الكتاب: اتجاهات فكرية معاصرة كود المادة: GUSU5083 المرحلة: ماجستير المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية الناشر: جامعة المدينة العالمية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- اتجاهات فكرية معاصرة - جامعة المدينة جامعة المدينة العالمية الكتاب: اتجاهات فكرية معاصرة كود المادة: GUSU5083 المرحلة: ماجستير المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية الناشر: جامعة المدينة العالمية عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] -[اتجاهات فكرية معاصرة]- كود المادة: GUSU5083 المرحلة: ماجستير المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية الناشر: جامعة المدينة العالمية عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الدرس: 1 الماسونية. بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الأول (الماسونية) تعريف الماسونية، وحقيقتها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: تعريف الماسونية: وهي جمعية سرية تحوي حشدًا من الناس ينتمون إلى مذاهب وديانات ونحل وجنسيات وأوطان مختلفة، تضم تحت لوائها القومي والرأسمالي والشيوعي والعربي وغير العربي، تجمعهم غاية واحدة، ولا يعلم حقيقة الماسونية إلا آحاد من هؤلاء، هذا تعريف الجمعية في هذا العصر. أما عن اسمها فعهد التأسيس فهو "فريماسونري" ويتكون هذا الاسم حسب الوضع اللغوي من كلمات ثلاث؛ الكلمة الأولى وهي "فري" وتعني الحر أو المطلق الذي لا يضبطه قيد من القيوم، والكلمة الثانية "ماسون" وتعني الحرفة أي ة حرفة، وتعني أيضًا حرفة البناء، أما الكلمة الأخيرة وهي "ري" فهي تعني ياء النسبة، وعلى ذلك فإن الترجمة الحرفية للاسم هي جمعية البنائين الأحرار، أي الذين لا تربطهم رابطة أو تلزمهم نقابة، أما فيما بينهم فإن رابطة الأخوة هي التي تربطهم وتجمع بينهم. وقد اختلف الباحثون في تفسير كلمة حر في هذا الاسم، وكان السائد في القرن السابع عشر في أوربا أن صاحب المهنة الحر هو الذي لا يتقيد بحرفة، فكل من النجار والحداد والبناء يُعد ويُسمى "ماسون" فإذا انتسب إلى نقابة أوإلى رابطة سُمي "فريماسون"، والمهنة تفارق الحرفة، وهناك فارق بينهما، فكل عمل مهنة، وأما الحرفة فهي الصناعة التي يتكسب منها صاحبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وذهب آخرون إلى أن الماسوني هو من استقل بحرفته رجاء كسب معاشه دون أن ينتسب إلى نقابة أو جمعية يتقيد بها في عمله مؤثرًا للحرية، واصفًا نفسه بأنه صاحب حرفة حر، فالكلمة على هذا المعنى هي نقيد كلمة "كوان"، وكوان هو العامل أو البناء المقيد بجهة ينتسب إليها، ينتسب إليها هو وأمثاله في تدبير العمل وترويج الصناعة، وقد جاء في معجم (أكسفورد الكبير) المطبوع سنة 1897 تحت مادة "ماسون" أن مفهوم الكلمة السائد لدى اللغويين في العام 1350 كان خاصًّا بأصحاب الحرف الذين لا تربطهم نقابة أو رابطة فهم أحرار، وعندما دعتهم الحاجة إلى حماية مصالحهم أنشئوا جمعية أطلق كل عضو فيها على العضو الآخر كلمة أخ، واستعملت في خطاب بعضهم بعضًا، وقامت بينهم الأخوة التي ربطت أصحاب الحرف برباطها الوثيق. وقد وضع بعض العلماء تعريفًا للماسونية نذكره مع طوله؛ لأنه يجمع خلاصة التعريفات التي ذُكرت في معظم الكتب، يقول هذا الكاتب في تعريف الماسونية: "الماسونية جمعية سرية تحوي حشدًا من الناس ينتمون إلى مذاهب وديانات وجنسيات وأو ط ان مختلفة، تضم الملحد والمؤمن والشيوعي والديمقراطي والديكتاتوري والعلماني والقومي والوطني وتضم العرب وغير العرب، تضم المسلم واليهودي والنصراني، تضم العامل ورب العمل، تجمعهم غاية واحدة يعملون لها، ولا يعلم حقيقة هذه الغاية إلا آحاد، وسواد أعضا ئ ها جميعًا عمي القلوب يجهلون بها كل الجهل، ويوثقهم عهد يحفظ الأسرار. فالماسونية على هذا حركة تنظيمية خفية قام بها على الأرجح حاخامات التلمود وخاصة في مراحل الضياع السياسي الذي تعرض له يهود العهد القديم، فأخذ الحاخامات على عاتقهم إقامة تنظيم يهودي يهدف إلى إقامة مملكة صهيون العالمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 يقول الكاتب الهولندي " دوزي ": الماسونية جمهور عظيم من مذاهب مختلفة يعملون لغاية واحدة لا يعلمها إلا القليلون منهم، وهذه الغاية هي بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، قد تبعها آلاف من العميان من مختلف الديانات والنحل والجنسيات والأوطان. حقيقة الماسونية: الماسونية في حقيقتها هي مؤسسة يهودية بحتة في تاريخها، ودرجاتها، وتعاليمها، وكلمات السر فيها، وفي إيضاحاتها هي مؤسسة يهودية من البداية حتى النهاية، ولذلك ورد في دائرة المعارف الماسونية الصادرة سنة 1906 من الميلاد أنه يجب أن يكون في كل محفل رمز من رموز الهيكل، هيكل اليهود، وهو بالفعل كذلك، نعم يوجد في كل محفل رمز من رموز اليهود، وأن يكون كل أستاذ على كرسيه ممثل ً الملك اليهود، وأن يكون كل ماسوني تجسيدًا للعامل اليهودي، ويؤكد ذلك أيضًا - يهودية الماسونية- أن اللغة الفنية والرموز والطقوس التي تمارسها الماسونية تتفق بالمثل والاصطلاحات اليهودية، فتجد مثل ً االتواريخ الموضوعة على المراسلات والوثائق الرسمية كلها بحسب العصر والأشهر اليهودية، وتُستعمل كذلك الأبجدية العبرية، وإن كانت المظاهر الخارجية للماسونية والشكليات تتغير بحسب الظروف في المجتمع الذي يعملون فيه، وتتلون حسب اللون الذي يعيشون فيه، وتكون شعاراتهم الظاهرية عادة هي الدعوة إلى الحرية، والدعوة إلى المساواة، والدعوة إلى الإخاء. وجاء في كتبهم في كتاب (الرمزية) الصادر في سنة 1928 من الميلاد: إن تمجيد العنصر اليهودي يجب أن يكون أهم واجبات الماسوني، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ذلك العنصر الذي حفظ على مر القرون والأجيال مستوى السنة الإلهية الذي لا يتغير. وأيضًا نجد في دائرة المعارف اليهودية تحت مادة "ماسونية" ما يلي: لغة الماسونية الفنية وإشاراتها ورموزها وطقوسها كلها يهودية، وقد قال أحد كبار الماسون: إن الماسونية في أعماقها تكمن الفكرة الإسرائيلية، وإن تاريخها وتقاليدها ورموزها وأسرارها تظهر الأساطير اليهودية المقدسة، إنها يهودية ومن مصدر يهودي صرف. فالماسونية إذًا تحمل الصبغة اليهودية في حركاتها وسكناتها وطابع النفسية اليهودية واضح فيها، فهي تهدف إلى تقديس ما ورد في التوراة وإعادة هيكل سليمان، وقد جاء في (دائرة المعارف الماسونية الأوربية) إن على الإنسان أن يتهود قبل أن يعتنق الماسونية، بل إنه في إحدى جلسات الدرجة الثالثة والثلاثين وهي إحدى درجات الماسونية العامة -كما سنرى بعد ذلك- نجد العضو الماسوني يتلو النص التالي فهو يقول: "سنعود إلى مهد سليمان بن داود ونبني الهيكل الأقدس ونقرأ فيه التلمود، وننفذ كل ما جاء في الوصايا والعهود وفي سبيل مجد إسرائيل نبذل كل مجهود"، هذا هو القسم الذي يتلوه العضو في درجته الثالثة والثلاثين، ولذلك نجد في القاهرة مثلًا أحد نوادي الماسونية الواقع في شارع طوسون، جميع أدوات هذا النادي تحمل النجمة الإسرائيلية، كما تحمل أعلامًا تمثل أسباط إسرائيل ال اثن ي عشر، وجميع ما بالدار من لوحات وأثاث ومطبوعات ومنشورات تتسم بالطابع البريطاني والإسرائيلي. من جميع ما تقدم يتضح لنا حقيقة الماسونية التي خُدع بها كثير من الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 أصل الماسونية العام، ونشأتها، وأقدم كتبها (القوانين) أصل الماسونية العام: والباحث في الجذور العميقة للتنظيمات الماسونية يرى تناقض الباحثين حول أصل الماسونية؛ فبعض الكتاب يقسم تاريخ الماسونية العام إلى قسمين؛ قسم قديم وقسم حديث، أو ماسونية حقيقية وماسونية رمزية، ثم يقسم الماسونية الحقيقة إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى وهي مرحلة الماسونية العملية المحضة، وتمتد من سنة 715 قبل الميلاد إلى سنة 1000 ميلادية، أما المرحلة الثانية من مراحل الماسونية العملية المحضة فيمتد من سنة 1000 ميلادية حتى سنة 1517 للميلاد، وكذلك يقسم الماسونية الحديثة أو الرمزية إلى مرحلتين أيضًا المرحلة الأولى من هذه الماسونية الحديثة وتمتد من سنة 1717 حتى سنة 1783 للميلاد، والمرحلة الثانية تمتد من سنة 1783 حتى الآن. نشأة الماسونية: وهذا أيضًا قد اختلف العلماء في الحديث عنه، فقد اختلفوا في الحديث عن نشأتها وتاريخ ولادتها؛ فيرى البعض أنها وُلدت حين كان موسى -عليه السلام- مع قومه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 في التيه، ونجد في أوراق المحفل الأكبر الوطني المصري للبنائين الأحرار القدماء المقبولين لمصر والأقطار العربية؛ نجد النشرة الماسونية رقم واحد تحمل هذه السنة 5956 وهي سنة النور، وهي باصطلاحهم تقع قبل أربعين قرنًا من ميلاد المسيح -عليه السلام، هذا هو الرأي الأول في نشأة الماسونية. أما الرأي الثاني فيرى البعض أن المؤسس الأول للماسونية هو "هيرودوس الثاني" الذي كان واليًا على القدس لدولة الرومان، قد أسس في القدس بالاشتراك مع مستشاريه اليهودييْن "أحيرام أبيو، ومؤاب لافي"، جمعية سرية باسم القوة الخفية، وكان هدفها مقاومة دعوة المسيح -عليه السلام؛ لأن المسيح - عليه السلام - كان يبشر -كما يقولون- بزوال هيكل سليمان، حتى لا يبقى حجر يلامس حجر ًا آخر، وكان هدف هذه الجمعية أيضًا ملاحقة الفئة المؤمنة بالمسيح - عليه السلام - وتشريدها، وكان لهذه الجمعية مجلس سري مؤلف من تسعة أعضاء، على رأسهم هؤلاء الثلاثة. وقد عقد المجلس أول جلسة في يوم 10 شهر ثمانية سنة 43 ميلادية في مكان سموه الهيكل، وتقاسموا بأغلظ الأيمان على أن يكون أمرهم سرًّا، وأن يتعاونوا فيما بينهم أشد التعاون، وأن ينفذ كل منهم ما يطلبه المجلس منه، ومن شذ عن ذلك فالموت جزا ؤ هـ ولا شفقة ولا رحمة ولا شفاعة. وأطلقت هذه الجمعية على هيكلها اسم كوكب الشرق الأعظم، ومن هذا الهيكل انبثقت الهياكل في فلسطين وفي خارجها، حتى كان في فلسطين وحدها أربعون هيكلًا تضم رجال السلطة وأذنابها، وماسحي ثيابها من ضعاف النفوس، وكان هيكل روما في مركز الإمبراطورية من أشهر هياكل ذلك العصر؛ هذا هو الرأي الثاني في نشأة الماسونية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 أما الرأي الثالث فيرى أن نشأة الماسونية ترجع إلى العصور الحديثة وله على ذلك أدلة كثيرة منها مثلًا أنه لم يكن في بريطانيا في القرن الثاني عشر للميلاد أو حتى القرن الثاني عشر للميلاد أية جمعية تحمل هذا الاسم؛ اسم البنائين الأحرار، أو الإخوة الأحرار، ولذلك نجد أول محفل من محافل الماسونية -بناء على هذا الرأي- هو المحفل الماسوني الأعظم في بريطانيا، وهو أول محفل ماسوني علني، وقد أنشئ عام 1717 للميلاد، ولا يزال قائمًا حتى اليوم، ينشر فكره في مجلة دورية تصدر باستمرار. والحق أن نشأة الماسونية تحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب، ولا سيما في هذا العصر الذي توفرت فيه المصادر عن الماسونية ولم تكن معروفة من قبل، ويرجع السبب في غموض البحث في هذه النقطة أن الباحثين حين يبحثون في زوايا التاريخ عن جمعية باسم الماسونية أو البنائين الأحرار متى ولدت في التاريخ ومتى ظهرت؟ يبحثون عن الاسم بينما المنطق العلمي يوجب علينا في مثل هذه الدراسات المتعلقة بالجمعيات السرية أن ندرس المبادئ لا أن نقف تحت ظلال الأسماء ننعم بالراحة، فالماسونية تظهر بأسماء مختلفة وتتلون بألوان كثيرة، فحين تنعم بالأمان في مجتمع من المجتمعات تعلن اسمها ومحفلها، أما إذا رأت خطرًا داهمًا أو شعرت بأن الناس بدء وا يحركون أصابع الشك والريبة حول سلوكها وأهدافها، سرعان ما تتغير معالم المحفل ليظهر من جديد اسمًا وشكلًا وأسلوبًا، والحقيقة هي الحقيقة والهدف هو الهدف. وعلى سبيل المثال فقد أغلق " هتلر " جميع محافل الشرق الأكبر في ألمانيا، والسبب أنه لمس صلة هذه المحافل باليهود، ماذا فعلت الماسون؟ عادت الماسونية في ألمانيا تحت اسم جديد هو نادي الفرسان الألمان، وحين شعرت الماسونية بأن بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 رجال الفكر في شتى بقاع العالم قاموا يحذرون أقوامهم من الخطر المحدق بهم من الماسونية؛ إذا بها تظهر بأسماء مستعارة كالروتاري والليونز وبناي برث وغيرها. أقدم كتاب في الماسونية: ويعد كتاب (القوانين) للدكتور " جيمس أندرسون " هو أقدم كتاب في الماسونية، وقد طُبع بلندن سنة 1723 من الميلاد، وقد ادعى فيه الدكتور " جيمس أندرسون " قدم الماسونية، وأن الأستاذ الأكبر لها هو النبي موسى -عليه السلام، وهو الذي أنشأ المحفل الماسوني، وكان القيم عليه بوصف كونه الأستاذ الماسوني الأكبر، وهو الذي نظم صفوف الإسرائيليين ووحدهم في محفل ماسوني منظم عندما كان بنو إسرائيل في التيه. وهذا كله طبعًا بحسب زعم أندرسون، الذي أطال الحديث في هذا الأمر دون سند تاريخي، بل إن التاريخ الحق ينفي مزاعمه ويبطل أكاذيبه، فما كان سيدنا موسى وسيدنا سليمان - عليهما السلام - إلا رسولي خير ورحمة، ولكن طبيعة " أندرسون " اليهودية وكتاب أسفار اليهود بما فيها التوراة جردوا الرسل من جميع مزاياهم العظمى، ومن جميع صفاتهم المثلى وخلائقهم الفضلى، وهذا كلام غير مستغرب من اليهود، نعم ليس مستغربًا من "أندرسون" وغيره من اليهود تشويه سمعة الأنبياء، حتى أنبياء بنو إسرائيل وهم الذين وصفوا الله تعالى وحاشاه وتعالى عما يصفون، وصفوه بأبشع صفات الشياطين، حتى جعلوه كائنًا متوحشًا موصوفًا بالنقائص والعيوب. وينتهي " أندرسون " في كتابه إلى تاريخ المحفل البريطاني الذي أقيم خلال سنة 1716 إلى 1717 دون أن يذكر أن جمعيات معدودات في القرن الثاني عشر كان يُطلق عليها اسم البنائين الأحرار أو الإخوة الأحرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وقد أعيد طبع كتاب " أندرسون " سنة 1738 ميلادية، وأهداه إلى أمير ويلز ولي العهد البريطاني الموصوف بأنه كبير الماسونيين وقيم محفلهم، وزعم " أندرسون " أيضًا أن " شارل مارتن " الذي انتصر على المسلمين في وقعة بلاط الشهداء سنة 732 كان القيم الأكبر على المحفل الفرنسي الماسوني الأكبر. انتشار الماسونية وأهدافها القريبة والبعيدة، وشعاراتها ورموزها انتشار الماسونية وأهدافها القريبة وأهدافها البعيدة: ذلك أن الماسونية ظهرت بشكلها المعروف سنة 1717 في مدينة أيوكاسيا باسكتلندا، ولذلك يحتفلون بهذه الذكرى كل عام -يحتفل الماسونية بهذه الذكرى كل عام- ثم انتقلت الماسونية إلى فرنسا عام 1732 وإلى أمريكا 1733 وإلى روسيا 1771 وإلى مصر عام 1802 مع حملة نابليون، ومن مصر انتقلت إلى البلاد العربية والإسلامية، أما في ألمانيا فقد تأسست الماسونية عام 1776 ثم انتشرت في أقطار أوربا الشرقية والوسطى، وعرفت الماسونية الألمانية باسم الماسونية النورانية، والماسونية الإنجليزية باسم الماسونية الحرة، سرعان ما التقتا في مؤتمر سويسرا وفرنسا بعد أن هوجمت الماسونية النورانية في ألمانيا، ثم عقد اجتماع في براغ على قبر الحاخام بيشورن، ومما ورد في الخطاب الذي ألقوه على هذا القبر "لقد وكل أباؤنا للنخبة من قادة يهود أمر الاجتماع مرة على الأقل في كل قرن حول قبر حبرنا الأعظم". أما الأهداف القريبة للماسونية فإن لها هدف أساسي وهو السيطرة على العالم كله، قد صرح الماسون بذلك في مواضع عدة، ففي الاحتفال الذي أقيم في ذكرى الثورة الفرنسية عام 1779 ميلادية خطب " فرانكلين " في أحد المؤتمرات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 ومما قاله: "إن هدف الماسونية هو تكوين حكومة لا تعرف الله"، كما ورد في أحد تصريحاتهم "أن الماسونية هي سيدة الأحزاب لا خادمتها"، وورد أيضًا في البيان الماسوني ما يلي: "إن من أسرار اتحادنا هو تأسيس جمهورية ديمقراطية عالمية خفية ". كما ورد في نشرة المشرق الأعظم الفرنسي ما يلي: "أنه بعد عشر سنوات سوف تجعل الماسونية سير الأمور حسب مشيئتها دون أن تلاقي في طريقها مقاومة من أحد". فالماسونية تخطط لتجعل من قادة الشعوب ورؤسائها عملاء لها، يتبنون أهداف اليهود بطريق مباشر أو غير مباشر، يفجرون الثورات يحطمون الأخلاق والمقدسات ليقيموا على أنقاضها مملكة يهوذا تتحكم في العالم وتسيطر عليه. أما الأهداف البعيدة للماسونية فهي تحطيم الأديان والقوميات والتقاليد والأخلاق والفضيلة، حتى لا تجد الماسونية مقاومة في طريق تحقيق أهدافها، وحتى تتمكن من توجيه عناصرها والمتجردين من هذه القيم في الطرق الملتوية، والأساليب الدنيئة التي تمكنهم من خدمة الماسونية اليهودية، سيرًا على مبدأ " ميكيافيللي ": "أن الغاية تبرر الوسيلة". وقد ورد في مجلة "أكاسيا" الماسونية الإيطالية سنة 1904 ما يلي: "إن الغاية من وجود الماسونية هي النضال ضد الجمعيات المستبدة المنتمية إلى الماضي، ولأجل هذه الغاية يقاتل الماسونيون في الصفوف الأولى؛ لأنها هي المنظمة الوحيدة التي تناهض الأديان والقوميات والتقاليد". كما ورد عنهم أيضًا أن غاية الماسونية هي تأسيس جمهورية ديمقراطية عالمية، وهي بذلك تتخذ الوصولية والنفعية أساسًا للاتحاد الماسونية. شعارات الماسونية ورموزها: إ ن للماسونية شعارات براقة ومنها أنها تدعو إلى الحرية والإخاء والمساواة وهو شعارها الظاهري، ولها أهداف علنية تتناقض تمامًا مع أهدافها الحقيقية والسرية، ولها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 رموز، وقد اتخذت الماسونية من مواد وأدوات بناء رموز لها، ومن ذلك رمز الزاوية والميزان والملعقة والفرجار والمنجل والمطرقة، وكذلك اتخذت بعض أعضاء جسم الإنسان كرموز منها العين والكف والصدر وغيرها. وكذلك اتخذت بعض الأشكال الهندسية كالهرم والمثلث وغير ذلك، هذه الشعارات والرموز مدسوسة ومتغلغلة في كثير من دول العالم؛ ومنها على سبيل المثال الشعار الموجود على العملة الورقية الأمريكية من فئة الدولار الواحد، والتي تحمل شعار الماسونية متمثلًا في العين والهرم، بالإضافة إلى طلاسم بالعبرية على سفح الهرم من أعلاه إلى القاعدة، يُلاحظ بأن المنجل أو الشاقوف والسندان أو المطرقة هي أيضًا شعارات للشيوعية الحمراء وهي من الرموز المشتركة. وكذلك للماسونية عهود يقسم بها العضو عند دخوله فيها، ويتعهد بعدم إفشاء أسرارها، وبها أيضًا بعض الطقوس المفزعة كعصب العينين واستخدام الجماجم البشرية للتخويف. الماسونية والأديان ونرى أن الماسونية لها شعارات معلنة لكنها في الحقيقة تخفي غير ما تبدي، فهي في شعاراتها المعلنة تدعي أنها تحترم الأديان، وتحترم أحكامها، مع أنها في الحقيقة تخفي في مبادئها عداءً سافرًا للدين، كل دين، ما عدا الدين اليهودي طبعًا. سنبدأ بالحديث عن موقفها من الدين اليهودي ثم نتحدث عن موقفها من المسيحية وموقفها من الإسلام والأديان عمومًا. أما موقفها من اليهودية: فكما سبق القول إن تاريخ الماسونية وطقوسها ورموزها كلها تدل على أنها بنت الفكر اليهودي وربيبته، والأدلة على ذلك كثيرة جدًّا منها مثلًا وجود هيكل سليمان في كل محافلهم، ووجود المذبح وهو يشبه المذبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 اليهودي؛ وغير ذلك من الدلائل الكثيرة، بل إن العضو الماسوني حين يصل إلى الدرجة الثالثة والثلاثين نجد هذا الحوار: "يُسأل على أي شيء أقسمت؟ فيجيب على التوراة، فيُسأل هل علمت بكتاب سواه؟ فيجيب نعم، هناك إنجيل وقرآن وهذان لشرذمة خارجة عن الإيمان والبشرية آمنت بالمسيح ومحمد العدوين اللدودين لعقيدتنا، فيُسأل هل تؤمن بهما؟ فيجيب كلا أؤمن بالتوراة فق ط الكتاب الصحيح الذي أنزل على موسى ... " إلى آخر هذه الأسئلة والأجوبة التي تجعل العضو الماسوني يتبرأ مما سوى العقيدة الماسونية. أما موقف الماسونية من المسيحية فيتلخص في كلمة واحدة؛ وهي أن الماسونية ترى المسيح - عليه السلام - نبي شرذمة خارج عن الإيمان، وأنه يستحق اللعن، وأن ما جاء به باطل وأضاليل، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (الكهف: 5). أما موقفهم من الإسلام فهم يزعمون أن محمدًا - صلوات الله وسلامه عليه - نبي مزعوم وأنه لم يأتِ بجديد، وأن القرآن الكريم فرع من التوراة، وأن هذا النبي يتزعم شرذمة من أعداء الإيمان والبشرية. يقول أحد رجالهم: إننا إذا سمحنا ليهودي أو مسلم أو كاثوليكي أو بروتستانتي بالدخول إلى أحد هياكل الماسونية؛ فإنما ذلك يتم بشرط أن الداخل يتجرد من أضاليله السابقة، ويجحد خرافاته، وتقول النشرة الماسونية الألمانية الصادرة في سنة 1866: ليس فقط يجب على الفرماسون ألا يكترثوا للأديان المختلفة، ولكن يقتضي عليهم أيضًا أن يقيموا نفوسهم فوق كل اعتقاد بالإله أيًّا كان. نخرج مما سبق بأن الماسونية لا تهتم بالأديان جملة، ولا تعيرها أدنى التفات، لكن يأتي هنا سؤال وهو كيف نوفق بين أقوالهم هذه وبين ما نجده في بعض نشراتهم التي يعلنوها للناس، من تكرار لفظ الإله وترديده في قسمهم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وللإجابة على هذا السؤال ننظر إلى نشراتهم السرية التي لا يطلع عليها إلا الخاصة منهم، منها مثلًا ما تقوله اللائحة النهائية للمجمع الرسمي للماسونية الهولندية، يقولون: ليست الماسونية سوى نكران جوهر الدين، وإن قال الماسون بوجود الإله فإنهم يريدون به الطبيعة وقواها المادية، أو جعل الإله والإنسان واحدًا، يقولون أيضًا: والإنسان من جنس الله، وروح الإنسان من روح الله، والروح غير منقسم، فنحن البشر نؤلف الكل الذي يقوم به الكائن الأعظم، وكل شيء يرجع إلى هذا الوحي، نحن الله، وتعالى الله عما يصفون. إذًا فالماسونية تتفق في الإلحاد، بل إن هناك بعض المحافل تدين بالولاء للشيطان، وتتخذه إله ًا، فهذه إحدى جرائدهم تقول: "إبليس هو رئيسنا" هكذا بصراحة، بل يصرح أحد كهنتهم بأن الحقيقة الفلسفية الخالصة هي أن الله والشيطان متساويان، ولكن الله هو إله النور والخير، وهو الذي ما زال يكافح منذ الأزل ضد إله الظلام والشر. أما عن موقف الماسونية من المرأة فنجد أن الماسونية تهتم بالمرأة وتعلي من قيمتها، لكن لا يغرنكم هذا الاهتمام؛ لأنه ليس اهتمامًا بالمرأة لأنها زوجة أو لأنها أم أو لأنها أخت أو لأنها شريكة، ولكن اهتمام بالمرأة؛ لأنها في نظرهم تحقق الكثير من أهداف الماسونية الهدامة، فالمرأة عند الماسونية سلاح قوي يقنع الرجال ويلوي أعناقهم ويلغي عقولهم. ومن هنا كان اهتمام الماسونية بالمرأة أو بالجنس على وجه التحديد، فقد أقامت الماسونية معابد للجنس ومهدت لطالب الجنس، بل إن المتصفح لتوراة اليهود المحرفة يجد أن الجنس هو الطابع المسيطر عليها، وهو الذي يشغل الكثير من صفحاتها، ويعجب المرء من دعوتهم العريضة واتهامهم الأنبياء بجرائم، فعندهم مثلًا داود - عليه السلام - يسطو على زوجة ابنه، وعندهم أن سليمان - عليه السلام - يقتل قائده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ليظفر بزوجته الجميلة، وأن لوطًا - عليه السلام - يضاجع ابنتيه ... إلى آخر هذه الأكاذيب والخرافات التي يعف اللسان عن ذكرها، والتي يتسامى عنها أنبياء الله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. بل إننا نجد في هذا العصر الحديث أن الماسونية هم من أوائل من روج لأفكار الفساد، وهم أول من دعا إلى الإباحية، وهم أول من طالب بإشاعة الرجس والفاحشة، ومنهم على سبيل المثال أحد هؤلاء الماسون وهو اليهودي "ليون بلوم" الذي خطط مع مجموعة من الماسون للثورة الفرنسية، وعندما نجح مسعاه طالبوا بفصل الدين عن الدولة، وعملوا على نشر الإباحية في فرنسا، ودعوا إلى إخراج النساء من بيوتهن، بل وأخرجوهن فعلًا، وهذا الرجل له كتاب، هذا الرجل " ليون بلوم " له كتاب يُسمى "الزواج" يعد من أقذر كتب الجنس والدعوة إليه، وقد دعا " بلوم " في هذا الكتاب إلى: أولًا: دعوة الشباب والفتيات إلى الرذيلة. ثانيًا: مطالبة الشباب بتعجيل قضاء رغباتهم الجنسية بمجرد الإحساس. ثالثًا: دعا إلى التهوين من الأخلاق والقيم والمثل، ودعا إلى السخرية من الأديان والرسل، كما دعا إلى تحطيم رباط الأسرة والزواج وتنفير النساء من الحمل والولادة إلى آخر هذه الشناعات والبشاعات في الحديث عن الجنس. وهكذا نجد أن الماسونية حين تهتم بالمرأة لا تهتم بها إعلاءً لقيمتها، ولكنها تهتم بها؛ لأنها تعتبر أن المرأة هي من أعظم وسائل تحقيق أهداف الماسونية الهدامة، وتهتم بالمرأة وتهتم بالجنس وتدعو إلى إشاعة الفاحشة وإشاعة الحرية والاختلاط بين الجنسين، وهذا سنجده مفصلًا عند الحديث عن أثر هذه الأفكار الماسونية في بلاد الغرب، وعند الحديث عن أثر هذه الأفكار الماسونية في بلاد المسلمين من إشاعة للاختلاط وإشاعة للفاحشة وإشاعة للجنس ودعوة إليه. وصلَّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الدرس: 2 الماسونية (2). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني (الماسونية (2)) مصادر الفكر الماسوني، وأهم محافله المعاصرة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: مصادر الفكر الماسوني: وهذا العنصر يجيب على سؤال مهم وهو حين ننظر إلى أفكار الماسونية في الألوهية وفي الأديان وفي المرأة وفي غيرها من الأفكار؛ نسأل أنفسنا من أين استقى الماسون هذه الأفكار؟ فنجد أنهم يصرحون ويعلنون أن مصدرهم في هذه الأفكار هو التلمود، والتلمود هو الكتاب الذي يحتوي على التعاليم اليهودية، وكلمة "تلمود" مأخوذة من كلمة "لامود"، وهي تعني التعاليم، وهذا التلمود قسمان؛ قسم يُسمى "المشناه" وهو الأصل ويعني "المتن" باللغة العبرية، وقسم آجر يُسمى "الجومارا" وهو شرح للمشناه. وتقرر دوائر المعارف أن "المشناه" هو أول لائحة قانونية وضعها اليهود لأنفسهم بعد التوراة، جمعها أحد حاخاماتهم ويسمى " يهوذا هاناس " فيما بين سنة 190 و200 ميلادية، وينقسم "الجومارا" إلى قسمين؛ جومارا أورشليم وهو سجل للمناقشات التي أجارها حاخام فلسطين لشرح أصول المشناه، ويرجع تاريخ جمع الجومارا -جومارا أورشليم- إلى سنة 400 ميلادية تقريبًا، وجومارا بابل وهو سجل مماثل للمناقشات حول تعاليم "المشناه" ويرجع تاريخ جمعه إلى سنة 500 ميلادية تقريبًا. فالمشناه هو شرح "الجومارا" كما قلنا، ومشناه أورشليم أو شرح جومارا أورشليم يُسمى تلمود أورشليم، ومشناه شرح جومارا بابل يسمى تلمود بابل، وكلاهما يُطبع على حد ة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أما هذا التلمود فإن نصوصه حين نستعرضها نجد ونلمس مدى الزيف والتضليل الذي ينساق إليه هؤلاء الناس ويريدون للبشرية كلها أن تسقط فيه، فنجد هذا التلمود يقول عن إله اليهود: إنه يقسم النهار إلى اثنتي عشر ة ساعة، في الساعات الثلاث الأولى ي در س الله ويدرس الشريعة اليهودية، وفي الساعات الثلاث الثانية يدين الشعب، أي يحكم بين الشعب اليهودي، وفي الساعات الثلاث الثالثة يغذي العالم بأسره، أما في الساعات الثلاث الأخيرة فإن الله في زعمهم يلعب مع الحوت ملك الأسماك. بل يقول التلمود: "إن الله لم ينقطع عن البكاء والنحيب لأنه ارتكب خطيئة ثقيلة"، بل إنه يقول: "إن الله يصرح ويقول الويل لي لأني تركت بيتي يُنهب، وتركت هيكلي يُحرق، وتركت أولادي يشتتون". كذلك يتحدث التلمود عن غير اليهود بقوله: "إن اليهودية أحب إلى الله من الملائكة فالذي يصفح اليهودي كمن يصفع العناية الإلهية سواء بسواء ". يقول التلمود: "إن الشعوب الأخرى -أي: غير اليهود- ليست سوى أنواع مختلفة من الحيوانات ". هذه هي أفكارهم وهذه هي مصادرهم والله المستعان على ما يصفون. أهم المحافل الماسونية المعاصرة: إ ن للماسونية محافل كثيرة منتشرة في دول عديدة من دول العالم، منها -على سبيل المثال لا الحصر- محفل أبناء الهيكل، وقد أُسس هذا المحفل عام 1834 في مدينة نيويورك بعد أن حصل اثنا عشر يهوديًّا هاجروا من ألمانيا على تصريح بالهجرة في عهد الرئيس " هنري " رئيس أمريكا، والمحفل الثاني هو محفل الاتحاد اليهودي العالمي، وقد أسس هذا المحفل سنة 1860 ميلادية في فرنسا على يد أحد حاخامات اليهود واسمه " إسحاق كاليميتي " أحد رؤساء حكومة فرنسا في ذلك العهد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وثالث ً امحفل لاينيز إنترناشيونال ومركزه في أمريكا ويديره " جاكوب جافيتس " عضو مجلس الشيوخ الأمريكي، ثم محفل مدينة القدس قد تأسس عام 1888 واللغة الرسمية التي يُتحدث بها في هذا المحفل هي العبرية، وهو تابع لمحفل أبناء العهد، وأعضا ؤ هـ من اليهود ومن غيرهم كشأن المحافل الأخرى، ومحفل نوتا وهو اسم لقرية يهودية بجوار القدس وهو تابع لمحفل أبناء العهد بأمريكا أيضًا، ثم "الروتاري " وقد أسس هذه المنظمة المحامي " بون هاريسون " في مدينة شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1905 ميلادية، وسنتكلم عنها في أحد الدروس بشيء من التفصيل، ثم فرع المنظمة الروتارية بفلسطين، وقد تأسس عام 1929 في قرية رامات غان؛ وغيرها من المحافل، وهذه فقط مجرد أمثلة. درجات الماسونية ومراتبها للماسونية مراتب ثلاث نجدها في محافلها، تقسم الماسونية أعضاءها إلى ثلاث طبقات، نستطيع أن نلخصها كالتالي: المرتبة الأولى من مراتب الماسونية: هي الماسونية الرمزية العامة، وهذه الماسونية الرمزية منتشرة في كثير من بلاد العالم، يسمونها رمزية؛ لكثرة رموزها التي تتداول في شعائرها وطقوسها الوضعية، وفي هذه المرتبة الرمزية العامة يسير العضو تدريجيًّا ليتعرف على الأسس التي تقوم عليها المنظمة، وهذه المرتبة مفتوحة العضوية لجميع الناس وتُخصص هذه المرتبة لغير اليهود وتركز على الشعارات الظاهرة التي سبق أن تحدثنا عنها وهي الحرية والإخاء والمساواة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وبهذه المرتبة ثلاث وثلاثين درجة، ويرتقي العضو بها حسب كفاءته لأعلى مراتبها يصل وزراء ورؤساء الدول وكبار الشخصيات، لكن فقط من الذين تستفيد المنظمة من صلاحي اتهم، وتستفيد من نفوذهم لتذليل الصعاب التي تواجهها. وقد رتب الماسون الكبار رموز هذه المرحلة بحيث إ ن كل رمز يشير إلى حادثة أو واقعة مما دونته سجلات عقائد اليهودية الماسونية الصهيونية، كذلك وضعوا لها ما يشبه القانون الأساسي لهذه المرحلة الرمزية، وهو في حقيقة أمره لا يعدو أن يكون أكثر من عملية تمويه كبيرة من عمليات الماسونية العالمية، فمثل ً امن بين بنود القانون الأساسي لهذه المرحلة الرمزية الادعاء القائل عن الماسونية الرمزية بأنها جمعية خيرية إنسانية تقود على المحبة المتبادلة بين جميع أعضا ئ ها، وأن يقوم العضو بخدمة الجماعة وتقوم الجماعة من جانبها بخدمة العضو، كما تتضمن نصوص القانون المُدعى بأن المرحلة الرمزية تقوم على محبة الوطن والأوطان، وتقديس الوطنية، وأنها لا تدعو أحدًا إلى البغض أو الاعتداء على الغير. أيضًا نرى لهذه الماسونية الرمزية شعارات خلابة براقة يقع فيها كثير من الناس ويغترون بها وبزخرفها؛ وهي النداء بالحرية والإخاء والمساواة، وهذه الشعارات لا تهدف منها الماسونية ظاهر دلالتها؛ وإنما لكي يُتاح لليهود وهم المرفوضون بمقتضى ما يمثلونه لكي يتاح لهم مساواتهم بغيرهم من مواطني المجتمعات التي يعيشون فيها، ولكي يُتاح لهم من خلال مساواتهم بغيرهم النفاذ إلى مقدرات المجتمع الذي يعيشون فيه ليمتصوا خيراته ويستنفذوا طاقاته. ولهذه المرحلة الرمزية محافل في معظم مدن العالم، وكل محفل بحكم التبعية التنظيمية العالمية يتبع محفل ًا آخر أكبر منه، في المرحلة الرمزية يُسمى المحفل الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 تتبعه عدة محافل المحفل الإقليمي، وبالتالي فإن المحافل الإقليمية بدورها تابعة لمحافل كبرى في العواصم العالمية ذات الأهمية الخاصة في أهداف الماسونية الأم، وعلى سبيل المثال فإنه في مصر كانت هناك عدة محافل كبرى تابعة للمحفل الوطني المصري، ولقد كان المحفل الوطني المصري تابعًا لمحفل من المحافل العظمى في بريطانيا، وهذا المحفل البريطاني تابعًا لمحفل آخر في فرنسا، وهذا المحفل الفرنسي الثالث تابعًا لمحفل من محافل تركيا العظمى ... وهكذا. وللماسونية الرمزية درجات عدة: أولها: درجة المبتدئ: ويُسمى العضو في هذه الدرجة بالأخ، والدرجة الثانية درجة الشغال ويُسمى صاحبها بالشغال، والدرجة الثالثة يُسمى صاحبها بالأستاذ، ثم يترقى صاحب الدرجة الأستاذ حتى يترقى لدرجة الاحترام فيعطى الدرجة الثامنة عشر وتسمى هذه الدرجة بالصليب الوردي، ولهذه الدرجة علامة توضع على الوشاح الذي يُلبس، وهذه العلامة هي علامة الصليب، وذلك إنما يفعلونه ذر ًّ اللرماد في عيون الأعضاء المسيحيين وخداعًا لهم، ويكون بذلك هذا العضو أهل ً الرياسة المحفل الرمزي، ثم يترقى هذا العضو إلى درجة الاحترام الأعظم ويسمى المحترم الأعظم، ويُعطى الدرجة الثالثة والثلاثين، وهذه الدرجة هي أرقى درجات الماسونية الرمزية العامة، ثم يقفز منها بأمر القطب الأعظم عندهم إلى درجة ممفيس وهي الدرجة التاسعة والتسعين. ولكل من هذه الدرجات رموزها الخاصة فيُلقن أصحابها ما تشير إليه من المعاني الواردة في التوراة المحرفة، أي أنها تصور حادثة أو واقعة جاء ذكرها في التوراة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 المحرفة، فإذا وصل الماسوني إلى درجة الأستاذ الأعظم وأُعطي الدرجة الثالثة والثلاثين فإنه يصير مؤهلًا في أن يُقبل في عضوية ما يسمونه ب العقد الملوكي أو الماسونية الملكية، وذلك بعد أن يكون قد تهود أو تصهين دون أن يدري. أما المرتبة الثانية من مراتب الماسونية: فهي الماسونية الملكية أو الملوكية: وه ذه المرتبة متممة للمرتبة الأولى -مرتبة الرمزية العامة، لكن هذه المرتبة -مرتبة الماسونية الملكية- هي صهيونية لحمًا ودمًا، فهذه المرتبة لا يُسمح لغير اليهود بالدخول فيها عدا من وصل إلى أعلى مراتب الرمزية أو من أدى خدمات جليلة للصهيونية؛ خدمات مادية أو أدبية أو اقتصادية أو اتباعية أو ثقافية أو سياسية أو غيرها، فيسمح له بالدخول فيها، وقد كان أعضا ؤ ها جميعًا فيما سبق من اليهود الصهاينة ولا أحد يدخلها سواهم، ولكنه ر ئ ي أخيرًا من باب اللياقة وخبث السياسية قبول غير اليهود أيضًا في زمرة هذه المرتبة شريطة أن يكونوا قد حازوا الدرجة الثالثة والثلاثين في المرحلة الرمزية العامة، وشريطة أيضًا ألا يتعدوا في المرتبة الماسونية الملكية مرحلة واحدة؛ وهي مرحلة الرفيق الأعظم -كما يسمونها. وتعمد هذه المرتبة إلى تقديس الديانة اليهودية واحترام التوراة والعمل لإعادة بناء هيكل نبي الله سليمان عليه السلام، فيجب على أصحاب هذه المرتبة أن يقسموا يمينًا مغلظًا على أن يعملوا مع العاملين على تحقيق الأغراض السامية المقدسة في نظرهم، والتي ترمي إلى إعادة دولة إسرائيل المشتتة، وإعادة بناء هيكل سليمان المقدس. وأما المرتبة الثالثة: فهي الماسونية الكونية: وهذه المرتبة أعضا ؤ ها جميعًا من اليهود ويلقب رئيسها بالحكيم الأعظم، وهو مصدر السلطة بجميع المحافل وتدير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 هذه المرتبة دفة الأمور، كما تؤمن بالبروتوكولات والتي صنعها حكماء صهيون - والأحرى أن يُقال: سفهاء صهيون- هذه المرتبة تنفذ هذه البروتوكولات وتؤمن بها وتنفذ متطلباتها، ولا يعرف مقرها ولا رئيسها غير أعضائها من رؤساء محافل العقد الملوكي، وكلهم يهود، وكلهم من بني يهوذا فقط، وهو رابع أبناء إسرائيل. أما غاية أعضاء هذه الفرقة فهي استخدام كافة المحافل الماسونية الرمزية في تحقيق الأغراض الصهيونية تحت ستار شعار الحرية والإخاء والمساواة. والعقد الملوكي الذي يتقلده كبار رجال الماسونية هو عبارة عن قلادة مرسوم عليها أسباط بنو إسرائيل، مكتوبة بالعبرية مرتبة طبقًا لترتيب التوراة لعشائر هؤلاء الأسباط حول خيمة الاجتماع، وكذلك الأوسمة التي يزين بها أصحاب هذه الدرجة صدورهم، كلها على الطراز الذي يتخذه الصهاينة في محافلهم الصهيونية. ويقارن أحد الكتاب الماسون بين رموز الماسونية الرمزية ورموز الماسونية الملوكية الصهيونية؛ فيقول: أولًا: يسمي الماسون الرمزيون المكان الذي يجتمعون فيه محفلًا أو هيكلًا أو رمزًا للمكان الذي هو هيكل الله؛ بينما يرمز به الملوكية إلى هيكل سليمان الذي يرى فيه الصهاينة شعارهم القومي. ثانيًا: يستعمل الماسون النور رمزًا إلى نور العقل الإنساني، أما اليهود فيرمزون به إلى النور الذي كان الله يتجلى فيه لسيدنا موسى، ويرمزون به أيضًا إلى عامود النور الذي رافقه بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ثالثًا: إن السيف الذي يحمله الماسونيون الرمزيون رمز إلى دعوة القتال في سبيل الحق والعدل والحرية، وكل ماسوني مكلف أكثر من غيره بهذا القتال، أما الصهاينة فيشيرون بالسيف إلى السيف الذي كان يحمله بنو إسرائيل دفاعًا عن المدينة المقدسة عندما كانوا يبنون الهيكل. رابعًا: البناية الحرة عند الماسونيين الرمزيين ترمز إلى البناء في عالم الإنسانية لتقدم الإنسان، لكنها عند الصهاينة الملوكيين ترمز إلى بناء هيكل سليمان. خامسًا: الأنوار السبعة هي عدد الأعضاء الذين لا يمكن بدونهم أن تكون جلسة المحفل قانونية؛ بينما هي عند الماسونية الملوكية ترمز إلى عدد السنوات السبع التي أتم فيها الملك سليمان بناء الهيكل العظيم. أثر الماسونية على المسلمين في العصر الحديث إذ إ ن الفكر الماسوني حينما زحف على العالم الإسلامي مقترنًا بالغزو الاستعماري للعالم الإسلامي بذر في بلاد المسلمين بذور الجهل والتخلف، وبذر فيها أيضًا أيدي خفية ملوثة بالشر والكيد للإسلام وأهله، فهذا مثلًا " نابليون " وهو الماسوني العريق لا يكاد يستقر في مصر حتى ينشئ في القاهرة محفلًا في سنة 1800 وهو محفل "إ يزيس " مستعينًا بمن في هذا المحفل من أبناء النيل على كشف عورات الوطن وعلى ضرب حركة الجهاد والمقاومة التي كانت تقاوم الحملة الفرنسية في هذا العصر. وفي الجزائر أيضًا نرى أنه لم تمضِ بضع سنين على احتلالها حتى كانت الماسونية تدعو سنة 1834 إلى نشر الحضارة والأفكار الفرنسية بإفريقيا، وتدعو إلى تثقيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 العرب والعمل معهم على بعث نوع من الوحدة العائلية لتكوين شعب فرنسي جديد. أما في مصر فنجد الجيش ال إ نجليزي أيضًا الذي احتل مصر قد أسس محفل القديس " يوحنا " في أيام احتلاله لمصر، كما نجد الجنرال " غورو " الصليبي الحاقد قائد الجيش الفرنسي الذي احتل دمشق خاتمًا بذلك الحروب الصليبية على حد زعمه فهو الذي نشر الماسونية في أرض الشام، وقدم لها كل دعم، وحول محفل دمشق الصغير إلى محفل الشرق. وما فعلته جيوش الاحتلال في مصر والشام هو ما فعلته في بلاد العالم الإسلامي الأخرى، ففي نيجيريا أصبح من العسير جدًّا أن نجد رئيس قبيلة ولا سيما في الجنوب غير ماسوني، ناهيك بأهل النفوذ والمال والفكر، وما يُقال عن نيج ي ريا يُقال عن ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا ويقُال عن بقاع أخرى من بلاد المسلمين. وغرس الاستعمار هذه البذور في بلاد المسلمين، وغرس هذه الأيدي الآثمة المملوءة بالشر والكيد للمسلمين، وكان من آثار هذه البذور: أولًا: أننا رأينا في الأرض الإسلامية من يحاول تحريف التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، يقول مثلًا عن مدينة السلام بغداد وعن جامع أحمد بن طولون وعن قصر غرناطة: أن أيدٍ ماسونية هي التي قامت ببناء كل ذلك، بل يقولون عن البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - يقولون عنه: إنه كان ماسونيًّا. ثانيًا: من آثار هذه البذور أيضًا الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة تحت شعار "الدين لله والوطن للجميع"، بل تعدى هذا إلى تنفيذ هذا الأمر فعلًا. ثالثًا: ومن آثارها أيضًا نشر الإلحاد والدعوة إلى العلمانية في الدولة وفي التعليم وفي الثقافة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 رابعًا: ومن آثارها أيضًا الدعوة إلى تحرر المرأة من قيود الدين والفضيلة، وللمثال على ذلك نجد هذا النداء الذي وجهه المحفل الماسوني الوطني المصري الأكبر إلى أهل فلسطين في ثورتهم عام 1936، يقول النداء: يا أهل فلسطين تذكروا أن اليهود هم إخوتكم وأبناء عمومتكم قد ركبوا متن الغربة فأفلحوا ونجحوا، ثم هم اليوم يطمعون في الرجوع إليكم لفائدة وعظمة الوطن المشترك العام بما أحرزوه من مال وما كسبوه من خير وعرفان، إن العربية والعبرية غصنان من شجرة إبراهيم أبوهما إسحاق وإسماعيل؛ ف متى وضع أحدهما يده في يد الآخر انتفعا جميعًا بما لديهما من الوسائل المختلفة، وكان في تعاونهما تمام الخير وكمال البركة. مبادئ الماسونية المعلنة والخفية ونحسب أننا قد ظهر لنا بعض المبادئ التي يعلنها الماسونيون وبعض المخفي منها، فلهم مبادئ معلنة وأخرى خفية: أما المبادئ المعلنة في شعارات براقة لخداع الناس وتزيين الباطل واصطياد العميان للدخول في زمرتهم، ومن هذه المبادئ المعلنة: أولًا: إنهم يدعون إلى الإيمان بالله تعالى إيمانًا مطلقًا لا يحده حد ولا تشوبه شائبة، ونقرأ في بعض وصاياهم فرض على الأخ حب الله والكنيسة المقدسة وسيده الذي يصحبه، ولي حفظ المبادئ الثلاثة كما يحفظ حياته، ولا يخطو خطوة دون رأي سيده الذي يجب أن ي تبعه في المقاصد النبيلة، ولا يكشف أمره ولا يبح بسره لأحد، ولا يحد قيد شعرة عما يأمر به المحفل في جميع الأحوال، ومهما كان الأمر وحيثما ذهب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ثانيًا: من مبادئهم المعلنة أنهم يقولون: إنهم يحترمون الأديان، ويصرحون لهذا في كل مناسبة، إنهم يحترمون الأديان كل الأديان، وفي جلسة قبول المبتدئ يقول الرئيس له: اعلم أيها الطالب أنه لا يوجد في الماسونية ما يخالف شرائع البلاد والتعاليم الدينية، ولا يُقبل في الماسونية إلا من كان محبًّا ومخلصًا لوطنه، ومن أبناء المذاهب التي تقر بوجود الله وتعمل بوصاياه. ثالثًا: أنهم يقولون ويدعون أنهم يحترمون الأخلاق والفضيلة، وهم يقولون: إن الماسونية مؤسسة إنسانية لا تدعو إلا إلى الأخلاق والفضائل، وشعارها -كما يقولون- الحرية والإخاء والمساواة. رابعًا: أنهم يقولون: إن الماسونية لا تعمل في السياسة، ولا تتدخل في الحقل السياسي، وإ ن الماسونية تحترم السلطة الحاكمة مهما كان نوعها، وتخضع لكل ما تأمر به، فهم يقولون: نحن نحترم كل سلطة تأسست بطريقة شرعية، ونخضع لها بارتياح سواء كانت ماسونية أم مدنية، وهم يقولون: إن الأنظمة الماسونية تحذر من الخوض بالحديث حول الأوضاع العسكرية أو الأوضاع السياسية، وتنذر من يخوض في ذلك بالطرد من العشيرة، وقد جاء في (مع ج م الماسونية والماسونيين) ما يلي: تمنع في المحافل المناقشات السياسية والدينية. هذه هي مبادئهم المعلنة وهي -كما نرى- خداع في خداع، يخدعون بها البسطاء والعميان. أما مبادئهم الخفية الحقيقية فهي أيضًا كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال: أولًا: الإيمان بالشيطان، نعم هم يؤمنون بالشيطان، ويعلنون هذا في وثائقهم؛ ففي كلمة للأستاذ الأكبر كما يسمونه لأحد المحافل يقول: "نحن الماسونيين ننتسب إلى أسرة كبيرة هي أسرة كبير الأبالسة " لوسيفر "، فصليبنا هو المثلث وهيكلنا هو المحفل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وفي رسالة وجهها الجنرال " بايك " إلى رؤساء المحافل نقرأ هذا النص: "يجب علينا نحن الماسون أن نقول للجماهير: إ ننا نؤمن بالله ونعبده، ولكن الإله الذي نعبده لا تفصلنا عنه الأوهام والخرافات، ويجب علينا نحن الذين وصلنا إلى مراتب الاطلاع العليا أن نحتفظ بنقاء العقائد الشيطانية ". لقد سجل (معجم الماسونية الماسونيين) وجود مجموعات ماسونية بعضها ينكر وجود الله تعالى، وبعضها يعترف بوجود الله تعالى ولكنه ينكر كل الأحكام الخلقية، وبعضهم يرى أن الإله الحقيقي هو المادة أو الطبيعة، بل إن أحد الماسونيين العرب يصرح بقوله: "لم يبقَ أحد يؤمن بالله وخلود النفس إلا البلهاء والحمقى". نحب أن نذكر هنا أن البعض ممن يخدعه القسم الذي يقسمه الماسون باسم مهندسي الكون الأعظم فيعتقد أنهم يقصدون به اسم الله -جل جلاله، والحق أن الماسونية لا تريد به ذلك، بل إن الكون الأعظم عندهم هو القوة الخفية، وأما المهندس فهو " أدونيرم " الرئيس الرابع لتلك القوة الخفية. المبدأ الثاني من مبادئ الماسونية الخفية: فهو: محاربة الأديان، ف ما دامت الماسونية قد جحدت وجود الله سبحانه، واتخذت الشيطان أو المادة أو العدم آله تعبدها من دون الله جل جلاله؛ فإن موقفها من الدين الذي نزل من السماء هو موقف العدو المحارب ولا شك، ف هم يقولون في دستورهم: ليست الماسونية دينًا، ولا ترضى بأن تدخل الشرائع الدينية في صلب قوانينها، وتخشى من انقسام أعضا ئ ها على أنفسهم حين تدخل الشرائع الدينية بينهم، الأمر الذي يخالف تقاليد العشرية الماسونية ويناقض دستورها، في نشرة من نشرات الماسونية يقولون: نحن الماسون لا يمكننا التوقف عن الحرب بيننا وبين الأديان، ولا مناص من ظفرنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 أو ظفرها، ولن نرتاح إلا بعد أن نغلق المعابد جميعًا، يقول أحد الماسون العرب: كل اعتقاد ديني هو ضعف في عقل الإنسان، ويقول آخر: والماسونية لا تتبع الطريقة الدينية ولا تتمذهب بمذهب معين، فأقل ما يُقال في أي مذهب أو أي دين: إ نه نتيجة للتفكير البشري المحترم في حد ذاته، ويقول ثالث: إن الماسونية دين له خطوطه الواضحة وإن تركت لأبنا ئ ها أديانهم مؤقتًا، ومما يدل على ذلك أنهم يضعون في محافلهم الزاوية فوق القرآن. أما ثالث مبادئهم الخفية الحقيقة: فهو أنه لا أخلاق، وكل شيء عندهم يدل على ضياع القيم والأخلاق والفضائل، بل ويفضح كذب دعواهم بالمناداة بالحرية والإخاء والمساواة: ف هم لا يعرفون المساواة ويدل على ذلك أنهم درجات متفاوتة، لا يعرف ما يدور في الدرجة الأعلى من كان في الدرجة الأدنى حتى ولا يستطيع أن يفهم لغة مخاطباتها، ولا يعرفون المساواة وهم لا يقبلون السود في عضوية محافلهم، بل إن الماسونية تقطع صلة الماسوني بأقرب الناس إليه، تقطع صلته بالقيم الخلقية، وهذا أحد الماسونية ينفي عن الماسونية أنها جمعية خيرية، فيقول: إن الماسونية ليست جمعية خيرية، والبناءون الأحرار يقومون في الواقع بأعمال خيرية متسعة النطاق مختلفة الأغراض عديدة الوسائل، وذلك للتغطية على الأهداف التي تسعى اليهودية العالمية لتحقيقها، وذلك وأكرر للتغطية على الأهداف التي تسعى اليهودية العالمية لتحقيقها، فليس الغرض هو فعل الخير، وليس الغرض هو خدمة الناس، ولكن الغرض هو تحقيق الأهداف. وكذلك تعمل الماسونية على نشر الإباحية والانحلال، وآمال الماسونيين في الناحية الخلقية من حياة الناس قائمة على إيجاد أمة من الناس أحرار بمفهوم الحرية الذي يزعمونه وهو ألا يشعر هؤلاء الناس الأحرار في زعمهم بالخجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 عندما يتعرى بعضهم أمام بعض، ولا يخجل هؤلاء الناس الأحرار من إظهار أعضا ئ هم التناسلية حين يجتمعون في منتديات العري أو في شواطئ المصايف. رابعًا وأخيرًا: نذكر من مبادئ الماسونية الخفية أنها فوق السلطة؛ ف قد أصبحت منذ قرنين حتى الآن سلطة فوق السلطات في العديد من دول المعمورة، وهذا يخالف مخالفة شديدة ما يقولونه في مبادئهم المعلنة من أنهم يحترمون السلطة، ولا يتدخلون في السياسة، ولا يقاومون السلطات، وهذا واحد منهم يقول: إن الماسونية لا تتدخل في الدين ولا في السياسة، لكنها هي التي قلبت نظام العالم في الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية والثورة الروسية، وفي أحد كتبهم نقرأ من الواجب أن تكون الماسونية زعيمة الأحزاب السياسية، أن تكون زعيمة تقودها ولا تنقاد لها. الماسونية في ميزان النقد العلمي والعلماء وأحسب أن الأمور الآن قد وضحت بالنسبة لمبادئ الماسونية المعلنة والخفية، وأن تكون قد عرفت أن الماسونية تعمل ضد الأديان وضد الأخلاق وضد الفضائل وضد كل فكرة تخدم الإنسانية وتعمل على إسعادها، وتعمل فقط من أجل هدفها وهدف الصهيونية وحسب، وذلك يكون من خلال إشاعة أفكار التيارات الغريبة والشاذة التي لا يتقبلها عقل ولا تستقيم مع الفطرة، ولذلك فهي تخالف الدين وتخالف الإسلام، بل وتخالف كل خلق وكل فضيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فتاوى علماء المسلمين حول الماسونية: ولأجل خطورة الماسونية أُصدرت الكثير من الفتاوى الشرعية بتحريم الانتماء إلى الماسونية، وأهم هذه الفتاوى وهي كثيرة، ما جاء في بيان من لجنة الفتوى بالأزهر الشريف بشأن الماسونية والأندية التابعة لها مثل الروتاري والليونز، وجاء في هذه الفتوى: إن الإسلام والمسلمين يحاربهم الأعداء العديدون من كل جانب، وبكل الأسلحة المادية والأدبية، يريدون بذلك الكيد للإسلام والمسلمين، ولكن الله ناصرهم ومعزهم، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر: 51). ومن بين هذه الوسائل التي يحاربون بها الإسلام وسيلة الأندية التي ينشئونها باسم الإخاء والإنسانية ولهم غاياتهم وأهدافهم الخفية وراء ذلك، وإن من بين هذه الأندية الماسونية مؤسسات تابعة لها مثل الليونز والروتاري، وهما من أخطر المنظمات الهدامة التي يسيطر عليها اليهود والصهيونية، يبتغون بذلك السيطرة على العالم عن طريق القضاء على الأديان وإشاعة الفوضى الأخلاقية، وتسخير أبناء البلاد للتجسس على أوطانهم باسم الإنسانية، ولذلك يحرم على المسلمين أن ينتسبوا إلى أندية هذا شأنها، وواجب المسلمين أن لا يكونوا إمعة يسيروا وراء كل داعٍ ونادٍ، بل واجبه أن يمتثل لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: ((لا يكن أحدكم إمعة، يقول: أنا مع الناس؛ ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تتجنبوا إساءتهم)). وواجب المسلم أن يكون يقظًا حتى لا يغرر به، فللمسلمين أنديتهم الخاصة بهم والتي لها مقاصدها وغاياتها العلنية، فليس في الإسلام ما نخشاه ولا ما نخفيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وأيضًا نورد فتوى أصدرها المجمع الفقهي بمكة المكرمة عن الماسونية وأتباعها، وقد أصدر المجمع قرارًا بإجماع أعضا ئ هـ بعد أن قام بدراسة وافية عن هذه المنظمة الخطيرة، وطالع ما كتب عنها من قديم وجديد وما نُشر من وثائقها وما نشره أعضا ؤ ها وبعد أقطابها من مؤلفات ومقالات في المجلات التي تنطق باسمها، وقد أصدر المجمع بعد هذا قرارًا باعتبار الماسونية جمعية سرية هدامة لها صلة وثيقة بالصهيونية العالمية التي تحركها وتدفعها لخدمة أغراضها، وتنتشر تحت شعارات خداعة كالحرية والإخاء والمساواة؛ وما إلى ذلك مما أوقع في شباكها كثير من المسلمين وقادة البلاد وأهل الفكر، وعلى الهيئات الإسلامية أن يكون موقفها من هذه الجمعية السرية كالتالي: أولًا: على كل مسلم أن يخرج منها فورًا. ثانيًا: تحريم انتخاب أي مسلم ينتسب إليها لأي عمل إسلامي. ثالثًا: على الدول الإسلامية أن تمنع نشاطها داخل بلادها، وأن تغلق محافلها وأوكارها. رابعًا: عدم توظيف أي شخص ينتسب إليها ومقاطعته مقاطعة كلية. خامسًا: فضحها بكتيبات ونشرات تُباع بسعر التكلفة. وأخيرًا نسأل سؤالًا: كيف نواجه هذه الماسونية؟: قبل أن أختم كلامي عن الماسونية يهمنا أن نبين كيف نواجه خطرها؟ ويتمثل ذلك في أمرين: الأمر الأول: هو الحل الوقائي: ويتمثل في توضيح حقيقة وأهداف الماسونية لأبناء المسلمين، وخاصة من ذهب منهم في التعلم في الغرب أو الشرق، وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 إغلاق المحافل الماسونية الموجودة في بعض بلدان المسلمين، وكذلك إغلاق نوادي الروتاري وغيرها مما هو تابع للماسونية، بل والتأكد من هويات النوادي الأخرى وملاحظتها ل ئ لا يندس إليها الماسون فينحرفون بها إلى مستنقعهم. الأمر الثاني: وهو حل هجومي؛ وذلك بكتابة البحوث والكتب التي تبين حقيقة الماسونية، وترجمة هذه الكتب إلى اللغات المختلفة وتوزيعها مجانًا أو بيعها بسعر التكلفة. وأخيرًا وليس آخرًا: العودة إلى الإسلام الصحيح والتمسك به، فهو خير حصانة وخير أمان. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الدرس: 3 الروتاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث (الروتاري) تعريف الروتاري الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: الروتاري: التمهيد: إن اليهود وأذنابهم من الماسون لم يتوانوا عن استغلال أي فرصة تسنح لهم بالانقضاض على غيرهم من الأمميين -كما يسمونهم، ومحو ديانتهم وتشويه تاريخهم، ولقد تفنن اليهود في ابتكار مسالك عديدة للوصول إلى تلك الأهداف بواسطة جمعيات ومؤسسات أنشئوها لهذا الغرض، مهمة هذه الجمعيات وهذه النوادي جذب الشباب والعاطلين عن العمل، بل والأذكياء والمهتمين بالعمل أيضًا، هذه النوادي تجذب هؤلاء إلى حظيرتهم بإغراءات مختلفة من المال وسائر أنواع المتع في نوادي ليلية وسهرات صاخبة، وقد لا يفطن الداخل في هذه النوادي لما يراد منه إلا بعد فوات الأوان؛ أي بعد أن يدخلوه في شبكاتهم بحيث لا يمكنه الخروج عنهم بعد أن يأخذوا عليه العهود ويوثقونها بالصور المشينة له، ويهددوه بأنه إن خرج عنهم كانت تلك الصور هي أقل ما يظهرونه له، فيظل المسكين عبدًا ذليلًا لهذه المنظمة الماسونية الأهداف، والتي أطلقوا عليها أي اسم من الأسماء تمويهًا وخداعًا لمن عسى أن يكون قد اطلع على خطر الماسونية فحذر وحذر منها الذين يزعمون أنهم يعملون في ظاهر الأمر لخدمة البشرية جمعاء. وقد أنشأت الماسونية منظمات عديدة بعضها ظاهر وبعضها خفي، وتحت أسماء حقيقية وغير حقيقية، وكل هذه المنظمات تجتمع على هدف واحد هو خدمة اليهودية العالمية تحت أقنعة مختلفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ومن هذه المنظمات والنوادي نادي "الروتاري" ونادي "الليونز" ونادي "بناي برث" أو أبناء العهد، ومنظمة "شهود يهوه"، وكل هذه النوادي والمنظمات هي أسماء لها أهداف معلنة تصب في بيدر اليهودية العالمية الماسونية الماكرة، بينما هي في الظاهر ترفع شعارات براقة وخادعة. يقول أحد رؤساء الروتاري في مصر في خطاب له: "ساهموا مع الروتاري، عززوا صفوفه لخدمة الإنسانية التي لا تعرف جنسًا ولا لونًا ولا عرقًا ولا دينًا". ويقول آخر: " إن تعاون الأمم مع هؤلاء القوم يشبه تعاون صاحب البيت مع اللص، فهو خنجر ذو رأسين موجه إلى سويداء قلب الشعوب لا سيما الإسلامية، ولا سيما ذات العلاقة المباشرة بفلسطين ". ويقول ثالث: " ليس هناك فارق بين أصفر وأبيض وأسمر، أو بين مسلم ومسيحي ويهودي، نعم يهودي، كلهم سواء من نسل آدم عليه السلام ". تعريف الروتاري: والروتاري هو جمعية ماسونية يهودية تضم رجال الأعمال والمهن الحرية، وتتظاهر جمعية الروتاري بالعمل الإنساني من أجل تحسين العلاقات بين البشر وتشجيع المستويات الأخلاقية السامية في الحياة المهنية، وتعزيز النية الصادقة والسلام في العالم، وكلمة "روتاري" هي كلمة انجليزية معناها الدوران أو المناوبة، وقد جاء هذا الاسم؛ لأن الاجتماعات كانت تُعقد في منازل أو مكاتب الأعضاء بالتناوب، وما زالت تدور الرئاسة بين الأعضاء بالتناوب كذلك، وقد اختارت النوادي شارة مميزة لها هي العجلة المسننة، على شكل ترس ذي أربع وعشرين سنًّا باللونين الذهبي والأزرق، وداخل محيط العجلة المسننة تتحدد ست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 نقاط ذهبية، كل نقطتين متقابلتين تشكلان قطرًا داخل دائرة الترس بما يساوي ثلاثة أقطار متقاطعة في المركز، وبتوصيل نقطة البدء لكل قطر من الأقطار الثلاثة بنهاية القطرين الآخرين تتشكل النجمة السداسية تحتضنها كلمتي روتاري وعالمي باللغة الإنجليزية، أما اللونان الذهبي والأزرق فهما من ألوان اليهودي المقدسة التي يزينون بها أسقف أديرتهم وهياكلهم ومحافلهم الماسونية، وهم اليوم أيضًا لونا علم دول السوق الأوربية المشتركة. نشأة الروتاري، وأبرز الشخصيات الروتارية نشأة الروتاري: وبداية النشأة كما يرويها أحد الباحثين كانت في اجتماع من اجتماعات الماسونية، فإن الماسونية تحرص منذ القدم أن تعقد اجتماعًا سنويًّا غير اجتماعاتها الدورية؛ إذ إ ن لها اجتماعات دورية أسبوعية أو شهرية، لكن هذا الاجتماع السنوي يتقرر بكل وضوح فيه شكل ومضمون الثوب الذي ترتديه محافلهم، وتبدو به أمام الناظرين دون أن ينفضح وجودها أو يكشف أحد عن هويتها، ولما انفضحت أثواب الماسونية في بلاد الغرب والشرق وأحس القائمون عليها بالخطر قرروا البقاء على محافلهم الموجودة يُضرب منها ما يُضرب ويبقى منها ما يبقى مقصورًا على الدرجات العليا فقط، لكنهم في ذات الوقت رأوا أيضًا أنه لا بد من تغيير جلدهم؛ لأن كل الأثواب التي كانت لديهم قد افتضح أمرها، وفاحت منها رائحة العفن، ففكروا في صورة من صور الماسونية الجديدة ذات الجلد المستحدث لمواكبة التطور الفكري والثقافي والعقدي، فانشقت الأرض فجأة عن رجل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 رجالاتهم، رجل مغمور يعمل بالمحاماة، لكنه علا نجمه فجأة؛ إذ إ ن الحملات الإعلامية ساندته من كل ناحية، كيف كان ذلك؟ لا أحد يدري، من أين؟ وإلى أين؟ ولصالح من؟ ومن يدفع ثمن هذه الحملات ومن يمولها؟. أما حكاية نشأة الروتاري كما يرددها الروتاريون فيقولون حكاية طريفة: إن نصرانيًّا متدينًا وجد نفسه يتناول غذاء هـ كل يوم في عمله وحيدًا، ورأى جيرانه في الأعمال الأخرى يتناولون أيضًا غذاء هم كل على حد ة، فاقترح عليهم هذا المحامي أن يلتقوا جميعًا كل يوم في ضيافة أحدهم بصفة دورية لتأكيد صلا ت الود والمحبة بينهم، قصة طريفة ومقبولة، تحمل الكثير من المعاني النبيلة، تحمل معاني الحرية ومعاني المساواة كما يطنطنون دائمًا ويعلنون. أما هذا المحامي فاسمه السيد "بول هارس" وأما المكان الذي اجتمعوا فيه فكان في مدينة شيكاغو وكر الماسونية العالمية بأمريكا، وأما الزمان فهو الأول من شهر مايو عام 1905 للميلاد؛ حيث أعلن أربعة من اليهود والنصارى عن تأسيس هذا النادي الأول الذي يحمل اسم الروتاري واسم شيكاغو واحد، هؤلاء المحامون وهؤلاء الأربعة هم "بولا هارس " و " سيلفستر شيلر " و " غستاف لوهر " و " ميريام شوري"، قد عقدوا اجتماعهم الأول وسط جمع ماسوني غفير بمدينة شيكاغو بنفس المكان الذي بني عليه فيما بعد مقر النادي الروتاري الذي يحمل اسم شيكاغو 177 اليوم، في هذا الاجتماع شرح "بول هارس" فكرته التي قال فيها "إن كلمة الروتاري كلمة انجليزية تعني الدوران أو المناوبة". وعندما نشأ الروتاري كانت تُعقد الاجتماعات في منازل الأعضاء بالدور ولا زالت تدور الرئاسة بين الأعضاء بالتناوب، ولعل أروع تنظيم داخل التنظيم هو المؤسسة الروتارية التي تتلخص أهدافها في توسيع مدى التعارف وتوثيق أواصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الإخاء والمحبة بين الشعوب المختلفة عن طريق دعم مشروعات واضحة وفعالة، هذه المشروعات لها سمات إنسانية أو خيرية أو تعليمية. في عام 1910 رأى " بول هارس " تشكيل أول اتحاد بين أندية الروتاري التي انتشرت سريعًا في أنحاء أمريكا استجابة لنشاط المحافل الماسونية ودعوتها المكثفة، ليضم هذا الاتحاد للروتاريين ستة عشر ناديًا هي حصاد السنوات الخمس من سنة 1905 إلى 1910. أبرز الشخصيات الروتارية: قد مات " بول هارس " المؤسس سنة 1947 ميلادية بعد أن امتدت الحركة إلى ثمانين دولة، وأصبح لها ما يقارب 6800 ناديًا تضم بينها 327000، وبعد أن مات " بول هارس " انتقلت الحركة إلى " دابلن " بأيرلندا، كما انتشرت في بريطانيا وغيرها في حياته، في أسبانيا تأسس نادي الروتاري عام 1921 ميلادية، لكنه أغلق ولم يُسمح له بمعاودة النشاط في كل أسبانيا، وفي فلسطين تأسس نادي الروتاري سنة 1921 عندما كانت دولة إسرائيل حلمًا صهيونيًّا، وكان هذا الفرع هو أسبق الفروع في المنطقة العربية، كما تأسس في الثلاثينيات فروع للروتاري في الجزائر ومراكش برعاية الاستعمار الفرنسي، كما يوجد في طرابلس الغرب فرع للروتاري ويعتبر يعقوب برازييف رئيس نادي الروتاري في إسرائيل عام 1974 وقد غادر إسرائيل إلى مدينة صقلية لحضور المؤتمر الذي ينظمه النادي الروتاري الإيطالي، ودعا إنه سيكون مؤتمرًا عربيًّا إسرائيليًّا لاشتراك وفود عدد من الدول العربية مع وفد إسرائيل، كان أول المتحدثين في هذا المؤتمر مختار عزيز ممثل النادي الروتاري التونسي، ثم تكلم بعده يعقوب برازييف اليهودي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الحكومة الروتارية، وأفكار الروتاريين ومعتقداتهم الحكومة الروتارية: قلنا: إن نوادي الروتاري العالمية تتبع المركز العام في مدينة ألين ي وي بأمريكا، في كل من لندن وزيورخ وباريس فرع رئيسي يرأسه سكرتير عام دائم كمناطق إشعاع روتاري، وهمزات وصل بين المركز الرئيسي وبين التجمعات الدولية المحيطة به، والتي لها علاقات بأي صورة من صور التعامل الدولي، وتضع المؤسسة الروتارية نظامًا شبه جغرافي خاصًّا بالعالم، حيث تقسم العالم إلى عدد من التكتلات الجغرافية حسب كثافة انتشار أندية الروتاري في كل بقعة من بقاع الأرض، كل تكتل من هذه التكتلات الروتارية يحمل رقمًا خاصًّا كجزء من الحكومة العالمية الروتارية اللا ت ينية التي تسعى المؤسسة إلى تكوينها كشرط أساسي لتحقيق السلام العالمي المزعوم. وهذا الجزء من الحكومة العالمية قد يكون جزءًا من دولة كما قد يكون عددًا من الدول ويُسمى بالمنطقة أو بالمحافظة رقم كذا، ي رتبط رئاسة كل منطقة من هذه المناطق على مستوى العالم مباشرة بالمركز الرئيسي العام في أفينستون عن طريق ممثلها في العالم أو ممثل رئيس المؤسسة العالمية فيها، وفي ذات الوقت فإن كل منطقة روتارية يتبعها عدد من الأندية يتناسب مع قدراتها الإسهامية في تدعيم المؤسسة العالمية بالمال، والذي عليه تتحدد إمكانية التوسع في إنشاء فروع جديدة داخل حيز المنطقة الروتارية. ومع نهاية عام 1983 وهو منتصف العام الروتاري 83 و84 غطت أندية الروتاري في العالم 157 دولة، كان للبلاد الإفريقية وال آسيوية نصيب الأسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فيها بنسبة تصل إلى 71% من مجموع الأندية في حين لا تزيد نسبة نصيب أوربا عن 23% من هذا المجموع. أفكار الروتاريين ومعتقداتهم: ولمنظمة الروتاري معتقدات عدة منها: أولًا: عدم اعتبار الدين مسألة ذات قيمة لا في اختيار العضو ولا في العلاقة بين الأعضاء، ولا يوجد عندهم كذلك أي اعتبار لمسألة الوطن، ولذلك تلقن نوادي الروتاري أفرادها قائمة بالأديان المعترف بها لديها على قدم المساواة، هذه الأديان مرتبة حسب الترتيب الأبجدي؛ منها مثلًا: البوذية، المسيحية، الكنفوشيوسية، الهندوكية، اليهودية، المحمدية، وفي آخر القائمة ال ط اويزم أو الطاوية، والطاويزم هي عقيدة صينية وجدت في القرن السادس قبل الميلاد، وهي تؤمن بأن تحقيق السعادة إنما يتم بالاستجابة لمطالب الغرائز البشرية، وتسهيل العلاقات الاجتماعية والسياسية بين البشر. ويرى الروتاريون أن إسقاط اعتبار الدين يوفر الحماية لليهود، ويسهل تغلغلهم في الأنشطة الحياتية كافة، وهذا يتضح من اشتراط أندية الروتاري وجود يهودي واحد أو اثنين على الأقل في كل نادي من أنديتهم. أيضًا من أفكارهم أنهم يقولون: إن عمل الخير لديهم يجب أن يتم دون انتظار أي جزاء مادي أو معنوي، وهذا مصادم للتصور الديني الذي يربط العمل التطوعي بالجزاء المضاعف عند الله تعالى. ولأندية الروتاري اجتماع أسبوعي وعلى العضو في هذه المنظمة أن يحرز ستين في المائة من نسبة الحضور سنويًّا على الأقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 أما باب العضوية في هذه الأندية فليس مفتوحًا لكل الناس، ولكن على الشخص أن ينتظر دعوة النادي للانضمام إليه على حسب مبدأ الاختيار. أما التصنيف داخل هذه النوادي فيقوم على أساس المهنة الرئيسية، وعندهم في تصنيفهم يوجد سبعة وسبعين مهنة. أما العمال فهم محرومون من عضوية النادي، ولا يُختار من العمال لعضوية هذه النوادي إلا من يكون ذا مكانة عالية، هم أيضًا يحافظون على مستوى أعمار الأعضاء، ويعملون على تغذية المنظمة بدم جديد وذلك باجتلاب رجال في مقتبل العمر. وتشترط أندية الروتاري أن يكون هناك ممثل واحد عن كل مهنة، ولا تخرق هذه القاعدة إلا عند الضرورة إذا أرادوا ضم عضو مرغوب فيه أو إقصاء عضو غير مرغوب فيه، لذلك يشترطون أن يكون كل مهنة لها ممثل واحد، كما يشترطون أن يكون في مجلس إداري لكل ناد ٍ شخص أو شخصان من رؤساء النادي السابقين أي من ورثة السر الروتاري المنحدر من المؤسس لأندية الروتاري " بول هاريس ". وقد قام أحد أعضاء الروتاري السابقين الذي خرج من هذه النوادي وهو " تشارلز مارتن " وكان عضوًا لمدة ثلاث سنوات في أحد نوادي الروتاري قام بدراسة عن الروتاري وخرج بعدد من الحقائق منها: إ نه بين كل 421 عضوًا في نوادي الروتاري ينتمي منهم 159 عضوًا للماسونية مع تأكيد الولاء للماسونية قبل النادي، وخرج أيضًا بحقيقة أنه في بعض الحالات اقتصرت عضوية الروتاري على الماسون فقط، كما حدث في نادي أدنبره في بريطانيا سنة 1921. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وورد في محافل نانس بفرنسا ما يلي: "إذا كوَّن الماسونيون جمعية بالاشتراك مع غيرهم فعليهم ألا يدعوا أمرها بيد غيرهم، ويجب أن يكون رجال الإدارة في مراكزها بأيد ماسونية، كما يجب أن تسير بوحي من مبادئها". تعتبر نوادي الروتاري هي الأكثر شعبية، وهي الأقوى نشاطًا حينما تضعف الحركة الماسونية أو تخمد، ذلك لأن الماسونية تنقل نشاطها إلى أندية الروتاري حتى تزول تلك الضغوط فتعود إلى حالتها الأولى. تتزاور هذه النوادي فيما بينها، وفي بعض المدن يوجد مجلس لرؤساء النوادي من أجل التنسيق بينها. الجذور الفكرية والعقائدية لمنظمة الروتاري، وطريقة دخول العضو الجديد فيها، وشعارها الجذور الفكرية والعقائدية لمنظمة الروتاري: ونبدأ بالتشابه الكبير بين الماسونية وبين الروتاري في مسألة الدين والوطن، وفي اعتماد كليهما على مبدأ الاختيار، فالعضو لا يمكنه أن يتقدم بنفسه للانتساب، ولكن ينتظر حتى تُرسل إليه بطاقة دعوة للعضوية، وعندهم أيضًا أن القيم والروح التي يُصبغ بها الفرد واحدة في الماسونية وفي الروتاري مثل فكرة المساواة وفكرة الإخاء وفكرة التعاون العالمي، وهذه الروح الخطيرة تهدف إلى إذابة الفوارق بين الأمم كما تهدف إلى تفتيت جميع أنواع الولاءات حتى يصبح الناس أفرادًا ضائعين تائهين، ولا تبقى قوة متمسكة إلا اليهود الذين يريدون السيطرة على العالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 أيضًا إن الروتاري وما يماثله من النوادي يعملون في نطاق المخططات اليهودية؛ وذلك من خلال سيطرة الماسون عليها، والماسون -كما نعلم- مرتبطون باليهودية العالمية نظريًّا وعمليًّا، ورصيد هذه المنظمات ونشاطاتها يعود على اليهود أولًا وآخرًا، لكن الماسونية تختلف عن الروتاري؛ لأن قيادة الماسونية ورأسها مجهولان، على عكس الروتاري الذي يمكن معرفة أصوله ومؤسسيه، ولكن لا يجوز تأسيس أي فرع للروتاري إلا بتوثيق من رئاسة المنظمة الدولية وتحت إشراف مكتب سابق. وتتظاهر أندية الروتاري بأنها تعمل في العمل الإنساني، وذلك من أجل تحسين الصلات بين مختلف الطوائف، كما تتظاهر أندية الروتاري بأنها تحصر نشاطها في المسائل الاجتماعية والثقافية، وتحقق أهدافها عن طريق الحفلات الدوري والمحاضرات والندوات التي تدعو إلى التقارب بين الأديان وإلغاء الاختلافات الدينية، هذا هو الهدف المعلن، أما الهدف الحقيقي والغرض الحقيقي فهو أن يمتزج اليهود بالشعوب الأخرى باسم الود والإخاء، وعن طريق ذلك يصلون إلى جمع معلومات تساعدهم في تحقيق أغراضهم الاقتصادية والسياسية، كما تساعدهم على نشر عادات معينة تعين على التفسخ الاجتماعي، ويتأكد هذا إذا علمنا بأن عضوية أندية الروتاري لا تُمنح إلا للشخصيات البارزة والمهمة في المجتمع. طريقة انتشار هذا الفكر الروتاري وطريقة دخول العضو الجديد فيه: للروتاريين طريقتهم في إدخال العضو الجديد في ناديهم ولعل أحسن من يعبر عن ذلك أحد هؤلاء الذين دخل معهم وعرفهم عن كثب وبين ذلك بعد أن تركهم وتاب عن دخوله، وقد حكى ذلك فقال: " تلقيت التهاني من كثير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الأصدقاء؛ لأنني أصبحت عضوًا في نادي الروتاري، وكل واحد كان يضغط علي بطريقة معينة وبعضهم لم يكتفي بالضغط على اليد إنما كان يضربني على كتفي أو يقرصني كما تفعل الفتيات عند زفاف زميلة لهن حسدًا، ومن الطبيعي جدًّا أن أتظاهر بالسعادة كالعروس أو كالعريس، ولذلك كنت أرد التحية بأحسن منها، وأضغط على اليد وأضرب على الكتف وأهز رأسي بمعنى خاص كأنني أقول: إن شاء الله أشوفكم جميعًا أعضاء في الروتاري، ونحن السابقون وأنتم اللاحقون ". ويكمل " ونسيت أن أقول: إن انعقاد الروتاري كان في فندق هيلتون، قد أُخبر سابقًا أن الأسعار في هذا الفندق من نار، كانت الجلسة الواحدة تستغرق أحيانًا ثلاث ساعات أكل وشرب وضحك ولهو فقط، إلى أن قال: لا أعرف ما الذي يمكن أن يراه أو يعرفه أو يستفيده إنسان من بقا ئ هـ ثلاث ساعات جالسًا آكلًا شاربًا قاعدًا مبتسمًا محشورًا محبوسًا كالثور الأسباني لا يكاد يرى العالم الصغير في يد رئيس النادي حتى يهب واقفًا مصفقًا دون سبب ودون مناسبة، وبعض مواقف شخصية ساخرة حصلت من النادي، أخبر هذا الرجل عن استقبال هذه النوادي لأعضائها من هنا وهناك على الموائد الفاخرة وفي الفنادق الفاخرة دون أن يرى لهم أي عمل قدموه أو خدمة ذكروها غير هذا الحضور المتكرر، وما أكثر ما تُرمى الشوك والسكاكين أثناء الأكل حينما يُذكر أن السيد فلان وصل من اليابان، وأنه ينقل إلى الحاضرين تحيات الأصدقاء الزملاء هناك، وبعد قليل يعلو التصفيق لحضور السيد فلان الآتي من الهند والسيد فلان وهكذا تستمر الجلسة أكل وشرب واستقبالات وتصفيق ولهو، وأخيرًا ضقت ذرعًا بهذا الحال وقلت لنفسي: ما الذي استفدته من هذا النادي غير اللهو والأكل، فقررت أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 حضوري إنما هو مضيعة للوقت فتركتهم وشأنهم ... " إلى آخر ما يحكي هذا العضو. قد تبين من كلامه أن نوادي الروتاري إنما هي للهو ومضيعة للوقت، وأنها ليست على شيء، بل هي هزل وليس بجد، وما يظهر في هذا المقام أن هذه الأموال الكثيرة التي لا حصر لها وهي تنفق وفي أماكن من أرقى الأماكن وحشود من مختلف طبقات الناس لا يُعقل أن القائمين على هذه الأندية يصرفونها وينفقونها عبثًا دون فائدة غير تقديم هذه الخدمات المجانية لأصحاب تلك النوادي، لكن الذي يظهر أن هؤلاء ينفقون هذه الأموال في تلك الجلسات وفي أفخم القصور لبعض المكاسب نذكر منها: أولًا: ضمان ولاء الأعضاء له، فقد قال أحد السلف: " ما وضعت يدي في قصعة أحد إلا وشعرت بالذل له "، والأعضاء الروتاريون في الأغلب من الطبقات المشهورة ومن أصحاب السلطة والجاه. ثانيًا: أن يتأكد الماسونيون من انسلاخ أعضاء الروتاري من دينهم وأوطانهم وحيائهم، بل وإغراقهم في اللهو والعبث، ومن وصل إلى هذا الحد فلا يُرتجى منه خير، لا يُرتجى منه تحرير أرض دنسها اليهود، وليس عنده أدنى أسف على ذهاب القدس أو حتى على الإسلام برمته. ثالثًا: إقامة الدعاية على أكتاف الأعضاء لكل ما تريده الماسونية اليهودية من أفكار وآراء؛ فإن وجود التاجر والصحفي والمدرس والموظف ضمن نفوذهم مكسب كبير وأي مكسب، ومن آمنت جانبه هان عليك الاحتراس منه، وحين ما يصرح العضو الروتاري بملء فيه: لا دين ولا وطن ولا تفرقة بين الشعوب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وأن هذا الدين الجديد هو القيم الروتارية وهو الإنسانية التي تفسرها كما يحلو لمريدها أليس هذا مكسب وصل إليه هؤلاء الأعضاء أصحاب هذه النوادي؟!. ولا ننسى قصة الرجلين اللذيْن طلب منهما المشركون تقديم أي شيء لأصنامهم، فأبى أحدهم أن يقرب ولو ذبابًا فقتلوه، ورضي الآخر وقرب ذبابًا فأثن وا عليه وتركوه ينطلق معززًا مكرمًا من قبلهم، لماذا؟ لأنهم ينظرون إلى كسب ولاء الشخص وخضوعه لهم ورضاه بعملهم أكثر مما ينظرون إلى المكاسب الأخرى المادية، وهكذا الحال بالنسبة للقائمين على تلك النوادي الذين يكسبون تصفيق أولئك الفئات، وترديد أفكارهم والوقوف إلى جانبهم في كل القضايا، وأهم هذه القضايا عدم إيذاء اليهود بأدنى أذى، وضم أصواتهم إليهم فضلًا عن المكاسب الأخرى ذات الأثر الفعال في سلوك الأعضاء وولاءاتهم. شعار الروتاري: قد سبق أن الروتاريون يتخذون من العجلة المسننة شعارًا لهم، عجلة مسننة على شكل ترس في وسطها ثقب فيه ستة قطبان يعلوها أربعة وعشرون سنًا باللونين الذهبي والأزرق، وفي داخل محيط هذه العجلة المسننة تتحد ست نقاط وهمية بتوصيلها تظهر صورة النجمة السداسية تحتضنها -كما قلنا- كلمتي روتاري وعالمي، مكتوبتين بخط واحد داخل سمك المحيط. كما أن الروتاريين يستخدمون شعارات أخرى كالسنبلة والكفين المتصافحين والعين الواحدة والأذن الواحدة والناقوس والمطرقة والفانوس المقطوع بالسيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الأدلة على ماسونية الروتاري، وكيفية الانضمام ومؤهلات الترقي، ولجان أنديتهم بعض الأدلة على أن الروتاري جمعية ماسونية: أصبح من الواضح جدًّا للعيان أن منظمة الروتاري وأنديتها على علاقة بالماسونية إن لم تكن هي ماسونية نشأتها الهدف. ومن تلك الأدلة ما أورده الدكتور أحمد شلبي في كتابه (اليهودية) نقلًا عن أحد العلماء الذي يقول: " إن المجموعة الأولى التي حملت عبء تأسيس الروتاري والليونز كانت أعضاء في محافل ماسونية، وكان ذلك في شيكاغو، وقد بدأ نشاط الروتاري سنة 1905 ونشاط الليونز سنة 1917، وكان بعض المحامين من الذين كسدت سوقهم واتجهوا للربح بأي وسيلة هم الذين أسسوا هذه الأندية ". ومن الأدلة أيضًا على أن الروتاري جمعية ماسونية أن مؤسسها "بول هاريس" هو ماسوني عميق له صلة وثيقة بالصهيونية العالمية، وقد قال وزير الداخلية المصري السابق عبد العظيم فهمي في احتفال عام: "لقد كان اليهود هم أول جماعة أنشأت ناديًا للروتاري بمصر، وكانت تحوم حول هذا النادي شبهات كثيرة "، ول ذلك أقفلت أندية الروتاري مرتين في مصر في عهد هذا الوزير للداخلية، فلما سأله الصحفيون ولماذا تحضر الآن اجتماعات هذه الأندية؟ قال: "حتى أعرف ماذا يفعلون"، وقال: "أنا أحاول أن أضيع لوقت". ومن الأدلة أيضًا على أن الروتاري منظمة ماسونية: أن رمز الروتاري هو نفسه رمز الماسونية وهو المثلثان المتقاطعان اللذان يكونان نجمة سداسية هي نجمة داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وحينما أغلقت دمشق أندية الروتاري قالت في بيان صدر فها في هذا الشأن: "إن هذه النوادي تُعد روافد للماسونية". نعم هذا هو الواقع فإن الروتاريين بمثابة عيون للماسونية اليهودية في كل بلد يحلون به، ويتصيد هؤلاء الروتاريون بدعوتهم كل من يرون وراءه نفعًا لهم بجاهه أو ماله أو سلطته ليستفيدوا منه ماديًّا ومعنويًّا، وكذلك يتصيدون بقية الدهماء الذين يستفيدون منهم في أقل الأمور في نشر الشائعات ونشر الدعايات ونشر الأخبار التي تخدم مصلحة اليهود بطريق مباشر أو غير مباشر، وأكثر ما يتم التركيز عليه بالنسبة للداخلين هو إفهامهم بأن رابطة الأخوة ينبغي أن تكون فوق رابطة الدين أو الوطن، وهذه الأخوة يراد بها في النهاية صهر المجتمعات وتذويبها داخل الكيان اليهودي لكي ينتهي العداء المستحكم عند الشعوب بالنسبة لليهود، ذلك العداء الذي سببه حقد اليهود وجشعهم واستعلا ئ هم على سائر الناس، وازدرائهم لمخالفيهم على امتداد التاريخ وعدم انصهارهم في أي مجتمع يعيشون فيه. الانضمام إلى الروتاري ومؤهلات الترقي الروتاري: أما عن كيفية انضمام العضو إلى أندية الروتاري؛ فليس من حق أحد على الإطلاق أن يطلب الانضمام؛ حيث لا توجد شروط مفتوحة لمن يرغب في الانضمام أن يراها أو يعرفها أو يؤهل نفسه لها، إنما الذي جرى عليه العرف أن يتعهد كل عضو من الأعضاء المؤسسين أو القدامى وعادة هم رؤساء سابقون لأندية روتاري قديمة الإنشاء أو هم ممن مارسوا مثل هذه الأنشطة من خلال المحافل الماسونية قبل إغلاقها في بلادنا، يتعهد كل عضو بحصر التخصصات المهنية والفنية والأكاديمية التي يحتاج إليها ناديه الجديد، الذي يجب أن يضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 واحدًا من كل تخصص وظيفي، ثم يسعى عن طريق توسيع مساحة التعارف والصلة بالآخرين مراقبة من تأتي بهم الأقدار في طريقه من أصحاب هذه التخصصات والمفاضلة بينهم، إذا ما وقع الاختيار على شخص من الأشخاص وضع في دائرة البحث والتحري، ثم يجد نفسه مدعوًّا من أحد صفوة القوم المقربين إليه أو ممن له ثمة صلة به، وهكذا. وسريعًا يجد الضيف طلبًا للانضمام بين يديه يشترط تزكية اثنين من أعضاء النادي وهكذا، وإذا تو افرت الشروط والمواصفات تقبل لجنة التوسع الروتاري الطلب، وتوقع عليه بالموافقة، ثم ترفعه لرئيس النادي الذي يعلن في أول اجتماع دوري على الحاضرين رغبة الطالب في الانضمام إلى النادي. أما عن مؤهلات الترقي الروتاري فمع بداية كل عام روتاري وهو أول يوليو من كل عام يتم اختيار رئيس النادي للعام التالي؛ حيث يتم الترشيح والاختيار قبل تولي السلطة بعام حتى تُتاح فرصة التأهيل ل تولي الرئاسة من خلال احتكاكه المستمر بالرئيس الممارس والذي تستمر مدة رئاسته عامًا روتاريًّا واحد. لجان أندية الروتاري: إ ن أندية الروتاري تضم أندية داخلية ثلاثة؛ منها الأونرويل وهو نادي سيدات الروتاري، والروت رأكت وهو نادي شباب، وال إنترأكت وهو نادي طلائع الروتاري. تُقسم هذه الأندية أيضًا مثلها مثل روتاري الرجال إلى تقسيمات جغرافية عالمية يحمل كل قسم منها اسم منطقة، وتحمل رقمًا خاصًّا بها تبعًا لدورها في الإنشاء؛ فنو ادي الروت رأكت هم أنباء أشقاء وبنات وشقيقات أعضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وعضوات أندية الروتاري والأن رويل، ممن لا يقل عمرهم عن ثمانية عشر سنة، ولا يزيد عن ثمانٍ وعشرين سنة، وهم بمثابة الصف الثاني الذي يشارك بكل ما يملك من قوة وطاقة في تنفيذ ما تقف وظائف وهيبة وقدرة الأعضاء والعضوات من الآباء والأمهات حائلًا دون القيام به؛ إذ تُسند إليهم مهام زيارة الملاجئ ودور اليتامى والمواساة، وفي هذه الأماكن التي تجمع غالبًا بين الفتيات والأولاد، ويلتمسون أي مساعدات أو معونات باسم الجمعيات أو الدور التي تؤويهم يذهب فتيات الروت رأكت وشبانه يحملون الهدايا الرمزية في يد وفي اليد الأخرى تشابك وتحاب وتآخٍ وتساوٍ وتسالم عالم يًّا ومحلي ًّا؛ وهكذا يشيع الانحلال بين هؤلاء الشباب. وصلَّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الدرس: 4 الليونز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع (الليونز) تعريف نوادي الليونز، وأفكار أعضائها ومعتقداتهم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: "الليونز": تعريف الليونز وتأسيسه: تعريف نوادي الليونز: أما كلمة الليونز فمعناها اللغوي هو الأسود، وهو اسم لمجموعة من النوادي المنتشرة في أنحاء العالم، هذه النوادي -نوادي الليونز- ذات طابع اجتماعي خيري في الظاهر فقط، لكنها في الحقيقة لا تعدو أن تكون واحدة من المنظمات العالمية التابعة للماسونية التي تديرها أصابع اليهود بهدف إفساد العالم والسيطرة عليه؛ إذ إ ن اليهود - كما سبق القول - قد تفننوا في ابتكار مسالك عديدة للوصول إلى تحقيق أهدافهم، فأنشئوا عدة جمعيات بأسماء مختلفة، مهمة هذه الجمعيات هي جذب الأذكياء والمهتمين بالعمل إلى حظيرتها، وذلك عن طريق إغرائهم بإغراءات مختلفة من المال وسائر أنواع المتع وغيرها، قد لا يفطن الداخل في هذه النوادي لما يريدونه منه إلا بعد فوات الأوان بعد أن يكون قد دخل في شباكهم وأخذوا عليه العهود وهددوه ورغبوه ورهبوه، ويظل المسكين عبدًا ذليلًا لهذه المنظمة ذات الاسم الذي يطلق عليها تمويهًا وخدعًا، هذه الجمعيات الكثيرة منها -كما سبق- الروتاري، ومنها الليونز، ومنها بناي برث وغيرها. تأسيس نوادي الليونز، وأبرز الشخصيات في هذه النوادي: أما البداية -بداية هذه النوادي- فكانت في صيف سنة 1915 من الميلاد حين دعا مؤسس هذه النوادي وهو "ميلفين جونسون" إلى هذه الفكرة، هذه الفكرة هي إنشاء نواد ٍ تضم رجال الأعمال فقط من مختلف أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية، وكان أول نادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 تأسس من هذا النوع في مدينة "سانت أنطونيو" في تكساس، ويعتقد بعض الباحثين أن هذه الأندية هي امتداد لجماعة بناي بر ث، وبناي بر ث أي أبناء العهد، التي تأسست في سنة 1834 من الميلاد في مدينة "نيويورك" على يد مجموعة من اليهود الألمان، وكانت جماعة بناي بر ث برئاسة "هنري جونس" الذي هاجر إلى أمريكا واستوطنها ومنها نشر تعاليم هذه الجمعية. وجماعة بناي بر ث هي جمعية من الجمعيات الماسونية القديمة مهمتها الأساسية هي التجسس لحساب اليهود، ودراسة الظروف التي تحيط بهم، ومعرفة ما يدور من أفكار ضدهم، بل والتغلغل إلى مواقع التأثير والسلطة بإنشاء جمعيات مختلفة الأسماء للدفاع عن اليهود. وهذه الجماعة -جماعة بناي بر ث- لها تأثير قوي جدًّا في أمريكا، في الاجتماعيات والثقافيات والسياسة، إذا أردت معرفة مدى تأثيرهم في أمريكا فانظر كيف تخدم أمريكا إسرائيل بتفانٍ واضح ضاربة بمصالحها مع العرب والمسلمين عرض الحائط، فهي -جماعة بناي بر ث- جمعية يهودية خالصة خاصة باليهود تهدف إلى امتلاك فلسطين، وقد أسسوا في فلسطين في البداية قرية قريبة من القدس وظلوا يعملون بجد ونشاط لامتلاك فلسطين على ضوء ما أفادوهم به واضعو التلمود والتوراة المحرفة حول أحقيتهم بفلسطين، وحكمهم للعالم كله؛ لأنهم -كما يدعون- شعب الله المختار. يقول أحد حاخامات الماسونية عن صلة بناي بر ث بالماسونية: ليست البناي بر ث إلا بديلًا مؤقتًا للماسونية، وحينما تستطيع الحركة الماسونية أن تعترف بأنها يهودية في طبيعتها وأهدافها تكون المحافل العادية كافية للقيام بالواجب، كما قلنا وتحدثنا عن نوادي الليونز إنها امتداد لهذه الجمعية، جمعية بناي بر ث؛ إذ إنه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 مايو سنة 1917 ظهرت المنظمة العالمية لنوادي الليونز إلى الوجود، وعقدت اجتماعها الأول في مقر أقدم الأندية الروتارية في العالم القابع في شيكاغو في أمريكا. والغرض من إنشاء نوادي الليونز هو أن تكون هذه النوادي بديلًا عن النوادي السابقة للماسونية في حال انكشاف الماسونية، أو إغلاق هذه النوادي أو اضطهادها، فتكون نوادي الليونز بديلًا يتمتع بمظهر اجتماعي براق وخادع وخدمات إصلاحية خيرية، أما الحقيقة فإن الليونز يتبع بشكل أو بآخر منظمة البنائين الأحرار الماسونية الصهيونية. أفكار ومعتقدات نوادي الليونز: أولًا: تتظاهر نوادي الليونز مثلها مثل باقي النوادي الماسونية بالدعوة إلى شعارات براقة مثل الإخاء والحرية والمساواة، وهذه الشعارات البراقة هدفها هو خداع الناس وتزيين الباطل واصطياد العميان للدخول في زمرتهم للوصول إلى تحقيق أهدافهم، هذه الشعارات البراقة يطرحونها وهم يقصدون منها تخدير الناس والتغرير بهم، فهم يقولون كما يقول الصهاينة في بروتوكولاتهم: "كنا قديمًا أول مَن صاح في الناس بالحرية والإخاء والمساواة"، وهي كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة متجمهرة من كل مكان، وقد حرمت بتردادها العالم من نجاحه كما حرمت الفرد من حريته الشخصية الحقيقية التي كانت من قبل، ويقولون: إن كلمة الحرية تزج بالمجتمع في نزاع مع كل القوى، حتى قوة الطبيعة وقوة الله، وذلك هو السبب في أنه يجب علينا حين نستحوذ على السلطة أن نمحق كلمة الحرية من معجم الإنسانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ويقولون أيضًا: إن صيحتنا الحرية والإخاء والمساواة قد جلبت إلى صفوفنا فرقًا كاملة من زوايا العالم الأربع عن طريق وكلا ئ نا المغفلين، وقد حملت هذه الفرق ألويتنا في نشوة بينما كانت هذه الكلمات مثل كثير من الديدان تلتهب سعادة الناس وتحطم سلامهم واستقرارهم، قد جلب هذا العمل النصر لنا، فإنه مكننا بين أشياء أخرى من لعب دور الآس في أوراق اللعب الغالية، أي سحق الامتيازات، بتعبير آخر مكننا من سحق كيان الأرستقراطية الأممية التي كانت هي الحماية الوحيدة للبلاد ضدنا. كما تنهى نوادي الليونز كسائر نوادي الماسونية عن المجادلة في الأمور السياسية والعقائدية والدينية، لكنهم في الحقيقة من أشد الناس حرصًا على التأثير في السياسة، وفي السلطة، بل هم حريصون على أن يكونوا فوق السلطة. فهذا واحد منهم يقول: " إن الماسونية لا تتدخل في الدين، ولا في السياسة، ولكنها هي التي قلبت نظام العالم في الثورة الفرنسية والأمريكية والروسية "، وفي أحد كتبهم نقرأ: "من الواجب أن تكون الماسونية زعيمة الأحزاب السياسية، تقودها ولا تنقاد لها". ثانيًا: تتظاهر نوادي الليونز بالعمل في ميادين الخدمات العلمية والثقافية، ونشر معاني الخير والتعاون والإخاء والمساواة بين الشعوب، ف هم يقومون في الواقع بأعمال خيرية متسعة النطاق مختلفة الأغراض، عديدة الوسائل، يقومون بذلك لا ل هدف فعل الخير، بل ليغطوا بذلك على أهدافهم الحقيقية التي يسعون إلى تحقيقها لخدمة أهداف ومصالح اليهودية العالمية. ثالثًا: تشجع نوادي الليونز تبادل الزيارات والرحلات واللقاءات، وتتظاهر بأن هدفها من هذه الزيارات والرحلات واللقاءات هو تنمية ونشر معاني الخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 والتعاون بين الشعوب المختلفة، لكن الحقيقة أنها تدعو إلى كل هذا بعيدًا عن روابط العقيدة والدين، بهدف المساهمة في نشر الانحلال بين المجتمعات. رابعًا: تدعو نوادي الليونز إلى الاهتمام بالرفاهية الاجتماعية. خامسًا: تعمل نوادي الليونز على نشر المعرفة بكل الوسائل الممكنة كما تساعد المكفوفين وتقدم خدمات للبيئة المحلية الموجودة فيها لتحاول المساهمة في تخفيف متاعب الحياة اليومية للمواطنين، كما تدعم المشروعات الخيرية ومشروعات الأمم المتحدة وغيرها. وكل هذا هو كما سبق القول تظاهر فقط بخدمة البشر، وتظاهر فقط بحب الخير، ومساعدة الضعفاء والمحتاجين وتفقد أحوالهم، لكنهم يخفون دعوتهم إلى العطف على اليهود واحترامهم، وأن الدعوة الإنسانية تشملهم كغيرهم من بني آدم دون نظر إلى الدين أو الجنس. شروط العضوية في أندية الليونز، والهيكل التنظيمي لها شروط العضوية في أندية الليونز: شروط العضوية في أندية الليونز لا تختلف كثيرًا عن شروط العضوية في نوادي الماسونية والروتاري وبناي برث وشبيهاتها، لكنها تمتاز عن هذه النوادي الماسونية بأنه يجوز لدى نوادي الليونز أن يكون ممثل المهنة الواحدة أكثر من عضوين، بينما النوادي الأخرى كالروتاري مثلًا تشترط أن تكون كل مهنة ممثلة بعضو واحد إلا في حالة الضرورة أو الاحتياج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 في أندية الليونز أيضًا مثلها مثل الروتاري لا يستطيع أي شخص أن يقدم طلب انتساب إليها من أجل الانضمام، إنما هذه الأندية هم الذين يشرحونه ويعرضون عليه ذلك إذا رأوا مصلحة لهم فيه، أو عنده، فليست هذه النوادي مفتوحة العضوية لكافة الناس بل حتى ولا لخاصتهم، بل هي بالترشيح من قبل النوادي نفسها، وتشترط نوادي الليونز للعضو أن يكون من رجال الأعمال البارزين، وهذا نوع من التمييز يفضح دعواهم أنهم يدعو ن إلى الحرية والمساواة، فأين الحرية؟ وأين المساواة؟ ولا مكان للفقراء في هذه النوادي!! بل لا بد أن يكون العضو من علية القوم ومن أصحاب المراكز المرموقة أو من أصحاب الأموال والسلطان. ف هم يرون كما يقول أحد الماسون: " إننا لا نستطيع أن نبلغ غاياتنا إلا بواسطة الأعيان، والأمراء هم تذكرة المرور فضموهم إلى الماسونية وإياكم أن تكشفوا لهم غايتنا ". وهكذا يقومون بضم جماعة المشاهير من أصحاب المراكز العظمى في المجتمع، ويوضع هؤلاء في الدرجة الأولى التي لا ترى إلا الوجه الخداع لهم من خلال الحفلات والرحلات ومظاهر الإخاء الإنساني. أما مهمة هؤلاء المشاهير والوجهاء فهي أن يضمنوا إبعاد الشبهات عنهم من كل جانب، ومهمتهم أيضًا أن ينخدع بهم آخرون فيتقدمون للانضمام لهذه المؤسسات من جانب آخر، ومن ناحية ثالثة يستفيدون بهم في تسهيل مصالحهم في المجتمع، ولذلك نلاحظ أن أعضاء هذه النوادي لهم مكانة في جميع دول العالم، وأ نهم أينما ساروا وأينما حلو تُفتح لهم جميع الأبواب يسكنون أرقى الفنادق وأفخمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وتشترط نودي الليونز أيضًا أن يكون مكان عمل العضو في المنطقة ذاتها التي فيها النادي الذي سينضم إليه، ويُفرض على كل عضو أن يحقق نسبة حضور في الاجتماعات الأسبوعية لا تقل عن ستين في المائة سنويًّا، ويمنعون منعًا باتًا دخول العقائديين؛ أي أصحاب العقيدة، وذوي الغيرة الوطنية الشديدة، لماذا؟ لأن هؤلاء الأشخاص لا يناسبون نشر فكرتهم، فهم يريدون فقط من لا يتمسك بعقيدة ولا يلتزم بمبدأ ولا يغار على وطن. وهذه النوادي تجتذب الشباب والشابات بغية المحافظة على أدنى مستوى ممكن من الأعمار الشابة للمحافظة على حيوية النادي الدائمة فضلًا عن سهولة التأثير فيهم، يجتذبون السيدات من زوجات كبار المسئولين، كما يُسند إلى هؤلاء الزوجات والسيدات مهمة الاتصال بالشخصيات الكبيرة ولهن نواد ٍ خاصة بهن، تُسمى نوادي سيدات الليونز، وهذه النوادي تقوم بنفس النشاط الذي تقوم به نوادي الليونز، وتهدف إلى تحقيق نفس الأغراض. الهيكل التنظيمي لأندية الليونز: والهيكل التنظيمي لأندية الليونز يشبه الهيكل التنظيمي لأندية الروتاري، فأندية الروتاري لها محافل في معظم مدن العالم، وكل محفل بحكم التبعية التنظيمية الماسونية العالمية يتبع محفل آخر أكبر منه، في هذه المرحلة يُسمى المحفل الذي تتبعه عدة محافل المحفل الإقليمي، وهذه بدورها تابعة لمحافل كبرى في العواصم العالمية ذات الأهمية الخاصة في أهداف الماسونية الأم. وكذلك أندية الليونز تقسم العالم إلى عدة تكتلات جغرافية، وهذا التقسيم حسب كثافة انتشار الأندية، وتضع لكل تكتل من هذه التكتلات رقم ًا خاص ًّا، يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 التكتل الواحد من دول أو عدد من الدول، ويُسمى هذا التكتل بالمنطقة أو المحافظة رقم كذا، وترتبط رئاسة كل منطقة على مستوى العالم مباشرة بالمركز العام لنوادي الليونز، وعلى سبيل المثال فجموعه الدول العربية تقع في المنطقة 352، وهذا طبعًا لتسهيل التحكم والسيطرة على هذه النوادي، وبالتالي توجيهها لخدمة الأغراض المختلفة لليونز، والتي تنبع من خدمة الأغراض والأهداف الصهيونية المختلفة. أما الهيكل التنظيمي الداخلي لنوادي الليونز فهو كالتالي: يتكون كل نادٍ من رئيس ونائب للرئيس أو أكثر وسكرتير وأمين صندوق ومجلس إدارة مكون من اثن ى عشر عضوًا على أن يكون بينهم شخص أو اثنان من رؤساء النادي السابقين بهدف إحكام القبضة على المجلس كي لا ينحرف في أي مسار لا يريدونه لناديهم، وأخيرًا لجان متنوعة تُشكل من قبل المجلس لتشمل الأنظمة المختلفة مثل: لجنة المجتمع، ولجنة الإعلام، ولجنة العلاقات العامة، ولجنة العضوية، ولجنة خدمة النادي، ولجنة التنمية؛ وغيرها من اللجان المختلفة. خطورة نوادي الليونز، والبذور الفكرية والعقائدية لها خطورة نوادي الليونز: تتمثل خطورة هذه النوادي في أمور كثيرة ننبه على بعضها على سبيل المثال وليس الحصر فنقول: أولًا: أن نشاطات هذه النوادي الخيرية الظاهرية تمثل مصيدة تصطاد بها من لا يعرفون حقيقتها، وتخفي وراء ها أهدافها الحقيقية وفي هذا خداع في خداع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ثانيًا: أن هذه النوادي تتسم بالتخطيط الدقيق والتنظيم المحكم والعمل على أساس من السرية في جمع المعلومات. ثالثًا: أنهم يتعرفون على أسرار المهن من خلال لقاءاتهم بأصحاب المهن المختلفة، الممثلين في النادي مما يعطيهم القدرة على التحكم في السوق المحلية، وبالتالي يتحكمون في السوق العالمية، وهذا أيضًا يساعدهم على التدخل في الش ئ ون الاقتصادية للبلاد، وتوجيهها كما يريدون. رابعًا: أنهم يجمعون المعلومات المتعلقة بالشؤون السياسة والدينية للبلاد التي يعملون فيها، ويرسلونها إلى مركز المنظمة العالمي وال ذ ي بدوره يأخذ هذه المعلومات، ويقوم بتحليل هذه البيانات ووضع الخطط اللازمة والمناسبة حيالها. خامسًا: يرددون دائمًا شعار الدين لله والوطن للجميع. سادسًا: أنهم يفرضون إجراءات أمنية مشددة حول مجالس إدارات هذه النوادي. سابعًا: أن مواردهم ووسائلهم يحيط بها الغموض الشديد ولا يعلنونها. ثامنًا: أن الإسلام لديهم يقف على قدم المساواة مع الديانات الأخرى سماوية كانت أم وضعية بشرية، هذا من حيث الظاهر، أما الحقيقة فهم يكيدون له أكثر مما يكيدون لسواه، فهم يلقنون أفرادهم قائمة بالأديان المعترف بها لديهم على قدم المساواة مرتبة ترتيبًا أبجدي ًّ احسب الحروف الأبجدية كالبوذية والمسيحية والكونفوشيوسية والهندوكية والمحمدية، وفي آخر القائمة الطاوية أو الطاويزم، وهي عقيدة صينية وُجدت في القرن السادس قبل الميلاد، وهي تؤمن بأن تحقيق السعادة يتم بالاستجابة لمطالب الغرائز البشرية، لكن هذه النوادي في الحقيقة لا تهتم بالأديان، بل تدعو دائمًا إلى التحلل منها، ويلاحظ على ترتيبها للأديان عدة أمور منها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 أولًا: الخلط بين الأديان السماوية وبين المذاهب الفكرية والفلسفات الإنسانية؛ فالكنفوشيوسية فلسفة بشرية وليست دينًا سماويًّا، وكذلك البوذية والهندوكية مذاهب وثنية لا أديان سماوية، ولكنهم يهدفون من وراء ذلك إلى إسقاط تاج القداسة عن الأديان السماوية بخلطها بالمذاهب البشرية. ثانيًا: من الملاحظات على ترتيبهم للأديان أيضًا أنهم لا يعبرون عن الإسلام باسمه، وإنما يحاولون أن يربطوه بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون: محمدية، مع وضعه في قائمة الفلسفات البشرية التي تُنسب لأصحابها، حتى يوهموا الناس بأن الإسلام ليس دينًا سماوي ًّ ا، ويلاحظ أن هذا الاسم -المحمدية- هو الاسم الذي اتخذه المستشرقون للتهوين من شأن الإسلام. ومن خطورة الليونز أيضًا أنهم يركزون في دعواتهم ومحاضراتهم واجتماعاتهم على إبراز مكانة معينة لإسرائيل وشعبها، كما يقومون بالترويج للأفكار الصهيونية في صفوف أعضائها، كما يقومون ويقيمون الرحلات والزيارات والحفلات المختلطة والماجنة الراقصة تحت شعار الحملات والحفلات الخيرية. وقد أصدر المجمع الفقهي في دورته الأولى المنعقدة في مكة المكرمة قرارًا بيَّن فيه أن مبادئ حركات الماسونية والليونز والروتاري تتناقض كلي ًّ امع مبادئ الإسلام. البذور الفكرية والعقائدية لنوادي الليونز: وكما نرى فإن نوادي الليونز في حقيقتها لا تخرج عن الدائرة الماسونية التي تتبع لها، فالبذور إذًا واحدة، والماسون كما نعلم يستمدون أفكارهم في ال ألوهية وفي الأديان وفي المرأة وغيرها من الأفكار الصهيونية التي تنبعث من التلمود، والتلمود هو الكتاب الذي يحتوي على التعاليم اليهودية، فهو شرح شفاهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 للتوراة، وهو مأخوذ من كلمة "لامود" التي تعني التعاليم، ونصوص التلمود تمتلئ بالزيف والتضليل ونسبة ما لا يليق إلى رب العزة - سبحانه وتعالى - وإلى أنبيا ئ هـ صلوات الله وسلامه عليهم، كما تملئ نصوص التلمود أيضًا بتمجيد العنصر اليهودي وتميزه عن سائر البشر. ومن يقرأ نصوص التلمود يدرك مدى الزيف والتضليل الذي ينساق إليه هؤلاء الناس ويريدون للبشرية كلها أن تسقط فيه. إذًا فجذور نوادي الليونز الفكرية والعقائدية ترجع إلى الفكر الصهيوني الماسوني وتعتبر امتدادًا له. انتشار أندية الليونز ومواقع نفوذها، والغرض منها، ونشاطها انتشار أندية الليونز ومواقع نفوذها: وأندية الليونز لها نوادي كثيرة في أمريكا وفي أوربا وفي كثير من بلاد العالم حتى البلاد العربية والإسلامية، وتدعي أندية الليونز أن عدد أعضائها في عام 1970 يزيد على 934000 عضو موزعين في 146 بلدًا. أما مركز نوادي الليونز الرئيس الحالي فهو في مدينة أوك بروك بولاية أينوي في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد انتشرت نوادي الليونز والروتاري في مصر بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل وزاد نشاطها في هذه الفترة، وتتخذ من الفنادق الضخمة مراكز لها، كفندق السلام، وفندق هيلتون، وفندق شيبرد، وفندق شيراتون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 كما ترصد هذه النوادي مبالغ ضخمة كجوائز تُقدم خلال حفلات تنمية الصداقة وحفلات الاهتمام ببعض المشروعات مما يضع علامة استفهام حول من أين تأتي هذه الموارد المالية؟ وما مصادرها؟ الغرض من نوادي الليونز: كما نعلم فإن نوادي الليونز تضم رجال الأعمال فقط، لذلك يتبادلون المصالح التجارية فيما بينهم، وذلك لتوجيه رجال الأعمال لدفة الاقتصاد نحو خدمة مصالحهم الخاصة، فهم يصبون جل اهتمامهم على أصحاب المهن التي تتحكم في الأسواق، وذلك كله - كما قلنا - لتجنيد الأعضاء لخدمة الصهيونية العالمية، وللقيام بدور استخباري لحكومة العالم الخفية في مركز المنظمة العالمي. نشاط أندية الليونز: أندية الليونز تلتقي مرتين كل شهر في أحد الفنادق الكبرى أو الأندية الرياضية أو الأندية الاجتماعية، هذا اللقاء يكون مع أحد العلماء أو الخبراء البارزين في مختلف التخصصات، يلقي محاضرة وبعد المحاضرة يدور حوار بينه وبين الحاضرين، ومن هذا الباب التحق بهم جماعات لهم وزنهم وتأثيرهم في المجتمعات على مختلف التخصصات ما بين منتفع ومغرر به ومحب للاستطلاع، والكل في النهاية يخدم الماسونية الصهيونية سواء من يشعر بذلك أو من لا يشعر، وهذا هو قصد الماسونية من التنوع والاختلاف وكثرة الأسماء المتشعبة عنها ومنها الليونز وذلك لإيقاع الحيرة والاضطراب في مفاهيم الناس، أو التمويه عليهم وخداعهم ل ئ لا يفطنوا إلى الخطط الماسونية التي عرفها الكثير من المفكرين وحذروا منها الكثير ممن أنقذهم الله من براثنها، فأُنشئت تلك النوادي أو المنافذ لتكون أبواب طوارئ خلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 إذًا فالليونز يتصيدون أعضاءهم بدقة وعناية وبعد دراسة مستفيضة للعضو من حيث لا يدري، فإذا وقع اختيارهم عليه جاءوا من كل مكان وبشتى الأساليب وبالوساطات التي يثق العضو بصداقتهم له إلى أن يدخلوا هذا العضو في شباكهم، ثم يتولون أمر تربيته بأنفسهم، وهذا الاختيار بطبيعة الحال لا يمكن أن يتم على شخص يعرفون عنه حماسه لدينه أو غيرته على وطنه؛ لأن مهمتهم لا تتفق مع شخص يتمثل فيه هذا السلوك، وكما قلنا لا يقتصر نشاطهم على الرجال فقط، بل هناك نواد ٍ للنساء أيضًا تُسمى نوادي سيدات الليونز، ولزوجات أصحاب الجاه الذين دخلوا حظيرة نادي الليونز لهن نوادي أيضًا، ولعل السر في اهتمام الليونز بزوجات أولئك حتى يضمنوا اشتغالهن عن انتقاد أزواجهن، وبالتالي يضمنون استمرار العضو وخضوعه أيضًا لهم ما دام ت زوجته قد أصبحت عضوًا أيضًا في هذا النادي، وهذا مكر يهودي عميق. الأدلة على علاقة الليونز بالماسونية، وكيفية مواجهتها الأدلة على علاقة الليونز بالماسونية: هناك شواهد كثيرة تدل على العلاقة الوثيقة بين المحافل الماسونية والروتاري والليونز، منها تصريحات ما يسمى عندهم بالأستاذ الأعظم السابق لمحفل الشرق الماسوني الأعظم في باريس "فريد زيلر" عما يجب أن تكون عليه ال ماسونية سنة 2000 فيقول: "يجدر بنا أن نهتم بمراجعة مفاهيمنا مراجعة مستمرة وجذرية، ولا بد وقبل كل شيء من إيجاد وسيلة للاتصال والإيداع تناسب عصرنا والعصور القادمة، ولذلك علينا أن نعرف ونحدد القيم التاريخية الجامعة الجديدة، ويلزمنا إعادة تقييم الإنسان مع الاهتمام بكل أمانيه وظروفه الاجتماعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 والبيولوجي ة، ولما كانت رغبتنا أن تصبح الصلة الحية التي تربط المعرفة الماسونية بالعالم فإننا نفتح هياكلنا لكل أولئك الذين يؤمنون إيمانًا عميقًا بالإنسانية". هذه الكلمة التي يخدعون بها الناس كلمة " الإنسانية " التي لا ينخدع بها إلا كل غافل أو متغافل، كثيرًا ما نرى هذه الكلمة تُستخدم في هذه النوادي وفي هذه المحاضرات؛ حيث تستخدمها قوى الشر العالمية لمحاربة كل دين أو شرع سماوي ي شكل من وجهة نظرهم صورة من صور العنصرية والتعصب لإثارة البغضاء بين الشعوب؛ لذلك ف هم يسعون ويتاجرون بكلمة " الإنسانية " ليصلوا إلى تذويب الأديان تمهيدًا للتحلل منها، نعم، هم يتاجرون باسم الإنسانية، فبعد أن افتضحت أساليب المحافل الماسونية بحثوا عن ثوب جديد يسترون به سوءاتهم وحقدهم وخبثهم ومكرهم للأديان بدعوى كسر كل الحواجز العقائدية بين البشر مضمونًا، فاخترعت أندية شهود يهوا، وبناي بر ث، والروتاري، والليونز، ومدارس الإليانس، ومدارس سان جورج، ومدارس التسلح الخلقي، والاتحاد والترقي، والإخاء الديني، وحراس العقيدة، واليوجا، والمتفائلات؛ وغير ذلك مما تعرفه حكومات الشرق والغرب. وأكثر من ذلك أن دعوى الإنسانية في حد ذاتها هي الباطل الماسوني الذي يجب أن نحاربه ودونما اعتبار للجمعية التي تنادي به، أو اعتبار لانتمائها، أو للمحاضر الذي يدعو إليها أي ًّ اكان دينه وعقيدته أو انتماءه الحزبي أو سلطانه الدولي أو المحلي؛ إذ إنه إذ لم تكن هذه الإنسانية مستمدة جذورها من الدين الذي ارتضاه رب العرش العظيم لعباده في الأرض جعله دينًا لآدم - عليه السلام - ودينًا لأنبيائه إبراهيم وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، إذا لم تكن هذه الإنسانية مستمدة من هذا الدين وهو دين الإسلام فإنها إنسانية ماسونية، فما عدا هذه الإنسانية الإسلامية هي إنسانية الماسونية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ومن الأدلة أيضًا على ماسونية الليونز اعتراف هذه الأندية بالانتماء إلى محافل أمريكا وباريس وانجلترا وألمانيا وغيرها، والتزامهم أيضًا باللائحة الداخلية لمحافل ماسون الغرب من حيث مراتب الأدوار ومهام هذه الأدوار وشروط العضوية ومراحل الترقي والنياشين والأوسمة، حتى نفس الشعارات والأهداف ونفس الأنشطة التي تمارسها هذه الأندية هي هي. كيفية مواجهة نوادي الليونز: ولأجل خطورة هذه النوادي وأشباهها حذر كثير من علماء المسلمين منها، بل وحرموا الانضمام إليها، فقد نظر المجمع الفقهي في دورته الأولى المنعقدة بمكة المكرمة في العاشر من شعبان عام 1398 من الهجرة الشريفة في قضية هذه النوادي والمنتسبين إليها وحكم الشريعة الإسلامية في ذلك، وقد قام أعضاء المجمع بدراسة وافية عن هذه المنظمة الخطيرة، وطالعوا ما كُتب عنها من قديم وجديد، وما نشر من وثائقها، وما نشره أعضا ؤ ها وبعض أقطابها من مؤلفات ومن مقالات في المجلات التي تنطق باسمها، وأصدروا قرارًا باعتبار هذه الأندية نوادي الروتاري ونوادي الليونز وبناي بر ث؛ وغيرها من أندية الماسونية، وهي جمعية سرية هدامة، كما يقول البيان: لها صلة وثيقة بالصهيونية العالمية التي تحركها وتدفعها لخدمة أغراضها، وتنتشر تحت شعارات خداعة كالحرية والإخاء والمساواة؛ وما إلى ذلك مما أوقع في شباكها كثير من المسلمين، وقادة البلاد وأهل الفكر؛ ولذلك يقول البيان: "إن على الهيئات الإسلامية أن يكون موقفها من هذه الجمعية السرية كالتالي": أولًا: على كل مسلم أن يخرج منها فورًا. ثانيًا: تحريم انتخاب أي مسلم ينتسب إليها لأي عمل إسلامي. ثالثًا: على الدول الإسلامية أن تمنع نشاط هذه النوادي داخل بلادها، وأن تغلق محافلها وأوكارها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 رابعًا: عدم توظيف أي شخص ينتسب إليها ومقاطعته مقاطعة كلية. خامسًا: فضحها بكتيبات ونشرات تُباع بسعر التكلفة أو توزع مجانًا. وأصدرت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف بيان للمسلمين من لجنة الفتوى بالأزهر الشريف بشأن الماسونية والأندية التابعة لها مثل الروتاري والليونز، ومما جاء في هذا البيان: " وإن من بين هذه الأندية الماسونية مؤسسات تابعة لها مثل الليونز والروتاري، وهما من أخطر المنظمات الهدامة التي يسيطر عليه اليهود والصهيونية يبتغون بذلك السيطرة على العالم عن طريق القضاء على الأديان، وإشاعة الفوضى الأخلاقية، وتسخير أبناء البلاد للتجسس على أوطانهم باسم الإنسانية "، ولذلك كما يقول البيان " يحرم على المسلمين أن ينتسبوا لأندية هذا شأنها، وواجب المسلم أن لا ي كون إمعة يسير وراء كل داعٍ ونادٍ، وواجب المسلم أن يكون يقظًا حتى لا يُغرر به، فللمسلمين أنديتهم الخاصة بهم والتي لها مقاصدها وغاياتها العلنية". أما كيفية مواجهة ومجابهة هذه الأندية -أندية الليونز- فيتمثل ذلك في أمرين: الأمر الأول: وهو حل وقائي ويتمثل في توضيح حقيقة وأهداف الماسونية لأبناء المسلمين، وحقيقة نوادي الروتاري والليونز وغيرها مما هو تابع لها، وأيضًا التأكد من هويات النوادي الأخرى وملاحظتها ل ئ لا يندس فيها الروتاريون وغيرهم. والأمر الثاني: هو حل هجومي؛ وذلك بكتابة البحوث والكتب التي تبين حقيقة هذه النوادي، وترجمة هذه الكتب بلغات مختلفة وتوزيعها. أخيرًا وليس آخرًا: العودة إلى الإسلام الصحيح والتمسك به، فهو خير حصانة وخير أمان، حمى الله الإسلام وأهله شر الكائدين والحاقدين. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الدرس: 5 منظمة شهود يهوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس (منظمة شهود يهوه) التعريف بمنظمة شهود يهوه، وملاحظات عليها، ونشأتها، وأفكارها ومعتقداتها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: منظمة شهود يهوه: ومنظمة شهود يهوه هي منظمة عالمية دينية سياسية، تقوم على سرية التنظيم وعلنية الفكرة، وقد ظهرت هذه المنظمة في أمريكا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتدعي هذه المنظمة أنها مسيحية لكن الواقع يؤكد أنها واقعة تحت سيطرة اليهود وأنها تعمل لحسابهم، وهي تُعرف باسم جمعية العالم الجديد إلى جانب اسم شهود يهوه الذي عُرفت به ابتداءً من سنة 1931، وقد اعتُرف بها رسميًّا في أمريكا قبل ظهورها بهذا الاسم. أما معنى كلمة يهوه فهو الاسم الجديد لله تعالى الذي أوحاه إلى موسى -عليه السلام- كما يزعم واضعو التوراة ومحرفوها، فقد غيَّروا الاسم الإله من الله إلى ياهو، وهو اسم لا معنى له، ولا يُعرف اشتقاقه على التحقيق، يحاول الأستاذ العقاد أن يجد لهذا الاسم معنًى أو اشتقاقًا فيقول: "يصح أنه من مادة الحياة، ويصح أنه نداء لضمير الغائب، لأن بني إسرائيل كانوا يتقون ذكره توقيرًا له، ويكتفون بالإشارة إليه". وواضح أن التعليلات التي ذكرها الأستاذ العقاد لا مفهوم لها، فما العلاقة بين لفظ هو وبين مادة الحياة؟ وإذا كان من باب ضمير الغائب فهل يُعقل أن ينادى الإله بضمير الغائب، وهل يعقل أن يكون ذلك توقيرًا له. الذي نعرفه أن الأستاذ لا يعدل عن ذكر اسم شخص إلى الحديث عنه بضمير الغائب إلا تحقيرًا له، فمن أين يأتي بالتوقير؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 لكن ما نريد أن نوضحه ونسأل عنه هو ما العلاقة بين حقيقة الله وحقيقة ياهو إله اليهود؟ الواقع أن لفظ الله ومعناه لا علاقة له على الإطلاق بياهو إله اليهود، فهو عندهم كما تصوره توراتهم المحرفة إله خاص ببني إسرائيل، وبنو إسرائيل هم شعبه دون سائر الخلق، وهو عندهم رب الحرب المتكفل فقط بنصرة بني إسرائيل، وبالتالي فهو محب لبني إسرائيل وحدهم، ومبغض لكل من سواهم، وليس عنده -عند إلههم- أيَّ مانع أن يصنع كل ما ليس بأخلاقي في سبيل مصلحة بني إسرائيل من السرقة، والغدر، والقتل، وغير ذلك كما يزعمون، أو كما يقولون. ومن هنا فإننا نؤكد على أن ياهو لا يمثل صفات الإله الحق، وإنما يمثل انعكاسًا لصفات اليهود وأخلاقهم، فهو ليس خالقًا لهم وإنما هو مخلوق لهم، هو لا يأمرهم بل يسير على هواهم، وكثيرًا ما يأتمر بأمرهم، فيأمرهم بالسرقة إذا أرادوا أن يسرقوا، بل يعلم منهم ما يريدونه أن يعلم، وهو إلههم يميزهم عن سائر الخلق بصرف النظر عن إيمانهم أو طاعتهم، فلقد كان إلهًا لعشيرتهم وحدهم دون سائر العشائر. ملاحظات على منظمة شهود يهوه: هناك عدة ملاحظات قبل الحديث عن شهود يهوه وهي: أولًا: شهود يهوه رغم أنهم يقولون: إنهم فرقة مسيحية لكنهم في الواقع يخالفون كنائس العالم المسيحي على اختلاف فرقها، يخالفونهم في كثير من العقائد والأفكار، بل يخالفونهم حتى في ترجمة كثير من آيات كتبهم المقدسة، حتى إن شهود يهوه أخرجوا بعض الآيات المزيفة وبالطبع تركوا الكثير منها، أخرجوا هذه الآيات المزيفة من هذه الكتب المقدسة التي تُسمى عند النصارى بالكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المقدس، الكتاب الذي يقول شهود يهوه عنه: "نعم الكتاب المقدس هو كلمة الله الموحى بها"، هكذا يقولون، ومع أنهم يقولون: يهوه الله بصفته مؤلف الكتاب المقدس، إلا أنهم قالوا: إن الذين كتبوا الكتاب المقدس أبقوا أنفسهم بعيدًا عن الأضواء. وفي بعض الحالات -وهذا كلامهم- يصعب تحديد من كتب بعض أجزاء الكتاب المقدس"، ولا ندري أي تناقض هذا، هل الكتاب المقدس موحى به من الله؟ أم أن مؤلفوه من البشر؟ لا ندري!. ثانيًا: لا يؤمن شهود يهوه بالعقيدة المشهورة التي ما زالت تتبناها حتى اليوم غالبية كنائس العالم، وهي عقيدة الثالوث، وأن المسيح هو الله تعالى، تعالى الله عما يصفون علوًّا كبيرًا، بل خرج شهود يهوه بتفسير جديد، وعقيدة جديدة في المسيح، وفي الثالوث: وهو أن المسيح هو المخلوق الوحيد الذي خلقه الله مباشرة، ثم بعد أن خلقه كان أن ساعد الله، وهذا في زعمهم طبعًا، فهم يزعمون أن المسيح ساند الله وساعده في خلق الكون كله، ولقد وصل عمق خلافهم مع العالم المسيحي حتى في الشيء الذي صلب عليه المسيح، فيقولون -يقول منظمة شهود يهوه-: إن يسوع مات على خشبة مستقيمة، وليس كما يقول النصارى على الصليب التقليدي، وبعد أن كانت أغلفة مجلاتهم مزركشة بالصليب لمدة طويلة، وبعد أن كانوا في بدايتهم العصرية يستعلمون الصليب ويؤمنون به، أصبحوا الآن يرفضونه ورفضوا تقديسه اتباعًا لزعمهم الجديد أن المسيح لم يصلب على الصليب وإنما على خشبة مستقيمة، ونؤكد على أن الحق في الإسلام والذي ورد في كتاب ربنا -سبحانه وتعالى- أنهم ما قتلوه يقينًا، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157)، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 157، 158). هذه هي عقيدتنا أما عقيدة هؤلاء وهؤلاء، فكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 ونعود إلى ملاحظاتنا على شهود يهوه وخلافهم للعالم المسيحي: فقد رفضوا استخدام الأيقونات وتقديسها، كما رفضوا وضع هذه الأيقونات في أماكن عبادتهم، وفي أماكن اجتماعاتهم، ويسمون هذه الأماكن قاعات الملكوت لا يسمونها كنيسة أو كنائس، حتى عند بنائها لا يبنونها بناءات الكنيسة، ولكن يبنونها قاعات اجتماعات، وبعد أن كانوا يلقبون رئيسهم الأول بالقسيس وبعد أن كانوا يستعملون المصطلحات المشهورة للألقاب الكنسية قسيس وشماس وراهب وغيرها رفضوا هذه جميعًا، واستعملوا ألفاظ جديدة، فللمنتمي لفرقتهم يقولون: أخ وأخت، وللقسيس يقولون: شيخ، وناظر دائرة، وناظر كورة، وناظر فرع، ولهم مصطلحات أخرى لمهمات أخرى داخل تنظيمهم التنصيري مثل: مصطلح فاتح، وفاتح إضافي، وفاتح قانوني، وفاتح خصوصي، وغير ذلك مما أرادوا به التميز عن العالم المسيحي. ثالثًا: من الملاحظات أيضًا أن منشورات شهود يهوه لا تباع في المحلات العامة ولا في الدكاكين ودور النشر والتوزيع، بل توزع فقط بطريقتهم في الشوارع لعرضها على الناس المارة، أو بطريقة طرقهم على أبواب بيوت الناس، وكانت في البداية توزع بقليل من المال ولكنها الآن توزع مجانًا. رابعًا: من الملاحظات أيضًا أنهم كمحاولة منهم لترقيع المسيحية يفتي شهود يهوه أنفسهم بلعن الكنائس، والفرق المسيحية الكبيرة والصغيرة في كتبهم ونشراتهم ومجلاتهم، يلعنون الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت، ويحاولون دائمًا أن يميزوا أنفسهم عن الهيئات المسيحية الأخرى، بل يقولون: إن ديانة العالم المسيحي هي ثمرة ارتداد لألف وتسعمائة سنة عن المسيحية الحقة، وإن العالم المسيحي إنما هو بكامله جزء من عالم الشيطان، هكذا يقولون، ومع أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 جزء من العالم المسيحي باعتبار أنه بحسب زعمهم مجتمع مسيحي، إلا أنهم وبالكلمات المتقدمة يظنون أنهم أعادوا للمسيحية وضعها الطبيعي، وهيهات لهم ذلك، بل جعل شهود يهوه من الحكومات التي شاركت في الحرب العالمية ملك لإبليس، وجزء مهم آخر من عالم الشيطان. خامسًا: يشتم يهود يهوه الإسلام ويصفونه بصفات قبيحة، مع غيره من الأديان الأخرى، يصفونه مثلًا بأنه العاهرة، أو الزانية العظيمة، بل يقولون: بكل جرأة إن لديهم كل سبب ليخاطبوا الإسلام وغيره كعدو، ويتعاملوا مع الإسلام كعدو. سادسًا: صنع شهود يهوه تبعًا لسلفهم من اليهود والصهاينة صورًا مزيفة توهموها للأنبياء صلوات الله عليهم وسلاماته، وهي صور كان أولى بهم -لو أحسنوا الظن وأحسنوا النظر- أن ينكروها ويخرجوها كما أخرجوا غيرها من كتابهم المقدس، أو المدعو مقدسًا، فلقد قالوا: عن سليمان -عليه السلام-: إنه تزوج بزوجات كثيرة، وسمح بعبادة الأوثان في إسرائيل، وكانت سنوات حكمه الأخيرة ظلمًا، بل إنه مات مرتدًّا، وحاشاه -صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد. وزعموا -كما في كتابهم المقدس- أن نوحًا -عليه السلام- شرب خمرًا، فسكر، وتعرى، ولعن من لا ذنب له، وزعموا أن هارون -عليه السلام- هو الذي صنع العجل لبني إسرائيل، وقالوا: إن بني إسرائيل وجهوا هارون ليصنع تمثالًا، وبنى لهم هارون هذا التمثال، وبنى لهم أيضًا مذبحهم، وغير ذلك أيضًا من التخريفات التي نقلوها عن التوراة المحرفة الموجودة بأيدي اليهود. أما نحن فنؤمن إيمانًا يقينيًّا بعصمة الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن، ونسموا بهم -صلوات الله وسلامه عليهم- عما يقول به هؤلاء الأفاكون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 نشأة منظمة شهود يهوه: قد أسسها الراهب شارلز راسل، وكانت تعرف باسم الراسلية أو الراسليين، نسبة إلى مؤسسها، كما عُرفت باسم الدارسون الجدد للإنجيل، وعُرفت بعد ذلك باسم جمعية برج المراقبة والتوراة والكراريس، ثم استقر الأمر أخيرًا على اسم شهود يهوه؛ نسبة إلى يهوه إله بني إسرائيل على ما تردد توراتهم. كما ورد في سفر الخروج في الإصحاح السادس 2 - 4 يقول: وكلم الله موسى قال له: أنا الرب أنا الذي تجليت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب إله قادرًا على كل شيء، وأما اسمي يهوه فلم أعلنه لهم. ويقول تشارلز راسل عن بداية هذه المنظمة: "أنه في سنة 1878 تألفت هذه المنظمة، منظمة شهود يهوه، من إسرائيليين روحيين حقيقيين كرسوا أنفسهم لله العلي، هكذا يقول، فأدخلهم هو عندئذٍ في العهد الجديد؛ ليكونوا شعبًا على اسمه، وأدخلهم في عهد الملكوت أيضًا من ملك الملوك ورب الأرباب، وقد بدءوا يجتمعون سويًّا مدفوعين بمحبة الحق خصوصًا منذ حوالي 1878 فصاعدًا". ادَّعى راسل هذا الكلام، كما ادعى أنه مسيحي الظاهر والباطن، وادَّعى خلفاؤه أنهم مسيحيون يقينًا، ودائمًا ما يذكرون مثال سارة زوجة إبراهيم -عليه السلام- التي رسمت مثالًا كما يقولون: للخضوع والتقوى، وذلك في حالتين عندما قدمها إبراهيم بصفتها أخته أمام حاكميْن وثنييْن، في كلتا المرتين تعاونت معه على الرغم من أنها نتيجة لذلك صارت تقريبًا عضوًا من حريمهما، يقول راسل عن هذه الطائفة التي بدأ بها: "أنهم لما تحققوا أنهم في عبودية الخرافات والدين وخداع الإكليروس الأمور التي تقيدت بها كل الأمم المسيحية نشدوا الحرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فنالوها، وخرجوا من كل الطوائف الدينية كاثوليكية وبروتستانتية ويهودية وغيرهم، وانضموا إلى منظمته، منظمة شهود يهوه. في سنة 1916 مات راسل، وخلفه فرانكلين ريزرفورت كرئيس ثانٍ بالانتخاب، ومن الأشياء التي غيرها ريزرفورت اسم المنظمة والتي كانت تُسمى تلاميذ الكتاب المقدس، فغير ريزرفورت هو وزملاؤه هذا الاسم إلى شهود يهوه، ثم خلف ريزرفورت ناثان هيرمركنور ليكون الرئيس الثالث للمنظمة، وهكذا. أفكار شهود يهوه ومعتقداتهم: ونورد بعض الأفكار لهذه المنظمة فنقول: أولًا: هم مؤمنون بيهوة إلهً لهم كما يؤمنون بعيسى رئيسًا لمملكة الله. ثانيًا: يؤمنون بالكتاب المقدس للنصارى، ولكنهم يفسرونه حسب مصالحهم، بل ويحذون منه بعض الأجزاء، كما يعترفون أيضًا بقداسة الكتب التي تعترف بها اليهودية وتقدسها، وهي تسعة عشر كتابًا. ثالثًا: يستغلون اسم المسيح والكتاب المقدس للوصول إلى هدفهم، هذا الهدف هو إقامة دولة دينية للسيطرة على العالم، وتهيئة النفوس لإقامة الدولة اليهودية الكبرى. رابعًا: تنكر منظمة شهود يهوه الحساب والعقاب في الآخرة، فلا إثم على من يقترف ذنبًا أو معصية في دنياه، وكذلك هم لا يؤمنون بالآخرة، ويعتقدون أن الجنة ستكون في الدنيا في مملكتهم هم. خامسًا: يعتقد أتباع هذه المنظمة بقيام حرب تحريرية يقودها عيسى -عليه السلام- وهم جنوده يزيحون بها جميع حكام الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 سادسًا: يقتطفون من الكتاب المقدس الأجزاء التي تحبب إسرائيل واليهود إلى الناس، ويقومون بنشرها. سابعًا: لا يؤمنون بالروح ولا بخلودها ولهم معابد خاصة بهم يسمونها القاعة الملكية أو بيت الرب. ثامنًا: الإخوة الإنسانية مقتصرة عليهم دون سواهم من البشر، ويعادون النظم الوضعية، ويدعون إلى التمرد، ويعادون الأديان إلا اليهودية، وجميع رؤسائهم من اليهود. تاسعًا: يدعون إلى إشاعة الفوضى الخلقية والتحلل من جميع الفضائل الإنسانية التي حثَّت عليها التعاليم الدينية، كما يدعون إلى إشاعة الفوضى العالمية بتحريض الشعوب على التمرد على حكوماتها، ومقاطعة جميع النشاطات الرسمية في الدولة، ويبررون ذلك بما جاء في كتابهم الأخضر "ليكن الله صادقًا بأنهم سفراء الله في ملكوته المقدس"، ومن ثم لأنهم سفراء الله وفي ملكوته المقدس فهم يتمتعون بحصانة تعفيهم من الخضوع للحكومات المدنية أيًّا كانت مقوماتها. عاشرًا: يمر العضو فيها بمراحل معقدة ويخضع للالتحاق بها إلى شروط قاسية، وتنتظم عضوية جمعية شهود يهوه ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: ويسمونهم أعضاء الرجاء السماوي، وهم أعضاء الإدارة العليا، ويرأسهم ما يسمونه العبد العظيم أو الحكيم، ويعرف مقره ببيت إيل، أي: بيت الله. والمرتبة الثانية: فيسمونهم صف جلعاد أو الرجاء الأرضي، وتشمل من الأعضاء الرواد والمعاونين، ونظار المناطق، وهؤلاء هم أعضاء الإدارة التنفيذية. أما المرتبة الثالثة: في هذه الجمعية فهم المبشرون ويعرف أعضاؤها بالخدم، وتضم هذه المرتبة الشهود، وهم أعضاء الجمعية المكلفون بتوزيع مطبوعات الجمعية ورسائلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 نشاط شهود يهوه التنصيري، وخداعهم للمرأة، وأسماء منظمتهم، وحقيقتها نشاط جمعية شهود يهوه التنصيري: فلجماعة شهود يهوه نشاط تنصيري في مناطق كثيرة من العالم، وخاصة في أفريقيا، فهم يعتبرون أنهم حصلوا على معرفة اكتشاف إفريقيا اكتشافًا صحيحًا، وأنهم يملكون النور لهداية أفريقيا بزعمهم، فبعد أن كانت أفريقيا -كما يقولون- قارة فشلت المسيحية أن تحقق فيها نجاحًا دائمًا، وأخفقت الإنسانيات الكاثوليكية تمامًا، فإن شهود يهوه يقولون: إنهم يحاولون تصحيح المسار التنصيري؛ ليتميزوا بعملياتهم التنصيرية المنظمة، والتي يزعمون أنها توزع الأنوار على القارة المظلمة. من هنا يمكن القول: إن ظهور فرقة شهود يهوه التنصيرية كفريق مسيحي تنصيري هو ظهور أريد له التميز في عقائده، وفي أسلوبه، وفي تعاملاته؛ حتى يظهر بصورة مختلفة تمامًا عن صورة الظلمة القديمة التي قامت بها الإرساليات التنصيرية الأخرى، والتي ما زالت قوية في نشاطاتها الكثيفة، على الرغم من فشلها نوعًا ما. بل يحاول شهود يهوه أن يفتحوا لأنفسهم مجالات لحرية العمل عن طريق طرق أبواب السفارات الإفريقية في الدول الغربية؛ ليحصلوا منها على تصريح بشرعية العمل، أو قرار سياسي بحرية نشاطاتهم المخربة، وقبل كل ذلك فإنهم يتحركون بسرية وحذر في البلاد التي تمنع عملياتهم الخائبة بما يتناسب مع وضع البلاد وطبيعة وحدود إمكانياتهم. ومن الأمور الخطيرة والمؤسفة أنه قد تمَّ رفع الحظر عن عمل شهود يهوه التنصيري في ثلاث عشرة دولة إفريقية من سنة 1989 حتى 1992 ميلادية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وذلك بحسب قولهم، وذلك بعد أن كانوا يعملون في هذه الدول سرًّا، وبغير أية شرعية هذا غير دول إفريقيا الأخرى التي أعطتهم الحرية قديمًا، وحسب الإحصائيات التي ذكروها فإن عدد المنصرين في كل إفريقيا من طائفة شهود يهوه حتى 15 يونيو 1992 ميلادية بلغ 400000 منصر من شهود يهوه منتشرين في كل مكان من إفريقيا. أما في مصر فلمنظمة شهود يهوه نشاط سري، والدليل على ذلك ما أوردته أحد الجرائد الهولندية في السادس من يونيو عام 1996 ميلادية؛ أنه تمَّ القبض على بعض هؤلاء المنصرين من شهود يهوه الأجانب في مدينة الإسكندرية، منهم ستة من أمريكا واثنان من بولندا وواحد من كندا وواحد من النمسا، ثم تم ترحيلهم من مصر، وكان هؤلاء المنصرين يحاولون توزيع مجلتهم "مجلة برج المراقبة" على المارة في الشوارع، وذكرت الجريدة أن الحكومة المصرية استدعت قياديين من الكنائس المصرية وسألتهم وعرضت عليهم هذه المواد التي ضُبطت مع هؤلاء المنصرين من كتب ومجلات ونشرات؛ بغية التعرف على شخصية هؤلاء وفكرهم، فقال هؤلاء القياديين من الكنيسة بأن هذه الأفكار هي أفكار شهود يهوه، وهي مرفوضة كنسيًّا، ولا يخفي شهود يهوه مشاعرهم ومشاعر أجدادهم تجاه مصر، مصر المحروسة، فهم يقولون: إن المصريين أولاد حام بن نوح الملعون عندهم؛ لأنه كما تقول التوراة المحرفة: كشف عورة أبيه السكران كما زعموا، وبحسب كلام شهود يهوه فإن الشيطان يستعمل المصريين؛ لأنهم أبناء حام الملعون، فأهل مصر هم ذرية الشيطان. ونحمد الله أن الحكومة المصرية أصدرت قرارًا ضد مكرهم في سنة 1953، ورفضت شرعيتهم وأصدرت محكمة القضاء الإداري قرارًا بالطرد، وقالت المحكمة المذكورة: إن المدعين حصلوا من إدارة الهجرة والجنسية على ترخيص، وإن الإدارة لما تبين لها أن المدعين يقومون بنشر مبادئ متطرفة، وأن الجمعية التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ينتسبون إليها ذات ميول صهيونية وتهاجم الدين الإسلامي؛ أنهت إقامتهم وكلفتهم مغادرة البلاد. خداع جمعية شهود يهوه للمرأة: فهذه الجمعية تبذل جهودًا كثيرة لتشكيك المرأة المسلمة في دينها، وذلك بإلقاء الوساوس الشيطانية التي يخدعون بها الناس في صدر هذه المرأة المسلمة، ويقومون بهذا الجهد على أوسع نطاق، خصوصًا في دول أوربا والولايات المتحدة ودول أسيا وإندونيسيا، يطرقون بيوت المسلمين في هذه الدول من الصباح إلى المساء؛ ليوزعون مجلاتهم ومنشوراتهم، ويزرعون الشكوك بلطف وابتسام، ويجلبون الصيد إلى منظمتهم بلين وحنان ظاهري. ويقولون: للمرأة المسلمة التي تفتح لهم الباب غفلة منها وجهلًا، أنهم يريدون أن يبلغوها طريق الحياة الأبدية، وهدف الملكوت الأسمى، الفردوس الأرضية، يقولون لها: إن كل المشاكل ستذهب فلا يكون هناك بكاء ولا ضرب ولا لطم للخدود، ولا حتى تعب المرض والشكوى، إذا كانت المرأة مطلقة وعرفوا ذلك منها فهي فريستهم التي يعرفون المداخل إليها، فيقولون لها: إن المسيحية رقة وتجاوز عن الشرور، أما الإسلام فهو يأمر بضرب المرأة وقتال الأعداء من الرفقاء، يقولون لها: المسيحية هينة لينة، أما الإسلام فهو القوة والانتصار وشهوة الرجل وانتقامه وسيادته. يمارسون مع المرأة المسلمة كل أنواع غسيل المخ، ويستخدمون ألطف الطرق كما يستخدمون ألطف الوسائل للوصول إلى غرضهم، ولذلك يسعون إلى تشكيك المرأة المسلمة في حقيقة القرآن وحقيقة الإيمان، وفي تاريخ الإسلام وتاريخ المرأة المسلمة مصورين تعامل الإسلام مع المرأة أنه أحط تعامل وأسوأ لقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وهذا واحد منهم سوري فرنسي الجنسية عضو في منظمتهم دعا زوجته إلى ما صنعته منظمة شهود يهوه من دين وفكر، يزعمون أنه مسيحي، وخيرها بين الإسلام والمسيحية؛ زاعمًا أن الإسلام يأمره بضربها بينما المسيحية تأمره بالإشفاق عليها واللطف بها. أسماء منظمة شهود يهوه: قد أطلق عليها في البداية مذهب الراسلية والراسليين، نسبة لزعيمهم تشارلز راسل، كما أطلق عليهم الدارسون الجدد للإنجيل، ثم أطلق عليهم برج مراقبة صهيون، وخفِّف الاسم ليكون برج المراقبة، وكذلك أطلق عليهم جمعية العالم الجديد، وأخيرًا استقرت تسميتهم بشهود يهوه، وتتابع على رئاستها زعماء اشتهروا بنشاطهم وتفانيهم في خدمتها. حقيقة منظمة شهود يهوه: ومما سبق يتضح لنا الجانب اليهودي في هذه المنظمة رغم تواريها وتسترها خلف المسيحية، والدليل على صهيونية هذه المؤسسة أمور كثيرة نذكر منها: أولًا: استعمالهم الرموز الماسونية اليهودية، ويتضح ذلك في الشمعدان السباعي رمز الماسونية، والنجمة السداسية نجمة داود. ثانيًا: انتسابهم إلى يهوه كما في إطلاق التوراة لهذا الاسم عن الله تعالى. ثالثًا: أن رؤساءهم كلهم يهود. رابعًا: أنهم يعادون كل الأديان إلا اليهودية. خامسًا: أنهم أنهوا عطلة الأحد تبعًا لسائر اليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 سادسًا: تحريضهم على إقامة الدولة اليهودية الكبرى في فلسطين. سابعًا: المناداة بوحدة البشر وإذابة الفوارق بينهم؛ تمهيدًا لإدخال اليهود وإفرادهم بعد ذلك. كيفية انتشار عقائد منظمة شهود يهوه، وترتيباتها التنظيمية، وشعاراتها ورموزها كيف انتشرت عقائد هذه المنظمة؟ أما السبب وراء انتشار عقائد وأفكار هذه المنظمة فعدة أمور نذكر منها: أنهم يشبعون رغبات الداخلين وشهواتهم من التحلل الخلقي والاختلاط والسهرات الداعرة، وأنهم يحاولون تصيد الشباب بما يقدمونه لهم من المساعدات المختلفة التي يرون أن الشخص بحاجة إليها؛ ليصبح أسيرًا لهم، متكلًا عليهم إما بتقديم سكن، أو بإغراء جنسي بإرسال فتيات لمقابلة بعض الشباب وسؤاله عن حاله وما يحتاج إليه في أموره الدراسية والمعيشية. ويعرفون الشباب من لخلال أعوانهم المنتشرين في أماكن تجمع الشباب، كذلك يصدرون نشرات يدعون فيها كل شاب يريد كذا وكذا أن يتصل بهم على عناوين يوضحونها له، كما يقومون بحفلات ورحلات لا يطلب من الشخص فيها إلا حضوره الشخصي، ويتظاهرون بأنهم يدعون إلى المحبة بين أفراد البشر، وأنهم يريدون أن يرفرف السلام على الجميع، وأنهم يريدون أن تُنبذ الحروب، وأن يكون العالم كله دولة واحدة لا فوارق ولا فواصل بينهم، الكل في منزلة واحدة، وأن نواديهم هي الكفيلة بتحقيق السعادة عندما ينضم الجميع إليها، كذلك يركزون على أن الإنسان ينبغي أن يعيش حياته كلها لهذه الدنيا، يعيش حياته بكامل حريته دون قيود، ودون مراقبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وهم يهدفون من وراء ذلك إلى إنكار الدين وقيمه وإنكار أخبار الآخرة كلها، وأخيرًا ما يقومون به من مخادعة النصارى والمسلمين من تفسير بعض فقرات من الإنجيل وبعض الآيات التي يصرفون معانيها إلى ما يوافق مبادئهم بالوسائل التي يملكونها من مدارس وصحف وكتب ونشرات. ولأجل هذه المؤامرات وغيرها تواترت تحذيرات علماء الإسلام من الدخول في هذه المنظمات وصدرت عدة فتاوى تدل على تحريم الانضمام إليها. الترتيبات التنظيمية لمنظمة شهود يهوه: فقد قسم شهود يهوه أنفسهم جماعات بحسب المناطق، ففي أوربا مثلًا يقيمون أماكن اجتماعات عامة بحسب لغات الأجناس التي تعيش داخل مجتمعاتها، ومعلوم أن فرنسا يقيم فيها أكبر تجمع لشهود يهوه من العرب، ففيها أكثر من قاعة اجتماع عربي، بل تقيم فيها شهود يهوه محافلها السنوية باللغة العربية أيضًا. كلما زادت اللغات المختلفة في البلد الواحد تجد شهود يهوه يبنون البنايات، ويكتبون عليها قاعة الملكوت بدل الكنيسة، ويجتمع أهل كل لغة على حده، يتلقوا تعليمات ومعلومات الهيئة الحاكمة الدينية والتنظيمية والتعليمية، وكل مجموعة من هذه المجموعات المختلفة؛ سواء من أهل لغة واحدة أو لغات مختلفة يسمونها جماعة، كل جماعة ومجموعة من الجماعات تؤلف دائرة، وكل دائرة ومجموعة من الدائرة تؤلف كورة لها ناظر كورة، يتدرج التابع لهم من مهتم إلى الخدمة كمبشر يسمونه ناشر جماعة، ثم من ناشر جماعة إلى فاتح، ثم إلى فاتح إضافي، وهكذا. مطلوب منهم إذا أرادوا بلوغ هذه المرتبة -مرتبة الفاتح الإضافي- أن يبلغوا مطلب ستين ساعة تنصير في الشهر، يعني يقوم الفاتح الإضافي بالتنصير لمدة ستين ساعة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الشهر، ثم درجة الفاتح القانوني ومطلوب منهم تسعين ساعة تنصير في الشهر، ثم درجة الفاتح الخصوصي ويطلب منهم مائة وأربعين ساعة في الشهر، وهكذا. شعارات منظمة شهود يهوه ورموزهم: فلمنظمة شهود يهوه عدة رموز تتخذها، منها رمز الشمعدان السباعي الذي هو رمز اليهود الديني والوطني، وهذا يدل أيضًا على أن هذه المنظمة منظمة يهودية في الأساس، وكذلك يستخدمون رمز النجمة السداسية التي هي رمز من رموز اليهود أيضًا، وطبعًا يتبنون اسم يهوه، ويكتبونه بالعبرية كما هو عند اليهود. الجذور الفكرية والعقائدية لمنظمة شهود يهوه، وانتشارهم ومواقع نفوذهم، وطريقتهم في العمل الجذور الفكرية والعقائدية لمنظمة شهود يهوه: ومنظمة شهود يهوه يمكن اعتبارهم منظمة مسيحية صهيونية منفردة بفهم خاص. أما أنها منظمة مسيحية فهي تدعي ذلك وتقول: إنها تؤمن بالكتاب المقدس للنصارى، وأنها تحاول تجديد المسيحية أو أنهم هم أصحاب المسيحية الحقة، وأما أنها منظمة صهيونية فهذه هي الحقيقية، أنهم في الواقع وفي حقيقة الأمر خاضعين للمنظمة الصهيونية والماسونية التي تحركهم كيفما تشاء، فهم يتبنون العقائد اليهودية في الجملة، وهم واقعون تحت سيطرة اليهود بشكل واضح، وهم يعملون لأهداف اليهود. ومنظمة شهود يهوه متأثرة أيضًا بأفكار الفلاسفة القدامى، وخاصة الفلاسفة اليونانيين، كما أن لهم علاقة خاصة ووطيدة بإسرائيل، والمنظمات اليهودية العالمية كالماسونية وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الانتشار ومواقع النفوذ: وتنتشر منظمة شهود يهوه في معظم بلاد العالم، فلا تكاد تخلو دولة من دول العالم من نشاط لهذه المنظمة السرية الخطيرة، إما سرًّا وإما علنًا حين يُسمح لهم بذلك، ومركزهم الرئيسي في أمريكا في حي بروكلن بنيويورك. قد وصل عدد البلدان التي يزاولون فيها نشاطهم سنة 1955 إلى 158 دولة، لكن بعض هذه الدول قد فطن إلى خطورتهم، فمنع نشاطهم وتعقبهم، وطارد دعاتهم بل وطردهم، ومن هذه الدول: مصر، وسنغافورة، ولبنان، وساحل العاج، والفلبين، والعراق، والنرويج، والكاميرون، وغيرها، وإن كان أتباع هذه المنظمة لا يزالون ينشطون في هذه الدول بطريقتهم الخاصة السرية. طريقتهم في العمل: إذ إن لهم طريقة جديدة في الدعوة إلى مذهبهم، فهم يرون أنه ثبت بالدليل أن عددًا كبيرًا من الناس لا يحضرون إلى المعابد، وأن أكثر من نصف الناس في بعض البلدان لا ينتمون إلى طائفة من الطوائف الدينية، وأن ملايين من المنتمين إلى الطوائف الدينية لا يحضرون عباداتهم، ولا يريدون أن يستمعوا إلى رجال الدين، فعملت شهود يهوه على أن تخفي نفسها تحت ستار أنها فرقة مسيحية تطوف بالبيوت والمقاهي والأندية العامة والطرقات؛ حاملة الكتب والمنشورات تعرض فيها تعاليمها بحماسة، مدعية أنها حاملة رسالة دين جديد يجمع تحت لوائه أهل الأديان كافة، كما تتظاهر بعدم معاداة أحد، أو أية طائفة من الطوائف. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الدرس: 6 الاشتراكية (1). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس (الاشتراكية (1)) اختلاف الناس في مفهوم الاشتراكية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: الاشتراكية: فالاشتراكية لفظ من الألفاظ العامة الفضفاضة التي تنطبق على مفاهيم ذوات مستويات مختلفة متفاوتة، ففيها مذاهب مختلفة: منها المعتدل، ومنها المغالي، ومنها الوطني، ومنها الأممي؛ فالاشتراكية في بعض حدودها الدنيا وضمن مفهوم عام قد تلتقي مع أحكام الإسلام في نظامه المالي أو الاقتصادي، مثل اشتراك الناس في الماء العام، وفي الهواء، وفي الكلأ النابت في الأراضي العامة، ويُسمى الكلأ المباح عند الفقهاء، ومثل النفقة الواجبة في نظام الأسرة الإسلامي، ومثل الزكاة المفروضة في الشريعة الإسلامية لصالح الفقراء والمساكين، وبقية الأصناف الثمانية المذكورة في آية سورة "التوبة": {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60). ومثل تدخل الدولة لحماية العمال والكادحين في حصولهم على الأجور العادلة دون ظلم ولا شطط، ومثل تهيئة فرص العمل لكل قادر عليه ونحو ذلك، كل هذا مما تشترك فيه الاشتراكية مع أحكام الإسلام في حدودها الدنيا، ويوسع بعض الاشتراكيين من مفهوم الاشتراكية حتى تتناول تأميم المصانع الكبرى، ولو بالمصادرة الظالمة، وبالاستيلاء دون تعويض مكافئ لحقوق أصحابها، وهذا مخالف للإسلام. ويوسع اشتراكيون آخرون هذا المفهوم حتى تتناول الاشتراكية تأميم المصانع الكبرى ولو بالمصادرة الظالمة، وحتى تتناول مصادرة الأراضي وتوزيعها في صورة ظالمة جائرة وفاسدة مفسدة، وهذا مخالف لأحكام الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وهكذا تتسع دائرة الاشتراكية حتى تصل إلى حضيض الشيوعية المسماة بالاشتراكية العلمية، التي تلغي الملكية الفردية للأرض، ولكل وسائل الإنتاج، ولكل النقود المالية، وتجعل هذه كلها ملكًا للدولة، وتقرر قاعدتها الشائعة "من كل بحسب طاقته ولكل بحسب حاجته"، فيحمل مروجو الشيوعية شعار الاشتراكية بين المسلمين مظهرين من دوائرها دائرة المستوى الأدنى، الذي قد لا يتنافى مع أحكام الإسلام. وينخدع بذلك منخدعون كثيرون من العمال والفلاحين والكادحين وموظفي الدولة، وبعض الطلبة الناشئين، وكل منهم يشعر أنه مظلوم في مجتمعه بكسبه، أو تُغيره الاشتراكية بكسب أفضل، وتتهيج ببريق هذا الشعار عواطف الفقراء والكادحين، ونوازع الحاسدين والحاقدين، ويظن البرآء منهم أن الاشتراكية لا تتنافى مع الإسلام، ثم بالتدريج يوسعون من دائرة المفهوم الاشتراكي شيئًا فشيئًا، حتى يبلغوا به الحضيض الأسفل أو قريبًا منه. ويومئذ تأتي التطبيقات الطاحنة، ويذوق المنخدعون بالأمس ويلات تطبيقات الشعار الذي كانوا قد فرحوا به، وطبلوا له وزمروا، وظنوا أن تطبيقاته ستجعلهم في بحبوحة من العيش، وستشفي نفوسهم من ظالميهم الإقطاعيين والرأسماليين والبرجوازيين. لقد غرهم خداع هذا الشعار البراق، واستدرجهم بشبكته حتى قذفهم في جحيم التطبيقات الاشتراكية المشحونة بالظلم والعذاب. الأساس العقدي للاشتراكية فالاشتراكية ليست مذهبًا اقتصاديًّا فحسب أو حركة اجتماعية، لكنها نظرة شاملة للإنسان والوجود والتاريخ، فالنظام الاشتراكي يقوم على فلسفة مادية للحياة، ويتفاوت في تطرفه تفاوت المذاهب المختلفة، وترجع هذه المذاهب في تطرفها إلى المذهب الشيوعي الذي يستمد فلسفته من "هيجل" صاحب فكرة التطور، ويرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 تنظيم هذا المذهب النظري إلى "كارل ماركس"، ثم إلى "لينين" من بعده. ولا تؤمن الشيوعية بالعقائد الدينية أو المبادئ الأخلاقية، بل تعتبر الدين مخدرًا للشعوب حتى يستفيد رجال الدين بالتعاون مع أصحاب رءوس الأموال في تسكين ثورة الجوع والعري بالزهد والصبر. ومن مواد قانون كارل ماركس: "لا إله"، و"الطبيعة مادة"، وترى الشيوعية أن القوى الكونية تسيرها الطبيعة، فأي حادث أمام قوة من القوى فهو حرب للطبيعة ومن الواجب تحطيمه؛ لتنطلق القوى الطبيعية على سجيتها، فالغريزة الجنسية مثلًا طبيعة في الرجل والمرأة، وأي حائل يعوق اتصال المرأة بما تشاء من الرجال حرب للطبيعة، فلا يعترف النظام الشيوعي بالأسرة وإنما يولد الجنين ولادة اللقيط، فتلتقطه الدولة ليُربى في دور حضاناتها، ويتعلم إلى أن يكبر وينتج لنفس الدولة، ومن عجب أن تعترف الشيوعية بالغريزة الجنسية، وتطلق لها العنان، لكنها في نفس الوقت لا تعترف بغريزة حب التملك، وهي آصَلُ من الغريزة الجنسية في طبيعة الإنسان فتميتها بالكبت القاتل. إن هذا المذهب -كما يقول أحد دعاته- مجموعة من الأفكار ملأت الفراغ الذي نشأ عن انهيار الدين المنظم، نتيجة لازدياد تحول الفكر إلى الاهتمام بالأمور الدنيوية خلال الثلاثة قرون الماضية، وهو مذهب لا يُمكن محاربته إلا بعقيدة معارضة تقوم على مبادئ مختلفة كل الاختلاف عنه، ولكن الشيوعية بالنسبة لمعتنقيها لها قيمة الدين ما داموا يشعرون بأنها تزودهم بشرح كامل للواقع، والإنسان كجزء من هذا الواقع، لقد استغل "كارل ماركس" نار الحقد في قلوب العمال، وشهَّر بكل وسيلة باستغلال رجال الأعمال احتكار أوربا، وبدلًا من أن يدعو إلى القسط شحذ أسلحة الصراع الطبقي؛ فحارب كل امتياز بدعوى المساواة، ودمر الملاك باسم الاشتراكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ثم استغل ذلك التحريف والضلال في المسيحية ليشهِّر بالدين، وبدلًا من أن يبحث عن الدين الحق اتهم الدين بأنه أفيون الشعوب ووسيلة الاستغلال، وما كان له من طريق بعد ذلك إلا أن يؤمن بالمادية، فيعتبرها هي الأول وهي الآخر ولا شيء قبلها ولا شيء بعدها، وكان عليه أن يبين كيف يتحرك هذا الكون ما دام قد كفر بالله، فاخترع وهم الصراع بين الأضداد كتفسير لحركة الكون والحياة، أو ما يسمى بالجدلية التي ابتدعها "هيجل"، وهكذا سميت دعوى "ماركس" بالمادية والجدلية، فماركس يعلي من شأن المادة ويعتبرها أصل حياة، ويعتبر أنها هي المحرك الأول لها؛ فأعطى قوة الإنتاج خاصية التطور الديالكتيكي الذاتي، فهي قاموس الكون كله، وأعطاها حتمية معناها ضرورة سيادتها، وأن معارضتها لن توقفها، ولن تكون إلا تعبيرًا عن الجهل والعقوق. يقول الأستاذ العقاد: "لقد رأيت أناسًا يُبطلون الأديان في العصر الحديث باسم الفلسفة المادية، فإذا بهم يستعيرون من الدين كل خاصة من خواصه، وكل لازمة من لوازمه؛ ولا يستغنون عما فيه من عناصر الإيمان والاعتقاد التي لا سند لها غير مجرد التصديق والشعور، ثم يجردونه من قوته التي يبثها في أعماق النفس لأنهم اصطنعوه اصطناعًا، ولم يرجعوا به إلى مصدره الأصيل، فالمؤمنون بهذه الفلسفة المادية يطلبون من شيعتهم أن يكفروا بكل شيء غير المادة، وأن يعتقدوا أن الأكوان تنشأ من هذه المادة في دورات متسلسلة تنحل كل دورة منها في نهايتها؛ لتعود إلى التركيب في دورة جديدة. ويطلبون منهم أن ينتظروا النعيم المقيم على هذه الأرض متى صحت نبوءتهم عن زوال الطبقات الاجتماعية، فإن زالت الطبقات الاجتماعية في هذه السنة أو بعدها ببضع سنوات؛ فتلك بداية الفردوس الأبدي الذي يدوم ما دامت الأرض والسموات، وتنتهي إليه أطوار التاريخ كما تنتهي بيوم القيامة في عقيدة المؤمن بالأديان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ولا يخلو دين الفلسفة المادية من شيطانه، وهو الرأسمالية الخبيثة العسراء، فكل ما في الدنيا من عمل سوء أو فكرة سوء فهو كيد من هذا الشيطان الماكر المريد، وكل ما فيها من عمل سوء أو فكرة سوء يزول ويحول وتحل مكانه بركات الفلسفة المادية ورضوانها، متى صار الأمر إلى ملائكة الرحمة وذهب ذلك الشيطان إلى قرار الجحيم. ولكن أي دين هذا؟! إنه أشبه دين بدين البشرية الذي عرفته في بدايتها، وهو دين عبادة الطبيعة، الذي اعتنقه الإنسان البدائي وكان ينسب فيه القيم البشرية إلى الأشجار وغيرها من المواد. ونريد أن نعرف إلى أي حد استطاعت المادية الجدلية أن تمد الإنسان بوعي للكون، وأن تحدد غايته في الوجود، يقول انجليز: "إنه مهما ينشأ أو ينقرض من الخلائق قبل أن تنجم بينهما أحياء تفكر بأدمغتها، وتجد لها ملاذًا يسمح بالحياة ولو إلى فترة وجيزة به؛ فإننا مع ذلك على يقين أن المادة في كل تغيراتها تظل أبدًا واحدة، وأبدًا كما هي، وأنها لن تفقد صفة من صفاتها، وأن تلك الضرورة الحديدية التي تقضي بزوال أرفع ذرات المادة -وهي القوة المفكرة- هي بعينها تقضي بميلاد كرة أخرى في زمان آخر". بل حين ذكر "لينين" قول "هيرقليتس" إن العالم واحد لم يخلقه أي إله، ولا أي إنسان وقد كان ولا يزال وسيكون شعلة حية إلى الأبد تشتعل وتنطفئ تبعًا لقوانين معينة، علق عليه قائلًا: "يا له من شرح رائع لمبادئ المادية الجدلية". وفي أسس الماركسية اللينينية أنها لا تعترف بوجود أي قوة أو خالق فيما وراء الطبيعة، إنها ترتكز بوضوح على الحقيقة، حقيقة العالم الذي نعيش فيه، إنها تحرر الإنسان مرة واحدة إلى الأبد من الخرافة، ومن عبودية الروحانية القديمة، إن تعاليم الفلسفة المادية التي تنصُّ على أن العالم الخارجي يوجد في الزمان وفي المكان تفند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 المبدأ العقدي عن وجود إله خارج الزمان والمكان، واللاهوت يؤكد وجود إله قبل وجود العالم، ويؤكد أن هذا الإله هو الذي خلق الطبيعة، وهذه الفلسفة المادية تؤكد أن الله وحده هو الذي لا يحده زمان ولا مكان؛ بينما الطبيعة يحدها بداية ونهاية للزمان والمكان، يقولون: إن هذا خرافة، وإن العلم قد بين استحالة هذه الخرافات، فليس هناك مكان لله في الحقيقة، وذلك هو مبدأ العلماء عن العالم. والفلكي الفرنسي جوزيف لالاند يقول: إنه بحث في السموات ولكنه لم يجد أي إله هناك، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (الكهف: 5). ومن العجيب أن أصحاب هذا الرأي قبل صفحة واحدة يقولون: إن المسافات في العالم أعظم كثيرًا من المسافات التي تعودنا عليها في الأرض، فالمجاهر الحديثة قد مكنتنا من اكتشاف النظام النجومي الذي ضوؤه يصل إلينا في مئات الملايين من السنين، رغم أن سرعة الضوء تصل إلى ثلاثمائة ألف ألف كيلو في الثانية. رغم أن هذه المعلومات محدودة ولكنها لا تعطينا صورة صحيحة عن اتساع العالم الذي هو لانهائي، إن لانهائية العالم تتعدى حدود الخيال، ولا يمكن وصف العالم والتعبير عنه بالعلم، والأرقام الخاصة بعمر الأرض وتطورها تُذهل الخيال، فالإنسان كما نعرفه اليوم ظهر منذ خمسين ألف إلى سبعين ألف سنة، وأول أشكال النبات والحياة الحيوانية ظهرت منذ ألف مليون سنة، والأرض نفسها منذ عدة آلاف الملايين من السنين، وهذا هو العمر الزماني لتاريخ الأرض كما يقول العلم، ولكن لا هذه الأرقام ولا أكبر منها تستطيع أن تعطينا أي دلالة حقيقية عن اللانهائية الطبيعة؛ لأن هذه اللانهائية يتمثل وجودها اللانهائي بالزمان، وهكذا يصلون إلى معالم الأفكار الغيبية التي يعابوا الأديان عليها، ورغم هذا الوصول فإنهم يصدقون قول إنسان أخرق بحث عن الله في السماء فلم يجده، تعالى الله عما يقولون: وعما يصفون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 معنى الاشتراكية إن الاشتراكية قامت في القرن التاسع عشر الميلادي بسبب النزاع المرير بين العمال وأصحاب العمل؛ إذ إن العمال في هذا العصر طالبوا بزيادة أجورهم، وامتنع أصحاب العمل عن زيادة هذه الأجور، في الوقت الذي كان فيه أصحاب العمل يستغلون المال أسوأ استغلال، دون رحمة بأحد من العمال، وفي نفس الوقت تقريبًا بدأ ظهور الآلات الصناعية الحديثة، فإذا بأصحاب العمل يفضلونها عن الأيدي العاملة لوفرة إنتاجها، وقلة ما تحتاج إليه من العمال لتشغيلها؛ فاستغنى أصحاب العمل عن كثير من العمال، فنشأت البطالة ومشاكلها العديدة. ومن هنا نشأة فكرة التوجه بالمطالبة بإصلاح هذه الأحوال الاقتصادية المضطربة، والحد من التنافس بين الناس بالاستئثار بالمال وجمعه، الذي يسبب الصراع بينهم، وكان هذا في الوقت الذي أفلس فيه الدين النصراني المحرف طبعًا، أفلس عن حل أي مشكلة من هذا النوع، بل كان عاملًا قويًّا في ظهور فكرة اللادينية، وفي ظهور المذاهب المنحرفة المختلفة التي قامت من أول يوم على محاربة كل الأوضاع السيئة التي كانت قائمة، واستبدالها بأنظمة جديدة تكفل للناس حقوقهم وحرية معيشتهم. وكان من بين تلك الأفكار ظاهرة القول بالاشتراكية ومحاربة الملكية الفردية وما جاء بعدها من أهوال الشيوعية. والواقع أن الاشتراكية أقبح مذهب عرفته البشرية، وأشدها شرًّا على الإطلاق، فقد ذهب ضحية تطبيقها مئات الملايين قتلًا وجوعًا وتشريدًا في أوربا البعيدة عن أراضي المسلمين، وعن عقائدهم وتاريخ حضاراتهم. أيدتها اليهودية العالمية وبذلت كل ما استطاعته لتأييدها وتقوية نفوذ أتباعها لما عرفوه من عواقبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 الوخيمة على الجويم، أي: غير اليهود، وتم لهم ذلك وانتشر المذهب الاشتراكي الذي يحمل الخراب والدمار، وظل سنوات عديدة في أوج قوته إلى أن أذن الله في إذلاله وإذلال أتباعه، فخرج عنه الكثير ممن أنعم الله عليهم بالعقل والتفكير السليم، وداسوه بأقدامهم، وتنفسوا الصعداء، وهالهم ما كانوا فيه من الغبن الفاحش أيام جثومه على صدورهم، وتيقنوا أنه مذهب جهنمي صاغوه شياطين الإنس والجن بمباركة إبليس اللعين لهم على يد "فريدريك انجليز"، وكارل ماركس، ومن جاء بعدهم مثل لينين وستالين، إلى أن بدأ عهد جورباتشوف برئاسة ما كان يُسمى بالاتحاد السوفيتي. ومن الغريب والعجيب والهول الشديد أن بعض البشر لا يزالون ينادون به، ويتبجحون بأنهم فرسان الاشتراكية {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)، إذا كان لأهل أوربا ظروفهم التي أنتجت الدعوة إلى الاشتراكية في القرن التاسع عشر الميلادي وما بعده، فما بال الدول والشعوب التي تدعي الإسلام، وأنه دستورهم، ما بالهم دخلوا تحت لواء هذا الفكر الأحمر الذي يُشير دائمًا إلى سفك الدماء، وما هي الظروف التي ألجأتهم إلى المناداة بالاشتراكية الماركسية؟ ألم يجدوا في الإسلام ما يسعدهم؟ بلى، ولكنهم ما طبقوه إن لم نقل ما عرفوه أساسًا. يطول عتابنا لهؤلاء وخصامنا لهم، ولكن لا يمكن إغفال فريتهم الكبيرة، والتي تدل على مدى خبثهم وجهلهم، تلك الفرية التي ظهرت تنادي بأن الاشتراكية أساسها إسلامي، وأن الاشتراكية تسير جنبًا إلى جنب مع التعاليم الإسلامية، بل إن واضع الاشتراكية في زعمهم ليس هو "كارل ماركس" اليهودي الحاقد، بل إنه أبو ذر الغفاري، وأم المؤمنين خديجة بنت خويلد التي يسمونها عندهم أم الاشتراكية، بل وفي خطاب ألقاه أحد زعمائهم، زعم فيه أن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 إمام الاشتراكيين، سبحان الله! ما أعظم حلمه!. فأين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأين أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها، وأين أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- وأين الاشتراكية؟! إنها كذبة تكاد تهد الجبال، وخدعة مكشوفة قبيحة أراد أصحابها تحبيب الوجه الكالح للاشتراكية إلى قلوب المسلمين، أرادوا أن يخدعوا المسلمين ويستميلوا قلوبهم ليدخلوا فيما دخلوا فيه، فلأنهم قد وقعوا في هذه المذاهب أرادوا أن يجروا غيرهم إليها، وما أشبه حالهم بحال الثعلب الذي قُطع ذيله فجاء إلى بقية الثعالب يحبب إليهم أن يقطعوا ذيولهم لينعموا بالخفة والرشاقة. بعد هذا التمهيد المطلوب نعود إلى بيان معنى الاشتراكية التي اختلف دعاتها فيما بينهم، افترقوا إلى أحزاب في مفهومهم للاشتراكية وفي المقصود بها، إلى حد أن بلغت معانيها المائتين في بريطانيا وحدها، وهذا يذكرنا بقول الأعرابي حينما سمع أسماء القط الكثيرة فقال: "قبحه الله ما أقل نفعه، وما أكثر أسمائه"، وأقول لك قبل أن أذكر أهم هذه التعريفات: لا يهولنك كثرة تلك الاختلافات؛ فإن مصبها في النهاية واحد هو الإلحاد والتشريع للبشر من دون الله تعالى، كما يقولون: تعددت الأسباب والموت واحد. وإذا رجعنا لمعنى الاشتراكية إلى ما قبل "كارل ماركس" فإننا نجدها قد ظهرت في أماكن مختلفة، في دعوات إلى إلغاء الملكية الفردية، ودعوات إلى نبذ التقاليد والأعراف، ودعوات إلى شيوعية الأموال والنساء بين الجميع، ويُطلق على هذه الاشتراكية اسم الاشتراكية القديمة قبل مرحلة ظهور النظام الرأسمالي الذي يناقض الاشتراكية تمامًا في تقديس الملكية الفردية، والأنانيات الأخرى التي تميز بها، بل وقبل ظهور الإسلام بمئات السنين على عهد أفلاطون، والسير توماس مور، وقبلهم مازداك في فارس وغيرهم. وقد استفاد منهم "كارل ماركس" في نظريته الشيوعية، أو كما يسميها الاشتراكية العلمية وهي أبعد ما يكون عن العلمية، وهي غريبة عن الإسلام، بل عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الأديان كلها، ولم يقرها لا الإسلام ولا غيره من الديانات. فإطلاق الاشتراكية على الإسلام أو على العرب حين يُقال اشتراكية الإسلام، أو الاشتراكية الإسلامية، أو الاشتراكية العربية تعبير جانبه الصواب؛ لأن الإسلام لم يقر الاشتراكية مع أنها كانت موجودة في صور شتى قبل الإسلام، ومع ذلك لم يختر الله أن تكون ضمن تعاليم الإسلام، وكذلك قولهم الاشتراكية العربية إن هو إلا كذب محض على العربية، وعلى العرب الذين ما كانوا يعرفونها أو يتحدثون عنها لا في شعرهم ولا في نثرهم ومفاهيمها. ومفاهيمها كلها غير مفاهيم الاشتراكية ونشأة الاشتراكية ليست في بلاد العرب، فبأي حق تُنسب إليهم لولا إرادة الخداع والتضليل، وكذلك نسبة الاشتراكية إلى العلم هي نسبة زور وافتراء؛ فقد قامت على التخمينات المراكسية وعلى التنبؤ بأمور كثيرة ظهر منها أنها كذب ولم تتحقق، ونسبتها إلى العلم ظلم للعلم وأي ظلم، والإسلام، والعرب، والعلم والعقول السليمة كلها لا تعارض البيع والشراء، لا تعارض الربح والملكية الفردية التي تحاربها الاشتراكية على أساس أن الربح ينتج عن الملكية الفردية، وهي ممنوعة في الاشتراكية، فمتى نادى الإسلام أو العرب أو العلم بذلك، وقد أحل الله البيع وحرم الربا؟!. متى ظهرت الاشتراكية؟ وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن التوجه نحو فكرة الاشتراكية مر بأطوار وفلسفات كثيرة قبل ظهور الدكتور "كارل ماركس"، فقد كان "روبارت أوين" المولود سنة 1771م وهو مصلح اجتماعي، وُلد في مقاطعة ويلز، كان أحد رواد الحركات التعاونية، حاول "أوين" أن يبرهن كرجل أعمال أن من مستلزمات التجارة الناجحة الاهتمام برفاهية الموظف، وأسس "أوين" جمعية "نيوهارموني" الشهيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 في إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان يرى أن الناس يمكن أن يحققوا أكبر قسط من الفائدة من القوى الإنتاجية إذا ما تعاونوا في سبيل المصلحة العامة، وقضوا على الملكية الخاصة والربح، وأقاموا مجتمعات صناعية وزراعية تحكم نفسها بنفسها. وكان يرى أن نمو الآلة سيؤدي إلى البطالة من جهة وتراكم الإنتاج من جهة أخرى، ولا علاج لذلك إلا إذا اتسع نطاق السوق عن طريق رفع أجور العمال، وهذا لا يتم إلا في ظل المنافسة الحرة، ورأى أنه لا مفرَّ من التنظيم الاشتراكي إذا أردنا أن يكون الإنتاج الوافر سبيلًا للرخاء، وفي مصنعه المشهور في نيورلانك بنى بيوتًا صحية للعمال، وأنشأ لهم مخازن يشترون منها حاجاتهم بأسعار مخفضة، وشيد مدارس للحضانة تُعنى بالأطفال، وخصص أموالًا لعلاج المرضى وإعانة الشيوخ، أو الذين أصيبوا بحادث أو بعاهة. وهو أول مَن أعطى معاشات وإعانات بطالة للعمال، وقد وضع برنامجًا كاملًا لنظام تعاوني لعدد من ثلاثمائة إلى خمسمائة عامل في مدن جديدة للسكن، ويتعاون هؤلاء العمال في الإنتاج دون أن يكون الربح رائدهم بل التعاون، وحاول اختبار نظريته التعاونية في أمريكا فأنشأ عام 1825 وحدة في إحدى الولايات ولكنه فشل في تجربته وعاد إلى انجلترا فقيرًا عام 1829. وأيضًا نجد "لويبلان" قد بنى أفكاره في كتابه (تنظيم العمل) على أن اقتصاد المجتمع قائم على المنافسة المجحفة، وعلاجها إنما يكون بسيطرة الدولة على الصناعة، وتقيم الدولة الورش الوطنية التي تكفل العمل للعمال بأجر مناسب، وقد فشلت الخطة التجريبية التي أقامها فشلًا ذريعًا. وجاء من بعده "برود وون" وكتب كتاب سماه (ما هي الملكية) وأجاب فيها جوابه المشهور: إن الملكية هي السرقة؛ وكان يرى أنه لا يمكن تغيير النظام القائم إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 بإلغاء الدولة، وإلغاء كل سلطة من السلطات، وترك تدبير الشئون الاقتصادية إلى جهود الفرد العادية، ودعا "برود وون" إلى تكوين مصارف للتبادل يوضع فيها العامل ثمن عمله نظير كوبون يؤدي مهمة النقود، وقد أقيمت المصارف على سبيل التجربة، إلا أن هذه التجربة انهارت انهيارًا سريعًا. ومن أسباب هذا الانهيار عدم تقرير أهمية عنصر الطلب في اتجاه هذه المصارف، فقد لا يُطلب نوع من السلع التي أودعها العامل. ثم جاء بعد ذلك "كارل ماركس" في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وسط البؤس الذي نشرته الرأسمالية والمظالم الاجتماعية التي عناها المجتمع من استغلال أصحاب الأعمال، لقد كانت هذه الحالة مسار سخط المصلحين في ذلك الوقت، استغل "كارل ماركس" هذا السخط بالدعوة إلى نظريته الجديدة في الاشتراكية. وقد صور "كارل ماركس" تاريخ الإنسان على أساس أنه صراع بين الطبقات، تستغل فيه طبقة أخرى، كالصراع الذي دار قديمًا بين الأحرار والأرقاء، ثم بين الأمراء والفلاحين، وكذلك بين الرؤساء والعرفاء في نظام الطوائف. وأخيرًا قام حديثًا هذا الصراع منذ عهد الثورة الفرنسية بين طبقة الرأسماليين وطبقة العمال، وتزداد حدة الصراع من الاتجاه الحتمي للرأسمالية في تركيز الملكية في أيدي قلة من الرأسماليين، وزيادة بؤس الطبقة العاملة، وهذا يؤدي في رأيه إلى الانفجار الثوري الذي يُغير علاقة الإنتاج الرأسمالية إلى علاقة الإنتاج الاشتراكية، ويزعم أنه بتحوِّل الإنتاج من الملكيات الفردية إلى الملكيات الجماعية ينتهي صراع الطبقات، وينتهي التناقض بين مصالح الناس، وهذه الملكية العامة المشتركة ستؤدي إلى رفع الحواجز أمام توسع الإنتاج مما يؤدي إلى توافر المنتجات حيث تصبح الندرة معدومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وهنا كما يرى "ماركس" لن يكون هناك سبب للملكية أو الصراع، وسيأخذ الجميع حسب حاجتهم، وهذا الذي يقوله ماركس هو أكبر وهم عاشته البشرية في عصرها، وهو ما يسمونه بالاشتراكية العلمية التي قدمها "ماركس" باسم المادية الجدلية، فأشقت البلاد والعباد، وحولتهم في عبيد في بلاد الاشتراكية يُطحنون ويُستعبدون. يقول "فريدريك انجليز" صديق "كارل ماركس" وشريكه في تأليف هذه النظرية، يقول عن هذا الوهم الذي عاش فيه، ودعا البشرية إلى العيش فيه، تمامًا كما أن "داروين" اكتشف قانون تطور الطبيعة العضوية، فإن "ماركس" اكتشف قانون تطور التاريخ الإنساني. والحقيقة ببساطة التي أخفاها شطط المذاهب الفكرية أن الإنسان لا بد أن يأكل ويشرب وأن يلبس وأن يسكن قبل أن يرسم السياسات، أو العلوم، أو الفن، أو العقيدة، ولهذا فإن إنتاج حاجات الحياة الأساسية وبالتالي درجة التقدم الاقتصادي في فترة معينة أو حقبة معينة هي التي يقوم عليها الدولة والمؤسسات والنظم القانونية، والفن وحتى أفكار العقيدة للناس، وهي التي تشرحها وليس العكس، كما كان يحدث من قبل. خلاصة قوله: إن الحياة الاقتصادية المتمثلة في أدوات الإنتاج من أرض ورأسمال هي التي تحدد علاقات الإنتاج كالملكية، وعلى أساس هذه القاعدة الاقتصادية تتولد النظم الاجتماعية والسياسة والفكرية، فليس الإنسان هو الذي يحدد اقتصاده، بل العكس الاقتصاد هو الذي يحدد الإنسان، وليس حركة الفكر سوى انعكاس للحركة الواقعية منقولة إلى دماغ الإنسان ومستقرة فيه، وعند مرحلة معينة من التطور تدخل قوى الإنتاج المادية في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة، أو بالتعبير القانوني عن الشيء ذاته مع علاقات الملكية التي كانت تعمل خلالها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 حتى ذلك الوقت، وقد اعتبرت نتيجة لذلك الوهم، اعتُبرت الملكية أكبر وسيلة لاستغلال الناس، وأكبر وسيلة لتعويق سيرتهم. يقول "كارل ماركس": إن الملكية الخاصة الرأسمالية المتولدة عن طريق الإنتاج الرأسمالي هي السلب الأول للملكية الخاصة القائمة على أساس العمل الفردي، ولكن الإنتاج الرأسمالي يولد بقوة القانون الطبيعي الذي لا يتغير، القوة التي تسلبه أي: تنفيه، وهذا يُسمى عند الماركسية سلب السلب أو نفي النفي. هذا السلب الثاني لا يؤدي إلى عودة الملكية الخاصة، ولكنه يعيدها على أساس التعاون والملكية المشتركة للأرض، وأدوات الإنتاج التي ينتجها العامل بنفسه، إن تحويل الملكية الخاصة المبعثرة القائمة على العمل الفردي إلى ملكية رأسمالية عملية أطول أمدًا وأشد عنفًا، وأكثر صعوبة من تحول الملكية الخاصة الرأسمالية إلى ملكية اجتماعية؛ إذ إن الأمر كان في الحالة الأولى متعلقًا باستيلاء البعض على ملكية جمهور الناس. أما في الحالة الأخيرة فالذي يعنينا هو الاستيلاء على ما يملكه نفر قليل بواسطة جمهور الناس. إذًا فالاقتصاد الاشتراكي يقوم على قواعد محددة كما يرى "ماركس" و"إنجليز" وتابعوه وهي: أولًا: قيام الثورة الاشتراكية التي يسيطر بها العمال على الحكم كشرط أول. ثانيًا: تعميم الدولة لكل عناصر الإنتاج والقضاء على كل دخل سوى أجر العامل. وثالثًا: النشاط الاقتصادي عن طريق جهاز التخطيط وكل العلاقات الاقتصادية الدولية تتم عن طريق الجدولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 في 8 نوفمبر سنة 1917 بعد أن قامت الثورة الشيوعية، وبدأت تنفيذ هذا النظام الاشتراكي الذي يدعونا إليه صادرت الحكومة كل الملكيات الكبيرة بدون تعويض، وآلت الملكيات الزراعية إلى مجالس الفلاحين. وفي الرابع عشر من نوفمبر سنة 1917 خضعت كل المؤسسات الصناعية والتجارية للإشراف الفعلي المباشر للعمال، واستولت الدولة على فائض الإنتاج عينًا، ومضت أربع سنوات وفشلت التجربة، وخرب الاقتصاد، وأنشبت المجاعة مخالبها في كبد الشعب المسكين؛ نتيجة هبوط الإنتاج إلى خمس ما كان عليه قبل مصادرة هذه الملكيات، وبعد ثلاثة أيام عادت الحرية للتجارة الخارجية والداخلية، وفي السابع عشر من مايو سنة 1921 صُرح لصغار المنتجين أن يبيعوا منتجاتهم لحسابهم، وفي سبعة يونيو سنة 1921 أُلغي تأميم كل المؤسسات الصناعية التي لا يزيد عدد العمال فيها على عشرين عاملًا. وهكذا نجد أن هذه الدعايات الاشتراكية لم تقف في مهب الريح، وثبت فشلها بعد سنوات قليلة من تطبيقها، فهي ليست -كما يقولون- فرصة ثمينة لإسعاد البشرية، ولكنها كسحابة صيف، أو فقاقيع منفوخة بالهواء انكشف زيفها، واضمحل بريقها بعد تجارب مريرة التي حاولت مخالفة الفطرة، مخالفة النفس الإنسانية السوية التي لا تحارب الدين، ولا تحارب الملكية الفردية، فمنذ تأسيس هذه الدولة الشيوعية وهي تنقل الناس من سيء إلى أسوأ، ومن طبقات متآلفة إلى طبقات متصارعة، ومن فقر وغنى، وفقير وغني إلى فقر مدقع. وهكذا ثبت بالتجربة العملية أنه لا حل إلا في الإسلام والشريعة الإسلامية. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الدرس: 7 الاشتراكية (2). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع (الاشتراكية (2)) أقسام الاشتراكية الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. الاشتراكية مذهب غريب على الناس، وعلى أديانهم، وقد نشأت هذه الفلسفة في أوربا، في ظروف وأوضاع خاصة مرت بأوربا، يقسم زعماء الاشتراكية هذا المذهب إلى قسمين: القسم الأول: يسمونه بالاشتراكية الماركسية. والقسم الثاني: يسمونه بالاشتراكية الفابية. الفابية جمعية تمت تأسيسها في لندن عام ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين من الميلاد للترويج للاشتراكية، انتشرت فيما بعد فروعها في مدن إنجلترا الأخرى، ويرجع الفضل في هذه الفابية إلى المناقشات الخاصة التي كانت تجري بين بعض المفكرين بقيادة المفكر الأمريكي "توماس دافنسون" حول الواجبات الاجتماعية، وقد اقتبس اسم الفابية من عائلة فابيا الرومانية المشهورة التي تُعتبر من أقدم أسر النبلاء في روما، تزعم هذه العائلة الانتماء إلى هرقل البطل الأسطوري. وقد برز منها عدد كبير لعبوا أدوار بارزة في روما منهم "إمبستوس فابيوس"، وهو الذي اشتهر بالأناة في تحقيق أهدافه؛ مما يعني رغبة الفابيين في تحقيق الاشتراكية عن طريق التدرج. وكان "جورج برنارد شو" من أقدم مؤسسي هذه الجمعية، والذي نحن بصدده دراسته الآن هو مذهب الاشتراكية الماركسية التي تنتسب إلى مؤسس الماركسية، وهو اليهودي "كارل ماركس"، والتي هي مقدمة للشيوعية الحمراء، ومرحلة من مراحل تطور التاريخ في تفسيره المادي للتاريخ، لكن ما يعنينا هو التفريق بين الاشتراكية الماركسية والاشتراكية الفابية ويظهر هذا الفرق من خلال ما يلي: أولًا: اشتراكية الماركسية نسبه إلى "كارل ماركس"، بينما الاشتراكية الفابية نسبه إلى أحد قواد الرومان واسمه "فابيوس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 ثانيًا: الاشتراكية الماركسية تميل إلى العنف والثورة وإراقة الدماء؛ لذلك كانت تسمى بالثورة الحمراء، بينما الاشتراكية الفابية تميل إلى الإصلاح وإلى سعادة الناس كما يزعمون، وإلى التدرج في التطور ولو أدى ذلك إلى تأخر تطبيق الاشتراكية زمنًا طويلًا. ثالثًا: الاشتراكية الماركسية تبطل الملكية الفردية وتحاربها وتعتبرها ألدَّ أعدائها بينما الاشتراكية الفابية تعترف بالملكية العامة، ولا تجيز تأمين الأرض دون مقابل، وترى الاشتراكية الفابية أن الملكية الخاصة يمكن تحويلها إلى ملكية الدولة بالطرق المشروعة. وقد خالف الفابيون أيضًا آراء كارل ماركس في نظرته للمجتمعات؛ حيث كان يقول ماركس: إنها قائمة على الصراع الطبقي. وقالت الفلسفة الاشتراكية الفابية: إن الصراع الطبقي ليس حتميًّا ولا ضرورة إليه؛ لقيام حكومة العمال كما هو مذهب كارل ماركس، ولأن الدولة عند الفابيين ليس المقصود بها تسلط فئة على أخرى، كما يرى ماركس؛ وإنما الدولة عندهم هي قوة في صالح الجميع، وترى الاشتراكية الفابية أن التغيير الثوري العنيف الذي يراه "كارل ماركس" فاشل في تحقيق السعادة للشعوب. هل الاشتراكية هي الشيوعية؟ وللإجابة عن هذا الس ؤال نقول: اختلفت وجهات نظر الباحثين فيما يظهر من كتاباتهم حول العلاقة بين الاشتراكية والشيوعية، فبعض هؤلاء الباحثين يقول: إنه لا فرق بين الاشتراكية والشيوعية، وإن الاشتراكية والشيوعية هما اسمان لمسمى واحد، وإذا سألناه عن سبب أو تعليل التسمية بالاشتراكية بدلًا عن التسمية بالشيوعية، قال: إن الشيوعية من بعد "كارل ماركس" اشتهرت بأنها شيوعية "مزدك"، فنفر منها الناس، ومن هنا صارت كلمة الاشتراكية أقل استنكارًا لهذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 لهذا جُعلت البذرة الأولى لشجرة الشيوعية خالصة، وإلا فالشيوعية والاشتراكية اسمان لمسمى واحد. ومزدك هذا الذي يقولون: عنه ظهر في فارس في أيام حكم الإمبراطور قباذ، حيث جمع مزدك حوله الصعاليك ومن انضم إليه، وكون منهم قوة كبيرة، ثم اعتنق الإمبراطور قباذ هذا الفكرة وتبنى شيوعية الأموال والنساء، حتى ما كان الرجل في هذا الزمان يعرف له أبًا؛ اشتد شر هذه الشيوعية وضررها على الناس حتى أنقذهم الله على يد أنوشروان، ولد قباذ؛ فقتل من هؤلاء جموعًا غفيرة إذ كان من أشد أعدائهم، وقتل مزدك شر قتله. أما الرأي الثاني فيقول عن العلاقة بين الاشتراكية والشيوعية: إن الاشتراكية ترمي في النهاية إلى الشيوعية، وأن الفرق بينهما يكمن في الناحية العلمية، فالشيوعية ترى أن جميع الثروات الاجتماعية مجموع يستهلك الفرد منه بقدر ما يسد جميع حاجاته، وليس فقط بقدر ما يناسب خدماته على أن هذا الحق في الاستهلاك يتوقف عند الشيوعيين على واجب الإنتاج والعمل، فمن لا يعمل لا يأكل على حد قولهم، وهي ما يعبر عنها بقولهم من كل طبقًا لكفايته ولكل طبقًا لحاجته. أما الاشتراكية فتتفق مع الشيوعية في وجوب إنشاء المجموع العام من الثروات، ولكنها تخالفها في طريقة التوزيع، فتسمح لكل فرد من الثمرات العامة بما يناسب عمله وجهده، لا بما يناسب حاجته، ولهذا يذهب بعض الباحثين إلى أنه لا فرق بين الشيوعية والاشتراكية من كل حسب طاقته، ولكل حسب حاجته. ويرى البعض الثالث أن بين الاشتراكية والشيوعية من جهة وبين الفاشستية من جهة أخرى شبهًا قويًّا، من حيث أن الاشتراكية والشيوعية ترميان كلتاهما إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 تقوية قبضة الدولة في توجيه الإنتاج، وإلى القضاء على حرية الفرد، وكذا يرمي النظام الفاشستي، وكلها الاشتراكية والشيوعية والفاشستية هي صور من صور الديكتاتورية. وقد اعتبر لينين الاشتراكية هي المرحلة التي تسبق الشيوعية مباشرة، فهي مقدمة أو تمهيد لها، معتبرًا أن الاشتراكية مرحلة أولى بينما الشيوعية هي المرحلة الأخيرة العليا، فهم يقولون: إن الشيوعية لكي تقوم يجب أن تمر بمراحل ثلاث، هذه هي عندهم حتمية. المرحلة الانتقالية: وهي انتقال البشرية من الرأسمالية إلى الاشتراكية، ثم إلى الشيوعية؛ لأن أعظم تحول في التاريخ في نظرهم هو انتقال البشرية من الرأسمالية إلى الشيوعية، ولا بد لهذا الانتقال من فترة زمنية معينة حتى تتمكن الثورة من القضاء على الطبقات المستغلة، وتأكيد سيطرة العلاقات الاشتراكية في ميادين الحياة الاجتماعية، وهي ضرورية لكل بلد يختار الاشتراكية. ثم تأتي مرحلة الاشتراكية بعد هذه المرحلة الانتقالية، وهي كما تحددها الماركسية القضاء على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، والقضاء في نفس الوقت على طبقات المجتمع المتناحرة؛ إذ إن المجتمع الرأسمالي يترك للاشتراكية وضعًا سيئًا، لا يتفق فيه إنتاج وسائل الإنتاج مع وسائل الاستهلاك؛ ولذلك فإن مبدأ الاشتراكية على كل فرد أن يؤدي حسب طاقته وأن ينال حسب عمله. هذا المبدأ يكون خطوة كبرى إلى الإمام بالنسبة إلى الرأسمالية المستغلة؛ حيث لا ينال العامل قط حسب عمله، وتوزع سلع الاستهلاك بواسطة شراء الأفراد السلع الضرورية لمعيشتهم، وتسد حاجات الجماهير الثقافية إلى الحد الأقصى بواسطة الخدمات الاجتماعية كمجانية الخدمات الطبية مثلًا، ولا بد من تقدم هائل في إنتاج وسائل الإنتاج، وأن يتخصص العمال في معرفة استخدامها، ولا بد من تطويرها بشكل أسمى من الدرجة التي بلوغها في مرحلة الرأسمالية التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 تحرم الجماهير من الثقافة والعلم، ولكن إذا لم يصبح العمل بالنسبة للإنسان حاجة طبيعية كحاجته إلى التنفس والمشي، فإن أحسن وسيلة لتشجيع التقدم وتخصص العمال هي أن ينال كل فرد حسب نوع العمل الذي يؤديه. ولهذا تصبح وعود الرأسمالية الخلابة التي تريد أن تقنع العمال بأنها تستطيع رفع معيشتهم إذا أحسنوا نوعية عملهم حقيقة في الاشتراكية بسبب زوال الاستغلال، ولكن الفرد في الاشتراكية لا يأخذ نتيجة عمله كاملًا، وذلك لأجل الاحتفاظ بقسط منها لتغطية مصاريف الإدارة والمستوصفات وغيرها؛ ففي المجتمع الاشتراكي يعطى كل فرد حسب عمله بصورة غير متساوية بين الأفراد بعد أن يؤمن لكل فرد أسباب معيشته. إذًا هم يقولون: إن الاشتراكية تختلف عن الشيوعية، ولكن ما معنى هذا التفريق؟ إذا عرفنا أن "كارل ماركس" هو الذي أنشأها وهو الذي سماها أيضًا الاشتراكية، ويسميها الاشتراكية العلمية؛ حيث يميزها عن نوع من الاشتراكية الخيالية، التي أنشأها في القدم سان سيمون ولويس ورفاقهما، والتي لم يرتضها كارل ماركس؛ حيث اعتبر اشتراكيته مرحلة حتمية لا تقبل الرفض، لأنها في نظرة نتيجة مضادة للرأسمالية التي تنبأ بأنها ستنتهي، وتحل اشتراكيته محلها. ويرى ماركس أن الدول الكثيرة مثل بريطانيا وغيرها ستعود حتمًا إلى الأخذ باشتراكيته، وستموت الأنظمة الرأسمالية في هذه الدول فكانت النتيجة على حد قول الشاعر: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا أبشر بطول سلامة يا مربع وقد احتضرت الاشتراكية في الشرق في الوقت الذي انتعشت فيه الرأسمالية في الغرب، كذلك ظن ماركس ورفاقه الأغبياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 مزاعم الاشتراكيين ودعاياتهم لأتباع المذهب الاشترا كي على اختلاف مفاهيمهم قاسم مشترك، يتفقون عليه في مغالطتهم وخداعهم للناس، محاولة تحبيب الاشتراكية إليهم، وقد تبدو الأمور التي يدعون إليها أنها فرصة ثمينة لإسعاد البشرية، ولكنها في الواقع عند التجربة -كما قلنا- تظهر كسحابة صيف، أو كفقاقيع منفوخة بالهواء، انكشف زيفها واضمحل بريقها بعد هذه التجارب التي مرت بالبشرية منذ تأسيسها؛ إذ نقلتهم هذه التجارب من سنين العشر، ومن طبقات متآلهة إلى طبقات متصارعة، ومن فقر وغنى إلى فقر مدقع، وخلاصة تلك المزاعم تتمثل فيما يلي: هم يقولون ويدعون أولًا: أنهم سيساوون اقتصاديًّا بين جميع الأفراد بلا تمييز بينهم في القومية، أو في الجنس، أو في السن. ثانيًا: يقولون: إنهم سيمحون استغلال الفرد أو الجماعة أو الدولة للفرد. ثالثًا: يقولون: إنهم سيلغون الملكية الفردية للأرض بما عليها وما فيها من كنوز وثروات، وجعلها بيد الدولة فقط، مما يسمح بتحقيق العدالة في التوزيع بين الجميع. يقولون أيضًا: إنهم سيمنحون الحق لكل إنسان أن يستخدم كل وسائل الإنتاج علمية كانت أو فنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ثم قيام الدولة الاشتراكية ذاتها؛ لتتحول إدارة الجهود والإنتاج الفردية إلى إدارة موحدة، وتصبح الدولة هي المالكة الوحيدة لجميع الثروات ووسائل الإنتاج، وجميع المرافق الاقتصادية الأخرى وتتولى استثمارها، وبالتالي تحصل السعادة المنشودة. تلك هي أهم الأمور التي تدور حول مفاهيم الاشتراكية وتحبيبها إلى الناس. وننظر في هذه الدعاوى التي يقولونها، أما المساواة الاقتصادية بين جميع الأفراد فقد حققها الاشتراكيون، ولكن على الجانب الآخر وقد استطاعوا أن يساووا بين الناس في الفقر، ولكنهم لم يستطيعوا أن يساووا بينهم في الغنى؛ لأن الهدم دائمًا أسهل من البناء وحال الشعوب في الاتحاد السوفيتي بعد انجلاء غمة الاشتراكية عنهم أقوى شاهدًا ودليلًا على ذلك، أما ما هو استغلال الفرد من قبل الأفراد الآخرين أو الجماعة أو الدولة فهي كذبة واضحة؛ حيث إن الدولة استغلت الأفراد من اللحم إلى العظم حتى أصبح الفرد مثله مثل أي قطعة استهلاكية، وأي استغلال أقوى من أن الفرد لا يأكل أي وجبة إلا ببطاقة، ولا يملك سكنًا ولا غيره إلا مع الجماعة، بل وقد يقتل بكل بساطة أمام زملائه إذا اتضح قصوره في العمل، وكذلك إلغاء الملكية الفردية للأرض نعم حققتها الاشتراكية حتى أصبح الناس كلهم لا يملكون شيئًا، وأصبحت الأرض ومن عليها من شجر وبشر ملكًا للدولة، وهو ما كان عليه الحال زمن الإقطاع تمامًا. أما منح الحق لكل إنسان أن يستخدم كل وسائل الإنتاج علمية أو فنية فنعم، ولكن عمله ليس له، إنما هو يعمل كما تعمل الآلة بل كلل ولا ملل لحساب الدولة التي أممت كل شيء، وسدت كل باب للملكية الفردية، ما دام المصب واحد فلا يضر اختلاف المجاري، أو على حد ما قاله الخليفة العباسي للصحابة: "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك". من أكبر مزاعمهم قولهم: إن الاشتراكية إنما قامت في ردِّ فعل ضد الرأسمالية إثر ظهور الثورة الصناعية التي أسهمت في شقاء العمال والكادحين؛ حيث أدت إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 زيادة ساعات العمل وانخفاض الأجور، مما تسبب في إلحاق كوارث للعمال كوارث وخيمة، وأنه لم يكن له مخرج من تلك الأوضاع ولا منقذ غير الانضواء تحت راية الاشتراكية الماركسية، ونبذ هذا النظام الرأسمالي الذي لا يرحم الفقراء، ولا يعترف لهم بحقوق لكن وضع دعاه الاشتراكية هذا يصدق عليهم المثل القائل: إذا كان بيتك من زجاج لا تراجم الناس. إذ بإمكان أي رأسمالي أن يقول للاشتراكيين: ألم تروا حال العمال والكادحين لديكم ومدى البؤس والشقاء الذي حل بهم، بالإضافة أيضًا إلى أنكم حولتم العامل من إنسانيته إلى أن جعلتموه قطعة من أدوات الإنتاج لا قيمة له، إلا من خلال سلوكه وعمله مع المجموعة، فظهر أن النظامين معًا الرأسمالي والشيوعي جائرين ظالمين لا خير فيهما، ولا رحمة حقيقية فيهما على الفقراء. قوانين الاشتراكية فالقوانين التي تقوم عليها الاشتراكية وتؤسس عليها هي مجموعة من المبادئ الجاهلية من تصورات الحقد اليهودي؛ لتجعل من قادتها آلهة من دون الله تعالى، وتجعل من البشر عبيدًا لهم ينفذون أحكامهم، ويتبعون تشريعاتهم، ومن خالف فالحديد والنار على رأسه لا رحمة لديهم ولا إنسانية. ومن أهم تلك المبادئ التي تقوم عليها الاشتراكية: أولًا: إظهار الإلحاد وإنكار وجود الخالق -سبحانه وتعالى، فهي فلسفة مبنية على المادية أساسها: لا إله، والحياة مادة، والمادة هي أولًا وهي آخرًا، لا أول لها ولا آخر. ثانيًا: إنكار الأديان وكل ما جاءت به الأديان من تشريعات، إذ إنهم يعتبرون الدين أمرًا واجب الإلغاء لاعتبارات عدة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 أحد هذه الاعتبارات: أنه خرافه، ونحن الآن في عصر العلم، فقد كان الباعث على الدين في نظرهم هو جهل الإنسان بالطبيعة من حوله، وعجزه عن السيطرة عليها، فتخيل هذا الإنسان وجود قوى خفية تسيطر على هذا الكون، وتجري الأحداث فيه؛ وراح يسترضي هذه القوى ليدفع أذاها عنه، فتقرب إليها بالشعائر التعبدية بتقديم القرابين، ولما كانت البشرية اليوم قد شبت عن الطوق وتعلمت من العلم ما تعرف به قوانين الطبيعة تسيطر به على البيئة؛ فقد آن أن تتخلص من هذه الخرافة غير اللائقة بالإنسان المتعلم. والاعتبار الثاني: عند الشيوعية لإلغاء الدين أن الدين كان ناشئًا من طبيعة الوضع المادي والاقتصادي في العهد الزراعي؛ حيث كان الدين هو جزء من عملية الإنتاج خارجًا عن سيطرة الإنسان، فتخيل وجود قوة غيبية من الإنسان ينسب إليها الهيمنة على ذلك الجزء الخارج عن سيطرته، ويروح ليتعبدها ليجتلب رضاها، ويصرف أذاها وغضبها عنه، وسمى هذه القوة التي تخيلها الله. والآن -كما يرى الشيوعيون- تغير الوضع المادي والاقتصادي، وأصبحت عملية الإنتاج كلها منظورة، وكلها تحت سيطرة العامل الذي يقوم بالإنتاج؛ فلم تعد هناك حاجة لافتراض تلك القوة الغيبية التي أصبحت الآن غير ذات موضوع. أما الاعتبار الثالث -في نظر الاشتراكية بإنكار الأديان وإلغائها-: فهو أن الدين يخالف معتقدهم القائم في نظرهم على أسس علمية -كما يزعمون، والعلم منهم براء كما قلنا، وهذا الأساس هو أن المادة هي الأصل، وأن المادة -كما قلنا- سابقة في الوجود على الفكر؛ لأن الدين يخالف هذا المعتقد؛ إذ إن الدين يقوم على أساس أن المادة مخلوقة، وبالتالي فالمادة ليست هي الأصل وليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 سابقة على الفكر، ومن ثم وجب إلغاء الدين في نظرهم؛ لأنه يصادم التصور الشيوعي الذي ينبغي أن يبقى وحده ويلغي كل ما سواه. الاعتبار الرابع -في نظرهم-: أن الدين كما يسمونه ويقولون عنه: مخدر الشعوب أو أفيون الشعوب، إذ إن المستغلين من الإقطاعيين والرأسماليين كانوا يستخدمون الدين لتخدير الجماهير؛ لكي ترضى بالظلم الواقع عليها فلا تتمرد عليه، مقابل الحصول على نعيم الجنة في الآخرة. أما الآن بعد قيام مجتمع الشيوعي الذي ليس فيه مستغلون فينبغي إلغاء ذلك المخدر الذي كانوا يستخدمونه، إذ لم تعد هناك حاجة لاستخدام المخدر. ثالثًا: إشعال الثورات والصراع الطبقي المرير بين جميع الفئات من البشر، إذ إن التاريخ عندهم -كما يقولون: مبني على الصراع بين الطبقات، وأن الطريق إلى إقامة مجتمع اشتراكي هو ثورة العمال الكادحين على الرأسماليين الظالمين. رابعًا: إلغاء الملكية الفردية تمامًا، وإحلال ملكية الدولة محلها، فهم يرون أن الملكية الفردية هي المسئولة عن كل الشرور التي خاضتها البشرية منذ أن تركت البشرية مرحلة الشيوعية الأولى، حتى دخلت مرحلة الرأسمالية، وأنها كانت خلال ذلك التاريخ كله مسار الصراع الطبقي الذي يبعث الأحقاد والاضطرابات في المجتمع البشري، وأنه لا بد من إزالة هذه الملكية الخاصة ومحوها، والرجوع بالناس إلى الملكية الجماعية التي كانوا عليها في الشيوعية الأولى؛ لكي تستريح البشرية من الصراعات والأحقاد، وتعيش في طمأنينة وسلام. وهم يقولون: إن الملكية الفردية ليست نزعة فطرية، بل أنه لا توجد نزعات فردية على الإطلاق والملكية الجماعية هي الأصل عندهم لحياة الإنسان، ولكن ليس معنى الملكية الجماعية أن أي مجموعة من الناس يملكون، أو يمكن أن يملكوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ما تحت أيدهم من وسائل الإنتاج وأدواته ملكية مشتركة، كأن يملك العمال المصنع الذي يعملون فيه؛ إنما معنى الملكية الجماعية أن الدولة هي المالك الوحيد للإنتاج كله بوسائله وأدواته وناتجه؛ فالدولة هي التي تملك المصانع وإنتاجها كما تملك المزارع ومحاصيلها، يقول كارل ماركس: "لقد دقت ساعة النظام الرأسمالي وآن للمغتصبين أن تنتزع ملكياتهم، وعندئذٍ تقوم ديكتاتورية البروليتاريا التي تصل بالنظام الاقتصادي أن يكون لكل منتج ثمار عمله حتى تزداد الغلة، فيكون لكل حسب حاجته، وإذ إن الإلغاء الكامل لم يتم فاكتفت الاشتراكية بملكية الدولة لوسائل الإنتاج، وأبقت على ملكية الأفراد للسلع الاستهلاكية، كذلك نادت الشيوعية بإلغاء العملة، ولكنها في التطبيق الاشتراكي لا تزال تعترف بالعملة". خامسًا: محاربة الأسرة وإحلال الإباحية محلها، وذلك لتفتيت أواصر المجتمعات فهم يقولون: إن الأسرة لا تشكل كيانًا اجتماعيًّا خالدًا، إذ إن الأسرة قد طرأ عليها تبدلات عديدة عبر القرون، وهذه التبدلات وهذا التطور يتحدد في التحليل الأخير للعامل الاقتصادي؛ فالعامل الاقتصادي هو سبب هذا التبدل وهذا التحول، يقول إنجليز في كتابه (أصل الأسرة): "إن الأسرة مرت بأربع مراحل؛ أسرة الجيل وفيها كانت العلاقات الجنسية مباحة بين أبناء الجيل الآباء، والبنات، والأخوة والأخوات، وأسرة الجيل هذه قد انقرضت، ولا أدري من أين أتى إنجليز بهذه المرحلة؛ لأنه ليس عليها دليل؛ لأنه كما يقول قد انقرضت، ولأن أحسن الشعوب التي يتحدث عنها التاريخ لا تمدنا بأمثله عن هذه الأسرة حتى يمكننا التثبت منها، فهو يبني نظريته على وَهْمٍ كباقي قوانينه وكباقي إدعاءاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 أما المرحلة الثانية من مراحل الأسرة عنده فيقول عنها: "ثم حصل التقدم بحرمان الإخوة والأخوات من العلاقات الجنسية المتبادلة، وبالتدريج في جميع أشكال الأسرة لم يكن الوالد يُعرف معرفة أكيدة، أما الوالدة فتعرف بالتأكيد. ثم كانت المرحلة الثالثة التي يعيش فيها الرجل مع المرأة الواحدة، وإن تعددت الزوجات، لكن تعدد الزوجات والخيانة الزوجية تظل من امتيازات الزوج كما يقول لأسباب اقتصادية. ثم تأتي مرحلة الوحدانية التي تقوم على سيطرة الرجل، وهدفها إنتاج الأولاد، ولا بد من تحديد نسبهم لكي ينالوا حقهم من الإرث، أما الأسرة التي يريدون أن يصل إليها المجتمع الاشتراكي أو الشيوعي فيحددها إنجليز بقوله: "إن العلاقات الجنسية ستصبح مسألة خاصة، لا تعني إلا الأشخاص المعينين، إن المجتمع لن يتدخل فيها، وهذا سيكون ممكنًا بفضل إلغاء الملكية الخاصة، وبفضل تربية الأولاد على حساب الدولة، ولذلك ينخفض القلق الذي يستحوذ على قلب الفتاة من جراء العواقب التي تعوقها عن حرية الوصال الجنسي شيئًا فشيئًا، ومن ثم نشوء رأي عام أكثر تساهلًا فيما يتعلق بشرف العذارى وعار النساء، يقول لينين: نحن لا نؤمن بالأفكار المثالية عن الأسرة التي تنادي بجعل الأسرة ذا كيان خاص له استقلاله، نحن لا نؤمن بهذه المثالية التي تشجع على جعل الوطن مجموعة من الأسر المستقلة، إن الأسرة في نظرنا ليست سوى أفراد مستقلين نحدد لكل منه دوره في المجتمع. السادس: من قوانين الاشتراكية: محاربة الحريات الفردية. والسابع: الالتزام بنظام التأميم. الثامن: أن قيمة السلعة من قيمة العمل، وفي هذا أخذ كارل ماركس عمن سبقوه ريكاردو وآدم سميث، لكنه أضاف عليهم أن قيمة السلعة إذ تتحدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 بالعمل المبذول لإنتاجها، فأن هذا العمل ينبغي أن يكون ضروريًّا من الناحية الاجتماعية، بمعنى أن كل ما ينتجه العامل ينبغي أن يكون ذا نفع لفرد ما. التاسع: قوانين الاشتراكية هو قانون يسمى فائض القيمة، وقد كان علماء الاقتصاد الإنجليز يرون أن مستوى الأجور يقرره الوقت اللازم الكافي لإعالة العامل، لا شأن لذلك بالقدر الذي ينتجه العامل، فقوة العامل سلعة فريدة من نوعها؛ لأن العامل ينتج إنتاجًا يزيد عما يحتاجه لإعالة نفسه، وروى أنه إذا أخذ أكثر مما يبقيه حيًّا سيزيد إنجابه، مما يترتب عليه المجاعات والحروب، واستغل ماركس ذلك في شحذ أسلحة الصراع؛ حيث رتب على وجود هذا الفرق أن يكون العامل ضحية لاستغلال صاحب العمل؛ نتيجة للفارق الكبير بين أجره وقيمة ما ينتجه. ثم رتب نتيجة أخرى خاطئة، وهي أن أصحاب الأعمال وملاك الأراضي يعيشون على حساب أناس آخرين، وهم لا يقدمون لهم ما يقابل السلع التي يتلقونها، أو أنهم يعيشون على دخل لم يكسبوه، وبهذا تنشأ الدخول الأخرى غير الأجور المكونة من الإيجار والفائدة والربح، أو ما يسمى فائض القيمة. ويرى ماركس أن قصة رأس المال هي قصة استغلال الإنسان، فقد كان استعمال الإنسان للعصي والآلات الحجرية تجعله في حاجة إلى التعاون؛ ليكمل نقصه في صراعه ضد الطبيعة؛ لذلك سادت العلاقات التعاونية المشتركة في تلك الحقبة البدائية من التاريخ، ولكن لما انتقل الإنسان إلى استعمال القوس والسهم والفأس ساد نظام العبودية بين الناس؛ لأن الناس أصبح معهم من الأسلحة ما يساعدهم على إخضاع الآخرين، وقد أتاحت الزراعة للإنسان أول مرة أن ينتج أكثر مما يستهلك، الأمر جعل هناك فائضًا رغب الأقوياء في استغلال الضعفاء لحسابهم؛ ليأخذوا منهم فائض القيمة ظلمًا وعدوانًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وقد استخلص ماركس من نظرية فائض القيمة ثلاثة قوانين: أولها: قانون تجميع رأس المال، ذلك -كما يقول ماركس- إن التنافس يؤدي إلى تشغيل الآلات التي توفر العمل ليضمن فائض قيمة نسبية، ويعني هذا في المدى الطويل هبوط في قوة العمل المطلوبة ويزيد من إنتاج السلع، إلا أن زيادة رأس المال الثابت ونقص رأس المال المتغير يؤدي إلى أن ينقص ربح العمل؛ لأن العمل هو مصدر القيمة الوحيد. وثاني هذه القوانين: هو قانون تركيز رأس المال: فالتنافس -كما يقول ماركس- يؤدي إلى قتل الرأسماليين الصغار؛ حيث إن صغار الرأسماليين تضعف قوتهم التنافسية لعدم قدرتهم على شراء الآلات، مما يؤدي إلى اختفاء الرأسمالي الصغير، ونمو المؤسسات الضخمة عن طريق التكتلات والتجمعات، وبهذا تصبح وسائل الإنتاج تبعًا لذلك متزايدة متركزة في أيدٍ قليلة تحتكر الإنتاج. وثالث هذه القوانين: هو قانون زيادة البؤس؛ إذ إن النتيجة اللازمة للقوانين السابقة أن يتجه الرأسماليون إلى زيادة استغلال العمال؛ للحصول على أكبر قدرًا من فائض القيمة المطلق، ويؤدي زيادة استغلال الآلات إلى تعطيل العمال، وتكوين احتياطي كبير من العمال يتنافس على فرص العمل. وهذا يؤدي إلى زيادة خفض الأجور، ويضعف من قدرة العمال على المساومة. ومن الملاحظ أن الاشتراكيين قد تراجعوا بالنسبة للملكية الفردية نوعًا ما، فقد أخذوا بالحافز الفردي بعد انهيار الإنتاج المؤمن؛ إما بملكية جزء من إنتاج الفرد لنفسه أو مكافآت، خصوصًا في المجالات الزراعية التي يصعب على الدولة مراقبتها بدقة؛ لأن منع الملكية الفردية أمر يتنافى مع فطرة الإنسان وطموحة، ولذلك فقتلها مستحيل، أما المقصود بقيمة السلعة من قيمة العمل فهو أن العمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 لا يُبذل إلا في شيء له نفع اجتماعي يحدد قيمة تلك السلعة، بمعنى أن قيمة العمل والجهد الذي يأخذه هو الذي يحدد قيمة السلع هبوطًا وارتفاعًا، ولكن فاتهم أن العمل ليس هو العنصر الوحيد لقيمة السلع؛ إذ أن ندرة الشيء تجعله غاليًا كالذهب والماس، وكذا الماء حين تشتدُّ الحاجة إليه، وغير ذلك من الضروريات التي قد يتضاءل العلم في قيمتها، كما أنه قد يبذل العمل القليل في صناعة شيء يفوق في القيمة أضعاف ما يُبذل في العمل الكبير. وأما فائض القيمة فيراد به الفصل بين الأجر المستحق عن العمل المبذول وبين ما يحصل عليه العامل من الأجر، أو هو الزيادة الذي يبتزها صاحب العمل من العامل نتيجة إعطائه أجرًا لا يساوي جهده المبذول. فإن معدل ما يقدمه العامل من جهد هو أكبر مما يناله من الأجر، أو المقصود بها الشيء الزائد عن قيمة السلعة الحقيقة الذي هي حق للعامل؛ بينما يأخذها الرأسمالي كجزء من القيمة وفائضها يذهب له، لا للعامل. ولكن نظرة ماركس هنا قاصرة ينقصها ما وقع بعد عصره من تشغيل الآلات التي لا يساوي عمل الفرد شيئًا إلى جانبها، وهل عمل المهندس الفني الذي يدير مجموعة آلات يتساوى مع عامل الفلاح؛ بحيث يتساويان في الأجرة أو قيمة الناتج، وفائض القيمة اليوم هو حق الآلة التي تعمل ذاتيًّا وليس حق العامل، إذا كانت الماركسية تدافع عن فائض القيمة التي يبتزها الرأسمالي صاحب العمل؛ فإن هذا الفائض في المذهب الاشتراكي يذهب تمامًا إلى الدولة التي أممت كل شيء؛ فلم يحصل العامل على حقه الفائض لا في الرأسمالية ولا في الاشتراكية، ولعل الاشتراكية تخدعه وتنميه بالكذب، فالعامل فيها يكدح، يعمل طويلًا في مقابل ما تعطيه الدولة من المأكل والمشرب، والملبس، والسكن المتواضع جدًّا، وهو أقل مما يبذله من العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وأما قانون تكدس رأس المال فإنه يراد به حماية العامل في حال إقامة المصانع والمشاريع الكبيرة، وسيطرة أصحابه على السوق؛ حيث تبقى المصانع الصغيرة أو المشاريع الصغيرة غير قادرة على منافسة الكبيرة، وبالتالي يخسرها أصحابها، فتتكدس الأموال بين فئة الأغنياء من جراء ملكيتهم لهذه المصانع، وملكيتهم لفائض القيمة. ويرد على هذه الفكرة أن المشاريع الصغيرة قد تصل إلى الأماكن النائية التي لا تستطيع المشاريع الكبيرة الوصول إليها، ومنافستها فيها، ثم إن الأعمال الصغيرة قد تأخذ شهرة أكثر من الكبيرة من حيث الإتقان والجمال، ولهذا تجد العمل اليدوي في مجالات كثيرة لا يزال ذا قيمة أكبر في المجتمعات، وفي أثمان السلع. كما أن المشروعات الكبيرة في أغلبيتها تأخذ شكل شركات مساهمة قد يسهم فيها مئات بل آلاف، من ثم توزع رأس المال ولا يتكدس، فوق ذلك كله يقال لهم: إن الله تعالى وإن لم يؤمنوا به هو الذي قسم الأرزاق {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32)، ولهذا تجد أن الفقير والغني كلاهما يأكلان من فضل الله، وصدق المتنبي حيث قال: ولو كانت الأرزاق تجري على الحجى هلكن إذًا من جهلهن البهائم وصل ِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 الدرس: 8 الاشتراكية (3). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن (الاشتراكية (3)) خداع الاشتراكيين في زعمهم أن الاشتراكية لا تتعارض مع الإسلام الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: الاشتراكية وخطورتها وخداعها: يتظاهر كثير من المخادعين دعاه الاشتراكيين بأنهم إنما يؤيدون الاشتراكية لأنها تحمل الرحمة للفقراء، وتحمل الكبت للأغنياء، ولأنها فوق كل اعتبار لا تتعارض مع الإسلام، ولا تتعارض مع الأديان، وهي تلتقي مع الإسلام في مبادئ كثيرة مثل اشتراك الناس في الماء العام، وفي الهواء، وفي الكلأ النابت في الأرض، تشترك مع الإسلام في النفقة الواجبة -كما قلنا- في نظام الأسرة الإسلامي، تشترك مع الإسلام في الزكاة المفروضة في الشريعة الإسلامية، ونقول بأنه وبغض النظر عن صحتها هذه الدعاوى أو كذبها فإن مجرد التوافق في التسمية لا يكون توافقًا في الحقيقة، وإلا لكانت كل الاختلافات لا قيمة لها؛ لأنه ما من مختلفين في قضية من القضايا ألا وتجد بينهما توافقًا ما، فإقرار الإسلام لتلك الأمور وغير إقرار الاشتراكية لها، ترتيبه لها غير ترتيب الاشتراكية لها، مفهومه غير مفهوم الاشتراكية. اشتراك الناس في تلك الأمور في الإسلام هو اشتراك مودة ورحمة وإخاء وتسامح؛ بينما هو في الاشتراكية حق واحد للسبع الكبير الذي هو الدولة تؤخذ منها شبعها، ثم تسمح بالباقي للآخرين في مقابل -كما يقولون- من لم يحترف لم يعتلف. وفوق كل ما تقدم نقول لمخادعي الاشتراكية: من أين جاء الإسلام؟ من أين جاء الاشتراكية؟ وهل يلتقي التشريع الإلهي والتشريع البشري على حد سواء؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 إن الإسلام لا يعترف بأي نظام جاهلي وضعي، فكيف يقال: إن الإسلام يعضده ويوافقه سواء أكان اشتراكيًّا أو رأسماليًّا أو شيوعيًّا، إنه من الكذب والافتراء الفاحش القول بأن الإسلام يتوافق مع الاشتراكية أو غيرها من هذه الأنظمة الجاهلية. إذا سلمنا جدلًا بتوافق الإسلام مع تلك الأنظمة، فما هو السبب في قتل الاشتراكيين الشيوعيين للمسلمين في الاتحاد السوفيتي قتلًا لا يتصور العقل أهواله، ودمارًا لا حد له، ولقد حاربوا الإسلام حربًا شعواء وهدموا المساجد، وحاربوا وجود أي كتاب إسلامي على امتداد البلاد السوفيتية، وأصبحت تهمة الشخص بأنه مسلم كافية لإباحة دمه، وتدمير منزله حتى تناقص أعداد المسلمين وعدد مدارسهم وعدد مساجدهم تناقصًا مذهلًا، فما هو جواب هؤلاء عن هذا؟ ما هو جواب الاشتراكيين عن هذا السلوك؟ ألم تنكشف خدعهم للعالم أجمع؟ ألم تظهر الحقيقة لكل ذي رأي وعين أن العداوة بين الحق والباطل دائمًا على أشدها؟. ومن الأدلة الواضحة على بُعد الاشتراكية عن الإسلام ما نراه من الفشل الذريع الذي مُنيت به الاشتراكية في ديار المسلمين، رغم ما يبذله أقطابها من مغريات جمة؛ لإنعاشها بين المسلمين، ذلك أن الإسلام والمسلمين ينفرون منها ويرفضونها جملة وتفصيلًا. ثانيًّا: أنها لم تنجح إلا في أوساط المتخلفين اقتصاديًّا وثقافيًّا ودينيًّا، أو في أوساط المتسلطين المتزلفين إلى أقطاب الاشتراكية، أو يتبعها كافر حاقد، أو إباحي مجرم، أو جاهل بحقيقتها. أما ما نسمعه من نجاحها في بعض البلدان العربية فإنما هي دعايات وزوبعات مؤقتة ورائها الحديد والنار، ثم انجلت الغمة عن تلك البلدان، فإذا بالاشتراكية وأقطابها قد اندحرت، ولنا في دخولها البلدان ونهايتها، وفي دخول الإسلام البلدان المفتوحة وبقائه فيها خير شاهد على مدى الفرق بينهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 كيفية غزو الاشتراكية لبلدان المسلمين من المعروف أن الأفكار تنتقل وتتسرب من شخص إلى آخر من أمة إلى أمة دون أن تحدها حدود، فهي تتغلغل، وتنتقل في الوقت الذي يتهيأ لها -كما يقال-: لكل صائح صدى مهما كان قبح صوت ذلك الصائح، فقد وجدت الاشتراكية القبيحة طريقًا إلى آذان بعض من تقبلها تحت أسباب متعددة، وذرائع مختلفة، وإغراءات براقة، والذين تقبلوها -كما قلنا- إما طلاب دنيا لهم أغراض في الوصول إلى الزعامة أو الثراء، أو هم من أصحاب الحقد الشديد على الأغنياء فيريدون النيل منهم، أو هم من الجهال الذين ينعقون بما لا يفقهون، ويصفقون لما لا يدركون حقيقته، أو هم إباحيون لا يريدون أن يحدهم دين أو شرع عن الوصول إلى شهواتهم، وهؤلاء العملاء قد يكونون تحت مسمى الإسلام، ومن العرب أو من غيرهم، لكنهم أشد عداء للإسلام أو المسلمين، باعوا دينهم وضمائرهم لأقطاب الاشتراكية الماركسية، وكونوا من أنفسهم طابورًا سريًّا، وفي الصف الأول في الهجوم على الدين ومن يمثله من أبناء جلدتهم، وبالإضافة إلى أن هؤلاء جواسيس على أمتهم ودينهم؛ فهم كذلك دعاة ترغيبًا وتحسينًا لوجه الاشتراكية الكالح، يرددون الشعارات تلو الشعارات، والمدائح تلو المدائح إما تصريحًا وإما تلميحًا تحت دعاوى كثيرة باطلة؛ إما دعوى إنصاف الفقراء والمظلومين، وإما دعوى التحرر، وإما دعوى التقدم، وإما دعوى نبذ الرجعية والجمود والتخلف، ولحوق ركب الحضارة الغربية أو الشرقية، وغير ذلك من الشعارات البراقة، والخطب الرنانة الفارغة لكل ما لديهم من قوة صاحب السلطة لسلطته، صاحب القلم والرأي بقلمه ورأيه، صاحب نشر الفحشاء والسوء بأسلوبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 فكم ألصقوا من التهم الشنيعة لشرفاء هم أنظف من الزجاجة، وشوهوا سمعتهم بما اختلقوه من التهم والألقاب المنفرة ضدهم وكم قرب الاشتراكيون من صعاليك سفهاء، وكم أبعدوا من أولى الحجا حتى صارت كلمة السفهاء وأصحاب الخنا هي المسموعة في وسائل الإعلام، وسائل إعلامهم المختلفة من مرئية ومسموعة ومكتوبة، وأبعدت الكلمة الصالحة، وجعلوا دون نشرها حجبًا كثيرة، وأبوابًا مغلقة؛ لئلا تفتح القلوب وتزيل غشاوة أبصار من افتتنوا بها. أما بالنسبة لغزو الاشتراكية للبلاد العربية فقد بدأ ظهورها في مصر فسورية ولبنان في صورة ليست قوية، إلى أن تبناها رئيس مصر، وتبنى هذه الاشتراكية ونشرها، وأحيط بها له من التغطية حيث كاد أن يدعي ما ليس له بحق، ثم بعد أن على اسمه صار يلقب بأبي الأحرار ورائد الأمة، وما إلى ذلك من الأسماء كان بعضهم يصرح بقوله: لم نهزم وناصر بيننا. وقد انتعشت الاشتراكية العلمية التي اختارها جمال عبد الناصر طريقًا، قال الكتاب المتزلفون: وأطروها مدحًا، وجاءوا بخدع لا نظير لها لتحبيبها لقلوب المسلمين، ومن الملفت للنظر أن دعاة الاشتراكية العربية تناقضوا مع أنفسهم تناقضًا فاحشًا، وبينما هم ينادون بالاشتراكية العلمية، إذا بهم يقولون: إنها ليست الاشتراكية الماركسية، وهل هناك اشتراكية غير اشتراكية ماركس التي سماها كذبًا وزورًا علمية. وهل المغالطون يزعمون أن اشتراكيتهم علمية لكنها ليست هي الماركسية، فأي اشتراكية علمية هذه التي ينادون بها، ولو على سبيل الافتراض فإن قبلنا زعمهم أن اشتراكيتهم علمية ولكنها ليست ماركسية، أليست هذه الاشتراكية أيضًا التي ينادون بها هي نفسها مبادئ الاشتراكية الماركسية لا تختلف عنها، اللهم إلا في اختيار بعض الألفاظ ليغالطوا بها السُّذَّج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وأما كذبتهم الكبيرة التي يزعمون فيها أن اشتراكيتهم هي نفسها مبادئ الإسلام {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (الكهف: 5). فهل يمكن أن يجتمع الليل والنهار في وقت واحد؟! ما تمسكوا به من أن مبادئ الاشتراكية الماركسية تتوافق مع كثير من مبادئ الإسلام، فهو من باب تمسك الغريق، أو حجة من لا حجة له. ثم ما أكثر التشابه بين الآراء المتضادة، ومع ذلك لا يصح القول إن هذا التشابه يجعلها متفقة غير مختلفة كما سبق القول، وإن أول ما يكذبهم فيما زعموه وأن الاشتراكية الماركسية تدعو إلى الثورات المتلاحقة، الصراع الطبقي بكل شدة بينما الإسلام لا يدعو إلى شيء من ذلك، بل يدعو إلى الهدوء والمحبة والعطف والبر والإحسان والصدقات، فأين وجه الشبه بينهما؟! كما يكذبهم كذلك اعتقادهم أن الملكية الخاصة يجب أن لا يبقى لها أي مكان، وإنما هي الملكية العامة التي تكون بيد الدولة فقط، فالإسلام يحترم الملكية الخاصة والملكية العامة، وينظم الجميع تحت مبدأ ((لا ضرر ولا ضرار))، فأين وجه الشبه بينهما؟!. كما أن الاشتراكية الماركسية تسلب حريات الناس، وتكمم أفواههم، تفرض تعاليمها فرضًا بالحديد والنار، بينما الإسلام يحث على الحرية ويدعو إليها، ويحث على الجهر بالحق في حدود الشرع والمصلحة العامة. فأين وجه الشبه بينهما. وإنك لتندهش حقًّا وتعجب أشد العجب من عملاء الماركسية حينما يزعمون أن الاشتراكية متوافقة مع الإسلام، ومع فطرة كل شخص، وأن الشعوب رضيت بها، واعتنقتها، ورأت فيها ضالتها المنشودة. قبح الله هؤلاء الكذابين الأفاكين؛ أليست الشعوب التي يزعمون أنها تقبلتها تلعنهم ليلًا ونهارًا؟! وأي شخصًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ارتاح إليها وهو يعلم أنها ستسلبه أرضه، ومسكنه يعيش على بطاقة تصرفها له الدولة يتغدى بها ويتعشى بها ويلبس بها، ويقضي بها حاجته، ثم يكون عودًا ضمن الحطب. ما أشد جرأه هؤلاء الكذابين الذين يكذبون على الناس علانية دون حياء أو خجل، فلو لم يكن للشعوب إلا تمسكهم بالإسلام لكان كافيًا في ردها ولعنها، كيف وقد انضاف إليهم الفقر الذي يتهدد معتنقيها بين عشية وضحاها، ولهذا تجد تلك الشعوب المسلمة تقول بكل حزم وعزم حينما تسمع أحد عملاء الاشتراكية الماركسية يقول: إن الإسلام يؤيد الاشتراكية والاشتراكية تؤيده يقولون: له كذبت وافتريت أيها المخادع. بعض أساليب الدعوة إلى الاشتراكية فدعاة الاشتراكية لهم أساليب متنوعة في الدعوة إلى مذهبهم منها على سبيل المثال: أولًا: إذا وجدت مرحلة كان الاشتراكيون فيها أقل عددًا من أهل الدين وكانت القوة للدين؛ فلا حرج على الاشتراكي أن يتظاهر بكلمات التدين مع بقائه على العداء الشديد للدين وأهله، وقد أوصاهم بذلك كبار رؤسائهم. ثانيًّا: تتركز جهود دعاة الاشتراكية على محاربة كل الروابط الدينية وخصوصًا الجوانب الروحية، والتقليل من شأنها، وأن الحياة الصحيحة هي المادة التي أمامك لا غير. ثالثًا: أن يعاد تفسير كل ما قاله الدين بتفسير اشتراكي، سواء ما يتعلق منها بالقصص أو المواعظ أو الأحداث، بل وتفسير كل شيء في الاشتراكية الماركسية بأنه من الدين، أو لا يتعارض مع الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 رابعًا: تجنيد بعض رجال الدين أو كلهم، وجعلهم في مقدمة دعاه الاشتراكية، إذا أمكن ذلك؛ لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أغصانها، وهؤلاء يجب أن يكونوا على اقتناع بالاشتراكية الشيوعية، ولا حرج عليهم أن يجاهروا بعد ذلك بالتدين؛ لأن النفاق فضيلة إذا أريد به تقوية الاشتراكية الماركسية. خامسًا: استمرار النداءات بأن الاشتراكية هي التحرر، وهي رفع معيشة الشعوب، وهي نصرة الفقراء والمظلومين، وهي صرخة العمال الكادحين، وهي النور الذي لا يستغني عنه أحد ... إلى آخر هذه الدعايات الرنانة الجوفاء في حقيقتها. سادسًا: شدة مراقبة أهل الدين، وتسجيل كل ما يتفوهون به في المدارس أو في المساجد أو في اجتماعاتهم، وتخويفهم من عاقبة أي خطأ يرتكبونه ضد الاشتراكية العلمية، وأن عليهم إذا أرادوا الحياة أن يسايروا الركب. سابعًا: التهجم على الأثرياء، وأنهم طبقة مستعبدة، وأن الإسلام لا يجيز للشخص أن يمتلك الأموال الكثيرة وغيره جياع. الغرض من هذا تصحيح ما تقوم به الاشتراكية من تأميم الأموال دون وجه شرعي، ومعلوم أن الإسلام لا يمنع أن يكون بعض الناس أثرياء مهما بلغ ثراؤهم ما داموا يؤدون حق الله فيه، فالفقر والغنى كله بتقدير الله تعالى. ثامنًا: يجب على الجميع أن يأتوا بالتبريرات أو بالتبريكات لأي عملًا تقوم به الدولة الاشتراكية، وأن كل ما تفعله هو الحق والخير وكل ما تعاديه هو الشر والضرر. تاسعًا: ترديد الشعارات التي تخدم الاشتراكية في كل مناسبة، وبالتالي ترديد الذم لكل من يخالفها، وإلقاء النعوت المنفرة لمخالفيها كالرجعية والجمود، والتخلف، وإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء إلى غير ذلك من الأكاذيب التي يجيدها خدم الاشتراكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 الواقع التاريخي يبطل مزاعم الاشتراكية فقد أثبت الواقع التاريخي: أولًا: أن الاشتراكية على اختلاف مذاهبها حرب على غريزة التملك، ولا سبيل فيها لتنمية المواهب والاستفادة من العناصر المنتجة في الأمة، فالدافع الذي يدفع العامل إلى العمل دافع لا يمتُّ إلى نفسه بسبب؛ لأنه مهما أنتج وكدَّ فلا ينال من إنتاجه وكده إلا القدر الضئيل الذي يأخذه غيره، فقد حاولت المذاهب الاشتراكية ولا تزال تحاول أن تفلسف الاشتراكية فلسفة يقتنع فيها الناس بأن أموال الدولة أموالهم، حتى يعملوا بالإخلاص الذي يعمل به المرء في ماله الخاص، لا شك أن هذا خيالي يتنافى مع الإحساس الفطري، ولا يقبل المرء إلا ما يتفق مع فطرته. ثانيًّا: أثبت الواقع التاريخي أيضًا أن سوق الإنتاج التاريخي سوق كاسبه، حيث لا يتوفر الإخلاص في العمل، ولا تتهيأ عوامل الإجادة فيه، فأي حافز يحفز الإنسان الذي يعيش في مجتمع اشتراكي ببذل الجهد وإتقان الصنعة ما دام الغنم لغيره، وأكبر شاهد عملي على ذلك ما نراه من فارق بين ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية حين كانتا دولتان، فهما شعب واحد ينحدر من أرومة واحدة، وكلاهما من الجنس الجرماني، ولا مجال لدعوى تمايز فريق عن الآخر في المواهب، وهذه ألمانيا الغربية لم تمضِ عليها سوى سنوات عديدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بالتقسيم حتى غمرت الأسواق العالمية بمنتجاتها الصناعية، وأقرضت من خزينتها أكثر الدول المتخلفة، وساعدتها في مشاريعها العمرانية في الوقت الذي لا نكاد نسمع فيه شيئًا عن ألمانيا الشرقية، أو نرى أثرًا عن منتجاتها، إذا عدمت الفوارق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الطبيعية بين البلدين بأنهما شعب واحد في الأصل فإنهما لم يبقَ من فارق يُحدث هذا التفاوت إلا النظام الذي يسود البلدين، فألمانيا الشرقية قضى على عبقريتها النظام الشيوعي، في الوقت الذي انطلقت فيه ألمانيا الغربية الرأسمالية من عقالها لتستعيد قواها، وتسترد مجدها الصناعي. وقد يقال: إن الدول الغربية تعمل على تقوية ألمانيا الغربية وتمد إليها يد المساعدة، لكن الأمر بالمثل كذلك في ألمانيا الشرقية التي وقعت في السور الحديدي لروسيا الشيوعية، وهذه هي منتجات المعسكر الشيوعي في الأسواق لا تجد فيها من الجودة ما تجده في المنتجات الأخرى. ثالثًا: أثبت الواقع التاريخي أيضًا أن المعسكر الاشتراكي لا يحكم إلا بالحديد والنار، فما من دولة اشتراكية استتب لها النظام في الظاهر إلا بالحكم الاستبدادي، وتحت ستار الديكتاتورية الاشتراكية تقتل الحريات، وتهدر الكرامات، وتراق الدماء، ويؤخذ الناس بالظنة، يساقون إلى عوالي المشانق ومظالم السجون دون أدنى شبه. وما حوادث المجازر البشرية في المجر وغيرها ببعيدة عن الأذهان، وهذا يعني في الحقيقة أن الاشتراكية نظام فاشل يُخالف الطبيعة البشرية، فلا يمكن لأصحابه أن يستقر لهم قرار إلا بسلطان الظلم والجبروت، وما من دولة تقترب من المعسكر الشرقي الشيوعي في أنظمتها إلا استبد الحاكمون فيها، وأذاقوا أمتهم العذاب الهون، ووضعوا على عاتقهم نير الخسف والذلة. رابعًا: أثبت الواقع التاريخي أيضًا أن الاشتراكية لم تحقق المساواة التي تترنم بها، وتغري ببريقها الخادع الشعوب الفقيرة، فإن رجال الحزب الشيوعي الرسميين لا يبلغون عشر معشار الشعب، وهم الذين بيدهم أزمة الأمور، ولا يتمتع أحد سواهم بحق في الأمة، ومجلس السوفييت الأعلى لا يقول إنسان: إنه يعيش في مستوى من رؤساء أفخم الممالك في العالم بينما يقول حقد نفوسهم، ولا يؤمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 رئيس مجلس السوفيت على نفسه من أقرب الناس إليه، وإن أردت دليلًا على ذلك، فإليك مثلًا ستالين الذي كان في يوم من الأيام إله للشيوعيين، ثم عادوا إليه فحطموا آثاره، وأهالوا عليه تراب التهم والسباب واللعان، وهكذا {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} (الأعراف: 38). خامسًا: أثبت الواقع التاريخي أن الاشتراكية حرب على الأديان، فهي تنكرها من أصلها، وتعتبرها خرافة، ما سمحوا به في الأيام الأخيرة من فتح بعض المساجد والكنائس القديمة التي لم تحطمها الثورة الشيوعية ما هو إلا ذر للرماد في أعين الشعوب المحافظة على دينها، حتى تنساق وراء الاشتراكية بدافع من الجري وراء لقمة العيش، التي تغذيها المسغبة في كثير من أنحاء بلاد العالم، هم يتخذون هذا للدعاية فقط، حين يقدم زائر مسلم كي يرى مساجد مفتوحة وناسًا يؤمونها للصلاة فيها، ولا يعلم هذا الزائر أتفتح المساجد بصورة دائمة أم لا، ولا يجرؤ أحد من الذين يعيشون في ظل النظام الشيوعي أن يقول الحق، ثم إنهم حين يفعلون ذلك لا يسمحون بدراسة الدين في المدارس، أو يبيحون لأصحاب الأديان أن يعلموا أبناءهم الدين، فهم يعتبرونها بقايا أثرية للأديان تعرض في المناسبات كما تعرض الآثار في المتاحف. الأدلة على بطلان الاشتراكية، ونظرية التملك في الإسلام الأدلة على بطلان الاشتراكية: فذكر كثير من العلماء أدلة كثيرة على بطلان المذهب الاشتراكي، ومنهم مثلًا ما أورده الشيخ العثيمين في كتابه (الأدلة على بطلان الاشتراكية)، قد جمع أدلة كثيرة نذكر بعضها على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الوجه الأول من أوجه بطلان المذهب الاشتراكي: أن هذا المذهب الاشتراكي لم يكن موجودًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد خلفائه الراشدين، ولا في من بعدهم من الممالك الإسلامية، وحينئذ فإما أن يكون الحق فيما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون ومن بعدهم من ولاة المسلمين وأئمتهم، أو فيما كان عليه هؤلاء الاشتراكيون، والثاني باطل قطعًا. وإلا لزم أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون وأئمة المسلمين من بعدهم كانوا على ضراء وجور، وهضم للشعوب حقوقها حتى يأتي أفراخ الشيوعية، وبعد مضي ثلاثة عشر قرنًا وأكثر من ثلاثة أرباع القرون، فيسيروا في عباد الله السيرة التي يرضاها الله، سيرة مبنية على العدل والرحمة، وإيصال حقوق الشعوب إليها بسلب الشعوب ونهبها، وسومها سوء العذاب، وقتل مواهبها، وإلقاء العداوة والبغضاء بينها، هذا هو العدل، وهذه هي الرحمة، وهذا هو إيصال الحقوق لأهلها، وهذا هو الصراط المستقيم الذي خفي على محمد بن عبد الله رسول رب العالمين، وأعدل الخلق وأورعهم صلى الله عليه وسلم، وخفى على خلفائه ومن بعدهم من أئمة المسلمين وولاتهم، أو كان معلومًا عندهم، ولكن عدلوا بالخلق عنهم ظلمًا وعدوانًا وخيانة وغشًّا. الوجه الثاني من أوجه بطلان المذهب الاشتراكي: إجماع المسلمين على تحريم أخذ المال بغير حق، وهو مما عُلم بالضرورة من دين الإسلام، فهو إجماع قطعي صحيح مستند إلى الكتاب والسنة. الوجه الثالث من أوجه بطلان الاشتراكية: قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 188)، وأي باطل أبطل من أن يأخذ المال من بين يدي من اكتسبه وحصله بعرق جبينه، وكدح جوارحه، وأتعب أعصابه وتفكيره، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 يعطى لرجل عاطل عالة على المجتمع ليس له في تحصيله أدنى يد، هذا إن أعطيه، ولكن من نظر إلى سيرة هؤلاء الاشتراكيين وجد أن هذين الصنوين إنما يعطون الشعب النذر القليل، والباقي يصرفونه في الدعاية لأنفسهم، وبث العيون والدسائس، وتقوية الدفاع الذي لا يُقصد به إلا حماية سلطانهم، وسيطرتهم على الشعوب ومقدراتها، والله من ورائهم محيط. وتأملوا قوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تجد أنه حرم أكل الأموال سواء أكان ذلك مباشرة وصراحة من النهب والسرقة، أم كان ذلك بواسطة الحكام وسلطتهم، حتى ولو على وجه ظاهره الحق كما يدل عليه. الوجه الرابع من أوجه بطلان الاشتراكية: قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)) أخرجه البخاري ورواه الجماعة من حديث أم سلمة -رضي الله عنها، فإن الخصمين إذا أدلى كل واحد بحجته وكان أحدهم أفصح وأغلب في ظاهر كلامه قُضي له بحسب ظاهر كلامه. سُلط على ما يدعيه على خصمه، ولكن هذا القضاء والتسليط إن كان من قبل الحاكم لا يبيح له أخذ ما يدعيه إذا كان يعلم أنه لا حق له فيه. في هذه الآية والحديث دليل على أنه لا يجوز للشعب أن يستبيح مال الغير بحجة أن الحكومة أباحته له، بل يجب عليه أن ينكر هذا الحكم، وأن يراقب الله تعالى، وأن يكون أمر الله شرعه أعظم في قلبه من كل أمر من كل تشريع وقانون، وليعلم أنه إذا عظم أمر الله وقام بوجه من خالفه طلبًا لمرضاه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ونصرة لدينه، فإن الله سوف ينصره ويظهره على خصمه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40)، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 10). الوجه الخامس من أوجه بطلان الاشتراكية: أن النظام الاشتراكي يتضمن مضادة الله في قدره وقضائه وحكمته، فإن الله قضى بحكمته ورحمته أن يقسم الرزق بين الناس، وأن يميز بينهم، ويرفع بعضهم فوق بعض درجات لحكم وأسرار عظيمة، منها تسخير بعضهم لبعض؛ حيث يعمل كل منهم بما يلائم حاله، هذا بالتجارة، وهذا بالصناعة، وهذا بالحرفة، وهذا بالجيش إلى غير ذلك من المصالح المشتركة التي لا تقوم القيام التام إلا باختلاف طبقات الناس. من هذه الحكم أيضًا أن الغني يعلم قدر نعمة الله عليه بالغنى، فيقوم بالشكر، والفقير يعرف قدر ابتلاء الله له بالفقر فيقوم بالصبر، ومنها التفكر في هذا التفاضل الحاصل في الدنيا بين الناس في الغنى، فيعبر الإنسان البصير من هذا التفاضل والتفاوت إلى التفاضل والتفاوت في الآخرة، فيلتفت إليها، ويزداد طلبًا لها كما قال تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} (الإسراء: 21). ومنها بيان مقتضيات الربوبية التامة، وأن الرب سبحانه بيده أزمة الأمور {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الشورى: 12). ومنها قيام العبادات التي لا تكون إلا بين غني وفقير كالزكاة والصدقات والكفارات والنفقات ونحوها، ومنها انتظام الخلق وجريانه على سنة واحدة، وإن الله سبحانه بحكمته أجرى التفاوت بين خلقه في الذوات والصفات والبقاء والعدم، فانظر إلى الدارين الأولى والأخرى تجد التفاوت العظيم بينهما، وانظر إلى ما في هذه الدنيا من العالم العلوي والسفلي تجد التفاوت بين أجناسه وأنواعه وأفراده، وانظر إلى بني آدم تجد التفاوت بينهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الدين والعقل والأخلاق والعلوم والآجال، فقدر الله بينهم كذلك في الأرزاق، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم)). فهذه من الحكم التي رتبها الله على تفاوت الناس وتفاضلهم في الرزق، فجاء دعاة الاشتراكية ومذيب الطبقات فضادوا الله في قضائه وحكمته، وقالوا: نحن نرى أن هذا جور وظلم وتصرف لا يصلح به العباد، وإنما العدل والحق هو إذابة الطبقات وتسوية الناس في الفقر والذلة، وأبطلوا الحكم التي تترتب على تفضيل الناس بعضهم على بعض في الرزق. الوجه السادس من أوجه بطلان الاشتراكية: أن في النظام الاشتراكي مضادة لله في شرعه، فإن الله تعالى رتب على تفاضل الناس في الرزق أحكامًا شرعية، كالزكاة، والكفارة، والنفقة، وهذه الأحكام لا تتأتى إلا بوجود محلٌّ لوجودها ومحلٌّ لمصرفها إذا تساوى الناس في الرزق لم يكن بينهم فرق؛ حيث يكون بعضهم محلًّا للوجوب، وبعضهم محلًّا للمصرف، فممن نأخذ الزكاة وإلى من نصرفها، ومن الذي تجب عليه الكفارة، وإلى من يعطيها، وهكذا النفقة. وهذه جناية عظيمة على الإسلام لتعطيل بعض أحكامه، وجناية على المسلمين لتعطيل أجورهم وثوابهم على هذه النفقات. الوجه السابع من أوجه بطلان الاشتراكية: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء: 29)، فاشترط الله في التجارة أن تكون صادرة عن تراضٍ من الطرفين، فإذا لم تكن صادرة عن تراضٍ فهي من أكل المال بالباطل المنهي عنه بقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}، وتأمل قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} تجد أنها صريحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 في أنه يشترط الرضا حتى فيما يكون فيه معاوضة؛ لأن التجارة معاوضة من الطرفين، لذلك ينسد الباب على دعاه الاشتراكية الذين يقولون: نحن نعوض عما أخذناه قهرًا، ولسنا نأخذه مصادرة بلا عوض. وفي كلمة "تراضٍ" دليل على أنه يشترط الرضا من الجانبين أيضًا. أما دعاة الاشتراكية فيقالوا: لن نقبل هذا الحكم، ولم نرض به، وإنما نأخذ من الناس أموالهم قهرًا، ومن العجب أنهم يجبرون الناس على الرضا لأحكامهم، وعلى سلب أموالهم، ولا يجبرون أنفسهم على الرضا بأحكام ربهم العليم الحكيم الرحيم، وهو خالقهم، وتأمل قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ حيث قرن النهي عن قتل النفس بالنهي عن أكل المال بالباطل، فدل على أن الاعتداء على المال قرين الاعتداء على النفس في كتاب الله وحكمه. أما هؤلاء الاشتراكيون ففرقوا بينهم غاية التفريق، فانتهكوا حرمة المال وأباحوه في حال احترامه وتحريم الله له، وامتنعوا عن استحلال النفس حين يحلها الله؛ فمنعوا القصاص، ومنعوا الرجم، ومنعوا قطع اليد في السرقة، قطع الأيدي والأرجل من خلاف في المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض بالفساد، فتأمل هذه المناقضة التامة لأحكام الله وشرعه، وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} دليل على أن النهي عن أكل المال بالباطل، وعن قتل النفس من مقتضيات رحمة أرحم الراحمين، الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، وهو أعلم بما يصلحهم ويدفع الضرر عنهم، وعلى أن تسلط هؤلاء الاشتراكيين على أكل أموال الناس بالباطل منافٍ للرحمة، وإن ادعوا أنهم بذلك مصلحون، وراحمون للخلق، وزخرفوا لذلك القول فإنهم مفسدون وظالمون للخلق {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (البقرة: 9، 10). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الوجه الثامن من الأدلة على بطلان الاشتراكية: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 60). فأثبت فقراء تصرف إليهم الزكاة ولا زكاة إلا من غنى، فانقسم الناس بهذا شرعًا كما انقسموا قدرًا إلى قسمين: غني وفقير، ولو كانت الاشتراكية واجبة دينيًّا لما حصل هذا التقسيم، ولوجب على الغني أن يواسي الفقراء بجميع ماله؛ ليكون الجميع طبقة واحدة، فيذوب التمييز الطبقي كما يقوله الاشتراكيون، ثم ختم الآية بالعلم والحكمة؛ ليدل بذلك على أن تقسيم الناس إلى غني تجب عليه الزكاة، وإلى فقير تُدفع الزكاة إليه، وأن فرض دفع الزكاة في هؤلاء الأصناف الثمانية صادر عن علم وحكمة بالغة. وذكر الشيخ العثيمين أدلة كثيرة على بطلان الاشتراكية يُرجع إليها في مكانها ونكتفي بها. دعائم نظرية التملك في الإسلام: فالإسلام متميز بأن نظريته في التملك تقوم على دعائم؛ منها: أولًا: أنها تقوم على إباحة الملكية الفردية للوجوه المشروعة، وحمايتها لصالح الفرد وصالح المجتمع. ومنها: أنها تقوم على المعنى الروحي في اعتبار الملك الحقيقي لله وحده. وثالثًا: تقوم على الاعتراف بضرورة التفاوت بين الناس. وأخيرًا: تقوم على المعنى الإنساني في أداء حق المال لذويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 نظرية التملك في الإسلام تتميز عن المذاهب الوضعية البشرية أنها تقوم على إباحة الملكية الفردية بالوجوه المشروعة؛ لأن غريزة الإنسان في حب التملك هي غريزة فطرية، والإسلام يسايرها ويهذبها حتى لا يتحول الإنسان المسلم إلى إنسان شره كإنسان الرأسمالية، أو مكبوت كإنسان الاشتراكية، غريزة حب التملك من طول الغرائز التي تظهر في حياة الطفل بصورة واضحة، ولو نظر أحدنا إلى أطفاله الصغار لأدرك هذا تمام الإدراك، ولذلك جعل الإسلام للتملك وجوهه المشروعة، يتملك الإنسان مثلًا بالسعي والاكتساب، فهو كما يقول القرآن {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15). فالإسلام لا يأمر الناس بالانقطاع للعبادة، بل يكلفهم أن يأخذوا حظهم الروحي في عبادة الله، ثم ينطلقوا بعد ذلك لتحصيل حظهم المادي، ومن وجوه التملك في الإسلام إحياء الأرض الممات، ذلك بأن يعمل إلى أرض لم يتقدم ملك عليها لأحد فيحييها بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من أحيا أرضًا ميتة فهو له)) رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه. ويتملك المسلم أيضًا بالغنيمة في الجهاد وبالفيء، ويتملك بالهبة وغيرها، ويتملك بالإرث، وحرية التملك في الإسلام مشروطة بأن تكون من الوسائل المشروعة التي يكون فيها التعاوض عادلًا من غير إجحاف بأحد الطرفين في التعامل؛ لذلك جعل الإسلام الرضا أساسًا للتبادل التجاري بين الناس {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} لذلك نرى تميز الإسلام ونظريته عن غيره من المذاهب الوضعية البشرية، ويكفي أنه قرآن ربنا وشرعته {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3). وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى أله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الدرس: 9 الشيوعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع (الشيوعية) تمهيد عام عن الشيوعية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: الشيوعية مذهب فكري يقوم على الإلحاد وإنكار وجود الله -سبحانه وتعالى، وأن المادة هي أساس كل شيء ويفسر التاريخ بصراع الطبقات وبالعامل الاقتصادي، وقد ظهرت هذه الفكرة الشيوعية في ألمانيا على يد "كارل ماركس" وصديقه "فريدريك إنجليز"، ثم تجسدت في الثورة البلشفية التي ظهرت في روسيا سنة 1917 من الميلاد، بتخطيط من اليهود، وتوسعت على حساب غيرها بالحديد وبالنار، وقد تضرر المسلمون منها كثيرًا، بل إن هناك شعوبًا محيت بسببها من التاريخ لكن الشيوعية أصبحت الآن في ذمة التاريخ، بعد أن تخلى عنها الاتحاد السوفيتي، الذي تفكك بدوره إلى دول مستقلة تخلت كلها عن الماركسية، واعتبرت أنها نظرية غير قابلة للتطبيق. وقد ذكر بعض الباحثين أن الشيوعية مصطلح يصعب تحديد معناه، بعد أن ذكر أن الشيوعية نظام اجتماعي تكون فيه الملكية في يد المجتمع قال: والشيوعية بهذا المعنى قديمة قدم المجتمع نفسه، وهذا كذب محض، فإن هذا التعبير من الدسائس التي احتوت عليها بعض الكتب، متأثرين بما لفقه زعماء الشيوعية من أن المجتمعات في القديم كانت بدائية، وكانت الملكية فيها مشاعة بين الجميع في شكل اكتفاء ذاتي، يتقاسم أفراده السلع والخدمات نظرًا لظروفهم الخاصة القاسية التي تحتم عليهم ذلك، كما هو الحال على الخصوص في المجتمعات التي تعيش على طمس الحيوان بزعمهم. لقد قامت الشيوعية الماركسية كالمارد الجبار تريد أن تقيم مجدًا زائفًا على أنقاض الديانات الإلهية كلها، تريد أن تحل الديانات الوضعية البشرية مكانها شعارهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 "لا إله، والحياة مادة"، وهدفهم هدم الدين وإعلاء اليهودية، ومع أن شعارهم "لا إله" فهو شعار كاذب، فقد أحل الطغاة الشيوعية أنفسهم محل الإله العظيم، وأحلوا تعاليمهم الإلحادية محل الدين وقوانينهم محل الشريعة، فقد احتوت الشيوعية على جميع نواحي الحياة من ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، بل وكل ناحية في حياة البشر بدلًا عن الإله وعن الأديان وكافة النظم البشرية. إذا كانت السمة الظاهرة للناس أن الشيوعية لا شأن لها بأية ناحية غير الناحية الاقتصادية، وأن مهمتها خدمة الشعوب لكي تعيش في جنة عالية قطوفها دانية، إذا طبقوا التعاليم الماركسية الجهنمية، التي زعم أقطابها أن البشر سيعيشونها في يوم ما، وسيحكمون أنفسهم بأنفسهم بلا عداوة ولا فقر ولا جهل إلى آخر هذه الدعايات، فإن هذه السمة الظاهرة هي من خداع الشيوعية وترهاتها، التي نجحت على كثير من البشر ونجحت في خداعه، فأصبحوا ضحايا خاسرة للشيوعية ومبادئها الجوفاء. ولقد تظاهرت الشيوعية بذلك لتعمل في الخفاء وبعيدًا عن الأنظار لما قامت من أجله، وهو تحقيق أحلام اليهود وليس تحقيق أحلام الفقراء، فزعموا للناس أنهم ركبوا كل صعب وذلول للاهتمام بالنواحي الاقتصادية أولًا وأخيرًا، وزعموا أن كل ما يصدر عن هذا الفكر من سلوك وتقنين إنما هو تابع لتحقيق هذا الجانب لا غيره، إذ سيتبين -إن شاء الله- حين نرد عليهم أن هذا الزعم أصبح سرابًا كاذبًا وهباء في مهب الريح، ويعبرون عن هذه الظاهرة بالمادة التي صارت هي المعبود والنظام والتاريخ، أقطاب الشيوعية -كما هو معروف- كانوا نصارى في الأساس وأغلبهم يهود، وقد وصفوا نظريتهم الإلحادية بالمادية وجعلوها محور كل شيء في الوجود والتاريخ وأقاموه على التفسير المادي للتاريخ، فكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 مظاهرهم إنما هي تابعة لتصورهم المادي، كما أن مظاهر الفرويدية كلها متوجهة نحو الجنس، وكلتا النظريتين موجهتين بدقة من قبل الماسونية اليهودية للقضاء على كل ما عند غير اليهود؛ ليصبحوا حميرًا لشعب الله المختار كما تمنيهم بذلك تعاليم التوراة المحرفة، والتلمود الجهنمي المملوء حقدًا على جميع البشر مما عدا اليهود. وكان "ماركس" قد تضلع من دراسة الحضارة الإغريقية الرومانية، في الوقت الذي كانت فيه تعاليم المسيحية المحرفة تتهاوى إلى الحضيض، وتداس تحت أقدام أولئك الذين خرجوا عن طغيانها الذي لا حد له، وعن صلاحيات البابوات ورجال الدين التي لا نهاية لها، وفي الوقت الذي نشط فيه دهاة الماسونية ومنهم "كارل ماركس" لتحطيم كل حضارات العالم، وإقامة هيكل سليمان الذي هو نصب أعين اليهود كلهم، ظهرت الماركسية لتجعل الإنسان هو مصدر كل سلوك ومعرفة، لتجعل الإنسان هو الإله المشرع وهو الخالق المبدع، وهو كل شيء وليس وراءه أي شيء، فلا وجود للإله الذي مارس طغاة الكنيسة كل جبروتهم باسمه، ولا وجود للأديان التي تضطهد اليهودية واليهود ولا وجود للحياة الأخرى التي هي مصدر الخلاص، إذا كان الشخص هو الذي يملك صك الغفران عن البابا. بل الإنسان عندهم هو الإله والدنيا هي غاية الإنسان يسعد أو يشقى، ولا عبرة بما قالته الأديان الإلهية من وجود قوة أخرى غير الإنسان، أو حياة أخرى غير هذه الحياة، بل إن ما وراء الطبيعة من الغيبيات هو في نظرهم سراب، يجب أن يختفي أمام الحضارة اللادينية العاتية هي عالم المحسوسات، فعالم المحسوسات لا تؤمن الشيوعية الملحدة إلا به، وهو وحده هو علة وجود هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 الكون ونشأته، فنشأة التدين عند الإنسان إنما هي ناتجة عن خرافات كاذبة خيالية لا يسندها عقل ولا منطق، فالكون عندهم تجمع من ذرات والإنسان عندهم أصله قرد. ومن العجب أنهم يسمون هذه التخيلات المفتراة على البشرية التي تنافي ما أكرمهم به الله من حفظ ورعاية، ومعرفة بأمور دنياهم ودينهم، يسمونها حقائق ويدافعون عنها كأنهم عايشوها من أول يوم عرفت فيه البشرية، ومن كذبهم في هذا فإنهم يصفونه بالرجعية والتخلف، وهذه الصفات جاهزة في قواميسهم التي لا تتورع عن هدر أعراض الناس ودمائهم، وهذا الذي يقولون عن بدأ الكون وعن أصل الإنسان هو رجم بالغيب، وظلم للبشرية وتصديق لأقوال الكذابين أمثال "ماركس" و"داروين" و"فرويد" وغيرهم من أشرار البشر الحاقدين {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (الزخرف: 19). قد ساعد على تعميق الإلحاد الشيوعي تلك النظريات الكثيرة، والشبه التي سموها حقائق لمعرفة هذا الكون، وقيامه على القوانين التي عرفت أخيرًا، مثل قانون الجاذبية الذي أرسى أن كل شيء في الوجود له سبب في مكانه، وقانون تجمع أجزاء المادة التي انفجر عنها هذا الكون، وغير ذلك مما زعموه مؤيدًا لنظريتهم الملحدة، فحجبت تلك المفاهيم الخاطئة للشيوعية والنصرانية العقل عن التعلق بموجد لهذا الكون، وأن مجرد التفكير فيه يعد رجعية، ولهذا كما سمعنا أن الروس قتلوا العائدين من سطح القمر في أول رحلة فضائية لأنهم أيقنوا أن لهذا الكون موجدًا. وما أن أطل القرن التاسع عشر الميلادي إلا وقد ظهر قرن الشيطان، وساد القول بسيادة الطبيعة على الدين والعقل، فهي الحاكم المطلق والإله الذي لا ينازع، قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 تولى كبر هذه الدعوة "أوجست كونت" و"خرباخ" و"ماركس" وغيرهم بدافع قوي من الحقد الشديد على رجال الدين الكنسي، الذي يمثل حسب تعليلهم قوة ما وراء الطبيعة من الأمور الغيبية والروحية، والتي اعتبروها وهمًا وخداعًا لا حقيقة له لعدم اندراجها تحت قوة الإحساس والإدراك المباشر، وأن الالتجاء إلى ذلك الغيب إنما نتج عن الوراثة والبيئة والحياة الاجتماعية في تلك الأزمان المختلفة بزعم دعاة الإلحاد، وقد ظلت الشيوعية قرابة سبعين عامًا في صولة وجولة قوية يحسب لها حسابها، إلى أن أذن الله بزوال قوتها سبحانه بقدرته وحده، إذ ما كان أحد يفكر في النيل منها، فإذا بها يأتيها حتفها بظلفها على يد آخر زعيم لما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي، وهو "ميخائيل جورباتشوف" وأفل نجمها وجبروتها وثارت الشعوب واقتصوا من كل الظالمين. والآن وبعد أن تبين المصير النهائي للماركسية الشيوعية نقول: إنه من الغريب جدًّا أن تموت الشيوعية في عقر دارها -الاتحاد السوفيتي سابقًا- وأن تكتشف الشعوب أن هذا المذهب فاشل باطل لا يجر إلى خير، بل إلى الخراب والدمار وإثارة البغضاء وانتشار البطالة والفواحش، وأن الجنة الأرضية التي وعد بها "كارل ماركس" إن هي إلا سراب خادع وآمال كاذبة، وأن تعاليمه إن هي إلا جحيم لا يطاق وتعاسة وشقاء، وأن الشعوب كانوا يساقون إلى الموت وهم ينظرون طائعين أو مكرهين، وإن في التخلص من هذا المذهب راحة لا تعدلها راحة وفوزًا لا يعدله فوز، فهبت تلك الشعوب المظلومة لتنفض عنها غبار تلك السنين العجاف، ثم داسوا مبادئ "ماركس" ونظرياته تحت نعالهم وتنفسوا الصعداء، وبعضهم قام بشنق تمثال بعض طغاة الشيوعية القدماء وبعض الحكماء الحاليين وقالوا: لا رجعة للشيوعية هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أقول: من الغريب أن يحصل هذا وأكثر منه في تلك البلدان التي ذاقت مرارة التعاليم الشيوعية، وفرحت بانقشاعها عنها ثم تقوم بعض الأحزاب -في البلدان العربية الإسلامية- بالمناداة باعتمادها كحزب شيوعي شرعي، وأين الشرع من تعاليم "ماركس"، ثم تقوم بعض الحكومات باعتماد تلك الأحزاب والترخيص لها بدخول المجالس النيابية والبرلمانية، وما إلى ذلك كما سمعته من دولة إسلامية عربية، إن الأمر يدعو إلى العجب {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) ولقد قيل في المثل: العاقل من اتعظ بغيره، فلماذا لا يتعظ هؤلاء بمن قد ذاق الحياة الشيوعية البائسة وضاق بها ذرعًا، أليس لهؤلاء قلوب يعقلون بها وأعين ينظرون بها وآذان يسمعون بها، فيكفون عن التعلق بالشيوعية الحمراء ويكفون عن تقديس زعمائها الذين لا يساوون قيمة نعالهم؟!. إن الأمر واضح وجلي لولا أن مؤامرة جديدة أيضًا تهدد العالم في ثوب جديد وبأسلوب جديد، قد يشعر به بعض الناس وقد لا يشعرون، وما أكثر النكبات التي يدبرها شياطين الإنس والجن للمغلوبين على أمرهم، تحت مختلف الشعارات البراقة الخادعة من دعاة الماسونية اليهودية العالمية الحاقدة، وما يمتلكونه من حضارات وقيم، ومرور الأيام والليالي كفيل بإيضاح كل ما يبيتون والله لهم بالمرصاد، وهو من ورائهم محيط. قيام الشيوعية الأولى بقيادة "مزدك" الشيوعية فكرة قديمة ظهرت في التاريخ أكثر من مرة، فقد جاء في كتاب (الجمهورية) للفيلسوف اليوناني "أفلاطون"، الذي عاش في الفترة ما بين 427 - 347 قبل الميلاد، ما يدل على نشأة هذا المذهب، حيث أقام في كتابه نظامًا يقوم بالنسبة للحكام على شيوعية المال والنساء، وشرع لهذا منهجًا مفصلًا، وهناك أمثلة خيالية ولمحات عن الاشتراكية أثبتها "أفلاطون" في كتابه، تصور حقيقة أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 القرن الخامس قبل الميلاد -وهو الذي وجد فيه "أفلاطون"- كان فيه مبادئ اشتراكية لم تزل في مهدها. يقول "أفلاطون" في كتابه الآنف الذكر ما خلاصته: "يجب أن يشتمل النظام على اشتراكية النساء والأولاد، فليس لأحد حق بإنشاء أسرة مستقلة كما ليس له الحق بتربية الأولاد؛ لأن الجميع ملك الدولة وهي وحدها تشرف على تنشئة العضو الصالح، كما تشرف على إنجاب النسل المختار". وقد قسم أفلاطون في كتابه المجتمع إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول: هم الحكام. القسم الثاني: هم رجال الحرب. القسم الثالث: هم الخدم والعمال. وقال: "إنه يجب أن تكون الزوجات والأموال والمآكل مشاعة بين أفراد الفئة الأولى والثانية، أما الثالثة فإنها تعيش على النظام الأسري المعهود". ونجد أيضًا من قال بالشيوعية من فلاسفة الإغريق "أجزينوف" وقال بها أيضًا "مزدك" الذي عاش سنة 487 ميلادية، حيث دعا إلى الشيوعية واشتراك الناس في الأموال والأعراض، وتسمى حركة "مزدك" بالمزدكية، قد ظهرت في بلاد فارس وتأثر بها كثير من أرباب النزعات الإباحية كأصحاب الفلسفة الباطنية، ومنهم مؤسس القرامطة حمدان قرمط وقومه، ومنهم علي بن الفضل الذي صور مذهبهم بقوله أبياتًا من الشعر: خذي الدف يا هذه واضربي وغني هذاريك ثم اطربي تولى نبي بني هاشم وهذا نبي بني يعربي لكل نبي مضى شرعة وهذه شريعة هذا النبي فقد حط عنا فروض الصلاة وفرض الصيام فلم نتعب أباح البنات مع الأمهات كذاك أباح نكاح الصبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 إذا الناس صلوا فلا تنهضي وإن صوموا فكلي واشربي ولا تطلبي الحج عند الصفا ولا زورة القبر في يثرب ولا تمنعي نفسك المعرسين من الأقربين أو الأجنبي لماذا حللت لهذا الغريب وصرت محرمة للأب أليس الغراس لمن ربه وغذاه في الزمن المجدب وما الخمر إلا كماء السماء أبيحت فقدست من مذهب وبئس ما قال هذا الشاعر. ثم توالت بعد ذلك الدعوات إلى الشيوعية على يد عدد من الأشخاص منهم "توماس مور" حيث وضع نظامًا لمدينته الفاضلة الخيالية ضمن شيوعية مالية، ثم جاء بعده "كامب نيلا" الإيطالي في كتابه (مدينة الشمس)، وضمن هذا الكتاب نظامًا اشتراكيًّا لمدينته أغفل فيه الحديث عن الملكية الفردية، كما أغفل فيه الحديث عن الزواج. هذه نبذة عن تاريخ الشيوعية عمومًا، وبعد هذه الدعوات ظهرت الشيوعية الماركسية الحديثة على يد "كارل ماركس" وزميله "فردريك إنجلز". رد زعم الملاحدة أن البشرية قامت على الشيوعية الأولى قد زعم الملاحدة أن المجتمع قام على الشيوعية في بدايته، وهذا ما نؤكد عليه أن هذا الزعم إن هو إلا افتراض وظنون، لا يملكون على صحتها أي دليل صحيح، بل كل الدلائل تكذبهم، فقد تصوروا في أخيلتهم أن البشر البدائيين أقاموا فيما بينهم شراكة في كل شيء، قبل أن يتطوروا ويعرفوا الملكية الفردية، رادين بهذا كل ما جاءت بذكره الشرائع وخصوصًا الإسلام، وما شهد به التاريخ وما تواتر نقله في كل الأجيان وما شهد به الواقع على مر السنين، من أن الله تعالى هو الذي رتب حياة الإنسان وطريقة تعامله، منذ أن أهبطه إلى الأرض وإلى أن يرث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الله الأرض ومن عليها، وأنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وأن الإنسان هو الإنسان من بدايته إلى نهايته، لم يتغير لا في هيأته ولا في طبيعته ولا في حبه للملكية الفردية منذ وجوده على الأرض، أما ما تصوره الملاحدة من انعدام الملكية الفردية وذوبان الشخص في القبيلة؛ إنما كان يصدق على بعض عهود الجاهلية، ممن كان عندهم التعصب الشديد للقبيلة، لكن في غير الملكية الفردية، مع أن تصور عدم ميل كل شخص إلى الملكية الفردية تصور افتراضي بعيد الوقوع ومحال. نعم، وجد بين أفراد القبيلة الواحدة تعاون قوي وتعاضد وشراكة في السراء والضراء، وتلاحم بين كل أفراد القبيلة إلى حد أن الفرد لا يتصور وجوده وكيانه وانتماءه وما يأخذه وما يتركه إلا من خلال قبيلته، يفعل كل ما تفعله قبيلته ويترك كل ما تتركه دون أن يكون له أي رأي في مخالفة عرف القبيلة، ولكن هذا الحال لا يصلح أن يكون دليلًا للملاحدة على شيوعية البشر، على الطريقة التي قررها "ماركس" وأتباعه، بل إن اعتقاد أن البشر كانوا بمنزلة البهائم في بدايتهم هو الظلم بعينه والكذب على البشرية بعينه، وهو رد صريح لكل ما يثبت في الأديان السماوية من تكريم الله للبشر، ورفعهم عن منزلة الحيوانات البهيمية التي تصورها الملاحدة في تفسيرهم لنشأة البشر، وقيام أمورهم على الناحية الاقتصادية والقبلية فقط كما زعموا. ثم على فرض مستحيل أن بعض المكتشفين وجدوا قبائل تعيش على الفوضى في كل شيء -بما فيها الجنس- ألا يصح أن يوصف هؤلاء بأنهم شواذ لا قيمة لهم فاسدو الفطرة، وأن وصف البشرية كلها بتلك الوصمة الشنيعة لأجل ما وجدوه هؤلاء عند تلك القبائل الهمجية؛ يعتبر تطاولًا على تاريخ البشر، هذا إن صح أنهم وجدوا بشرًا بتلك الحال مع أن كذبهم وافتراءهم وارد، ذلك أنه ما من إنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 يرضى بالفوضى الجنسية في أهله، بل إنها حالة لا ترضى بها حتى الحيوانات البهيمية فضلًا عن الإنسان، فقد أخبر الله -عز وجل- عن فطرة الإنسان وعن الغيرة الموجودة فيه، منذ أن وجد أبناء آدم على هذه الأرض وقتل أحد ابني آدم أخاه. وليت شعري لماذا يحرص الشيوعية على إشاعة الجنس أكثر من غيره؟! فإن الشيوعية يحرصون أشد الحرص على إشاعة الجنس بطريقة مشتركة؛ لعله ترغيبًا لمن يتوق إلى ذلك من الشباب والشابات الساقطين، ولظنهم أن الشيوعية ستبنى وتنهض بسبب هذه الدعايات الرخيصة، لكنهم فوجئوا باستحقار الناس لهم، واستهجانهم لهذا السلوك الشائن، فعادوا وزعموا أن شيوعية النساء ليست قاصرة على المذهب الشيوعي، وإنما هي قضية شائعة بين كل الطبقات خصوصًا الأغنياء بصور مختلفة، ولكن هذا الدليل هو دليل واهٍ كبيت العنكبوت، لم يخرجهم أيضًا من استحقار الناس لهم في مناداتهم بالفوضى الجنسية العارمة؛ لأن الباطل لا يستدل له بالباطل، وذلك أن استدلالهم بالمنحرفين لا يعطيهم المبرر لدعواهم، فهو تبرير باطل بباطل، ويكفي أن يقال عن الجميع: إنها أوضاع فاسدة جاهلية يجب أن تصحح، ولا تستحق أن تكون قدوة أو دليلًا يظلمون به فطر الناس ويخدشون كرامتهم، سواء كانوا من الأغنياء أو من الفقراء فهو عمل لا تقره حتى الحيوانات. وأما زعم الملاحدة أن الناس في الشيوعية الأولى كانوا يعيشون عيشة متساوية لا فرق بينهم؛ فهو افتراض ينقصه الدليل، فمن أين لهم أنهم ما كانوا يشعرون بالفوارق فيما بينهم، وأقل ما فيها فوارق في الذكاء وفوارق في إتقان العمل، وفوارق في القوة الجسدية والنفسية وفوارق في الشجاعة، وفوارق في المال، إلى آخر الفوارق التي لا يجهلها أي إنسان سليم العقل، وحتى الملاحدة لا يجهلونها لولا أنهم يريدون تحبيب الشيوعية إلى الناس وخداعهم بها، وخصوصًا الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 يشعرون بانتقاص المجتمع لحقوقهم أو يشعرون أنهم مغلوبون على أمرهم، ويتمنون أي فرصة لإثبات وجودهم الذي يحلمون به، فانتهز الملاحدة وجود هذه الفوارق الحتمية بين الناس للمناداة بالقضاء عليها، وأنى لهم أن يطبقوا ذلك فعلًا وهو مخالف لما أراده الله تعالى في سنته؛ ذلك أن الله تعالى هو الذي أراد للناس أن يكونوا بهذه الحال؛ منهم الذكي ومنهم البليد ومنهم الغني ومنهم الفقير، إلى آخر الصفات المعلومة بالضرورة من أحوال البشر، فكيف يقضون على ما أراد الله بقاءه؟! والحاصل أنه لا دليل لهم على كل ما زعموه من تلك المساواة المكذوبة، كذلك لا دليل لهم على زعمهم أن الناس كانوا يعيشون في البداية حياة ملائكية في منتهى السعادة، فهذا الكلام وهذه الادعاءات إن هي إلا خيال فارغ تكذبه حقائق التاريخ، وتكذبه طبائع البشر منذ وجودهم إلى اليوم، بالإضافة إلى أنه لا دليل لهم على هذا الكلام إلا محض أخيلتهم المنكوسة، وإلا فأي زمان من الأزمنة خلا عن الحرب والتنافس بين القبائل على أمور كثيرة، أقلها المرعى والحمى والغنائم، وما إلى ذلك من الأمور التي لا بد من وقوعها ضرورة في كل أجيال البشر؟!. بواعث الشيوعية بواعث الشيوعية لم تعد خافية، ففكر صاحبها ومؤسسها "كارل ماركس" لم يعد خافيًا في بواعثه ولا في حقيقته على أحد، فالماركسية بمقاييس العلم وحقائقه ليست بالنظرية المبتدعة التي لم يسبق لها أحد، بل هي تكرار لأفكار قديمة ترجع إلى ما قبل الميلاد، ثم هي في الحديث سرقة علمية من مجموعة فلسفات قال بها "هيجل" و"فيورباخ" وجرى التوفيق أو التلفيق بين أجزائها، ومع ذلك بقيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 تحوي التناقض وتصطدم بالعلم في مسلماته الحديثة، كما تصطدم بالفطرة والطبيعة في حالتها السوية السليمة. وبواعث الشيوعية كثيرة منها مثلًا: الباعث الشخصي فيما تحويه شخصية مؤسسها "كارل مردخاي ماركس" اليهودي، فشخصيته كانت -كما ورد في سيرته- مليئة بالحقد على المجتمع الذي عاش فيه فقيرًا محرومًا عالة، حتى على أفراد عائلته من النساء، مما اضطره في مرحلة من مراحل حياته أن يلجأ إلى النصب كوسيلة للتكسب. نعم؛ إذ إنه في مرحلة من مراحل حياته قام ببيع كتابه (رأس المال) لأكثر من دار نشر في وقت واحد، وقبض ثمن الكتاب أكثر من مرة، من أكثر من جهة، وهذا يسمى بلغة القانون ولغة الواقع عملية نصب على مستوى التأليف والنشر. كذلك تحوي شخصية "كارل ماركس" كما يحكي عنه والده رغبة في الإتلاف والتحطيم والتدمير، ظهرت عليه هذه الرغبة في بداية حياته واعترف بها والده وكفى بشهادة الوالد دليلًا على ولده. وتحوي شخصيته كذلك ميل إلى التدني والقذارة، ظهر هذا على مظهره وملبسه، كما ظهر في سلوكه الماجن وحياته البعيدة عن القيم، والتي انعكست أو تورثت في إحدى بناته التي عاشت تعاشر إنسانًا بغير زواج، فلما اكتشفت أنه متزوج من أخرى انتحرت، ذلك الباعث الشخصي لا بد أن يكون له تأثيره على فكر "ماركس" حقدًا وإتلافًا وتدنيًا، فإذا أضفنا إلى ذلك أنه يهودي من سلالة يهود انطبعت كل انحرافات اليهود في نفسه، وغذت ما فيها من حقد وإتلاف وتدنٍّ، وكل إناء بما فيه ينضح، فلا عجب أن نرى أن الفلسفة الماركسية تحوي الحقد والإتلاف والتدني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 هذا هو الباعث الأول من بواعث الشيوعية وهو يرجع إلى شخصية مؤسسها "كارل ماركس". أما البواعث الأخرى فقد تكون في البيئة التي شجعت على نشأة هذا الفكر وعلى انتشاره، وتلك البيئة التي بلغ فيها طغيان الإقطاع الزراعي -ومن بعده الإقطاع الصناعي- أقصى صنوف الاستغلال، وتلك البيئة التي بلغ فيها طغيان الكنيسة وافتئاتها على العقول والقلوب أقصى درجات الطغيان، كما بلغ فيها تحلل أكثر رجالها أقصى درجات التحلل، واستغلالهم للدين لتحقيق الكسب المادي، وفرض الإتاوات والتحالف مع الإقطاع والتحالف مع الحكام لنيل أقصى الدرجات كذلك، كل ذلك على حساب شعوب أكثرها فقير ومحروم، على حساب شعوب تتطلع إلى الإنقاذ فتسمع الصيحة الخادعة، التي كان ينادي بها الشيوعيون: يا صعاليك العالم اتحدوا، فأمامكم عالم تغنمونه وليس في أيديكم ما تفقدونه سوى الأغلال. فينخدع العالم المحروم بالصيحة، ويحسب أنها صيحة الإنقاذ، تمامًا مثل الغريق الذي يتشبث بأي شيء، وتمامًا كما قال رب العالمين -سبحانه وتعالى- في محكم كتابه: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف: 24، 25) وهكذا تبدو الشيوعية بخداعها عارضًا ممطرًا، فإذا حلت كانت ريحًا فيها عذاب أليم تدمر كل شيء، وقد يكون هذا الباعث في الأفعى اليهودية التي تخفي رأسها وتنفث سمومها؛ لتحقق ما تواصت به في توراتها المحرفة أو في تلمودها المنحرف، أو فيما أعقب ذلك تدميرًا للأديان بل تدميرًا للجنس البشري كله من الجويم -أي: غير اليهود- لتصل إلى خرافة سيادة الجنس اليهودي وامتلاكه للعالم. فـ"ماركس" نفسه يقول: "إن حل المشكلة اليهودية يستلزم أن يسيطر اليهود على جميع الأديان"، وذلك بتطبيق ما أسماه التحويل الاشتراكي للعالم بأسره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وإذابة الأديان والقوميات في بوتقة الماركسية، ولا عجب بعد ذلك أن نقول لنؤكد على صدق كلامنا عن الباعث اليهودي من بواعث الفلسفة الشيوعية، أولًا: أن صاحب هذا الفكر ومؤسسة هو "كارل مردخاي ماركس" وهو كما قلنا يهودي، وأن ممولي الثورة الشيوعية "إسحاق مونتمر"، و"شبشو ليفي" و"درنوشس" وكلهم من اليهود، أن صانعي الثورة الشيوعية وهم "لينين" وغيره من أعضاء مجلس الثورة، حتى سكرتارية هذا المجلس كانت يهودية وهي زوجة "لينين"، وأن الذين توارثوا هذه الدولة أيضًا كانوا من اليهود، وأن هذه الدولة وهذا المذهب الشيوعي تواصى بالإبقاء على الدين اليهودي وحده، رغم أنهم -كما قلنا- يعادون الأديان ويعتبرون أن الدين مخدر للشعوب أو أفيون الشعوب كما يقولون، ورغم أنهم حاربوا كل الأديان وشنوا حملة ساحقة على كل الأديان، إلا أنهم تواصوا بالإبقاء على الدين اليهودي وحده، وهذا يدل على الباعث اليهودي لهذه الفلسفة. حقيقة الفكر الشيوعي أما حقيقة الفكر الشيوعي فهو أنه سرقة علمية سطا فيها "كارل ماركس" على فكر "هيجل" و"فيورباخ" في العصر الحديث، وعلى فكر بعض فلاسفة اليونان في العصر القديم؛ ليشكل منهما توفيقًا وتلفيقًا نظرية تقوم على المادة والتناقض، ثم هي الشيوعية كما نسجها "ماركس" صارت متخلفة عن ركب العلم، تتمثل فيها الرجعية لمن يصر عليها، ذلك أن العلم لم يعد يعترف أن المادة هي ما تقع عليه الحواس كما قال بذلك "ماركس"، ومن خلال نظريات الثقب الأسود وصل العلم إلى أن ما تدركه الحواس من المواد لا يمثل إلا سبعة في المائة، أما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 الباقي فهي مواد لم تدركها بعض الحواس، فماذا يضير قول "ماركس" عن المادة بمعيار العلم؟! وهل يصح بعد ذلك أن يضفي صفة العلمية على اشتراكيته؟!. أما حديثه عن أن في كل مادة تناقضًا فإنه يفتقر كذلك للأساس العلمي؛ إذ إن الملاحظ من الاستقراء والتتبع أن ما في المواد هو التزاوج والتكامل وليس على النحو الذي نرى ونشاهد، ابتداءً من الذرة وانتهاء إلى الجرم الكبير {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40). في المجال الاجتماعي تساقطت كذلك دعاوى الصراع بين الطبقات التي ادعاها "ماركس"، بتساقط دعاوى التناقض نفسها التي قامت عليها دعوى الصراع، وكذب التاريخ كذلك هذه الدعاوى بما أثبته من قيام مجتمعات -وعلى مدى طويل- ليس فيها الصراع بين الطبقات، وإنما بينها المودة والرحمة يتمثلها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)). في المجال السياسي سقطت دعاوى ديكتاتورية "البروليتاريا" بما قام في الأنظمة الشيوعية الحاكمة من ديكتاتورية طبقية لا تمت إلى "البروليتاريا" بسبب، تعيش عيشة القياصرة أو الأكاسرة ولا يزال ذهب "الكرملين" يظلهم، وزادوا عليه أن صارت لهم شوارع خاصة لا يسير فيها غيرهم من أبناء "البروليتاريا" أو الطبقة الكادحة. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الدرس: 10 الشيوعية (2). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العاشر (الشيوعية (2)) الأسس التي قامت عليها النظرية الشيوعية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قامت الشيوعية الماركسية من أول أمرها على مناهضة الأديان والأخلاق والثقافات، وسائر ما يتصل بغير اليهود أو الجويم كما يسمونهم، وإقامة دولة شيوعية عالمية تحت زعامة أقطاب الشيوعية ومن وراءهم، ويقف من خلفهم الأطماع اليهودية في إقامة الدولة اليهودية الكبرى، التي يرتقبها اليهود بفارغ الصبر، ممثلة في إعادة بناء هيكل سليمان، وتتويج ملكهم الذي يحلمون بأنه سيحكم جميع البشر من اليهود ومن غيرهم، وما الشيوعية إلا حلقة من جملة الحلقات التي يحيكها اليهود للوصول إلى ما خططوه، وقد خطط حكماؤهم تدمير العالم دينيًا وثقافيًّا واقتصاديًّا، ولقد أسهمت الشيوعية في كل تلك المؤامرات وكان لها حظ الأسد في تحطيم الجويم، أي غير اليهود في تصفيات جسدية لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، وفي إشاعة الفواحش وسائر المفاسد والشرور، حيث فاقوا فيها الشيطان، وأراحوه مهمة تحقيق كل تلك الرزايا، التي حلت بسائر الأمم في دينهم وفي دنياهم على أيدي الملاحدة. ومظاهر الشيوعية الماركسية كثيرة من أبرزها: أولًا: المادية، وهو الأساس الأول الذي تنبني عليه النظرية الشيوعية، والمادية نسبة إلى المادة وقد قيل في تعريفها: إنها هي الموجود الذي يدرك بإحدى الحواس، مما يخضع لتجربة الإنسان وملاحظاته، وقد ادعت المادية أنها صنو الواقعية، التي تنسب إلى الواقع الذي لا ينكر ولا يكذب، ولقد أصبحت عبادة المادة هي الأساس المشترك لجميع الملاحدة على اختلاف مذاهبهم، ابتداءً من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، إبان قيام التيارات الفكرية الجامحة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 أوروبا ضد الكنيسة، وضد القائمين عليها، واستبدالها بالمادة المهيمنة على كل شيء، إذ يزعمون -وبئس ما يزعمون- أن الكون وما فيه إنما وجد من أصل المادة، وبنوا على ذلك إلحادهم في إنكار وجود الله تعالى، فخرجوا بذلك عن مفهوم هذا التعريف للمادة وتجاوزوه، فإن الأمور الغيبية وأمور الدين لا تخضع لتجربة الإنسان ولا تدركها حواسه، كما بنوا عليها تفسيرهم التاريخي لحياة الإنسان وتطوراته. وكان الماديون الشيوعيون قد أقاموا هذه الفكرة -فكرة المادية- في مضادة أي شيء يتعلق بعالم الروح والغيب، حيث لا يؤمنون بوجود الروح لأنها تباين المادة، التي إذا وجدت في شيء أعطته الحياة ضرورة، فالمادة هي كل شيء، وجعلوا المادة هي البديل عن الله -عز وجل، بزعم أن معاملهم قد أعطتهم الدليل المادي على ذلك، ولقد كذبوا وتناقضوا وظهر جهلهم وتخبطهم في نظرياتهم المتضاربة المتناقضة، فالطبيعة عندهم هي قبل كل شيء ولا نهاية لها، ومنها انبثق كل مخلوق على وجه الأرض، والطبيعة عندهم هي موجودة بذاتها قبل كل ذات، وهي الخالق لكل شيء بقوانينها والعالم عندهم في حركة تغير مستمر. وهذا التغير يأتي عن طريق تناقض الأضداد، وكل فكرة تؤدي إلى نقيضها والفكرة ونقيضها تؤديان إلى نتيجة جديدة، كلها ناتجة عن ترابط الأشياء بعضها ببعض، ولا يمكن أن يكون أي حادث منفصلًا بنفسه عن البيئة المحيطة به في حركة دائبة يسمونها الحركة في الطبيعة، ويقصدون بها أن كل موجود إنما هو نتيجة لحركة المادة وتطورها بدءًا وانتهاء، تنشأ ثم تضمحل أبد الدهر في تطوير يسمونه التطور في الطبيعة، ويتم هذا في حركات سريعة ضرورية، وأحيانًا تحصل فجأة تنتقل معها الأشياء من البسيط إلى المركب ومن الأدنى إلى الأعلى، في تطور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 متلاحق طول الوقت، مما ينتج عنه ما يسمونه التناقض في الطبيعة، وهذا التناقض هو الذي ينتج عن تطور الحوادث وتفاعلها فيما بينها، لينتج من التناقض بين القديم والجديد وبين ما ينوط وما يولد وبين ما يفنى وما يتطور، ينتج مصادر تطورية جديدة مختلفة، بمعنى أنه يحدث الشيء حتمًا ثم يحدث ما يضاده لتأتي النتيجة الحتمية الصحيحة، ومن هنا تؤيد الشيوعية التصادم والتضاد بين الأمور لتصل إلى النتيجة من وراء كل تضارب وتصادم. وكل ذلك إنما هو هوس فكري وتخبط مقيت، وصدق الله -عز وجل- إذ يقول في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (النور: 39). وكل هذه الافتراضات التي يفترضها الماديون إنما يريدون من ورائها أن تحل المادة محل الإله سبحانه وتعالى، وتصريفه الأمور حسب مشيئته وقدرته، وتلك التعليلات العقيمة بوجود الأمور بعد أن لم تكن إنما هو لصرف الذهن عن قدرة الخالق على الإنشاء والإيجاد، وإلا فأي منطق يقتنع بأن الأمور تتطور لمصلحة الإنسان أو لمضرته من تلقاء نفسها، لتنتج أمورًا لا بد منها بزعمهم لتستقيم الحياة ويبقى الكون؟! لقد حاول الماديون -وهم ينكرون موجد هذا الكون- أن يلفقوا شبهات كثيرة ليدللوا بها على إلحادهم، ولكن ما من شبهة من شبههم إلا وهي تصفع وجوههم وتكسر قلوبهم وتقول لهم: معاذ الله أن أكون دليلًا على عدم وجود الذي أوجدني. فما أن يجدوا أدنى شبهة يكتشفونها إلا ويطيروا بها فرحًا، ويزعموا أن كل ما اكتشفوه يدل على عدم وجود موجد حقيقي لهذا الكون غير المادة وطبيعة المادة الحتمية بزعمهم، وكم حملوا هذه المادة التي تعادل في تصرفاتها عند الملاحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 تصرفات خالق الكون عند المؤمنين، وكم ظهرت لهم من حقائق حيرتهم في دقة موجدها، ولكن قلوبهم التي أشربت حب الكفر والتمرد -على طريقة أستاذهم إبليس- أبت أن ترجع إلى الحق. فمثلًا قانون الجاذبية الذي أوجده الله وثبت به هذا الكون العلوي والسفلي هو أكبر من السماء وما فيها من مختلف الأجرام، وهو أكبر من الأرض وما عليها، حين اكتشفوه قالوا: عرفنا الآن أنه لا خالق ولا ممسك لهذا الكون إلا الجاذبية، وحين فاجأهم المؤمنون بالله بهذا السؤال: ومن خلق هذه الجاذبية؟ هل خلقتها السماء لحاجتها إليها لتمسك بأجرامها أن تقع على الأرض، أم أن الأرض قد خلقتها لحاجتها إليها ليستقر عليها من فوقها، أما أنها هي بنفسها أدركت حاجة السماء والأرض إليها فأوجدت نفسها؟! سبحان الله عما يفترون. وحينما أنكروا وجود الله تعالى قيل لهم: هذا الكون العجيب المتناسق المحكم، الذي لا يطغى بعضه على بعض {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) من هو هذا القوي القهار الذي جعله بهذه الصفة؟ قالوا: المادة، وكأنهم هربوا من ذكر اسم الله تعالى إلى اسم يوافق هواهم، فإذا كانت هذه المادة هي التي أحكمت هذا الكون فهي الإله الحق، فلا يبقى أمامهم إلا النطق باسم الله الكريم، ويتركوا روغان الثعلب والتكلفات الباهتة، فكل ما قالوه من شبهات تافهة -مهما اختلفت أسماؤها- فإنها تدل على انقطاعهم وأنهم مثل الغريق الذي يمسك بكل شيء يقع في يده لينجو من الغرق. وكم خسارة الملاحدة الشيوعيين حينما أنكروا خالق هذا الكون، في مقابل التعصب لآراء ذلك اليهودي "ماركس" الثائر النفس الحاد المزاج المتعصب لقومه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 اليهود، الذي سعى إلى الانتقام من العالم كله بسبب مواقفهم من اليهود الحاقدين على الله تعالى، وعلى كل البشر؛ لأنهم لم يجعلوهم سادة العالم وحكامه كما وعدهم الله بذلك، حسب افتراءات واضعي التوراة، فآلوا على أنفسهم أن يقفوا جنبًا إلى جنب مع الشيطان؛ لإغواء البشر ولتحطيم دياناتهم وإفساد أخلاقهم، ولن يتم هذا بإذن الله ولن يتم الله بحوله وقوته لهم ذلك، والله تعالى غيور على دينه فليموتوا بغيظهم وحقدهم، وسيزيلهم الله هم والمادة التي عبدوها من دونه -عز وجل. الأساس الثاني من الأسس التي تنبني عليها الشيوعية بعد المادية هو: الجدلية أو الديالكتيك، فكما قلنا: إن المادة عند الشيوعيين هي كل شيء وليس وراءها شيء، أنها تتطور صعودا وفق قانون الجدلية -الديالكتيك- وكذلك التاريخ نفسه يسير حسب هذا القول حسب هذا القانون حتمًا بزعمهم، وتكون هذه المادة وفق ما تقترن به فتسمى المادية الجدلية في الكون إذا كانت تتعلق بتغيرات الكون وأحداثه، وإذا كانت تتعلق بسلوك الناس سموها المادية الجدلية في التاريخ، فالجدلية في المذهب الماركسي تعتبر بمثابة ركن من أركانه، وأنها هي قانون حركة الوجود كله، تعود أساس هذه الفكرة -فكرة الجدلية- عند "ماركس" إلى تأثره بالفيلسوف "هيجل" واسمه "جورج ويلهالم فريدريك هيجل"، وهو ألماني كان يؤمن بوجود إله يصفه بأنه غير متناهٍ، أو هو الوجود المطلق أو العقل المطلق ومنه ظهرت الطبيعة. وقد خالفه "ماركس" في مفهوم هذه الجدلية فعكس الأمر تمامًا، حتى تبجح "ماركس" بأنه قد أوقف آراء "هيجل" على قدميها، بعد أن كانت واقفة على رأسها بزعمه؛ بسبب أن "هيجل" كان يرى في جدليته أنها منطلقة من الله إلى كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الأكوان، وأن الفكرة هي الأصل والمادة ناتجة عنها، بخلاف ما يقوله "كارل ماركس" في جدليته التي تقول: إن الله تعالى هو من اختراع الفكر الإنساني وخيالاته، وليس عن حقيقة، وأن الأساس هو المادة، والفكر ناتج عن المادة، وهذه الجدلية -جدلية "ماركس"- تلاحظ دائمًا أن هذا الكون دائم التغير والتطور في فعل ورد فعل أشبه ما يكون بحركة المتجادلين، وقد أرجع "ماركس" هذا التجادل إلى المادة وتأثيراتها، بينما كان "هيجل" يرى أن تلك التغيرات هي للقوة الغيبية التي هي المؤثر الحقيقي فيها، وقد تصور "هيجل" حسب خياله أن تلك الحركة في التغيير والتطور في الكون تسير وفق دورات لولبية صاعدة دائمًا، وكل دورة قسمها إلى ثلاث مراحل هي: المرحلة الأولى: وسماها الطريحة أو أطروحة أو الدعوة أي الأمر. المرحلة الثانية: سماها الجمعية أو نفي النفي أو جامع الدعوى أي النتيجة. فمثلًا البرعم يسميه الطريحة ونقيضه الزهرة، ثم تأتي الجمعية التي هي الثمرة وهي أرقى من البرعم والزهرة في تطور متصاعد دائمًا، وبعضهم يسمي هذه المراحل الوضع ونقيضه، ومؤتلف الوضع ونفيه، وكلها افتراضات خيالية تصورها "هيجل" في تضاد دائم بين الشيء ونقيضه، والنتيجة النهائية لهذا النقيض الذي يمشي صاعدًا في تطور هو نهاية كل نقيضين، وغاب عن "هيجل" وعن غيره -ممن يرددون هذه الدعوات- أنه لا يمكن اجتماع النقيضين في وقت واحد وعلى شيء واحد لأنه مستحيل إلا في خيال الفلاسفة الفارغين. وما زعمه "هيجل" من أن الأشياء كلها في تطور متصاعد هو فكر غير صحيح في كل الأمور، فإذا صح في بعض الحالات فإنه غير صحيح في كلها. فمثلًا الإنسان وهو حي يسمى حسب نظرية "هيجل" طريحة، ثم يأتيه الموت فيسمى نقيضًا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ثم يتحول إلى تراب فيسمى جميعة، فأين التطور التصاعدي في هذا حسب نظرية "هيجل"؟! أو مثل الغريزة الجنسية هي الطريحة والكبت هو النقيض والتسامي هو الجميعة، أي المحصلة النهائية الحتمية الوقوع لكل من الطريحة والنقيضة، لكن لنفرض أن الأمور لم تسر إلى نهايتها وهي الجميعة، بأن حصل معوق للشخص بعد ظهور النقيضة، بأن مات أو جُن أو حصل له أي أمر خطير وانتهى، فأين التصاعد في هذا وغيره من الأمثلة التي تكذب حتمية التطور التصاعدي في كل شيء؟!. وهذه الجدلية عند "ماركس" أو ما يظهر منها عدم إيمانه بالله تعالى، وإيمانه بدلًا عنه بالمادية الجدلية وتطورها، وأنها هي التي أنشأت الدين والسياسة والقانون والأخلاق بل والإنسان نفسه، فالإنسان في نظره إنما هو من نتاج تلك المادة وفكر الإنسان أيضًا كذلك، بل وجود الله تعالى إنما هو من صنع الإنسان المادي وفكره في عقيدة "ماركس"، وهو بهذا قد قلب جدلية "هيجل" التي قامت على الإيمان بالغيب الإلهي إلى المادة وحدها عند "ماركس"، ويصح أن نقول: إن "ماركس" قد قلب نظرية "هيجل" على رأسها بعد أن كانت على رجليها المعوجتين هي الأخرى، فحينما تسأل ماركسيًّا عن سر وجود هذا الكون تجده يجيبك بجواب سخيف تافه، فيقول: إن الكون قد تطور بنفسه إلى أن أصبح على ما هو عليه اليوم في هذا التناسق البديع. ويجيب عن سريان الحياة في الكون بأنه بعد أن اكتمل وجود الكون تطور تلقائيًّا، إلى أن وجدت الحياة على ظهر الأرض ومِن ضمنها حياة الإنسان الذي وجد ضمن حركة التطور الديالكتيكي، دون أن يكون لها أي مؤثر خارج عن نطاقها غير التناقضات والتضاد الكامن في المادة. كما أنه قد احتدم الخلاف جدًّا بينهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قضية العقل والفكر والمادة، أيهما السابق والمؤثر في الآخر؟ فالمثاليين منهم -أي المؤمنون بالإله الغيبي ومنهم "هيجل"- يرون أن العقل هو الأساس والمتقدم على المادة وما ينتج عنه، بينما الماديون -وهم منكرو الخالق: "ماركس" وأتباعه- يرون أن لا شيء في الإيجاد سوى المادة وهي المتقدمة والمنشئة حتى للإنسان وأفكاره، ويتلخص الجدل الماركسي في ثلاثة قوانين: أول هذه القوانين: هو قانون التغير من الكم إلى الكيف، وهو ما يحدث في نظرهم بطريق المفاجأة، كتحول الماء الساخن إلى بخار بزيادة النار عليه. أما القانون الثاني: فهو قانون صراع الأضداد والذي يأتي من داخل الأشياء نفسها، من بذرة النقيض التي توجد في داخل كل شيء وليس من الخارج. وأما القانون الثالث: فهو قانون نفي النفي، أي أن كل مرحلة تحدث تنفي سابقتها ثم تنفيها مرحلة تالية وهكذا، والآن بعد أن رأينا هذه القوانين المادية والجدلية نرى أن هذا الهراء -الذي يتحدثون عنه- قد ظهر لكل ذي عينين أنه بعيد عن الحق. فإذًا الماركسية الآن كما يقولون في العراء، وقد انكشفت في أقبح صورة وانجلت الغمة عن الناس، فظهروا في أتعس حال، وإذا بأكاذيبهم وهرائهم يداس بالأرجل، فقد راهنوا أن نظريتهم الإلحادية ستعم الأرض كلها، وسيصبح البشر كلهم ملاحدة، كافرين بالذي خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم سواهم أشخاصًا، في غاية الخصومة لربهم وقاهرهم متنكبين الحق متعالين على الناس، محتقرين لكل نواميس هذا الكون ومحتقرين لكل الشرائع والكتب المنزلة والأنبياء الكرام، في جدال بالباطل لا يملكون على كل نظرياتهم أي دليل حقيقي إلا ما زخرفوه من شبهات باطلة ونظريات زائفة، لا تثبت أمام الحقائق، حتى وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 صوروها على أنها حقائق لا تقبل الجدال، وأن كل ما عداها محل شك مستندين إلى ما تم لهم من اكتشافات تجريبية. لكن هذه الاكتشافات التجريبية كلها تصرح بعظمة الباري جل وعلا، ولكنهم قلبوا الحقائق وجعلوا منها أدلة على إلحادهم، وكل ما هو لله سبحانه وتعالى جعلوه للطبيعة التي عبدوها من دون الله، وزعموا أن الطبيعة هي التي تسير الكون في تناسق عجيب محكم وترابط متشابك، وكان هذا يكفي دليلًا على وجوب الإيمان بوجود خالق مهيمن على كل ذرة في هذا الكون، يسيره على نسق واحد دون اختلاف حسب سننه في الكون، ولكن الشيطان حال بينهم وبين التفكير الصحيح، فقلبوا هذه الحقيقة وزعموا أن هذا التناسق إنما هو من شأن الطبيعة والمادة، التي وصفوها بأنها لا بداية لها ولا نهاية لها، حتى لكأن الخلاف بينهم وبين المؤمنين بالله تعالى خلافًا لفظيًّا. المؤمنون يسمون هذه الطبيعة إلهًا وهم يسمونها مادية. قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (الطور: 35)، وكان يجب أن يسميهم الناس مجانين حينما زعموا أن الكون وجد بدون موجد، وحدث بعد أن لم يكن حادثًا دون محدث له، غير ما توهموه من تجمع ذرات هذا الكون وتطورها، إلى أن أحدثت هذا العالم والكون وما فيه من أجرام علوية وسفلية، وكلها عن طريق الصدفة والارتقاء، ولو قلت لأحدهم: إن عمودًا كهربائيًّا وجد بذاته وأصبح ينير للناس الطريق لضحك من قائله ونسبه إلى الجنون، بينما هذه الشمس وهذا القمر وهذه الكواكب وهذه الثمار في الأرض والأنهار والجبال كلها يقولون عنها: إنها وجدت بدون خالق. إن الملاحدة يعترفون بعجزهم التام عن معرفة سر وجود الحياة لأي كائن مهما كان صغر حجمه أو كبر حجمه، وأنهم لا يستطيعون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 إرجاع الروح لصاحبها إذا بلغت الحلقوم، فأين المادة التي يتشدقون بأنها هي الموجدة لهذا الكون؟! ولماذا لا يتوسلون إليها لإرجاع الروح بعد أن يصبح الجسد مادة هامدة؟!. أما ما يرددونه من أن كل الأشياء تحوي تناقضات داخلية مجتمعة في وحدة يسمونها وحدة الأضداد أو وحدة المتناقضات تتصارع فيما بينها، ثم ينتج عن ذلك الصراع تطور في صعود دائم لا ينتهي، فهو افتراض سخيف؛ إذ لا يوجد إلا في الذهن، والذهن قد يتصور أن المستحيلات ممكنة أحيانًا، ذلك أن اجتماع النقيضين أمر غير ممكن، إلا إذا صدقنا بأن الحرارة والبرودة تجتمع في النار، أو الحياة والموت يجتمع في الشخص في وقت واحد، وليس من هذا ارتفاع الضدين في وقت واحد فإنه ممكن، كقول الناس: هذا لا هو أبيض ولا هو أسود، أي هو على لون غير هذين اللونين أصفر أو أحمر مثلًا، أما أن يقال: هذا أبيض وأسود أو ساكن ومتحرك في وقت واحد فهو مستحيل. أيضًا لقد غلا الشيوعيون في تقديس المادة وعتو عتوًّا كبيرًا، إلى حد أنه تنطبق عليهم المقالة المشهورة: إذا حدث الشخص بما لا يعقل فصدق فلا عقل له. فأي عقل سليم وأي فطرة سليمة تصدق أن المادة الصماء هي الخالقة وهي الرازقة وهي المدبرة لجميع أمور هذا الكون؛ علويه وسفليه ظاهره وخفيه؟! مع اعترافهم هم أيضًا بأن تلك المادة لا حياة لها ولا فكر ولا تدبير في البدايات الأولى لها، غير ما تخيلوه أنها بعد ذلك تطورت حتى أوصلت هذا الكون على ما هو عليه الآن، ثم يقولون: هي أزلية لا بداية لها ولكنهم يتوقفون حينما يقال لهم: إنها حادثة، ولا يستطيعون الجواب لأنهم متناقضون، وإذا أفحمهم العقلاء عن سر وجود هذا الكون قالوا بأن الكون وجد من العدم، ولا يبالون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 بسخف واستحالة هذا القول والقول الآخر بأن المادة هي التي تسير العقل وتوجد الفكر، لا أن العقل هو الذي يوجد المادة ويكيفها كما يريد مكابرة منهم وجهلًا شنيعًا، حيث صار المصنوع صانعًا على حسب مفهومهم، فالطائرة هي التي كونت فكرة الإنسان لصناعتها، وما الذي يمنعهم من هذا وقد زعموا أن الحياة كلها ظهرت صدفة دون مدبر عليم؛ نتيجة تفاعلات المادة الناتجة عن حركتها الذاتية المستمرة، لا أن هناك ربًّا خالقًا لها؟! وهي مكابرات لعلهم أول من استيقن بطلانها، لولا العناد والاستكبار وتنفيذ خطط ماكرة أملتها عليهم الأحقاد اليهودية على مر السنين. ونناقش الآن مسألة التطور في كلامهم، وهي المسألة التي تتردد على ألسنة كثير من الناس، بعضهم يدرك المدلول والمغزى الأساسي لها، وبعضهم يعرفها بصورة مجملة ويرددها على هذا المفهوم، وهي في ظاهرها كلمة جميلة توحي بالتجديد والنشاط والحيوية المطلوبة، إلا أنه ينبغي أن ندرك أن كثيرًا من أصحاب الأفكار الهدامة قد استغلوها استغلالًا فاحشًا، وبنوا عليها آراءهم التي يهدفون من ورائها إلى تغيير المفاهيم السليمة، والمعتقدات المستقيمة والحياة الاقتصادية تغييرًا جذريًا، يتفق مع ما بينوه لقلب الحياة الاجتماعية، وحسبنا هنا أن نذكر مفهوم التطور بصورة موجزة، وهل التطور الذي يريده الشيوعيون هو تطور حقيقي، أما أنها خرافات وهمية تخيلوها لتأييد ما يهدفون إليه من الإلحاد؟ فالتطور بحد ذاته يراد به: الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، والتغيير من حال إلى حال، والواقع أنه إما أن يكون التطور في خلق الإنسان وتركيبه، وإما أن يكون في أصل نشأة الكون وما فيه. فأما التطور بالمفهوم الأولي في خلق الإنسان وتركيبه وهو حق، وهو ما جاء ذكره في كتاب الله تعالى في بيانه لخلق الإنسان، والمراحل التي يمر بها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} (نوح: 14). أي أوجدكم طورًا بعد طور، وهو ما فسره الله تعالى بقوله في آية أخرى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (المؤمنون: 12 - 16). هذه هي أهم الأطوار التي يمر بها الإنسان في حياته الجسمية وهي خاصة ببني آدم، أما آدم فإن هذه التطورات لا تشمله، فقد خلقه الله بيده من تراب الأرض ثم نفخ فيه الروح فكان بشرًا سوي ًّ ا، أما التطور بالمفهوم الثاني فإنه ينقسم إلى قسمين: قسم نشأة هذا الكون والمراحل التي مر بها في تطوره إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن. والقسم الثاني: يتعلق بمعرفة أصل نشأة الكائنات الحية، المراحل التي مرت بها في تطورها وفي أولها الإنسان، وكيف نشأ وكيف تطور في وجوده وفي تفكيره وفي معيشته وفي عبادته، حسب تفكير أصحاب نظرية التطور، وفي أولهم "داروين" وحفيده ومن جاء بعدهما على هذه الفكرة الباطلة، التي أصبح دعوى التطور فيها من أهم خصائص المذهب الشيوعي، حيث يقصدون بالتطور أن كل أمر في هذا الوجود يتطور ويتقدم إلى الإمام في خطوات متتابعة إلى ما لا نهاية بزعمهم، ويستدلون على ذلك بما قرره "داروين" من أن الإنسان كان مائيًّا ثم برمائيًّا ثم بريًا، ثم عرف الرق ثم الإقطاع ثم الرأسمالية إلى أن عرف الشيوعية الماركسية وسيتطور فيما بعد. ولا يغيب عن الطالب الذكي وضع الشيوعية اليوم، حيث أقر الله عيون أهل الإيمان بموتها في عقر دارها، وهذا من الأدلة الدالة على كذب أحلام الملاحدة فيما تصوروه عن التطور المزعوم وأبديته، وانتشار المذهب الشيوعي تلقائيًا، كما أن هذا المفهوم الذي قرره الملاحدة لتطور الأشياء لم يكن صحيحًا، فوجود المادة لا يطور أحدًا وليس وجودها كافيًا لتطور الإنسان، ومعلوم أن الماديين وهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 جاهدون وجادون في محو كل القيم الإنسانية أو أي شيء يؤدي إلى احترام إنسانية الإنسان، معلوم أنهم يعرفون تلك الحقيقة ولكنهم يتحاشون البوح بها؛ لئلا يؤدي ذلك إلى احترام القيم والمثل، ولئلا يؤدي ذلك إلى التهذيب الديني للإنسان، الذي يجعل كل الفضائل للمادة خيرًا من جعلها للإنسان في ميزان الملاحدة؛ لأن المادة لا خطر من ورائها، ولا يؤدي احترامها إلى فرض القيم الدينية التي يخافونها، والتي تذكرهم باستبداد الدين النصراني المحرف. فتطور الإنسان في حياته المادية في معيشته وفي طريقة سكنه وفي ملبسه ومركبه أمر واقع، فقد كان الناس يركبون الجمال والبغال والخيل، واليوم أصبحوا يركبون السيارات والطائرات والسفن، وغير ذلك من الوسائل التي تطور فيها الناس، وهذا التطور بهذا المفهوم أمر حقيقي لا يجهله أحد، إلا أنه لم يكن نتيجة لتصادم الحاجات، كما أن وجود القيم الإنسانية والأخلاق والدين وسائر الفضائل -التي امتاز بها الإنسان عن الحيوانات البهيمية- لم تنشأ عن صراع وتناقض، ولم يكن فيها الإنسان كالحيوان في المعايير والقيم والسلوك، كما قرره الملاحدة حسب ما استخلصوه من نظرية "داروين" و"فرويد". الشيوعية والأسرة يزعمون أن نظام الأسرة إنما هو ناشئ عن أوضاع اقتصادية، مثله مثل سائر القيم والأخلاق، وليس هناك نظام إلهي بشأنه، ولهذا فنظام الأسرة في نظرهم قابل للتطور حسب الأحوال الاقتصادية؛ لأن الأسرة في النظام الشيوعي إنما نشأت عن تطورات متلاحقة، حسب تفسيرهم المادي للحياة، وكانت بداية الأسرة على الأقسام الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 القسم الأول: أسرة الجيل. القسم الثاني: أسرة الشركاء. القسم الثالث: الأسرة الزوجية. القسم الرابع: الأسرة الوحدانية. أما القسم الأول -وهو أسرة الجيل كما تصوروها- فيزعمون أن العلاقات الجنسية كانت مباحة فيها بين أبناء الجيل الواحد، بين الإخوة والأخوات ومحرمة فيما دون ذلك، أي بين جيل الآباء وجيل الأبناء، ثم حدث تطور جديد فحرمت فيه العلاقة الجنسية بين الإخوة والأخوات بطريقة تدريجية، أما أسرة الشركاء فكانت العلاقات الجنسية فيها مباحة للجميع في شراكة تامة، بحيث أصبح الولد لا يعرف له أبًا، ومن هذه الأسرة انبثقت أسرة العشيرة. أما الأسرة الزوجية فقد عرفت بمباشرة الرجل لزوجة واحدة في رباط زوجي، وأما الأسرة الوحدانية فهي الأسرة التي تقوم على سيطرة الرجل، ولا شك أن هذا التقسيم وهذا التنظيم إنما هو محض خيال وافتراء، ومن العجيب أنهم يعترفون أن الناس في ذلك الزمن ما كانوا يعرفون الحضارة ولا التقدم ولا القراءة ولا الكتابة، فمن أين لهم هذه السجلات التي استقوا منها هذه المعلومات الموغلة في القدم {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 64). والإنسان في مفهومهم مرة يجعلونه بدائيًّا تافهًا بل حشرة من الحشرات، ومرة يجعلونه أساس التطور حينما يعيش على نظام كل شيء مشاع، ولهذا فهم يريدون أن يرجعوا الناس إلى تلك الحال التي يعبرون عنها بالحال السعيدة للمجتمع البشري، والباطل لابد وأن يتناقض أهله فيه. لقد داس الملاحدة على كل القيم إذ لا وجود لها عندهم، إلا من خلال ما تمر عليه الظروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الاقتصادية، التي هي المؤسس الحقيقي بزعمهم لكل القيم والأخلاق والأسرة والدين وسائر العلاقات، ومن هنا ساغ لهم القول بأن الملكية الجماعية الشيوعية في زمن الشيوعية الأولى البدائية كانت صوابًا؛ لأنها كانت هي الوضع الحتمي لذلك الوقت، ثم تغيرت بفعل التطور إلى ملكية فردية، وكانت كذلك مرحلة مرت ثم نشأ الرق والإقطاع إلى آخر ما يقولون. لقد نسي أولئك الملاحدة -أو تناسوا عمدًا- أن الذين أقبلوا على الفوضى الجنسية وقطع العلاقات الأسرية؛ نسوا أن هؤلاء يعيشون عيشة ملؤها القلق والاضطراب والأمراض العصبية، مع أنهم يتوفر لهم كل ما يطلبونه من المتع الجنسية ومن المال أيضًا، ولكن لماذا يبادر أولئك إلى الانتحار المتتابع؟! وما أكثره في أوروبا بين الرجال والنساء والأحداث، وما أكثر ما يتأوه عقلاؤهم من أوضاعهم التي تزداد سوءًا كلما ازداد تفكك الأسر، وفشت الجرائم تحت تسمياتهم الخادعة، ما خدعوا به الناس وأخرجوهم عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها إلى الشقاء وتأنيب الضمير. وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 الدرس: 11 الشيوعية (3). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي عشر (الشيوعية (3)) هل البشر في حاجة إلى أدلة لإثبات وجود الله تعالى؟ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: قضية وجود الله تعالى أو عدمها قضية ما كان لها أن تبحث ... ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد فوجوده -سبحانه وتعالى- يتمثل بوضوح في كل هذا الوجود، من أصغر مخلوق إلى أكبره ومن الذرة إلى المجرة، بل إن الإنسان من أكبر الأدلة على وجود الله الحكيم الخبير، فأي موجود يستطيع أن يزعم أنه هو الذي أوجد نفسه، وعلى الصورة التي أرادها أو قدر لنفسه رزقه وأجله ومصيره بعد ذلك؟! لكن هناك فئة شاذة استهواهم الشيطان فمات قلبهم وإن كانوا أحياء يرزقون، فذهبوا يعترضون على وجود الله تعالى وهذه الفئة هم الملاحدة، ولقد كثرت الردود على الملاحدة في هذه القضية الخطيرة بما لا يكاد يحتاج إلى زيادة، لكن المؤمن السليم الفطرة الذي لم تنحرف به شياطين الإنس والجن حصل في قلبه تضايق من سرد هذه الأدلة؛ فالله -عز وجل- أجل وأعظم من أن يحتاج وجوده إلى شخص من الناس يثبته أو يجادل خصومه لإثبات وجوده. لا يمكن أن نجد إنسانًا سليم العقل والفطرة يعتقد أن الله سبحانه وتعالى يخفى على عباده، فالعقل والكون كله وجميع المخلوقات من نبات وجماد وحيوان وإنسان وغيرها ومن ساكن ومتحرك، كلها تدل على وجود الله سبحانه وتعالى، وتشهد بقدرته وحكمته ولطفه وعظمته جميع ذرات هذا الكون، ولذلك فلسنا في حاجة إلى الإتيان بحشود من الأدلة، وما أكثرها على وجود الله وما أكثرها في كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، ففي كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يشفي ويكفي لمن عنده أدنى شك في وجود المولى -عز وجل. ومن العجيب أن يستدل الملاحدة على إنكار وجود الله تعالى بأدلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 هي أقوى الأدلة على وجوده وخلقه لهذا الكون وتدبيره له، ولعل الذين جرءوا فنفوا وجود الله -عز وجل- إنما حملهم على هذا ما وجدوه من أوصاف الإله سبحانه في التوراة والإنجيل، التي حرفت بأيدي اليهود والنصارى، فهم يصفونه في هذه الكتب المحرفة -وحاشاه- من أنه شاخ وكبر وينسى ويأكل ويشرب ويمشي ويجلس ويحزن ويندم ويهم بالشيء ثم لا يفعله، تعالى الله عما يصفون. نعم؛ إن مثل هذا الإله بصفاته من السهل جدًّا إنكاره، خصوصًا إذا أضفنا إليه الصفات التي وردت في التلمود، من تعلقه ببني إسرائيل وتدليله لهم وغضبه أحيانًا عليهم، ثم يضرب وجهه ويندم ويبكي ويلعب مع الحوت الكبير، إلى آخر تلك الصفات التي تدل على سقوط المتصف بها، فضلًا عن اعتقاد احترامه، ولكننا لا نبحث عن هذا الإله ولا عن الإله الذي اعتقدت الشيوعية فيه أنه يحابي الظلمة، أو أنه لا وجود له إلا في أذهان الرجعيين لأنه غير منظور وغير موجود، متجاهلين أنه ليس كل موجود حتمًا يُرى، كوجود الهواء الذي نحس به ولا نراه وكوجود العقل في الإنسان، إذ نفرق بين المجنون وبين العاقل بوجود الروح إذ نفرق بين الحي والميت، والجاذبية والمغناطيسية والكهرباء وغيرها من الأمثلة التي لا تحصى. فنحن نؤمن بهذا الإله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، الإله الذي يعلم السر وأخفى، إله خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، نؤمن بهذا الإله الحق ونكفر ونلعن من يشك في وجوده، فلقد تيقن كل إنسان أنه لم يخلق نفسه وأن فاقد الشيء لا يعطيه، فلا المادة ولا الطبيعة خلقت أحدًا، إذ إن المادة والطبيعة مخلوقة مقهورة، كما أنه لا يجرؤ أحد على أن يقول: إنه يخلق شيئًا ما أو إنه خلق نفسه أو غيره، وقد استيقن بهذا حتى أكابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الملاحدة، وما جحد من جحد منهم وجود الله إلا عنادًا واستكبارًا وبغضًا للكنيسة ورجالها، ولقد صاح المفكرون في أوروبا وشهدوا على النصرانية والإلحاد بالضلال، وهذه الشهادة -الصادرة على ضلال هذه الطوائف من أهلها- إنما هي أكبر دليل على أن الإلحاد لا استقرار له ولا مكان، وإنما هو زوبعة عارضة ستنتهي -إن شاء الله تعالى- كما انتهت سائر الأفكار الباطلة. ومن الذين شهدوا على ذلك من علماء أوروبا "رسل تشارلز أرمست" وهو أستاذ للأحياء والنبات بجامعة "فرانكفورت" بألمانيا حيث قال هذا الأستاذ: "لقد وضعت نظريات عديدة لكي تفسر نشأة الحياة من عالم الجمادات، فذهب بعض الباحثين إلى أن الحياة قد نشأت من البروتوجين أو من الفيروس، أو من تجمع بعض الجزئيات البروتينية الكبيرة، وقد يخيل إلى بعض الناس أن هذه النظريات قد سدت الفجوة التي تفصل بين عالم الأحياء وعالم الجمادات، ولكن الواقع الذي ينبغي أن نسلم به أن جميع الجهود التي بذلت -للحصول على المادة الحية من غير الحية- قد باءت بفشل وخذلان ذريعيْن. ومع ذلك فإن من ينكر وجود الله لا يستطيع أن يقيم الدليل المباشر للعالم المتطلع على أن مجرد تجميع الذرات والجزيئات من طريق المصادفة يمكن أن يؤدي إلى ظهور الحياة وصيانتها، وتوجيهها بالصورة التي شاهدناها في الخلايا الحية، وللشخص مطلق الحرية في أن يقبل هذا التفسير لنشأة الحياة فهذا شأنه وحده، ولكنه إذ يفعل ذلك فإنما يسلم بأمر أشد إعجازًا وصعوبة على العقل من الاعتقاد بوجود الله، الذي خلق الأشياء ودبرها، إنني أعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها، وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرته، شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك فإنني أؤمن بوجود الله إيمانًا راسخًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ويقول "إرفنج وليم" الحاصل على الدكتوراه من جامعة "أيوا" وأخصائي وراثة النباتات، وأستاذ العلوم الطبيعية بجامعة "ميتشجن" يقول: "إن العلوم لا تستطيع أن تفسر لنا كيف نشأت تلك الدقائق الصغيرة المتناهية في صغرها، والتي لا يحصيها عد، وهي التي تتكون منها جميع المواد، كما لا تستطيع العلوم أن تفسر لنا -بالاعتماد على فكرة المصادفة وحدها- كيف تتجمع هذه الدقائق الصغيرة لكي تكون الحياة"، ويقول "وينشستر" المتخصص في علم الأحياء يقول: "ولقد اشتغلت بدراسة علم الأحياء، وهو من الميادين العلمية الفسيحة التي تهتم بدراسة الحياة، وليس بين مخلوقات الله أروع من الأحياء التي تسكن هذا الكون. انظر إلى نبات برسيم ضئيل وقد نما على أحد جوانب الطريق، فهل تستطيع أن تجد له نظيرًا في روعته بين جميع ما صنعه الإنسان من تلك العدد والآلات الرائعة؟! إنه آلة حية تقوم بصورة دائبة -لا تنقطع آناء الليل وأطراف النهار- بالآلاف من التفاعلات الكيميائية والطبيعية، ويتم ذلك تحت سيطرة البروتوبلازم، وهو المادة التي تدخل في تركيب جميع الكائنات الحية، فمن أين جاءت هذه الآلة الحية المعقدة؟!. إن الله لم يصنعها هكذا وحدها ولكنه خلق الحياة وجعلها قادرة على صيانة نفسها، وعلى الاستمرار من جيل إلى جيل، مع الاحتفاظ بكل الخواص والمميزات التي تعينها على التمييز بين نبات وآخر. إن دراسة التكاثر في الأحياء تعتبر أروع دراسات علم الأحياء وأكثرها إظهارًا لقدرة الله". هذه نماذج من أقوال علماء الغرب عن عظمة الكون وشهادته على وجود الله، وهناك عشرات -بل مئات الأدلة- على خالق هذا الكون ومدبره، وشهادة هؤلاء العلماء -كل في مجال تخصصه- شهادة حق والحق مقبول من أي شخص كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 والملاحدة وهم ينكرون وجود الله تعالى، ولا يعترفون بأنه هو الخالق المدبر لهذا الكون وما فيه، هم أقل وأذل من أن يصلوا إلى قناعة بإنكارهم، وهذا إجرام شنيع ولم يكتفوا به، بل أضافوا إلى هذا الإجرام زعمهم أن العلم هو الذي دل على هذا، وأن البديل عن الله تعالى هي الطبيعة، التي قالوا عنها بأنها هي التي خلقت السموات والأرض والإنسان والنبات وسائر المخلوقات، فكيف تم ذلك حسب تعليلهم؟ قالوا -وبئس ما قالوا-: إن وجود هذا الكون وما فيه إنما هو نتيجة حركة أجزاء المادة، وتجمعها على نسب وكيفيات مخصوصة بوجه الضرورة بدون قصد ولا إدراك، وبسبب تلك الحركة أخذت تتجمع أجزاء المادة المختلفة الأشكال على كيفيات وأوضاع شتى، فنتجت تلك المتنوعات. هذا هو مبلغهم من العلم، مبلغهم من العلم أن كل شيء وجد بطبيعته عن طريق الصدفة والحركة التطورية دون قصد ولا إدراك، على أن هذه الطبيعة التي يزعمون أنها تفعل كل ما تريد نجد أن بعضهم لا يحترمها، بل يتعمد الإساءة إليها وإهانتها بأنواع السباب واللمز في إرادتها وقوتها ووفائها. وإليك ما قاله وزير خارجية أكبر دول العالم وأقواها، في عتابه المرير وتهكمه بالطبيعة حينما لم تحقق لهم آمالهم وما يطلبونه منها، فقد قال "كولن باول": "إننا ندين تخلف الثلج عن موسم الأعياد، راجيًا الطبيعة الأم أن تعالج هذه المسألة". إلى أن قال: "لا يمكن لشيء أن يبرر إفساد هذا الحدث الهائل. إننا ندعو الطبيعة إلى القيام بمبادرة فورية". وقال: "إننا نعتبر استمرار الطبيعة في رفض القيام بواجباتها حيال الدول المتحضرة عملًا استفزازيًّا". فيا ترى ماذا يقصد بالطبيعة الأم؟! إنه إلحاد وكفر وسخف، فما هي الطبيعة الأم التي يتحدث عنها هؤلاء ويقولون: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 إنها هي التي تخلق وتحيي وتميت وترزق من تشاء وتمنع من تشاء، وتخاطب بتلك اللهجة الحارة المفتقرة إلى الأدب؟! فمن المعروف أن الطبيعة لا تخلو عن أن تكون: أولًا: إما أن تكون هي نفس الذوات الموجودة في الكون من الحيوان والنبات والجماد، وهذه كما نرى لا يصح الاستغاثة بها ليتساقط الثلج في موسم الأعياد، ليلهوا ويلعب بها طغاة اليهود. ثانيًا: وإما أن تكون هي صفات الأشياء الموجودة في العالم؛ من حركة وسكون وحرارة وبرودة وليونة ويبوسة إلى غير ذلك، وهذه أيضًا كذلك لا تملك لنفسها وجودًا ولا عدمًا، ومهما كان الجواب فإنه خطأ وجهل شنيع حين يسند إيجاد هذا الكون البديع عن طريق طبيعة لا تعقل، فلا تملك لنفسها ولا لغيرها ضرًا ولا نفعًا، فهل يتصور أحد أن من لا يعقل يخلق من يعقل، وهل يستطيع شيء لا إرادة له ولا غاية أن يخلق كائنًا له إرادة وغاية؟!. إن الإنسان كائن عاقل مدبر وله إرادة وله هدف وله غاية، والطبيعة ليست لها تلك الصفات فهي ناقصة، فهل يمكن للناقص أن يوجد الكامل؟! إن هذا الكون محكم متقن كما قال الله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40). فالكواكب محكمة بإتقان والبحار لا يطغى بعضها على بعض، والحيوانات لا تلد إلا نفس الحيوان من جنسها، والشجرة لا تنبت إلا نفس الشجرة، وقس على هذا سائر ما تراه في هذا الكون، فالإنسان هو الإنسان والبقرة هي البقرة والكبش هو الكبش أينما اتجهت في هذه الأرض، مما يدل على أن الخالق واحد، فكيف تستطيع الطبيعة أن تدير هذا الكون بهذه الدقة المعجزة، التي تشهد آياتها في كل ما حولنا من شؤون الكون؟! والحياة تشهد أن لها خالقًا قاهرًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 ثم يقال أيضًا لهؤلاء الملاحدة: هل لأجزاء المادة إرادة وقصد في تنويع المخلوقات في العالم؛ من نجوم وكواكب ومعادن ونباتات وحيوانات وبشر؟! كيف يفترض إنسان أن يكون كل هذا وجد بفعل ذرات الطبيعة الصماء؟! إن المادة لا عقل لها ولا بصر كي ترتب المخلوقات وتنظم شؤونها، ولا منطق لها كي تفكر في مستقبل الأشياء وما تحتاجه، وهذا يعني أن القول بخلق الطبيعة للوجود لا يخرج عن تفسير الماء بالماء، فالأرض خلقت الأرض والسماء خلقت السماء، والأصناف صنعت نفسها والأشياء أوجدت ذواتها، فهي الحادث وهي المحدث وهي المخلوق والخالق في الوقت ذاته، وبطلان هذا القول بين وهو لا يخرج عن أمرين: إما الادعاء بأن الشيء وجد لذاته من غير سبب وهذا قول فاسد، وإما ازدواج الخالق والمخلوق في كائن واحد، فالسبب عين المسبب وهو مستحيل وهو تهافت وتناقض لا يحتاج لشرح. ولو كانت الطبيعة هي الخالق -كما يقولون- لكانت قوانينها واحدة، المريض لابد أن يموت والصحيح لا يمرض، والنبات الذي يسقى بماء واحد لا يختلف طعم ثمره، لكننا نرى العكس أحيانًا نرى المريض يشفى والصحيح يموت بدون مرض أو علة، ونرى الزرع والنبات في ساحة واحدة يمتص غذاءه في الأرض من تراب واحد ويسقى بماء واحد، ولكن الثمر قد يختلف في المذاق وفي الألوان وفي الروائح والمنافع والمضار، فهل هذا كله من صنع الطبيعة الصماء أو المادة العمياء، وهل هذا هو العلم الذي يقولون به؟! إن هذا هو الجهل بعينه وليس بالعلم!. ثم تأمل قول الله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4). وقوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (النحل: 13). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} (الحج: 65، 66)، وقوله تعالى: {أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (النمل: 60 - 62)، وتأمل هذه الآيات ودلالاتها إذا أردت أن تخرج من ظلمات الجهل إلى نور العلم واليقين، فهذا هو الحق وهذا هو البرهان الذي يجب أن نطأطئ له الرءوس والعقول إجلالًا وخضوعًا. ومما يجدر بنا في هذا المقام أن نعرض لبعض ما سجله العلماء التجريبيون؛ مِن الإيمان بالله تعالى عن قناعة ويقين، من خلال بحوثهم وتجاربهم في اكتشافاتهم العلمية، وقد ذكر بعض الباحثين أمثلة كثيرة لهؤلاء العلماء، منها ما جاء في كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) وقد عرض لثلاثين مقالة لمجموعة من كبار العلماء الأمريكيين، في تخصصات علمية مختلفة في علوم الكون والحياة من كيمياء وفيزياء وتشريح وأحياء وغيرها، وكلهم أدهشهم ما توصلوا إليه من ملاحظات وما شاهدوه من عجائب خلق الله سبحانه وتعالى. فمنهم من قال: إذا سلمنا بأن هذا الكون موجود فكيف نفسر وجوده ونشأته؟ هناك احتمالات أربعة للإجابة على هذا السؤال. فإما أن يكون هذا الكون هو مجرد وهم وخيال، وهذا يتعارض مع ما سلمنا به من أنه موجود، وإما أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 هذا الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم وهذا مرفوض بداهة، وإما أن يكون هذا الكون أزلي الوجود ليس لنشأته بداية وهذا الاحتمال يساوي ما يقوله المؤمنون بالله من أزلية الخالق، لكن قوانين الكون تدل على أن أصله وأساسه مرتبط بزمان بدأ من لحظة معينة، فهو إذًا حدث من الأحداث، فلا يمكن إحالة وجود هذا الحدث المنظم البديعي إلى المصادفة عقلًا، ولذلك فهذا الاحتمال باطل، وإما أن يكون لهذا الكون خالق أزلي أبدعه، وهو الاحتمال الذي تقبله العقول دون اعتراض، وليس يرد على إثبات هذا الاحتمال ما يبطله عقلًا فوجب الاعتماد عليه. شبهات الملاحدة في إنكارهم وجود الله تعالى الشبهة الأولى: دليل الجاذبية: فقد زعموا أن اكتشاف نظام الجاذبية -في عالم الفلك- أن هذا الكون محفوظ بقانون الجاذبية ومتماسك بسببها، وليس بقدرة إله خالق. لا شك أن هذا الفهم تافه إذ يقال لهم: هل نظام الجاذبية ينفي وجود إله خالق قادر، أما أنه على العكس يدل على وجود هذا الإله سبحانه وتعالى؟! الذي خلق الجاذبية ذاتها لتعمل وفق ما أراد وقدر لا وفق ما تريد هي، إذ لا إرادة لها ولا وجود لها من نفسها، فهي قد وجدت بعد أن لم تكن، وهذا الترتيب العجيب في الكون يفوق كل قدرة يفوق كل تدبير. لقد حير العقول وتضاءلت دون إدراكه الأفهام، فكيف ينسب هذا كله إلى الجاذبية المحدثة المخلوقة؟!. كما أن كثيرًا من الملاحدة يعترفون بعجزهم عن الوصول -عن طريق الأبحاث والتجارب- إلى معرفة أسرار كثيرة من الحقائق المشاهدة في هذا الكون، وهذا الإقرار يلزمهم أن يقروا أيضًا بحقيقة الإله بل وحقيقة الدين؛ لأنه يشتمل على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 كثير من الحقائق التي لا يصل العقل إلى معرفتها، لا عن طريق البحث ولا عن طريق التجارب، فكيف ساغ لهم الإيمان بأن لبعض الحقائق المشاهدة حقائق باطنية عجز العلم عن معرفتها، بينما ينفون وجود الإله وحقيقة الدين؛ بحجة أن الدين قائم على أمور لا تدرك حقيقتها الباطنية عن طريق البحث والتجربة؟! هذا تناقض واضح وتفريق بلا مستند!. الشبهة الثانية: قضية الارتقاء: أي ارتقاء المخلوقات وتطورها في خلقها تلقائيًا، وهذه القضية رغم وضوحها في الدلالة على وجود الله تعالى وقدرته ومشيئته ورحمته بخلقه، إلا أنهم نظروا لها من جانب آخر بعيد عن الفهم السليم والعقل المستقيم، فزعموا أن أنواع الحياة قد وجدت نتيجة لعمل الارتقاء، لافتراضهم أنه على فرض وجود خالق لهذه الحياة بزعمهم، فلا يمكن أن يخلقهم على هذا الترتيب من الصغر إلى الكبر في الإنسان والنبات، بل يخلقه دفعة واحدة كل صنف في كمال شكله بدون ترتيب، يخضعها لعمل تطوري طويل الأمد حسب زعمهم، وأن المخلوقات تطورت بنفسها بفعل المادة، وأنها تولدت عن بعضها للتشابه بينها، وأن بقاءها يعود إلى قدرتها على التكيف مع الظروف التي تحيط بها. والواقع أنه ما من مؤمن بالله -عز وجل- إلا ويعلم أن وجود الخلق -على هذه الحالة- إنما يعود إلى مشيئة الله وقدرته، ولتنتظم الحياة على سنة واحدة، ولن تجد لسنة الله تبديلًا، وأن ما يزعمونه من تطور المخلوقات بنفسها بفعل المادة إن هو إلا خرافات سخفية، ولو كان ذلك صحيحًا لأدى ذلك التطور إلى أن تصبح الذرة جملًا أو فيلًا ضخمًا، فما الذي يمنعها وقانون التطور يجيز لها ذلك؟! قد مرت ملايين السنين ولا تزال الذرة هي الذرة ولا يزال الجمل هو الجمل، والإنسان هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الإنسان لم يتطور من قرد إلى إنسان إلا عند "داروين" الملحد، الذي أصبحت نظرياته محل سخرية العقلاء من الناس وضحكهم منها، وإذا كان الارتقاء بمعنى أن الإنسان والحيوان يكون في أوله صغيرًا ثم يكبر شيئًا فشيئًا إلى أن يكتمل، فهذا أمر حقيقي مشاهد، وهو يدل على قدرة قوية تربيه إلى أن يصل إلى درجة الاكتمال، ولا يدل هذا على أنه ليس له إله رحيم مدبر، بل وفي القرآن آيات كثيرة تدل على هذا التطور والارتقاء في حياة الإنسان والحيوان والنبات. لو كان للطفل المولود أسنان حادة من أول يوم لما أرضعته أمه، ولو ولد شابًّا لما وجد ذلك الحنان بينه وبين أمه وأبيه وأهله، ولو كانت الشمس تسطع حرارة منذ بزوغها لما وجد لها هذا الحب في استقبالها وفي غروبها كل يوم، ولكن الملاحدة قلبوا الأمر فجعلوا ما كان دليلًا واضحًا على قدرة الله تعالى ووجوده، جعلوه دليلًا على إنكار وجوده لأن قلوبهم غلف وقد طبع الله عليها، وأما ما زعموه من أن الكائنات الحية نشأت عن التولد، وأن تكيفها مع الظروف هو الذي أبقاها فإنه يقال لهم: إن هناك حقائق مسلمة لا يعارضها عقل ولا دين بحال، بل يؤكدها الدين والعقل بدلالتها على الخالق العظيم. من هذه الحقائق الكائنات الأدنى كالنبات وجدت قبل الكائنات الأرقى كما يذكر الباحثون، فالإنسان هو أرقى الكائنات الحية وجد متأخرًا، بينما النباتات وجدت أولًا، فإن الله -عز وجل- خلق السموات والأرض، وخلق الأرض وقدر فيها أقواتها وما يحتاج إليه البشر حين يوجدون عليها. أيضًا من الحقائق أنه يوجد كثير من أوجه الشبه بين الكائنات الحية كالإنسان والقرد، ومع ذلك بقي كل كائن كما هو على طول المدى، لم يتحول القرد إلى إنسان ولا الإنسان إلى قرد، ومن الحقائق أيضًا أن الكائنات الحية تملك قدرة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 التكيف مع الظروف. مثل: ظهور المناعة لمقاومة الأمراض وتغير لون الجلد لمقاومة الحرارة وأشعة الشمس، كل هذه الثوابت لا يعارضها دين ولا يعارضها عقل، وهي من أوضح الأمور على قدرة الله تعالى الذي منحها هذه الصفات، فإن ترتيب وجود الكائنات يعود لمشيئة الله تعالى، ولا يلزم من وجود الكائن الأول أن الكائن الذي يليه تولد عنه، فإن الإنسان مع وجوده متأخرًا لا يصح أن يقال: إنه تولد عن النبات الذي سبقه في الوجود وإلا لزم التسلسل، فإنه يقال لمن يريد إثبات ذلك: والنبات أيضًا عن أي شيء تولد؟! فلو قال: من اجتماع أجزاء المادة يقال له: وأجزاء المادة أيضًا من أي شيء تولدت؟! وهكذا فلا يجد جوابًا في النهاية إلا التسليم رغم أنفه شاء أم أبى. أما وجود التشابه بين الكائنات الحية فلا يعني هذا أيضًا أن كل كائن تولد عن شبهه، ولا يصح أن يقال: إن القرد تولد عن الإنسان أو الإنسان تولد عن القرد لما بينهما من تشابه، بل إن العلم والدين كلاهما يثبتان أن التشابه بين الكائنات الحية مع بعضها البعض، أو مع بعضها وأخرى ليست من جنسها إنما هو دليل قاطع على أن مصدر الإيجاد واحد وهو الله تعالى، ولو أن الكائنات كلها تولد بعضها عن بعض لما كان هناك فرق في مفاهيم العقلاء بين أن تقول لإنسان: أنت قرد أو كلب أو شجرة وبين أن تقول له: أنت إنسان أو قمر أو وردة؛ لحصول التولد الذي زعمه الملاحدة، إذ ما دامت الكائنات كلها تولدت عن بعضها البعض فلا يبقى بينهم أي فارق حقيقي. ثالثًا: من شبهاتهم في إنكار وجود الله تعالى: قانون العلة أو المعلول: أو ما يسمى عندهم بالتفسير الميكانيكي للكون، ومن المسلم به عند العقلاء -وعند كل المؤمنين بالله تعالى- أن الله تعالى يوجد الأشياء عند وجود أسبابها في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 أغلب الأمور، إلا إذا أراد عدم وجود تلك الأسباب، وحينما اكتشف علماء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن الكون يسيره قانون العلة والمعلول، طار الفرح بمفكري الملاحدة وظنوا أنهم وجدوا ضالتهم المنشودة في التدليل على عدم وجود الله تعالى؛ لأن كل الأشياء ناتجة عن علة ومعلول، فلا ضرورة حينئذٍ إلى القول بوجود إله موجد؛ لأن جميع ما يجري في هذا الكون إنما يحدث بسبب علل مادية دون تدخل خارجي، غير وجود العلة والمعلول التي تغني عندهم عن القول بوجود الله -عز وجل-، وهو ما يسميه بعض الباحثين التفسير الميكانيكي للكون. ومن الطريف أن العلماء الذين اكتشفوا هذا القانون لم يزعموا أنه بديل عن الله تعالى، بل صرحوا بأن هذا القانون هو سنة الله في خلقه، أن يجري الأمور بواسطة أسباب وعلل، فقد قال "إسحاق نيوتن" مكتشف هذا القانون: "هذا هو أسلوب الله في العمل، فالله يجري مشيئته في الكون بواسطة أسباب وعلل"، ولكن الملاحدة جعلوا هذا ضمن أدلتهم على تقوية إلحادهم، وأنى لهم أن يكون هذا الاكتشاف دليلًا على عدم وجود الإله الخالق، الذي قدر الأسباب وضرب الآجال وفق سننه في هذا الكون التي هي أوضح من الشمس، لولا عنادهم واستكبارهم، وقد أشار الله -عز وجل- إلى هذا كثيرًا في القرآن الكريم. مثلًا حينما أمرت السيدة مريم العذراء أن تهز النخلة وهي في حالة تمام الإعياء والتعب في وقت الولادة؛ ليفهم الناس أن الله تعالى يجري الأمور بأسبابها. وقد اعترف الملاحدة بعد طول جدل بأن قانون التعليل ليس حقيقة مطلقة، بالمفهوم الذي افترضوه في القرن التاسع عشر، بل لقد قرروا أخيرًا أن نظام العالم لا يخضع لقانون العلة والمعلول الناتج عن الصدفة المحضة، وإنما هناك عقل ذو وعي يدبر شؤون العالم بالإرادة، قد كان ساعدًا عند الجهال في القرون الأولى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 هناك آلهة مشتركة في تدبير هذا الكون، وهي تخضع في النهاية لإله واحد هو أكبر هذه الآلهة، وقد تغيرت هذه النظرة الشركية إلى ما هو أقبح منها، وهو هذا الإلحاد المادي الحديث القائم على القول بالصدفة وطبيعة أجزاء المادة وانتظامها وانفجارها، مما لم يقل به المشركون قديمًا. والشبهة الرابعة من شبهات الملحدين على إنكار وجود الله تعالى: ما يسمونه دليل المادة: فهم يقولون: إن أساس هذا الكون كان مادة تشبه الغبار المنتشر، ثم حدث أن تحرك هذا الغبار حركة لم تنته إلا بتكوين هذا الكون وما فيه من انفجار هائل. ولكن لنا سؤال عن هذا التفسير المضحك السخيف: هل يستطيعون أن يثبتوا من الذي كون هذا الغبار ومن الذي جمعه، ومن كان السبب في تلك الحركة الذي جعلت الكون كله ينفجر يتكون على نحو ما هو عليه؟! إن هذه الأسئلة لا تجد لها جوابًا عندهم، غير أن الصدفة هي التي فعلت ذلك وهو افتراض بدون أساس، افتراض ناتج عن خيال كاذب وفهم قاصر، ويقال لهم: إذا كان وجود هذا الكون عن طريق الصدفة، أليس من الممكن -والحال هكذا- أن توجد صدفة أخرى تقضي على هذا الكون كله، وتتعطل كل هذه المصالح من شمس وقمر ونجوم، وغير ذلك مما في هذا الكون المترابط المنتظم بصورة تضمن استمرار الحياة سليمة عن الخراب والتداخل، إذ الشمس تجري لمستقر لها والنجوم زينة السماء فماذا يردون عند سؤالنا هذا؟ إن هذا التفسير نقيض كلامهم السابق فهو يعجز عن تقديم تفسير مقنع لتسلسل الوجود، لكنهم بزعمهم يقولون: إنهم وجدوا في مبدأ التعليل الذي زعموا فيه أن الكون ابتدأ في الوجود إثر حركة المادة وانفجارها، ما سبق أن ذكرناه وعرفنا سخافته وبطلانه، وحينما قام الإلحاد ونكران وجود الله على أساس أن الكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 خاضع لتلك القوانين، وأن كل حدث له سبب وأن قوانين الارتقاء قد تكفلت بإتمام كل موجود، وأن الكون كله تكون من مادة حسب سخافتهم، فلا حاجة إلى القول بوجود إله خالق مدبر لهذا الكون، وبالتالي أخذ عظماء الكفر والإلحاد يتبجحون بما توصلوا إليه في اكتشافهم من تلك القوانين الطبيعية، فراحوا يتفنون في إطلاق كلمات الإلحاد، بينما مكتشفو هذه القوانين -كما سبق القول- قالوا: إنها سنة الله في كونه وطريقة الله في عمله في هذا الكون. روافد الإلحاد الأخرى استخدم الملحدون روافد لإلحادهم، فسروها وفق ما تمليه عليهم أهواؤهم، منها التقدمية والعصرية والرجعية والتحررية، وغيرها من هذه الأسماء الجوفاء، وهم يستخدمون هذه الأسماء باستخدامات تناسب نظريتهم فهم يقولون: إن الإنسان التقدمي هو الإنسان المهذب في سلوكه والواقعي في حكمه والصادق في التعبير عنه، هذا التعريف لم يقف عند هذا المفهوم، بل أصبح يطلق في جانب العقائد على الإنسان الذي ينبذ التدين والتقاليد، وينفلت من كل ارتباط بالفضائل الدينية ويتخذ الإلحاد مذهبًا، مثل الأحزاب التي أطلقت على نفسها صفة التقدمية في البلاد العربية وفي غيرها. وفي جانب المظاهر صاروا يطلقون على الشخص أنه متقدم حينما يهتم بمظهره الشخصي، خصوصًا حينما يقلد الإفرنج في لباسهم وسلوكهم، كما يسمونه حينما تلبسه المرأة من أنواع الملابس ملابس تقدمية الموضة لأنواع المكياجات، ولباسها إلى نصف الفخذين وكشفها للرأس وترديد بعض عبارات الغربيين، يعتبرون هذا كله تقدمًا وهي من الأمور التي انعكست الحقائق فيها. قد نجح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الغربيون في الإيحاء إلى الرجل والمرأة أنه ليس بينهم وبين التقدم إلا ركوب تلك المسالك، ومن روافد الإلحاد أيضًا تعبير الرجعية والجمود، فهم يقولون في تعريف الرجعية: إنها هي الميل في السير إلى الوراء والعزوف عن متابعة الحركة نحو اليقظة. وأما الجمود فهو الوقوف في الحركة عند مرحلة من مراحل تطور الإنسان، في كماله وتمام نمو طاقاته البشرية، ولكن ماذا يقصدون بها؟ لقد اتخذوا من هذا المصطلح نقطة انطلاق في سبهم للإسلام والمسلمين، ولقد قالوا منكرًا من القول وزورًا، فالإسلام والمسلمون بريئان من هذا الوصف، بل إن أعداء الإسلام أحق بهذا الوصف وسلوكهم وأفكارهم هي عين الرجعية والجمود، فإن المتتبع لأقوالهم عن نشأة الإنسان وتطوره لو قارنها بأقوالهم اليوم عن تمدحهم بالتطور لرأى العجب في تناقضهم. ومن المصطلحات أيضًا مصطلح الخرافة والتقاليد، فالخرافة عندهم هي الاعتقاد بما لا ينفع ولا يضر ولا يلتئم مع المنطق السليم والواقع الصحيح، لكنهم يستخدمون الخرافة بمعاني الروحية ومبادئ الدين وتعاليمه، فالبعث خرافة والإيمان بالغيب خرافة، أما ما هم فيه من الإلحاد وإنكار الأديان فهو العلم والحقيقة، وكذلك مصطلح التقاليد ومصطلح الحرية والكبت، فالحرية عند الماديين يراد بها الانطلاق من كل قيود القيم والمثل والمبادئ التي دعا إليها الدين، ويراد بها العودة إلى الحياة البهيمية من أوسع الأبواب ولكن تحت تسمية التطور والتجديد. وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الدرس: 12 الشيوعية (4). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثاني عشر (الشيوعية (4)) الرد على مزاعم الملاحدة الشيوعيين في مسألة الملكية الفردية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: الشيو عية: الرد على مزاعم الملاحدة الشيوعيين في الملكية الفردية: يقولون: إن الملكية الفردية ليست فطرية في الإنسان، قد كابروا عقولهم وتعسفوا حين زعموا أنها لم تكن قضية فطرية في النفوس، وإنما وجدت هذه الملكية الفردية بعد أن عرف الإنسان كيفية الزراعة، واستجلاب كثرة الدخل للفرد، وما تلا الزراعة من قيام الصناعات وزيادة الدخل، محتجين على هذا الزعم بأن الشيوعيين البدائيين الأوائل ما كانوا يعرفون الملكية الفردية، وكانوا في أسعد حال، وهذا الدليل الذي يقولون به رغم مصادمته للواقع وللفطر السليمة، رغم ذلك وغيره هو قول بلا علم وتخرص بلا دليل، والإسلام يذكر أن الله -عز وجل- علم آدم كل شيء، حتى علمه كيف يزرع وكيف يحصد، فأي زمن كان الناس -حسب زعم الملاحدة- لا يعرفون الزراعة ولا العمل؟! وهذا ما تفيده الشريعة الإسلامية بل وسائر الأديان عن طبيعة البشر منذ وجودهم وأقرته ولم تلغِه؛ لأن الحياة لا تستقيم بدون النزعة إلى الملكية الفردية وحب التملك. بل إن حب التملك هو سنة الحياة فمن خالف هذه السنة، وزعم أن الناس لابد أن يكونوا في حال لا يملك فيه الشخص أي شيء لنفسه، كما تقضي بذلك التعاليم الشيوعية، فلا شك أن مصيره الفشل، وهو ما حصل بالفعل حينما أقدم الثوار الشيوعيون الأوائل على تطبيقه، فرأوا بأعينهم هبوط أحوالهم الاقتصادية وكساد حركاتهم المعيشية، مما جعلهم يضطرون صاغرين إلى الاعتراف بالملكية الفردية ولو في أضيق نطاق، لكن هذا الشيء له دلالته على وجود نزعة الإنسان في حب التملك الفردي، وأن القول بعدم وجود تلك النزعة إنما هو مكابرة وضيق فكري، فكان من أهم أسباب تراجع أقطاب الشيوعية عن تأميم الملكيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 كلها: هو ما لاحظوه من تردي الإنتاج الزراعي، ومعرفتهم أن سبب ذلك إنما يعود إلى ضعف الحوافز على العمل، وعدم تمكن الحكام من دقة معرفة المقصر من غيره في المجال الزراعي، الذي تصعب مراقبته إلى حد كبير. بخلاف المجال الصناعي الذي تم إخضاعه بدقة للملاحظة والمراقبة الصارمة، بحيث يعهد لكل شخص بمهمة خاصة في العمل، فإذا حصل خلل في أي قطعة من الصناعة عرف صاحبها فورًا ونال عقابه الذي لا يعرف الرحمة، بخلاف العامل الزراعي الذي أفلت من هذه المراقبة الصارمة، فكانت النتيجة أن أخذت الدول الشيوعية تتكفف الدول الغربية القمح والحبوب، وزعموا أن ذلك النقص في الجانب الزراعي إنما كان بسبب الآفات الزراعية، ولكن الحل الذي عالجوا به تلك الآفات يفصح عن السبب الحقيقي، حيث سمحوا بعد فوات الأوان بإتاحة الملكية الفردية لقسم من المحصول الزراعي، يتملكه المزارع تشجيعًا له لزيادة الإنتاج ولزيادة نشاط المزارعين، وهو دليل واضح على فشل نظام منع الملكية الفردية وأنه أشد الآفات. الرد على مزاعم الملاحدة الشيوعيين في نشأة الصراع الطبقي يقولون: إن الصراع الطبقي لم يكن له أي سبب غير معرفة الإنسان للزراعة والصناعة، فهذا قول بالتخمين وهو أكذب الكذب، ولن يجد القائلون به أي دليل عليه لأنهم ادعوا شيئا هو أقدم منهم، كما أن هذا الأمر ليس هو السبب الوحيد للصراع بين الناس، وإنما هو واحد من عدة أسباب لا تكاد تحصر، كما أن هذا السبب قد يوجد في بعض المجتمعات وقد لا يوجد، فليس هو أمر حتمي كما يدعي الملاحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ومن السذاجة والجهل القول بأن الملكية الفردية نشأت عن ظهور الصناعة والزراعة، وأنها ليست فطرية في نفوس الناس، بل وفي نفوس الحيوانات؛ فإن الملكية الزراعية نفسها لم تقم إلا بسبب النزعة الملكية الفردية كانت أو الملكية الجماعية، وإلا لما قامت الزراعة ولما عرف الإنسان طريقه إلى الجمع والادخار بين مقل ومكثر وبخيل وكريم، وأما زعمهم أن الناس منذ أن تركوا الشيوعية الأولى وهم في صراع طبقي مرير، وأن ذلك سيستمر حتى يرجع الناس إلى الشيوعية الأولى، وذلك بترك الملكية الفردية وتساوي الناس في كل شيء، بزوال الطبقات التي أحدثتها الملكية الفردية وتكدس رؤوس الأموال في فئة دون فئة. يقال لهم: هل يتحقق ذلك في عالم الواقع، وهل يمكن أن يتساوى الناس وتزول الطبقات خصوصًا في ظل النظم الجاهلية، وهل يمكن أن تتحقق هذه الأحلام البراقة في يوم من الأيام؟! إنها مجرد أوهام وخيالات لأن الحياة لا تقبلها ولا تنتظم بها. إن نظام الطبقات واستعلاء بعض الطبقات على البعض الآخر، والظلم والحرمان واستعباد القوي للضعيف، كل هذه الأنظمة إنما توجدها النظم الجاهلية، كما حدث بالفعل على مسار تاريخ البشرية، فالمجتمع في العهد الهندوسي مقسم إلى طبقات: هي البراهما والكشاتريا والشودري وأقسام فرعية أخرى. وفي أوروبا عاش الناس طبقات متفاوتة أشد التفاوت، طبقة تسمى طبقة السادة، وأخرى تسمى طبقة العبيد، وقد تمثلت هذه الأحوال السيئة الجاهلية في عهد الرق، أما في عهد الإقطاع فكان الناس ثلاث طبقات رئيسة: هي طبقة الأشراف وأمراء الإقطاع، وطبقة رجال الدين، وطبقة الشعب المغلوبين على أمرهم، أما في عهد الرأسمالية فإن نظام الطبقات على أشده أيضًا، طبقة تسمى طبقة أصحاب رءوس الأموال، وطبقة أخرى تسمى طبقة العمال، أناس في الثرى وأناس في الثريا!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وهكذا الحال في عهد الديمقراطية التي تظاهرت بأن الشعب هو صاحب السلطة، فقد كان الصحيح هو أن الشعب لا يزال هو المستضعف المقهور، وصاحب المال هو السيد الحاكم، وهي نفس الكذبة التي كان يرددها الشيوعيون، من أن طبقة "البروليتاريا" الكادحة هي التي ستملك وتحكم حينما تطبق الشيوعية، وحينما تقضي طبقة "البروليتاريا" على جميع الطبقات المناوئة لها في صراع ثوري محتدم، هذا هو حكم الجاهلية وشريعتها لكن حكم الله هو خلاف هذا، حكم الله أن المجتمع سيكون فيه أغنياء وفقراء ملكية فردية وملكية جماعية، الأغنياء مؤتمنون على المال وللفقراء نصيب في ذلك المال والكل عبيد لله تعالى لا طبقات ولا كبرياء، ينتقل المال من يد إلى يد ومن شخص إلى آخر، وقد يصبح الغني فقيرًا وقد يصبح الفقير غنيًّا حسب تصريف الله للأمور. ومعنى هذا أن المال في الإسلام ليس منحصرًا في طبقة من الناس دون أخرى، ولا في فئة من المجتمع بخصوصهم، حتى وإن كانت تلك الفئة هم الحكام؛ فإن الإسلام لا يعطي الحاكم حرية التملك كما يهوى، بل شأنه شأن غيره غير ما يأخذه في مقابل جلوسه للحكم بين الناس، ومن هنا نجد أن حكام الدولة الإسلامية في نشأتها كان الحاكم منهم لا يتمتع بأي امتيازات مالية، ولهذا كان الحكام يعتبرون تحمل المسؤولية أمانة عظيمة وخطرًا جسيمًا، لا فوزًا كما يسميه الناس اليوم. وينبغي التنبيه إلى أنه إذا وجد نزاع بين المسلمين فإنه لا يكون من أجل إسقاط طبقة لطبقة أخرى، أو علو فئة على أخرى، إنما يكون ذلك في الغالب من أجل الوصول إلى الحق، وإلى دفع الخطأ والخطر عن الناس، هذا أمر طبيعي. ولا يجوز أن يفسر على أنه صراع طبقي كما يفسره الملاحدة حسب نظرياتهم المادية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قد يكون النزاع إما أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وليس هو من قبيل الحرب الاقتصادية أو بسبب الملكية الفردية أو الجماعية كما يزعم الملاحدة، أو أنه حرب طبقات، ومن أقوى ما يدل على كذب الملاحدة في زعمهم أن نزع الملكية الفردية ينهي الصراعات، ويؤلف القلوب ويساوي بين طبقات المجتمع كلهم فيعيشون عيشة ملائكية، من أقوى ما يدل على كذبهم هذه الصراعات التي لا نهاية لها بين مختلف معسكرات الشيوعية، مع أن الملكية الفردية لا وجود لها في دستورهم، فلماذا إذًا هذه الصراعات وعلى أي شيء؟! وصدق الله -عز وجل- حين يقول: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (فاطر: 43)، كما أن زعمهم أن الصراع هذا لا يزول إلا بزوال الملكية الفردية كلام كاذب، فإن الصراع باق والملكية الفردية كذلك لن تزول من نفوس الناس. والدليل على ذلك أن الصراع لم ينته مع وجود القمع الشديد للملكية الفردية في البلاد الماركسية، بل إن الصراع لا يمكن أن ينتهي ليس بين الناس فحسب بل والحيوانات كلها. قد عاش الناس في ظل النظام الشيوعي حقبة من الزمن، وهم ينتظرون تلك الجنة الموعودة التي وعد بها "كارل ماركس"، بعد أن وضعت الحرب الطبقية أوزارها، وبعد أن قضى النظام الماركسي على الملكية الفردية بكل وحشية عرفتها البشرية، انتظر الناس ذلك اليوم الذي يزول فيه الصراع الطبقي بكل أشكاله، فلا يبقى صراع ولا أحقاد ولا حاكم ولا جيش ولا سجون يعيشون كالخراف الأليفة، ولكن ماذا كانت نتيجة هذا الانتظار؟! لقد عاش المجتمع الشيوعي صراعًا طبقيًّا مريرًا، سواء أكان على مستوى الأفراد أو على مستوى الدولة، إلى أن هدأت عاصفة الشيوعية، كيف لا يحصل صراع بين جماعات قامت في الأساس على الصراع، بل وعلى مشروعية الصراع وضرورته لقيام حكم "البروليتاريا" كما يزعمون، حتى أصبح الصراع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 والثورات والقتل والاغتيال من أسس بناء الماركسية، دون أن تظهر أدنى إشارة إلى تلك الجنة المزعومة الماركسية. ومثل هذه الكذبة وقعت أيضًا الكذبة الأخرى؛ وهي القول بأن الناس كلهم سيعيشون حياتهم في مستوى واحد وعلى طبقة واحدة، بلا تفاضل بينهم عندما تكتمل الشيوعية وتطبق وفق ما قرره اليهودي "ماركس"، وإذا سألت عن سر بقاء الحكومة في البلاد الشيوعية فإن جوابهم: إن هذه الحكومات القائمة إنما هي حكومات مؤقتة، وستنتهي بانتصار الشيوعية على كل الأنظمة المناوئة لها؛ الناس حينئذٍ سيعيشون دون مشكلات، سيعيشون بلا صراع يتطلب تدخل قوة عليا، سيعيشون بلا فقر يسبب المشكلات؛ لأن الناس حينئذٍ يكونون على مستوى رفيع -كما يزعمون- في الأخلاق والسلوك الطيب، والرقابة الذاتية التي هي أقوى من الرقابة الخارجية، ولا ملكية فردية تسبب الخصومات وتسبب الاستئثار بالمال والرغبة في جمعه، هكذا زعم الملاحدة. ولكن السؤال المهم هو: هل ستتحقق هذه الأحلام السخيفة في يوم من الأيام، أو هل تحققت في يوم من الأيام بالدليل المقنع، أم أنها خدع كاذبة وتضليل للشعوب المغلوبة على أمرها كما هو الواقع؟! إن الإسلام يعتبر الفكر الماركسي في ناحيته الاقتصادية فكرًا فاشلًا، مخالفًا للعقل والفطرة السليمة، ويعتبر أنه قام على نظريات جاهلة أخطأت الطريق الصحيح للاقتصاد النافع، وبدلًا من أن توجه جهود المجتمع لمساعدة بعضهم بعضًا، إذا بها تحرم الملكية الفردية، وتشعل مكامن البغضاء وتثير الصراعات الطبقية بين الناس بحجة سخيفة، وهي أن ترتفع الطبقة الكادحة بزعمهم، وألا تتكدس الأموال في ناحية دون أخرى وعند قوم دون آخرين، وكل ذلك ليس هو الحل الصحيح ولا الحل الذي تستقيم به الحياة وتسعد به الشعوب، وهذا الحل مرفوض جملة وتفصيلًا، ويعتبره الإسلام تدخلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فيما لا ينبغي للبشر سلوكه، فالناس كلهم عبيد لله في الإسلام، والمال مال الله، والرزق بيد الله يؤتيه من يشاء، لا يؤخره حرص حريص ولا ترده كراهية كاره. فالملكية الفردية حق اقتضته الفطرة واقتضته الضرورة لصلاح الأحوال، وعلى الجميع أن يعضد بعضهم بعضًا بالتي هي أحسن، فلا صراع ولا بغي ولا عدوان، ولم يجعل الإسلام للشخص مطلق الحرية في أمواله ينفقها بإسراف أو يمسكها كما يحلو له، بل هو محاسب عليها ومسئول عنها، وعليه حقوق فيها يجب أن يؤديها، وإذا كان في الأغنياء من طغى وتجبر فهؤلاء لهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا وسينالون جزاءهم، ولا يبرر فعلهم هذا أن نحارب الملكية الفردية، أو نقيم الصراع الطبقي بين الناس وبين المجتمعات، فإن في أولئك التجار والأغنياء من اتصف بالعطف والتسامح ومساعدة المحتاجين دون منة ولا أذى، والحكم على طبقة الأغنياء كلها بأنهم احتكاريون وانتهازيون، وأنهم هم العقبة الكئود في طريق غنى الفقراء وارتفاع معيشتهم، إن هي إلا خرافات سخيفة وأوهام باطلة، وقد دلت التجارب الشيوعية على فشل هذه الفكرة الخاطئة، حين أفقرت الأغنياء وأتعست الفقراء وملأت القلوب حقدًا وغضبًا، وأتعست الحالة الاقتصادية ونشبت الصراع الطبقي على أشده دون رحمة. وفي التاريخ الإسلامي أمثلة مشرفة للمجتمع حينما تصفو القلوب وتزول البغضاء، فقد كان في الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- أغنياء وكان فيهم فقراء، وكان أحدهم يقول لصاحبه: عندي زوجتان انظر أعجبهما إليك فأطلقها وتتزوجها، وعندي من الضياع كذا وكذا أتنازل لك عن نصفها، فيقول له الصحابي الفقير المهاجر: بارك الله لك في مالك وبارك الله لك في أهلك، ولكن دلني على السوق، فيذهب ويعمل ويرزقه الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وكان في الصحابة -رضوان الله عليهم- من يملك الأموال الكثيرة مثل الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- ولم ينقم عليه أحد فيها، وقد أنفق سيدنا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- ألف بعير في سبيل الله، وغير ذلك من الأمثلة المشرقة التي قام عليها الإسلام بعيدًا عن الصراعات الطبقية البغيضة، ذلك أن الإسلام يعالج المشكلة القائمة دون النظر إلى أسبابها، كما أنه يأتي بالحلول التي لا مضرة فيها على أحد، إذ إنه في الإسلام لا ضرر ولا ضرار، بينما الشيوعية الحمراء عالجت المصائب بمصائب أفدح منها. مع أن ما أقدمت عليه الشيوعية في الأحوال الاقتصادية ليس فيه أي علاج وليس فيه أي دواء، بل هو الداء بعينه وهو الذل وهو خنق الحريات، فالسجون في البلاد الشيوعية مملوءة والجواسيس منتشرون والمجاعة فاشية، إنه سجن كبير وقبضة حديدية، فالشعوب غاضبة ولكن الويل لمن تفوه بكلمة نقد. وأين هذا السلوك من حرية الإسلام التي مثلًا كان الرجل يقول لمعاوية: والله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنقومنك، فيقول معاوية: "بماذا؟ "، فيقولون: بالخشب، والخشب هو السيف الصقيل، فيقول معاوية -وهو الخليفة الذي يحكم نصف الأرض في هذا الزمن- يقول: "إذًا أستقيم"، فأي طاغوت من طواغيت الحكم في النظم الشيوعية يتحمل ما هو أدنى من هذا الكلام؟!. أما ما زعموه من أن الطبقات القوية هي التي تحكم وتشرع لبقية الطبقات وتستعبدها، فإن هذا صحيح ولكنه أيضًا لا يوجد إلا في النظم الجاهلية، الذين يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، والذين يصبح الظلم عندهم من شيم النفوس، فإن وجد ذا عفة فلعله لا يظلم، كما عبر ذلك أحد الشعراء الجاهليين قديمًا، ولكن هل هذه الحقيقة التي لابد منها أو هذا هو الخيار الذي لا خيار سواه؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 كلا بل هناك عقيدة فيها الحل الصحيح دون المرور بتلك الطرق المظلمة الظالمة. إن هذا الطريق هو العقيدة الإسلامية، التي تجعل صاحب المال وتجعل الفقير إخوة متساويين متضامنين، ربهما هو الله وهو رب الجميع وحكمه ينفد في الجميع، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وليس هناك طبقات هم السادة والحاكمون المالكون وطبقاتهم العبيد المستذلون إلا في النظم الجاهلية، التي لا تقيم للإنسان وزنًا إلا من خلال ما يملك من المال والجاه، فيبدو المال بهذه الصورة هو السبب في الظلم والطغيان، بينما الواقع الصحيح هو خلاف ذلك، فإن المال والملكية الفردية من الظلم أن يُحملا طغيان المنحرفين {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164)، إن الذي يطغيه المال وتطغيه الملكية الفردية هو شخص منحرف في الأساس فاسد الطباع، سواء كان له مال أو لم يكن له مال، ذلك أن المستقيم على الحق القائم بأمر الله لا يطغيه المال، وإنما يستعمله في أعمال الخير ووجوه البر المختلفة، مراقبًا فيه ربه متيقنًا أن المال ظل زائل وعارية مستردة، وأن الدنيا شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدة. أما ما يزعمونه من مفهوم المساواة في الأجور في النظام الشيوعي، وقد زعموا أنه مكفول للجميع، فقد حملهم على القول به ما زعموه من أن البشرية كانوا في أصل نشأتهم يعيشون عليه، متساوين كلهم في الحقوق بلا ملكية فردية، الكل للجميع في المأكل والملبس والمسكن والنساء، لا فرق بين شخص وآخر، حتى جاءت الرأسمالية والملكية الفردية فقلبت تلك الأوضاع التي تريد الشيوعية أن ترجعهم إليها مرة أخرى، وهذا لا يتحقق في نظرهم إلا بأن تضع الدولة يدها على كل وسائل الإنتاج والعمل، ومن ثم يأخذ كل شخص ما يستحقه من قبل الدولة، وهذه الدعاية جذابة في ظاهرها ولكن هل تحققت فعلًا، هل تحقق هذا فعلًا في النظام الشيوعي، فأعاد إلى الناس سعادتهم التي كانت في الشيوعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الأولى بزعم هؤلاء، وهل ساوت الدولة الشيوعية بين العمال فعلًا فلم يعد هناك تمايز بين شخص وآخر وبين حاكم ومحكوم؟!. لا شك أن الواقع الذي انجلت عنه الشيوعية بعد اندحارها يكذب تلك الدعايات، ويخبر أن الشيوعية إنما نجحت في مساواة الناس كلهم في الفقر وفي الحاجة، وليس في الغنى والسعادة؛ لأنه لا يوجد أي حافز يجده الشخص حتى يبذل أقصى جهده في العمل، ليجد جهده مستقرًا في يد الدولة التي لا تعطيه إلا بقدر حاجته الضرورية، وما الذي ينفعه أن يقال له: إن جهدك وعملك حينما يذهب إلى الدولة إنما هو إسهام منك في تقوية الدولة؛ لتتمكن من إظهار الشيوعية ولتقمع أعداءها إن فكروا في الاعتداء عليها، ما الذي ينفعه حين يقال له: إنه بذلك الجهد في العمل -مع أنك لا تأخذ إلا ما يكفي حاجتك الضرورية- دليل على سلوكك الطيب، وأنك تخالف الرأسمالية الغربية فأنت مواطن طيب، ما الذي ينفعه من وعود الملاحدة بأنه سيعيش في جنة عالية بعد أن تتمكن الشيوعية من بسط نفوذها على كل الأرض؟! وكيف تقتنع نفسه بهذه الحالة البائسة التي يعيشها، في الوقت الذي يرى فيه وجهاء القوم وأصحاب السلطة يعيشون في ترف لا حد له، يعيشون في مساكن فاخرة وسيارات فارهة وبساتين نضرة وخدمًا وحشمًا، وهم يتظاهرون بالدفاع عن الطبقة الكادحة ويتظاهرون بمحاربة الرأسمالية؟!. إن كل ذلك يدعو الشخص -إن كل له عقل- إلى القلق والاضطراب والثورة على كل تلك الأوضاع، ومجازاة من كان السبب فيها، وهو ما حصل بالفعل في ثورات متتالية، تمت في عهد "جورباتشوف" على الشيوعية ونظامها البغيض، وأطاحت الشعوب بأولئك الخبثاء وقضوا عليهم بكل شدة في كل البلدان التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 تنفست الصعداء من الكابوس الماركسي، وهكذا نجد أن زعمهم المساواة في الأجور إنما هي المساواة في الفقر وليس في الأجور. وفي الختام يتضح لنا مما سبقت دراسته أن الأسس التي تقوم عليها الشيوعية هي: أولًا: إلغاء الملكية الفردية واستبدالها بالملكية العامة المتمثلة في الطبقة الحاكمة، للوصول إلى إلغاء الصراع الطبقي من المجتمع البشري، بإلغاء الباعث عليه وهو الملكية الفردية. ثانيًا: توزيع الناتج على الأفراد كل بحسب مساهمته في الإنتاج وحاجته، وهو المبدأ الذي يعبرون عنه بقولهم: من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته. ثالثًا: الإشباع الجماعي للحاجات وليس الربح وهو مبدأ المساواة في الأجور. رابعًا: التخطيط للنمو الاقتصادي، وكفالة الدولة لجميع المواطنين في مقابل تكليف القادرين منهم بالعمل رجالًا ونساءً. خامسًا: القضاء على الحرية الفردية. سادسًا: إلغاء الكثير من العلاقات الاجتماعية المتوارثة، كنظام الميراث والهبة؛ بل وإلغاء كافة الطبقات الموجودة في المجتمع، بإقامة ديكتاتورية "البروليتاريا" أو الطبقة الكادحة. سابعًا: إنكار الدين ومحاربته. ثامنًا: إلغاء الحكومة في المستقبل حين تقوم الدولة الشيوعية لعدم حاجة الناس إليها، إذ إن أساس الشرور قد انتهى وهو الملكية الفردية، فستلغى الحكومة ويقام مجتمع متعاون متعاطف بغير حكومة، أي أن يحكم الشعب نفسه بنفسه، هذه أهم الأسس التي قامت عليها الشيوعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 ولكن جاءت النتائج في التطبيق الفعلي لتلك الأسس على النحو الآتي بالإضافة إلى ما سبق بيانه: أولًا: انعدام الحرية الاقتصادية الفردية. وثانيًا: انعدام الحافز الفردي. وثالثًا: عدم تجويزهم الملكية الفردية. ورابعًا: حكم الشعوب بالحديد والنار. وخامسًا: فشل مبادئ الشيوعية جميعًا فشلًا ذريعًا. وسادسًا: محاربتها للأديان. وسابعا: ظهور الكثير من المفاسد الاجتماعية في المجتمعات الشيوعية التي حكمت بهذا النظام اللعين، من هذه المفاسد الرشوة والغبن واللاأخلاقية وتفشي الرذائل بكل صورها وأشكالها. والسر في ذلك أن المذهب الشيوعي -كما رأينا في عرضه- هو مذهب شامل، وليس كما يدعي البعض أنه مذهب اقتصادي، فهو مذهب شامل لجميع النواحي عقدية كانت أو مادية، فمن تصور أن الشيوعية مذهب اقتصادي بحت لا شأن له ببقية الأمور العقدية والتنظيمية فهو مخطئ، خدعه زعم الملاحدة أن أصل كل الحياة بأنظمتها ومعتقداتها وجميع شئون الإنسان إنما كان أصلها المادة، وهو زعم كاذب كما بيناه. بنوا عليه النظرية الشيوعية التي جعلوا واجهتها الكبيرة التركيز فقط على الناحية الاقتصادية؛ خداعًا للناس ونفاقًا، وإن أول ما يبطل هذا الزعم هو أن يقال لهم: إذا كانت الشيوعية لا شأن لها إلا بإصلاح الأمور الاقتصادية فقط، فما بال الاضطهاد الديني هو الشاغل الأول لدول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الشيوعية، ولماذا كثرت الضحايا التي لا يعلمها إلا الله في سبيل إعلاء العقيدة الشيوعية؟! فالواقع أن الجانب الاقتصادي هو أقل الجوانب أهمية في النظام الشيوعي، بل لا يكاد يقارن بما توليه الشيوعية من اهتمام بالجوانب العقدية الفكرية. زعامة الشيوعية الماركسية وأهم مصطلحاتهم أول زعماء الشيوعية الإلحادية وأشهرهم هو "كارل ماركس"، الذي تنسب إليه العقيدة الماركسية المنتشرة في شتى أنحاء المعمورة. وقد ولد في سنة 1818 ميلادية، ومات سنة 1883، وكان على صلة وثيقة بصديقه "فردريك إنجلز" الذي صاغ معه البيان الشيوعي المشهور باسم البيان الشيوعي سنة ألف وثمانمائة وسبعة وأربعين، قد تنقل "ماركس" في عدة بلدان من أوروبا وألف كتابًا سماه كتاب (رأس المال) الذي أصبح المرجع والدستور للشيوعيين، اشتمل على عبارات وتسميات كثيرة تدور حول المال وأصحاب المال، ووجوب التغيير للمجتمعات رأسًا على عقب. إن هذه المصطلحات التي يطنطن بها الشيوعية مصطلح البرجوازية، وهم يقصدون به طبقة الأغنياء، أما الرأسمالية فهم يقصدون بها النظام الذي يقوم على جمع المال بأية طريقة كانت في الدول الغربية، أما "البروليتاريا" فهم طبقة العمال الفقراء أو نظام التملك العام ومنع الطبقات، أما مقصودهم بديكتاتورية "البروليتاريا" فهي حكم العمال أو الفقراء حينما يتحقق حلمهم بإزاحة طبقة الأغنياء. أما مصطلح المادية فكل موجود إنما كان سبب وجوده المادة، التي نتج عنها بطبيعتها وهي سابقة للروح وسائر إحساسات الإنسان بزعمهم، أما المادية الجدلية فيقصد بها تغليب المادة على كل شيء ومنها الأفكار، فإن الأفكار كلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ناتجة عن المادة لا أن المادة ناتجة عن الأفكار، ولهذا فإن التناقض لا يكون بين الأفكار إنما يكون بين نظامين قائمين يتولد عنهما ثالث كما يقولون، أما المادية التاريخية فالمقصود بها تفسير التاريخ البشري تفسيرًا ماديًّا، قائمًا على المادة وتأثيرها في مجريات التاريخ البشري وما يقع بينهم من أحداث. أما مصطلح فائض القيمة فقد تحدثنا عنه في دراستنا عن الاشتراكية، وأما مصطلح إلغاء الملكية الفردية فالمقصود به أنه لا يحق لأي فرد أن يملك شيئًا من الموارد بمفرده، بل لابد أن تكون الملكية عامة على جميع أفراد الشعب وبيد الدولة، وأما صراع الطبقات فالمقصود به التحريش بين الأغنياء والفقراء، والاستئثار بالمال لوصول طبقة "البروليتاريا" إلى الحكم والسلطة، وأما الإقطاع فهو النظام الذي كان معترفًا به أيام تسلط الأباطرة ورجال الدين النصراني على الفقراء، واقتطاعهم الأراضي الواسعة وحرمان الفقراء منها، بل جعلهم عبيدًا لأصحاب الإقطاعيات يباعون مع بقية كائنات الإقطاعية. وبعد هلاك "كارل ماركس" تتابع على القيام بأمر الشيوعية جمعيات وأفراد ورؤساء، يغذيهم الحقد اليهودي في مؤامرات وثورات وفتن، يتلو بعضها بعضًا على أيدي أشرار خلق الله من الثوريين الشيوعيين. فبعد "كارل ماركس" و"فردريك إنجلز" جاء من بعدهما "ستالين" و"لينين" إلى "بريجنيف"، وقد برز منهم "لينين" و"ستالين" و"تروتسكي". وقد تزعم "لينين" سنة 1913 الثورة الشيوعية العارمة على النظام الرأسمالي، إلى أن مات سنة 1924، ثم نشب صراع بين "ستالين" و"تروتسكي" استطاع "ستالين" ذلك الجبار العنيد أن يخرج منتصرًا بمؤامرة تمت باغتيال "تروتسكي" 1940، تم الأمر لـ "ستالين" الذي أقام الشيوعية قوية أنيفة في روسيا، وفي البلدان التي دارت في فلكها، وتعززت كذلك بانضمام الصين إلى الشيوعية الماركسية سنة 1950، وقامت الأحزاب وتعددت، إلا أن أهم هذه الأحزاب القائمة كانت في البداية تتمثل في حزبين هما: حزب "البلاشفة"، وحزب "المنشفيك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 و"البلشفية" و"المنشفية" تعني الأكثرية والأقلية، وهما الحزبان الأساسيان في تكوين الاشتراكية الشيوعية في روسيا؛ لقلب نظام الحكم واستلام السلطة، وكان حزب "البلاشفة" بزعامة "لينين" هم الأكثرية، ولذا كانوا يقولون لهم: "بلاشفة" أي الأعضاء الغالبية، بينما حزب "المنشفيك" كانوا هم الأقلية أي أقل من حزب "البلاشفة". وقد تزعمهم "بليخانوف" وكانوا كلهم على مبادئ "ماركس"، ولكنهم كانوا يختلفون في الطريقة التي سيتم بها تغيير روسيا إلى إظهار الشيوعية، وتطاحنوا فيما بينهم على الفريسة، وقد تم أخيرًا على يد "لينين" الاستحواذ على السلطة وانفصلوا عن "المنشفيك" نهائيًّا، وكونوا الحزب الشيوعي الروسي الذي قضى على عناصر "المنشفيك" فيما بعد، وكان الانفصال بين الحزبين قد ظهر في الحرب العالمية الأولى، حيث كان "البلاشفة" ينادون بإحلال السلام، وخالفهم في ذلك "المنشفيك" بل وعارضوا التعاون مع الأحزاب البرجوازية، وتوالت الأحداث إلى أن جاء "لينين" فأصبح "البلاشفة" هم الأغلبية التي قضت بعد ذلك على "المنشفيك" في صراع مرير ومؤامرات ومكائد حاقدة، كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله. قيام الدولة السوفيتية وسقوطها وانتشار الشيوعية ومواقع نفوذها حكمت الشيوعية عدة دول منها: الاتحاد السوفيتي والصين وتشيكوسلوفاكيا والمجر وبلغاريا وبولندا وألمانيا ورومانيا ويوغسلافيا وألبانيا وكوبا وفيتنام، ومعلوم أن دخول الشيوعية إلى هذه الدول كان بالقوة والنار والتسلط الاستعماري، ولذلك فإن جل شعوب هذه الدول أصبحت تتململ بعد أن عرفت الشيوعية على حقيقتها، وعرفت أن الشيوعية ليست هي الفردوس الموعود الذي صوروه لهم، وبالتالي بدأت الانتفاضات والثورات تظهر في هذه الدول هنا وهناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 كما حدث مثلًا في بولندا والمجر وتشيكسلوفاكيا، كما أنك لا تكاد تجد دولتين شيوعيتين في وئام دائم، أما في العالم الإسلامي فقد استفاد الشيوعيون من جهل بعض الحكام، وحرصهم على تدعيم كراسيهم ولو على حساب الدين، إذ اكتسحت الشيوعية أفغانستان وشردت شعبها المسلم، كما تحكمت في بعض الدول الإسلامية الأخرى بواسطة عملائها، فهي تقوم بتوزيع ملايين الكتيبات والنشرات مجانًا في جميع أنحاء العالم داعية إلى مذهبها. وقد أسست الشيوعية أحزابًا لها في كل الدول العربية والإسلامية تقريبًا، فنجد لها أحزابًا في مصر في سوريا في لبنان وفي فلسطين وفي الأردن وفي تونس وغيرها، وقد انهارت الشيوعية في معاقلها بعد قرابة السبعين عامًا من قيام الحكم الشيوعي، وبعد أربعين عامًا من تطبيق أفكارها في أوروبا الشرقية. وأعلن كبار المسئولين في الاتحاد السوفيتي قبل تفككه أن الكثير من المبادئ الماركسية لم تعد صالحة للبقاء، وليس بمقدورها أن تواجه مشكلات العصر ومتطلباته، مما تسبب في تخلف البلدان التي تطبق هذا النظام عن مثيلاتها الرأسمالية، وهكذا يتراجع دعاة الفكر المادي الشيوعي عن تطبيقه، قد اقتنع الجميع بأنها نظرية فاسدة يستحيل تطبيقها؛ إذ تحمل في ذاتها بذور فنائها، وقد ظهر لمن مارسوها عدم واقعيتها وعدم إمكانية تطبيقها، وتبين بعد انهيارها أنها لم تفلح في القضاء على القوميات المتنافرة، بل زادتها اشتعالًا ولم تسمح بقدر -حتى ولو ضئيل- من الحرية، بل عمدت دائمًا إلى سياسة الظلم والقمع والنفي والقتل، وحولت أتباعها إلى قطيع من البشر، وهكذا باءت جميع نبوءات "كارل ماركس" بالفشل، وأصبح مصير النظرية إلى مزبلة التاريخ، ثم انتهى الأمر بتفكك الاتحاد السوفيتي ذاته وأصبح اسمه مجرد أثر في تاريخ المذاهب الهدامة. وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الدرس: 13 التفسير المادي للتاريخ والأطوار المزعومة له والرد عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثالث عشر (التفسير المادي للتاريخ والأطوار المزعومة له والرد عليه) علاقة التفسير المادي للتاريخ بنظرية التطور الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: والمادية التاريخية -كما هو واضح من تسميتها- هي محاولة لتفسير التاريخ البشري على الأسس المادية، التي يزعم الشيوعيون الملحدون أنها هي أساس وجود هذا الكون، فهم يقولون: إن المادة أزلية أبدية وأنها هي الخالقة لكل ما في الكون من مخلوقات، وأن الإنسان هو نتاج المادة والفكر نتاج المادة، وأن قوانين المادة هي بذاتها التي تحكم حياة البشر الاجتماعية، وأن الوضع المادي والاقتصادي هو الذي يكيف شكل الحياة البشرية في أي وقت من أوقاتها وفي أي طور من أطوارها، وأنه هو الأصل الذي تنبثق منه الأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم، التي ينشئها البشر في حياتهم، وأنه يأتي دائمًا سابقًا لها ولا تجيء هي سابقة له بحال من الأحوال؛ لأن المادة تسبق الوعي ولا يمكن للوعي أن يسبق المادة، وأن الوضع المادي والاقتصادي في تطور دائم، ومن ثم فإن الأفكار والمشاعر والمؤسسات والنظم التي تنبثق عنه دائمة التطور كذلك، بحكم ارتباطها بالوضع المادي والاقتصادي وانبثاقها عنه. والحقيقة أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين المادية الجدلية والمادية التاريخية، بحيث يصعب الفصل بينهما، بل هم أنفسهم يقولون ذلك، فقد جاء في كتاب (المادية التاريخية): "إن المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية تظهران كعلم واحد وكفلسفة متكاملة، فلا المادية التاريخية معقولة بدون المادية الديالكتيكية، ولا المادية الديالكتيكية ممكنة بدون المادية التاريخية، فبماذا نفسر ذلك؟ -والكلام لا زال لصاحب الكتاب-: أولًا: لأنه لا يمكن وضع نظرة مادية ديالكتيكية عن العالم ككل إذا لم يتوفر التفسير المادي للحياة الاجتماعية، إذا لم يكن قد اكتشف أن المجتمع هو أيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 شكل لحركة المادة وخاضع في تطوره لقوانين موضوعية، كقوانين الطبيعة المادية والديالكتيكية، فالديالكتيكية غير ممكنة بدون المادية التاريخية. وثانيًا: لأن الإجابة الصحيحة عن المسألة الأساسية في الفلسفة تدور حول أولوية المادة وثانوية الوعد، والإجابة على هذه المسألة غير ممكنة بدورها بدون توضيح سبب وكيفية ظهور الوعي الإنساني، والدور الذي لعبه في ذلك التطبيق العملي الاجتماعي التاريخي للناس؛ إذ إن هذه الإجابة على هذا السؤال تقدمها المادية التاريخية". وجاء في نفس الكتاب أيضًا: "إن تحريف المادية الديالكتيكية يؤدي حتما إلى تشويه المادية التاريخية، فالمادية التاريخية لا تتوافق مع أية فلسفة أخرى غير المادية الديالكتيكية، إن الاعتراف بالمادية التاريخية مع نكران المادية الديالكتيكية ليس إلا زيفا خالصًا سفسطة مقززة هكذا يقولون". وربما يحق لنا أن نبدأ الحديث عن المادية التاريخية من نقطة صلتها بالداروينية ونظرية التطور؛ لأن ذلك قد يلقي الضوء على بعض مفاهيمها، ولا يهمنا هنا أن نتعرض لتفصيلات نظرية "داروين" بقدر ما يهمنا أن نتعرض لإيحاءات هذه النظرية وأثرها على التفسير المادي للتاريخ. وتتلخص نظرية "داروين" في التطور بما يلي، فهو يقول: إن الحياة ظهرت أول ما ظهرت على شكل بروتوبلازم الذي هو أصل الحياة في النبات وفي الحيوان، وبعد ذلك ظهر الحيوان الدودي ومنه الرخويات كالحلازيم ثم تطورت الشوكيات كنجوم البحر ثم القشريات كالسراطين، ثم ظهرت صور جديدة من الحيوان هي عشائر ذوات صفات مستحدثة، دل وجودها على وقوع انقلاب خطير في سير الحياة، وأصبح لهذه الصورة الجديدة حبل متين يمتد طوال الجسم، تدرج بواسطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 التطور إلى تكوين الفقرات، ثم تنشأ الفقاريات واللافقاريات وبعد ذلك تنشأ البرمائيات ذوات التنفس كالضفادع، ثم تدرج سلم التطور من البرمائيات إلى الزواحف كالحيات والتماسيح، ومن فروع الزواحف تنشأ الطيور وذوات الثدي، ومن ذوات الثدي تنشأ الثعابين والقردة ثم تنشأ البشرانيات. ومن هنا نرى أنه بالتطور قد وجدت جميع الكائنات الحية، فخرج بعضها من بعض على طول الأحقاب الجيولوجية، إذن فالإنسان تدرج في سلم التطور الحيواني حتى وصل إلى وضعه الحالي ولم يخلق خلقًا مباشرًا، ولم يكن هناك قصد من خلقه، إنما هو قد جاء هكذا نتيجة لعملية التطور البطيئة جدا، والتي استغرقت ملايين السنين، ولقد تعرضت نظرية "داروين" منذ ظهورها إلى نقد عنيف من كثير من العلماء حتى من الداروينيين أنفسهم. ولكن لماذا يتشبث بهذه النظرية علماء الغرب والمتأثرون بها من علماء الشرق الإسلامي، على الرغم من هذه الاعتراضات الكثيرة والانتقادات التي وجهت إلى هذه النظرية؟: إنه الفصام النكد والعداوة الشرسة التي قامت بين الدين النصراني المحرف في أوربا والعلم، فقد خلفت الداروينية في الفكر الغربي آثارًا بالغة الخطورة، من أهمها: انهيار العقيدة الدينية، فقد كانت النصرانية المحرفة -وما زالت- تعتقد أن الله -عز وجل- خلق آدم وحواء ونهاهما عن الأكل من الشجرة، فأكلا منها فارتكبا بذلك خطيئة لا تغتفر، وحين جاء "داروين" بنظريته معلنًا أن الإنسان لم يخلق خلقًا مباشرًا، كانت النتيجة أن تزعزع الإيمان بآدم وحواء وجنة عدن والخطيئة التي يقوم عليها صرح الإيمان النصراني، وما دام الإنسان الأوروبي لا يعرف إلا الدين النصراني المحرف، فإنه سيجد نفسه تلقائيًّا ملحدًا بالعقيدة التي تقوم على أساس باطل في نظر العلم الدارويني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ومن آثار هذه النظرية أيضًا في الفكر الأوروبي هو نفي فكرة الغاية والقصد، فقد جاءت الأديان للتذكير بأن للوجود الإنساني غاية ومقصدا على هذه الأرض، فلما ظهرت نظرية "داروين" على مسرح التفكير الأوربي أسرعت وقالت: إن الإنسان وليد جرثومة تعاقب عليها خط التطور حتى وصلت إلى وضعه الحاضر، وإن عوامل الطبيعة العمياء التي تخبط خبط عشواء -كما قال "داروين"- وراء عملية التطور هذه، وعلى هذا الأساس فمن العبث البحث عن غاية ومقصد من خلق الإنسان. ومن آثار هذه النظرية أيضا حيوانية الإنسان وماديته، فقد هزت هذه الفكرة المجتمع الأوربي هزة عنيفة، ووجهت إلى الكرامة الإنسانية أعظم لطمة في التحقير عرفتها البشرية، وقد قال "داروين": "إن أصل الإنسان جرثومة صغيرة"!. وهذا الإيحاء بحيوانية الإنسان زاد الأمر خطورة، وزاد من ذلك إيحاؤه بخضوعه للقوانين المادية وتحكمها فيه وهذا هو الإيحاء المادي للنظرية، فنظرية "داروين" تقدم تفسيرًا معينًا لتطور الحياة من الكائن الوحيد الخلية إلى الإنسان، لكنها تقرر جملة مبادئ، هذه المبادئ تأثرت بها المادية الجدلية وتأثرت بها المادية التاريخية، ومنها أن الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق، وأن الطبيعة تخبط خبط عشواء أي أنها ليس لها مقصد معين من الخلق وليس لها غاية من ورائه، وأن الظروف المادية المحيطة بالكائن الحي هي التي تحكم حياته كما تحكم تطوره، وأن الكائن الحي ليس حرًّا في اختيار طريقة حياته ولا طريقة تطوره، وإنما ذلك مفروض عليه من خارج كيانه من الظروف المادية المحيطة به، وأن الإنسان ليس خلقًا قائمًا بذاته إنما هو نهاية سلسلة التطور الحيواني السابق لوجوده، وأنه في تطوره الأول -الذي أوصله إلى حالته الراهنة- كان محكومًا بنفس الظروف المادية التي حكمت خط التطور السابق عليه، وأنه لا وجود لشيء ثابت في عالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الأحياء؛ لأن قانون التطور هو الذي يحكم الحياة ويحكم الأحياء، يحكمها من خارج كيانها ودون خضوع لإرادتها وبصورة حتمية. ولعله قد اتضح الآن كم أخذت المادية الجدلية والمادية التاريخية من الداروينية ونظرية التطور، ولكن فلننظر في أقوالهم هم لنرى ماذا يقولون في هذا الشأن ... يقول "كرونفورث" في كتابه (مدخل إلى المادية التاريخية) يقول: "وتقدم المادية التاريخية أساسا للعلم الاجتماعي بنفس الطريقة التي تقدم بها نظرية التطور، عن طريق الانتقاء الطبيعي أساسًا للعلم البيولوجي، فأيًّا كان النوع الذي يدرس فإنه قد تطور عن طريق الانتقاء الطبيعي، وهذا يحدد كل حسب طبيعته وبالمثل أيًّا كان المجتمع الذي يدرس، فإنه أصبح ما هو عليه بتكيف علاقات الإنتاج مع الإنتاج والأفكار والمؤسسات مع علاقات الإنتاج". وجاء في كتاب (أصول الفلسفة الماركسية) يقول: "وكان للاكتشافات الثلاثة التالية أثر كبير في ذلك: اكتشاف الخلية الحية التي تتطور عنها الأجسام المعقدة، واكتشاف تحول الطاقة من حرارة وكهرباء ومغناطيس وطاقة كيميائية، فهي صور مختلفة نوعية بحقيقة مادية واحدة، ونظرية التحول عند "داروين"، ولقد أظهرت هذه النظرية اعتمادًا على الحفريات وعلم تربية الحيوان أن جميع الكائنات الحية -ومنها الإنسان- هي ثمرات التطور الطبيعي". وجاء في كتاب (أسس المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية): "وبذلك أعد تطور العلم وخصوصًا الاكتشافات الثلاثة في العلم الطبيعي -قانون حفظ الطاقة ونظرية التكوين الخلوي للكائنات الحية ونظرية التطور لـ "داروين"- المقدمات العلمية لانتصار النظرية المادية الجدلية عن العالم، التي وضعها "كارل ماركس" و"فردريك إنجلز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 التفسير المادي للتاريخ وأطواره المزعومة والرد عليه قلنا: إن تاريخ الإنسان وجد عن طريق المادة في مفاهيم هؤلاء الشيوعيين، فهم يفسرون تاريخ الإنسان على طريقة الجدل المادي الديالكتيكي، على أساس أن قانون المادية الجدلية هي التي تصنع تاريخ الإنسان دون أي تدخل منه، بل إن حياة أي مجتمع هو ثمرة واقعه المادي، وحياة الناس العقلية هي انعكاس هذا الواقع، وليست الحياة الاجتماعية ثمرة أفكار سابقة، بل الحياة الاجتماعية للناس هي التي تحدد إدراكهم، فالمادة سابقة للفكر ومسيرة له -بزعم الملاحدة. تاريخ الناس كذلك تصنعه المادة المتطورة بغير إرادة جماعية منهم؛ لأن طلب كل فرد تحقيق غايته وما ينشأ إثر ذلك من تباين الإرادات، وتأثير تلك الإرادات على العالم الخارجي هو بالضبط ما يشكل التاريخ لكل المجتمعات التي تنشأ، وفق أحوالهم المادية، والتاريخ ذاته يمر بمراحل هي في مذهب الملاحدة الماركسيين تتمثل فيما يلي: المرحلة الأولى: المشاعية البدائية. المرحلة الثانية: الرق. المرحلة الثالثة: الإقطاع. المرحلة الرابعة: الرأسمالية. المرحلة الخامسة: الاشتراكية الممهدة للشيوعية. المرحلة السادسة: هي الشيوعية الأخيرة، وهذه المرحلة السادسة هي التي تلغى فيها الطبقات كلها -كما يدعون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وقد ذكر الباحثون أنه من الصعوبة -كما قلنا- تصور الفصل بين المادية الجدلية والمادية التاريخية، والملاحظ أن التفسير المادي للتاريخ لا ينفي القيم والأخلاق التي تصدر عن البشر، إلا أنه ينفي أن تكون لتلك القيم أو الأخلاق أو سائر السلوك وجود قبل وجود المادة والأوضاع الاقتصادية، أو أن تكون تلك القيم والأخلاق لها ثبات دائم، أو أن تكون تلك القيم والأخلاق من الله تعالى، بل إن تطور تاريخ المجتمعات البشرية هو قبل كل شيء مرهون بتطور الإنتاج البشري المادي، تاريخ البشر يرتكز أساسًا على المصالح المادية التي تربط الناس بعضهم ببعض، لا على أساس ديني أو سياسي أو أخلاقي ثابت، إذ القيم كلها في مفهومهم سراب لا قيمة لها، والغايات عندهم تبرر الوسائل على امتداد تاريخ البشر حسب تفسيرهم. أما عن مدى صحة الأطوار التي تزعمها الشيوعية فنقول: إن ما زعمه "ماركس" من أن تاريخ البشر وما يمرون به في حياتهم من أمور مختلفة، إنما هو نتيجة لطريقتهم في الإنتاج، إن هو إلا كذب محض؛ فإن حياة الناس ومعايشهم والتغيرات التي يمرون بها لا تتوقف فقط على الإنتاج، والواقع خير شاهد على أن الذي يغير المجتمعات قد يكون أشياء كثيرة، غير وفرة الإنتاج أو قلة الإنتاج، فالفرق المختلفة وأصحاب المذاهب الوضعية واستعمار الناس بعضهم بعضا، والحروب التي تشتعل بينهم والغنى والفقر الذي يمرون به، وغير ذلك كلها من العوامل التي تحدث التغيير في المجتمعات ولا سبيل إلى إنكار هذا، مما يدل على أن قضية الإنتاج إنما هي جزء من الأجزاء الكثيرة التي تحدث التغيير في المجتمعات، وليس المال فقط كما قرره الملاحدة. وكذلك ما زعمه الماركسيون من أن تاريخ البشر مر بالمراحل السابقة، إلى أن وصل إلى الشيوعية، هي في الحقيقة كلها مزاعم فارغة كاذبة، وقد ظهر كذبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فإن "ماركس" زعم أن العالم الغربي المتطور سيترك الرأسمالية ويتحول حتما إلى الاشتراكية الشيوعية، فكان العكس هو الصحيح إذ رفض العالم المتطور فكرة الشيوعية، وتقبلتها الدول المتخلفة نسبيا كروسيا والصين، وقد بدأت تظهر في تلك البلدان العودة إلى الرأسمالية رويدا رويدا، خصوصا بعد أن بدأت الشيوعية تحتضر، كما أن ما يتنبئون به من أحداث ستحصل في المستقبل يدل على تناقضهم؛ لأنهم لا يؤمنون بأي شيء في المستقبل يدل عليه العقل، بل يؤمنون بما يدل عليه الواقع المشاهد الذي تفرزه الطبيعة فقط، إلى أن ماتت الشيوعية دون أن ينتقل الناس إلى الشيوعية الأخيرة، التي زعموا أنها ستقضي على جميع الطبقات فتبين كذب الشيوعية جملة وتفصيلا. أما بالنسبة للمرحلة الأولى -وهي المشاعية البدائية- التي زعم الملاحدة أن الإنسان نشأ بدائيًّا كقطيع من الحيوانات، ثم أخذ يتطور إلى أن استطاع إنتاج أدوات العمل في تطوره التدريجي البطيء، وأنه اكتمل بفضل التعاون الذي قام بين أفراد البشر، وأنهم استطاعوا انتزاع حياتهم من الطبيعة التي كانت تغالبهم ويغالبونها، ثم أضافوا إلى هذا الافتراء افتراء آخر؛ وهو أن ذلك التطور قد اكتمل في الناس من غير إرادتهم ووعيهم، وأنهم انتصروا على الطبيعة بفضل تعاونهم المشاعي في الزراعة والصناعة وغيرهما، إلا أنه حينما انصرف بعض أفراد البشر إلى الإنتاج الفردي لا المشاعي ظهر التناقض بين الملكية الاجتماعية والطابع الفردي لعملية الإنتاج، فاصطدم هذا الوضع وتناقض مع الرغبة في الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ونتج عن ذلك القضاء على النظام البدائي المشاعي، كحتمية طبيعية للتطور المستمر في الحياة قاطعة بذلك خط سيره. ثم نشأ بعد ذلك الصراع الطبقي على المصالح المادية، فبدأ من هنا تاريخ الصراع الطبقي في المجتمعات نتيجة للتطورات المتلاحقة، ونتيجة لحياة الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 فاصطدمت بالنظام الرأسمالي الذي يمثل سيادة أصحاب رؤوس الأموال على الفقراء وعلى الأفكار عموما، ثم نتج عن ذلك أيضا قيام قضية الرق الآتية، وهي المرحلة الثانية من المراحل التي يزعم الملاحدة أنها نشأت إثر صراع طبقي بين المنتصرين في الحرب والمهزومين من جهة، وبين أصحاب الأموال الدائنين وبين الفقراء المدينين من جهة أخرى، ولأسباب مادية أيضًا انهار أمر الرق تدريجيا؛ لأنه لم يعد كما يقولون تجارة رابحة، وأيضا فإن أولئك المنهزمين والفقراء حينما أحسوا في فترة من فترات تاريخهم للرق والعبودية التي يعانونها؛ أرادوا أن يثأروا لأنفسهم كما هو الحال في بقية الحيوانات الأخرى التي شاركتهم في النشأة الأولى. وحصل الصراع الطبقي العنيف بين الفقراء والأغنياء، انتصر فيها الفقراء وجعلوا الأغنياء في النهاية عبيدا، ليبدأ الصراع أيضا على أشده كأنهم قطعان الثيران المتصارعين، وهنا تدخل الدين ليكون أداة روحية لاستعباد الجماهير، وإقامة كل الأشكال الراهنة للوضع الاجتماعي بما يعدهم به، بعد أن صبروا على ما هم فيه من البلاء والذل، وازداد النظام الاستعبادي ضراوة وصراعا، فنشأ الإقطاع هكذا تعليلهم لنشأة الرق وظهور التدين ونهاية الرق، وهذه كلها -كما نلاحظ- مجرد افتراضات خرقاء وليس لهم أي دليل إلا آراؤهم التي تخيلوها في نشأة الرق والإقطاع، وغيرها من التقسيمات التي أحدثوها، ولأنهم لا يعلمون أن حكمة الله تعالى اقتضت ألا يكون الأنبياء من أصحاب الثروة أو الجاه، فظنوا -والظن أكذب الحديث- أن الأنبياء إنما أتوا بما أتوا به محافظة منهم على حفظ أموالهم وتجاراتهم، وليبقى الكادحون أرقاء لهم دائما إن هم صبروا على ما هم فيه، وكما نعلم فإن هذه الخدعة لا مكان لها إلا في رأس إبليس ومن اتبعه من الملاحدة أصحاب الخيالات السقيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أما المرحلة الثالثة من مراحلهم وهي مرحلة الإقطاع، الذي علل الملاحدة لظهوره بأن العالم كانوا على طبقتين: هم طبقة كبار الملاك وطبقة رجال الدين، وبقية الناس كانوا مسخرين مستعبدين لهاتين الطبقتين، وحينما ظهرت أدوات الإنتاج المتطورة كالمحراث الحديدي وغيره من الأدوات الجديدة، ظهر الإقطاع بشكل قوي، وصار المستعبدون تحت رحمة الملاك وتحت رحمة أصحاب الجاه، يعملون لحسابهم ولا ينالون إلا ما تجود به أيدي أولئك الأثرياء، في الوقت الذي كان فيه الأثرياء ورجال الدين قد تمالئوا على إبقاء تلك الطبقة الفقيرة في معزل عن التفكير السليم لحالهم، ولكن وبعد وقت أفاق الفلاحون ورأوا ما حل بهم من الغبن، فثاروا ضد تلك الطبقات الثرية والدينية لرفع الظلم الفاحش عنهم، ولكن ثورتهم كانت أضعف من إزاحة تلك الطبقات الثرية والدينية لما يأتي: أولًا: لأنها ثورة غير منظمة. وثانيًا: لحاجة الفقراء الشديدة. وثالثًا: للقوة المتينة التي كان يتحصن بها الأثرياء وأصحاب الدين ... إلا أن تطور الأمور الاقتصادية أخذت تحط من كبرياء أصحاب الثروة من الإقطاعيين، لتحل الرأسمالية بدل الإقطاع في حركات تطورية متلاحقة، تتمشى مع خيالات واضعي الماركسية، بغض النظر عن صحة هذا التعليل أو عدم صحته، فإن الإسلام يعتبر تلك الأوضاع كلها باطلة وجاهلية بغيضة، ما أنزل الله بها من سلطان، على افتراض وجود تلك الأحوال على الصورة التي تخيلها "ماركس" وأتباعه، فلا يجوز رد الحق بالخطأ والتخمين. أما المرحلة الرابعة -وهي مرحلة الرأسمالية البرجوازية- فقد ظهرت كما يقول الشيوعيون الملاحدة لعدة أسباب؛ منها: استحواز هذه الطبقة في الأساس على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 مصادر المال واستقراره في أيديهم، واختراع الآلات الحديثة التي حلت محل الأيدي العاملة من طبقات الإقطاع والرق؛ لعدم إنتاجهم بالكثرة التي تنتجها تلك الآلات، فصارت حالة الرق متناقضة مع حالة الإقطاع، فألغت بدورها حالة الإقطاع التي كانت قائمة على استعباد الكادحين للعمل للإقطاعيين النبلاء، وبحث الجميع عن رأس المال ثم ازدياد حجم التجارة في أوربا بدلا عن الزراعة. والملاحظ أن أولئك الذين كانوا يطلبون العمل بأيديهم لم يكن دورهم كافيًّا لملء ما تحتاج إليه الحركة الصناعية القوية، كما هو الحال بالنسبة للآلات الحديثة، وهذا أحدث بدوره رد فعل لدى العمال لتحطيم الإقطاع المستند إلى الآلات الحديثة، بسبب التناقض مع القوى المنتجة النامية من جهة، وحاجة العمال من جهة أخرى إلى العمل والكسب، وهذا بدوره قد هيأ الجو لتصاعد قوة الرأسمالية، التي تسعى دائمًا لزيادة الإنتاج والمكاسب الوفيرة، وما نشأ بين أفرادها من تعاون مثمر في شتى المجالات، وقد جعلوا استغلال طبقة من الناس لطبقة أخرى هو أساس الحضارة؛ لكي يحصل التناقض الذي يوصل طبقة إلى الاستعلاء على طبقة أخرى، فما من شر لطبقة إلا وهو خير لطبقة أخرى وهكذا صراع دائم من أجل البقاء. كما أن تجمع الشعوب واتحادها إنما يعود -حسب تفسيرهم- إلى المصالح الاقتصادية، التي قامت عليها الرأسمالية، غير أن الرأسمالية أصبحت مناقضة لمصالح طبقة "البروليتاريا" أي طبقة العمال، فكان لزاما على هؤلاء العمال أن يصارعوا طبقة الرأسمالية، وأن يطيحوا بها بالطرق الثورية، وأن يستبدلوها بالنظام الشيوعي الذي يستوعب تلك التناقضات ويصفيها، في مجتمع ليس فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 طبقات يستغل بعضهم بعضًا، إنما فيه طبقة واحدة يكون الإنتاج فيها ملكًا مشتركًا بين الدولة، وهي خدعة شيوعية بارعة، ولكن هذا الصراع لا ينقل الناس مباشرة من الرأسمالية إلى الاشتراكية، بل يمر بمراحل تدريجية قبل انتقالهم من الرأسمالية إلى الاشتراكية ثم إلى الشيوعية، التي تحقق لهم مبدأ: من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته، والتي تتم بجهود ضخمة من العمل المتواصل لزيادة الإنتاج لتتحقق تلك القاعدة. وهكذا يتضح بجلاء أن التعليلات الشيوعية كلها قائمة على مجرد خيالات وتصورات، ليس لها ما يسندها، بل هي ضد العقل والمصالح وضد الدين وضد الدنيا، وإن ما تصوروه عن بداية المجتمع المشاعي وظهور الرق والإقطاع والرأسمالية ثم الاشتراكية الممهدة للشيوعية؛ كل هذه الحلقات هي افتراضات وتخمينات، وأول ما يدل على كذبهم فيها أنهم لا يستطيعون أن يحددوا بداية كل مرحلة وظهور التي تليها تحديدًا دقيقًا، مع أنه حتى ولو حددوها لا يقبل منهم لعدم وجود أدلة على ذلك يقبلها العقل، وأنهم قد سلسلوا تلك الأحداث ليصلوا إلى النتيجة التي يهدفون إليها، وهي إظهار الشيوعية بمثابة الثمار الشهية اليانعة التي نضجت بعد الجد والاجتهاد، وتطور الأحوال من حال إلى حال، ولإظهار الشيوعية كذلك بمظهر المنقذ لتعاسة الإنسانية على مدى تاريخ الحياة البشرية على وجه الأرض، وكم علت تلك الأصوات وكم أخذت في طريقها من ضحايا، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة في أيام "جورباتشوف"، الذي تولى رئاسة الاتحاد السوفيتي بعد "يوري أندروبوف" و"برجينيف" وللباطل صولة ثم يضمحل. وقد مزق الله الاتحاد السوفيتي كل ممزق، ولا يوجد عند العقلاء أدنى شك في أن تفسير الملاحدة لتاريخ البشر هو ضلالة كبرى من ضلالات الشيوعية، وهضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 واضح لتاريخ البشرية، وطمس للوجه المشرق من تاريخ البشرية في مختلف الأزمنة، حينما لا يعترف هذا التفسير بأية قيمة خلقية أو دينية أو ثقافية أو اجتماعية، قبل ظهور عبادة المادة الصماء، فهذا التفسير قائم على النظرة الاقتصادية البحتة، فلا قيمة لأي شيء إلا من خلال هذه النظرة الضيقة الباطلة التي لا يعرفون سواها. إن تاريخ البشر مملوء بالأحداث المختلفة على مر الليالي والأيام، بعضها تكون أحداثًا كبيرة وبعضها صغيرة، وبعضها يكون للمادة تدخل ما فيه، وبعضها لا تمت إليه المادة بأدنى سبب، بل لقد سجل التاريخ أعظم حدث في هذا الوجود في فترة زمنية قصيرة، ولا تزال آثارها واضحة قوية ستبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إنه الإسلام بتعاليمه السامية ونظمه العادلة، فكيف نشأ؟ وما هي الأسباب التي أدت إلى تغييره للمفاهيم التي قبله رأسًا على عقب؟ وأي حالة اقتصادية اقتضت ظهوره على تلك الحال؟. والجواب عند المؤمنين بالله تعالى لا يحتاج إلى إعمال الفكر ولا إلى الاجتهاد، فإن الجواب يأتي تلقائيًّا أن الله هو الذي أنشأه وأظهره في الوقت الذي اقتضته حكمته دون أي صراع مادي، ولهذا فإن التفسير الإسلامي لتاريخ الإنسان -ونشأته في هذا الكون- من البدهي أن يختلف اختلافًا جذريًّا عن التفسير المادي له عند الملاحدة، ذلك أن الإسلام يقرر أن للإنسان مفهومه الخاص به، وأنه متميز عن بقية المخلوقات التي تساكنه في هذه الدنيا، فهو مفكر وله عقل وتمييز يدبر الأمور ويصرفها وفق مصالحه وإرادته، وهو الذي يسير المادة وليس المادة هي التي تسيره وتتصرف فيه كما في المفهوم الشيوعي، ففي الإسلام ينبع تاريخ الإنسان من حياته وتفكيره وعمله وتوجهاته، وما يتلقاه من التعاليم الإلهية على أيدي رسل الله -عليهم الصلاة والسلام- وليس من المادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 يبدأ تاريخ الإنسان في الإسلام من خلق الله له من طين الأرض، ثم نفخ الروح فيه ثم إهباطه إلى الأرض واستخلافه فيها، وقيامه أو عدم قيامه بأوامر الله ونواهيه وسلوكه الخير والشرير، وما يسطره الإنسان في صفحات كتابه الذي سيقرؤه يوم القيامة، وما يتبع ذلك من الحساب والثواب والعقاب، ولا شك أن هذه المفاهيم بعيدة كل البعد عن تاريخ الإنسان المادي كما تصوره الشيوعية، والتي تهبط بالإنسان إلى الحضيض، ولا تعترف له بتلك المنزلة العالية التي يشابه فيها الملائكة في علو روحه إن أطاع الله تعالى واتقاه ... هذا الجانب أغفلته الشيوعية، ولم تنظر إليه إلا على أن الإنسان حيوان بهيمي، لا هم له إلا بطنه وفرجه ولا ذكر لروحه ومزاياه العديدة، وليس فيها أن الله كون الإنسان من جسد وروح، وأن كلا منهما يطالب بحقه وغذائه المادي والروحي مطالبة حثيثة، وليس فيها أنه لا يجوز أن يغلب الإنسان جانبا منهما على الآخر إلى حد الإهمال كما قررته الشيوعية. فهذا التوازن لا يوجد إلا في الإسلام لكي يتم التوازن الحقيقي بينهما، فإن الإسلام لا يقدس الجسد وشهواته الحسية فقط ولا يقدس الروح إلى حد الغلو فيها، وإنما الإسلام يوازن بينهما ويجعلهما شريكين متماسكين لا متصارعين، كما هو حال الأنظمة الجاهلية المادية، ويمكننا القول بأنه إذا كان ظهور الشيوعية كنتيجة مادية قامت بالعنف والجبروت، فقد رأينا نهايتها المخزية، بينما الإسلام وقد قام على العقيدة الصحيحة والعدل التام انتصر وتأثر به الناس، وأحبوه وأحدث في أنفسهم قوة جبارة كانت كامنة، ففجرها الإسلام وأنار الأرض كلها، ولم يقم على العنف ولا على الصراع المادي والطبقي، فلو أن الإسلام كان ظهوره بسبب عوامل مادية لانتهى بتلك الحال حينما تنتهي، أو لوجب أن تنشأ قوة مثله كلما تكررت تلك الحال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 التفسير المادي للإنسان والقيم الإنسانية التفسير المادي للإنسان: رأينا أن النظرية الداروينية الكاذبة أفادت أن الإنسان حيوان، يعود إلى نسل القردة ثم تطور بفعل المادة إلى أن أصبح إنسانا، ومع هذا الهبوط للإنسان في نظرية "داروين" إلا أن الملاحدة لم يكتفوا بذلك، بل أضافوا له دفعات إلى الأسفل في الهبوط، فاعتبروا فكر الإنسان الذي يميزه عن سائر الحيوانات جعلوه ناتجًا عن المادة المحضة لا قيمة له، جسم مادي نعم كثيرة الله -سبحانه وتعالى- أوجدها فيه، ولكن هذه النعم حدث للإنسان منها تشريف عظيم أخرجه تمامًا عن صفته المادية، وهذا التشريف هو نفخ الله فيه الروح فصار عظيمًا، وهذا التشريف أن الله سبحانه وتعالى جعله أفضل المخلوقات، لكن الملاحدة تناقضوا فميزوا بين مادة ومادة وقالوا: إن الإنسان أفضل المخلوقات أيضًا، فكيف ساغ لهم أن يقولوا: إن الإنسان هو سيد هذا الكون ما دام الإنسان مخلوقا بفعل المادة؟! تضاربت أفكار الملاحدة دون أي اكتراث منهم بذلك. التفسير المادي للقيم الإنسانية: طالما قرر الملاحدة أن الإنسان مادة فقد أصبح مفهوم القيم من الأمور التي لا قيمة لها، إذ إن المادة لا تتصف بأي قيمة روحية أو نفسية أو خلقية، وهذا هو الواقع الذي قرروه، فالقيم عندهم كلها ليس لها صفة ثابتة وإنما هي انعكاس للأحوال الاقتصادية، وهذا التفسير المادي للقيم يظهر فيه ما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 أولًا: تضخيم العامل المادي الاقتصادي، وجعل هذا العامل هو أساس كل شيء في حياة الإنسان. ثانيا: هم يزعمون أن كل القيم لا ثبات لها، الأخلاق والقيم والإيمان بالقدرة الغيبية وتماسك الأسرة والحفاظ على العادات القبلية، كل هذا يرونه لا ثبات له ولا مكان له في نظريتهم ومذهبهم، أليس هذا من التناقض أن يقال: إن المجتمعات الزراعية القديمة كانوا يعيشون في وئام تام وهدوء وأخلاق عالية، بينما يوصف المتأخرون اليوم بأنهم في تقدم شامخ ووعي كامل وحضارة راقية، وهم يحملون في صدورهم قلوبًا حاقدة عدوانية ولا يلوي أحد على أحد، فكان يجب أن يعكس الأمر تمامًا، لكن ليزيد تناقضهم تناقضًا وليزيد مذهبهم تهافتًا حتى ينتهي هذا المذهب إلى البطلان التام. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 الدرس: 14 الناصريون والبعثيون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر (الناصريون والبعثيون) تعريف الناصرية وتأسيسها وأبرز الشخصيات فيها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: الناصريون والبعثيون: الناصرية: الناصرية حركة قومية عربية نشأت في ظل حكم جمال عبد الناصر، رئيس مصر من سنة 1952 إلى سنة 1970 ميلادية، واستمرت بعد وفاته كما اشتقت اسمها من اسمه، وتبنت الأفكار التي كانت ينادي بها جمال عبد الناصر، وهي الحرية، والاشتراكية، والوحدة، وهي نفس أفكار الأحزاب القومية اليسارية العربية الأخرى. تأسيس الناصرية وأبرز الشخصيات فيها: أول من أطلق لفظ الناصرية هو الصحفي محمد حسنين هيكل، وهو الصحفي الذي رافق عبد الناصر في فترة حكمه، وأصبح له شهرة في العالم العربي، كان ذلك في مقال له في جريدة الأهرام، في الرابع عشر من شهر يناير سنة 1972 ميلادية، وجاء بعده كمال رفعت وأصدر في سنة 1976 كتيبًا بعنوان (الناصريون) ذكر فيه مبادئ الناصرية وأهدافها. وقد بلور الدكتور عبد القادر حاتم الذي كان وزيرًا في عهد عبد الناصر المذهب الناصري، وبلور هذا المذهب الناصري في تأبينه لجمال عبد الناصر، كما جاء في جريدة الأخبار في الثاني من شهر أكتوبر عام 1970 للميلاد، حينما قال هذا الدكتور: "أصبح في العالم اليوم مذهب سياسي متميز ينتسب إلى عبد الناصر". وقد وافق القضاء المصري على إعلان الناصرية كحزب باسم الحزب الديمقراطي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الناصري، وذلك في يوم الاثنين الثامن عشر من شوال سنة ألف وأربعمائة واثنتا عشرة من الهجرة، الموافق 20 شهر أبريل عام 1992 للميلاد، وكان هذا الحزب الديمقراطي الناصري برئاسة ضياء الدين داود، وهو محامٍ وعضو في مجلس الشعب المصري. وهناك من قادة الدول العربية من يصرح بأنه يسير على نهج جمال عبد الناصر. مثل: القذافي رئيس الجماهيرية الليبية وغيره. نظرة تاريخية على مؤسسي الناصرية وهو جمال عبد الناصر نظرة تاريخية على مؤسسي الناصرية: جمال عبد الناصر: جمال عبد الناصر كان في بداية حياته يتردد على مركز الإخوان المسلمين؛ لسماع حديث الثلاثاء للأستاذ حسن البنا وغيره، وكان هذا منذ عام 1942، وقد ذكر هذا أحد رفاقه وهو عبد المنعم عبد الرءوف في مذكراته، وذكر أيضًا في مذكراته أنه في أوائل سنة 1946 بايع جمال عبد الناصر ومعه مجموعة من الضباط، بايعوا الإخوان المسلمين على التضحية في سبيل الدعوة الإسلامية، لكن عبد الناصر بدأت علاقته بالمخابرات الأمريكية في وقت مبكر، بعضهم يرجع هذه العلاقة إلى ما قبل الثورة بكثير، وبعضهم كما يذكر أحد رفاقه -وهو خالد محيي الدين- يتحدث عن علاقة لجمال عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية، منذ مارس عام 1952، أي قبل قيام الثورة بأربعة أشهر، وكذلك تحدث اللواء محمد نجيب وهو أول رئيس لمصر بعد الثورة عن هذه العلاقة في مذكراته، وذكر محمد نجيب في مذكراته أن المخابرات الأمريكية هم الذين كانوا يرسمون لجمال عبد الناصر الخطط الأمنية، وهم الذين كانوا يدعمون حرسه بالسيارات والأسلحة الجديدة. وفي السابع والعشرين من يوليو عام 1954 عقد جمال عبد الناصر اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، رغم معارضة الكثيرين ورغم معارضة الإخوان المسلمين، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 الرابع عشر من شهر نوفمبر عام 1954 أعفى جمال عبد الناصر محمد نجيب من منصبه، وكان رئيسًا للجمهورية ليصبح عبد الناصر هو رئيس مصر الجديد، أو كما قال كمال الدين حسين وحسن التهامي فرعون مصر الجديد. وفي الثامن من ديسمبر عام 1954 نفذ جمال عبد الناصر حكم الإعدام في ستة من قادة جماعة الإخوان المسلمين، منهم الشهيد عبد القادر عودة مؤلف كتاب (التشريع الجنائي في الإسلام)، بالإضافة إلى كثير من الاعتقالات التي شملت الآلاف من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وذلك بعد اتهامهم بالتآمر على قتله في حادثة المنشية بالإسكندرية في العام نفسه، التي قال كثير من الكتاب والمحللين بأن هذه الحادثة كانت مسرحية، دبرها جمال عبد الناصر مع المخابرات المركزية؛ وذلك للتخلص من جماعة الإخوان المسلمين، الذين كانوا يشكلون عقبة كبيرة لحكمه الفردي البعيد عن الدين، ولتلميع شخصيته بصفته زعيمًا وطنيًّا حتى تتعلق به الجماهير. وفي سنة 1956 كان الاعتداء الثلاثي على مصر، من قبل ثلاث دول: وهي انجلترا، وفرنسا، وإسرائيل، واستمر هذا الاعتداء ولم ينسحب المعتدون إلا بعد أن استولى الجيش الإسرائيلي على شرم الشيخ في سيناء، واستولى كذلك على جزر تيران في البحر الأحمر، وقد شارك جمال عبد الناصر في الحرب اليمنية التي قتل فيها الآلاف من الشعب المصري المسلم، وخسرت فيها مصر الملايين. وفي عام 1966 أقدم عبد الناصر على إعدام ثلاثة من كبار جماعة الإخوان المسلمين، منهم الشهيد سيد قطب مؤلف (في ظلال القرآن)، وكان قد اعتقل آلافًا منهم في عام 1965. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 وفي العام نفسه صدر القرار الجمهوري بالعفو الشامل عن جميع العقوبات الأصلية والتبعية ضد الشيوعيين في مصر، وبعدها دخل الماركسيون في جميع مجالات الحياة، وتبوءوا أعلى المراكز في مصر بعد ذلك، وفي عام 1967 كانت النكبة الثانية للعرب والمسلمين، فقد احتلت دولة اليهود في فلسطين المحتلة ثلاثة أمثال ما اغتصبوه عام 1948 ميلادية، فقد احتلت دولة الصهاينة سيناء واحتلت الجولان وكذلك الضفة الغربية، كما سقطت القدس بلا قتال. وتوفي عبد الناصر سنة 1970، بعد أن غرقت مصر في الديون وبعد أن ملأ العالم العربي بشعارات جوفاء. ومن أخلاق عبد الناصر على لسان رفاق حياته ومعاصريه، هم يذكرون عنه -كما يقول حسن التهامي وهو من أقرب المقربين له- إن عبد الناصر هو الذي أمر القوات المصرية بالانسحاب إلى الضفة الغربية من قناة السويس، عام 1967 ميلادية، كما يقول عنه -والعهدة عليه- وهذا كما نشرت الأهرام في يوم 5 - 8 - 1977 كان يقول عنه: "إنه هو الذي دس السم لعبد الحكيم عامر في بيت عبد الناصر نفسه". ويقول عنه حسين الشافعي -وهو أحد الضباط الأحرار الذين قاموا بالانقلاب العسكري سنة 1952 - في محاضرة له في جمعية الشبان المسلمين: "انقلوا عني أن الجيش المصري لم يحارب في معركة 1967 بل هزم بسبب الإهمال والخيانة. وأقول: الخيانة وأضع تحتها عشرة خطوط"، كما يقول عنه خالد محيي الدين: "إنه كان على علاقة بالمخابرات الأمريكية منذ مارس 1952، أي قبل قيام الثورة بأربعة أشهر". وقد نقل كثير من هذه الأقوال وغيرها في كتب كثيرة؛ منها: كتاب (كلمتي للمغفلين) للكاتب محمد جلال كشك، ومنها كتاب (الموتى يتكلمون) للأستاذ سامي جوهر، ومنها كتاب (البحث عن الذات) لمنير حافظ، ومنها (مذكرات عبد المنعم عبد الرءوف) و (مذكرات محمد نجيب) وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أفكار الناصرية ومعتقداتها أول مبادئ الناصرية وأول شعاراتها التي كانت تنادي بها وتدعو إليها أنها تقول: إنها تدعو إلى الحرية والاشتراكية والوحدة وكانوا يقولون: إنهم بهذه الحرية والاشتراكية والوحدة سيقضون على مشكلات العالم العربي الأربعة وهي: الاستعمار والتخلف والطبقية والتجزئة بين أقطار العالم العربي، ونلاحظ أن هذه الأفكار هي نفسها أفكار حزب البعث القومي اليساري: الوحدة والحرية والاشتراكية. أما الحرية المطلوبة التي كانوا ينادون بها فعند التطبيق كانت هي حرية الناصريين فقط، وليست حرية الشعب بكامله، إذ إن الناصرية القديمة في عهد عبد الناصر نفسه كانت ترفع شعارات أخرى منها: لا حرية لأعداء الحرية، أما أعداء الحرية فهو كل معارض لهم، فكل من يعارضهم هو من أعداء الحرية، إذن فالحرية عندهم هي حرية الناصريين وليست حرية الشعب كله. أما دعواهم إلى الاشتراكية فقد سبق الحديث عن الاشتراكية وشعاراتها الجوفاء وقلنا: إن هذه الشعارات هي شعارات فارغة لخداع الجماهير، وأنه حين التطبيق كانت هذه الاشتراكية اشتراكية الناس في الفقر فقط. هم يقولون: إن الاشتراكية أساس التقدم الاقتصادي، وهي أساس بناء مجتمع الكفاية والعدل، والمجتمع الذي ترفرف عليه الرفاهية كما يزعمون، كما نادت الناصرية بتوزيع الثروة الوطنية ليتحقق التغيير الاجتماعي. وكذلك نادت الناصرية بالاشتراكية العلمية وهي خليط من الاشتراكية الماركسية والليبرالية الغربية والأفكار الوطنية، مع شيء من الأفكار الدينية، وينادون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 كذلك ويدعون إلى الوحدة، وهي في نظرهم أساس القوة العربية، والعروبة أو القومية العربية هي أساس قيام الوحدة. وقد أغفلت الناصرية رباط العقيدة التي لا تؤمن الشعوب العربية إلا بها ولا تتجمع إلا حول رايتها، وهي العقيدة أساس وحدة العرب في الصدر الأول، وهي أساس وحدتهم في الصدر الأخير لمن أراد أن تكون هناك وحدة. وكذلك نادت الناصرية بالديمقراطية، ومفهوم الديمقراطية لديها هو ديمقراطية التحالف السياسي تبعًا لتحالف القوى الاجتماعية، أو كما وصفها الصحفي محمد حسنين هيكل: أنها ديمقراطية الموافقة، أي أن الزعيم الحاكم ينفرد بالحكم وبإصدار القرارات المصيرية، وأن دور الشعب يقتصر فقط على الموافقة أو على تأييد هذه القرارات؛ لأنه يفترض في الزعيم العصمة والصواب والحكمة وتجسيد إرادة الشعب وحقوق التعبير عنها. وكذلك من أسس الناصرية أيضًا العلمانية أو اللادينية، فليس للدين علاقة بالمجتمع وقوانينه ونظام حياته وإنما هو طقوس تعبدية في المسجد فحسب. الجذور الفكرية والعقائدية للناصرية، والنفوذ وأماكن الانتشار البذور الفكرية والعقائدية للناصرية: إن الناصرية حركة قومية يسارية علمانية برزت بعد وفاة عبد الناصر، ولذلك فهي تعتمد أساسًا على الفكر القومي الذي ظهر بعد سقوط الدولة العثمانية، كذلك تعتمد على رافد من الروافد الأخرى وهو الفكر الماركسي المادي، وهو أيضا أحد روافد الثوب القومي والفكر القومي، ولذلك فالناصرية أبعدت الدين من كل مبادئها وممارساتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 النفوذ وأماكن الانتشار: فقد نشأت الناصرية في مصر، وانتشرت في باقي البلاد العربية، وإن كان أتباعها في البلاد العربية قلة، وقد طالب بعض الذين تعاونوا مع جمال عبد الناصر بتشكيل حزب ناصري في مصر وقد سمح لهم بذلك، يتضح مما سبق أن الناصرية تتجسد في قلة من الذين تعاونوا مع جمال عبد الناصر أثناء حكمه وأظهروا الولاء لشخصه، فلما سمح بالتعددية الحزبية في مصر اتفقوا على التجمع باسم القومية العربية، وتحت لواء الحرية والاشتراكية والوحدة، دون تحديد واضح لمضمون هذه الأهداف، ولكنهم على أية حال يدينون بالولاء لعبد الناصر ويعتبرونه رائدهم، مشيدين بمواقفه الإيجابية بحكم أنه أنهى الملكية الفاسدة في مصر -كما يقولون- وأمم قناة السويس وأنهى الاحتلال البريطاني، وبنى السد العالي وحرر اليمن الشمالي وحقق مكاسب للعمال والفلاحين، ولكنهم يتغافلون عن سلبيات حكمه الكبيرة، والتي تتمثل في إعلان الحرب على الاتجاه الإسلامي في الداخل وفي الخارج، وتعذيب حملة لوائه عذابا نكرا، وتقتيل فطاحل علمائه من أمثال عبد القادر عودة وسيد قطب وغيرهم بعد محاكمات صورية. كما دأب جمال عبد الناصر على الوقوف دائما في صف أعداء الإسلام ومناصرة سياستهم، فقد أيد "نهرو" في مواقفه الجائرة ضد باكستان، كما أيد "نيريري" الذي قام بمذبحة ضد مسلمي "زنجبار"، وأيد "مكاريوس" الذي كافح من أجل إضاعة حقوق المسلمين في قبرص، وعلى الرغم من أنه في أول حكم الثورة كان قد جعل الديمقراطية أحد مبادئها، إلا أنه لم يسمح ببزوغ فجر الديمقراطية بل ووأدها في مهدها، وقضى على الأحزاب المطالبة بها كافة، وأنشأ الحزب الشمولي وألغى الدستور وجمع السلطة كلها في يده، وظل طوال حكمه مثال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الحاكم المستبد الذي يضرب خصومه بيد من حديد، دون أدنى مراعاة للقيم الأخلاقية. كما أضعف في عهده كيان الأزهر وقام بإلغاء الأوقاف الإسلامية والمحاكم الشرعية، وأصبح للمخابرات والمباحث العامة والأمن القومي السيطرة على كل المؤسسات في الدولة، والمؤمل إذا تجملت الناصرية -بعد أن سمح لها من جديد بتشكيل حزب سياسي في مصر- المؤمل أن يفتح أنصارها عيونهم على هذه الحقائق المؤلمة، ويصححوا مسارها نحو فهم جديد مستند للإسلام كأهم عنصر إيجابي في تحقيق حكم نظيف، قوامه العدالة الاجتماعية وإنجاز الحرية والشورى كأساس متين لتجمع المسلمين ووحدتهم، ولعلهم بذلك يخفون وجه الناصرية القبيح، ويقضون على آثارها ولهم في ماضيهم عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. تعريف البعثيين والتأسيس وأبرز الشخصيات في حزب البعث، وتقييم الأفكار والمعتقدات الحديث عن البعثيين: حزب البعث حزب قومي علماني يدعو إلى الانقلاب الشامل في المفاهيم والقيم العربية، لصهرها وتحويلها إلى التوجه الاشتراكي، ولهم شعار معلن وهو: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة وهي رسالة الحزب، أما أهدافه فتتمثل في: الوحدة والحرية والاشتراكية. ونبدأ من سنة 1932 حين عاد من باريس قادمًا إلى دمشق كل من ميشيل عفلق -وهو نصراني ينتمي إلى الكنيسة الشرقية- وصلاح البيطار، وذلك بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 دراستهما العالية وهما يحملان أفكارًا قومية وثقافة أجنبية، عادا إلى دمشق وعمل كل من عفلق والبيطار في التدريس، ومن خلال تدريسهما أخذا ينشران أفكارهما بين الزملاء والطلاب والشباب، وقد أصدر التجمع الذي أنشأه ميشيل عفلق وصلاح البيطار مجلة سميت مجلة الطليعة مع الماركسيين، وكان هذا في سنة 1934، وكانوا يطلقون على أنفسهم اسم جماعة الإحياء العربي. في سنة 1947 تم تأسيس الحزب تحت اسم: حزب البعث العربي، وقد كان من المؤسسين لهذا الحزب ميشيل عفلق وصلاح البيطار، وجلال السيد وزكي الأرسوزي، كما قاموا بإصدار مجلة باسم البعث، وكان لحزب البعث بعد ذلك دور فاعل في الحكومات التي طرأت على سوريا بعد الاستقلال سنة 1946، وهذه الحكومات هي: الحكومة الأولى: حكومة شكري القوتلي من سنة 1946 حتى سنة 1949. الحكومة الثانية: حكومة حسني الزعيم، وتسلم السلطة عدة شهور في سنة 1949. الحكومة الثالثة: حكومة اللواء سامي الحناوي، وقد بدأ حكمه وانتهى في نفس عام 1949. والحكومة الرابعة: حكومة أديب الشيشكلي واستمر حكمه حتى سنة 1954. ثم الحكومة الخامسة: وهي حكومة شكري القوتلي وقد عاد إلى الحكم مرة ثانية، واستمر إلى توقيع اتفاقية الوحدة مع مصر سنة 1958. ثم الحكومة السادسة: وهي حكومة الوحدة مع مصر برئاسة جمال عبد الناصر، من سنة 1958 إلى سنة 1961 للميلاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ثم الحكومة السابعة: وهي حكومة الانفصال برئاسة الدكتور ناظم القدسي، وقد دام الانفصال من سنة 1961 حتى 1963، وقد قاد حركة الانفصال عبد الكريم النحلاوي. ومنذ 1963 وإلى اليوم فقد وقعت سوريا تحت حكم حزب البعث، وقد مرت هذه الفترة بعدة حكومات بعثية هي: حكومة قيادة الثورة سنة 1963، وفيها برز صلاح البيطار رئيسًا للوزراء، ثم حكومة أمين الحافظ من سنة 1963 وحتى 1966، ثم حكومة نور الدين الأتاسي من سنة 1966 إلى سنة 1970، إذ لعبت القيادة القطرية للحزب دورًا بارزًا في الحكم، وقد برز في هذه الفترة كل من صلاح جديد الذي عمل أمينًا عامًّا للقيادة القطرية، وحافظ الأسد الذي عمل وزيرًا للدفاع، ثم حكومة حافظ الأسد من سنة 1970 ثم حكومة ابنه وإلى يومنا هذا. ومن الشخصيات السورية البارزة التي ظهرت في تاريخ الحزب شخصيات كثيرة؛ نذكر منها: سامي الجندي الذي تقلد منصب وزير الإعلام بعد انقلاب 63، وحمود الشوفي وقد عمل سكرتيرًا عامًّا للقيادة القطرية الأولى، إلا أنه انشق وجماعته عن الحزب سنة 1964، وهو الآن في العراق، ومصطفى طلاس وهو ولد سنة 1932، ودرس في الكلية العسكرية وعمل رئيسًا لمحكمة الأمن القومي ورئيس أركان اللواء المدرع، ثم صار وزيرًا للدفاع. ومن الشخصيات أيضًا اللواء يوسف شكور واللواء ناجي جميل وغيرهما من الشخصيات. أما عن الجناح العراقي من حزب البعث؛ فقد استولى على السلطة في العراق، بعد أحداث دامية سارت على النحو التالي؛ ففي الرابع عشر من شهر يوليو عام 1958 دخل لواء بقيادة عبد السلام عارف إلى بغداد قادمًا من الأردن، واستولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 على محطة الإذاعة وأعلن الثورة على النظام الملكي، وقتل الملك فيصل الثاني وولي عهده عبد الإله ونوري السعيد وأعوانه، وأسقط النظام الملكي وبذلك انتهى عهد الملك فيصل، ودخل العراق دوامة الانقلابات العسكرية. وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر يوليو عام 1958 - أي بعد عشرة أيام من نشوب الثورة- وصل ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث وزعيمه إلى بغداد، وحاول إقناع أركان النظام الجديد بالانضمام إلى الجمهورية العربية المتحدة: سوريا ومصر، لكن الحزب الشيوعي العراقي أحبط مساعيه ونادى بعبد الكريم قاسم زعيمًا أوحد للعراق. وفي يوم الثامن من شهر فبراير سنة 1963 قام حزب البعث بانقلاب على نظام عبد الكريم قاسم، وقد شهد هذا الانقلاب قتالًا شرسًا دار في شوارع بغداد، وبعد نجاح هذا المتطرف من حزب البعث تشكلت أول حكومة بعثية، سرعان ما نشب خلاف بين الجناح المعتدل والجناح المتطرف من حزب البعث، فاغتنم عبد السلام عارف هذه الفرصة وأسقط أول حكومة بعثية في تاريخ العراق، وعين عبدُ السلام عارف: أحمد حسن البكر أحد الضباط البعثيين المعتدلين نائبًا لرئيس الجمهورية. في شهر فبراير سنة 1964 أوصى ميشيل عفلق بتعيين صدام حسين عضوًا في القيادة القطرية لفرع حزب البعث العراقي. وفي شهر سبتمبر سنة 1966 قام حزب البعث العراقي -بالتحالف مع ضباط غير بعثيين- قام بانقلاب ناجح أسقط نظام عبد الرحمن عارف. وفي اليوم الثلاثين من شهر يوليو طرد حزب البعث جميع من تعاونوا معه في انقلابه الناجح على عبد الرحمن عارف، وعين أحمد حسن البكر رئيسًا لمجلس قيادة الثورة ورئيسًا للجمهورية وقائدًا عامًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 للجيش، وأصبح صدام حسين نائبًا لرئيس مجلس قيادة الثورة ومسئولًا عن الأمن الداخلي. وفي الخامس عشر من أكتوبر سنة 1970 تم اغتيال الفريق حردان التكريتي في مدينة الكويت، وكان من أبرز أعضاء حزب البعث العراقي وعضوًا في مجلس قيادة الثورة، ونائبًا لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع. في السادس من شهر مارس عام 1975 وقعت الحكومة البعثية العراقية مع شاه إيران الاتفاقية المعروفة باتفاقية الجزائر، وقد وقعها عن العراق صدام حسين، وتقضي الاتفاقية المذكورة بأن يوافق العراق على المطالب الإقليمية للشاه، في مقابل وقف الشاه مساندته للأكراد في ثورتهم على النظام العراقي ... وفي شهر أكتوبر سنة 1978 طردت الحكومة البعثية الخميني من العراق، وقامت في شهر فبراير عام 1979 الثورة الخمينية في إيران. وإذا تحدثنا عن سلوكيات ومبادئ حزب البعث في العراق فإنه: أولًا: نادى مؤسسو الحزب بضرورة الأخذ بنظام الحزب الواحد لأنه كما يقول: إن القدر الذي حملنا هذه الرسالة خولنا أيضًا حق الأمر والكلام بقوة، والعمل بقسوة لفرض تعليمات الحزب، ومن ثم لا يوجد أي مواطن عراقي يتمتع بأبسط قدر من الحرية الشخصية أو السياسية، فكل شيء في دولة حزب البعث العراقي يخضع لرقابة بوليسية صارمة، تشكل دوائر المباحث والمخابرات والأمن ونواة الاتصالات الوحيدة بين المواطنين والنظام. ثانيًا: تتركز سياسة الحزب على قطع جميع الروابط بين العروبة والإسلام، كما ينادي بفصل الدين عن السياسة، والمساواة في نظرتها للأمور بين شريعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 حمورابي وشرائع الجاهلية، وبين دين محمد -عليه الصلاة والسلام- وغيرها، وجعلها جميعًا تتساوى في بعث الأمة العربية، وفي التعبير عن شعورها بالحياة. كما ادعت -ثالثًا- سياسة الحزب: أن تحقيق الاشتراكية شرط أساسي لبقاء الأمة العربية ولإمكان تقدمها، مع أن النتيجة الحتمية للسياسة الاشتراكية -التي طبقت في العراق- لم تجلب الرخاء للشعب ولم ترفع مستوى الفقراء، ولكنها ساوت الجميع في الفقر، وبعد أن كان العراق قمة في الثراء ووفرة الموارد والثروات، أصبح بطش حزب البعث عاجزًا عن توفير القوت السياسي لشعبه. رابعًا: قيام حزب البعث بتجريد الدستور العراقي من كل القوانين التي تمت إلى الإسلام بصلة، وأصبحت العلمانية هي دستور العراق، وأصبحت معتقدات البعثي ومبادئه هي مصادر التشريع لقوانينه، وقد ورد في التقرير المركزي للمؤتمر القطري التاسع والمنعقد في بغداد في شهر يونيو من عام 1982 ما يلي: وأما الظاهرة الدينية في العصر الراهن فإنها ظاهرة سلفية ومتخلفة في النظرة والممارسة، ومن الأخطاء التي ارتكبت في هذا الميدان أن بعض الحزبيين صاروا يمارسون الطقوس الدينية -هكذا يقولون- وشيئًا فشيئًا صارت المفاهيم الدينية تغلب على المفاهيم الحزبية، إن النضال ضد هذه الظاهرة -يقصدون الظاهرة الدينية- يجب أن يستهدفها الحزب حيث وجدت؛ لأنها كلها تعبر عن موقف معاد للشعب وللحزب وللثورة وللقضية القومية. ولذلك فقد اتجه صدام حسين وحزبه إلى إعلان الحرب على الإسلام، والعاملين له في جميع المجالات، فقد قام بقتل سبعة وأربعين عالمًا وداعية، نشرت أسماؤهم في تقارير منظمة العفو الدولية، وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز البدري وهو من علماء أهل السنة، ومحمد باقر الصدر من أئمة المذهب الشيعي، كما اغتال عددًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 كبيرًا من العلماء الذين أرسلهم للتفاوض مع مصطفى البرزاني -الزعيم الكردي- إذ أجبرهم على ارتداء ملابس مفخخة انفجرت فيهم، وقتلت عددًا كبيرًا منهم، وكذلك تتابعت القرارات الصدامية بإعدام المئات من الشخصيات الإسلامية. أيضًا أحال الكثيرين من أساتذة الجامعات -من أصحاب الأفكار المتحررة- إلى التقاعد، ثم قدمهم إلى المحاكمة وصدرت بحقهم أحكام مختلفة بعد طردهم من وظائفهم، قد أصدر أوامره بإغلاق مئات المساجد في العراق، وأصدر أوامره بمحاربة الكتاب الإسلامي وعدم السماح به في المكتبات العامة. فحزب البعث حزب قومي علماني انقلابي له أطروحات فكرية متعددة، وهو يتكلم عن أشياء كثيرة يتعذر الجمع بينها أحيانًا فضلًا عن الاقتناع بها، ولقد كانت له أقوال فترة ما قبل السلطة وممارسات وأقوال فترة ما بعدها، وهم يتحدثون عن الرابطة القومية ويعتبرون أنها هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدول العربية، التي تكفل الانسجام بين المواطنين وتكفل انصهارهم في بوتقة واحدة، وتكبح جماح سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية، حتى قال شاعرهم: آمنت بالبعث ربًّا لا شريك له ... وبالعروبة دينًا ما له ثانِ - وإذا حاولنا أن نناقش فكرة القومية العربية والزعم -كما يقول حزب البعث- بالأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، نسأل: ما هي هذه الرسالة الخالدة التي يحملها العرب ويقدمونها للناس؟