الكتاب: النظام القضائي في الفقه الإسلامي المؤلف: محمد رأفت عثمان الناشر: دار البيان الطبعة: الثانية 1415هـ1994م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- النظام القضائي في الفقه الإسلامي محمد رأفت عثمان الكتاب: النظام القضائي في الفقه الإسلامي المؤلف: محمد رأفت عثمان الناشر: دار البيان الطبعة: الثانية 1415هـ1994م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] المقدمة تقديم البحث ... بسم الله الرحمن الرحيم تقديم البحث: أحمد الله تبارك وتعالى وأستعينه، وأستهديه، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإن الشريعة الإسلامية وسائر الشرائع الإلهية، قد جاءت لتحقيق مصالح الناس، ولا شك في أن وجود القضاء في المجتمع الإنساني، هو إحدى الوسائل المحققة لهذه المصالح، فبه تحمى الحقوق وتصان عن الانتهاك، ويزال بوساطته تعدي الناس بعضهم على بعض، وهو أحد المناصب العظيمة التي تحقق العدل وتمنع الظلم، وترسي الحق، والعدل هو أحد مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء، قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} 1. والقسط هو العدل، فهما كلمتان مترادفتان, وأي طريق أدى إلى الوصول إلى العدل بين الناس كان مطلوبًا في الشرع، قال ابن القيم: "إذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريقة كان، فثم وجه الله ودينه، فأي طريق استخرج به العدل والقسط فهو من الدين وليس مخالفًا له"2. والقضاء وسيلة من أعظم وأسمى وسائل تحقيق العدل بين الناس، تحقيق العدل بينهم في العلاقات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية وكل نشاط من أنشطة الحياة بين الأفراد والدول، سواء أكانت هذه العلاقات بين المسلمين أم بينهم   1 سورة الحديد، الآية رقم 25. 2 الطرق الحكمية لابن القيم، ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وبين غيرهم. ولمكانته السامية الجليلة تولاه الرسل فحكموا بين الناس، وولوه غيرهم، قال تبارك وتعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} 1، وقال عز وجل لرسوله -محمد -صلى الله عليه وسلم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2. وقد ثبت أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث القضاة إلى النواحي، فبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وعتاب بن أسيد إلى مكة. وقد بين فقهاؤنا -رضي الله عنهم- أن شريعة الإسلامة توجب وجود القضاء في المجتمع، ووضحوا الشروط التي لا بد من توافرها فيمن يتولى هذا الأمر الخطير، هذه الشروط التي استنبطوها من القرآن، والسنة، وغيرهما من مصادر التشريع الإسلامي، وتكلموا عن طرق الإثبات أمام القاضي، وعما يجب على القاضي اتباعه عند نظره القضايا وفصله فيها، وعن أمور أخرى تتصل بهذا المنصب الجليل، وآمل أن يكون هذا البحث إسهامًا بسيطًا في خدمة الفقه الإسلامي، وإضافة لبنة صغيرة إلى هذا الصرح الشامخ, والتراث الجليل الذي ورثناه عن فقهائنا العظام، وأدعو الله -عز وجل- أن يثيبني على ما بذلت فيه من جهد المقل، وأن يغفر لي إن أخطأت في فهم حكم، أو ترجيح رأي من آراء علمائنا على رأي آخر. وقد خططت ليكون هذا البحث في مقدمة، وأربعة فصول.   1 سورة ص، الآية رقم 26. 2 سورة النساء، الآية رقم 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 أما المقدمة، فقد خصصتها للتعريف بالقضاء في لغة العرب، واصطلاح الفقهاء، وبيان حكم وجوده في المجتمع، والفرق بينه وبين التحكيم الذي كان موجودًا عند العرب قبل الإسلام. وخصصت الفصل الأول لبيان شروط الصلاحية للقضاء، والأمور التي يعزل بها القاضي عن منصبه. والفصل الثاني جعلته لبيان الدعوى، وأركانها، وشروط صحتها، ونظام الفصل فيها. وجعلت الفصل الثالث للكلام عن وسائل الإثبات، فتكلمت عن الإقرار والبينة، ونكول المدعى عليه عن اليمين، ويمين المدعي مع الشاهد، ويمين المدعي إذا نكل المدعى عليه، والقسامة، والقافة، والقرائن، والقرعة، وختمت هذا الفصل بالكلام في قضيتين هامتين: أولاهما قضاء القاضي بعلمه، وثانيتهما هل يجوز للإنسان أن يستوفي حقه الذي ينكره الخصم بدون اللجوء إلى القضاء؟ وبينت الخلاف إن وجدته لعلمائنا في بعض وسائل الإثبات، وما استندت إليه آراء العلماء. وأما الفصل الرابع الأخير، فعقدته للكلام عن أمور, وصفتها بأنها أصول في القضاء، وهي وجوب العدل بين الخصمين، وأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، وأن حكم القاضي لا يحل حراما، ولا يحرم حلالا، وأن القاضي لا يقضي بين الناس وهو غضبان، ولا يقبل الهدية ممن له خصومة عنده، ولا يقضي لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له، وأن الحكم بالاجتهاد الثاني للقاضي، وأنه يجوز الاستئناف في الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 وكان منهجي في هذا البحث أن كنت أكتفي بذكر آرء علمائنا في المسائل المختلف فيها، وبيان أدلة أصحابها، والمناقشات التي وردت عليها، ولا أختار رأيا إلا إذا بان لي أن الأرجح من حيث الدليل؛ لأن ترجيح رأي معين إنما هو كإفتاء للقارئ بهذا الرأي، ولا يحوز أن يفتي الإنسان إلا بما غلب على ظنه أنه الحق، فإن أكن وفقت في ترجيح الآراء فهذا من فضل الله عز وجل، وإن كان الخطأ قد وقع، فذلك مني ومن الشيطان، وأستغفر الله تبارك وتعالى، وأختم كلمتي ببعض من الدعاء الذي علمنا الله إياه في قرآنه الحكيم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} ، {رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ، اللهم آمين. دكتور محمد رأفت عثمان مدينة العين - الإمارات العربية المتحدة الجمعة 6 من ربيع الثاني سنة 1408هـ، 27 نوفمبر سنة 1987م الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 التعريف بالقضاء : جرت عادة العلماء عندما يتعرضون لبيان معنى كلمة من الكلمات التي استعملت في مجال بيان الأحكام الشرعية، مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والزواج، والطلاق، والبيع، والإجارة، وغير ذلك من كلمات كانت موضوعًا للبحوث الفقهية، جرت عادتهم كمدخل للكلام عنها أن يوضحوا معناها في اللغة العربية أولا، ثم يبينوا بعد ذلك معناها عند علماء الشريعة، وهو ما يعبرون عنه بمعناها في الاصطلاح؛ وذلك لأن الشريعة الإسلامية جاءت في بيئة عربية، فاقتضت حكمة الله -تبارك وتعالى- أن يكون كتابه الكريم بلغة العرب، وهو المصدر الأول للتشريع، والمصدر الثاني بعد الكتاب الكريم هو السنة النبوية الشريفة، والسنة هي أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأفعاله وتقريراته، والرسول -صلى الله عليه وسلم- عربي يتكلم العربية، وكان من الطبيعي أن تستعمل الشريعة الإسلامية ألفاظًا كان العرب يستعملونها قبل ورود الشريعة، وفي كثير من الأحوال كان استعمال الشريعة للفظ العربي في معنى مختلف عن المعنى الذي كان العرب يستعملونه فيه قبل ورود الشريعة، وذلك واضح في ألفاظ مثل: الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك، فلفظ الصلاة قبل مجيء الإسلام كان يستعمل عند العرب في معنى الدعاء. ولكن عندما جاء الإسلام استعمل في أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم بشروط مخصوصة، ولفظ الزكاة استعمل في لغة العرب بمعنى النماء، وبمعنى التطهير، فيقال مثلا: زكا الزرع، ويكون المعنى نما الزرع، ويقال: زكت نفس فلان، ويكون المعنى طهرت نفس فلان، ولكن الشريعة استعملت لفظ الزكاة في مال مخصوص يخرج من مال مخصوص ليدفع إلى طائفة خاصة، وهكذا في لفظ الصيام، ولفظ الحج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وغيرها. فمن الطبيعي -إذن- أن يتكلم العلماء عن معنى كلمة من الكلمات التي استعملتها الشريعة في لغة العرب، قبل أن يتكلموا عن معناها في الشريعة، أو عند علماء الشرع، أو ما يعبر عنه بمعناها في الاصطلاح، ومعنى الاصطلاح: إخراج اللفظ عن معنى لغوي إلى معنى آخر لبيان المراد1. وجريا على هذه العادة عند العلماء سنبين أولا معنى كلمة "القضاء"، في لغة العرب ثم نبين معناها في اصطلاح علماء الشرع. القضاء في لغة العرب: يوجد في لغة العرب بعض الألفاظ التي لها أكثر من معنى، كلفظ العين، ولفظ القرء، فمن معاني لفظ العين، الجاسوس، والباصرة، وعين الماء، والذهب، وغير ذلك، ولفظ "القرء" أيضا وضع في اللغة العربية لمعنى الحيض، ولمعنى الطهر الذي يفصل بين كل حيضتين. ولفظ "القضاء" من هذا القبيل، أي: من الألفاظ التي وضعتها العرب لأكثر من معنى، وترجع كل المعاني التي وضعتها العرب لهذا اللفظ. كما قال العلماء إلى معنى: انقضاء الشيء وتمامه2.   