَوْقَاتِ أَنْ نُضَيِّعَهَا بِهَا وَبِتَفْصِيلِهَا، وَإِنَّ تَعَلَّقَ بِهَا فَائِدَةٌ مِنْ ضَمِّ نَشْرِ الْكَلَامِ وَرَدِّ كَلَامِ الْمُنَاظِرِينَ إِلَى مَجْرَى الْخِصَامِ كَيْلَا يَذْهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ عَرْضًا وَطُولًا فِي كَلَامِهِ مُنْحَرِفًا عَنْ مَقْصِدِ نَظَرِهِ فَهِيَ لَيْسَتْ فَائِدَةً مِنْ جِنْسِ أُصُولِ الْفِقْهِ بَلْ هِيَ مِنْ عِلْمِ الْجَدَلِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُفْرَدَ بِالنَّظَرِ وَلَا تُمْزَجَ بِالْأُصُولِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا تَذْلِيلُ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ لِلْمُجْتَهِدِينَ. (2) اصْطَلَحَ عُلَمَاءُ الْجَدَلِ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ عَلَى الدَّلِيلِ يُسَمَّى سَائِلًا وَأَنَّ الْمُنْتَصِبَ لِإِثْبَاتِ الدَّعْوَى بِالدَّلِيلِ يُسَمَّى مُسْتَدِلًّا. (3) هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ الْمَالِكِيُّ الْأَشْعَرِيُّ مَاتَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَامَ 403 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 فَمِنْهَا (الْهَمْزَةُ) كَقَوْلِهِ: " أَعِنْدَكَ زِيدٌ " وَهِيَ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِفْسَارِ إِذْ لَا تَرِدُ لِغَيْرِهِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَسْئِلَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَرِدُ لِغَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ. فَمِنْ ذَلِكَ (هَلْ) وَهِيَ تَلِي الْهَمْزَةَ فِي الرُّتْبَةِ إِذْ هِيَ أَصْلٌ فِي الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِكَ " هَلْ زِيدٌ مَوْجُودٌ؟ " وَلَكِنَّهَا قَدْ تَرِدُ نَادِرًا لِلتَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ، وَالْمُرَادُ بِهِ: قَدْ أَتَى. وَمِنْ ذَلِكَ (مَا) فَإِنَّهَا قَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِكَ " مَا عِنْدَكَ؟ " وَلَكِنَّهَا قَدْ تَرِدُ لِلنَّفْيِ، كَقَوْلِكَ " مَا رَأَيْتُ أَحَدًا " وَلِلتَّعَجُّبِ كَقَوْلِكَ " مَا أَحْسَنَ زَيْدًا! " إِلَى مَعَانٍ أُخَرَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً فِي الرُّتْبَةِ عَنْ (هَلْ) . وَمِنْ ذَلِكَ (مَنْ) وَهِيَ قَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ كَقَوْلِكَ " مَنْ عِنْدَكَ؟ " وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» " (1) ، وَقَدْ تَرِدُ بِمَعْنَى الْخَبَرِ كَقَوْلِكَ " جَاءَنِي مَنْ أُحِبُّهُ " وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ يَعْقِلُ دُونَ مَا لَا يَعْقِلُ، وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ فِي الرُّتْبَةِ عَنْ (مَا) لِأَنَّ (مَا) قَدْ تَرِدُ لِمَا لَا يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} أَيْ وَمَنْ بَنَاهَا 8 (2) . . وَمِنْ ذَلِكَ (أَيْنَ) وَهِيَ سُؤَالٌ عَنِ الْمَكَانِ، وَ (مَتَى) عَنِ الزَّمَانِ، وَ (كَيْفَ) عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَ (كَمْ) عَنِ الْكَمِّيَّةِ، وَ (أَيْ) عَنِ التَّمْيِيزِ، وَالْهَمْزَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي السُّؤَالِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الِاسْتِفْسَارِ كَوْنُ اللَّفْظِ مُجْمَلًا أَوْ غَرِيبًا، فَيَجِبُ عَلَى السَّائِلِ بَيَانُ ذَلِكَ لِصِحَّةِ سُؤَالِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا خَفَاءَ بِأَنَّ ظُهُورَ الدَّلِيلِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الدَّلِيلِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ الظُّهُورُ أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنِ اللَّفْظُ مُجْمَلًا، فَنَفْيُ الْإِجْمَالِ إِذًا شَرْطٌ فِي الدَّلِيلِ، وَبَيَانُ شَرْطِ الدَّلِيلِ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ لَا عَلَى الْمُعْتَرِضِ، قُلْنَا: ظُهُورُ الدَّلِيلِ وَإِنْ كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى نَفْيِ الْإِجْمَالِ، غَيْرَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْإِجْمَالِ.   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي بَابِ فَتْحِ مَكَّةَ. (2) انْظُرْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ لِابْنِ الْقَيِّمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 وَسُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ يَسْتَدْعِي الْإِجْمَالَ الْمُخَالِفَ لِلْأَصْلِ، فَكَانَ بَيَانُهُ عَلَى الْمُسْتَفْهِمِ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى الْإِجْمَالِ بِجِهَةِ الِاشْتِرَاكِ أَوِ الْغَرَابَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنْهُ شَيْئًا فِيمَا كَانَ ظَاهِرًا مَشْهُورًا فِي أَلْسِنَةِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ لِانْتِسَابِهِ إِلَى الْعِنَادِ لِعَدَمِ خَفَائِهِ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ، لَكِنْ إِنْ بَيَّنَ الْإِجْمَالَ بِجِهَةِ الْغَرَابَةِ بِطَرِيقَةٍ أَوْ بِجِهَةِ الِاشْتِرَاكِ بِسَبَبِ تَرَدُّدِهِ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ (1) . كَفَاهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى بَيَانِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّرْجِيحِ وَلِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى بَيَانِ التَّسْوِيَةِ، وَقُدْرَةِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى التَّرْجِيحِ. وَطَرِيقُ الْمُسْتَدِلِّ فِي جَوَابِ دَفْعِ الْإِجْمَالِ بِجِهَةِ الْغَرَابَةِ (2) . التَّفْسِيرُ إِنْ عَجَزَ عَنْ إِبْطَالِ غَرَابَتِهِ. وَفِي جَوَابِ دَفْعِ الْإِجْمَالِ بِجِهَةِ الِاشْتِرَاكِ مَنْعُ تَعَدُّدِ مَحَامِلِ اللَّفْظِ إِنْ أَمْكَنَ أَوْ بَيَانُ الظُّهُورِ فِي أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَلَهُ فِيهِ طَرِيقٌ تَفْصِيلِيٌّ بِالنَّقْلِ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ أَوِ الشَّرْعِ أَوْ بِبَيَانِ أَنَّهُ مَشْهُورٌ فِيهِ، وَالشُّهْرَةِ دَلِيلُ الظُّهُورِ وَالْحَقِيقَةِ غَالِبًا. وَطَرِيقٌ إِجْمَالِيٌّ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: الْإِجْمَالُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ لِإِخْلَالِهِ بِالتَّفَاهُمِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ظُهُورِهِ فِي أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ نَفْيًا لِلْإِجْمَالِ عَنِ الْكَلَامِ، وَهُوَ وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ التَّجَوُّزُ فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ أَيْضًا، غَيْرَ أَنَّ مَحْذُورَ الِاشْتِرَاكِ أَعْظَمُ مِنْ مَحْذُورِ التَّجَوُّزِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ بَيَانُ ذَلِكَ فَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْإِجْمَالِ أَيْضًا بِدَعْوَى كَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئًا فِيهِمَا لِمُوَافَقَتِهِ لِنَفْيِ الْإِجْمَالِ وَالتَّجَوُّزِ أَوْ أَنْ يُفَسِّرَ لَفْظَهُ بِمَا أَرَادَ مِنْهُمَا.   (1) ظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّ الْغَرَابَةَ نَوْعٌ مِنَ الْإِجْمَالِ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِجَعْلِهَا قَسِيمَةً لِلْإِجْمَالِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِسُطُورٍ (وَإِذْ ثَبَتَ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الِاسْتِفْسَارِ كَوْنُ اللَّفْظِ مُجْمَلًا أَوْ غَرِيبًا) وَمُخَالِفٌ أَيْضًا تَعْرِيفَهُ لِلْمُجْمَلِ ص 9 ج3 بِقَوْلِهِ: (الْمُجْمَلُ مَا لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ (2) فِي جَوَابِ دَفْعِ الْإِجْمَالِ بِجِهَةِ الْغَرَابَةِ - الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِ دَفْعِ الْغَرَابَةِ، وَذَلِكَ لِيَتَّفِقَ مَعَ تَعْرِيفِهِ الْمُجْمَلِ سَابِقًا وَمَعَ جَعْلِهِ الْغَرَابَةَ قَسِيمَةً لِلْإِجْمَالِ وَلِيَتَّفِقَ مَعَ اللُّغَةِ وَالِاصْطِلَاحِ، وَلِيَتَّفِقَ مَعَ مَا يَأْتِي لَهُ فِي الطَّرِيقِ الْإِجْمَالِيِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 [الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي فَسَادُ الِاعْتِبَارِ] وَمَعْنَاهُ أَنَّ مَا ذَكَرْتُهُ مِنَ الْقِيَاسِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لَا لِفَسَادٍ فِي وَضْعِ الْقِيَاسِ وَتَرْكِيبِهِ. (1) فَهُوَ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ مَعَ النَّصِّ الْمُخَالِفِ لَهُ. وَقَدْ مَثَّلَ ذَلِكَ أَيْضًا (2) بِقِيَاسِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي صِحَّةِ الطَّهَارَةِ، وَقِيَاسِ الصَّبِيِّ عَلَى الْبَالِغِ فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ مِنْ جِهَةِ ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ كُلُّ قِيَاسٍ ظَهَرَ الْفَارِقُ فِيهِ بَيْنِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. وَأَقْرَبُ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إِنَّمَا هُوَ الْمِثَالُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّهُ مَهْمَا ثَبَتَ أَنَّ الْقِيَاسَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ كَانَ بَاطِلًا لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (3) . وَأَمَّا بَاقِي الْأَمْثِلَةِ فَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى إِبْدَاءِ الْفِرَقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَهُوَ سُؤَالٌ آخَرُ غَيْرُ سُؤَالِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَجَوَابُهُ إِمَّا بِالطَّعْنِ فِي سَنَدِ النَّصِّ إِنْ أَمْكَنَ أَوْ بِمَنْعِ الظُّهُورِ أَوِ التَّأْوِيلِ أَوِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ أَوِ الْمُعَارَضَةِ بِنَصٍّ آخَرَ لِيَسْلَمَ لَهُ الْقِيَاسُ، أَوْ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَجِبُ تَرْجِيحُهُ عَلَى النَّصِّ الْمُعَارِضِ لَهُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ الْمُسَاعِدَةِ لَهُ.   (1) وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَ الْقِيَاسُ مُخَالِفًا لِلنَّصِّ وَكَذَلِكَ إِذَا خَالَفَ الْقِيَاسُ إِجْمَاعًا وَقَدْ مَثَّلُوا لِمَا خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ بِقِيَاسِ الصَّوْمِ الْوَاجِبِ أَدَاءً عَلَى الصَّوْمِ الْوَاجِبِ قَضَاءً فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَا يَصِحُّ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا صَوْمٌ مَفْرُوضٌ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) وَمَثَّلُوا لِمَا خَالَفَ السُّنَّةَ بِقِيَاسِ الْحَيَوَانِ عَلَى الْمُخْتَلِطَاتِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهَا لَا يَصِحُّ قَرْضُهُ لِعَدَمِ ضَبْطِهِ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ اقْتِرَاضِ الرَّسُولِ بَكْرًا وَقَضَائِهِ رُبَاعِيًّا، وَمَثَّلُوا لِمَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ بِقِيَاسِ الزَّوْجَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُغَسِّلَهَا كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَ الْأَجْنَبِيَّةَ، فَهَذَا قِيَاسٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ عَلِيًّا غَسَّلَ فَاطِمَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ الصَّحَابَةُ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ. (2) هَذَا يَدُلُّ عَلَى سَابِقِ مِثَالٍ لَكِنَّهُ سَقَطَ مِنَ النُّسْخَةِ الْمَخْطُوطَةِ وَالنُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرْتُهُ فِي التَّعْلِيقِ مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي خَالَفَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ. (3) لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ التَّاسِعَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 [الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ فَسَادُ الْوَضْعِ] وَاعْلَمْ أَنَّ صِحَّةَ وَضْعِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ عَلَى هَيْئَةٍ صَالِحَةٍ لِاعْتِبَارِهِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَفَسَادُ الْوَضْعِ لَا يَكُونُ عَلَى الْهَيْئَةِ الصَّالِحَةِ لِاعْتِبَارِهِ فِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ. وَقَدْ مَثَّلَهُ الْفُقَهَاءُ بِمَا تُلِقِّيَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ مُقَابِلِهِ، كَتَلَقِّي التَّضْيِيقِ مِنَ التَّوْسِيعِ وَالتَّخْفِيفِ مِنَ التَّغْلِيظِ وَالْإِثْبَاتِ مِنَ النَّفْيِ وَبِالْعَكْسِ. وَأَنْ يَكُونَ مَا جَعَلَهُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ مُشْعِرًا بِنَقِيضِ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ فِي النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ: لَفْظٌ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ غَيْرُ النِّكَاحِ يَقْتَضِي انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِهِ، لَا عَدَمَ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ يَقْتَضِي الِاعْتِبَارَ لَا عَدَمَ الِاعْتِبَارِ (1) . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ مَسْحٌ فَيُسَنُّ فِيهِ التَّكْرَارُ وَكَمَسْحِ الِاسْتِطَابَةِ فَإِنَّ الْمَنَاطَ كَوْنُهُ مَسْحًا وَالْمَسْحُ تَخْفِيفٌ وَالتَّخْفِيفُ يُشْعِرُ بِالتَّخْفِيفِ، وَالتَّكْرَارُ تَثْقِيلٌ. وَعَلَى هَذَا فَكُلُّ فَاسِدِ الْوَضْعِ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ، وَلَيْسَ كُلُّ فَاسِدِ الِاعْتِبَارِ يَكُونُ فَاسِدَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحَ الْوَضْعِ وَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُهُ فَاسِدًا بِالنَّظَرِ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. وَلِهَذَا وَجَبَ تَقْدِيمُ سُؤَالِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ عَلَى سُؤَالِ فَسَادِ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْأَعَمِّ يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى النَّظَرِ فِي الْأَخَصِّ لِكَوْنِ الْأَخَصِّ مُشْتَمِلًا عَلَى مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْأَعَمُّ وَزِيَادَةٌ. وَإِذَا عُرِفَ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي سُؤَالِ فَسَادِ الْوَضْعِ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اقْتِضَاءُ الْوَصْفِ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ، إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ (يُرَادُ بِهِ اقْتِضَاؤُهُ لَهُ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ نَقِيضَ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ إِشْعَارُ اللَّفْظِ، وَإِمَّا اعْتِبَارُ الْوَصْفِ فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ فِي صُوَرِهِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَإِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ) أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُسْتَدِلُّ، أَوْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.   (1) انْظُرْ ص 533 - 534 مِنْ ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَّةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُسْتَدِلُّ ; فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ وَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ غَيْرَ مُنَاسِبٍ لِحُكْمِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَصْفَ الْوَاحِدَ لَا يُنَاسِبُ حُكْمَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى الْقَدْحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ لَا أَنَّهُ سُؤَالٌ آخَرُ. وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَلَا يَمْتَنِعُ مُنَاسَبَةُ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ لِحُكْمِهِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا (وَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى سُؤَالِ الِاشْتِرَاكِ فِي الدَّلَالَةِ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمُعَارَضَةِ ; لِأَنَّهُ سُؤَالٌ آخَرُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِاقْتِضَائِهِ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ اعْتِبَارُهُ فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ. فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُسْتَدِلُّ أَوْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَلَا يَقْدَحُ فِي اعْتِبَارِهِ فِي حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُ جَازَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ فِي حُكْمَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ يَكُونُ مِنْ جِهَتَيْنِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْمُسْتَدِلُّ فَإِنَّهُ وَإِنْ مُنِعَ مِنِ اعْتِبَارِهِ فِي حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ اعْتِبَارِهِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حُكْمَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ، غَيْرَ أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى سُؤَالِ الْقَلْبِ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ اعْتِبَارُهُ فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَوْ ثَابِتًا بِالدَّلِيلِ لَا أَنَّهُ سُؤَالٌ آخَرُ، وَقَدْ يُشَبَّهُ بِسُؤَالِ النَّقْضِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مِنْ حَيْثُ أَنَّا وَجَدْنَا الْعِلَّةَ فِي صُورَةٍ مَعَ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لَكِنْ مَعَ مَزِيدٍ وَهُوَ كَوْنُ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقِيضِ هُوَ عِلَّةَ النَّقِيضِ، وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلِ مَعَ اقْتِضَاءِ الْوَصْفِ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ وَالْقَدْحِ فِيمَا أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ، الثَّانِي أَنْ نُسَلِّمَ ذَلِكَ وَنُبَيِّنَ أَنَّهُ يَقْتَضِي الْحُكْمَ الَّذِي قَصَدَهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى) (1) ثُمَّ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ تَكُونَ جِهَةُ الْمُنَاسَبَةِ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ مُعْتَبَرَةً فِي صُوَرِهِ، أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً كَانَ مَا يُبْدِيهِ الْمُسْتَدِلُّ مِنْ جِهَةِ الْمُنَاسَبَةِ كَافِيًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ ضَرُورَةَ كَوْنِهَا مُعْتَبَرَةً، وَمُنَاسَبَةُ الْمُعْتَرِضِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُنَاسَبَةُ الْمُعْتَرِضِ مُعْتَبَرَةً فَإِنْ أَوْرَدَ الْمُعْتَرِضُ مَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْمُعَارَضَةِ فَقَدِ انْتَقَلَ عَنْ سُؤَالِهِ الْأَوَّلِ إِلَى سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ التَّرْجِيحُ لِمَا ذَكَرَهُ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي فِي الْمُنَاسَبَةِ وَالِاعْتِبَارِ، وَإِنْ لَمْ يُورِدْ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْمُعَارَضَةِ وَبَقِيَ مُصِرًّا عَلَى السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَلَا يَحْتَاجُ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى التَّرْجِيحِ لِكَوْنِهِ خَاصًّا بِالْمُعَارَضَةِ، وَهَذَا مِنْ مُسْتَحْسَنَاتِ صِنَاعَةِ الْجَدَلِ فَلْيُتَأَمَّلْ.   (1) مَا بَيْنَ الْقَوْسَيْنِ زِيَادَةٌ مِنَ الْمَخْطُوطَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 [الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ] وَلَمَّا كَانَ مَنْعُ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ قَبِيلِ النَّظَرِ فِي تَفْصِيلِ الْقِيَاسِ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَمَّا قَبْلَهُ لِكَوْنِ مَا قَبْلَهُ نَظَرًا فِي الْقِيَاسِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ، وَالنَّظَرُ فِي الْجُمْلَةِ يَتَقَدَّمُ عَلَى النَّظَرِ فِي التَّفْصِيلِ. وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ مَثَلًا: مَائِعٌ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَلَا يُزِيلُ حُكْمَ النَّجَاسَةِ كَالدُّهْنِ. فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: لَا أُسَلِّمُ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّ الدُّهْنَ عِنْدِي مُزِيلٌ لِحُكْمِ النَّجَاسَةِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي انْقِطَاعِ الْمُسْتَدِلِّ بِتَوْجِيهِ مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ عَلَيْهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِانْقِطَاعِهِ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ الْكَلَامَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ لَا عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، فَإِذَا مَنَعَ حُكْمَ الْأَصْلِ فَإِمَّا أَنْ يَشْرَعَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوْ لَا يَشْرَعَ. فَإِنْ لَمْ يَشْرَعْ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَتِمَّ دَلِيلُهُ عَلَى مَقْصُودِهِ وَهُوَ انْقِطَاعٌ، وَإِنْ شَرَعَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ بِصَدَدِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوَّلًا وَعَدَلَ عَمَّا أَنْشَأَهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى حَكَمِ الْأَصْلِ، وَلَا مَعْنَى لِلِانْقِطَاعِ سِوَى هَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَكُونُ مُنْقَطِعًا لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَنْشَأَ الدَّلِيلَ عَلَى حُكْمِ الْفَرْعِ إِنْشَاءَ مَنْ يُحَاوِلُ تَمْشِيَتَهُ وَتَقْرِيرَهُ، وَبِالدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ لَا أَنَّهُ تَارِكٌ لِمَا شَرَعَ فِيهِ أَوَّلًا وَلَا مَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْأَصْلِ وَكَوْنِهَا عِلَّةً فِيهِ، وَعَلَى وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ، وَلَمْ يُمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ مُحَاوَلَةِ تَقْرِيرِ الْقِيَاسِ عِنْدَ مَنْعِ وُجُودِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَمَنْعِ كَوْنِهَا عِلَّةً فِيهِ، وَمَنْعِ وَجُودِهَا فِي الْفَرْعِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَحَلِّ الْمَنْعِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَصْلِ ضَرُورَةَ التَّسَاوِي بَيْنَ الْكُلِّ فِي افْتِقَارِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ إِلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ خَفِيًّا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا ; فَحَكَمَ بِانْقِطَاعِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَنْعِ وَبِعَدَمِ انْقِطَاعِهِ عِنْدَ خَفَائِهِ لِظُهُورِ عُذْرِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيِّ (1) وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجِبُ اتِّبَاعُ عُرْفِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَمُصْطَلَحِ أَهْلِهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْغَزَالِيِّ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا إِذَا دَلَّ عَلَى مَوْقِعِ الْمَنْعِ، لِمَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ (2) .، وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْطَ الدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي أَرْكَانِ الْقِيَاسِ. وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ: (3) لَا يَفْتَقِرُ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَحَلِّ الْمَنْعِ بَلْ لَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا قِسْتُ عَلَى أَصْلِيٍّ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ إِنْ قَصَدَ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ عَلَى أَصْلِ نَفْسِهِ فَالْخَصْمُ غَيْرُ مُنَازِعٍ لَهُ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْفَرْعِ عَلَى أَصْلِهِ وَلَا وَجْهَ لِلْمُنَاظَرَةِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَإِنْ قَصَدَ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْخَصْمِ بِحَيْثُ يُوجِبُ الِانْقِيَادَ إِلَيْهِ ; فَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ مَعَ مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَعَدَمِ ثُبُوتِهِ بِالدَّلَالَةِ. وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ الدَّلَالَةِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ عَامًّا، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَمْنُوعٍ وَغَيْرِ مَمْنُوعٍ كَالدُّهْنِ ; فَإِنَّهُ وَإِنْ مُنِعَ الْحُكْمُ فِي الطَّاهِرِ مِنْهُ، فَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ فِي الدُّهْنِ النَّجِسِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّمَا قِسْتُ عَلَى الدُّهْنِ النَّجِسِ دُونَ الطَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَ قِيَاسِي عَلَيْهِمَا فَغَايَتُهُ الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلَيْنِ وَقَدْ بَطَلَ التَّمَسُّكُ بِأَحَدِهِمَا، فَيَبْقَى التَّمَسُّكُ بِالْآخَرِ. وَإِذَا ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى مَوْقِعِ الْمَنْعِ. فَمِنْهُمْ مَنْ حَكَمَ بِانْقِطَاعِ الْمُعْتَرِضِ لِتَبَيُّنِ فَسَادِ الْمَنْعِ وَتَعَذُّرِ الِاعْتِرَاضِ مِنْهُ عَلَى دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ لِإِفْضَائِهِ إِلَى التَّطْوِيلِ فِيمَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ فِي أَوَّلِ النَّظَرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُعَدُّ مُنْقَطِعًا، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَى دَلِيلِ الْمَنْعِ، وَلَا يَكْتَفِي مِنَ الْمُسْتَدِلِّ بِمَا يَدَّعِيهِ دَلِيلًا، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِقَبُولِ الْمَنْعِ مَعْنًى، بَلِ الِانْقِطَاعُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بِعَجْزِهِ عَمَّا يُحَاوِلُهُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ.   (1) أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ هُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الشَّافِعِيُّ شَارَكَ الْبَاقِلَّانِيَّ فِي الْأَخْذِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُجَاهِدٍ الطَّائِيِّ صَاحِبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ. . (2) تَقَدَّمَ ص 75 ج4 فِي بَيَانِ سَنَدِ الرَّأْيِ الثَّانِي (3) أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ هُوَ إِبْرَاهِيمَ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ الشَّافِعِيُّ مَاتَ 476 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 [الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ التَّقْسِيمُ] ُ (1) وَهُوَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: عِبَارَةٌ عَنْ تَرْدِيدِ اللَّفْظِ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ، أَحَدُهُمَا مَمْنُوعٌ، وَالْآخَرُ مُسَلَّمٌ غَيْرَ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ مُتَوَجِّهَةٌ بِبِنَاءِ الْغَرَضِ عَلَيْهِ إِمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَرْدِيدِهِ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ لِأَنَّهُ (2) . لَوْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّرْدِيدِ وَالتَّقْسِيمِ مَعْنًى، بَلْ كَانَ يَجِبُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَإِمَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ احْتِمَالُ اللَّفْظِ لَهُمَا عَلَى السَّوِيَّةِ لِأَنَّهُ (3) لَوْ كَانَ ظَاهِرًا فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ أَيْضًا وَجْهٌ، بَلْ كَانَ يَجِبُ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، كَانَ مَمْنُوعًا أَوْ مُسَلَّمًا. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ وَبَيْنَ وُجُودِ السَّبَبِ بِالْبَيْعِ الصَّادِرِ مِنَ الْأَهْلِ فِي الْمَحَلِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: السَّبَبُ هُوَ مُطْلَقُ بَيْعٍ أَوِ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ؛ أَيِ: الَّذِي لَا شَرْطَ فِيهِ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ بِوُجُودِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: التَّقْسِيمُ وَإِنْ كَانَ مِنْ شَرْطِهِ تَرَدُّدُ اللَّفْظِ بَيْنَ احْتِمَالَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ، فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الِاحْتِمَالَيْنِ مَمْنُوعًا وَالْآخَرُ مُسَلَّمًا، بَلْ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ الِاحْتِمَالَانِ فِي التَّسْلِيمِ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَخْتَلِفَا بِاعْتِبَارِ مَا يَرِدُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْقَادِحَةِ فِيهِ، وَإِلَّا فَلَوِ اتَّحَدَا فِيمَا يَرِدُ عَلَيْهِمَا مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ مَعَ التَّسَاوِي فِي التَّسْلِيمِ لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى، بَلْ كَانَ يَجِبُ تَسْلِيمُ الْمَدْلُولِ وَإِيرَادُ مَا يَخْتَصُّ بِهِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِي الْمَنْعِ أَنَّ التَّقْسِيمَ لَا يَكُونُ مُفِيدًا.   (1) الْمُعْتَرِضُ عَلَى التَّقْسِيمِ أَوْ عَلَى التَّعْرِيفِ يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْجَدَلِ مُسْتَدِلًّا لِتَضَمُّنِ اعْتِرَاضِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا دَعْوَى بُطْلَانِهِ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ إِثْبَاتُ دَعَوَاهُ بِالدَّلِيلِ، وَالْمَدَافِعُ عَنِ التَّقْسِيمِ أَوِ التَّعْرِيفِ يُسَمَّى مَانِعًا، وَقَدْ يُسَمِّي بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَرِضَ عَلَى التَّقْسِيمِ أَوِ التَّعْرِيفِ سَائِلًا، وَمَنْ يُصَحِّحُ ذَلِكَ وَيُدَافِعُ عَنْهُ مُعَلِّلًا. (2) لِأَنَّهُ - لَعَلَّهُ فَلِأَنَّهُ، لِكَوْنِهِ جَوَابَ أَدَاةِ الشَّرْطِ وَالتَّفْصِيلِ وَهِيَ إِمَّا (3) لِأَنَّهُ - لَعَلَّهُ فَلِأَنَّهُ، لِكَوْنِهِ جَوَابَ أَدَاةِ الشَّرْطِ وَالتَّفْصِيلِ وَهِيَ إِمَّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 وَعَلَى هَذَا فَلَوْ أَرَادَ الْمُعْتَرِضُ تَصْحِيحَ تَقْسِيمِهِ، فَيَكْفِيهِ بَيَانُ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ بِإِزَاءِ الِاحْتِمَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفِ بَيَانِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِمَا بِجِهَةِ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْسُرُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَا مِنْ وَجْهٍ (1) يَبِينُ التَّسَاوِي فِيهِ إِلَّا وَلِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ: وَلِمَ قُلْتَ بِعَدَمِ التَّفَاوُتِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ؟ بَلَى لَوْ قِيلَ إِنَّهُ يُكَلَّفُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: التَّفَاوُتُ يَسْتَدْعِي تَرَجُّحَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَزِيَادَتَهُ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَاقًّا وَكَانَ وَافِيًا بِالدَّلَالَةِ عَلَى شَرْطِ التَّقْسِيمِ. وَلَوْ ذَكَرَ الْمُعْتَرِضُ احْتِمَالَيْنِ لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِمَا وَأَوْرَدَ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي مَسْأَلَةِ الِالْتِجَاءِ إِلَى الْحَرَمِ: وُجِدَ سَبَبُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فَيَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ وَبَيَّنَ وُجُودَ السَّبَبِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: مَتَى يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِالِاسْتِيفَاءِ؟ إِذَا وُجِدَ الْمَانِعُ أَوْ إِذَا لَمْ يُوجَدْ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ. وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ إِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ، وَبَيَانُ وُجُودِهِ أَنَّ الْحَرَمَ مَانِعٌ، وَبَيَّنَهُ بِطَرِيقَةٍ لَمْ يَخْلُ، (2) إِمَّا أَنْ يُورِدَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْمُسْتَدِلِّ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَوْ عَلَى دَعْوَاهُ الْمُلَازَمَةَ بَيْنَ الْحُكْمِ وَدَلِيلِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَهُوَ بَاطِلٌ لِعَدَمِ تَرَدُّدِ لَفْظِ السَّبَبِ بَيْنَ مَا ذُكِرَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِبَيَانِ انْتِفَاءِ الْمَانِعِ، فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الِاصْطِلَاحِ مِنْ حَطِّ مَئُونَةِ ذَلِكَ عَنِ الْمُنَاظِرِ فِي الْمَوَانِعِ وَالْمُعَارَضَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَإِنْ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ الدَّلَالَةَ عَلَى وُجُودِ الْمُعَارِضِ؛ فَحَاصِلُ السُّؤَالِ يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَارَضَةِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْسِيمِ، وَإِذَا اتَّجَهَ سُؤَالُ التَّقْسِيمِ عَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، فَجَوَابُهُ مِنْ جِهَةِ الْجَدَلِ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُعَيِّنَ الْمُسْتَدِلُّ بَعْضَ مَحَامِلِ لَفْظِهِ، وَيُبَيِّنَ أَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ بِإِزَائِهِ حَقِيقَةً فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، إِمَّا بِالنَّقْلِ عَنْ أَهْلِ الْوَضْعِ أَوِ الشَّارِعِ الصَّادِقِ.   (1) أَنَّ مَا مِنْ وَجْهٍ - لَعَلَّهُ أَنَّهُ مَا مِنْ وَجْهٍ. . . . إِلَخْ. (2) لَمْ يَخْلُ - جَوَابُ قَوْلِهِ: وَلَوْ ذَكَرَ الْمُعْتَرِضُ احْتِمَالَيْنِ. . إِلَخْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 أَوْ بِبَيَانِ كَوْنِهِ مَشْهُورًا بِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، فَيَكُونُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ، وَبِمَا يُسَاعِدُ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَمَعَ بَيَانِ ذَلِكَ فَالتَّقْسِيمُ يَكُونُ مَرْدُودًا لِتَبَيُّنِ فَوَاتِ شَرْطِهِ مِنَ التَّسَاوِي فِي الدَّلَالَةِ. الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا بِحُكْمِ الْوَضْعِ فِيمَا عَيَّنْتُهُ مِنَ الِاحْتِمَالِ غَيْرَ أَنَّهُ ظَاهِرٌ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا فِي لَفْظِ الْغَائِطِ وَنَحْوِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا بِالْأَمْرَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ وَإِنْ تَعَذَّرَ كَوْنُهُ ظَاهِرًا بِأَحَدِ الْأَنْحَاءِ الْمَذْكُورَةِ، لَكِنَّهُ ظَاهِرٌ بِحُكْمِ مَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُسَاعِدَةِ لَهُ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ وَإِنْ تَعَذَّرَ بَيَانُ الظُّهُورِيَّةِ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ، فَلَهُ دَفْعُ التَّقْسِيمِ بِوَجْهٍ إِجْمَالِيٍّ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: الْإِجْمَالُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ظُهُورِ اللَّفْظِ فِي بَعْضِ احْتِمَالَاتِهِ؛ ضَرُورَةَ نَفْيِ الْإِجْمَالِ عَنِ اللَّفْظِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّقْسِيمُ لَا يَكُونُ وَارِدًا. وَقَدْ يَقْدِرُ عَلَى بَيَانِ كَوْنِ اللَّفْظِ ظَاهِرًا فِيمَا عَيَّنَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ الْإِجْمَالِيِّ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي بَعْضِ مَحَامِلِهِ، نَفْيًا لِلْإِجْمَالِ عَنِ الْكَلَامِ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُ ظُهُورِهِ فِيمَا عَيَّنَهُ الْمُسْتَدِلُّ، ضَرُورَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ ظُهُورِهِ فِيمَا عَدَاهُ، أَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَرِضِ فَلِضَرُورَةِ دَعْوَاهُ الْإِجْمَالَ فِي اللَّفْظِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْمُسْتَدِلِّ، فَلِضَرُورَةِ دَعْوَاهُ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِيمَا ادَّعَاهُ دُونَ غَيْرِهِ. السَّادِسُ: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ اللَّفْظَ لَهُ احْتِمَالٌ آخَرُ غَيْرُ مَا تَعَرَّضَ لَهُ الْمُعْتَرِضُ بِالْمَنْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَأَنَّهُ مُرَادُهُ إِلَّا أَنْ يَحْتَرِزَ الْمُعْتَرِضُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُعَيِّنَ مُجْمَلًا، وَيَقُولَ: إِنْ أَرَدْتَ هَذَا فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لِمَ قُلْتَ بِبِنَاءِ الْغَرَضِ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَدْتَ مَا عَدَاهُ فَمَمْنُوعٌ. فَمَا مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ لَا يَكُونُ مُتَّجِهًا، وَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَدِلُّ الْجَوَابَ الْفِقْهِيَّ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَنْزِيلِ كَلَامِهِ عَلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ، فَالْأَوْلَى فِي الِاصْطِلَاحِ تَنْزِيلُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا؛ حَذَرًا مِنَ التَّطْوِيلِ، وَلْيَكُنْ مُنَزَّلًا عَلَى أَسْهَلِهِمَا فِي التَّمْشِيَةِ وَالْقُرْبِ إِلَى الْمَقْصُودِ إِنْ أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ جَائِزًا شَرْعًا. وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُنْقَطِعًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 وَأَمَّا مَوْقِعُ سُؤَالِ التَّقْسِيمِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ مَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِالْوَصْفِ الْمُتَفَرِّعِ عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَأَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْعِ وُجُودِ الْوَصْفِ لِدَلَالَةِ مَنْعِ الْوُجُودِ عَلَى تَعْيِينِ الْوَصْفِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى التَّرْدِيدِ. وَأَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ الْمُدَّعِي عِلَّةً لِكَوْنِهِ مُشْعِرًا بِتَرْدِيدِ لَفْظِ الْمُسْتَدِلِّ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَالْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ مُشْعِرَةٌ بِتَسْلِيمِ كَوْنِهِ مَدْلُولًا لِلَّفْظِ لَا غَيْرَ (1) ضَرُورَةَ تَخْصِيصِهِ بِالْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَإِلَّا كَانَ التَّخْصِيصُ بِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ، وَإِيرَادُ مَا يُشْعِرُ بِالتَّرْدِيدِ بَعْدَ مَا يُشْعِرُ بِتَسْلِيمِ اتِّحَادِ الْمَدْلُولِ يَكُونُ مُتَنَاقِضًا. وَقَدْ عَلَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَرْبَابِ الِاصْطِلَاحِ بِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ تَسْتَدْعِي تَسْلِيمَ وُجُودِ الْوَصْفِ، وَالتَّقْسِيمُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَنْعِ الْوُجُودِ، وَمَنْعُ الْوُجُودِ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّنَاقُضِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَا ذَكَرَهُ إِنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَحَدَ الْقِسْمَيْنِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَمْنُوعَ الْوُجُودِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ فِي مَبْدَأِ السُّؤَالِ. (2) وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مَمْنُوعَ الْوُجُودِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ وَالْمَنْعُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ، أَنْ لَوْ كَانَ مَا أَوْرَدَ عَلَيْهِ سُؤَالَ الْمُطَالَبَةِ أَوْ لَا هُوَ نَفْسُ الْقِسْمِ الَّذِي مَنَعَ وَجُودَهُ فِي التَّقْسِيمِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ، فَلَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَيَمْتَنِعُ أَيْضًا قَبُولُ سُؤَالِ التَّقْسِيمِ بَعْدَ سُؤَالِ الِاسْتِفْسَارِ؛ لِأَنَّ الْمَسْئُولَ إِنْ كَانَ قَدْ دَفَعَ سُؤَالَ الِاسْتِفْسَارِ جَدَلًا بِنَفْيِ الْإِجْمَالِ، فَالتَّقْسِيمُ بَعْدَهُ لَا يَرُدُّ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ وَقَدِ انْتَفَى، وَإِنْ أَجَابَ عَنْهُ بِتَعْيِينِ مَا بِكَلَامِهِ، فَبَعْدَ التَّعْيِينِ لَا حَاجَةَ إِلَى التَّقْسِيمِ بَلْ يَجِبُ وُرُودُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى عَيْنِهِ (3) دُونَ غَيْرِهِ.   (1) أَيْ: تَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ الْوَصْفِ، وَأَنَّهُ لَا مَدْلُولَ لِلَّفْظِ غَيْرُهُ. (2) هَذَا بَدْءُ الْوَجْهِ الثَّانِي. (3) عَلَى عَيْنِهِ - فِيهِ سَقْطٌ وَالتَّقْدِيرُ عَلَى مَا عَيَّنَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 [الِاعْتِرَاضُ السَّادِسُ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ] وَلِكَوْنِ النَّظَرِ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ مُتَفَرِّعًا عَنْ حُكْمِ الْأَصْلِ؛ وَجَبَ تَأْخِيرُهُ عَنِ النَّظَرِ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ وَعَنِ التَّقْسِيمِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي السُّؤَالِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِثَالُهُ: مَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ جِلْدِ الْكَلْبِ مَثَلًا: حَيَوَانٌ يُغْسَلُ الْإِنَاءُ مِنْ وُلُوغِهِ سَبْعًا فَلَا يُطَهَّرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ كَالْخِنْزِيرِ، فَيَقُولُ الْخَصْمُ: لَا أُسَلِّمُ وُجُوبَ غَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْخِنْزِيرِ سَبْعًا. وَجَوَابُهُ بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ مِنَ الْعَقْلِ أَوِ الْحِسِّ أَوِ الشَّرْعِ عَلَى حَسَبِ حَالِ الْوَصْفِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ، أَوْ أَنْ يُفَسِّرَ لَفْظَهُ بِمَا لَا يُمَكِّنُ الْخَصْمَ مَنْعَهُ، وَإِنْ كَانَ احْتِمَالُ اللَّفْظِ لَهُ بَعِيدًا، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ: أَعْنِي بِهِ مَا إِذَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ الطَّهَارَةُ. وَإِنْ فَسَّرَ لَفْظَهُ بِمَا لَهُ وُجُودٌ فِي الْأَصْلِ، غَيْرَ أَنَّ لَفْظَهُ لَا يَحْتَمِلُهُ لُغَةً. فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ وَإِنْ ذَهَبَ إِلَى قَبُولِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَ اللَّفْظِ إِنَّمَا كَانَ لِقَصْدِ تَحْصِيلِ الْمَعْنَى مِنْهُ وَأَنْ يَعْرِفَ كُلُّ أَحَدٍ مَا فِي ضَمِيرِهِ لِغَيْرِهِ بِوَاسِطَةِ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِضَبْطِ الْوَضْعِ ضَبْطًا يَمْتَنِعُ مَعَهُ دُخُولُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَإِذَا قُبِلَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ تَفْسِيرُ لَفْظِهِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لُغَةً حَالَةَ عَجْزِهِ عَنْ تَقْرِيرِ كَلَامِهِ، أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى اضْطِرَابِ اللُّغَةِ وَإِبْطَالِ فَائِدَةِ وَضْعِهَا، كَيْفَ وَإِنَّ إِطْلَاقَهُ لِذَلِكَ اللَّفْظِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى إِرَادَةِ مَدْلُولِهِ، وَعُدُولُهُ عِنْدَ الْمَنْعِ مُشْعِرٌ بِالِانْقِطَاعِ فِي تَقْرِيرِهِ؟ ! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 [الِاعْتِرَاضُ السَّابِعُ الْقَدْحُ فِي مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ] وَلَمَّا كَانَتِ الْعِلِّيَّةُ صِفَةً لِلْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَمُتَوَقِّفَةً عَلَى وُجُودِهِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النَّظَرُ فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مُتَأَخِّرًا عَنِ النَّظَرِ فِي وُجُودِ الْوَصْفِ. وَهَذَا هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ؛ لِعُمُومِ وُرُودِهِ عَلَى كُلِّ مَا يُدْعَى كَوْنُهُ عِلَّةً، وَاتِّسَاعِ طُرُقِ إِثْبَاتِهِ، وَتَشَعُّبِ مَسَالِكِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ (1) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَبُولِهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَالْمُخْتَارُ لُزُومُ قَبُولِهِ. وَذَلِكَ لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِسْنَادُهُ إِلَى مُجَرَّدِ إِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ دُونَ جَامِعٍ بَيْنَهُمَا. وَالْجَامِعُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ لَا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (2) وَالْوَصْفُ الطَّرْدِيُّ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ بَاعِثًا، فَيَمْتَنِعُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْقِيَاسِ، فَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ مَنْعَ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ وَالْمُطَالَبَةَ بِتَأْثِيرِهِ أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ، ثِقَةً مِنَ الْمُتَكَلِّمِ بِامْتِنَاعِ مُطَالَبَتِهِ بِالتَّأْثِيرِ، وَلَا يَخْفَى وَجْهُ فَسَادِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِالْقِيَاسِ، غَيْرَ أَنَّا اسْتَثْنَيْنَا مِنْهُ مَا كَانَتْ عِلَّةُ الْقِيَاسِ فِيهِ مُخَيَّلَةً؛ أَوْ شَبِيهَةً لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ تَمَسَّكُوا بِقِيَاسٍ عِلَّتُهُ طَرْدِيَّةٌ (3) فَبَقِينَا فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ قَبُولُ سُؤَالِ مَنْعِ التَّأْثِيرِ وَبَيَانُ كَوْنِ الْوَصْفِ مُؤَثِّرًا. وَعِنْدَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شُبَهِ الرَّادِّينَ لَهُ وَتَحْقِيقِ جَوَابِهَا، وَقَدِ احْتَجُّوا بِشُبَهٍ. الْأُولَى: أَنَّهُ لَوْ قُبِلَ سُؤَالُ مَنْعِ التَّأْثِيرِ؛ فَمَا مِنْ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً إِلَّا وَهَذَا السُّؤَالُ وَارِدٌ عَلَيْهِ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، فَيَجِبُ رَدُّهُ حِفْظًا لِلْكَلَامِ عَنِ الْخَبْطِ وَالنَّشْرِ.   (1) تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ. (2) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي شُرُوطِ عِلَّةِ الْأَصْلِ. . (3) مُخَيَّلَةٌ - أَيْ: مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مُنَاسَبَةٍ تَجْعَلُهَا صَالِحَةً لِتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهَا، وَطَرْدِيَّةٌ؛ أَيْ: غَيْرُ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى الْمُنَاسَبَةِ. . إِلَخْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْقِيَاسِ سِوَى رَدِّ الْفَرْعِ إِلَى الْأَصْلِ بِجَامِعٍ، وَقَدْ أَتَى بِهِ الْمُسْتَدِلُّ وَخَرَجَ عَنْ وَظِيفَتِهِ، فَعَلَى الْمُعْتَرِضِ الْقَدْحُ فِيهِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، فَمَنِ ادَّعَى أَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ احْتَاجَ إِلَى بَيَانِهِ. الرَّابِعَةُ: أَنَّا بَحَثْنَا فَلَمْ نَجِدْ سِوَى هَذِهِ الْعِلَّةِ، فَعَلَى الْمُعْتَرِضِ الْقَدْحُ فِيهَا أَوْ إِبْدَاءُ غَيْرِهَا. الْخَامِسَةُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: عَجْزُ الْمُعْتَرِضِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ دَلِيلُ صِحَّتِهِ كَالْمُعْجِزَةِ، فَالْمَنْعُ مِنَ الصِّحَّةِ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِ الصِّحَّةِ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا. السَّادِسَةُ: قَوْلُهُمْ حَاصِلُ هَذَا السُّؤَالِ يَرْجِعُ إِلَى الْمُنَازَعَةِ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَازَعًا فِيهَا لِيُتَصَوَّرَ الْخِلَافُ فِي الْفَرْعِ. السَّابِعَةُ: أَنَّ حَاصِلَ الْقِيَاسِ يَرْجِعُ إِلَى تَشْبِيهِ الْفَرْعِ بِالْأَصْلِ وَالشُّبَهُ حُجَّةٌ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِبْدَاءِ غَيْرِهِ. الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُمْ هَذَا الْوَصْفُ مُطَّرِدٌ لَمْ يَتَخَلَّفْ حُكْمُهُ عَنْهُ فِي صُورَةٍ، فَكَانَ صَحِيحًا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأُولَى: أَنَّ التَّسَلْسُلَ مُنْقَطِعٌ بِذِكْرِ مَا يُفِيدُ أَدْنَى ظَنٍّ بِالتَّعْلِيلِ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا قَبْلُ، (1) فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِعِلِّيَّةِ مَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ عِلَّةً بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ عِنَادًا، وَهُوَ مَرْدُودٌ إِجْمَاعًا. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: بِمَنْعِ تَحَقُّقِ الْقِيَاسِ بِجَامِعٍ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ كَوْنُهُ عِلَّةً. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: بِمَنْعِ أَنَّ الْأَصْلَ عِلِّيَةُ كُلِّ مَا ثَبَتَ الْحُكْمُ مَعَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ. وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّ الْبَحْثَ مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى غَيْرِ الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ كَمَا سَبَقَ، (2) فَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ وَقَبُولًا لَهُ لَا أَنَّهُ رَدٌّ لَهُ.   (1) هِيَ مَسَالِكُ الْعِلَّةِ الَّتِي سَبَقَ لَهُ بَيَانُهَا. (2) سَبَقَ ذَلِكَ فِي مَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَجْزُ الْمُعْتَرِضِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ دَلِيلَ صِحَّةِ الْعِلَّةِ، لَكَانَ عَجْزُ الْمُسْتَدِلِّ عَنْ تَصْحِيحِ الْعِلَّةِ دَلِيلَ فَسَادِهَا وَلَا أَوْلَوِيَّةَ وَلَكَانَ عَجْزُ الْمُعْتَرِضِ عَنِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى إِبْطَالِ مَا ادَّعَى مِنَ الْحُكْمِ فِي الْفَتْوَى دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ. وَعَنِ السَّادِسَةِ: أَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَازَعًا فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا عِلَّةً، كَمَا فِي الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ. وَعَنِ السَّابِعَةِ: أَنَّ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى ظَنِّ إِثْبَاتِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُطْلَقَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي مُطْلَقِ وَصْفٍ مُفِيدٍ لِلظَّنِّ. وَعَنِ الثَّامِنَةِ: أَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ، لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُنْتَقِضٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِمَا سَبَقَ فِي طُرُقِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ. وَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ سُؤَالِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّأْثِيرِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً، وَطَرِيقُ إِثْبَاتِ ذَلِكَ مَا يُسَاعِدُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي قَرَّرْنَاهَا قَبْلُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 [الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنُ سُؤَالُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ] وَهُوَ إِبْدَاءُ وَصْفٍ فِي الدَّلِيلِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيِهِ، وَقَدْ قَسَّمَهُ الْجَدَلِيُّونَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمَأْخُوذُ فِي الدَّلِيلِ طَرْدِيًّا لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ وَلَا شَبَهَ، (1) وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ: صَلَاةٌ لَا يَجُوزُ قَصْرُهَا، فَلَا تُقَدَّمَ فِي الْأَدَاءِ عَلَى وَقْتِهَا كَالْمَغْرِبِ فَإِنَّ عَدَمَ الْقَصْرِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ. الثَّانِي: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ قَدِ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي بَيْعِ الْغَائِبِ، مَبِيعٌ غَيْرُ مَرْئِيٍّ، فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ كَالطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ فَإِنَّ مَا وُجِدَ فِي الْأَصْلِ مِنَ الْعَجْزِ عَنِ التَّسْلِيمِ مُسْتَقِلٌّ بِالْحُكْمِ. وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ، فَرَدَّهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَمَنْ تَابَعَهُ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى عِلَّةٍ أُخْرَى فِي الْأَصْلِ وَلَا يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِعِلَّتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى امْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِعِلَّتَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَأْخَذَيْنِ وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْهُمَا. الثَّالِثُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ فِي الدَّلِيلِ وَصْفًا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي مَسْأَلَةِ الْمُرْتَدِّينَ إِذَا أَتْلَفُوا أَمْوَالَنَا: طَائِفَةٌ مُشْرِكَةٌ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمُ الضَّمَانُ بِتَلَفِ أَمْوَالِنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ الْإِتْلَافَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ ضَرُورَةَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْحُكْمِ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْإِتْلَافِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ.   (1) لَا مُنَاسَبَةَ فِيهِ وَلَا شَبَهَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ طَرْدِيًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وَحَاصِلُ هَذَا الْقِسْمِ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ إِنْ كَانَ طَرْدِيًّا، أَوْ إِلَى سُؤَالِ الْإِلْغَاءِ إِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا. الرَّابِعُ: عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمَذْكُورُ فِي الدَّلِيلِ لَا يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ صُوَرِ النِّزَاعِ وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْمُسْتَدِلُّ فِي مَسْأَلَةِ وِلَايَةِ الْمَرْأَةِ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النِّزَاعَ وَقَعَ فِيمَا إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنَ الْكُفْءِ وَغَيْرِ الْكُفْءِ. وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهِ، فَرَدَّهُ قَوْمٌ مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى مَنْعِ جَوَازِ الْفَرْضِ فِي الدَّلِيلِ، وَقَبِلَهُ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ فِي كِتَابِ الْجَدَلِ. وَإِذَا بَطَلَ الْقِسْمُ الرَّابِعُ، وَهُوَ عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَرَجَعَ حَاصِلُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ عَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْحُكْمِ إِلَى عَدَمِ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ أَوِ الْإِلْغَاءِ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ عَدَمِ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ، وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْوَصْفِ رَاجِعٌ إِلَى بَيَانِ انْتِفَاءِ مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ، وَسُؤَالُ الْمُطَالَبَةِ يُغْنِي عَنْهُ، وَجَوَابُهُ جَوَابُهُ فَلَا يَجْتَمِعَانِ، وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ فِي الْأَصْلِ، فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ لَا أَنَّهُ غَيْرُهُ، وَجَوَابُهُ كَمَا يَأْتِي. وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ يَكُونُ أَخْذُ الْوَصْفِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ الْحُكْمَ فِي الدَّلِيلِ مُفِيدًا، بِأَنْ يَكُونَ مُشِيرًا إِلَى نَفْيِ الْمَانِعِ الْمَوْجُودِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ أَوْ وُجُودِ الشَّرْطِ الْفَائِتِ فِيهَا لِقَصْدٍ، أَوْ مُشِيرًا إِلَى قَصْدِ الْفَرْضِ فِي الدَّلِيلِ فِي بَعْضِ صُوَرِ النِّزَاعِ، كَمَا ذُكِرَ مِنْ مِثَالِ أَخْذِ الْإِتْلَافِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُرْتَدِّينَ، وَلَا يَكُونُ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ؛ إِذْ هُوَ غَيْرُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي إِثْبَاتِ الْحُكْمِ إِمَّا لِقَصْدِ دَفْعِ النَّقْصِ أَوْ لِقَصْدِ الْفَرْضِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 [الِاعْتِرَاضُ التَّاسِعُ الْقَدْحُ فِي مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ] وَذَلِكَ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ وُجُودُ مَفْسَدَةٍ (1) مُسَاوِيَةٍ لَهَا أَوْ رَاجِحَةٍ عَلَيْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ وَأَنَّ الْمُخْتَارَ إِبْطَالُهُ، إِلَّا أَنْ يُبَيَّنَ تَرْجِيحُ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ، إِمَّا بِطْرِيقٍ إِجْمَالِيٍّ أَوْ تَفْصِيلِيٍّ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ (2) . [الِاعْتِرَاضُ الْعَاشِرُ الْقَدْحُ فِي صَلَاحِيَّةِ إِفْضَاءِ الْحُكْمِ إِلَى مَا عُلِّلَ بِهِ مِنَ الْمَقْصُودِ] الِاعْتِرَاضُ الْعَاشِرُ الْقَدْحُ فِي صَلَاحِيَّةِ إِفْضَاءِ الْحُكْمِ إِلَى مَا عُلِّلَ بِهِ مِنَ الْمَقْصُودِ وَذَلِكَ كَمَا لَوْ عُلِّلَتْ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ فِي حَقِّ الْمَحَارِمِ بِالْحَاجَةِ إِلَى ارْتِفَاعِ الْحِجَابِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَى سَدِّ بَابِ الْفُجُورِ بِالْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ، وَعَلِمَ الرَّجُلُ امْتِنَاعَ وُصُولِهِ إِلَى الْأُنْثَى عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، حَتَّى يَنْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الطَّمَعِ فِي مُقَدِّمَاتِ الْهَمِّ بِهَا وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا، فَإِنَّ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحُكْمُ غَيْرُ صَالِحٍ لِإِفْضَائِهِ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ؛ مِنْ حَيْثُ إِنَّ سَدَّ بَابِ النِّكَاحِ أَدْعَى إِلَى مَحْذُورِ الْوُقُوعِ فِي الزِّنَا. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ عَادَةً، وَالِامْتِنَاعُ الْعَادِيُّ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ يَلْتَحِقُ بِالِامْتِنَاعِ الطَّبْعِيِّ وَبِهِ يَتَحَقَّقُ انْسِدَادُ بَابِ الْفُجُورِ.   (1) وُجُودُ مَفْسَدَةٍ - فِيهِ سَقْطٌ؛ وَالتَّقْدِيرُ مِنْ وُجُودِ مَفْسَدَةٍ وَ " مِنْ " بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: " بِمَا يَلْزَمُ "، وَ " مِنْ تَرْتِيبِ " مُتَعَلِّقٌ بِـ " يَلْزَمُ " وَمِنْهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ " الْمَطْلُوبَةِ ". (2) سَبَقَ فِي الْفَصْلِ الْخَامِسِ مِنْ فُصُولِ الْمَسْلَكِ الْخَامِسِ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالْمُنَاسَبَةِ وَالْإِخَالَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 [الِاعْتِرَاضُ الْحَادِي عَشَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُعَلَّلُ بِهِ بَاطِنًا خَفِيًّا] الِاعْتِرَاضُ الْحَادِي عَشَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُعَلَّلُ بِهِ بَاطِنًا خَفِيًّا وَذَلِكَ لَوْ عُلِّلَ (1) بِالرِّضَا أَوِ الْقَصْدِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ الْقَصْدُ وَالرِّضَا مِنَ الْأَوْصَافِ الْبَاطِنَةِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا عَلَيْهَا بِأَنْفُسِهَا، فَلَا تَكُونُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْخَفِيِّ وَلَا مَعْرِفَةَ لَهُ. وَجَوَابُهُ أَنْ يُبَيِّنَ ضَبْطَ الرِّضَا بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الصِّيَغِ الظَّاهِرَةِ، وَضَبْطَ الْقَصْدِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ فِي الْخِلَافِيَّاتِ. [الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي عَشَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُعَلَّلُ بِهِ مُنْضَبِطًا كَالتَّعْلِيلِ بِالْحُكْمِ وَالْمَقَاصِدِ] الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي عَشَرَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُعَلَّلُ بِهِ مُنْضَبِطًا كَالتَّعْلِيلِ بِالْحُكْمِ وَالْمَقَاصِدِ؛ مِثْلَ: التَّعْلِيلِ بِالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ وَالزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَنَحْوِهِ. فَإِنَّهُ قَدْ يُقَالُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِمَّا تَضْطَرِبُ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ، وَمَا هَذَا شَأْنُهُ فَدَأْبُ الشَّارِعِ فِيهِ رَدُّ النَّاسِ إِلَى الْمَظَانِّ الظَّاهِرَةِ الْجَلِيَّةِ دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَالْحَرَجِ عَنِ النَّاسِ فِي الْبَحْثِ عَنْهَا وَمَنْعًا لِلِاضْطِرَابِ فِي الْأَحْكَامِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصُّوَرِ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَجَوَابُهُ إِمَّا بِبَيَانِ كَوْنِ مَا عُلِّلَ بِهِ مَضْبُوطًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِضَابِطِهِ، كَضَبْطِ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ بِالسَّفَرِ وَنَحْوِهِ.   (1) لَوْ عُلِّلَ - كَأَنَّ فِيهِ سَقْطًا، وَلَعَلَّ الْأَصْلَ كَمَا لَوْ عُلِّلَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 [الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثَ عَشَرَ النَّقْضُ] وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ مَعَ وُجُودِ مَا ادُّعِيَ كَوْنُهُ عِلَّةً لَهُ، وَقَدْ أَوْمَأْنَا فِي مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ إِلَى وَجْهِ دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى إِبْطَالِهَا وَوَجْهِ الِانْفِصَالِ عَنْهُ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَوْ مُسْتَنْبَطَةً، وَفِي صُورَةِ النَّقْضِ مَانِعٌ أَوْ فَوَاتُ شَرْطٍ بِالِاسْتِقْصَاءِ التَّامِّ الْمُفَصَّلِ. وَالَّذِي يَخْتَصُّ بِمَا نَحْنُ فِيهِ هَاهُنَا وُجُوهٌ أُخَرُ فِي الْجَوَابِ (1) . الْأَوَّلُ: مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ إِنْ أَمْكَنَ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ زَكَاةِ الْحُلِيِّ مَالٌ غَيْرٌ نَامٍ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِالْحُلِيِّ الْمَحْظُورِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ نَامٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ. فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: لَا أُسَلِّمُ أَنَّ الْحُلِيَّ الْمَحْظُورَ غَيْرُ نَامٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ دَافِعًا لِلنَّقْضِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ وُجُودُ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الْعِلَّةُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَلَا نَقْضَ. لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي الْمُعْتَرِضِ، هَلْ لَهُ الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ عِنْدَ مَنْعِ الْمُسْتَدِلِّ لِوُجُودِهَا؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ ذَلِكَ إِذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ انْتِقَاضُهَا وَهَدْمُ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ، فَكَانَ لَهُ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَلْبِ الْقَاعِدَةِ بِانْقِلَابِ الْمُسْتَدِلِّ مُعْتَرِضًا وَالْمُعْتَرِضِ مُسْتَدِلًّا، وَالْوَاجِبُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا لِلْمُعْتَرِضِ فِي هَدْمِ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ، وَجَبَ قَبُولُهُ مِنْهُ تَحَقُّقًا لِفَائِدَةِ الْمُنَاظَرَةِ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ الْقَدْحُ بِطَرِيقٍ آخَرَ هُوَ أَفْضَى إِلَى الْمَقْصُودِ فَلَا، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ قَدْ دَلَّلَ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ بِدَلِيلٍ هُوَ مَوْجُودٌ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، فَإِذَا مُنِعَ وُجُودُ الْعِلَّةِ،   (1) انْظُرْ وَجُوهَ دَفْعِ الْمُنَاقِضَةِ فِي ص 246 وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ أُصُولِ الْفِقْهِ لِلسَّرْخَسِيِّ، وَبَابَ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 فَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ فَقَدِ انْتَقَضَ الدَّلِيلُ الَّذِي دَلَلْتَ بِهِ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ لَا يَكُونُ مَسْمُوعًا لِكَوْنِهِ انْتِقَالًا عَلَى نَفْسِ الْعِلَّةِ إِلَى النَّقْضِ عَلَى دَلِيلِهَا. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ وَتَعْيِينِهَا أَيْ بِمُسَمَّى الصَّوْمِ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كَمَا فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ، وَدَلَّ عَلَى وُجُودِ الصَّوْمِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الصَّوْمَ عِبَارَةٌ فِي الْإِمْسَاكِ مَعَ النِّيَّةِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا مُنْتَقَضٌ بِمَا إِذَا نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ. وَإِنْ قَالَ الْمُعْتَرِضُ لِلْمُسْتَدِلِّ: ابْتِدَاءُ أَمْرِكَ لَا يَخْلُو مِنْ حَالَيْنِ، إِمَّا أَنْ تَعْتَقِدَ وُجُودَ الصَّوْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ أَوْ لَا تَعْتَقِدَهُ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَقَدِ انْتَقَضَتْ عِلَّتُكَ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَقَدِ انْتَقَضَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ كَانَ مُتَّجِهًا. وَإِنْ أَوْرَدَ ذَلِكَ لَا فِي مَعْرِضِ نَقْضِ دَلِيلِ وُجُودِ الْعِلَّةِ، بَلْ فِي مَعْرِضِ الدَّلَالَةِ بِهِ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ، (فَالْحُكْمُ فِيهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ) ، فَهُوَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ عَلَى مَا يَأْتِي. الثَّانِي: مَنْعُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ دَافِعًا لِلنَّقْضِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ (ثَيِّبٌ) فَلَا يَجُوزُ إِجْبَارُهَا كَالثَّيِّبِ الْبَالِغِ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا مَنْقُوضٌ بِالثَّيِّبِ الْمَجْنُونَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِجْبَارُهَا. فَقَالَ الْمُسْتَدِلُّ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ إِجْبَارِ الثَّيِّبِ الْمَجْنُونَةِ، وَالْكَلَامُ فِي تَمْكِينِ الْمُعْتَرِضِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَخَلُّفِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ كَالْكَلَامِ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ (1) . الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ النَّقْضُ عَلَى أَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ خَاصَّةً، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ: بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ بَاعَ صَاعًا بِصَاعَيْنِ   (1) وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ - أَيْ: مِنْ أَنَّ النَّقْضَ وُجُودُ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ فَإِذَا لَمْ تُوجَدِ الْعِلَّةُ فِي صُورَةِ النَّقْضِ فَلَا نَقْضَ وَيُقَالُ هُنَا فَإِذَا لَمْ يَتَخَلَّفِ الْحُكْمُ فِي صُورَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فَلَا نَقْضَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: هَذَا مُنْتَقِضٌ عَلَى أَصْلِكَ بِالْعَرَايَا، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ بَاعَ مَالَ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا. وَجَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُبَيِّنَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مُنَاسِبًا يَقْتَضِي النَّفْيَ، مَنْ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ مَعَ قِرَانِ الْحُكْمِ بِهِ عَلَى أَصْلِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَقُولَ: النَّقْضُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَارِضِ لِدَلِيلِ الْعِلَّةِ، فَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى مَذْهَبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِ الْعِلَّةِ الْمُعَلَّلِ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ، فَلَا يَقَعُ فِي مُعَارَضَةِ دَلِيلِ الْعِلَّةِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنِ الْعِلَّةِ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُسْتَثْنَى لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ وَلَا يُنَاقَضُ بِهِ، كَمَا فِي صُورَةِ الْعَرَايَا الْمَذْكُورَةِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ إِبْدَاءُ النَّقْضِ عَلَى أَصْلِ الْمُعْتَرِضِ لَا غَيْرَ، وَتَوْجِيهُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُعْتَرِضُ: هَذَا الْوَصْفُ مِمَّا لَمْ يَطَّرِدْ عَلَى أَصْلٍ، فَلَا يَلْزَمُنِي الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ. وَجَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: مَا ذَكَرْتَهُ حُجَّةٌ عَلَيْكَ فِي الصُّورَتَيْنِ، إِذْ هِيَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَمَذْهَبُكَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي دَرْءِ الِاحْتِجَاجِ وَإِلَّا كَانَ حُجَّةً فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ الِاحْتِرَازُ فِي دَلِيلِهِ عَنِ النَّقْضِ؟ اخْتَلَفُوا. فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ لِقُرْبِهِ مِنَ الضَّبْطِ وَبُعْدِهِ عَنِ النَّشْرِ وَالْخَبْطِ؛ وَلِأَنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُسْتَدِلُّ مِنَ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ إِذَا كَانَ مُنْتَقِضًا. فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ لَا لِمُعَارِضٍ أَوْ لِمُعَارِضٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا يَكُونُ الْوَصْفُ عِلَّةً لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لِلْعِلَّةِ مُعَارِضًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِهِ فِي الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ الْمُنَاظِرَ تِلْوَ النَّاظِرِ وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ الْجَزْمُ بِالْحُكْمِ عِنْدَ ظُهُورِ سَبَبِهِ دُونَ ظُهُورِ انْتِفَاءِ مُعَارِضِهِ، فَكَذَلِكَ الْمُنَاظِرُ، غَيْرَ أَنَّا أَسْقَطْنَا عَنْهُ كُلْفَةَ نَفْيِ الْمُعَارِضِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ لِعُسْرِ نَفْيِهِ، فَبَقِينَا فِيمَا عَدَاهُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ تَمَسُّكًا مِنْهُ بِأَنَّ مَا يَقَعُ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنِ النَّقْضِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَالْعِلَّةُ لَا تَكُونُ عِلَّةً دُونَهُ، وَمَا مِثْلُ (1) هَذَا لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ ذِكْرِهِ فِي الْعِلَّةِ لِعَدَمِ تَمَامِ الْعِلَّةِ دُونَهُ، وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ فَقَدْ نَازَعَ فِي أَنَّهُ: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ ذِكْرُ الْعِلَّةِ أَوْ لَا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُشِيرًا إِلَى نَفْيِ الْمُعَارِضِ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمَا لَمْ يُسْأَلْ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مَسْئُولًا بَعْدَ الْفَتْوَى عَنِ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ، وَانْتِفَاءُ الْمُعَارِضِ لَيْسَ مِنَ الدَّلِيلِ، وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُ مِنَ الدَّلِيلِ كَانَ خِلَافَ الْغَرَضِ فِي هَذَا الْقِسْمِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَالنَّقْضُ غَيْرُ مُنْدَفِعٍ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ، فَإِذَا كَانَ الْمَذْكُورُ خَارِجًا عَنِ الْعِلَّةِ وَلَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى نَفْيِ الْمُعَارِضِ فَالْعِلَّةُ مَا دُونَهُ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَلَا مُعَارِضَ، فَكَانَ النَّقْضُ مُتَّجِهًا. وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْوَصْفَ الْمَأْخُوذَ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ جُمْلَةِ الْعِلَّةِ لِتَعَلُّقِ فَائِدَةِ دَفْعِ النَّقْضِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُنَاسِبًا فَقَدْ سَبَقَ إِبْطَالُهُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. [الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعَ عَشَرَ الْكَسْرُ] وَهُوَ النَّقْضُ عَلَى الْمَعْنَى (2) ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرِيقَ إِيرَادِهِ وَوَجْهَ الِانْفِصَالِ عَنْهُ فِي شُرُوطِ الْعِلَّةِ (3) ، وَيَخُصُّهُ مِنَ الْأَجْوِبَةِ هَاهُنَا مَنْعُ وُجُودِ الْمَعْنَى الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي صُورَةٍ، وَمَنْعُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهُ وَبَاقِي الْأَجْوِبَةِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا فِي سُؤَالِ النَّقْضِ قَبْلَهُ.   (1) وَمَا مِثْلُ هَذَا. . إِلَخْ، تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص 33 ج4. (2) الْمَعْنَى هُوَ الْحِكْمَةُ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا الْوَصْفُ الْمُعَلَّلُ بِهِ. (3) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ التَّاسِعَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي شُرُوطِ عِلَّةِ الْأَصْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 [الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى وَرَاءَ مَا عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ] الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسَ عَشَرَ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى وَرَاءَ مَا عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِالتَّعْلِيلِ كَمُعَارَضَةِ مَنْ عَلَّلَ تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ فِي الْبُرِّ بِالطَّعْمِ أَوْ بِالْكَيْلِ أَوْ بِالْقُوتِ (1) أَوْ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِالتَّعْلِيلِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ دَاخِلًا فِي التَّعْلِيلِ وَجُزْءًا مِنَ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ كَمُعَارَضَةِ مَنْ عَلَّلَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ؛ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانُ بِالْجَارِحِ فِي الْأَصْلِ وَنَحْوِهِ (2) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي قَبُولِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهُ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ الْوَاحِدُ بِعِلَّتَيْنِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (3) وَلِهَذَا لَوْ قَدَّرْنَا انْفِرَادَ مَا ذَكَرَ الْمُسْتَدِلُّ مُجَرَّدًا عَنِ الْمُعَارِضِ صَحَّ التَّعْلِيلُ بِهِ إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا صَحَّ التَّعْلِيلُ بِهِ لِصَلَاحِيَةٍ فِيهِ لَا لِعَدَمِ الْمُعَارِضِ، فَإِنَّ الْعَدَمَ لَا يَكُونُ عِلَّةً وَلَا دَاخِلًا فِيهَا لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (4) . فَإِذَا صَحَّ التَّعْلِيلُ بِهِ مَعَ عَدَمِ الْمُعَارِضِ، صَحَّ مَعَ وُجُودِهِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْعِلَّةِ إِلَّا مَا يُثْبِتُ الْحُكْمُ عَقِيبَهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْوَصْفَيْنِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ عِلَّةً. وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَهُ وَأَوْجَبَ جَوَابَهُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا وُجِدَ فِي الْأَصْلِ وَصْفَانِ. فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي امْتِنَاعِ ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْعِلَّةُ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ أَوِ الْبَاعِثِ.   (1) " بِالطَّعْمِ " مُتَعَلِّقٌ بِـ " عَلَّلَ " وَبِـ " الْكَيْلِ أَوْ بِالْقُوتِ " مُتَعَلِّقٌ بِـ " مُعَارَضَةِ ". (2) بِالْمُثْقَلِ - مُتَعَلِّقٌ بِالْقَتْلِ، وَبِالْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانُ مُتَعَلِّقٌ بِـ " عَلَّلَ "، وَبِـ " الْجَارِحِ " مُتَعَلِّقٌ بِـ " مُعَارَضَةِ " وَفِي الْأَصْلِ - مُتَعَلِّقٌ بِـ " مُعَارَضَةِ " أَيْضًا. (3) سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ عَشْرَةَ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ عِلَّةِ الْأَصْلِ. (4) سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ عِلَّةِ الْأَصْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 وَإِنْ كَانَ الْقِسْمُ الثَّانِي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ لَا غَيْرَ، أَوْ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ لَا غَيْرَ، أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا بِحَيْثُ تَكُونُ الْعِلَّةُ مَجْمُوعَ الْوَصْفَيْنِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْؤُهَا. لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ وَلَا بِالثَّانِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا لِلتَّعْلِيلِ وَإِلْغَاءُ الْآخَرِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الِاقْتِضَاءِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الثَّالِثِ، وَيَلْزَمْ مِنْهُ امْتِنَاعُ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ (1) . وَبِتَقْدِيرٍ تُسَاوِي الِاحْتِمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْدِيَةَ تَمْتَنِعُ بِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ هِيَ الْهَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنَ الْوَصْفَيْنِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِتَقْدِيرِ التَّعْلِيلِ بِمَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ لَا غَيْرَ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالٍ مِنِ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْدِيَةُ تَكُونُ مُمْتَنِعَةً، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَا أَبْدَاهُ الْمُعْتَرِضُ صَالِحًا لِلتَّعْلِيلِ أَوْ لِدُخُولِهِ فِيهِ عِنْدَ كَوْنِ مَا أَبْدَاهُ الْمُسْتَدِلُّ صَالِحًا وَإِلَّا فَلَا مُعَارَضَةَ، وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتَرِضِ نَفْيُ مَا أَبْدَاهُ مُعَارِضًا فِي الْأَصْلِ عَنِ الْفَرْعِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْفَرْعِ فَيَفْتَقِرُ الْمُسْتَدِلُّ إِلَى بَيَانِ وُجُودِهِ فِيهِ لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَقَدِ انْقَطَعَ الْجَمْعُ. (2) وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَفْيِهِ عَنِ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْفَرْقُ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ دُونَ نَفْيِهِ عَنِ الْفَرْعِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِنْ قَصَدَ الْمُعْتَرِضُ الْفَرْقَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَفْيِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصَدِ الْفَرْقَ بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا الْوَصْفُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِدْرَاجِهِ فِي التَّعْلِيلِ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنَ الدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ فَقَدْ ثَبَتَ الْفَرْقُ. وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْفَرْعِ، فَالْحُكْمُ يَكُونُ فِي الْفَرْعِ بِمَجْمُوعِ الْوَصْفَيْنِ وَنَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِلْعِلَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ بَلْ لِبَعْضِهَا، وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ قُدِّرَ فَالْإِشْكَالُ لَازِمٌ.   (1) أَيْ: يَمْتَنِعُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِهَا وَحْدَهَا إِلَى الْفَرْعِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّالِثِ، ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلَّةَ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ. (2) أَيْ: لَمْ يُوجَدِ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ أَصْلًا وَاحِدًا. وَإِنْ كَانَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ أُصُولًا مُتَعَدِّدَةً، فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِإِفْضَائِهِ إِلَى النَّشْرِ مَعَ إِمْكَانِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْوَاحِدِ مِنْهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَقْوَى فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ. وَمَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاقْتِصَارِ فِي الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ قَصَدَ إِلْحَاقَ الْفَرْعِ بِجَمِيعِ الْأُصُولِ، فَإِذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَبَعْضِ الْأُصُولِ، فَقَدْ تَمَّ مَقْصُودُ الْمُعْتَرِضِ مِنْ إِبْطَالِ غَرَضِ الْمُسْتَدِلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الْمُعَارَضَةِ فِي كُلِّ أَصْلٍ؛ لِأَنَّهُ إِذَا عَارَضَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَقَدْ بَقِيَ قِيَاسُ الْمُسْتَدِلِّ صَحِيحًا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَمْ يُعَارَضْ فِيهِ، وَبِهِ يَتِمُّ الْمَقْصُودُ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَوْ نَفْيِهِ، وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا الْمُعَارَضَةَ فِي جَمِيعِ الْأُصُولِ. مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ اتِّحَادَ الْمُعَارِضِ فِي الْكُلِّ دَفْعًا لِانْتِشَارِ الْكَلَامِ، وَلِأَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا فِي اتِّحَادِهِ لِاتِّحَادِ وَصْفِ الْمُسْتَدِلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ الْمُعَارَضَةَ فِي كُلِّ أَصْلٍ بِغَيْرِ مَا فِي الْأَصْلِ الْآخَرِ، لِجَوَازِ أَنْ لَا يُسَاعِدَهُ فِي الْكُلِّ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَجُوزُ لِلْمُسْتَدِلِّ الِاقْتِصَارُ فِي الْجَوَابِ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ إِذْ بِهِ يَتِمُّ مَقْصُودُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ حَيْثُ إِنَّ الْمُسْتَدِلَّ الْتَزَمَ صِحَّةَ الْقِيَاسِ عَلَى الْكُلِّ، وَعَلَى هَذَا يَقَعُ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ عَارَضَ فِي بَعْضِ الْأُصُولِ هَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ الْجَوَابُ أَوْ لَا؟ وَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمَعَارَضِ بِهِ فِي الْأَصْلِ. الثَّانِي: الْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ، إِنْ كَانَ طَرِيقُ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَدِلِّ الْمُنَاسَبَةُ أَوِ الشَّبَهُ دُونَ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ كَوْنَهُ مُلْغًى فِي جِنْسِ الْأَحْكَامِ كَالطُّولِ وَالْقِصَرِ وَنَحْوِهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ مُلْغًى فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ، وَإِنْ كَانَ (1) مُنَاسِبًا وَذَلِكَ كَالذُّكُورَةِ فِي بَابِ الْعِتْقِ. الْخَامِسُ (2) : أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ قَدِ اسْتَقَلَّ بِالْحُكْمِ فِي صُورَةٍ دُونَ الْوَصْفِ الْمُعَارَضِ بِهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْغَاءِ الْمُسْتَقِلِّ وَاعْتِبَارِ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ. وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي التَّعْلِيلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْغَاءِ مَا عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْفَرْعِ مَعَ اسْتِقْلَالِهِ لِفَوَاتِ مَا لَمْ يَثْبُتِ اسْتِقْلَالُهُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. فَإِنْ عَارَضَ الْمُعْتَرِضُ فِي صُورَةِ الْإِلْغَاءِ بِوَصْفٍ آخَرَ غَيْرِ مَا عَارَضَ بِهِ فِي الْأَصْلِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِبْطَالِهِ، وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ مُتَعَذِّرٌ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِهِ إِنَّ كُلَّ وَصْفٍ اخْتَصَّ بِصُورَةٍ فَهُوَ مُلْغًى بِالصُّورَةِ الْأُخْرَى، وَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى فِي الِاصْطِلَاحِ بِتَعَدُّدِ الْوَضْعِ. فَإِنَّ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: الْعَكْسُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِجَوَازِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِعِلَّةٍ غَيْرِ عِلَّةِ الصُّورَةِ الْأُخْرَى، وَإِذَا جَازَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي صُورَتَيْنِ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِعِلَّةٍ مَعَ عَدَمِ عِلَّةِ الصُّورَةِ الْأُخْرَى فِيهَا إِلْغَاءُ مَا وُجِدَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ. السَّادِسُ: أَنْ يُبَيِّنَ رُجْحَانَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى مَا عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا. وَعِنْدَ ذَلِكَ، فَيَمْتَنِعُ جَعْلُ مَا عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ عِلَّةً مُسْتَقِلَّةً فِي مَحَلِّ التَّعْلِيلِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِهْمَالِ الرَّاجِحِ وَاعْتِبَارِ الْمَرْجُوحِ.   (1) وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا - أَيْ: فِي غَيْرِ جِنْسِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ. (2) انْظُرِ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ فِي مَسْلَكِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي التَّعْلِيلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْغَاءِ مَا عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ فِي الْفَرْعِ بِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهُ مَعَ رُجْحَانِهِ، ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ الْمَرْجُوحِ. وَهَاهُنَا تَرْجِيحٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ فِي الْأَصْلِ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهُ مُتَعَدِّيًا وَالْآخَرُ قَاصِرًا. وَذَلِكَ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ، فَإِنْ كَانَ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ؛ فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي جُزْءًا مِنَ الْعِلَّةِ، أَوْ خَارِجًا عَنْهَا بِأَنْ يَكُونَ الْمُعَارِضُ فِي الْأَصْلِ بِالْوَصْفِ الْقَاصِرِ لَا غَيْرَ، فَإِنْ كَانَ خَارِجًا عَنْهَا، فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي مُسَاوِيًا لِلْقَاصِرِ فِي جِهَةِ اقْتِضَائِهِ أَوْ أَنَّ التَّرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْقَاصِرِ مِنْ جِهَةِ الِاقْتِضَاءِ، فَالتَّعْلِيلُ بِالْمُتَعَدِّي أَوْلَى، وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ. أَمَّا الْإِجْمَالُ: فَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْمُتَعَدِّي مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَأَمَّا التَّفْصِيلُ: فَهُوَ أَنَّ فَائِدَةَ الْمُتَعَدِّي أَكْثَرُ مِنَ الْقَاصِرِ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْقَاصِرِ إِنَّمَا هِيَ فِي ظُهُورِ الْحِكْمَةِ الْبَاعِثَةِ فِي الْأَصْلِ لِسُرْعَةِ الِانْقِيَادِ وَسُهُولَةِ الْقَبُولِ، وَالْمُتَعَدِّي مُشَارِكٌ لِلْقَاصِرِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَزِيَادَةُ التَّعْرِيفِ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ أَعْظَمُ فَوَائِدِ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَهُوَ وَإِنْ لَزِمَ مِنَ التَّعْلِيلِ بِهِ إِهْمَالُ الْمُنَاسِبِ الْقَاصِرِ فَمُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ، حَيْثُ إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْقَاصِرِ إِهْمَالُ الْمُنَاسِبِ الْمُتَعَدِّي مَعَ كَوْنِهِ رَاجِحًا. وَالتَّعْلِيلُ بِالْقَاصِرِ وَإِنْ كَانَ عَلَى وَفْقِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فِي الْفَرْعِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْمُتَعَدِّي عَلَى خِلَافِهِ إِلَّا أَنَّهُ مُخَالَفَةٌ لِمَا وَقَعَتْ مُخَالَفَتُهُ فِي الْأَصْلِ بِمَا لَمْ تَظْهَرْ مُخَالَفَتُهُ وَلَوْ عَمِلْنَا بِالْقَاصِرِ لِمُوَافَقَةِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ؛ لَكَانَ فِيهِ الْعَمَلُ بِمُوَافَقَةِ مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَمُخَالَفَةِ مَا لَمْ يَقَعِ الِاتِّفَاقُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي فَكَانَ مَرْجُوحًا. فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ مَا لَمْ يُتَّفَقْ عَلَى مُخَالَفَتِهِ مِنَ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ، وَمَا اتُّفِقَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ مِنَ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، فَكَانَ فِيهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ وَالْآخَرُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الْقَاصِرِ يَلْزَمُ مِنْهُ الْعَمَلُ بِهَذَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ، وَمُخَالَفَةُ ظَاهِرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي. قُلْنَا: هَذَا مُقَابَلٌ بِمِثْلِهِ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ لِمَعْنًى - وَإِنْ كَانَ قَاصِرًا - فَالْأَصْلُ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْفَرْعِ بِمَا وُجِدَ مُسَاوِيًا لِوَصْفِ الْأَصْلِ فِي الِاقْتِضَاءِ نَظَرًا إِلَى تَمَاثُلِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، لِكَوْنِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ مُخَالِفًا فِي الْأَصْلِ بِمِثْلِ مَا قِيلَ بِاقْتِضَائِهِ لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَتَرَجَّحُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي عَمِلَ بِهِ، وَبِأَصْلٍ مُتَرَجِّحٍ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَالْعَمَلُ بِالْقَاصِرِ عَمَلٌ بِهِ وَبِأَصْلٍ مَرْجُوحٍ بِالنَّظَرِ إِلَى الْأَصْلِ الْمَعْمُولِ بِهِ مِنْ جَانِبِنَا، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: رُبَّمَا كَانَ الْمَانِعُ لِلْحُكْمِ قَائِمًا مُطْلَقًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالتَّعْلِيلُ بِالْقَاصِرُ أَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ النَّافِي وَمُوَافَقَةِ النَّفْيِ الْأَصْلَ بِخِلَافِ الْمُتَعَدِّي. قُلْنَا: الْمَانِعُ فِي الْفَرْعِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمُقْتَضَى وَإِلَّا فَالْحُكْمُ يَكُونُ فِيهِ مُنْتَفِيًا؛ لِانْتِفَاءِ مَا يَقْتَضِيهِ، لَا لِوُجُودِ مُنَافِيهِ، فَدَعْوَى وُجُودِ الْمَانِعِ فِي الْفَرْعِ مَعَ وُجُوبِ قُصُورِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِثْبَاتِ عَلَى الْأَصْلِ (1) تَنَاقُضٌ لَا حَاصِلَ لَهُ. كَيْفَ وَإِنَّ مَا مِثْلُ هَذَا الْمَانِعِ مَرْجُوحٌ ثُمَّ الْخَصْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَصْفِ الْقَاصِرِ وَالْمُتَعَدِّي عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْضُ فِي ابْتِدَاءِ الْكَلَامِ، مُسَاوٍ لِلْقَاصِرِ فِي الْمَقْصُودِ، فَكَانَ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُتَعَدِّي أَيْضًا، فَكَانَ الْمُتَعَدِّي أَوْلَى كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: كَمَا أَنَّ الْمُتَعَدِّيَةَ قَدْ تَعْرِفُ إِثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ، فَالْقَاصِرَةُ تَعْرِفُ نَفْيَهُ عَنِ الْفَرْعِ، وَكَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ؛ فَمَعْرِفَةُ انْتِفَائِهِ أَيْضًا عَنْهُ مَقْصُودٌ لَهُ. قُلْنَا: هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْفَرْعِ مَا هُوَ مُسَاوٍ لِلْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ فِي الْأَصْلِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى جِهَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَالْمَقْصُودُ الْمَطْلُوبُ لِلشَّارِعِ مِنْ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ لِنَفْيِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ إِنَّمَا هُوَ بِنَاءً عَلَى انْتِفَاءِ مَقْصُودِ الْحُكْمِ، وَلَنْ يُتَصَوَّرَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ مُسَاوٍ فِي الطَّلَبِ وَالِاقْتِضَاءِ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْأَصْلِ، فَلَا يَنْتَهِضُ الْوَصْفُ الْقَاصِرُ فِي الْأَصْلِ عَلَامَةٌ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ مَعَ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي فِيهِ وَمُسَاوَاتِهِ لِلْقَاصِرِ فِي الِاقْتِضَاءِ عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ الْفَرْضُ.   (1) " عَلَى الْأَصْلِ " - مُتَعَلِّقٌ بِـ " قُصُورِ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 كَيْفَ وَإِنَّ الْعِلَّةَ الْقَاصِرَةَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِتَعْرِيفِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ إِلَّا مَعَ ضَمِيمَةِ انْتِفَاءِ عِلَّةِ غَيْرِهَا، وَانْتِفَاءُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ فِي طَرْفِ الْإِثْبَاتِ، فَمَا اسْتُقِلَّ بِالتَّعْرِيفِ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّا لَا يُسْتَقَلُّ. نَعَمْ، قَدْ يَتَوَقَّفُ الْعَمَلُ بِالْعِلَّةِ الْمُثْبَتَةِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُعَارِضِ لَا أَنَّ انْتِفَاءَ الْمُعَارِضِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعَرَّفِ وَلَا الدَّاعِي، بِخِلَافِ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْعِلَّةُ الْقَاصِرَةُ فِي تَعْرِيفِهَا نَفْيَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ. وَالْعَمَلُ بِمَا هُوَ مُعَرَّفٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ فِي تَعْرِيفِهِ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ إِنْ كَانَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي رَاجِحًا فِي جِهَةِ اقْتِضَائِهِ أَوْلَى وَالْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي وَإِنْ تَوَقَّفَ اسْتِقْلَالُهُ عَلَى إِخْرَاجِ الْقَاصِرِ عَنِ التَّعْلِيلِ فَلَيْسَ إِخْرَاجُ الْقَاصِرِ مَوْقُوفًا عَلَى اسْتِقْلَالِ الْمُتَعَدِّي، لِيَلْزَمَ الدَّوْرَ لِجَوَازِ اتِّفَاقِهِمَا فِي إِخْرَاجِهِمَا عَنِ التَّعْلِيلِ. كَيْفَ وَإِنَّهُ مُقَابَلٌ بِدَوْرٍ آخَرَ حَيْثُ إِنَّهُ يَتَوَقَّفُ إِدْخَالُ الْقَاصِرِ فِي التَّعْلِيلِ عَلَى عَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْمُتَعَدِّي، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَعَدِّي مَرْجُوحًا فِي جِهَةِ اقْتِضَائِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَصْفِ الْقَاصِرِ، فَالْوَصْفُ الْقَاصِرُ أَوْلَى نَظَرًا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى زِيَادَةِ الْمُنَاسَبَةِ الْمُعْتَبَرَةِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا وَإِنْ أَوْجَبَ إِهْمَالَ فَائِدَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْمَصْلَحَةِ، وَصَلَاحِ الْمُكَلَّفِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَقُّلِ وَسُرْعَةِ الِانْقِيَادِ فِي ابْتِدَاءِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا. وَفَائِدَةُ التَّعْدِيَةِ إِنَّمَا تُعْرَفُ بَعْدَ تَعَرُّفِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِمَا عُلِّلَ بِهِ بِنَظَرٍ ثَانٍ مُتَأَخِّرٍ عَنِ النَّظَرِ، فِيمَا عُلِّلَ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا هُوَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْحُكْمِ يَكُونُ أَسْبَقَ إِلَى الْفَهْمِ بِالتَّعْلِيلِ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي الْأَصْلِ فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِهِ أَوْلَى. وَإِنْ كَانَتْ جِهَةُ التَّسَاوِي وَالْأَرْجَحِيَّةِ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا ظَاهِرَةٍ، فَالتَّعْلِيلُ بِالْمُتَعَدِّي أَوْلَى نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ أَوْلَى عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا الْعَمَلُ بِهِ يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرٍ مِنَ التَّقْدِيرَيْنِ أَوْلَى مِمَّا لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وَعَلَى مَا فَصَّلْنَاهُ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ يَكُونُ الْحُكْمُ فِي طَرَفِ النَّفْيِ، هَذَا كُلُّهُ إِنْ كَانَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي خَارِجًا عَنِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا بِأَنْ كَانَ الْمُعَارِضُ مُعَلِّلًا بِمَجْمُوعِ الْوَصْفَيْنِ؛ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ وَالْمُتَعَدِّي مَعًا، فَالْقَاصِرُ أَوْلَى؛ وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ أَوِ النَّفْيِ؛ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُتَعَدِّي رَاجِحًا عَلَى الْقَاصِرِ أَوْ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا. أَمَّا فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ؛ فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ يَلْزَمُ مِنْهُ إِهْمَالُ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ وَتَعْطِيلُهُ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَيَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ أَوْلَى مِنَ التَّعْطِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي رَاجِحًا لَوْ جَعَلْنَا الْوَصْفَ الْقَاصِرَ دَاخِلًا فِي التَّعْلِيلِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ عَنِ الْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي الرَّاجِحِ؛ رِعَايَةً لِمَا فَاتَ مِنَ الْوَصْفِ الْمَرْجُوحِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. قُلْنَا: هَذَا إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ رُجْحَانُهُ ظَاهِرًا، وَلَا يَسْتَقِيمُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ الْعَمَلِ بِمَا يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرٍ مِنْ تَقْدِيرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِمَا لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. كَيْفَ وَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْقَاصِرِ، وَإِنْ كَانَ يُفْضِي إِلَى إِهْمَالِ الْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي فِي الْفَرْعِ؛ إِلَّا إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِهْمَالُهُ مُطْلَقًا إِذْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْعِلَّةِ، وَلَوْ عَمِلْنَا بِالْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي فَقَطْ يَلْزَمُ مِنْهُ إِهْمَالُ الْقَاصِرِ وَتَعْطِيلُهُ مُطْلَقًا، فَالْعَمَلُ بِالْقَاصِرِ يَكُونُ أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ النَّفْيِ أَيْضًا، بَلْ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْلِيلِ مُخَالَفَةِ الْمُقْتَضِي لِلْإِثْبَاتِ. هَذَا إِنْ ظَهَرَ التَّرْجِيحُ، وَأَمَّا إِنْ تَحَقَّقَتِ الْمُعَارَضَةُ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ، فَعَلَى مُقْتَضَى مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ عِنْدَ التَّعَارُضِ مَعَ التَّنَافِي، فَلَا مَانِعَ مِنَ الْجَرْيِ عَلَى تِلْكَ الْقَاعِدَةِ هَاهُنَا. [الِاعْتِرَاضُ السَّادِسَ عَشَرَ سُؤَالُ التَّرْكِيبِ] وَهُوَ الْوَارِدُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْقِيَاسِ الْمُرَكَّبِ وَأَقْسَامَهُ وَوَجْهَ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ، وَالسُّؤَالَ الْوَارِدَ عَلَيْهِ وَجَوَابَهُ فِي شَرْطِ حُكْمِ الْأَصْلِ (1) .   (1) بُيِّنَ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الشَّرْطِ السَّادِسِ مِنْ شُرُوطِ حُكْمِ الْأَصْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 [الِاعْتِرَاضُ السَّابِعَ عَشَرَ سُؤَالُ التَّعْدِيَةِ] وَهُوَ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأَصْلِ مَعْنًى وَيُعَارِضَ بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمُسْتَدِلِّ: مَا عَلَّلْتَ بِهِ وَإِنْ تَعَدَّى إِلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَالَّذِي عَلَّلْتُ بِهِ أَيْضًا قَدْ تَعَدَّى إِلَى فَرْعٍ مُخْتَلِفٍ فِيهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ إِجْبَارِ الْبِكْرِ الْبَالِغِ: بِكْرٌ، فَجَازَ إِجْبَارُهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، فَعَارَضَهُ الْحَنَفِيُّ بِالصِّغَرِ وَقَالَ: الْبَكَارَةُ وَإِنْ تَعَدَّتْ إِلَى الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ، فَالصِّغَرُ مُتَعَدٍّ إِلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ. وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ مَعَ زِيَادَةِ التَّسْوِيَةِ فِي التَّعْدِيَةِ، وَجَوَابُهُ بِإِبْطَالِ مَا عَارَضَ بِهِ الْمُعْتَرِضُ وَحَذْفُهُ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ بِمَا أَسْلَفْنَاهُ فِي سُؤَالِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ، وَمَهْمَا حُقِّقَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ فَقَدِ انْدَفَعَ وَلَا أَثَرَ لِمَا أُشِيرَ إِلَيْهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ، خِلَافًا لِلدَّارَكِيِّ (1) . [الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنَ عَشَرَ مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فِي الْفَرْعِ] الِاعْتِرَاضُ الثَّامِنَ عَشَرَ مَنْعُ وُجُودِ الْوَصْفِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فِي الْفَرْعِ، وَجَوَابُهُ كَجَوَابِ مَنْعِ وُجُودِهِ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ عُرِفَ. [الِاعْتِرَاضُ التَّاسِعَ عَشَرَ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمٍ الْمُسْتَدِلِّ] الِاعْتِرَاضُ التَّاسِعَ عَشَرَ الْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمٍ الْمُسْتَدِلِّ، إِمَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ ظَاهِرٍ أَوْ بِوُجُودِ مَانِعِ الْحُكْمِ أَوْ بِفَوَاتِ شَرْطِ الْحُكْمِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ تَحَقُّقِهِ وَطَرِيقِ كَوْنِهِ مَانِعًا أَوْ شَرْطًا عَلَى نَحْوِ طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْمُسْتَدِلِّ كَوْنَ الْوَصْفِ الَّذِي عَلَّلَ بِهِ مِنَ التَّأْثِيرِ أَوِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهِ، (2) فَمَنَعَ مِنْهُ قَوْمٌ تَمَسُّكًا مِنْهُمْ بِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ اسْتِدْلَالٌ وَبِنَاءٌ، وَحَقُّ الْمُعْتَرِضِ أَنْ يَكُونَ هَادِمًا لَا بَانِيًا.   (1) الدَّارَكِيُّ - نِسْبَةً إِلَى دَارَكٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ قَرْيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ أَصْبَهَانَ يُنْسَبُ إِلَيْهَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَبُو الْقَاسِمِ الدَّارَكِيُّ الشَّافِعِيُّ مَاتَ عَامَ 375 هـ وَقَدْ رَوَى عَنْ جَدِّهِ لِأُمِّهِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّارَكِيِّ. (2) قَبُولِهِ؛ أَيْ: قَبُولِ الِاعْتِرَاضِ بِالْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ بِمَا يَقْتَضِي نَقِيضَ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ. . . . إِلَخْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وَقَبِلَهُ الْأَكْثَرُونَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْهُ هَدْمُ مَا بَنَاهُ الْمُسْتَدِلُّ لِمُقَاوَمَةِ دَلِيلِهِ لِدَلِيلِهِ، وَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي سُلُوكِ طُرُقِ الْهَدْمِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ طَرِيقًا فِي الْهَدْمِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَادِمٌ سِوَاهُ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لَبَطَلَ مَقْصُودُ الْمُنَاظَرَةِ، وَاخْتَلَّتْ فَائِدَةُ الْبَحْثِ وَالِاجْتِهَادِ. وَالْوَجْهُ فِي جَوَابِهِ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ أَنْ يَقْدَحَ فِيهِ الْمُسْتَدِلُّ بِكُلِّ مَا لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقْدَحَ بِهِ فِيهِ، أَنْ لَوْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ مُتَمَسِّكًا بِهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ دَفْعِهِ بِالتَّرْجِيحِ. فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ اعْتِمَادًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ - وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ - فَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهِ اعْتِرَاضًا. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا تَرَجَّحَ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحَاتِ الْآتِيَةِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِ مُتَعَيَّنًا. وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَذْكُرَ فِي دَلِيلِهِ مَا يُومِئُ إِلَى التَّرْجِيحِ؟ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ لِتَوَقُّفِ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنَ الدَّلِيلِ، فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ أَوَّلًا، بَلْ لِبَعْضِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْهُ؛ لِمَا فِي التَّكْلِيفِ بِهِ مِنَ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ. وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُقَالَ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا بِهِ التَّرْجِيحُ يَرْجِعُ إِلَى الْعِلَّةِ بِأَنْ يَكُونَ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِهَا أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الدَّلِيلِ أَوَّلًا لِيَكُونَ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَلَا؛ لِأَنَّهُ مَسْئُولٌ عَنِ الدَّلِيلِ وَقَدْ أَتَى بِمُسَمَّاهُ حَقِيقَةً، وَالتَّرْجِيحُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الدَّلِيلِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ وُرُودِ الْمُعَارَضَةِ، فَذِكْرُهُ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ إِعْمَالُ الدَّلِيلِ بِدَفْعِ الْمُعَارِضِ (1) لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي مُسَمَّى الدَّلِيلِ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَاكِرًا لِلدَّلِيلِ أَوَّلًا.   (1) " وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ إِعْمَالُ الدَّلِيلِ " فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْأَصْلُ وَإِنْ تَوَقَّفَ إِعْمَالُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْمُعَارِضِ لَا يُوجِبُ. . . . إِلَخْ، وَإِنَّ وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمُؤَوَّلِ فِي قَوْلِهِ: لِأَنَّهُ مَسْئُولٌ عَنِ الدَّلِيلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 [الِاعْتِرَاضُ الْعِشْرُونَ الْفَرْقُ] وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ الْفَرْقِ عِنْدَ أَبْنَاءِ زَمَانِنَا لَا يَخْرُجُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ أَوِ الْفَرْعِ إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، حَتَّى إِنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ فَرْقًا. وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ أَسْئِلَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ وَالْمُعَارَضَةُ فِي الْفَرْعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِقَبُولِهِ، وَاخْتَلَفُوا مَعَ ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ سُؤَالَيْنِ أَوْ سُؤَالًا وَاحِدًا، فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: إِنَّهُ سُؤَالَانِ، جُوِّزَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِ أَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: بَلْ هُوَ سُؤَالٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ مَقْصُودِهِ، وَهُوَ الْفَرْقُ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِيغَتُهُ. وَمِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ قَالَ: لَيْسَ سُؤَالُ الْفَرْقِ هُوَ هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ مَعْنًى فِي الْأَصْلِ لَهُ مَدْخَلٌ فِي التَّعْلِيلِ وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْفَرْعِ، فَيَرْجِعُ حَاصِلُهُ إِلَى بَيَانِ انْتِفَاءِ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَبِهِ يَنْقَطِعُ الْجَمْعُ. وَجَوَابُهُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي جَوَابِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ. [الِاعْتِرَاضُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ إِذَا اخْتَلَفَ الضَّابِطُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَاتَّحَدَتِ الْحِكْمَةُ] الِاعْتِرَاضُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ إِذَا اخْتَلَفَ الضَّابِطُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَاتَّحَدَتِ الْحِكْمَةُ كَمَا لَوْ قِيلَ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ: تَسَبَّبُوا فِي الْقَتْلِ عَمْدًا عُدْوَانًا فَلَزِمَهُمُ الْقِصَاصُ زَجْرًا لَهُمْ عَنِ التَّسَبُّبِ كَالْمُكْرَهِ. فَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: ضَابِطُ الْحِكْمَةِ فِي الْأَصْلِ إِنَّمَا هُوَ الْإِكْرَاهُ، وَفِي الْفَرْعِ الشَّهَادَةُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا وَهُوَ الزَّجْرُ فَلَا يُمْكِنُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ بِهِ وَحْدَهُ، وَمَا جُعِلَ ضَابِطًا لَهُ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْفَرْعِ، وَالضَّابِطُ فِي الْفَرْعِ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ مُسَاوِيًا لِضَابِطِ الْأَصْلِ فِي الْإِفْضَاءِ إِلَى الْمَقْصُودِ، فَامْتَنَعَ الْإِلْحَاقُ. وَجَوَابُهُ إِمَّا بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ إِنَّمَا هُوَ بِعُمُومِ مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الضَّابِطُ مِنَ التَّسَبُّبِ الْمَضْبُوطِ عُرْفًا، أَوْ بِأَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ إِفْضَاءَ الضَّابِطِ فِي الْفَرْعِ إِلَى الْمَقْصُودِ أَكْثَرُ مِنْ إِفْضَاءِ ضَابِطِ الْأَصْلِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ أَصْلُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ (الْمُغْرِي لِلْحَيَوَانِ) مِنْ حَيْثُ إِنَّ انْبِعَاثَ الْوَلِيِّ لِلتَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ فِي الْفَرْعِ لِغَلَبَةِ إِقْدَامِ الْمُكْرَهِ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ؛ طَلَبًا لِخَلَاصِ نَفْسِهِ أَغْلَبُ مِنْ إِقْدَامِ الْحَيَوَانِ بِالْإِغْرَاءِ عَلَى الْآدَمِيِّ بِسَبَبِ غَلَبَةِ نُفْرَتِهِ عَنْهُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَيُبَيِّنُ الْغَلَبَةَ بِمَا يُسَاعِدُ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ. [الِاعْتِرَاضُ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ إِذَا اتَّحَدَ الضَّابِطُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَاخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَصْلَحَةِ] الِاعْتِرَاضُ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ (1) إِذَا اتَّحَدَ الضَّابِطُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَاخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَصْلَحَةِ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ اللِّوَاطِ: أَوْلَجَ فَرْجًا فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا، مُحَرَّمٌ شَرْعًا، فَوَجَبَ بِهِ الْحَدُّ كَالزِّنَا. فَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَقُولَ: الضَّابِطُ وَإِنْ كَانَ مُتَّحِدًا، غَيْرَ أَنَّ الْحِكْمَةَ الَّتِي فِي الْفَرْعِ وَهِيَ صِيَانَةُ النَّفْسِ عَنْ رَذِيلَةِ اللِّيَاطَةِ مُخَالِفَةٌ لِحِكْمَةِ الْأَصْلِ، وَهِيَ دَفْعُ مَحْذُورِ اخْتِلَاطِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ الْمُفْضِي إِلَى تَضْيِيعِ الْمَوْلُودِ وَانْقِطَاعِ نَسْلِ جِنْسِ الْإِنْسَانِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنِ اعْتِبَارِ الضَّابِطِ فِي الْأَصْلِ لِمَا لَزِمَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ اعْتِبَارُهُ فِي الْفَرْعِ لِغَيْرِ تِلْكَ الْحِكْمَةِ، لِجَوَازِ أَنْ لَا تَكُونَ قَائِمَةً مَقَامَهَا فِي نَظَرِ الشَّارِعِ. وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: التَّعْلِيلُ إِنَّمَا وَقَعَ بِالضَّابِطِ الْمُشْتَرَكِ الْمُسْتَلْزِمِ لِدَفْعِ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ مِنْ عُمُومِ الْجِمَاعِ، وَالتَّعَرُّضِ لِحَذْفِ خُصُوصِ مَا اخْتَصَّ بِهِ الْأَصْلُ مِنَ الزِّنَا وَمَقْصُودِهِ اللَّازِمِ عَنْهُ وَحَذْفِهِ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَذْفِ الَّتِي سَبَقَ بَيَانُهَا فِي السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ. [الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ يُقَالَ حُكْمُ الْفَرْعِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْأَصْلِ فَلَا قِيَاسَ] الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ أَنْ يُقَالَ: حُكْمُ الْفَرْعِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْأَصْلِ، فَلَا قِيَاسَ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعْدِيَةِ حُكْمِ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ بِوَاسِطَةِ الْجَامِعِ بَيْنَهُمَا، وَمَعَ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ، فَحُكْمُ الْأَصْلِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا إِلَى الْفَرْعِ فَلَا قِيَاسَ. وَجَوَابُهُ بِبَيَانِ اتِّحَادِ الْحُكْمِ، إِمَّا عَيْنًا وَذَلِكَ كَمَا فِي قِيَاسِ وُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَقِيَاسِ صِحَّةِ الْبَيْعِ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ (2) وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمَحَلِّ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِحٍ   (1) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْخَامِسَةَ فِي حُكْمِ إِجْرَاءِ الْقِيَاسِ فِي الْأَسْبَابِ. (2) الْعِبَارَةُ فِي الْمِثَالَيْنِ فِيهَا تَسَامُحٌ، وَالْمُنَاسَبُ أَنْ يُقَالَ كَقِيَاسِ الصَّوْمِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْوُجُوبِ، وَكَقِيَاسِ بَيْعِ الْغَائِبِ مَثَلًا عَلَى نِكَاحِ الْغَائِبَةِ فِي الصِّحَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ لَا جَامِعَ فِيهِ، وَحُكْمُ الْوُجُوبِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَكُونَ أَصْلًا وَالْآخَرُ فَرْعًا أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ شَرْطًا فِيهِ وَإِمَّا جِنْسًا كَمَا فِي قِيَاسِ وُجُوبِ قَطْعِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْأَنْفُسِ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ (1) وَأَنَّ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا هُوَ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، فَكَانَ إِمَّا مُلَائِمًا إِنْ كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِي جِنْسِ الْعِلَّةِ أَوْ مُؤَثِّرًا إِنْ كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِي عَيْنِهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْقِيَاسِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُخْتَلِفًا جِنْسًا وَنَوْعًا كَمَا فِي إِلْحَاقِ الْإِثْبَاتِ بِالنَّفْيِ أَوِ الْوُجُوبِ بِالتَّحْرِيمِ وَبِالْعَكْسِ، فَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّتِهِ وَأَنَّ الْمُخْتَارَ إِبْطَالُهُ (2) . [الِاعْتِرَاضُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْقَلْبِ] وَهُوَ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ قَلْبُ الدَّعْوَى، وَالْآخَرُ قَلْبُ الدَّلِيلِ. أَمَّا قَلْبُ الدَّعْوَى فَضَرْبَانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّعْوَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ مُضْمَرًا فِيهَا أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: أَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مَرْئِيٌّ، فَهَذِهِ دَعْوَى فِيهَا إِضْمَارُ الدَّلِيلِ، وَتَقْدِيرُهُ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ إِذِ الْوُجُودُ هُوَ الْمُصَحِّحُ لِلرُّؤْيَةِ عِنْدَهُ. فَقَالَ الْمُعْتَزِلِيُّ: أَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ فِي جِهَةٍ لَا يَكُونُ مَرْئِيًّا، فَهَذِهِ الدَّعْوَى مُقَابِلَةٌ لِلْأُولَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَوْجُودَ يَنْقَسِمُ إِلَى مَا هُوَ فِي جِهَةٍ وَإِلَى مَا لَيْسَ   (1) فِيهِ مَا سَبَقَ مِنَ التَّسَامُحِ فِي التَّعْبِيرِ، وَالْمُنَاسَبُ أَنْ يُقَالَ: كَقِيَاسِ الْأَيْدِي عَلَى النُّفُوسِ فِي وُجُوبِ قَطْعِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ بِالنَّفْسِ، فَإِنَّ نَوْعَ الْحُكْمِ وَإِنِ اخْتَلَفَ قَتْلًا وَقَطْعًا لَكِنَّهُ اتَّحَدَ جِنْسًا وَهُوَ الْقِصَاصُ. (2) انْظُرِ الشَّرْطَ الثَّالِثَ مِنْ شُرُوطِ الْفَرْعِ، وَالْفَصْلَ الْخَامِسَ مِنْ فُصُولِ الْمَسْلَكِ الْخَامِسِ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالْمُنَاسَبَةِ وَالْإِخَالَةِ، انْظُرْ بَابَ مَنْعِ التَّعَبُّدِ بِالْقِيَاسِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ص 723 ج2 مِنْ كِتَابِ الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 فِي جِهَةٍ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَا لَيْسَ فِي جِهَةٍ لَا يَكُونُ مَرْئِيًّا (1) يُقَابِلُ قَوْلَ الْقَائِلِ: كُلُّ مَوْجُودٍ مَرْئِيٌّ، وَدَلِيلُهَا مُضْمَرٌ فِيهَا وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ انْتِفَاءَ الْجِهَةِ مَانِعٌ مِنَ الرُّؤْيَةِ. وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنِ الدَّلِيلُ مُضْمَرًا فِيهَا، فَكَمَا لَوْ قَالَ الْقَائِلُ فِي مَسْأَلَةِ إِفْضَاءِ النَّظَرِ إِلَى الْعِلْمِ أَوْ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ مَثَلًا، أَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّظَرَ إِلَى الْعِلْمِ وَأَنَّ الْكُفْرَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ وَالشُّكْرَ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ النَّظَرَ لَا يُفْضِي إِلَى الْعِلْمِ وَأَنَّ الْكُفْرَ لَيْسَ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ وَلَا الشُّكْرَ لِعَيْنِهِ. وَهَذَا هُوَ عَيْنُ مُقَابَلَةِ الْفَاسِدِ بِالْفَاسِدِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ اسْتِنْطَاقُ الْمُدَّعِي بِاسْتِحَالَةِ دَعْوَى الضَّرُورَةِ مِنْ خَصْمِهِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَيُقَالُ وَهَذَا لَازِمٌ لَكَ أَيْضًا. وَقَدْ أَوْرَدَ الْجَدَلِيُّونَ فِي هَذَا الْبَابِ قَلْبَ الِاسْتِبْعَادِ فِي الدَّعْوَى، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ إِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ الْمُدَّعِيَيْنِ: تَحْكِيمُ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ. فَقَالَ الْحَنَفِيُّ: وَتَحْكِيمُ الْقَائِفِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا تَحَكُّمٌ بِلَا دَلِيلٍ.   (1) لَمْ يَرِدْ فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ إِطْلَاقُ الْجِهَةِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إِثْبَاتًا وَلَا نَفْيًا؛ لِأَنَّهَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ حَقًّا وَبَاطِلًا؛ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ شَيْءٌ مَوْجُودٌ مَخْلُوقٌ، فَاللَّهُ لَيْسَ فِي جِهَةٍ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي دَاخِلِ الْعَالَمِ وَلَا يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُرَادُ بِهِ مَا وَرَاءَ الْعَالَمِ فَعَلَيْهِ يُقَالُ: اللَّهُ فَوْقَ عِبَادِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي التَّوْحِيدِ عَلَى مَا وَرَدَ مِنَ التَّعْبِيرِ فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ وَمَا عُرِفَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ عِصْمَةٌ لَهُمْ مِنْ زَلَلِ الرَّأْيِ وَالتَّوَسُّعِ فِي التَّعْبِيرِ، وَلَوِ اكْتَفَوْا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَسَائِلِ الدِّينِ وَخَاصَّةً السَّمْعِيَّةَ بِمَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنَ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ لَهُدُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَنَجَوْا مِنْ فِرْقَةِ الْأَهْوَاءِ، وَمِنَ الْحَيْرَةِ الَّتِي طَوَّحَتْ بِهِمْ فِي الْمَتَاهَاتِ انْظُرِ الْقَاعِدَةَ الثَّانِيَةَ فِي كِتَابِ التَّدْمُرِيَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 قَالُوا وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَيْضًا اسْتِنْطَاقُ الْمُدَّعِي بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِتَحَكُّمٍ، بَلْ لَهُ مَأْخَذٌ صَحِيحٌ فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرْتُهُ. وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ الْمُدَّعِي بِأَنَّ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ تَحَكُّمٌ أَوْ أَنْ يُبَيِّنَ مَأْخَذَهُ فِيهِ، فَإِنْ كَانَ تَحَكُّمًا فَلَا تُغْنِي مُعَارَضَتُهُ بِتَحَكُّمِهِ فِي مَذْهَبِهِ فِي إِبْطَالِ دَعْوَاهُ التَّحَكُّمَ فِي مَذْهَبِ خَصْمِهِ، وَإِنْ بَيَّنَ لَهُ مَأْخَذًا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مَا اسْتَبْعَدَهُ مِنْ مَذْهَبِ خَصْمِهِ كَذَلِكَ. وَإِنْ تَعَرَّضَ الْمُعْتَرِضُ لِبَيَانِ الْمَأْخَذِ فِيمَا اسْتَبْعَدَهُ الْمُدَّعِي، فَهُوَ الْجَوَابُ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَلْبِ. وَأَمَّا قَلْبُ الدَّلِيلِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَانِ كَوْنِ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ مِنَ الدَّلِيلِ يَدُلُّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ أَوْ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ وَلَا مِنْ وَجْهٍ. فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَا يَدُلُّ لَهُ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، فَهَذَا قَلَّمَا يُوجَدُ لَهُ مِثَالٌ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوِ اسْتَدَلَّ فِي تَوْرِيثِ الْخَالِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» " (1) . فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: الْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ تَوْرِيثِ الْخَالِ بِطَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا يُقَالُ: الْجُوعُ زَادُ مَنْ لَا زَادَ لَهُ وَالصَّبْرُ حِيلَةٌ مَنْ لَا حِيلَةَ لَهُ، مَعْنَاهُ نَفْيُ كَوْنِ الْجُوعِ زَادًا وَالصَّبْرِ حِيلَةً. وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: " «لَا وَارِثَ لَهُ» " نَفْيَ كُلِّ وَارِثٍ، فَتَوْرِيثُ الْخَالِ لَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ وَارِثًا عَلَى نَفْيِ جَمِيعِ الْوُرَّاثِ لِإِرْثِهِ مَعَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَإِمَّا نَفْيُ مَنْ عَدَاهُ مِنَ الْوُرَّاثِ بِجِهَةِ الْعُصُوبَةِ، فَتَخْصِيصُ الْخَالِ بِالذِّكْرِ لَا يَكُونُ مُفِيدًا؛ لِأَنَّ مَنْ عَدَاهُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ كَذَلِكَ (2) .   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ الْمِقْدَامِ الْكَنَدِيِّ فِي بَابِ إِرْثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا " أَنَا وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ أَفُكُّ عَانِيَهُ وَأَرِثُ مَالَهُ، وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ يَفُكُّ عَانِيَهُ وَيَرِثُ مَالَهُ " وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، انْظُرْ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَقَالٍ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ. (2) إِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ فِي آخِرِهِ: " يَفُكُّ عَانِيَهُ وَيَرِثُ مَالَهُ " يَرُدُّ هَذَا الِاحْتِمَالَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقَلْبِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِفَسَادِ الْوَضْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ. وَإِنْ سَلِمَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ يَدُلُّ لَهُ مِنْ وَجْهٍ فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقَلْبِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ إِمَّا أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي الْقَلْبِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ أَوْ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ وَإِنْ تَعَرَّضَ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، فَإِمَّا أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ صَرِيحًا بِأَنْ يَجْعَلَهُ حُكْمًا لِلدَّلِيلِ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ لَا بِصَرِيحِهِ، بَلْ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ بِأَنْ يُرَتِّبَ عَلَى الدَّلِيلِ حُكْمًا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ. فَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ مَثَلًا فِي مَسْأَلَةِ الِاعْتِكَافِ: لُبْثٌ مَحْضٌ فَلَا يَكُونُ قُرْبَةً بِنَفْسِهِ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: لُبْثٌ مَحْضٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ الصَّوْمُ فِي صِحَّتِهِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ تَعَرَّضَ فِي دَلِيلِهِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَدِلَّ أَشَارَ بِعِلَّتِهِ إِلَى اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، وَالْمُعْتَرِضَ أَشَارَ إِلَى نَفْيِ اشْتِرَاطِهِ صَرِيحًا. وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ فَتَعْلِيلُ الْمُسْتَدِلِّ فِي هَذَا الْمِثَالِ لِنَفْيِ الْقُرْبَةِ لَيْسَ تَعْلِيلًا بِمُنَاسِبٍ يَقْتَضِي نَفْيَ الْقُرْبَةِ بَلْ بِانْتِفَاءِ الْمُنَاسِبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ اللُّبْثَ الْمَحْضَ لَا يُنَاسَبُ وَلَا يُشَمُّ مِنْهُ رَائِحَةُ الْمُنَاسِبَةِ لِلْقَرَابَةِ. وَتَعْلِيلُ الْمُعْتَرِضِ بِأَمْرٍ طَرْدِيٍّ فَإِنَّهُ لَا مُنَاسَبَةَ فِي اللُّبْثِ الْمَحْضِ لِنَفْيِ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ. وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدِلُّ قَدْ تَعَرَّضَ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ صَرِيحًا، وَالْمُعْتَرِضُ كَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ: طَهَارَةٌ تُرَادُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، فَلَا تَجُوزُ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: طَهَارَةٌ تُرَادُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَتُصْبِحُ بِغَيْرِ الْمَاءِ كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَرِّضٌ فِي الدَّلِيلِ لِتَصْحِيحِ مَذْهَبِهِ صَرِيحًا، وَالْعِلَّةُ فِي الطَّرَفَيْنِ شَبَهِيَّةٌ. وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّضَ الْمُعْتَرِضُ فِي الْقَلْبِ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ صَرِيحًا، فَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ: عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، فَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِأَقَلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عُضْوٌ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، فَلَا يَتَقَدَّرُ بِالرُّبْعِ كَسَائِرِ الْأَعْضَاءِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَرَّحَ فِي دَلِيلِهِ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ خَصْمِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَصْحِيحِ مَذْهَبِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ إِبْطَالِ مَذْهَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصْحِيحُ مَذْهَبِ الْآخَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ هُوَ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَهُوَ وُجُوبَ الِاسْتِيعَابِ. نَعَمْ، لَوْ كَانَ الْقَائِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَائِلَانِ، وَالِاتِّفَاقُ مِنْهُمَا وَاقِعٌ عَلَى نَفْيِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَعَرُّضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْآخَرِ تَصْحِيحُ مَذْهَبِهِ، ضَرُورَةَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى إِبْطَالِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَذَلِكَ كَالْحُكْمِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ فِي مَسْأَلَةِ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الْحَنَفِيُّ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَصِحُّ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُعَوَّضِ كَالنِّكَاحِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كَالنِّكَاحِ. فَإِنَّ الْمُعْتَرِضَ فِي هَذَا الْمِثَالِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الْقَوْلِ بِالصِّحَّةِ صَرِيحًا بَلْ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ فَقَدْ قَالَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ، فَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَازِمُ الصِّحَّةِ، فَإِذَا بَطَلَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَقَدِ انْتَفَى اللَّازِمُ وَيَلْزَمُ مِنِ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ انْتِفَاءُ الْمَلْزُومِ. وَيَلْتَحِقُ بِأَذْيَالِ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ قَلْبُ التَّسْوِيَةِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُ الْحَنَفِيِّ فِي مَسْأَلَةِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْخَلِّ: مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ، فَتَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ كَالْمَاءِ، فَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ: مَائِعٌ طَاهِرٌ مُزِيلٌ لِلْعَيْنِ وَالْأَثَرِ فَتَسْتَوِي فِيهِ طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ كَالْمَاءِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّسْوِيَةِ فِي الْخَلِّ بَيْنَ طَهَارَةِ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ عَدَمُ حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِالْخَلِّ فِي الْخَبَثِ لِعَدَمِ حُصُولِهَا بِهِ فِي الْحَدَثِ، وَالْحُكْمُ بِالتَّسْوِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ أَنْوَاعِ الْقَلْبِ مَا بُيِّنَ فِيهِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ وَلَا يَدُلُّ لَهُ، ثُمَّ يَلِيهِ النَّوْعُ الثَّانِي وَهُوَ مَا بُيِّنَ فِيهِ أَنَّهُ يَدُلُّ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَأَعْلَى مَرَاتِبِ هَذَا النَّوْعِ مَا صُرِّحَ فِيهِ بِإِثْبَاتِ مَذْهَبِ الْمُعْتَرِضِ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْهُ. ثُمَّ مَا صَرَّحَ فِيهِ بِإِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ فَإِنَّهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَصْحِيحُ مَذْهَبِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهُ. ثُمَّ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فَإِنَّهُ وَإِنْ شَارَكَ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي إِبْطَالِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، إِلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَمَا قَبْلَهُ بِصَرِيحِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقَلْبِ لَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِدَلَالَةِ الْمُسْتَدِلِّ بِالْقَدْحِ، بَلْ غَايَتُهُ بَيَانُ دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ مَطْلُوبِهِ، فَكَانَ شَبِيهًا بِالْمُعَارَضَةِ وَإِنْ فَارَقَهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ نَشَأَتْ مِنْ نَفْسِ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ. وَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى مَا أَرَدْنَاهُ مِنْ تَحْقِيقِ مَعْنَى الْقَلْبِ وَأَقْسَامِهِ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي قَبُولِهِ فَقَبِلَهُ قَوْمٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى ضَعْفِ الدَّلِيلِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى نَقِيضِ مَذْهَبِ الْمُسْتَدِلِّ، وَرَدَّهُ آخَرُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُعْتَرِضَ إِمَّا أَنْ يَتَعَرَّضَ فِي دَلِيلِهِ لِنَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ أَوْ إِلَى غَيْرِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ عَلَى أَصْلِ الْمُسْتَدِلِّ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ حُكْمَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ مُجْمَعٍ عَلَيْهِمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اعْتِرَاضًا عَلَى الدَّلِيلِ. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ وَإِنْ تَعَرَّضَ فِي الدَّلِيلِ لِحُكْمٍ يُقَابِلُ حُكْمَ الْمُسْتَدِلِّ صَرِيحًا، فَقَدْ لَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مِثَالِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ. وَإِنْ تَعَرَّضَ لِغَيْرِهِ فَيَصِحُّ الْقَلْبُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمِثَالِ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنَ النَّوْعِ الثَّانِي مِنَ التَّمْثِيلِ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْغَائِبِ، وَمِنَ التَّمْثِيلِ بِقَلْبِ التَّسْوِيَةِ فِي إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ. وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنَ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ مُلَازِمًا لَهُ أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَتَعْلِيلُ الْمُعْتَرِضِ بِهِ لِمُقَابِلِ حُكْمِ الْمُسْتَدِلِّ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَلْزَمُهُ مَقْصُودٌ مِنْ مُقَابِلِ الْحُكْمِ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ مَا عَلَّلَ بِهِ الْمُسْتَدِلُّ، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ يُنَاسِبُ الْحُكْمَ وَمُقَابِلَهُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَمَا ذَكَرَهُ لَيْسَ بِقَلْبٍ إِذِ الْقَلْبُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اتِّحَادِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسَيْنِ، بَلْ هُوَ مُعَارَضَةٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُلَازِمُهُ الْمَقْصُودُ، فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُكْمِ الْمُعْتَرِضِ طَرْدِيٌّ وَوَصْفُ الْمُسْتَدِلِّ مُنَاسِبٌ أَوْ شَبَهِيٌّ، فَلَا يَكُونُ قَادِحًا فِيهِ. وَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ طَرْدِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا رَتَّبَهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ لِتَعَذُّرِ التَّعْلِيلِ بِالطَّرْدِيِّ الْمَحْضِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 [الِاعْتِرَاضُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ] وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى تَسْلِيمِ مَا اتَّخَذَهُ الْمُسْتَدِلُّ حُكْمًا لِدَلِيلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَسْلِيمُ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ. وَمَهْمَا تَوَجَّهَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، كَانَ الْمُسْتَدِلُّ مُنْقَطِعًا لِتَبْيِينِ أَنَّ مَا نَصَّهُ مِنَ الدَّلِيلِ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِمَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ مُنْحَصِرٌ فِي قِسْمَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ إِمَّا أَنْ يَنْصِبَ دَلِيلَهُ عَلَى تَحْقِيقِ مَذْهِبِهِ، وَمَا نَقَلَ عَنْ إِمَامِهِ مِنَ الْحُكْمِ أَوْ عَلَى إِبْطَالِ مَا يَظُنُّهُ مُدْرِكًا لِمَذْهَبِ خَصْمِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُلْتَجِئِ إِلَى الْحَرَمِ: وُجِدَ سَبَبُ جَوَازِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، فَكَانَ اسْتِيفَاؤُهُ جَائِزًا. فَقَالَ الْخَصْمُ: أَقُولُ بِمُوجِبِ هَذَا الدَّلِيلِ، فَإِنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ عِنْدِي جَائِزٌ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي جَوَازِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَسْأَلَةِ اسْتِيلَادِ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ: وُجُوبُ الْقِيمَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ إِيجَابِ الْمَهْرِ كَاسْتِيلَادِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ: التَّفَاوُتُ فِي الْوَسِيلَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، كَالتَّفَاوُتِ فِي الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ. فَقَالَ الْخَصْمُ: أَقُولُ بِمُوجِبِ هَذَا الدَّلِيلِ، وَأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ لَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْمَهْرِ، وَالتَّفَاوُتَ فِي الْوَسِيلَةِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَاوُتِ فِي الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي وُجُوبِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِبْطَالِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَوَانِعِ إِثْبَاتُ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْقِصَاصِ، لِجَوَازِ انْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ آخَرَ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ. وَوُرُودُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ أَغْلَبُ فِي الْمُنَاظَرَاتِ مِنْ وُرُودِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ خَفَاءَ الْمَدَارِكِ أَغْلَبُ مِنْ خَفَاءِ الْأَحْكَامِ؛ لِكَثْرَةِ الْمَدَارِكِ وَتَشَعُّبِهَا وَعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَمَدُ الْخَصْمِ مِنْ جُمْلَتِهَا بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَتَّفِقُ الذُّهُولُ عَنْهَا. وَلِهَذَا قَدْ يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الْمَنْقُولِ عَنِ الْإِمَامِ الْخَوَاصُّ وَالْعَوَامُّ دُونَ مَعْرِفَةِ الْمَدَارِكِ، فَكَانَ احْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي اعْتِقَادِ كَوْنِ الْمُدْرَكِ الْمُعَيَّنِ هُوَ مُدْرَكَ الْإِمَامِ أَقْرَبَ مِنَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ فِيمَا يُنْسَبُ إِلَى الْإِمَامِ مِنَ الْحُكْمِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وَقَدِ اخْتَلَفَ الْجَدَلِيُّونَ فِي وُجُوبِ تَكْلِيفِ الْمُعْتَرِضِ إِبْدَاءَ مُسْتَنَدِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ فِي هَذَا النَّوْعِ (1) . فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بُدَّ مِنْ تَكْلِيفِهِ بِذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمَأْخَذَ عِنْدَهُ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِإِبْدَاءِ الْمَأْخَذِ عِنْدَ إِيرَادِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ، فَقَدْ يَقُولُ بِذَلِكَ عِنَادًا، قَصْدًا لِإِيقَافِ كَلَامِ خَصْمِهِ وَلَا كَذَلِكَ إِذَا وُظِّفَ عَلَيْهِ بَيَانُ الْمَأْخَذِ فَكَانَ أَفْضَى إِلَى صِيَانَةِ الْكَلَامِ عَنِ الْخَبْطِ وَالْعِنَادِ فَكَانَ أَوْلَى. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا وَجْهَ لِتَكْلِيفِهِ بِذَلِكَ بَعْدَ وَفَائِهِ بِشَرْطِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ، وَهُوَ اسْتِبْقَاءُ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ عَاقِلٌ مُتَدَيِّنٌ وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَأْخَذِ إِمَامِهِ، فَكَانَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقَ فِيمَا ادَّعَاهُ، فَوَجَبَ تَصْدِيقُهُ. كَيْفَ وَإِنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ إِبْدَاءَ الْمَأْخَذِ، فَإِنْ مَكَّنَّا الْمُسْتَدِلَّ مِنْ إِبْطَالِهِ وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ يَلْزَمُ مِنْهُ قَلْبُ الْمُسْتَدِلِّ مُعْتَرِضًا، وَالْمُعْتَرِضِ مُسْتَدِلًّا. وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنَ الْخَبْطِ، وَإِنْ لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي إِبْدَاءِ الْمَأْخَذِ لِإِمْكَانِ ادِّعَائِهِ مَا يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ؛ تَرْوِيحًا لِكَلَامِهِ ثِقَةً مِنْهُ بِامْتِنَاعِ وُرُودِ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ. وَلِلْمُسْتَدِلِّ فِي دَفْعِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ طُرُقٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَقُولَ: الْمَسْأَلَةُ مَشْهُورَةٌ بِالْخِلَافِ فِيمَا فُرِضَ فِيهِ الْكَلَامُ إِنْ أَمْكَنَ، وَالشُّهْرَةُ بِذَلِكَ دَلِيلُ وُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ. الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ لَازِمٌ فِيمَا فُرِضَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ حُكْمُ دَلِيلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: هُوَ عِنْدِي غَيْرُ جَائِزٍ، بَلْ وَاجِبٌ. فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ الْمَعْنَى بِعَدَمِ الْجَوَازِ لُزُومُ التَّبِعَةِ بِفِعْلِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْوُجُوبِ لِاسْتِحَالَةِ لُزُومِ التَّبِعَةِ بِفِعْلِ الْوَاجِبِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَدِلُّ: الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ فِيهِ تَغْيِيرُ كَلَامِي عَنْ ظَاهِرِهِ، فَلَا يَكُونُ قَوْلًا بِمُوجِبِهِ.   (1) أَيِ: الْقِسْمِ الثَّانِي، وَهُوَ مَا نَصَبَ فِيهِ الْمُسْتَدِلُّ دَلِيلَهُ عَلَى إِبْطَالِ مَا يَظُنُّهُ مُدْرَكًا لِمَذْهَبِ خَصْمِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 وَذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُسْتَدِلُّ قَدْ قَالَ فِي زَكَاةِ الْخَيْلِ: حَيَوَانٌ تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَيْه، فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ قِيَاسًا عَلَى الْإِبِلِ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: عِنْدِي تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ. وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا هُوَ فِي زَكَاةِ الْعَيْنِ، فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: إِذَا كَانَ النِّزَاعُ فِي زَكَاةِ الْعَيْنِ، فَظَاهِرُ كَلَامِي مُنْصَرِفٌ إِلَيْهَا لِقَرِينَةِ الْحَالِ، وَلِظُهُورِ عَوْدِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الزَّكَاةِ إِلَى الْمَعْهُودِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ الزَّكَاةِ يَعُمُّ زَكَاةَ الْعَيْنِ وَالتِّجَارَةِ، فَالْقَوْلُ بِهِ فِي زَكَاةِ التِّجَارَةِ قَوْلٌ بِالْمُوجِبِ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ (1) لِأَنَّ مُوجِبَ الدَّلِيلِ التَّعْمِيمُ، فَالْقَوْلُ بِبَعْضِ الْمُوجِبِ لَا يَكُونُ قَوْلًا بِالْمُوجِبِ بَلْ بِبَعْضِهِ. وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ فِي مَسْأَلَةِ إِزَالَةِ النَّجَاسَةِ (2) : مَائِعٌ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ، فَلَا يُزِيلُ الْخَبَثَ كَالْمَرَقَةِ. فَقَالَ الْمُعْتَرِضُ: أَقُولُ بِهِ؛ فَإِنَّ الْخَلَّ النَّجِسَ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ وَلَا الْخَبَثَ. فَيَقُولُ الْمُسْتَدِلُّ: ظَاهِرُ كَلَامِي إِنَّمَا هُوَ الْخَلُّ الظَّاهِرُ، ضَرُورَةَ وُقُوعِ النِّزَاعِ فِيهِ، وَإِيرَادُ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ تَغْيِيرُ كَلَامِ الْمُسْتَدِلِّ عَنْ ظَاهِرِهِ لَا يَكُونُ قَوْلًا بِمَدْلُولِهِ وَمُوجِبِهِ، بَلْ بِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا. وَلَهُ فِي دَفْعِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي أَيْضًا طُرُقٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَدِلُّ قَدْ أَفْتَى بِمَا وَقَعَ مَدْلُولًا لِدَلِيلِهِ، وَفَرَضَ الْمُعْتَرِضُ الْكَلَامَ مَعَهُ فِيهِ وَطَالَبَهُ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ، فَإِذَا قَالَ بِالْمُوجِبِ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ سَلَّمَ مَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِيهِ وَأَفْسَدَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ بِالْمُطَالَبَةِ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَوَّلًا. وَبِمِثْلِ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنِ الْقَوْلِ (3) بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ أَيْضًا. الثَّانِي: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ لَقَبَ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ بِذَلِكَ بَيْنَ النُّظَّارِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ أَوَّلًا. الثَّالِثُ: أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ لَازِمٌ مِنْ مَدْلُولِ دَلِيلِهِ إِنْ أَمْكَنَ،   (1) أَيْ: وَحَمْلُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ صُوَرِهِ بِلَا قَرِينَةٍ غَيْرُ مُتَّجِهٍ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنَ الدَّلِيلِ. (2) إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ - أَيْ: بِالْخَلِّ. (3) عَنِ الْقَوْلِ؛ أَيِ: الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُعْتَرِضُ قَدْ سَاعَدَ عَلَى وُجُودِ الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَكَانَتِ الْمَوَانِعُ الَّتِي يُوَافِقُ الْمُسْتَدِلُّ عَلَيْهَا مُنْتَفِيَةً وَالشُّرُوطُ مُتَحَقِّقَةً (1) . فَإِذَا أَبْطَلَ كَوْنَ الْمَانِعِ الْمَذْكُورِ مَانِعًا، فَيَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ ظَاهِرًا. وَأَمَّا قِيَاسُ الدَّلَالَةِ وَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، فَيَرِدُ عَلَيْهِمَا كُلُّ مَا كَانَ وَارِدًا عَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ سِوَى الْأَسْئِلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ، فَإِنَّهَا لَا تُرَدُّ عَلَيْهِمَا. أَمَّا قِيَاسُ الدَّلَالَةِ؛ فَلِأَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ فِيهِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ؛ فَلِعَدَمِ ذِكْرِ الْجَامِعِ فِيهِ. وَالْأَسْئِلَةُ الْوَارِدَةُ عَلَى نَفْسِ الْوَصْفِ الْجَامِعِ لَا تَرِدُ عَلَى الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ لِعَدَمِ ذِكْرِ الْجَامِعِ فِيهِ (2) . وَيَخْتَصُّ قِيَاسُ الدَّلَالَةِ بِسُؤَالٍ آخَرَ، وَهُوَ عِنْدَ مَا إِذَا كَانَ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ أَحَدَ مُوجِبَيِ الْأَصْلِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْقَائِلُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ: أَحَدُ مُوجِبَيِ الْأَصْلِ، فَالطَّرَفُ الْمَعْصُومُ يُسَاوِي النَّفْسَ، فِيهِ دَلِيلُهُ الْمُوجِبُ الثَّانِي، وَقَرَّرَهُ بِأَنَّ الدِّيَةَ أَحَدُ الْمُوَجِبَيْنِ فِي الْأَصْلِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِي الْفَرْعِ عَلَى الْكُلِّ، وَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ فِي الْفَرْعِ وُجُودُ الْمُوجِبِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِلَّةَ الْمُوجِبَيْنِ فِي الْأَصْلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً أَوْ مُتَعَدِّدَةً. فَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِ مُوجِبَيْهَا فِي الْفَرْعِ وَجُودُهَا فِيهِ، وَمِنْ وُجُودِهَا فِيهِ وُجُودُ الْمُوجِبِ الْآخَرِ وَهُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الْكُلِّ. وَإِنْ كَانَتْ مُتَعَدِّدَةً، فَتَلَازُمُ الْحُكْمَيْنِ فِي الْأَصْلِ دَلِيلُ تَلَازُمِ الْعِلَّتَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ فِي الْفَرْعِ وُجُودُ عِلَّتِهِ الَّتِي وُجِدَ بِهَا فِي الْأَصْلِ وَيَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ عِلَّتِهِ وُجُودُ عِلَّةِ الْحُكْمِ الْآخَرِ. وَالسُّؤَالُ الْوَارِدُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِ حُكْمَيِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ وُجُودُ الْحُكْمِ الْآخَرِ، سَوَاءٌ اتَّحَدَتْ عِلَّتُهُمَا فِي الْأَصْلِ أَوْ تَعَدَّدَتْ.   (1) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَوَّلُ الْبَابِ الْخَامِسِ فِي الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ أَمَّا الِاعْتِرَاضَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى قِيَاسِ الْعِلَّةِ فَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ. (2) لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْفَارِقِ الْمُؤَثِّرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 أَمَّا إِذَا اتَّحَدَتْ، فَلِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْمُحَالِ وَإِنِ اتَّحَدَ نَوْعُ الْحُكْمِ، أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْفَرْعِ بِغَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْأَوْلَى، لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ مَدَارِكِ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ أَفْضَى إِلَى اقْتِنَاصِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنَ الْحُكْمِ مِمَّا إِذَا اتَّحَدَ الْمُدْرَكُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ الْحُكْمِ الْآخَرِ؛ لِجَوَازِ أَنْ لَا تَكُونَ عِلَّةُ الْفَرْعِ مُسْتَقِلَّةً بِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْآخَرِ كَاسْتِقْلَالِ عِلَّةِ الْأَصْلِ. وَأَمَّا إِذَا تَعَدَّدَتِ الْعِلَّةُ فَإِنْ وَقَعَ التَّلَازُمُ بَيْنَهُمَا، فَلِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِي الْفَرْعِ غَيْرَ عِلَّتِهِ فِي الْأَصْلِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهَا وُجُودُ الْعِلَّةِ الْأُخْرَى فِي الْفَرْعِ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّلَازُمِ بَيْنَ عِلَّةِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَعِلَّةِ الْحُكْمِ الْآخَرِ فِي الْأَصْلِ التَّلَازُمُ بَيْنَ عِلَّتِهِ فِي الْفَرْعِ وَعِلَّةِ الْحُكْمِ الْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْحُكْمُ الْآخَرُ لَازِمًا فِي الْفَرْعِ، وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: ثُبُوتُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ فِي الْفَرْعِ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى وُجُودِ عِلَّتِهِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ جَازَ ثُبُوتُهُ فِي الْفَرْعِ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُودِ عِلَّةٍ أُخْرَى غَيْرِ عِلَّتِهِ فِي الْأَصْلِ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ تَعَدُّدَ الْمَدَارِكِ أَوْلَى مُعَارَضٌ بِأَنَّ الِاتِّحَادَ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْلِيلِ بِعِلَّةٍ مُطَّرِدَةٍ مُنْعَكِسَةٍ، وَمَا ذَكَرُوهُ وَإِنْ كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مُطَّرِدَةً إِلَّا أَنَّهَا غَيْرُ مُنْعَكِسَةٍ، وَالتَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْمُطَّرِدَةِ الْمُنْعَكِسَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُنْعَكِسَةِ، فَكَانَتْ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: وَكَمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ عِلَّةٍ أُخْرَى فِي الْفَرْعِ غَيْرِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، فَالْأَصْلُ عَدَمُ عِلَّةِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِ الْأَصْلَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ. قُلْنَا: بَلِ الْعَمَلُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِ تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهَا، وَمَا ذَكَرُوهُ يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ قَاصِرَةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ وُجُودِهَا فِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِهَا، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 خَاتِمَةٌ لِهَذَا الْبَابِ فِي تَرْتِيبِ الْأَسْئِلَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْقِيَاسِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالنُّقُوضِ أَوِ الْمُعَارَضَاتِ فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالْمَنْعِ وَالْمُطَالَبَةِ وَالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ وَنَحْوِهَا. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْجَدَلِيُّونَ عَلَى جَوَازِ إِيرَادِهَا مَعًا، إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا تَنَاقُضٌ وَلَا نُزُولٌ عَنْ سُؤَالٍ إِلَى سُؤَالٍ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي: فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْأَسْئِلَةُ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ أَوْ مُرَتَّبَةً، فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ؛ فَقَدْ أَجْمَعَ الْجَدَلِيُّونَ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا سِوَى أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ، فَإِنَّهُمْ أَوْجَبُوا الِاقْتِصَارَ عَلَى سُؤَالٍ وَاحِدٍ لِقُرْبِهِ إِلَى الضَّبْطِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْخَبْطِ. وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا، وَإِنْ أَفْضَتْ إِلَى النَّشْرِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنِ الْجَدَلِيِّينَ. وَإِنْ كَانَتْ مَرْتَبَةً فَقَدْ مَنَعَ مِنْهُ أَكْثَرُ الْجَدَلِيِّينَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ بَعْدَ مَنْعِ وُجُودِهِ نُزُولٌ عَنِ الْمَنْعِ، وَمُشْعِرٌ بِتَسْلِيمِ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مُصِرًّا عَلَى مَنْعِ وُجُودِ الْوَصْفِ فَالْمُطَالَبَةُ بِتَأْثِيرِ مَا لَا وُجُودَ لَهُ مُحَالٌ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُعْتَرِضُ غَيْرَ جَوَابِ الْأَخِيرِ مِنَ الْأَسْئِلَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُورِدَ الْمُطَالَبَةَ بِتَأْثِيرِ الْوَصْفِ بَعْدَ مَنْعِ وُجُودِ الْوَصْفِ مُقَدِّرًا لِتَسْلِيمِ وُجُودِ الْوَصْفِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: وَإِنْ سَلِمَ عَنِ الْمَنْعِ تَقْدِيرًا، فَلَا يَسْلَمُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ وَغَيْرِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى (1) ؛ لِعَدَمِ إِشْعَارِهِ بِالْمُنَاقَضَةِ وَالْعَوْدِ إِلَى مَنْعِ مَا سَلَمَ وَجُودَهُ أَوَّلًا، كَمَنْعِ وُجُودِ الْوَصْفِ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ بِتَأْثِيرِهِ الْمُشْعِرِ بِتَسْلِيمِ وُجُودِهِ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ (2) ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَإِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِي الْأَسْئِلَةِ، فَأَوَّلُ مَا تَجِبُ الْبِدَايَةُ بِهِ سُؤَالُ الِاسْتِفْسَارِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَدْلُولَ اللَّفْظِ لَا يَعْرِفُ مَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ.   (1) أَيْ: إِنَّ تَرْتِيبَ الْأَسْئِلَةِ أَوْلَى مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. (2) هُوَ الْإِسْفَرَايِينِيُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 ثُمَّ بَعْدَهُ سُؤَالُ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ فِي فَسَادِهِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ قَبْلَ النَّظَرِ فِي تَفْصِيلِهِ، ثُمَّ سُؤَالُ فَسَادِ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنْ سُؤَالِ فَسَادِ الِاعْتِبَارِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَالنَّظَرُ فِي الْأَعَمِّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ النَّظَرِ فِي الْأَخَصِّ. ثُمَّ بَعْدَهُ مَنْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّظَرِ فِي الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ فَهِيَ فَرْعٌ عَلَيْهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْفَرْعِ يَجِبُ تَأْخِيرُهُ عَنِ الْكَلَامِ فِي أَصْلِهِ. ثُمَّ بَعْدَهُ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ. ثُمَّ بَعْدَهُ النَّظَرُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعِلَّةِ الْوَصْفِ، كَالْمُطَالَبَةِ وَعَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالْقَدْحِ فِي الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّقْسِيمِ، وَكَوْنِ الْوَصْفِ غَيْرَ ظَاهِرٍ وَلَا مُنْضَبِطٍ، وَكَوْنِ الْحُكْمِ غَيْرَ صَالِحٍ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ. ثُمَّ بَعْدَهُ النَّقْضُ وَالْكَسْرُ، لِكَوْنِهِ مُعَارِضًا لِدَلِيلِ الْعِلِّيَّةِ. ثُمَّ بَعْدَهُ الْمُعَارَضَةُ فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ لِنَفْسِ الْعِلَّةِ فَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْمُعَارِضِ لِدَلِيلِ الْعِلِّيَّةِ وَالتَّعْدِيَةِ وَالتَّرْكِيبِ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَارَضَةِ فِي الْأَصْلِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ. ثُمَّ بَعْدَهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَرْعِ كَمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَمُخَالَفَةِ حُكْمِهِ لِحُكْمِ الْأَصْلِ، وَمُخَالَفَتِهِ لِلْأَصْلِ فِي الضَّابِطِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمُعَارَضَةِ فِي الْفَرْعِ وَسُؤَالِ الْقَلْبِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ؛ لِتَضَمُّنِهِ تَسْلِيمَ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّلِيلِ الْمُثْمِرِ لَهُ مِنْ تَحْقِيقِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ الْقَوَادِحِ فِيهِ، وَهَذَا آخِرُ الْأَصْلِ الْخَامِسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 الْأَصْلُ السَّادِسُ فِي مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ وَأَنْوَاعِهِ أَمَّا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ طَلَبِ الدَّلِيلِ وَالطَّرِيقِ الْمُرْشِدِ إِلَى الْمَطْلُوبِ. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ: فَإِنَّهُ يُطْلَقُ تَارَةً بِمَعْنَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّلِيلُ نَصًّا أَوْ إِجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا أَوْ غَيْرَهُ. وَيُطْلَقُ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بَيَانُهُ هَاهُنَا، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ دَلِيلٍ لَا يَكُونُ نَصًّا وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا. فَإِنْ قِيلَ: تَعْرِيفُ الِاسْتِدْلَالِ بِسَلْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَنْهُ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيفِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ بِسَلْبِ حَقِيقَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَنْهُ. قُلْنَا: إِنَّمَا كَانَ تَعْرِيفُ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى بِسَبَبِ سَبْقِ التَّعْرِيفِ لِحَقِيقَةِ مَا عَدَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ دُونَ تَعْرِيفِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا سَبَقَ، وَتَعْرِيفُ الْأَخْفَى بِالْأَظْهَرِ جَائِزٌ دُونَ الْعَكْسِ. وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ، فَهُوَ عَلَى أَنْوَاعٍ؛ مِنْهَا قَوْلُهُمْ: وُجِدَ السَّبَبُ فَثَبَتَ الْحُكْمُ، وَوُجِدَ الْمَانِعُ وَفَاتَ الشَّرْطُ فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ، فَإِنَّهُ دَلِيلٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الدَّلِيلَ مَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهِ لُزُومُ الْمَطْلُوبِ قَطْعًا أَوْ ظَاهِرًا، وَلَا يَخْفَى لُزُومُ الْمَطْلُوبِ مِنْ ثُبُوتِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَكَانَ دَلِيلًا، وَلَيْسَ هُوَ وَلَا إِجْمَاعًا وَلَا قِيَاسًا فَكَانَ اسْتِدْلَالًا. فَإِنْ قِيلَ: تَعْرِيفُ الدَّلِيلِ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِهِ الْحُكْمَ الْمَطْلُوبَ تَعْرِيفٌ لِلدَّلِيلِ بِالْمَدْلُولِ، وَالْمَدْلُولُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِدَلِيلِهِ، فَكَانَ دَوْرًا مُمْتَنِعًا. وَإِنْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ الْحَدِّ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِقِيَاسٍ فَإِنَّهُ إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى إِثْبَاتِ الْمُدَّعَى، كَانَ مُفْتَقِرًا إِلَى الْمُنَاسَبَةِ وَالِاعْتِبَارِ وَلَا مَعْنًى لِلْقِيَاسِ سِوَى هَذَا. قُلْنَا: أَمَّا الدَّوْرُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوِ اتَّحَدَتْ جِهَةُ التَّوَقُّفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ لَا مِنْ جِهَةِ حَقِيقَتِهِ؛ لِأَنَّا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْحُكْمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حُكْمٌ وَإِنْ جَهِلْنَا دَلِيلَ وُجُودِهِ، وَالدَّلِيلُ إِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى لُزُومِ الْمَطْلُوبِ لَهُ مِنْ جِهَةِ حَقِيقَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ وُجُودِهِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ، وَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْجِهَةُ فَلَا دَوْرَ، وَمَا ذَكَرُوهُ فِي تَحْقِيقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 كَوْنِهِ قِيَاسًا فَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ تَقْرِيرُ السَّبَبِيَّةِ وَالْمَانِعِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَا ذَكَرُوهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ لِإِمْكَانِ تَقْرِيرِهِ بِنَصٍّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ إِجْمَاعٍ. وَالثَّابِتُ بِالنَّصِّ أَوِ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ نَصًّا وَلَا إِجْمَاعًا كَمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ، وَالِاعْتِرَاضَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى طَرِيقِ تَقْرِيرِهِ وَوُجُوهُ الِانْفِصَالِ عَنْهَا غَيْرُ خَافِيَةٍ. وَمِنْهَا نَفْيُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ مَدَارِكِهِ، كَقَوْلِهِمُ: الْحُكْمُ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَلَا دَلِيلَ فَلَا حُكْمَ، أَمَّا أَنَّهُ يَسْتَدْعِي دَلِيلًا فَبِالضَّرُورَةِ. وَأَمَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ، فَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِوَى الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ، وَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا الْعَدَمُ، وَطَرِيقُ الِاعْتِرَاضِ بِإِبْدَاءِ مَا يَصْلُحُ دَلِيلًا مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ. وَجَوَابُهُ بِالْقَدْحِ فِي الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ بِمَا يُسَاعِدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى حَسَبِهِ وَلَا يَخْفَى. وَقَدْ تَرِدُ عَلَيْهِ أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ أَوْرَدْنَاهَا فِي كِتَابِ " الْمُؤَاخِذَاتِ " وَقَرَّرْنَاهَا اعْتِرَاضًا وَانْفِصَالًا، فَعَلَيْكَ بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا. وَمِنْهَا الدَّلِيلُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ تَسْلِيمِهَا لَذَاتِهَا أَقْوَالٌ يَلْزَمُ مِنْ تَسْلِيمِهَا لِذَاتِهَا تَسْلِيمُ قَوْلٍ آخَرَ، وَذَلِكَ الْقَوْلُ اللَّازِمُ إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ وَلَا نَقِيضُهُ مَذْكُورًا فِيمَا لَزِمَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ أَوْ هُوَ مَذْكُورٌ فِيهِ (1) . فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَيُسَمَّى اقْتِرَانِيًّا، وَأَقَلُّ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا، وَكُلُّ مُقَدِّمَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى مُفْرَدَيْنِ، الْوَاحِدُ مِنْهُمَا مُكَرَّرٌ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَيُسَمَّى " حَدًّا أَوْسَطَ " وَالْمُفْرَدَانِ الْآخَرَانِ اللَّذَانِ بِهِمَا افْتِرَاقُ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مِنْهُمَا يَكُونُ الْمَطْلُوبُ اللَّازِمَ، وَيُسَمَّى أَحَدُهُمَا وَهُوَ مَا كَانَ مَحْكُومٌ بِهِ فِي الْمَطْلُوبِ " حَدًّا أَكْبَرَ " وَمَا كَانَ مِنْهُمَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ فِي الْمَطْلُوبِ يُسَمَّى " حَدًّا أَصْغَرَ " وَالْمُقَدِّمَةُ الَّتِي فِيهَا الْحَدُّ الْأَكْبَرُ " كُبْرَى " وَالَّتِي فِيهَا الْحَدُّ الْأَصْغَرُ " صُغْرَى ". ثُمَّ هَيْئَةُ الْحَدِّ الْأَوْسَطِ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْحَدَّيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ تُسَمَّى " شَكْلًا " (2)   (1) عَرَّفَ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ ثُمَّ قَسَمَهُ قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ مَا لَمْ تُذْكَرِ النَّتِيجَةُ وَلَا نَقِيضُهَا فِيهِ بِالْفِعْلِ، وَيُسَمَّى قِيَاسًا اقْتِرَانِيًّا، وَالثَّانِي مَا ذُكِرَتِ النَّتِيجَةُ أَوْ نَقِيضُهَا فِيهِ بِالْفِعْلِ وَيُسَمَّى قِيَاسًا اسْتِثْنَائِيًّا، ثُمَّ فَصَّلَ الْقَوْلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ الْأَمْثِلَةِ. (2) هَذَا تَعْرِيفٌ لِلشَّكْلِ بِأَنَّهُ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى مَعَ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى بِاعْتِبَارِ مَوْضِعِ طَرَفَيِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْحَدِّ الْوَسَطِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وَهَيْئَتُهُ فِي النِّسْبَةِ إِمَّا بِكَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى الْحَدِّ الْأَصْغَرِ وَمَوْضُوعًا لِلْحَدِّ الْأَكْبَرِ وَيُسَمَّى الشَّكْلَ الْأَوَّلَ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَيْهِمَا وَيُسَمَّى الشَّكْلَ الثَّانِيَ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لَهُمَا وَيُسَمَّى الشَّكْلَ الثَّالِثَ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ مَوْضُوعًا لِلْأَصْغَرِ وَمَحْمُولًا عَلَى الْأَكْبَرِ وَيُسَمَّى الشَّكْلَ الرَّابِعَ. وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الطِّبَاعِ وَمُسْتَغْنًى عَنْهُ بِبَاقِي الْأَشْكَالِ فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى ذِكْرِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْأَشْكَالِ الثَّلَاثَةِ. أَمَّا الشَّكْلُ الْأَوَّلُ مِنْهَا: فَهُوَ أَبْيَنُهَا وَمَا بَعْدَهُ فَمُتَوَقِّفٌ فِي مَعْرِفَةِ ضُرُوبِهِ (1) عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْتِجٌ لِلْمَطَالِبِ الْأَرْبَعَةِ: الْكُلِّيُّ مُوجَبًا وَسَالِبًا وَالْجُزْئِيُّ مُوجَبًا وَسَالِبًا، وَشَرْطُهُ فِي الْإِنْتَاجِ إِيجَابُ صُغْرَاهُ وَأَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الْمُوجِبَةِ وَكُلْيَةُ كُبْرَاهُ. وَضُرُوبُهُ الْمُنْتَجَةُ أَرْبَعَةٌ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مِنْ كُلِّيَّتَيْنِ مُوجَبَتَيْنِ، كَقَوْلِنَا: كُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ وَكُلُّ عِبَادَةٍ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَاللَّازِمُ كُلُّ وُضُوءٍ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ (2) . الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْ كُلِّيَّةٍ صُغْرَى مُوجَبَةٍ وَكُلِّيَّةٍ كُبْرَى سَالِبَةٍ، كَقَوْلِنَا: كُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ وَلَا شَيْءَ مِنَ الْعِبَادَةِ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَاللَّازِمُ لَا شَيْءَ مِنَ الْوُضُوءِ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ.   (1) الضَّرْبُ هُوَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى مَعَ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى بِاعْتِبَارِ مَوْقِعِ طَرَفَيِ الْمَطْلُوبِ مِنَ الْحَدِّ الْوَسَطِ بِشَرْطِ اعْتِبَارِ الْأَسْوَارِ كُلِّيَّةً وَجُزْئِيَّةً، وَالْكَيْفِ سَلْبًا وَإِيجَابًا، وَسَأُوَضِّحُ ذَلِكَ فِي التَّعْلِيقِ عَلَى ضُرُوبِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (2) هَذَا الْقِيَاسُ مُؤَلِّفٌ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ: الْأُولَى قَوْلُهُ: كُلُّ وُضُوءٍ عِبَادَةٌ وَهِيَ الصُّغْرَى، وَكَلِمَةُ " كُلُّ " فِيهَا تُسَمَّى سُورًا كُلِّيًّا، وَكَلِمَةُ " وُضُوءٍ " فِيهَا تُسَمَّى مَحْكُومًا عَلَيْهِ وَمَوْضُوعًا وَحَدًّا أَصْغَرَ، وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: " كُلُّ عِبَادَةٍ مُفْتَقِرَةٌ إِلَى النِّيَّةِ " وَهِيَ الْكُبْرَى وَ " مُفْتَقِرَةٌ " مَحْكُومٌ بِهِ وَمَحْمُولٌ وَحَدٌّ أَكْبَرُ وَالْمُكَرَّرُ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُسَمَّى حَدًّا وَسَطًا، وَهَيْئَةُ هَذَا الْقِيَاسِ بِاعْتِبَارِ مَوْقِعِ الْحَدِّ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ مِنَ الْحَدِّ الْأَوْسَطِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُسَمَّى شَكْلًا، وَهَيْئَةُ الْقِيَاسِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ مَعَ مُرَاعَاةِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَالْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ يُسَمَّى ضَرْبًا، وَاللَّازِمُ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: كُلُّ وُضُوءٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى النِّيَّةِ يُسَمَّى نَتِيجَةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 الضَّرْبُ الثَّالِثُ: بَعْضُ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ (1) وَكُلُّ عِبَادَةٍ تَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ، وَاللَّازِمُ؛ بَعْضُ الْوُضُوءِ يَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: بَعْضُ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ، وَلَا شَيْءَ مِنَ الْعِبَادَةِ يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ وَاللَّازِمُ بَعْضُ الْوُضُوءِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ النِّيَّةِ (2) . الشَّكْلُ الثَّانِي، وَشُرُوطُهُ فِي الْإِنْتَاجِ اخْتِلَافُ مُقَدِّمَتَيْهِ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَكُلِّيَّةِ كُبْرَاهُ (3) . وَضُرُوبُهُ الْمُنْتَجَةُ أَرْبَعَةٌ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مِنْ كُلِّيَّتَيْنِ؛ الصُّغْرَى مُوجِبَةٌ وَالْكُبْرَى سَالِبَةٌ، كَقَوْلِنَا: كُلُّ بَيْعٍ غَائِبٍ فَصِفَاتُ الْمَبِيعِ فِيهِ مَجْهُولَةٌ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ صِفَاتُ الْمَبِيعِ فِيهِ مَجْهُولَةٌ، وَاللَّازِمُ لَا شَيْءَ مِنْ بَيْعِ الْغَائِبِ صَحِيحٌ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْ كُلِّيَّةٍ صُغْرَى سَالِبَةٍ وَكُلْيَةٍ كُبْرَى مُوجِبَةٍ، كَقَوْلِنَا: لَا شَيْءَ مِنْ بَيْعِ الْغَائِبِ مَعْلُومُ الصِّفَاتِ، وَكُلُّ بَيْعٍ صَحِيحٌ فَمَعْلُومُ الصِّفَاتِ وَاللَّازِمُ كَالَّذِي قَبْلَهُ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مِنْ جُزْئِيَّةٍ صُغْرَى مُوجَبَةٍ، وَكُلْيَةٍ كُبْرَى سَالِبَةٍ، كَقَوْلِنَا: بَعْضُ بَيْعِ الْغَائِبِ مَجْهُولُ الصِّفَاتِ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ مَجْهُولُ الصِّفَاتِ، وَلَازِمُهُ: بَعْضُ بَيْعِ الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مِنْ جُزْئِيَّةٍ صُغْرَى سَالِبَةٍ وَكُلْيَةٍ كُبْرَى مُوجِبَةٍ، كَقَوْلِنَا: لَيْسَ   (1) بَعْضُ الْوُضُوءِ عِبَادَةٌ - الْمَفْهُومُ لَا اعْتِدَادَ بِهِ، فَقَدْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْمَنْطُوقِ كَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ، وَقَدْ يَكُونُ مُخَالِفًا كَمَا فِي قَوْلِنَا بَعْضُ الْأَعْمَالِ عِبَادَةٌ. (2) فِي الْكَيْفِيَّةِ - أَيْ: فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَمَّا الْكَمُّ فَهُوَ الْكُلِّيَّةُ وَالْجُزْئِيَّةُ. (3) مِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ إِذَا كَانَتْ سَالِبَةً كَانَتِ النَّتِيجَةُ سَالِبَةً، وَإِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا جُزْئِيَّةً كَانَتِ النَّتِيجَةُ جُزْئِيَّةً، وَإِذَا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا سَالِبَةً وَالْأُخْرَى جُزْئِيَّةً أَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا سَالِبَةً جُزْئِيَّةً كَانَتِ النَّتِيجَةُ سَالِبَةً جُزْئِيَّةً، وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ النَّتِيجَةَ تَتْبَعُ الْأَخَسَّ كَمًّا وَكَيْفًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 كُلُّ بَيْعٍ غَائِبٍ مَعْلُومَ الصِّفَاتِ، وَكُلُّ بَيْعٍ صَحِيحٍ مَعْلُومَ الصِّفَاتِ، وَلَازِمُهُ كَلَازِمِ الَّذِي قَبْلَهُ (1) . وَالْإِنْتَاجُ فِي هَذَا الشَّكْلِ غَيْرُ بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ، بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى بَيَانٍ وَذَلِكَ بِأَنْ تَعْكِسَ (2) الْكُبْرَى مِنَ الْأَوَّلِ وَتُبْقِيهَا كُبْرَى بِحَالِهَا، فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الضَّرْبِ الثَّانِي مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ نَاتِجًا عَيْنَ الْمَطْلُوبِ (3) وَتَعْكِسُ الصُّغْرَى مِنَ الثَّانِي فَتَجْعَلُهَا كُبْرَى، ثُمَّ تَسْتَنْتِجُ وَتَعْكِسُ النَّتِيجَةَ فَيَعُودُ إِلَى عَيْنِ الْمَطْلُوبِ (4) وَأَنْ تَعْكِسَ الْكُبْرَى مِنَ الثَّالِثِ وَتُبْقِيَهَا كُبْرَى بِحَالِهَا فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ نَاتِجًا عَيْنَ الْمَطْلُوبِ (5) وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ مِنْهُ لَا يَتَبَيَّنُ بِالْعَكْسِ، لِأَنَّكَ إِنْ عَكَسْتَ   (1) إِذَا نَظَرْتَ فِي هَيْئَةِ الشَّكْلِ الثَّانِي وَجَدْتَ الْحَدَّ الْوَسَطَ مَحْمُولًا فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى فِي جَمِيعِ ضُرُوبِهِ، وَوَجَدْتَ الْحَدَّ الْأَصْغَرَ مَوْضُوعًا فِي الصُّغْرَى وَالْأَكْبَرَ مَوْضُوعًا فِي الْكُبْرَى، بِخِلَافِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ، فَالْحَدُّ الْوَسَطُ فِيهِ مَحْمُولٌ فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعٌ فِي الْكُبْرَى فِي جَمِيعِ أَضْرَابِهِ، وَالْحَدُّ الْأَصْغَرُ مَوْضُوعٌ فِي الصُّغْرَى وَالْأَكْبَرُ مَحْمُولٌ فِي الْكُبْرَى. (2) تَقَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى الْمُرَادِ بِالْعَكْسِ عِنْدَ الْمَنَاطِقَةِ ص 234 ج3. (3) عَكْسُ الْكُبْرَى فِي مِثَالِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي كَمَا يَلِي - لَا شَيْءَ مِمَّا صِفَاتُهُ مَجْهُولَةٌ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَإِذَا رُكِّبَتْ مَعَ الصُّغْرَى كَانَ الْقِيَاسُ كَمَا يَلِي - بَيْعُ غَائِبٍ فَصِفَاتُ الْمَبِيعِ فِيهِ مَجْهُولَةٌ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا صِفَاتُ الْمَبِيعِ فِيهِ مَجْهُولَةٌ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَبِذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الضَّرْبِ الثَّانِي مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَلَازِمُهُ؛ أَيْ: نَتِيجَتُهُ لَا شَيْءَ مِنْ بَيْعِ الْغَائِبِ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَهُوَ عَيْنُ الْمَطْلُوبِ. (4) عَكْسُ الصُّغْرَى مِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ أَضْرُبِ الشَّكْلِ الثَّانِي، هَكَذَا لَا شَيْءَ مِنْ مَعْلُومِ الصِّفَاتِ بِبَيْعِ غَائِبٍ، وَإِذَا جَعَلْنَاهَا كُبْرَى وَمَا كَانَ كُبْرَى جُعِلَ صُغْرَى كَانَ تَرْكِيبُ الْقِيَاسِ هَكَذَا: كُلُّ بَيْعٍ صَحِيحٍ فَمَعْلُومُ الصِّفَاتِ، وَلَا شَيْءَ مِنْ مَعْلُومِ الصِّفَاتِ بَيْعُ غَائِبٍ، وَلَازِمُهُ لَا شَيْءَ مِنَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ بِبَيْعِ غَائِبٍ، وَإِذَا عَكَسْنَا النَّتِيجَةَ صَارَتْ: لَا شَيْءَ مِنْ بَيْعِ الْغَائِبِ صَحِيحٌ، وَهُوَ عَيْنُ الْمَطْلُوبِ. (5) عَكْسُ كُبْرَى لِلضَّرْبِ الثَّالِثِ مِنْ أَضْرُبِ الشَّكْلِ الثَّانِي، هَكَذَا لَا شَيْءَ مِنْ مَجْهُولِ الصِّفَاتِ يَصِحُّ بَيْعُهُ وَإِذَا بَقِيَتْ كُبْرَى مَعَ صُغْرَى ضَرْبُهَا كَانَ الْقِيَاسُ كَمَا يَلِي: بَعْضُ بَيْعِ الْغَائِبِ مَجْهُولُ الصِّفَاتِ وَلَا شَيْءَ مِنْ مَجْهُولِ الصِّفَاتِ يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَبِذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ، وَلَازِمُهُ؛ أَيْ: نَتِيجَةُ بَعْضِ بَيْعِ الْغَائِبِ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ عَيْنُ الْمَطْلُوبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 الْكُبْرَى مِنْهُ عَادَتْ جُزْئِيَّةً، وَلَا قِيَاسَ عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ، وَالصُّغْرَى فَلَا عَكْسَ لَهَا (1) ، وَإِنْ شِئْتَ بَيَّنْتَ الْإِنْتَاجَ بِالْخُلْفِ (2) ، وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ نَقِيضَ النَّتِيجَةِ مِنْ كُلِّ ضَرْبٍ مِنْهُ وَتَجْعَلَهُ صُغْرَى لِلْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ، فَإِنَّهُ يَنْتُجُ نَقِيضُ الْمُقَدِّمَةِ الصُّغْرَى الصَّادِقَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَلَيْسَ لُزُومُ الْمُحَالِ عَنْ نَفْسِ الصُّورَةِ الْقِيَاسِيَّةِ لِتَحَقُّقِ شُرُوطِهَا، وَلَا عَنْ نَفْسِ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى لِكَوْنِهَا صَادِقَةً، فَكَانَ لَازِمًا عَنْ نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ، فَكَانَ مُحَالًا وَإِلَّا لَمَا لَزِمَ عَنْهُ الْمُحَالُ، وَإِذَا كَانَ نَقِيضُ الْمَطْلُوبِ مُحَالًا كَانَ الْمَطْلُوبُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّادِقَ (3) .   (1) أَيْ: لَا تَنْعَكِسُ عَكْسًا مُسْتَوِيًا؛ لِأَنَّهَا قَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا الْخِسَّتَانِ؛ السَّلْبُ وَالْجُزْئِيَّةُ، كُلُّ مَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْخِسَّتَانِ لَا يَنْعَكِسُ عَكْسًا مُسْتَوِيًا لِعَدَمِ بَقَاءِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ. (2) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ طَرِيقَةَ الْعَكْسِ لِبَيَانِ صِحَّةِ الْإِنْتَاجِ فِي أَضْرُبِ الشَّكْلِ الثَّانِي بِرَدِّهَا لِلشَّكْلِ الْأَوَّلِ، وَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِكُلِّ ضَرْبٍ مِنْ أَضْرُبِهِ ذَكَرَ دَلِيلًا يَصْلُحُ لِبَيَانِ صِحَّةِ الْإِنْتَاجِ فِي جَمِيعِ أَضْرُبِ الْأَشْكَالِ، وَهُوَ دَلِيلُ الْخُلْفِ. (3) لِتَوْضِيحِ ذَلِكَ فِي ضَرْبٍ مِنْ أَضْرُبِ الشَّكْلِ الثَّانِي وَلْيَكُنِ الْأَوَّلُ؛ أَقُولُ: نَقِيضُ نَتِيجَةِ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّكْلِ الثَّانِي فِي مِثَالِ الْآمِدِيِّ " بَعْضُ بَيْعِ الْغَائِبِ صَحِيحٌ "، وَإِذَا جَعَلْنَاهَا صُغْرَى مَعَ كُبْرَى ذَلِكَ الضَّرْبِ، كَانَ الْقِيَاسُ هَكَذَا: بَعْضُ بَيْعِ الْغَائِبِ صَحِيحٌ، وَلَا شَيْءَ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ صِفَاتُ الْمَبِيعِ فِيهِ مَجْهُولَةٌ، " يَنْتِجُ ": لَيْسَ بَعْضُ بَيْعِ الْغَائِبِ صِفَاتُ الْمَبِيعِ فِيهِ مَجْهُولَةٌ، وَهَذِهِ نَتِيجَةٌ كَاذِبَةٌ؛ لِأَنَّهَا نَقِيضُ صُغْرَى ذَلِكَ الضَّرْبِ الصَّادِقَةِ، وَلَيْسَ كَذِبُهَا مِنْ نَفْسِ صُورَةِ الْقِيَاسِ لِتَحَقُّقِ شُرُوطِهَا، وَلَا مِنَ الْكُبْرَى؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، فَكَانَ الْكَذِبُ لَازِمًا مِنْ نَقِيضِ النَّتِيجَةِ، وَإِذَا كَانَ نَقِيضُهَا كَاذِبًا فَهِيَ صَادِقَةٌ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، هَذَا وَعَلَيْكَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي بَقِيَّةِ أَضْرُبِ الْأَشْكَالِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 الشَّكْلُ الثَّالِثُ: وَشَرْطُ إِنْتَاجِهِ إِيجَابُ صُغْرَاهُ، أَوْ أَنْ تَكُونَ فِي حُكْمِ الْمُوجَبَةِ وَكُلِّيَّةُ إِحْدَى مُقَدِّمَتَيْهِ، وَلَا يَنْتِجُ غَيْرُ الْجُزْئِيِّ الْمُوجَبِ وَالسَّالِبِ، وَضُرُوبُهُ الْمُنْتَجَةُ سِتَّةٌ: الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: مِنْ كُلِّيَّتَيْنِ مُوجِبَتَيْنِ، كَقَوْلِنَا: كُلُّ بُرٍّ مَطْعُومٌ، وَكُلُّ بُرٍّ رِبَوِيٌّ، وَلَازِمُهُ: بَعْضُ الْمَطْعُومِ رِبَوِيٌّ. الضَّرْبُ الثَّانِي: مِنْ جُزْئِيَّةٍ صُغْرَى مُوجَبَةٍ، وَكُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ كُبْرَى، كَقَوْلِنَا: بَعْضُ الْبُرِّ مَطْعُومٌ وَكُلُّ بُرٍّ رِبَوِيٌّ، وَلَازِمُهُ كَلَازِمِ مَا قَبْلَهُ. الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مِنْ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ صُغْرَى وَجُزْئِيَّةٍ مُوجَبَةٍ كُبْرَى، كَقَوْلِنَا: كُلُّ بُرٍّ مَطْعُومٌ وَبَعْضُ الْبُرِّ رِبَوِيٌّ، وَلَازِمُهُ كَلَازِمِ مَا قَبْلَهُ. الضَّرْبُ الرَّابِعُ: مِنْ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ صُغْرَى وَكُلِّيَّةٍ سَالِبَةٍ كُبْرَى، كَقَوْلِنَا: كُلُّ بُرٍّ مَطْعُومٌ وَلَا شَيْءَ مِنَ الْبُرِّ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَلَازِمُهُ: لَا شَيْءَ مِنَ الْمَطْعُومِ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا. الضَّرْبُ الْخَامِسُ: مِنْ جُزْئِيَّةٍ مُوجَبَةٍ صُغْرَى وَكُلِّيَّةٍ سَالِبَةٍ كُبْرَى، كَقَوْلِنَا: بَعْضُ الْبُرِّ رِبَوِيٌّ وَلَا شَيْءَ مِنَ الْبُرِّ يَصِحُّ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَلَازِمُهُ كَلَازِمِ مَا قَبْلَهُ. الضَّرْبُ السَّادِسُ: مِنْ كُلِّيَّةٍ مُوجَبَةٍ صُغْرَى وَجُزْئِيَّةٍ سَالِبَةٍ كُبْرَى، كَقَوْلِنَا: كُلُّ بُرٍّ مَطْعُومٌ وَبَعْضُ الْبُرِّ لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا، وَلَازِمُهُ كَلَازِمِ مَا قَبْلَهُ. وَإِنْتَاجُ هَذَا الشَّكْلِ غَيْرُ بَيِّنٍ بِنَفْسِهِ دُونَ بَيَانٍ، وَهُوَ أَنْ تَعْكِسَ الصُّغْرَى مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَتُبْقِيَهَا صُغْرَى بِحَالِهَا، فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الضَّرْبِ الثَّالِثِ مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ نَاتِجًا عَيْنَ الْمَطْلُوبِ، وَتَعْكِسَ الصُّغْرَى مِنَ الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ وَتُبْقِيَهَا صُغْرَى بِحَالِهَا، فَإِنَّهُ يَعُودُ إِلَى الضَّرْبِ الرَّابِعِ مِنَ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ نَاتِجًا عَيْنَ الْمَطْلُوبِ، وَتَعْكِسَ الْكُبْرَى مِنَ الثَّالِثِ وَتَجْعَلَهَا صُغْرَى لِلصُّغْرَى، ثُمَّ تَعْكِسَ النَّتِيجَةَ فَتَعُودَ إِلَى عَيْنِ الْمَطْلُوبِ. وَأَمَّا السَّادِسُ: مِنْهُ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّكَ إِنْ عَكَسْتَ الصُّغْرَى عَادَتْ جُزْئِيَّةً وَلَا قِيَاسَ عَنْ جُزْئِيَّتَيْنِ، وَالْكُبْرَى فَلَا عَكْسَ لَهَا. وَإِنْ شِئْتَ بَيَّنْتَ بِالْخُلْفِ، وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ نَقِيضَ النَّتِيجَةِ وَتَجْعَلَهُ كُبْرَى لِلصُّغْرَى فِي جَمِيعِ ضُرُوبِهِ، فَإِنَّهُ يَنْتِجُ نَقِيضُ الْمُقَدِّمَةِ الْكُبْرَى الصَّادِقَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 ذَلِكَ كَذِبُ النَّقِيضِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الشَّكْلِ الثَّانِي، وَيَلْزَمُهُ صِدْقُ الْمَطْلُوبِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّازِمُ أَوْ نَقِيضُهُ مَذْكُورًا فِيمَا لَزِمَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ فَيُسَمَّى اسْتِثْنَائِيًّا. وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَضِيَّتَيْنِ؛ إِحْدَاهُمَا: اسْتِثْنَائِيَّةٌ لِعَيْنِ أَحَدِ جُزْئَيِ الْقَضِيَّةِ الْأُخْرَى أَوْ نَقِيضِهِ، ثُمَّ الْقَضِيَّةُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ جُزْأَيْنِ بَيْنَهُمَا نِسْبَةٌ بِإِيجَابٍ أَوْ سَلْبٍ. وَالنِّسْبَةُ الْإِيجَابِيَّةُ بَيْنَهُمَا، إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِاللُّزُومِ وَالِاتِّصَالِ - وَفِي حَالَةِ السَّلْبِ بِرَفْعِهِ - أَوْ بِالْعِنَادِ وَالِانْفِصَالِ وَفِي حَالَةِ السَّلْبِ بِرَفْعِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ؛ فَتُسَمَّى تِلْكَ الْقَضِيَّةُ شَرْطِيَّةً مُتَّصِلَةً، وَأَحَدُ جُزْئَيْهَا - وَهُوَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الشَّرْطِ - (مُقَدَّمًا) ، وَالثَّانِي - وَهُوَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَزَاءِ - (تَالِيًا) وَمَا هِيَ مُقَدِّمَةٌ فِيهِ يُسَمَّى قِيَاسًا شَرْطِيًّا مُتَّصِلًا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ فَتُسَمَّى مُنْفَصِلَةً، وَمَا هِيَ مُقَدِّمَةٌ فِيهِ يُسَمَّى قِيَاسًا مُنْفَصِلًا. أَمَّا الشَّرْطِيُّ الْمُتَّصِلُ، فَشَرْطُ إِنْتَاجِهِ أَنْ تَكُونَ النِّسْبَةُ بَيْنَ الْمُقَدَّمِ وَالتَّالِي كُلِّيَّةً؛ أَيْ: دَائِمَةً، وَأَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ إِمَّا بِعَيْنِ الْمُقَدَّمِ مِنْهَا أَوْ نَقِيضِ التَّالِي؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّالِيَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنَ الْمُقَدَّمِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْهُ، وَإِلَّا كَانَتِ الْقَضِيَّةُ كَاذِبَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ الْمُقَدَّمِ يَلْزَمُ مِنْهُ عَيْنُ التَّالِي سَوَاءٌ كَانَ التَّالِي أَعَمَّ مِنَ الْمُقَدَّمِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، وَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ التَّالِي يَلْزَمُ مِنْهُ نَقِيضُ الْمُقَدَّمِ. وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ وَعَيْنُ التَّالِي فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ التَّالِي أَعَمَّ مِنَ الْمُقَدَّمِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ نَفْيُ الْأَعَمِّ، وَلَا مِنْ وُجُودِ الْأَعَمِّ وُجُودُ الْأَخَصِّ. وَإِنْ لَزِمَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فَلَا يَكُونُ الْإِنْتَاجُ لَازِمًا لِنَفْسِ صُورَةِ الدَّلِيلِ بَلْ لِخُصُوصِ الْمَادَّةِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِنَا: دَائِمًا إِنْ كَانَ هَذَا الشَّيْءُ إِنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ لَكِنَّهُ إِنْسَانٌ فَيَلْزَمُهُ أَنَّهُ حَيَوَانٌ، أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ فَيَلْزَمُهُ أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانًا. وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ، فَالْمُنْفَصِلَةُ مِنْهُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَانِعَةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجُزْأَيْنِ وَالْخُلُوِّ مَعًا، أَوْ مَانِعَةَ الْجَمْعِ دُونَ الْخُلُوِّ، أَوْ مَانِعَةَ الْخُلُوِّ دُونَ الْجَمْعِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، فَيَلْزَمُ مِنَ اسْتِثْنَاءِ عَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجُزْأَيْنِ نَقِيضُ الْآخَرِ وَمِنِ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِهِ عَيْنُ الْآخَرِ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِنَا: دَائِمًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 زَوْجًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْدًا، لَكِنَّهُ زَوْجٌ فَلَيْسَ بِفَرْدٍ، أَوْ لَكِنَّهُ فَرْدٌ لَيْسَ بِزَوْجٍ، أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ فَهُوَ فَرْدٌ، أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِفَرْدٍ فَهُوَ زَوْجٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي، فَاسْتِثْنَاءُ عَيْنِ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُهُ نَقِيضُ الْجُزْءِ الْآخَرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا عَيْنُ الْآخَرِ وَلَا نَقِيضُهُ، وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا: دَائِمًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ جَمَادًا وَإِمَّا حَيَوَانًا لَكِنَّهُ حَيَوَانٌ فَلَيْسَ بِجَمَادٍ، أَوْ لَكِنَّهُ جَمَادٌ فَلَيْسَ بِحَيَوَانٍ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اسْتِثْنَاءِ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا عَيْنُ الْآخَرِ وَلَا نَقِيضُهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ؛ فَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَيْنُ الْآخَرِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اسْتِثْنَاءِ عَيْنِ أَحَدِهِمَا عَيْنُ الْآخَرِ وَلَا نَقِيضُهُ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا قُلْنَا: دَائِمًا إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَحَلَّ الْأَسْوَدَ، وَإِمَّا لَا أَبْيَضَ، فَاسْتِثْنَاءُ نَقِيضِ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُهُ عَيْنُ الْآخَرِ وَلَا يَلْزَمُ مِنِ اسْتِثْنَاءِ عَيْنِ أَحَدِهِمَا عَيْنُ الْآخَرِ وَلَا نَقِيضُهُ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ ضُرُوبِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، لَخَّصْنَاهَا فِي أَوْجَزِ عِبَارَةٍ، وَمَنْ أَرَادَ الِاطِّلَاعَ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ فَعَلَيْهِ بِمُرَاجَعَةِ كُتُبِنَا الْمَخْصُوصَةِ بِهَذَا الْفَنِّ. وَلَا يَخْفَى مَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ مِنْ مَنْعِ الْمُقَدِّمَاتِ وَالْقَوَادِحِ فِي الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْهَا. وَمِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِدْلَالِ اسْتِصْحَابُ الْحَالِ، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الِاسْتِدْلَالِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ إِلَى بُطْلَانِهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ جَوَّزَ بِهِ التَّرْجِيحَ لَا غَيْرَ. وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؛ كَالْمُزَنِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ إِلَى صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الِاسْتِصْحَابُ لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ أَوْ عَدَمِيٍّ أَوْ عَقْلِيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا تَحَقَّقَ وَجُودُهُ أَوْ عَدَمُهُ فِي حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ظَنَّ بَقَائِهِ (1) وَالظَّنُّ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ظَنَّ بَقَائِهِ لِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ الطَّهَارَةِ ابْتِدَاءً لَا تَجُوزُ لَهُ الصَّلَاةُ (2) وَلَوْ شَكَّ فِي بَقَائِهَا جَازَتْ لَهُ الصَّلَاةُ (3) وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ فِي كُلٍّ مُتَحَقَّقًا دَوَامُهُ (4) لِلُزُومِ إِمَّا جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، أَوْ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ (5)   (1) ظَنَّ بَقَائِهِ؛ أَيْ: ظَنَّ بَقَاءِ مَا كَانَ مُتَحَقَّقًا قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ وُجُودٍ أَوْ عَدَمٍ. (2) هَذَا يَصْلُحُ مِثَالًا لِاسْتِصْحَابِ أَمْرٍ عَدَمِيٍّ. (3) هَذَا مِثَالًا لِاسْتِصْحَابِ أَمْرٍ وُجُودِيٍّ (4) مُتَحَقَّقًا دَوَامُهُ، هَكَذَا وُجِدَ بِالْمَخْطُوطَةِ وَالنُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ بِنَصْبِ " مُتَحَقَّقًا " خَبَرًا لِلْكَوْنِ، وَ " دَوَامُهُ " بِالرَّفْعِ نَائِبُ فَاعِلٍ لِمُتَحَقَّقِ، وَكَأَنَّ فِيهِ تَحْرِيفًا، وَلَعَلَّ الْأَصْلَ جَرُّ مُتَحَقَّقٍ بِالْإِضَافَةِ إِلَى كُلٍّ، وَنَصْبُ دَوَامِهِ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِلْكَوْنِ، وَبِذَلِكَ يَتَّفِقُ مَعْنَاهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: " لِأَنَّ مَا تَحَقَّقَ وَجُودُهُ أَوْ عَدَمُهُ فِي حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ ظَنَّ بَقَائِهِ "، فَالْبَقَاءُ مَظْنُونٌ لَا مُتَحَقَّقَ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَحَقَّقًا بِأَدِلَّةٍ خَارِجِيَّةٍ، لَا لِمُجَرَّدِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ، وَيَتَّفِقُ أَيْضًا مَعَ قَوْلِهِ بَعْدُ: " لَوْ لَمْ يَكُنِ الرَّاجِحُ الِاسْتِصْحَابَ " إِلَخْ. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا ذِكْرُهُ مَرَّاتٍ فِي الْمُنَاقَشَةِ بِالْجَرِّ مُضَافًا إِلَى كُلٍّ. (5) فِيهِ أَنَّ الصُّوَرَةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا كَمَا سَيَجِيءُ فِي مُنَاقَشَتِهِ لِهَذَا الْوَجْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الرَّاجِحُ هُوَ الِاسْتِصْحَابَ، لَمْ يَخْلُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الرَّاجِحُ عَدَمَ الِاسْتِصْحَابِ أَوْ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ وَعَدَمَهُ سِيَّانِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ امْتِنَاعُ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ لِظَنِّ فَوَاتِ الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ يَكُونَ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ مِمَّا تَجُوزُ مَعَهُ الصَّلَاةُ أَوْ لَا تَجُوزُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَيَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الصَّلَاةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَيَلْزَمُهُ عَدَمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعُقَلَاءَ وَأَهْلَ الْعُرْفِ إِذَا تَحَقَّقُوا وُجُودَ شَيْءٍ أَوْ عَدَمَهُ وَلَهُ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ بِهِ فَإِنَّهُمْ يُسَوِّغُونَ الْقَضَاءَ وَالْحُكْمَ بِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ زَمَانِ ذَلِكَ الْوُجُودِ أَوِ الْعَدَمِ، حَتَّى إِنَّهُمْ يُجِيزُونَ مُرَاسَلَةَ مَنْ عَرَفُوا وَجُودَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِمُدَدٍ مُتَطَاوِلَةٍ، وَإِنْفَاذَ الْوَدَائِعِ إِلَيْهِ وَيَشْهَدُونَ فِي الْحَالَةِ الرَّاهِنَةِ بِالدِّينِ عَلَى مَنْ أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ تِلْكَ الْحَالَةِ (1) . وَلَوْلَا أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ؛ لَمَا سَاغَ لَهُمْ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: أَنَّ ظَنَّ الْبَقَاءِ أَغْلَبُ مَنْ ظَنِّ التَّغَيُّرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَاقِيَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وُجُودِ الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ وَمُقَارَنَةُ ذَلِكَ الْبَاقِي لَهُ كَانَ وَجُودًا أَوْ عَدَمًا. وَأَمَّا التَّغَيُّرُ فَمُتَوَقِّفٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أُمُورٍ؛ وُجُودُ الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَتَبَدُّلُ الْوُجُودِ بِالْعَدَمِ أَوِ الْعَدَمِ بِالْوُجُودِ، وَمُقَارَنَةُ ذَلِكَ الْوُجُودِ أَوِ الْعَدَمِ لِذَلِكَ الزَّمَانِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَحَقُّقَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرَيْنِ لَا غَيْرَ أَغْلَبُ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ وَثَالِثٍ غَيْرِهِمَا. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: إِذَا وَقَعَ الْعَرَضُ فِيمَا هُوَ بَاقٍ بِنَفْسِهِ كَالْجَوْهَرِ، فَقَدْ يُقَالُ: غَلَبَةُ الظَّنِّ بِدَوَامِهِ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ، فَكَانَ دَوَامُهُ أَوْلَى. وَذَلِكَ لِأَنَّ بَقَاءَهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْمُؤَثِّرِ حَالَةَ بَقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوِ افْتَقَرَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، فَإِمَّا أَنْ يَصْدُرَ عَنْ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرِ أَثَرٌ، أَوْ لَا يَصْدُرَ عَنْهُ أَثَرٌ، فَإِنْ صَدَرَ عَنْهُ أَثَرٌ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ عَيْنَ مَا كَانَ أَوْ شَيْئًا مُتَجَدِّدًا، الْأَوَّلُ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَالثَّانِي فَعَلَى خِلَافِ الْفَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ أَثَرٌ فَلَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا، وَإِذَا كَانَ مُسْتَغْنِيًا فِي بَقَائِهِ   (1) هَذِهِ الصُّوَرُ مِنْ أَمْثِلَةِ الِاسْتِصْحَابِ لِأَمْرٍ وُجُودِيٍّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 عَنِ الْمُؤَثِّرِ فَتَغَيُّرُهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِمُؤَثِّرٍ وَإِلَّا كَانَ مُنْعَدِمًا بِنَفْسِهِ وَهُوَ مُحَالٌ وَإِلَّا لَمَا بَقِيَ، وَإِذَا كَانَ الْبَقَاءُ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى مُؤَثِّرٍ مُفْتَقِرٍ، وَتَغَيَّرَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ فَعَدِمَ الْبَاقِي لَا يَكُونُ إِلَّا بِمَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْهُ. وَأَمَّا الْمُتَجَدِّدُ سَوَاءٌ كَانَ عَدَمًا أَوْ وَجُودًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَنْتَفِي تَارَةً لِعَدَمِ مُقْتَضِيهِ وَتَارَةً لِمَانِعِهِ، وَمَا يَكُونُ عَدَمُهُ بِأَمْرَيْنِ يَكُونُ أَغَلَبَ مِمَّا عَدَمُهُ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ. وَعَلَى هَذَا فَالْأَصْلُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ الْعَدَمُ وَبَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ إِلَّا مَا وَرَدَ الشَّارِعُ بِمُخَالَفَتِهِ، فَإِنَّا نَحْكُمُ بِهِ وَنَبْقَى فِيمَا عَدَاهُ عَامِلِينَ بِقَضِيَّةِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، كَوُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ وَصَلَاةِ سَادِسَةٍ وَنَحْوِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَحَقَّقَ وَجُودُهُ فِي حَالَةٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَوْ عَدَمُهُ فَهُوَ مَظْنُونُ الْبَقَاءِ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّا نُسَلِّمُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْفَرْقِ فِي الْحُكْمِ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الصُّورَتَيْنِ، فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ وَجَمَاعَةً مِنَ الْفُقَهَاءِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ وَسَلَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الْأَصْلُ الْبَقَاءَ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ لَلَزِمَ رُجْحَانُ الطَّهَارَةِ أَوِ الْمُسَاوَاةُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَرُجْحَانُ الْحَدَثِ أَوِ الْمُسَاوَاةُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُجْحَانِ الطَّهَارَةِ فِي الصُّورَةِ الْأَوْلَى جَوَازُ الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ امْتِنَاعِ الصَّلَاةِ بَعْدَ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَالْمَسِّ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَإِنْ كَانَ وُجُودُ الطَّهَارَةِ رَاجِحًا، وَلِامْتِنَاعِ (1) الصَّلَاةِ مَعَ ظَنِّ الْحَدَثِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ حَيْثُ قُلْتُمْ بِأَنَّ ظَنَّ الْحَدَثِ لَا يَلْحَقُ بِتَيَقُّنِ الْحَدَثِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الطَّهَارَةِ وَالْحَدَثِ الْبَقَاءُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ فِي الطَّهَارَةِ وَالْحَدَثِ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ سِوَاهُمَا الْبَقَاءَ، لَا بُدَّ لِهَذَا مِنْ دَلِيلٍ (2) .   (1) وَلِامْتِنَاعِ الصَّلَاةِ، هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ، وَالصَّوَابُ: وَلَا امْتِنَاعُ الصَّلَاةِ، لِيَتَّفِقَ مَعَ مَا بَعْدَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: " وَحَيْثُ قُلْتُمْ بِأَنَّ ظَنَّ الْحَدَثِ لَا يَلْحَقُ بِتَيَقُّنِ الْحَدَثِ، وَلِيَتَّفِقَ مَعَ مَا فِي الْمَخْطُوطَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَوَازُ. (2) لَا بُدَّ لِهَذَا مِنْ دَلِيلٍ - فِيهِ سَقْطٌ، وَلَعَلَّ الْأَصْلَ: بَلْ لَا بُدَّ لِهَذَا مِنْ دَلِيلٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْبَقَاءُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لَكِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالزَّمَانِ وَالْحَرَكَاتِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْأَصْلَ فِيهِمَا التَّقَضِّي دُونَ الْبَقَاءِ وَالِاسْتِمْرَارِ. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ظَنِّ الْبَقَاءِ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مُجَوَّزًا مِنْهُمْ لِاحْتِمَالِ إِصَابَةِ الْغَرَضِ فِيمَا فَعَلُوهُ، وَذَلِكَ كَاسْتِحْسَانِ الرَّمْيِ إِلَى الْغَرَضِ لِقَصْدِ الْإِصَابَةِ، لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْإِصَابَةُ ظَاهِرَةً بَلْ مَرْجُوحَةً أَوْ مُسَاوِيَةً. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الثَّالِثِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ظَنَّ الْبَقَاءِ أَغْلَبُ مِنْ ظَنِّ التَّغَيُّرِ، وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ زِيَادَةِ تَوَقُّفِ التَّغَيُّرِ عَلَى تَبَدُّلِ الْوُجُودِ بِالْعَدَمِ أَوْ بِالْعَكْسِ مُعَارِضٌ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْبَقَاءُ مِنْ تَجَدُّدِ مِثْلِ السَّابِقِ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ أَكْثَرُ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى غَلَبَةِ الْبَقَاءِ عَلَى التَّغَيُّرِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْأَشْيَاءُ الْمُتَعَدِّدَةُ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا التَّغَيُّرُ أَغْلَبَ فِي الْوُجُودِ مِنَ الْأَعْدَادِ الْقَلِيلَةِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْبَقَاءُ (أَوْ مُسَاوِيَةً لَهَا) . وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْبَقَاءَ أَغْلَبُ مِنَ التَّغَيُّرِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ غَالِبًا عَلَى الظَّنِّ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ أَغْلَبَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ عَدَمُهُ فِي نَفْسِهِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى الْأَغْلَبِيَّةِ لَكِنْ فِيمَا هُوَ قَابِلٌ لِلْبَقَاءِ أَوْ فِيمَا لَيْسَ قَابِلًا لَهُ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ، فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ الْأَعْرَاضَ الَّتِي وَقَعَ النِّزَاعُ فِي بَقَائِهَا قَابِلَةٌ لِلْبَقَاءِ؟ كَيْفَ وَإِنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِمَا عُلِمَ فِي الْكَلَامِيَّاتِ (1) . وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الرَّابِعِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَاقِيَ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى مُؤَثِّرٍ. وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَاقِيَ فِي حَالَةِ بَقَائِهِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا لِذَاتِهِ أَوْ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ؛ الْأَوَّلُ مُحَالٌ وَإِلَّا لِمَا تُصَوِّرُ عَلَيْهِ الْعَدَمُ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَإِلَّا لَانْسَدَّ عَلَيْنَا بَابُ إِثْبَاتِ وَاجِبِ الْوُجُودِ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ دَوَامُهُ، لَكِنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَبَيَانُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ اسْتِمْرَارَهُ وَدَوَامَهُ، لَكَانَ حُدُوثُ جَمِيعِ الْحَوَادِثِ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِاسْتِمْرَارِ عَدَمِهَا، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ.   (1) أَيْ: مِنْ أَنَّ الْعَرَضَ فِي نَظَرِهِمْ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 الثَّانِي: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْإِثْبَاتِ تُقَدَّمَ عَلَى بَيِّنَةِ النَّفْيِ، وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ دَوَامُهُ، لَكَانَتْ بَيِّنَةُ النَّفْيِ لِاعْتِضَادِهَا بِهَذَا الْأَصْلِ أَوْلَى بِالتَّقَدُّمِ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُجْزِي عِتْقُ الْعَبْدِ الَّذِي انْقَطَعَ خَبَرُهُ، عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَهُ لَأَجْزَأَ. سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبَقَاءُ وَالِاسْتِمْرَارُ، وَلَكِنْ مَتَى يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِذَا كَانَ مُحَصِّلًا لِأَصْلِ الظَّنِّ أَوْ غَلَبَةِ الظَّنِّ؟ الْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ وَإِلَّا كَانَتْ شَهَادَةُ الْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ الْمُتَمَحِّضَاتِ وَالْفُسَّاقِ مَقْبُولَةً؛ لِحُصُولِ أَصْلِ الظَّنِّ بِهَا. وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَصْلِ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بِنَفْسِ مَا ذَكَرْتُمْ. سَلَّمْنَا كَوْنَ ذَلِكَ مُغَلِّبًا عَلَى الظَّنِّ لَكِنْ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَوْ بَعْدَهُ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ. وَبَيَانُهُ: أَنَّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ قَدْ أَمَنَّا الدَّلِيلَ الْمُغَيِّرَ، فَكَانَ الِاسْتِصْحَابُ لِذَلِكَ مُغَلَّبًا، وَبَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَمْ نَأْمَنِ التَّغَيُّرَ وَوُرُودَ الدَّلِيلِ الْمُغَيِّرِ، فَلَا يَبْقَى مُغَلَّبًا عَلَى الظَّنِّ. وَالْجَوَابُ عَنْ مَنْعِ الْإِجْمَاعِ عَلَى التَّفْرِقَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الصُّورَتَيْنِ، أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ الْإِجْمَاعُ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ حُجَّةً عَلَى الْمُوَافِقِ دُونَ الْمُخَالِفِ (1) وَعَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ رُجْحَانِ الطَّهَارَةِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى صِحَّةُ الصَّلَاةِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ ظَنِّ الطَّهَارَةِ كَالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا النَّوْمُ فَإِنَّمَا امْتَنَعَتْ مَعَهُ الصَّلَاةُ لِكَوْنِهِ سَبَبًا ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْخَارِجِ النَّاقِضِ لِلطَّهَارَةِ لِتَيَسُّرِ خُرُوجِ الْخَارِجِ مَعَهُ بِاسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «الْعَيْنَانِ وِكَاءُ السَّهِ» " (2) .   (1) فِيهِ أَنَّهَا حُجَّةٌ إِلْزَامِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُوَافِقِ، وَلَيْسَتْ حُجَّةً مُثْبَتَةً لِلدَّعْوَى فِي ذَاتِهَا. (2) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ، وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وِكَاءُ السَّهِ الْعَيْنَانِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ " وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ: " الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَمَنْ نَامَ فَلْيَتَوَضَّأْ ". وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ عِنْدَهُمَا بَقِيَّةَ بْنَ الْوَلِيدِ عَنِ الْوَضِينِ بْنِ عَطَاءٍ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ، انْظُرْ تَهْذِيبَ التَّهْذِيبِ، وَتَلْخِيصَ الْحَبِيرِ لِابْنِ حَجَرٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وَقَالَ: " «إِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ انْطَلَقَ الْوِكَاءُ» " (1) وَإِذَا كَانَ النَّوْمُ مَظِنَّةَ الْخَارِجِ الْمُحْتَمَلِ وَجَبَ إِدَارَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، كَمَا هُوَ الْغَالِبُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الشَّارِعِ لَا عَلَى حَقِيقَةِ الْخُرُوجِ؛ دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَالْحَرَجِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ، وَبِهِ يَقَعُ الْجَوَابُ عَنِ الْإِغْمَاءِ وَالْمَسِّ. وَيَلْزَمُ مِنْ رُجْحَانِ الْحَدَثِ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ امْتِنَاعُ صِحَّةِ الصَّلَاةِ؛ زَجْرًا لَهُ عَنِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ ظَنِّ الْحَدَثِ، فَإِنَّهُ قَبِيحٌ عَقْلًا وَشَرْعًا وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنْهُ، وَالشَّاهِدُ لَهُ بِالِاعْتِبَارِ الصُّورَةُ الْأُولَى. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْحَدَثِ الْمَظْنُونِ عِنْدَكُمْ. قُلْنَا: إِنَّمَا لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا نَقُولَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ كَالتَّقْدِيرِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِصْحَابُ وَالِاسْتِمْرَارُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ، لَكَانَ الِاسْتِمْرَارُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ عَلَى خِلَافِ حُكْمِ الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، إِنْ كَانَ عَدَمُ الِاسْتِمْرَارِ هُوَ الْأَغْلَبَ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى خِلَافِ الْغَالِبِ إِنْ كَانَ الِاسْتِمْرَارُ هُوَ الْأَغْلَبَ، وَإِنْ تَسَاوَى الطَّرَفَانِ فَهُوَ احْتِمَالٌ مِنْ ثَلَاثَةِ احْتِمَالَاتِ، وَوُقُوعُ احْتِمَالٍ مِنَ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ مِنِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. وَعَنِ السُّؤَالِ الثَّالِثِ، أَنَّا إِنَّمَا نَدَّعِي أَنَّ الْأَصْلَ الْبَقَاءُ فِيمَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ إِمَّا بِنَفْسِهِ كَالْجَوَاهِرِ أَوْ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ كَالْأَعْرَاضِ، وَعَلَيْهِ بِنَاءُ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَعَلَى هَذَا فَالْأَصْلُ فِي الزَّمَانِ بَقَاؤُهُ بِتَجَدُّدِ أَمْثَالِهِ. وَأَمَّا الْحَرَكَاتُ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ مَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ وَاسْتِمْرَارُهُ، أَوْ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ صُوَرِ النِّزَاعِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالنَّقْضُ بِهِ يَكُونُ مُنْدَفِعًا.   (1) الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي الْمُنْتَقَى مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بِلَفْظِ: " الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتَطْلَقَ الْوِكَاءُ "، وَنَسَبَهُ إِلَى أَحْمَدَ وَإِلَى الدَّارَقُطْنِيِّ، وَفِي سَنَدِهِ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَكِلَاهُمَا ضَعِيفٌ، انْظُرْ تَهْذِيبَ التَّهْذِيبِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْفِعْلِ لِغَرَضٍ مَوْهُومٍ غَيْرِ ظَاهِرٍ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَا خَطَرَ فِي فِعْلِهِ وَلَا مَشَقَّةَ كَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمِثَالِ. وَأَمَّا مَا يَلْزَمُ الْخَطَرَ وَالْمَشَقَّةَ فِي فِعْلِهِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ ظَاهِرٍ رَاجِحٍ عَلَى خَطَرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَمَشَقَّتِهِ عَلَى مَا تَشْهَدُ بِهِ تَصَرُّفَاتُ الْعُقَلَاءِ وَأَهْلُ الْعُرْفِ مِنْ رُكُوبِ الْبِحَارِ وَمُعَانَاةِ الْمَشَاقِّ مِنَ الْأَسْفَارِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَرْتَكِبُونَ ذَلِكَ إِلَّا مَعَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا مَعَ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ فِي نَظَرِهِ عُدَّ سَفِيهًا مِخَبَّطًا فِي عَقْلِهِ، وَمَا وَقَعَ بِهِ الِاسْتِشْهَادُ مِنْ تَنْفِيذِ الْوَدَائِعِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَى مَنْ بَعُدَتْ مُدَّةُ غَيْبَتِهِ وَالشَّهَادَةُ بِالدَّيْنِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَ إِقْرَارَهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَكَانَ الِاسْتِصْحَابُ فِيهِ ظَاهِرًا. وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَوَّلًا فَجَوَابُهُ بِزِيَادَةِ افْتِقَارِ التَّغَيُّرِ إِلَى تَجَدُّدِ عِلَّةٍ مُوجِبَةٍ لِلتَّغَيُّرِ، بِخِلَافِ الْبَقَاءِ لِإِمْكَانِ اتِّحَادِ عِلَّةِ الْمُتَجَدِّدَاتِ. وَمَا ذَكَرُوهُ ثَانِيًا فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَالْآخَرَ عَلَى شَيْئَيْنِ، فَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَتَحَقَّقُ عَدَمُهُ إِلَّا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهُ عَلَى أَمْرَيْنِ يَتِمُّ عَدَمُهُ بِعَدَمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِكَ الْأَمْرَيْنِ. وَيَخْفَى أَنَّ مَا يَقَعُ عَدَمُهُ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ يَكُونُ عَدَمُهُ أَغْلَبَ مِنْ عَدَمِ مَا لَا يَتَحَقَّقُ عَدَمُهُ إِلَّا بِتَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، وَمَا كَانَ عَدَمُهُ أَغْلَبَ كَانَ تَحَقُّقُهُ أَنْدَرَ، وَبِالْعَكْسِ مُقَابِلُهُ. فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا فِي الْوُقُوعِ لِعَدَمِ الْوَاحِدِ مِنَ الشَّيْئَيْنِ أَوْ غَالِبًا أَوْ مَغْلُوبًا، وَلَا تَتَحَقَّقُ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ بِتَقْدِيرِ غَلَبَةِ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ وَمُسَاوَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَغْلُوبًا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ أَغْلَبُ مِنْ وُقُوعِ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ. قُلْنَا: إِذَا نَسَبْنَا أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ إِلَى ذَلِكَ الْوَاحِدِ الْمُعَيَّنِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَدَمُهُ أَغْلَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَعَيَّنِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْ مَغْلُوبًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَزِمَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِتَرَجُّحِهِ بِضَمِّ عَدَمِ الْوَصْفِ الْآخَرِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 مَغْلُوبًا فَنِسْبَةُ الْوَصْفِ الْآخَرِ إِلَيْهِ لَا تَخْلُو مِنَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ، وَيَتَرَجَّحُ مَا ذَكَرْنَاهُ بِتَقْدِيرَيْنِ آخَرَيْنِ مِنْهَا، وَإِنَّمَا لَا يَتَرَجَّحُ مَا ذَكَرْنَاهُ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ مَرْجُوحًا، فَإِذَا مَا ذَكَرْنَاهُ يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرَاتٍ أَرْبَعَةٍ وَلَا يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ دِقَّةٌ فَلْيُتَأَمَّلْ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا عَنَّ لَهُ مَقْصُودَانِ مُتَسَاوِيَانِ، وَكَانَتِ الْمُقَدِّمَاتُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْآخَرِ، فَإِنَّهُ يُبَادِرُ إِلَى مَا مُقَدِّمَاتُهُ أَقَلُّ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ أَفْضَى إِلَى مَقْصُودِهِ وَأَغْلَبُ لَمَّا كَانَ إِقْدَامُهُ عَلَيْهِ أَغْلَبَ لِخُلُوِّهِ عَنِ الْفَائِدَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقَلَاءِ. قَوْلُهُمْ: وَإِنْ كَانَ الْبَقَاءُ أَغْلَبَ مِنَ التَّغَيُّرِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ غَالِبًا عَلَى الظَّنِّ. قُلْنَا: إِذَا كَانَ الْبَقَاءُ أَغْلَبَ مِنْ مُقَابِلِهِ فَهُوَ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْهُ وَيَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ؛ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُؤَاخَذٌ بِمَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَهُ. قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا يَدُلُّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ فِيمَا هُوَ قَابِلٌ لِلْبَقَاءِ. قُلْنَا: الْأَعْرَاضُ إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بَاقِيَةً بِأَنْفُسِهَا فَمُمْكِنَةُ الْبَقَاءِ بِطَرِيقِ التَّجَدُّدِ كَسَوَادِ الْغُرَابِ وَبَيَاضِ الثَّلْجِ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَالْكَلَامُ إِنَّمَا هُوَ مُمْكِنُ التَّجَدُّدِ مِنَ الْأَعْرَاضِ لَا فِيمَا هُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ. وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الرَّابِعِ أَنْ يُقَالَ: مُجَرَّدُ الْإِمْكَانِ غَيْرُ مُحْوِجٍ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، بَلِ الْمُحْوِجُ إِلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ الْإِمْكَانُ الْمَشْرُوطُ بِالْحُدُوثِ أَوِ الْحُدُوثُ الْمَشْرُوطُ بِالْإِمْكَانِ. وَعَنِ الْمُعَارَضَاتِ: (1) أَمَّا الْحَوَادِثُ فَإِنَّمَا خَالَفْنَا فِيهَا الْأَصْلَ لِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُدُوثِ وَنَفْيِ حُكْمِ الدَّلِيلِ مَعَ وُجُودِهِ لِمُعَارِضٍ أَوْلَى مِنْ إِخْرَاجِهِ عَنِ الدَّلَالَةِ وَإِبْطَالِهِ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ ظُهُورِ دَلَالَتِهِ. وَأَمَّا تَقْدِيمُ الشَّهَادَةِ الْمُثْبِتَةِ عَلَى النَّافِيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَضِدَةً بِأَصْلِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَإِنَّمَا كَانَ لِاطِّلَاعِ الْمُثْبِتِ عَلَى السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِمُخَالَفَةِ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَعَدَمِ اطِّلَاعِ النَّافِي عَلَيْهِ؛ لِإِمْكَانِ حُدُوثِهِ حَالَةَ غَيْبَةِ النَّافِي عَنِ الْمُنْكَرِ وَتَعَذُّرِ صُحْبَتِهِ لَهُ وَاطِّلَاعِهِ   (1) ذَكَرَ الْجَوَابَ عَنِ الْمُعَارَضَاتِ الثَّلَاثِ مُرَتَّبًا حَسَبَ تَرْتِيبِهَا السَّابِقِ فِي مُنَاقَشَةِ الْوَجْهِ الرَّابِعِ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 عَلَى أَحْوَالِهِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِهَا فَلِأَنَّ الذِّمَّةَ مَشْغُولَةٌ بِالْكَفَّارَةِ يَقِينًا وَلَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ مِنْهَا إِلَّا بِيَقِينِ وُجُودِ الْعَبْدِ، وَلَا يَقِينَ، فَمَنِ ادَّعَى وُجُودَ مِثْلِ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِذَا كَانَ مُفِيدًا لِغَلَبَةِ الظَّنِّ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ أَصْلُ الظَّنَّ كَافٍ وَبِهِ يَظْهَرُ الشَّيْءُ عَلَى مُقَابِلِهِ، وَأَمَّا رَدُّ الشَّهَادَةِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فَلَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّتِهَا بَلْ لِعَدَمِ اعْتِبَارِهَا فِي الشَّرْعِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صُورَةِ الشَّاكِّ فِي الطَّهَارَةِ وَالْحَدَثِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ مُغَلَّبٌ عَلَى الظَّنِّ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ لَا بَعْدَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّا بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ إِذَا لَمْ نَظْفَرْ بِدَلِيلٍ يُخَالِفُ الْأَصْلَ بَقِيَ ذَلِكَ الْأَصْلُ مُغَلَّبًا عَلَى الظَّنِّ. نَعَمْ، غَايَتُهُ أَنَّهُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ لِتَيَقُّنِ عَدَمِ الْمُعَارِضِ مِنْهُ (1) بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ لِظَنِّ عَدَمِ الْمُعَارِضِ.   (1) مِنْهُ جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مُتَعَلِّقٌ بَاسِمِ التَّفْضِيلِ، وَهُوَ أَغْلَبُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، فَنَفَاهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ وَأَثْبَتَهُ آخَرُونَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَصُورَتُهُ مَا لَوْ قَالَ الشَّافِعِيُّ مَثَلًا فِي مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ النَّجِسِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ: إِذَا تَطَهَّرَ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ خَارِجٌ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَهُوَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مُتَطَهِّرٌ وَلَوْ صَلَّى فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ قَبْلَ الْخَارِجِ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مُتَحَقَّقٍ دَوَامُهُ لِمَا تَحَقَّقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا (1) إِلَّا أَنْ يُوجَدَ الْمُعَارِضُ النَّافِي وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، فَمَنِ ادَّعَاهُ يَحْتَاجُ إِلَى الدَّلِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِثُبُوتِ الطَّهَارَةِ وَصِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِدَلِيلٍ أَوْ لَا لِدَلِيلٍ، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ لَا لِدَلِيلٍ، فَإِنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ لِدَلِيلٍ فَإِمَّا نَصٌّ أَوْ قِيَاسٌ أَوْ إِجْمَاعٌ، فَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إِظْهَارِهِ، وَلَوْ ظَهَرَ لَمْ يَكُنْ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ بَلْ بِنَاءً عَلَى مَا ظَهَرَ مِنَ النَّصِّ أَوِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا إِجْمَاعَ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَإِنْ كَانَ الْإِجْمَاعُ قَبْلَ خُرُوجِ الْخَارِجِ ثَابِتًا. قُلْنَا: مَتَى يَفْتَقِرُ الْحُكْمُ فِي بَقَائِهِ إِلَى دَلِيلٍ إِذَا قِيلَ بِنُزُولِهِ مَنْزِلَةَ الْجَوَاهِرِ أَوِ الْأَعْرَاضِ؟ الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ بَاقٍ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِدَلِيلٍ لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إِنَّهُ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْأَعْرَاضِ؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ نَازِلٌ مُنْزِلَةَ الْأَعْرَاضِ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَ الدَّلِيلِ الْمُبَقَّى فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنَ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنُوا أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ وَهُوَ مَوْضُوعُ النِّزَاعِ. سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ دَلِيلُ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ. وَذَلِكَ لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وُجُودَ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِبَقَاءِ كُلِّ مَا كَانَ مُتَحَقِّقًا عَلَى حَالِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ عَلَى دَلِيلٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ الظَّنِّ   (1) يُشِيرُ إِلَى الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي بِهَا ظَنُّ بَقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 [الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا ظُنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ] [النَّوْعُ الْأَوَّلُ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا] الْقِسْمُ الثَّانِي فِيمَا ظُنَّ أَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ النَّوْعُ الْأَوَّلُ - شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا، وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ. الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفُوا فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ بَعْثَتِهِ، هَلْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرْعِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ نَفَى ذَلِكَ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُثْبِتُونَ: فَمِنْهُمْ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى شَرْعِ نُوحٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى شَرْعِ إِبْرَاهِيمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى مُوسَى، وَمِنْهُمْ مَنْ نَسَبَهُ إِلَى عِيسَى. وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ قَضَى بِالْجَوَازِ وَتَوَقَّفَ فِي الْوُقُوعِ كَالْغَزَالِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْمُحَقِّقِينَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. أَمَّا الْجَوَازُ فَثَابِتٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ، إِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ لِذَاتِهِ أَوْ لِعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فِي ذَلِكَ، أَوْ لِمَعْنًى آخَرَ. الْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَهُ؛ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ فِي الْعَقْلِ مُحَالٌ. (1) . وَالثَّانِي فَمَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ، (2) وَبِتَقْدِيرِ رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَصْلَحَةَ الشَّخْصِ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ فِي تَكْلِيفِهِ بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ. وَالثَّالِثُ: فَلَا بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِهِ، إِذِ الْأَصْلُ عَدَمُهُ.   (1) ذَكَرَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ بِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ الذِّهْنِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ كَافٍ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعِلْمِ بِعَدَمِ الِامْتِنَاعِ وَالْإِمْكَانَ الذِّهْنِيَّ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ، وَعَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِعَدَمِ الِامْتِنَاعِ. (2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَيَسْتَدْعِي دَلِيلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَمَا يُتَخَيَّلُ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ - فَمَعَ عَدَمِ دَلَالَتِهَا فِي أَنْفُسِهَا - مُتَعَارِضَةٌ كَمَا يَأْتِي، وَلَيْسَ التَّمَسُّكُ بِالْبَعْضِ مِنْهَا أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ. فَإِنْ قِيلَ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْبَعْثَةِ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ أَحَدٍ قَبْلَهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةٍ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ لَنُقِلَ عَنْهُ فِعْلُ مَا تَعَبَّدَ بِهِ وَاشْتُهِرَ تَلَبُّسُهُ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ وَمُخَالَطَةِ أَهْلِهَا، كَمَا هُوَ الْجَارِي مِنْ عَادَةِ كُلِّ مُتَشَرِّعٍ بِشَرِيعَةٍ، وَقَدْ عُرِفَتْ أَحْوَالُهُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، لَافْتَخَرَ أَهْلُ تِلْكَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ بَعْثَتِهِ وَاشْتِهَارِهِ وَعُلُوِّ شَأْنِهِ بِنِسْبَتِهِ إِلَيْهِمْ وَإِلَى شَرْعِهِمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (1) . سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعَبُّدِهِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى تَعَبُّدِهِ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَمْرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ كَانَ دَاعِيًا إِلَى اتِّبَاعِ شَرْعِهِ كُلَّ الْمُكَلَّفِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الْعُمُومِ. الثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانَ يُصَلِّي وَيَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُعَظِّمُهُ وَيُذَكِّي وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ وَيَرْكَبُ الْبَهَائِمَ وَيَسْتَسْخِرُهَا وَيَتَجَنَّبُ الْمَيْتَةَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا لَا يُرْشِدُ إِلَيْهِ الْعَقْلُ وَلَا يَحْسُنُ بِغَيْرِ الشَّرْعِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ (2) أَنَّهُ مُقَابِلٌ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الشَّرَائِعِ وَلَا مُتَعَبِّدًا بِشَيْءٍ مِنْهَا؛ لَظَهَرَ مِنْهُ التَّلَبُّسُ بِخِلَافِ مَا أَهْلُ تِلْكَ الشَّرَائِعِ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ، وَاشْتُهِرَتْ مُخَالَفَتُهُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَكَانَتِ الدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةً عَلَى نَقْلِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ.   (1) لَمْ يُنْقَلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - هَذِهِ الْجُمْلَةُ هِيَ الصُّغْرَى فِي كُلٍّ مِنَ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (2) يَعْنِي الْجَوَابَ عَنْ دَلِيلِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي سَاقَهُ فِي صُورَةِ اعْتِرَاضِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ الْأَوَّلِ (1) لِلْمَذْهَبِ الثَّانِي بِمَنْعِ دَعْوَةِ مَنْ سَبَقَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لِكَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى اتِّبَاعِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ لِيُحْكَمَ بِهِ. وَبِتَقْدِيرِ نَقْلِهِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ زَمَانَ انْدِرَاسِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَتَعَذُّرِ التَّكْلِيفِ بِهَا؛ لِعَدَمِ نَقْلِهَا وَتَفْصِيلِهَا وَلِذَلِكَ بُعِثَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ. وَعَنِ الِاعْتِرَاضِ الثَّانِي، أَنَّا لَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرُوهُ بِنَقْلٍ يُوثَقُ بِهِ، وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِهِ شَرْعًا؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ صَلَاتُهُ وَحَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ وَتَعْظِيمُهُ لِلْبَيْتِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّكِ بِفِعْلِ مِثْلِ مَا نُقِلَ جُمْلَتُهُ عَنْ أَفْعَالِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَانْدَرَسَ تَفْصِيلُهُ. وَأَمَّا أَكْلُ اللَّحْمِ وَذَبْحُ الْحَيَوَانِ وَاسْتِسْخَارُهُ لِلْبَهَائِمِ فَإِنَّمَا كَانَ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَحْرِيمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا تَرْكُهُ لِلْمَيْتَةِ بِنَاءً (2) عَلَى عِيَافَةِ نَفْسِهِ لَهَا، كَعِيَافَتِهِ لَحْمَ الضَّبِّ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَبِّدًا بِذَلِكَ شَرْعًا، فَلَا.   (1) يَعْنِي: الْجَوَابَ عَنْ دَلِيلِ الْمَذْهَبِ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ فِي صُورَةِ اعْتِرَاضٍ، وَكَذَا يُقَالُ فِيمَا يَأْتِي بَعْدَهُ. (2) بِنَاءً. . . إِلَخْ - لَعَلَّهُ فَبِنَاءً. . إِلَخْ، لِأَنَّهُ وَاقِعٌ فِي جَوَابِ أَمَّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اخْتَلَفُوا فِي النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأُمَّتِهِ بَعْدَ الْبَعْثِ هَلْ هُمْ مُتَعَبِّدُونَ بِشَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ؟ فَنُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَنْ أَحْمَدَ فِي إِحْدَى الرَّاوِيَتَيْنِ عَنْهُ وَعَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِمَا صَحَّ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَهُ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كُتُبِهِمُ الْمُبَدَّلَةِ وَنَقْلِ أَرْبَابِهَا. وَمَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: «أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا قَالَ لَهُ: " بِمَ تَحْكُمُ؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي» " وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ وَسُنَنِهِمْ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ: " «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» " (1) ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَجَرَتْ مَجْرَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي وُجُوبِ الرُّجُوعِ إِلَيْهَا، وَلَمْ يَجُزِ الْعُدُولُ عَنْهَا إِلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهَا وَالْيَأْسِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَعَبِّدًا بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ وَكَذَلِكَ أُمَّتُهُ، لَكَانَ تَعَلُّمُهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ كَالْقُرْآنِ وَالْأَخْبَارِ، وَلَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرَاجَعَتُهَا وَأَنْ لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى نُزُولِ الْوَحْيِ فِي أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا يَخْلُو لِلشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ عَنْهَا، وَلَوَجَبَ أَيْضًا عَلَى الصَّحَابَةِ بَعْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُرَاجَعَتُهَا وَالْبَحْثُ عَنْهَا وَالسُّؤَالُ لِنَاقِلِيهَا عِنْدَ حُدُوثِ الْوَقَائِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ كَمَسْأَلَةِ الْجَدَّ، وَالْعَوْلِ، وَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُفَوِّضَةِ، وَحَدِّ الشُّرْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى نَحْوِ بَحْثِهِمْ عَنِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَحَيْثُ لَمْ يُنْقَلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بِهَا لَهُمْ (2) .   (1) تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ ص 32 ج 4. (2) هَذَا الدَّلِيلُ بِجَمِيعِ لَوَازِمِهِ لَا يَرُدُّ عَلَى أَصْحَابِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ دَعْوَاهُمْ كَمَا حَكَى عَنْهُمُ الْآمِدِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتُهُ مُتَعَبِّدُونَ بِمَا ثَبَتَ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ، وَعَلَى ذَلِكَ يَكُونُ الْوَاجِبُ إِنَّمَا هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى مَا نُقِلَ مِنْ شَرَائِعِهِمْ إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِاتِّبَاعِ شَرْعِ مَنْ قَبْلَهُ إِمَّا فِي الْكُلِّ أَوِ الْبَعْضِ، لَمَا نُسِبَ شَيْءٌ مِنْ شَرْعِنَا إِلَيْهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَلَا كُلُّ الشَّرْعِ إِلَيْهِ عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي، كَمَا لَا يُنْسَبُ شَرْعُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَنْ هُوَ مُتَعَبَّدٌ بِشَرْعِهِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. الرَّابِعُ: أَنَّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاسِخَةٌ لِشَرِيعَةِ مَنْ تَقَدَّمَ فَلَوْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِهَا؛ لَكَانَ مُقِرِّرًا لَهَا وَمُخْبِرًا عَنْهَا لَا نَاسِخًا لَهَا وَلَا مُشَرِّعًا، وَهُوَ مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى الْحُجَّةِ الْأُولَى إِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ مُعَاذٌ لِذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ؛ اكْتِفَاءً مِنْهُ بِآيَاتٍ فِي الْكِتَابِ تَدُلُّ عَلَى اتِّبَاعِهِمَا عَلَى مَا يَأْتِي، وَلِأَنَّ اسْمَ الْكِتَابِ يَدْخُلُ تَحْتَهُ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ لِكَوْنِهِمَا مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعَلُّمَ مَا قِيلَ بِالتَّعَبُّدِ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ لَيْسَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ مُرَاجَعَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا، وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْهُ مُرَاجَعَةُ التَّوْرَاةِ فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْمِ، وَمَا لَمْ يُرَاجِعْ فِيهِ شَرْعَ مَنْ تَقَدَّمَ، إِمَّا لِأَنَّ تِلْكَ الشَّرَائِعَ لَمْ تَكُنْ مُبَيَّنَةً لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِاتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ السَّالِفَةِ إِلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ بِهِ (1) وَأَمَّا عَدَمُ بَحْثِ الصَّحَابَةِ عَنْهَا، فَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ مَا تَوَاتَرَ مِنْهَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُمْ وَغَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى بَحْثٍ عَنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مَنْقُولًا عَلَى لِسَانِ الْآحَادِ مِنَ الْكُفَّارِ لَمْ يَكُونُوا مُتَعَبِّدِينَ بِهِ (2) . وَأَمَّا الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ فَإِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ مَا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ بِأَنَّهُ مِنْ شَرْعِهِ بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا لَنَا بِوَاسِطَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الشَّارِعَ لَهُ. وَأَمَّا الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ فَنَحْنُ نَقُولُ بِهَا وَأَنَّ مَا كَانَ مِنْ شَرْعِهِ مُخَالِفًا لِشَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَرْعِهِ بَلْ هُوَ مُتَعَبِّدٌ فِيهِ بِاتِّبَاعِ شَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ؛ فَلَا.   (1) الِاحْتِمَالُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَمَعَ مَا قَالَ بِهِ أَصْحَابُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ. (2) الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُكَلَّفُوا بِالْبَحْثِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِمْ فِي غَيْرِ مَا ثَبَتَ لَدَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ شَرْعُهُ بِأَنَّهُ نَاسِخٌ لِبَعْضِ مَا كَانَ مَشْرُوعًا قَبْلَهُ، كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَتَحْرِيمِ الْكُفْرَانِ وَالزِّنَا وَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَرْعُنَا فِيهِ مُوَافِقٌ لِشَرْعِ مَنْ تَقَدَّمَ. سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى مَطْلُوبِكُمْ، لَكِنَّهُ مُعَارِضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهِ وَبَيَانِهِ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ فَآيَاتٌ. الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أَمَرَهُ بِاقْتِدَائِهِ بِهُدَاهُمْ، وَشَرْعُهُمْ مِنْ هُدَاهُمْ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ. الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ لِشَرِيعَةِ نُوحٍ (1) . الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ. الرَّابِعَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ جُمْلَةِ النَّبِيِّينَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِهَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا «رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى التَّوْرَاةِ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيِّ» (2) وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ عِنْدَمَا طُلِبَ مِنْهُ الْقِصَاصُ فِي سِنٍّ كُسِرَتْ، فَقَالَ: " «كِتَابُ اللَّهِ   (1) لَا خُصُوصِيَّةَ فِي الْآيَتَيْنِ لِنُوحٍ تُوجِبُ اتِّبَاعَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَكَرَ مَعَهُ جُمْلَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلٍّ مِنَ الْآيَتَيْنِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ إِلَى الْبَشَرِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ. (2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ فِي رَجْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا، وَإِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فِي رَجْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيًّا زَنَى. . إِلَخْ. وَسَيَأْتِي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 يَقْضِي بِالْقِصَاصِ» " (1) وَلَيْسَ فِي الْكُتُبِ مَا يَقْضِي بِالْقِصَاصِ فِي السِّنِّ سِوَى التَّوْرَاةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهَا: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ أُنْسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» " وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (2) وَهُوَ خِطَابٌ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْجَوَابُ قَوْلُهُمْ: (إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ مُعَاذٌ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمَا) لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ وَمَا يَذْكُرُونَهُ فِي ذَلِكَ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ كَافِيًا عَنْ ذِكْرِهِمَا، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ (3) كَافِيًا أَوْ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَى ذِكْرِ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ فِي خَبَرِ مُعَاذٍ حَاجَةٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. قَوْلُهُمْ: (إِنَّ الْكُتُبَ السَّالِفَةَ مُنْدَرِجَةٌ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ) لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْكِتَابِ فِي شَرْعِنَا عِنْدَ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَحَكَمْتُ بِكِتَابِ اللَّهِ الْقُرْآنِ. لَيْسَ غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَذَلِكَ لِمَا عُلِمَ مِنْ مُعَانَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ وَدِرَاسَتِهِ وَالْعَمَلِ بِمُوجِبَاتِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ. قَوْلُهُمْ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَعَلُّمَ مَا تُعُبِّدَ بِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ لَيْسَ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ. قُلْنَا: لِأَنَّ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيمَ بِتَرْكِ النَّظَرِ عَلَى كَافَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي ذَلِكَ (4)   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَنَّ عَمَّتَهُ الرُّبَيِّعَ كَسَرَتْ ثَنْيَةَ جَارِيَةٍ. . الْحَدِيثَ. (2) رَوَى أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلَاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) انْظُرْ تَفْسِيرَ أَوَّلِ سُورَةِ طَهَ لِابْنِ كَثِيرٍ. (3) أَيْ: مِنْ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى حُجِّيَّتِهِمَا. (4) تَقَدَّمَ أَنَّ مُقْتَضَى دَعْوَى أَصْحَابِ الرَّأْيِ الْأَوَّلِ طَلَبُ مَا نُقِلَ مِنْ شَرَائِعِ السَّابِقِينَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَأْثَمُوا بِتَرْكِ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ فِي غَيْرِ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 وَأَمَّا مُرَاجَعَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّوْرَاةَ فَإِنَّمَا كَانَ لِإِظْهَارِ صِدْقِهِ فِيمَا كَانَ قَدْ أُخْبِرَ بِهِ مِنْ أَنَّ الرَّجْمَ مَذْكُورٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَإِنْكَارُ الْيَهُودِ ذَلِكَ لَا لِأَنْ يَسْتَفِيدَ حُكْمَ الرَّجْمِ مِنْهَا (1) وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي امْتِنَاعِ بَحْثِ الصَّحَابَةِ عَنْ ذَلِكَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ مُتَوَاتِرًا إِنَّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ خَالَطَ النَّقَلَةَ لَهُ وَكَانَ فَاحِصًا عَنْهُ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ وَغَيْرِهِمَا؟ ! وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ السُّؤَالُ لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ فَتَرْكٌ لِلظَّاهِرِ الْمَشْهُورِ الْمُتَبَادَرِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا يُسْمَعُ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى الْحُجَّةِ الرَّابِعَةِ فَمُنْدَفِعٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إِطْلَاقَ الْأُمَّةِ أَنَّ شَرْعَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاسِخٌ لِلشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ بَيْنَهُمْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَمْرَانِ؛ أَحَدُهُمَا: رَفْعُ أَحْكَامِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بِهَا (2) فَمَا لَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ بِشَرْعِهِ ضَرُورَةَ اسْتِمْرَارِهِ فَلَا يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ، فَيَبْقَى الْمَفْهُومُ الْآخَرُ وَهُوَ عَدَمُ تَعَبُّدِهِ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مُخَالَفَةِ دَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ مُخَالَفَتُهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَدْلُولِ الْآخَرِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ هُدًى مُضَافٍ إِلَى جَمِيعِهِمْ، مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ دُونَ مَا وَقَعَ بِهِ الْخِلَافُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ مِنْهُ لِاسْتِحَالَةِ اتِّبَاعِهِ وَامْتِثَالِهِ، وَالْهُدَى الْمُشْتَرَكُ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِنَّمَا هُوَ التَّوْحِيدُ، وَالْأَدِلَّةُ   (1) يُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ: مَا تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ؟ فَقَالُوا: نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا وَيُخْزَيَانِ. قَالَ: كَذَبْتُمْ، إِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ " فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. . " الْحَدِيثَ. (2) لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَقُولَ: الْأَدِلَّةُ وَإِنْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِبَعْضِ الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّ مَا نُسِخَ مِنْهَا غَيْرُ مُتَعَبَّدٍ بِهِ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّعَبُّدِ بِمَا لَمْ يُنْسَخْ مِنْهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 الْعَقْلِيَّةُ الْهَادِيَةُ إِلَيْهِ (1) وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْعِهِمْ فِي شَيْءٍ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وَلَمْ يَقُلْ " بِهِمْ ". وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْهُدَى الْمُشْتَرَكِ مَا اتَّفَقُوا فِيهِ مِنَ الشَّرَائِعِ دُونَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَاتِّبَاعُهُ لَهُ إِنَّمَا كَانَ بِوَحْيٍ إِلَيْهِ وَأَمْرٍ مُجَدَّدٍ لَا أَنَّهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ. (2) وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى أَنَّهُ مُوحًى إِلَيْهِ بِعَيْنِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ حَتَّى يُقَالَ بِاتِّبَاعِهِ لِشَرِيعَتِهِمْ، بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ كَمَا أَوْحَى إِلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ قَطْعًا لِاسْتِبْعَادِ ذَلِكَ وَإِنْكَارِهِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ بِمَا أَوْحَى بِهِ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّبِيِّينَ، فَغَايَتُهُ أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ بِمِثْلِ شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ بِوَحْيٍ مُبْتَدَإٍ لَا بِطْرِيقِ الِاتِّبَاعِ لِغَيْرِهِ. (3) وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الدِّينِ إِنَّمَا هُوَ أَصْلُ التَّوْحِيدِ لَا مَا انْدَرَسَ مِنْ شَرِيعَتِهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَحْثُ عَنْ شَرِيعَةِ نُوحٍ (4) ، وَذَلِكَ مَعَ التَّعَبُّدِ بِهَا فِي حَقِّهِ مُمْتَنِعٌ، وَحَيْثُ خَصَّصَ   (1) الْآيَةُ عَامَّةٌ فِيمَا تَعَبَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنَّظَرِ فِي السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ شَرَائِعِ السَّابِقِينَ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا نَسَخَتْهُ شَرِيعَتُنَا أَوِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ الشَّرَائِعُ السَّابِقَةُ، وَدَعْوَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ مَثَلًا لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِعِهِمْ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْجَمِيعَ بِالنَّظَرِ فِي السُّنَنِ الْكَوْنِيَّةِ وَتَعَبَّدَهُمْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى الْمَطَالِبِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ تَوْحِيدٍ وَغَيْرِهِ، وَمَنْ تَتَبَّعَ قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَمُحَاجَّتِهِمْ لِأَقْوَامِهِمْ وَجِدَالِهِمْ إِيَّاهُمْ تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ. (2) لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْوَحْيِ إِلَيْهِ بِشَرَائِعِ السَّابِقِينَ وَأَمْرِهِ وَأُمَّتِهِ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى قَصْرِ مَا تَبِعَهُمْ فِيهِ عَلَى أَمْرٍ مُجَدَّدٍ. (3) فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ التَّدَافُعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَعَدَمِ حَصْرِ مَا وَافَقَهُمْ فِيهِ فِي أَمْرٍ مُجَدَّدٍ. (4) الظَّاهِرُ عُمُومُ الشَّرِيعَةِ الَّتِي وَصَّاهُ بِهَا لِلتَّوْحِيدِ وَتَوَابِعِهِ مِنْ كُلِّ مَا دَانَ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، فَالْعُدُولُ عَنْ ذَلِكَ بِلَا دَلِيلٍ مَمْنُوعٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْحَثْ عَنْ شَرِيعَةِ نُوحٍ وَنَحْوِهَا فِي كُتُبِ الْأَوَّلِينَ اكْتِفَاءً بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ الطَّرِيقُ الْمَأْمُونُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ تِلْكَ الشَّرَائِعُ عَلَى وَجْهِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 نُوحًا بِالذِّكْرِ (1) مَعَ اشْتِرَاكِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّوْحِيدِ كَانَ تَشْرِيفًا لَهُ وَتَكْرِيمًا، كَمَا خَصَّصَ رُوحَ عِيسَى بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِلَفْظِ الْعِبَادِ. وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْمِلَّةِ إِنَّمَا هُوَ أَصُولُ التَّوْحِيدِ وَإِجْلَالُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ دُونَ الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ (2) وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ لَفْظَ الْمِلَّةِ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُقَالُ: مِلَّةُ الشَّافِعِيِّ وَمِلَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَذْهَبَيْهِمَا فِي الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ. الثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ عَقِيبَ ذَلِكَ: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ الدِّينِ، وَمُقَابِلُ الشِّرْكِ إِنَّمَا هُوَ التَّوْحِيدُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ الْأَحْكَامَ الْفَرْعِيَّةَ لَكَانَ مَنْ خَالَفَهُ فِيهَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سَفِيهًا (3) ، وَهُوَ مُحَالٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الدِّينِ فُرُوعَ الشَّرِيعَةِ لَوَجَبَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْبَحْثُ عَنْهَا لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهَا، وَذَلِكَ مَعَ انْدِرَاسِهَا مُمْتَنِعٌ. ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلَّةِ الْفُرُوعُ الشَّرْعِيَّةُ غَيْرَ أَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهَا بِمَا أُوحِيَ، وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} . وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} الْآيَةَ، أَنَّ قَوْلَهُ: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} صِيغَةُ إِخْبَارٍ لَا صِيغَةُ أَمْرٍ، وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهَا، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَمْرًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا هُوَ مُشْتَرَكُ الْوُجُوبِ بَيْنَ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ   (1) لَمْ يَخُصَّ نُوحًا بِالذِّكْرِ، بَلْ ذَكَرَ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَعَهُ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ لِمَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ. (2) الْمِلَّةُ عَامَّةٌ شَامِلَةٌ لِكُلِّ مَا يَلِي عَلَيْهِ مِنَ التَّشْرِيعِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا التَّوْحِيدُ دُخُولًا أَوَّلِيًّا لِأَهَمِّيَّتِهِ، وَلِذَا نَبَّهَ عَلَيْهِ خَاصَّةً بِذِكْرِ مُقَابِلِهِ. (3) إِنَّمَا يَلْزَمُ سَفَهُ الْمُخَالِفِ إِذَا لَمْ يَثْبُتِ النَّسْخُ وَإِلَّا فَلَا سَفَهَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 دُونَ الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ لِإِمْكَانِ تَنْزِيلِ لَفْظِ النَّبِيِّينَ عَلَى عُمُومِهِ بِخِلَافِ التَّنْزِيلِ عَلَى الْفُرُوعِ الشَّرْعِيَّةِ، كَيْفَ وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَعَارِضَةٌ وَالْعَمَلَ بِجَمِيعِهَا مُمْتَنِعٌ، وَلَيْسَ الْعَمَلُ بِالْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ. (1) وَعَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ: وَهُوَ رُجُوعُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى التَّوْرَاةِ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيِّ مَا سَبَقَ. وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كِتَابَنَا غَيْرُ مُشْتَمِلٍ عَلَى قِصَاصِ السِّنِّ بِالسِّنِّ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَهُوَ عَامٌّ فِي السِّنِّ وَغَيْرِهِ. وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْخِطَابَ مَعَ مُوسَى لِكَوْنِهِ مُوجِبًا لِقَضَاءِ الصَّلَاةِ عِنْدَ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ أُمَّتَهُ مَأْمُورَةٌ بِذَلِكَ، كَمَا أُمِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثُمَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ النَّقْلِ مَعَارَضٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ» " وَكُلُّ نَبِيٍّ بُعِثَ إِلَى قَوْمِهِ (2) ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَلَا يَكُونُ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعِهِمْ وَبِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ «رَأَى مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ   (1) كَيْفَ وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَعَارِضَةٌ وَالْعَمَلَ بِجَمِيعِهَا مُمْتَنِعٌ. . إِلَخْ، هَذَا مَسْلَكٌ سَيِّئٌ، وَجَدَلٌ مَمْقُوتٌ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرْبِ آيَاتِ اللَّهِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَبِمِثْلِ ذَلِكَ اسْتَوْلَتِ الْحَيْرَةُ وَالشُّكُوكُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ أُولِعَ بِالْجَدَلِ حَتَّى تَرَكُوا النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ إِلَى مَا يَزْعُمُونَهُ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً قَاطِعَةً، وَقَدْ تَكُونُ أَوْهَامًا وَخَيَالًا، وَاعْتَمَدُوا عَلَيْهَا وَآثَرُوهَا عَلَى النُّصُوصِ، فَازْدَادُوا حَيْرَةً وَاخْتِلَافًا بَيْنَهُمْ وَتَنَاقُضًا فِي آرَائِهِمْ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ. (2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رُوِيَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ مِنْهَا: مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا. . " إِلَخْ. انْظُرْ طُرُقَهُ وَاخْتِلَافَ مُتُونِهِ فِي بَابِ عُمُومِ بَعْثَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كِتَابِ مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ص 257 ج 2، ص 9 ج 4 أَنَّ مَعْنَاهُ مَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحَيْنِ، بَلْ ثَابِتٌ بِالْقُرْآنِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 قِطْعَةً مِنَ التَّوْرَاةِ يَنْظُرُ فِيهَا فَغَضِبَ وَقَالَ: أَلَمْ آتِ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَوْ أَدْرَكَنِي أَخِي مُوسَى لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي» . (1) أَخْبَرَ بِأَنَّ مُوسَى لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعُهُ، فَلَأَنْ لَا يَكُونَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَّبِعًا لِمُوسَى بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْلَى، وَرُبَّمَا عُورِضَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وَالشِّرْعَةُ: الشَّرِيعَةُ، وَالْمِنْهَاجُ: الطَّرِيقُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اتِّبَاعِ الْأَخِيرِ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ; لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ لَا تُضَافُ إِلَّا إِلَى مَنِ اخْتُصَّ بِهَا دُونَ التَّابِعِ لَهَا، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ فَإِنَّ الشَّرَائِعَ وَإِنِ اشْتَرَكَتْ فِي شَيْءٍ فَمُخْتَلِفَةٌ فِي أَشْيَاءَ، وَبِاعْتِبَارِ مَا بِهِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهَا كَانَتْ شَرَائِعَ مُخْتَلِفَةً، وَذَلِكَ كَمَا يُقَالُ: لِكُلِّ إِمَامٍ مَذْهَبٌ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْأَئِمَّةِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ بَيْنَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا. وَرُبَّمَا أَوْرَدَ النُّفَاةُ فِي ذَلِكَ طُرُقًا أُخْرَى شَتًّى ضَعِيفَةً، آثَرْنَا الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِهَا. وَكَمَا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِشَرِيعَةِ مَنْ تَقَدَّمَ إِلَّا بِوَحْيٍ مُجَدَّدٍ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ بَعْثَتِهِ عَلَى مَا كَانَ قَوْمُهُ عَلَيْهِ، بَلْ كَانَ مُتَجَنِّبًا لِأَصْنَامِهِمْ مُعْرِضًا عَنْ أَزْلَامِهِمْ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ عَلَى النُّصُبِ (2) ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنَ الْأُصُولِيِّينَ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ وَهُوَ بَعِيدٌ.   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي ". انْظُرْ طُرُقَ الْحَدِيثِ وَاخْتِلَافَ مَتْنِهِ فِي كِتَابِ الْعِلْمِ، وَفِي بَابِ وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ أَدْرَكَهُ مِنْ مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ. (2) الْمُنَاسِبُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَإِنَّهُ تَتِمَّةٌ لِبَيَانِ حَالِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 [النَّوْعُ الثَّانِي مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ] [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ هل هو حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ] ِّ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمُجْتَهِدِينَ إِمَامًا كَانَ أَوْ حَاكِمًا أَوْ مُفْتِيًا. وَاخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ: فَذَهَبَتِ الْأَشَاعِرَةُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالْكَرْخِيُّ: إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَذَهَبَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَالرَّازِيُّ وَالْبَرْذَعِيُّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي رِوَايَةٍ لَهُ: إِلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْقِيَاسِ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ إِنْ خَالَفَ الْقِيَاسَ فَهُوَ حُجَّةٌ وَإِلَّا فَلَا. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْحُجَّةَ فِي قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ دُونَ غَيْرِهِمَا. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُطْلَقًا، وَقَدِ احْتَجَّ النَّافُونَ بِحُجَجٍ ضَعِيفَةٍ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا وَالْإِشَارَةِ إِلَى وَجْهِ ضَعْفِهَا قَبْلَ ذِكْرِ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} أَوْجَبَ الرَّدَّ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، فَالرَّدُّ إِلَى مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ يَكُونُ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (1) ، فَالرَّدُّ إِلَى مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ لَا يَكُونُ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لِلْوُجُوبِ وَلَكِنْ عِنْدَ إِمْكَانِ الرَّدِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مُبَيَّنًا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَأَمَّا بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مُبَيَّنًا فِيهِمَا فَلَا.   (1) مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْرِ الْمُجَرَّدِ مِنَ الْقَرَائِنِ، أَمَّا هُنَا فَقَدِ اقْتَرَنَ الْأَمْرُ فِي الْآيَةِ بِمَا يُعَيِّنُ حَمْلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهُ مِنْ تَقْدِيرِ أَلَّا يَكُونَ الْحُكْمُ مُبَيَّنًا فِي النُّصُوصِ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) وَقَوْلُهُ: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وَنَحْوُهُمَا مِنْ أَدِلَّةِ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ وَشُمُولِهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 وَنَحْنُ إِنَّمَا نَقُولُ بِاتِّبَاعِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ مَعَ عَدَمِ الظَّفَرِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى حُكْمِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قَالُوا: أَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى جَوَازِ مُخَالَفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ الْمُجْتَهِدِينَ لِلْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اتِّبَاعُ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي كَوْنِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ مُجْتَهِدَةِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، لَا مُجْتَهِدَةِ الصَّحَابَةِ (1) ، فَلَمْ يَكُنِ الْإِجْمَاعُ دَلِيلًا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ. الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْخَطَأُ مُمْكِنٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى التَّابِعِ الْمُجْتَهِدِ الْعَمَلُ بِمَذْهَبِهِ كَالصَّحَابِيَّيْنِ وَالتَّابِعِيَّيْنِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ عَلَى صَحَابِيٍّ مِثْلِهِ وَامْتِنَاعِ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِمَذْهَبِ التَّابِعِيِّ عَلَى تَابِعِيٍّ مِثْلِهِ، امْتِنَاعُ وُجُوبِ عَمَلِ التَّابِعِيِّ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ مَعَ تَفَاوُتِهِمَا عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ» ) (2) ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ " (3) وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ.   (1) لَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ الْأَتْقَى حُجَّةً عَلَى مَنْ دُونَهُ لِمَا سَيَأْتِي. (2) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ طُرُقٍ أَقْرَبُهَا إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " خَيْرُ النَّاسِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ "، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مُسْتَنَدٌ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى حُجَّةِ النُّفَاةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ دُونَهُمْ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُمْ. (3) رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمَيْدٍ فِي مَسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ حَمْزَةَ النَّصِيبِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَحَمْزَةُ ضَعِيفٌ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِبِ مَالِكٍ، وَفِي سَنَدِهِ جَمِيلُ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ زَيْدٍ الْعَمِّيُّ، وَهُوَ كَذَّابٌ، وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَزْمٍ: هَذَا خَبَرٌ مَوْضُوعٌ بَاطِلٌ. انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي بَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ مِنَ التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ، وَذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الْآخَرِ، كَمَا فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ مَعَ الْأُخْوَةِ، وَقَوْلِهِ " أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ " كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، فَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ التَّابِعِينَ لَكَانَتْ حُجَجُ اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَلِفَةً مُتَنَاقِضَةً، وَلَمْ يَكُنِ اتِّبَاعُ التَّابِعِيِّ لِلْبَعْضِ أَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اخْتِلَافُ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ لَا يُخْرِجُهَا عَنْ كَوْنِهَا حُجَجًا فِي أَنْفُسِهَا كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ، وَيَكُونُ الْعَمَلِ بِالْوَاحِدِ مِنْهَا مُتَوَقِّفًا عَلَى التَّرْجِيحِ، وَمَعَ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى التَّرْجِيحِ فَالْوَاجِبُ الْوَقْفُ أَوِ التَّخْيِيرُ، كَمَا عُرِفَ فِيمَا تَقَدَّمَ. (1) الْحُجَّةُ الْخَامِسَةُ: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عَنِ اجْتِهَادٍ مِمَّا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، فَلَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ كَالتَّابِعِيِّ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ وَإِنْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْقِيَاسِ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ تَقْدِيمِ مَذْهَبِ التَّابِعِيِّ عَلَى الْقِيَاسِ امْتِنَاعُ ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ ; لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا. (2)   (1) الِاعْتِرَاضُ غَيْرُ وَارِدٍ، فَإِنَّ قِيَاسَ اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ عَلَى اخْتِلَافِ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَظَوَاهِرِ النُّصُوصِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ; إِذْ أَخْبَارُ الْآحَادِ وَظَوَاهِرُ النُّصُوصِ جَاءَتْ عَنِ الْمَعْصُومِ، فَهِيَ تَشْرِيعٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ صَوَابٌ فِي نَفْسِهِ لَا يُخْرِجُهُ الِاحْتِمَالُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ عَنْ ذَلِكَ، بِخِلَافِ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَنِ الْمَعْصُومِ، فَاخْتِلَافُ التَّضَادِّ بَيْنَهَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا الْخَطَأُ وَالصَّوَابُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْوَاقِعِ. (2) يَعْنِي فِي مُنَاقَشَةِ الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّ الْفَرْقَ فِي الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأَعْلَمِ الْأَتْقَى حُجَّةً عَلَى مَنْ دُونِهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَقِيَاسُ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ; لِأَنَّ خَبَرَ الْمَعْصُومِ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ، وَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ إِنَّمَا هُوَ فِي طَرِيقِهِ، أَمَّا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ فَاحْتِمَالُ الْخَطَأِ فِي نَفْسِهِ وَفِي طَرِيقِهِ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفَرْقِ مَوْجُودٌ فِيمَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ، وَيَلْزَمُ مِنْ طَرْدِهِ فِيهِ مَا اتَّفَقَ الطَّرَفَانِ عَلَى رَدِّهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْفَرْقُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي مَسْأَلَتِنَا. انْظُرْ مُنَاقَشَتَهُ لِلْمُعَارَضَةِ الثَّالِثَةِ آخِرَ الْمَسْأَلَةِ، وَقَارِنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُنَاقَشَتِهِ هُنَا لِلْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ وَالْخَامِسَةِ مِنْ حُجَجِ نُفَاةِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 الْحُجَّةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ التَّابِعِيَّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِ الْحُكْمِ بِطَرِيقِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ فِيهِ كَالْأُصُولِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: اتِّبَاعُ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ إِنَّمَا يَكُونُ تَقْلِيدًا لَهُ إِنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ حُجَّةً مُتَّبَعَةً، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، وَخَرَجَ عَلَيْهِ الْأُصُولُ، فَإِنَّ الْقَطْعَ وَالْيَقِينَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا، وَمَذْهَبُ الْغَيْرِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَاطِعَةٍ، فَكَانَ اتِّبَاعُهُ فِي مَذْهَبِهِ تَقْلِيدًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. (1) وَالْمُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أَوْجَبَ الِاعْتِبَارَ (2) وَأَرَادَ بِهِ الْقِيَاسَ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي إِثْبَاتِ كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً، وَذَلِكَ يُنَافِي وُجُوبَ اتِّبَاعِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ وَتَقْدِيمَهُ عَلَى الْقِيَاسِ، فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ مِنْ وُجُوهٍ، سَلَّمْنَا دَلَالَتَهُ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهُ مُعَارَضٌ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} وَهُوَ خِطَابٌ مَعَ الصَّحَابَةِ بِأَنَّ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ مَعْرُوفٌ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَاجِبُ الْقَبُولِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ "، (3) ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «اقْتَدَوْا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» " (4) ، وَلَا يُمْكِنُ   (1) التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِيمَا ذُكِرَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ بِمَا بَلَغَهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا مِنْ طَرِيقٍ قَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ. انْظُرْ ص 203 - 228 ج 19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى. (2) يَرُدُّ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ مَا أَوْرَدَهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) الْآيَةَ، بَلْ آيَةُ وُجُوبِ الرَّدِّ عِنْدَ التَّنَازُعِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مِمَّا اعْتَمَدَهُ دَلِيلًا. (3) انْظُرْ ص 132 ج 1، ص 150 ج 4. (4) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ مَوْلًى لِرِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 حَمَلُ ذَلِكَ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْعَامَّةِ وَالْمُقَلِّدِينَ لَهُمْ ; لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ فَائِدَةِ تَخْصِيصِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِ الِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَامَّةِ لِغَيْرِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ وُجُوبَ اتِّبَاعِ مَذَاهِبِهِمْ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَلَّى عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخِلَافَةَ بِشَرْطِ الِاقْتِدَاءِ بِالشَّيْخَيْنِ فَأَبَى، وَوَلَّى عُثْمَانَ فَقَبِلَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَصَارَ إِجْمَاعًا. (1) وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا قَالَ قَوْلًا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ فَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِيمَا قَالَ   (1) جُزْءٌ مِنْ أَثَرٍ طَوِيلٍ أَخْرَجَهُ الذُّهْلِيُّ فِي الزُّهْرِيَّاتِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عُثْمَانَ مِنْ طَرِيقِهِ، ثُمَّ مِنْ رِوَايَةِ عِمْرَانَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ وَفِيهَا: فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: هَلْ أَنْتَ يَا عَلِيُّ مُبَايِعِي إِنْ وَلَّيْتُكَ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَسُنَّةِ الْمَاضِينَ قَبْلِي؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ عَلَى طَاقَتِي، وَأَعَادَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ عُثْمَانُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ أَنَا أُبَايِعُكَ عَلَى ذَلِكَ، قَالَهَا ثَلَاثًا. . . إِلَخِ الْأَثَرِ. وَفِي ذَلِكَ مُؤَاخَذَاتٌ: الْأُولَى: أَنَّ الْأَثَرَ لَمْ يَصِحَّ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ ; لِأَنَّ فِيهِ عِمْرَانَ عَنْ أَخِيهِ مُحَمَّدٍ وَكِلَاهُمَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْآمِدِيَّ تَصَرَّفَ فِي الْأَثَرِ بِمَا غَيَّرَ مَعْنَاهُ فَقَالَ: وَلَّيْتُكَ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوَلِّهِ وَإِنَّمَا أَخَذَ عَلَيْهِ عَهْدًا إِنْ وَلَّاهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ إِلَخْ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ إِبَاءٌ مِنْ عَلِيٍّ وَلَا عُثْمَانَ عَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِمَا بَلْ ظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ رِضَا كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا عُرِضَ عَلَيْهِ مُعَلَّقًا. الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْبَيْعَةَ إِمَّا تَمَّتْ بِبَيْعَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِعُثْمَانَ فِي مَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَيْسَ عُثْمَانُ هُوَ الَّذِي عَرَضَ نَفْسَهَ وَقَالَ: أَنَا أُبَايِعُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ. انْظُرِ الْقِصَّةَ فِي شَرْحِ فَتْحِ الْبَارِي لِأَحَادِيثِ (بَابِ كَيْفَ يُبَايِعُ الْإِمَامُ النَّاسَ) وَتَرْجَمَةُ عِمْرَانَ وَأَخِيهِ مُحَمَّدٍ فِي الْمِيزَانِ لِلذَّهَبِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 مُسْتَنَدٌ أَوْ يَكُونَ: لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ وَإِلَّا كَانَ قَائِلًا فِي الشَّرِيعَةِ بِحُكْمٍ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ، وَحَالُ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ يُنَافِي ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا مُسْتَنَدَ وَرَاءَ الْقِيَاسِ سِوَى النَّقْلِ، فَكَانَ حُجَّةً مُتَّبَعَةً. الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إِذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ كَانَ حُجَّةً، فَكَانَ حُجَّةً مَعَ عَدَمِ الِانْتِشَارِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّالِثُ: أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ نَقْلٍ أَوِ اجْتِهَادٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ كَانَ حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَاجْتِهَادُ الصَّحَابِيِّ مُرَجَّحٌ عَلَى اجْتِهَادِ التَّابِعِيِّ وَمَنْ بَعْدَهُ ; لِتَرَجُّحِهِ بِمُشَاهَدَةِ التَّنْزِيلِ وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ وَوُقُوفِهِ مِنْ أَحْوَالِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمُرَادِهِ مِنْ كَلَامِهِ عَلَى مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَكَانَ حَالُ التَّابِعِيِّ إِلَيْهِ كَحَالِ الْعَامِّيِّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهِدِ التَّابِعِيِّ، فَوَجَبَ اتِّبَاعُهُ لَهُ. وَالْجَوَابُ عَنْ مَنْعِ دَلَالَةِ الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَنِ الْقَوَادِحِ مَا سَبَقَ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ بِالْكِتَابِ: أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ ; لِمَا سَبَقَ فِي إِثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ دَالًّا فَهُوَ خِطَابٌ مَعَ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ حُجَّةً أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ حُجَّةً. وَعَنِ السُّنَّةِ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهَا أَيْضًا ; لِمَا سَبَقَ فِي الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ الْخَبَرَ الْأَوَّلَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي أَشْخَاصِ الصَّحَابَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى عُمُومِ الِاقْتِدَاءِ فِي كُلِّ مَا يُقْتَدَى فِيهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِيمَا يَرَوْنَهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ الْحَمْلُ عَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ، وَبِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ التَّمَسُّكِ بِالْخَبَرِ الثَّانِي. وَعَنِ الْإِجْمَاعِ: أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعُثْمَانَ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا لَفْظَ الِاقْتِدَاءِ عَلَى الْمُتَابَعَةِ فِي السِّيرَةِ وَالسِّيَاسَةِ دُونَ الْمُتَابَعَةِ فِي الْمَذْهَبِ، بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْمُجْتَهِدِينَ. كَيْفَ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِشَرْطِ الِاقْتِدَاءِ بِهِمَا الْمُتَابَعَةَ فِي مَذْهَبِهِمَا، فَالْقَائِلُ بِأَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ قَائِلٌ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَالْقَائِلُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَائِلٌ بِتَحْرِيمِ اتِّبَاعِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْخَطَأُ بِسُكُوتِ الصَّحَابَةِ عَنِ الْإِنْكَارِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 إِمَّا عَلَى عَلِيٍّ حَيْثُ امْتَنَعَ مِنَ الِاقْتِدَاءِ إِنْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا، وَإِمَّا عَلَى عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إِنْ كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِالشَّيْخَيْنِ مُحَرَّمًا، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ: أَنَّهَا مُنْتَقِضَةٌ بِمَذْهَبِ التَّابِعِيِّ، فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ بِعَيْنِهِ ثَابِتٌ فِيهِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَقُولَ بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ إِذَا انْتَشَرَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ أَيَكُونُ (1) ذَلِكَ إِجْمَاعًا أَمْ لَا يَكُونُ إِجْمَاعًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْحُجَّةُ فِي الْإِجْمَاعِ لَا فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِيمَا إِذَا لَمْ يَنْتَشِرْ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ مُطْلَقًا، كَيْفَ وَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقَضٌ بِمَذْهَبِ التَّابِعِيِّ فَإِنَّهُ إِذَا انْتَشَرَ فِي عَصْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ نَكِيرٌ كَانَ حُجَّةً، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً بِتَقْدِيرِ عَدَمِ انْتِشَارِهِ إِجْمَاعًا. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ النَّقْلُ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ نَقْلٌ لَأَبْدَاهُ وَرَوَاهُ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا نَافِعًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» "، وَذَلِكَ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ بَعْدَهُ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ دُونَ غَيْرِهِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَيِّزًا بِمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الصُّحْبَةِ وَلَوَازِمِهَا (2) ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ". (3) ثُمَّ هُوَ مُنْتَقَضٌ بِمَذْهَبِ التَّابِعِيِّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ مِنْ تَابِعِي التَّابِعِينَ، وَإِنْ كَانَتْ نِسْبَتُهُ إِلَى تَابِعِي التَّابِعِينَ كَنِسْبَةِ الصَّحَابِيِّ إِلَيْهِ.   (1) أَنْ يَكُونَ - هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ وَفِي الْمَخْطُوطَةِ: " أَنَّهُ يَكُونُ "، وَلَعَلَّ الْمُنَاسِبَ " يَكُونُ "، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ. (2) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 150، 151ج4. (3) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِلَفْظِ: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ. وَهُوَ عِنْدُ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِهَذَا الْمَعْنَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَاجِبَةِ الِاتِّبَاعِ فَهَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَقْلِيدُهُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَاجِبَةِ الِاتِّبَاعِ فَهَلْ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَقْلِيدُهُ؟ أَمَّا الْعَامِّيُّ فَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَيَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ إِنْ جَوَّزْنَا تَقْلِيدَ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ ذَلِكَ فَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ مِنَ التَّابِعِينَ لِلْعَالِمِ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ وَجَوَّزَهُ فِي الْقَدِيمِ، غَيْرَ أَنَّهُ اشْتَرَطَ انْتِشَارَ مَذْهَبِهِ تَارَةً وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ تَارَةً. وَالْمُخْتَارُ امْتِنَاعُ ذَلِكَ مُطْلَقًا لِمَا يَأْتِي فِي قَاعِدَةِ الِاجْتِهَادِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (1) النَّوْعُ الثَّالِثُ: الِاسْتِحْسَانُ وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَقَالَ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ حَتَّى نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ. وَلَا بُدَّ قَبْلَ النَّظَرِ فِي الْحِجَاجِ مِنْ تَلْخِيصِ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِيَكُونَ التَّوَارُدُ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى مَحَزٍّ وَاحِدٍ فَنَقُولُ: الْخِلَافُ لَيْسَ فِي نَفْسِ إِطْلَاقِ لَفْظِ الِاسْتِحْسَانِ جَوَازًا وَامْتِنَاعًا لِوُرُودِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِطْلَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ» ". (2)   (1) سَيَذْكُرُ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ تِسْعَةَ أَقْوَالٍ فِي تَقْلِيدِ مُجْتَهِدٍ لِمُجْتَهِدٍ مَعَ تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا بَعْضٌ مِمَّا سَيَجِيءُ هُنَاكَ. انْظُرْ ص 261 ج19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَةَ. (2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ أَنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ فَاخْتَارَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابًا فَجَعَلَهُمْ أَنْصَارَ دِينِهِ وَوُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، فَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ قَبِيحٌ. قَالَ الْعَجْلُونِيُّ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ: وَهُوَ مَوْقُوفٌ حَسَنٌ، ثُمَّ نُقِلَ عَنِ الْحَافِظِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّهُ رُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ أَنَسٍ بِإِسْنَادٍ سَاقِطٍ، وَالْأَصَحُّ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ فَمَا نُقِلَ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنِ اسْتِحْسَانِ دُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ عِوَضٍ لِلْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ السُّكُونِ فِيهَا، وَتَقْدِيرِ أُجْرَتْهِ، وَاسْتِحْسَانِ شُرْبِ الْمَاءِ مِنْ أَيْدِي السَّقَّائِينَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فِي الْمَاءِ وَعِوَضِهِ، وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: أَسْتَحْسِنَ فِي الْمُتْعَةِ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا، وَأَسْتَحْسِنَ ثُبُوتَ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَأَسْتَحْسِنَ تَرْكَ شَيْءٍ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ. وَقَالَ فِي السَّارِقِ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ الْيُسْرَى بَدَلَ الْيُمْنَى فَقُطِعَتْ: الْقِيَاسُ أَنْ تُقْطَعَ يُمْنَاهُ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ لَا تُقْطَعَ. فَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ إِلَّا فِي مَعْنَى الِاسْتِحْسَانِ وَحَقِيقَتِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَمِيلُ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ وَيَهْوَاهُ مِنَ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَحًا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ اسْتِفْعَالٌ مِنَ الْحُسْنِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ هُوَ مَحَزَّ الْخِلَافِ؛ لِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِينَ عَلَى امْتِنَاعِ حُكْمِ الْمُجْتَهِدِ فِي شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَهَوَاتِهِ وَهَوَاهُ، مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِ وَالْعَامِّيِّ وَإِنَّمَا مَحَزُّ الْخِلَافِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَعْرِيفِهِ بِحَدِّهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ دَلِيلٍ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِظْهَارِهِ لِعَدَمِ مُسَاعَدَةِ الْعِبَارَةِ عَنْهُ، وَالْوَجْهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ تَرَدَّدَ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُحَقَّقًا وَوَهْمًا فَاسِدًا فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ التَّمَسُّكِ بِهِ، وَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ دَلِيلٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ التَّمَسُّكِ بِهِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي تَخْصِيصِهِ بِاسْمِ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ دُونَ حَالَةِ إِمْكَانِ التَّعْبِيرِ عَنْهُ، وَلَا حَاصِلَ لِلنِّزَاعِ اللَّفْظِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْعُدُولِ عَنْ مُوجِبِ قِيَاسٍ إِلَى قِيَاسٍ أَقْوَى مِنْهُ، وَيَخْرُجُ مِنْهُ الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَهُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ مُوجِبِ الْقِيَاسِ إِلَى النَّصِّ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ أَوِ الْعَادَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 أَمَّا الْكِتَابُ: فَكَمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: مَالِي صَدَقَةٌ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ لُزُومُ التَّصَدُّقِ بِكُلِّ مَالٍ لَهُ، وَقَدِ اسْتُحْسِنَ تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَالِ الزَّكَاةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وَلَمْ يُرِدْ بِهِ سِوَى مَالِ الزَّكَاةِ. وَأَمَّا السُّنَّةِ: فَكَاسْتِحْسَانِهِمْ أَنْ لَا قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَالْعُدُولُ عَنْ حِكَمِ الْقِيَاسِ إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا: ( «اللَّهُ أَطْعَمَكَ وَسَقَاكَ» ) . وَأَمَّا الْعَادَةُ: فَكَالْعُدُولِ عَنْ مُوجِبِ الْإِجَارَاتِ فِي تَرْكِ تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْحَمَّامِ، وَتَقْدِيرِ السُّكْنَى فِيهَا، وَمِقْدَارِ الْأُجْرَةِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلْعَادَةِ فِي تَرْكِ الْمُضَايَقَةِ فِي ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْصِيصِ قِيَاسٍ بِدَلِيلٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ. (1) وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: الِاسْتِحْسَانُ هُوَ الْعُدُولُ فِي مَسْأَلَةٍ عَنْ مِثْلِ مَا حُكِمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا إِلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ هُوَ أَقْوَى، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعُدُولُ عَنْ حُكْمِ الْعُمُومِ إِلَى مُقَابِلِهِ لِلدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ، وَالْعُدُولُ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ الْمَنْسُوخِ إِلَى مُقَابِلِهِ لِلدَّلِيلِ النَّاسِخِ وَلَيْسَ بِاسْتِحْسَانٍ عِنْدِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هُوَ تَرْكُ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ غَيْرِ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ لِوَجْهٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى الْأَوَّلِ. وَقَصَدَ بِقَوْلِهِ: غَيْرِ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ فِي الِاحْتِرَازِ عَنِ الْعُدُولِ عَنِ الْعُمُومِ إِلَى الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ لَفْظًا شَامِلًا. وَبِقَوْلِهِ: (وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ) الِاحْتِرَازُ عَنْ قَوْلِهِمْ: تَرَكْنَا الِاسْتِحْسَانَ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ اسْتِحْسَانًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي تُرِكَ لَهُ الِاسْتِحْسَانُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ بَلْ هُوَ الْأَصْلُ، وَذَلِكَ كَمَا لَوْ قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي آخِرِ سُورَةٍ، فَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ يَسْجُدَ لَهَا وَلَا يَجْتَزِئُ بِالرُّكُوعِ، وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ أَنْ يَجْتَزِئَ بِالرُّكُوعِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا بِالْعُدُولِ هَا هُنَا عَنِ الِاسْتِحْسَانِ إِلَى الْقِيَاسِ. وَهَذَا الْحَدُّ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِمَّا تَقَدَّمَ لِكَوْنِهِ جَامِعًا مَانِعًا غَيْرَ أَنَّ حَاصِلَهُ يَرْجِعُ إِلَى تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ بِالرُّجُوعِ عَنْ حُكْمِ دَلِيلٍ خَاصٍّ إِلَى مُقَابِلِهِ بِدَلِيلٍ طَارِئٍ   (1) تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْقِسْمِ الثَّانِي فِي شُرُوطِ عِلَّةِ الْأَصْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 عَلَيْهِ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِنْ نُوزِعَ فِي تَلْقِيبِهِ بِالِاسْتِحْسَانِ فَحَاصِلُ النِّزَاعِ رَاجِعٌ فِيهِ إِلَى الْإِطْلَاقَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، وَلَا حَاصِلَ لَهُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي إِطْلَاقِهِمُ الِاسْتِحْسَانَ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ حُكْمِ الدَّلِيلِ إِلَى الْعَادَةِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِالْعَادَةِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فَهُوَ حَقٌّ. وَحَاصِلُهُ رَاجِعٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ عَادَةُ مَنْ لَا يُحْتَجَّ بِعَادَتِهِ كَالْعَادَاتِ الْمُسْتَحْدَثَةِ لِلْعَامَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَذَلِكَ مِمَّا يَمْتَنِعُ تَرْكُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ بِهِ. وَإِذَا تَحَقَّقَ الْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى شُبَهٍ تَمَسَّكَ بِهَا الْقَائِلُونَ بِالِاسْتِحْسَانِ فِي بَيَانِ كُونِ الْمَفْهُومِ مِنْهُ حُجَّةً مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِيهِ، وَالْإِشَارَةِ إِلَى جِهَةِ ضَعْفِهَا، وَقَدْ تَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} . وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِالْآيَةِ الْأُولَى: وُرُودُهَا فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ لِمُتَّبِعِ أَحْسَنِ الْقَوْلِ، وَبِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ أَحْسَنِ مَا أُنْزِلَ، وَلَوْلَا أَنَّهُ حُجَّةٌ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ» ) (1) وَلَوْلَا أَنَّهُ حُجَّةٌ لَمَا كَانَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنًا. وَأَمَّا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَمَا ذُكِرَ مِنِ اسْتِحْسَانِهِمْ دُخُولَ الْحَمَّامِ وَشُرْبَ الْمَاءِ مِنْ أَيْدِي السَّقَّائِينَ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ لِزَمَانِ السُّكُونِ وَتَقْدِيرِ الْمَاءِ وَالْأُجْرَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهَا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ أَحْسَنِ الْقَوْلِ، وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ. وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ أَيْضًا فِيهَا عَلَى أَنَّ مَا صَارُوا إِلَيْهِ دَلِيلٌ مُنَزَّلٌ، فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ. وَعَنِ الْخَبَرِ كَذَلِكَ أَيْضًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: " «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدُ اللَّهِ حَسَنٌ» " إِشَارَةٌ إِلَى إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ، وَلَيْسَ فِيهِ   (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 156 ج4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا رَآهُ آحَادُ الْمُسْلِمِينَ حَسَنًا أَنَّهُ حَسَنٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِلَّا كَانَ مَا رَآهُ آحَادُ الْعَوَامِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا عِنْدَ اللَّهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَعَنِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرُوهُ، لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اسْتِحْسَانَهُمْ لِذَلِكَ هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ، بَلِ الدَّلِيلُ مَا دَلَّ عَلَى اسْتِحْسَانِهِمْ لَهُ، وَهُوَ جَرَيَانُ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَتَقْرِيرِهِ لَهُمْ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ (1) وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِيَاسِ حَقِيقَةَ الْمَصْلَحَةِ وَأَقْسَامَهَا فِي ذَاتِهَا، وَانْقِسَامَهَا بِاعْتِبَارِ شَهَادَةِ الشَّارِعِ لَهَا إِلَى: مُعْتَبَرَةٌ، وَمُلْغَاةٌ، وَإِلَى مَا لَمْ يَشْهَدِ الشَّرْعُ لَهَا بِاعْتِبَارٍ وَلَا إِلْغَاءٍ، وَبَيَّنَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ، وَهَذَا أَوَانُ النَّظَرِ فِيهِ. وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى امْتِنَاعِ التَّمَسُّكِ بِهِ، وَهُوَ الْحَقُّ، إِلَّا مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَقُولُ بِهِ مَعَ إِنْكَارِ أَصْحَابِهِ لِذَلِكَ عَنْهُ، وَلَعَلَّ النَّقْلَ إِنْ صَحَّ عَنْهُ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ فِي كُلِّ مَصْلَحَةٍ، بَلْ فِيمَا كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْحَاصِلَةِ قَطْعًا، لَا فِيمَا كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ غَيْرَ ضَرُورِيٍّ وَلَا كُلِّيٍّ، وَلَا وُقُوعُهُ قَطْعِيٌّ. وَذَلِكَ كَمَا لَوْ (2) تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ لَوْ كَفَفْنَا عَنْهُمْ لَغَلَبَ الْكُفَّارُ عَلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَأْصَلُوا شَأْفَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ رَمَيْنَا التُّرْسَ وَقَتَلْنَاهُمُ انْدَفَعَتِ الْمَفْسَدَةُ عَنْ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَطْعًا غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ قَتْلُ مُسْلِمٍ لَا جَرِيمَةَ لَهُ، فَهَذَا الْقَتْلُ وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَالْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهَا وَلَا إِلْغَاؤُهَا فِي صُورَةٍ.   (1) انْظُرْ كِتَابَ " الْمَقَاصِدِ " مِنْ كِتَابِ " الْمُوَافَقَاتِ لِلشَّاطِبِيِّ "، وَمَبْحَثَ " الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ " فِي كِتَابِ " الِاعْتِصَامِ لِلشَّاطِبِيِّ. " (2) مِثَالٌ لِمَا اسْتَوْفَى الشُّرُوطَ الثَّلَاثَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَالْمَصَالِحُ عَلَى مَا بَيَّنَّا مُنْقَسِمَةٌ إِلَى مَا عُهِدَ مِنَ الشَّارِعِ اعْتِبَارُهَا، وَإِلَى مَا عُهِدَ مِنْهُ إِلْغَاؤُهَا. وَهَذَا الْقِسْمُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ ذَيْنِكَ الْقِسْمَيْنِ، وَلَيْسَ إِلْحَاقُهُ بِأَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَامْتَنَعَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ دُونَ شَاهِدٍ بِالِاعْتِبَارِ، يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُعْتَبَرِ دُونَ الْمُلْغَى. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فَرْعُ تَصَوُّرِ وُجُودِ الْمُنَاسِبِ الْمُرْسَلِ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ. وَذَلِكَ لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ ثَمَّ مَصَالِحَ مُعْتَبَرَةً فِي نَظَرِ الشَّارِعِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَأَيُّ وَصْفٍ قُدِّرَ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَصْلَحِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا اعْتُبِرَ، وَكَانَ مِنْ قَبِيلِ الْمُلَائِمِ الَّذِي أَثَّرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَقَدْ قُلْتُمْ بِهِ. قُلْنَا: وَكَمَا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْمَصَالِحِ الْمُعْتَبَرَةِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْمَصَالِحِ الْمُلْغَاةِ، فَإِنْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ جِنْسِ مَا اعْتُبِرَ مِنَ الْمَصَالِحِ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُلْغًى ضَرُورَةَ كَوْنِهِ مِنْ جِنْسِ الْمَصَالِحِ الْمُلْغَاةِ، وَذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْوَاحِدُ مُعْتَبَرًا مُلْغًى بِالنَّظَرِ إِلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ كَوْنِهِ مُعْتَبَرًا بِالْجِنْسِ الْقَرِيبِ مِنْهُ ; لِنَأْمَنَ إِلْغَاءَهُ. وَالْكَلَامُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 [الْقَاعِدَةُ الثَّالثة فِي الْمُجْتَهِدِينَ وَأَحْوَالِ الْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَفْتِينَ] [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْمُجْتَهِدِينَ] [مُقَدِّمَةُ فِي تَعْرِيفِ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ وَالْمُجْتَهِدِ وَالْمُجْتَهَدِ فِيهِ] الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ فِي الْمُجْتَهِدِينَ وَأَحْوَالِ الْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَفْتِينَ وَتَشْتَمِلُ عَلَى بَابَيْنِ: الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي الْمُجْتَهِدِينَ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَمَسَائِلَ: أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ: فَفِي تَعْرِيفِ مَعْنَى الِاجْتِهَادِ، وَالْمُجْتَهِدِ، وَالْمُجْتَهَدِ فِيهِ. أَمَّا (الِاجْتِهَادُ) : فَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي تَحْقِيقِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مُسْتَلْزِمٍ لِلْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ، وَلِهَذَا يُقَالُ: اجْتَهَدَ فُلَانٌ فِي حَمْلِ حَجَرِ الْبِزَارَةِ، وَلَا يُقَالُ: اجْتَهَدَ فِي حَمْلِ خَرْدَلَةٍ. وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ فَمَخْصُوصٌ بِاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي طَلَبِ الظَّنِّ بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ يُحَسُّ مِنَ النَّفْسِ الْعَجْزُ عَنِ الْمَزِيدِ فِيهِ. فَقَوْلُنَا: (اسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ) كَالْجِنْسِ لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالْأُصُولِيِّ، وَمَا وَرَاءَهُ خَوَاصٌّ مُمَيِّزَةٌ لِلِاجْتِهَادِ بِالْمَعْنَى الْأُصُولِيِّ. وَقَوْلُنَا: (فِي طَلَبِ الظَّنِّ) احْتِرَازٌ عَنِ الْأَحْكَامِ الْقَطْعِيَّةِ. وَقَوْلُنَا: (بِشَيْءٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ) لِيَخْرُجَ عَنْهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَالْمُحَسَّاتِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُنَا: (بِحَيْثُ يُحَسُّ مِنَ النَّفْسِ الْعَجْزُ عَنِ الْمَزِيدِ فِيهِ) لِيَخْرُجَ عَنْهُ اجْتِهَادُ الْمُقَصِّرِ فِي اجْتِهَادِهِ مَعَ إِمْكَانِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ اجْتِهَادًا مُعْتَبَرًا. وَأَمَّا: (الْمُجْتَهِدُ) فَكُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الِاجْتِهَادِ وَلَهُ شَرْطَانِ. (1) الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَعْلَمَ وُجُودَ الرَّبِّ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ، وَيَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْكَمَالَاتِ، وَأَنَّهُ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، حَيٌّ، عَالِمٌ، قَادِرٌ، مُرِيدٌ، مُتَكَلِّمٌ، حَتَّى يَتَصَوَّرَ مِنْهُ التَّكْلِيفَ، وَأَنْ يَكُونَ مُصَدِّقًا بِالرَّسُولِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الشَّرْعِ   (1) هَذَا بَيَانٌ لِلْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ وَلِشُرُوطِهِ، أَمَّا مُجْتَهِدُ الْمَذْهَبِ وَيُقَالُ لَهُ الْمُجْتَهِدُ الْمُقَيَّدُ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَنْبِطُ الْأَحْكَامَ مِنْ أَدِلَّتِهَا بِنَاءً عَلَى قَوَاعِدِ إِمَامِ مَذْهَبِهِ، وَيَسْتَخْرِجُ الْوُجُوهَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْمَنْصُوصَةِ عَنْ إِمَامِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 الْمَنْقُولِ بِمَا ظَهَرَ عَلَى يَدِهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ، لِيَكُونَ فِيمَا يُسْنِدُهُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَحْكَامِ مُحَقَّقًا. وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِدَقَائِقِ عِلْمِ الْكَلَامِ مُتَبَحِّرًا فِيهِ كَالْمَشَاهِيرِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، بَلْ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ. وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُ عِلْمِهِ فِي ذَلِكَ الدَّلِيلَ الْمُفَصَّلَ بِحَيْثُ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَقْرِيرِهِ وَتَحْرِيرِهِ وَدَفْعِ الشُّبَهِ عَنْهُ، كَالْجَارِي مِنْ عَادَةِ الْفُحُولِ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ، بَلْ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَدِلَّةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ. الشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَارِفًا بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَقْسَامِهَا، وَطُرُقِ إِثْبَاتِهَا، وَوُجُوهِ دَلَالَاتِهَا عَلَى مَدْلُولَاتِهَا، وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا، وَالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَنْ يَعْرِفَ جِهَاتِ تَرْجِيحِهَا عِنْدَ تَعَارُضِهَا، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا، قَادِرًا عَلَى تَحْرِيرِهَا وَتَقْرِيرِهَا وَالِانْفِصَالِ عَنِ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهَا. وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالرُّوَاةِ وَطُرُقِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ، لَا كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِأَسْبَابِ النُّزُولِ وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي النُّصُوصِ الْإِحْكَامِيَّةِ، عَالِمًا بِاللُّغَةِ وَالنَّحْوِ. وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَةِ كَالْأَصْمَعِيِّ، وَفِي النَّحْوِ كَسِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ، بَلْ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يَعْرِفُ بِهِ أَوْضَاعَ الْعَرَبِ وَالْجَارِي مِنْ عَادَاتِهِمْ فِي الْمُخَاطَبَاتِ بِحَيْثُ يُمَيِّزُ بَيْنَ دَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ مِنْ: الْمُطَابَقَةِ، وَالتَّضَمُّنِ، وَالِالْتِزَامِ (1) ، وَالْمُفْرَدِ وَالْمُرَكَّبِ، وَالْكُلِّيِّ وَالْجُزْئِيِّ، وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَالتَّوَاطُؤِ وَالِاشْتِرَاكِ، وَالتَّرَادُفِ وَالتَّبَايُنِ، وَالنَّصِّ وَالظَّاهِرِ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَالْمَنْطُوقِ   (1) الْمُطَابَقَةُ هُنَا: دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى كُلِّ مَعْنَاهُ الَّذِي وُضِعَ لَهُ كَدَلَالَةِ بَيْتِ الشِّعْرِ عَلَى شَطْرَيْهِ. وَالتَّضَمُّنُ: دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ مَعْنَاهُ كَدَلَالَةِ بَيْتِ الشِّعْرِ عَلَى أَحَدِ شَطْرَيْهِ، وَدَلَالَةُ الْإِصْبَعِ عَلَى أُنْمُلَةٍ مِنْهُ. الِالْتِزَامُ: دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى خَارِجٍ عَنْ مَعْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ تَابِعٌ، كَدَلَالَةِ الْغُرَابِ عَلَى شِدَّةِ الْحَذَرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وَالْمَفْهُومِ، وَالِاقْتِضَاءِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالتَّنْبِيهِ، وَالْإِيمَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا فَصَّلْنَاهُ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ اسْتِثْمَارُ الْحُكْمِ مِنْ دَلِيلِهِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ أَيْضًا إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الْمُتَصَدِّي لِلْحُكْمِ وَالْفَتْوَى فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ. وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي حُكْمِ بَعْضِ الْمَسَائِلِ، فَيَكْفِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِيهَا، وَلَا يَضُرُّهُ فِي ذَلِكَ جَهْلُهُ بِمَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِبَاقِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُطْلَقَ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَكَثِّرَةِ بَالِغًا رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِبَعْضِ الْمَسَائِلِ الْخَارِجَةِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْمُفْتِي أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِجَمِيعِ أَحْكَامِ الْمَسَائِلِ وَمَدَارِكِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ وُسْعِ الْبَشَرِ. وَلِهَذَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ مِنْهَا: " لَا أَدْرِي ". وَأَمَّا مَا فِيهِ الِاجْتِهَادُ، فَمَا كَانَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ دَلِيلُهُ ظَنِّيٌّ. فَقَوْلُنَا: (مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ) تَمْيِيزٌ لَهُ عَمَّا كَانَ مِنَ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ وَاللُّغَوِيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَقَوْلُنَا: (دَلِيلُهُ ظَنِّيٌّ) تَمْيِيزٌ لَهُ عَمَّا كَانَ دَلِيلُهُ مِنْهَا قَطْعِيًّا كَالْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلِاجْتِهَادِ فِيهَا لِأَنَّ الْمُخْطِئَ فِيهَا يُعَدُّ آثِمًا، وَالْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ مَا لَا يُعَدُّ الْمُخْطِئُ فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ آثِمًا. (1) هَذَا مَا أَرَدْنَاهُ مِنْ بَيَانِ الْمُقَدِّمَةِ. . .، وَأَمَّا الْمَسَائِلُ فَاثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً.   (1) انْظُرْ ص 202، 204 جـ20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 [الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ] الْمَسْأَلَةُ الْأَوْلَى اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ؟ (1) فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْقَاضِي أَبُو يُوسُفَ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِهِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَعَبَّدًا بِهِ، وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قِطْعٍ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِي أُمُورِ الْحُرُوبِ دُونَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ ذَلِكَ عَقْلًا وَوُقُوعُهُ سَمْعًا. أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ: فَلِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَعَبَّدَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: " حُكْمِي عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ وَتَقِيسَ " لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا، وَلَا مَعْنَى لِلْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ سِوَى ذَلِكَ. (2) وَأَمَّا الْوُقُوعُ السَّمْعِيُّ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ عَلَى الْعُمُومِ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَلُّهُمْ فِي ذَلِكَ، فَكَانَ دَاخِلًا فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ دَلِيلُ التَّعَبُّدِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}   (1) مِنْ تَرَاجِمِ الْبُخَارِيِّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي أَوْ لَمْ يَجِبْ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا قِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى تَرْجَمَتِهِ بِالنُّصُوصِ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ حَدِيثًا فِي قَضَاءِ الْقَاضِي إِذَا أَخْطَأَ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ سَلَمَةَ وَفِيهِ: إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ. وَفِي سَنَدِهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ. (2) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّ هَذَا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْإِمْكَانِ الذِّهْنِيِّ عَلَى الْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 وَمَا أَرَاهُ يَعُمُّ الْحُكْمَ بِالنَّصِّ وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنَ النُّصُوصِ. (1) وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . وَالْمُشَاوَرَةُ إِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَا فِيمَا يُحْكَمُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْعِتَابِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَقَدْ أَطْلَقَهُمْ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ عَذَابٌ لَمَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ» " (2) لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ لَا بِالْوَحْيِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} عَاتَبَهُ عَلَى ذَلِكَ وَنَسَبَهُ إِلَى الْخَطَأِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ بِالْوَحْيِ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ ذَلِكَ خَاصًّا بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ كَانَ غَيْرُهُ أَيْضًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مُتَعَبَّدًا بِذَلِكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} ، وَمَا يُذْكَرُ بِالتَّفْهِيمِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالِاجْتِهَادِ لَا بِطْرِيقِ الْوَحْيِ. (3) وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي الْقَضِيَّةَ وَيَنْزِلُ الْقُرْآنُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ مَا كَانَ قَضَى بِهِ، فَيَتْرُكُ مَا قَضَى بِهِ عَلَى حَالِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ مَا نَزَلَ بِهِ   (1) انْظُرِ اسْتِدْلَالَهُ هُنَا بِعُمُومِ (مَا) عَلَى مَطْلُوبِهِ، وَمَا اخْتَارَهُ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ فِيمَا تَقَدَّمَ. (2) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَحَدٌ مِمَّنْ حَضَرَ إِلَّا أَحَبَّ الْغَنَائِمَ إِلَّا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَإِنَّهُ أَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بِقَتْلِ الْأَسْرَى وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنِ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنَ السَّمَاءِ مَا نَجَا مِنْهُ غَيْرُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. انْظُرْ مُخْتَصَرَ السِّيرَةِ لِلشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَتَفْسِيرَ ابْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ لِآيَتَيِ الْعِتَابِ عَلَى أَخْذِ الْفِدَاءِ، وَتَخْرِيجَ ابْنِ حَجَرٍ لِأَحَادِيثِ الْكَشَّافِ. (3) لِلْمُخَالِفِ أَنْ يَمْنَعَ تَخْصِيصَ التَّفْهِيمِ بِمَا يَكُونُ عَنِ اجْتِهَادٍ لِجَوَازٍ أَنْ يَكُونَ إِلْهَامًا، وَالْإِلْهَامُ نَوْعٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَخْصِيصَ سُلَيْمَانَ بِالتَّفْهِيمِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى خَطَأِ دَاوُدَ فِي حُكْمِهِ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَنِ اجْتِهَادٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 الْقُرْآنُ، وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ. (1) وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مَكَّةَ: «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِلَّا الْإِذْخِرَ» ". (2) وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِالِاجْتِهَادِ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» " (3) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَتْ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ وَارِثَةً لِذَلِكَ عَنْهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْخَبَرِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِالِاجْتِهَادِ أَشَقُّ مِنَ الْعَمَلِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِظُهُورِهِ؛ وَزِيَادَةٌ الْمَشَقَّةِ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَائِشَةَ: " «ثَوَابُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» " (4) ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحْمَدُهَا» " (5) ، أَيْ أَشَقُّهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَامِلًا بِالِاجْتِهَادِ مَعَ عَمَلِ أُمَّتِهِ بِهِ لَزِمَ اخْتِصَاصُهُمْ بِفَضِيلَةٍ لَمْ تُوجَدْ لَهُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّ آحَادَ أُمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ فِي شَيْءٍ أَصْلًا.   (1) وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ - هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ; إِذِ الْوَحْيُ مِنْهُ مَا هُوَ قُرْآنٌ يُتْلَى وَمِنْهُ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ، إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِغَيْرِ الْقُرْآنِ مَا كَانَ مُنَاقِضًا لَهُ. (2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. (3) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْأَرْبَعَةُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَوَّلُهُ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ مِنْهُ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ. وَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَجَمَاعَةٌ، وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ لِلِاضْطِرَابِ فِي سَنَدِهِ، وَحَسَّنَهُ جَمَاعَةٌ لِمَا لَهُ مِنَ الشَّوَاهِدِ. انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي كَشْفِ الْخَفَاءِ لِلْعَجْلُونِيِّ (4) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 140 ج3 (5) قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: لَا يُعْرَفُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي شَرْحِ الْمَنَازِلِ: لَا أَصْلَ لَهُ. وَقَالَ الْمِزِّيُّ: هُوَ مِنْ غَرَائِبِ الْحَدِيثِ. وَلَمْ يَرِدْ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ: (خَيْرُ الْعِبَادَةِ أَخَفُّهَا) ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ: رُوِيَ بِالْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، " أَيِ الْعِبَادَةِ أَوِ الْعِيَادَةِ "، وَهُوَ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ بِلَفْظِ خَيْرُ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 الثَّانِي: أَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ النَّظَرُ فِي مُلَاحَظَةِ الْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ مِنَ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَإِلْحَاقِ نَظِيرِ الْمَنْصُوصِ بِهِ بِوَاسِطَةِ الْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ لِسَلَامَةِ نَظَرِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْخَطَإِ وَالْإِقْرَارِ عَلَيْهِ. وَإِذَا عَرَفَ ذَلِكَ فَقَدْ تَرَجَّحَ فِي نَظَرِهِ إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ ضَرُورَةً، فَلَوْ لَمْ يَقْضِ بِهِ لَكَانَ تَارِكًا لِمَا ظَنَّهُ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ وَهُوَ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي بَيَانِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ يَأْتِي فِيمَا نَذْكُرُهُ مِنَ الْمَعْقُولِ. وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى: فَقَدْ سَبَقَ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا (1) فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} أَيْ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ. وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ: فَالْمُرَادُ مِنْهَا الْمُشَاوَرَةُ فِي أُمُورِ الْحُرُوبِ وَالدُّنْيَا. (2) وَكَذَلِكَ الْعِتَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} . وَأَمَّا عِتَابُهُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَلَعَلَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بِالْوَحْيِ بَيْنَ قَتْلِ الْكُلِّ أَوْ إِطْلَاقِ الْكُلِّ أَوْ فِدَاءِ الْكُلِّ، فَأَشَارَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِإِطْلَاقِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ، فَنَزَلَ الْعِتَابُ لِلَّذِينَ عَيَّنُوا لَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: " {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} " وَالْمُرَادُ بِهِ أُولَئِكَ خَاصَّةً. وَأَمَّا الْخَبَرُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ مُرْسَلٌ وَلَا حُجَّةَ فِي الْمَرَاسِيلِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ كَانَ حُجَّةً غَيْرَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِالْوَحْيِ، وَالْوَحْيُ الثَّانِي يَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ. أَمَّا الْخَبَرُ الثَّانِي: فَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُرِيدًا لِاسْتِثْنَاءِ " الْإِذْخِرِ " فَسَبَقَهُ بِهِ الْعَبَّاسُ. وَأَمَّا الْخَبَرُ الثَّالِثُ: فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ فِيمَا كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ حَتَّى يَكُونَ مَوْرُوثًا عَنْهُمْ.   (1) الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا - يُرِيدُ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهَا. (2) مُتَعَلَّقُ الْمَشُورَةِ وَهُوَ الْأَمْرُ عَامٌّ ; لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَهُمْ فِي أَمْرٍ يَجْعَلُونَهُ شِعَارًا لِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مِنَ الْعِبَادَاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 كَيْفَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْإِرْثَ فِي تَبْلِيغِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ إِلَى الْعَامَّةِ، كَمَا كَانَ الْأَنْبِيَاءُ مُبَلِّغِينَ لِلْمَبْعُوثِ إِلَيْهِمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْإِرْثَ فِيمَا كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي حِفْظِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنَ الْمَعْقُولِ: فَالثَّوَابُ فِيمَا عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُهُ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا لَمَا سَاغَ لَهُ الْحُكْمُ إِلَّا بِالِاجْتِهَادِ تَحْصِيلًا لِزِيَادَةِ الثَّوَابِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَاخْتِصَاصُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ بِذَلِكَ دُونَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُوجِبُ كَوْنِهِمْ أَفْضَلَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِمَنْصِبِ وَرُتْبَةِ النُّبُوَّةِ وَتَشْرِيفِهِ بِالْبَعْثَةِ وَهِدَايَةِ الْخَلْقِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ عَلَى جِهَةِ الْعُمُومِ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي: وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَشَدَّ عِلْمًا مِنْ غَيْرِهِ بِمَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ وَجِهَاتِ الِاسْتِنْبَاطِ، إِلَّا أَنَّ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِهِ فِي حَقِّهِ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِالْوَحْيِ، وَهَذَا الشَّرْطُ مِمَّا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا مَشْرُوطَ، وَهَذَا بِخِلَافِ عُلَمَاءِ أُمَّتِهِ فَافْتَرَقَا. وَإِنْ سَلَّمْنَا دَلَالَةَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى تَعَبُّدِهِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، غَيْرَ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ. وَبَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، وَذَلِكَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الصَّادِرُ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ عَشْرَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ «النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ وَحْيٍ فَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ رَأْيٍ فَلَيْسَ ذَلِكَ مَنْزِلَ مَكِيدَةٍ. فَقَالَ: بَلْ هُوَ بِالرَّأْيِ» . (1) فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُرَاجَعَتُهُ فِي الرَّأْيِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ مُرَاجَعَتُهُ   (1) كَانَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَالْقَائِلُ لَهُ هُوَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْأَنْصَارِيُّ، انْظُرِ الْقِصَّةَ فِي كُتُبِ السِّيرَةِ وَفِي تَرْجَمَتِهِ فِي كِتَابِ الْإِصَابَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا تَكُونُ عَنْ رَأْيٍ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْأَحْكَامِ الصَّادِرَةِ عَنْهُ مَا يَكُونُ عَنِ اجْتِهَادٍ لَجَازَ أَنْ لَا يُجْعَلَ أَصْلًا لِغَيْرِهِ، وَأَنْ يُخَالَفَ فِيهِ، وَأَنْ لَا يَكْفُرَ مُخَالِفُهُ ; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ لَوَازِمِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالِاجْتِهَادِ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ لَأَظْهَرَهُ، وَلَمَا تَوَقَّفَ عَلَى الْوَحْيِ فِيمَا كَانَ يَتَوَقَّفُ فِيهِ فِي بَعْضِ الْوَقَائِعِ ; لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُفِيدُ سِوَى الظَّنِّ، وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ قَادِرًا عَلَى تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنَ الْوَحْيِ الْقَاطِعِ، وَالْقَادِرُ عَلَى تَحْصِيلِ الْيَقِينِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَصِيرُ إِلَى الظَّنِّ، كَالْمُعَايِنِ لِلْقِبْلَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ فِيهَا. الْخَامِسُ: أَنَّ الْأُمُورَ الشَّرْعِيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا عِلْمَ لِلْخَلْقِ بِهَا، فَلَوْ قِيلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: احْكُمْ بِمَا تَرَى، كَانَ ذَلِكَ تَفْوِيضًا إِلَى مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْأَصْلَحِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اخْتِلَالَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. السَّادِسُ: أَنَّ لَنَا صَوَابًا فِي الرَّأْيِ وَصِدْقًا فِي الْخَبَرِ، وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْبِرَ بِمَا لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ صِدْقًا، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِصَوَابِهِ. السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ لَجَازَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ رَسُولًا، وَيَجْعَلَ لَهُ أَنْ يَشْرَعَ شَرِيعَةً بِرَأْيِهِ وَأَنْ يَنْسَخَ مَا تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَنْسَخَ أَحْكَامًا أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِرَأْيِهِ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. الثَّامِنُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ صُدُورُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فَرُبَّمَا أَوْرَثَ ذَلِكَ تُهْمَةً فِي حَقِّهِ، وَأَنَّهُ هُوَ الْوَاضِعُ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْبَعْثَةِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. التَّاسِعُ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ عُرْضَةٌ لِلْخَطَإِ فَوَجَبَ صِيَانَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْهُ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ النَّصِّ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ; لِأَنَّ الْوَحْيَ مُتَوَقَّعٌ فِي حَقِّهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ. وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى قَدْ سَبَقَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا، وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحُكْمَ بِمَا اسْتُنْبِطَ مِنَ الْمُنَزَّلِ يَكُونُ حُكْمًا بِالْمُنَزَّلِ ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِمَعْنَاهُ، وَلِهَذَا قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} . (1) الثَّانِي: أَنَّ حُكْمَهُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمٌ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ، فَتَقْيِيدُهُ بِالْمُنَزَّلِ خِلَافُ الْإِطْلَاقِ. وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْآيَةِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِالْمُشَاوَرَةِ فِي أَمْرِ الْفِدَاءِ، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ لِتَعَلُّقِهِ بِأَعْظَمِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ. (2) وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ كَمَا ذَكَرُوهُ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِيهِ، وَبِهِ دَفْعُ مَا ذَكَرُوا عَلَى الْآيَةِ الرَّابِعَةِ. وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْعِتَابِ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَهُوَ عَلَى خِلَافِ عُمُومِ الْخِطَابِ الْوَارِدِ فِي الْآيَةِ وَتَخْصِيصِ دَلِيلٍ، فَلَا يَصِحُّ. وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْخَبَرِ الْأَوَّلِ مِنَ السُّنَّةِ بِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ. (3) وَقَوْلُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ يَحْكُمُ بِالْوَحْيِ، وَالْوَحْيُ الثَّانِي نَاسِخٌ لَهُ. قُلْنَا: النَّسْخُ خِلَافُ الْأَصْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ الدَّلِيلِ الْمَنْسُوخِ، وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ نَسْخًا لَمَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، غَيْرَ أَنَّ تَعْطِيلَ دَلِيلِ الِاجْتِهَادِ بِنَسْخِ حُكْمِهِ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِ الْقُرْآنِ. وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْخَبَرِ الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِذْخِرُ مُسْتَثْنًى فِيمَا نُزِلَ إِلَيْهِ لَكَانَ تَأْخِيرُهُ إِلَى مَا بَعْدَ قَوْلِ الْعَبَّاسِ تَأْخِيرًا لِلِاسْتِثْنَاءِ عَنِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَعَ دَعْوَى الْحَاجَةِ إِلَى اتِّصَالِهِ بِهِ حَذَرًا مِنَ التَّلْبِيسِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ. وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْخَبَرِ الثَّالِثِ، أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ: " «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» " فِيمَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنَ الْعِلْمِ مُطْلَقًا، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ عُلُومُهُمُ الِاجْتِهَادِيَّةُ مَوْرُوثَةً عَنِ الْأَنْبِيَاءِ لَكَانَ ذَلِكَ تَقْيِيدًا لِلْمُطْلَقٍ وَتَخْصِيصًا لِلْعَامِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ.   (1) هَذَا خَطَأٌ فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: " فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ " مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ وَالْآيَةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا هُنَا مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ وَآخِرُهَا (وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: " فِي آخِرِ الْآيَةِ " مُحَرَّفًا، وَالْأَصْلُ: فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى. (2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 168 ج4. (3) انْظُرِ التَّعْلِيقَ مِنْ ص 124 - 128 ج2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ (1) إِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ بِالْقِيَاسِ يَسْتَدْعِي أَصْلًا ثَابِتًا لَا بِالِاجْتِهَادِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ. (2) قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ قَدِ اخْتُصَّ بِمَنْصِبِ الرِّسَالَةِ، فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُ. قُلْنَا: وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ زِيَادَةَ الثَّوَابِ بِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ نَوْعُ فَضِيلَةٍ، فَيَبْعُدُ اخْتِصَاصُ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ بِفَضِيلَةٍ لَا تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَعَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الثَّانِي مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِاجْتِهَادِ أَهْلِ عَصْرِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ وَاقِعًا بِدَلِيلِ تَقْرِيرِهِ لِمُعَاذٍ عَلَى قَوْلِهِ: " أَجْتَهِدُ رَأْيِي "، وَلَمْ يَكُنِ احْتِمَالُ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِوُرُودِ الْوَحْيِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَانِعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ فِي حَقِّهِ، وَإِنَّمَا الْمَانِعُ وُجُودُ النَّصِّ لِاحْتِمَالِ وُجُودِهِ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ بِالْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا إِنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَا يَنْطِقُ بِهِ وَاجْتِهَادُهُ مِنْ فِعْلِهِ لَا مِنْ نُطْقِهِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا هُوَ فِي الِاجْتِهَادِ لَا فِي النُّطْقِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا اجْتَهَدَ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْطِقَ بِحُكْمِ اجْتِهَادِهِ وَالْإِخْبَارُ عَمَّا ظَنَّهُ مِنَ الْحُكْمِ، فَتَكُونُ الْآيَةُ مُتَنَاوِلَةً لَهُ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ إِذَا كَانَ مُسْتَنَدُهُ الِاجْتِهَادَ فَلَيْسَ عَنْ وَحْيٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ هَوًى. قُلْنَا: إِذَا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ وَقِيلَ لَهُ: مَهْمَا ظَنَنْتَ بِاجْتِهَادِكَ حُكْمًا (3) ، فَهُوَ حُكْمُ الشَّرْعِ فَنُطْقُهُ بِذَلِكَ يَكُونُ عَنْ وَحْيٍ لَا عَنْ هَوًى.   (1) " إِنَّمَا " لَعَلَّهُ أَنَّهُ، أَوْ أَنَّهُ إِنَّمَا. (2) انْظُرْ شُرُوطَ حُكْمِ الْأَصْلِ. (3) وَقِيلَ لَهُ: مَهْمَا ظَنَنْتَ. . . إِلَخْ هَذَا مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ لَا يُفِيدُ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنِ الْآيَاتِ سِيقَتْ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ كَذَّبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَالُوا: إِنَّهُ افْتَرَاهُ لِدَافِعِ هَوًى مِنْ نَفْسِهِ أَوْ عَلَّمَهُ إِيَّاهُ بَشَرٌ، أَوْ أَنَّهُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ عَنْ هَوًى كَمَا يَزْعُمُونَ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ إِلَّا وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ تَوَسَّعْنَا فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ كَانَ الْمَعْنَى: وَمَا يَنْطِقُ مُحَمَّدٌ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّشْرِيعِ وَمَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ عَنْ هَوًى، إِنَّ التَّشْرِيعَ كُلَّهُ إِلَّا وَحْيٌ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قَوْلًا أَوْ إِلْهَامًا أَوِ اجْتِهَادًا، فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى وَحْيًا بِاعْتِبَارِ الْإِذْنِ فِيهِ ابْتِدَاءً، وَإِنْكَارِ خَطَئِهِ وَتَقْرِيرِ صَوَابِهِ انْتِهَاءً. انْظُرْ شُرُوطَ حُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْمَسْأَلَةَ السَّابِعَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَالدَّلِيلَ الثَّامِنَ مِنْ أَدِلَّةِ مَانِعِي الْقِيَاسِ، وَجَوَابَ الْآمِدِيِّ عَنْهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَبْدِيلَهُ لِلْقُرْآنِ لَيْسَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْوَحْيِ، وَالنِّزَاعُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي الِاجْتِهَادِ، وَالِاجْتِهَادُ وَإِنْ وَقَعَ فِي دَلَالَةِ الْقُرْآنِ فَذَلِكَ تَأْوِيلٌ لَا تَبْدِيلٌ. وَعَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ: أَنَّ الْمُرَاجَعَةَ إِنَّمَا كَانَتْ فِي أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ مُتَعَلِّقٍ بِالْحُرُوبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْمُرَاجَعَةِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فِي شَيْءٍ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ لَوَازِمِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالِاجْتِهَادِ، بِدَلِيلِ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَاجْتِهَادُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَتَقَاصَرُ عَنِ اجْتِهَادِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ عِصْمَتُهُمْ بِقَوْلِ الرَّسُولِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَرَجِّحًا عَلَيْهِ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ لَا مَانِعَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَبَّدًا بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يُظْهِرْهُ صَرِيحًا لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ لَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا تَأَخُّرُهُ عَنْ جَوَابِ بَعْضِ مَا كَانَ يُسْأَلُ عَنْهُ فَلِاحْتِمَالِ انْتِظَارِ النَّصِّ الَّذِي لَا يَجُوزُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ إِلَى حِينِ الْيَأْسِ مِنْهُ؛ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ فِي الِاجْتِهَادِ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ، فَإِنَّ زَمَانَ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ. (1) وَعَنِ الرَّابِعَةِ: النَّقْضُ بِمَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ مِنْ تَعَبُّدِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحُكْمِ بِقَوْلِ الشُّهُودِ حَتَّى قَالَ: " إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ " مَعَ إِمْكَانِ انْتِظَارِهِ فِي ذَلِكَ لِنُزُولِ الْوَحْيِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ. (2)   (1) أَوْ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. (2) مَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ مِنَ الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا هُوَ تَطْبِيقٌ لِمَا سَبَقَ أَنْ شُرِعَ مِنَ الْأَحْكَامِ بِالْوَحْيِ عَلَى الْوَقَائِعِ وَالْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةِ، وَيُسَمَّى اجْتِهَادًا بِالْمَعْنَى الْعَامِّ، وَلَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ، إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الِاجْتِهَادِ بِالْمَعْنَى الْخَاصِّ وَمُوَاثَبَاتِ الْحُكْمِ تَشْرِيعًا، وَتَقْعِيدُهُ وَتَأْصِيلُهُ لِيَكُونَ شَرِيعَةً لِلْأُمَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى مَا عَرَفْنَاهُ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ إِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالصَّوَابِ فِيمَا يُجْتَهَدُ فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ، كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقَضٌ بِتَعَبُّدِ غَيْرِهِ بِالِاجْتِهَادِ. وَعَنِ السَّادِسَةِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا تَمْثِيلٌ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ صَحِيحٍ، فَلَا تَكُونُ حُجَّةً. الثَّانِي: الْفَرْقُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِمَا لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ صَادِقًا قَدْ لَا نَأْمَنُ فِيهِ الْكَذِبَ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فَعَلَى قَوْلِنَا بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، فَالنَّبِيُّ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مُصِيبًا، وَالْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْحُكْمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ مَا أَدَّى إِلَيْهِ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِ (1) عَلَى مَا يَأْتِي تَقْرِيرُهُ. (2) الثَّالِثُ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقَضٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ إِذَا كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ. وَعَنِ السَّابِعَةِ: أَنَّهَا أَيْضًا تَمْثِيلٌ مِنْ غَيْرِ جَامِعٍ صَحِيحٍ، كَيْفَ وَأَنَّا لَا نَمْنَعُ مِنْ إِرْسَالِ رَسُولٍ بِمَا وَصَفُوهُ لَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا، فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ بِمَا يُرِيدُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ الْمَصَالِحَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى. (3) وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعْلِمَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَصْلَحَةَ لِلْمُكَلَّفِينَ فِي إِرْسَالِ رَسُولٍ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَيَعْصِمُهُ عَنِ الْخَطَإِ فِي اجْتِهَادِهِ، كَمَا فِي إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. (4) وَعَنِ الثَّامِنَةِ: أَنَّ التُّهْمَةَ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُ فِي وَضْعِ الشَّرِيعَةِ بِرَأْيِهِ بِمَا دَلَّ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ بِجِهَةِ الرِّسَالَةِ مِنَ الْمُعْجِزَةِ الْقَاطِعَةِ. وَعَنِ التَّاسِعَةِ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ اجْتِهَادٍ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عُرْضَةٌ لِلْخَطَإِ،   (1) انْظُرْ ص 15 - 39 ج20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَةَ. (2) سَيُفَصَّلُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. (3) سَبَقَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ، ثُمَّ كَيْفَ يَتَأَتَّى الِاجْتِهَادُ إِذَا كَانَتِ الْمَصَالِحُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ، وَمَبْنَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ إِنَّمَا هُوَ الْمَصَالِحُ. (4) وَأَيْضًا يُقَالُ بِتَقْدِيرِ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَاللَّهُ لَا يُقِرُّهُ عَلَى خَطَئِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 بِدَلِيلِ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ عَلَى (1) الِاجْتِهَادِ، وَاجْتِهَادُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرُ مُتَقَاصِرٍ عَنِ اجْتِهَادِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ، فَكَانَ مَعْصُومًا فِيهِ عَنِ الْخَطَإِ. (2) وَعَنِ الْعَاشِرَةِ: أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الِاجْتِهَادِ دَائِمًا هُوَ وُجُودُ النَّصِّ لَا إِمْكَانُ وُجُودِ النَّصِّ، ثُمَّ مَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقَضٌ بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الاخْتَلاَف فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِمَنْ عَاصَرالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ بَعْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِمَنْ عَاصَرَهُ. فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى جَوَازِهِ عَقْلًا، وَمَنَعَ مِنْهُ الْأَقَلُّونَ. ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: مِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ ذَلِكَ لِلْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فِي غَيْبَتِهِ دُونَ حُضُورِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ مُطْلَقًا. الثَّانِي: أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ مُطْلَقًا إِذَا لَمْ يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْمَنْعِ بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: السُّكُوتُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِوُقُوعِهِ كَافٍ. الثَّالِثُ: اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ التَّعَبُّدِ بِهِ سَمْعًا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ مُتَعَبَّدًا بِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ مُطْلَقًا كَالْجُبَّائِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي حَقِّ مَنْ حَضَرَ دُونَ مَنْ غَابَ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُ ذَلِكَ مُطْلَقًا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ مَعَ حُضُورِهِ وَغَيْبَتِهِ ظَنًّا لَا قَطْعًا.   (1) عَلَى - وَفِيهِ تَحْرِيفٌ وَالصَّوَابُ عَنْ، وَالْمَعْنَى إِجْمَاعٌ مُنْعَقِدٌ عَنِ الِاجْتِهَادِ. (2) مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ عِصْمَتِهِ عَنِ الْخَطَأِ يَتَنَافَى مَعَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ، مِنْ ذَلِكَ اسْتِدْلَالُهُ بِاجْتِهَادِهِ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَعِتَابِ اللَّهِ لَهُ فِي أَخْذِهِ الْفِدَاءَ، وَإِنْذَارِهِ وَأُمَّتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) الْآيَتَيْنِ، وَيَتَنَافَى مَعَ مَا اخْتَارَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ جَوَازِ وُقُوعِ الْخَطَأِ مِنْهُ فِي اجْتِهَادِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقَرُّ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 أَمَّا الْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا دَلَّلْنَا بِهِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَأَمَّا بَيَانُ الْوُقُوعِ: أَمَّا فِي حَضْرَتِهِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ «قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَقِّ أَبِي قَتَادَةَ حَيْثُ قَتَلَ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَخَذَ سَلَبَهُ غَيْرُهُ: لَا نَقْصِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَنُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " صَدَقَ وَصُدِّقَ فِي فَتْوَاهُ» " (1) وَلَمْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ بِغَيْرِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ حَكَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَحَكَمَ بِقَتْلِهِمْ وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ بِالرَّأْيِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ» ". (2) وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ «أَمَرَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ أَنْ يَحْكُمَا بَيْنَ خَصْمَيْنِ وَقَالَ لَهُمَا: " إِنْ أَصَبْتُمَا فَلَكُمَا عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ أَخْطَأْتُمَا فَلَكُمَا حَسَنَةٌ وَاحِدَةٌ» ". (3) وَأَمَّا فِي غَيْبَتِهِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِصَّةُ مُعَاذٍ وَعَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ حِينَ بَعَثَهُمَا قَاضِيَيْنِ إِلَى الْيَمَنِ.   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي قَتَادَةَ، إِلَّا أَنَّ الْمُؤَلِّفَ اقْتَصَرَ عَلَى مَحَلِّ الشَّاهِدِ وَتَصَرَّفَ فِي الْعِبَارَةِ وَنَصُّهَا: " فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: لَاهَا اللَّهِ لَا يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ فَأَعْطِهِ إِيَّاهُ " الْحَدِيثَ. (2) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ فِي قِصَّةِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَمَا جَرَى مِنْهُمْ وَعَلَيْهِمْ، وَأَقْرَبُ الرِّوَايَاتِ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي قَالَ: وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ مِنْ مُرْسَلِ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ اهـ. (3) تَحْكِيمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ: وَفِيهِ مَنْ لَمْ أَعْرِفْهُ. وَتَحْكِيمُهُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ الْجُهَنِيَّ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ، قَالَ صَاحِبُ مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَفِيهِ حَفْصُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَسَدِيُّ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ. انْظُرْ نَصَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ فِي بَابِ اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ ; لِتَعْرِفَ مَدَى تَصَرُّفِ الْآمِدِيِّ فِيهِمَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 فَإِنْ قِيلَ: الْمَوْجُودُ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَادِرٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ بِالنَّصِّ وَبِالرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْقَادِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ يُؤْمَنُ فِيهِ الْخَطَأُ إِذَا عَدَلَ إِلَى الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَا يُؤْمَنُ فِيهِ الْخَطَأُ كَانَ قَبِيحًا، وَالْقَبِيحُ لَا يَكُونُ جَائِزًا. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالرَّأْيِ فِي حَضْرَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَابِ التَّعَاطِي وَالِافْتِيَاتِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ قَبِيحٌ فَلَا يَكُونُ جَائِزًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَرْجِعُونَ عِنْدَ وُقُوعِ الْحَوَادِثِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَوْ كَانَ الِاجْتِهَادُ جَائِزًا لَهُمْ لَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْوُقُوعِ، فَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِهَا فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ. وَبِتَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً، فَلَعَلَّهَا خَاصَّةً بِمَنْ وَرَدَتْ فِي حَقِّهِ غَيْرَ عَامَّةٍ. وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ مَا مَرَّ فِي جَوَازِ اجْتِهَادِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ وَإِذْنِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ لَا مِنْ بَابِ التَّعَاطِي وَالِافْتِيَاتِ عَلَيْهِ. وَعَنْ قَوْلِهِمْ: " إِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَرْجِعُونَ فِي أَحْكَامِ الْوَقَائِعِ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ " يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ فِيهِ وَجْهُ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ ظَهَرَ غَيْرَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى التَّوَصُّلِ إِلَى مَقْصُودِهِ بِأَحَدِ طَرِيقَيْنِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْعُدُولُ عَنْ أَحَدِهِمَا إِلَى الْآخَرِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ طَرِيقًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إِلَى الْحُكْمِ فَالرُّجُوعُ إِلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا طَرِيقٌ آخَرُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ الْأَخْبَارَ الْمَذْكُورَةَ فِي ذَلِكَ أَخْبَارُ آحَادٍ، فَهُوَ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ الْمُدَّعَى إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الظَّنِّ بِذَلِكَ دُونَ الْقَطْعِ. قَوْلُهُمْ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَاصًّا بِمَنْ وَرَدَتْ تِلْكَ الْأَخْبَارُ فِي حَقِّهِ. قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنَ الْأَخْبَارِ الْمَذْكُورَةِ إِنَّمَا هُوَ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ عَاصَرَهُ لَا بَيَانُ وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْ كُلِّ مَنْ عَاصَرَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالثة لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبًا والْإِثْمَ غَيْرُ مَحْطُوطٍ عَنْ مُخَالِفِ مِلَّةِ الْإِسْلَام] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبًا، وَأَنَّ الْإِثْمَ غَيْرُ مَحْطُوطٍ عَنْ مُخَالِفِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ سَوَاءٌ نَظَرَ وَعَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ أَمْ لَمْ يَنْظُرْ. وَقَالَ الْجَاحِظُ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ (1) مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ بِحَطِّ الْإِثْمِ عَنْ مُخَالِفِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ إِذَا نَظَرَ وَاجْتَهَدَ، فَأَدَّاهُ إِلَى مُعْتَقَدِهِ، وَأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِخِلَافِ الْمُعَانِدِ. وَزَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ بِأَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ مُصِيبٌ، وَهُوَ إِنْ أَرَادَ بِالْإِصَابَةِ مُوَافَقَةَ الِاعْتِقَادِ لِلْمُعْتَقِدِ فَقَدْ أَحَالَ وَخَرَجَ عَنِ الْمَعْقُولِ، وَإِلَّا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَقِدَمُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَقًّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الِاجْتِهَادِ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ اعْتُقِدَ فِيهَا النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِنَاءً عَلَى مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالَاتِ، وَمَا أَظُنُّ عَاقِلًا يَذْهَبُ إِلَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَرَادَ بِالْإِصَابَةِ أَنَّهُ أَتَى بِمَا كُلِّفَ بِهِ مِمَّا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ وُسْعِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَأَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي الْمُخَالَفَةِ غَيْرُ آثِمٌ، فَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجَاحِظُ، وَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ الْأَوَّلِ فِي الْقُبْحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ غَيْرُ مُحَالٍ عَقْلًا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي إِحَالَةِ ذَلِكَ وَجَوَازِهِ شَرْعًا. وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَذْهَبِهِمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ، وَقَوْلُهُ: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ: أَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِيهِ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا عُلِمَ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِلْمًا لَا مِرَاءَ فِيهِ تَكْلِيفُهُ لِلْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى بِتَصْدِيقِهِ، وَاعْتِقَادِ رِسَالَتِهِ، وَذَمُّهُمْ عَلَى مُعْتَقَدَاتِهِمْ، وَقَتْلُهُ لِمَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ،   (1) الْجَاحِظُ هُوَ أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ مَاتَ عَامَ 250 أَوْ 255 هـ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ كَانَ قَاضِيًا بِالْبَصْرَةِ وَرَوَى لَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مَاتَ عَامَ 1868 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وَتَعْذِيبُهُ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ قَاتَلَهُ وَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ مُعَانِدًا بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ لَهُ بِدَلِيلِهِ (1) فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا تُحِيلُهُ الْعَادَةُ، وَلَوْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ وَقَدْ أَتَوْا بِمَا كُلِّفُوا بِهِ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ الْأُمَّةَ مِنَ السَّلَفِ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُخَالِفِينَ اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ وَذَمِّهِمْ وَمُهَاجَرَتِهِمْ عَلَى اعْتِقَادَاتِهِمْ، وَلَوْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي ذَلِكَ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمَّةِ الْمَعْصُومَةِ عَنِ الْخَطَإِ. فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَغَايَةُ مَا فِيهَا ذَمُّ الْكُفَّارِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّتْرِ وَالتَّغْطِيَةِ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلَّيْلِ: كَافِرٌ ; لِأَنَّهُ سَاتِرٌ لِلْحَوَادِثِ، وَلِلْحَارِثِ كَافِرٌ ; لِسَتْرِهِ الْحَبَّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ إِلَّا فِي حَقِّ الْمُعَانِدِ الْعَارِفِ بِالدَّلِيلِ مَعَ إِنْكَارِهِ لِمُقْتَضَاهُ. كَيْفَ وَأَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ بَعْدَهَا عَلَى الْمُعَانِدِ دُونَ غَيْرِهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَنَذْكُرُهُ مِنَ الدَّلِيلِ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ قَتْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكُفَّارَ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى مَا اعْتَقَدُوهُ عَنِ اجْتِهَادِهِمْ بَلْ عَلَى إِصْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَإِهْمَالِهِمْ لِتَرْكِ الْبَحْثِ عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ وَالْكَشْفِ عَنْهُ مَعَ إِمْكَانِهِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ. كَيْفَ وَأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُ فِعْلِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ فِعْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَدَلِيلُ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ تَكْلِيفَهُمْ بِاعْتِقَادِ نَقِيضِ مُعْتَقَدَهِمُ الَّذِي أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُمْ وَاسْتَفْرَغُوا الْوُسْعَ فِيهِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِلنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} .   (1) الصَّوَابُ فِي التَّعْبِيرِ أَنْ يُقَالَ: " مَعَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كُلُّ مَنْ قَاتَلَهُ أَوْ قَتَلَهُ مُعَانِدًا " بِتَقْدِيمِ أَدَاةِ السَّلْبِ عَلَى الْعُمُومِ، فَإِنَّ الْقَصْدَ سَلْبُ عُمُومِ الْعِنَادِ فَيَكُونُ بَعْضُ الْكَافِرِينَ مُعَانِدًا وَبَعْضُهُمْ غَيْرَ مُعَانِدٍ، وَلَيْسَ الْقَصْدُ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَافِرٌ إِلَّا مُعَانِدٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَءُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ لَهُمْ، فَلَا يَلِيقُ بِهِ تَعْذِيبُهُمْ عَلَى مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ. وَلِهَذَا كَانَ الْإِثْمُ مُرْتَفِعًا عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ اخْتِلَافِ اعْتِقَادَاتِهِمْ فِيهَا، بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادَاتِهِمُ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَيْهَا، كَيْفَ وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ أَوَّلُوا قَوْلَ الْجَاحِظِ وَابْنِ الْعَنْبَرِيِّ بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَكْفِيرَ فِيهَا كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَعْمَالِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ فِيهَا ظَنِّيَّةٌ مُتَعَارِضَةٌ. الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ عَلَى الْآيَةِ أَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فِي صِحَّةِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكَافِرِ عَلَى مَنِ اعْتَقَدَ نَقِيضَ الْحَقِّ، وَإِنْ كَانَ عَنِ اجْتِهَادٍ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكُفْرَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنَ التَّغْطِيَةِ مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ التَّغْطِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِاعْتِقَادِهِ لِنَقِيضِ الْحَقِّ بِنَاءً عَلَى اجْتِهَادِهِ مُغَطٍّ لِلْحَقِّ مُتَوَقِّفٌ عَلَى عِلْمِهِ بِذَلِكَ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ فَفِيهِ تَرْكُ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنَ الدَّلِيلِ فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ عَلَى السُّنَّةِ فَبَعِيدٌ أَيْضًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ قَتْلُهُمْ وَذَمُّهُمْ عَلَى مَا كَانُوا قَدِ اعْتَقَدُوهُ عَنِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِفْرَاغِ وُسْعِهِمْ، فَهُوَ لَازِمٌ أَيْضًا عَلَى تَعَذُّرِ قَتْلِهِمْ وَذَمِّهِمْ عَلَى عَدَمِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَنْ أَفْرَغَ وُسْعَهُ وَبَذَلَ جُهْدَهُ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فِي امْتِنَاعِ التَّمَسُّكِ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ إِنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا كَانَ مِنَ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ الْخِلَافِ أَوْ حَالَةِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ السَّابِقُ عَلَى الْخِلَافِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُخَالِفِ، وَقَدْ بَيَّنَّا سَبْقَهُ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ فَجَوَابُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. (1) قَوْلُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوُصُولَ إِلَى   (1) كَمَا تَقَدَّمَ - أَيْ مِنْ أَنَّهُ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مُمْكِنٌ بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَيْهِ، وَوُجُودِ الْعَقْلِ الْهَادِي، وَغَايَتُهُ امْتِنَاعُ الْوُقُوعِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ (1) ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّكْلِيفِ بِهِ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنَ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يَكُونُ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَمَا ذَكَرُوهُ فَقَدْ سَبَقَ تَخْرِيجَهُ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. وَأَمَّا رَفْعُ الْإِثْمِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ الْفِقْهِيَّةِ فَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ بِهَا، وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا لَيْسَ هُوَ الظَّنُّ بَلِ الْعِلْمُ وَلَمْ يَحْصُلْ. (2) وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلِ إِنْ صَحَّ أَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْ كَلَامِ الْجَاحِظِ وَابْنِ الْعَنْبَرِيِّ فَفِيهِ رَفْعُ الْخِلَافِ وَالْعَوْدُ إِلَى الْحَقِّ وَلَا نِزَاعَ فِيهِ.   (1) أَيْ لَمْ يَكُنْ كُفْرُهُمْ لِشُبْهَةٍ فِي الْأَدِلَّةِ وَلَا لِخُرُوجِهَا عَنْ مُسْتَوَى تَفْكِيرِهِمْ، فَإِنَّهَا أَعْلَامٌ عَلَى الْحَقِّ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَمْ تَتَجَاوَزْ دَائِرَةَ عُقُولِهِمْ، وَإِنَّمَا كَفَرُوا اسْتِكْبَارًا، وَعُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أَوْ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ، أَوِ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَانْدِفَاعًا وَرَاءَ الْعَصَبِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ تَقْلِيدًا لِلْآبَاءِ، وَإِذْعَانًا لِلسَّادَةِ وَالْوُجَهَاءِ، قَالَ تَعَالَى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ) الْآيَاتِ، وَقَالَ: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، وَقَالَ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) ، وَقَالَ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) ، وَقَالَ: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) ، وَقَالَ: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقُرْآنَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرَهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُضُوحِ الدَّعْوَةِ وَحَالِ الدُّعَاةِ إِلَى الْحَقِّ، وَعَلَى مَوْقِفِ خُصُومِهِمُ الْجَائِرِ مِنْهُمْ وَمِنْ دَعْوَتِهِمْ. (2) تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْفِقْهِيَّةَ شَأْنُهَا شَأْنُ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ قَطْعِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا، حَسَبَ مَا بَلَغَهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَمَدَى فَهْمِهِ فِيهَا، فَبِنَاءُ التَّأْثِيمِ وَعَدَمِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَرْقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 [الْمَسْأَلَةُ الرابعة الْإِثْمَ مَحْطُوطٌ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْإِثْمَ مَحْطُوطٌ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَذَهَبَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ، وَابْنُ عُلَيَّةَ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ (1) ، وَنُفَاةُ الْقِيَاسِ كَالظَّاهِرِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ مَا مِنْ مَسْأَلَةٍ إِلَّا وَالْحَقُّ فِيهَا مُتَعَيِّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ، فَمَنْ أَخْطَأَهُ فَهُوَ آثِمٌ غَيْرُ كَافِرٍ وَلَا فَاسِقٍ. وَحُجَّةُ أَهْلِ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ مَا نُقِلَ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا لَا يَدْخُلُهُ رِيبَةٌ وَلَا شَكٌّ، وَعُلِمَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا مِنِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مَعَ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ إِلَى انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ، وَلَمْ يَصْدُرْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ نَكِيرٌ وَلَا تَأْثِيمٌ لِأَحَدٍ، لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِبْهَامِ وَلَا التَّعْيِينِ، مَعَ عِلْمِنَا بِأَنَّهُ لَوْ خَالَفَ أَحَدٌ فِي وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ وَتَحْرِيمِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ لَبَادَرُوا إِلَى تَخْطِئَتِهِ وَتَأْثِيمِهِ. فَلَوْ كَانَتِ الْمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِيَّةُ نَازِلَةً مَنْزِلَةَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي كَوْنِهَا قَطْعِيَّةً وَمَأْثُومًا عَلَى الْمُخَالَفَةِ فِيهَا ; لَبَالَغُوا فِي الْإِنْكَارِ وَالتَّأْثِيمِ حَسَبَ مُبَالَغَتِهِمْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِي وُجُوبِ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ وَفِي تَأْثِيمِهِ ; لِاسْتِحَالَةِ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْخَطَإِ، وَدَلَالَةِ النُّصُوصِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ التَّوَاتُرِ عَلَى عِصْمَتِهِمْ عَنْهُ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ وَقَعَ الْإِنْكَارُ مِنْ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ عَلَى مُنْكِرِيهِ، وَمَعَ الْإِنْكَارِ فَلَا إِجْمَاعَ. وَإِنْ سَلَّمْنَا عَدَمَ نَقْلِ إِنْكَارِهِمْ لِذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا، وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ صُدُورِ الْإِنْكَارِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَضْمَرُوا الْإِنْكَارَ وَالتَّأْثِيمَ تُقْيَةً وَخَوْفًا مِنْ ثَوَرَانِ فِتْنَةٍ وَهُجُومِ آفَةٍ. قُلْنَا: أَمَّا السُّؤَالُ الْأَوَّلُ فَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَادَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ الْإِنْكَارُ لَتَوَفَّرَتِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَاسْتَحَالَ فِي الْعَادَةِ كِتْمَانُهُ، كَمَا نُقِلَ عَنْهُمُ الْإِنْكَارُ عَلَى الْخَوَارِجِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَنْدَفِعُ أَيْضًا مَا ذَكَرُوهُ مِنَ السُّؤَالِ الثَّالِثِ.   (1) هُوَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيُّ الْجَهْمِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ هُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ مِقْسَمٍ كَمَا فِي مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ، فَقَدْ كَانَ جَهْمِيًّا، وَكَانَ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَبُو بَكْرٍ الْأَصَمُّ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ الْمُعْتَزَلِيُّ الْأُصُولِيُّ مِنْ طَبَقَةِ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 [الْمَسْأَلَةُ الخامسة الْمَسْأَلَةُ الظَّنِّيَّةُ مِنَ الْفِقْهِيَّاتِ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ الْمَسْأَلَةُ الظَّنِّيَّةُ مِنَ الْفِقْهِيَّاتِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا نَصٌّ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهَا: فَقَالَ قَوْمٌ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبٌ، وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِيهَا لَا يَكُونُ وَاحِدًا بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، فَحُكْمُ اللَّهِ فِي حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الْهُذَيْلِ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ. (1) وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ وَمَنْ عَدَاهُ مُخْطِئٌ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ لَا يَكُونُ إِلَّا مُعَيَّنًا ; لِأَنَّ الطَّالِبَ يَسْتَدْعِي مَطْلُوبًا وَذَلِكَ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْأَشْبَهُ عِنْدَ اللَّهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِحَيْثُ لَوْ نَزَلَ نَصٌّ لَكَانَ عَلَيْهِ. لَكِنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثْلُ دَفِينٍ يُظْفَرُ بِهِ حَالَةَ الِاجْتِهَادِ بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ، فَمَنْ ظَفِرَ بِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: عَلَيْهِ دَلِيلٌ لَكِنِ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ قَطْعِيٌّ ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِتَأْثِيمِ الْمُجْتَهِدِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ وَنَقْضِ حُكْمِهِ، كَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ وَابْنِ عُلَيَّةَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ التَّأْثِيمِ لِخَفَاءِ الدَّلِيلِ وَغُمُوضِهِ فَكَانَ مَعْذُورًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ظَنِّيٌّ، فَمَنْ ظَفِرَ بِهِ فَهُوَ مُصِيبٌ وَلَهُ أَجْرَانِ، وَمَنْ لَمْ يَصُبْهُ فَهُوَ مُخْطِئٌ وَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ فَوْرِكٍ (2) وَالْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَائِينِيِّ.   (1) أَبُو الْهُذَيْلِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُقَدَّمُ فِيهَا، مَاتَ عَامَ 235 هـ، وَقَدْ سَبَقَ تَرْجَمَةُ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَالْجُبَّائِيِّ وَابْنِهِ. (2) ابْنُ فَوْرِكٍ هُوَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَنْصَارِيُّ الْأُصُولِيُّ الْمُتَكَلِّمُ، قَتَلَهُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ 406 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 وَمِنْهُمْ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ الْقَوْلَانِ التَّخْطِئَةَ وَالتَّصْوِيبَ، كَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدِ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْأَشْعَرِيِّ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ، فَإِنْ قَصَّرَ فِي طَلَبِهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ لِتَقْصِيرِهِ فِيمَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ الطَّلَبِ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ فِيهِ وَأَفْرَغَ الْوُسْعَ فِي طَلَبِهِ لَكِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ ; إِمَّا لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ أَوْ لِإِخْفَاءِ الرَّاوِي لَهُ وَعَدَمِ تَبْلِيغِهِ، فَلَا إِثْمَ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، وَهَلْ هُوَ مُخْطِئٌ أَوْ مُصِيبٌ؟ فَفِيهِ (1) مِنَ الْخِلَافِ مَا سَبَقَ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ امْتِنَاعُ التَّصْوِيبِ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ (2) غَيْرَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ قَدِ احْتَجُّوا بِحُجَجٍ ضَعِيفَةٍ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَيْهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا فِيهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ - فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} . وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ خَصَّصَ سُلَيْمَانَ بِفَهْمِ الْحَقِّ فِي الْوَاقِعَةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ فَهْمِ (دَاوُدَ) لَهُ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ التَّخْصِيصُ مُفِيدًا، وَهُوَ دَلِيلُ اتِّحَادِ حُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَاقِعَةِ وَأَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} وَلَوْلَا أَنَّ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْبَاطِ حُكْمًا مُعَيَّنًا لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا تَفَرَّقُوا فِيهِ) ، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} ، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} وَذَلِكَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ الْحَقِّ فِي كُلِّ وَاقِعَةٍ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْآيَةِ الْأُولَى: غَايَةُ مَا فِيهَا تَخْصِيصُ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ فِي حَقِّ (دَاوُدَ) إِلَّا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَسَائِلِ الْمَفْهُومِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ حُجَّةٌ غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي تِلْكَ   (1) فَفِيهِ - لَعَلَّهُ " فِيهِ " بِحَذْفِ الْفَاءِ الْأُولَى. (2) انْظُرْ مَا اخْتَارَهُ هُنَا مَعَ اخْتِيَارِهِ مَذْهَبَ الْمُصَوِّبَةِ فِي جَوَابِهِ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الثَّالِثَةِ فِيمَا سَبَقَ ص 15 ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 الْقَضِيَّةِ بِالنَّصِّ حُكْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ الْحُكْمَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَعَلِمَ (سُلَيْمَانُ) بِالنَّصِّ النَّاسِخِ دُونَ (دَاوُدَ) فَكَانَ هَذَا هُوَ الْفَهْمُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ. وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُخْطِئًا لَمَا كَانَ قَدْ أُوتِيَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ حُكْمًا وَعِلْمًا، (1) وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مُخْتَلِفًا لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا حَكَمَا بِالِاجْتِهَادِ مَعَ الْأِذْنِ فِيهِ، وَكَانَا مُحِقَّيْنِ فِي الْحُكْمِ إِلَّا أَنَّهُ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى مَا حَكَمَ بِهِ سُلَيْمَانُ، فَصَارَ مَا حَكَمَ بِهِ حَقًّا مُتَعَيَّنًا بِنُزُولِ الْوَحْيِ بِهِ، وَنُسِبَ التَّفْهِيمُ إِلَى سُلَيْمَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ دَاوُدَ كَانَ مُخْطِئًا فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ غَيْرَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا نَصٌّ يَتَحَقَّقُ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ دُونَ دَاوُدَ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ الْخَطَأَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إِذَا حَكَمَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ فِي الْوَاقِعَةِ نَصٌّ. وَعَلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُمَا عَلَى الْأُمُورِ الْقَطْعِيَّةِ دُونَ الِاجْتِهَادِيَّةِ. وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وَالْقَضَايَا الِاجْتِهَادِيَّةُ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْقَضَايَا الِاجْتِهَادِيَّةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يَدُلُّ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُسْتَنْبِطِينَ وَالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَصْوِيبِ الْبَعْضِ مِنْهُمْ دُونَ الْبَعْضِ، بَلْ غَايَتُهُ الدَّلَالَةُ بِمَفْهُومِهِ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَوَامِّ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ. وَعَلَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ التَّفَرُّقُ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ وَمَا يُطْلَبُ فِيهِ الْقَطْعُ دُونَ الظَّنِّ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَمَنْهِيٌّ عَنْ مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ بِالِاخْتِلَافِ   (1) مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِسْرَائِيلِيَّاتٌ لَمْ تَثْبُتْ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَأْيِيدِ الْآيَةِ لِلرِّوَايَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْهِمَا بِإِيتَاءِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مُطْلَقًا، لَا فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ؛ وَلِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى الْعَالِمِ لَا يَتَنَافَى مَعَ خَطَئِهِ بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ، وَمَا ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ إِلَى الْوَهْمِ أَقْرَبُ. انْظُرْ جَوَابَ الْمُؤَلِّفِ عِنْدَ اسْتِدْلَالِ الْمُصَوِّبَةِ بِآيَةِ: (وَكُلًّا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 وَنَهْيٌ عَنِ الِاتِّفَاقِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ. (1) الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «إِذَا اجْتَهَدَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» ) (2) ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الِاجْتِهَادِ إِلَى خَطَإٍ وَصَوَابٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِ الْخَبَرِ وَأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، غَيْرَ أَنَّ الْخَطَأَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ أَوْ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، أَوْ فِيمَا إِذَا أَخْطَأَ فِي مَطْلُوبِهِ مِنْ رَدِّ الْمَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِسَبَبِ ظَنِّهِ صِدْقَ الشُّهُودِ وَهُمْ كَاذِبُونَ، أَوْ مُغَالَطَةِ الْخَصْمِ لِكَوْنِهِ أَخْصَمَ مِنْ خَصْمِهِ وَأَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ، لَا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ (3) وَإِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ ". (4) الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ الْخَطَإِ فِي الِاجْتِهَادِ.   (1) نُصُوصُ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ عَامَّةٌ، فَتَخْصِيصُهَا بِمَا ذُكِرَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْدُ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ بِالِاخْتِلَافِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَنَهْيِهِ عَنِ الِاتِّفَاقِ فِيهَا خَطَأٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى اتِّبَاعِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا رَجُحَ عِنْدَهُ بَعْدَ الْبَحْثِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْأَمْرُ بِالِاخْتِلَافِ، وَإِنَّمَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا أَمْرًا ضَرُورِيًّا نَشَأَ عَنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَوَاهِبِ وَالْعُقُولِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَاخْتِلَافِهَا فِي الدَّلَالَةِ وَدَرَجَةِ الثُّبُوتِ، وَلَوْ وَسِعَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّفِقُوا مَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَلِفُوا. (2) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ وَحْدَةِ الْمَعْنَى. (3) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص80 ج 2، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي بَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ. (4) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ سَلَمَةَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَوَّلُهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ. . إِلَخْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 فَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: (أَقُولُ فِي الْكَلَالَةِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ) . (1) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَقَالَ رَجُلٌ حَضَرَهُ: هَذَا وَاللَّهِ الْحَقُّ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ عُمَرَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ أَصَابَ الْحَقَّ، لَكِنَّهُ لَمْ يَأْلُ جُهْدًا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِكَاتِبِهِ: (اكْتُبْ، هَذَا مَا رَأَى عُمَرُ فَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنْهُ وَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ) . (2) وَأَيْضًا قَوْلُهُ فِي جَوَابِ الْمَرْأَةِ الَّتِي رَدَّتْ عَلَيْهِ النَّهْيَ عَنِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْمَهْرِ: " أَصَابَتِ امْرَأَةٌ وَأَخْطَأَ عُمَرُ ". (3) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَهَا عُمَرُ فَأَجْهَضَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَقَدْ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: إِنَّمَا أَنْتَ مُؤَدِّبٌ، لَا نَرَى عَلَيْكَ شَيْئًا: " إِنْ كَانَا قَدِ اجْتَهَدَا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدَا فَقَدْ غَشَّاكَ، أَرَى عَلَيْكَ الدِّيَةَ ". (4) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُفَوَّضَةِ: (أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ) . (5)   (1) أَخْرَجَ قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ فِي كِتَابِ الْحُجَّةِ، وَالرَّدُّ عَلَى الْمُقَلِّدِينَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْيَبَ لِمَا لَا يَعْلَمُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَلَا بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ عُمَرَ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ بِأَبِي بَكْرٍ فَرِيضَةٌ، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي السُّنَّةِ أَثَرًا، فَقَالَ: " أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ " وَلَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ ; لِأَنَّ ابْنَ سِيرِينَ وُلِدَ آخِرَ خِلَافَةِ عُثْمَانَ. انْظُرْ بَابَ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ. (2) جُزْءٌ مِنْ أَثَرٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. (3) ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْأَثَرَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ فِي تَفْسِيرِهِ لِآيَةِ (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) . (4) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 44 ج 4. (5) جُزْءٌ مِنْ أَثَرٍ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ أُتِيَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً، وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، فَأَتَوُا ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ: الْتَمَسْنَا فَلَمْ نَجِدْ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَرَى لَهَا صَدَاقَ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ، فَقَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا بِرَوْعُ بِنْتُ وَاشِقٍ بِمِثْلِ مَا قُلْتَ، فَفَرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بِمُوَافَقَةِ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي رِوَايَةٍ: فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَزَيْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَطَّئُوا ابْنَ عَبَّاسٍ فِي تَرْكِ الْقَوْلِ بِالْعَوْلِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلَهُمْ بِالْعَوْلِ بِقَوْلِهِ: " مَنْ شَاءَ أَنْ يُبَاهِلَنِي بَاهَلْتُهُ. . . إِنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا أَلَمْ يَجْعَلْ فِي مَالٍ وَاحِدٍ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا، هَذَانِ نِصْفَانِ ذَهَبَا بِالْمَالِ فَأَيْنَ مَوْضِعُ الثُّلُثِ؟ (1) وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: " أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ! يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا " (2) . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوَقَائِعِ، وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي التَّخْطِئَةِ فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ لَيْسَ إِلَّا وَاحِدًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ وُقُوعَ الْخَطَإِ فِي الِاجْتِهَادِ، لَكِنَّ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمُجْتَهِدُ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ، أَوْ كَانَ أَهْلًا لَكِنَّهُ قَصَّرَ فِي اجْتِهَادِهِ، وَإِنْ لَمْ يُقَصِّرْ لَكِنَّهُ خَالَفَ النَّصَّ أَوِ الْإِجْمَاعَ أَوِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ أَوْ فِي مَطْلُوبِهِ دُونَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي جَوَابِ السُّنَّةِ. (3) وَأَمَّا مَا تَمَّ فِيهِ الِاجْتِهَادُ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مُعَارِضٌ مُبْطِلٌ، فَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مِنْ قَضَايَا الصَّحَابَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْخَطَإِ فِيهِ.   (1) انْظُرْ آرَاءَهُمْ فِي ذَلِكَ فِي الْجُزْءِ التَّاسِعِ مِنَ الْمُحَلَّى لِابْنِ حَزْمٍ، وَفِي بَابِ الْعَوْلِ بِالْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنْ سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ. (2) انْظُرْ قَضِيَّةَ الصَّحَابَةِ فِي الْجَدِّ بِالْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ مِنْ سُنَنِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ. (3) مَا ذَكَرَهُ الْمُسْتَدِلُّ اجْتِهَادٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ أَهْلٌ لِلِاجْتِهَادِ وَلَا يُتَّهُمُ مِثْلُهُمْ فِي التَّقْصِيرِ، وَقَدْ خَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، بَلْ جَوَّزَ كُلٌّ الْخَطَأَ عَلَى نَفْسِهِ فِي اجْتِهَادِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 الْحُجَّةُ الرَّابِعَةُ: مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الِاجْتِهَادَ مُكَلَّفٌ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي حُكْمِ الْحَادِثَةِ، وَمَصِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ إِلَى مُنَاقَضَةِ الْآخَرِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ، أَوْ لَا دَلِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ أَنَّ الدَّلِيلَ مُسْتَنَدُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالدَّلِيلَانِ الْمُتَقَابِلَانِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا عَلَى الْآخَرِ أَوْ هُمَا مُتَسَاوِيَانِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا فَالذَّاهِبُ إِلَيْهِ مُصِيبٌ وَمُخَالِفُهُ مُخْطِئٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَمُقْتَضَاهُمَا التَّخْيِيرُ أَوِ الْوَقْفُ فَالْجَازِمُ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ يَكُونُ مُخْطِئًا، وَإِنْ كَانَ لَا دَلِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُمَا مُخْطِئَانِ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَأَحَدُهُمَا مُصِيبٌ وَالْآخِرُ مُخْطِئٌ لَا مَحَالَةَ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ يُفْضِي عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، أَوِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَمَا أَفْضَى إِلَى الْمُحَالِ يَكُونُ مُحَالًا. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى تَجْوِيزِ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنَاظَرَةِ مَعْنًى وَلَا فَائِدَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَا صَارَ إِلَيْهِ مُخَالِفُهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ مُصِيبٌ فِيهِ، وَالْمُنَاظَرَةُ إِمَّا لِمَعْرِفَةِ أَنَّ مَا صَارَ إِلَيْهِ خَصْمُهُ صَوَابٌ أَوْ لِرَدِّهِ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَفِيهِ تَحْصِيلٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَقَصْدُ كُلِّ وَاحِدٍ لِرَدِّ صَاحِبِهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ صَوَابٌ يَكُونُ حَرَامًا. الرَّابِعُ: أَنَّ الْمُجْتَهِدَ فِي حَالِ اجْتِهَادِهِ، إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَطْلُوبٌ أَوْ يَكُونَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَهُوَ مُحَالٌ ; إِذِ الْمُجْتَهِدُ طَالِبٌ، وَطَالِبٌ لَا مَطْلُوبَ لَهُ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَمَطْلُوبُهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَنَظَرِهِ، وَذَلِكَ مَعَ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمَطْلُوبِ فِي نَفْسِهِ مُحَالٌ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ تَصْوِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَوَجَبَ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 فِي الْآنِيَةِ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ أَنْ يُقْضَى بِصِحَّةِ اقْتِدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِالْآخَرِ لِاعْتِقَادِ الْمَأْمُومِ صِحَّةَ صَلَاةِ إِمَامِهِ. السَّادِسُ: أَنَّ الْقَوْلَ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ يَلْزَمُ مِنْهُ أُمُورٌ مُمْتَنِعَةٌ فَيَمْتَنِعُ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَ شَافِعِيٌّ بِحَنَفِيَّةٍ وَكَانَا مُجْتَهِدَيْنِ وَقَالَ لَهَا: " أَنْتِ بَائِنٌ " فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَعْتَقِدُهُ الزَّوْجُ مِنْ جَوَازِ الرَّجْعَةِ، تَجُوزُ لَهُ الْمُرَاجَعَةُ، وَالْمَرْأَةُ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا تَعْتَقِدُهُ مِنِ امْتِنَاعِ الرَّجْعَةِ يَحْرُمُ عَلَيْهَا تَسْلِيمُ نَفْسِهَا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ إِلَى مُنَازَعَةٍ بَيْنِهِمَا لَا سَبِيلَ إِلَى رَفْعِهَا شَرْعًا، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا نَكَحَ وَاحِدٌ امْرَأَةً بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَنَكَحَهَا آخَرُ بَعْدَهُ بِوَلِيٍّ فَيَلْزَمُ مِنْ صِحَّةِ الْمَذْهَبَيْنِ حِلُّ الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجَيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا اسْتَفْتَى مُجْتَهِدَيْنِ وَاخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ، فَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَ بِقَوْلَيْهِمَا وَهُوَ مُحَالٌ، أَوْ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا وَلَا أَوْلَوِيَّةَ، وَإِمَّا لَا بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ مُتَحَيِّرًا وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُخْتَارَ إِنَّمَا هُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ أَقْسَامِهِ. قَوْلُهُمْ: الدَّلِيلَانِ إِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا أَوْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ. قُلْنَا: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ؟ الْأَوَّلُ: مَمْنُوعٌ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ فِي مَسَائِلِ الظُّنُونِ لَيْسَتْ أَدِلَّةً لِذَوَاتِهَا وَصِفَاتِ أَنْفُسِهَا حَتَّى تَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُتَسَاوِيَةً فِي جِهَةِ دَلَالَتِهَا أَوْ مُتَفَاوِتَةً، وَإِنْ كَانَ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ هَذِهِ الْقِسْمَةِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاجِحٌ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الظَّنِّيَّةَ مِمَّا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الظُّنُونِ فَهِيَ أُمُورٌ إِضَافِيَّةٌ غَيْرُ حَقِيقِيَّةٍ، كَمَا أَنَّ مَا وَافَقَ غَرَضَ زَيْدٍ فَهُوَ حَسَنٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ خَالَفَ غَرَضَهُ. وَعَلَى هَذَا فَلَا تَخْطِئَةَ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ فِي نَفْسَيْهِمَا لَا يَخْرُجَانِ عَنِ الْمُسَاوَاةِ أَوِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، غَيْرَ أَنَّ النِّزَاعَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْخَطَإِ بِمَعْنَى عَدَمِ الْإِصَابَةِ لِحُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَاقِعَةِ، لَا بِمَعْنَى عَدَمِ الظَّفَرِ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الظَّفَرِ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ عَدَمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 الظَّفَرِ بِحُكْمِ اللَّهِ فِي الْوَاقِعَةِ ; لِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا عِبَارَةٌ عَمَّا أَدَّى إِلَيْهِ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِ وَظَنُّهُ، لَا مَا أَدَّى إِلَيْهِ الدَّلِيلُ الرَّاجِحُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: أَنَّ التَّنَاقُضَ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوِ اجْتَمَعَ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى شَخْصَيْنِ فَلَا، وَلِهَذَا فَإِنَّ الْمَيْتَةَ تَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ وَتَحْرُمُ عَلَى غَيْرِهِ، وَإِفْطَارَ رَمَضَانَ مُبَاحٌ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَمَنْ لَهُ عُذْرٌ دُونَ غَيْرِهِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالْحِلِّ الَّذِي أَدَّاهُ نَظَرُهُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِالتَّحْرِيمِ الَّذِي أَدَّاهُ نَظَرُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا لَمَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْقِبْلَةِ، إِذَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى خِلَافِ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُ الْآخَرِ، التَّوَجُّهُ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا جِهَةُ الْقِبْلَةِ، كَتَحْرِيمِ التَّوَجُّهِ إِلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخَرِ، وَلَمَا حَرُمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. (1) وَعَلَى الثَّالِثِ: أَنَّ فَائِدَةَ الْمُنَاظَرَةِ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِيمَا ذَكَرُوهُ، بَلْ لَهَا فَوَائِدُ أُخَرُ تَجِبُ الْمُنَاظَرَةُ لَهَا أَوْ تُسْتَحَبُّ. فَالْأُولَى: كَالْمُنَاظَرَةِ ; لِتَعَرُّفِ انْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الَّذِي لَا يَجُوزُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ، أَوْ لِطَلَبِ تَعَرُّفِ التَّرْجِيحِ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، حَتَّى يَجْزِمَ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ، أَوْ يَحِلَّ لَهُ الْوَقْفُ أَوِ التَّخْيِيرُ لِكَوْنِهِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ التَّرْجِيحِ. وَالثَّانِيَةُ: كَالْمُنَاظَرَةِ الَّتِي يَطْلُبُ بِهَا تَذْلِيلَ طُرُقِ الِاجْتِهَادِ، وَالْقُوَّةَ عَلَى اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاسْتِنْبَاطِهَا مِنْهَا، وَشَحْذَ الْخَاطِرِ، وَتَنْبِيهَ الْمُسْتَمِعِينَ عَلَى مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَمَآخِذِهَا ; لِتَحْرِيكِ دَوَاعِيهِمْ إِلَى طَلَبِ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ لِنَيْلِ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَحِفْظِ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ. وَعَلَى الرَّابِعِ: أَنَّ مَطْلُوبَ الْمُجْتَهِدِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ نَظَرُهُ وَاجْتِهَادُهُ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَا عِنْدُهُ وَلَا عِنْدَ اللَّهِ. وَعَلَى الْخَامِسِ: أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِصِحَّةِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ صَحِيحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُخَالِفِهِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمَأْمُومِ بِالْإِمَامِ اعْتِقَادُ صِحَّةِ صَلَاةِ إِمَامِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ.   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 16 ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 وَعَلَى السَّادِسِ: أَمَّا الْإِلْزَامُ الْأَوَّلُ فَلَا نُسَلِّمُ إِفْضَاءَ ذَلِكَ إِلَى مُنَازَعَةٍ لَا تَرْتَفِعُ ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُ رَفْعُهَا فِيمَا فَرَضُوهُ مِنَ الصُّورَةِ بِرَفْعِ الْأَمْرِ إِلَى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُحَكَّمٍ مِنْهُمْ، فَمَا حَكَمَ بِهِ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا مِنَ الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ، بَلْ إِنَّمَا كَانَ لَازِمًا مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ اتِّبَاعُ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُخْطِئًا أَوْ مُصِيبًا ; لِأَنَّ الْمُصِيبَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَمَا هُوَ جَوَابٌ لَهُمْ هَا هُنَا، فَهُوَ جَوَابُ الْخَصْمِ فِي قَوْلِهِ بِالتَّصْوِيبِ. وَإِمَّا الْإِلْزَامُ الثَّانِي فَنَقُولُ: أَيُّ النِّكَاحَيْنِ وُجِدَ مِنْ مُعْتَقِدِ صِحَّتِهِ أَوَّلًا فَهُوَ صَحِيحٌ وَالنِّكَاحُ الثَّانِي بَاطِلٌ ; لِكَوْنِهِ نِكَاحًا لِزَوْجَةِ الْغَيْرِ، وَإِنْ صَدَرَ الْأَوَّلُ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ مِنَ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالثَّانِي صَحِيحٌ. وَأَمَّا الْإِلْزَامُ الثَّالِثُ: فَنَقُولُ حُكْمُ الْعَامِّيِّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْفَتَاوَى فِي حَقِّهِ حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، وَحُكْمُ الْمُجْتَهِدِ فِي ذَلِكَ إِمَّا التَّوَقُّفُ أَوِ التَّخْيِيرُ عَلَى مَا يَأْتِي. وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: الْأَصْلُ عَدَمُ التَّصْوِيبِ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ مُتَحَقِّقٍ دَوَامُهُ، إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ. وَالْأَصْلُ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُخَالِفِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَبْقَى فِيهِ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ (1) ، غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي تَصْوِيبِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لِلْإِجْمَاعِ (2) وَلَا إِجْمَاعَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِنَفْيِهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الدَّلِيلِ الْمُخَالِفِ لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ وُجِدَ. وَدَلِيلُهُ مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي حُقِّ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُخْطِئًا لَمَا كَانَ مَا صَارَ إِلَيْهِ حُكْمًا لِلَّهِ وَلَا عِلْمًا.   (1) هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَقَدْ يُعَارَضُ بِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّخْطِئَةِ، وَالْأَصْلَ فِي كُلِّ مُتَحَقَّقٍ دَوَامُهُ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، وَلِأَصْلِ عَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُخَالِفِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَيَسْتَمِرُّ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ. (2) دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى تَصْوِيبِ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَيْسَتْ صَحِيحَةً. انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْخَامِسَةَ وَالْعِشْرِينَ مِنْ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِصْحَابِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» " (1) ، وَوَجْهُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ الِاقْتِدَاءَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ هُدًى مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا كَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ، فَلَوْ كَانَ فِيهِمْ مُخْطِئٌ لَمَا كَانَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ هُدًى بَلْ ضَلَالَةً. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ اتَّفَقُوا عَلَى تَسْوِيغِ خِلَافِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ، بَلْ وَنَعْلَمُ أَنَّ الْخُلَفَاءَ مِنْهُمْ كَانُوا يُوَلُّونَ الْقُضَاةَ وَالْحُكَّامَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِمُخَالَفَتِهِمْ لَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَلَوْ تُصَوِّرَ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ كَمَا لَمْ يُسَوِّغُوا تَرْكَ الْإِنْكَارِ عَلَى مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكُلِّ مُنْكَرٍ أَنْكَرُوهُ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ، فَمِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُتَعَيِّنًا فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ لَنَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا قَاطِعًا، دَفْعًا لِلْإِشْكَالِ وَقَطْعًا لِحُجَّةِ الْمُحْتَجِّ، كَمَا هُوَ الْمَأْلُوفُ مِنْ عَادَةِ الشَّارِعِ فِي كُلِّ مَا دَعَا إِلَيْهِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ قَاطِعٌ لَوَجَبَ الْحُكْمُ عَلَى مُخَالِفِهِ بِالْفِسْقِ وَالتَّأْثِيمِ كَالْمُخَالَفِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَا سَاغَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَامَّةِ تَقْلِيدُ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا بَعْدَ الِاجْتِهَادِ وَالتَّحَرِّي فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَحَيْثُ خُيِّرَ فِي التَّقْلِيدِ دَلَّ عَلَى التَّسَاوِي بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَا يُخَيِّرُ إِلَّا فِي حَالَةِ التَّسَاوِي. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَوَجَبَ نَقْضُ كُلِّ حُكْمٍ خَالَفَهُ، كَمَا قَالَهُ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَالْأَصَمُّ (2) ، وَحَيْثُ لَمْ يُنْقَضْ دَلَّ عَلَى التَّسَاوِي.   (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص 150 ج 4. (2) تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهَا ص 182 - 183 ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحَقُّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ لَمَا وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ اتِّبَاعُ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَلَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ ; لِأَنَّ الشَّارِعَ لَا يَأْمُرُ بِالْخَطَإِ، وَحَيْثُ كَانَ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِهِ دَلَّ عَلَى كَوْنِهِ صَوَابًا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَرْجِيحِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ بِمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ وَلَا نَفْيِهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنِ التَّرْجِيحِ، فَالدَّلِيلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ قَائِمٌ، فَكَانَ حَقًّا. السَّادِسُ: أَنَّ حَصْرَ الْحَقِّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا يُفْضِي إِلَى الضِّيقِ وَالْحَرَجِ، وَهُوَ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} . السَّابِعُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُجْتَهِدُ مُخْطِئًا لَمَا عَلِمَ كَوْنَهُ مَغْفُورًا لَهُ، وَاللَّازِمُ مُمْتَنِعٌ. وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُخْطِئًا فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ لَا يَجُوزَ كَوْنُهُ مُخْطِئًا، أَوْ يَجُوزَ كَوْنُهُ مُخْطِئًا. الْأَوَّلُ: مُحَالٌ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِالتَّخْطِئَةِ لَمْ يُعَيِّنِ الْخَطَأَ فِي وَاحِدٍ، بَلْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ قَائِلًا بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ. وَالثَّانِي: فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَعْلَمَ مَعَ تَجْوِيزِ كَوْنِهِ مُخْطِئًا أَنَّهُ قَدِ انْتَهَى فِي النَّظَرِ إِلَى الرُّتْبَةِ الَّتِي يُغْفَرُ لَهُ بِتَرْكِ مَا بَعْدَهَا أَوْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ. الْأَوَّلُ: مُحَالٌ، فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُمَيِّزُ مَا بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مُجَوِّزٌ لِتَرْكِ النَّظَرِ الَّذِي إِذَا أَخَلَّ بِهِ بَعْدَ النَّظَرِ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ لَا يَكُونُ مَغْفُورًا لَهُ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى ثَوَابِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَغُفْرَانِ مَا أَخَلَّ بِهِ مِنَ النَّظَرِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ: أَنَّ غَايَتَهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُوتِيَ حُكْمًا وَعِلْمًا، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَيُخَصُّ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أُوتِيَ حُكْمًا وَعِلْمًا فِيمَا حَكَمَ بِهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ حَمْلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أُوتِيَ حُكْمًا وَعِلْمًا بِمَعْرِفَةِ دَلَالَاتِ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا وَطُرُقِ الِاسْتِنْبَاطِ، فَلَا يَبْقَى حُجَّةً فِي غَيْرِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 وَعَنِ السُّنَّةِ أَنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي الْأَصْحَابِ وَالْمُقْتَدِينَ بِهِمْ غَيْرَ أَنَّ مَا فِيهِ عَامٌّ وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعُمُومِ فِي الْأَشْخَاصِ الْعُمُومُ فِي الْأَحْوَالِ. وَعَلَى هَذَا فَقَدَ أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الِاقْتِدَاءِ فِي الرِّوَايَةِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا فِي الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ فِيهِ فَلَا يَبْقَى حُجَّةً فِيمَا عَدَاهُ ضَرُورَةَ إِطْلَاقِهِ. وَعَنِ الْإِجْمَاعِ: أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يُنْكِرْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَلَى بَعْضٍ الْمُخَالَفَةَ ; لِأَنَّ الْمُخْطِئَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ وَمُثَابٌ عَلَيْهِ، وَالَّذِي يَجِبُ إِنْكَارُهُ مِنَ الْخَطَإِ مَا كَانَ مُخْطِئُهُ مُعَيَّنًا، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَعَنِ الشُّبْهَةِ الْأُولَى مِنَ الْمَعْقُولِ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْوَاقِعَةِ مُعَيَّنًا لَنَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا قَاطِعًا ; إِذْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي كُتُبِنَا الْكَلَامِيَّةِ (1) . وَإِنْ سَلَّمْنَا وُجُوبَ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ وَلَكِنْ لَا مَانِعَ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ طَلَبَ الظَّنِّ بِذَلِكَ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَى الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ، لَا طَلَبَ الْعِلْمِ بِهِ لِنَيْلِ ثَوَابِ النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ ثَوَابَهُ لِزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ أَزْيَدُ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «ثَوَابُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» " (2) ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ حِكْمَةٌ فَلَا مَانِعَ مِنِ اخْتِصَاصِهِ بِحِكْمَةٍ لَا يَعْلَمُهَا سِوَى الرَّبِّ تَعَالَى. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا خُيِّرَ الْعَامِّيُّ فِي التَّقْلِيدِ لِمَنْ شَاءَ لِكَوْنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَعْلَمِ دُونَ مَعْرِفَةِ مَأْخَذِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَوَجْهُ التَّرْجِيجِ فِيهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُخْرِجُهُ عَنِ الْعَامِّيَّةِ، وَيَمْنَعُهُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِفْتَاءِ بَلْ غَايَةُ مَا يَقْدِرُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَالِمًا أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ قَدِ اسْتَوَيَا فِي نَظَرِهِ، فَلِذَلِكَ كَانَ مُخَيَّرًا حَتَّى إِنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَعْلَمِ وَلَوْ بِإِخْبَارِ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ. وَعَنِ الثَّالِثَةِ: أَنَّهُ إِنَّمَا امْتَنَعَ نَقْضُ مَا خَالَفَ الصَّوَابَ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ مِنَ الْخَطَإِ. وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّهَا مَنْقُوضَةٌ بِمَا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُجْتَهِدُ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا مُعَيَّنٌ وَمَعَ ذَلِكَ فَالْمُجْتَهِدُ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ.   (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ. (2) تَقَدَّمَ ص 140 ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 وَعَنِ الْخَامِسَةِ: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ قَدْ يَكُونُ بِمَا لَا يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنِ اعْتِبَارِهِ جُزْءًا مِنَ الدَّلِيلِ. وَعَلَى هَذَا فَالْمَرْجُوحُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا، وَإِنْ كَانَ دَلِيلًا لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ جَوَازَ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمَرْجُوحِ مَعَ وُجُودِ الرَّاجِحِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَعَنِ السَّادِسَةِ: أَنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْيِينِ الْحَقِّ إِنْ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ اتِّبَاعُهُ قَطْعًا. (1) أَمَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ مُفَوَّضًا إِلَى ظُنُونِهِمْ وَاجْتِهَادَاتِهِمْ فَلَا. كَيْفَ وَيَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مَا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهَا يَكُونُ مُعَيَّنًا، وَإِنْ لَزِمَ مِنْهُ الْحَرَجُ. (2) وَعَنِ السَّابِعَةِ: بِمَنْعِ مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمُلَازَمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا هُوَ مَفْرُوضٌ فِيمَا إِذَا عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ انْتِهَاءَهُ فِي الِاجْتِهَادِ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ إِلَى حَدٍّ يَقْطَعُ بِانْتِفَاءِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ هُوَ ضَابِطُ الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ مَغْفُورًا لَهُ مَا وَرَاءَهُ.   (1) إِنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْيِينِ الْحَقِّ إِلَى آخِرِهِ، مُرَادُهُ أَنَّ الْحَرَجَ إِنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ حَصْرِ الْحَقِّ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ إِنْ لَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ اتِّبَاعُهُ عَيْنًا، إِلَخْ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ فِي الشُّبْهَةِ. (2) حُكْمُ اللَّهِ فِي الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ وَالِاجْتِهَادِيَّةِ لَا حَرَجَ فِيهِ، وَلَوْ وُفِّقَ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ لَكَانَ أَرْفَقَ بِهِمْ وَأَيْسَرَ لَهُمْ عَمَلًا، وَأَبْعَدَ عَنِ الْمَشَاكِلِ الَّتِي تُوَلِّدُ الْحَزَازَاتِ، وَتُورِثُ الْأَزَمَاتِ، وَإِنَّ الِاخْتِلَافَ ضَرُورَةٌ نَشَأَتْ مِنِ اخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ الْفِكْرِيِّ وَالتَّفَاوُتِ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَى مَدَارِكِ الْأَحْكَامِ، فَعَذَرَ اللَّهُ مَنْ أَخْطَأَ الْحَقَّ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ وَرَفْعًا لِلْآصَارِ عَنْهُمْ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 [الْمَسْأَلَةُ السادسة اسْتِحَالَةِ التَّعَادُلِ بَيْن الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ اتَّفَقُوا فِي الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى اسْتِحَالَةِ التَّعَادُلِ بَيْنَهَا. وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهَا حَاصِلًا (1) ، فَلَوْ تَعَادَلَ الدَّلِيلَانِ فِي نَفْسَيْهِمَا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ حُصُولُ مَدْلُولَيْهِمَا كَالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى حُدُوثِ الْعَالَمِ وَالدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَعَادُلِ الْأَمَارَاتِ الظَّنِّيَّةِ. فَذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالْكَرْخِيُّ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْجُبَّائِيُّ وَابْنُهُ (2) ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى جَوَازِهِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَحَالَ تَعَادُلُ الْأَمَارَتَيْنِ فِي نَفْسَيْهِمَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُحَالًا فِي ذَاتِهِ، أَوْ لِدَلِيلٍ خَارِجٍ، الْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ ; فَإِنَّا لَوْ قَدَّرْنَا ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا (3) ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ مِنْ خَارِجٍ عَقْلِيًّا كَانَ أَوْ شَرْعِيًّا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَعَلَى مُدَّعِيهِ بَيَانُهُ. (4)   (1) لِأَنَّ دَلَالَةَ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهَا حَاصِلًا، هَكَذَا بِالنُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ، وَفِي الْمَخْطُوطَةِ: (يَجِبُ أَنَّ مَدْلُولَهَا عَلَى مَا دَامَتْ عَلَيْهِ) ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ (لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهَا حَاصِلًا) ; إِذْ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ التَّفْرِيعِ ; لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا مَدْلُولَ لَهَا، إِنَّمَا هِيَ نِسْبَةٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَمَدْلُولِهَا. (2) الْكَرْخِيُّ هُوَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ دَلْهَمُ بْنُ دَلَّالٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَأَبُو بَكْرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبِ الْبَاقِلَّانِيُّ، وَالْجُبَّائِيُّ هُوَ أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْمُعْتَزِلِيُّ، وَابْنُهُ هُوَ أَبُو هَاشِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْجُبَّائِيِّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ تَرَاجِمُهُمْ تَعْلِيقًا. (3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 137 ج 4. (4) يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأَدِلَّةَ مُطْلَقًا سَمْعِيَّةٌ، أَمْ عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، أَمْ ظَنِّيَّةٌ إِنِ اعْتُبِرَتْ بِالْوَاقِعِ، لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا تَعَادُلٌ، بَلْ مَا وَافَقَ الْوَاقِعَ كَانَ حَقًّا صَوَابًا، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ نُظِرَ إِلَيْهَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهَا فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَقَدْ تَتَعَادَلُ لِتَفَاوُتِ الْمُجْتَهِدِينَ اسْتِعْدَادًا وَاطِّلَاعًا وَبَحْثًا، وَالْمُخْطِئُ لِعَدَمِ بُلُوغِ الْمُرَجِّحِ، أَوْ مَا يُزِيلُ اللَّبْسَ عَنْهُ مَأْجُورٌ مَعْذُورٌ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 فَإِنْ قِيلَ (1) : إِذَا قِيلَ بِتَعَادُلِ الْأَمَارَتَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، أَوْ بِأَحَدَيْهِمَا دُونَ الْأُخْرَى، أَوْ لَا يَعْمَلَ وَلَا بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. الْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَالثَّانِي: مُحَالٌ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَعْمَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ أَوِ الْإِبْهَامِ، فَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ فَلَا أَوْلَوِيَّةَ مَعَ التَّسَاوِي، وَإِنْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ تَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. الثَّانِي: أَنَّ التَّخْيِيرَ إِبَاحَةٌ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَهُوَ عَمَلٌ بِأَمَارَةِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ ; لِمَا سَبَقَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ تَخْيِيرِ الْحَاكِمِ لِلْمُتَخَاصِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي لِلْعَامِّيِّ بَيْنَ الْحُكْمِ وَنَقِيضِهِ، وَأَنْ يَحْكُمَ لِزَيْدٍ بِحُكْمٍ وَلِعَمْرٍو بِنَقِيضِهِ، وَأَنْ يَحْكُمَ فِي يَوْمٍ بِحُكْمٍ وَفِي الْغَدِ بِنَقِيضِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، وَالثَّالِثُ أَيْضًا مُحَالٌ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ (2) ، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْأَمَارَتَيْنِ يَكُونُ عَبَثًا، وَالْعَبَثُ فِي تَصَرُّفَاتِ الشَّارِعِ مُمْتَنِعٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَاقِعَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،. . . وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ اخْتِيَارُكُمْ، فَلَوْ تَعَادَلَتِ الْأَمَارَتَانِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّضْلِيلُ وَالْحَيْرَةُ فِي إِصَابَةِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى الشَّارِعِ الْحَكِيمِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الْأَوْلَى بِمَنْعِ الْحَصْرِ فِيمَا ذَكَرُوهُ ; إِذْ قَدْ أَمْكَنَ قِسْمٌ ثَالِثٌ (3) وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَجْمُوعِهِمَا بِأَنْ يَكُونَا كَالدَّلِيلِ الْوَاحِدِ، وَمُقْتَضَاهُمَا الْوَقْفُ أَوِ التَّخْيِيرُ.   (1) يُمْكِنُ تَصْوِيرُ لَوَازِمِ الْأَمَارَتَيْنِ فِي غَيْرِ الْعَمَلِ بِهِمَا فَيُقَالُ: إِذَا تَقَابَلَتِ الْأَمَارَتَانِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، فَإِمَّا أَنْ يُطَابِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْوَاقِعَ وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُطَابِقَ الْوَاقِعَ شَيْءٌ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ مُحَالٌ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ النَّقِيضَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يُطَابِقَ إِحْدَاهُمَا الْوَاقِعَ دُونَ الْأُخْرَى، فَمَا وَافَقَهُ هُوَ الْحَقُّ الْمُعْتَبَرُ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ رَاجِحًا، وَمَا سِوَاهُ لَغْوٌ بَاطِلٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ مَرْجُوحًا، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ التَّعَادُلِ. وَكَذَلِكَ يَمْتَنِعُ تَعَادُلُهُمَا بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِمَا فِي نَفْسَيْهِمَا لِكَمَالِ عِلْمِهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ. أَمَّا تَعَادُلُهُمَا بِاعْتِبَارِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ فَجَائِزٌ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ. (2) الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ النَّقِيضَيْنِ ; لِأَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ فِيهِ سَلْبُ الْعَمَلِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ. (3) تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّلِيلَ اشْتَمَلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ إِجْمَالًا، فَالْمُوَافِقُ لِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: أَمْكَنَ قِسْمٌ رَابِعٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ ذَلِكَ، فَمَا الْمَانِعُ مِنَ الْعَمَلِ بِإِحْدَاهُمَا عَلَى طَرِيقِ التَّخْيِيرِ بِأَنْ يَعْمَلَ الْمُكَلَّفُ بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا، إِنْ شَاءَ أَثْبَتَ وَإِنْ شَاءَ نَفَى. قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى امْتِنَاعِ تَخْيِيرِ الْمُكَلَّفِ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. قُلْنَا: مَتَى إِذًا تُرَجَّحُ فِي نَظَرِهِ إِحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ أَوْ إِذَا تَعَادَلَتَا؟ . الْأَوَّلُ: مُسَلَّمٌ، وَالثَّانِي: مَمْنُوعٌ، وَلَا بُعْدَ فِي التَّخْيِيرِ عِنْدَ التَّعَارُضِ مَعَ التَّسَاوِي نَازِلًا مَنْزِلَةَ وُرُودِ التَّخْيِيرِ مِنَ الشَّارِعِ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ، كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، أَوْ كَمَا فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ إِخْرَاجِ الْحِقَاقِ وَبَنَاتِ اللَّبُونِ عِنْدَ مَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي مَالِهِ مِائَتَانِ مِنَ الْإِبِلِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ» " (1) ، فَإِنَّهُ إِنْ أَخْرَجَ أَرْبَعَ حِقَاقٍ فَقَدْ عَمِلَ بِالنَّصِّ، وَإِنْ أَخْرَجَ خَمْسَ بَنَاتٍ لَبُونٍ فَقَدْ عَمِلَ بِالنَّصِّ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ التَّخْيِيرَ إِبَاحَةٌ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، وَهُوَ عَمَلٌ بِأَمَارَةِ الْإِبَاحَةِ، وَتَرْكٌ لِأَمَارَةِ الْوُجُوبِ. قُلْنَا: إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ فِي الْعَمَلِ بِأَحَدِ الْحُكْمَيْنِ مَشْرُوطًا بِقَصْدِ الْعَمَلِ بِدَلِيلِهِ، كَمَا فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ وَالْإِتْمَامِ بِشَرْطِ قَصْدِ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ الرُّخْصَةِ أَوْ دَلِيلِ الْإِتْمَامِ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ تَخْيِيرِ الْحَاكِمِ لِلْخَصْمَيْنِ، وَالْمُفْتِي لِلْعَامِّيِّ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ، لَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ التَّخْيِيرُ إِنَّمَا هُوَ لِلْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي فِي الْعَمَلِ بِإِحْدَى الْأَمَارَتَيْنِ عِنْدَ الْحُكْمِ وَالْفَتْوَى، فَلَا بُدَّ مِنْ تَعَيُّنِ مَا اخْتَارَهُ دَفْعًا لِلنِّزَاعِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَلِلتَّحَيُّرِ عَنِ الْمُسْتَفْتَى. وَأَمَّا حُكْمُهُ لِزَيْدٍ بِحُكْمٍ وَلِعَمْرٍو بِنَقِيضِهِ، فَغَيْرُ مُمْتَنِعٌ كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي يَوْمٍ وَبِنَقِيضِهِ فِي الْغَدِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَاحِدًا ; لِمَا فِيهِ مِنْ إِضْرَارِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ لَهُ بِحِلِّ النِّكَاحِ، وَالِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ فِي وَقْتٍ وَتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ التَّخْيِيرِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِمَا وَالْقَوْلِ بِتَسَاقُطِهِمَا. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ. . . إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوِ اعْتَقَدَ نَفْيَ الْحِلِّ وَالْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا.   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ: أَنَّ هَذِهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. الْحَدِيثَ. . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 قَوْلُهُمْ: إِنَّ وَضْعَ الْأَمَارَتَيْنِ يَكُونُ عَبَثًا فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ (1) ، وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَمْتَنِعُ اسْتِلْزَامُ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعِلْمِ بِهَا دُونَ الْمَخْلُوقِينَ. كَيْفَ وَقَدْ أَمْكَنَ أَنْ تَكُونَ الْحِكْمَةُ فِيهِ إِيقَافَ عَنِ الْجَزْمِ بِالنَّفْيِ أَوِ الْإِثْبَاتِ. وَعَنِ الثَّانِيَةِ: أَنَّا وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ مِنْ تَعَادُلِ الْأَمَارَاتِ. (2) قَوْلُهُمْ: يَلْزَمُ مِنْهُ التَّحَيُّرُ وَالتَّضْلِيلُ، إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ مُكَلَّفًا بِإِصَابَةِ مَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِمَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ عَلَى مَا سَبَقَ، فَإِنْ لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ شَيْءٌ ضَرُورَةَ التَّعَادُلِ كَانَ الْوَاجِبُ التَّخْيِيرَ، أَوِ التَّوَقُّفَ، أَوِ التَّسَاقُطَ. (3) [الْمَسْأَلَةُ السابعة مَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ إِلَى الْمُجْتَهِدِ وَمَا لَا يَصِحُّ] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ فِيمَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ مِنَ الْأَقْوَالِ إِلَى الْمُجْتَهِدِ وَمَا لَا يَصِحُّ. وَلَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ أَوِ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مَعًا فِي مَسْأَلَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ، كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَتَحْرِيمِ الزِّنَا فِي اعْتِقَادِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي لَا تَقَابُلَ بَيْنَهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، كَالتَّحْرِيمِ وَوُجُوبِ الْحَدِّ وَنَحْوِهِ، وَفِي اعْتِقَادِ وُجُوبِ فِعْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ عَلَى الْبَدَلِ كَالِاعْتِدَادِ بِالْأَطْهَارِ وَالْحَيْضِ، أَوْ فِعْلَيْنِ غَيْرِ مُتَضَادَّيْنِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ. وَأَمَّا اعْتِقَادُ حُكْمَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبَيَّنَّا مَأْخَذَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي ذَلِكَ.   (1) تَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. (2) تَقَدَّمَ دَلِيلُ الْمَنْعِ مِنْ تَعَادُلِهِمَا بِاعْتِبَارِهِمَا بِالْوَاقِعِ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى دَلَالَتِهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَإِنْ جَازَ تَعَادُلِهِمَا فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ. (3) لَا شَكَّ أَنَّ التَّعَادُلَ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا كَانَ فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ لِقُصُورِهِ، فَكَانَ مَعْذُورًا مَأْجُورًا، لَا فِي الْوَاقِعِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 وَأَمَّا مَا يُقَالُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لِلْمُجْتَهِدِ الْفُلَانِيِّ قَوْلَانِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَا مَنْصُوصَيْنِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَالْآخِرُ مَنْقُولٌ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِمَا فِي وَقْتَيْنِ أَوْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتَيْنِ فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّارِيخُ مَعْلُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَالْقَوْلُ الثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي يَجِبُ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ دُونَ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ مَرْجُوعًا عَنْهُ، وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ، فَلَيْسَ إِلَّا بِمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ قَوْلًا لَهُ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ الْآنَ قَوْلُهُ وَمُعْتَقَدُهُ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَيَجِبُ اعْتِقَادُ نِسْبَةِ أَحَدِهِمَا إِلَيْهِ وَالرُّجُوعُ عَنِ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا وَلَا مُعَيَّنًا. وَعَلَى هَذَا فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا قَبْلَ التَّبْيِينِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا عُمِلَ بِهِ هُوَ الْمَرْجُوعَ عَنْهُ. وَهَذَا كَمَا إِذَا وَجَدْنَا نَصَّيْنِ وَعَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ لِلْآخَرِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَنَا النَّاسِخُ مِنَ الْمَنْسُوخِ، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا عُمِلَ بِهِ هُوَ الْمَنْسُوخَ، وَكَذَلِكَ الرَّاوِي فَإِنَّهُ إِذَا سَمِعَ كِتَابًا مِنَ الْأَخْبَارِ سِوَى خَبَرٍ وَاحِدٍ مِنْهُ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ مَا سَمِعَهُ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ رِوَايَةُ شَيْءٍ مِنْهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَرْوِهِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَإِمَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْهُمَا بِأَنْ يَقُولَ: " وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى "، أَوْ يُفَرِّعُ عَلَيْهِ دُونَ الْآخَرِ، فَيَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: " وَمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدًا لَهُ " هُوَ الرَّاجِحُ دُونَ الْمَرْجُوحِ. وَأَمَّا أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْجِيحِ كَمَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ لِأَقْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَ فَلَا تَكُونُ أَقْوَالًا لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى اعْتِقَادِهِ لِلْقَوْلَيْنِ وَهُوَ مُحَالٌ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلِيلَيِ الْقَوْلَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا رَاجِحًا عَلَى الْآخَرِ فِي نَظَرِهِ، أَوْ هُمَا مُتَسَاوِيَانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَاعْتِقَادُهُ لِحُكْمِ الدَّلِيلِ الْمَرْجُوحِ مُمْتَنِعٌ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَاعْتِقَادُهُ لِلتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مَعًا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْقَوْلَيْنِ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، أَوِ التَّرَدُّدَ وَالشَّكَّ كَتَرَدُّدِ الشَّافِعِيِّ فِي التَّسْمِيَةِ: هَلْ هِيَ آيَةٌ مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ؟ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ مَعَهُ نِسْبَةُ الْقَوْلَيْنِ إِلَيْهِ. وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ لَا يُقَالُ: إِنَّ لَهُ فِي الْكَفَّارَةِ أَقْوَالًا. وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَّ فِي شَيْءٍ وَتَرَدَّدَ فِيهِ لَا يُقَالُ لَهُ فِيهِ أَقْوَالٌ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ ذَلِكَ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ: (فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ) عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ فِيهَا دَلِيلَيْنِ مُتَعَارِضَيْنِ، وَلَا مَوْجُودَ سِوَاهُمَا إِمَّا نَصَّانِ أَوِ اسْتِصْحَابَانِ، كَمَا إِذَا أَعْتَقَ عَنْ كَفَّارَتِهِ عَبْدًا غَائِبًا مُنْقَطِعَ الْخَبَرِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَيَاتِهِ وَالْأَصْلَ بَقَاءُ اشْتِغَالِ الذِّمَّةِ أَوْ أَصْلَانِ مُخْتَلِفَانِ، وَالْمَسْأَلَةُ مُشَابِهَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِلٌ، فَقَوْلُهُ بِوُجُودِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَهَذَا قَوْلَانِ لَكِنَّهُ لَيْسَ قَوْلًا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ وَالْآخَرُ مَنْقُولًا، فَذَلِكَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي صُورَتَيْنِ مُتَنَاظِرَتَيْنِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَظْهَرَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ فَارِقٌ أَوْ لَا يَظْهَرَ، فَإِنْ ظَهَرَ بَيْنَهُمَا فَارِقٌ فَالنَّقْلُ يَكُونُ مُمْتَنِعًا. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بَيْنَهُمَا فَارِقٌ وَكَانَ الْإِمَامُ قَدْ نَصَّ عَلَى حُكْمِ الصُّورَتَيْنِ فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي وَقْتَيْنِ أَوْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ. فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتَيْنِ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ التَّارِيخُ مَعْلُومًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَتَنْصِيصُهُ عَلَى الْحُكْمِ الْأَخِيرِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ مِثْلِهِ فِي الصُّورَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا أَوَّلًا، ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَرْقِ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رُجُوعُهُ عَنِ الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوَّلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ التَّارِيخُ مَعْلُومًا فَيَجِبُ اعْتِقَادُ اشْتِرَاكِ الصُّورَتَيْنِ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ مَا نَصَّ عَلَيْهِ آخِرًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِعَيْنِهِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِينِ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَرْجُوعَ عَنْهُ كَمَا أَسْلَفْنَاهُ. وَأَمَّا إِنْ نَصَّ عَلَى حُكْمَيِ الصُّورَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ عُرِفَ مَا فِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 [الْمَسْأَلَةُ الثامنة حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُ حُكْمِهِ إِمَّا بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ آخَرَ، لَأَمْكَنَ نَقْضُ الْحُكْمِ بِالنَّقْضِ وَنَقْضُ النَّقْضِ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اضْطِرَابُ الْأَحْكَامِ وَعَدَمُ الْوُثُوقِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي نُصِبَ الْحَاكِمُ لَهَا. وَإِنَّمَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ قَاطِعٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَهُوَ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مَنْصُوصَةً أَوْ كَانَ قَدْ قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ (1) ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مِنْ نَصٍّ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يُنْقَضُ مَا حُكِمَ بِهِ بِالظَّنِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الرُّتْبَةِ. . (2) وَلَوْ حُكِمَ عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ مُقَلِّدًا لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِهِ وَإِبْطَالِ حُكْمِهِ، وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ مُقَلِّدًا لِإِمَامٍ وَحَكَمَ بِحُكْمٍ يُخَالِفُ مَذْهَبَ إِمَامِهِ، فَإِنْ قَضَيْنَا بِصِحَّةِ حُكْمِ الْمُقَلِّدِ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ فِي زَمَانِنَا، فَنَقْضُ حُكْمِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِ إِمَامِهِ؟ فَإِنْ مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ نُقِضَ، وَإِلَّا فَلَا. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ إِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَتَجْوِيزِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ بِلَا وَلِيٍّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَإِمَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِذَلِكَ حُكْمُ حَاكِمٍ آخَرَ، أَوْ لَا يَتَّصِلَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: لَمْ يُنْقَضِ الِاجْتِهَادُ السَّابِقُ ; نَظَرًا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ وَمَصْلَحَتِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: لَزِمَهُ مُفَارَقَةُ الزَّوْجَةِ، وَإِلَّا كَانَ مُسْتَدِيمًا لِحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ أَفْتَى بِذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَعَمِلَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِفَتْوَاهُ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُقَلِّدَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ الزَّوْجَةِ لِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِ مُفْتِيهِ؟ وَالْحَقُّ وُجُوبُهُ، كَمَا لَوْ قَلَّدَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ الْمُقَلِّدِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَوُّلُ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ.   (1) انْظُرِ الْبَابَ الثَّالِثَ فِي أَقْسَامِ الْقِيَاسِ وَأَنْوَاعِهِ. (2) هَذَا تَعْلِيلٌ آخَرُ لِلْمَنْعِ مِنْ نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 [الْمَسْأَلَةُ التاسعة المجتهد لا يجوز له التقليد] الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ الْمُكَلَّفُ إِذَا كَانَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ بِتَمَامِهَا فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، فَإِنِ اجْتَهَدَ فِيهَا، وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ فِيهَا، فَقَدِ اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي خِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ وَتَرَكَ ظَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اجْتَهَدَ فِيهَا، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ: الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَإِنْ لَمْ يَجْتَهِدْ وَتَرَكَ الْأَوْلَى جَازَ لَهُ تَقْلِيدُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذَا كَانَ مُتَرَجِّحًا فِي نَظَرِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ خَالَفَهُ وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي نَظَرِهِ يُخَيَّرُ فِي تَقْلِيدِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ مَنْ عَدَاهُمْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْقَدِيمَةِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ دُونَ مَنْ عَدَاهُمْ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، وَلَا يُقَلِّدْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ إِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاجْتِهَادِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ مُطْلَقًا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْعَالِمِ فِيمَا يُفْتِي بِهِ، وَفِيمَا يَخُصُّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ فِيمَا يَخُصُّهُ دُونَ مَا يُفْتِي بِهِ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ خَصَّصَ ذَلِكَ بِمَا يَفُوتُ وَقْتُهُ لَوِ اشْتَغَلَ بِالِاجْتِهَادِ. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى مَنْعِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. إِلَّا أَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ قَدِ احْتَجُّوا بِحُجَجٍ ضَعِيفَةٍ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا وَالتَّنْبِيهِ عَلَى ضَعْفِهَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ. الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يَجُوزُ مَعَ ذَلِكَ مَصِيرُهُ إِلَى قَوْلِ غَيْرِهِ كَمَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدِ اجْتَهَدَ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ وَتَرْكُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، فَكَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُهُ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ ; لِإِمْكَانِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى خِلَافِ رَأْيِ مَنْ قَلَّدَهُ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِغَيْرِ الصَّحَابَةِ تَقْلِيدُ الصَّحَابَةِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنَ الِاجْتِهَادِ، لَجَازَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ تَقْلِيدُ الْبَعْضِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِمُنَاظَرَاتِهِمْ فِيمَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَسَائِلِ الْخِلَافِيَّةِ مَعْنًى. الرَّابِعَةُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَتْ تَتْرُكُ مَا رَأَتْهُ بِاجْتِهَادِهَا لِمَا تَسْمَعُهُ مِنَ الْخَبَرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ عَمَلُ غَيْرِهِمْ بِالْخَبَرِ وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِرَأْيِهِمْ أَوْلَى. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْحُجَّةِ الْأُولَى: إِنَّمَا لَمْ يَجُزِ التَّقْلِيدُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا هُوَ الْعِلْمُ (1) وَهَذَا غَيْرُ حَاصِلٍ بِالتَّقْلِيدِ، بِخِلَافِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا هُوَ الظَّنُّ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالتَّقْلِيدِ فَافْتَرَقَا. وَعَلَى الثَّانِيَةِ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَهَدَ إِلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَوُثُوقُهُ بِهِ أَتَمُّ مِنْ وُثُوقِهِ بِمَا يُقَلِّدُ فِيهِ الْغَيْرَ ; لِأَنَّهُ مَعَ مُسَاوَاةِ اجْتِهَادِهِ لِاجْتِهَادِ الْغَيْرِ يُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ الْغَيْرُ صَادِقًا فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَقَبْلَ أَنْ يَجْتَهِدَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْوُثُوقُ بِحُكْمٍ مَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنِ امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ مَعَ الِاجْتِهَادِ امْتِنَاعُهُ مَعَ عَدَمِهِ. وَعَلَى الثَّالِثَةِ: أَنَّ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَنْ يُجَوِّزُ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ إِذَا كَانَ الْمُقَلِّدُ أَعْلَمَ كَمَا سَبَقَ فِي تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ. وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوُثُوقَ بِاجْتِهَادِ الصَّحَابِيِّ لِمُشَاهَدَةِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، وَمَعْرِفَةِ التَّأْوِيلِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَحْوَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزِيَادَةِ اخْتِصَاصِ الصَّحَابَةِ بِالتَّشَدُّدِ فِي الْبَحْثِ عَنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَتَأْسِيسِ الشَّرِيعَةِ، وَعَدَمِ تَسَامُحِهِمْ فِيهَا أَشُدُّ   (1) الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ تَتَفَاوَتُ كَالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا قَطْعِيًّا، وَقَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا اجْتِهَادِيًّا، فَلَا فَرْقَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 مِنْ غَيْرِهِمْ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ» ". (1) أَتَمُّ مِنَ الْوُثُوقِ بِاجْتِهَادِ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ، وأَمَّا مِثْلُ هَذَا التَّفَاوُتِ فَغَيْرُ وَاقِعٍ بَيْنِ الصَّحَابَةِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ تَقْلِيدِ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ لِلصَّحَابِيِّ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ لِلصَّحَابِيِّ. وَعَنِ الرَّابِعَةِ: أَنَّ الْخَبَرَ لَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِي مُنَاقَضَةِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، أَوْ لَا يَكُونَ صَرِيحًا، بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى ذَلِكَ ظَنِّيَّةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَلَا خَفَاءَ فِي امْتِنَاعِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ مَعَهُ، كَمَا يَمْتَنِعُ عَلَى الصَّحَابِيِّ الْعَمَلُ بِرَأْيِهِ مَعَ ذَلِكَ الْخَبَرِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الصَّحَابِيِّ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مَعَ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى اعْتِقَادِ مَا رَآهُ أَوَّلًا، وَتَرْجِيحُ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ عَلَى ذَلِكَ الْخَبَرِ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا يَمْتَنِعُ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ مَعَ وُجُودِ ذَلِكَ الْخَبَرِ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: الْقَوْلُ بِجَوَازِ التَّقْلِيدِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَمَنِ ادَّعَاهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ الْعَاجِزِ عَنِ التَّوَصُّلِ إِلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ مِنَ الْحُكْمِ جَوَازُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ التَّوَصُّلِ إِلَى الْحُكْمِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَوُثُوقُهُ بِهِ أَتَمُّ مِمَّا هُوَ مُقَلِّدٌ فِيهِ لِمَا سَبَقَ. فَإِنْ قِيلَ: دَلِيلُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَمْرٌ بِالسُّؤَالِ وَأَدْنَى دَرَجَاتِهِ جَوَازُ اتِّبَاعِ الْمَسْئُولِ وَاعْتِقَادُ قَوْلِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ شَيْئًا أَصْلًا، بَلْ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ وَمَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ فِيهَا غَيْرَ عَالِمٍ بِهَا، فَكَانَ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} وَالْمُرَادُ (بِأُولِي الْأَمْرِ) الْعُلَمَاءُ، أَمَرَ غَيْرَ الْعَالِمِ بِطَاعَةِ الْعَالِمِ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِهِ جَوَازُ اتِّبَاعِهِ فِيمَا هُوَ مَذْهَبُهُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمْ» " (2)   (1) تَقَدَّمَ ص 150 ج 4. (2) تَقَدَّمَ ص 232 ج 1، ص150 ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» ". (1) وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «اقْتَدُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ". (2) وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِلَى قَوْلِ مُعَاذٍ (3) ، وَبَايَعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عُثْمَانَ عَلَى اتِّبَاعِ سُنَّةِ الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ (4) ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، مَعَ أَنَّ الْمُقَلِّدَ كَانَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ بِاجْتِهَادِهِ عَلَى غَيْرِ الظَّنِّ، وَاتِّبَاعُ الْمُجْتَهِدِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مُفِيدٌ لِلظَّنِّ، وَالظَّنُّ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَكَانَ اتِّبَاعُهُ فِيهِ جَائِزًا. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الذِّكْرِ أَهْلُ الْعِلْمِ، أَيِ: الْمُتَمَكِّنُ مِنْ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِأَهْلِيَّتِهِ فِيمَا يُسْأَلُ عَنْهُ، لَا مَنِ الْعِلْمُ بِالْمَسْأَلَةِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا حَاضِرٌ عَتِيدٌ لَدَيْهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الشَّيْءِ مَنْ هُوَ مُتَأَهِّلٌ لِذَلِكَ الشَّيْءِ، لَا مَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ. وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا فَتُخَصُّ الْآيَةُ بِسُؤَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَالْعَامِّيِّ لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الْآيَةِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِيشُ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي. . إِلَخْ. (2) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ، وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظِ: اقْتَضُوا بِالَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ. " وَفِي سَنَدِهِ مَوْلَى رَبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ. (3) انْظُرْ ص 216 - 219 ج 2 مِنْ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ طَبْعِ الْمَكْتَبَةِ التِّجَارِيَّةِ. (4) انْظُرْ ص 153 ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 أَمْرِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِسُؤَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ السَّائِلُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنَ الْمَسْئُولِ. وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ: (بِأُولِي الْأَمْرِ) الْوُلَاةُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّعِيَّةِ، وَالْمُجْتَهِدِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَوَامِّ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ أَوْجَبَ الطَّاعَةَ لَهُمْ، وَاتِّبَاعُ الْمُجْتَهِدِ لِلْمُجْتَهِدِ وَإِنْ جَازَ عِنْدَ الْخُصُومِ فَغَيْرُ وَاجِبٍ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ. وَعَنِ السُّنَّةِ: مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَوْ لَا؟ وَعَنِ الْإِجْمَاعِ: أَمَّا عُمَرُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا لَعَلِيٍّ وَلِمُعَاذٍ فِيمَا ذَهَبَا إِلَيْهِ، بَلْ لِأَنَّهُ اطَّلَعَ مِنْ قَوْلَيْهِمَا عَلَى دَلِيلٍ أَوْجَبَ رُجُوعَهُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا قِصَّةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدْ سَبَقَ جَوَابُهَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ. (1) وَعَنِ الْمَعْقُولِ: أَنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ، لَمْ يَجُزْ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِي خِلَافِ مَا أَدَّى إِجْمَاعًا، فَلَوْ جَازَ لَهُ التَّقْلِيدُ مَعَ عَدَمِ الِاجْتِهَادِ لَكَانَ ذَلِكَ بَدَلًا عَنِ اجْتِهَادِهِ، وَالْبَدَلُ دُونَ الْمُبْدَلِ، وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعُدُولُ إِلَى الْبَدَلِ مَعَ إِمْكَانِ تَحْصِيلِ الْمُبْدَلِ مُبَالَغَةً فِي تَحْصِيلِ الزِّيَادَةِ مِنْ مَقْصُودِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَرِدَ نَصٌّ بِالتَّخْيِيرِ يُوجِبُ إِلْغَاءَ الزِّيَادَةِ مِنْ مَقْصُودِ الْمُبْدَلِ أَوْ نَصٌّ بِأَنَّهُ بَدَلٌ عِنْدَ الْعَدَمِ لَا عِنْدَ الْوُجُودِ (2) ، كَمَا فِي بِنْتِ مَخَاضٍ وَابْنِ لَبُونٍ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ، فَإِنَّ وُجُودَ بِنْتِ مَخَاضٍ يَمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ ابْنِ لَبُونٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ ذَلِكَ النَّصِّ. كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مَعَارَضٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .   (1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 153 ج 4. (2) هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ، وَفِي الْمَخْطُوطَةِ: (نَصٌّ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا عِنْدَ الْعَدَمِ) وَالَّذِي فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ هُوَ الَّذِي يَتَنَاسَبُ مَعَ التَّنْظِيرِ الَّذِي بَعْدَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «اجْتَهِدُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» ". (1) وَتَقْلِيدُ الْعَالِمِ لِلْعَالِمِ يَلْزَمُ مِنْهُ: تَرْكُ الِاعْتِبَارِ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَرْكُ مَا أُنْزِلَ، وَاقْتِفَاءُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَتَرْكُ الِاجْتِهَادِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ النَّصِّ. وَاذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ سَلِمَ لَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. [الْمَسْأَلَةُ العاشرة هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُجْتَهِدِ احْكُمْ فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالصَّوَابِ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُجْتَهِدِ احْكُمْ فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالصَّوَابِ (2) ، فَأَجَازَ ذَلِكَ قَوْمٌ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فَقَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ (3) بِجَوَازِ ذَلِكَ مُطْلَقًا لِلنَّبِيِّ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ خَاصَّةً فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي " كِتَابِ الرِّسَالَةِ " مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرَدُّدِ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْبَاقُونَ. وَالْمُخْتَارُ جَوَازُهُ دُونَ وُقُوعِهِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى حُجَجٍ عَوَّلَ عَلَيْهَا الْمُجَوِّزُونَ بَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ وَبَعْضُهَا يَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى ضَعْفِهَا كَالْجَارِي مِنْ   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ، لَكِنْ بِلَفْظِ: اعْمَلُوا. . إِلَخْ. وَلَوْ صَحَّتْ رِوَايَةُ اجْتَهِدُوا لَمَا صَحَّ حَمْلُهَا عَلَى خُصُوصِ الِاجْتِهَادِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَإِنَّهُ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ. (2) هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ لَا مِنْ أَصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّ الْبَحْثَ فِي جَوَازِ أَنْ يَقُولَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ أَوْ لِلْمُجْتَهِدِ مِنْ أُمَّتِهِ: احْكُمْ، فَإِنَّكَ لَا تَحْكُمُ إِلَّا بِالصَّوَابِ، أَوْ تَفْوِيضِهِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، وَوُقُوعِهِ مِنْهُ بَحْثٌ عَنْ حُكْمِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالتَّشْرِيعِ وَبِالْقَدَرِ تَوْقِيفًا وَتَسْدِيدًا، وَمَوْضُوعُ ذَلِكَ عِلْمُ الْكَلَامِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِبَحْثِهَا فِيهِ، وَإِنْ بُحِثَتْ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي الْمَبَادِئِ الْكَلَامِيَّةِ كَمَبَاحِثِ الْحَاكِمِ، أَوْ قَبْلَ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، لِرُجُوعِ بَعْضِ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ إِلَيْهِ. (3) مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ - وَفِي مُسَوَّدَةِ آلِ تَيْمِيَةَ: يُونُسُ بْنُ عِمْرَانَ، وَفِي الْمُعْتَمَدِ لِأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ: مُوَيْسُ بْنُ عِمْرَانَ. فَلْيَنْظُرْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 عَادَتِنَا، ثُمَّ نَذْكُرُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (1) وَقَدِ احْتَجُّوا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا النَّصُّ: فَمِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} أَضَافَ التَّحْرِيمَ إِلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ مُفَوَّضًا إِلَيْهِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ «لَمَّا قَالَ فِي مَكَّةَ: " لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا " قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: إِلَّا الْإِذْخِرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِلَّا الْإِذْخِرَ) » . (2) وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، لِعِلْمِنَا بِأَنَّ الْوَحْيَ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْحُكْمَ مُفَوَّضٌ إِلَيْهِ لَمَا سَاغَ ذَلِكَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» ". (3) وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» ) . (4) وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا قِيلَ لَهُ: أَحَجُّنَا هَذَا لِعَامِنَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَقَالَ: (بَلْ لِلْأَبَدِ، وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ» ) (5) أَضَافَ الْوُجُوبَ وَالْعَفْوَ إِلَى أَمْرِهِ وَفِعْلِهِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى اخْتِيَارِهِ لَمَا جَازَ.   (1) قَارِنْ بَيْنَ اخْتِيَارِهِ هُنَا، وَاخْتِيَارِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَالثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَبَيْنَ مَا ذَكَرَ فِيهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ وَمُنَاقَشَتِهَا لِتَعْرِفَ مَنْهَجَ الْآمِدِيِّ فِي اخْتِيَارِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ وَنِقَاشِهِ. (2) تَقَدَّمَ ص 167 ج 4. (3) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. (4) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: قَدْ عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، فَهَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَّةِ. . إِلَخْ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ " لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ ". (5) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ قَلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ أَنَّ السَّائِلَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَمَرَ مُنَادِيًا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ( «أَنِ اقْتُلُوا ابْنَ صَبَابَةَ وَابْنَ أَبِي سَرْحٍ وَلَوْ كَانَا مُتَعَلِّقَيْنِ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» ) (1) ، ثُمَّ عَفَا عَنِ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ بِشَفَاعَةِ عُثْمَانَ (2) وَلَوْ كَانَ قَدْ أُمِرَ بِقَتْلِهِ بِوَحْيٍ لَمَا خَالَفَهُ بِشَفَاعَةِ عُثْمَانَ. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ «لَمَّا قَتَلَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ جَاءَتْهُ بِنْتُ النَّضْرِ فَأَنْشَدَتْهُ: مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّمَا ... مَنَّ الْفَتَى وَهْوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (أَمَّا أَنِّي لَوْ كُنْتُ سَمِعْتُ شِعْرَهَا مَا قَتَلْتُهُ) » . (3) وَلَوْ كَانَ قَتْلُهُ بِأَمْرٍ مِنَ اللَّهِ لَمَا خَالَفَهُ وَإِنْ سَمِعَ شِعْرَهَا. وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ «لَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنَّ مَاعِزًا رُجِمَ، فَقَالَ: " لَوْ كُنْتُمْ تَرَكْتُمُوهُ حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ» (4) وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ كَانَ مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِهِ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» " (5) ،   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَّا أَرْبَعَةً وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمَقِيسُ بْنُ صَبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ. انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ. (2) انْظُرْ تَرْجَمَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَتَفْصِيلَ شَفَاعَةِ عُثْمَانَ لَهُ فِي كِتَابِ الْإِصَابَةِ لِابْنِ حَجَرٍ. (3) قَائِلَةُ الْبَيْتِ هِيَ: قُتَيْلَةُ - بِالتَّصْغِيرِ بِنْتُ النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ الْقُرَشِيَّةُ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهَا مَطْلَعُهَا: يَا رَاكِبًا إِنَّ الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَبْيَاتِ مَصْنُوعَةٌ. انْظُرِ الْقِصَّةَ وَالْقَصِيدَةَ فِي تَرْجَمَةِ قُتَيْلَةَ فِي كِتَابِ الْإِصَابَةِ لِابْنِ حَجْرٍ، وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ، وَفِي حَاشِيَةِ الْأَمِيرِ عَلَى مُغْنِي اللَّبِيبِ فِي مَبَاحِثِ (لَوْ) . (4) انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ - فِي كِتَابِ الْحُدُودِ. (5) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 وَعَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِي أَلَا فَانْتَفِعُوا بِهَا " (1) ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَفْوِيضِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي ذَلِكَ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَمَا نُقِلَ عَنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ فِيمَا حَكَمَ بِهِ " إِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ " أَضَافَ الْحُكْمَ إِلَى نَفْسِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَصَارَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا شَاعَ وَذَاعَ مِنْ رُجُوعِ آحَادِ الصَّحَابَةِ عَمَّا حَكَمَ بِهِ أَوَّلًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ عَنْ دَلِيلٍ مِنَ الشَّارِعِ لَمَا شَاعَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَمَا جَازَ تَطَابُقُ الصَّحَابَةِ عَلَى عَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا جَازَ تَفْوِيضُ الشَّارِعِ إِلَى الْمُكَلَّفِ اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ مِنْ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْأَحْكَامِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يُفَوَّضَ إِلَى الْعَامِّيِّ الْعَمَلُ بِمَا شَاءَ مِنْ فَتْوَى أَيِّ الْمُجْتَهِدِينَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهِدِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا جَازَ الْحُكْمُ بِالْأَمَارَةِ الظَّنِّيَّةِ مَعَ جَوَازِ الْخَطَإِ فِيهَا عَنِ الصَّوَابِ جَازَ الْحُكْمُ بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَإِنْ جَازَ عُدُولُهُ عَنْ جِهَةِ الصَّوَابِ. (2) وَلِقَائِلٍ أَنْ يُجِيبَ عَنِ الْآيَةِ بِأَنَّ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَةِ بَنِيهِ حَتَّى يَكُونَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ إِسْرَائِيلَ حَرَّمَ مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاجْتِهَادِ مُسْتَنِدًا إِلَى دَلِيلٍ ظَنِّيٍّ لَا أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَعَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ الْإِذْخِرَ لَيْسَ مِنَ الْخَلَا، فَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِيمَا حُرِّمَ، وَعَلَى هَذَا فَإِبَاحَتُهُ تَكُونُ بِنَاءً عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعَبَّاسِ وَالنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ تَأْكِيدًا.   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 136 ج 3. (2) الْجَوَازُ الْأَوَّلُ وَالثَّالِثُ جَوَازٌ شَرْعِيٌّ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ، وَالْجَوَازُ الثَّانِي وَالرَّابِعُ عَقْلِيٌّ بِمَعْنَى الْإِمْكَانِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى حَقِيقَةً مِمَّا حُرِّمَ بِطَرِيقِ التَّأْسِيسِ، لَكِنْ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِوَحْيٍ سَابِقٍ وَهُوَ الْأَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ رَسُولِهِ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا. وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّانِي: أَنَّهُ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ الْوَحْيَ نَزَلَ بِتَخْيِيرِهِ فِي أَمْرِهِمْ بِالسِّوَاكِ الشَّاقِّ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةِ، وَعَدَمِ أَمْرِهِمْ بِذَلِكَ لَا أَنَّ أَمْرَهُ لَهُمْ بِالسِّوَاكِ يَكُونُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ ذَلِكَ لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ. وَعَنِ الْخَبَرِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَضَافَ الْعَفْوَ إِلَى نَفْسِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ صَدَقَةَ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ مِنْهُمْ، لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ الْمُسْقِطُ لَهَا، وَدَلِيلُهُ مَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ. وَعَنِ الْخَبَرِ الرَّابِعِ: أَنَّ قَوْلَهُ: " «وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ» " لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ مُسْتَنِدٌ إِلَى قَوْلِهِ " نَعَمْ " مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ مَا يَقُولُ إِلَّا بِوَحْيٍ لِمَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ. وَعَنِ الْخَامِسِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُبِيحَ الْقَتْلُ وَتَرْكُهُ بِالْوَحْيِ بِدَلِيلِ مَا سَبَقَ فِي الْآيَةِ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قِصَّةِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَمَاعِزٍ. وَعَنِ الْخَبَرِ الْأَخِيرِ: أَنَّهُ إِنَّمَا نَهَى وَأَبَاحَ بَعْدَ النَّهْيِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ لَا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَعَنِ الْإِجْمَاعِ: أَمَّا إِضَافَةُ الْخَطَأِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ حَكَمَ مِنْهُمْ أَنَّهُ حَكَمَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِنَاءً عَلَى مَا ظَنَّهُ دَلِيلًا، وَهُوَ مُخْطِئٌ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَنِ اخْتِيَارٍ قَدْ أُبِيحُ لَهُمُ الْعَمَلُ بِهِ لَمَا شَكُّوا فِي كَوْنِهِ صَوَابًا. وَأَمَّا رُجُوعُ آحَادِ الصَّحَابَةِ عَمَّا حَكَمَ بِهِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِظُهُورِ الْخَطَأِ لَهُ فِيمَا ظَنَّهُ دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ أَوَّلًا، وَقَدْ سَوَّغَ لَهُ الْحُكْمَ بِهِ، أَمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَلَا. وَعَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ التَّخْيِيرِ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ، جَوَازُ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْعَامِّيَّ لَهُ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَمَنْ قَالَ بِجَوَازِ التَّخْيِيرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَقْضِ بِجَوَازِهِ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، وَلَوْ وَقَعَ التَّسَاوِي بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ لَجَازَ ذَلِكَ لِلْعَامِّيِّ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَبِمِثْلِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي. وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ (1) الْعَمَلِ بِالْأَمَارَةِ مَعَ كَوْنِهَا مُفِيدَةً   (1) الْمُرَادُ هُنَا بِالْجَوَازِ الْجَوَازُ الشَّرْعِيُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 لِلظَّنِّ الْعَمَلُ بِالِاخْتِيَارِ مِنْ غَيْرِ ظَنٍّ مُفِيدٍ لِلْحُكْمِ. وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ: لَوِ امْتَنَعَ ذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَمْتَنِعَ لِذَاتِهِ أَوْ لِمَانِعٍ مِنْ خَارِجٍ، الْأَوَّلُ مُحَالٌ ; فَإِنَّا إِذَا قَدَّرْنَاهُ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ فِي الْعَقْلِ (1) ، وَإِنْ كَانَ لِمَانِعٍ مِنْ خَارِجٍ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَعَلَى مَنْ يَدَّعِيهِ بَيَانُهُ. فَإِنْ قِيلَ: يَمْتَنِعُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْبَارِي تَعَالَى إِنَّمَا شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَلَوْ فَوَّضَ ذَلِكَ إِلَى اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَاخْتِيَارُ الْعَبْدِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَصْلَحَةً وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَفْسَدَةً، فَلَا نَأْمَنُ مِنِ اخْتِيَارِهِ لِلْمَفْسَدَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا وُضِعَتْ لَهُ الشَّرِيعَةُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى رِعَايَةِ الْمَصْلَحَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَبْطَلْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ (2) ، وَإِنْ سَلَّمْنَا اعْتِبَارَ ذَلِكَ فِي أَفْعَالِهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ قَدْ أَمِنَّا فِي ذَلِكَ مِنِ اخْتِيَارِ الْمَفْسَدَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ: (اخْتَرْ فَإِنَّكَ لَا تَخْتَارُ إِلَّا الصَّوَابَ) . (3) فَإِنْ قِيلَ: يَمْتَنِعُ عَلَى الشَّارِعِ قَوْلُ ذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ اسْتِمْرَارِ الْمُكَلَّفِ عَلَى اخْتِيَارِ الصَّلَاحِ دُونَ الْفَسَادِ، كَمَا لَا يَجُوزُ اتِّفَاقُ الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ الْمُحْكَمَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ، ثُمَّ لَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قُلْنَا: دَلِيلُ جَوَازِ ذَلِكَ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا وُرُودَهُ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ. قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَا يَتَّفِقُ اخْتِيَارُ الصَّلَاحِ فِي الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ. قُلْنَا: مَتَى إِذَا أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِذَلِكَ أَوْ إِذَا لَمْ يُخْبِرْ؟ (4) الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ، وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَالَ لِلْعَامِّيِّ مِثْلَ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا عَقْلًا، ثُمَّ وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَتَّفِقُ اخْتِيَارُ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ، لَكِنْ مَتَى إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ خَارِجَةً عَنِ الْفِعْلِ الْمُخْتَارِ، أَوْ إِذَا كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ هِيَ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمُخْتَارِ، الْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ.   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 137 ج 4. (2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا غَيْرَ مَرَّةٍ. (3) هَذَا مُجَرَّدُ فَرْضٍ وَتَقْدِيرٍ، وَقَدْ خُتِمَتِ الشَّرَائِعُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا فُرِضَ. (4) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا أَنَّ الشَّرَائِعَ خُتِمَتْ، وَلَمْ يُخْبَرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْإِبَاحَةُ وَإِسْقَاطُ التَّكْلِيفِ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ إِيجَابُ التَّخْيِيرِ، وَإِيجَابُ التَّخْيِيرِ تَكْلِيفٌ لَا أَنَّهُ إِبَاحَةٌ وَإِسْقَاطٌ لِلتَّكْلِيفِ. فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يَحْسُنُ إِيجَابُ مَا يُمْكِنُ الْخُلُوُّ مِنْهُ، وَيَمْتَنِعُ الْخُلُوُّ مِنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فَلَا يَحْسُنُ إِيجَابُهُ. قُلْنَا: هَذَا وَإِنِ اسْتَمَرَّ فِي إِيجَابِ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ فَلَا يَسْتَمِرُّ فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُتَصَوَّرُ الْخُلُوُّ مِنْهَا، كَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُحَرَّمًا أَوْ وَاجِبًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: اخْتَرْ إِمَّا التَّحْرِيمَ وَإِمَّا الْوُجُوبَ، وَأَيَّهُمَا اخْتَرْتَ فَلَا تَخْتَرْ إِلَّا مَا الْمَصْلَحَةُ فِيهِ. وَلَا يَخْفَى جَوَازُ الْخُلُوِّ مِنْهُمَا بِالْإِبَاحَةِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ خَارِجَةٌ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ الْمُخْتَارِ، وَأَنَّهُ يَمْتَنِعُ اخْتِيَارُ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ، وَلَكِنْ مَا الْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ الْقَلِيلَةِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ اخْتِيَارَ مَا الْمَصْلَحَةُ فِيهِ أَوْ خَيَّرَهُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ كَلَّفَهُ مَا لَا يُطَاقُ ; حَيْثُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ اخْتِيَارَ الْمَصْلَحَةِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَهُوَ مُحَالٌ عَلَى الشَّارِعِ ; لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِذْنِ مِنْهُ فِي فِعْلِ الْمَفْسَدَةِ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنِ الْعَدْلِ. قُلْنَا: إِنْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ اخْتِيَارَ الْمَصْلَحَةِ وَإِنْ كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَإِنْ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِمَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ مِنَ الْأَمَارَةِ الظَّنِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُخْطِئًا مُرْتَكِبًا لِلْمَفْسَدَةِ كَمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ، وَإِذَا جَازَ إِيجَابُ فِعْلِ مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِهِ جَازَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الْمُكَلَّفِ بِذَلِكَ. (1)   (1) مُقْتَضَى مَا قَبْلَهُ أَنْ يَقُولَ: وَإِذَا جَازَ إِيجَابُ مَا قَدْ يَكُونُ مَفْسَدَةً فِي الْوَاقِعِ لِظَنِّ الْمُكَلَّفِ أَوْ عِلْمِهِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ جَازَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ وَمَا هُوَ مَفْسَدَةٌ لِظَنِّ الْمُكَلَّفِ أَوْ عِلْمِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُفْضِي إِلَى الْمَصْلَحَةِ عَلَى السَّوَاءِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 [الْمَسْأَلَةُ الحادية عشرة الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ هل يجَوزِ الْخَطَإِ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ] الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْخَطَإِ عَلَيْهِ فِي اجْتِهَادِهِ، فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا وَالْحَنَابِلَةُ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالْجُبَّائِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ إِلَى جَوَازِهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُقَرَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ وَدَلِيلُهُ الْمَنْقُولُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا الْمَنْقُولُ: فَمِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى خَطَئِهِ فِي إِذْنِهِ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُفَادَاةِ فِي يَوْمِ بَدْرٍ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ لَمَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ» " (2) لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ وَنَهَى عَنِ الْمُفَادَاةِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى خَطَئِهِ فِي الْمُفَادَاةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} (3) أَثْبَتَ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَقَدْ جَازَ الْخَطَأُ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ جَائِزًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مَا جَازَ عَلَى أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ يَكُونُ جَائِزًا عَلَى الْآخَرِ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ وَإِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ   (1) سَبَقَ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ فِي جُزْئِيَّاتٍ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الشَّاطِبِيُّ فِي الْمُوَافَقَاتِ اجْتِهَادًا عَامًّا، وَلَيْسَ اجْتِهَادًا فِي تَأْسِيسِ تَشْرِيعٍ وَإِفْشَاءِ قَوَاعِدَ تُعْتَبَرُ مِنْهَاجًا، وَهَذَا مَا يُسَمِّيهِ الشَّاطِبِيُّ اجْتِهَادًا خَاصًّا، وَكَذَا الْكَلَامُ فِيمَا يَأْتِي بَعْدُ. (2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 166 ج 4. (3) لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ إِثْبَاتَ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْبَشَرِيَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى جَوَازِ الْخَطَأِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ، فَإِنَّ لَهُ خَوَاصَّ انْفَرَدَ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ الْمِلْكِيَّةِ عَنْهُ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَى ذَلِكَ، فَالْحَصْرُ إِضَافِيٌّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 مَالِ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» " (1) ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَقْضِي بِمَا لَا يَكُونُ حَقًّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: " «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي» ". وَأَيْضًا مَا اشْتُهِرَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ نِسْيَانِهِ فِي الصَّلَاةِ وَتَحَلُّلِهِ عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي الرُّبَاعِيَّةِ فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ وَقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ: " «أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ سَهَوْتَ؟ " فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ» ". (2) وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَإِنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ وُقُوعُ الْخَطَإِ مِنْهُ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِذَاتِهِ، أَوْ لِأَمْرٍ مِنْ خَارِجٍ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ ; لَوْ فَرَضْنَاهُ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ الْمُحَالُ لِذَاتِهِ عَقْلًا (3) ، وَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَعَلَى مُدَّعِيهِ بَيَانُهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مَعَارَضٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ حُكْمِهِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِي حُكْمِهِ لَكُنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ الْخَطَإِ، وَالشَّارِعُ لَا يَأْمُرُ بِالْخَطَإِ. (4) الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّةَ إِذَا أَجْمَعَتْ عَلَى حُكْمٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ كَانَ إِجْمَاعُهُمْ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَإِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَلَوْ جَازَ عَلَى النَّبِيِّ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ لَكَانَتِ الْأُمَّةُ أَعْلَى رُتْبَةٍ مِنْهُ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.   (1) تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ تَعْلِيقًا ص 173 ج 4. (2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، إِلَّا أَنَّ الْآمِدِيَّ اقْتَصَرَ عَلَى مَحَلِّ الشَّاهِدِ مِنْهُ وَتَصَرَّفَ فِي لَفْظِهِ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ فِي تَلْخِيصِهِ إِنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقًا كَثِيرَةً وَأَلْفَاظًا مُخْتَلِفَةً جَمَعَهَا الْحَافِظُ صَلَاحُ الدِّينِ الْعَلَائِيُّ وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا. (3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا ص 137 ج 4. (4) إِنَّمَا يَلْزُمُ أَمْرُنَا بِمَا أَخْطَأَ فِيهِ وَالتَّرَدُّدُ فِيمَا جَاءَ بِهِ لَوْ أُقِرَّ عَلَى خَطَئِهِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَا يُقِرُّهُ عَلَى خَطَئِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَعْثَةِ وَإِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ اتِّبَاعُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِقَامَةً لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ، فَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأُ فِي حُكْمِهِ لَأَوْجَبَ ذَلِكَ التَّرَدُّدَ فِي قَوْلِهِ وَالشَّكَّ فِي حُكْمِهِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُخِلُّ بِمَقْصُودِ الْبَعْثَةِ وَهُوَ مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ أَمْرُ الشَّارِعِ لِلْعَامِّيِّ بِاتِّبَاعِ قَوْلِ الْمُفْتِي مَعَ جَوَازِ خَطَئِهِ، فَمَا هُوَ جَوَابٌ لَهُمْ فِي صُورَةِ الْإِلْزَامِ فَهُوَ جَوَابٌ لَنَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَعَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي: أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ مَنَعَ مِنْ تَصَوُّرِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الِاجْتِهَادِ فَضْلًا عَنْ وُقُوعِهِ وَامْتِنَاعِ الْخَطَأِ فِيهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ وَجَوَّزَ مَعَ ذَلِكَ مُخَالَفَتَهُ لِإِمْكَانِ الْخَطَإِ فِيهِ، كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ. وَبِتَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنِ الِاجْتِهَادِ وَامْتِنَاعِ الْخَطَإِ فِيهِ، فَلَا مَانِعَ مِنْهُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عُلُوُّ رُتْبَةِ الْأُمَّةِ عَلَى رُتْبَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِالرِّسَالَةِ وَكَوْنِ عِصْمَةِ الْإِجْمَاعِ مُسْتَفَادَةً مِنْ قَوْلِهِ، وَأَنَّهُ الشَّارِعُ الْمُتَّبَعُ، وَأَهْلُ الْإِجْمَاعِ مُتَّبِعُونَ لَهُ وَمَأْمُورُونَ بِأَوَامِرِهِ وَمَنْهِيُّونَ بِنَوَاهِيهِ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبَعْثَةِ إِنَّمَا هُوَ تَبْلِيغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ إِظْهَارُ صِدْقِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنَ الرِّسَالَةِ وَالتَّبْلِيغِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ خَطَؤُهُ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا كَذَلِكَ مَا يَحْكُمُ بِهِ عَنِ اجْتِهَادِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ مَا يَقُولُهُ فِيهِ عَنْ وَحْيٍ وَلَا بِطْرِيقِ التَّبْلِيغِ، بَلْ حُكْمُهُ فِيهِ حُكْمُ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَتَطَرُّقُ الْخَطَإِ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِمَعْنَى الْبَعْثَةِ وَالرِّسَالَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ النَّافِي هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَوْ لَا] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ اخْتَلَفُوا فِي النَّافِي هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَوْ لَا؟ . مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ أَوِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ فِي الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ دُونَ الشَّرْعِيَّةِ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ النَّافِيَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَافِيًا بِمَعْنَى ادِّعَائِهِ عَدَمَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَظَنِّهِ، أَوْ مُدَّعِيًا لِلْعِلْمِ أَوِ الظَّنِّ بِالنَّفْيِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَالْجَاهِلُ لَا يُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ عَلَى جَهْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُطَالَبُ عَلَى دَعْوَاهُ أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ أَلَمًا وَلَا جُوعًا وَلَا حَرًّا وَلَا بَرْدًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْعِلْمَ بِنَفْيِ مَا نَفَاهُ ضَرُورَةً، أَوْ لَا بِطْرِيقِ الضَّرُورَةِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي دَعْوَى الضَّرُورَةِ، فَالضَّرُورِيُّ لَا يُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَادِقًا فِي دَعْوَاهُ الضَّرُورَةَ فَلَا يُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ مَا ادَّعَى حُصُولَهُ لَهُ عَنْ نَظَرٍ، وَيَكْفِي الْمَنْعُ فِي انْقِطَاعِهِ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يُقَدِّرُ الضَّرُورَةَ فِي ذَلِكَ، وَالنَّظَرُ غَيْرُ مُدَّعٍ لَهُ، وَإِنِ ادَّعَى الْعِلْمَ بِنَفْيِهِ لَا بِطْرِيقِ الضَّرُورَةِ فَلَا يَخْلُو: إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ حَصَلَ لَهُ بِطَرِيقٍ مُفْضٍ إِلَيْهِ، أَوْ يَكُونَ بِطْرِيقٍ مُفْضٍ إِلَيْهِ، لَا جَائِزَ أَنْ يُقَالَ بِالْأَوَّلِ ; لِأَنَّ حُصُولَ عِلْمٍ غَيْرِ ضَرُورِيٍّ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ يُفْضِي إِلَيْهِ مُحَالٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَلَا بُدَّ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةِ بِدَلِيلِهَا مِنْ ذِكْرِهِ وَكَشْفِهِ لِيَنْظُرَ فِيهِ، وَإِلَّا كَانَ قَدْ كَتَمَ عِلْمًا نَافِعًا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِظْهَارِهِ، وَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا نَافِعًا فَقَدْ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» " وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ فِي دَعْوَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ (1) ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَى مُدَّعِي الْإِثْبَاتِ ذِكْرُ الدَّلِيلِ، فَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى النَّفْيِ، كَيْفَ وَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ مَنِ ادَّعَى الْوَحْدَانِيَّةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَقِدَمَهُ (2)   (1) فِي دَعْوَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ - لَعَلَّهُ بَيْنَ دَعْوَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ. (2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 12 ج1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ، وَإِنْ كَانَ حَاصِلُ دَعْوَى الْوَحْدَانِيَّةِ نَفْيَ الشَّرِيكِ وَحَاصِلُ دَعْوَى الْقِدَمِ نَفْيَ الْحُدُوثِ وَالْأَوَّلِيَّةِ، وَلِهَذَا نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَفْيِ آلِهَةٍ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى الدَّلِيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} الْآيَةَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَاذَا تَقُولُونَ فِيمَا إِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَلَمْ تَقُمْ عَلَى دَعْوَاهُ بَيِّنَةٌ، هَلْ يَلْزَمُ الْمُنْكِرِينَ لِنُبُوَّتِهِ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ أَوْ لَا يَلْزَمُ. وَكَذَلِكَ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ أَوْ صَوْمِ شَوَّالٍ أَوِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَقٍّ إِذَا أَنْكَرَ مَا ادُّعِيَ عَلَيْهِ بِهِ، هَلْ يَلْزَمُهُ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى مَا نَفَاهُ أَوْ لَا؟ إِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ فَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي مَعَ كَوْنِهِ نَافِيًا فِي قَضِيَّةٍ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ فَقَدْ سَلَّمْتُمْ مَحَلَّ النِّزَاعِ. قُلْنَا: النَّفْيُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَمْ يَخْلُ عَنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُكْتَفَى بِظُهُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ مَعَ عَدَمِ الْقَاطِعِ لَهُ، وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ، وَعَلَى وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ وَشَغْلِ الذِّمَّةِ. وَإِذَا قِيلَ: إِنِ النَّافِيَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَالدَّلِيلُ الْمُسَاعِدُ فِي ذَلِكَ إِمَّا نَصٌّ وَارِدٌ مِنَ الشَّارِعِ يَدُلُّ عَلَى النَّفْيِ أَوْ إِجْمَاعٌ مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِمَّا التَّمَسُّكُ بِاسْتِصْحَابِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، وَعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُغَيِّرِ الْقَاطِعِ، وَإِمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ. وَهَلْ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى النَّفْيِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ (1) بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ قِيَاسِ الْعِلَّةِ وَالدَّلَالَةِ، وَالْقِيَاسُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ.   (1) هَكَذَا فِي الْمَطْبُوعَةِ، وَعِبَارَةُ الْمَخْطُوطَةِ " اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَا فَرْقَ. . . إِلَخْ، فَلْيُنْظَرْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 [الْبَابُ الثَّانِي فِي التَّقْلِيدِ وَالْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي وَمَا فِيهِ الِاسْتِفْتَاءُ وَمَا يَتَشَعَّبُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ] الْبَابُ الثَّانِي فِي التَّقْلِيدِ وَالْمُفْتِي وَالْمُسْتَفْتِي، وَمَا فِيهِ الِاسْتِفْتَاءُ، وَمَا يَتَشَعَّبُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ. أَمَّا (التَّقْلِيدُ) فَعِبَارَةٌ عَنِ الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ مُلْزِمَةٍ (1) وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ تَقْلِيدِهِ بِالْقِلَادَةِ وَجَعْلِهَا فِي عُنُقِهِ، وَذَلِكَ كَالْأَخْذِ بِقَوْلِ الْعَامِّيِّ، وَأَخْذِ الْمُجْتَهِدِ بِقَوْلِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ (2) وَعَلَى هَذَا فَالرُّجُوعُ إِلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعَصْرِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَرُجُوعُ الْعَامِّيِّ إِلَى قَوْلِ الْمُفْتِي، وَكَذَلِكَ عَمَلُ الْقَاضِي بِقَوْلِ الْعُدُولِ لَا يَكُونُ تَقْلِيدًا (3) لِعَدَمِ عَرُوِّهِ عَنِ الْحُجَّةِ الْمُلْزِمَةِ. أَمَّا فِي قَبُولِ قَوْلِ الرَّسُولِ فَمَا دَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَصْدِيقِهِ مِنَ الْمُعْجِزَةِ، وَوُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِ الْإِجْمَاعِ قَوْلُ الرَّسُولِ، وَوُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدَيْنِ الْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ (4) وَإِنْ سُمِّيَ ذَلِكَ تَقْلِيدًا، فَلَا مُشَاحَّةَ فِي اللَّفْظِ. (5)   (1) انْظُرْ ص 260 مِنْ ج19 وَص 15 مِنْ ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى، وَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ عَلَى التَّقْلِيدِ وَمُنَاظَرَةٌ بَيْنَ مُقَلِّدٍ وَصَاحِبِ حُجَّةٍ فِي ج2 مِنْ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ. (2) أَخْذُ الْعَامِّيِّ بِقَوْلِ الْعَامِيِّ تَقْلِيدٌ مُحَرَّمٌ، وَأَخْذُ مُجْتَهِدٍ فِي مَسْأَلَةٍ عَلِمَ حُكْمَهَا بِقَوْلِ مِثْلِهِ فِيهَا مُحَرَّمٌ، وَأَخْذُهُ بِقَوْلِ مِثْلِهِ فِي مَسْأَلَةٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ حُكْمَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَكَلَامُ الْآمِدِيِّ هُنَا مُجْمَلٌ، وَسَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ لِذَلِكَ. (3) الظَّاهِرُ أَنَّ رُجُوعَ الْعَامِّيِّ لِقَوْلِ الْمُفْتِي تَقْلِيدٌ، وَالظَّاهِرُ جَوَازُهُ لِمَنْ عَجَزَ عَنِ الدَّلِيلِ، أَمَّا عَمَلُ الْحَاكِمِ بِقَوْلِ الْعُدُولِ فَهُوَ تَحْقِيقُ مَنَاطِ الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَتَطْبِيقُهَا عَلَى الْقَضَايَا الْجُزْئِيَّةِ، وَيُسَمَّى الِاجْتِهَادَ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ وَيَكُونُ مِنَ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ. (4) وَوُجُوبِ قَبُولِ الْإِجْمَاعِ قَوْلُ الرَّسُولِ. . . . إِلَخْ فِي الْعِبَارَةِ تَحْرِيفٌ أَوْ تَسَامُحٌ فِي التَّعْبِيرِ وَلَعَلَّ الْأَصْلَ: " وَأَمَّا فِي وُجُوبِ قَبُولِ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ فَقَوْلُ الرَّسُولِ، وَأَمَّا فِي وُجُوبِ قَبُولِ قَوْلِ الْمُفْتِي وَالشَّاهِدَيْنِ فَالْإِجْمَاعُ ". (5) لَيْسَ هَذَا مُجَرَّدَ اخْتِلَافٍ فِي الْعِبَارَةِ وَالِاصْطِلَاحِ، بَلِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ حَقَائِقِ مَدْلُولَاتِ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ يَتْبَعُهُ اخْتِلَافٌ فِي حُكْمِ بَعْضِهَا وَاتِّفَاقٌ عَلَى حُكْمِ بَعْضٍ آخَرَ كَمَا سَيَجِيءُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وَأَمَّا (الْمُفْتِي) فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَأَدِلَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ لَهُ صَانِعًا، وَأَنَّهُ وَاحِدٌ مُتَّصِفٌ بِمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ، مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ وَالْخَلَلِ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَيَّدَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِي رِسَالَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ عَارِفًا بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ وَأَنْوَاعِهَا وَاخْتِلَافِ مَرَاتِبِهَا فِي جِهَاتِ دَلَالَاتِهَا، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْهَا، وَالْمُتَعَارِضَاتِ، وَجِهَاتِ التَّرْجِيحِ فِيهَا، وَكَيْفِيَّةِ اسْتِثْمَارِ الْأَحْكَامِ مِنْهَا عَلَى مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَأَنْ يَكُونَ عَدْلًا ثِقَةً حَتَّى يُوثَقَ بِهِ فِيمَا يُخْبِرُ عَنْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِلْإِرْشَادِ وَهِدَايَةِ الْعَامَّةِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا بِجِهَةِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، مُتَّصِفًا بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ؛ لِيَرْغَبَ الْمُسْتَمِعُ فِي قَبُولِ مَا يَقُولُ، كَافًّا نَفْسَهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، حَذِرًا مِنَ التَّنْفِيرِ عَنْهُ. وَأَمَّا (الْمُسْتَفْتِي) فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا قَدْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدِ اجْتَهَدَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِهِ فِي خِلَافِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدِ اجْتَهَدَ فِيهَا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ اتِّبَاعِهِ لِغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِيمَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ بِجِهَةِ التَّفْصِيلِ وَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ. (1) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا صِرْفًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْعُلُومِ الَّتِي يَتَرَقَّى بِهَا إِلَى رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ تَرَقَّى عَنْ رُتْبَةِ الْعَامَّةِ بِتَحْصِيلِ بَعْضِ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ اتِّبَاعِهِ لِقَوْلِ الْمُفْتِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّ وَظِيفَتَهُ اتِّبَاعُ قَوْلِ الْمُفْتِي عَلَى مَا يَأْتِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَقَدْ تُرُدِّدَ أَيْضًا فِيهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَامِّيِّ. وَأَمَّا مَا فِيهِ (الِاسْتِفْتَاءُ) فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقَضَايَا الْعِلْمِيَّةِ، أَوِ الظَّنِّيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدِ اخْتُلِفَ أَيْضًا فِي جَوَازِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الْغَيْرِ فِيهِ. وَالْحَقُّ امْتِنَاعُهُ كَمَا يَأْتِي، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَهُوَ الْمَخْصُوصُ بِجَوَازِ الِاسْتِفْتَاءِ عَنْهُ وَوُجُوبِ اتِّبَاعِ قَوْلِ الْمُفْتِي. وَإِذْ أَتَيْنَا عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فَلْنَرْجِعْ إِلَى الْمَسَائِلِ الْمُتَشَعِّبَةِ عَنْهُ وَهِيَ ثَمَانٌ:   (1) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ التَّاسِعَةَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 [الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى التَّقْلِيدِ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ فِي وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالِاعْتِقَادِ فِي وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا يَجِبُ لَهُ، وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ. فَذَهَبَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ (1) ، وَالْحَشْوِيَّةُ (2) ، إِلَى جَوَازِهِ، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَإِنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ حَرَامٌ. وَذَهَبَ الْبَاقُونَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّظَرَ وَاجِبٌ، وَفِي التَّقْلِيدِ تَرْكُ الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ، وَدَلِيلُ وُجُوبِهِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «وَيْلٌ لِمَنْ لَاكَهَا بَيْنَ لِحْيَيْهِ وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» " (3) تَوَعُّدٌ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهَا، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْإِجْمَاعَ مِنَ السَّلَفِ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَالتَّقْلِيدُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ مُحَصِّلٌ لِلْمَعْرِفَةِ أَوْ غَيْرُ مُحَصِّلٍ لَهَا، الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مُحَصِّلٌ لِلْمَعْرِفَةِ مُمْتَنِعٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُفْتِيَ بِذَلِكَ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَمَنْ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا وَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ وَاجِبَ الصِّدْقِ، وَمَا لَا يَكُونُ وَاجِبَ الصِّدْقِ فَخَبَرُهُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ يُفِيدُ الْعِلْمَ لَكَانَ الْعِلْمُ حَاصِلًا لِمَنْ قَلَّدَ فِي حُدُوثِ   (1) الْعَنْبَرِيُّ - تَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ ص 178 ج 4. (2) انْظُرِ الْحَشْوِيَّةَ - ص 171 ج1. (3) ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) " آلِ عِمْرَانَ "، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي كِتَابِهِ (الْكَافِي الشَّافِي فِي تَخْرِيجِ أَحَادِيثِ الْكَشَّافِ) : رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الرُّومِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَنَابٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَيْحٌ لِمَنْ لَاكَهَا بَيْنَ لِحْيَيْهِ ثُمَّ لَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا ". وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ: " لَمَّا نَزَلَتْ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) " آلِ عِمْرَانَ "، قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهُنَّ وَلَمْ يَتَدَبَّرْهُنَّ وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ ". انْظُرِ الْكَوْكَبَ الْمُنِيرَ لِلْفُتُوحِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 الْعَالَمِ، وَلِمَنْ قَلَّدَ فِي قِدَمِهِ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ كَوْنِ الْعَالَمِ حَادِثًا وَقَدِيمًا. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّقْلِيدُ مُفِيدًا لِلْعَمَلِ فَالْعِلْمُ بِذَلِكَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا أَوْ نَظَرِيًّا، لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ ضَرُورِيًّا، وَإِلَّا لَمَا خَالَفَ فِيهِ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَلَا الْإِنْسَانُ وَدَوَاعِي نَفْسِهِ مِنْ مَبْدَأِ نَشْئِهِ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَصْلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُفْضِي إِلَيْهِ، فَمَنِ ادَّعَاهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيَانِهِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الْوُجُوهِ الْأُوَلِ: أَنَّ التَّقْلِيدَ مَذْمُومٌ شَرْعًا، فَلَا يَكُونُ جَائِزًا، غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَا ذَلِكَ فِي وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْعَامِّيِّ لِلْمُجْتَهِدِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الصُّوَرِ فِيمَا سَبَقَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلِاتِّبَاعِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَنَبْقَى عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ، وَبَيَانُ ذَمِّ التَّقْلِيدِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمٍ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ وَاجِبٍ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَدَلِيلُ النَّهْيِ عَنْهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} وَالنَّظَرُ يُفْضِي إِلَى فَتْحِ بَابِ الْجِدَالِ، فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنَّهُ نَهَى الصَّحَابَةَ لَمَّا رَآهُمْ يَتَكَلَّمُونَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَدَرِ وَقَالَ: " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ لِخَوْضِهِمْ فِي هَذَا» " (1) ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ» " (2) وَهُوَ تَرْكُ النَّظَرِ، وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ وَاجِبًا لَمَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ.   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ وَالنَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِي الْقَدَرِ قَالَ: فَكَأَنَّمَا تَفَقَّأَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ مِنَ الْغَضَبِ قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ: مَا لَكُمْ تَضْرِبُونَ كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، بِهَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ. . . إِلَخْ. (2) لَا أَصْلَ لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ رَوَى الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: " إِذَا كَانَ آخِرُ الزَّمَانِ وَاخْتَلَفَتِ الْأَهْوَاءُ فَعَلَيْكُمْ بَدِينِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالنِّسَاءِ "، وَفِي سَنَدِهِ مُحَمَّدُ بْنُ الدَّيْلَمَانِيِّ؛ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَالَ الْقَارِيُّ وَالصَّغَانِيُّ: مَوْضُوعٌ. انْظُرِ (الْجَامِعَ الصَّغِيرَ) لِلسُّيُوطِيِّ، وَ (كَشْفَ الْخَفَاءِ) لِلْعَجْلُونِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 الثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ الْخَوْضُ وَالنَّظَرُ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ مُطْلَقًا، وَلَوْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُمْ لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ عَنْهُمُ النَّظَرُ فِي الْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَلَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ وَاجِبًا لَكَانُوا أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَى زَمَنِنَا هَذَا الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ مِنَ الْعَوَامِّ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ، مَعَ أَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْخَلْقِ، بَلْ كَانُوا حَاكِمِينَ بِإِسْلَامِهِمْ مُقِرِّينَ لَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ النَّظَرُ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبًا، فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْعَارِفِ، أَوْ عَلَى غَيْرِ الْعَارِفِ؛ الْأَوَّلُ: مُحَالٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلٍ. وَالثَّانِي: يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَاجِبًا، ضَرُورَةُ تَوَقُّفِ النَّظَرِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَوَقُّفُ مَعْرِفَةِ إِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِهِ، وَمَعْرِفَةِ ذَاتِهِ عَلَى النَّظَرِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى إِيجَابِهِ وَهُوَ دَوْرٌ. الْمُعَارَضَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ وَاضْطِرَابِ الْآرَاءِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الضَّلَالِ، بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ، فَكَانَ سُلُوكُ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى السَّلَامَةِ أَوْلَى، وَلِهَذَا صَادَفْنَا أَكْثَرَ الْخَلْقِ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّ أَدِلَّةَ الْأُصُولِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الْغُمُوضِ وَالْخَفَاءِ أَشَدُّ مِنْ أَدِلَّةِ الْفُرُوعِ، فَإِذَا جَازَ التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ مَعَ سُهُولَةِ أَدِلَّتِهَا، دَفْعًا لِلْحَرَجِ، فَلِأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ أَوْلَى. الرَّابِعَةُ: أَنَّ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ قَدِ اسْتَوَيَا فِي التَّكْلِيفِ بِهِمَا، وَقَدْ جَازَ التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ فَكَذَلِكَ فِي الْأُصُولِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى بِمَنْعِ النَّهْيِ عَنِ النَّظَرِ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا إِنَّمَا هُوَ الْجِدَالُ بِالْبَاطِلِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} دُونَ الْجِدَالِ بِالْحَقِّ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 وَلَوْ كَانَ الْجِدَالُ بِالْحَقِّ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَمَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ، ثُمَّ كَيْفَ يَكُونُ النَّظَرُ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاظِرِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَوْرَدَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ مَمْدُوحًا عَلَيْهِ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي الْقَدَرِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «عَلَيْكُمْ بِدِينِ الْعَجَائِزِ» " لَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ يَصِحَّ (1) ، وَإِنْ صَحَّ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى التَّفْوِيضِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا قَضَاهُ وَأَمْضَاهُ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. قَوْلُهُمْ: (لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ) يَلْزَمُ مِنْهُ نِسْبَةُ الصَّحَابَةِ إِلَى الْجَهْلِ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ كَوْنِ الْوَاحِدِ مِنَّا عَالِمًا بِذَلِكَ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِذَا كَانُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ فَلَيْسَ الْعِلْمُ بِذَلِكَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَتَعَيَّنَ إِسْنَادُهُ إِلَى النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُنْقَلْ عَنْهُمُ الْمُنَاظَرَةُ فِي ذَلِكَ لِصَفَاءِ أَذْهَانِهِمْ وَصِحَّةِ عَقَائِدِهِمْ وَعَدَمِ مَنْ يُحْوِجُهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَحَيْثُ نُقِلَ عَنْهُمْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَلِكَوْنِهَا اجْتِهَادِيَّةً، وَالظُّنُونُ فِيهَا مُتَفَاوِتَةٌ بِخِلَافِ الْمَسَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ. (2) قَوْلُهُمْ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ لَمْ يُنْكِرُوا عَلَى الْعَامَّةِ تَرْكَ النَّظَرِ.   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 224 - ج4. (2) كَانَ الصَّحَابَةُ أَعْرَفَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَأَبْعَدَ نَظَرًا وَأَدَقَّ فَهْمًا فِي نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ لِصَفَاءِ أَذْهَانِهِمْ وَمَكَانِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فِي التَّوْحِيدِ وَلَا فِي مَسَائِلِهِ لِرُجُوعِهِمْ إِلَى الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الصَّرِيحَةِ وَنُصُوصِ الشَّرِيعَةِ الصَّحِيحَةِ، وَبُعْدِهِمْ عَنْ مَوَارِدِ الشُّبَهِ وَمَنَازِعِ الْأَهْوَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّفُوا الْكَلَامَ فِي تَفَاصِيلَ لَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إِلَى الْبَحْثِ فِيهَا، وَلَا خَاضُوا فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ مِنَ الْمَسَائِلِ مِثْلِ: الْوُجُودُ عَيْنُ الْمَوْجُودِ أَوْ غَيْرُهُ، وَالصِّفَةُ عَيْنُ الْمَوْصُوفِ أَوْ غَيْرُهُ، وَرُؤْيَةُ الْخَلْقِ لِرَبِّهِمْ بِكَيْفٍ أَوْ لَا، وَفِي جِهَةٍ أَوْ لَا، وَتَعْرِيفِ الزَّمَانِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَبَقَاءِ الْعَرَضِ زَمَانَيْنِ، إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا تَكَلَّفَ الْقَوْلَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْبَاحِثِينَ بَعْدَهُمْ، فَأَوْرَثَهُمْ حَيْرَةً وَحَادَ بِهِمْ عَنِ الْجَادَّةِ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي تَفَاصِيلِ الْفُرُوعِ لِوُقُوعِهَا وَضَرُورَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ مِنْهَا لِلْإِجْمَالِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَلِلتَّفَاوُتِ فِي الْبَلَاغِ وَالْفَهْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَاتَّفَقُوا فِي مَسَائِلَ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا الْمُقْتَضِي لِلْخِلَافِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 قُلْنَا: إِنَّمَا لَمْ يُنْكِرُوا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَتْ حَاصِلَةً لَهُمْ، وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ بِالدَّلِيلِ مِنْ جِهَةِ الْجُمْلَةِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ. قَوْلُهُمْ: (إِنَّ وُجُوبَ النَّظَرِ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُوبُ الْجَهْلِ بِاللَّهِ تَعَالَى) إِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ الْجَهْلُ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، وَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ. قَوْلُهُمْ: (يَلْزَمُ مِنْهُ الدَّوْرُ) لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ الشَّرْعِيَّ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى النَّظَرِ، كَمَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ شُكْرِ الْمُنْعِمِ. قَوْلُهُمْ: (إِنَّ النَّظَرَ مَظِنَّةُ الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ وَالتَّرَدِّي فِي الضَّلَالَاتِ) قُلْنَا: فَاعْتِقَادُ مَنْ يُقَلِّدُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ تَقْلِيدٍ أَوْ نَظَرٍ، ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَالْكَلَامُ فِيمَنْ قَلَّدَهُ كَالْكَلَامِ فِيهِ، وَهُوَ تَسَلْسُلٌ مُمْتَنِعٌ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَالْمَحْذُورُ اللَّازِمُ مِنَ النَّظَرِ لَازِمٌ فِي التَّقْلِيدِ مَعَ زِيَادَةٍ، وَهُوَ احْتِمَالُ كَذِبِ مَنْ قَلَّدَهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ، بِخِلَافِ النَّاظِرِ مَعَ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُكَابِرُ نَفْسَهُ فِيمَا أَدَّى إِلَيْهِ نَظَرُهُ. قَوْلُهُمْ: إِنَّ التَّقْلِيدَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ. قُلْنَا: ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى السَّلَامَةِ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْعَقَائِدِ الْمُضِلَّةِ أَكْثَرُ مِنَ الصَّحِيحَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ نَاجِيَةٌ وَالْبَاقِي فِي النَّارِ» " وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْحَقِّ دَقِيقَةٌ غَامِضَةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا سِوَى أَصْحَابِ الْأَذْهَانِ الصَّافِيَةِ وَالْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ، مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَنْدُرُ وَيَقِلُّ وُقُوعُهُ. (1)   (1) أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ وَإِنْ كَانَتْ دَقِيقَةً إِلَّا أَنَّهَا وَاضِحَةٌ فِي الْمُرَادِ مِنْهَا، مَيْسُورَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا وَرَدَّ مُتَشَابِهَهَا إِلَى مُحْكَمِهَا، وَمُجْمَلَهَا إِلَى مُفَصَّلِهَا، قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) ، وَفِي الْحَدِيثِ: " تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ "، وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَعْذِرَ إِلَى عِبَادِهِ بِتَشْرِيعٍ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا النَّذْرُ الْقَلِيلُ مِنْهُمْ، وَلَا لِيُكَلِّفَهُمْ بِمَا فِي فَهْمِهِ عَنَتٌ وَحَرَجٌ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ الْوَدُودُ الرَّحِيمُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَمَا كَانَ رَسُولُهُ لِيَلْغُزَ فِي بَلَاغِهِ وَلَا لِيُعْمِيَ فِي تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُمْ بَيَانًا وَأَرْحَمُهُمْ بِأُمَّتِهِ، وَإِنَّمَا أُتِيَ النَّاسُ مِنْ قِبَلِ الشَّرَهِ الْفِكْرِيِّ، وَدُخُولِهِمْ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَاتِّبَاعِهِمْ لِمُتَشَابِهِ النُّصُوصِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَاتِّبَاعًا لِلْهَوَى وَالْوَهْمِ وَالْخَيَالِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 قَوْلُهُمْ: (إِنَّ أَدِلَّةَ الْأُصُولِ أَخْفَى فَكَانَ التَّقْلِيدُ فِيهَا أَوْلَى مِنَ الْفُرُوعِ) لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ فِي الْأُصُولِ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ الْفُرُوعِ، فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا الظَّنُّ وَهُوَ حَاصِلٌ مِنَ التَّقْلِيدِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فِي الْفُرُوعِ جَوَازُهُ فِي الْأُصُولِ. (1) وَبِهِ يَكُونُ الْجَوَابُ عَنِ الْمُعَارَضَةِ الْأَخِيرَةِ أَيْضًا. [الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْأَخْذُ بِفَتْوَاهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ الْعَامِّيُّ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَ مُحَصِّلًا لِبَعْضِ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الِاجْتِهَادِ يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُ قَوْلِ الْمُجْتَهِدِينَ وَالْأَخْذُ بِفَتْوَاهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ. وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ مُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ اجْتِهَادِهِ بِدَلِيلِهِ. وَنُقِلَ عَنِ الْجُبَّائِيِّ أَنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ دُونَ غَيْرِهَا كَالْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} وَهُوَ عَامٌّ لِكُلِّ الْمُخَاطَبِينَ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَامًّا فِي السُّؤَالِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُعْلَمُ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ (2) وَإِلَّا كَانَ مُتَنَاوِلًا لِبَعْضِ مَا لَا يُعْلَمُ بِعَيْنِهِ أَوْ لَا بِعَيْنِهِ. . .، وَالْأَوَّلُ غَيْرُ مَأْخُوذٍ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَالثَّانِي يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْصِيصُ مَا فُهِمْ مِنْ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ، وَهُوَ طَلَبُ الْفَائِدَةِ بِبَعْضِ الصُّوَرِ دُونَ الْبَعْضِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ عَامًّا فِي الْأَشْخَاصِ وَفِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَأَدْنَى دَرَجَاتِ قَوْلِهِ: (فَاسْأَلُوا) الْجَوَازُ، وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْخُصُومِ.   (1) الْمَطْلُوبُ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ يَتَفَاوَتُ فِي نَظَرِ الْبَاحِثِ حَسَبَ تَفَاوُتِ الْبَلَاغِ وَالْفَهْمِ، فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ ضَرُورِيًّا لَمْ يُعْذَرْ فِيهِ مَنْ بَلَّغَهُ، وَمَا كَانَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالُ طَلَبِ كُلٍّ بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْفُرُوعُ وَالْأُصُولُ. (2) قَارِنْ بَيْنَ اسْتِدْلَالِهِ بِالْآيَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَرَأْيِهِ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ تَزَلِ الْعَامَّةُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ قَبْلَ حُدُوثِ الْمُخَالِفِينَ يَسْتَفْتُونَ الْمُجْتَهِدِينَ وَيَتْبَعُونَهُمْ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ يُبَادِرُونَ إِلَى إِجَابَةِ سُؤَالِهِمْ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ إِلَى ذِكْرِ الدَّلِيلِ، وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ اتِّبَاعِ الْعَامِّيِّ لِلْمُجْتَهِدِ مُطْلَقًا. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ إِذَا حَدَثَتْ بِهِ حَادِثَةٌ فَرْعِيَّةٌ. إِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَعَبِّدًا بِشَيْءٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِشَيْءٍ فَإِمَّا بِالنَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ، أَوْ بِالتَّقْلِيدِ، الْأَوَّلُ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُفْضِي فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْخَلْقِ أَجْمَعَ إِلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْحَوَادِثِ وَالِاشْتِغَالِ عَنِ الْمَعَايِشِ وَتَعْطِيلِ الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ وَخَرَابِ الدُّنْيَا وَتَعْطِيلِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ وَرَفْعِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ رَأْسًا، وَهُوَ مِنَ الْحَرَجِ وَالْإِضْرَارِ الْمَنْفِيِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» " (1) وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ حَرَجٍ وَضِرَارٍ، ضَرُورَةُ كَوْنِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ. غَيْرَ أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنَ الْفَرْقِ فِي مَسْأَلَةِ امْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ فِي أُصُولِ الدِّينِ (2) ، وَلِأَنَّ الْوَقَائِعَ الْحَادِثَةَ الْفِقْهِيَّةَ أَكْثَرُ بِأَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ الَّتِي قِيلَ فِيهَا بِامْتِنَاعِ التَّقْلِيدِ، فَكَانَ الْحَرَجُ فِي إِيجَابِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا أَكْثَرَ، فَبَقِينَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ عَامِلِينَ بِقَضِيَّةِ الدَّلِيلِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَغَيْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وَالْقَوْلُ بِالتَّقْلِيدِ قَوْلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ.   (1) رَوَاهُ مَالِكٌ، وَعَنْهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ مُرْسَلًا، وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ الرَّازِقِ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي سَنَدِهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ مُتَّهَمٌ بِالْكَذِبِ، وَلَكِنْ يَشْهَدُ لِمَعْنَاهُ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. (2) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ ص 221 - ج4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ قَوْمٍ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِلتَّقْلِيدِ، وَالْمَذْمُومُ لَا يَكُونُ جَائِزًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» " (1) ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «اجْتَهِدُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» " (2) ، وَالنَّصَّانِ عَامَّانِ فِي الْأَشْخَاصِ وَفِي كُلِّ عِلْمٍ، وَهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى وُجُوبِ النَّظَرِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَامِّيَّ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا بِالتَّقْلِيدِ فَلَا يُأْمَنُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدَهُ مُخْطِئًا، وَأَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ، فَيَكُونُ الْعَامِّيُّ مَأْمُورًا بِاتِّبَاعِ الْخَطَإِ وَالْكَذِبِ، وَذَلِكَ عَلَى الشَّارِعِ مُمْتَنِعٌ. الثَّانِي: أَنَّ الْفُرُوعَ وَالْأُصُولَ مُشْتَرِكَةٌ فِي التَّكْلِيفِ بِهَا، فَلَوْ جَازَ التَّقْلِيدُ فِي الْفُرُوعِ لِمَنْ ظَهَرَ صِدْقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ لَجَازَ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُولَى: أَنَّهَا مُشْتَرِكَةُ الدَّلَالَةِ، فَإِنَّ النَّظَرَ أَيْضًا وَالِاجْتِهَادَ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ قَوْلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ. وَلَا بُدَّ مِنْ سُلُوكِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ امْتِنَاعِ أَحَدِهِمَا كَيْفَ وَيَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى مَا لَا يُعْلَمُ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ تَقْلِيلًا لِتَخْصِيصِ الْعُمُومِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ.   (1) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَعُثْمَانُ هَذَا قَالَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ: مَجْهُولٌ وَلَا يُقْبَلُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادٍ إِلَّا مَا رَوَاهُ عَنْهُ الْقُدَمَاءُ شُعْبَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالدَّسْتَوَائِيُّ وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ رَوَوْا عَنْهُ بَعْدَ الِاخْتِلَاطِ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَفِي سَنَدِهِ يَحْيَى بْنُ هَاشِمٍ السِّمْسَارُ كَذَّابٌ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، ضَعِيفٌ جِدًّا، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ وَفِي سَنَدِهِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ ضَعِيفٌ جِدًّا. انْظُرْ كِتَابَ الْعِلْمِ مِنْ مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ. (2) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 209 ج4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 وَعَنِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: بِوُجُوبِ حَمْلِهَا عَلَى ذَمِّ التَّقْلِيدِ فِيمَا يُطْلَبُ فِيهِ الْعِلْمُ جَمْعًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَعَنِ الْخَبَرِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، فَإِنَّ الْقَائِلَ فِيهِ قَائِلَانِ: قَائِلٌ بِأَنَّ الْوَاجِبَ التَّقْلِيدُ، وَقَائِلٌ إِنَّ الْوَاجِبَ إِنَّمَا هُوَ النَّظَرُ، وَالْعِلْمُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ فِيهِمَا إِجْمَاعًا. وَعَنِ الثَّانِي: لَا نُسَلِّمُ دَلَالَتَهُ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ (1) ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ، لَكِنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَطْلُوبٍ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِ مَحَلُّ النِّزَاعِ (2) ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا بِلَفْظِهِ لَكِنْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَعَنِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ: أَنَّهُ وَإِنِ اجْتَهَدَ الْعَامِّيُّ فَلَا نَأْمَنُ مِنْ وُقُوعِ الْخَطَإِ مِنْهُ، بَلْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْخَطَإِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ، وَالْمَحْذُورُ يَكُونُ مُشْتَرِكًا. وَعَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي: مَا سَبَقَ مِنَ الْفَرْقِ. (3)   (1) سَبَقَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْأَمْرِ. (2) انْظُرْ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِآيَةِ: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) . (3) تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ مَسَائِلِ التَّقْلِيدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 [الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ يجوز للْعَامِّيِّ اسْتِفْتَاء مَنْ عَرَفَهُ بِالْعِلْمِ وَأَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ الِاسْتِفْتَاءِ عَلَى الْعَامِّيِّ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ اسْتِفْتَائِهِ لِمَنْ عَرَفَهُ بِالْعِلْمِ وَأَهْلِيَّةِ الِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ، بِأَنْ يَرَاهُ مُنْتَصِبًا لِلْفَتْوَى وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى سُؤَالِهِ وَالِاعْتِقَادِ فِيهِ، وَعَلَى امْتِنَاعِهِ فِيمَنْ عَرَفَهُ بِالضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ اسْتِفْتَاءِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِعِلْمٍ وَلَا جَهَالَةٍ. وَالْحَقُّ امْتِنَاعُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمَسْئُولِ كَحَالِ السَّائِلِ فِي الْعَامِّيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ قَبُولِ الْقَوْلِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ احْتِمَالَ الْعَامِّيَّةِ قَائِمٌ، بَلْ هُوَ أَرْجَحُ مِنِ احْتِمَالِ صِفَةِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ذَلِكَ، وَإِلَى أَنَّ الْغَالِبَ إِنَّمَا هُوَ الْعَوَامُّ، وَأَنَّ انْدِرَاجَ مَنْ جَهِلْنَا حَالَهُ تَحْتَ الْأَغْلَبِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ قَبُولُ قَوْلِ مُدَّعِي الرِّسَالَةِ، وَقَبُولُ قَوْلِ الرَّاوِي وَالشَّاهِدِ إِذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ. فَإِنْ قِيلَ: إِذَا لَمْ يَعْرِفِ الْعَامِّيُّ السَّائِلُ عَدَالَةَ الْمُفْتِي فَلَا يَخْلُو؛ إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ عَدَالَتِهِ، أَوْ لَا يَجِبُ، فَإِنْ قِيلَ بِالْأَوَّلِ فَهُوَ عَدَمُ خِلَافِ مَا النَّاسُ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَإِنْ قِيلَ بِالثَّانِي: فَلَا يَخْفَى أَنَّ احْتِمَالَ عَدَمِ الْعَدَالَةِ مُقَاوِمٌ لِاحْتِمَالِ الْعَدَالَةِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَاحْتِمَالُ صِدْقِهِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مُقَاوِمٌ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ، إِمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِفْتَاءِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعَدَالَةِ جَوَازُهُ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعِلْمِ أَوْ لَا يَلْزَمُ، فَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فَمَا الْفَرْقُ؟ وَإِنْ لَزِمَ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ جَرَيَانَ الْعَادَةِ بِمَا ذَكَرُوهُ عِنْدَ إِرَادَةِ الِاسْتِفْتَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا بُدَّ مِنَ السُّؤَالِ عَنِ الْعَدَالَةِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ قَوْلِ عَدْلٍ أَوْ عَدْلَيْنِ. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ، فَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ وَلَا سِيَّمَا الْمَشْهُورُ بِالْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ إِنَّمَا هُوَ الْعَدَالَةُ، وَهُوَ كَافٍ فِي إِفَادَةِ الظَّنِّ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْأَصْلُ فِي كُلِّ إِنْسَانٍ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مُجْتَهِدًا وَلَا الْغَالِبُ ذَلِكَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 [الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ اعتماد المفتي على اجتهاد سابق] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ إِذَا اسْتَفْتَى الْعَامِّيُّ عَالِمًا فِي مَسْأَلَةٍ فَأَفْتَاهُ، ثُمَّ حَدَثَ مِثْلَ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَجْتَهِدَ لَهَا ثَانِيًا وَلَا يَعْتَمِدَ عَلَى الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ ثَانِيًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَتَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ وَيَطَّلِعَ عَلَى مَا لَمْ يَكُنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَوَّلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا حَاجَةَ إِلَى اجْتِهَادٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَوَّلًا. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَاكِرًا لِلِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ، أَوْ غَيْرَ ذَاكِرٍ لَهُ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى اجْتِهَادٍ آخَرَ كَمَا لَوِ اجْتَهَدَ فِي الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَجْتَهِدْ. (1) [الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ هَلْ يَجُوزُ خُلُوُّ عَصْرٍ مَنِ الْأَعْصَارِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يُمْكِنُ تَفْوِيضُ الْفَتَاوَى إِلَيْهِ] الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ خُلُوُّ عَصْرٍ مَنِ الْأَعْصَارِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يُمْكِنُ تَفْوِيضُ الْفَتَاوَى إِلَيْهِ؟ (2) فَمَنَعَ مِنْهُ قَوْمٌ كَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَجَوَّزَهُ آخَرُونَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ لَامْتَنَعَ إِمَّا لِذَاتِهِ أَوْ لَأَمْرٍ مِنْ خَارِجٍ. الْأَوَّلُ: مُحَالٌ؛ فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَهُ لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ لِذَاتِهِ مُحَالٌ عَقْلًا. (3) وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَعَلَى مُدَّعِيهِ بَيَانُهُ.   (1) الْمُنَاسِبُ أَنْ تُذْكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ. (2) الِاجْتِهَادُ قِسْمَانِ: عَامٌّ وَخَاصٌّ، فَالْعَامُّ: بَذْلُ الْجُهْدِ فِي تَطْبِيقِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فِي حَيَاتِنَا الْعَمَلِيَّةِ، وَيَكُونُ مِنَ الْمُجْتَهِدِ وَالْمُقَلِّدِ، وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ زَمَانٌ، وَالْخَاصُّ: بَذْلُ الْجُهْدِ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنَ الْأَدِلَّةِ، وَهَذِهِ وَظِيفَةُ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ شُرُوطِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي انْقِطَاعِهِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ لِمَا يَأْتِي فِي مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْمُخَالِفِ. (3) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ ص 137 جـ4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 فَإِنْ قِيلَ: دَلِيلُ امْتِنَاعِهِ النَّصُّ وَالْمَعْقُولُ. أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَحَتَّى يَظْهَرَ الدَّجَّالُ» ". (1) وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: " «وَاشَوْقَاهْ إِلَى إِخْوَانِي! ! قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ فَقَالَ: أَنْتُمْ أَصْحَابِي، إِخْوَانِي قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدِي يَهْرُبُونَ بِدِينِهِمْ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ، وَيَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» ". (2) وَأَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ» " (3) وَأَحَقُّ الْأُمَمِ بِالْوِرَاثَةِ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَأَحَقُّ الْأَنْبِيَاءِ بِإِرْثِ الْعِلْمِ عَنْهُ نَبِيُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ التَّفَقُّهَ فِي الدِّينِ وَالِاجْتِهَادَ فِيهِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِحَيْثُ إِذَا اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى تَرْكِهِ أَثِمُوا، فَلَوْ جَازَ خُلُوُّ الْعَصْرِ عَمَّنْ يَقُومُ بِهِ لَزِمَ مِنْهُ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ عَلَى الْخَطَأِ وَالضَّلَالَةِ، وَهُوَ مُمْتَنَعٌ لِمَا سَبَقَ. (4) الثَّانِي: أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِنَّمَا هُوَ الِاجْتِهَادُ، فَلَوْ خَلَا الْعَصْرُ عَنْ مُجْتَهِدٍ يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ أَفْضَى إِلَى تَعْطِيلِ الشَّرِيعَةِ وَانْدِرَاسِ الْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ مُمْتَنَعٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ عُمُومِ مَا سَبَقَ مِنَ النُّصُوصِ.   (1) أَصْلُ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ ثَوْبَانَ، وَعِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَحْمَدَ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - انْظُرْ كِتَابَ الِاعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مَعَ فَتْحِ الْبَارِي لِابْنِ حَجَرٍ، وَالْجُزْءَ السَّابِعُ مِنْ مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ. (2) فِي مَعْنَاهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَدِدْتُ أَنِّي رَأَيْتُ إِخْوَانِي، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ. (3) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص 167 ج4. (4) أَيْ: لِمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ مِنْ عِصْمَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مِنَ النُّصُوصِ أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِمَا يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِهَا. فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ» ". (1) وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» ". (2) وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهَا أَوَّلُ مَا يُنْسَى» ". (3) وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ» ". (4) وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ تَبْقَى حُثَالَةٌ كَحُثَالَةِ التَّمْرِ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِمْ» " (5) ، وَإِذَا تَعَارَضَتِ النُّصُوصُ سَلِمَ لَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الدَّلِيلِ أَوَّلًا. (6) وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَعْقُولِ فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: مَتَى يَكُونُ التَّفَقُّهُ   (1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: " بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ " وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظٍ: " إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي حِجْرِهَا " وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ. (2) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. (3) رَوَاهُ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِلَفْظٍ: " تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ، فَإِنِّي امْرُؤٌ مَقْبُوضٌ، وَإِنَّ الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الِاثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا ". وَرُوِيَ مِنْ طُرُقٍ أُخْرَى بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَكُلُّهَا لَا تَخْلُو مِنْ مَطْعَنٍ، انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ. (4) رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ؟ " (5) أَصْلُ الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ. (6) هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ، لَكِنَّهُ لَا يُعَارِضُ أَدِلَّةَ الْمُخَالِفِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ حَتَّى يَنْهَضَ لِمُعَارَضَةِ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ، أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: فَالْغُرْبَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مَنْ يُدَافِعُ عَنِ الْحَقِّ مِمَّنْ لَا تَقُومُ بِهِمُ الْحُجَّةُ، وَرُبَّمَا أَشْعَرَتْ بِوُجُودِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: " فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. . . إِلَخْ ". وَأَمَّا الثَّانِي: فَيُحْمَلُ عَلَى مَا بَعْدَ إِرْسَالِ الرِّيحِ اللَّيِّنَةِ الَّتِي يُقْبَضُ عِنْدَهَا رُوحُ كُلِّ مُؤْمِنٍ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَلَمْ يَصِحَّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنِ اتِّبَاعِهِمْ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَقَدْ بَقِيَتْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ عَلَى الدِّينِ الصَّحِيحِ حَتَّى آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. وَأَمَّا الْخَامِسُ: فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ قَوْلِهِ: ثُمَّ تَبْقَى حُثَالَةٌ. . . إِلَخْ، يُحْمَلُ عَلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ الثَّانِي جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَأَمَّا مَا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ. انْظُرْ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي الِاجْتِهَادِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ، وَأَدِلَّةَ الطَّرَفَيْنِ فِي انْقِطَاعِ الِاجْتِهَادِ الْخَاصِّ أَوَّلَ كِتَابِ الِاجْتِهَادِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ لِلشَّاطِبِيِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 فِي الدِّينِ وَالتَّأَهُّلِ لِلِاجْتِهَادِ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ إِذَا أَمْكَنَ اعْتِمَادُ الْعَوَامِّ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمَنْقُولَةِ إِلَيْهِمْ فِي كُلِّ عَصْرٍ عَمَّنْ سَبَقَ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بِالنَّقْلِ الْمُغَلَّبِ عَلَى الظَّنِّ، أَوْ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ، الْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ وَالثَّانِي مُسَلَّمٌ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ عَنِ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنَ الْمَعْقُولِ أَيْضًا. [الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ الْفَتْوَى بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ] الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، هَلْ تَجُوزُ لَهُ الْفَتْوَى بِمَذْهَبِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي زَمَنِنَا هَذَا؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُسْأَلُ عَمَّا عِنْدَهُ لَا عَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَتِ الْفَتْوَى بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ عَنْ مَذْهَبِ الْغَيْرِ لَجَازَ ذَلِكَ لِلْعَامِّيِّ، وَهُوَ مُحَالٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِنَقْلِ مَنْ يُوثَقُ بِقَوْلِهِ. وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْمَذْهَبِ بِحَيْثُ يَكُونُ مُطَّلِعًا عَلَى مَأْخَذِ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى قَوَاعِدِ إِمَامِهِ وَأَقْوَالِهِ، مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْفَرْقِ وَالْجَمْعِ وَالنَّظَرِ وَالْمُنَاظَرَةِ فِي ذَلِكَ (1) كَانَ لَهُ الْفَتْوَى تَمْيِيزًا لَهُ عَنِ الْعَامِّيِّ، وَدَلِيلُهُ انْقِطَاعُ الْإِجْمَاعِ مِنْ أَهْلِ كُلِّ عَصْرٍ عَلَى قَبُولِ مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفَتْوَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَلَا.   (1) هَذَا بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِمُجْتَهِدِ الْمَذْهَبِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي مُقَدِّمَةِ بَابِ الِاجْتِهَادِ تَعْرِيفُ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ وَبَيَانُ شُرُوطِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 [الْمَسْأَلَةُ وجد العامي في البلد أكثر من مفتي] الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ إِذَا حَدَثَتْ لِلْعَامِّيِّ حَادِثَةٌ، وَأَرَادَ الِاسْتِفْتَاءَ عَنْ حُكْمِهَا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْبَلَدِ مُفْتٍ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ: فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ وَالْأَخْذُ بِقَوْلِهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْأُصُولِيُّونَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَأْخُذَ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، بَلْ يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ فِي أَعْيَانِ الْمُفْتِينَ مِنَ الْأَوْرَعِ وَالْأَدَيْنِ وَالْأَعْلَمِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْقَفَّالِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، مَصِيرًا مِنْهُمْ إِلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُفْتِيَيْنِ فِي حَقِّ الْعَامِّيِّ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ، وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ فَيَجِبُ عَلَى الْعَامِّيِّ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْمُفْتِيَيْنِ، إِمَّا بِأَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنَ الْفِقْهِ مَسَائِلَ، وَيَتَعَرَّفَ أَجْوِبَتَهَا وَيَسْأَلَ عَنْهَا، فَمَنْ أَجَابَهُ أَوْ كَانَ أَكْثَرَ إِصَابَةٍ اتَّبَعَهُ أَوْ بِأَنْ يَظْهَرَ لَهُ ذَلِكَ بِالشُّهْرَةِ وَالتَّسَامُعِ، وَلِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا هُوَ الظَّنُّ، وَالظَّنُّ فِي تَقْلِيدِ الْأَعْلَمِ وَالْأَدْيَنِ أَقْوَى، فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ أَوْلَى. وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى التَّخْيِيرِ وَالسُّؤَالِ لِمَنْ شَاءَ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَسَوَاءٌ تَسَاوَوْا أَوْ تَفَاضَلُوا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ فِيهِمُ الْفَاضِلُ وَالْمَفْضُولُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَإِنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ كَانُوا أَعْرَفَ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» " (1) ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «أَقَضَاكُمْ عَلِيٌّ، وَأَفْرَضَكُمْ زَيْدٌ، وَأَعْرَفَكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» " (2) وَكَانَ فِيهِمُ الْعَوَامُّ، وَمَنْ فَرْضُهُ الِاتِّبَاعُ لِلْمُجْتَهِدِينَ وَالْأَخْذُ بِقَوْلِهِمْ   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص 207 ج4. (2) رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: " أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَلِكُلِّ أَمَةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ". وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يَعْلَى وَابْنِ عَدِيٍّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ: " وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ " انْظُرِ اخْتِلَافَ طُرُقِهِ وَمُتُونِهِ وَالْكَلَامَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَطَاعِنِ فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ وَكَشْفِ الْخَفَاءِ وَالْإِلْبَاسِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 لَا غَيْرَ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ تَكْلِيفُ الْعَوَامِّ الِاجْتِهَادَ فِي أَعْيَانِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا نَكَرَ أَحَدٌ مِنْهُمُ اتِّبَاعَ الْمَفْضُولِ وَالِاسْتِفْتَاءَ لَهُ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ جَائِزٍ لَمَا جَازَ مِنَ الصَّحَابَةِ التَّطَابُقُ عَلَى عَدَمِ إِنْكَارِهِ وَالْمَنْعِ مِنْهُ، وَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» ) (1) ، وَلَوْلَا إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ الْقَوْلُ بِمَذْهَبِ الْخُصُومِ أَوْلَى. [الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ اتَّبَعَ الْعَامِّيُّ بَعْضَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي حُكْمِ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ هل يرجع إلى غيره] الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ إِذَا اتَّبَعَ الْعَامِّيُّ بَعْضَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ مِنَ الْحَوَادِثِ وَعَمِلَ بِقَوْلِهِ فِيهَا: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ (2) ، وَهَلْ لَهُ ذَلِكَ فِي حُكْمٍ آخَرَ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ مِنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ نَظَرًا إِلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ مِنْ تَسْوِيغِ اسْتِفْتَاءِ الْعَامِّيِّ لِكُلِّ عَالِمٍ فِي مَسْأَلَةٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الْحَجْرُ عَلَى الْعَامَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُمْتَنِعًا لَمَا جَازَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِهْمَالُهُ وَالسُّكُوتُ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ لَهَا حُكْمٌ لَمْ يَتَعَيَّنِ الْأَوَّلُ لِلِاتِّبَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إِلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى. وَأَمَّا إِذَا عَيَّنَ الْعَامِّيُّ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَوْ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ غَيْرِهِ وَقَالَ: أَنَا عَلَى مَذْهَبِهِ وَمُلْتَزِمٌ لَهُ، فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى الْأَخْذِ بِقَوْلِ غَيْرِهِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ: فَجَوَّزَهُ قَوْمٌ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْتِزَامَهُ لِمَذْهَبٍ غَيْرِ مُلْزَمٍ لَهُ، وَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ آخَرُونَ؛ لِأَنَّهُ بِالْتِزَامِهِ الْمَذْهَبَ صَارَ لَازِمًا لَهُ كَمَا لَوِ الْتَزَمَ مَذْهَبَهُ فِي حُكْمِ حَادِثَةٍ مُعَيَّنَةٍ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنْ مَذْهَبِ الْأَوَّلِ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِهَا، فَلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِيهَا، وَمَا لَمْ يَتَّصِلْ عَمَلُهُ بِهَا فَلَا مَانِعَ مِنِ اتِّبَاعِ غَيْرِهِ فِيهَا.   (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 232 ج 1، ص 150 ج4. (2) حَكَى الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ فِي غَايَةِ الْوُصُولِ فِي شَرْحِ لُبِّ الْأُصُولِ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، قَالَ: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَوْ أَفْتَى مُجْتَهِدٌ عَامِّيًّا فِي حَادِثَةٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فِيهَا إِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِهِ فِيهَا وَثَمَّ مُفْتٍ آخَرُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِمُجَرَّدِ الْإِفْتَاءِ وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِالشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَشْرَعْ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ إِنِ الْتَزَمَهُ، وَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ بِهِ إِنْ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِحَّتُهُ، اهـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 [الْقَاعِدَةُ الرابعة الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ فِي التَّرْجِيحَاتِ] [مُقَدِّمَةُ فِي بَيَانِ مَعْنَى التَّرْجِيحِ وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ وَمَا فِيهِ التَّرْجِيحُ] الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ فِي التَّرْجِيحَاتِ وَتَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَبَابَيْنِ: أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ: فَفِي بَيَانِ مَعْنَى التَّرْجِيحِ، وَوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ، وَمَا فِيهِ التَّرْجِيحُ. أَمَّا التَّرْجِيحُ: فَعِبَارَةٌ عَنِ اقْتِرَانِ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَعَ تَعَارُضِهِمَا بِمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِهِ وَإِهْمَالَ الْآخَرِ. فَقَوْلُنَا: (اقْتِرَانُ أَحَدِ الصَّالِحَيْنِ) احْتِرَازٌ عَمَّا لَيْسَا بِصَالِحَيْنِ لِلدَّلَالَةِ، أَوْ أَحَدُهُمَا صَالِحٌ وَالْآخَرُ لَيْسَ بِصَالِحٍ، فَإِنَّ التَّرْجِيحَ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ تَحَقُّقِ التَّعَارُضِ وَلَا تَعَارُضَ مَعَ عَدَمِ الصَّلَاحِيَةِ لِلْأَمْرَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا. وَقَوْلُنَا: (مَعَ تَعَارُضِهِمَا) احْتِرَازٌ عَنِ الصَّالِحَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ التَّرْجِيحَ إِنَّمَا يُطْلَبُ عِنْدَ التَّعَارُضِ لَا مَعَ عَدَمِهِ، وَهُوَ عَامٌّ لِلْمُتَعَارِضَيْنِ مَعَ التَّوَافُقِ فِي الِاقْتِضَاءِ كَالْعِلَلِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي أَصْلِ الْقِيَاسِ كَمَا يَأْتِي، وَلِلْمُتَعَارِضَيْنِ مَعَ التَّنَافِي فِي الِاقْتِضَاءِ كَالْأَدِلَّةِ الْمُتَعَارِضَةِ فِي الصُّوَرِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَقَوْلُنَا: (بِمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ بِأَحَدِهِمَا وَإِهْمَالَ الْآخَرِ) احْتِرَازٌ عَمَّا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ عَنِ الْآخَرِ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ أَوِ الْعَرَضِيَّةَ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّقْوِيَةِ وَالتَّرْجِيحِ. وَأَمَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَاجِبٌ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا نُقِلَ وَعُلِمَ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ الرَّاجِحِ مِنَ الظَّنَّيْنِ، وَذَلِكَ كَتَقْدِيمِهِمْ خَبَرَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي «الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ» (1) عَلَى خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِذَا جَاوَزَ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ، انْظُرْ طُرُقَهُ وَاخْتِلَافَ مَتْنِهِ وَتَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي (تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ) وَ (كَشْفِ الْخَفَاءِ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 فِي قَوْلِهِ: " «إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ» " (1) وَمَا رَوَتْ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ «يُصْبِحُ جُنُبًا وَهُوَ صَائِمٌ» (2) عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» " (3) ؛ لِكَوْنِهَا أَعْرَفَ بِحَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَكَانُوا لَا يَعْدِلُونَ إِلَى الْآرَاءِ وَالْأَقْيِسَةِ إِلَّا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنِ النُّصُوصِ وَالْيَأْسِ مِنْهَا، وَمَنْ فَتَّشَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَنَظَرَ فِي وَقَائِعِ اجْتِهَادَاتِهِمْ عَلِمَ عِلْمًا لَا يَشُوبُهُ رَيْبٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ مِنَ الظَّنَّيْنِ دُونَ أَضْعَفِهِمَا. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا تَقْرِيرُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا عَلَى تَرْتِيبِ الْأَدِلَّةِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ (4) ، وَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ رَاجِحًا، فَالْعُقَلَاءُ يُوجِبُونَ بِعُقُولِهِمُ الْعَمَلَ بَالرَّاجِحِ. وَالْأَصْلُ تَنْزِيلُ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْزِلَةَ التَّصَرُّفَاتِ الْعُرْفِيَّةِ. وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» ". (5) فَإِنْ قِيلَ: مَا ذَكَرْتُمُوهُ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا النَّصُّ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} أَمْرٌ بِالِاعْتِبَارِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.   (1) رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمْ، انْظُرْ (تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ) . (2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعِ أَهْلِهِ، زَادَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثٍ لِأُمِّ سَلَمَةَ: وَلَا يَقْضِي، وَزَادَهَا ابْنُ حِبَّانَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ. (3) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَقَدْ رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا مَنْسُوخٌ. (4) تَقَدَّمَ مَا فِيهِ تَعْلِيقًا. (5) هَذَا أَثَرٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرَ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ وَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَاتِهِ. . . إِلَخْ، انْظُرْ ص 156ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 وَأَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» ". (1) وَالدَّلِيلُ الْمَرْجُوحُ ظَاهِرٌ فَجَازَ الْعَمَلُ بِهِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ: فَهُوَ أَنَّ الْأَمَارَاتِ الظَّنِّيَّةَ الْمُتَعَارِضَةَ لَا تَزِيدُ عَلَى الْبَيِّنَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ، وَالتَّرْجِيحُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي الْبَيِّنَاتِ، حَتَّى أَنَّهُ لَا تُقَدَّمُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ. قُلْنَا: أَمَّا الْآيَةُ فَغَايَتُهَا بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالتَّرْجِيحِ، فَإِنَّ إِيجَابَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا يُنَافِي إِيجَابَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْخَبَرُ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا تَرَجَّحَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ وَمَعَ وُجُودِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ، فَالْمَرْجُوحُ الْمُخَالِفُ لَهُ لَا يَكُونُ رَاجِحًا مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلرَّاجِحِ، فَلَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِيهِ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ التَّرْجِيحِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ، بَلْ عِنْدَنَا يُقَدَّمُ قَوْلُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى قَوْلِ الِاثْنَيْنِ عَلَى رَأْيٍ لَنَا. وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالتَّرْجِيحِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّمَا كَانَ لِأَنَّ الْمُتَّبَعَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ أُلِفَ مِنْهُمُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي بَابِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ دُونَ بَابِ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا مَا فِيهِ التَّرْجِيحُ: فَهِيَ الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَطْلُوبَاتِ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إِلَى: قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ. أَمَّا الْقَطْعِيُّ: فَلَا تَرْجِيحَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِتَقْوِيَةِ أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالْمَعْلُومُ الْمَقْطُوعُ بِهِ غَيْرُ قَابِلٍ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَلَا يُطْلَبُ فِيهِ التَّرْجِيحُ، وَلِأَنَّ التَّرْجِيحَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ مُتَعَارِضَيْنِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَصَوِّرٍ فِي الْقَطْعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُعَارِضَهُ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ. الْأَوَّلُ: مُحَالٌ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِمَّا الْعَمَلُ بِهِمَا، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فِي الْإِثْبَاتِ، أَوِ امْتِنَاعُ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فِي النَّفْيِ، أَوِ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَا أَوْلَوِيَّةَ مَعَ التَّسَاوِي. وَالثَّانِي: أَيْضًا مُحَالٌ لِامْتِنَاعِ تَرَجُّحِ الظَّنِّيِّ عَلَى الْقَاطِعِ، وَامْتِنَاعِ طَلَبِ التَّرْجِيحِ فِي الْقَاطِعِ. كَيْفَ وَأَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ لَا يَكُونُ فِي مُقَابَلَتِهِ دَلِيلٌ صَحِيحٌ، فَلَمْ يَبْقَ سِوَى الطُّرُقِ الظَّنِّيَّةِ.   (1) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ تَعْلِيقًا ص 80، 117 ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 وَالطُّرُقُ الظَّنِّيَّةُ مُنْقَسِمَةٌ إِلَى شَرْعِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِنَا بَيَانُ الْعَقْلِيَّةِ بَلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُوَصِّلَةً إِلَى الظَّنِّ بِأَمْرٍ مُفْرَدٍ وَهِيَ الْحُدُودُ، أَوِ الظَّنِّ بِأَمْرٍ مُرَكَّبٍ وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ، فَلْنَرْسُمْ فِي تَرْجِيحَاتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ بَابًا: [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي تَرْجِيحَاتِ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ] [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي التَّعَارُضِ الْوَاقِعِ بَيْنَ مَنْقُولَيْنِ وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا] [التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى السند] الْبَابُ الْأَوَّلُ: فِي تَرْجِيحَاتِ الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ، وَالتَّعَارُضِ (1) : إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ مَنْقُولِينَ، أَوْ مَعْقُولَيْنِ، أَوْ مَنْقُولٍ وَمَعْقُولٍ. فَلْنَرْسُمْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ قِسْمًا: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فِي التَّعَارُضِ الْوَاقِعِ بَيْنَ مَنْقُولَيْنِ، وَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا: مِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى السَّنَدِ، وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى الْمَتْنِ، وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى الْمَدْلُولِ، وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى أَمْرٍ مِنْ خَارِجُ. فَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَى السَّنَدِ: مَا يَعُودُ إِلَى الرَّاوِي، وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الرِّوَايَةِ، وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى الْمَرْوِيِّ، وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى الْمَرْوِيِّ عَنْهُ. فَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَى الرَّاوِي: فَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى نَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى تَزْكِيَتِهِ. فَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الرَّاوِي فَتَرْجِيحَاتٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ رُوَاةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ رُوَاةِ الْآخَرِ، فَمَا رُوَاتُهُ أَكْثَرُ يَكُونُ مُرَجَّحًا، خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ الْغَلَطِ وَالْكَذِبِ عَلَى الْعَدَدِ الْأَكْثَرِ أَبْعَدُ مِنِ احْتِمَالِ وُقُوعِهِ فِي الْعَدَدِ الْأَقَلِّ، وَلِأَنَّ خَبَرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ يُفِيدُ الظَّنَّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظُّنُونَ الْمُجْتَمِعَةَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ كَانَتْ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْقَطْعِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْحَدُّ الْوَاجِبُ بِالزِّنَا مِنْ أَكْبَرِ الْحُدُودِ وَآكَدِهَا جُعِلَتِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ عَدَدًا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ ذِي الْيَدَيْنِ: " «أَقَصُرَتِ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَ؟» " حَتَّى أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَلَمْ يَعْمَلْ أَبُو بَكْرٍ بِخَبَرِ الْمُغِيرَةِ   (1) فِي صَفْحَةِ 48، 85، 150 مِنْ ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَةَ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْعَمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ» حَتَّى اعْتَضَدَ بِخَبَرِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَلَمْ يَعْمَلْ عُمَرُ بِخَبَرِ أَبِي مُوسَى حَتَّى اعْتَضَدَ بِخَبَرِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ رَاوِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، أَوْ أَنَّهُ أَشْهَرُ بِذَلِكَ فَرِوَايَتُهُ مُرَجَّحَةٌ؛ لِأَنَّ سُكُونَ النَّفْسِ إِلَيْهِ أَشَدُّ، وَالظَّنَّ بِقَوْلِهِ أَقْوَى. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ أَعْلَمَ وَأَضْبَطَ مِنَ الْآخَرِ، أَوْ أَوَرَعَ وَأَتْقَى، فَرِوَايَتُهُ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ حَالَةَ رِوَايَتِهِ ذَاكِرًا لِلرِّوَايَةِ عَنْ شَيْخِهِ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ فِي ذَلِكَ عَلَى نُسْخَةِ سَمَاعِهِ أَوْ خَطِّ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْآخَرِ فَهُوَ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنَ السَّهْوِ وَالْغَلَطِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ قَدْ عَمِلَ بِمَا رَوَى، وَالْآخَرُ خَالَفَ مَا رَوَى، فَمَنْ لَمْ يُخَالِفْ رِوَايَتَهُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْكَذِبِ، بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَا مُرْسَلَيْنِ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي مِنْ غَيْرِ الْعَدْلِ كَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَنَحْوِهِ، بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَرِوَايَةُ الْأَوَّلِ تَكُونُ أَوْلَى. (1) السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ رَاوِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مُبَاشِرًا لِمَا رَوَاهُ، وَالْآخَرُ غَيْرَ مُبَاشِرٍ، فَرِوَايَةُ الْمُبَاشِرِ تَكُونُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ بِمَا رَوَى، وَذَلِكَ كَرِوَايَةِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَكَحَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ» (2) فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّهُ نَكَحَهَا وَهُوَ حَرَامٌ» (3) ، لِأَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ هُوَ السَّفِيرَ بَيْنَهُمَا وَالْقَابِلَ لِنِكَاحِهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ هُوَ صَاحِبُ الْقِصَّةِ، كَمَا رَوَتْ مَيْمُونَةُ أَنَّهَا قَالَتْ: " «تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ وَنَحْنُ حَلَالَانِ» " فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ لِكَوْنِهَا   (1) إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، أَمَّا مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ لِعَدَمِ صَلَاحِيَةِ كُلٍّ مِنَ الْخَبَرَيْنِ لِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ. (2) حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ؛ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ: " تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ حَلَالًا وَبَنَى بِهَا حَلَالًا وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا ". (3) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ بِلَفْظِ: " تَزَوَّجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " زَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. " وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَمَاتَتْ بِسَرِفَ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 أَعْرَفَ بِحَالِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِهَا لِشِدَّةِ اهْتِمَامِهَا، خِلَافًا لِلْجُرْجَانِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ أَقْرَبَ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَالَ سَمَاعِهِ مِنَ الْآخَرِ، فَرِوَايَتُهُ تَكُونُ أَوْلَى، وَذَلِكَ كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ: إِفْرَادُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ قَرَنَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ تَحْتَ نَاقَتِهِ حِينَ لَبَّى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَأَنَّهُ سَمِعَ إِحْرَامَهُ بِالْإِفْرَادِ. (1) الْعَاشِرُ: إِذَا كَانَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ وَالْآخَرُ مِنْ صِغَارِهِمْ فَرِوَايَةُ الْأَكْبَرِ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَالَةَ السَّمَاعِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: ( «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى» ) وَلِأَنَّ مُحَافَظَتَهُ عَلَى مَنْصِبِهِ مِمَّا يُوجِبُ التَّحَرُّزَ عَنِ الْكَذِبِ أَكْثَرُ مِنَ الصَّغِيرِ. الْحَادِي عَشَرَ: إِذَا كَانَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مُتَقَدِّمَ الْإِسْلَامِ عَلَى الرَّاوِي الْآخَرِ فَرِوَايَتُهُ أَوْلَى؛ إِذْ هِيَ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ لِزِيَادَةِ أَصَالَتِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَحَرُّزِهِ فِيهِ. (2) الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ فَقِيهًا وَالْآخَرُ غَيْرَ فَقِيهٍ، أَوْ هُوَ أَفْقَهُ وَأَعْلَمُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَخَبَرُهُ يَكُونُ مُرَجَّحًا لِكَوْنِهِ أَعْرَفَ بِمَا يَرْوِيهِ لِتَمْيِيزِهِ بَيْنَ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ أَفْطَنَ وَأَذْكَى وَأَكْثَرَ تَيَقُّظًا مِنَ الْآخَرِ، فَرِوَايَتُهُ أَوْلَى لِكَثْرَةِ ضَبْطِهِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ رِوَايَتُهُ عَنْ حِفْظٍ وَالْآخَرُ عَنْ كِتَابٍ، فَالرَّاوِي عَنِ الْحِفْظِ أَوْلَى لِكَثْرَةِ ضَبْطِهِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: إِنْ كَانَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مَشْهُورَ النَّسَبِ بِخِلَافِ الْآخَرِ فَرِوَايَتُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ احْتِرَازَهُ عَمَّا يُوجِبُ نَقْصَ مَنْزِلَتِهِ الْمَشْهُورَةِ يَكُونُ أَكْثَرَ. السَّادِسَ عَشَرَ: إِذَا كَانَ فِي رُوَاةِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مَنْ يَلْتَبِسُ اسْمُهُ بَاسِمِ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالَّذِي لَا يَلْتَبِسُ اسْمُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ.   (1) ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ (زَادِ الْمَعَادِ) أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَدِلَّةَ كُلٍّ مِنْهُمْ مَعَ التَّرْجِيحِ، فَارْجِعْ إِلَيْهِ يُفِيدُكَ عِلْمًا وَمِرَانًا عَلَى الْمُقَارَنَةِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ وَمُنَاقِشَةِ الْأَدِلَّةِ، وَيُرِيكَ كَيْفَ تَجْمَعُ بَيْنَهَا أَوْ تُرَجِّحُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ. (2) وَتَحْرِيرِهِ - هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ وَفِي الْمَخْطُوطَةِ: " وَتَحَرُّزِهِ " وَقَدْ أَثْبَتْنَا مَا فِي الْمَخْطُوطَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 السَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ قَدْ تَحَمَّلَ الرِّوَايَةَ فِي زَمَنِ الصِّبَى، وَالْآخَرُ فِي زَمَنِ بُلُوغِهِ، فَرِوَايَةُ الْبَالِغِ أَوْلَى لِكَثْرَةِ ضَبْطِهِ. وَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَى التَّزْكِيَةِ فَتَرْجِيحَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي لِأَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُزَكَّى لَهُ أَعْدَلَ وَأَوْثَقَ، فَرِوَايَتُهُ مُرَجَّحَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ أَحَدِهِمَا بِصَرِيحِ الْمَقَالِ، وَالْآخَرُ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ أَوْ بِالْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ أَوِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، فَرِوَايَةُ مَنْ تَزْكِيَتُهُ بِصَرِيحِ الْمَقَالِ مُرَجَّحَةٌ عَلَى غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ قَدْ تَكُونُ عَمَّنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِمَا يُوَافِقُ الرِّوَايَةَ، وَالشَّهَادَةُ قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِهَا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لَهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِهِمَا، وَلَا كَذَلِكَ التَّزْكِيَةُ بِصَرِيحِ الْمَقَالِ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ بِالْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ، وَالْآخَرُ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَرِوَايَةُ الْمَعْمُولِ بِشَهَادَتِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي الشَّهَادَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى أَحْكَامِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الرِّوَايَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْوَاحِدِ وَالْمَرْأَةِ دُونَ شَهَادَتِهِمَا، وَقُبِلَتْ رِوَايَةُ الْفُرُوعِ مَعَ إِنْكَارِ الْأَصْلِ لَهَا عَلَى بَعْضِ الْآرَاءِ، وَمِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ أَحَدِهِمَا بِالْعَمَلِ بِرِوَايَتِهِ، وَالْآخَرُ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَالْأَوَّلُ أَرْجَحُ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْعَدْلِ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِرِوَايَةِ غَيْرِ الْعَدْلِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مَا يَرْوِي الْعَدْلُ عَمَّنْ لَوْ سُئِلَ عَنْهُ لَجَرَحَهُ أَوْ تَوَقَّفَ فِي حَالِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ، فَاحْتِمَالُ الْعَمَلِ بِرِوَايَةِ غَيْرِ الْعَدْلِ أَقَلُّ مِنِ احْتِمَالِ الرِّوَايَةِ عَنْ غَيْرِ الْعَدْلِ، وَاحْتِمَالُ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ قَائِمًا، إِلَّا أَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الْبَحْثِ التَّامِّ مَعَ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَى نَفْسِ الرِّوَايَةِ فَتَرْجِيحَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مُتَوَاتِرًا وَالْآخَرُ آحَادًا، فَالْمُتَوَاتِرُ لِتَيَقُّنِهِ أَرْجَحُ مِنَ الْآحَادِ لِكَوْنِهِ مَظْنُونًا. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مُسْنَدًا وَالْآخَرُ مُرْسَلًا، فَالْمُسْنَدُ أَوْلَى لِتَحَقُّقِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 الْمَعْرِفَةِ بِرَاوِيهِ، وَالْجَهَالَةِ بِرَاوِي الْآخَرِ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ إِذَا عُرِفَ شَاهِدُ الْأَصْلِ، وَلَا تُقْبَلُ إِذَا شَهِدَ مُرْسَلًا. فَإِنْ قِيلَ: الرَّاوِي إِذَا كَانَ عَدْلًا ثِقَةً وَأَرْسَلَ الْخَبَرَ، فَالْغَالِبُ أَنْ لَا يَكُونَ إِلَّا مَعَ الْجَزْمِ بِتَعْدِيلِ مَنْ رَوَى عَنْهُ، وَإِلَّا كَانَ ذَلِكَ تَلْبِيسًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ بَعِيدٌ فِي حَقِّهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَكَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ غَيْرُ جَازِمٍ بِتَعْدِيلِهِ فَكَانَ الْمُرْسَلُ أَوْلَى. (1) قُلْنَا: التَّلْبِيسُ إِنَّمَا يَلْزَمُ بِرِوَايَتِهِ عَمَّنْ لَمْ يَذْكُرْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِي نَفْسُ الْأَمْرِ عَدْلًا أَنْ لَوْ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ فِي قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ فِي قَوْلِهِ أَنْ لَوْ ظَهَرَتْ عَدَالَةُ الْأَصْلِ، وَهُوَ دَوْرٌ كَيْفَ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ تَعْدِيلًا مِنْهُ لِكَوْنِهِ تَعْدِيلًا مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا فَإِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا كَانَ مُضَافًا إِلَى شَخْصٍ مُعَيَّنٍ لَمْ يُعْرَفْ بِفِسْقٍ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَلَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ عَيَّنَهُ لَاطَّلَعْنَا مِنْ حَالِهِ عَلَى فِسْقٍ قَدْ جَهِلَهُ الرَّاوِي، ثُمَّ وَلَوْ كَانَ تَعْدِيلًا مَقْبُولًا إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَذْكُورًا مَشْهُورَ الْحَالِ، وَقَدْ عَدَلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ التَّعْدِيلِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ كَانَ قَبُولُ قَوْلِهِ أَوْلَى وَأَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ، وَعَدَمُ جَزْمِ الرَّاوِي بِعَدَالَةِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ إِذَا كَانَ مُصَرَّحًا بِهِ، وَجَزْمِهِ بِعَدَالَةِ مَنْ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِهِ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ تَعْدِيلُ الْمَذْكُورِ بِتَعْدِيلِ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلتَّرْجِيحِ، بَلْ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ بِطَرِيقٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ بِطَرِيقٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ مِنْ مَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ وَالْآخَرُ مِنْ مَرَاسِيلِ تَابِعِي التَّابِعِينَ، فَمَا هُوَ مِنْ مَرَاسِيلِ التَّابِعِينَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ التَّابِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِ الصَّحَابِيِّ، وَعَدَالَةُ الصَّحَابَةِ بِمَا ثَبَتَ مِنْ ثَنَاءِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَزْكِيَتِهِ لَهُمْ فِي ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الْعَدَالَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ» " (2) ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ   (1) انْظُرْ هَذَا الِاعْتِرَاضَ وَجَوَابَهُ عَنْهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِيَارِهِ لِلِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ وَاسْتِدْلَالِهِ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَمُنَاقَشَتِهِ وَإِجَابَتِهِ عَنْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ ج 2 وَص 171 ج4. (2) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 150 ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 بِأَيِّهُمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ» " (1) وَلَمْ يُرْوَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعَنْعَنًا، وَطَرِيقُ ثُبُوتِ الْآخَرِ الشُّهْرَةُ مَعَ عَدَمِ النَّكِيرِ، أَوِ الْإِسْنَادُ إِلَى كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ، فَالْمُعَنْعَنُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَلِمُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي عَدَمِ النَّكِيرِ وَزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ بِرِوَايَةِ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي: فَلِأَنَّهُ أَسْلَمُ مِنَ الْغَلَطِ وَالتَّلْبِيسِ، وَأَبْعَدُ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالتَّصْحِيفِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِطَرِيقِ الشُّهْرَةِ وَالْآخَرُ بِالْإِسْنَادِ إِلَى كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ، فَالْمُسْنَدُ إِلَى كُتُبِ الْمُحَدِّثِينَ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ احْتِمَالَ تَطَرُّقِ الْكَذِبِ إِلَى مَا دَخَلَ فِي صَنْعَةِ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ كُتُبِهِمُ الْمَشْهُورَةِ بِهِمْ وَالْمَنْسُوبَةِ إِلَيْهِمْ أَبْعَدُ مِنِ احْتِمَالِ تَطَرُّقِهِ إِلَى مَا اشْتُهِرَ. وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إِلَيْهِمْ، وَلِهَذَا فَإِنَّ كَثِيرًا مَا اشْتُهِرَ مَعَ كَذِبِهِ وَرَدِّ الْمُحَدِّثِينَ لَهُ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُسْنَدًا إِلَى كِتَابٍ مَوْثُوقٍ بِصِحَّتِهِ، كَمُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ، وَالْآخَرُ مُسْنَدًا إِلَى كِتَابٍ غَيْرِ مَشْهُورٍ بِالصِّحَّةِ وَلَا بِالسَّقَمِ، كَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَنَحْوِهَا، فَالْمُسْنَدُ إِلَى الْكِتَابِ الْمَشْهُورِ بِالصِّحَّةِ أَوْلَى. السَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ أَحَدِهِمَا بِقِرَاءَةِ الشَّيْخِ عَلَيْهِ، وَالْآخَرِ بِقِرَاءَتِهِ هُوَ عَلَى الشَّيْخِ أَوْ بِإِجَازَتِهِ أَوْ مُنَاوَلَتِهِ لَهُ أَوْ بِخَطٍّ رَآهُ فِي كِتَابٍ، فَمَا الرِّوَايَةُ فِيهِ بِقِرَاءَةِ الشَّيْخِ أَرْجَحُ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ غَفْلَةِ الشَّيْخِ عَمَّا يَرْوِيهِ. الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ أَحَدِهِمَا بِالْمُنَاوِلَةِ وَالْآخَرِ بِالْإِجَازَةِ، فَالْمُنَاوَلَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ غَيْرُ كَافِيَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: " خُذْ هَذَا الْكِتَابَ وَحَدِّثْ بِهِ عَنِّي، فَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ فُلَانٍ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَكُونُ إِجَازَةً وَزِيَادَةً، وَالْإِجَازَةُ تَكُونُ رَاجِحَةً عَلَى رُؤْيَةِ الْخَطِّ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْخُطُوطَ مِمَّا تُشْتَبَهُ، وَلَا احْتِمَالَ فِي نِسْبَةِ لَفْظِهِ إِلَيْهِ بِالْإِجَازَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الشَّيْخُ: هَذَا خَطِّي، فَالْإِجَازَةُ تَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ لَفْظِ الشَّيْخِ عَلَى الرِّوَايَةِ عَمَّنْ رَوَى عَنْهُ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ خَطِّهِ عَلَيْهَا.   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 150 ج 4 ص 232 ج 1. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 وَإِذَا كَانَتِ الْإِجَازَةُ أَوْلَى مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ الْخَطِّ، وَالْمُنَاوَلَةُ أَوْلَى مِنَ الْإِجَازَةِ كَانَتِ الْمُنَاوَلَةُ أَوْلَى مِنَ الرِّوَايَةِ عَنِ الْخَطِّ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ أَعْلَى إِسْنَادًا مِنَ الْآخَرِ، فَيَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا قَلَّتِ الرُّوَاةُ كَانَ أَبْعَدُ عَنِ احْتِمَالِ الْغَلَطِ وَالْكَذِبِ. الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ قَدِ اخْتُلِفَ فِي كَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَى الرَّاوِي، وَالْآخَرُ مُتَّفَقٌ عَلَى رَفْعِهِ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَالْمُتَّفَقُ عَلَى رَفْعِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ بِلَفْظِ النَّبِيِّ وَالْآخَرِ بِمَعْنَاهُ، فَرِوَايَةُ اللَّفْظِ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَضْبَطُ وَأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ بِقَوْلِ الرَّسُولِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِسَمَاعٍ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ، وَالْأُخْرَى مَعَ الْحِجَابِ، وَذَلِكَ كَرِوَايَةِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ (1) عَنْ عَائِشَةَ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ؛ لِكَوْنِهَا عَمَّةً لَهُ: أَنَّ بَرِيرَةَ عُتِقَتْ وَكَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى رِوَايَةِ أَسْوَدَ (2) عَنْهَا أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ حُرًّا لِسَمَاعِهِ عَنْهَا مَعَ الْحِجَابِ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ حِجَابٍ شَارَكَتِ الرِّوَايَةَ مَعَ الْحِجَابِ فِي السَّمَاعِ، وَزَادَتْ تَيَقُّنَ عَيْنِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ. الثَّالِثَ عَشَرَ: إِذَا كَانَتْ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَدِ اخْتَلَفَتْ دُونَ الْأُخْرَى، فَالَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا أَوْلَى لِبُعْدِهَا عَنِ الِاضْطِرَابِ. وَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَى الْمَرْوِيِّ فَتَرْجِيحَاتٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَنْ سَمَاعٍ مِنَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى عَنْ كِتَابٍ، فَرِوَايَةُ السَّمَاعِ أَوْلَى لِبُعْدِهَا عَنْ تَطَرُّقِ التَّصْحِيفِ وَالْغَلَطِ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ سَمَاعٍ مِنَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْأُخْرَى عَمَّا جَرَى فِي مَجْلِسِهِ أَوْ زَمَانِهِ وَسَكَتَ عَنْهُ، فَرِوَايَةُ السَّمَاعِ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَبْعَدَ عَنْ غَفْلَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذُهُولِهِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ عَمَّا جَرَى فِي مَجْلِسِهِ وَسَكَتَ عَنْهُ، (فَرِوَايَةُ السَّمَاعِ) أَوْلَى مِمَّا جَرَى فِي زَمَانِهِ خَارِجًا عَنْ مَجْلِسِهِ.   (1) هُوَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَاتَ عَامَ 106 - أَوْ 112 هـ عَنْ 70. (2) الْأَسْوَدُ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ النَّخَعِيُّ مَاتَ عَامَ 74 - أَوْ 75 هـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَمَّا خَطَرُهُ مَعَ السُّكُوتِ عَنْهُ أَعْظَمُ مِنْ خَطَرِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَمَا خَطَرُهُ أَعْظَمُ يَكُونُ أَرْجَحَ لِكَوْنِ السُّكُوتِ عَنْهُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ فِي تَقْرِيرِهِ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ صِيغَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْأُخْرَى عَنْ فِعْلِهِ، فَرِوَايَةُ الصِّيغَةِ تَكُونُ رَاجِحَةً لِقُوَّةِ دَلَالَتِهَا وَضَعْفِ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا أَنَّ مَنْ خَالَفَ فِي دَلَالَةِ الْفِعْلِ وَجَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لَمْ يُخَالِفْ فِي الصِّيَغِ؛ لِأَنَّ مَا يَفْعَلُهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى الِاخْتِصَاصِ بِهِ أَقْرَبُ مِنِ اخْتِصَاصِهِ بِمَدْلُولِ الصِّيغَةِ، وَلِأَنَّ تَطَرُّقَ الْغَفْلَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي فِعْلِهِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي كَلَامِهِ، وَلِهَذَا قَلَّمَا يَتَكَلَّمُ الْإِنْسَانُ غَافِلًا بِخِلَافِ الْفِعْلِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا خَبَرَ وَاحِدٍ وَرَدَ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْكَذِبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَفَرُّدَ الْوَاحِدِ بِنَقْلِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ قَرِيبٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَذَلِكَ كَمَنْ تَفَرَّدَ بِنَقْلِ قَتْلِ الْمَلِكِ فِي وَسَطِ السُّوقِ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلِهَذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَمُتَّفَقًا عَلَى مُقَابِلِهِ. وَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَى الْمَرْوِيِّ عَنْهُ فَتَرْجِيحَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ قَدْ رَوَى عَمَّنْ أَنْكَرَ رِوَايَتَهُ عَنْهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ (1) بِخِلَافِ الرَّاوِي الْآخَرِ، فَمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ إِنْكَارُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ يَكُونُ أَرْجَحَ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ قَدْ أَنْكَرَ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ إِنْكَارَ نِسْيَانٍ وَوُقُوفٍ، وَالْآخَرِ إِنْكَارَ تَكْذِيبٍ وَجُحُودٍ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِالثَّانِي. [التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْمَتْنِ] وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْمَتْنِ:   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ. . . إِلَخْ، فَإِنَّ الزُّهْرِيَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَدَّثَ بِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَمْرًا وَالْآخَرُ نَهْيًا، فَالنَّهْيُ مِنْ حَيْثُ هُوَ نَهْيٌ مُرَجَّحٌ عَلَى الْأَمْرِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الطَّلَبَ فِيهِ التَّرْكُ أَشَدُّ، وَلِهَذَا لَوْ قُدِّرَ كَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطْلَقًا فَإِنَّ أَكْثَرَ مَنْ قَالَ بِالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً نَازَعَ فِي النَّهْيِ. الثَّانِي: أَنَّ مَحَامِلَ النَّهْيِ وَهِيَ تَرَدُّدُهُ بَيْنَ التَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ لَا غَيْرَ أَقَلُّ مِنْ مَحَامِلِ الْأَمْرِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ عَلَى بَعْضِ الْآرَاءِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ النَّهْيِ طَلَبُ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ، وَمِنَ الْأَمْرِ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ وَاهْتِمَامِ الْعُقَلَاءِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ أَكْثَرُ مِنِ اهْتِمَامِهِمْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ. التَّرْجِيحُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا آمِرًا وَالْآخَرُ مُبِيحًا، فَالْآمِرُ وَإِنْ تَرَجَّحَ عَلَى الْمُبِيحِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ إِنْ عُمِلَ بِهِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا لِلْمُبِيحِ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ لِاسْتِوَاءِ طَرَفَيِ الْمُبَاحِ وَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْمَأْمُورِ بِهِ، إِلَّا أَنَّ الْمُبِيحَ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْآمِرِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَدْلُولَ الْمُبِيحِ مُتَّحِدٌ وَمَدْلُولَ الْآمِرِ مُتَعَدِّدٌ، كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، فَكَانَ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّ غَايَةَ مَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْمُبِيحِ تَأْوِيلُ الْآمِرِ بِصَرْفِهِ عَنْ مَحْمَلِهِ الظَّاهِرِ إِلَى الْمَحْمَلِ الْبَعِيدِ، وَالْعَمَلُ بِالْآمِرِ يَلْزَمُ مِنْهُ تَعْطِيلُ الْمُبِيحِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَالتَّأْوِيلُ أَوْلَى مِنَ التَّعْطِيلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبِيحَ قَدْ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ: عَلَى تَقْدِيرِ مُسَاوَاتِهِ لِلْآمِرِ وَرُجْحَانِهِ، وَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّرْجِيحِ، وَمَا يَتِمُّ الْعَمَلُ بِهِ عَلَى تَقْدِيرَيْنِ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّا لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُبِيحِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مَقْصُودًا لِلْمُكَلَّفِ لَا يَخْتَلُّ لِكَوْنِهِ مَقْدُورًا لَهُ، وَالْعَمَلَ بِالْآمِرِ يُوجِبُ الْإِخْلَالَ بِمَقْصُودِ التَّرْكِ بِتَقْدِيرِ كَوْنِ التَّرْكِ مَقْصُودًا لَهُ. التَّرْجِيحُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَمْرًا وَالْآخَرُ خَبَرًا، فَالْخَبَرُ يَكُونُ رَاجِحًا لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَدْلُولَ الْخَبَرِ مُتَّحِدٌ بِخِلَافِ الْأَمْرِ عَلَى مَا سَبَقَ فَكَانَ أَوْلَى لِبُعْدِهِ عَنِ الِاضْطِرَابِ. الثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ نَسْخُهُ عَلَى بَعْضِ الْآرَاءِ بِخِلَافِ الْأَمْرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَمَلَ يَلْزَمُهُ مَحْذُورُ الْكَذِبِ فِي الْخَبَرِ مِنْ كَلَامِ الشَّارِعِ، وَهُوَ فَوْقَ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ مِنْ فَوَاتِ مَقْصُودِ الْأَمْرِ، فَكَانَ الْخَبَرُ أَوْلَى. التَّرْجِيحُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاهِيًا وَالْآخَرُ مُبِيحًا، فَالْمُبِيحُ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْآمِرِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَهْيًا، وَالْآخَرُ خَبَرًا، فَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّهْيِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأَمْرِ أَيْضًا. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُبِيحًا وَالْآخَرُ خَبَرًا، فَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ لِمَا سَبَقَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فِي الْأَمْرِ إِذَا عَارَضَ الْخَبَرَ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُشْتَرِكًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُشْتَرِكٍ، بَلْ مُتَّحِدِ الْمَدْلُولِ، فَمَا اتَّحَدَ مَدْلُولُهُ أَوْلَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْخَلَلِ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ أَحَدِهِمَا حَقِيقِيًّا وَالْآخَرِ مَجَازِيًّا، فَالْحَقِيقِيُّ أَوْلَى لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ الْمُخِلَّةِ بِالتَّفَاهُمِ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَا مُشْتَرِكَيْنِ، إِلَّا أَنَّ مَدْلُولَاتِ أَحَدِهِمَا أَقَلُّ مِنْ مَدْلُولَاتِ الْآخَرِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقِلَّةِ اضْطِرَابِهِ وَقُرْبِ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ. الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَا مَجَازَيْنِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا مَنْقُولٌ مَشْهُورٌ فِي مَحَلِّ التَّجَوُّزِ كَلَفْظِ الْغَائِطِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالْمَنْقُولُ أَوْلَى لِعَدَمِ افْتِقَارِهِ إِلَى الْقَرِينَةِ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْمُصَحَّحُ لِلتَّجَوُّزِ فِي أَحَدِهِمَا أَظْهَرَ وَأَشْهَرَ مِنَ الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ لَفْظُ أَحَدِهِمَا مُشْتَرِكًا وَالْآخَرِ مَجَازًا غَيْرَ مَنْقُولٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ التَّرْجِيحِ فِي اللُّغَاتِ بِطَرِيقٍ فِي الْأَمْرِ (1) بِطَرِيقِ الِاسْتِقْصَاءِ فَعَلَيْكَ بِاعْتِبَارِهِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَا حَقِيقَيْنِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ، فَالْأَظْهَرُ مُرَجَّحٌ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْحَقِيقَتَيْنِ مُتَّفَقًا عَلَيْهَا وَالْأُخْرَى مُخْتَلَفًا فِيهَا، فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ.   (1) فِي الْأَمْرِ - هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ، وَفِي الْمَخْطُوطَةِ " فِي اللُّغَاتِ "، وَالظَّاهِرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ اللُّغَاتِ كَمَا فِي ص 20 - 32 ج1، وَذَكَرَهُ بِاسْتِقْصَاءٍ فِي الصِّنْفِ الْأَوَّلِ مِنْ أَصْنَافِ دَلَالَاتِ الْمَنْظُومِ التِّسْعَةِ ج4، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كِلَاهُمَا مُرَادًا فَالْمَخْطُوطَةُ أَوْلَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُحْتَاجَةٍ إِلَى إِضْمَارٍ وَلَا حَذْفٍ بِخِلَافِ الْأُخْرَى، فَالَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ أَوْلَى لِقِلَّةِ اضْطِرَابِهِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى مَدْلُولِهِ بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ وَالْآخَرُ بِالْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الشَّرْعِ، فَهَا هُنَا يَظْهَرُ أَنَّ الْعَمَلَ بِاللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ لِسَانِ الشَّارِعِ مَعَ كَوْنِهِ مُقَرِّرًا لِوَضْعِ اللُّغَةِ، وَمَا هُوَ عُرْفُهُ وَمُصْطَلَحُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ لِسَانِهِ إِلَّا أَنَّهُ مُغَيِّرٌ لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا هُوَ مِنْ لِسَانِ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِمَا هُوَ مِنْ لِسَانِهِ مَعَ التَّغْيِيرِ، وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا أَطْلَقَ لَفْظًا وَاحِدًا وَكَانَ لَهُ مَدْلُولٌ لُغَوِيٌّ، وَقَدِ اسْتَعَارَهُ الشَّارِعُ فِي مَعْنًى آخَرَ وَصَارَ عُرْفًا لَهُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا أَطْلَقَ الشَّارِعُ ذَلِكَ اللَّفْظَ فَيَجِبُ تَنْزِيلُهُ عَلَى عُرْفِهِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ لَفْظًا وَلَهُ مَوْضُوعٌ فِي عُرْفِهِ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَجَازَيْنِ، وَالْآخَرِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ غَيْرُ مُجَازٍ وَاحِدٍ، فَالَّذِي فِيهِ مَجَازٌ وَاحِدٌ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الِاضْطِرَابِ وَأَقْرَبُ إِلَى الْأَصْلِ. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا دَالًّا عَلَى مَطْلُوبِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَالْآخَرُ لَا يَدُلُّ إِلَّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالَّذِي كَثُرَتْ جِهَةُ دَلَالَتِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا مُؤَكَّدَةً دُونَ الْأُخْرَى فَالْمُؤَكَّدَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى دَلَالَةً وَأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» ". (1)   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا، فَإِنِ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ ". حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَعَلَّهُ جَمَاعَةٌ بِالْإِرْسَالِ، انْظُرْ تَفْصِيلَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي التَّلْخِيصِ الْحَبِيرِ وَنَصْبِ الرَّايَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 الْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى مَدْلُولِهِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ، وَالْآخَرِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، فَدَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَضْبَطُ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَا دَالَّيْنِ بِجِهَةِ الِاقْتِضَاءِ إِلَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِأَحَدِهِمَا فِي مَدْلُولِهِ ضَرُورَةُ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ، أَوْ لِضَرُورَةِ وُقُوعِ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَقْلًا، وَالْآخَرِ لِضَرُورَةِ وُقُوعِ الْمَلْفُوظِ بِهِ شَرْعًا، كَمَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ (1) ، فَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ فَوُقُوعُ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَقْلًا أَوْلَى؛ نَظَرًا إِلَى بُعْدِ الْخُلْفِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَامْتِنَاعِ مُخَالَفَةِ الْمَعْقُولِ وَقُرْبِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْمَشْرُوعِ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَا دَالَّيْنِ بِجِهَةِ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِيهِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ مَعَهُ كَانَ ذِكْرُهُ عَبَثًا وَحَشْوًا، وَالْآخَرَ مِنْ قَبِيلِ مَا رُتِّبَ فِيهِ الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، فَالَّذِي لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ التَّعْلِيلَ كَانَ ذِكْرُهُ عَبَثًا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ؛ نَظَرًا إِلَى مَحْذُورِ الْعَبَثِ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَإِلْغَاؤُهُ أَتَمُّ مِنْ مَحْذُورِ الْمُخَالَفَةِ لِدَلَالَةِ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَإِمْكَانِ تَأْوِيلِهَا بِغَيْرِ السَّبَبِيَّةِ بَلْ وَهُوَ أَوْلَى (2) مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ زِيَادَةِ الْمَحْذُورِ، وَمَا دَلَّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِظُهُورِهَا، مُقَدَّمٌ عَلَى مَا عَدَاهُ مِنْ بَاقِي أَقْسَامِ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَا دَالَّيْنِ بِجِهَةِ الْمَفْهُومِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَالْآخَرَ مِنْ قَبِيلِ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، فَقَدْ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ عَلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٌ فِي مُقَابِلِهِ، وَقَدْ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فَائِدَةَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ التَّأْسِيسُ، وَفَائِدَةَ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ التَّأْكِيدُ، وَالتَّأْسِيسُ أَصْلٌ وَالتَّأْكِيدُ فَرْعٌ، فَكَانَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَقْدِيرِ فَهْمِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَبَيَانِ وُجُودِهِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، وَأَنَّ اقْتِضَاءَهُ لِلْحُكْمِ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ أَشَدُّ.   (1) سَبَقَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مَسَائِلِ الْعُمُومِ ج 2. (2) بَلْ وَهُوَ أَوْلَى - هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ وَفِي الْمَخْطُوطَةِ - وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُحَرَّفٌ وَلَعَلَّ الْأَصْلَ: بَلْ هُوَ أَوْلَى. . . إِلَخْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ: فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ فَهْمِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ النُّطْقِ، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ غَيْرَ مُتَحَقِّقٍ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مُعَارِضٌ فِي مَحَلِّ السُّكُوتِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرَاتٍ أَرْبَعَةٍ أَوْلَى مِمَّا لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ. الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ، وَدَلَالَةُ الْآخَرِ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ، فَدَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ أَوْلَى لِتَرَجُّحِهَا بِقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ لَهَا بِخِلَافِ دَلَالَةِ الْإِشَارَةِ. الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَالْآخَرِ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ، فَدَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ أَوْلَى لِتَوَقُّفِ صِدْقِ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ مَدْلُولِ مَنْطُوقِهِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ دَلَالَةِ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ وَالْآخَرِ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، فَدَلَالَةُ الِاقْتِضَاءِ أَوْلَى لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهَا وَوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي مُقَابِلِهَا، وَلِأَنَّ مَا يَعْتَرِضُ دَلَالَةَ الِاقْتِضَاءِ مِنَ الْمُبْطِلَاتِ أَقَلُّ مِمَّا يَعْتَرِضُ الْمَفْهُومَ، وَبِهَذَا كَانَ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ التَّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ مُقَدَّمًا عَلَى دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ قَبِيلِ الْمَنْطُوقِ وَالْآخَرِ مِنْ دَلَالَةِ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ، فَالْمَنْطُوقُ أَوْلَى لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الِالْتِبَاسِ بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالْآخَرُ خَاصًّا، فَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ وَأَخَصُّ بِالْمَطْلُوبِ. الثَّانِي: أَنَّ الْعَمَلَ بِالْعَامِّ يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ دَلَالَةِ الْخَاصِّ وَتَعْطِيلُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ تَعْطِيلُ الْعَامِّ بَلْ تَأْوِيلُهُ وَتَخْصِيصُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحْذُورَ التَّعْطِيلِ فَوْقَ مَحْذُورِ التَّأْوِيلِ. الثَّالِثُ: أَنَّ ضَعْفَ الْعُمُومِ بِسَبَبِ تَطَرُّقِ التَّخْصِيصِ إِلَيْهِ، وَضَعْفَ الْخُصُوصِ بِسَبَبِ تَأْوِيلِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ إِلَى مَجَازِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَطَرُّقَ التَّخْصِيصِ إِلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 الْعُمُومَاتِ أَكْثَرُ مِنْ تَطَرُّقِ التَّأْوِيلِ إِلَى الْخَاصِّ، وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْعُمُومَاتِ مُخَصَّصَةً وَأَكْثَرُ الظَّوَاهِرِ الْخَاصَّةِ مُقَرَّرَةً، وَبِهَذَا يَكُونُ الْمُطْلَقُ الدَّالُّ عَلَى وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ مُرَجَّحًا عَلَى الْعَامِّ. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَامًّا مُخَصَّصًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُخَصَّصٍ، فَالَّذِي لَمْ يَدْخُلْهُ التَّخْصِيصُ أَوْلَى لِعَدَمِ تَطَرُّقِ الضَّعْفِ إِلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا فَمَا كَانَ عَامًّا مِنْ وَجْهٍ وَخَاصًّا مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ مُرَجَّحًا عَلَى مَا هُوَ عَامٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ الْمُطْلَقُ مِنْ وَجْهٍ وَالْمُقَيَّدُ مِنْ وَجْهٍ مُرَجَّحٌ عَلَى مَا هُوَ مُطْلَقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَمَا هُوَ مَنْطُوقٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَكَذَلِكَ الْحَقِيقِيُّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا هُوَ حَقِيقِيٌّ مَنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. الثَلَاثُونَ: أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا مِنْ قَبِيلِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَالْآخَرَ مِنْ قَبِيلِ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَقَدْ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ دَلَالَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لِكَوْنِ الْحُكْمِ فِيهِ مُعَلَّلًا بِخِلَافِ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ، وَالْمُعَلَّلُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِ الْمُعَلَّلِ، وَقَدْ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ دَلَالَةِ نَفِيِ النَّكِرَةِ بِأَنَّ دَلَالَتَهُ أَقْوَى، وَلِهَذَا كَانَ خُرُوجُ الْوَاحِدِ مِنْهُ يُعَدُّ خُلْفًا فِي الْكَلَامِ، عِنْدَمَا إِذَا قَالَ: " لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ " وَكَانَ فِيهَا رَجُلٌ، بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ، وَبِهَذَا تَكُونُ دَلَالَةُ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ أَوْلَى مِنْ جَمِيعِ أَقْسَامِ الْعُمُومِ. الْحَادِي وَالثَلَاثُونَ: أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَالْآخَرِ مِنْ قَبِيلِ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ خَالَفَ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ وَافَقَ عَلَى صِيغَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ فِيهِ مُشِيرَةٌ إِلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ، وَبِهَذَا يَكُونُ أَوْلَى مِنْ بَاقِي أَقْسَامِ الْعُمُومِ. الثَّانِي وَالثَلَاثُونَ: أَنْ تَكُونَ دَلَالَةُ أَحَدِهِمَا مِنْ قَبِيلِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ وَالْآخَرِ جَمْعُ مُنْكَرٍ، فَالْمُعَرَّفُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ وَافَقَ عَلَى عُمُومِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ خَالَفَ فِي الْمُنْكَرِ، فَكَانَ أَقْوَى لِقُرْبِهِ إِلَى الْوِفَاقِ، الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ الْإِبْهَامُ بِخِلَافِ الْمُنْكِرِ فَكَانَ أَوْلَى، (1) ، وَرُبَّمَا رَجَّحَ الْمُنْكَرُ بِكَوْنِهِ دَالًّا عَلَى عَدَدٍ أَقَلَّ مِنَ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، فَكَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْخُصُوصِ فَكَانَ أَوْلَى.   (1) انْظُرْ مَا اقْتَضَاهُ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْعَامِّ عَلَى الْمُطْلَقِ مَعَ مَا بَنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: " وَلِهَذَا يَكُونُ الْمُطَلَّقُ الدَّالُّ عَلَى وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ مُرَجَّحًا عَلَى الْعَامِّ ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 الثَّالِثُ وَالثَلَاثُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اسْمَ جَمْعٍ مُعَرَّفٍ وَالْآخَرُ اسْمَ جِنْسٍ دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَاسْمُ الْجَمْعِ أَوْلَى، لَا مَكَانَ حَمَلُ اسْمِ الْجِنْسِ عَلَى الْوَاحِدِ الْمَعْهُودِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، فَكَانَ أَقْوَى عُمُومًا، وَبِهَذَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى (مَنْ) وَ (مَا) . الرَّابِعُ وَالثَلَاثُونَ: إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ قَبِيلِ اسْمِ الْجِنْسِ الْمُعَرَّفِ وَالْآخَرِ مِنْ قَبِيلِ (مَنْ) وَ (مَا) ، فَـ (مَنْ) وَ (مَا) أَوْلَى لِعَدَمِ احْتِمَالِهِمَا لِلْعَهْدِ، وَاحْتِمَالِ مَا قَابَلَهُمَا لَهُ. الْخَامِسُ وَالثَلَاثُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الظَّاهِرِينَ مُضْطَرِبًا فِي لَفْظِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَغَيْرُ الْمُطَّرِبِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْحِفْظِ وَالضَّبْطِ. السَّادِسُ وَالثَلَاثُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ وَعِلَّتِهِ، وَالْآخَرُ دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ عِلَّتِهِ، فَالدَّالُّ عَلَى الْعِلَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِيضَاحِ وَالْبَيَانِ. السَّابِعُ وَالثَلَاثُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا وَالْآخَرُ فِعْلًا، فَالْقَوْلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْبَيَانِ مِنَ الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَوْلًا وَفِعْلًا وَالْآخَرُ قَوْلًا فَقَطْ فَالْقَوْلُ وَالْفِعْلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى فِي الْبَيَانِ. الثَّامِنُ وَالثَلَاثُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُشْتَمِلًا عَلَى زِيَادَةٍ لَمْ يَتَعَرَّضِ الْآخَرَ لَهَا، كَرِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كَبَّرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ سَبْعًا» (1) فَإِنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَى أَرْبَعًا (2) لِاشْتِمَالِهَا عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ خَفِيٍّ عَلَى الْآخَرِ.   (1) رَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي عِيدٍ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً: سَبْعًا فِي الْأُولَى، وَخَمْسًا فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: التَّكْبِيرُ فِي الْفِطْرِ سَبْعٌ فِي الْأُولَى وَخَمْسٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْقِرَاءَةُ بَعْدَهُمَا كِلْتَيْهِمَا. وَقَدْ نَقَلَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ الْمُفْرَدَةِ مِنَ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ: إِسْنَادُهُ صَالِحٌ. انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ. (2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ سُئِلَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكَبِّرُ فِي الْأَضْحَى وَالْفِطَرِ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: كَانَ يُكَبِّرُ أَرْبَعًا تَكْبِيرَهُ عَلَى الْجِنَازَةِ، انْظُرْ تَلْخِيصَ الْحَبِيرِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: صَدَقَ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمْ أَسْنَدُوهُ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 التَّاسِعُ وَالثَلَاثُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْمَنْقُولَيْنِ الظَّاهِرَيْنِ إِجْمَاعًا وَالْآخَرُ نَصًّا (1) ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ فَالْإِجْمَاعُ مُرَجَّحٌ؛ لِأَنَّ النُّسَخَ مَأْمُونٌ فِيهِ بِخِلَافِ النَّصِّ. الْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَا إِجْمَاعَيْنِ ظَاهِرَيْنِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْعَصْرِ وَالْآخَرِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ سِوَى أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، فَالَّذِي دَخَلَ فِيهِ الْجَمِيعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ فِيهِ. الْحَادِيُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ دَخَلَ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الْفُقَهَاءُ الَّذِينَ لَيْسُوا أُصُولِيِّينَ وَالْأُصُولِيِّينَ الَّذِينَ لَيْسُوا فُقَهَاءَ وَخَرَجَ عَنْهُ الْعَوَامُّ، وَالْآخَرُ بِالْعَكْسِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ وَاسْتِنْبَاطِهَا مِنْ مَدَارِكِهَا، وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ أَيْضًا مَا دَخَلَ فِيهِ الْأُصُولِيُّ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ وَلَمْ يَدْخُلِ الْفَقِيهُ أَوْلَى مِمَّا هُوَ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الْأُصُولِيَّ أَعْرَفُ بِمَدَارِكِ الْأَحْكَامِ وَكَيْفِيَّةِ تَلَقِّي الْأَحْكَامِ مِنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَفْهُومِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِ. الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ دَخَلَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ الَّذِي لَيْسَ بِكَافِرٍ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقُ، وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ. الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ دَخَلَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ دُونَ الْعَوَامِّ وَالْفُرُوعِيِّينَ الَّذِينَ لَيْسُوا أُصُولِيِّينَ وَالْأُصُولِيُّونَ الَّذِينَ لَيْسُوا فُرُوعِيِّينَ وَالْآخَرُ بِعَكْسِهِ، فَمَا دَخَلَ فِيهِ الْمُبْتَدَعُ أَوْلَى إِذَا الْخَلَلُ فِي قَوْلِهِ: " إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ كَذِبِهِ فِيمَا يَقُولُ " وَالْخَلَلُ فِي قَوْلِ مَنْ عَدَاهُ مِنَ الْمَذْكُورِينَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جَهْلِهِ وَعَدَمِ إِحَاطَتِهِ وَعَدَمِ كَمَالِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ الْخَلَلِ بِجِهَةِ الْكَذِبِ مِنَ الْفَاسِقِ لِحُرْمَتِهِ وَتَعَلُّقِ الْإِثْمِ بِهِ أَنْدَرُ مِنَ الْخَلَلِ النَّاشِئِ بِسَبَبِ الْجَهْلِ وَعَدَمِ الْإِحَاطَةِ.   (1) لَا يُوجَدُ إِجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ يُنَاقِضُ نَصًّا صَحِيحًا إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَ الْإِجْمَاعِ نَصٌّ صَحِيحٌ مَعْلُومٌ لِلْأُمَّةِ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ النَّصِّ الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِذَا خَالَفَ الْإِجْمَاعُ الظَّنِّيُّ نَصًّا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قُدِّمَ النَّصُّ عَلَيْهِ، انْظُرْ ص 201 - 202، ص 267 وَمَا بَعْدَهَا ج 19 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْإِجْمَاعَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْآخَرُ مِنَ التَّابِعِينَ، فَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَوْلَى لِلثِّقَةِ بِعَدَالَتِهِمْ وَبَعْدَ تَقَاعُدِهِمْ عَنْ تَحْقِيقِ الْحَقِّ وَإِبْطَالِ الْبَاطِلِ وَغَلَبَةِ جَدِّهِمْ وَكَثْرَةِ اجْتِهَادِهِمْ فِي تَمْهِيدِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ خِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِي إِجْمَاعٍ غَيْرِ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى هَذَا فَإِجْمَاعُ التَّابِعِينَ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى إِجْمَاعِ مَنْ بَعْدَهُمْ؛ لِقُرْبِهِمْ مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي أَنَا فِيهِ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ» " (1) فَإِجْمَاعُهُمْ يَكُونُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْإِجْمَاعَيْنِ قَدِ انْقَرَضَ عَصْرُهُ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا انْقَرَضَ عَصْرُهُ يَكُونُ أَوْلَى لِاسْتِقْرَارِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْخِلَافِ. السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَأْخُوذًا عَنِ انْقِسَامِ الْأُمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي أَنَّهُ إِجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ قَوْلٍ ثَالِثٍ، وَالْإِجْمَاعُ الْآخَرُ عَلَى إِثْبَاتِ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، فَالْإِجْمَاعُ عَلَى إِثْبَاتِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ اللَّبْسِ وَعَمَّا يَقُولُهُ الْمُنَازِعُ فِي الْأَوَّلِ مِنْ وُجُوهِ الْقَدَحِ وَيُبْدِيهِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ. السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَسْبُوقًا بِالْمُخَالَفَةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالَّذِي لَمْ يَسْبِقْ بِالْمُخَالَفَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ. الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ رَجَعَ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِ عَمَّا حَكَمَ بِهِ مُوَافِقًا لِلْبَاقِينَ لِدَلِيلٍ ظَهَرَ لَهُ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ بَعْضُ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْلَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْخِلَافِ فِيهِ. التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ غَيْرُ الْمُجْتَهِدِينَ، وَالْآخَرُ مِنْ إِجْمَاعِ التَّابِعِينَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ عَصْرِهِمْ، فَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ أَوْلَى لِلْوُثُوقِ بِعَدَالَتِهِمْ وَزِيَادَةِ جَدِّهِمْ، كَمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، وَفِي مَعْنَى هَذَا يَكُونُ قَدْ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الْوَاقِعَةِ بِخِلَافِ التَّابِعِينَ. الْخَمْسُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْعَصْرِ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْقَرِضْ عَصْرُهُمْ وَالْآخَرُ بِالْعَكْسِ، فَمَا دَخَلَ فِيهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْعَصْرِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِيهِ مُتَيَقِّنَةٌ، وَاحْتِمَالَ الرُّجُوعِ بِسَبَبِ عَدَمِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ مَوْهُومٌ، وَفِي مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ   (1) انْظُرْ مَا تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 150 ج4، ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ إِجْمَاعٌ مِنَ التَّابِعِينَ عَلَى خِلَافِ إِجْمَاعٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعَ الْقَوْلِ بِعِصْمَةِ الْإِجْمَاعِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 مَا لَمْ يَنْقَرِضْ آلَافٌ قَدْ دَخَلَ فِيهِ الْمُجْتَهِدُ الْمُبْتَدِعُ، أَوِ الْأُصُولِيُّ الَّذِي لَيْسَ فُرُوعِيًّا، أَوِ الْفُرُوعِيُّ الَّذِي بِأُصُولِيٍّ، وَالْآخَرُ بِخِلَافِهِ. الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ مَأْخُوذٍ مِنِ انْقِسَامِ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ كَمَا سَبَقَ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْقَرِضْ عَصْرُهُ وَالْآخَرُ بِعَكْسِهِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى نَظَرًا إِلَى أَنَّ جِهَةَ الْإِجْمَاعِ فِيهِ أَقْوَى بِيَقِينٍ، أَوْ رُجُوعَ الْوَاحِدِ عَنْهُ قَبْلَ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ مَوْهُومٌ، وَفِي مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ أَحَدُ إِجْمَاعَيْنِ قَدِ انْقَرَضَ عَصْرُهُ إِلَّا أَنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالْمُخَالَفَةِ وَالْآخَرُ بِعَكْسِهِ. الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْإِجْمَاعَيْنِ مَأْخُوذًا مِنِ انْقِسَامِ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِمُخَالَفَةِ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْآخَرُ بِعَكْسِهِ، فَالَّذِي لَمْ يَكُنْ مَأْخُوذًا مِنِ انْقِسَامِ الْأُمَّةِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْلَى لِقُوَّةِ الْإِجْمَاعِ فِيهِ. [التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْمَدْلُولِ] وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْمَدْلُولِ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا الْحَظْرَ وَالْآخَرِ الْإِبَاحَةَ، وَهَذَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِيهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ كَأَصْحَابِنَا وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالْكَرْخِيِّ وَالرَّازِيِّ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْحَاظِرَ أَوْلَى. وَذَهَبَ أَبُو هَاشِمٍ وَعِيسَى بْنُ أَبَانٍ إِلَى التَّسَاوِي وَالتَّسَاقُطِ، وَالْوَجْهُ فِي تَرْجِيحِ مَا مُقْتَضَاهُ الْحَظْرُ أَنَّ مُلَابَسَةَ الْحَرَامِ مُوجِبَةٌ لِلْمَأْثَمِ بِخِلَافِ الْمُبَاحِ، فَكَانَ أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ. وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ فِي الْعَيْنِ الْوَاحِدَةِ حَظْرٌ وَإِبَاحَةٌ كَالْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ قُدِّمَ التَّحْرِيمُ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا طَلَّقَ بَعْضَ نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا ثُمَّ أُنْسِيهَا حَرُمَ وَطْءُ الْجَمِيعِ تَقْدِيمًا لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إِلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» " (1) وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ» " (2) غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ تَرْجِيحُ مَا مُقْتَضَاهُ   (1) قَالَ فِيهِ ابْنُ السُّبْكِيِّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ نَقْلًا عَنِ الْبَيْهَقِيِّ: رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ وَانْقِطَاعٌ، وَقَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي تَخْرِيجِ مِنْهَاجِ الْأُصُولِ: لَا أَصْلَ لَهُ، وَأَدْرَجَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ فِيمَا لَا أَصْلَ لَهُ - اهـ مِنْ كَشْفِ الْخَفَاءِ وَالْإِلْبَاسِ لِلْعَجْلُونِيِّ. (2) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ بِلَفْظِ: دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكَ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ ". وَرَمَزَ لَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِرَمْزِ الصِّحَّةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 الْإِبَاحَةُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِمَا مُقْتَضَاهُ التَّحْرِيمُ لَزِمَ مِنْهُ فَوَاتُ مَقْصُودِ الْإِبَاحَةِ مِنَ التَّرْكِ مُطْلَقًا، وَلَوْ عَمِلْنَا بِمَا مُقْتَضَاهُ الْإِبَاحَةُ فَقَدْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ فَوَاتُ مَقْصُودِ الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ حَرَامًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْمَفْسَدَةُ ظَاهِرَةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَالْغَالِبُ أَنَّ الْمُكَلَّفَ يَكُونُ عَالِمًا بِهَا وَقَادِرًا عَلَى دَفْعِهَا؛ لِعِلْمِهِ بِعَدَمِ لُزُومِ الْمَحْذُورِ مِنْ تَرِكِ الْمُبَاحِ، وَلِأَنَّ الْمُبَاحَ مُسْتَفَادٌ مِنَ التَّخْيِيرِ قَطْعًا بِخِلَافِ اسْتِفَادَةِ الْحُرْمَةِ مِنَ النَّهْيِ لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى وَجْهُ التَّرْجِيحِ بَيْنَ مَا مُقْتَضَاهُ الْحُرْمَةُ وَمَا مُقْتَضَاهُ النَّدْبُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُ أَحَدِهِمَا الْحَظْرَ وَالْآخَرِ الْوُجُوبَ، فَمَا مُقْتَضَاهُ التَّحْرِيمُ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الْحُرْمَةِ إِنَّمَا هُوَ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ مُلَازِمَةٍ لِلْفِعْلِ أَوْ تَقْلِيلُهَا، وَفِي الْوُجُوبِ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةٍ مُلَازِمَةٍ لِلْفِعْلِ، أَوْ تَكْمِيلُهَا، وَاهْتِمَامُ الشَّارِعِ وَالْعُقَلَاءِ بِدَفْعِ الْمَفَاسِدِ أَتَمُّ مِنِ اهْتِمَامِهِمْ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ فِعْلًا لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ، يَنْفُرُ عَنْهُ إِذَا عَارَضَهُ فِي نَظْرَةِ لُزُومِ مَفْسَدَةٍ مُسَاوِيَةٍ لِلْمَصْلَحَةِ، كَمَنْ رَامَ تَحْصِيلَ دِرْهَمٍ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ فَوَاتُ مِثْلِهِ، وَإِذَا كَانَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّحْرِيمِ أَشَدَّ وَآكَدَ مِنْهُ فِي الْوَاجِبِ كَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَلِهَذَا كَانَ مَا شُرِعَتِ الْعُقُوبَاتُ فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ أَكْثَرَ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَأَشَدَّ كَالرَّجْمِ الْمَشْرُوعِ فِي زِنَا الْمُحْصَنِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِفْضَاءَ الْحُرْمَةِ إِلَى مَقْصُودِهَا أَتَمُّ مِنْ إِفْضَاءِ الْوُجُوبِ إِلَى مَقْصُودِهِ، فَكَانَتِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحُرْمَةِ يَتَأَتَّى بِالتَّرْكِ وَذَلِكَ كَافٍ مَعَ الْقَصْدِ لَهُ، أَوْ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ فِعْلُ الْوَاجِبِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ وَفِعْلَ الْمُحَرَّمِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي دَاعِيَةِ الطَّبْعِ إِلَيْهِمَا فَالتَّرْكُ يَكُونُ أَيْسَرَ وَأَسْهَلَ مِنَ الْفِعْلِ لِتُضَمُّنِ الْفِعْلِ مَشَقَّةَ الْحَرَكَةِ وَعَدَمَ الْمَشَقَّةِ فِي التَّرْكِ، وَمَا يَكُونُ حُصُولُ مَقْصُودِهِ أَوْقَعَ يَكُونُ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ. (1) الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا الْحُرْمَةَ وَالْآخَرِ الْكَرَاهَةَ، فَالْحَظْرُ أَوْلَى لِمُسَاوَاتِهِ الْكَرَاهَةَ فِي طَلَبِ التَّرْكِ وَزِيَادَتِهِ عَلَيْهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اللَّوْمِ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ   (1) انْظُرْ ص 290 - 306 وَص 85 - 159 ج 20 مِنْ مَجْمُوعِ الْفَتَاوَى لِابْنِ تَيْمِيَةَ، وَالْجُزْءَ الثَّانِي مِنَ الْمُوَافَقَاتِ، وَمَبْحَثَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ مِنْهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 مِنْهُمَا إِنَّمَا هُوَ التَّرْكُ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ الْمُلَازِمَةِ لِلْفِعْلِ، وَالْحُرْمَةُ أَوْفَى لِتَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْمُحَرَّمِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِبْطَالُ دَلَالَةِ الْمُقْتَضِي لِلْكَرَاهَةِ، وَهُوَ طَلَبُ التَّرْكِ وَالْعَمَلُ بِالْمُقْتَضِي لِلْكَرَاهَةِ مِمَّا يَجُوزُ مَعَهُ الْفِعْلُ، وَفِيهِ إِبْطَالُ دَلَالَةِ الْمُحَرَّمِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا لَا يُفْضِي إِلَى الْإِبْطَالِ يَكُونُ أَوْلَى، وَبِمَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَرْجِيحِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُقْتَضِي لِلْكَرَاهَةِ يَكُونُ تَرْجِيحُ الْمُوجِبِ عَلَى الْمُقْتَضِي لِلنَّدْبِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا إِثْبَاتًا وَالْآخَرِ نَفْيًا، وَذَلِكَ كَخَبَرِ بِلَالٍ بِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «دَخَلَ الْبَيْتَ وَصَلَّى» (1) وَخَبَرُ أُسَامَةَ «أَنَّهُ دَخَلَ وَلَمْ يُصَلِّ» (2) فَالنَّافِي مُرَجَّحٌ عَلَى الْمُثْبِتِ خِلَافًا لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ فِي قَوْلِهِ: " إِنَّهُمَا سَوَاءٌ "، وَالْمُثْبِتُ وَإِنْ كَانَ مُتَرَجِّحًا عَلَى النَّافِي لِاشْتِمَالِهِ عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ غَيْرَ أَنَّ النَّافِيَ لَوْ قَدَّرْنَا تَقَدُّمَهُ عَلَى الْمُثْبِتِ كَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْكِيدَ، وَلَوْ قَدَّرْنَا تَأَخُّرَهُ كَانَتْ فَائِدَتُهُ التَّأْسِيسَ، وَفَائِدَةُ التَّأْسِيسِ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِتَأْخِيرِهِ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَأَخُّرِهِ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ، وَرَفْعُ حُكْمِهِ دُونَ تَقَدُّمِهِ. قُلْنَا: هُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّا لَوْ قَدَّرَنَا تَقَدُّمَ النَّافِي فَالْمُثْبَتُ بَعْدَهُ يَكُونُ نَافِيًا لِحُكْمِهِ وَرَافِعًا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُثْبِتُ وَإِنْ كَانَ رَافِعًا لِحُكْمِ النَّافِي عَلَى تَقْدِيرِ تَأَخُّرِهِ عَنْهُ، فَرَافِعٌ لِمَا فَائِدَتُهُ التَّأْكِيدُ، وَلَوْ قَدَّرْنَا تَأَخُّرَ النَّافِي كَانَ مُبْطِلًا لِمَا فَائِدَتُهُ التَّأْسِيسُ، فَكَانَ فَرْضُ تَأَخُّرِ الْمُثْبِتِ أَوْلَى.   (1) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ. (2) يُشِيرُ إِلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَبَّرَ فِي الْبَيْتِ وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنِ ابْنُ عَبَّاسٍ دَخَلَ مَعَهُمُ الْبَيْتَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 قُلْنَا: إِلَّا أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ فَائِدَةُ النَّافِي التَّأْكِيدَ عَلَى تَقْدِيرِ تَقَدُّمِهِ فَالْمُثْبِتُ يَكُونُ رَافِعًا لِحُكْمٍ تَأْسِيسِيٍّ، وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى الْحَالِ الْأَصْلِيِّ، وَزِيَادَةُ مَا حَصَلَ مِنَ النَّافِي مِنَ التَّأْكِيدِ، وَلَا كَذَلِكَ مَا لَوْ كَانَ النَّافِي مُتَأَخِّرًا فَإِنَّهُ لَا يَرْفَعُ غَيْرَ التَّأْسِيسِ، وَمَا لَا يُفْضِي إِلَى رَفْعِ التَّأْسِيسِ مَعَ التَّأْكِيدِ يَكُونُ أَوْلَى مِمَّا يُفْضِي إِلَى رَفْعِ الْأَمْرَيْنِ مَعًا، وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُفِيدٌ لِمَا هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ، وَالنَّافِيَ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى إِفَادَتِهِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْغَالِبُ مِنَ الشَّارِعِ أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى غَيْرَ الشَّرْعِيِّ، فَمَعَ أَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَقْصُودٌ لِحِكْمَتِهِ؛ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَيْهَا، وَحِكْمَةُ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْصُودَةً فَكَذَلِكَ حِكْمَةُ النَّفْيِ، فَهُوَ مُعَارَضٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْغَالِبَ مِنَ الشَّارِعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَأْلُوفُ مِنْهُ، إِنَّمَا هُوَ التَّقْرِيرُ لَا التَّغْيِيرُ، وَعَلَى هَذَا فَالْحُكْمُ لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ يَكُونُ أَوْلَى مِنَ الْمُغَيَّرِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا مَعْقُولًا وَالْآخَرِ غَيْرَ مَعْقُولٍ، فَمَا حُكْمُهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَإِنْ كَانَ الثَّوَابُ بِتَلَقِّيهِ أَكْثَرَ لِزِيَادَةِ مَشَقَّتِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ (1) إِلَّا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ بِشَرْعِ مَا هُوَ مَعْقُولٌ أَتَمُّ مِمَّا لَيْسَ بِمَعْقُولٍ؛ نَظَرًا إِلَى سُهُولَةِ الِانْقِيَادِ وَسُرْعَةِ الْقَبُولِ، وَمَا شَرْعُهُ أَفْضَى إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الشَّرْعِ يَكُونُ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا كَانَ شَرْعُ الْمَعْقُولِ أَغْلَبَ مِنْ شَرْعِ غَيْرِ الْمَعْقُولِ، حَتَّى إِنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا وَهُوَ مَعْقُولٌ حَتَّى فِي ضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَنَحْوِهِ مِمَّا ظَنَّ أَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَلِأَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْقُولِ مِنَ الْفَائِدَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى مَحَلِّ النَّصِّ بِالتَّعْدِيَةِ وَالْإِلْحَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي غَيْرِ الْمَعْقُولِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَمَا كَانَتْ جِهَةُ تَعَقُّلِهِ أَقْوَى كَمَا يَأْتِي وَجْهُ التَّفْصِيلِ فِيهِ فِي الْعِلَلِ، فَهُوَ أَوْلَى. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُشْتَمِلًا عَلَى زِيَادَةٍ لَا وُجُودَ لَهَا فِي الْآخَرِ، كَمُوجِبِ الْجَلْدِ مَعَ الْمُوجِبِ لِلْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ، فَالْمُوجِبُ لِلزِّيَادَةِ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالزِّيَادَةِ غَيْرُ مُوجَبٍ لِإِبْطَالِ مَنْطُوقِ الْآخَرِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوبِ الْجَلْدِ وَإِجْزَائِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالْعَمَلُ بِالْمُوجِبِ لِلْجَلْدِ فَقَطْ مُوجَبٌ لِإِبْطَالِ الْمَنْطُوقِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُوبِ الزِّيَادَةِ، وَمَا لَا يُفْضِي إِلَى إِبْطَالِ حُكْمِ الدَّلِيلِ أَوْلَى مِمَّا يُفْضِي إِلَى الْإِبْطَالِ، وَلِأَنَّ دَلَالَةَ الْمُوجِبِ لِلْجَلْدِ عَلَى نَفْيِ الزِّيَادَةِ غَيْرُ مَأْخُوذَةٍ مِنْ مَنْطُوقِ اللَّفْظِ، وَوُجُوبَ   (1) يُشِيرُ إِلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ: " ثَوَابُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ "، وَقَدْ تَقَدَّمَ ص 140 ج 3. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 الزِّيَادَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ مَنْطُوقِ اللَّفْظِ، وَمُخَالَفَةُ مَا لَيْسَ بِمَنْطُوقٍ بِالْمَنْطُوقِ أَوْلَى لِمَا تَقَدَّمَ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ أَحَدِهِمَا الْجَلْدَ وَالْآخَرِ الدَّرْءَ، فَالدَّارِئُ يَكُونُ أَوْلَى نَظَرًا إِلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فِي تَرْجِيحِ مَا حُكْمُهُ النَّفْيُ عَلَى مَا حُكْمُهُ الْإِثْبَاتُ، وَلِأَنَّ الْخَطَأَ فِي نَفْيِ الْعُقُوبَةِ أَوْلَى مِنَ الْخَطَإِ فِي تَحْقِيقِهَا عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لِأَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ» " (1) ، وَلِأَنَّ مَا يَعْتَرِضُ الْحَدَّ مِنَ الْمُبْطِلَاتِ أَكْثَرُ مِمَّا يَعْتَرِضُ الدَّرْءَ، فَكَانَ أَوْلَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْخَلَلِ وَقُرْبِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ، وَلِأَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا وُقُوعَ الطَّلَاقِ أَوِ الْعِتْقَ، وَحُكْمُ الْآخَرِ نَفْيَهُ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: مَا حُكْمُهُ الْوُقُوعُ أَوْلَى لِأَنَّهُ الدَّلِيلُ النَّافِي لِمِلْكِ الْبُضْعِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ، وَالنَّافِي لَهُمَا عَلَى خِلَافِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: بَلِ النَّافِي لَهُمَا أَوْلَى لِأَنَّهُ عَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِصِحَّةِ النِّكَاحِ وَإِثْبَاتِ مِلْكِ الْيَمِينِ الْمُتَرَجَّحُ عَلَى النَّفْيِ لَهُ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا تَكْلِيفِيًّا وَحُكْمُ الْآخَرِ وَضْعِيًّا، فَالتَّكْلِيفِيُّ وَإِنِ اشْتَمَلَ عَلَى زِيَادَةِ الثَّوَابِ الْمُرْتَبِطِ بِالتَّكْلِيفِ وَكَانَ لِأَجْلِهِ رَاجِحًا، فَالْوَضْعِيُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْمُخَاطَبِ وَفَهْمِهِ، وَتُمَكُّنُهُ مِنَ الْفِعْلِ يَكُونُ مُتَرَجِّحًا. الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا أَخَفَّ مِنَ الْآخَرِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْأَخَفَّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» " (2) ، وَقِيلَ: إِنَّ الْأَثْقَلَ أَوْلَى نَظَرًا إِلَى الشَّرْعِيَّةِ   (1) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ عِدَّةٍ لَا تَخْلُو مِنْ ضَعْفٍ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: " ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إِنْ يُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ ". وَفِي إِسْنَادِهِ يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ الدِّمَشْقِيُّ ضَعِيفٌ، انْظُرْ طُرُقَ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ وَنَصْبِ الرَّايَةِ. (2) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 229 ج 4. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 إِنَّمَا يَقْصِدُ بِهَا مَصَالِحَ الْمُكَلَّفِينَ، وَالْمَصْلَحَةُ فِي الْفِعْلِ الْأَشَقِّ أَعْظَمُ مِنْهَا فِي الْفِعْلِ الْأَخَفِّ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «ثَوَابُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ» " (1) ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الظَّنِّ إِنَّمَا هُوَ تَأَخُّرُهُ عَنِ الْأَخَفِّ؛ نَظَرًا إِلَى الْمَأْلُوفِ مِنْ أَحْوَالِ الْعُقَلَاءِ، فَإِنَّ مَنْ قَصَدَ تَحْصِيلَ مَقْصُودٍ بِفِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَهُ بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، بَلْ بِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَبِتَقْدِيرِ تَقَدُّمِ الْأَخَفِّ عَلَى الْأَثْقَلِ يَكُونُ مُوَافِقًا لِنَظَرِ أَهْلِ الْعُرْفِ فَكَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ ثِقَلِهِ تَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ عَلَى مَقْصُودِ الْأَخَفِّ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ أَوْلَى. الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَبَرَيْنِ خَبَرًا وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ حُكْمَ أَحَدِهِمَا مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى بِخِلَافِ حُكْمِ الْآخَرِ، فَمَا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنِ الْكَذِبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَفَرُّدَ الْوَاحِدِ بِنَقْلِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ أَقْرَبُ إِلَى الْكَذِبِ، كَمَا تَقَرَّرَ قَبْلُ. (2) ، وَلِهَذَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَمُتَّفَقًا عَلَى مُقَابِلِهِ. [التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ] وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ: الْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ مُوَافِقًا لِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ حِسٍّ، وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، فَمَا هُوَ عَلَى وَفْقِ الدَّلِيلِ الْخَارِجِ أَوْلَى لِتَأَكُّدِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِقَصْدِ مَدْلُولِهِ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى مُخَالَفَةِ مُقَابِلِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ وَاحِدٌ فَالْعَمَلُ بِمُقَابِلِهِ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلَيْنِ، وَالْعَمَلُ بِمَا يَلْزَمُ مَعَهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى مِمَّا يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ دَلِيلَيْنِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ أَوِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ أَوْ بَعْضُ الْأُمَّةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا عَمِلَ بِهِ يَكُونُ أَوْلَى، أَمَّا مَا عَمِلَ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَلِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِالتَّنْزِيلِ وَأَخْبَرُ بِمَوَاقِعِ الْوَحْيِ وَالتَّأْوِيلِ، وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ لِحَثِّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ عَلَى مَا سَبَقَ تَعْرِيفُهُ، وَذَلِكَ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ قُوَّتُهُ فِي الدَّلَالَةِ وَسَلَامَتُهُ عَنِ الْمُعَارِضِ. وَعَلَى هَذَا أَيْضًا مَا عَمِلَ بِمُقْتَضَاهُ بَعْضُ الْأُمَّةِ يَكُونُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ، فَكَانَ أَوْلَى.   (1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 140 ج 4. (2) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الْخَامِسَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْقِسْمِ الرَّابِعِ فِيمَا اخْتُلِفَ فِي رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 وَفِي مَعْنَى هَذَا أَنْ يَعْتَضِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَلِيلٍ، غَيْرَ أَنَّ مَا عَضَّدَ أَحَدُهُمَا رَاجِحٌ عَلَى مَا عَضَّدَ الْآخَرُ، أَوْ أَنْ يَعْمَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُ الْأُمَّةِ، غَيْرَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِأَحَدِهِمَا أَعْرَفُ بِمَوَاقِعِ الْوَحْيِ وَالتَّنْزِيلِ، فَيَكُونُ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَوَّلًا إِلَّا أَنَّ دَلِيلَ التَّأْوِيلِ فِي أَحَدِهِمَا أَرْجَحُ مِنْ دَلِيلِ التَّأْوِيلِ فِي الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا دَالًّا عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ وَالْآخَرُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ الْعِلَّةِ، فَمَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلَّةِ يَكُونُ أَوْلَى لِقُرْبِهِ إِلَى الْمَقْصُودِ بِسَبَبِ سُرْعَةِ الِانْقِيَادِ وَسُهُولَةِ الْقَبُولِ، وَلِدَلَالَتِهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ، وَمِنْ جِهَةِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَمَا دَلَّ عَلَى الْحُكْمِ بِجِهَتَيْنِ يَكُونُ أَوْلَى، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ يَلْزَمُهُ مُخَالَفَةُ مَا قَابَلَهُ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْعَمَلُ بِالْمُقَابِلِ يَلْزَمُ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الدَّلِيلِ الْآخَرِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ جِهَتَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى، وَرُبَّمَا رَجَّحَ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ فِي قَبُولِهِ أَشَدُّ وَالثَّوَابَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ، إِلَّا أَنَّهُ مَرْجُوحٌ بِالنَّظَرِ إِلَى مَقْصُودِ التَّعَقُّلِ، وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الْأَغْلَبَ. الْخَامِسُ: أَنْ يَدُلَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ إِلَّا أَنَّ دَلَالَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْعِلِّيَّةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الْآخَرِ عَلَيْهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَالْأَقْوَى يَكُونُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ الْآخَرِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَتَعَارُضُهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِكَ السَّبَبِ الْخَاصِّ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: فَالْوَارِدُ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِكَوْنِهِ أَمَرَ بِهِ، وَلِأَنَّ مَحْذُورَ الْمُخَالَفَةِ فِيهِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ عَمَّا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ يَكُونُ أَتَمَّ مِنَ الْمَحْذُورِ اللَّازِمِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِي الْآخَرِ؛ لِكَوْنِهِ غَيْرَ وَارِدٍ فِيهَا. وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: فَالْعَامُّ الْمُطْلَقُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ عُمُومَهُ أَقْوَى مِنْ عُمُومِ مُقَابِلِهِ: لِاسْتِوَائِهِمَا فِي صِيغَةِ الْعُمُومِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ بِتَخْصِيصِ مَا وَرَدَ عَلَى الْوَاقِعَةِ بِهَا؛ نَظَرًا إِلَى بَيَانِ مَا دَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ، وَإِلَى أَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا هُوَ مُطَابَقَةُ مَا وَرَدَ فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ لِمَا مَسَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ، وَلِأَنَّ مَا وَرَدَ عَلَى السَّبَبِ الْخَاصِّ مُخْتَلَفٌ فِي تَعْمِيمِهِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ، وَعَلَى هَذَا فَمَحْذُورُ الْمُخَالَفَةِ فِي الْعَامِّ الْمُطْلَقِ يَكُونُ أَشَدَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ وَرَدَتْ بِهِ الْمُخَاطَبَةُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْبَارِ بِالْوُجُوبِ، أَوِ التَّحْرِيمِ، أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} أَوْ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} . وَالْآخَرُ وَرَدَتِ الْمُخَاطَبَةُ بِهِ شِفَاهًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فَإِنْ تَقَابَلَا فِي حَقِّ مَنْ وَرَدَتِ الْمُخَاطَبَةُ إِلَيْهِ شِفَاهًا، فَخِطَابُ الْمُشَافَهَةِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ إِلَى غَيْرِ مَنْ وَرَدَتِ الْمُخَاطَبَةُ إِلَيْهِ شِفَاهًا كَانَ الْآخَرُ أَوْلَى؛ لِمَا حَقَّقْنَاهُ فِي مُعَارَضَةِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ، وَالْوَارِدُ عَلَى السَّبَبِ الْمُعَيَّنِ، وَلِأَنَّ الْخِطَابَ شِفَاهًا إِنَّمَا يَكُونُ لِلْحَاضِرِ مِنَ الْمَوْجُودِينَ، وَتَعْمِيمُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِالنَّظَرِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، إِمَّا مِنْ إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَفْرِقَةَ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " «حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ» " (1) . الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجُوزُ تَطَرُّقُ النَّسْخِ إِلَيْهِ، أَوْ قَدِ اخْتُلِفَ فِي تَطَرُّقِ النَّسْخِ إِلَيْهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالَّذِي لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ يَكُونُ أَوْلَى لِقِلَّةِ تَطَرُّقِ الْأَسْبَابِ الْمُوهِيَةِ إِلَيْهِ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَا عَامَّيْنِ إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدِ اتُّفِقَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فِي صُورَةٍ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا اتُّفِقَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ زِيَادَةُ اعْتِبَارِهِ إِلَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ فِي صُورَةٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا أَوْلَى؛ إِذِ الْعَمَلُ بِهِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى تَعْطِيلِ الْآخَرِ لِكَوْنِهِ قَدْ عُمِلَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْعَمَلُ بِمَا عَمِلَ إِلَى تَعْطِيلِ مَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ، وَمَا يُفْضِي إِلَى التَّأْوِيلِ أَوْلَى مِمَّا يُفْضِي إِلَى التَّعْطِيلِ وَمَا عُمِلَ بِهِ فِي الصُّورَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا رَاجِحًا عَلَى الْعَامِّ الْمُقَابِلِ، إِلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّرْجِيحُ لَهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ لَا وُجُودَ لَهُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ الْمُرَجَّحُ الْخَارِجُ بَعِيدَ الْوُجُودِ لَكِنْ يَجِبُ اعْتِقَادُ وَجُودِهِ نَفْيًا لِإِهْمَالِ الْعَامِّ الْآخَرِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ لَهُ مُرَجِّحٌ مِنْ خَارِجُ لَوَقَفْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ، وَقَدْ بَحَثْنَا فَلَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَاحْتِمَالُ مُخَالَفَةِ السَّبْرِ أَيْضًا بَعِيدٌ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ رُجْحَانُهُ لِمَعْنًى يَعُودُ إِلَى نَفْسِهِ لَوَقَفْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَحْثِ، وَقَدْ بَحَثْنَا فَلَمْ نَجِدْهُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَتَقَاوَمُ الْكَلَامَانِ، وَقَدْ يُسَلَّمُ لَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا. الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ قُصِدَ بِهِ بَيَانُ الْحُكْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالَّذِي قُصِدَ بِهِ الْبَيَانُ لِلْحُكْمِ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمَسَّ بِالْمَقْصُودِ،   (1) تَقَدَّمَ تَعْلِيقًا ص 275 ج 2. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} فَإِنَّهُ قُصِدَ بِهِ بَيَانُ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، فَإِنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} حَيْثُ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ بَيَانُ الْجَمْعِ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ إِلَى الِاحْتِيَاطِ وَبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالْأَقْرَبُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ يَكُونُ مُقَدَّمًا لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يَسْتَلْزِمُ نَقْصَ الصَّحَابِيِّ كَحَدِيثِ الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الظَّاهِرِ الْمُوَافِقِ لِحَالِ الصَّحَابِيِّ، وَوَصْفِ اللَّهِ لَهُ بِالْعَدَالَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أَيْ: عُدُولًا. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَقْتَرِنَ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ تَفْسِيرُ الرَّاوِي بِفِعْلِهِ أَوْ قَوْلِهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُرَجَّحًا عَلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ لِلْخَبَرِ يَكُونُ أَعْرَفَ وَأَعْلَمَ بِمَا رَوَاهُ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ سَبَبَ وُرُودِ ذَلِكَ النَّصِّ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالذَّاكِرُ لِلسَّبَبِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ اهْتِمَامِهِ بِمَا رَوَاهُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَنَ بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِهِ عَنِ الْآخَرِ كَالْخَبَرِ الَّذِي ظَهَرَ بَعْدَ اسْتِظْهَارِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقُوَّةِ شَوْكَتِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالظَّاهِرُ بَعْدَ قُوَّةِ شَوْكَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْلَى؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ ظُهُورِ مُقَابِلِهِ قَبْلَ قُوَّةِ الشَّوْكَةِ أَكْثَرُ مِنِ احْتِمَالِ وُقُوعِ مَا ظَهَرَ بَعْدَ قُوَّةِ الشَّوْكَةِ، فَكَانَ تَأْخِيرُهُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ، فَكَانَ أَوْلَى. وَفِي مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الرَّاوِيَيْنِ مُتَأَخِّرَ الْإِسْلَامِ عَنِ الْآخَرِ، فَالْغَالِبُ أَنَّ مَا رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ إِسْلَامِهِ فَرِوَايَتُهُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ الْآخَرِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ إِسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَكَانَ تَأْخِيرُ مَا رَوَاهُ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ. وَفِي مَعْنَاهُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَوْتَ مُتَقَدِّمِ الْإِسْلَامِ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى إِسْلَامِ الْمُتَأَخِّرِ، وَكَذَلِكَ إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ غَالِبَ رِوَايَةِ أَحَدِ الرَّاوِيَيْنِ قَبْلَ الْغَالِبِ مِنْ رِوَايَةِ الْآخَرِ فَرِوَايَتُهُ تَكُونُ مَرْجُوحَةً؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ تَقَدُّمُ مَا رَوَاهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ رِوَايَةُ أَحَدِهِمَا مُؤَرَّخَةً بِتَارِيخٍ مَضِيقٍ دُونَ الْآخَرِ، فَاحْتِمَالُ تَقَدُّمِ غَيْرِ الْمُؤَرَّخَةِ يَكُونُ أَغْلَبَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ يَدُلُّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالْآخَرُ عَلَى التَّشْدِيدِ، فَاحْتِمَالُ تَأَخُّرِ التَّشْدِيدِ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ مَا كَانَ يُشَدِّدُ إِلَّا بِحَسَبِ عُلُوِّ شَأْنِهِ وَاسْتِيلَائِهِ وَقَهْرِهِ، وَلِهَذَا أَوْجَبَ الْعِبَادَاتِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَحَرَّمَ الْمُحَرَّمَاتِ شَيْئًا فَشَيْئًا. [الْقِسْمُ الثَّانِي فِي التَّعَارُضِ الْوَاقِعِ بَيْنَ مَعْقُولَيْنِ] [كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ أَوِ اسْتِدْلَالَانِ أَوْ قِيَاسٌ وَاسْتِدْلَالٌ] [التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْأَصْلِ] الْقِسْمُ الثَّانِي فِي التَّعَارُضِ الْوَاقِعِ بَيْنَ مَعْقُولَيْنِ وَالْمَعْقُولَانِ: إِمَّا قِيَاسَانِ، أَوِ اسْتِدْلَالَانِ، أَوْ قِيَاسٌ وَاسْتِدْلَالٌ: فَإِنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ فَالتَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا قَدْ يَكُونُ بِمَا يَعُودُ إِلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَا يَعُودُ إِلَى فَرْعِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَا يَعُودُ إِلَى مَدْلُولِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَا يَعُودُ إِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ. فَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَى الْأَصْلِ: فَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى حُكْمِهِ، وَمِنْهُ مَا يَعُودُ إِلَى عِلَّتِهِ، فَأَمَّا مَا يَعُودُ إِلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فَتَرْجِيحَاتٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي أَصْلِ أَحَدِهِمَا قَطْعِيًّا، وَفِي الْآخَرِ ظَنِّيًّا، فَمَا حُكْمُ أَصْلِهِ قَطْعِيٌّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَلَلِ بِسَبَبِ حُكْمِ الْأَصْلِ مَنْفِيٌّ وَلَا كَذَلِكَ الْآخَرُ، فَكَانَ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ، وَفِي مَعْنَى هَذَا مَا يَكُونُ الْحُكْمُ فِي أَصْلِ أَحَدِهِمَا مَمْنُوعًا وَفِي الْآخَرِ غَيْرَ الْمَمْنُوعِ، فَغَيْرُ الْمَمْنُوعِ يَكُونُ أَوْلَى. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ فِيهِمَا ظَنِّيًّا، غَيْرَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُثْبِتَ لِأَحَدِهِمَا أَرْجَحُ مِنَ الْمُثَبِتِ لِلْآخَرِ، فَيَكُونُ أَوْلَى. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ فِي أَحَدِهِمَا مِمَّا اخْتُلِفَ فِي نَسْخِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَالَّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِي نَسْخِهِ أَوْلَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْخَلَلِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي أَصْلِ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا لَمْ يُعْدَلْ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ أَوْلَى؛ لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عَنِ التَّعَبُّدِ وَأَقْرَبَ إِلَى الْمَعْقُولِ وَمُوَافَقَةِ الدَّلِيلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ فِي أَحَدِهِمَا قَدْ قَامَ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ وَجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْآخَرُ، فَمَا قَامَ الدَّلِيلُ فِيهِ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ وَجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهِ كَمَا سَبَقَ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْنِ مِنْ غَائِلَةِ التَّعَبُّدِ وَالْقُصُورِ عَلَى الْأَصْلِ، وَلِبُعْدِهِ عَنِ الْخِلَافِ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ مِمَّا اتَّفَقَ الْقَيَّاسُونَ عَلَى تَعْلِيلِهِ وَالْآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمَا اتُّفِقَ عَلَى تَعْلِيلِهِ أَوْلَى؛ إِذْ هُوَ أَبْعَدُ عَنِ الِالْتِبَاسِ وَأَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ قَطْعِيًّا لَكِنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، وَالْآخَرِ ظَنِّيًّا لَكِنَّهُ غَيْرُ مَعْدُولٍ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، فَالظَّنِّيُّ الْمُوَافِقُ لِسُنَنِ الْقِيَاسِ أَوْلَى لِكَوْنِهِ مُوَافِقًا لِلدَّلِيلِ وَأَبْعَدَ عَنِ التَّعَبُّدِ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَحَدِهِمَا فِي الْأَصْلِ قَطْعِيًّا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ، وَعَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ الْآخَرِ ظَنِّيًّا إِلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ، وَعَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ فَمَا حُكْمُهُ قَطْعِيٌّ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَلَلِ إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ قُرْبِهِ مِنِ احْتِمَالِ التَّعَبُّدِ وَالْقُصُورِ عَلَى الْأَصْلِ الْمُعَيَّنِ، وَمَا يَتَطَرَّقُ إِلَى الظَّنِّيِّ مِنَ الْخَلَلِ فَمِنْ جِهَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ خِلَافَ مَا ظَهَرَ، وَاحْتِمَالُ التَّعَبُّدِ وَالْقُصُورُ عَلَى مَا وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالْحُكْمِ أَبْعَدُ مِنِ احْتِمَالِ ظَنِّ الظُّهُورِ لِمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ وَالتَّرْكِ لِلْعَمَلِ بِمَا هُوَ ظَاهِرٌ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَصْلِ أَحَدِهِمَا قَطْعِيًّا إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُتَّفَقْ عَلَى تَعْلِيلِهِ، وَحُكْمُ الْآخَرِ ظَنِّيًّا إِلَّا أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى تَعْلِيلِهِ، فَالظَّنِّيُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى تَعْلِيلِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ إِنَّمَا هُوَ فَرْعُ تَعَقُّلِ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ، وَتُحَقِّقُ وُجُودَهَا فِي الْفَرْعِ وَاحْتِمَالُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَغْلَبُ، وَاحْتِمَالُ الْخَلَلِ بِالنَّظَرِ إِلَى الْحُكْمِ الظَّنِّيِّ وَإِنْ كَانَ قَائِمًا وَمَأْمُونًا فِي جَانِبِ الْحُكْمِ الْقَطْعِيِّ، إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَ قَطْعِ الْقِيَاسِ فِيمَا لَمْ يُتَّفَقْ عَلَى تَعْلِيلِهِ لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ حُكْمِ الْأَصْلِ أَغْلَبُ مِنِ احْتِمَالِ انْقِطَاعِ الْقِيَاسِ لِخَلَلٍ مُلْتَحِقٍ بِالظَّاهِرِ الدَّالِّ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ مَعَ ظُهُورِ دَلِيلِهِ وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ فِيهِ. الْعَاشِرُ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي أَصْلِ أَحَدِهِمَا أَرْجَحَ مِنَ الْآخَرِ، إِلَّا أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي نَسْخِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا دَلِيلُهُ رَاجِحٌ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ، وَقَوْلُ النَّسْخِ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ عَدَمِ النَّسْخِ، فَكَانَ احْتِمَالُ عَدَمِ النَّسْخِ أَرْجَحَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي أَحَدِهِمَا رَاجِحًا عَلَى دَلِيلِ حُكْمِ أَصْلِ الْآخَرِ، إِلَّا أَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، وَالْقَاعِدَةُ الْعَامَّةُ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا لَمْ يُعْدَلْ بِهِ عَنِ الْقَاعِدَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ الْجَرْيُ عَلَى وَفْقِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي وَرَدَ الْحُكْمُ فِي الْقِيَاسِ الْآخَرِ عَلَى خِلَافِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ إِهْمَالُ جَانِبِ التَّرْجِيحِ فِي الْآخَرِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْآخَرِ فَإِنَّمَا هُوَ اعْتِبَارُ ظُهُورِ التَّرْجِيحِ، لَكِنْ مَعَ مُخَالَفَةِ الْقَاعِدَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَاحْتِمَالُ مُخَالَفَةِ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا أَبْعَدُ مِنِ احْتِمَالِ مُخَالَفَةِ الشُّذُوذِ مِنْ ظَوَاهِرِ الْأَدِلَّةِ، كَيْفَ وَأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا دَلِيلُ ثُبُوتِ حُكْمِ أَصْلِهِ ظَنِّيٌّ مُحَافَظَةٌ (1) عَلَى أَصْلِ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ وَالْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ، وَالْعَمَلُ (2) بِمَا ظَهَرَ التَّرْجِيحُ فِي دَلِيلِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ فِيهِ الْمُوَافَقَةُ؛ لِمَا ظَهَرَ مِنَ التَّرْجِيحِ وَمُخَالَفَةِ الْقَاعِدَةِ وَأَصْلِ الدَّلِيلِ الْآخَرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَمَلَ بِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ مُوَافَقَةُ ظَاهِرَيْنِ، وَمُخَالِفَةُ ظَاهِرٍ وَاحِدٍ أَوْلَى مِنَ الْعَكْسِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ ثُبُوتِ حُكْمِ أَصْلِ أَحَدِهِمَا رَاجِحًا عَلَى دَلِيلِ الْآخَرِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ وَعَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا ظَهَرَ التَّرْجِيحُ فِي دَلِيلِهِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْحُكْمُ قَطْعِيًّا. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ ثُبُوتِ حُكْمِ أَصْلِ أَحَدِهِمَا أَرْجَحَ مِنْ دَلِيلِ الْآخَرِ، إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى تَعْلِيلِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا اتُّفِقَ عَلَى تَعْلِيلِهِ أَوْلَى؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إِذَا كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ فِي أَحَدِهِمَا قَطْعِيًّا وَالْآخَرِ ظَنِّيًّا. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَصْلِ أَحَدِهِمَا مِمَّا اتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ نَسْخِهِ إِلَّا أَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا لَمْ يُعْدَلْ بِهِ عَنِ الْقَاعِدَةِ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَصْلِ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيلِهِ وَجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ،   (1) الْأَنْسَبُ أَنْ يُقَالَ: فِيهِ مُحَافَظَةٌ، وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ خَبَرَ " إِنَّ ". (2) الْعَمَلُ هُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ " فِيهِ مُوَافَقَةٌ "، وَقَوْلُهُ بَعْدَ: " وَأَصْلِ الدَّلِيلِ " بِالْجَرِّ مَعْطُوفٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 فَمَا هُوَ عَلَى وَفْقِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهِ عَمَلٌ بِأَغْلَبِ مَا يَرِدُ بِهِ الشَّرْعُ، وَالْعَمَلَ بِمُقَابِلِهِ بِالْعَكْسِ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ قَالَ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مَعْدُولٍ بِهِ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ، خَالَفَ فِي اشْتِرَاطِ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ الْحُكْمِ وَجَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ غَيْرَ الشُّذُوذِ، فَكَوْنُهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ أَمَسُّ بِالْقِيَاسِ. السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ أَصْلِ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ عَنِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَى تَعْلِيلِهِ وَالْآخَرِ بِعَكْسِهِ، فَمَا اتُّفِقَ عَلَى تَعْلِيلِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيَاسَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَ وُقُوعِ التَّعَبُّدِ فِي الْقِيَاسِ يُبْطِلُهُ قَطْعًا، وَمُخَالَفَةُ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ غَيْرُ مُبْطِلَةٍ لِلْقِيَاسِ قَطْعًا، وَمَا يُبْطِلُ الْقِيَاسَ قَطْعًا بِتَقْدِيرِ وُقُوعِهِ يَكُونُ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لَا يُبْطِلُهُ قَطْعًا. [التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ] وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ: فَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى طَرِيقِ إِثْبَاتِهَا، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى صِفَتِهَا. أَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى طُرُقِ إِثْبَاتِهَا: فَالْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنْ يَكُونَ وُجُودُ عِلَّةِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مَقْطُوعًا بِهِ فِي أَصْلِهِ بِخِلَافِ عِلَّةِ الْآخَرِ، فَمَا وُجُودُ عِلَّتِهِ فِي أَصْلِهِ قَطْعِيٌّ أَوْلَى، وَسَوَاءٌ كَانَ وَجُودُهَا مَعْقُولًا أَوْ مُحَسًّا، مَدْلُولًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَدْلُولٍ؛ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ، وَفِي مَعْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعِلَّتَيْنِ مَظْنُونًا غَيْرَ أَنَّ ظَنَّ وُجُودِ إِحْدَاهُمَا أَرَجَحُ مِنَ الْأُخْرَى فَقِيَاسُهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَغَلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ قَطْعِيًّا وَفِي الْآخَرِ ظَنِّيًّا (1) فَيَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ دَلِيلُ الْعِلَّتَيْنِ ظَنِّيًّا غَيْرَ أَنَّ دَلِيلَ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ أَرْجَحُ مِنْ دَلِيلِ الْأُخْرَى، فَمَا دَلِيلُهَا أَرْجَحُ فَقِيَاسُهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ.   (1) " فِي الْآخَرِ " مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ " فِي أَحَدِ "، وَ " ظَنِّيًّا " مَعْطُوفٌ عَلَى " قَطْعِيًّا " فَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَفِي جَوَازِهِ خِلَافٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ فِيهِمَا الِاسْتِنْبَاطَ إِلَّا أَنَّ دَلِيلَ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ، وَالْأُخْرَى الْمُنَاسَبَةُ، فَمَا طَرِيقُ ثُبُوتِ الْعِلِّيَّةِ فِيهِ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ مُقْتَضِيهِ فِي الْأَصْلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْتِفَاءِ مُعَارِضِهِ فِي الْأَصْلِ، وَالسَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ فِيهِ التَّعَرُّضُ لِبَيَانِ الْمُقْتَضِي وَإِبْطَالِ الْمُعَارِضِ، بِخِلَافِ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالْإِحَالَةِ (1) فَكَانَ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: وَصْفُ الْعِلَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنَاسِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ شَبَهِيًّا؛ لِامْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ احْتِمَالَ عَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ بَعْدَ إِظْهَارِهَا بِالطَّرِيقِ التَّفْصِيلِيِّ أَبْعَدُ مِنِ احْتِمَالِ عَدَمِهَا فِي السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ، حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِبَيَانِهَا تَفْصِيلًا، فَكَانَ طَرِيقُ الْمُنَاسَبَةِ أَوْلَى. قُلْنَا: إِلَّا أَنَّ التَّعَرُّضَ لِمُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ لَا دَلَالَةَ لَهُ بِوَجْهٍ عَلَى نَفْيِ الْمُعَارِضِ فِي الْأَصْلِ، فَإِنَّهُ لَا امْتِنَاعَ مِنِ اجْتِمَاعِ مُنَاسِبَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَدَلَالَةُ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ عَلَى مُنَاسِبٍ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَأَنْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْمُشْتَرَكَ مُنَاسِبٌ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَى مُنَاسَبَةِ الْعِلَّةِ وَعَلَى انْتِفَاءِ مُعَارِضِهَا أَوْلَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى مُنَاسَبَتِهَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ مُعَارِضِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالْمُنَاسَبَةِ أَوِ الشَّبَهِ أَدَلُّ عَلَى مُنَاسَبَةِ الْوَصْفِ بَعْدَ إِظْهَارِهَا مِنْ دَلَالَةِ السَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ عَلَى انْتِفَاءِ وَصْفٍ آخَرَ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَصْدُقَ النَّاظِرُ فِي قَوْلِهِ وَأَنْ يَكْذِبَ، وَبِتَقْدِيرِ صِدْقِهِ فَظُهُورُ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ بِخِلَافِ طَرِيقِ الْمُنَاسَبَةِ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ بِالنَّظَرِ إِلَى الْخِصْمَيْنِ. قُلْنَا: بَلِ الْعَكْسُ أَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَلَلَ الْعَائِدَ إِلَى دَلِيلِ نَفْيِ الْمُعَارِضِ إِنَّمَا هُوَ بِالْكَذِبِ أَوِ الْغَلَطِ لِعَدَمِ الظَّفَرِ بِالْوَصْفِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ الْغَلَطِ مَعَ كَوْنِ الْوَصْفِ الْمَبْحُوثِ عَنْهُ ظَاهِرًا جَلِيًّا، وَوُقُوعَ الْكَذِبِ مَعَ كَوْنِ الْبَاحِثِ عَدْلًا أَبْعَدُ مِنِ احْتِمَالِ وُقُوعِ الْغَلَطِ فِيمَا أَبْدَى مِنَ الْمُنَاسَبَةِ مَعَ كَوْنِهَا خَفِيَّةً مُضْطَرِبَةً.   (1) بِالْإِحَالَةِ - الصَّوَابُ بِالْإِخَالَةِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْفَارِقِ فِي أَصْلِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مَقْطُوعًا بِهِ وَفِي الْآخَرِ مَظْنُونًا، فَمَا قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ يَكُونُ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ ثُبُوتِ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ، وَالْأُخْرَى الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ، فَمَا طَرِيقُ ثُبُوتِهِ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ أَوْلَى؛ إِذْ هُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً، وَمَا دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا ظَاهِرُ الْعِلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَدُورُ مَعَ الْأَوْصَافِ الطَّرْدِيَّةِ كَمَا فِي الرَّائِحَةِ الْفَائِحَةِ الْمُلَازِمَةِ لِلشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الدَّائِرَةِ مَعَ تَحْرِيمِ الشُّرْبِ وَجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عِلَّةً؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ فِي الْأَصْلِ بِمَعْنَى الْبَاعِثِ لَا بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ، كَمَا. سَبَقَ تَقْرِيرُهُ (1) ، وَالرَّائِحَةُ الْفَائِحَةُ لَيْسَتْ بَاعِثَةً؛ إِذْ لَا يُشَمُّ مِنْهَا رَائِحَةُ الْمُنَاسَبَةِ، وَكَمَا أَنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى مُلَازَمَةِ الْعِلَّةِ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي إِبْطَالِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ، وَبِهَذَا يَكُونُ الْقِيَاسُ الَّذِي طَرِيقُ إِثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ أَوْلَى مِمَّا طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا فِيهِ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ. [التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى إِلَى صِفَةِ الْعِلَّةِ] وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى صِفَةِ الْعِلَّةِ: فَالْأَوَّلُ مِنْهَا: أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ عِلَّةُ الْأَصْلِ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَفِي الْآخَرِ وَصْفًا حَقِيقِيًّا، فَمَا عِلَّتُهُ وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ أَوْلَى لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ، وَوُقُوعِ الْخِلَافِ فِي مُقَابِلِهِ، فَكَانَتْ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْحُكْمِ الثُّبُوتِيِّ فِي أَحَدِهِمَا وَصْفًا وُجُودِيًّا وَفِي الْآخَرِ وَصْفًا عَدَمِيًّا، فَمَا عِلَّتُهُ ثُبُوتِيَّةٌ أَوْلَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ وَوُقُوعُ الْخِلَافِ فِي مُقَابِلِهِ. الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا بِمَعْنَى الْبَاعِثِ، وَفِي الْآخَرِ بِمَعْنَى الْأَمَارَةِ، فَمَا عِلَّتُهُ بَاعِثَةٌ أَوْلَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ. الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا وَصْفًا ظَاهِرًا مُنْضَبِطًا وَفِي الْآخَرِ بِخِلَافِهِ، فَمَا عِلَّتُهُ مَضْبُوطَةٌ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ لِظُهُورِهِ وَلِبُعْدِهِ عَنِ الْخِلَافِ. الْخَامِسُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا وَصْفًا مُتَّحِدًا وَفِي الْآخَرِ ذَاتَ أَوْصَافٍ، فَمَا عِلَّتُهُ ذَاتُ وَصْفٍ وَاحِدٍ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الضَّبْطِ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ. السَّادِسُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ تَعْدِيَةً مِنْ عِلَّةِ الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهِ.   (1) انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ مَسَائِلِ شُرُوطِ عِلَّةِ الْأَصْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 السَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا مُطَّرِدَةً بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا عِلَّتُهُ مُطَّرِدَةٌ أَوْلَى لِسَلَامَتِهَا عَنِ الْمُفْسِدِ وَبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ. وَفِي مَعْنَى هَذَا أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُنْكَسِرَةٍ بِخِلَافِ عِلَّةِ الْآخَرِ، فَمَا عِلَّتُهُ غَيْرُ مُنْكَسِرَةٍ أَوْلَى لِبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ. الثَّامِنُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا مُنْعَكِسَةً بِخِلَافِ عِلَّةِ الْآخَرِ، فَمَا عِلَّتُهُ مُنْعَكِسَةٌ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ. التَّاسِعُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَمَا عِلَّتُهُ غَيْرُ مُتَأَخِّرَةٍ أَوْلَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْخِلَافِ. الْعَاشِرُ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِهِمَا غَيْرَ مُنْعَكِسَةٍ وَعِلَّةُ الْآخَرِ مُنْعَكِسَةً غَيْرَ مُطَّرِدَةٍ، فَالْمُطَّرِدَةُ أَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنِ اشْتِرَاطِ الِاطِّرَادِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ، وَلِهَذَا فَإِنَّ مَنْ سَلَّمَ اشْتِرَاطَ الِاطِّرَادِ خَالَفَ فِي اشْتِرَاطِ الِانْعِكَاسِ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ ضَابِطَ الْحِكْمَةِ فِي عِلَّةِ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ جَامِعًا لِلْحِكْمَةِ مَانِعًا لَهَا، بِخِلَافِ ضَابِطِ حِكْمَةِ الْعِلَّةِ فِي الْقِيَاسِ الْآخَرِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، فَالْجَامِعُ الْمَانِعُ أَوْلَى لِزِيَادَةِ ضَبْطِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْخِلَافِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ رَاجِعَةٍ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي اسْتُنْبِطَتْ مِنْهُ بِرَفْعِهِ أَوْ رَفْعِ بَعْضِهِ بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِسَلَامَةِ عِلَّتِهِ عَمَّا يُوهِيهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُنَاسِبَةً وَعِلَّةُ الْآخَرِ شَبَهِيَّةً، فَمَا عِلَّتُهُ مُنَاسِبَةٌ أَوْلَى لِزِيَادَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِهَا وَزِيَادَةِ مَصْلَحَتِهَا وَبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ. الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مِنَ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْعِلَّةِ الْأُخْرَى غَيْرَ ضَرُورِيٍّ، فَمَا مَقْصُودُهُ مِنَ الْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ أَوْلَى لِزِيَادَةِ مَصْلَحَتِهِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ بِهِ، وَلِهَذَا فَإِنَّهُ لَمْ تَخْلُ شَرِيعَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهِ، وَبُولِغَ فِي حِفْظِهِ بِشَرْعٍ أَبْلَغَ الْعُقُوبَاتِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مِنَ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مِنْ بَابِ التَّحْسِينَاتِ وَالتَّزْيِينَاتِ، فَمَا مَقْصُودُهُ مِنْ بَابِ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ أَوْلَى لِتَعَلُّقِ الْحَاجَةِ بِهِ دُونَ مُقَابِلِهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 السَّادِسَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ، وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مِنْ أُصُولِ الْحَاجَاتِ الزَّائِدَةِ، فَمَا مَقْصُودُهُ مِنْ مُكَمِّلَاتِ الضَّرُورِيَّاتِ وَإِنْ كَانَ تَابِعًا لَهَا وَمُقَابِلُهُ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ يَكُونُ أَوْلَى؛ وَلِهَذَا أُعْطِيَ حُكْمَ أَصْلِهِ حَتَّى شُرِعَ فِي شُرْبِ قَلِيلِ الْخَمْرِ مَا شُرِعَ فِي كَثِيرِهِ. السَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ حِفْظَ أَصْلِ الدِّينِ وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ (1) ، فَمَا مَقْصُودُهُ حِفْظُ أَصْلِ الدِّينِ يَكُونُ أَوْلَى نَظَرًا إِلَى مَقْصُودِهِ وَثَمَرَتِهِ مِنْ نَيْلِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ حِفْظِ الْأَنْفُسِ وَالْعَقْلِ وَالْمَالِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ أَجْلِهِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فَإِنْ قِيلَ: بَلْ مَا يُفْضِي إِلَى حِفْظِ مَقْصُودِ النَّفْسِ أَوْلَى وَأَرْجَحُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَ الدِّينِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَقْصُودَ غَيْرِهِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ مُرَجَّحٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالْمُضَايَقَةِ، وَحُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتَضَرَّرُ بِفَوَاتِ حَقِّهِ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقٍّ لَا يَتَضَرَّرُ مُسْتَحِقُّهُ بِفَوَاتِهِ، وَلِهَذَا رَجَّحْنَا حُقُوقَ الْآدَمِيِّ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوِ ازْدَحَمَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْآدَمِيِّ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَضَاقَ عَنِ اسْتِيفَائِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَرَ وَقَتَلَ عَمْدًا عُدْوَانًا نَقْتُلُهُ قِصَاصًا لَا بِكُفْرِهِ. وَأَيْضًا قَدْ رَجَّحْنَا مَصْلَحَةَ النَّفْسِ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ، حَيْثُ خَفَّفْنَا عَنِ الْمُسَافِرِ بِإِسْقَاطِ الرَّكْعَتَيْنِ وَأَدَاءِ الصَّوْمِ، وَعَنِ الْمَرِيضِ بِتَرْكِ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَتَرْكِ أَدَاءِ الصَّوْمِ، وَقَدَّمْنَا مَصْلَحَةَ النَّفْسِ عَلَى مَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ فِي صُورَةِ إِنْجَاءِ الْغَرِيقِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّا رَجَّحْنَا مَصْلَحَةَ الْمَالِ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ حَيْثُ جَوَّزْنَا تَرْكَ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ضَرُورَةَ حِفْظِ أَدْنَى شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، وَرَجَّحْنَا مَصَالِحَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ الذِّمِّيِّ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ عَلَى مَصْلَحَةِ الدِّينِ حَتَّى عَصَمْنَا دَمَهُ وَمَالَهُ مَعَ وُجُودِ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ. قُلْنَا: أَمَّا النَّفْسُ فَكَمَا هِيَ مُتَعَلِّقُ حَقِّ الْآدَمِيِّ بِالنَّظَرِ إِلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ، فَهِيَ مُتَعَلِّقُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ إِلَى أَحْكَامٍ أُخَرَ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَتْلُ نَفْسِهِ وَالتَّصَرُّفُ   (1) وَمَقْصُودُ الْأُخْرَى مَا سِوَاهُ - أَيْ: حِفْظُ مَا سِوَى أَصْلِ الدِّينِ مِنَ النَّفْسِ وَالْمَالِ. . إِلَخْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 بِمَا يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِهَا، فَالتَّقْدِيمُ إِنَّمَا هُوَ لِمُتَعَلِّقِ الْحَقَّيْنِ وَلَا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْآدَمِيِّ عَلَى مَا تَمَحَّضَ حَقًّا لِلَّهِ. كَيْفَ وَأَنَّ مَقْصُودَ الدِّينِ مُتَحَقِّقٌ بِأَصْلِ شَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ وَقَدْ تَحَقَّقَ، وَالْقَتْلُ إِنَّمَا هُوَ لِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْقِصَاصِ إِنَّمَا هُوَ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامُ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ بِشَرْعِ الْقَتْلِ دُونَ الْقَتْلِ بِالْفِعْلِ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْعُرْفُ، فَكَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ أَحَدِهِمَا. كَيْفَ وَأَنَّ تَقْدِيمَ حَقِّ الْآدَمِيِّ هَاهُنَا لَا يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ حَقِّ اللَّهِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُقُوبَةِ الْبَدَنِيَّةِ مُطْلَقًا؛ لِبَقَاءِ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَتَقْدِيمَ حَقِّ اللَّهِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى فَوَاتِ حَقِّ الْآدَمِيِّ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ مُطْلَقًا، فَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى. وَأَمَّا التَّخْفِيفُ عَنِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَلَيْسَ تَقْدِيمًا لِمَقْصُودِ النَّفْسِ عَلَى مَقْصُودِ أَصْلِ الدِّينِ بَلْ عَلَى فُرُوعِهِ، وَفُرُوعُ أَصْلٍ غَيْرُ أَصْلِ الشَّيْءِ، ثُمَّ وَإِنْ كَانَ فَمَشَقَّةُ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ تَقُومُ مَقَامَ مَشَقَّةِ الْأَرْبَعِ فِي الْحَضَرِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْمَرِيضِ قَاعِدًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاتِهِ قَائِمًا وَهُوَ صَحِيحٌ، فَالْمَقْصُودُ لَا يَخْتَلِفُ. وَأَمَّا أَدَاءُ الصَّوْمِ فَلِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ مُطْلَقًا، بَلْ يَفُوتُ إِلَى خُلْفٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُورَةِ إِنْقَاذِ الْغَرِيقِ وَتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ لِحِفْظِ الْمَالِ أَيْضًا، وَبَقَاءِ الذِّمِّيِّ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ مَعْصُومَ الدَّمِ وَالْمَالِ لَيْسَ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ لِأَجْلِ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ؛ لِيَسْهُلَ انْقِيَادُهُ وَيَتَيَسَّرَ اسْتِرْشَادُهُ، وَذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ الدِّينِ لَا مِنْ مَصْلَحَةِ غَيْرِهِ. وَكَمَا أَنَّ مَقْصُودَ الدِّينِ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّاتِ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَقْصُودِ النَّفْسِ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمَقَاصِدِ الضَّرُورِيَّةِ. أَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى حِفْظِ النَّسَبِ؛ فَلِأَنَّ حِفْظَ النَّسَبِ إِنَّمَا كَانَ مَقْصُودًا لِأَجْلِ حِفْظِ الْوَلَدِ حَتَّى لَا يَبْقَى ضَائِعًا لَا مُرَبِّيَ لَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مَطْلُوبًا لِعَيْنِهِ (بَلْ لِإِفْضَائِهِ إِلَى النَّفْسِ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى الْمَالِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فَإِنَّهُ فَلَمْ يَكُنْ بَقَاؤُهُ مَطْلُوبًا لِعَيْنِهِ) وَذَاتِهِ، بَلْ لِأَجْلِ بَقَاءِ النَّفْسِ مُرَفَّهَةً مُنَعَّمَةً حَتَّى تَأْتِيَ بِوَظَائِفِ التَّكَالِيفِ وَأَعْبَاءِ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إِلَى حِفْظِ الْعَقْلِ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ النَّفْسَ أَصْلٌ وَالْعَقْلَ تَبَعٌ، فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَصْلِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ مَا يُفْضِي إِلَى فَوَاتِ النَّفْسِ عَلَى تَقْدِيرِ أَفْضَلِيَّتِهِ يَفُوتُهَا مُطْلَقًا، وَمَا يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الْعَقْلِ كَشُرْبِ الْمُسْكِرِ لَا يُفْضِي إِلَى فَوَاتِهِ مُطْلَقًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 فَالْمُحَافَظَةُ بِالْمَنْعِ مِمَّا يُفْضِي إِلَى الْفَوَاتِ مُطْلَقًا أَوْلَى، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَكُونُ الْمَقْصُودُ فِي حِفْظِ النَّسَبِ أَوْلَى مِنَ الْمَقْصُودِ فِي حِفْظِ الْعَقْلِ وَالْمَالِ لِكَوْنِهِ عَائِدًا إِلَى حِفْظِ النَّفْسِ، وَمَا يُفْضِي إِلَى حِفْظِ الْعَقْلِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا يُفْضِي إِلَى حِفْظِ الْمَالِ؛ لِكَوْنِهِ مَرْكَبَ الْأَمَانَةِ وَمَلَاكَ التَّكْلِيفِ وَمَطْلُوبًا لِلْعِبَادَةِ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَلَا كَذَلِكَ الْمَالُ، وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الرُّتَبُ مُخْتَلِفَةً فِي الْعُقُوبَاتِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَيْهَا عَلَى نَحْوِ اخْتِلَافِهَا فِي أَنْفُسِهَا، وَبِمِثْلِ تَفَاوُتِ هَذِهِ الرُّتَبِ يَكُونُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ مُكَمِّلَاتِهَا. الثَّامِنَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ نَفْسَ عِلَّةِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْآخَرِ دَلِيلَ عِلَّةِ الْأَصْلِ وَمُلَازِمَهَا، فَالَّذِي فِيهِ الْجَامِعُ نَفْسُ الْعِلَّةِ أَوْلَى لِظُهُورِهَا وَرُكُونِ النَّفْسِ إِلَيْهَا. التَّاسِعَ عَشَرَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْأَصْلِ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُلَائِمَةً وَعِلَّةُ الْآخَرِ غَرِيبَةً، فَمَا عِلَّتُهُ مُلَائِمَةٌ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ. الْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الْأَصْلَيْنِ مَنْقُوضَةً إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ فِي أَحَدِهِمَا مَا يُمْكِنُ عَلَيْهِ إِحَالَةُ النَّقْضِ مِنْ وُجُودٍ مَانِعٍ أَوْ فَوَاتِ شَرْطٍ بِخِلَافِ الْأُخْرَى، فَهِيَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ قَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهَا مَدْلُولُهَا فِي صُورَةٍ بِطْرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ الْعَامَّةِ وَالْأُخْرَى يَتَخَلَّفُ عَنْهَا حُكْمُهَا لَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالَّتِي يَتَخَلَّفُ عَنْهَا حُكْمُهَا بِجِهَةِ الِاسْتِثْنَاءِ تَكُونُ أَوْلَى لِقُرْبِهَا إِلَى الصِّحَّةِ وَبُعْدِهَا عَنِ الْخِلَافِ. الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ قَدْ خَلَّفَهَا فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَا هُوَ أَلْيَقُ بِهَا لِكَوْنِ مُنَاسَبَتِهَا فِيهَا أَشَدَّ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، بِخِلَافِ الْأُخْرَى فَهِيَ أَوْلَى لِتَبَيُّنِ عَدَمِ إِلْغَائِهَا بِخِلَافِ الْأُخْرَى. الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لَا مُزَاحِمَ لَهَا فِي أَصْلِهَا بِخِلَافِ الْأُخْرَى، فَالَّتِي لَا مُزَاحِمَ لَهَا أَوْلَى لِأَنَّهَا أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَقْرَبُ إِلَى التَّعْدِيَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا رُجْحَانُهَا عَلَى مُزَاحِمِهَا أَكْثَرُ مُقَدَّمَةً أَيْضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُقْتَضِيَةً لِلْإِثْبَاتِ وَالْأُخْرَى مُقْتَضِيَةً لِلنَّفْيِ، فَالنَّافِيَةُ تَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرِ رُجْحَانِهَا وَعَلَى تَقْدِيرِ مُسَاوَاتِهَا، وَمُقْتَضَى الْمُثْبَتَةِ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ رُجْحَانِهَا، وَمَا يَتِمُّ مَطْلُوبُهُ عَلَى تَقْدِيرٍ مِنْ تَقْدِيرَيْنِ يَكُونُ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِمَّا لَا يَتِمُّ مَطْلُوبُهُ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ. فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُثْبَتَةَ مُقْتَضَاهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِالِاتِّفَاقِ بِخِلَافِ النَّافِيَةِ، وَمَا فَائِدَتُهَا شَرْعِيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ تَكُونُ أَوْلَى. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ اخْتِصَاصِ أَصْلِ النَّافِيَةِ بِمَعْنَى لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْفَرْعِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، كَيْفَ وَأَنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ لِلنَّافِيَةِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَعْتَقِدُ التَّخْيِيرَ عِنْدَ تَسَاوِي الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَيَتَسَاوَى الْقَدَمَانِ. قُلْنَا: أَمَّا كَوْنُ حُكْمِ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ شَرْعِيٌّ (1) فَلَا يَرْجَحُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا كَانَ مَطْلُوبًا لَا لِنَفْسِهِ بَلْ لِمَا يُفْضِي إِلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ، وَالشَّارِعُ كَمَا يَوَدُّ تَحْصِيلَ الْحِكْمَةِ بِوَاسِطَةِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ يَوَدُّ تَحْصِيلَهَا بِوَاسِطَةِ نَفْيِهِ. كَيْفَ وَأَنَّ الْعِلَّةَ النَّافِيَةَ مُتَأَيِّدَةٌ بِالنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَالْمُثْبَتَةَ عَلَى خِلَافِهِ فَكَانَتْ أَوْلَى. وَمَا قِيلَ مِنْ وُجُوبِ اعْتِقَادِ اخْتِصَاصِ النَّافِيَةِ بِمَعْنًى فِي الْأَصْلِ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْفَرْعِ فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ فِي الْمُثْبَتَةِ، وَأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ اخْتِصَاصِ أَصْلِهَا بِمَعْنًى لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْفَرْعِ تَقْلِيلًا لِمُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ النَّافِي، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَالتَّخْيِيرُ وَإِنْ كَانَ مَقُولًا بِهِ عِنْدَ تَعَارُضِ الدَّلِيلَيْنِ مَعَ التَّسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَيْسَ إِلَّا عَلَى بَعْضِ الْآرَاءِ الشَّاذَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا قَابَلَهُ. كَيْفَ وَأَنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ عِنْدَ التَّعَارُضِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةٍ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ مَفْسَدَةٌ مُسَاوِيَةٌ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا، فَالْحُكْمُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَاءِ مَقْصُودِهِ.   (1) شَرْعِيٌّ - هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ، وَفِي الْمَخْطُوطَةِ شَرْعِيَّةٌ، وَالصَّوَابُ: شَرْعِيًّا، بِالتَّذْكِيرِ وَالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِلْكَوْنِ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ وَاسْمُهُ الْحُكْمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ حِكْمَةُ إِحْدَى الْعِلَّتَيْنِ قَدِ اخْتَلَّتِ احْتِمَالًا لِمَانِعٍ أَخَلَّ بِهَا دُونَ الْأُخْرَى، فَالَّتِي لَا يَخْتَلُّ حُكْمُهَا احْتِمَالًا أَوْلَى لِقُرْبِهَا إِلَى الظَّنِّ وَبُعْدِهَا عَنِ الْخَلَلِ وَالْخِلَافِ. السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَفْضَى إِلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا مِنَ الْأُخْرَى فَتَكُونُ أَوْلَى لِزِيَادَةِ مُنَاسَبَتِهَا بِسَبَبِ ذَلِكَ. السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُشِيرَةً إِلَى نَقِيضِ الْمَطْلُوبِ وَمُنَاسِبَةً لَهُ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الْأُخْرَى، فَمَا لَا تَكُونُ مُنَاسِبَةً لِنَقِيضِ الْمَطْلُوبِ تَكُونُ أَوْلَى لِكَوْنِهَا أَظْهَرَ فِي إِفْضَائِهَا إِلَى حُكْمِهَا وَأَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدَ عَنِ الِاضْطِرَابِ. الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُتَضَمِّنَةً لِمَقْصُودٍ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ وَالْأُخْرَى مُتَضَمِّنَةً لِمَقْصُودٍ يَرْجِعُ إِلَى آحَادِهِمْ، فَالْأُولَى أَوْلَى لِعُمُومِ فَائِدَتِهَا. التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ: أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ أَكْثَرَ شُمُولًا لِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ مِنَ الْأُخْرَى، فَتَكُونُ أَوْلَى لِعُمُومِ فَائِدَتِهَا. [التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْفَرْعِ] وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى الْفَرْعِ فَأَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فَرْعُ أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُشَارِكًا لِأَصْلِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ، وَفَرْعُ الْآخَرِ مُشَارِكًا لِأَصْلِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَجِنْسِ الْعِلَّةِ، أَوْ جِنْسِ الْحُكْمِ وَعَيْنِ الْعِلَّةِ، أَوْ بِالْعَكْسِ، فَمَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ وَعَيْنِ الْحُكْمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى الْأَخَصِّ وَالْأَعَمِّ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ مِنَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَعْنَى الْأَعَمِّ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَعْنَى فَمَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي عَيْنِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إِمَّا الْحُكْمِ أَوِ الْعِلَّةِ، تَكُونُ أَوْلَى مِمَّا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ بَيْنَ أَصْلِهِ وَفَرْعِهِ فِي جِنْسِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَ فَرْعُ أَحَدِهِمَا مُشَارِكًا لِأَصْلِهِ فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِ الْحُكْمِ وَالْآخَرِ بِعَكْسِهِ، فَمَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ فِي عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِ الْحُكْمِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ مِنَ الْأَصْلِ إِلَى الْفَرْعِ إِنَّمَا هِيَ فَرْعُ تَعْدِيَةِ الْعِلَّةِ، فَهِيَ الْأَصْلُ فِي التَّعْدِيَةِ وَعَلَيْهَا الْمَدَارُ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ فِي أَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ مُتَأَخِّرًا عَنْ أَصْلِهِ وَفِي الْآخَرِ مُتَقَدِّمًا، فَمَا الْفَرْعُ فِيهِ مُتَأَخِّرٌ أَوْلَى لِسَلَامَتِهِ عَنِ الِاضْطِرَابِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْخِلَافِ وَعَلِمْنَا بِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ بِمَا اسْتُنْبِطَ مِنَ الْأَصْلِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي أَحَدِ الْفَرْعَيْنِ قَطْعِيًّا وَفِي الْآخَرِ ظَنِّيًّا، فَمَا وُجُودُ الْعِلَّةِ فِيهِ قَطْعِيٌّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ احْتِمَالِ الْقَادِحِ فِيهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْفَرْعِ فِي أَحَدِهِمَا قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا، بِخِلَافِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ وَأَبْعَدُ عَنِ الْخِلَافِ. وَأَمَّا التَّرْجِيحَاتُ الْعَائِدَةُ إِلَى حُكْمِ الْفَرْعِ وَإِلَى أَمْرٍ خَارِجٍ فَعَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي الْمَنْقُولَاتِ. وَقَدْ يَتَرَكَّبُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحَاتِ وَمُقَابَلَاتِ بَعْضِهَا لِبَعْضِ تَرْجِيحَاتٌ أُخَرُ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ لَا يَخْفَى إِيجَادُهَا فِي مَوَاضِعِهَا عَلَى مَنْ أَخَذَتِ الْفَطَانَةُ بِيَدِهِ، وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي كِتَابِنَا الْمَوْسُومِ بِمُنْتَهَى السَّالِكِ فِي رُتَبِ الْمَسَالِكِ، فَعَلَيْكَ بِمُرَاجَعَتِهِ. وَعَلَى هَذَا فَلَا يَخْفَى التَّرْجِيحُ الْمُتَعَلِّقُ بِالِاسْتِدْلَالَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى ذَوَاتِهَا وَطُرُقِ إِثْبَاتِهَا. وَأَمَّا التَّعَارُضُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْمَنْقُولِ وَالْمَعْقُولِ: فَالْمَنْقُولُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، وَإِمَّا عَامًّا. فَإِنْ كَانَ خَاصًّا: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَالًّا بِمَنْظُومِهِ، أَوْ لَا بِمَنْظُومِهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَوْلَى؛ لِكَوْنِهِ أَصْلًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّأْيِ وَقِلَّةِ تَطَرُّقِ الْخَلَلِ إِلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَمِنْهُ مَا هُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَمِنْهُ مَا هُوَ قَوِيٌّ جِدًّا، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ، وَالتَّرْجِيحُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يَقَعُ فِي نَفْسٍ مِنْ قُوَّةِ الدَّلَالَةِ وَضَعْفِهَا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ وَلَا حَاصِرَ لَهُ بِحَيْثُ تَمْكُنُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَوْكُولٌ إِلَى النَّاظِرِينَ فِي آحَادِ الصُّوَرِ الَّتِي لَا حَصْرَ لَهَا. وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمَنْقُولُ عَامًّا، فَقَدْ قِيلَ بِتَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ بِتَقْدِيمِ الْعُمُومِ، وَقِيلَ بِالتَّوَقُّفِ، وَقِيلَ بِتَقْدِيمٍ عَلَى جَلِيِّ (1) الْقِيَاسِ دُونَ خَفِيِّهِ. وَقِيلَ: يَتَقَدَّمُ الْقِيَاسُ عَلَى مَا دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ دُونَ مَا لَمْ يَدْخُلْهُ. وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ تَقْدِيمُ الْقِيَاسِ، وَسَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِعُمُومِ الْعَامِّ إِبْطَالُ دَلَالَةِ الْقِيَاسِ مُطْلَقًا وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إِبْطَالُ الْعَامِّ مُطْلَقًا، بَلْ غَايَةُ مَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَخْصِيصُهُ وَتَأْوِيلُهُ.   (1) عَلَى جَلِيِّ - هَكَذَا فِي النُّسَخِ الْمَطْبُوعَةِ بِإِثْبَاتِ عَلَى وَهِيَ غَيْرُ مُثْبَتَةٍ فِي الْمَخْطُوطَةِ، وَقَدِ اعْتَمَدْنَا حَذْفَهَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ تَأْوِيلُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا وَإِبْطَالِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَتَنَاوَلُ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ بِخُصُوصِهِ وَالْمَنْقُولَ يَتَنَاوَلُهُ بِعُمُومِهِ، وَالْخَاصَّ أَقْوَى مِنَ الْعَامِّ. فَإِنْ قِيلَ: إِلَّا أَنَّ الْعُمُومَ أَصْلٌ وَالْقِيَاسَ فَرْعٌ وَالْأَصْلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْفَرْعِ. وَأَيْضًا فَإِنْ تَطَرَّقَ الْخَلَلُ إِلَى الْعُمُومِ أَقَلَّ مِنْ تَطَرُّقِهِ إِلَى الْقِيَاسِ، عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ، فَكَانَ أَوْلَى. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مَا قِيلَ بِتَقْدِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ هُوَ أَصْلُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فَرْعًا لِغَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرْعًا لِذَلِكَ الْعَامِّ بِعَيْنِهِ فَهُوَ فَرْعٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ. قُلْنَا: إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ، وَإِلَّا لِمَا جَازَ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِكَوْنِهِ فَرْعًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَى مَا سَبَقَ. وَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّرْجِيحِ الثَّانِي فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمِثْلِهِ، فَإِنَّ الْعَامَّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرٍ فِي الْعُمُومِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فَيَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ، وَاحْتِمَالُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ أَغْلَبُ مِنِ احْتِمَالِ الْغَلَطِ مِنَ الْمُتَبَحِّرِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى. وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهُ مَا مِنْ عَامٍّ إِلَّا وَهُوَ مَخْصُوصٌ إِلَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَلَا كَذَلِكَ الْقِيَاسُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 [الْبَابُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْحُدُودِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ التَّصَوُّرِيَّةِ] الْبَابُ الثَّانِي فِي التَّرْجِيحَاتِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ الْحُدُودِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ التَّصَوُّرِيَّةِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْحُدُودَ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا مُنْقَسِمَةٌ إِلَى عَقْلِيَّةٍ وَسَمْعِيَّةٍ، كَانْقِسَامِ الْحُجَجِ، غَيْرَ أَنَّ مَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ غَرَضُنَا هَاهُنَا إِنَّمَا هُوَ السَّمْعِيَّةُ. وَمِنَ السَّمْعِيَّةِ مَا كَانَ ظَنِّيًّا، وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْحَدَّيْنِ السَّمْعِيَّيْنِ فَقَدْ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُشْتَمِلًا عَلَى أَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ نَاصَّةٍ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْ غَيْرِ تَجَوُّزٍ وَلَا اسْتِعَادَةٍ وَلَا اشْتِرَاكٍ وَلَا غَرَابَةٍ وَلَا اضْطِرَابٍ وَلَا مُلَازَمَةٍ، بَلْ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ أَوِ التَّضَمُّنِ (1) بِخِلَافِ الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ وَأَبْعَدَ عَنِ الْخَلَلِ وَالِاضْطِرَابِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْرُوفُ فِي أَحَدِهِمَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُعَرَّفِ فِي الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَفْضَى إِلَى التَّعْرِيفِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُعَرَّفًا بِالْأُمُورِ الذَّاتِيَّةِ وَالْآخَرُ بِالْأُمُورِ الْعَرَضِيَّةِ (2) ، فَالْمُعَرَّفُ بِالْأُمُورِ الذَّاتِيَّةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مُشَارِكٌ لِلْمُعَرَّفِ بِالْأُمُورِ الْعَرَضِيَّةِ فِي التَّمْيِيزِ وَمُرَجَّحٌ عَلَيْهِ بِتَصْوِيرِ مَعْنَى الْمَحْدُودِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدَّيْنِ أَعَمَّ مِنَ الْآخَرِ، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْأَعَمُّ أَوْلَى لِتَنَاوُلِهِ مَحْدُودَ الْآخَرِ وَزِيَادَةً، وَمَا كَانَ أَكْثَرَ فَائِدَةً، فَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِأَنَّ الْأَخَصَّ أَوْلَى؛ نَظَرًا إِلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمَدْلُولَ الْآخَرِ مِنَ الزِّيَادَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَا مَدْلُولُهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَوْلَى.   (1) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص 163 ج 4. (2) تَقْسِيمُ الْكُلِّيِّ إِلَى ذَاتِيٍّ وَعَرَضِيٍّ مُجَرَّدُ دَعْوَى، وَقَدِ اعْتَرَفَ مَنْ كَتَبَ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَنْطِقِ وَفِي الْمَقُولَاتِ بِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ عَسِيرٌ، انْظُرِ الرَّدَّ عَلَى الْمَنْطِقِيِّينَ لِابْنِ تَيْمِيَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَدْ أُتِيَ فِيهِ بِجَمِيعِ ذَاتِيَّاتِهِ وَالْآخَرُ بِبَعْضِهَا مَعَ التَّمْيِيزِ، فَالْأَوَّلُ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَعْرِيفًا. السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا النَّقْلَ السَّمْعِيَّ وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، فَالْمُوَافِقُ يَكُونُ أَوْلَى لِبُعْدِهِ عَنِ الْخَلَلِ، وَلِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ اكْتِسَابِ أَحَدِهِمَا أَرْجَحَ مِنْ طَرِيقِ اكْتِسَابِ الْآخَرِ، فَهُوَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ. الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُوَافِقًا لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وَالْآخَرُ عَلَى خِلَافِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَتِهِ وَالْآخَرُ أَبْعَدُ، فَالْمُوَافِقُ أَوْ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُوَافَقَةً لِلْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ يَكُونُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ إِنَّمَا هُوَ التَّقْرِيرُ دُونَ التَّغْيِيرِ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ وَأَسْرَعَ إِلَى الِانْقِيَادِ، وَلِهَذَا كَانَ التَّقْرِيرُ هُوَ الْغَالِبَ، وَكَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّغْيِيرِ فَكَانَ أَوْلَى. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِمَّا قَدْ ذَهَبَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَوِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الْمَشَاهِيرِ بِالِاجْتِهَادِ وَالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ بِمَا يَقُولُ، بِخِلَافِ الْآخَرِ فَهُوَ أَوْلَى لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ وَأَقْرَبَ إِلَى الِانْقِيَادِ. الْعَاشِرُ: أَنْ يَلْزَمَ مِنَ الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا تَقْرِيرُ حُكْمِ الْحَظْرِ وَالْآخَرِ تَقْرِيرُ الْوُجُوبِ أَوِ الْكَرَاهَةِ أَوِ النَّدْبِ، فَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْرِيرُ الْحَظْرِ أَوْلَى لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحُجَجِ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَلْزَمَ مِنْ أَحَدِهِمَا تَقْرِيرُ حُكْمِ النَّفْيِ وَالْآخَرِ الْإِثْبَاتِ، فَالْمُقَرَّرُ لِلنَّفْيِ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ فِي الْحُجَجِ. الثَّانِي عَشَرَ: أَنْ يَلْزَمَ مِنْ أَحَدِهِمَا تَقْرِيرُ حُكْمٍ مَعْقُولٍ وَمِنَ الْآخَرِ حُكْمٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَقْرِيرُ حُكْمٍ مَعْقُولٍ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ فِي الْحُجَجِ. الثَّالِثَ عَشَرَ: أَنْ يَلْزَمَ مِنْ أَحَدِهِمَا دَرْءُ الْحَدِّ وَالْعُقُوبَةِ وَمِنَ الْآخَرِ إِثْبَاتُهُ، فَالدَّارِئُ لِلْحَدِّ أَوْلَى لِمَا سَبَقَ أَيْضًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا يُلَازِمُهُ الْحُرِّيَّةُ أَوِ الطَّلَاقُ، وَالْآخَرُ يُلَازِمُهُ الرِّقُّ أَوْ إِبْقَاءُ النِّكَاحِ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا سَبَقَ فِي الْحُجَجِ. وَقَدْ يَتَشَعَّبُ مِنْ تَقَابُلِ هَذِهِ التَّرْجِيحَاتِ تَرْجِيحَاتٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَصْرِ لَا تَخْفَى عَلَى مُتَأَمِّلِهَا. وَهَذَا آخِرُ مَا أَرَدْنَاهُ وَنِهَايَةُ مَا رَتَّبْنَاهُ. اللَّهُمَّ! فَكَمَا أَلْهَمْتَ بِإِنْشَائِهِ وَأَعَنْتَ عَلَى إِنْهَائِهِ، فَاجْعَلْهُ نَافِعًا فِي الدُّنْيَا وَذَخِيرَةً صَالِحَةً فِي الْأُخْرَى، وَاخْتِمْ بِالسَّعَادَةِ آجَالَنَا، وَحَقِّقْ بِالزِّيَادَةِ آمَالَنَا، وَاقْرِنْ بِالْعَافِيَةِ غُدُوَّنَا وَآصَالَنَا، وَاجْعَلْ إِلَى حِصْنِكَ مَصِيرَنَا وَمَآلَنَا، وَتَقَبَّلْ بِفَضْلِكَ أَعْمَالَنَا إِنَّكَ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، وَمُفِيضُ الْخَيْرَاتِ، وَالْحَمْدُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284