: - فالذي يتبادر إلى أذهان الأصدقاء والخصوم جميعا أن هذه الرسالة ليست شيئا آخر غير الإسلام، لكن السيد ميشيل عفلق -مؤسس حزب البعث- يقول لنا كلامًا آخر يؤكد فيه أن للعرب رسالة أخرى، تقوم على فهمهم الصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 لأنفسهم وإدراكهم الجريء لقضاياهم وتحررهم فيقول: "طالما وجه إلى أعضاء الحركة وأصدقائها السؤال عما نعني بالرسالة الخالدة، وكنت دومًا أجيب جوابًا بسيطًا لهؤلاء الذين يظن أكثرهم أن رسالة العربية الخالدة هي حضارة وقيم معينة، يستطيع العرب في المستقبل -عندما يبلغون المستوى الراقي السليم المبدع- أن يحققوها وينشروها بين البشر". إن كلام ميشيل عفلق في شرح الرسالات العربية الخالدة لا يحمل في أطوائه ذرة من منطق، فهذا الكلام لو قاله زعيم سياسي في أنجولا أو في الكونغو يصور به رغبات قومه في الحرية، ورسائلهم في الكفاح ما جاوز به وقائع أمته المتطلعة إلى مستقبل أفضل، لكن تسمية هذا الكلام شرحًا لمعنى الرسالة الخالدة هو الشيء الذي يستحق الضحك! أي رسالة خالدة شرحها هذا الكلام؟! إن الشيء الوحيد الواضح في هذه السطور هو صرف الأذهان بجرأة وإصرار عن الحضارة والقيم، التي تميز العرب بحملها طوال تاريخهم العريق، أي صرف العرب عن الإسلام والله -عز وجل- يقول للعرب في كتابه الكريم بعدما شرفهم بالإسلام: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران: 110). وهذه الجمل الواضحة تكشف للعرب عن وظيفتهم في الحياة ورسالتهم بين الناس: حراسة الفضيلة ونشر شعارها ومحاصرة الرذيلة وطي عارها، والالتفاف حول الإيمان بالله وحده وقمع الإلحاد والعوج، وتسخير قوى الأمة كلها لبلوغ هذه الأهداف الإنسانية، هذه هي رسالة الأمة العربية، فنحن لا نفهم من الرسالة أنها الحضارة التي لا نستطيع الآن تحقيقها، ولكننا نفهم من الرسالة ما ذكر في كتاب الله الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} نعم تلك هي وظيفة أمة العرب في العالم مؤازرة الخير ومناصرة أهله. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 الدرس: 15 الناصريون والبعثيونالأحباش والبلاليون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الخامس عشر (الأحباش والبلاليون) التعريف بفرقة الأحباش، تأسيسها وأبرز الشخصيات فيها الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: الأحباش والبلاليون: والأحباش طائفة تنسب إلى شخص يسمى عبد الله الحبشي، وقد ظهرت حديثًا في دولة لبنان، مستغلة ما خلفته الحروب الأهلية اللبنانية من جهل وفقر. تأسيسها وأبرز الشخصيات فيها: فنبدأ بالحديث عن مؤسسها، وهو عبد الله الهراري الحبشي: وهو عبد الله بن محمد الشيبي العبدري نسبًا، الهراري موطنًا نسبة إلى مدينة هرر بالحبشة، وفيها ولد لقبيلة تدعى الشيباني نسبة إلى بني شيبة من القبائل العربية، ودرس في باديتها اللغة العربية، كما درس الفقه الشافعي على الشيخ سعيد بن عبد الرحمن النوري، والشيخ محمد يونس جامع الفنون، ثم ارتحل إلى منطقة جمة، وبها درس على الشيخ الشريف، ثم ارتحل إلى منطقة داوئ من مناطق أرمو ودرس (صحيح البخاري) وعلوم القرآن الكريم على الحاج أحمد الكبير، ثم ارتحل إلى قرية قريبة من داوئ فالتقى بالشيخ مفتي السراج تلميذ الشيخ يوسف النبهاني، صاحب كتاب (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق)، ودرس على يديه الحديث، ومن هنا توغل في الصوفية وبايع على الطريقة الرفاعية، ثم أتى إلى سوريا، ثم إلى لبنان من بلاد الحبشة في إفريقيا عام 1969 ميلادية. وذكر أتباعه أنه قدم عام 1950 بعد أن أثار الفتن ضد المسلمين؛ إذ تعاون مع حاكم إندراجي صهرو هيلاسلاسي ضد الجمعيات الإسلامية لتحفيظ القرآن بمدينة هرر، سنة ألف وثلاثمائة وسبعة وستين هجرية، الموافق سنة 1948 فيما عُرف بفتنة بلازكلب، فصدر الحكم على مدير المدرسة إبراهيم حسن بالسجن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 ثلاثًا وعشرين سنة مع النفي، وقضى نحبه في مقاطعة جوري بعد نفيه إليها، وبسبب تعاون عبد الله الهرري مع نظام هيلاسلاسي تم تسليم الدعاة والمشايخ إليه، وإذلالهم حتى فر الكثيرون منهم إلى مصر وإلى السعودية، ومنذ أن أتى إلى لبنان وهو يعمل على نشر عقيدته، والترويج لمذهبه، وسب الصحابة واتهامه لأم المؤمنين عائشة بعصيان أمر الله، بالإضافة إلى كثير من الفتاوى الشاذة. وقد نجح الحبشي مؤخرًا في تخريج مجموعات كبيرة من أتباعه الذين لا يرون مسلمًا إلا من أعلن الإذعان والخضوع لعقيدة شيخهم، وهم يطرقون بيوت الناس ويلحون عليهم بتعلم العقيدة الحبشية، ويوزعون عليهم كتب شيخهم بالمجان، ومن أتباعه نزار الحلبي وهو خليفة الحبشي، ورئيس جمعية المشاريع الإسلامية، ويطلقون عليه لقب سماحة الشيخ؛ إذ يعدونه لمنصب دار الفتوى، إذ كانوا يكتبون على جدران الطرق: لا للمفتي حسن خالد الكافر، نعم للمفتي نزار الحلبي، وقد قتل مؤخرًا. ولديهم العديد من الشخصيات العامة مثل النائب البرلماني عدنان الطرابلسي، ومرشحهم الآخر طه ناجي الذي حصل على ألف وسبعمائة صوت معظمهم من النصارى، إذ وعدهم بالقضاء على الأصولية الإسلامية، لكن لم يكتب له النجاح. ومن الشخصيات أيضًا حسان قرقريا نائب رئيس جمعية المشاريع الإسلامية، وكمال الحوتي وغيرهم، وهؤلاء هم الذين يشرفون على أكبر أجهزة الأبحاث والمخطوطات مثل: المؤسسة الثقافية للخدمات، ومركز الأبحاث والخدمات، وقد بدءوا أخيرًا في تحقيق كتب التراث تحقيقًا يحيلون على أسماء غريبة لا يعرفها حتى طلبة العلم، فمثلًا يقولون: قال الحافظ العبدري في دليله، فيدلسون على الناس فيظنون أن الحافظ من مشاهير علماء المسلمين مثل: الحافظ ابن حجر أو النووي؛ وإنما هو في الحقيقة شيخهم ينقلون من كتابه (الدليل القويم) مثلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الأفكار والمعتقدات التي تبنتها فرقة الأحباش فهم يزعمون أنهم على مذهب الإمام الشافعي في الفقه والاعتقاد، ولكنهم في الحقيقة أبعد ما يكونون عن مذهب الإمام الشافعي -يرحمه الله- فالحبشي يزعم أن جبريل هو الذي أنشأ ألفاظ القرآن الكريم وليس الله تعالى، فالقرآن عنده ليس بكلام الله تعالى وإنما هو عبارة عن كلام جبريل كما في كتابه (إظهار العقيدة السنية) في صفحة خمسمائة وإحدى وتسعين. وهم في مسائل الإيمان من المرجئة؛ فالأحباش من المرجئة الجهمية في مسائل الإيمان، فهم يؤخرون العمل عن الإيمان، ويبقى الرجل عندهم مؤمنًا وإن ترك الصلاة وسائر الأركان، وهذا كما ورد في كتاب (الدليل القويم) في الصفحة السابعة، وكما ورد في كتاب (بغية الطالب) في الصفحة الحادية والخمسين أن الرجل يبقى مؤمنًا وإن ترك الصلاة وسائر الأركان، وتبعًا لذلك يقللون من شأن التحاكم إلى القوانين الوضعية، وتبعًا لذلك يقللون من شأن التحاكم إلى القوانين الوضعية المناقضة لحكم الله تعالى، فيقول مؤسس فرقتهم الحبشي: ومن لم يحكم شرع الله في نفسه فلا يؤدي شيئًا من فرائض الله، ولا يجتنب من المحرمات، ولكنه قال ولو مرة في العمر لا إله إلا الله، فهذا مسلم مؤمن، ويقال له أيضًا: مؤمن مذنب وهذا كما ورد في كتابه (الدليل القويم) في الصفحة التاسعة والعاشرة، وكتاب (بغية الطالب) في الصفحة الحادية والخمسين. وهم في مسائل الجبر جبرية منحرفة، فالأحباش في مسائل القدر يزعمون أن الله هو الذي أعان الكافر على كفره، وأنه لولا الله ما استطاع الكافر أن يكفر، هكذا ورد في (النهج السليم) في الصفحة الحادية والسبعين، ويرجح الأحباش بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة بما يؤيد مذهبهم حينما يحكمون بضعف الكثير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الأحاديث الصحيحة التي لا تؤيد مذهبهم، ويكثر الحبشي من سب الصحابة وخاصة معاوية بن أبي سفيان الصحابي الجليل كاتب الوحي، وكذلك أم المؤمنين السيدة عائشة -رضي الله عنهم، وكذلك يطعن في خالد بن الوليد وغيره، ويقول الحبشي: إن الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- ماتوا ميتة جاهلية، وكذلك يكثر من التحذير من تكفير ساب الصحابة؛ لا سيما الشيخين، وذلك إرضاء للروافض، وهذا الكلام موجود في كتابه (إظهار العقيدة) في صفحة مائة واثنتان وثمانين، ويعتقد الحبشي أن الله تعالى خلق الكون لا لحكمة، وأرسل الرسل لا لحكمة، وأن من ربط فعلًا من أفعال الله بالحكمة فهو مشرك. وكفَّر الحبشي العديد من العلماء فحكم على شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه كافر، وجعل من أول الواجبات على المكلف أن يعتقد كفره، لذلك يحذر أشد التحذير من كتبه، وكذا الإمام الذهبي فهو عنده خبيث، كما يزعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجرم قاتل كافر، ويرى كذلك أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني كافر، وكذلك الشيخ سيد سابق فيزعم أنه مجوسي كافر، أما الأستاذ سيد قطب فهو عنده من كبار الخوارج الكفرة في ظنه، وهذا ما ورد في (مجلة منار الهدى الحبشية) في العدد 3 في الصفحة مائتان وأربعة وثلاثين، وكذلك ورد في (النهج السوي في الرد على سيد قطب وتابعه فيصل مولوي). أما ابن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود ونظرية الحلول والاتحاد، فيعده الحبشي شيخ الإسلام. وللحبشي العديد من الفتاوى الشاذة القائلة بجواز التحايل في الدين، وأن النظر والاختلاط والمصافحة للمرأة الأجنبية حلال لا شيء فيه، بل للمرأة أن تخرج متعطرة متبرجة ولو بغير رضا زوجها، يبيح بيع الصبي الحر وشرائه، كما يجيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 للناس ترك زكاة العملة الورقية بدعوى أنه لا علاقة لها بالزكاة؛ إذ هي واجبة في الذهب والفضة، كما يجيز أكل الربا، ويجيز الصلاة متلبسًا بالنجاسة، وهذا ورد في كتابه (بغية الطالب) في الصفحة التاسعة والتسعين، وقد أثار الأحباش في أمريكا وفي كندا فتنة تغيير اتجاه القبلة حتى صارت لهم مساجد خاصة، إذ حرفوا القبلة تسعين درجة، وصاروا يتوجهون إلى عكس قبلة المسلمين؛ إذ يعتلبنان يصلون في جماعات خاصة بهم بعد انتهاء جماعة المسجد، كما اشتهر عنهم ضرب أئمقدون أن الأرض نصف كروية على شكل نصف البرتقالة، وفي ة المساجد والتطاول عليهم، وإلقاء الدروس في مساجدهم؛ لنشر أفكارهم على الرغم منهم، ويعملون على إثارة الشغب في المساجد، كل هذا بمد وعون من أعداء المسلمين بما يقدمون لهم من دعم ومؤازرة. الجذور الفكرية والعقائدية لفرقة الأحباش، ومواقع نفوذهم مما سبق يتبين أن الجذور الفكرية والعقائدية للأحباش تتلخص في الآتي: فهم في مسائل الإيمان مرجئة جهمية، وهم يعتقدون بعقيدة الجفري الباطنية، ولهم مجموعة من الأفكار والمناهج المنحرفة التي تجتمع على هدف الكيد للإسلام والمسلمين. الانتشار ومواقع النفوذ: ينتشر الأحباش في لبنان، فقد انتشرت فيها مدارسهم الضخمة وصارت حافلاتهم تملأ المدن، وأبنية مدارسهم تفوق سعة المدارس الحكومية، علاوة على الرواتب المغرية لمن ينضم إليهم ويعمل معهم، وأصبح لهم في لبنان إذاعة تبث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 أفكارهم، وتدعو إلى مذهبهم. كذلك ينتشرون في أوربا وفي أمريكا، قد أثاروا القلاقل في كندا واستراليا والسويد والدنمارك، كما أثاروا الفتن في لبنان بسبب فتوى شيخهم بتحويل اتجاه القبلة إلى جهة الشمال. أفكار فرقة الأحباش والرد عليها: ونختار من أفكارهم مسألة تكفير المعين عندهم، ونرد عليها؛ فالأحباش يكفرون المعين بإطلاق لا يشترطون لهذا التكفير تحقق الشروط أو انتفاء الموانع، وهم يحتجون لذلك بتكفير الشافعي لحفص الفرد، وفي ذلك يقول الحبشي: ليعلم أنه لا يزول إثم الإيمان والإسلام عن المؤمن إلا بالردة التي هي أفحش أنواع الكفر، ويسمى عندئذ كافرًا، ولا يجوز مناداته بالمسلم ولا بالمؤمن، كما فعل الإمام الشافعي، فإنه قال لحفص الفرد بعد مناقشته في مسائل الكلام: لقد كفرت بالله العظيم. ففي (مناقب الشافعي) للبيهقي ما نصه عن محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: سمعت الربيع يقول: لما كلم الشافعي حفصًا الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق. قال الشافعي: كفرت بالله العظيم. وفي حديث البخاري ((من بدل دينه فاقتلوه)) دليل على جواز تكفير المعين لأن المرتد لما يقتل يكون ذلك تكفيرًا له بالتعيين، وقال في موضع آخر مما يرد تأويل كلام الشافعي بأن مراده بقوله لحفص: لقد كفرت بالله العظيم كفران النعم لا كفران الجحود بالملة قول الحافظ بن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان المرادي أنه قال: وكفر حفصًا الفرد أي: كفر الشافعي حفصًا، ومن المؤسف أيضًا أن نجد الأحباش قد أطلقوا ألسنتهم وأقلامهم بتكفير بعض الأعلام من أهل السنة والجماعة والدعاة المعاصرين، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام محمد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 عبد الوهاب، والعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز، والعلامة الشيخ محمد بن العثيمين، والأستاذ سيد قطب، والشيخ أبو بكر الجزائري، والشيخ سيد سابق، وكان الشيخ الجزائري له كتاب (منهاج المسلم) وكتاب (عقيدة المسلم)، وسمى الحبشي الأول ضد منهاج الأول، وسمى الثاني ضد عقيدة المسلم، كذلك كفروا مفتي جبل لبنان محمد علي الجوزو، وكفروا الدكتور فتحي يكن، وكفروا الدكتور فيصل مولوي، وكفروا الشيخ حسن قاطورجي، وخالد كنعان، وغيرهم من العلماء والدعاة. أما من جهة الناس فقد تسرعوا في إطلاق التكفير على أعيان المسلمين دونما تثبت، وسببوا في هذا فتنًا أشغلت الرأي العام وأهل الفتوى بلبنان. إذا أردنا مناقشة الأحباش في مسألة تكفير المعين نقول: إن إطلاق الحبشي تكفير المعين بدون قيد أو شرط، خطأ يخالف فيه معتقد أهل السنة والجماعة، فمذهب أهل السنة والجماعة وسطًا بين من غلا فادَّعى تكفير المعين بإطلاق كما فعل الحبشي، وبين من جفا عنه فامتنع عن تكفير المعين بإطلاق كذلك، وهذان الطرفان على جانب كبير من الغلو والتفريط؛ لهذا كان من منهج أهل السنة عند الحكم بالتكفير التفريق بين الإطلاق والتعيين، وبين وصف الفعل ووصف الفاعل، فهم يُطلقون التكفير على العموم مثل قولهم: من استحل ما هو معلوم من الدين بالضرورة كفر، ومن قال: إن القرآن مخلوق كفر، ولكن تحقق التكفير على المعين لا بد له من توفر شروط وانتفاء موانع. وفي بيان ذلك يقول ابن تيمية -رحمه الله: "فقد يكون الفعل أو المقالة كفرًا ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة، أو فعل ذلك الفعل، ويقال: من قال كذا فهو كافر، أو من فعل ذلك فهو كافر، لكن الشخص المعين الذي قال ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 القول، أو فعل ذلك الفعل لا يُحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها"، وهذا الأمر مطرد في نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة فلا يشهد على معين من أهل القبلة بأنه من أهل النار؛ لجواز ألا يلحقه لفوات شرط أو لثبوت مانع. ويقرر هذا المعنى أيضًا العلامة محمد صديق حسن خان -رحمه الله- فيقول: "تسجيل أهل السنة على بعض الفرق بأن عقيدتها كفر، والقول الفلاني كفر، ويصير المرء بالقول الفلاني كافرًا مثلًا، فهذه رواية منهم لما ورد عن الله، وعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم، وهم مع ذلك مقتصرون على ما ورد لا يزيدون فيه ولا ينقصون منه، ولا يفرطون، ولا يتطرفون، ولا ينصون على شخص واحد، ورجل خاص أنه كافر، أو أنه في النار؛ بل قولهم في هذه المواضع كقوله -صلى الله عليه وسلم- ((من ترك الصلاة متعمدًا فقد كفر))، وقوله -صلى الله عليه وسلم- ((لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) ونحو ذلك من العبارات ((ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا أو يقولون كذا وكذا))، فهذه قاعدة عظيمة بني عليها منهج أهل السنة في مسألة التكفير، وقد انتهجها علماؤهم وأئمتهم، فمذهبهم مبني على التفصيل والتفريق بين النوع والعين، أو بين الإطلاق والتعيين، لا كما يفعل الحبشي فيكفر المعين بإطلاق دون ضوابط أو شروط. أما استدلال الحبشي بتكفير الإمام الشافعي لحفص الفرد فلا يُؤخذ هذا على إطلاقه، بل لعل الشافعي أراد أن قوله كفر، أو أنه من باب التغليظ ونحو ذلك، وهذا ما فهمه الأئمة من كلام الشافعي ف، هو من باب التنفير من البدع الخطيرة، يقول ابن تيمية: "فإذا رأيت إمامًا قد غلظ على قائل مقالته أو كفره؛ فلا يعتبر هذا حكمًا عامًّا في كل من قالها، إلا إذا حصل الشرط الذي يستحق به التغليظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 والتكفير له". مقصود ابن تيمية أنه لا يلزم أنه إذا كفر شخصًا بفعل، أن يكفر كل من فعل فعله إلا إذا توفر الشرط، ومن تخريجات الأئمة لكلام الإمام الشافعي ما قاله الإمام البغوي -رحمه الله-: "وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع والصلاة خلفهم مع الكراهية على الإطلاق" فهذا القول منه يعني تكفير حفص الفرد، دليل على أنه إن أطلق على بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفرًا دون كفر. وقال البيهقي -رحمه الله: "وكل من لم يقل من أصحابنا بتكفير أهل الأهواء من أهل القبلة؛ فإنه يحمل قول السلف -رضي الله عنهم- في تكفيرهم على كفر دون كفر" كما روى ابن عباس -رضي الله عنه- في قوله -عز وجل-: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} يعني: كفرًا دون كفر. وقال ابن تيمية -رحمه الله: "بُيِّن لنا أن هذا القول كفر ولم يحكم بردة حفص لمجرد ذلك؛ لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها، ولو اعتقد أنه مرتد لسعى في قتله، قد صرح في كتبه بقبول شهادة أهل الأهواء والصلاة خلفهم". ونقل النووي قول الشافعي -رحمه الله تعالى: "أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم"، ثم علق عليه بقوله: "ولم يزل السلف والخلف يرون الصلاة وراء المعتزلة ونحوهم ومناكحتهم وموارثتهم، وإجراء سائر الأحكام عليهم"، قد تأول الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي وغيره من أصحابنا المحققين ما نُقل عن الشافعي وغيره من العلماء من تكفير القائل بخلق القرآن، على أن المراد كفران النعمة لا كفران الخروج عن الملة، وحملهم على هذا التأويل ما ذكرته من إجراء أحكام الإسلام عليهم، وقال الإمام الذهبي -رحمه الله: "هذا دال على مذهب أبي عبد الله -يعني: الشافعي- أن الخطأ في الأصول ليس كالخطأ في الاجتهاد في الفروع، فهؤلاء أئمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 كبار من الشافعية وغيرهم، وهم أعرف بمذهب الشافعي، ومراده من هذا الحبشي الذي اتخذ من القصة دليلًا على التكفير بالتعيين مطلقًا، وليس فيها دليلًا على ما يريده من تكفير لعلماء المسلمين وغيرهم بالتعيين. وعلى فرض أن الشافعي كفر حفصًا الفرد بعينه، فلقيام الدليل عنده على كفره؛ لاستيفاء الشروط وانتفاء الموانع، لا كما يفعل الحبشي الذي أطلق التكفير بالتعيين على علماء أهل السنة، بل وبغير حق أو دليل. أما حديث ((من بدَّل دينه فاقتلوه)) واستدلال الحبشي به على إطلاق تكفير المعين، فهذا حكم المرتد الذي توفرت فيه الشروط، وانتفت عنه الموانع، وحُكم بردته، فيستتاب فإن تاب وإلا قتل. البلاليون وعن البلاليين أو أمة الإسلام في الغرب -كما يسمون أنفسهم-: نبدأ الحديث فنقول: إن حركة أمة الإسلام حركة ظهرت بين السود في أمريكا، وقد تبنت الإسلام بمفاهيم خاصة غلبت عليها الروح العنصرية، وعُرفت فيما بعد باسم البلاليين بعد أن صححت كثيرًا من معتقداتها وأفكارها. التأسيس وأبرز الشخصيات: فمؤسس هذه الحركة هو والاس فارد، وهو شخص أسود غامض النسب ظهر فجأة في ديترويت عام 1930 داعيًا إلى مذهبه بين السود، قد اختفى بصورة غامضة في يونيو سنة 1934، ثم جاء من بعده إليجابول، أو إليجا محمد، قد ولد سنة 1898 وتوفي سنة 1975 للميلاد، والتحق بالحركة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 أسسها والاس، وترقى في مناصبها حتى صار رئيسًا لها، وخليفة لوالاس فارد من بعده. وقد زار السعودية عام 1959، وتجول في تركيا وأثيوبيا والسودان والباكستان يرافقه ابنه والاس محمد الذي كان يقوم بالترجمة. ومن أبرز شخصياتها أيضًا مالكوم إكس أو مالك شباز، وكان رئيسًا للمعبد رقم 7 بنيويورك، وهو خطيب ومفكر قام برحلة إلى الشرق العربي، وحج سنة 1963، ولما عاد تنكر لمبادئ الحركة العنصرية، وخرج عليها وشكل فرقة عُرفت باسم جماعة أهل السنة، وقد اغتيل في فبراير سنة 1965. ومن أبرز الشخصيات أيضًا لويس فرخان الذي دخل في الإسلام سنة 1950 ميلادية، وخلف مالكوم إكس على رئاسة معبد رقم 7، وهو أيضًا خطيب وكاتب ومحاضر، وعلى صلة قوية بالعقيد القذافي، وهو يدعو إلى قيام دولة مستقلة بالسود في أمريكا ما لم يحصلوا على حقوقهم الاجتماعية والسياسية كاملة. ومن أبرز الشخصيات أيضًا والاس محمد الذي تسمى باسم وارث الدين محمد، قد ولد في ديترويت في سنة 1933، وعمل رئيسًا للحركة في معبد فيلادلفيا من سنة 1958 حتى سنة 1960، وأدَّى فريضة الحج سنة 1967 كما تكررت زياراته للملكة العربية السعودية. قد انفصل عن الحركة وتخلى عن مبادئ والده سنة 1964، لكنه عاد إليها قبيل وفاة والده بخمسة أشهر آملًا في إدخال إصلاحات على الحركة من داخلها. وقد حضر المؤتمر الذي عقدته رابطة العالم الإسلامي في نيويورك بولاية نيوجرسي عام 1977، وقام بزيارة للمركز الإسلامي بواشنطن في ديسمبر سنة 1975، وحضر على رأس وفد المؤتمر الإسلامي المنعقد في كندا سنة 1977، وفي كل مرة من هذه المؤتمرات كان يُعلن عن صدق توجهه الإسلامي، وأنه سيسعى إلى تغيير المفاهيم الخاطئة في جماعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 قد زار المملكة العربية السعودية عام 1976، وكذلك تركيا وعدد من بلاد المشرق، وقد أعلن في عام 1975 عن الشخصيات التي سيعتمد عليها في رئاسته للجماعة، والذين من أبرزهم مساعداه الخاصان كريم عبد العزيز والدكتور نعيم أكبر، والمتحدث باسم المنظمة عبد الحليم فرخان، ومستشارون للنواحي الثقافية دكتور عبد العليم شباز، ودكتورة فاطمة علي وفهيمة سلطان، والأمين العام جون عبد الحق، ورئيس القيادة العسكرية إليجا محمد الثاني. ومن أبرز الشخصيات أيضًا ريموند شريف وأمينة رسول المسئولة عن جهاز تطوير المرأة، ودكتور مايكل رمضان الممثل لجميع لجان المساجد ورئيس لجان التوجيه، إبراهيم كمال الدين المشرف على هيئة فرقة الأرض الحديثة، وسلطان محمد أحد أحفاد إليجا محمد، ومحمد علي كلاي الملاكم العالمي المعروف، ويقال: بأن مالكوم إكس هو الذي اجتذبه إلى الحركة كما أنه كان أحد أعضاء المجلس الذي أنشأه والاس محمد بعد تسلمه رئاسة الحركة من أجل التخطيط للأمور المهمة بالجماعة. الأفكار والمعتقدات للبلاليون، وانتشارهم ومواقع نفوذهم الأفكار والمعتقدات التي يعتقدها البلاليون: إن أفكار هذه الحركة قد تطورت تدريجيًّا متأثرة بشخصية الزعيم الذي يدير أمورها، ولذا فإنه لابد من تقسيم تطور الحركات إلى ثلاث فترات: أولًا: في عهد مؤسسها الأول وهو والاس فورد، وقد عرفت المنظمة منذ تأسيسها باسم أمة الإسلام، كما عُرفت باسم آخر هو أمة الإسلام المفقودة المكتشفة، وبرزت أهم أهدافها فيما يلي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 أولًا: التأكيد على الدعوة إلى الحرية والمساواة والعدالة والعمل على الرقي بأحوال الجماعة. ثانيًا: التركيز على تفوق العنصر الأسود وأصالته، والتأكيد على انتمائهم إلى الأصل الأفريقي والتهجم على البيض، ووصفهم بالشياطين. ثالثًا: العمل على تحويل أتباعها من التوراة والإنجيل إلى القرآن، مع استمرار الأخذ من الكتاب المقدس في بعض الأفكار، وقد أنشأ زعيمها منظمتين واحدة للنساء، وأطلق عليها اسم تدريب البنات المسلمات، وأخرى للرجال وأسماها ثمرة الإسلام؛ بغية إيجاد جيش قوي يحمي الحركة، ويدعم مركزها الاجتماعي والسياسي. ثانيًا: أفكار البلاليين في عهد إليجا محمد: قد أعلن إليجا محمد أن الإله ليس شيئًا غيبيًّا، بل يجب أن يكون متجسدًا في شخص وهذا الشخص هو فرد الذي حل فيه الإله، وهو جدير بالدعاء والعبادة، وقد أدخل بذلك مفاهيم باطنية على فكر جماعته، واتخذ لنفسه مقام النبوة، وصار يتصف بلقب رسول، وحرم على أتباعه القمار، وشرب الخمور، والتدخين، والإفراط في الطعام، والزنا، ومنع اختلاط المرأة برجل أجنبي عنها، وحثهم على الزواج داخل أبناء وبنات الحركة، كما منع أتباعه من ارتياد أماكن اللهو والمقاهي العامة. وأصر على إعلاء العنصر الأسود واعتباره مصدرًا لكل معاني الخير، مع الاستمرار في ازدراء العرق الأبيض ووصفه بالضعة والدنيا. ولا شك أن الاكتتاب في الحركة مقصور على السود دون البيض بشكل قطعي لا مجال لمناقشته إطلاقًا. لا يؤمن إليجا محمد إلا بما يخضع للحس، وعليه فإنه لا يؤمن بالملائكة ولا يؤمن كذلك بالبعث الجسماني؛ لأن البعث لديه ليس أكثر من بعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 عقلي للسود الأمريكيين، وكذلك لا يؤمن إليجا محمد بختم الرسالة عند النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- بل، ويعلن أنه هو خاتم الرسل؛ إذ ما من رسول إلا ويأتي بلسان قومه، وهو -أي إليجا محمد- قد جاء نبيًّا يوحى إليه من قبل فارد بلسان قومه السود. يؤمن إليجا محمد وأتباعه بالكتب السماوية لكنه يؤمن بأن كتابًا خاصًّا سوف ينزل على قومه السود، والذي يكون بذلك الكتاب السماوي الأخير للبشرية، والصلاة على عهده كانت عبارة عن قراءة الفاتحة، أو آيات أخرى، ودعاء مأثور مع التوجه نحو مكة، واستحضار صورة فارد في الأذهان، وهي خمس مرات في اليوم. صيام شهر ديسمبر من كل عام عوضًا عن صوم رمضان، ويدفع كل عضو عشر دخله للحركة، قد ألف عددًا من الكتب التي تبين أفكاره منها: كتاب (رسالة إلى الرجل الأسود في أمريكا)، وكتاب (منقذنا قد وصل)، وكتاب (الحكمة العليا)، وكتاب (سقوط أمريكا)، وكتاب (كيف تأكل لتعيش)، وأنشأ صحيفة تنطق بلسانهم أسماها محمد يتكلم. ثالثًا: عقائد هذه الفرقة في عهد وارث الدين محمد، وقد اختار وارث الدين في سنة 1975 اسمًا جديدًا لمنظمته هو البلاليون، نسبة لبلال الحبشي مؤذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وألغى وارث الدين في السنة نفسها قانون منع البيض من الانضمام إلى الحركة. في سنة 1976 ظهر في قاعة الاحتفالات عدد من البيض المنضمين إليهم جنبًا إلى جنب مع السود، قد صار في عهده العلم الأمريكي يوضع إلى جانب علم المنظمة بعد أن كان ذلك العلم يمثل الرجل الأبيض ذا العيون الزرقاء، الشيطان القوقازي كما يقولون، وفي التاسع والعشرين من شهر أغسطس سنة 1975 صدر قرار بضرورة صوم رمضان، والاحتفال بعيد الفطر. وفي الرابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1975 تحول اسم الصحيفة من محمد يتكلم إلى اسم بلاليان نيوز، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ثم أصبح بعد ذلك اسمها الجريدة الإسلامية، وبعد ذلك أعلن وارث الدين محمد أن لقبه هو الإمام الأكبر بدلًا من رئيس الرؤساء، كما أنه غير كلمة رؤساء المعابد إلى كلمة إمام. وقد حصر اهتمامه في الأمور الدينية، بينما وزع الأمور الأخرى على القياديين في الحركة، وتم إعداد المعابد؛ لتكون صالحة لإقامة الصلاة، وأصدر في الثالث من أكتوبر سنة 1975 أمرًا بأن تكون الصلاة على الهيئة الصحيحة المعروفة لدى المسلمين خمس مرات في اليوم، كما أكد على الخلق الإسلامي والأدب والذوق، وحسن الهندام، ولبس الحشمة بالنسبة للمرأة، ويقوم الدعاة في الحركة بزيارة السجود؛ لنشر الدعوة بين المساجين، وقد لاحظت سلطات الأمن أن السجين الأسود الذي يُعرف عنه التمرد وعدم الطاعة داخل السجن يصبح أكثر استقامة وانضباطًا بمجرد دخوله للإسلام، ومن هنا فإن السلطات تسر بقيام الدعاة بدعوتهم هذه بين المساجين. ويصر أيضًا على تصحيح المفاهيم الإسلامية التي اعتنقتها الحركة منذ أيام فارد وإليجا محمد بطريقة خاطئة، فيحاول وارث الدين محمد أن يصوبها. والأمور التي ذكرناها تدل على أن هناك تحسنًا نوعيًّا قد طرأ على أفكار ومعتقدات الحركة قياسًا على ما كانت عليه في من سبقه، لكنها لا تزال بحاجة إلى إصلاحات عقائدية وتطبيقية حتى تكون على الجادة الإسلامية. الجذور الفكرية والعقائدية لفرقة البلاليين: قد قامت هذه الحركة على أنقاض حركتين قويتين ظهرت بين السود هما الحركة المورية التي دعا إليها الزنجي الأمريكي تيموث إينوبل، الذي أسس حركته سنة 1913، وهي دعوة فيها خليط من المبادئ الاجتماعية والعقائد الدينية المختلفة، وهم يعدون أنفسهم مسلمين لكن حركتهم أصيبت بالضعف إثر وفاة زعيمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 والحركة الثانية التي قامت على أنقاضها هي منظمة ماركوس جرفي، وقد أسس منظمة سياسية للسود، وتتصف هذه الحركة بأنها نصرانية لكن على أساس جعل المسيح أسود وأمه سوداء، وقد أُبعد زعيمها عن أمريكا سنة 1925 مما أدى كذلك إلى اندثار هذه الحركة، لهذا يمكن أن يقال: بأن هذه الحركة تنظر إلى الإسلام على أنه إرث روحي يمكن أن ينقذ السود من سيطرة البيض، ويدفع بهم إلى تشكيل أمة خاصة متميزة لها حقوقها ومكاسبها ومكانتها. الانتشار ومواقع النفوذ لهذه الفرقة: يبلغ عدد السود في أمريكا أكثر من 35 مليون نسمة، منهم حوالي مليون مسلم، وكانوا يسمون مساجدهم معابد، ولهم الآن ثمانون شعبة في مختلف المدن الأمريكية، كما أن مدارسهم قد بلغت أكثر من ستين معهدًا في شتى أنحاء أمريكا، وتخصص الحصة الأولى كل يوم لتعليم الدين الإسلامي، ويتركز المسلمون السود في ديترويت، وشيكاغو، وواشنطن، ومعظم المدن الأمريكية الكبيرة، ويحلمون بقيام دولة مستقلة، وهم يناصرون قضايا السود عامة. ويتضح مما سبق أن أمة الإسلام في الغرب هي حركة مذهبية فكرية ادَّعت انتسابها إلى الإسلام، ولكنها أفرغته أمدًا طويلًا من جوهره ومضمونه، ذلك أنها في عهدها الأول إن كانت قد دعت إلى تحويل أتباعها صوب القرآن، إلا أنها أبقت على فكرة الاستمرار في الأخذ من التوراة والإنجيل، وكذلك في عهدها الثاني اتبعت المفاهيم الباطنية، وفي عهدها الثالث اتخذت هذه المنظمة اسمًا جديدًا هو البلاليون نسبة إلى بلال الحبشي مؤذن الرسول، وقد أمر وارث الدين محمد بأن تكون الصلاة على الهيئة الصحيحة المعروفة مع تصحيح المفاهيم الإسلامية السابقة لديهم، وبدأ الاتجاه الحقيقي لهم صوب الإسلام بمفهومه الحق. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الدرس: 16 الاستشراق (1). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السادس عشر (الاستشراق (1)) تعريف الاستشراق والمستشرقين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: الاستشراق: تعريف الاستشراق: والاستشراق هو مصطلح أطلقه غير الشرقيين على الدراسات المتعلقة بالشرقيين، فهو يعني دراسة الشرق والشرقيين شعوب الشرق وتاريخه، وأديانه، ولغاته، وأوضاعه الاجتماعية، وبلدان الشرقيين، وسائر أراضيهم، وما فيها من كنوز وخيرات، وكذلك دراسة حضاراتهم وكل ما يتعلق بهم. وكان هدف الغربيين من هذا الإطلاق العام الذي يشمل كل الشرق والشرقيين مسلمين، أو غير مسلمين أن يكون غطاءً للهدف الأساسي؛ الذي هو دراسة كل ما يتعلق بالإسلام والمسلمين لخدمة أغراض التبشير من جهة، وخدمة أغراض الاستعمار الغربي لبلدان المسلمين من جهة أخرى، ثم لإعداد الدراسات اللازمة لمحاربة الإسلام وتحطيم الأمة الإسلامية وتجزئتها، وتفتيت وحدتها، ثم توسعت الدراسات الاستشراقية بعد توسع الاستعمار الغربي في الشرق؛ فتناولت دراسة جديد ديانات الشرق وعاداته، وحضاراته، وجغرافيته، وتقاليده، ولغاته، وكل ما يتعلق به. فالمستشرقون هم الذين يقومون بالدراسات الاستشراقية من غير الشرقيين، ويقدمون نصائحهم ودراساتهم ووصاياهم أولًا للمبشرين؛ بغية تحقيق أهداف التنصير والتبشير، وثانيًا يقدمون نصائحهم للدوائر الاستعمارية؛ بغية تحقيق أهداف، الاستعمار بل إن كثيرًا من المستشرقين قساوسة منتظمون في السلك الكنسي، فهم بمقتضى مهنتهم أصحاب مهمات تنصيرية، وكثير من المستشرقين موظفون ببلدانهم في الدوائر السياسية والإدارية المختصة بشئون الاستعمار بصفة باحثين، أو مستشارين، أو نحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 كما اندسَّ في الاستشراق يهود كثيرون ينافقون النصارى، ويخدمون سرًّا أهدافًا يهودية ضمن المخطط اليهودي العام، وظهر ضمن المستشرقين نفر عني بالدراسات الاستشراقية؛ رغبة في البحث العلمي المتجرد، دون أن يكون مدفوعًا بدافع تنصيري أو دافع استعماري، وكان من بعض هؤلاء إنصاف للحقيقة دون تحيز، وبعض هؤلاء المنصفين تأثر بالإسلام وبالحضارة الإسلامية، واستطاع أن يتحرر من تقاليده العمياء، وعصبيته الجاهلية فأسلم. ثم اتسعت الدراسات الاستشراقية لأهداف متعددة اقتصادية وسياسية، وعسكرية، وعلمية، وغير ذلك واحتلَّ كثير من المستشرقين مراكز علمية مرموقة في الجامعات الغربية، وأوكل إليهم في هذه الجامعات أمر منح الشرقيين في العلوم الإسلامية والعربية الشهادات العليا، كالماجستير، والدكتوراه؛ بغية صناعة حملة شهادات من بلدان العالم الإسلامي طبق ما يريده المنصرون والمستعمرون. واستغل اليهود هذا المجال من مجالات الاستشراق استغلالًا واسعًا حتى أمسى عدد وفير من كراسي الأستاذية للدراسات الاستشراقية في الجامعات الغربية يحتله اليهود؛ يعملون لتحقيق أهداف اليهود، وهم يلبسون بين النصارى أقنعة مزورة، كما أن لليهود مندسين كثيرين في كل مجال من مجالات الاستشراق الأخرى بأسماء يهودية، أو بأسماء مستعارة. موجز تاريخ الاستشراق فلا يعرف بالضبط من هو أول غربي عني بالدراسات الشرقية، ولا في أي وقت كان ذلك؛ ولذلك اختلف العلماء في تحديد البداية الحقيقية للاستشراق، ولكن من المؤكد أن بعض الرهبان الغربيين قصدوا الأندلس في إبان عظمتها ومجدها، وتثقفوا في مدارسها، وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغتهم، وتتلمذوا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 علماء المسلمين في مختلف العلوم، وبخاصة في الطب، والفلسفة، والرياضيات. ومن هؤلاء الرهبان الراهب الفرنسي جربرت الذي انتخب بابا لكنيسة روما عام 999، بعد تعلمه في معاهد الأندلس، وعودته إلى بلاده، ومنهم أيضًا الراهب بطرس المحترم، ومنهم أيضًا الراهب جيرادي كيرمون. وبعد أن عاد هؤلاء الرهبان نشروا الثقافة المكتوبة باللسان العربي، ونشروا مؤلفات أشهر علماء المسلمين والعرب، ثم أسست المعاهد أقسامًا للدراسات العربية، ومدارس لدراستها مثل: مدرسة بادوي العربية، كذلك أخذت الأديرة والمدارس الغربية تدرس مؤلفات العرب المترجمة إلى اللاتينية، وهي لغة العلم في جميع بلاد أوربا يومئذ، استمرت الجامعات الغربية تعتمد على الكتب العربية، وتعتبرها المراجع الأصلية للدراسة قرابة ستة قرون. ولم ينقطع منذ ذلك الوقت وجود أفراد درسوا الإسلام واللغة العربية، وترجموا القرآن وبعض الكتب العربية العلمية والأدبية؛ حتى جاء القرن الثامن عشر وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب في استعمار العالم الإسلامي، والاستيلاء على ممتلكاته، فإذا بعدد من علماء الغرب ينبغون في الاستشراق، ويصدرون لذلك المجلات في جميع الممالك الغربية، ويُغيرون على المخطوطات العربية في البلاد العربية والإسلامية، فيشترونها من أصحابها الجهلة، أو يسرقونها من المكتبات العامة التي كانت في نهاية الفوضى، وينقلون هذه المخطوطات إلى بلادهم ومكتباتهم، وإذ بأعداد هائلة من نوادر المخطوطات العربية تنتقل إلى مكتبات أوربا، وقد بلغت في أوائل القرن التاسع عشر مائتين خمسين ألف مجلدٍ، وما زال هذا العدد يتزايد حتى اليوم. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر عُقد أول مؤتمر للمستشرقين في باريس عام 1873، وتتالى عقد المؤتمرات التي تُلقى فيها الدراسات عن الشرق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وأدبياته، وأديانه، وحضاراته، وما تزال تعقد حتى هذه الأيام، قد بدأ الاستشراق إذن منذ دقت جيوش الفتح الإسلامي أبواب أوربا العريضة، وكان المسلمون قد احتلوا عرش السيادة الدولية، وملئوا سمع الزمان وبصره وسائر مشاعره. وأخذت أوربا الغارقة في الجهل والتخلف الحضاري يومئذ تبحث عن أسباب نهضة المسلمين، وعن أسباب بلوغهم هذا المجد العظيم الذي بلغوه؛ فأخذ بعض رجال الكنيسة الأوربيين يدرسون علوم هؤلاء الفاتحين ولغتهم، لعلهم يظفرون بما يوقفون به مد هذا الفتح الإسلامي، ولعلهم يكتسبون من علوم المسلمين ما ينفعهم في إنقاذهم من تخلفهم، ويفتح لهم أبواب الارتقاء. فكان الاستشراق طلبًا لعلوم الشرقيين ولغاتهم وأوضاعهم وبحثًا عنها، وفي أعقاب الحروب الصليبية وضعت الخطة لغزو المسلمين بوسائل أخرى غير وسيلة الحرب المسلحة بالأسلحة المادية، واقتضت خطة الغزو الجديد التوسع في الدراسات الاستشراقية؛ لتكون تمهيدًا لهذا الغزو، وإعدادًا لشروطه الفكرية والنفسية، ولما كان المحركون للحروب الصليبية من رجال الكهنوت الأوربيين والعلوم العليا تكاد تكون منحصرة في الكنيسة لديهم يومئذ؛ كان أول المتوجهين للدراسات الشرقية من هؤلاء الرجال هم الرهبان، ولا ريب أن أغراضهم في ذلك تواكب أغراض الحروب الصليبية التي هي أخذت أسلوبًا جديدًا في الغزو غير أسلوب الغزو المادي المسلح بالأدوات الحديدية، وكذلك تتفق أهدافهم مع أهداف التنصير، أو كما يسمونه التبشير بالمسيحية. وانطلق المتوجهون للدراسات الشرقية يعملون في هذا المضمار بجد، ويترجمون إلى لغاتهم كتبًا كثيرة من كتب المسلمين، ونبتت نابتة الفكر الاستعماري في دول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أوربا بعد نهضتها، واحتاج الطامعون باستعمار بلاد المسلمين إلى زاد من الدراسات الشرقية، فوجهت الدوائر الاستعمارية أعدادًا من المتعلمين في بلادها للتفرغ للدراسات الشرقية من جوانب متعددة لغوية، ودينية، واجتماعية، وتاريخية، وسياسية، وغير ذلك. وكان كثير منهم من منسوبي الكنيسة الذين يحملون في نفوسهم أهداف التنصير، فالتقت في الاستشراق أهداف جمعيات التنصير، وأهداف الدوائر الاستعمارية. ومن طبيعة الأهداف التي تسبق الأعمال في التصور أن تكون موجهة للأعمال، ومؤثرة فيها، إلا من نما في قلبه وجدان حب الحق، وسيطرت عليه الرغبة بنصرته ولو كان ضد هواه وضد عصبياته الخاصة وقليل ما هم. ثم أسست للاستشراق معاهد، وتألفت جمعيات من المستشرقين للتعاون في الأعمال المتعلقة بالدراسات والعلوم الشرقية، كنشر بعض المخطوطات العربية، ووضع الفهارس الشاملة لبعض الكتب الإسلامية الأصول، ووضع بعض المعاجم المفهرسة، وتفصيل آيات القرآن الكريم بحسب موضوعاتها ونحو ذلك؛ بل ودخلت هذه الدراسات الشرقية في الجامعات الكبرى، فكان لها فروع حتى مستوى تحصيل شهادة الدكتوراه. وأخذ فريق من المستشرقين يؤلف المؤلفات المتعلقة بالعلوم الإسلامية لخدمة أهداف الاستشراق الأساسية الرامية إلى تشويه الإسلام، وتشويه التاريخ الإسلامي، ووضع الشبهات، وتصيد الأدلة لها، وتوجيه الانتقادات الملفقة إلى أحكام الإسلام وشرائعه، وتتبع الأخبار الساقطة، والأقوال الضعيفة المردودة، وتفسير الظواهر تفسيرًا ماديًّا بحسب ما يروق لهم، وشرح النصوص القرآنية على أساس أن القرآن ليس من كلام الله، وليس كتابًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 منزلًا، وشرح الأحاديث النبوية على أساس أن محمدًا عبقري من الناس، وليس برسول كسائر الرسل، وتعليل الفتح الإسلامية بالرغبات الشخصية المماثلة للرغبات التي توجد عند الاستعماريين، وإبعاد كل دافع إسلامي عن كل حدث تاريخي للمسلمين، ومحاولات التحريف في النصوص عند الاستشهاد بها، واللجوء إلى المغالطات الكثيرة لدى مناقشة الموضوعات الإسلامية، وتعمد إبراز سقطات الفساق من المسلمين في مدى تاريخهم الطويل، والتشكيك بصحة الأحاديث الصحيحة المروية بتوجيه المطاعن إلى رواة الحديث، ولو كانوا من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم، وكذلك التشكيك بالقرآن الكريم بتوجيه المطاعن المفتراة إلى نقله، وتدوينه، والقراءات الثابتة فيه، وإلى مضامينه، وتوجيه المطاعن إلى ظاهرة الوحي التي تلقى بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- كتاب ربه، إلى غير ذلك من أمور لا تحصى وأساسها جميعًا الرغبة بإبطال الحق؛ تعصبًا واتباعًا للهوى. ورأى اليهود الاستشراق بابًا خطيرًا من أبواب التسلل إلى البلاد التي يحلمون بالسيطرة عليها وفق طريقتهم، ويريدون أن يتخذوا لأنفسهم صنائع فيها من أبنائها فتخصص فريق منهم بالدراسات الشرقية وتابعوا المسيرة ضمن الخطط اليهودية، حتى احتل اليهود عددًا وفيرًا من كراسي الدراسات الشرقية في الجامعات الكبرى، وأخذوا يخدمون الأغراض اليهودية الصهيونية في هذا المجال تحت ستار خدمة أغراض المستشرقين المسيحيين، وأغراض الدوائر الاستعمارية، ودخل الأوربيون الشرقيون بعد نجاح الثورة الشيوعية في بلادهم ميادين الاستشراق تبعًا للغرب؛ وبغية استخدام دراساتهم في هذا المجال لتقويض الإسلام، واستدراج الشعوب الإسلامية إلى الشيوعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 مدارس الاستشراق فقد دخل ميادين الاستشراق عناصر مختلفة الغايات والأهداف، على الرغم من أن ساحة عمل الجميع واحدة لكن باستطاعتنا أن نلاحظ أنه قد أصبح للاستشراق عدة مدارس، كل مدرسة لها أهداف تنسجم مع المذهب الفكري، أو المذهب الديني الذي يتبعه المنتسبون إليها، وباستطاعتنا أن نقسم هذه المدارس إلى ما يلي: أولًا: المدرسة النصرانية: وهي تنقسم إلى فرعين الكاثوليكية والبروتستانتية، وهذان الفرعان يلتقيان في الأعمال والأهداف، وإن اختلفا في بعض الآراء المذهبية. ثانيًا: المدرسة اليهودية: وهذه المدرسة ذات أهداف خاصة تخدم مخططات اليهودية العالمية، مهما لبست في البيئات التي تكون فيها من ألبسة نفاق تُمالئ فيها هذه البيئات، ومهما سترت وجهها الحقيقي بأقنعة مزورة. ثالثًا: المدرسة الإلحادية العامة: والمنتمون إلى هذه المدرسة هم المستشرقون الملحدون من الغرب، وتتلخص أهدافهم بنشر الفكر الإلحادي وإقامة مفاهيم الحياة على المادية التي تنكر وجود الله -عز وجل، وهم موزعون في مختلف المذاهب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. رابعًا: المدرسة الإلحادية الشيوعية: والمنتمون إلى هذه المدرسة هم المستشرقون الشيوعيون الذين يسعون إلى نشر أهدافهم بنشر الإلحاد والشيوعية معًا، واستدراج شعوب الأمة الإسلامية إليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 دوافع المستشرقين وأهدافهم باستطاعتنا أن نتلمس دوافع المستشرقين وأهدافهم من أعمالهم، ومما حققوه من أهداف، ومن النظرات التاريخية إلى واقع حال الدول الغربية، قبل أن تنبت فيها نابتة الاستشراق، وإلى واقع حالها بعد ذلك، كذلك من النظر إلى صلة الاستشراق بالتبشير بالنصرانية، وكذلك إلى صلته بالاستعمار. دوافعهم وأهدافهم: الدوافع تلتقي مع الأهداف باعتبار أن الدافع يمثل المحرض النفسي لاتخاذ الوسائل التي توصل للأهداف الغائية من العمل. الدافع الأول: وهو الدافع الديني أو المذهبي ضد الإسلام والمسلمين: فقد عرفنا أن الاستشراق بدأ بالرهبان والقساوسة النصارى، ثم استمر بعد ذلك، ومعظم المستشرقين من رجال الكهنوت المسيحي، وكان هؤلاء مدفوعين بدافع الانتصار للنصرانية، والرغبة بتنصير المسلمين الذين اكتسحوا إمبراطوريتهم استطاع دينهم الحق أن يغلب النصرانية المحرفة في نفوس أتباعها، واتجه هؤلاء للطعن في الإسلام، وتشويه محاسنه، وتحريف حقائقه؛ بغية إقناع جماهيرهم التي تخضع لزعاماتهم الدينية بأن الإسلام دين لا يستحق الانتشار، وبأن المسلمين قوم همج، لصوص، سفاكو دماء، يحثهم دينهم على الملذات الجسدية ويبعدهم عن كل سمو روحي وخلقي. ثم اشتدت حاجتهم إلى هذا الهجوم في العصر الحاضر بعد أن رأوا الحضارة الحديثة قد زعزعت أسس العقيدة بالنصرانية عند الغربيين، وأخذ تشككهم بكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 التعاليم التي كانوا يتلقونها عن رجال الدين عندهم يزداد، فلم يجدوا وسيلة أجدى من تشديد الهجوم على الإسلام بصرف أنظار الغربيين عن نقد ما عندهم من عقيدة وكتب مقدسة؛ وهم يعلمون ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى، ثم الحروب الصليبية، ثم الفتوحات الإسلامية العثمانية في أوربا بعد ذلك. يعلمون ما تركته هذه في نفوس الغربيين من خوف شديد من قوة الإسلام، ومن كره لأهله، واستغلوا هذا الجو النفسي، وازدادوا نشاطًا في الدراسات الإسلامية، وحين قامت جمعيات التنصير ووضعت من أهدافها تحويل المسلمين عن دينهم إلى النصرانية أو اللادينية والإلحاد الكامل؛ كانت دوافع الاستشراق لدى المنصرين وأنصارهم ومؤيديهم هي دوافع التنصير نفسها، وهي تتلخص بالرغبة الملحة في سلخ المسلمين عن دينهم، ومحاولة إدخالهم في النصرانية، أو إبقائهم ملاحدة لا دين لهم، حتى يكونوا أطوع للدول النصرانية الطامعة باستعمار بلاد المسلمين واستغلال خيراتها. ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به، فهدف هذا الدافع هو إخراج المسلمين عن دينهم، فإن أمكن تنصيرهم فذاك، وإلا فإبقاؤهم لا دين لهم مطلقًا، هدف مرجوٌّ يحقق للنصارى منافع ومصالح سياسية واقتصادية واستعمارية وغير ذلك، ولإخراج المسلمين عن دينهم وسائل كثيرة منها: أولًا: تنفير المسلمين من دينهم وحملهم على كراهيته. ثانيًا: تشويه الإسلام والتشكيك في أسسه، وتوجيه المطاعن له. ثالثًا: تشويه التاريخ الإسلامي وتشويه حضارة المسلمين وكل ما يتصل بالإسلام من علم وأدب وتراث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 رابعًا: نبش الحضارة القديمة وإحياء معارفها، وبعث الطوائف الضالة والحركات الهدامة القديمة. خامسًا: تزيين ما في المسيحية من تعاليم وأحكام. سادسًا: استدراج المسلمين للأخذ بالحضارة المادية الحديثة وبما فيها من مغريات للنفوس، ومرضيات للأهواء، وآسرات للشهوات، وباهرات للنظر. سابعًا: الادعاء بأن الفقه الإسلامي مقتبس من القانون الروماني. ثامنًا: الدعوة إلى نبذ اللغة العربية وتبديل طريقة كتابتها إلى غير ذلك من أهداف. الدافع الثاني من دوافع الاستشراق: وهو الدافع الاستعماري: فالصليبيون لم ييأسوا بعد هزيمتهم في الحروب الصليبية من العودة إلى احتلال بلاد العرب وسائر بلاد المسلمين، فاتجهوا لدراسة هذه البلاد في كل شئونها من عقيدة وعادات وأخلاق، وثروات وتاريخ، وغير ذلك مما يتعلق بها من جغرافية وسكان؛ بغية أن يتعرفوا إلى مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى مواطن الضعف فيغتنموها. ثم لما تم لهم الاستيلاء العسكري السيطرة السياسية كان من دوافع الدراسات الاستشراقية الرغبة بإضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين، وبث الوهن والارتباك في تفكيرهم، وكان لهم في ذلك وساوس كثيرة، تسللوا بها إلى نفوس أبناء المسلمين، ومن هذه الوساوس ما يلي: 1 - التشكيك بفائدة ما في أيدي المسلمين من تراث، وما عندهم من عقيدة وشريعة وقيم إنسانية، والغرض من ذلك أن يفقد المسلمون ثقتهم بأنفسهم، وأن يرتموا في أحضان الغرب يستجدون منه المقاييس الأخلاقية، والمبادئ والعقائد، والحلول لمشاكلهم الحياتية، والعادات والتقاليد، وأنواع السلوك؛ ليتم للغرب بذلك إخضاع المسلمين لحضارته وثقافته إخضاعًا كاملًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 2 - إحلال مفاهيم جديدة أو إحياء مفاهيم جاهلية ماتت منذ تمكن الإسلام من قلوب المسلمين كالقوميات الفرعونية، والفينيقية، والآشورية، والعربية، والكردية، والتركية، والفارسية، ونحو ذلك يتسنى لهم تشتيت شمل الأمة الإسلامية الواحدة التي تجمعها رابطة واحدة، هي وحدة الدين الذي يُهيمن على جميع مشاعر الإنسان الداخلية، وسلوكه الظاهر. وللاستشراق الذي يقوم به الشيوعون دافع مشابه، وهو دافع يطمع بالتسلط الكامل على بلاد المسلمين، ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به، فهدف هذا الدافع هو السيطرة على بلدان العالم الإسلامي، وعلى الشعوب الإسلامية؛ طبعًا باستغلال الأرض واستعباد الناس والسيطرة على كل شيء، لتحقيق أهواء النفوس وشهواتها، وأن يكون لهم العلو في الأرض. أنتقل الآن للحديث عن الدافع الثالث من دوافع الاستشراق وهو الدافع الاقتصادي: فمن الدوافع التي حرضت كثيرًا من الغربيين على الدراسات الشرقية الاستشراقية رغبتهم بغزو البلاد الإسلامية غزوًا اقتصاديًّا، يهدفون فيه إلى الاستيلاء على الأسواق التجارية والمؤسسات المالية المختلفة، وكذلك الاستيلاء على الثروات الأرضية، واستغلال الموارد الطبيعية والحصول عليها بأبخس الأثمان، وإماتة الصناعات المحلية القديمة؛ لتكون بلاد المسلمين بلاد استهلاك لما تصدره المصانع الآلية الغربية، وضمن هذا الدافع وجهت المؤسسات الاقتصادية الغربية. وضمن هذا الدافع وجهت المؤسسات الاقتصادية الغربية من يهتمون بالدراسات الاستشراقية، ليكونوا وسطاءهم ورسلهم، ومستشاريهم، والمترجمين لهم في مهماتهم، ومطالبهم الاقتصادية، أو أبدت استعدادها لاستخدام من يعمل لهم في هذا المجال، فاتجه فريق من الغربيين لهذه الدراسات؛ طمعًا بأن يجدوا أعمالًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 لهم لدى المؤسسات الاقتصادية، وظهر أيضًا فريق من الباحثين العلميين اهتم بالدراسات الاستشراقية؛ ليقوم بنشر كتب التراث الإسلامي، والاستفادة من نشرها في تحصيل الثروات التي يحصل عليها الناشرون عادة، وهكذا صارت الدراسات الاستشراقية وسيلة من وسائل كسب المال لكثير من المستشرقين. ومن خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به، فهدف هذا الدافع تحصيل الأموال والمطامع الاقتصادية. الدافع الرابع من دوافع الاستشراق: وهو الدافع السياسي: فبعد تحرر البلاد الإسلامية من الاستعمار رأت الدوائر الاستعمارية أن حاجتها السياسية تقتضي أن يكون لها في قنصلياتها، وسفاراتها، ومندوبها في الأمم المتحدة، وسائر المؤسسات الدولية من لديهم زاد جيد من الدراسات الاستشراقية؛ ليقوم لهم هؤلاء بمهمات سياسية متعددة مرتبطة بالشعوب الإسلامية، وبلدان العالم الإسلامي. ومن هذه المهمات الاتصال بالسياسيين والتفاوض معهم لمعرفة آرائهم واتجاهاتهم، والاتصال برجال الفكر والصحافة للتعرف على أفكارهم وواقع بلادهم، وكذلك بثُّ الاتجاهات السياسية التي تريدها دولهم فيمن يريدون بثها فيهم، وإقناعهم بها، وكذلك الاتصال بعملائهم وأجرائهم الذين يخدمون أغراضهم السياسية داخل شعوب الأمة الإسلامية، وكم بث حاملو هذا الدافع في شعوب المسلمين من أفكار، وكم دسوا من دسائس، وكم استخدموا من أجراء لإثارة الفتن، وإقامة ثورات وانقلابات عسكرية، إلى غير ذلك من أعمال. من خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع أن نعرف الهدف الغائي المرتبط به، وهدف هذا الدافع هو تحقيق غايات سياسية تريد تحقيقها الدول الموجهة لهذا النوع من الدراسات؛ لتسيير دول العالم الإسلامي في أفلاكها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الدافع الخامس من دوافع الاستشراق: وهو الدافع العلمي النزيه: وهذا يُعد في المستشرقين قليل جدًّا، فمن المستشرقين نفر قليل جدًّا أقبلوا على الدراسات الاستشراقية بدافع من حب الاطلاع على حضارات الأمم، وأديانها، وثقافاتها، ولغاتها، وكان هؤلاء النفر من المستشرقين أقل من غيرهم خطأ في فهم الإسلام وتراثه؛ لأنهم لم يكونوا يتعمدون أن يدسوا أو يحرفوا، لذلك جاءت بحوث هؤلاء أقرب إلى الحق، وهي المنهج العلمي السليم من أبحاث الجمهرة الغالبة من المستشرقين؛ بل منهم من اهتدى بدراسته إلى الإسلام، وآمن به، وانتمى إلى الأمة الإسلامية على أن هؤلاء قلما يوجدون إلا حين يكون لهم من الموارد المالية الخاصة ما يمكنهم من الانصراف إلى الدراسات الاستشراقية بأمانة وإخلاص؛ لأن أبحاثهم مجردة عن الهوى الجانح، لا تلقى رواجًا، لا عند رجال الدين، ولا عند رجال السياسة، ولا عند عامة الباحثين الغربيين؛ بل كثيرًا ما يتعرض هؤلاء للمضايقات ومقاومات شديدة من قبل رجال الدين، ورجال السياسة في بلدانهم. ولما كان الاستشراق النزيه الراغب بالبحث العلمي الحيادي المتجرد عن الهوى الجانح لا يُدر على مرتاديه مكاسب ومغانم؛ كان من الطبيعي أن يندر هؤلاء المرتادين في أوساط المستشرقين. من خلال معرفتنا لهذا الدافع نستطيع معرفة الهدف الغائي المرتبط به، وهدف هذا الدافع هو إشباع النهم العلمي المتجرد، وتحصيل معرفة صحيحة تتصل بأمة ذات علم وحضارة أصيلة، وهؤلاء مع إخلاصهم في البحث والدراسة لا يسلمون من الأخطاء والاستنتاجات البعيدة عن الحق، إما لجهلهم بأساليب اللغة العربية، وإما لجهلهم بالأجواء الإسلامية التاريخية على حقيقتها، فيتصورونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 كما يتصورون مجتمعاتهم ناسين الفروق الطبيعية، والنفسية، والزمنية التي تفرق بين الأجواء التاريخية التي يدرسونها، وبين الأجواء الحاضرة التي يعيشونها. ومن هؤلاء من يعيش بقلبه وفكره في جو البيئة التي يدرسها، ويأتي بنتائج تنطبق مع الحق والصدق والواقع، ولكن هؤلاء يلقون عنتًا من سائر المستشرقين؛ إذ سرعان ما يتهمونهم بالانحراف عن المنهج العلمي، أو الانسياق وراء العاطفة، أو الرغبة في مجاملة المسلمين، والتقرب إليهم، كما فعلوا مع توماس أرنولد حين أنصف المسلمين في كتابه العظيم (الدعوة إلى الإسلام)، وقد برهن فيه على تسامح المسلمين في جميع العصور مع مخالفيهم في الدين على عكس مخالفيهم معهم، وهذا الكتاب الذي يُعتبر من أدق وأوثق المراجع في تاريخ التسامح الديني في الإسلام يطعن فيه المستشرقون المتعصبون؛ بأن مؤلفه كان مندفعًا بعاطفة قوية من الحب والعطف على المسلمين، مع أنه لم يذكر فيه حادثة إلا أرجعها إلى مصدرها. ومن هؤلاء من يؤدي به البحث الخالص لوجه الحق إلى اعتناق الإسلام، والدفاع عنه في أوساط أقوامهم الغربيين، كما فعل المستشرق الفرنسي الفنان دينيه، الذي عاش في الجزائر فأعجب بالإسلام، وأعلن إسلامه، وتسمى باسم ناصر الدين دينيه، وألف مع عالم جزائري كتابًا عن سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم، وله كتاب أشعة خاصة بنور الإسلام بيَّن فيه تحامل قومه على الإسلام ورسوله، وتوفي هذا المستشرق المسلم في فرنسا ونُقل جثمانه إلى الجزائر ودفن فيها. ومنهم أيضًا المستشرق عبد الكريم جرمانوس، وهو عالم مجري اعتنق الإسلام في الهند، وتوفي سنة 1979، وكان يتمنى أن يعيش مائة عام؛ لأنه كما يقول أن اللغة العربية تحتاج إلى مائة سنة لفهمها، وكان عضوًا في المجمع اللغوي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 القاهرة، وأحب الإسلام واللغة العربية وخدمهما، وألف أكثر من مائة وخمسين كتابًا عن الإسلام منها كتاب (الله أكبر)، وكتاب (الحركات الحديثة في الإسلام)، وكتاب (شوامخ الأدب العربي)، وكتاب (معاني القرآن)، ومنهم الطبيب الفرنسي موريس بوكاي صاحب كتاب (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) الذي أثبت فيه موافقة ما جاء في القرآن لأحدث الحقائق العلمية التي توصل إليها الناس بوسائلهم، بخلاف ما في الكتب التي يزعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى أنها مقدسة. مجالات أنشطة المستشرقين، وأخطر وسائلهم الفكرية، والعلاقة بين الاستشراق والتنصير قد تخصص المستشرقون في مجالات الأنشطة المعرفية والتوجيهية العليا، منها التعليم الجامعي، والمؤسسات العالمية لتوجيه التعليم والتثقيف، والوظائف الاستشارية العليا للدول الغربية، تأليف وإصدار الكتب والموسوعات العلمية، إصدار المجلات الثقافية، وعقد المؤتمرات، وإلقاء المحاضرات العلمية، وعقد الندوات وغيرها، وقد تفرغ منهم مجموعات متعددة؛ لأداء المهمات الاستشراقية في كل مجال من المجالات ومن هذه المجالات: أولًا: كراسي الدراسات الإسلامية والعربية والشرقية بوجه عام في الجامعات الغربية، وتُتخذ هذه الكراسي بؤرة لاصطياد أبناء الشعوب الإسلامية، والتأثير عليهم فكريًّا وسلوكيًّا ونفسيًّا، ومن المجالات أيضًا تأسيس الجامعات العلمية في بلدان العالم الإسلامي خاصة، وبلدان الشرق عامة؛ لتخريج أجيال منسلخة من إسلامها، ومستعدة لتقبل المذاهب الفكرية المعاصرة الوافدة، ولكل ما يلقى إليها من أفكار ومبادئ، مثل كلية بغداد، والجامعة الأمريكية في بيروت، والجامعة الأمريكية في مصر، والجامعة الأمريكية في تركيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 ومن المجالات أيضًا إنشاء الموسوعات العلمية الإسلامية والشرقية بوجه عام، التي تتناول الشرقيات من جميع جوانب المعرفة، واتخاذ هذه الموسوعات وسيلة لدس الأفكار الاستشراقية السامة، التي يريدون دسها، وإقناع أجيال الشعوب الإسلامية بها مثل: الموسوعة الإسلامية التي أصدرها المستشرقون بعدة لغات، فقد حشد لها كبار المستشرقون، وأشدهم عداء للإسلام، ودس فيها السم بالدسم، ونثرت فيها أباطيل كثيرة عن الإسلام والمسلمين، ومن المؤسف أنها مرجع لكثير من المثقفين من المسلمين؛ إذ يعتبرونها حجة فيما تورده من معارف حول قضايا إسلامية هي فيها غير نزيهة، لأن كتابها منحازون ضد معظم قضايا الإسلام والمسلمين. ومن المجالات أيضًا عقد المؤتمرات الاستشراقية، وإصدار المجلات الخاصة ببحوثهم حول الإسلام والمسلمين وشعوب الشرقية. أخطر وسائل المستشرقين الفكرية: وأخطر وسائل المستشرقين هو التشكيك وإلقاء الشبهات والمغالطات، وتزيين الأفكار البديلة، وافتراء الأكاذيب، ودس السموم الفكرية بخفاء وتدرج، وترجع الوسائل الفكرية الرئيسية التي استخدمها المستشرقون؛ لهدم الإسلام، وتجزئة المسلمين، وتشويه تاريخ الأمة الإسلامية، وتشويه حاضرها، وخداع أجيال هذه الأمة؛ لنبذ الإسلام، واتباع مناهج وأساليب الحضارة المادية المعاصرة، وترجع هذه الوسائل إلى الأصول التالية: أولًا: التشكيك في مصادر الدين الإسلامي وصحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثانيًا: إلقاء الشبهات حول أحكام الإسلام التشريعية ومصادرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ثالثًا: المغالطات. رابعًا: تزيين الأفكار البديلة. خامسًا: افتراء الأكاذيب واختراع التعليلات والتفسيرات الباطلة. سادسًا: التلطف في دس السموم الفكرية بصورة خفية ومتدرجة حتى يبتلعها المغزوون، وهم لا يشعرون قد يأخذونها وهم فرحون بحلاوة ما يرافقها، ونلاحظ في مكتوباتهم حول الإسلام والمسلمين ما يلي: - التشكيك في صحة رسالة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم، وجمهور المستشرقون ينكرون أن يكون محمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا أوحى الله إليه، وأنزل عليه كتابًا من لدنه، ويتخبطون في تفسير مظاهر الوحي التي كان يراها أصحابه؛ لاسيما عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها، فمن المستشرقين من يرجع ذلك إلى صرع كان ينتاب النبي حينًا بعد حين، ومنهم من يرجعه إلى تخيلات كانت تملأ ذهن النبي -صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يفسرها بمرض نفسي إلى غير ذلك. - ويتبع التشكيك في رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- إنكارهم كون القرآن كتابًا منزلًا عليه من عند الله -عز وجل، وإذ أنكروا رسالة محمد؛ لزمهم أن يعلنوا بأن الإسلام ليس دينًا منزلًا من عند الله، وإنما هو ملفق من الديانتين اليهودية والنصرانية، وهم في هذا يخبطون خبط عشواء؛ إذ لا يملكون أي مستند يؤيده البحث العلمي السليم، جُل ما يملكونه ادعاءات تستند إلى وجود نقاط التقاء بين الإسلام، والديانتين السابقتين، الأمر الذي يرجع في حقيقته إلى وحدة الرسالات الربانية في أصولها الصحيحة. - وأيضًا يشككون في صحة الحديث النبوي الشريف الذي اعتمده علماء المسلمين المحققون، ويتذرعون بما دخل على الحديث النبوي من وضع، ودس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 متجاهلين تلك الجهود التي بذلها علماء المسلمين؛ لتنقية الحديث الصحيح مستندين إلى قواعد بالغة الدقة في التثبت والتحري، مما لم يُعهد عندهم في دياناتهم عشر معشاره في التأكد من صحة الكتب المقدسة عندهم. وأيضًا يشككون في قيمة الفقه الإسلامي الذاتية، ذلك التشريع العظيم الذي لم يجتمع مثله لجميع الأمم في جميع العصور، وقد سقط في أيديهم حين اطلاعهم على عظمته، وهم لا يؤمنون بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم، فلم يجدوا بدًّا من الزعم بأن هذا الفقه مستمد من القانون الروماني أي: أنه مستمد من الغربيين. قد بين علماء المسلمين الباحثون تهافت هذه الدعوى، وفيما قرره مؤتمر الفقه المقارن المنعقد بلاهاي بأن الفقه الإسلامي فقه مستقل بذاته، وليس مستمدًّا من أي فقه آخر ما يفحم المتعنتين منهم، ويقنع المنصفين الذين لا يبغون غير الحق سبيلًا. العلاقة بين الاستشراق والتنصير فالعلاقة بين الاستشراق والتنصير علاقة وثيقة وفي غاية المتانة، ذلك إن الاستشراق هو الرافد الآخر للتنصير، كلاهما ينبعثان من الكنيسة؛ فهم -كما بينا- جميعًا قساوسة كلهم يخدمون الكنيسة على حد سواء. وتتركز مهمة الجميع في هدم الإسلام، أو تشكيك أهله فيه، وتشويه تاريخ الأمة الإسلامية ونبيها العظيم، وجعل العالم الإسلامي مناطق نفوذ للغرب، ولهذا يلقى المستشرقون الدعم بسخاء من كافة الدول الكبرى التي تتطلع إلى العودة؛ لاستعمار الدول الإسلامية من جديد. وقد أقامت لهم مختلف الجماعات بدراسة كيفية التنصير والاستشراق؛ للتغلغل إلى ديار المسلمين، وإلى قلوبهم، وإلى استعمال بلدانهم، وإيجاد المبررات لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فمن هنا ينبغي التنبه لمغالطتهم في زعمهم أن الاستشراق هو غير التنصير، وأن الاستشراق يخدم الثقافة بعيدة عن التأثر بأي معتقد، وقد عرفنا أن الغرض الحقيقي لدعاة التنصير هو الرغبة في إدخال الناس النصرانية، فلا ريب أن من صدق هذا فقد جانب الحقيقة. نعم، قد تختلف الوسائل بين المنصرين والمستشرقين لكنها في النهاية تصبُّ في مكان واحد. الفرق بين المستشرقين والمنصرين في الوسائل: يقول الدكتور محمد البهائي: "إن الاستشراق أخذ صورة البحث العلمي، وادعى لبحثه الطابع العلمي الأكاديمي، أما دعوة التنصير فقد بقيت في حدود مظاهر العقلية العامة أي: العقلية الشعبية، أينما استخدم الاستشراق الكتاب والمقال في المجلات العلمية، وكرس التدريس في الجامعة، والمناقشة، والمؤتمرات العلمية العامة؛ فقد سلك التنصير طريق التعليم المدرسي في دور الحضانة، ودور الأطفال، والمراحل الابتدائية والثانوية للذكور والإناث على السواء، كما سلك سبيل العمل الخيري الظاهري في المستشفيات، ودور الضيافة، والملاجئ للكبار، ودور اليتامى واللقطاء. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الدرس: 17 الاستشراق (2). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس السابع عشر (الاستشراق (2)) موازين البحث عند المستشرقين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: الاستشراق: جمهور المستشرقين في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الإسلامية يعتمدون على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي، فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرَّد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه، يتابع النصوص والمراجع الموثوق بها، وما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة المحتمة التي ينبغي له اعتمادها والأخذ بها، إلا أن أغلب هؤلاء المستشرقين يضعون في أذهانهم فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها، وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحة هذه الأدلة، بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منها؛ لدعم آرائهم الشخصية. كثيرًا ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية، ومن هنا يقعون في مفارقات غريبة لولا الهوى والغرض المريض لربئوا بأنفسهم عنها، وكثيرًا ما يعتمدون على الوهم المجرد لتفسير الأمور، ويقيسون المسلم الذي يؤمن بالله ويخشاه على الذين لا تردعهم روادع دين، ولا خلق قويم، ويعتبرون أن كل سلوك المسلمين أفرادًا وجماعات لا بد أن يفسر بالأغراض الشخصية، والنوازع النفسية الدنيوية، وفيما يلي طائفة من الأمثلة التي تكشف موازين البحث عند المستشرقين حينما يكتبون في الإسلام، وتاريخ المسلمين. فمثلًا في محاولة المستشرق جولد سيهر لإثبات زعمه بأن الحديث في مجموعه في صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة، وليس من قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- ادَّعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في الصدر الأول من الإسلام، وأن الجهل بها وبتاريخ الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان لاصقًا بكبار الأئمة، وقد حشد لذلك بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الروايات الساقطة المتهافتة، مثلًا من ذلك ما نقله عن كتاب (حياة الحيوان) للدميري من أن أبا حنيفة -رحمه الله- لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر قبل أحد، أم كانت أحد قبلها. ومما لا شك فيه أن أقل الناس اطلاعًا على التاريخ يرد مثل هذه الرواية، فأبو حنيفة وهو من أشهر أئمة الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الإسلام حديثًا مستفيضًا، وذلك في فقهه الذي أُثر عنه وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه -كأبي يوسف ومحمد- من غير المتصور بحال من الأحوال أن يكون الإمام جاهلًا بوقائع سيرة الرسول ومغازيه، وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب، ويكفي ذكر كتابين في فقهه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع الدولي في الإسلام: أول هذين الكتابين (باب الرد على سير الأوزاعي) لأبي يوسف -رحمه الله، وثانيهما كتاب (السير الكبير) لمحمد بن الحسن -رحمه الله، وهو من أقدم وأهم مراجع الفقه الإسلامي في العلاقات الدولية، وقد طبع هذا الكتاب عدة مرات، وفي هذيْن الكتابين يتضح إلمام تلامذة الإمام وهم حاملو علمه بتاريخ المعارك الإسلامية في عهد الرسول، وعهد خلفائه الراشدين. وجولد سيهر لا يخفى عليه أمر هذين الكتابين، وكان بإمكانه لو أراد الحق أن يعرف ما إذا كان أو حنيفة جاهلًا بالسيرة أو عالمًا بها من غير أن يلجأ إلى رواية الدميري في كتابه (الحيوان) وهو ليس مؤرخًا، وكتابه ليس كتاب فقه، ولا تاريخ؛ وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوادر تتصل بموضوع كتابه من غير بحث عن صحتها، ولا يخفى ما كان بين أبي حنيفة ومعاصريه ومقلديه من بعدهم من خصومة في المنهج الاجتهادي الذي اعتمده، قد كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 هذه الخصومة مادة دسمة لرواة الأخبار ومؤلفي كتب الحكايات والنوادر لنسبة نوادر وحكايات، منها ما يرفع من شأن أبو حنيفة، ومنها ما يضع من سمعته، وأكثرها ملفق مختلق. موضوع للمسامرة والتندر من قبل محبيه أو كارهيه على السواء، الأمر الذي يجعلها عديمة القيمة العلمية في نظر العلماء والباحثين. وجولد سيهر أعرض عن كل ما دُوِّن من تاريخ أبي حنيفة تدوينًا علميًّا ثابتًا، واعتمد رواية مكذوبة ليدعم بها ما تخيله من أن السنة النبوية من صنع المسلمين في القرون الثلاثة الأولى، وكذلك أعرض عما أجمعت عليه كتب الجرح والتعديل، وكتب التاريخ من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري -رحمه الله، وورعه، وأمانته، ودينه، وزعم أن الزهري لم يكن كذلك، بل كان يضع الحديث للأمويين، وهو الذي وضع حديث ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)) لعبد الملك بن مروان، وكل حجته أن هذا الحديث من رواية الزهري، وأن الزهري كان معاصرًا لعبد الملك بن مروان. يحاول المستشرقون أن يؤكدوا تعالي العرب الفاتحين عن المسلمين الأعاجم، وانتقاصهم من مكانتهم، وغرض المستشرقين من هذا إفساد قلوب المسلمين من غير العرب على المسلمين من العرب لإقامة الحواجز القومية بينهم. يقول المستشرق بروكلمان في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية): "وإذا كان العرب يؤلفون طبقة الحاكمين فقد كان الأعاجم من الجهة الثانية هم الرعية" أي: القطيع وجمعها رعايا كما يدعوهم، وهو تشبيه سام قديم كان مألوفًا حتى عند الآشوريين. قد تجاهل بروكلمان جميع الوثائق التاريخية التي تؤكد عدالة الفاتحين المسلمين، ومعاملتهم أفراد الشعب على السواء من غير تفرقة بين عربي وغيره، وتعلق بلفظ الرعية تعلقًا لغويًّا، واستنتج منها أن المسلمين نظروا إلى الأعاجم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 نظر القطيع من الغنم، ولو رجعنا إلى مادة رعى في قواميس اللغة وجدناها تقول كما يلي: الراعي الوالي، والرعية العامة، ورعى الأمير رعيته رعاية، وكل من ولي أمر قوم فهو راعيهم وهم رعيته؛ فالراعي في اللغة يُطلق على رئيس القوم وولي أمرهم، كما يطلق على راعي الغنم، والرعية تطلق في اللغة على القوم، ومن معاني الرعاية الحفظ والإحسان. فإطلاق لفظ الرعية على القوم وضع لغوي، ولم يجعل المسلمون إطلاق هذه الكلمة خاصًّا بالأعاجم، بل إطلاقها شامل لكل الناس عربًا كانوا أو عجمًا، تبعًا للوضع اللغوي. في ذلك أحاديث كثيرة معروفة منها قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره: ((ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)). فكيف أغمض بروكلمان عينيه عن هذا كله، واستجاز لعلمه أن يدعي بأن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظرة القطيع، وأنهم أطلقوا عليهم وحدهم لفظ الرعية؟! أليس هذا خيانة علمية وتضليلًا مكشوفًا؟! أين ادعاؤه هذا من النصوص الكثيرة التي ألغت الفوارق القومية، والعرقية، واللونية، وجعلت المسلمين جميعًا سواسية في الحقوق العامة. ومن الأمثلة أن المستشرقين يفرطون في اختراع العلل والأسباب والحوادث التي يدرسونها اختراعًا ليس له سند إلا التخيل والتحكم، ويزيد في فساد أسلوبهم هذا أنهم يتخيلون أحداث الشرق والعرب والمسلمين وعاداتهم وأخلاقهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 بأوهامهم وخيالاتهم الغربية البعيدة عن واقع حال الشرق والعرب المسلمين؛ لا يريدون أن يعترفوا بأن لكل بيئة مقاييسها وأذواقها وعاداتها، وقد أحسن المستشرق الفرنسي المسلم ناصر الدين دينيه في حديثه عن أسلوب المستشرقين وموازينهم في الحكم على الأشياء، مما جعلهم يتناقضون فيما بينهم تناقضًا واضحًا في الحكم على شيء واحد. كل ذلك لأنهم حاولوا أن يحللوا السيرة المحمدية وتاريخ ظهور الإسلام بحسب العقلية الأوروبية، فضلوا بذلك ضلالًا بعيدًا؛ لأن هذا غير هذا، ولأن المنطق الأوروبي لا يمكن أن يأتي بنتائج صحيحة في تاريخ الأنبياء الشرقيين. ثم قال: إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا الأسلوب الأوربي البحت لبثوا ثلاثة أرباع قرن؛ يدققون ويمحصون بزعمهم، حتى يهدموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيهم، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة، والروايات المشهورة من السيرة النبوية ... فهل تسنى لهم شيء من ذلك؟