1 وهناك تعريفات أخرى لكلمة الاصطلاح، فقيل معناها: إخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر لمناسبة بينهما، وقيل الاصطلاح: اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى، وقيل الاصطلاح: لفظ معين بين قوم معينين. التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، ص15. 2 كتاب النيل وشفاء العليل، لعبد العزيز الثميني، مع شرحه لمحمد بن يوسف أطقيش، ج13، ص10، الطبعة الثالثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 فيطلق لفظ "القضاء" في اللغة العربية على الأمر، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} 1 والمعنى: أمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه، ويطلق على الفراغ ومنه قول الله عز وجل: {قُضِيَ الْأَمْرُ} 2، أي: فرغ، ويطلق على الفعل، مثل قوله سبحانه وتعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} 3، ويطلق على الإرادة مثل قوله عز وجل: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 4، ويطلق على الموت، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ، ويطلق على الحكم والإلزام، مثل قضيت عليك بكذا، وقضيت بين الخصمين وعليهما5، ويطلق على الأداء، قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} أي: أديتموها. ويطلق على الصنع والتقدير، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} 6 ومنه القضاء والقدر، وغير ذلك من المعاني7. ويسمي العلماء هذا النوع من الألفاظ التي لها أكثر من معنى بالمشترك   1 سورة الإسراء، آية رقم 23، وقد اختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} . فالأكثرون على أنه بمعنى أمر، لا بمعنى حكم، ويرى البعض أنه يصلح أن يكون بمعنى حكم. 2 سورة يوسف، الآية رقم 41. 3 سورة طه، الآية رقم 72. 4 سورة غافر، الآية رقم 68. 5 كما أن القضاء في اللغة يطلق على الحكم، ويطلق الحكم ويراد به القضاء، كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ، سورة المائدة، الآية رقم42. 6 سورة فصلت، الآية رقم12. 7 المصباح المنير، محمد بن علي المقري الفيومي، مادة قضى، ومواهب الجليل لشرح مختصر الخليل، للخطاب. ج6 ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 اللفظي1. القضاء في اصطلاح فقهاء الشريعة: يحسن بنا قبل أن نذكر تعريف القضاء في اصطلاح فقهاء الشريعة أن نذكر   1 المشترك إما أن يكون مشتركًا لفظيا، أو مشتركًا معنويا: فأما المشترك اللفظي، فهو اللفظ الذي يتعدد وضعه ويتعدد معناه، مثل كلمة "عين"، فإنها موضوعة للباصرة، أي: العين التي نبصر بها، وموضوعة للجاسوس، وغيرها، ومثل كلمة "قرء" فإنها موضوعة للحيض والطهر. وأما المشترك المعنوي، فهو اللفظ الذي وضعته العرب وضعا واحدا لمعنى كلي يشترك فيه أفراد كثيرة، وذلك مثل كلمة "موجود"، فإن العرب قد وضعتها لمفهوم عام، وهو المتصف بالوجود مطلقا، سواء أكان واجب الوجود، كذات الله تبارك وتعالى، فإن ذاته سبحانه واجبة الوجود، أم كان ممكن الوجود، كغير الله -عز وجل- من سائر مخلوقاته. ويسمي العلماء هذا النوع من الألفاظ: مشتركا معنويا؛ لأن أفراده العديدة تشترك في معناه، بخلاف المشترك اللفظي. وإذا وجدت كلمة "مشترك" في تعبير العلماء مطلقة غير مقيدة بأنها مشترك لفظي، أو معنوي، فإنها في هذه الحال تنصرف إلى المشترك اللفظي، فإذا قال العلماء عن لفظ ما، إنه مشترك، ولم يبينوا هل هو مشترك لفظي أو مشترك معنوي، فإننا نفهم من الإطلاق أنهم يريدون به المشترك اللفظي. وأما إذا أريد به المشترك المعنوي، فلا بد من التقييد، فيقال: هذا اللفظ مشترك معنوي. هذا، ويرى بعض العلماء أنه لا يوجد مشترك في اللغة، واحتجوا على رأيهم هذا بأن الغرض من وضع اللغة هو أن تتميز المعاني بالأسماء ليحصل بها الإفهام، فلو كان هناك لفظ واحد وضع لمعنى، ووضع لمعنى آخر خلاف هذا المعنى على طريق البدل، لما فهم أحد بهذا اللفظ أحد هذين المعنيين، وهذا يؤدي إلى انتقاض الغرض من المواضعة. ولكن جماهير العلماء يرون وجود المشترك في اللغة، والحجة في هذا أنه لا يوجد ما يمنع عند بداية الوضع اللغوي أن تضع قبيلة من القبائل مثلا اسم "القرء" للحيض، وتضعه قبيلة أخرى للطهر، ويشيع استعمال ذلك بين الناس، ويخفى أن هذا الاسم قد وضع لهذين المعنيين من جهة قبيلتين، فيفهم من هذا اللفظ عند إطلاقه الحيض والطهر، على طريق البدل. انظر: المعتمد لأبي الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، الجزء الأول، ص22، طبع المطبعة الكاثوليكية في بيروت، 1964، وانظر: أصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكي الدين شعبان، ص347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 أن العلماء بينوا أن الحكم أعم من القضاء؛ وذلك لأن كلمة الحكم تصدق على أمرين: أحدهما: حكم من حكمه خصمان. والثاني: حكم من نصبه رئيس الدولة أو نائبه ليحكم بين الناس. فبين اللفظين عموم وخصوص مطلق؛ لأن كل قضاء حكم، وليس كل حكم قضاء، وكذلك كل قاض حاكم، وليس كل حاكم قاضيًا1. وهذا مثل العلاقة بين كلمة إنسان وكلمة حيوان، فكل إنسان حيوان، وليس كل حيوان إنسانًا؛ لأن الإنسان نوع من الحيوان هو الحيوان الناطق. كما يحسن أيضًا أن نبين أن العلماء تكلموا عن القضاء في مجالين: أحدهما: مجال العبادة كالصلاة، والصيام، والقضاء فيها عندهم هو أن تفعل خارج وقتها المحدود شرعا، والأداء فعلها في الوقت المحدود، وهو استعمال مخالف للوضع اللغوي لكنه اصطلاح بين العلماء لكي يميزوا بين الوقتين2. والمجال الثاني: وهو المجال الذي نتكلم فيه الآن، هو مجال الحكم بين الناس. ولفقهاء الشريعة تعريفات متعددة للقضاء الذي هو الحكم بين الناس، نذكر أمثلة منها:   1 كتاب النيل وشفاء العليل، لعبد العزيز الثميني، مع شرحه لمحمد بن يوسف أطقيش، ج13، ص10، مكتبة الإرشاد بجدة، الطبعة الثالثة. 2 المصباح المنير، للفيومي، مادة قضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 عند الحنفية: عرفه علماء الحنفية بأنه: "الفصل بين الناس في الخصومات، حسما للتداعي، وقطعا للنزاع بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة"1. وعند المالكية: وعرفه ابن عرفة من علماء المالكية بأنه: "صفة حكمية، توجب لموصوفها2 نفوذ3 حكمه الشرعي، ولو بتعديل أو تجريح، لا في عموم مصالح المسلمين"، والمراد بنفوذ حكمه نفوذ جميع أحكامه، وبهذا يخرج التحكيم، وكذلك تخرج ولاية الشرطة وأخواتها؛ لأنها خاصة ببعض الأحكام، والحسبة فإنها خاصة بأحكام السوق. ويخرج بجملة "لا في عموم مصالح المسلمين" الولاية العظمى أي: رياسة الدولة، فإن رياسة الدولة نفوذ حكمها عام في مصالح المسلمين4. بخلاف القضاء، فليس للقاضي حق تقسيم الغنائم، وتفريق الزكاة، ولا ترتيب الجيوش، ولا قتال البغاة، ولا الإقطاعات5.   1 رد المحتار حاشية ابن عابدين ج4 ص459. 2 موصوفها هو القاضي. 3 النفوذ -بالذال المعجمة- الإيصال والإمضاء، وهو المراد هنا، وأما النفود -بالإهمال- فهو الفراغ والتمام. شرح النيل وشفاء العليل، ج13، ص12. 4 شرح الإمام محمد التاودي، المسمى بحلى المعاصم لبنت فكر ابن عاصم، وهو شرح لأرجوزة: تحفة الحكام لمحمد بن محمد بن عاصم، ج1، ص14. 5 البهجة في شرح التحفة، لعلي بن عبد السلام التسولي على تحفة الحكام لابن عاصم، ج1، ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وعرفه الدردير من علماء المالكة أيضًا، بأنه: حكم حاكم أو محكم بأمر ثبت عنده، كدين وحبس، وقتل، وجرح، وضرب، وسب، وترك صلاة، ونحوها، وقذف، وشرب، وزنا، وسرقة، وغصب، وعدالة، وضدها، وذكورة، وأنوثة، وموت، وحياة، وجنون، وعقل، وسفه، ورشد، وصغر، وكبر، ونكاح، وطلاق، ونحو ذلك، ليرتب على ما ثبت عنده مقتضاه، أو حكمه بذلك المقتضى1. وبعد أن ذكر الدردير هذا التعريف، أراد أن يبين معنى عبارة، "ليرتب على ما ثبت عنده مقتضاه، أو حكمه بذلك المقتضى"، فقال: "مثاله: لو ثبت عنده دين أو طلاق، فالحكم تارة بالدين أو الطلاق، ليرتب على ذلك: الغرم: أو فراقها، وعدتها، أو يحكم بالغرم أو الفراق، لما ثبت عنده على حسب ما يقتضيه الحال من الرفع له". ويلاحظ على هذا التعريف التطويل الذي لا داعي له؛ لأن التطويل يعاب في التعاريف، إذ التعاريف مبناها على الاختصار. عند الشافعية: وعرفه بعض فقهاء الشافعية بأنه: "فصل الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى"2. وعرفه بعض فقهائهم أيضًا أنه: "إلزام من له الإلزام بحكم الشرع"، وإن كان يرد على التعريفين أنهما غير مانعين؛ لأنهما شاملان لرياسة الدولة والتعريف الأول يشمل حكم المحكم أيضًا.   1 الشرح الصغير، لأحمد الدردير، ج4، ص185, 186. 2 مغني المحتاج، ج4، ص371، وحاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 هذا وسلطة الإلزام ملاحظة في تعريف القاضي بخلاف المفتي؛ لأن المفتي وإن كان يتفق مع القاضي في أن كلا منهما مظهر لحكم الشرع، إلا أن القاضي له سلطة الإلزام والإمضاء، أي: تنفيذ الحكم بجانب إظهاره لحكم الشرع، وأما المفتي فليس له سلطة الإلزام والإمضاء، وإنما هو مظهر فقط لحكم الشرع في المسألة التي يستفتى فيها، ولذلك قال بعض العلماء: إن القيام بحق القضاء أفضل من الإفتاء1، وإن كان المفتي أقرب إلى السلامة وأبعد من القاضي عن الإثم2. وقد لاحظ أيضًا ابن رشد -أحد فقهاء المالكية- سلطة الإلزام الثابتة للقاضي، عند تعريفه للقضاء، فعرفه بأنه. "الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام"3 ومن هذا التعريف أيضًا يتبين الفرق بين المفتي والقاضي. عند الحنابلة: وعرفه بعض فقهاء الحنابلة بأنه: "الإلزام بالحكم الشرعي وفصل الخصومات"4. وهناك تعريف آخر في كتب الحنابلة هو "تبيين الحكم الشرعي والإلزام به، وفصل الخصومات"5.   1 نهاية المحتاج. للرملي، ج4، ص235، وحاشية الشرقاوي على التحرير ج2. ص491. 2 إعلام الموقعين لابن قيم الجورية، ج1، ص36. 3 تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام لإبراهيم بن علي بن فرحون، مطبوع بهامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ محمد أحمد عليش. ج1، ص12. 4 كشاف القناع، للبهوني، ج6، ص285. 5 شرح منتهى الإرادات المجلد الثالث. ص459. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وعرفه الصنعاني بأنه: "إلزام ذي الولاية بعد الترافع". وذكر الصنعاني تعريفا آخر لغيره من العلماء هو أنه: "الإكراه بحكم الشرع في الوقائع الخاصة لمعين أو جهة"، ثم بيّن الصنعاني أن المراد بالجهة كما لو حكم القاضي لبيت المال "الخزانة العامة للدولة"، أو عليه1. رأي القرافي: ويرى القرافي -أحد كبار علماء المالكية- التعبير بإنشاء الإلزام بدلا من الإلزام، فقد عرف الحكم أي: القضاء بقوله: "إنشاء إلزام أو إطلاق"، فإنشاء الإلزام كما إذا حكم القاضي بلزوم المهر للزوجة، أو النفقة لها، أو حكم بلزوم الشفعة، وما ماثل هذا. فالحكم بالإلزام هو الحكم، وأما الإلزام الحسي من حبس أو غيره فليس بحكم؛ لأن القاضي قد يعجز عن ذلك. وأما الحكم بالإطلاق فكما لو نظر القاضي في قضية أرض زال الإحياء عنها2، فحكم بزوال الملك، فإنها تبقى مباحة   1 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص115. 2 إصلاح الأراضي البور يسمى في الاصطلاح الفقهي: إحياء الموات، شبه العلماء عمارة الأرض بالحياة، وتعطيلها بعدم الحياة، فإحياء الأرض عمارتها، وبيّن العلماء أن الموات هو ما ليس يملكه أحد من الأرض، ولا ينتفع بها بأي وجه من وجوه الانتفاع، ويكون موقعها خارج البلد، وعلى هذا لا يعد مواتا أرضًا مملوكة لأحد، أو أرضًا ينتفع بها على أي صورة كان الانتفاع كما لو كانت مرعى للحيوانات، أو كانت أرضًا داخل البلد. وجمهور العلماء على أنه يجوز إحياء الموات وتملكه ولو لم يستأذن الحاكم في ذلك، وأبو حنيفة يشترط استئذانه. وقد استند الجمهور إلى ظاهر الحديث الوارد في هذا، وهو ما رواه البخاري عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من عمر أرضًا ليست لأحد فهو أحق بها"، قال عروة: وقضى به عمر في خلافته. واستندوا أيضًا إلى القياس على تملك الماء المأخوذ من البحر والنهر، وما صيد من الطيور والحيوانات، فإن العلماء متفقون على أنه لا يشترط في ذلك إذن الحاكم. سبل السلام، للصنعاني، ج3، ص82. والفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ج4، ص70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 لكل أحد، أو زوال ملك الصائد عن صيد ند، فيجوز لكل أحد بعد ذلك أن يصيده1. الرأي غير صحيح: وهذا الرأي غير صحيح؛ لأن ولاية إنشاء الأحكام أو الإلزام بها ليست ثابتة للقاضي بل هي لصاحب الشرع خاصة، ولذلك يقول الفقهاء، إن حكم القاضي مظهر للحق وليس مثبتا له، أي: ليس منشئًا له. فالإلزام الذي يصدر من القاضي إلزام في ظاهر الأمر فقط، أي: ليس إلزامًا حسيا، وأما التنفيذ الحسي فهو للسلطة التنفيذية، وهو تنفيذ للإلزام الذي ثبت بخطاب الشارع. ولهذا فالصحيح أن القضاء إخبار وليس إنشاء، والإلزام الذي هو في ظاهر الأمر هو الذي يميز القضاء عن الفتوى، وتشترك الفتوى مع القضاء في أن كلا منهما إخبار عن الحكم الشرعي، ولكن الذي يميز القضاء عن الفتوى أن الفتوى إخبار عن الحكم ولا إلزام فيها، أما القضاء فهو إخبار عن الحكم على سبيل الإلزام2. هذا، ويمكن أن نختار من بين هذه التعريفات تعريف ابن رشد للقضاء، وهو "الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام".   1 تبصرة الحكام لابن فرحون، مطبوع بهامش فتح العلي المالك، ج1، ص12، والبهجة في شرح التحفة لعلي بن عبد السلام التسولي، ج1، ص15، دار المعرفة، بيروت. 2 أستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، "محاضرات في علم القضاء"، مكتوبة بالآلة الكاتبة، ص12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ضرورة القضاء وسموه وخطره: ضرورة القضاء: الإنسان كائن اجتماعي بطبعه الذي فطره الله عليه، لا يستطيع العيش -في يسر- منفردا، فلا تستقيم حياته إلا إذا عاش في جماعة، وإذا كان الناس لا يستطيعون الحياة الكاملة إلا مجتمعين، فلا بد أن تحدث نزاعات وخلافات حول الكثير من الأمور، لتعارض المصالح والرغبات، ولحب السيطرة، والاستيلاء على ما هو من حقوق الغير، وضن النفوس بحقوق الآخرين, فإذا لم يوجد رئيس لهذه الجماعة يكون حاسما للتنازع والتواثب، وظلم الناس بعضهم لبعض، ومؤديا الحقوق إلى أصحابها، أدى ذلك إلى حدوث ضرر جسيم، قَلّ أن يسلم منه أحد من أفراد الجماعة، ولذلك كان من الواجبات التي أوجبها الشرع -بإجماع العلماء- إقامة رئيس للدولة، لكي يحقق العدل ويمنع ظلم البعض للبعض، ويؤكد شرع الله؛ لأن طبائع البشر قد جبلت على التظالم، وقَلّ من الناس من ينصف من نفسه, فلا بد من وجود سلطة قادرة قاهرة لها السيادة على الجميع تمنع المظالم وتقطع المنازعات التي هي مادة الفساد، وهذه السلطة تتمثل في رئيس الدولة. رئيس الدولة مشتغل بما هو أهم من القضاء: ومن المعلوم أن الرئيس الأعلى للدولة، مشتغل بما هو أهم من القضاء، ولا يستطيع أن يقوم بنفسه بكل الأمور التي نصب من أجلها، فهو يحتاج إلى من ينوب عنه ويقوم مقامه، فكان لا بد من وجود القاضي لينوب عن رئيس الدولة في رفع الظلم وإيصال الحقوق إلى أربابها، وكل ما هو من مصالح الناس، ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث القضاة إلى الآفاق، فبعث معاذ بن جبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 -رضي الله عنه- إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة1. سمو القضاء: دلت النصوص الشرعية على أن في القضاء فضلا عظيمًا لمن قوي على القيام به وأداء الحق، من ذلك ما بينه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أن الله عز وجل جعل فيه أجرا مع الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، فعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، فإذا حكم واجتهد ثم أخطأ فله أجر". رواه البخاري ومسلم2. وفي رواية صحح الحاكم إسنادها "فله عشرة أجور" لكن الإمام الشوكاني بين أن هذه الرواية التي رواها الحاكم والدارقطني في إسنادها فرج بن فضالة، وهو أحد الضعفاء في الحديث، فلا تقبل هذه الرواية، وكذلك توجد رواية أخرى عند أحمد بن حنبل بلفظ "إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت، فأخطأت فلك حسنة"، وهذه أيضًا رواية ضعيفة3، فالثابت هو الرواية التي بينت أن المجتهد إذا اجتهد فأصاب فله أجران. وقد أجمع علماء المسلمين على أن هذا الأجر في الحاكم إذا كان عالما مجتهدا، أما الجاهل فهو آثم بجميع أحكامه، حتى إن وافق حكمه الصواب، وأحكامه كلها مردودة عند بعض العلماء؛ لأن الإصابة في أحكامه اتفاقية4.   