: - الجواب: أنهم لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد، بل إذا أمعنا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون من فرنسيين، وإنجليز، وألمان، وبلجيكيين، وهولنديين، وغيرهم لا نجد إلا خلطًا وخبطًا، فإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره من هؤلاء المدققين بزعمهم، أو ينقض ما قرروه. إذا أردنا تلخيص موازين البحث عند المستشرقين في الموضوعات الإسلامية نجد ما يلي: أولًا: تحكيم الهوى ونزعات العداء للإسلام والمسلمين والتعصب الأعمى للنصرانية وللشعوب والأمم المنتمية إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 ثانيًا: وضع الفكرة مقدمًا ثم البحث عن أدلة تؤيدها مهما كانت ضعيفة واهية، ولو اضطرهم الأمر إلى اعتماد أسلوب المغالطات والأكاذيب، واقتطاع النصوص، وهذا عكس المنهج العلمي الاستدلالي السليم. ثالثًا: تفسير النصوص والحوادث والوقائع والنيات والغايات تفسيرات لا تتفق مع دلالاتها، وأماراتها الحقيقية، ولا مع النتائج التي أثبتها تاريخ الأمة الإسلامية. رابعًا: تضخيم الأخطاء الصغرى وجعلها تطغى على ساحة صورة تاريخ المسلمين، وطمس الصور الرائعة المشرقة لهذا التاريخ. خامسًا: تجميع الهفوات التي لا تخلو منها أمة مهما عظمت كمالاتها، ووضعها في صورة واحدة، وتقديمها على أنها هي كل صورة تاريخ المسلمين. سادسًا: تصيد الشبهات التي يُشتبه وجه الحق فيها على كثير من الناس، ولا يستبين لهم ما لم يمتنحوها بالتجارب الطويلة، إثارة الانتقادات حولها، وتحريك الذوابع المملوءة بالغبار وما تحمله، وفي ذلك يستغلون أنانيات النفوس وأهوائها وشهواتها، ويستغلون شعارات خادعات براقة المظهر، زخرفية القول كشعار حرية المرأة. سابعًا: اعتماد ما يوافق هواهم من كل خبر ضعيف، ورأي مردود شاذ، وقول ساقط لا سند له من عقل ولا نقل صحيح. ثامنًا: رفض الحق بالنفي المجرد الذي لا يدعمه دليل صحيح مقبول في المنهج العلمي السليم. تاسعًا: تفسير التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بالمنظار الذي يفسرون به التاريخ الغربي، والحضارة الغربية مع تباين الواقعين عقيدة ونظامًا وشريعة وبيئة ودوافع تباين كليًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 عاشرًا: استنباط القواعد الكلية العامة من الحوادث الفردية الجزئية التي لا يصح منطقيًّا تعميمها. الحادي عشر: الاعتماد على الوهم المجرد لتفسير الأمور والوقائع. الثاني عشر: قياس المؤمن المسلم الذي يخشى الله على الذين لا تردعهم روادع دين ولا خلق. الجامعات الغربية وأثر المستشرقين فيها على المسلمين فقد رافق جهود المستشرقين فتنة المسلمين بالحضارة المادية الغربية، ووقوع المسلمين فريسة خطط التحويل عن طريق برامج التعليم ومناهجه، وأساليبه، ومضامينه في كل العلوم بما فيها العلوم الإنسانية، والعلوم الدينية والعربية، وكذلك فتنة المسلمين بالشهادات التي تمنحها الجامعات الغربية؛ لا سيما شهادات الماجستير والدكتوراه. يُضاف إلى ذلك غزو آخر ماكر جمع الجامعات في بلاد المسلمين تحصل المراتب العلمية فيها بحملة هذه الشهادات العليا، بل وتؤثر وتقدم حامليها من الجامعات الغربية على حامليها من الجامعات الإسلامية. ووضعت بهذا الغزو الماكر شروطًا خاصة وشكليات معينة للتدريس في هذه الجامعات، وهذه الشروط والشكليات تحجب عن التدريس فيها الذين لا يحملون الشهادات العليا مهما كانوا على درجة كبيرة من العلم، وتدفع إلى احتلال مراكز التعليم ونيل الألقاب الكبيرة من حملة هذه الشهادات، وإن كانوا فارغين من العلم ومحرومين من الإخلاص لدينهم وأمتهم، مع أن الشهادات العليا الجارية على أصولها دون غش ولا تزوير إنما هي أول الطريق الذي يهيئ للدارس الجاد وسائل متابعة المعرفة، فإما أن يبدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الدارس بعمله الذاتي تكوين نفسه بالبحث الجاد الدءوب، وإما أن يجعل الشهادة غاية ينتهي عندها ويقف عند حدودها. وقد أعلن هذه الحقيقة البروفيسور أرنولد لون إذ يقول: "إن عصرنا هو عصر عقدة الشهادات، فالماجستير والدكتوراه أصبحت غاية في حد ذاتها لشبابنا، ولكن كل ينسى هذه الحقيقة، وهي أن الماجستير والدكتوراه ما هي إلا حروف الأبجدية الأولى لبداية المعرفة، والمعرفة لا يمكن تخزينها في زجاجة الماجستير أو الدكتوراه إن هذه لنظرة مزيفة، جامعاتنا هي فقط مؤسسات علمية لإعداد الطلبة؛ ليتعرفوا على كيفية التحصيل العلمي والمعرفة، قد أدرك المنصرون والمستشرقون عقدة الشهادات في البلاد الإسلامية، فوجهوا توصيتهم للجامعات الغربية بشراء من يستطيعون شراءه من أبناء المسلمين بالشهادات ... فقد جاء في كتاب (المشكلة الشرقية) ما يلي: لا شك أن المبشرين فيما يتعلق بتخريب وتشويه عقيدة المسلمين قد فشلوا تمامًا، ولكن هذه الغاية يمكن الوصول إليها من خلال الجامعات الغربية، فيجب أن تختار طلبة من ذوي الطبائع الضعيفة، والشخصية الممزقة، والسلوك المنحل من الشرق، ولاسيما من البلاد الإسلامية، وتمنحهم المنح الدراسية حتى تبيع لهم الشهادات بأي سعر؛ ليكونوا المبشرين المجهولين لنا لتأسيس السلوك الاجتماعي والسياسي الذي نصبوا إليه في البلاد الإسلامية، إن اعتقادي لقوي -والكلام لا زال للكاتب- بأن الجامعات الغربية يجب أن تستغل استغلالًا تامًّا من جانبنا؛ لتستفيد من جنون الشرقيين للدرجات العلمية والشهادات، واستعمال أمثال هؤلاء الطلبة كمبشرين ووعاظ ومدرسين لأهدافنا، ومآربنا باسم تهذيب المسلمين والإسلام، وهكذا. تحت كل هذه المؤثرات المتعددة اندفع فريق من أبناء المسلمين إلى الجامعات الغربية لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه في مختلف العلوم، بما في ذلك العلوم الدينية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 والعلوم العربية، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، والتي أولاها المستشرقون عناية خاصة؛ لجعلها شبكة مقنعة لاصطياد أبناء المسلمين، وبنائهم بناء جديدًا يجعلهم يخدمون أغراض الاستشراق وأغراض التنصير والاستعمار في أفكارهم، ومفاهيمهم، وفي أعمالهم، وتنظيماتهم داخل بلاد المسلمين، من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، ويمنحونهم الشهادات العليا، والألقاب العلمية الكبيرة لأقل بحث يكتبونه في غير العلوم البحتة، ويربطون من يربطون منهم بوسائلهم الكثيرة الموصولة بأجهزتهم المستورة، ويعودون إلى بلادهم وقد امتلأت نفوسهم غرورًا؛ يضاف إلى ذلك ما تعرضوا إليه من تحول في السلوك ضمن البيئات الغربية التي أقاموا فيها خلال فترة التحصيل، وافتتان بمظاهر الحضارة المادية التي شاهدوها. وقد سقطت معظم الجامعات المنشأة في بلاد المسلمين تحت هذه الأيدي الخفية للاستشراق والتنصير والدوائر الاستعمارية، وغدت خططها ومناهجها وتوجيهاتها تخضع بطريق مباشر أو غير مباشر لما تفرضه، وتمليه هذه الأيدي الخفية، وغدت الكنيسة الغربية تفخر بأن العلوم الإسلامية والعلوم العربية يدرس على طريقتها التي تخدم أغراضها في بلاد المسلمين، وتفاخر بأن المشرفين على تدريس هذه العلوم من تلامذة أبنائها. وأي انتكاس أقبح من هذا الانتكاس أن يتعلم المسلمون دينهم ولغاتهم وفق طرائق أعدائهم وأعداء دينهم، هل يقبل اليهود والنصارى أن يتعلموا أصول دياناتهم وفروعها على أيدي علماء المسلمين، وأن يأخذوا منهم الشهادة بذلك؟ فما بال المسلمين يسقطون في هذا الانتكاس الشائن. إن الاستعمار المادي المباشر أهون من هذا اللون من ألوان الاستعمار، الذي وصل إلى القاعدة الكبرى التي تقوم عليها الأمة الإسلامية، وهي قاعدة دينها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وعلومها المتصلة بهذا الدين. وقد تأثر كثيرون من الذين درسوا في الجامعات الغربية من أبناء المسلمين بدراسات المستشرقين، وانخدعوا بأساليبهم، وأخذوا يرددون شبهاتهم، ويروجون لها بين المسلمين؛ بل ويعتبرونها حقائق علمية مسلمًا بها، وأخذوا يعلمون طلابهم من المسلمين ويكتبون فيها المؤلفات العديدة، وتعمل الدوائر الاستعمارية على ترويج هذه الكتب ودعم مؤلفيها، ودفعهم بأيد خفية إلى أعلى مراكز الإدارة والتوجيه داخل بلادهم؛ للاستفادة منهم في خدمة أغراض التبشير والاستعمار، وفي تهديم الإسلام وتشويه تاريخ المسلمين. وغدا كثير من الكتاب في العلوم الإسلامية وفي التاريخ الإسلامية، وفي اللغة العربية لا يرجع إلا إلى ما كتبه المستشرقون، ويعتبرون ذلك أفضل المصادر التي يرجعون إليها. أما المصادر الإسلامية فلا يكلفون نفوسهم عناء الرجوع إليها، ولا البحث فيها؛ ثقة عمياء بما كتبه المستشرقون، أو خدمة مأجورة لما توجههم له الدوائر الاستعمارية، وأجهزة الاستشراق، وجمعيات التنصير. ومن غريب الأباطيل التي يروجها المستشرقون ما ذكره الأستاذ الدكتور وصفي أبو مغلي عن صديقه وأستاذه الدكتور بحر محمد بحر، وهو سوداني ويعمل مدرسًا في جامعة عين شمس في مصر، أنه حينما كان يدرس في انجلترا قال أحد المدرسين وهو يتحدث عن الحضارة الإسلامية: "كان إله محمد الناقة التي كان يركبها، والدليل على ذلك أنه حينما هاجر للمدينة ودعاه أهلها للنزول عندهم قال لهم: دعوا الناقة حيث تبرك"؛ فاستدل من ذلك على أنه كان يعبد الناقة ويتلقى منها الوحي، هل يحتاج مثل هذا التضليل إلى تعليق؟!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 مقارنة بين التبشير والاستشراق وأعمالهما وقد كان مما كتبه الأستاذ إبراهيم خليل أحمد في كتابه (المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي) ذكر بعض المقارنات وهو من أهل الذكر قد كان قسيسًا وعاملًا في مضمار التبشير بالمسيحية بين المسلمين، ثم هداه الله إلى اعتناق الإسلام، فهو ذو خبرة مباشرة بالعمل التنصيري، وعلى اطلاع حسن بأعمال المستشرقين وأهدافهم، وقد كشف بعد اعتناقه الإسلام كثيرًا من الحقائق التي يعرفها، وقدم بها شهادة عارف خبير، وقد قال من بين ما قال: أولًا: أن التبشير والاستشراق دعامتان من دعائم الاستعمار، وعملاء التبشير والاستشراق عملاء الاستعمار وخدام لسياسته، وإن ظهروا بوجوه مقاومة الاستعمار وتحرير البلاد منه. ثانيًا: تقاسم التبشير والاستشراق والاستعمار جوانب الأعمال المقررة في الخطة العامة لغزو الإسلام والمسلمين، وديار الإسلام، فحمل الاستشراق أعباء الأعمال في ميادين المعرفة الأكاديمية، وادَّعى لنفسه ولبحثه الطابع العلمي العالي، استخدم الكتابة والتأليف، وإلقاء المحاضرات والمناقشات في المؤتمرات العلمية العامة، وحمل التبشير أعباء الدعوة الجماهيرية في حدود مظاهر العقلية العامة، التي تتناسب مع مفاهيم الجماهير، واستخدم التبشير وسائل التعليم المدرسي في دور الحضانة وغيرها. ثالثًا: استطاع الأمريكيون تحت لواء الامتيازات الممنوحة للأجانب، وباسم الصداقة للشعوب الآسيوية الأفريقية أن يغزو آسيا وأفريقيا بوفود المبشرين والمستشرقين، واستطاعوا بأموالهم أن يؤسسوا لهم مراكز تبشيرية وعلمية كثيرة في العالم الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 رابعًا: يسير العمل التبشيري في البلاد التي تتمتع باستقلالها وحريتها مستخدمًا أسلوب الدهاء والمكر، وذلك باستخدام تلاميذ المبشرين والمستشرقين من الوطنيين حتى لا يصطدموا بقوانين البلاد، فيكرهوا على الرحيل الفوري. خامسًا: استعان التبشير بالقوى العسكرية الاستعمارية ليقوم بمهماته وهو آمن على نفسه، واستعان بأفكار ومؤلفات المستشرقين، قد نجح التبشير والاستشراق والاستعمار في كثير من البلاد الإسلامية بتربية أجيال متعاقبة لا تفقه الإسلام، ولا تحفظ من القرآن إلا آيات معدودات؛ لذلك كان من اليسير جدًّا غزو هذا الجيل غزوًا فكريًّا واسعًا. لم يكن المبشرون ولا معظم المستشرقين يومًا يُنصفون الحقيقة العلمية، فللعلم كانت أبحاثهم موسومة بصورة واضحة من أسس عقائدهم ومقاصدهم الخبيثة، وقد سلك المبشرون -كما يقول- والمستشرقون معهم كل مسلك ظنوه محققًا لأهدافهم، واستطاعوا أن يتسللوا إلى المجمع اللغوي بمصر، والمجمع العلمي بمصر، والمجمع العلمي ببغداد، كما تدخلوا بتأييد من الاستعمار في مجال التربية والتعليم محاولين غرس مبادئ التربية الغربية في نفوس المسلمين، ونجحوا في هذا إلى حد كبير. ويعمل المستشرقون وفق خطة مدروسة، إذ يجتمعون في هيئة مؤتمرات بين الحين والحين، وكذلك يعمل المبشرون. وإذا كان الاستشراق والتبشير قد قام على أكتاف الرهبان والآباء في أول الأمر، ثم اتصل من بعد ذلك بمستعمرين؛ فإنه لا يزال حتى اليوم يعتمد على أولئك، وإن تظاهروا برسالتهم الدينية والخيرية فإنهم يقظون دائما، يحدقون بعيونهم، ويصيخون بآذانهم إلى مختلف الأوساط لمعرفة كل الاتجاهات؛ حتى يستطيعوا أن يذللوا أي عقبة تعترض سبيل نشاطهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وعملهم، فهم في سيرة أعمالهم كالجمعية الماسونية، تنشد في الظاهر نشيد السلام العالمي، لكنها دعوة سرية لاستتباب حكم التوراة في ربوع العالم. ويعتمد المستشرقون والمبشرون في تحقيق أهدافهم وتمويلها على ما تقوم به المؤسسات الدينية، والسياسية والتجارية في الغرب، وكذلك تمويل بنوك وأمراء أوربا وأثرياء أمريكا. آثار الفكر الاستشراقي ونخص في الحديث آثار السلبية للفكر الاستشراقي في المجال الديني، فقد كان مجال العقيدة الإسلامية من أهم المجالات التي اهتم بها المستشرقون، ووجهوا لها النصيب الأكبر من دراساتهم، فقد نشأ الاستشراق في مجال الدراسات الإسلامية أصلًا لدراسة العقيدة الإسلامية، والبحث عن الوسائل والعوامل التي يمكن تطويرها لهدم هذه العقيدة وتخريبها، وتشويه أصولها. يعتبر الدافع الديني من أهم الدوافع التي وجهت المستشرقين لدراسة العقيدة الإسلامية. فمنذ ظهور الإسلام وانتشاره في العالم النصراني القديم اكتشف الغرب أن الإسلام خطر عظيم يهدد النصرانية في عقر دارها، عندما فشل الغرب في المواجهة السياسية والعسكرية مع المسلمين، ولم يتمكن من وقف الإسلام وانتشاره السريع في البلاد النصرانية وغيرها من بلاد العالم القديم، اتجه إلى دراسة الدين الإسلامي دراسة دينية عقدية متعمقة، من أجل وضع الخطط الدينية والفكرية للدفاع عن النصرانية بالوسائل الفكرية بعد فشل المواجهة العسكرية. وهكذا تفرغ عدد من علماء النصرانية واليهودية للتخصص في العقيدة الإسلامية، والبحث في أنجح الوسائل الفكرية؛ لنقد الدين الإسلامي وتجريحه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وتحريفه، وتشويه صورته عملًا على منع انتشاره بين النصارى واليهود من ناحية، ولتشكيك المسلمين أنفسهم في أمور دينهم وعقيدتهم من ناحية أخرى. ومع تطور الدراسات الاستشراقية في العقيدة الإسلامية جمع المستشرقون بين الهدف الدفاعي عن اليهودية والنصرانية ضد الإسلام، وبين الهجوم على الإسلام في محاولة يائسة لوقف تقدمه ومنع انتشاره، وفي هذا يقول أحد الباحثين، وقد نما هذا الهجوم الفكري والعقدي وشب حتى وصل إلى مرحلة متطورة في عصرنا الحاضر، وهو هجوم من شعبتين: - شعبة موجهة إلى الشعوب المسيحية؛ لتحصينها ضد الإسلام الذي انتشر واتسع نفوذه، وذلك بتشويه صورته وتجريحه والقدح فيه، ونقده والتطاول عليه وعلى القرآن وعلى بني المسلمين مما كون ما يشبه الجدار السميك من الأفكار السوداء عن هذا الدين الحنيف. - أما الشعبة الثانية: فهي الشعبة الموجهة إلى المسلمين فيما نراه من هجمات تبشيرية بشعة على أمة الإسلام. إن هذا الهجوم العقيدي الفكري أخذ يتطور مع السنين حتى أصبح علمًا أو علومًا لها مدارس ومناهج، وعلى الرغم من أن الاستشراق لم يتمكن عبر تاريخه الطويل من تحريف العقيدة الإسلامية، وأنه فشل في تحقيق هدف تشويه الدين الإسلامي؛ فقد نجح في إثارة العديد من المشاكل الدينية والقضايا العقدية التي شغلت المسلمين من ناحية في الرد على شبهات الاستشراق في مجال العقيدة، ودفعت المسلمين إلى اتخاذ موقف الدفاع ضد الاستشراق الأمر الذي كان له تأثيره على الفكر الإسلامي الحديث، وصبغه بالصبغة الدفاعية، وإبعاد العلماء المسلمين عن الدراسة العلمية المتعمقة في أمور دينهم، والسعي إلى حل القضايا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الإسلامية المعاصرة من خلال التأمل العميق في تراثهم الإسلامي، وإيجاد الحلول المناسبة لدينهم وحضارتهم، وقد نجح الاستشراق في جذب الفكر الإسلامي الحديث إلى النظر في المشاكل والشبهات التي يثيرها المستشرقون، ووضع المسلمين في موقف الدفاع، وصرف نظرهم عن التعمق في دينهم، وإجبارهم على متابعة القضايا الكيدية. ومن الممكن أن نعد بعض الآثار السلبية للفكر الاستشراقي في المجال الديني فيما يلي: أولًا: إثارة الشكوك في العقيدة، فقد عمل الاستشراق على إثارة الشكوك لدى فريق من العلماء المسلمين في عقيدتهم؛ في القيم الدينية والحضارية المنبثقة عن هذه العقيدة، وكان التأثير الفكري الاستشراقي عظيمًا في عدد من هؤلاء المسلمين الذين تعلموا في الغرب، أو الذين تحقق لهم نوع من الاتصال بالغرب وحضارته ومؤسساته الثقافية، وأصابهم ما أصاب الغرب عامة من هجر للدين واحتقار له، والفصل بينه وبين أمور الدنيا. وقد خضع هؤلاء للقيم الغربية وتأثروا بمعطيات الحياة الغربية، وحاولوا نقل قيم الحضارة الغربية إلى عالمنا الإسلامي على اعتقاد منهم بأفضلية هذه القيم على القيم الإسلامية، نتيجة الانبهار الشديد بحضارة الغرب وتقدمه العلمي. كما أثيرت الشكوك لدى بعض المسلمين في العديد من الموضوعات الدينية من بينها التهوين من أمر الكتب المقدسة والنظر إلى القرآن الكريم، والحديث النبوي مصادر العقيدة الإسلامية على أنها خاضعة للنقد العلمي، وحض المسلمين على ضرورة التحرر في دراسة هذه الكتب، والمصادر الدينية، وإخضاعها للرؤية النقدية العقلية، وبالتالي التقليل من قداستها، والتخفيف من احترام المسلمين لها؛ بل والحض على هجرها واستبدالها بالقوانين الوضعية والقيم الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 ومن الآثار السلبية للاستشراق في بلاد المسلمين: تشويه صورة الإسلام في الغرب، فقد عمل الاستشراق على تشويه صورة الإسلام والمجتمع الإسلامي في الغرب، ويعتبر هذا الأمر من أخطر الآثار السلبية للاستشراق، فالمسلمون في بلادهم ثابتون على عقيدتهم، عاملون بها، ومطمئنون إليها؛ بينما صورة الإسلام خارج العالم الإسلامي يتم تشويهها وتقديمها في صورة مزيفة غير حقيقية بواسطة الاستشراق، وهي صورة تعطي انطباعًا سلبيًّا للإسلام كدين وحضارة في ذهن الإنسان الذي تلقى معرفته عن الإسلام من خلال المستشرقين الذين يمثلون المصدر المعرفي الأساسي للمعلومات الخاصة بالإسلام، وبالمجتمعات الإسلامية. ولا يخفى أن أحد أهداف الاستشراق الأساسية حجب المعرفة الصحيحة عن الإسلام حتى لا يؤثر هذا الدين الكامل في أهل الغرب، وهي حرب فكرية موجهة لمنع انتشار الإسلام في العالم الغربي، والتعتيم على المثقف الغربي، وإعطائه معلومات خاطئة ومضللة عن الإسلام كما تنفر الغرب منه كدين وحضارة، ولا شك أن كلمة المستشرقين مسموعة في الغرب؛ لأنهم علماء تخصصوا في الإسلام، وأصبحوا خبراء في شئون المجتمعات الإسلامية، وما يصدرونه من أحكام وآراء عن الإسلام والمجتمع الإسلامي يتقبله المجتمع الغربي دون أن يشك في صحته. فالمستشرقون هم الحجة في تخصصهم وعادة ما يؤخذ برأيهم في كل المسائل التي تخص العالم الإسلامي، وقد اكتسبوا ثقة الإنسان الغربي بما يمثلونه من علم وخبرة نادرة يستعين بها المسئولون الغربيون في الشئون السياسية والاقتصادية والفكرية الخاصة بالبلاد الإسلامية. ومن الآثار السلبية أيضًا للاستشراق: التركيز الاستشراقي على الطوائف والأقليات في المجتمع الإسلامي، فهم يهتمون أولًا بالفرق الإسلامية، ويهتمون ثانيًا بالطوائف والأقليات في المجتمعات الإسلامية، والهدف من هذه الدراسات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 يقترن كثيرًا من هدف دراسة الفرق المخالفة للإسلام؛ حيث يركز الاستشراق على إظهار المجتمع الإسلامي بمظهر المجتمع المكون من عدة طوائف وأقليات، لها مذاهبها المختلفة، ولها عاداتها وتقاليدها المتباينة، ولها حياتها الخاصة، الأمر الذي يظهر هذا المجتمع في النهاية بأنه يتكون من عدة مجتمعات وليس من مجتمع واحد، وأن النتاج الفكري والحضاري الإسلامي لهذه المجتمعات إنما هو ليس من عمل المسلمين، ومن عمل الحضارة الإسلامية إنما هو من عمل اليهود والنصارى والمجوس والهندوس، وغيرهم من أهل الأديان والحضارات الأخرى. وعادة ما يعمد المستشرقون إلى إظهار الطوائف والأقليات في صورة مجتمعات مضطهدة داخل المجتمع الإسلامي، بهدف تشويه صورة الإسلام خاصة في الغرب، وإظهار الإسلام في صورة الدين المتعصب المضطهد لطوائفه غير المسلمة. ومن الآثار السلبية للدراسات الاستشراقية في بلاد المسلمين: التمكين للصهيونية في العالم العربي، فقد عمل الاستشراق اليهودي والصهيوني خصوصًا من أجل بعث القومية اليهودية، وتمكين اليهود من تكوين رؤية قومية يهودية، وتحويل اليهود من جماعة دينية إلى جماعة قومية، وربط اليهودية بالقومية فيما عُرف باسم الصهيونية. كيفية وسبل مواجهة الفكر الاستشراقي أولًا: أن تتضح لدينا ولدى المسلمين حقائق المواجهة، فتكوين موقف إسلامي من الاستشراق وآثاره في المجتمعات الإسلامية يجب أن يتم في ضوء معرفة بعض الحقائق، منها أن الاستشراق ظاهرة فكرية قديمة باقية ومستمرة طالما أن الصراع بين الغرب والشرق باقٍ على مستوياته الدينية والسياسية والفكرية. ثانيًا: أن الاستشراق قوة فكرية هائلة تتمتع بنفوذ كبير في الغرب، وأن الموقف الإسلامي من الاستشراق يجب أن يتحدَّد في ضوء سلبيات الاستشراق وإيجابياته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وأن الفكر الاستشراقي يمثل كل المذاهب والأيدلوجيات المضادة للإسلام، كما أنه يمثل في المقام الأول الفكر الديني الغربي بمدرستيه اليهودية والنصرانية. أما سبل مواجهة الآثار الفكرية الاستشراقية في المجتمعات الإسلامية فهي متعددة، نذكر منها: 1 - الدراسة العلمية الواعية المتعمقة للاستشراق. 2 - مطالبة الإنسان المسلم عامة والمثقف خاصة بضرورة العودة إلى الدين، والتمسك بتعاليمه ومبادئه، وأداء الفروض والواجبات الدينية المطلوبة منه، وتثقيف نفسه دينيًّا، والتفقه في أمور الدين، وفي هذا كله يتحقق تحصيل الإنسان المسلم ضد الآراء المنحرفة التي ينشرها الاستشراق والتنصير. ثالثًا: مطالبة الحكومات والمؤسسات الدينية القادرة بضرورة التحكم فيما تبثه وسائل الإعلام المرئية والمسموعة من مواد فكرية متنوعة، معادية للفكر الإسلامي، ومساعدة على تسرب الفكر الغربي المنحرف إلى المجتمعات الإسلامية. رابعًا: تنقية الفكر الإسلامي من الأفكار المشبوهة والمشوهة التي دخلته عبر السنين بفعل الفرق والحركات الضالة. خامسًا: ضرورة العمل على توفير الكتاب الإسلامي البديل للكتاب الاستشراقي، وبخاصة في اللغة الأجنبية. وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الدرس: 18 الصهيونية (1). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الثامن عشر (الصهيونية (1)) تعريف الصهيونية ونشأتها الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: الصهيونية: تنسب إلى كلمة صهيون كما فسرها اليهود أنفسهم، وكلمة صهيون تأتي على ثلاث معانٍ: المعنى الأول: أنها مدينة الملك الأعظم، أي: مدينة الإله ملك إسرائيل. المعنى الثاني: أنها اسم حصن سماه الله نبي الله داود -عليه السلام- حسبما جاء في التوراة في مدينة القدس. المعنى الثالث: أنها اسم جبل يقع إلى الشرق من القدس، هذا هو المعنى اللغوي لكلمة صهيون. أما مفهوم الصهيونية في معناها السياسي العصري فهي حركة سياسية عنصرية، وهي فلسفة قومية لليهود تنادي بالعودة إلى جبل صهيون، أرض الميعاد كما يسمونها. وقد أخذ اليهود تعاليمها من التوراة -كتابهم المقدس- الذي حرفوه كما أخذوا تعاليمها من التلمود -وهو شرح التوراة، ويعبر التلمود عن سيرتهم التي كتبها حاخاماتهم خلال مسيرة التغرب والشتات، وأخيرًا أخذت الصهيونية بروتوكولات حكمائها كخطة يسيرون عليها في تحقيق أهدافهم في أرجاء العالم. ففكر التلمود ومجمل فقرات البروتوكولات هي التي سيطرت، وتسيطر على الصهاينة سيطرة كاملة؛ فلا يستطيعون أن يرفضوا لها أي طلب، أو مخطط، وهم يسيرون على نهجها دون ابتعاد؛ متناسين ما جاءت به اليهودية أصلًا، وهي الديانة التي أتى بها نبي الله موسى -عليه السلام، ومتناسين ما جاء في كتابها المقدس التوراة الذي حرفه اليهود حسب أهوائهم، وقد جعلوا مبدأهم يقوم أصلًا على استهجان وبغض الجويم، ومعنى الجويم أي: الأغيار أي: من هو على غير دين اليهودية، وهما المصطلحان اللذان يطلقونه اليهود على غير اليهود، فيعتبرون غير اليهود دون الحيوان قيمة كما في عقيدتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 نشأة الحركة الصهيونية وتعود نشأة الدعوة إلى الصهيونية إلى زمن بعيد قد بدأت محاولة اليهود للتكاتف منذ تهجيرهم، وتشريدهم من فلسطين على يد البابليين في القرن السادس قبل الميلاد، ثم تشتيتهم على يد القائد الروماني تيطس سنة 70 بعد الميلاد، وإجلائهم عن بيت المقدس، ثم إصرار النصارى على عدم رجوعهم إلى بيت المقدس حتى بعد الفتح الإسلامي؛ بل وطلبوا ذلك من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، وأصروا على كتابة ذلك في وثيقة العهد ... فنشأة الدعوة إلى الصهيونية ترجع إلى زمن بعيد، لكن إنشاء منظمة تهتم بهذه الفكرة وتبرزها إلى حيز الوجود بشكلها الفلسفي السياسي والعملي الواضح الأهداف بدأ يتبلور إثر المؤتمر الصهيوني الأول، فقبل المؤتمر الصهيوني الأول لم تكن تتعدَّى فكرة الصهيونية العاطفة والحنين، لكنها بعد هذا المؤتمر الصهيوني الأول تحولت إلى الشكل السياسي والعملي، وقد عُقد هذا المؤتمر الصهيوني الأول في شهر أغسطس سنة 1897 في مدينة بازل السويسرية؛ حيث اجتمع مائتان وأربعة من قادة اليهود المقيمين في جميع أنحاء العالم، تحت رئاسة مجموعة من المفكرين، وانتخبوا رئيسًا يتصدر المنظمة الصهيونية اليهودية، وهو الصحفي تيودور هرتزل إثر مداولات واجتماعات مكثفة؛ وقاموا بصياغة بروتوكولات حكماء صهيون السرية التي شاء الله -سبحانه وتعالى- ألا تبقى طيَّ الكتمان، ففضحها على أيدي الخونة من أهلها. أما اليهود أهل الصهيونية فهم كتلة بشرية ضئيلة من أول أمرها في الوجود، وأجمع المؤرخون المتجردون عن الهوى أن اليهود لما كانوا يدورون على محورهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الصغير في فلسطين في الزمن القديم، كانوا حتى في أيام أنبيائهم حتى في زمن داود وسليمان -عليهما السلام- حفنة قابلة أبدًا لأن تذروها الرياح بين الإمبراطوريات القديمة الكبرى في واديي النيل والفرات. والصحيح أن هناك جذورًا لبدء الحركة الصهيونية ابتداء من سقوط الدولة اليهودية، ودخول الرومان لفلسطين، وعبورًا بالمنفى الذي امتد من بابل إلى أوربا الشرقية عند قيام مملكة الخزر، واعتنق بعض أهل تلك البلاد الديانة اليهودية، وبسبب اضطهاد الروس آنذاك تحول اليهود إلى الغرب، وذاق الناجون منهم جميع أنواع الذل والاستعباد، وكانت بوادر هذه الحركة الصهيونية تتمثل في تأسيس حركات إقليمية وتحريرية لليهود؛ لتخليص اليهود من نير واستعباد الأوروبيين مثل: حركة الاستنارة، أو ما عُرف بالماسونية التي كانت تحاول مساعدة اليهود، ولكن نتج عنها الزيادة في التوجه اللاسامي في أوربا، وتمخض عن ذلك شعور مفكري اليهود بضرورة تخليص اليهود من محنتهم هذه، واستنتاجهم الخيارات الستة التالية التي تركت الحرية لكل يهودي منهم لاختيار التوجه الذي يرغبه، وهذه الخيارات الستة هي التي ستعينهم على القيام بما يرونه مناسبًا حسب الظرف المكاني والزماني الذي يمرون به. وهذه الخيارات الستة التي وضعوها هي: الخيار الأول: في رأي بعض اليهود أنهم سيخلصون من مآسيهم عن طريق المسيح المنتظر، لذا لجئوا إلى التدين وانتظار هذا المسيح المنتظر، الذي يظنون سيظهر، مع أن الله بعثه من بين ظهرانيهم ومنهم في فلسطين، ولكنهم أنكروه فهم لا يعترفون بالمسيح عيسى بن مريم نبي الله عيسى الله -عليه السلام- الذي هو منهم، بل ينكرونه، وينتظرون مسيحهم المزعوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 الخيار الثاني: وهو في رأي بعض مفكري اليهود أنه يجب عليهم الذوبان في مجتمعات غير اليهود، ونسيان الذات اليهودية، والتخلص من هذه المعاناة والمحن التي يعايشونها في الغرب والشرق؛ وبهذا تختفي الهوية اليهودية وتتلاشى، ولا يبقى لليهود أثر على سطح المعمورة، وليتهم أخذوا بهذا الخيار إذًا لأراحوا البشرية من شرورهم. الخيار الثالث: في رأي بعض المفكرين هو ترك البلدان التي يعانون فيها من ذل التفرقة والمتابعة والاضطهاد، فمثلًا الهجرة من أوربا الشرقية إلى أوربا الغربية، وبالذات إلى الدول التي لا يُعامل فيها اليهود بعنصرية، أو الهجرة إلى أمريكا الجنوبية، أو الولايات المتحدة، أو إفريقيا وفلسطين، وغير تلك البلدان. الخيار الرابع: هو فكرة الاستيطان، ودعم هذه الفكرة من قبل رجالات المال والأثرياء من اليهود مثل: البارون موريس دهرش، والبارون روتشيلد، والذي أنشأ الجمعية اليهودية للاستعمار، ولم تكن فلسطين هي المكان الوحيد المقترح، فقد فكروا في أمريكا، والبرازيل، والأرجنتين، والهند، وأفغانستان، وأوغندا، ومرشيوس. الخيار الخامس: وهو في رأي بعضهم بطبيعة الحال أن هناك من أراد البقاء في أوربا الشرقية، لذلك فقد رأوا من أن مصلحتهم في الانضمام إلى التيارات الثائرة متمردين على الفكر القومي اليهودي بالثورة، والمشاركة في الحركات الشعبية والسياسية والاقتصادية، ومن ثم الخروج عن هذه الحركات لاحقًا، وتحقيق أهدافهم، ووضع حد لمآسي اليهود بعد انتصار الدول التي ستساندهم من خلال دساتيرها التي أصلًا قد وضعها اليهود أو ساهموا في وضعها. الخيار السادس: وقد ارتأى بعض المفكرين القوميين منهم أن جميع الأفكار السابقة هي حلول غير مقبولة، لذا ركزوا على تنمية الوعي العرقي والثقافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 السياسي بين اليهود، وعادوا إلى تعاليم التوراة والتلمود لديهم، وأنشئت المعاهد والمدارس الخاصة الخفية لتدريس التعاليم التوراتية، والعودة إلى التمسك باليهودية، والعيش أينما كانوا مع التمسك بهذه التعاليم مهما كانت التكاليف والتضحيات، حتى لو تضمنت تقديم النفس والمال مع توجيه غير اليهود لخدمة مصالح اليهود. ويلاحظ في هذه الخيارات الستة التباين الكبير حيث لا يحتكم اليهود لمبدأ أساسي عام، ولكن فلسفتهم متأثرة حتمًا بالتجارب الشنيعة التي مروها بها خلال حقبات التاريخ هذه التجارب التي تحتوي على كمٍّ هائل من المتناقضات. فرغم المعاناة التي تظهر جلية في عقيدة اليهود، فإن الحقد والكراهية وبغض أي شيء أصبح ملازمًا للتفكير اليهودي، وبهذا لم يجد اليهود أي متنفس أو طريقة في تفريغ هذه الأحقاد عبر الكراهية إلى حد أن اليهودي أحيانًا يكره ذاته، وبني جنسه، ولكنه يستدرك ويعود إلى حنينه إذا تذكر دينه، وما كتاب التلمود إلا تعبير عن معاناة اليهود، وتعبير عن تضارب أفكارهم. وكذلك في هذه الخيارات الستة تبين أن الصهيونية هي حركة الشعب اليهودي في طريقه إلى فلسطين، وأن العودة إلى فلسطين في رأيهم يجب أن تسبقها عودة الشعب اليهودي إلى اليهودية، وأن الصهيونية لا تتركز، ولا يمكن تحديدها في تعريف أو وصف ذي قالب واحد، فهي مبدأ متغير حسب مصلحة معتنقيه، وبدون إطار ثابت، وجميع هذه التعاريف تدور حول الموضوع ذاته، وهو الشخصية اليهودية المتميزة عن باقي شخصيات شعوب العالم، ووضع الشعب اليهودي في مقدمة الشعوب، على الرغم من أن اليهودية دين لا يشكل شعبًا إلا أن اليهود يطلقون على أنفسهم الشعب اليهودي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فالدين لم يكن يعطي مفاهيم الشعب الكاملة؛ لذا فإنه من غير المنطقي الإقرار بأن اليهود شعب، لكنهم عبارة عن جماعات اعتنقت اليهودية، وانحدرت من شعوب أصول مختلفة، منهم السفرديم، وهم اليهود ذوو الأصول الشرقية كيهود المغرب، والعراق، واليمن، وإيران، ويهود فلسطين نفسها. وكذلك منهم الأشكناز وهم ذوو الأصول الأوروبية كالبولنديين، والروس، والنمساويين، وغيرهم ممن يدخل تصنيفهم في الفترة الحالية، ومنهم آخرين. قد رأت الصهيونية أن بإمكانها أن تخلق تجانسًا من هذه الفصائل المختلفة حتى في العقائد؛ لتكوين جماعة واحدة يمكنها فيما بعدُ أن تطلق عليهم شعبًا، وإن كان ذا أصول مختلفة وأعراق متعددة، حتى إن بعضه دخيل على اليهود، وما الأشكناز إلا أعراق غير يهودية عبرانية قد اعتنقت الديانة اليهودية في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، أي: قبل تسعمائة سنة تقريبًا، ولهذا فإن أفكار قادة الصهيونية آنذاك كانت منصبة على تحقيق هذه الوحدة، والعودة إلى اليهودية بأي طريقة ووسيلة، فبهذا يحققوا هدفهم مستفيدين من مبدئهم القائم على أن الغاية تبرر الوسيلة، وقد استمر الصهاينة في استعمال هذه القاعدة في جميع أعمالهم خلال مسيرة الصهيونية حتى يومنا هذا لتحقيق ما يهدفون إليه. مراحل الحركة الصهيونية فقد مرت الحركة الصهيونية في تاريخها بمراحل ثلاث: أولها: المرحلة التمهيدية، ثم مرحلة مؤتمر بازل في سويسرا، ثم مرحلة ما بعد مؤتمر بازل. ونبدأ بالحديث عن المرحلة الأولى وهي مرحلة ما قبل مؤتمر بازل، وتتمثل بظهور مفكرين وأدباء يهود ساهموا بكتاباتهم في إنضاج فكر هذه الحركة، ولقد ظهرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فكرة الصهيونية العالمية إلى الوجود في منتصف القرن التاسع عشر، وساهم في الدعوة إليها مفكرون يهود منهم: الحاخام يهودا القالي، والده زعيم روحي لليهود العرب في سيراجيفو، وقضى حياته في القدس، ثم أصبح حاخام سملين، ونشر في كتابه (اسمعي يا إسرائيل) اقتراحًا بإقامة مستعمرات يهودية في فلسطين؛ لتكون نواة للخلاص المنتظر. ولما كانت هذه الفكرة مخالفة لتعاليم الدين اليهودي قام بتبريرات لها فقال: بظهور المسيح الأول الذي يسبق المسيح المنتظر الذي يقود اليهود في حروب يأجوج ومأجوج لفتح فلسطين بحد السيف، وفي كتابه الثاني وضع أسس هذا الخلاص، والتي تتلخص في إقامة جمعية عامة كبرى، وصندوق قومي لشراء الأراضي، ودعا لجباية الضرائب من يهود العالم، وهذا ما تبناه هرتزل فيما بعد. وفي كتابه الثالث (الخلاص الثالث) شجع على كسب عطف السلطان العثماني ومحاولة الاستيطان الجماعي بقصد تعمير الأراضي الخراب، ودعا لإقامة شركات تأمين وسكك حديدية حتى نتوسل بقوتها إلى السلطان لاستعادة أراضي الأجداد. ومن هذه الشخصيات أيضًا الحاخام زفي هلش كلشر، وهو حاخام بولوني، واستلم حاخام تورن أربعين سنة، وانضم إلى جمعية الاستيطان اليهودي، وألف كتابه (السعي لصهيون) سنة ألف وثمانمائة واثنتان وستين، صور فيه بأسلوب الخداع حالات العذاب والتشرد والنفي التي يتعرض لها اليهود، ودعا للهجرة لفلسطين بقصد الخلاص، وقد استجاب لدعوته جماعة من اليهود اشتروا أرضًا في ضواحي يافا سنة ألف وثمانمائة وستة وستين، وأنشئوا مدرسة زراعية سموها ميكوه إسرائيل، ومعناها: أمل إسرائيل. وبتخطيط من الاتحاد الإسرائيلي العالمي الذي تشكل في باريس عام ألف وثمانمائة وستين، ثم أنشئت مستعمرة بتاح تيكي فاه، ومعناها بوابة الأمل، وتبعد عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 حيفا ثمانية أميال، ومنهم الحاخام موسي هس، وهو حاخام ألماني صهيوني من أب تاجر، وأم ابنة حاخام، قد درس العربية في كولونيا، والفلسفة والتاريخ، ودخل جامعة بون وتأثر بماركس الذي يدرس معه في نفس الجامعة، وعمل مراسلًا لصحيفة رنبشه المتطرفة، التي يرأس تحريرها ماركس، انفصل عن ماركس إثر صدور البيان الشيوعي لعدم انسجامه معه، وقد ألف هذا الحاخام موسي هس كتاب (روما والقدس) دعا فيه إلى قومية يهودية؛ لأن اليهود بنظره يعتبرون أجانب في البلاد التي يعيشون فيها، وقد دعا إلى اعتبار القدس مركزًا يهوديًّا كما تعتبر روما مركز الكنيسة المسيحية، كما يرى أنه لا مبرر لنزوح كافة اليهود لفلسطين، بل يكفي إقامة دولة يهودية في فلسطين، ويبقى معظم اليهود في أماكن استيطانهم؛ ليسيطروا على الفعاليات الاقتصادية والسياسية في دولهم لدعم الكيان الصهيوني. ومن الحاخامات أيضًا المؤسسة للفكر الصهيوني الحاخام، والمفكر بيير بتس وهو روائي وداع لإحياء الثقافة العبرية في روسيا، وقد دعا في كتابه (المتجول في سبيل الحياة) إلى الهجرة لفلسطين، وأن الهجرة إلى سواها إنما هو في نظره تشتيت جديد، ومنهم موشي لاب، وكان عضوًا في جمعية أحباء صهيون الروسية التي تعمل لتشجيع الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وكان من أنشط مؤيدي هرتزل، وشعاره ادفع كويك في الأسبوع للاستطيان في أرض إسرائيل. ومنهم يهوذا لايك وهو طبيب روسي وزعيم صهيوني نشر في كتابه (التحرير الذاتي) نداء يهودي روسي إلى بني قومه، ثم تصهين وعمل على توحيد الهيئات الصهيونية التي اتخذت مقرًّا لها في قرصوفيا، وانتخب هو نفسه رئيسًا لمجلسها الأعلى، ودعا في كتابه إلى قيام دولة إسرائيل بحجة أن العالم لا يحترم شعبًا لا أرض له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ثم هرتزل وهو تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية الحديثة، واسمه بنيامين زائيف هرتزل، وقد ولد سنة ألف وثمانمائة وستين في بودابست عاصمة المجر، ثم انتقل مع أسرته إلى فيينا، ومارس فيها المحاماة، وعين مراسلًا لصحيفة المرأة الجديدة بفرنسا، وبدأ يكتب عن المسألة اليهودية، وأخرج كتابًا بعنوان (الدولة اليهودية) محاولًا إيجاد حل عنصري للمسألة اليهودي، وفي سنة ألف وثمانمائة وسبعة وتسعين ترأس اجتماعًا للحركة الصهيونية في بازل، وألف كتابه الدولة اليهودية سنة ألف وثمانمائة وستة وتسعين طالب فيه بمنح أرض فلسطين لليهود واقترح أن ينفذ مشروع الدولة. أما الجمعيات التي أنشئت قبل مؤتمر بازل فهي جمعية رعاية الاستيطان اليهودي في فلسطين، وتأسست 1860 في فرانكفورت، وتهدف إلى جمع المال لشراء الأراضي، وتشجيع الاستيطان جمعية الألبانز الإسرائيلي العالمية، أو الاتحاد الإسرائيلي العالمي، وتأسست في فرنسا سنة ألف وثمانمائة وستين أيضًا، وأنشأت المدرسة الزراعية قرب حيفا، وجمعية أحباء صهيون وأنشئت بعد مصرع قيصر روسيا سنة ألف وثمانمائة وإحدى وثمانين حين اكتشف الروس خداع اليهود، وتعرفوا إلى أساليبهم في امتصاص أموالهم، فتحرك الشعب الروسي للانتقام منهم مما دفعهم إلى الهجرة، وتشكيل منظمة أحباء صهيون في روسيا في هذا العام، وتهدف إلى إنشاء المستعمرات في فلسطين وتهجير اليهود الروس إليها. والجمعية اليهودية للاستعمار، وجمعية كاديما وهي منظمة طلابية يهودية، وجمعية هالوكا في ألمانيا، وقد أنشئت لجمع التبرعات لمساعدة يهود ألمانيا وغيرها من الجمعيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 مرحلة مؤتمر بازل: وقد انعقد المؤتمر التأسيسي الأول للحركة الصهيونية في التاسع والعشرين من أغسطس سنة ألف وثمانمائة وسبعة وتسعين في بازل بسويسرا، واستطاع تيودور هرتزل أن يكون هو رئيس المؤتمر، والمؤتمرات الخمسة التي تلته حتى توفي. وبعد الترحيب بالمؤتمرين أُعلن أن أول نتائج هذا المؤتمر تحويل المسألة اليهودية إلى مسألة صهيونية، ودعا إلى كسب ثقة الحكومات في مساعدتهم لتوطين اليهود في فلسطين، وعارض مبدأ الهجرة الشاملة، وطالب بأن يبقى المنفذون في بلادهم التي استوطنوا فيها؛ لمساعدة الدولة المرتقبة فيما بعد، وقد اتخذ المؤتمر القرارات التالية: 1 - تشكيل لجنة عمل مهمتها تبني المفاوضات، وعقد الاتفاقات، وبذل المساعي لإقامة دولة صهيونية في فلسطين. 2 - تأليف بنك استعماري يهودي برأس مال مليون جنيه تحت تصرف لجنة العمل. أما المقررات السرية التي قررها مؤتمر بازل فهي: 1 - استعمال كافة الوسائل وتسخير الدول والشخصيات لإقامة دولة صهيون. 2 - ربط كافة الجمعيات اليهودية مع كافة المنظمات الدولية والسياسية لاستغلالها للغرض ذاته. 3 - التظاهر في المجتمعات التي تحتقر اليهود بالشخصية المسيحية مع الإيمان بأن المسيحية عدوة اليهودية. 4 - تدعيم العمل السري اليهودي في كافة أنحاء العالم حتى نتمكن من السيطرة على الدول الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 5 - السعي الحثيث لإضعاف الدول سياسيًّا بنقل أسرارها، وبذر بذور التفرقة والانشقاق بين حكامها. 6 - على اليهود اعتبار القطعان الأخرى قطعانًا من الماشية يجب خضوعها لحكام صهيون. 7 - اللجوء إلى التملق للحكام والتهديد واستخدام المال في إفساد الحكام والسيطرة عليهم. 8 - العمل على السيطرة على الذهب والاقتصاد العالمي بغية السيطرة على وسائل الإعلام والثقافة لإثارة الرأي العالم. كما تم الاتفاق على أن من يؤمن بالمبادئ التي وصفت في مؤتمر بازل يدفع اكتتابًا سنويًّا للمساهمة في بناء الدولة، وكتب مثلًا روتشيلد في صحيفته عن آثار مؤتمر بازل فقال: لو طُلب إلي أن ألخص أعمال مؤتمر بازل، فإني أقول بل أنادي على رءوس الأشهاد إنني أسست الدولة اليهودية. وقد عُقد المؤتمر الثاني في بازل في السنة التي تليها سنة ألف وثمانمائة وثمانية وتسعين، وأسفر عن إنشاء بنك رأسماله مليونا جنيه إسترليني، ثم عُقد المؤتمر الثالث في السنة التي تليها، والمؤتمر الرابع والمؤتمر الخامس والمؤتمر السادس والسابع، وهكذا. أنتقل للحديث عن مرحلة ما بعد المؤتمر التأسيسي، وقد تميزت هذه المرحلة بنشاط مكثف؛ لترسيخ الأسس النظرية للصهيونية العالمية، وتميزت بالنشاط الفعال لخدمة الأهداف التي تبناها المؤتمر، ونلاحظ في هذه المرحلة -مرحلة ما بعد المؤتمر التأسيسي- نشاطان: نشاط الأفراد، وقد نشط رجال الحركة الصهيونية على الصعيد العالمي؛ لتحقيق أهدافهم السرية منها والعلنية، وكان على رأسهم هرتزل الذي قابل الصدر الأعظم لشراء أرض فلسطين لقاء مبلغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 كبير من المال، كما قابل وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرن، كما زار روسيا القيصرية، وكان له أثر في اتفاقية سايكس بيكو سنة ألف وتسعمائة وستة عشر، والتي بموجبها تقاسموا الوطن العربي، وحصلوا على وعد بلفور سنة ألف وتسعمائة وسبعة عشر. وممن ساهم في هذا النشاط حاييم وايزمان وكون جوزيف، وجردبرج، وبتأثيرهم أقرت الولايات الأمم المتحدة صك الانتداب الإنجليزي على فلسطين، وعينوا هنبرت صموئيل الصهيوني أول مندوب سامي لهم في القدس؛ ليعمل على تحقيق وعد بلفور، ثم نشاط المنظمات؛ فالمؤتمر الصهيوني العالمي وهو الموجه الأعلى للمنظمة الصهيونية، ويتألف من أعضاء اللجنة التنفيذية للمجلس الصهيوني العام، ومن ممثلي المنظمات الصهيونية العالمية، ويُعقد كل أربع سنوات للإشراف على التوجيه، وينبثق عنه المجلس التنفيذي للمؤتمر، وهو مشرع الحركة، والمسئول عن تنفيذ قراراتها في القدس وخارجها، ويتألف من المكتب التنفيذ الصهيوني العالمي، ومن الوكالة اليهودية. ثم الوكالة اليهودية وهي المسئولة عن شئون يهود فلسطين، وهي قسمان: القسم الأمريكي وتأسس سنة ألف وتسعمائة وستين، وهو يعمل في فلسطين، والقسم الإسرائيلي والذي تأسس سنة ألف وتسعمائة وستة وستين، وهو يعمل في أمريكا لجمع التبرعات وكسب الأنصار، والذي نجم عنهما إدارة الوكالة اليهودية سنة ألف وتسعمائة واثنتان وعشرين، ثم الصناديق القومية وهي المسئولة عن الإعمار والاستعمار في فلسطين سنة ألف وتسعمائة وعشرين، ثم النداء اليهودي الموحد إتش إم من يهود أمريكا، ويقود حملة الوكالة اليهودية لدعم الاستيطان، وقد تأسس سنة ألف وتسعمائة وسبعة وعشرين، ثم الجمعية اليهودية العالمية، وهي التي تقف وراء جميع المنظمات لمدها بالمال وبالرجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ركائز الحركة الصهيونية العالمية، وأهدافها بدراسة الحركة الصهيونية العالمية ومخططاتها نلاحظ بأنها تقوم على اعتقاد الصهاينة بأربعة ركائز أساسية، يبنون عليها فلسفتهم: أول هذه الركائز: الروابط التاريخية والدينية القديمة التي تربط اليهود بأرض فلسطين، وتربط الصهاينة بصهيون. وثانيها: يتمثل بأن اليهود في شتى أنحاء العالم عنصرًا واحدًا ينتمي إلى أصل واحد مرجعه إلى فلسطين، ومن ثم يعتبر جميع يهود العالم أعضاء في جنسية واحدة هي الجنسية الإسرائيلية. وثالثها: أن الأرض الموعودة أو أرض الميعاد التي وعد بها إله إسرائيل الشعب الذي جعله شعبه المختار؛ لتكون لهم وطنًا وملكًا أبديًّا هي فلسطين، وما حولها من أراض تمتد من الفرات إلى النيل. ورابعها: أن الرب قد تعهد بأن يرقى بذرية إسرائيل في النهاية إلى السيادة على العالم، ولذلك ستكون فلسطين قاعدة إمبراطورية اليهودية العالمية المنشودة. وللتفصيل في تحليل وفحص هذه الركائز ودراستها يجب أن نناقش كل ركيزة على حدة، ونتساءل عن صحة الحق السياسي لليهود في فلسطين، وخاصة أنهم يدَّعون هذا الحق بهتانًا وزورًا، ولا تعكس الحقيقة؛ فالعرب الكنعانيون كان لهم الأسبقية للاستقرار والسكنى بفلسطين، وهم بها قبل اليهود منذ دهور طويلة من غابر الأزمان، وبشهادة التوراة نفسها، ففي التوراة تقول: جميع أراضي بني كنعان قد مرت هذه الأرض بفترات غزو وخضوع لمحتلين بحكم موقعها، وربطها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 بين الحضارات القديمة، وقد أتاها اليهود كغيرهم غزاة، ونزحوا إليها عابرين، وأقاموا بها فترة من الزمن، وأسسوا مملكتين زالتا كما زال غيرهما، ولم تعمران لزمن طويل، كذلك جاء الفرس والروم والصليبيين وغيرهم، ولم يدم بها مقام سوى لأهلها الأصليين وهم العرب الفلسطينيين، وقد بقيت فلسطين للعرب الذين سكنوها حتى يومنا الحاضر؛ لذا فحق اليهود فيها ليس له أي صحة، ولا يقوم عليه دليل، وهو ادعاء مبني على حنين إلى سراب في خيالهم؛ فهم يحاولون التدليس وإلباس هذا الخيال ثوب الشرعية، ولن يفلحوا؛ لأن زيفهم سينكشف عاجلًا أو لاحقًا. أما من ناحية انتماء اليهود في شتى أنحاء العالم إلى أصل واحد فإن هذه مغالطة بينة وواضحة، حيث إن إسرائيل وسكانها الحاليين لا يمثلون اليهود الذين يرجعون إلى أصل عبراني قديم ممن ينتمون إلى أسباط إسرائيل، وإن كان منهم السفرديم وهم أقلية بسيطة وُجدت وذابت في المجتمعات الشرقية في جميع الدول، وخلال جميع العصور؛ لذا فإن اليهود الأوربيين الغربين، أو ما يسمون بالأشكناز ليس لهم أي ارتباط تاريخي أو أي علاقة جذرية بفلسطين، وما يهود الأشكناز إلا يهود بلاد الخزر ممن اعتنق اليهودية إبان قيام مملكتهم في الأراضي الروسية، التي أطاحت بها الدولة القيصرية الروسية، وأبادت أي آمال لقيام أي دولة جديدة لهم، وتشتتوا في جميع أصقاع شرق أوربا، وهم ليسو من صلب إسرائيل كما يدَّعون، وليس لهم في الساميين من نسب أو انتماء. ومن ثم فإن اعتبار جميع يهود العالم أعضاء في جنسية واحدة، وهي الجنسية الإسرائيلية؛ هو كلام هراء ليس له أي قيمة تاريخية أو علمية، بالتالي فإن اليهود ليسو شعبًا، بل هم طائفة دينية تضم جماعات مختلفة من الناس يشتركون في دين واحد، وهذا هو كل ما يجمعهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 أما ما يختص بالوعود الإلهية لهم بالأرض الموعودة التي يزعمونها، ووعد إله اليهود بأن تكون إسرائيل قاعدة للإمبراطورية اليهودية العالمية المنشودة، فهو ضرب من الخيال، وكلام غير منطقي، وغير واقعي. أهداف الصهيونية: في أن الصهيونية أخطبوط كبير، فقد تعددت أطماعها وانتشرت في جميع الأرجاء، ولتحقيق وتمشيط هذه الأطماع والغايات والأهداف دفعت الصهيونية كل الطاقات المتواجدة لديها وسخرتها إضافة إلى كافة كوادرها، وشبابها، وأموالها، ومفكريها دفعت بكل ذلك إلى ساحة التخطيط والعمل، استطاعت بالجدية والصرامة، وبالتخطيط وإخلاص وقناعة العاملين بما ينفذون من مخططات استطاعت أن تحقق بعض هذه الأهداف المنشودة، والمرسومة بدقة. ويذكر أحد الباحثين مناقشة ومناظرة بين يهوديين: أحدهما: الصهيوني العالمي بلجمان سركين، والآخر: يهودي ناقد للصهيونية قبل إنشاء دولة إسرائيل. فقال الأول: حسنًا، دعنا نعقد اتفاقًا نقسم بموجبه كل شيء إلى قسمين، خذ أنت كل شيء موجود بالفعل، وأنا آخذ كل شيء ليس في الوجود بعد، مثلًا إسرائيل كدولة يهودية غير موجودة إنها حصتي، الشتات اليهودي موجود خذه أنت، اللغة الشرختية -وهي لغة الأشكناز- موجودة خذها لك، اللغة العبرية لا يتحدث بها الناس في حياتهم اليومية إنها من حصتي، كل ما هو واقع وحقيقي وملموس هو من نصيبك، وكل ما تعتبره أنت مجرد أحلام فليكن من نصيبي. وهذا يفسر مدى جديتهم وتفهمهم، بل واعتقادهم الجازم بهدفهم، فلم يكن نجاح الصهيونية بسبب جهل الأمم المستعمرة من قبل الصهيونية فحسب، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 لضعف إمكانيات هذه الشعوب، وللخطط الماكرة التي وضعتها الصهيونية، ولدقة التنفيذ الذي يجب أن نحسدهم عليه، ونحذو حذوهم، ونعمل باستراتيجياته، وقبل أن تنطلق الصهيونية في أعمالها، ومخططاتها، وضعت الوسائل العديدة؛ لبلوغ غاياتها؛ لأنه لم يخف على مفكري الصهيونية أنهم إن أرادوا لعملهم النجاح التام، ولأهدافهم أن تتحقق بدون تلكؤ أو عرقلة، فلا بد أن تكون هناك أهداف محددة، يسيرون عليها، ويتعاملون بها مع الشعوب المحيطة بهم. ويمكن تلخيص الأهداف الرئيسة للصهيونية في النقاط التالية: أولًا: الدعوة للصهيونية في حواضر العالم المتمدن، وخاصة بين رجال الحكم والساسة في الدول التي بيدها مقاليد حكم أغلبية الشعوب. ثانيًا: زرع الفكرة الصهيونية في أعماق الأفراد اليهود حيثما كانوا، وحملهم على اعتناقها والعمل بتحقيق أهدافها. ثالثًا: إغراء الدول العظمى التي بيدها الحل والربط والعقد أن تربط مصالحها بمصالح اليهود، وتوثق علاقتها بها، خاصة العلاقات الاقتصادية من خلال إقامة دولة في فلسطين، والتحدث مع كل دولة بما يتماشى مع أحلامها القريبة والبعيدة، ومساعدة هذه الدول فيما لا يتضارب مع مصالح اليهود ومخططاتهم. رابعًا: طمأنة العالم المسيحي على مستقبل الأماكن المقدسة بفلسطين، وإشاعة سوء استخدام العرب لها، وعدم اهتمامهم بها، وبالتالي دفع العالم، وخاصة المسيحي للتكالب عليهم، ومناصرة مطالبة اليهود بإقامة وطن لهم في فلسطين، وبمجرد الاطلاع على هذه الأهداف نجد أنها وُضعت بدقة؛ بحيث تضمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 هذه الجماعة من الصهاينة الدعم الشعبي من القاعدة العريضة من اليهود، والدعم العالمي من كبرى دول العالم وأصحاب النفوذ في العالم، ولأن الذهب كان وما يزال يتحكم في اقتصاد دول العالم، ويهم أصحاب النفوذ بأن يسيطروا ويتملكوا هذه المادة، فقد سيطر اليهود على اقتصاد العالم؛ لأنهم سعوا للسيطرة على الذهب والألماظ، والبترول، وكل ذي قيمة من مناجم وحقول، ونحوها من ثروات كموارد الأموال في العالم، وكل ذلك لتدعيم مصالحهم في التعامل مع دول العالم الكبرى، والتعامل مع الزعماء؛ لتحقيق أهداف الصهيونية لإنشاء دولة إسرائيل وتقويتها. فقد وضعت الصهيونية هذه الأهداف التي يمكن أن تصل بها إلى تحقيق غاياتها، فمثلًا الدعوة للصهيونية في حواضر العالم المتمدن عن طريق الإقناع، والإغراء بالنفوذ أو المال، أو بالأساليب المؤثرة على الشخصيات العالية والمهمة في الدول الرائدة بما يضمن حقهم سلميًّا، أو عن طريق ممارسة الضغط القهري؛ لتنفيذ مخططات الصهيونية مثلًا حاول هرتزل الحصول من السلطان عبد الحميد الثاني على التنازل للصهاينة عن فلسطين مقابل خمسة ملايين ليرة ذهبية عثمانية، وهذا المبلغ يوازي آنذاك مائة مليون وخمسين إسترليني، وقرض للدولة قيمته مائة مليون ليرة ذهبية عثمانية يسددها خلال مائة سنة بدون فائدة، وكان النائب اليهودي التركي قره صو هو وسيطهم إلى السلطان، وقدموا غير ذلك من الهبات والوعود، والدعم للدولة العثمانية، ورغم ذلك رفض هذا السلطان العثماني هذا العرض السخي والمغري. هكذا نرى أن الصهيونية ما أن تتمكن من فريسة تقع في فخها حتى تنقضَّ عليها، وتبقيها تحت سيطرتها، وفي النهاية تقتلها بعد أن تكون قد امتصت كل خيراتها لصالحها. وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 الدرس: 19 الصهيونية (2). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس التاسع عشر (الصهيونية (2)) وسائل الصهاينة لتحقيق أهدافهم على أشرف المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: يمكن أن نلخص هذه الوسائل بما يلي: أولًا: استخدام نفوذ الصهاينة المادي في اصطناع الأزمات المالية، وفي شراء الضمائر، وفي إنشاء الجمعيات السرية التي تحقق أغراضهم، وفي دعم مشاريعهم التوسعية، وجمعياتهم الإرهابية، وتشجيع الحركات القومية. وقد ورد في البروتوكول السادس من بروتوكولاتهم "سنشرع رأسًا في إقامة احتكارات ضخمة ومستودعات هائلة للثروة"، فمن الضروري في الوقت نفسه توسيع التجارة والصناعة بقوة وحيوية؛ ولا سيما المضاربة، والمضاربات هي التي تحول مالا بأسره إلى أيدينا، وآنذاك يحني الأغيار هاماتهم لنا طلبًا للحصول على حقهم في الحياة. وقد ورد في يوميات هرتزل في الصفحة التاسعة عشرة بعد الأربعمائة ما يلي: إن توسيع رأس المال الذي يخطط له الآن سيجعل من البنك اليهودي عاملًا له أهميته في العالم المالي، حتى تنمو الصهيونية؛ لتكون قوة حقيقية، وأشهر أغنياء العالم آل روتشيلد ويعقوب شيف الذي دعم الثورة الشيوعية ينتمون إلى الحركة الصهيونية. ثانيًا: استخدام العنف والإبادة مع خصومهم ظنًّا منهم بأن الإرهاب والعنف يعطي نتائج إيجابية، فلقد شكل الإرهابي مناحم بيجين حزبه الإرهابي أرجون زفاي ليومي منذ الأربعينيات، وقام هذا الحزب الإرهابي بدوره الهمجي في مذابح دير ياسين الشهيرة بوحشيتها في سنة 1948، كما قام في العصر الحديث بالتخطيط لمذابح صبرا وشاتيلا بمساعدة وزير حزبه الجنرال أرييل شارون، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 أن أسلوبهم الوحشي مع المجاهدين في الأرض المحتلة، وهدمهم البيوت، وتهجيرهم لأصحابها، وتنكيلهم بالمسالمين لم يعد خافيًا على أحد. ومن المؤسف أن يصبوا حقدهم في ذبح النساء والأطفال والشيوخ والمسالمين، فلقد عهد موشي ديان في أغسطس سنة ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسين إلى إرييل شارون بقيادة الوحدة 101 المكلفة بأعمال انتقامية ضد القرى العربية، ومما كتبه موسى شاريت في يومياته ما يلي: "كانت أول هجمة لشارون ورجاله على قرية قبية الفلسطينية بالأردن، وذلك في أكتوبر سنة 1954، وذبحوا ستة وستين من الأهالي، ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال"، وقال مراقبو الأمم المتحدة في تقريرهم لمجلس الأمن: "إنهم عندما وصلوا القرية بعد ساعتين من المذبحة رأوا جثثًا مثخنة بالرصاص، ورأوا آثار عدد كبير من الرصاص على الأبواب والنوافذ في البيوت التي هدمت، مما يدل على أن السكان قد حيل بينهم وبين مغادرة منازلهم، فبقوا فيها حتى لقوا حتفهم حتى أنقاض المنازل المنهارة". وذكرت صحيفة هاعولان ما يلي: "في حرب 1967 كان الجيش الذي هاجم سيناء تحت قيادة شارون هو المسئول شخصيًّا عن مصرع مئات من الجنود المصريين؛ إذ رفض اعتبارهم أسرى حرب خلال الأيام الأخيرة للحرب؛ لأن تعاليم ديان كانت تقضي بعدم الالتجاء إلى أسر الجنود المصريين في سيناء، وتأمر بإبادتهم، وحينما ظهرت فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين لم يتحمس معظم رجال الأعمال اليهود لهذا الأمر؛ لأنهم ليسوا على استعداد أن يضحوا بمكاسبهم المضمونة لقاء مستقبل مجهول، فما كان من عصابات الإجرام الصهيونية الهاجانة ودونزافي ليومي، وشتيرون، وغيرها إلا أن سارعت لتصفية اليهود المناهضين للصهيونية في المجر، وفي ألمانيا، وتشيكوسلوفاكيا، وبولندا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وحُملت ألمانيا النازية مسئولية هذه المذابح، وطالبت بالتعويض الباهظ عن هذا الإجرام؛ متهمة زعماء النازية بقتل خمسة وعشرين ألف شخص في معتقلات داخاو، وبقي هذا السر غامضًا حتى كشفه الكاتب السياسي الأرجنتيني زويلو سيزوريك بعد أربعين عامًا؛ حيث نشر هذا السر في مؤلفاته عن الصهيونية حين أقدم الكوماندوز الإسرائيلي على اختطاف إخيمان من الأرجنتين، وإعدامه في إسرائيل؛ لأنه الوحيد الذي يعرف أن العصابات اليهودية هي التي قامت بمجازر القضاء على اليهود الأوروبيين، الذين قاوموا الصهيونية، وبالقضاء عليه قضوا على الشاهد الوحيد الذي يدين الصهيونية، مع أن إخيمان كان من أصدقاء رولف كسنز زعيم الحزب الصهيوني، الذي رأسه بن جوريون وجولدا مائير، وتعاون مع المنظمة الصهيونية المجرية في إنقاذ اليهود الأثرياء، وأعضاء منظمة الشباب الصهيوني. ومن وسائلهم أيضًا ثالثًا: الهجرة والاستيطان وهو مطلب عندهم وطني لكافة الأحزاب الإسرائيلية، فبواسطته يزداد عدد اليهود في فلسطين كي يفوقوا عدد العرب الذي يتزايد بشكل ملفت للنظر ذلك بسبب ابتعادهم عن تحديد النسل، كما أن زيادة السكان اليهود يساعد على زيادة عدد الجيش الإسرائيلي، وأن اليهود القادمون من بلاد أوربا أكثرهم فنيون وتقنيون، فهم يساهمون في تطوير المهارات الفنية والتكنولوجيا فيها؛ لذلك عملوا بمخططات سرية رهيبة على هجرة اليهود السوفيت والأوربيين إلى إسرائيل، حتى وصل بهم الأمر إلى يهود أثيوبيا المتخلفين الذين هربوهم عن طريق السودان للاستفادة منهم في توفير اليد العاملة، والكوادر العسكرية القاتلة، فنشطوا في إنشاء المستوطنات الصهيونية على الرغم من معارضة الرأي العام الدولي حتى من أصدقائهم، بتدعيم من الجمعية الصهيونية الخاصة لإنشاء المستعمرات؛ لذا راحوا يسعون إليه بكافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 الوسائل المشروعة وغير المشروعة، وذلك بطرد المواطنين الذين يشتبهون في ولائهم لحركة المقاومة، وبهدم البيوت وباستملاك الأراضي باسم المصلحة العامة، ومضاعفة الأمن، وفرض الضرائب الباهظة التي ينوء بدفعها المواطن العربي في إسرائيل، مما يضطره لبيعها، هذا بالإضافة إلى إغرائهم بأبهظ الأثمان. رابعًا: من وسائلهم أيضا كسب الرأي العالمي عن طريقين، أولهما: السيطرة على وسائل الإعلام العالمية، وثانيهما: تسلل اليهود إلى المراكز السياسية الكبرى في الدول العظمى لتبرير مشاريعها بواسطتهم، ولا يخفى على القارئ الكريم والمستمع النابه أثر وسائل الإعلام في توجيه الرأي العام واستغلاله. أما أسلوبهم في ضمان تأثير هذه الصحف والمجلات: فهو ما حددته البروتوكولات بقولهم يجب ألا يرتاب الشعب أقل ريبة في هذه الإجراءات؛ لذلك فإن الصحف الدورية التي ننشرها ستظهر كأنها معارضة لنظراتنا، وآرائنا، فتوحي بذلك الثقة إلى القراء، وتعرض منظرًا جذابًا لأعدائنا الذين لا يرتابون فينا، وسيقعون في شراكنا، وسيكونون مجردين من الثقة. ولقد تبين من إحصاء أُجري عام ألف وتسعمائة وستة وخمسين أن اليهود الذين لا يتجاوز عددهم في العالم خمسة عشر مليونًا يصدرون ثمانمائة وتسعة وتسعين جريدة ومجلة يهودية في كافة لغات العالم منها، خمسين في انجلترا، وستة وثلاثين في فرنسا، هذا عدا عن الصحف التي تسيطر عليها الصهيونية بشكل أو بآخر في السر والعلن، وقد صرَّح أحد زعماء العرب أنهم سيرمون إسرائيل في البحر، فاستغل إعلامهم هذا التصريح، وراح يستعطف به الرأي العام العالمي وحكوماته المسيرة، فلاقى تحركهم الإعلامي دعمًا دوليًّا منقطع النظير لدولتهم الناشئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 أما تسللهم إلى مراكز قيادية في الدول العظمى: فقد منحهم في الماضي والحاضر فرصًا كبرى تمكنوا بسببها من تأسيس دولتهم، فوصول بلفور اليهودي إلى وزارة خارجية بريطانيا ساعد على إعطاء وعد بلفور، وعلى تعيين المندوب السامي البريطاني في فلسطين من اليهود؛ ليعمل على تسليمها لهم. أما نفوذ اليهود في أمريكا فهذا لا يحتاج إلى دليل؛ لأن المرشحين لمركز الرئاسة في أمريكا يتنافسون في خطب ودهم، والالتزام بدعم قضيتهم. أما في روسيا فيكفي أن نعلم أن الزعماء الخمسة الذين قاموا بالثورة البلشفية هم من اليهود، وهم لينين، وزينوفيف، وكارنيف، وتروتسكي، وباكوف، وسفرولوف، وغيرهم. شك البعض في يهودية لينين المتزوج من يهودية، وأول رئيس جمهورية سوفيتية كان يهوديًّا، وكذا الرئيس الثاني، ورئيس أركان الجيش السوفيتي الذي زار بعض دول المواجهة بعد حرب الأيام الست، وكان يهوديًّا؛ وبهذا ندرك الدور الخطير الذي يطلع به اليهود في تحقيق أغراضهم. ومما تقدم في عرضنا لهذه الوسائل نلاحظ ما يلي: أولًا: أن للصهيونية منظمات دولية يدين لها يهود العالم بالولاء تسهر على مصالح اليهود الأساسية، قد خططت لإقامة دولة إسرائيل ونجحت، وتعمل الآن على مساندتها وتقويتها، ويعمل بعض هذه المؤسسات في جمع التبرعات، والبعض الآخر في إنشاء المستوطنات، والبعض الثالث في الاتصال برجال السياسة والحكم، والبعض في الاقتصاد وهكذا يعمل الجميع بتخطيط وتنسيق. ثانيًا: إنشاء الأغنياء اليهود مصارف خاصة بهم، رصدوا أرباحها لتحقيق أهداف الصهيونية الاستعمارية التوسعية، فهل وصل أغنياؤنا وهم لا يقلون عن أغنياء اليهود إلى الحد الأدنى من التضحية؛ كي يقدموا جزءًا يسيرًا من فائض ثرواتهم التي ينفقونها في الترف وبطر المعيشة لتحرير بلاد العروبة والإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ثالثًا: لقد عملت وسائل الإعلام الصهيونية على تكوين الشخصية الصهيونية في كسب الرأي العام الدولي إلى جانب قضاياه المصيرية، فهل ساهمت وسائل الإعلام العربية والإسلامية في بناء الشخصية المسلمة المجاهدة، أم إنها تساهم في تمييعها دون أن تشعر، وتشغلها عن قضاياها المصيرية بقضايا الجنس والاهتمامات الأخرى. تلخيص لأفكار الصهيونية ومعتقداتها فكما قلنا: إن الصهيونية تستمد فكرها من الكتب المقدسة التي حرفها اليهود، وقد صاغوها في شكل البروتوكولات، وتعتبر الصهيونية جميع يهود العالم أعضاء في جنسية واحدة هي الجنسية الإسرائيلية، كما تهدف الصهيونية إلى سيطرة اليهود على العالم كما وعدهم إلههم يهوه، وتعد المنطلق لذلك هو إقامة حكومتهم على أرض الميعاد التي تمتد من نهر النيل إلى نهر الفرات، يعتقد اليهود كذلك أنهم هم العنصر الممتاز الذي يجب أن يسود، وكل الشعوب الأخرى خدم لهم. ويرون أن أقوم السبل لحكم العالم هو إقامة الحكم على أساس التخويف والعنف، ويدعون إلى تسخير الحرية السياسية من أجل السيطرة على الجماهير، ويقولون: يجب أن نعرف كيف نقدم لهم الطعم الذي يوقعهم في شباكنا، ويقولون: لقد انتهى العهد الذي كانت فيه السلطة للدين، والسلطة اليوم للذهب وحده، فلا بد من تجميعه في قبضتنا بكل وسيلة؛ لتسهل سيطرتنا على العالم، ويرى الصهاينة أن السياسة نقيض للأخلاق، ولا بد فيها من المكر والرياء. أما الفضائل والصدق فهي في عرف السياسة رذائل. ويقول الصهاينة: إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 لا بد من إغراق الأمميين في الرذائل بتدبيرنا عن طريق من نهيئهم لذلك من أساتذة وخدم، وحاضنات ونساء الملاهي، ويقولون: يجب أن نستخدم الرشوة والخديعة والخيانة دون تردد ما دامت تحقق أهدافها، ويقولون: يجب أن نعمل على بث الفزع الذي يضمن لنا الطاعة العمياء، ويكفي أن يشتهر عنا أننا أهل بأس شديد؛ ليذوب كل تمرد وعصيان. ويقولون: يجب أن ننادي بشعارات الحرية والمساواة والإخاء؛ لينخدع بها الناس، ويهتفوا بها، وينساقوا وراء ما نريد لهم، ويقولون: لا بد من تشييد أرستقراطية تقوم على المال الذي هو في يدنا، والعلم الذي اختص به علماؤنا، ويقولون: سنعمل على دفع الزعماء إلى قبضتنا، وسيكون تعيينهم في أيدينا، واختيارهم يكون حسب وفرة أنصبتهم من الأخلاق الدنيئة، وحب الزعامة، وقلة الخبرة، ويقولون: سنسيطر على الصحافة تلك القوة الفعالة التي توجه العالم نحو ما نريد، ومن أفكارهم أيضًا أنه لا بد من توزيع الشقة بين الحكام والشعوب، وبالعكس؛ ليصبح السلطان كالأعمى الذي فقد عصاه، ويلجأ إلينا لتثبيت كرسيه. ويقولون: لا بد من إشعال نار الخصومة الحاقدة بين كل القوى، لتتصارع وجعل السلطة هدفًا مقدسًا تتنافس كل القوى للوصول إليه، ولا بد من إشعال نار الحرب بين الدول؛ بل داخل كل دولة عند ذلك تضمحل القوى تسقط الحكومات، وتقوم حكومتنا العالمية على أنقاضها، ويقولون: سنتقدم إلى الشعوب الفقيرة المظلومة في زي محرريها ومنقذيها من الظلم، وندعوها إلى الانضمام إلى صفوف جنودنا من الاشتراكيين، والفوضويون، والشيوعيون، والماسونيين، وبسبب الجوع سنتحكم في الجماهير، ونستخدم سواعدهم لسحق كل من يعترض سبيلنا، ويقولون: لا بد أن نفتعل الأزمات الاقتصادية؛ لكي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 يخضع لنا الجميع بفضل الذهب الذي احتكرناه. ويقولون: إننا الآن بفضل وسائلنا الخفية في وضع منيع، بحيث إذا هاجمتنا دولة نهضت أخرى للدفاع عنا. ويقولون: إن كلمة الحرية تدفع الجماهير إلى الصراع مع الله ومقاومة سنته، فلنشعلها هي وأمثالها إلى أن تصبح السلطة في أيدينا. ويقولون: لا بد لنا أن نتبع كل الوسائل التي تتولى نقل أموال الأمميين من خزائهم إلى صنادقينا، ويقولون: سنعمل على إنشاء مجتمعات منحلة مجردة من الإنسانية والأخلاق، متحجرة المشاعر ناقمة أشد النقمة على الدين والسياسة؛ ليصبح رجاؤها الوحيد تحقيق الملذات المادية، وحينئذ يصبحون عاجزين عن أي مقاومة فيقعون تحت أيدينا صاغرين. ويقولون: سنقبض بأيدينا على كل مقاليد القوى نسيطر على جميع الوظائف تكون السياسة بأيدي رعايانا، وبذلك نستطيع في كل وقت بقوتنا محو كل معارضة مع أصحابها من الأمميين، ويقولون: يجب أن نسيطر على الصناعة والتجارة، ونعود الناس على البذخ والترف والانحلال، ونعمل على رفع الأجور، وتيسير القروض، ومضاعفة فوائدها عند ذلك سيخر الأمميون ساجدين بين أيدينا. ويقولون: سنولي عناية كبيرة بالرأي العام إلى أن نفقده القدرة على التفكير السليم، ونشغله حتى نجعله يعتقد أن شائعاتنا حقائق ثابتة، ونجعله غير قادر على التمييز بين الوعود الممكن إنجازها، والوعود الكاذبة؛ فلا بد أن نكون هيئات يشتغل أعضاؤها بإلقاء الخطب الرنانة التي تغدق الوعود، ولا بد أن نبث في الشعوب فكرة عدم فهمهم للسياسة، وخير لهم أن يدعو السياسة لأهلها، ويقولون: سنكثر من إشاعة المتناقضات، ونلهب الشهوات، ونؤجج العواط، ويقولون: سنستعين بالانقلابات والثورات كلما رأينا فائدة لذلك إلى غير ذلك من أهدافهم، وأفكارهم الكبيرة، والكثيرة، والمتعددة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 البروتوكولات: تعريفها وتاريخها ونشأتها وكيفية اكتشافها وكما قلنا: إن التوراة والتلمود تعتبران من المصادر القديمة للعقيدة والفكر اليهودي. أما البروتوكولات فهي المصدر الحديث الذي يعتمد عليه اليهود في العصر الحاضر، ويستمدون منه فكرهم وخططهم، والفرق بين التلمود والتوراة وبين البروتوكولات أن اليهود جعلوا هذه البروتوكولات مصدرًا سريًّا لا ينبغي لأحد أن يطلع عليه؛ بينما كانت التوراة والتلمود من المصادر العلنية التي يمكن لكل لأحد أن يطلع عليها. أيضًا هناك فرق: وهو أن اليهود يعترفون بالتوراة والتلمود كمصدر لهم، بينما لا يعترفون بالبروتوكولات حين اكتشفت رغمًا عنهم، وقد أعلنوا أنهم لا يعرفون عنها شيئًا ولكن الأحداث الجارية، وتفاصيل ما جاء بهذه البروتوكولات كانت تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه البروتوكولات يهودية صرفة، فلم تكن في واقع الأمر أكثر من تفصيل وتحليل لما ورد في تلمودهم الحقير، ومن هنا فإننا نضع البروتوكولات ضمن مصادر العقيدة اليهودية حتى ولو كان اليهود ينكرون صلتهم بها؛ لأنه لا يستطيع أي عاقل أن ينكر الصلة الوثيقة بين البروتوكولات وبين التلمود وكثير من نصوص التوراة المحرفة. سوف نبدأ بالحديث عن تعريف البروتوكولات وتاريخها، وبعض الأدلة الصحيحة على نسبتها لليهود، ثم نعرض لها بالتحليل والتوضيح بإيجاز؛ مبينين أهداف اليهود من هذه البروتوكولات وعلى ضوئها، وأساليبهم التي وضعوها في هذه البروتوكولات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 تعريف البروتوكولات: ومعنى كلمة بروتوكول في اللغة: القرار أو محضر الجلسة، أو المحاضرة، أو مسودة خطة العمل؛ فقد كانت هذه البروتوكولات عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها حكماء اليهود على أعضاء المؤتمرات اليهودية التي عقدها اليهود؛ لتجميع أنفسهم، ووضع خطة معينة للسيطرة على العالم. قد تحدثنا عن بعض هذه المؤتمرات في المحاضرة السابقة. وأما معنى كلمة بروتوكول في الاصطلاح: فهي المخطط التفصيلي للسيطرة على العالم بواسطة منظمة يهودية سرية بأساليب متنوعة. أما تاريخ هذه البروتوكولات: فيرى بعض الباحثين أن البداية الحقيقية لهذه البروتوكولات كان في مؤتمر بال في سويسرا؛ حيث عرضت هذه البروتوكولات على المؤتمرين في صورة قرارات سرية لم يعلن عنها المؤتمر، وقد سبق أن قلنا في المحاضرة السابقة: إن هذا المؤتمر قد انعقد في مدينة بال أو بازل في سويسرا سنة ألف وثمانمائة وسبعة وتسعين، ولكن عند التحقيق نلاحظ أن تاريخ هذه البروتوكولات أقدم بكثير من هذا التاريخ، فقد أشار السيد وليم غاي كار في كتابه (أحجار على رقعة الشطرنج) إلى موجز مختصر لهذه البروتوكولات، كان قد أعده رجل المال اليهودي ماير باور، الذي اتخذ لنفسه اسمًا آخر هو روتشيلد، ومعنى كلمة روتشيلد أي: الدرع الأحمر بالألمانية، هو رمز لعلم أحمر كان يعلقه الجد الأكبر، قد كتب ماير باور على باب دكانه الذي كان يمارس فيه الصرافة والربا، هذه العبارة، وعلق عليها العمل الأحمر، وقد اتخذت الثورات والفرنسية العمل الأحمر رمزًا لها. وقد جمع روتشيلد رجال المال اليهود، ووضع أمامهم خطة لإثارة الثورات في العالم، وحينما نقارن خطة روتشيلد بالبروتوكولات نلاحظ أنها صورة موجزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 منها: معروضة بنفس الترتيب، وبها تكرار بعض النصوص بعينها، مما يؤكد أن البروتوكولات ما هي إلا شرح وتوضيح لخطة روتشيلد، يقول وليم غاي كار: وأنا على اقتناع بأن الوثائق التي وُقعت سنة 1701 بحوزة البروفيسور تيروس الروسي، والتي نشرها في كتاب تحت عنوان (الخطر اليهودي) سنة 1905 في روسيا لم تكن إلا نسخة موسعة من المؤامرة الأصلية. وبعض الباحثين يرى أن البروتوكولات أقدم من هذا التاريخ بكثير، حتى أقدم من روتشيلد، وخاصة إذا عرفنا أن المحافل الماسونية يرتدُّ تاريخها إلى ما قبل ذلك بكثير، وأن هذه المحافل الماسونية هي التي صنعت الصهيونية، وهي التي خططت لها منذ القدم بحيث إننا نستطيع أن نقول: إن مؤتمر بازل المنعقد سنة 1867، أو مؤتمر روتشيلد المنعقد سنة 1773 لم يكون أكثر من نقطة الانتهاء. والإعلان عن الخطة الصهيونية التي بدأت سرية منذ أزمان بعيدة، ولا أدل على ذلك من أسلوب البروتوكولات، فكاتبها يتحدث دائمًا عن الخطة اليهودية بصفتها مخطط قديم بدءوا في تنفيذه، وأوشكوا على الانتهاء منه، وقد جاء في البروتوكول الثالث اليوم نستطيع أن نذكركم أننا قد أصبحنا قيد خطوات من هدفنا. ومن غير المعقول أن تكون هذه البروتوكولات موضوعة في مؤتمر بال سنة ألف وثمانمائة وسبعة وتسعين، وفي نفس الوقت وصلوا إلى تحقيق هدفهم، فهذا دليل على أنها موضوعة منذ زمن بعيد، وفي نص آخر يصرح كاتب البروتوكولات بأن الخطة اليهودية الموضوعة في البروتوكولات إنما هي نتاج عمل قرون ماضية؛ حيث يقول: وبين أيدينا خطة عليها خطٌّ استراتيجي موضح، وما كنا لننحرف عن هذا الخط، وإلا كنا ماضين في تحطيم عمل قرون فهذه النصوص تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن تاريخ وضع هذه البروتوكولات أقدم بكثير من الفروض التي أشار إليها الباحثون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وأنتقل الآن للحديث عن كيفية اكتشاف هذه البروتوكولات: فكما اختلف الكاتبون في تاريخ وضع هذه البروتوكولات اختلفوا أيضًا في تاريخ اكتشافها، وفي الطريقة التي ظهرت بها إلى العالم، وأقدم هذه الروايات ما يرويه وليم غاي كار في كتابه السالف الذكر (أحجار على رقعة الشطرنج) من أنه في سنة ألف وسبعمائة وخمسة وثمانين، كان أحد الفرسان يسير بجواده بين فرانكفورت وباريس حاملًا معلومات مفصلة حول الحركة الثورية عامة، وتعليمات خاصة حول الثورة الفرنسية، وكانت تلك التعليمات صادرة من اليهود في ألمانيا إلى رئيس المحفل الماسوني في فرنسا، قد أصيب ذلك الفارس بصاعقة قضت عليه، ووقعت الوثائق التي بحوزته في يد رجال الشرطة الذين سلموها بدورهم إلى السلطات المحلية في بافاريا. ويرى فراي أن تاريخ اكتشاف البروتوكولات سنة 1884 على يد الآنسة جستن جلنكا التي كانت تعمل جاسوسة لروسيا في باريس قد استطاعت أن تجند يهوديًّا يُدعى جوزيف جورست الذي عرض عليها ذات يوم أن يحصل لها على وثيقة ذات أهمية عظمى لروسيا نظير دفع مبلغ ألفان وخمسمائة فرنك، وما أن استلم المبلغ حتى سلمها الوثيقة، وقدمت الآنسة جلنكا الأصل الفرنسي من الخطة مترجمًا إلى الروسية للجنرال أدرجفسكي، الذي سلمها بدوره لرئيسه الجنرال جرفين؛ لنقلها إلى القيصر، ولكن جرفين بحكم ارتباطه بأثرياء اليهود رفض نقلها وحفظها في الأرشيف، إلا أن الآنسة جلنكا احتفظت لنفسها بنسخة سلمتها إلى أليكسس سختم حاكم مقاطعة أورل؛ فقام سختم بعرضها على صديقين له هما سبانتوف سبتانوف ونيلاس. أما الأول فقد قام بطبعها وتوزيعها على أخصائه، وأما الثاني وهو نيلاس فقد قرأها وقدر خطورتها على كل بني البشر، فقام بنشرها سنة 1901 في كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 بعنوان (العظام داخل الصغار)، في نفس الوقت أخرجها بوتني وهو صديق نيلاس، وأودع منها نسخة في المتحف البريطاني في أغسطس سنة 1906. وفي هذه الأثناء وعن طريق أفراد الشرطة الروسية حصلت الإدارة الروسية على محاضر جلسة مؤتمر بال، فوجدت أنها مطابقة تمامًا لبروتوكولات، وفي يناير سنة ألف وتسعمائة وسبعة عشر أعد نيلاس طبعة ثانية مدعمة بوثائق النشر، ولكن قبل طرحها في السوق قامت الثورة الروسية في مارس سنة 1917، وقام اليهود وأذنابهم بإتلاف طبعة الكتاب. وفي سنة 1924 اعتقل نيلاس وعُذب بواسطة أذناب اليهود، حيث قال له رئيس المحكمة اليهودي: إن هذه المعاملة قد فصلت عليك تفصيلًا؛ لأنك ألحقت بنا ضررًا جسيمًا بنشر البروتوكولات، ولكن أنقذت بعض نسخ من طبعة نيلاس الثانية، وأرسلت إلى دول أخرى؛ حيث نشرت في ألمانيا قد قام بنشرها جوانر يدستون في إنجلترا نشرها الصحفي الإنجليز فيكتور مارون، ثم تُرجمت بعد ذلك إلى معظم لغات العالم الذي اكتشف أخطر مؤامرة على حريته وأمنه. ومن هذه الترجمات الترجمة العربية التي قام بها الأستاذ محمد خليفة التونسي، الذي كان يلقب بالشهيد الحي؛ لجرأته على نشر هذه البروتوكولات، فقد كان اليهود يقومون بقتل كل من يحاول نشرها. أثر نشر البروتوكولات: وقد تسبب نشر هذه البروتوكولات في كشف أهداف اليهود وافتضاح نواياهم الخبيثة ضد كل بني الإنسانية، فعمت المذابح ضد اليهود الذين أنكروا صلتهم بها، ولم يصدقوا العالم إنكارهم؛ فقد كانت مؤامراتهم وصلت إلى حيز التنفيذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 العملي في العالم؛ فقد قارن نيلاس بين البروتوكولات وبين الأحداث الجارية في العالم، فتنبأ بكثير من النبوآت الخطيرة التي وقعت بعد سنوات قليلة، ومنها نبوأته بتحطيم القيصرية الروسية ونشر الشيوعية فيها على يد اليهود، وتوقعاته بسقوط الخلافة الإسلامية على يد اليهود كخطوة أولى قبل تأسيس دولة إسرائيل في فلسطين، ومنها نبوءته بقيام دولة اليهود في فلسطين، ومنها النبوءة بوقوع حرب عالمية يخسر فيها الغالب والمغلوب معًا، ولا يظفر بمغانمها إلا اليهود وهكذا لم يجدِ إنكار اليهود وادعاؤهم عدم المعرفة بها شيئًا، كما أن هذه البروتوكولات لم تكن إلا صورة أخرى من تعاليم التلمود اليهودي. كذلك دمغهم هنري كلين وهو محام يهودي مشهور حين أعلن بصراحة أن البروتوكولات هي الخطة التي وضعها اليهود للسيطرة على العالم، وأنه حين اعترض على اليهود طردوه من صفوفهم، وهكذا تتضافر الأدلة على صحة نسبة البروتوكولات إلى اليهود مما يكذبهم حين ينكرون صلتهم بها، لكن اليهود اتجهوا إلى أسلوب آخر غير أسلوب الإنكار، وهو أسلوب المواجهة السرية؛ فقد حاولوا مصادرة نسخ البروتوكولات حيث اشتروها من السوق، وأحرقوها قبل أن تصل إلى أيدي القراء، كما استعانوا بنفوذ بريطانيا التي ضغطت على روسيا؛ لإيقاف المذابح ضد اليهود، ومصادرة نسخ الكتاب رسميًّا لم تفلح هذه المحاولات، فقد ترجمت البروتوكولات بحمد الله إلى معظم اللغات العالمية، ولكن هنا سؤال ما مدى خطورة هذه البروتوكولات؟ هذا ما سنجيب عنه حين نتحدث عن عرض وتحليل لبعض هذه البروتوكولات، فيلاحظ أن البروتوكولات الموجودة الآن ليست هي كل ما وضعه اليهود، وإنما هي جزء من عمل أخطر، وللأسف إن بداية هذا العمل مفقودة، ولم تكتشف حتى الآن، وعلى أية حال فنحن لا نملك أكثر من العرض لما هو موجود بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 أيدينا الآن، ولعل الله يفضح اليهود، ويمكِّن العالم من اكتشاف كل مخططاتهم الشريرة. أما عدد البروتوكولات المكتشفة فهو أربعة وعشرون بروتوكولا مكتوبة بطريقة غير منظمة؛ حيث أن موضوعاتها متداخلة، فلم يتناول كاتبها كل موضوع على حدة، وإنما كان ينتقل في البروتوكول الواحد من موضوع إلى موضوع، وقد يكرر موضوع الواحد في أكثر من بروتوكول. وسنتحدث عن تحليل بعض هذه البروتوكولات من خلال طريقتين: من خلال عرض أهدافهم في البروتوكولات وأساليبهم التي وضعوها للوصول إلى أغراضهم؛ لأننا حينما نستخرج هذه الأهداف نوضح توضيحًا جليًّا خطتهم السرية -كما يقولون- لمعاملة الأمميين. أما هدفهم الأساسي من خلال تحليل هذه البروتوكولات، فهي محاولة السيطرة على العالم كله، وحكمه حكمًا خفيًّا أو ظاهريًّا بيد من حديد؛ بحيث لا تفلت من أيديهم أية حكومة في العالم، وهذا ما ورد في البروتوكول الخامس عشر، سنعمل كل ما في وسعنا لمنع المؤامرات التي تدبر ضدنا، حين نحصل نهائيًّا على السلطة متوسلين إليها بعدد من الانقلابات السياسية المفاجئة، سننظمها بحيث تحدث في وقت واحد في جميع الأقطار، سنقضي على السلطة بسرعة عند إعلان حكوماتها رسميًّا أنها عاجزة عن حكم الشعب، وقد تنقضي فترة طويلة من الزمن قبل أن يتحقق هذا، ربما تمتد هذه الفترة قرنًا كاملًا، ولكي نصل إلى منع المؤامرات ضدنا حين بلوغنا للسلطة سننفذ الإعدام بلا رحمة في كل من يشهر أسلحة ضد استقرار سلطتنا. أما الهدف الثاني الذي يظهر من خلال هذه البروتوكولات بعد الهدف الأول، وهو السيطرة على حكومات العالم، أو حكم العالم حكمًا علنيًّا أو خفيًّا، هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الهدف الثاني من أهدافهم هو السيطرة على الاقتصاد العالمي، فالمال والتجارة هما عصب الحياة، وهما أهم مصادر الرزق. قد أدرك اليهود هذه الحقائق، فاهتموا بالتجارة، وجمعوا المال، واتخذوا منه أسلوبًا، لا للربح الحلال بل للسيطرة، وطريقًا للتحكم في مقدرات العالم، وهذا ما يشير إليه البروتوكول الثامن بقوله: إننا سنحيط حكومتنا بجيش كامل من الاقتصاديين، وهذا هو السبب في أن علم الاقتصاد هو الموضوع الرئيسي الذي علمه اليهود، وسنكون محاطين بألوف من رجال البنوك وأصحاب الصناعات وأصحاب الملايين، وأمرهم لا يزال أعظم قدرًا، في الواقع أن كل شيء سوف يقرره المال. كذلك يشير البروتوكول الخامس إلى أن أهمية المال عند اليهود أعظم من أهمية تاج الملك فيقول: إن عجلات جهاز الدولة كلها تحركها قوة، وهذه القوة في أيدينا، وهي التي تسمى الذهب، وعلم الاقتصاد السياسي الذي محصه علماؤنا الفطاحل قد برهن على أن قوة رأس المال أعظم من مكانة التاج، ويجب الحصول على احتكار مطلق للصناعة والتجارة؛ ليكون رأس المال مجالًا حرًّا، وهذا ما نسعى لاستثماره فعلًا بيد خفية في جميع أنحاء العالم. ومن أهدافهم ووسائلهم أيضًا نشر الأدب المريض اللا أخلاقي، فهم يقولون في بروتوكولاتهم قد نشرنا في كل الدول الكبرى ذوات الزعامة أدبًا مريضًا قذرًا يغشي النفوس، وسنستمر فترة قصيرة بعد الاعتراف بحكمنا على تشجيع سيطرة مثل هذا الأدب. وهكذا يحاول اليهود شغل الناس عن الأديان بهذا الأدب الجنسي، إشاعة الفاحشة، والمجون، وشرب الخمر. فهم يقولون: ومن المسيحيين أناس قد أضلتهم الخمر، وانقلب شبابهم مجانين بالكلاسكيات، والمجون المبكر الذي أغراهم به وكلاؤنا ومعلمونا، وخدمنا، وكتبتنا، ونساؤنا في أماكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 لهوهم، ثم هدم الأسرة، وهم يقولون في بروتوكولات: إذا أوحينا إلى كل فرد فكرة أهميته الذاتية، فسوف ندمر الحياة الأسرية بين الأممين، ونفسد أهميتها التربوية، كذلك إنشاء الجمعيات الهدامة، والحط من كرامة رجال الدين، والقضاء على مراكز الدين المسيحي والإسلامي، والسيطرة على الصحافة العالمية، ودور النشر والتوزيع، ولهم في ذلك طرق كثيرة. حركة الصهيونية منذ وعد بلفور دخلت الصهيونية في دور العمل السياسي النافذ بعد وعد بلفور، وانتداب بريطانيا العظمى لإدارة فلسطين، ترجمة هذا الوعد: أن حكومة جلالته تنظر مع الموافقة إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي بفلسطين، وستبذل أفضل مساعيها؛ لتيسير الوصول إلى هذا المطلب، مع العلم بأنه لن يعمل شيء يمس الحقوق المدنية أو الدينية للطوائف التي تسكن فلسطين الآن من غير اليهود، أو يمس الوضع السياسي المخول لليهود في أي بلد آخر، ويخيل إلى بعضهم من اليهود ومن العرب أن هذا الوعد منتزع أو مغصوب بحكم الضرورات الحربية، ولكنه في الواقع جزء من سياسة عامة تتناول الشرق الأدنى برمته، ومنه فلسطين وسائر البلاد العربية. فهذا الوعد هو الجزء المقابل لوعود أخرى بذلت لأمراء في بلاد العرب التي خرجت من حكم الدولة العثمانية، ونرجع إلى أقوال زعماء اليهود بعد استقرار الانتداب البريطاني على فلسطين لنرى ماذا يقولون: فمثلًا يقول اللورد ملشت الصهيوني الإنجليزي: إن إقامة ثلاثة ملايين من اليهود في فلسطين سوف يقضي إلى الأبد على احتمال نجاح الثورة التي تهب على دولة الانتداب، وكان بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 جوريون رئيس الوكالة اليهودية يقول: من خان بريطانيا العظمى فقد خان الصهيونية. ومن الواجب على الدوام تذكر المناورات السياسية التي أدت إلى قيام الوطن القومي في فلسطين، فكل ما كان وليدًا لهذه المناورات قد يموت بها في يوم من الأيام، ولا سيما وليد التلفيق، أو وليد المفاجآت؛ فالواقع المحقق في مسألة الصهيونية أن اليهود يستغلون الدول، والدول تستغلهم. وهذا الواقع المحقق وحده هو الذي يقرر لنا أن العامل المهم في بقاء الصهيونية بفلسطين يتوقف على إرادة الأمم الإسلامية في نهاية المطاف، فلن تدوم الصهيونية في الشرق الأدنى إذا عملت أمة الإسلام على أن تموت هذه الصهيونية، وعملت على ألا تدوم. وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الدرس: 20 يهود الدونمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس العشرون (يهود الدونمة) أصل الدونمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: يهود الدونمة: إذا أردنا الحديث عن أصل الدونمة سنتحدث عن شخص يسمى "سباتاي زييفي"، وقد ولد "سباتاي زييفي" في يوليو سنة 1626 بمدينة أزمير التركية، من أبوين يهوديين مهاجرين من أسبانيا؛ إثر الاضطهاد الديني الذي عم اليهود هناك، وخضعوا في أسبانيا بشكل وحشي رهيب لمحاكم التفتيش التي أنشأتها الكنيسة الكاثوليكية، وكان والد "سباتاي" يدعى "مردخاي زييفي" وعرف بين الأتراك في أزمير بلقب مفتش الأسود، أما مقامه في أسبانيا فكان في جزر "المورا"، و"سباتاي" هو الابن الأصغر لـ "مردخاي" من بين ثلاثة إخوة، الذي يدعونا إلى الحديث عن هذا الشخص وذكر مولده وحياته ونشأته وبيان أصله ونسبه: هو أن جماعة الدونمة اشتهروا أيضًا باسم السباتائيين نسبة إليه، فهو رأس المذهب ومؤسسه وواضع قواعده ورسومه وأصوله وفروعه. وكان "سباتاي زييفي" شغوفًا منذ حداثة سنه بمطالعة الكتب الدينية، ذكيًّا نابهًا واعيًا متأثرًا بالأحداث والوقائع التي مر بها أهله وعشيرته، ما بين اضطهاد وهجرة وشقاء وعذاب، وراح "سباتاي زئيفي" يتردد على مجالس دروس الحاخام إسحاق دلبه وهو لما يبلغ الخامسة عشرة من عمره، وقد قرأ "سباتاي زئيفي" واستوعب التوراة والتلمود، كما برع في التفسير الإشاري، أي رموز وإشارات مضامين المعاني للكلمات، فكان يعطي فيها آراء وأقوالًا تدعو إلى الإعجاب من قومه وجماعته، وإقبالًا عليه وتقديرًا له، ولقد وصف على الإجمال بقول المؤرخين: إنه كان ذكيًّا مثقفًا وسيمًا جميلًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 اليهود والمسيح المنتظر المسيح أو مسيا كلمة عبرية تعني المخلص، وقد جاءت في التوراة دالة على اسم الشخص الذي سيرسله الله تعالى إلى بني إسرائيل ليخلصهم، وعندما بعث عيسى -عليه السلام- آمنت به طائفة وهم النصارى، وكفرت به طائفة وهم بنو إسرائيل الذين لا يزالون بانتظار مسيحهم أو مخلصهم، خلال محنة القرن السابع عشر التي تعرض لها اليهود في كل أنحاء أوربا -وخاصة في أسبانيا- أصبحوا في وضع سيئ للغاية لم يشهدوه من قبل على مر العصور، تيقظت في أوساط اليهود دعوى المسيح المنتظر لينقذهم مما هم فيه من العنت والعذاب والهوان والإبادة، وراجت في أذهان بعض الكهنة فكرة أن المسيح سيظهر عام 1648 على وجه التحديد. ولقد انتقلت عدوى هذه الأسطورة إلى نفوس بعض المسيحيين أنفسهم، فقالت طائفة منهم عن إيمان وقناعة بأن المسيح سيكون وسيظهر في سنة 1966، في هذه الأجواء السانحة والظروف المؤاتية كان على "سباتاي زئيفي" أن يتخذ سبيله حتمًا إلى ادعاء النبوة وهو الذي عرف بالذكاء والطموح، أضف إلى ذلك ما كان عليه من علم ومعرفة في الشئون الدينية، ثم اهتمامه الكبير بالرياضيات الروحية وإتقانه لها، وإدراكه لفن تحضير الأرواح، مما جعله قادرًا على الإتيان بأمور فيها شد واستحواذ على عقول البسطاء والسذج والطيبين، واتخذ قراره الكبير فراح "سباتاي زئيفي" يصوم كل يوم ويغتسل ويتطهر استعدادًا لليوم الموعود، بل وتقول بعض الروايات: إنه لم يباشر زوجتيه الأولتين وظل عزبًا، ولقد أوتي "سباتاي زئيفي" من سرعة البديهة والخاطر والمعرفة الشاملة لقواعد الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وأصوله والذكاء الحاد، ما أهله للتغلب على مناقشيه ومحدثيه، وتخريج بعض الأمور تخريجًا عجبًا وتفسيرها تفسيرًا غريبًا، حتى إنه -كما يقال- قد حرف بيتًا من الشعر يردده الكثيرون بما يتفق مع هواه. يقول البيت: "حبيبي يشبه الغزال"، فجعله "سباتاي" على النحو التالي: "ربي يشبه "سباتاي زئيفي". في سنة 1648 أشاع "سباتاي زئيفي" بين أصحابه المقربين أنه قد نبئ، فصدقوه واتبعوه ولم يجد عسرًا في ذلك حيث إنه قد هيأهم وعبأهم نفسيًّا لذلك ومهد لهم، لكن رئيس الحاخامات في أزمير "جوزيف إسكابا" مع طائفة من رجال الدين ثاروا عليه، ووقفوا في وجه زعمه وعقدوا له محكمة دينية، واتخذوا قرارًا بإعدامه وقتله، ولكن على غير طائل لأن قوانين البلاد لم تكن تسمح لهم بذلك، فأسقط في أيديهم وانكفئوا على نفوسهم يكتمونها ما في صدورهم من ثورة، وأتبع "سباتاي زئيفي" هذا الادعاء المزعوم بمنشور أو بيان وزعه على الناس وجاء فيه: سلام من ابن الله "سباتاي زئيفي"، مسيح إسرائيل ومخلصها إلى كل فرد من بني إسرائيل، لقد نلتم شرف معاصرة مخلص بني إسرائيل ومنقذهم، الذي بشر به أنبياؤنا وآباؤنا فعليكم أن تجعلوا أحزانكم أفراحًا وصيامكم إفطارًا ولهوًا، فلن تحزنوا بعد اليوم فأعلنوا عن فرحتكم بالطنبور والأرج والموسيقى، واشكروا الذي وعدكم فوفى بوعده وواظبوا على عبادتكم كما في السابق، أما أيام المصائب والمآتم فاجعلوها بسبب بعثتي أيام شكر ومسرة ولا تهابوا شيئًا، فإن حكمكم لن يقتصر على أمم الأرض بل سيتعداها إلى جميع المخلوقات في أعماق البحار، فكل هؤلاء مسخرون لكم ولرفاهيتكم، "سباتاي زئيفي". ووزع هذا الإعلان وقد كان هذا الإعلان المنشور -والذي سبقه- بمثابة التمهيد لليوم المنتظر سنة ألف وستمائة وستة وستين عند أكثر الناس، ولقد أدرك " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 سباتاي زئيفي" ضيق محيط بلدة أزمير وانحصار الأمر فيها، فارتحل إلى مدينة استانبول ونزل على أحد الحاخامين المنافقين أمثاله، فلقي منه كل ترحيب ومساعدة لكن دعوته وادعاءه النبوة لم تجد صداها المطلوب على الصعيد العام، فشد الرحال إلى أثينا ثم عاد إلى أزمير ومنها إلى استانبول، ثم كر راجعًا إلى أزمير سنة 1659، وأقام في بيت أبيه لا يأتي بأي عمل يشد إليه الناس أو يجلب الأنظار، قد يكون سبب ذلك ترقب عام 1666 العام الموعود، مضافًا إليه السلبية التي واجهها في رحلاته من طائفة الحاخامات والكهان، ولكنه لم يطق الانتظار فخرج إلى القدس سنة 1663 ومنها إلى القاهرة ثم عاد إلى القدس. وفي كلتي المدينتين لم يظهر شيئًا من دعواه المزعومة خوفًا على نفسه، إلا أنه عند مروره بغزة التقى هناك رجل يدعى إبراهام نطحان، فتعارفا وأظهر له "سباتاي زئيفي" مكنون فؤاده ونبوته فصدقه إبراهام، وتحمل تبعة التبشير له في محيطه وعلى غيره من الأصعدة، فكان إبراهام بهذا رسول "سباتاي" إلى الناس، ففكرة ظهور المسيح المنتظر أو المخلص والمنقذ كانت رائجة في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وكانت لها الريادة على عقول ونفوس المعاصرين، والهيمنة الكاملة على أكثر اليهود وبعض المسيحيين. وقد ظهرت فتاة يهودية من بولندا في بولونيا، هذه الفتاة جميلة وذكية ومغامرة وقالت بأنها رأت رؤيا. وهي عبارة عن نور سيسطع باهرًا في سنة 1666 من أزمير، وأنها ستكون زوجة لصاحب هذا النور، وقد قالت ذلك بعدما سمعت وترامى إلى أذنها نبأ "سباتاي زئيفي" وزعمه، وسرعان ما وصل علم ذلك إلى "سباتاي" فادعى هو بدوره رؤيا أخرى، بأنه أوحي إليه بالزواج من سارة الفتاة البولونية، ولاسم سارة رنين وجرس خاص في أحاسيس الشعب الإسرائيلي وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 أعماق وجدانه الديني، وتلاقى الدجل على الدجل والنفاق على النفاق، إذ كل من الطرفين -"سباتاي" وسارة- يريد المغنم من وراء دعواه، فأرسل "سباتاي" يستدعي إليه سارة وتم زواجهما في القاهرة، وانطلت الحيلة على فئة كبيرة من اليهود السذج البسطاء. وفي مطلع شهر سبتمبر سنة 1666 حط "سباتاي" رحاله في أزمير عائدًا إليها؛ لأنها منطلقه ومستقره فكانت بينه وبين الحاخامات معارك عنيفة، استطاع بعدها أن ينتصر عليهم ويؤلب حوله الدهماء من الناس والعديد من الأنصار، وأضحى يهود أزمير بأكثريتهم الساحقة طوع إرادته ورهن إشارته، وبدأت الوفود تأتيه من الخارج من رودس وأدرنه وصوفيا وألمانيا، وكان لقاء الناس معه في جو مشحون بالتقاليد الدينية المألوفة واستغراق في الانجذاب والأخذ، وأجريت له مراسيم لبس التاج وبدأ ينظم أموره وأمور أتباعه ومريديه وفق نظم وتقاليد جديدة؛ إذ يستقبل زواره بمواعيد ومراسيم معينة وكان -كما تروي المصادر التاريخية- على شغف خاص باستقبال زواره من النساء، وقسم "سباتاي" العالم حسب تعاليمه الجديدة إلى ثمان وثلاثين منطقة، وعين لكل منطقة منها ملكًا، كما فعلت الماسونية من بعد وكما تفعل أيضًا أندية الليونز والروتاري كما سبق الحديث عنها، كما غير بعض العادات والتقاليد اليهودية، وأيضًا كان يوقع رسائله إلى الخاصة والعامة بتوقيع ابن الله الأول والوحيد "سباتاي زئيفي". ولم تكن السلطة العثمانية حتى ذلك الحين لتعبأ أو تهتم بما يجري، وذلك يعود لسببين: الأول: هو التسامح الديني وحرية الاعتقاد واستقلالية الطائفة اليهودية بأمورها وشئونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 والثاني: هو انشغال الدولة العثمانية بحرب جزيرة كريت، وكان السلطان حينذاك هو السلطان محمد الرابع، ورئيس الوزراء هو -أو الصدر الأعظم كما يسمونه- هو فاضل أحمد باشا، غير أن بعض أركان الدولة حين رأوا أن أمر "سباتاي زئيفي" قد بدأ يتجاوز اليهود إلى غيرهم من الطوائف وفئات الشعب الأخرى، وأن الأمر الجديد الطارئ يشكل خطورة على الوضع الداخلي للدولة تنبهوا ونبهوا، وعرض قاضي أزمير على رئيس الوزراء ضرورة اعتقال "سباتاي زئيفي"؛ للحد من نشاطه وتقليم أظافره وحسم دعوته، فصدر الأمر بإلقاء القبض عليه واقتيد عن طريق البحر إلى العاصمة. في التحقيق أنكر "سباتاي زئيفي" كل ما أسند ونسب إليه من تهم، وهذا ما كان متوقعًا، فماذا كان ينتظر من منافق عليم اللسان مثل "سباتاي"، لكن الوقائع كانت دامغة فنال قسطًا من العذاب وأرسل إلى سجن زندان قابي، غير أن وفود الأتباع والأنصار والمريدين أخذت تؤم السجن للزيارة المسموح بها، فغصت بهم الأماكن وبدت إدارة السجن قاصرة عن استقبال الجموع، فشكت ذلك إلى السلطات العليا التي أمرت بنقله -أي "سباتاي زئيفي"- إلى سجن آخر هو شنق قلعة، وحيث ظهرت سارة من قبل في بولندا برؤياها المزعومة وصدقها الناس، خرج يهودي أو أفاق آخر جديد يدعى ناحيم كوهين، وكان حاخاما ذكيًّا مطلعًا هو الآخر ليزعم أنه هو الآخر المخلص المنتظر، وبأن الكتب المقدسة تبشر وتنبئ بمسيحيين لا بمسيح واحد، وقصد من ثم إلى معتقل "سباتاي" في شنق قلعة، وقابله وناقشه واختصم معه ثم عاد إلى قواعده ينفث سمومه ويبشر بدعوته. وكما كانت الوفود تأتي من قبل إلى زندان قابي -المعتقل الأول لـ"سباتاي"- أخذت من جديد تترى وتتتابع إلى شنق قلعة، وكان حراس السجن يغضون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الطرف عن هؤلاء الزائرين وجموعهم لقاء رشاوى يتقاضونها، وضاقت المدينة بالزائرين فنقصت المواد الغذائية وارتفعت الأسعار، وجأر أهل المدينة بالشكوى إلى السلطة ورفعت عريضة إلى القصر السلطاني العثماني، كما أن وشاية سعى بها المسيح الجديد المزعوم إلى المسئولين، تقول بأن "سباتاي زئيفي" يريد إنشاء دولة داخل الإمبراطورية العثمانية من وراء دعوته المزيفة، وإزاء كل ذلك وما يشكل من خطر على السلطة رأى المسئولون في الدولة أن يضعوا حدًّا نهائيًّا لهذه الظاهرة، فأمروا بنقل "سباتاي زئيفي" إلى قصر أدرنه لحسم الأمر، وظن الأتباع والمريدون أن فجرًا جديدًا سوف يبزغ عليهم، وأن سلطانهم سيعلو ورايتهم ستخفق، وأن معجزة المسيح المزعوم "سباتاي" سوف تقلب الأمر لصالحهم رأسًا على عقب. أول الدونمة سبق القول إن "سباتاي" نقل إلى أدرنه، وفي إحدى غرف قصر أدرنه جلس السلطان محمد الرابع يستمع إلى الحوار الذي كان يجري في غرفة مجاورة، بين مصطفى باشا القائم بأعمال رئيس الوزراء شيخ الإسلام يحيى أفندي منقري زاده، وإمام القصر محمد أفندي وائلي من جهة، و"سباتاي زئيفي" من جهة أخرى، وقد قيل لـ "سباتاي" عن طريق الترجمان: "تدعي أنك المسيح فأرنا معجزتك سنجردك من ثيابك ونجعلك هدفًا لسهام المهرة من رجالنا، فإن لم تغرز السهام في جسمك فسيقبل السلطان ادعاءك"، وقد أدرك "سباتاي" أبعاد الموقف وأخطاره والموت الذي يتربص به، وأن النهاية قد دنت إن هو استمر في أكذوبته، فترى ماذا يفعل وهو اليهودي الماكر المجبول على الغدر والمخاتلة والخداع؟!؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 لقد أنكر كل شيء وادعى أن المتقولين هم الذين رسموا صورته وزيفوا عليه أقواله، فأمر السلطان محمد الرابع -الذي كان يسمع الحوار- بعرض الإسلام على "سباتاي زئيفي" كما تقضي قواعد الشرع الحنيف، فرأى "سباتاي" أو المسيح المزيف أنه أصبح بين خطر الموت أو الإسلام، فآثر بدهاء اليهودي وحرصه على الحياة أن يفتدي إمبراطوريته الوهمية بدخوله في الإسلام ظاهرًا، ويتسمى باسم محمد عزيز أفندي وينجو بجلده من الموت، وبهذا كان "سباتاي زئيفي" هو أول شخص في تاريخ الإمبراطورية العثمانية وفي العالم من الدونمة، وهو مؤسس هذه الطائفة. وقد جاء في كتاب (التاريخ السياسي للدولة العلية) في فصل دور السلطان محمد الرابع تحت عنوان: يهودي يدعي أنه المسيح: أنه في سنة 1666 للميلاد قام حاخام يهودي يدعى "سباتاي زئيفي" يزعم أنه هو المسيح، وكان لبياناته وهو في زيارة القدس أثر في اضطراب وقلق اليهود المقيمين في أوربا، ووردت أخبار بعض الحاخامين في تأييده وبعضهم في معارضته، فجيء به إلى دار السعادة استانبول وأودع السجن ثم سيق إلى سجن القلعة السلطانية، ثم إن رجلًا آخر يهوديًّا ادعى بمثل ما ادعى به سابقه، وأتى إلى قصر القائم بأعمال رئيس الوزراء وذكر زيف ادعاء "سباتاي زئيفي"، فجيء به -أي بـ "سباتاي"- واستخدم في أعمال البستنة في القصر بعد أن أعلن إسلامه، وخلال عشر سنوات من الزمان دخل كثير من أتباعه دين الإسلام، ثم إنه حدث أن أعلن أحد أبناء شيوخ الأكراد أنه المهدي المنتظر، فجيء به فرجع عما كان ادعاه من قبل، وأجاب جوابًا صحيحًا لكل سؤال وجه إليه فعين رئيسا داخليا للخزينة الهميونية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وجاء أيضًا في (تاريخ راشد) وهو كتاب مخطوط في وقائع سنة 1666 ما يوافق هذا الكلام، وانتقل "سباتاي زئيفي" إلى دور جديد وخطير، فقد عين محمد أفندي عزيز -"سباتاي زئيفي" سابقًا- رئيسًا للآذنين وهم الحجاب فانتشر خبر تعيينه وإسلامه بين أتباعه فالتزموا بيوتهم ودورهم، أما الحاخامون من اليهود المعارضين له فقد فرحوا كثيرًا لتخلصهم منه ومن دعوته، لكن "سباتاي" أرسل إلى مريديه تعميمًا يقول فيه: "لقد جعلني الله مسلمًا أنا أخوكم محمد البواب هكذا أمرني فامتثلت، لقد ذكرت الكتب اليهودية المقدسة بأن المسيح سيتبع من قبل المسلمين"، وأعلمهم بأنه سيستمر في أداء رسالته ومهمته بالتكيف مع الوضع الجديد، يفسر أخوه هذه الحالة فيقول: "إن الجسم القديم لـ "سباتاي" قد صعد إلى السماء، فعاد بأمر من الله تعالى في شكل ملاك يلبس الجبة والعمامة ليكمل رسالة المسيح". وتقدم "سباتاي" محمد أفندي عزيز إلى المفتي يطلب السماح له بدعوة اليهود إلى الإسلام، وكانت هذه خطته الأولى. ولما حصل على ما أراد استأنف دعوته السابقة، مستهدفًا تأسيس مذهبه الجديد المسلم في الظاهر اليهودي في الباطن، فجاءه الأتباع من كل مكان في الدولة العلية وغيرها، ولبسوا الجبب والعمائم على صورة خاصة، فأطلق الأتراك عليهم اسم الدونمة، وتركت لهم الدولة حرية الحركة والعمل، فقد ترك لـ "سباتاي" حرية التجول والدعوة، وضمن لنفسه عدم الشبهة، وانصرف إلى تنظيم وتقنين ورسم معالم مذهبه الجديد، وجمع كل ذلك في وثائق، وما يهمنا من هذه الوثيقة المادتان السادسة عشرة والسابعة عشرة، وهذا نصهما؛ المادة السادسة عشرة: يجب أن تطبق عادات الأتراك المسلمين بدقة لصرف أنظارهم عنكم، ويجب ألا يشعر أحد من الأتباع تضايقه من صيام رمضان ومن الأضحية، ويجب أن ينفذ كل شيء يجب تنفيذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أمام الملأ. أما المادة السابعة عشرة فيقول: "إن مناكحتهم -أي المسلمين- ممنوعة قطعًا". وعلم المسئولون بأن "سباتاي" يجمع أنصاره على طقوس وعبادات وعقائد خاصة، فانكشف زيفه وعلموا أن إسلامه إنما كان تكأة، فقبض عليه ونفي إلى برات في ألبانيا مع بعض أتباعه، وبقي هناك خمس سنوات تزوج خلالها من امرأة يهودية من سلانيه اسمها "بوهيفيد"، فأسماها عائشة بعد أن ماتت زوجته الأولى سارة، ثم مات هو في الثلاثين من سبتمبر سنة 1675 للميلاد، وقد ناهز التاسعة والأربعين عامًا ودفن على ضفة نهر هناك. استمرار الدونمة وفرقهم لم تنتهِ دعوة "سباتاي زئيفي" بموته، فقد كان بعض أتباعه القياديين على استعداد لمتابعة العمل والمسيرة، منهم عبد الغفور أفندي واسمه الحقيقي "جوزيف بيلوسوف"، وهو والد زوجته "يوهيفيد"، ومنهم عبد الله يعقوب جلبي واسمه الحقيقي "جوزيف كيريدو" أخو زوجته، واستقر الاثنان في "سيلانيك" وجمعا حولهما كل الأنصار والأتباع في محاولة للمحافظة على وحدة الجماعة وتماسكها، ولم يكتف الدونمة بالتميز عن الناس من كل الأديان والمذاهب بعقيدتهم فقط، بل صاروا أيضًا يعرفون بأزيائهم، فنساؤهم ينتعلن الأحذية الصفراء ورجالهم يضعون على رؤوسهم قبعات صوفية بيضاء، لفت عليها عمائم خضر، وكانوا يقبلون في الأعياد فقط مع الجماعة ولا يصومون ولا يهتمون بالاغتسال. وبهذا كانوا يراعون تمامًا ما ذكره لهم "سباتاي" في وثيقته لهم، ولم يبقَ الدونمة على وحدتهم وتماسكهم بعد موت "سباتاي زئيفي"، بل إنهم تفتتوا إلى شراذم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 ومذاهب وطرق، فلقد تولى يعقوب جلبي رئاسة الدونمة في "سيلانيك" بعد موت "سباتاي"، وكان قد أخذ منه الوعد بالخلافة على رئاسة الجماعة وهو على فراش المرض، ونظم يعقوب هذا عقائد الأتباع وطقوسهم ورتب أمورهم، وطلب مثل "سباتاي" مراعاة عادات المسلمين الظاهرة، غير أن فرقة منهم لم توافق على ذلك، واجتمع أفرادها تحت زعامة رجل منهم يدعى مصطفى جلبي، وبهذا كان أول انقسام في طائفة الدونمة، فسميت الأولى فرقة يعقوب جلبي باسم اليعقوبيين، وفرقة مصطفى جلبي باسم القراقاشي أو حزب عثمان بابا، وكان ذلك بعد مرور أربعة عشر عامًا على موت "سباتاي زئيفي" المؤسس. وفي سنة ألف وسبعمائة وعشرين للميلاد حصل انشقاق آخر داخل طائفة القراقاش نفسها، وانفصلت عنهم جماعة برئاسة إبراهيم أغا أحد رؤسائهم وعرفوا باسم البابو، وهذه الفئات أو الطوائف الثلاث لا تتزاوج مع أتباع الأديان الأخرى ولا تناكح بعضها أيضًا، فلا يستطيع الفرد منهم التعرف إلى حياة الطائفة الخاصة إلا بعد الزواج. بعض تقاليد الدونمة وعاداتهم، وأثرهم وخطرهم، والانتشار ومواقع النفوذ، ودورهم في هدم الخلافة الإسلامية بعض تقاليد الدونمة وعاداتهم: من تقاليد الدونمة وعاداتهم وليمة الخروف، فللدونمة أعياد كثيرة تزيد على العشرين، يحتفل بأهمها في اليوم الأول من فصل الربيع الثاني والعشرين من شهر مارس، وقد كتب أحدهم -وهو رشدي قراقاش زاده- موضحًا بعض مراسم هذا العيد فقال: "يحتفل بعيد الخروف في الثاني والعشرين من شهر مارس وهو عيد ليلي، حيث يؤكل لحم الخروف لأول مرة من عام جديد وذلك بمراسم خاصة، حيث تقتضي العادة أن يوجد في الحفلة الواحدة رجلان وامرأتان على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 أقل تقدير، ويمكن أن يزيد العدد بشرط أن يكون الجنسان متساويين أي مع كل رجل امرأته زوجته، حيث ترتدي المرأة أفخر الثياب وتتزين بأثمن الحلي، وتقوم بتهيئة الطعام على المائدة، وبعد الطعام يبدأ اللهو وفي فترة من فتراته تطفأ الأنوار ويبقى الجميع في ظلام دامس، ويعتبر كل مولود يولد بسبب تلك الليلة مولودًا مباركًا". ونشرت مجلة الدنيا المصورة التركية مقالًا عن هذا العيد ومراسمه وطقوسه قال فيه صاحبه: أعتقد أن الاحتفال بإطفاء الأنوار ما يزال من العادات المتبعة لدى القراقاش، وأغلب ظني أن العائلة التي أنا فرد منها كانت إلى عهد قريب تمارس هذه العادة، ولم أشترك في أي احتفال كهذا بسبب كوني عازبًا، وكلما أظهرت رغبتي في حضور الاحتفال دفعوني وقالوا: إن هذا الاحتفال للمتزوجين فقط. وذكر البروفيسور "إبراهام جلنتي" في كتابه (وثائق عن عادات ومنظمات السباتاي الدونمة): "إن عادة إطفاء الأنوار عادة قديمة قدم العصور، أخذها السباتائيون كما أخذها النصيريون عن الأمم الغابرة"، كما نشرت جريدة المساء التركية خبرًا عن مراسلها في قرعش يقول فيه: "ألقت سلطات الأمن على جماعة من الرجال والنساء يمارسون عادة إطفاء الشموع وضبطتهم بالجرم المشهود، كما عثرت في الغرفة المجاورة بصالة الاحتفال على بعض الآلات الموسيقية". ونشر علاء الدين غوسا خمس مقالات هامة في جريدة الأيام السبعة، وقد جاء في هذه المقالات: "كنت مديرًا لمدرسة تابعة لسباتائيي الدونمة بقرية مكري، وكان طباخ المدرسة سباتائيًّا أمرته في أحد أيام الربيع أن يطبخ لنا لحم خروف فرفض، فشكوته إلى الهيئة الإدارية فلم أفلح في شكواي، ولم أتمكن من إطعام أحد لحم خروف قبل أوانه أي في الثاني والعشرين من مارس". ومن عاداتهم أيضًا المراوغة والدهاء، فقد جاء في العدد رقم 116 لجريدة الدنيا المصورة عن الدونمة السيلانيك: أنهم يعيشون بين ظهرانينا ويتكلمون بلغتنا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 يحسون في الظاهر بإحساسنا لكنهم في الحقيقة يأخذون الحيطة تجاه الأتراك، لا يناكحون إلا من كان منهم، يحيون حياة خاصة بهم من المهد إلى اللحد في أعراسهم ومآتمهم، وفي كل صفحة من صفحات عيشهم الاجتماعية منها والعائلية، فهل تعرف حقيقتهم؟! إن منهم أذكياء ورجال فكر جديرين بالتقدير خاصة في المجالات الاقتصادية والتجارية، وأثرهم في ذلك لا يمكن إنكاره أبدًا وعلى الأخص في استانبول وأزمير، وفي تركيا لا تزال بعض عادات الدونمة حية، فقد جاء في كتاب (وثائق عن عادات ومنظمات السباتاي): "لا تزال بعض العادات عند الدونمة متبعة ومعمولا بها ومنها: أولًا: عادة ذبح الخروف وأكل لحمه في اليوم الأول من السنة اليهودية، وهي ذكرى فداء إسحاق على حد زعمهم. ثانيًا: عادة حلق الشعور بالموسي لدى اليعقوبيين، وهي إحدى طوائفهم -كما سبق القول، وحلق الشعور بالموسي للرجال وتجديل الشعور إلى ضفائر رفيعة للنساء. ثالثًا: لكل فرد منهم اسم آخر يهودي. رابعًا: الالتحاء سمة من سماتهم. خامسًا: لا يؤكل لحم الخروف في أول كل سنة يهودية إلا بعد إجراء الطقوس الخاصة بذلك اليوم، ومن يأكله في غير أوانه يكون معرضًا لعقوبة الموت طوال ذلك العام. سادسًا: لا يجوز لأي واحد من الدونمة إنشاء علاقات جنسية مع امرأة ليست من الدونمة، ومن يفعل ذلك يكون من أهل النار. سابعًا: لا يجوز للدونمة المبادرة إلى أداء التحية لغيرهم. ثامنًا: الذهاب إلى ساحل البحر أو إلى ضفة النهر -أي بحر أو نهر- والقيام بالنداء التالي: "سباتاي زئيفي" نحن بانتظارك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أثر الدونمة وخطرهم: والأهم من ذلك هو خطر الدونمة وتأثيرهم ومدى التغيير الانقلابي الذي أحدثوه في المجتمع التركي، وانعكاسات ذلك على العالم الإسلامي: فقد كان للدونمة أثر كبير في الإضرار بالعالم الإسلامي في السلوك الاجتماعي والأخلاقي والحضاري؛ إذ أسهموا إسهامًا مباشرًا في كل ما من شأنه هدم القيم الإسلامية لدى المجتمع، وتخريب الخلق والسلوك لدى المسلمين، فلقد كان ميل الشباب المسلم إلى التخلق بالعادات والتقاليد الغربية، واعتبارهم الإلحاد موضة عصرية مع انتشار الماسونية والفوضوية واحتقار الشعور الوطني، كل ذلك كان من عمل الدونمة. فلقد هاجموا أولًا وبعنف حجاب المرأة المسلمة، ودعوا إلى السفور والتحلل من خلال الصحف التي وثبوا عليها وامتطوا أعنتها، وألهبوا ظهور الناس بسياط ألسنتهم المشرعة، بدعوى التحضر ومواكبة روح العصر، ثم دعوا إلى التعليم المختلط في الجامعات والمدارس، ففي التدريس المختلط يزول الحياء من وجه الشباب وقلوبهم وتنعدم البراءة في الأسر الإسلامية، وبدأت السخرية اللاذعة تظهر في المقالات المسلسلة لتنال من بعض تقاليد وعادات المجتمع الإسلامي، وزادوا من حدة دعاياتهم فنشروا الرسائل والكتب الكثيرة التي تتضمن الهجوم السافر أحيانًا، والمبطن أحيانًا أخرى، فكانت كمعاول هدم لا تنفك ضرباتها تتلاحق وتتتابع لتقوض الصرح الكبير. ولم يجرؤ واحد من الناس في ذلك الحين على التعرض لهؤلاء في أية صحيفة أو مجلة؛ لأنها كانت أكثر الصحف والمجلات مملوكة لهم. وثانيًا: لأن سرعان ما يتقدم أصحاب الجرائد والمجلات بالشكاوى إلى أقطاب الدولة؛ ليصار إلى مصادرة الردود المعارضة لهم والتنكيل بأصحابها، وأقطاب الدولة هؤلاء هم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الاتحاديون جماعة الاتحاد والترقي، الذين كان أكثرهم من الدونمة أو من تلاميذهم وحملة آرائهم والمنفذين لمخططاتهم، فمن الهدم الاجتماعي إلى الهدم السياسي للدولة العثمانية وكيانها؛ لأن كلا من السبيلين كان الدونمة يعملون في آن معًا على ولوجهما؛ بقصد الوصول إلى الهدف الكبير البعيد والقضاء على الإسلام، ومن المعروف تاريخيا أن كبار رجال الدولة في تركيا -من جمعية الاتحاد والترقي- كانوا على علاقات متينة بالدونمة في سيلانيك، يعتقدون اجتماعاتهم المشتركة في المحافل الماسونية هناك. واستطاع اليهود والدونمة والماسون وآخرون لهم مطامع في البلاد العثمانية أن يؤثروا في عقول الشباب المثقف، ويسخرونهم لخدمة مطامعهم وأغراضهم عن علم أو جهل. وخلاصة القول أنهم قادوا الجانب الأكبر من ثورة تركيا الفتاة ثورة الدستور، التي تحققت على يد مدحت باشا أبو الدستور العثماني كما قيل في حينه، هذه الثورة التي قام بها أساسًا اليهود الدونمة الذين أظهروا الإسلام، لكنهم ظلوا في الحقيقة يصارعون الإسلام، وبقيت علاقاتهم تقتصر على الأعمال الظاهرة فقط، هؤلاء الدونمة الذين لبسوا زي المسلمين زورًا وظلوا يهودًا في الحقيقة ومسلمين في الظاهر، كان لهم نصيب في مقدرات الشعب التركي وتطوره إلى الوضع الحالي. ومن كتابات الاتحاديين ومذكراتهم نستطيع أن نتبين مقدار تأثير الدونمة على تحريك رياح الأحداث والتحكم في اتجاهاتها، فمثلًا نجد في مذكرات غالب باشا -الذي كان المفتش العام لقوات الدرك في استانبول- فبالنسبة لأحداث واحد وثلاثين من مارس المؤسفة التي انتهت بخلع السلطان عبد الحميد يذكر غالب باشا أنه خشي أن يناله سوء من العصاة فيعتصم بداره، وفي اليوم الرابع من بدء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 العصيان يمم وجهه شطر مخازن آل السلتلكي؛ إحدى أسر الدونمة التي لها باع طويل في مجال الإعلام حاليًّا. ويقول: "لم أستطع مغادرة بيتي حتى يوم السبت الرابع من إبريل، ولم أتمكن من الحصول على أية معلومات صحيحة عما يحدث. وفي الأيام الأربعة التي قضيتها في البيت كانت مملة ومحزنة، أما الصحف فكانت تزيد المرء كدرًا على كدر"، ويقول: "خرجت في اليوم الرابع من داري وعبرت إلى الجهة الغربية من استانبول، ومررت بطريقي إلى مخازن آل إبكجي التجارية فشعرت بأن رجلًا ذا لحية جعداء يتعقبني، حيث كانت هذه المخازن تحت المراقبة الدائمة". وكتب غيره مثل هذا الكلام، وهذا يدل على ما نقوله دائمًا عن علاقة الدونمة بالاتحاد والترقي، فمدحت باشا الذي ورد ذكره قد أصبح رأس السلطة في يوم من الأيام، وهو واحد من أولئك اليهود روجت له الدعاية الماسونية في أنحاء الشرق العربي والغربي على أنه البطل العظيم، حامل لواء الإصلاح والحرية في السلطنة العثمانية، وسمته أبا الدستور وسخرت له أبواب الدعاية من صحف ومجلات وإذاعات، فوصل بذلك إلى أعلى الرتب منها باشوية سوريا والعراق، ومنصب الصدر الأعظم الذي يعتبر أكبر الرتب في السلطة العثمانية، ثم بعد ذلك بدأ يدس ويخرب كما تملي عليه يهوديته وماسونيته. والانتشار ومواقع النفوذ: غالبية الدونمة العظمى توجد الآن في تركيا، ولا يزالون إلى الآن يملكون في تركيا وسائل السيطرة على الإعلام والاقتصاد، ولهم مناصب حساسة جدًّا في الحكومة، وكانوا -كما قلنا- وراء تكوين جماعة الاتحاد والترقي التي كان جل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 أعضائها منهم، كما ساهموا من موقعهم هذا في علمنة تركيا المسلمة، وسخروا كثيرًا من شباب المسلمين المخدوعين لخدمة أغراضهم التدميرية. دور يهود الدونمة في هدم الخلافة الإسلامية: إن مدحت باشا تنقل في حكم ولايات عثمانية عديدة منها سوريا، ثم دبر مؤامرة خلع السلطان عبد العزيز، ثم دبر مؤامرة اغتياله بعد ستة أيام من خلعه، ومدحت باشا هو ابن حاخام مجري اشتهر بالمكر والخداع والدهاء، ووصل إلى أعلى مناصب الدولة ليكون أقوى يهودي يتمكن من بذر الفتن في الدولة العثمانية، متظاهرًا بالإسلام مبطنًا يهوديته الحاقدة الماكرة، ونجح يهود الدونمة بمساعدة محافل الماسون في تكوين جمعية تركيا الفتاة، التي كان مدحت باشا نفسه أول مؤسسيها. تفرع عن تركيا الفتاة حزب أو جمعية سموها الاتحاد والترقي، حملت شعار الحرية والإخاء والمساواة الذي نقلته عن باريس، وهو شعار الثورة الفرنسية التي دبرها الماسون كذلك، وقامت تنظيمات الاتحاد والترقي على غرار جمعية الكربوناري الإيطالية الإجرامية، التي شكلها الماسون في أوائل القرن التاسع عشر، ومن الجمعيات التي أوجدها اليهود في تركيا البكتاشية التي كانت في ظاهرها إحدى الطرق الصوفية، وفي حقيقتها فرقة باطنية تسير حسب خطط اليهودية العالمية والماسونية. وهكذا نرى دور يهود الدونمة في القضاء على الخلافة الإسلامية، وعزل السلطان عبد الحميد عن الخلافة العثمانية، إذ إنهم حينما أدركوا ثبات السلطان عبد الحميد في وجه أطماعهم زادوا من تآمرهم لإسقاطه، استعانوا بالقوى الشريرة التي نذرت نفسها لتمزيق ديار الإسلام، وأهمها الماسونية والجمعيات السرية، ونقل هذا عن مصطفى كمال في كتبه وغيرها. وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 الدرس: 21 الأصولية الإنجيلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الحادي والعشرون (الأصولية الإنجيلية) تعريف الأصولية الإنجيلية الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخاتم النبيين، سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: الأصولية الإنجيلية: الأصولية حركة فكرية بروتستانتية ظهرت في الغرب في القرن التاسع عشر الميلادي، بعد مؤتمر "نياجرا" عام 1895؛ لتحيي من جديد أفكار أصحاب عقيدة المجيء الثاني للمسيح، مجيئًا حقيقيًّا حرفيًّا. قد ظهرت لهؤلاء كتيبات بعنوان (الأصوليات) دعوا فيها إلى التمسك بالتعاليم الدينية القديمة، كما دعوا إلى القول بألوهية المسيح وعصمة الكتاب المقدس عن الخطأ، ووجوب الأخذ به حرفيًّا وولادته -عليه الصلاة والسلام- من مريم، كما دعوا إلى الفدية عن الأعمال المنكرة، ودعوا إلى الإيمان بقيامة المسيح من بين الأموات بجسمه وعودة تجسده ثانيًا، بالإضافة إلى رفض كل النظريات العلمية الحديثة في علم اللاهوت، وكذلك الدراسات التي تنتقضه أو تناقض ما فيه، ولذلك عرفت بمذهب العصمة الحرفية، كما ترفض الأصولية فكرة الفصل بين الدين والدولة، مما أدى إلى زيادة اهتمامها بالجانب السياسي والسعي إلى تكوين الأحزاب السياسية؛ للوصول إلى السلطة بغية سن القوانين والشرائع المؤيدة لمذهبهم. ويمكن أيضًا إضافة اعتقادهم بالنبوءات الإنجيلية التي تقود -حسب اعتقادهم- إلى استيلاء اليهود على فلسطين والقدس، شرطا للعودة الثانية للمسيح، وبذلك تتعارض الأصولية مع الليبرالية أو الحداثة التي تسعى إلى قراءة النص وتفسيره على حسب الواقع، وللأصولية في الغرب تنظيماتها ومؤسساتها ووسائل إعلامها القوية التي تدعو إلى مبادئها. ومن أشهر مؤتمراتها ما عقد في سنة 1985 في مدينة "بال" بسويسرا، وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية المركز الرئيس للاتجاهات الأصولية الإنجيلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 تاريخ الأصولية الإنجيلية تاريخ الأصولية الإنجيلية -والبعض يسميها الصهيونية المسيحية-: ترجع بذور هذه الأصولية إلى فكر وعقائد طرحتها حركة الإصلاح الديني البروتستانتي في القرن السادس عشر، في عدد من الدول الأنجلوسكسونية، حيث رأت هذه الحركة أن التوراة هي كلمة الله المعصومة، ورأت في النبوءات والأساطير التوراتية قانونا وتاريخا، وجعلت من مجمل العهد القديم مرشدا لحياة الناس الدينية والزمنية بما فيها الأدبية والثقافية والفنية، وتحول العديد من البروتستانت في القرن السابع عشر إلى اليهودية، واعتبرت حركة الإصلاح الديني بمنزلة بعث يهودي، وبخاصة بعدما ركزت اهتمامها وأولوياتها على ما يعرف بالتوراة، وهي سجل لتاريخ أنبياء بني إسرائيل وملوكهم وقادتهم وعباداتهم وأشعارهم والأساطير التي حيكت حولهم وتقاليدهم. ولعل هذا التحول الديني كان من أبرز التحولات في تاريخ الأفكار والعقائد التي عرفتها البشرية عقب انتهاء القرون الوسطى، فأوربا كانت في حالة عداء نفسي وعملي لليهود قبل ولادة حركة الإصلاح الديني، وتأسست فيها عقيدة ضد اليهود تؤدي مباشرة إلى إيذاء اليهودي بدنيًّا، على اعتبار أن اليهود رفضوا رسالة المسيح -عليه السلام- وأن أجيالًا يهودية توالت بعد ذلك على المنهج نفسه، ومن ثم يجب أن يعاقبوا على جريمة ما يسمى بصلب المسيح. وكانت أوربا قد شهدت خلال القرن الثاني عشر عمليات ذبح جماعية لليهود في فرنسا وانجلترا وألمانيا، وبخاصة في مطلع تسيير الحملات الصليبية إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فلسطين، وذلك تنفيذا لقول اليهود في محاكمة المسيح: دمه علينا وعلى أولادنا طلبًا للغفران قبل تحرير القدس، وكانت صورة اليهودي قرب نهاية القرون الوسطى لا تظهر في الرسوم والحكايات الشعبية إلا على صورة إنسان نجس وخاطئ، وعلى شكل بومة أو أفعى، كما ظهرت صورة اليهودي التائه صاحب الأنف المقوس والرجل الهرم ذي اللحية، والملامح العابسة والكريهة. واعتادت الجماعات اليهودية حياة الاضطهاد فمالت إلى العزلة، وأدى هذا الوضع إلى بروز ظاهرة الجيتو في أواخر القرن الخامس عشر، حيث تم وضع اليهود داخل أحياء منفصلة تحاط بها أسوار مرتفعة، ولها بوابتان يقف عليها حرس مسيحي وتغلق أبوابه في المساء، وكانت الجماعات اليهودية تتعرض للثورات الشعبية في أثناء حدوث أزمات أو انتشار مرض معين. مثل: الطاعون أو الموت الأسود، حيث كان يلقى باللوم على اليهود، توجه إليهم تهمة نشر الوباء، ولعل كل هذا الاضطهاد هو الذي شكل العمق التاريخي للموقف الفكري والسياسي لحركة النازية الألمانية تجاه اليهود في القرن العشرين، وهكذا عرفت أوربا سلسلة دامية من الأحداث والصراعات واضطهاد اليهود طوال القرون الوسطى. وقد طرد اليهود من انجلترا في نهاية القرن الثالث عشر وحتى نهاية القرن السادس عشر، ولم تكن تسمح السلطات الإنجليزية لأعضاء الجماعات اليهودية بتولي المناصب في مجالس البلديات، أو في الوظائف المدنية، ولم يصل إلى البرلمان الإنجليزي عضو يهودي واحد حتى سنة 1858، قد كان أول وزير يهودي إنجليزي هو "هربرت صموئيل" سنة 1904، وكذلك الحال في روسيا حيث لم يسمح لليهود بدخول المدارس الروسية، ولم يسمح لهم بالعمل في حقل المحاماة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وكذلك الحال في فرنسا، وعانى اليهود العزل والقتل والتمييز لأسباب متعددة من بينها: عوامل دينية كمسألة صلب أو قتل المسيح، وعوامل اقتصادية مرتبطة بالوظيفة الربوية للجماعات اليهودية. وبانتهاء العصور الوسطى وقبل مطلع القرن السادس عشر شهد التاريخ أحداثًا فاصلة مثل: فتح القسطنطينية واختراع الطباعة وسقوط الحكم العربي الإسلامي في الأندلس، واكتشاف أمريكا وغيرها، وكانت أوربا حتى ذلك الوقت تدين بالكاثوليكية، لكن بحلول القرن السادس عشر بدأ الكثيرون يضيقون بسلطة البابا، وظهر "مارتن لوثر" متحديًا دور هذه الكنيسة؛ لاحتكارها تفسير الكتب الدينية المسيحية ولمسائل بيع صكوك الغفران للناس، وانتشرت دعوة "مارتن لوثر" وكثر أتباعه في أجزاء كثيرة من أوربا، وصار من حق كل مسيحي قادر أن يقرأ التوراة والأناجيل وأن يفسرها، وترجمت للغات مختلفة بعد أن كانت حكرا على اللاتينية والإغريقية. وما يهمنا في هذه الحركة الكنسية الجديدة أنها اهتمت بالعهد القديم، الذي صار المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، وفتحت الباب أمام تفسيرات وتأويلات وبدع في اللاهوت المسيحي، وأمست معتقدات يهود العهد القديم وأرض فلسطين أمورًا مقبولة في الفكر والثقافة والفنون الغربية، وصارت قصص التوراة مألوفة كالخبز ترددها العامة والنخب عن ظهر قلب، وصار المسيح نفسه واحدا من الأنبياء العبرانيين، وحل قادة وأبطال التوراة محل القديسين الكاثوليك، كل ذلك يتم في جو استرجاعي قوي إلى عقيدة عودة المسيح الثانية، والتركيز على دور اليهود في هذه العودة، وكون اليهود مجرد أداة للخلاص وبوابة حتمية لانتشار المسيحية، ومن ثم تحولت فلسطين في الأذهان إلى أرض موعودة للشعب اليهودي المختار، وبات الربط بين الأرض واليهود يرد في الطقوس والشعائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 الدينية، وجردت فلسطين من دلالتها المسيحية بعد أن كانت أرض المسيح المقدسة، ومن أجلها كانت الحملات الصليبية، لكنها الآن تحولت إلى وطن لأجل اليهود الذين تشكل عودتهم إليها المقدمة الحتمية لعودة المسيح المنتظر. وتعتبر مسألة المجيء الثاني للمسيح من الأركان الأساسية للإيمان المسيحي، ومن أهم موضوعات الإنجيل، ولا يخلو سفر من أسفاره من الحديث عن المجيء الثاني للمسيح، وكل مسيحي العالم تقريبًا يؤمنون بهذه المسألة، إلا أن الاختلاف يقع في كيفية وتفاصيل هذا المجيء، وقد نجحت الصهيونية في إقناع بعض المسيحيين بأن إنشاء إسرائيل هي علامة من علامات المجيء الثاني، وأن عودة المسيح سوف تكون بصورة عنيفة وقوية؛ ليقف مع إسرائيل في مواجهة قوى الشر في العالم، التي يهزمها في موقعة دموية قاسية، وبهذا الانتصار على القوى الشريرة يقوم المسيح بعد ذلك بحكم العالم لمدة ألف عام. وقد ظهر هذا الإيمان في تاريخ الفكر المسيحي اللاهوتي من خلال عدة نظريات، جاءت جميعها مبنية على تفسير ما جاء في سفر الرؤيا -وهو آخر أسفار العهد الجديد- وفيه يروي يوحنا حلمه الذي رآه حول مستقبل العالم؛ حيث رأى ملاكًا نازلًا من السماء يقبض على إبليس ويقيده بسلسلة عظيمة لمدة ألف عام؛ لكي لا يضل أحدًا، ثم متى تمت الألف عام حل إبليس من قيده ليضل الأمم ويجمع يأجوج ومأجوج، الذين عددهم مثل مدد البحر؛ ليحاصروا معسكر القديسين والمدينة المحبوبة، عندها ينزل الله نارًا من السماء لتأكلهم وإبليس والنبي الكذاب المسمى بالمسيح الدجال. وقد انقسم المسيحيون حول تفسير هذه الرؤية إلى فرق عديدة، من بينها فريق يرى أن المسيح سوف يأتي إثر حدوث اضطراب شديد في الأرض، كالحروب والمجاعات والزلازل ويسمونها الضيقة العظيمة، وحينما يأتي المسيح تقوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الأموات المؤمنون به من القبور، وتتحول أجساد المؤمنين الأحياء إلى أجساد سماوية، والكل سوف يخطف لملاقاة المسيح في الهواء، ثم بعد ذلك ينزلون معه إلى الأرض، فيتم تقييد إبليس وينتهي حكم المعادين للمسيح على الأرض، ويعود اليهود بشكل جماعي إلى المسيح ويؤمنون به ويعترفون بخطاياهم، وعندئذ يبدأ حكم المسيح على الأرض لمدة ألف عام، ويكون المسيح مرئيًّا وحرفيًّا ويسود العدل والسلام كل الدنيا، وتتحول الطبيعة الشريرة في كل المخلوقات إلى طبيعة خيرة. وباقتراب نهاية الألف عام يحل إبليس من قيوده ويخرج ليضل الأمم مرة ثانية، ويجمع كل الأمم معه للمعركة الأخيرة ضد المسيح، وبخاصة منهم يأجوج ويفسرونها بملك روسيا، ومأجوج ويفسرونها بملك تركيا أو المسلمين والصين، يقودهم للهجوم على معسكر القديسين الذي يضم المسيح وشعبه في القدس، وتقع معركة "هرمجدون" ولكن تأتي فجأة نار من السماء وتبيدهم ويلقى بإبليس في جهنم إلى الأبد. وانتشرت هذه النظرية بقوة في القرن الرابع الميلادي، ثم عادت إلى الظهور في القرن السادس عشر وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ولاسيما أثناء الثورة الفرنسية. وهكذا بدأت ظاهرة الصهيونية المسيحية أو الأصولية الإنجيلية، وفي صلبها مسألة دور اليهود في الخطة الإلهية للعودة الثانية للمسيح، والتي تتطلب جمع اليهود في الأرض الموعودة فلسطين، واستعادة المدينة المحبوبة كما ورد في التوراة أي القدس، وبناء الهيكل مما يهيئ المسرح لمعركة "هرمجدون" بين الخير والشر، ليأتي المسيح ثانية وينتصر الخير ويقيم مملكة الألف عام السعيدة، وفقًا لهذا الإيمان الأصولي المسيحي البروتستانتي والمرتبط بالتفسير الحرفي لكل عبارات العهد القديم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وقد لاقت هذه الحركة ترحيبًا واسعًا بين اليهود، باعتبار أنها قسمت أعداء اليهود، لكن أتباع "مارتن لوثر" هاجموا اليهود بسبب إعلانهم أن التلمود يعطي تفسيرًا أفضل من تفسير "لوثر" للكتاب المقدس، ورفضهم الدعوة للعودة إلى المسيحية، فقام اللوثريون بطرد اليهود من المدن الألمانية والإنجليزية، وواصلوا العمليات التبشيرية بين اليهود، وفي الوقت نفسه كانوا يؤسسون لأطروحة استرجاع اليهود إلى فلسطين؛ إعدادا للخلاص اليهودي ثم الخلاص اللاهوتي. واعتبرت المسيحية التقليدية أن ما ورد في العهد القديم إنما هو أحداث وقعت في الماضي، أو نبوءات تم تحققها، وأن ما جاء في العهد الجديد هو ثورة على العهد القديم، وفقًا لما جاء في إنجيل يوحنا: لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم، ورأت أن كل القصص التي رواها العهد القديم هي رموز لحالات روحية وأخلاقية، كما تؤمن المسيحية التقليدية بأن إبراهيم -عليه السلام- عندما أخذ الوعد من الله بالأرض لم يفهمه على أنه تصريح له من الله بسرقة الأرض من مالكها، حتى لو كانت الأرض هبة من الله فهي مشروطة بطاعة الواهب، كما ترى أيضًا أن العهد مرتبط بتحقيق وصايا الله وطاعته، وليس رفض حكمه، وأن أرض الميعاد الحقيقية عند المسيح هي الأرض كلها وكل أرض يتحقق فيها وعد الله. وهذا هو رأي المسيحية التقليدية الذي تخالف فيه الأصولية الإنجيلية، لكن هذه العقيدة -عقيدة الأصولية الإنجيلية- بعثت من جديد في القرن السادس عشر، وصارت فكرة محورية في عقول وإيمان معظم الكنائس البروتستنتية، شكلت مسألة عودة المسيح الثانية أبرز تجليات هذه العقيدة، أما اليهود في هذه العقيدة فهم يشكلون محورها وبشارتها، وهم شعب الله المختار القديم والذي يفترض تواصله في الماضي والحاضر والمستقبل، وأن أرض فلسطين هي أرض اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 التي وعدهم الإله بها، واعتبار أن وعد الله لا يسقط بالتقادم ولا يتراجع، حتى وإن رفض اليهود المسيح؛ ولذا فإن كل من يعارض اليهود أو يقف في وجه عودتهم إلى فلسطين يعتبر من أعداء الله وأعداء المسيح، والمحور الأساسي في هذا كله يدور حول الشروط التي يجب توافرها لتحقيق العصر الألفي السعيد، وعودة المسيح الثانية. وأهم هذه الشروط هو استرجاع أو نقل اليهود إلى فلسطين، وقد أدت هذه العقيدة إلى انتشار ظاهرة قبول اليهود في عدد من الدول الأوروبية، ففي منتصف القرن السابع عشر تم الاعتراف بالجماعات اليهودية، وحصلت على وعد بحرية ممارسة عباداتها، بعد أن ظلت بريطانيا خالية من اليهود تقريبًا حتى نهاية القرن السادس عشر، ولم يحصل اليهود على حقوق المواطنة إلا ابتداء من سنة ألف وسبعمائة وثمانية عشر، وكان يقف وراء هذا الاعتراف تطلعات المجتمع الإنجليزي التجاري الاستعمارية. الحكومات النصرانية التي تدعم الأصولية النصرانية استخدمت هذه الحكومات النصرانية في دعمها للأصولية النصرانية أبشع الوسائل القمعية في التكريز بالإنجيل، أو نشره للعالم أجمع، ففي روسيا مثلًا حين تحول "فلاديمير" الروسي عن الوثنية -بفضل مساعي الأصوليين من رجال الكنيسة الإغريقية- أصدر مرسومًا في اليوم التالي لتعميده؛ يقضي بأن يذعن الروس كافة سادة وعبيدًا أغنياء وفقراء للتعميد، وفق طقوس الديانة المسيحية. وفي مستهل القرن السادس عشر نشط رجال الشرطة الروسية ورجال السلطات المدنية فيها في تأييد أعمال رجال الكنيسة لتنصير "القرغيز"، وهي جماعة تترية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 تسكن في روسيا، ولما لم يكن القساوسة الروسيون يفهمون لغة "القرغيز" لم يلبثوا أن أهملوا شئونهم، ولم يكن هناك بد من الاعتراف بأن هؤلاء الذين تحولوا حديثًا لم يكونوا يتمسكون بالعقيدة المسيحية أو يعرفونها، ولما أخفقت العطاءات الروحية أمرت الحكومة موظفيها بأن يلطفوا من هذه الحالة، ويحبسوا الناس ويكبلوهم بالحديد، ويحولوا بذلك دون تعليم هؤلاء الذين لا يطيعون أوامر المطران برغم تعميدهم. في القرن الثامن عشر جاءت حكومة الإمبراطورية "كاترين" الثانية في روسيا، وبذلت جهودا جبارة في دعم الأصولية الأرثوذكسية في جهودها التنصيرية، حتى إنها أصدرت مرسومًا بأن يوقع كل من هؤلاء الحديث العهد بالمسيحية على إقرار كتابي، يتعهدون فيه بترك خطاياهم الوثنية وتجنب كل اتصال بالكفار، وعلى الرغم من هذا كله لم يكن هؤلاء الذين أطلق عليهم التتار المعمدون إلا مسيحيين اسما فقط، لا يبعد أن تكون أسماؤهم قد دونت في السجلات الرسمية باعتبارهم مسيحيين، ولكنهم وقفوا في ثبات وقوة في وجه أية محاولة لتنصيرهم. وفي أوربا كانت أبرز الحكومات التي دعمت الأصولية بشدة هي حكومة "شارل مان"، ونحن نقرأ في تاريخ 772 وحتى 798 عن استمرار الغزوات المتعاقبة، وتحول المسيحية إلى مؤامرات وأعمال قمع، وبمجرد إخضاع إحدى القبائل الألمانية فإن تحولها إلى المسيحية كان يدرج في بنود السلام، كثمن يمنح لها نظير تمتعها بحماية الإمبراطور وحكومته، ولقد سجل التاريخ أن "شارل مان" قتل في يوم واحد أربعة آلاف وخمسمائة سكسوني، تفرض حكومته عقوبات وحشية ضد أي خرق لمجموعة القواعد المسيحية، ومنها أن أي سكسوني غير معمد يحاول أن يختبئ بين شعبه ويرفض التعميد مسيحيا سوف يقتل، وأن أي شخص من الوثنيين يتآمر ضد المسيحيين سوف يقتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 ولهذا يقول الأصوليون النصارى: إن "شارل مان" يعتبر بلا جدال واحدًا من أعظم الشخصيات في تاريخ كل من الكنيسة والعالم، وقد وجدت في أوربا صور عديدة من "شارل مان" هذا عاثت في الأرض فسادا، سفكت الدماء وانتهكت الأعراض وأكرهت الناس على موافقتهم في النحلة، أما في الحروب الصليبية فإن الباباوات استطاعوا بخبثهم ودهائهم أن يجعلوا من الحكماء والشعوب الأوروبية أصوليين، يتحدثون جميعًا باسم الإنجيل وتعاليمه. وقد بدأت هذه الدعوات الأصولية بنداء أطلقه البابا "أربان" الثاني، بتحريض من بطرس الناسك في سنة تسعمائة وخمسة وتسعين إلى حكام أوربا وشعوبها؛ بالكف عن الحروب المحلية والخروج بدلًا من ذلك لمحاربة العالم الإسلامي، والاستيلاء على خيراته، وأعلن أن المسلمين كفرة تستباح دماؤهم، ودعا إلى تخليص القبر المقدس من أيديهم، ووعد بغفران الخطايا لقتلى تلك المعارك بمقتضى التفويض الرباني الممنوح له. وتحكي المصادر التاريخية الإسلامية وغير الإسلامية بشاعة وهول تلك الحملات الصليبية، التي كان رجالها يصيحون بأنهم رسل المسيح وجنوده، فتذكر أن الصليبيين قتلوا نحو سبعين ألفا من سكان بيت المقدس المسلمين، ومعظمهم من النساء والأطفال والعجزة والعزل من السلاح، بل وكان من أحب ضروب اللهو إليهم قتل من يلاقون من الأطفال وتقطيعهم إربًا إربًا، وشيهم كما روت "آن كومنين" بنت قيصر الروم. يقول "غوستاف لوبون": "ونرى في كل صفحة من الكتب التي ألفها مؤرخو النصارى في ذلك الزمن براهين على توحش الصليبيين. ويكفي لبيان ذلك أن ننقل الخبر الآتي الذي رواه الشاهد المؤرخ الراهب التقي "روبرت" قال: وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إربًا إربًا، وكانوا يشنقون أناسًا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، فيا للعجب ويا للغرابة، كانت الدماء تسيل كالأنهار في المدينة المغطاة بالجثث. ويقول في موضع آخر: واغتاظ مؤرخو النصارى أنفسهم من سلوك حماة النصرانية، مع اتصاف هؤلاء المؤرخين بروح الإغضاء والتساهل، إلى غير ذلك من أحداث". فإذا قفزنا إلى العصر الحديث وجدنا أن العالم النصراني يدعم الأصولية النصرانية دعمًا لا نظير له، ولعل هذا الدعم يتبين بصورة واضحة عند ذكر تطبيقات الأصولية النصرانية، فمثلًا أحد رؤساء أمريكا وهو "ويلسون" الذي كان يحب أن يلقب بابن راعي الكنيسة، وهو أصولي متعصب جدًا، و"نيكسون" أيضًا كان أكثر رؤساء أمريكا فكرًا وتنظيرًا يقول في كتابه (نصر بلا حرب): "إن صراع العرب ضد اليهود يتطور إلى نزاع بين الأصوليين الإسلاميين من جانب، وإسرائيل والدول العربية المعتدلة له من جانب آخر". ويختم كتابه بعبارات لا يتفوه بها إلا أعتى الأصوليين الإنجيليين فيقول: "عندما كانت أمريكا ضعيفة وفقيرة منذ مائتي سنة مضت كانت عقيدتنا هي المبقية علينا، وعلينا ونحن ندخل قرننا الثالث نستقبل الألف سنة المقبلة يجب أن نعيد اكتشاف عقيدتنا ونبث فيها الحيوية"، وقد نشرت له مجلة الشئون الخارجية تعليقًا على اللقاء الأول بين "ريجان" و"جورباتشوف": "يجب على روسيا وأمريكا أن تعقد تعاونًا حاسمًا لضرب الأصولية الإسلامية". ومن الأدلة التي يستدل بها الباحثون على تدين أمريكا وعودتها إلى المحافظة: أنها اختارت آخر رئيسين قبل "بوش" من المتدينين الأصوليين، وهم "كارتر" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 و"ريجان"، فـ "كارتر" كان ملتزمًا التزامًا صارمًا بالكنيسة الإنجيلية، ولا يزال "كارتر" إلى هذا اليوم مبشرًا ويتنقل من أفغانستان إلى الحبشة والسودان، وغير تلك البلدان مدافعًا عن التنصير ومبشرًا بالنصرانية، وهذا معروف عند كل من تتبع أخباره، فهو رجل منصر وقسيس. وقد كان "ريجان" الذي جاء بعده أيضا أصوليًّا متعصبًا. يقول عنه "مايك إيفانز" أحد زعماء الأصولية الإنجيلية: "في يناير سنة 1985 دعا الرئيس "ريجان" "جيمي بيكر" و"جيمي سواجرت" و"جيرو فلاويل" وكلهم من زعماء الأصولية، ودعاني مع مجموعة صغيرة أخرى للقائهم بصورة شخصية، لن أنسى ما قاله لنا أعرب الرئيس -أي "ريجان"- عن إيمانه بأن أمريكا على عتبة يقظة روحية قال: إني مؤمن بذلك من كل قلبي. إن الله يرعى أناسًا مثلي ومثلكم في صلاة وحب لإعداد العالم لصورة ملك الملوك وسيد الأسياد". وكان لـ"بوش" الأب علاقة صديقة حميمية مع زعماء الأصوليين الإنجيليين وخاصة "جيروفلويل"، الذي يقول عنه "بوش": "أعتقد بكل أمانة أننا برجال من أمثال "جيري" فإن شيئًا فظيعًا كالإبادة الجماعية لليهود لن يحدث ثانية". لذلك فإن "فلويل" هذا أقام حفل غداء على شرف "بوش". وقال في الحفل: "بوش" سيكون أفضل رئيس في سنة ألف وتسعمائة وثمانية وثمانين". وأما "بوش" الأب فيصف نفسه في كتابه (التطلع إلى الأمام) بأنه متدين وأن جده كان قسيسا، وأنه هو وأسرته يقرءون الكتاب المقدس كل يوم. وأما "بوش" الابن فلا يستطيع أحد أن ينكر أنه متعصب، بالرغم من أسلوبه الذي يحاول فيه إخفاء هويته الأصولية، من نحو التظاهر بعدم كره الأديان واحترامها جميعا، والتلاعب بالمفاهيم لتحقيق مآربه الأصولية الإنجيلية، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 حينما يقود أعمال العنف والقمع والإبادة التي يفعلها يسميها حربا ضد الإرهاب، مع أنه يعلم كم سعت بلاده في صناعة الإرهاب، وبصماتهم في فيتنام وبغداد وأفغانستان لا تزال قابعة بآثارها القذرة. ولعل ما يقوله "بوش" الابن معلنًا أن حربه في أفغانستان حرب صليبية بدون صليب، بل ربما بهلال يدل على مدى خبث الأصولية التي انطوى عليها قلبه، ويعمل من أجلها، ولكن من شابه أباه فما ظلم، فـ "بوش" الابن كان واحدًا من أفراد البيت الأصولي، الذي كان يقول عنه "بوش" الأب: "إن جدهم كان قسيسًا وأنهم كانوا يقرءون الكتاب المقدس كل يوم". بعض الإحصائيات عن الأصولية النصرانية الإنجيلية في أمريكا لعله لا يخفى على أحد تزعم أمريكا للأصولية الإنجيلية في شتى مجالاتها، فهي التي تحتضن أهم قيادة دينية في العالم النصراني، ذلك هو مجلس الكنائس العالمي، مما يجعل لها قيادة روحية لا تقل قداسة عن التي لبابا الفاتيكان في روما. ولعل ذكر بعض الإحصائيات يرسم -بصورة أكثر وضوحًا- مدى تغلغل الأصولية النصرانية في المجتمع الأمريكي، فيذكر معهد "جالوب" المتخصص في الإحصاءات أن أكثر من 94% من سكان الولايات المتحدة الأمريكية يؤمنون بالله، بالطبع على عقيدتهم، وأن 71% من سكانها يؤمنون بالبعث بعد الموت على العقيدة الإنجيلية، وتقول أيضًا بعض الإحصائيات أن عدد أعضاء الجسم الكنسي في الولايات المتحدة سنة 1970 كان 131 مليونًا من الأمريكان، وجميعهم ينتمون إلى الكنائس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 ودليل آخر على تغلغل الأصولية النصرانية في أمريكا: وهي إن إحصائيات صناعة الكتب الأمريكية سجلت أكبر ظاهرة في شراء الكتب الدينية، ففي سنة 1984 كان بيع أكثر من ثلث السوق كتبًا دينية، تقدر أثمان هذه الكتب بحوالي مليار دولار، وإحصائية أخرى تقول: إن للأصولية النصرانية في أمريكا أكثر من عشرين ألف مدرسة ومعهد وكلية، والملايين من الطلاب والدارسين للتوراة والإنجيل، حتى في الإعلام السينمائي تغلغلت الأصولية النصرانية، حتى إنه جاء في دراسة استطلاعية أعدتها منظمة إذاعات الدول الإسلامية بجدة: أنه تم تخصيص ما يزيد على المائة مليون دولار لإنتاج سينمائي تعده في هوليود ولاية أمريكية، ويشمل إنتاج خمسة عشر فيلما أعدت مادتها من سفر التكوين وثمانية عشر فيلما أعدت مادتها من إنجيل لوقا. وأما عن التبرعات التي يجود بها الأمريكان لدعم الأصولية النصرانية فمثلا تقول الإحصائيات: إنه في سنة 1982 بلغ إجمالي التبرعات نحو ستين ألف مليون دولار، وقد نشرت المجلة الدولية لأبحاث التنصير أن مجموع التبرعات الكنسية لأغراض التنصير مائة وواحد وخمسون ألف مليون دولار، بل إن الإحصائيات تقرر أن ما يتلقاه نجمان من نجوم الأصولية في أمريكا -كـ "جيل فلويل" و"باتر روبرتسون"- وحده من التبرعات أكثر مما يتلقاه الحزبان الرئيسان في أمريكا: الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، حتى إن "روبرتسون" هذا أنشأ محطة تلفازية خاصة بجماعته التي تسمى "روبرتسون" الإنجيلية، وهي تغطي أكثر من ستين دولة أجنبية وتستخدم الأقمار الصناعية في البث على مدار أربع وعشرين ساعة. ويؤكد "روبرتسون" في برامجه على عداوته للعرب ويسميهم أعداء الله، فيعتقد أنه لا مجال للعدل مع الفلسطينيين طالما أن رغبة الله هي تأسيس إسرائيل وتعيين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 حدودها، وهذا غيض من فيض من الإحصائيات عن الأصولية النصرانية في أمريكا، يستطيع منه القارئ أن يرى أمريكا الأصولية، وأن يكشف كذب ما تدعيه من أنها راعية السلام في الشرق الأوسط أو غيره، وبينما هي لا تألو جهدًا حكومةً وشعبًا في دعم الأصولية عندها وتوسيع نطاقها، فإنها تسعى في سحق أي أصولية أخرى لأنها تراها تشكل خطرا على مسيرتها. منهج الأصولية النصرانية، وأشهر شخصياتها، وخلاصة فكرها منهج الأصولية النصرانية: الأصولية النصرانية إن كان منهجها يختلف من طائفة إلى أخرى في بعض النقاط، إلا أن السمة الغالبة للجميع هي الدعوة إلى المحافظة على القديم ومحاربة التحديث أو العصرنة، ولا نذهب بعيدا موغلين في التاريخ لنعرف منهج الأصولية النصرانية، بل نتتبع سير الباباوات منتصف القرن التاسع عشر، الذي كان يشغل منصب البابوية فيه "جيسيه بسارتو" أو البابا "بيوس" التاسع، الذي كان برغم لينه وبشاشته ذا بأس شديد في هجومه على الليبراليين. وقد أصدر هذا "بيوس" العاشر قائمة بالأفكار المرفوضة من جانبه منها: لا يمكن تحت أي ظرف رفض تفسير الكنيسة للإنجيل، رغم ذلك فمن حق رجال الدين وعلمائه تقييم تلك التفاسير. إذا أراد عالم الدين أن يدرس علوم الإنجيل فعليه أن يطرح وراء ظهره كل الآراء المسبقة التي فرضتها الكنيسة. ثالثًا: أن أحاديث يوحنا المتضمنة في الإنجيل هي بمثابة أفكار صوفية تتضمن الحقائق التاريخية المعضدة لها، ولكن يبدو أن ثمة تعديلا في المنهج الأصولي النصراني في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 عهد البابا يوحنا بولس الثاني، ففي المجمع الفاتيكاني الذي عقده في سنة ألف وتسعمائة وخمسة وستين وضع خطة ماكرة لحرب أصولية جديدة، فدعا إلى توحيد كافة الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما، واعتبار المسيحيين شعب الله المختار بناء على العهد الجديد الذي أقامه بولس الرسول. وتعد جماعة أو منظمة عمل الرب من أهم التنظيمات الأصولية في أوربا، وإن لم تكن حديثة التكوين، وقد أنشأها الأسقف "بلاجير" سنة 1928، إلا أنها من المنظمات التي تم إحياؤها بصورة لافتة للنظر، فقد منحها البابا يوحنا بولس الثاني ميزة فريدة عن بقية المنظمات الدينية، وهي الاستقلال التام والسيادة الذاتية المطلقة فيما عدا سلطته المباشرة بالطبع. تذكر الإحصائيات أنه ينتمي لهذه الجماعة أكثر من مائة ألف مجند، تعد من أكثر الجماعات سرية وأهمية، حتى إن البعض يلقبها بالماسونية الكاثوليكية لشدة وخطورة توغلها في الشئون الدولية. وعن أشهر الشخصيات الإنجيلية الأصولية: فأكثر الإنجيليين شهرة في أمريكا الذين يبشرون على التليفزيون بنظرية "هرمجدون" وغيرها "بات روبرتسون"، وهو يستضيف برنامجًا لمدة تسعين دقيقة يوميًّا يدعى نادي السبعمائة، سمي كذلك نسبة إلى سبعمائة مساهم معه، وهذا البرنامج يصل إلى أكثر من 16 مليون عائلة، أي إلى أكثر من تسعة عشر بالمائة من الأمريكيين الذين يملكون أجهزة تليفزيون. و"روبرتسون" هو ابن السناتور السابق "وولس روبرتسون" متخرج من مدرسة الحقوق وهو يوظف حوالي ألف وثلاثمائة شخص لإدارة شبكته التليفزيونية المسيحية "سي بي إن". تقوم الإدارة المركزية للشبكة على مساحة كبيرة في ضاحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 شاطئ "فرجينيا" بقيمة ملايين الدولارات، تضم "سي بي إن" نادي السبعمائة ثلاث محطات تليفزيونية ومحطة راديو ومحطة تليفزيون "سي بي إن"، ومحطة تليفزيون في جنوب لبنان ومراسلون في أكثر من ستين دولة وجامعة ونظام للمساعدة الدولية. ومن الشخصيات المشهورة أيضًا "جيمي سواجرت" الذي يدير عملياته من "باتون روك" في "لويزيانا"، وهي ثاني أكثر محطات التليفزيون الإنجيلية شهرة؛ استنادًا إلى إحصائية مؤسسات "نلسون"، فهو يصل إلى أربعة ملايين ونصف المليون منزل يوميا، أو خمسة في المائة من المشاهدين أو إلى ما مجموعه تسعة ملايين وربع المليون أسرة، أو 10% من المشاهدين في أيام الآحاد. ومن الشخصيات أيضا "جيم بيكر" الذي يملك ثالث أشهر محطة تليفزيونية تبشيرية، وقد بدأ عمله الديني متتلمذًا على "بات روبرتسون"، وهو يصل إلى حوالي ستة ملايين منزل أو 6% تقريبا من المشاهدين. ومن الشخصيات المشهورة أيضًا "أورال روبرتس" وتصل برامجه التليفزيونية إلى خمسة ملايين منزل، أو 6% من المشاهدين أيضًا. ومنهم أيضًا "جيري فولويل" الذي تصل دروسه التبشيرية الأسبوعية إلى ملايين المنازل. وكان "فولويل" مثل "روبرتسون" سنة ألف وتسعمائة وخمسة وثمانين منغمسًا بعمق في الشئون السياسية، وفي شهر أغسطس -وبعد أن أمضى خمسة أيام في جنوب أفريقيا- أيد الحكومة العنصرية ووصف الأسقف "ديزمونت توتو" الحائز على جائزة نوبل للسلام بأنه ألعوبة. ومن الشخصيات المشهورة أيضًا "كينين كوبلنت" وهو متخرج من جامعة "أورال روبرتس" ومؤمن بالتدبيرية، ويرى أن إسرائيل الحديثة والصهيون الإنجيلية هما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 شيء واحد ويقول: "إن الله أقام إسرائيل إننا نشاهد الله يتحرك من أجل إسرائيل. إنه لوقت رائع أن نبدأ دعم حكومتنا طالما أنها تدعم إسرائيل. إنه لوقت رائع أن نشعر الله مدى تقديرنا إلى جذور إبراهيم". وبالرغم من ذلك فإن "كوبلنت" لا يحب بالضرورة إسرائيل كما هي، إنما يعبر عن حبه لإسرائيل لأنه وأتباعه يرون أنها المسرح الذي سيقدم عليه مشهد معركة "هرمجدون"، وعودة المسيح، فهم يعبرون عن حبهم لليهود ليس لأنهم يهود، ولكن يرون فيهم الممثلين الذين لابد منهم على مسرح النظام الديني، الذي يقوم على أساس تحقيق المسيحية الكاملة. ومن الشخصيات المشهورة أيضًا "ريتشارد ديهال"، وله برنامج يسمى يوم كشف النظام، يصل إلى ملايين المشاهدين. ومن الشخصيات أيضًا "ريكس هامبرت" وهو يقول: "إنه يبشر بتعاليم "سوكفلد" حول التدبيرية" وهي تقول: إن الله كان يعرف منذ البداية الأولى أننا نحن الذين نعيش اليوم سوف ندمر الكرة الأرضية، وهذه السبعة برامج لسبعة من المشاهير الذين ذكرناهم يقدمون البرامج الدينية، ويبشرون بنظرية "هرمجدون" الأصولية الإنجيلية في الإذاعة والتليفزيون، ومن بين أربعة آلاف أصولي إنجيلي يشتركون سنويًّا في مؤتمرات الإذاعة الدينية الوطنية، هناك ثلاثة آلاف يعتقدون أن كارثة نووية فقط يمكن أن تعيد المسيح إلى الأرض، ومعظم المدارس الإنجيلية في الولايات المتحدة تدرس النظام الديني وتدرس نظرية "هرمجدون" الذي يقول بها الأصولية الإنجيلية، استنادا إلى أحد القساوسة يسمى "دال كراولي"، وهو قسيس في واشنطن كان أبوه عضوا مؤسسا للمؤتمر الدائم للمذيعين الدينيين الوطنيين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 خلاصة فكر المسيحية الأصولية الإنجيلية: إن العودة الثانية للمسيح، أو انتظار مجيء المسيح للمرة الثانية هي المحور الذي تدور عليه عقيدة الأصوليين الإنجيليين، وهم بذلك يشتركون مع اليهود في أن بإعادة بناء الهيكل سيعجل بمجيء مسيحهم للمرة الثانية، ولذلك فهم يتعاونون مع اليهود من أجل الوصول إلى ذلك الهدف، وهو هدم الأقصى والصخرة ثم بناء الهيكل، ثم انتظار المجيء الوشيك للمسيح الذي يطمعون أن يدخل اليهود في دينه هذه المرة. أما هذا الاختلاف في شخصية المسيح الآتي فلا يعطل مسيرة العمل المشترك بينهما تمهيدًا لمجيئه، بل إن كليهما يعين الآخر في القدر المشترك من الاتفاق. ويقول أحد زعماء اليهود لزملائه من المسيحيين: إنكم تنتظرون مجيء المسيح للمرة الثانية ونحن ننتظر مجيئه للمرة الأولى، فلنبدأ أولًا ببناء الهيكل وبعد مجيء المسيح ورؤيته نسعى لحل القضايا المتبقية سويا، وكل من الفريقين يحاور الآخر ويراهن عليه، ويريد أن يدخله مع أتباع مسيحه، تقول الباحثة الأمريكية "لي أوبرين": "من التناقضات الظاهرية في عمل المنظمات اليهودية الأمريكية مع طائفة الإنجيليين: تناقض يدور حول التوتر بين رغبة الإنجيليين في التنصير، وبين الاشتباه في مقاومة اليهود الأمريكي للنشاط التبشيري". وقد أصدر مجموعة من الأساقفة في أحد المؤتمرات هذا البيان: إننا نؤمن أن الله اختار إسرائيل الشعب المختار لكي يتابع خلاصه للبشرية، ومهما كان موقفنا فلا نتمكن من نكران أننا أغصان قد تطعمت على الشجرة القديمة التي هي إسرائيل، ولذلك فإن شعب العهد الجديد لا يمكن أن ينفصل عن شعب العهد القديم. إن انتظارنا لمجيء المسيح الثاني يعني أملنا القريب في اعتناق الشعب اليهودي للمسيحية، وفي محبتنا الكاملة لهذا الشعب المختار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 ويبدو واضحا أن الأساس اللاهوتي الصليبي هو الذي يفسر دعم النصارى لليهود وارتباطهم معهم، وخاصة أولئك الذين يزعمون أن كل نصوص العهد القديم تحتوي على كل الحقيقة، بما فيها وعد الله لإسرائيل في التوراة، ومن ثم اقتناعهم بأن دولة إسرائيل الحديثة هي امتداد لدولة إسرائيل التوراتية، عندئذ لا يكون هناك أي عائق دون اعتناقهم للصهيونية المسيحية. ومن هنا نستطيع أن نفهم كيف استساغ الكثير من قادة النصارى في هذا العصر أن ينتسبوا للصهيونية، مع بقائهم على دين النصرانية، فالأصولية الإنجيلية تعتقد أن إعادة بناء الهيكل سيعجل بقدوم المسيح، والمجيء الثاني للمسيح أصبح وشيك الوقوع، فإذا تمت إعادة بناء هيكل سليمان فإن التعاليم الإنجيلية تتطلب حدوثه ضمن ثلاثة أمور قبل أن يتحقق المجيء الثاني؛ أولا: يجب أن تصبح إسرائيل دولة. ثانيا: يجب أن تكون القدس عاصمة يهودية. ثالثا: يجب أن يعاد بناء الهيكل وهو الشرط الثالث لكي يحدث المجيء المتوقع للمسيح. وصلى اللهم على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404