1 بدائع الصنائع. للكاساني، ج7، ص2، ونهاية المحتاج للرملي، ج8، ص236. 2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص117، 118. 3 نيل الأوطار، للشوكاني، ج9، ص164، 165. 4 حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص491. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 القضاء من أعمال الطاعات: والقضاء يعد من أعمال الطاعات والتقرب إلى الله -عز وجل- إذا أخلص فيه القاضي وقصد به وجه الله؛ لأن في القضاء أمرًا بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وأداء للحقوق إلى أصحابها، وإصلاحا بين الناس، وتخليصا لبعضهم من بعض، وذلك كله من أبواب الطاعات والتقرب إلى الله -عز وجل- ولذلك تولى النبي -صلى الله عليه وسلم- القضاء، وتولاه الأنبياء قبله، عليهم الصلاة والسلام جميعًا، فكانوا يحكمون لأممهم، وبعث -صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قاضيًا إلى اليمن، وكذلك بعث معاذ بن جبل قاضيا. خطر القضاء: لكن يجب أن يلاحظ أنه إذا لم يقم صاحب هذا المنصب الخطير بما أوجبه الشرع، ولم يؤد الحق فيه، فإنه يعرض نفسه لخطر عظيم ووزر كبير، ولذلك نقل عن علمائنا السابقين -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يتخوفون منه، ويمتنعون عن توليه أشد الامتناع، فقد حكى العلماء أن أبا حنيفة اجتنب القضاء، وصبر على الضرب، والسجن حتى مات في السجن، وقال: البحر عميق فكيف أعبر بالسباحة؟ 1. وامتنع الشافعي لما استدعاه المأمون للقضاء. ويقال أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة2. ولشدة خطره نجد رسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول فيما رواه أبو هريرة عنه: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين"، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود   1 شرح فتح القدير، للكمال بن الهمام، وحاشية سعدي جلبي، ج7، ص260. 2 المغني لابن قدامة، ج9، ص34, 35، وسبل السلام، ج4، ص117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 والترمذي، والنسائي، وابن ماجه وصححه ابن خزيمة، وابن حبان. فهذا الحديث الشريف يفيد عظم خطر منصب القضاء، يقول الصنعاني عند شرحه لهذا الحديث الشريف: "كأنه يقول من تولى القضاء فقد تعرض لذبح نفسه، فليحذره، وليتوقه، فإنه إن حكم بغير الحق مع علمه به، أو جهله له، فهو في النار" .... وقال الصنعاني: "وقيل ذبح ذبحًا معنويا؛ لأنه إن أصاب الحق فقد أتعب نفسه في الدنيا، لإرادته الوقوف على الحق وطلبه، واستقصاء ما تجب عليه رعايته في النظر في الحكم، والموقف مع الخصمين، والتسوية بينهما في العدل والقسط، وإن أخطأ في ذلك لزمه عذاب الآخرة، فلا بد له من التعب والنصب"1. وجه تشبيه القضاء بذبح بغير سكين: ويذكر بعض العلماء وجه تشبيه القضاء بالذبح بغير سكين، فيقول: لأن السكين تؤثر في الظاهر والباطن جميعًا، والذبح بغير سكين يؤثر في الباطن بإزهاق الروح، ولا يؤثر في الظاهر، ووبال القضاء لا يؤثر في الظاهر، فإن ظاهره جاه وعظمة، لكن باطنه هلاك2. وبين الشيخ عبد الله الشرقاوي من علماء الشافعية، أن هذا الحديث محمول على عظم الخطر فيه، أو على من يكره له أن يتولى القضاء، أو يحرم عليه ذلك3. وروى الإمام مسلم عن أبي ذر قال: يا رسول الله ألا تستعملني؟ "أي: توليني عملا من الولايات العامة"، قال: "إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها"، قال الإمام النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي الخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلا وعدل فيها، فأجره عظيم، كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها والله أعلم4. وروى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، والبيهقي5 أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار".   1 سبل السلام، ج4، ص116. 2 شرح فتح القدير، وحاشية سعدي جلبي، ج7، ص262. 3 حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص491. 4 فتح الباري، بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج3، ص126. 5 سبل السلام، ج4، ص115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 مشروعية القضاء : من القرآن: قامت الأدلة من الكتاب الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وإجماع علماء الأمة الإسلامية على أن القضاء مشروع، فمن الكتاب الكريم قول الله تبارك وتعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 1، وقوله عز وجل: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 2، وقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} 3، وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 4، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} 5. من السنة: وأما السنة، فمنها ما رواه عمرو بن العاص عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، رواه البخاري ومسلم. وغير ذلك من الأحاديث الشريفة. من الإجماع: وقد أجمع علماء المسلمين على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس6.   1 سورة ص، الآية: 26. 2 سورة المائدة، الآية: 49. 3 سورة النور، الآية: 48. 4 سورة النساء، الآية: 65. 5 سورة النساء، الآية: 105. 6 المغني لابن قدامة. ج9، ص34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الحكم الشرعي لوجود القاضي: علمنا أن القضاء مشروع بمعنى أن الشرع أقره، لكننا سنتعرض هنا لجزئية أخرى هي مع أن القضاء مشروع، هل وجود القاضي من المباحات أو من الأمور المستحبة، أو من الأمور المفروضة؟ لأن من المعروف أنه قد يكون الشيء مشروعًا ومع ذلك هو جائز، أو مستحب، أو واجب، فما هو حكم وجود القاضي في المجتمع من هذه الناحية؟ بيّن العلماء أن القضاء من فروض الكفايات، قال شمس الدين الرملي: "بل هو أسنى فروض الكفايات حتى ذهب الغزالي إلى تفضيله على الجهاد". معنى الفرض الكفائي: ومعنى الفرض الكفائي أنه الأمر الذي طلب الشارع حصوله على سبيل الحتم والإلزام, من مجموع المكلفين لا من كل فرد، وذلك مثل القضاء، والإفتاء والجهاد في سبيل الله، ورد السلام إذا كان المرء في جماعة، وأداء الشهادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعلم الطب والصناعات التي يحتاج الناس إليها في حياتهم. حكم هذا النوع: حكم هذا النوع أنه إذا فعله البعض من المكلفين سقط الوجوب عن الباقين وأما إذا لم يفعله أحد فإن جميع القادرين على فعله يكونون آثمين. ويتحول إلى واجب عيني: وقد يتحول الواجب، الكفائي إلى واجب عيني، وذلك إذا كان يوجد شخص يستطيع القيام بهذا الواجب، ولا يوجد غيره يستطيع القيام به، كما لو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وجد شخص تتوافر فيه شروط القاضي, ولا يوجد غيره متوافرة فيه هذه الشروط، فيصير في هذه الحال تولي منصب القاضي ليس فرضًا كفائيا عليه، بل تحول إلى فرض عيني، فإذا لم يتولى هذا الشخص القضاء كان آثما؛ وذلك لأنه لا بد من وجود القضاء بين الناس؛ لأن أمورهم لا تستقيم بدونه، فكان واجبًا عليهم إيجاده بينهم، قال أحمد بن حنبل لا بد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ وكذلك لو كان هناك أكثر من واحد يصلح لتولي القضاء، وامتنعوا جميعا عن توليه، فإنهم يأثمون جميعا بتركه، كما لو ترك الجميع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال بعض العلماء: وفي هذه الحال يجبر رئيس الدولة أو من له السلطة أحدهم على تولي هذا المنصب1؛ وذلك لأنه إذا لم يجبر رئيس الدولة أو من له السلطة أحدا في هذه الحال، بقي الناس بلا قاض، وضاعت الحقوق، وذلك غير جائز، ويرى بعض آخر من العلماء أنه ليس من حق رئيس الدولة إجباره؛ لأن القضاء فرض كفاية، فلو أجبرناه عليه تعين عليه، أي: صار فرض عين لا فرض كفاية. لكن يرد على هذا بأن الفرض الكفائي يتحول إلى فرض عيني عندما لا يقوم القادرون بالفرض الكفائي. إقامة قاض بين الناس فرض عين على رئيس الدولة: بينا أن وجود القاضي بين أفراد المجتمع، ليحكم بينهم في خصوماتهم، ودعاواهم، فرض كفائي، فإذا وجد من يقوم بهذا الواجب فقد سقط الوجوب عن   1 نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص235. وتكملة المجموع، لمحمد نجيب المطيعي، ج13، ص106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الباقي، ونبين هنا أن العلماء قرروا أنه من الفروض العينية على رئيس الدولة أن يقلد شخصًا القضاء، فلا يجوز له أن يخلي المجتمع من قاض1. ليس من اللازم أن يقوم غير رئيس الدولة بالقضاء: وليس من اللازم أن يقوم غيره بالقضاء فمن الجائز أن يقوم رئيس الدولة بهذا المنصب, إذا كانت أعباء منصبه تسمح بهذا، فإذا لم تسمح الأعباء بقيامه بالقضاء وجب عليه أن يقيم للناس قاضيًا، والغالب أن واجبات منصب رئيس الدولة وتعددها لا تعطيه الوقت لتولي القضاء بجانب أعماله الأخرى. الدليل على أن نصب القاضي فرض: ومما يدل على أن نصب القاضي فرض، أن القاضي ينصب لإقامة أمر مفروض هو القضاء، قال الله عز وجل: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} 2، وقال تبارك وتعالى لنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 3. ولما كان القضاء هو الحكم بين الناس بالحق, والحكم بما أنزل الله عز وجل، فإن نصب القاضي يكون لإقامة الفرض فيكون فرضا. ويدل على ذلك أيضًا أن نصب رئيس الدولة واجب شرعًا، للأدلة التي قامت على ذلك، ومنها إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على وجوب إقامة رئيس لهم يخلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رعاية مصالحهم الدينية والدنيوية،   1 بدائع الصنائع للكاساني، الطبعة الثانية، ج7، ص2، دار الكتاب العربي. 2 سورة ص، الآية 26. 3 سورة المائدة، الآية: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وكان ذلك في اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة1, يوم وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم. والاحتياج إلى رئيس الدولة إنما هو لإيصال الحقوق إلى أصحابها، وإنصاف المظلوم من الظالم، وقطع المنازعات، وإقامة الحدود على مرتكبي الجرائم التي تستحقها, وغير ذلك من الأمور التي لا تتحقق إلا بوجود رئيس للدولة. ومن المعلوم أن رئيس الدولة لا يمكنه أن يقوم بهذه الأمور التي نصب لها، وإنما يحتاج إلى نائب يقوم بهذه الأمور نيابة عنه في ذلك، وهو القاضي. ولهذا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث القضاة إلى النواحي المختلفة، فبعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة كما بينا سابقا فكان نصب القاضي من ضرورات نصب رئيس للدولة، فكان فرضًا2. ينبغي اختيار الأفضل: هذا، وقد بيّن العلماء أنه ينبغي لمن له ولاية تقليد القضاة, وهو رئيس الدولة أو من يقوم مقامه أن يختار لهذا المنصب من هو أقدر وأولى, لديانته وعفته وقوته دون غيره، استنادا إلى ما رواه الطبراني عن ابن عباس، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من تولى من أمر المسلمين شيئًا فاستعمل عليهم رجلا، وهو يعلم أن فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين".   1 سقيفة بني ساعدة كانت مكانا للاجتماعات العامة في المدينة كما كانت دار الندوة بمكة المكرمة. 2 بدائع الصنائع للكاساني، ج7، ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 حكم قبول القضاء مدخل ... حكم قبول القضاء: بين علماؤنا -رضي الله عنهم- أن قبول القضاء قد يكون في بعض الأحوال جائزًا، وقد يكون فرض عين وقد يكون حراما. الحال الأولى: جواز قبول القضاء، وهي ما إذا كان الشخص تتوفر فيه الشروط التي يجب أن تتوافر في القاضي من عدالة، واجتهاد، وغيرهما، ويوجد غيره مثله تتوافر فيه هذه الشروط، فهذا لا يفترض عليه قبول القضاء، بل هو في سعة من القبول والترك. الدليل على جواز القبول: وقد استدل لجواز القبول بأن الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قضوا بين الأمم بأنفسهم، وقلدوا غيرهم القضاء، وأمروا بذلك، فقد بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معاذا -رضي الله عنه- إلى اليمن قاضيا، وبعث عتاب بن أسيد -رضي الله عنه- إلى مكة قاضيًا كما قلنا سابقا، وكذلك ثبت عن الخلفاء الراشدين أنهم قضوا بأنفسهم، وقلدوا غيرهم القضاء، فقلد عمر بن الخطاب شريحا القضاء، وقرره عثمان وعلي -رضي الله عنهم- جميعًا. الدليل على جواز الترك: وأما جواز الترك فقد استدل عليه بما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه حذر أبا ذر من الإمارة. ما هو الأفضل؟ هذا، وإذا كان يجوز الترك والقبول، فما هو الأفضل، هل الأفضل له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 قبوله أم الأفضل له تركه؟ قال بعض العلماء بهذا، وقال البعض الآخر بذاك. دليل من قال بأن الترك أفضل: أما القائلون بأن الترك أفضل فقد احتجوا بما روي عن رسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: $"من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" وهذا الحديث يجري مجرى الزجر عن تولي هذا المنصب. دليل من قال بأن القبول أفضل: وأما القائلون بأن القبول أفضل فقد احتجوا بأن الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قضوا بين أممهم بأنفسهم، وكذلك قضى الخلفاء الراشدون ولنا فيهم قدوة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ ولأن القضاء بالحق إذا قصد به القاضي وجه الله تبارك وتعالى كان عبادة خالصة بل هو من أفضل العبادات. الرد على الاستدلال بحديث من ولي القضاء: ثم رد هذا الفريق على الاستدلال بحديث: "من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين" بأن هذا الحديث محمول على القاضي الجاهل، أو على العالم الفاسق، أو الطالب للقضاء الذي لا يأمن على نفسه الرشوة، فيخاف أن يميل إليها، وبهذا يمكن التوفيق بين الأدلة1. الحال الثانية: وجوب تولي القضاء, وهي ما إذا كان الشخص يصلح للقضاء، ولا يوجد شخص آخر تتحقق فيه هذه الصلاحية، فهذا يتعين على رئيس   1 فتح القدير للكمال بن الهمام، ج7، ص252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الدولة أو من يمثله أن يوليه القضاء, ويتعين عليه أن يقبل هذا المنصب إذا ولاه؛ لأن القضاء فرض كفاية، ولا يستطيع أحد غيره أن يقوم به، فيتعين عليه كأي فرض آخر من فروض الكفايات إذا لم يوجد من يستطيع القيام به إلا واحد. إذا لم يكن معروفًا عند رئيس الدولة: وإذا لم يكن معروفا عند رئيس الدولة, أو من يقوم مقامه في تولية القضاة، لزمه أن يعرفه بنفسه، ويعرض نفسه عليه لتولي القضاء؛ وذلك لأن هذا المنصب يجري مجرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ولو لم يكن يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا واحد وجب عليه ذلك. لرئيس الدولة إجباره على تولي هذا المنصب: وقد صرح بعض العلماء بأن لرئيس الدولة أن يكره من يعلم قدرته على القضاء لتولي هذا المنصب الخطير؛ وذلك لأنه لا بد أن تصل الحقوق إلى أربابها بإلزام المانعين منها، ولا يكون ذلك إلا بواسطة القضاء. هذا وقد صرح فقهاء المالكية بأنه يجب قبول القضاء على الذي تتوافر فيه شروط القضاء, ويخاف فتنة على نفسه أو ماله أو ولده، أو على الناس إن لم يتول هو القضاء، أو يخاف ضياع الحق له أو لغيره إن لم يتوله، بل قالوا إنه يلزمه أن يطلب توليته القضاء من الحاكم, إن لم يطلب منه الحاكم توليه1. الحال الثالثة: حرمة تولي القضاء، وهي حال ما إذا كان الشخص لا يحسن القضاء، ولم تجتمع فيه الشروط المطلوبة، فهذا يحرم عليه أن يقبل هذا المنصب. دليل هذا: يدل على هذا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين أن من يقضي بين الناس على جهل معذب في النار، يقول -صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لم يعرف الحق فقضى للناس على جهل فهو في النار"، رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الحاكم2.   1 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص130, 131. 2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص115، والمغني لابن قدامة، ج9، ص35. وتكملة المجموع لمحمد نجيب المطيعي، ج19، ص110, 111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 حكم طلب القضاء : ما سبق كان بيانا لحكم قبول القضاء إذا عرضه رئيس الدولة أو من له سلطة تعيين القضاة على الشخص، ونتكلم هنا عن حكم السعي في طلب القضاء، بين ابن فرحون أحد أشهر علماء المالكية أن طلب القضاء يعتريه الأحكام الخمسة، فيكون واجبًا، أو مستحبا، أو حرامًا، أو مكروهًا، أو مباحًا، وإليك بيانا لهذه الأقسام الخمسة. متى يكون واجبًا: يكون واجبا إذا كان من أهل الاجتهاد، أي: له القدرة على استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أو من أهل العلم والعدالة، ولا يوجد قاض، أو يوجد قاض لكن لا تجوز ولايته أو ليس في البلد من يصلح للقضاء غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أو لكونه إن لم يتول القضاء يتولاه من لا يجوز توليته. أو كان القضاء بيد من لا يجوز بقاؤه عليه، ولا سبيل إلى عزله إلا بأن يتصدى هذا لهذا المنصب، فحينئذ يتعين عليه التصدي لذلك والسعي فيه، إذا كان يقصد بطلبه حفظ الحقوق، وجريان الأحكام على وفق شرع الله؛ لأن في تحصيله القيام بفرض الكفاية. أي: يجب طلب القضاء سواء أكان المكان شاغرًا، أو مشغولًا بمن لا يصلح للقضاء. وصرح العلماء بأنه يلزمه أن يطلب القضاء ممن له سلطة تعيين القضاة، سواء كان من له سلطة تعيين القضاة عالما به، ولم يطلب منه أن يتولى القضاء، أم كان غير عالم به1. متى يكون مستحبا: يكون مستحبا كما لو كان هناك عالم خامل الذكر, لا يعرف رئيس الدولة أو من له سلطة تعيين القضاة، ولا الناس علمه، فلا يرجع إليه الناس لمعرفة الأحكام الشرعية لعدم شهرته، فأراد أن يسعى في القضاء، لنشر العلم ونفع الناس به. متى يكون حراما: كما إذا سعى في طلب القضاء، وهو جاهل لا تتوفر فيه أهلية القضاء، أو كان من أهل العلم وسعى في طلبه لكنه متلبس بفعل من الأفعال التي توجب صفة الفسق، كأن كان يشرب الخمر، أو غير ذلك من الأعمال المفسقة. أو كان قصده بهذا المنصب أن ينتقم من أعدائه، أو قبول الرشوة من   1 نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 المتخاصمين أمامه، وما ماثل هذا من المقاصد الممنوعة. هذا ويمكن أن نقول كما يحرم طلب القضاء على من لم تكن شروط القاضي مستوفية فيه، فإنه كذلك يحرم على أي شخص أن يطلب منصبا عاما، لا تتوافر فيه الشروط المطلوبة لهذا المنصب، كالذي لا يستطيع إلا أن يعرف مجرد القراءة والكتابة، وليس عنده الكفاءة المطلوبة لعضوية المجالس التشريعية النيابية، ومع ذلك يدخل في هذه المجالس اعتمادًا على أن القانون الوضعي لا يشدد في الشروط ويكتفي بمجرد معرفة القراءة والكتاية. متى يكون مكروها: مثل ابن فرحون لهذا القسم بما لو كان يسعى في طلب القضاء لتحصيل الجاه والاستعلاء على الناس، ثم قال: فهذا يكره له السعي، ولو قيل إنه يحرم كان وجهه ظاهرًا، لقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} 1. ثم ذكر ابن فرحون صورة أخرى للكراهة، وهي ما إذا كان غنيا عن أخذ الرزق على القضاء، وكان مشهورًا بعلمه بين الناس، لا يحتاج أن يشهر نفسه وعلمه بالقضاء، ثم قال ابن فرحون: ويحتمل أن يلحق هذا بقسم المباح. متى يكون مباحًا: كما إذا كان فقيرًا وله عيال، فيجوز له أن يسعى في تحصيل القضاء لكي يسد حاجته. وكما لو كان يقصد به أن يدفع ضررًا عن نفسه بتولي هذا المنصب2.   1 سورة القصص، الآية: 83. 2 تبصرة الحكام لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك لمحمد أحمد عليش، الجزء الأول ص16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 القضاء عند العرب قبل الإسلام : تبين كتب الأدب أنه كان في الجاهلية من يسمون بالحكام, الذين يفصلون بين الناس في الخلافات والمنازعات التي كانت تحدث بينهم في مسائل النسب، والفضل، والتركات، والدماء، ولم يكن هؤلاء -كما قد يظن البعض- قضاة بالمعنى المفهوم للقضاة اليوم، بل كانوا "محكمين" يقصدهم الناس برضاهم دون إجبار من أحد. أمور يختلف فيها القضاء والتحكيم: والقضاء والتحكيم يختلفان في أمور من أهمها: أولا: أن القاضي موظف خصصته الدولة ليقضي بين الناس, وليس له الحق في أن يرفض النظر في الخصومات، أما الحكم أو "المحكم" فهو شخص عادي ليس له صفة رسمية، يلجأ إليه الناس للفصل في منازعاتهم, فإن شاء قبل أن يقوم بهذه المهمة، وإن شاء أبى، وليس لأحد حق إجباره على هذه المهمة. ثانيًا: أن المدعي أو صاحب الحق إذا رفع دعواه إلى القاضي فإنه يصبح المدعى عليه ملزمًا بمخاصمة المدعي والحضور إلى مجلس القاضي، فإذا لم يحضر حكم القاضي عليه غيابيا، أما التحكيم فليس لأحد الخصمين حق في إجبار خصمه على المخاصمة والحضور أمام الحكم، ولا عبرة للتحكيم إلا إذا رضي الخصمان كلاهما به, وحضر كل منهما باختياره إلى الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ثالثًا: قضاء القاضي ملزم لكلا الطرفين في القضية التي نظرها، وإذا لم ينفذ المحكوم عليه ما حكم به القاضي اختيارا، فإن الدولة تجبره على التنفيذ ولو باستعمال القوة، أما حكم الحكم في الخصومات التي يحكم فيها فإنه لا ينفذ إلا إذا كان كل من الخصمين راضيًا بهذا الحكم1. من هذا تبين أن القضاء ملزم في ثلاث نواح: أولاها: أن القاضي ملزم بأن يقضي فيما يرفع إليه من قضايا. ثانيتها: أن المدعى عليه ملزم بالخصومة والحضور أمام مجلس القاضي. ثالثتها: أن الأحكام التي قضى بها القاضي ملزمة لكل من المتخاصمين. فالتحكيم ليس ملزما "للمحكم" وليس ملزمًا للخصم، وكذلك ما حكم به المحكم, فإنه لا يلزم أيا من الخصمين إلا برضاه بذلك. من هذا يتبين أن العرب في الجاهلية لم يعرفوا القضاء؛ لأن القضاء أحد المظاهر التي تدل على التنظيم الحكومي، ولم يكن للعرب قبل الإسلام حكومة بالمعنى الذي نعرفه للحكومات الآن2، فلم تكن لهم إدارة منظمة لها السلطان الذي يخضع له الناس، وتعمل على أن يصل الحق إلى صاحبه، وتمنع أن يتعدى الناس بعضهم على البعض3. وإنما كانوا بدوا أو شبه بدو يعيشون في قبائل شتى وكل قبيلة من هذه القبائل يجمع أفرادها رابطة الدم التي كانت موضع التقديس من كل عربي يعيش في شبه الجزيرة العربية. وإذا كانت بعض المصادر تحدثنا عن "قاضي السوق" الذي يجلس في سوق عكاظ، فإن قاضي السوق لا يعدو أن يكون محكما, اختارته جماعة السوق ليحكم بينهم في أمور محدودة وموسم معين، ثم تنتهي مهمته. وكذلك تبين المصادر أن بني سهم في مكة كانوا أصحاب "حكومة" ولكن هذه الحكومة لم تكن منصبا, وإنما كانت لقبا أطلق على بني سهم، لكثرة المحكمين منهم.   1 هذا أحد رأيين في الفقه الإسلامي، والرأي الثاني أن الحكم إذا حكم في المسألة التي ينظرها فإنه ينفذ حكمه عليهما ما داما رضيا بتحكيمه من البداية. 2 عبقرية الإسلام في أصول الحكم، للدكتور منير العجلاني، ص331، دار النفائس ببيروت. 3 تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، للدكتور/ حسن إبرهيم حسن، الجزء الأول، ص51, 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 حكام اشتهروا في الجاهلية : وهناك حكام اشتهروا في الجاهلية، كالأقرع بن حابس، وجابر بن زرارة، وأكثم بن صيفي، وعبد المطلب بن هاشم، جد رسول الله -صلى الله عليه وسلم. حكام أيضًا من النساء: وكان هناك أيضًا حكام من النساء قد اشتهرن، مثل حذام بنت الريان، التي قيل فيها: إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام وسحر بنت لقمان، وهند الإيادية، وغيرهن كثيرات1.   1 عبقرية الإسلام في أصول الحكم، ص333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الاحتكام إلى شيخ القبيلة والعراف، والكاهن1: كان يرأس القبيلة واحد من أبنائها تعتمد عليه في قيادتها في معاركها المتعددة التي تخوضها ضد القبيلة الأخرى نهبا لما لديها، أو استردادًا لحق انتزعته الأخرى منها. وكان شيخ القبيلة حكما بين الناس في منازعاتهم وخلافاتهم، يلجئون إليه بوصفه رمزًا للسلطة والحكم. وكان الناس أيضا يلجئون إلى العراف والكاهن للاستشارة في الأمور المغيبة. لم يكن للحكام قانون مدون: الحكام الذين كان يقصدهم الناس للفصل في قضاياهم لم يكونوا يحكمون بقانون مدون، وإنما يرجعون إلى عرفهم وتقاليدهم التي كونتها تجاربهم أحيانا، وما وصل إليهم عن طريق اليهودية أحيانًا2. وكان الحكم فيها يجري أحيانا بتوجيه من الغريزة والفطرة3. يرتضون نظام يتفق ومفاهيمهم السازجة، فيصير بمرور السنين عرفا، لا يستطيع فرد أن يغير منه شيئا بسهولة، وسواء في هذا العرب الذين كانوا يعيشون في الصحراء، مثل: نجد وأطراف الحجاز, والعرب الذين أخذوا بشيء من الحضارة، الذين يقطنون المدن كمكة والمدينة، أو في أطراف شبه الجزيرة العربية، كممالك اليمن في الجنوب ومملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ودولة الغساسنة في الشمال الغربي. وكان لكل قبيلة عرف وتقاليد خاصة قد تخالف ما للقبائل الأخرى من أعراف وتقاليد, وقد تتفق معها في كثير أو قليل4.   1 الكهانة والعراف: مطالعة الغيب، والإخبار بالحوادث الماضية والآتية، وقد يخص بعض العلماء الكاهن بعلم المستقبل، والعراف بعلم الماضي، وكانوا يزعمون أن لهم أتباعا من الجن يسترقون السمع ويأتونهم بالأخبار، فاشتد اعتقاد العرب في الجاهلية فيهم، وكثر التجاؤهم إليهم، يستشيرونهم في المعضلات، ويستقضونهم في الخصومات. ويرى البعض أن كلا من لقب الكاهن والعراف كان يطلق على الذين يخبرون عن الماضي والحاضر والمستقبل، بما يدعون لأنفسهم من الاتصال بالقوى غير المنظورة، ولكن لقب الكاهن اختص بطبقة تميزت بأنها كانت تلقي أجوبتها بأسلوب خاص هو أسلوب "السجع" ومن هنا اشتهر قولهم: "سجع الكهان"، تاريخ الأدب العربي للأستاذ أحمد حسن الزيات، ص12، وعبقرية الإسلام في أصول الحكم، ص334. 2 فجر الإسلام، للأستاذ أحمد أمين، ص225، 226. 3 الإسلام والحضارة العربية، للأستاذ محمد كرد علي، ج1، ص153، نقلا عن: تاريخ المسلمين في أسبانيا، للأستاذ دوري. 4 التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، للدكتور أحمد شلبي، ج1، ص44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 القضاء في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مدخل ... القضاء في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم: جرت العادة في الأنظمة الحديثة على فصل السلطة القضائية عن السلطة التشريعية، تمشيًا مع مبدأ فصل السلطات، فرجال القضاء غير رجال التشريع وهم جميعا غير رجال التنفيذ. ولكن الوضع في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان غير هذا الوضوع، فالرسول كان هو المرجع للتشريع، فكان المسلمون يرجعون إليه ليعلمون حكم الله فيما يعرض لهم من الحوادث، فإذا حدثت حادثة، أو شجر بينهم خلاف، فإن كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- بَيّن قَبْل ذلك لها حكما عملوا به، وإلا سألوه عليه الصلاة والسلام فإذا اجتهد، وأخبرهم بالحكم، فإن كان اجتهاده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 صوابا أقره الله على هذا الحكم، وإلا نزل الوحي عليه ينبهه إلى حكم الله فيها. وكما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المرجع للتشريع، كان له سلطة القضاء وتطبيق النصوص التشريعية على كل ما يحدث من وقائع وتصرفات، وهي السلطة التي استمدها من الله عز وجل، فقد كان عليه الصلاة والسلام مأمورا من ربه بالحكم والفصل في الخصومات، قال عز وجل: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 1، وقال سبحانه وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 2. فتولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القضاء بنفسه، وولاه غيره أيضًا، لكن القضاء كان موقوفًا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يولي أحدًا في القضايا التي يحضرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولا يتقدم أحد بين يديه، وأما فيما غاب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجهات والأقاليم، فقد بعث عليا ومعاذ بن جبل إلى اليمن، والأحاديث تحكي بعض وقائع رفعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ليقضي فيها بنفسه، كما تحكي أيضًا توليته بعض الصحابة منصب القضاء، بجانب تفويضه إليهم الولاية العامة لأمور الناس في النواحي التي وجههم إليها، وقيامهم بتوضيح أمور الدين لهم، وتعليمهم إياها. بل إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أيضًا على قمة السلطة التنفيذية، فهو -بجانب كونه رسولًا- رئيس الدولة، والقائد الأعلى للقوات المسلحة بخلاف بعض الرسل السابقين، فكان بعضهم رسولًا فقط، لا حاكما كموسى وعيسى عليهما السلام، وبعضهم كان حاكما ورسولًا كداود وسليمان عليهما السلام. وقد درجت الأنظمة الحديثة على فصل السلطات الثلاث حتى لا تطغى سلطة في سلطة، فقد يشرع أصحاب السلطة التنفيذية القوانين على هواهم، كما هو حادث الآن في الدولة المتخلفة، أو يخترع القضاة قوانين تتفق وأغراضهم، لكن هذا المعنى لا يوجد بالنسبة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فهو معصوم من أن يحكم بالهوى، فلا خوف من أن يجمع -صلى الله عليه وسلم- بين السلطات الثلاث، لعصمة الله عز وجل لرسوله.   1 سورة المائدة، الآية: 48. 2 سورة النساء، آية: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 الدليل على أن الرسول كان يقضي في القضايا بنفسه : مما يدل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقضي في القضايا بنفسه ما رواه الإمام البخاري بسنده1 عن عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبي سلمة، أخبرته أن أم سلمة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرتها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: "إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" 2. ورواه الإمام أحمد في مسنده، عن أم سلمة، زوج النبي -صلى الله عليه   1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص186. 2 قوله: "فليأخذها، أو ليتركها" الأمر فيه للتهديد، وليس لحقيقة التخيير، فهو كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، قال بعض العلماء: هو خطاب للمقضي له، ومعناه: إنه أعلم من نفسه، هل هو محق أو مبطل، فإن كان محقا فليأخذ، وإن كان مبطلًا فليترك، فإن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه. فتح الباري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وسلم، أنها قالت: جاء رجلان يختصمان في مواريث بينهما قد درست1، ليس بينهما بينة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض 2، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها إسطامًا 3 في عنقه يوم القيامة" فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أما إذن فقوما فاذهبا فلتقتسما، ثم توخيا الحق، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه". وقد بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عتاب بن أسيد إلى مكة4، وبعث معاذ بن جبل، وعلي بن أبي طالب إلى اليمن، وفوض إليهما ولاية القضاء بين الناس. كل واحد منهما في جهة، روى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل، قال: لما بعثه الرسول إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بكتاب   1 درست أي: خفيت آثارها. 2 قال الباجي -أحد كبار علماء المالكية- عند توضيحه لجملة "ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض": يريد -والله أعلم- أن يكون أحدهما أعلم بمواقع الحجج، وأهدى إلى إيراد ما يحتاج من ذلك، وأشد تبيينا لما يحتج به. المنتقى للباجي، شرح موطأ مالك، ج5، ص185. 3 يقول ابن منظور: "الإسطام: القطعة من الشيء، وفي الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "من قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه، فإنما أقطع له سطاما من النار" أي: قطعة منها، ويروي إسطاما، وهما الحديدة التي تحرك بها النار وتسعر، أي: أقطع له ما يسعر به النار على نفسه ويشعلها، أو أقطع له نارا مسعرة. انظر لسان العرب، المجلد الثالث، ص387. 4 أسيد، بفتح الهمزة وكسر السين، ابن أبي العيص بن عبد شمس القرشي، الأموي، أسلم يوم فتح مكة، وولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها بعد الفتح عندما سار إلى حنين، وكان عمره يومئذ نيفا وعشرين سنة، وبقي عليها إلى أن مات بها يوم أن بلغ نعي أبي بكر إلى مكة. تاريخ القضاء في الإسلام لمحمود بن محمد بن عرنوس، ص11. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله "؟ , قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله "؟، قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله". وروى الإمام أحمد، عن علي بن أبي طالب، قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن وأنا حديث السن، قال: قلت: تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث، ولا علم لي بالقضاء؟ قال: "إن الله سيهدي لسانك، ويثبت قلبك"، قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعد1. وعن علقمة عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال عبد الله بن مسعود: لها مثل صداق نسائها. لا وكس2، ولا شطط3، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بروع4 بنت واشق، امرأة منا مثل ما قضيت، ففرح بها ابن مسعود، رواه أحمد والأربعة وهم أبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وصححه الترمذي وحسنه5. وروى أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، أن الجدة جاءت إلى أبي بكر   1 مسند الإمام أحمد، ج2، ص26، 32، طبع دار المعارف، 1942. 2 بفتح وسكون الكاف، معناه: النقص، أي: لا ينقص مهرها عن مهر مثلها. 3 الشطط الجور، أي: لا يجار على الزوج بزيادة مهرها على نسائها. 4 بفتح الباء، وسكون الراء وفتح الواو. 5 سبل السلام، للصنعاني. ج2، ص150، الطبعة الرابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 رضي الله عنه، فسألته ميراثها، فقال لها: ما لك في كتاب لله شيء فارجعي حتى أسال الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة، حضرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعطاها السدس، فقال أبو بكر، هل معك أحد غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر -رضي الله عنه1. فهذه الأحاديث تدل على أن سلطة القضاء كانت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقوم به بنفسه، وإن كانت القضايا التي رفعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمعنى المتعارف في الخصومات قليلة، وإنما كان يسأل عن الحكم فيجيب2. ودلت الأحاديث أيضًا على أنه كما كان علي الصلاة والسلام يقوم بالقضاء بنفسه، كان يكله في بعض النواحي إلى بعض المسلمين. ممن يثق في قدرتهم على القيام بهذا المنصب3.   1 نيل الأوطار، للشوكاني، ج6، ص67. 2 تاريخ القضاء في الإسلام، لمحمود بن محمد بن عرنوس، ص11. 3 السلطات الثلاث في الإسلام، بحث للشيخ عبد الوهاب خلاف، منشور بمجلة القانون والاقتصاد بعدد يونيو سنة 1935، ص502، وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 كان منصب القضاء في عهد الرسول، يضاف إلى منصب الولاية العامة : كان منصب القضاء في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يضاف إلى منصب الولاية العامة، التي توكل إلى شخص من الأشخاص، لأن الأعمال التي يمكن أن يقوم بها الوالي حينئذ كانت قليلة، والقضايا التي تعرض عليه كانت كذلك، فلا يحتاج عمل القاضي حينئذ إلى تفرغ ممن يقوم به، ولم يثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولى أحد القضاء خاصة، وإنما الثابت أن التولية كانت له ليكون رسولا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، ونائبا عنه ليقوم بتعليم الناس أمور دينهم، وإفتائهم فيما يعن لهم من أمور، والقضاء بينهم فيما يجد من حوادث ووقائع، وجمع الصدقات من الأغنياء، فكانت ولاية من يوليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولاية عامة لا فصل بين ولاية القضاء وغيرها من الولايات1.   1 السلطات الثلاث في الإسلام، للشيخ عبد الوهاب خلاف، ص21، دار القلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مرجع من يقوم بالقضاء : وكان مرجع من يقوم بالقضاء من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته كتاب الله وسنة رسوله، فإن لم يجدوا فيهما نصا اجتهدوا مستعينين بالقواعد العامة التي أرستها شريعة الإسلام، فإذا اطمأنت قلوبهم إلى ما قضوا به نفذوه، وإلا رجعوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 القضاء في عصر الخلفاء الراشدين مدخل ... القضاء في عصر الخلفاء الراشدين: سبق أن بينا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتولى القضاء بنفسه، ولما فتح الله على المسلمين بعض الأمصار أرسل عليها بعض الولاة، وكان الوالي حاكمًا وفي نفس الوقت قاضيًا ومعلما، ومرشدًا، فكان الولاة يقضون بين الناس في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وظل الحال كذلك في أيام خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فكان أبو بكر يقضي بين الناس في المدينة -وهي عاصمة الدولة في عهده أيضًا- وولاة الأمصار يتولون القضاء بالأقاليم التي ولوا عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ولكن لما كان عهد أبي بكر -رضي الله عنه- عهد فتن واضطراب1 فلم تتح له الأحداث أن يفعل فعل عمر فيما يتصل بالقضاء. ففي عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أصبح القضاء يخصص له من يقوم به فقط، دون أن يسند إليه أية أعمال أخرى، بعد أن كان في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وزمن خلافة أبي بكر رضي الله عنه، جزءًا من الولاية العامة. وذلك لأنه لما اتسعت الدولة الإسلامية في عهد عمر، واتسع نطاق العمران واختلط غير المسلمين بالمسلمين، وكثرت المهام التي تتطلب من الولاة أن يتفرغوا للنظر فيها، وظهر كثير من القضايا التي تحتاج من القضاة أيضا إلى تفرغهم لهذا العمل؛ لأنه كلما اتسع المجتمع البشري وتعدد، كثرت فيه القضايا، وكلما قل قلت فيها القضايا. لما كان كل ذلك فصل عمر القضاء عن عمل الوالي في بعض الولايات الكبيرة، كالكوفة، والبصرة، ومصر؛ لأنه أصبح من المتعسر على الخليفة أو نائبه أن يجمع بين النظر في الأمور العامة والفصل في القضايا التي ظهرت في هذه المجتمعات الجديدة الكبيرة. فولى كلا من عبد الله بن مسعود، وشريح بن الحارث الكندي قضاء الكوفة دون الولاية عليها، واستعمل على قضاء البصرة كذلك أبا مريم الحنفي، ثم لما رأى منه ضعفا عزله، وولى مكانه كعب بن سور الأزدي، واستعمل على قضاء مصر قيس بن أبي العاص2.   1 عقب وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ارتدت بعض القبائل التي لم تتأثر بمبادئ الإسلام وأحكامه، وظهر كثير من مدعي النبوة الذين كانوا قد ظهروا في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الجهات البعيدة، مثل مسيلمة الكذاب وغيره، وقاتلهم أبو بكر -رضي الله عنه، حتى انتصر عليهم بعد أن ظلت الحروب بين المسلمين والمرتدين حوالي عام كامل، وكذلك امتنع بعض القبائل المسلمة عن إخراج الزكاة فحاربهم أبو بكر وانتصر أيضًا عليهم. 2 تاريخ القضاء في الإسلام، للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص105، وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 عمر أول من أنشأ بيت مال المسلمين : وكذلك من الثابت تاريخيا أن عمر -رضي الله عنه- كان أول من أنشأ بيت مال المسلمين فهو أول من دون الدواوين في الإسلام، وهو كذلك أول من رتب أرزاق القضاة، فجعل للقاضي سليمان بن ربيعة الباهلي خمسمائة درهم في كل شهر، ورتب لشريح مائة في كل شهر أيضًا1. وكما كان القضاء في أيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موقوفًا عليه لا يولي أحد فيما يحضره من قضايا، فلا يتقدم أحد بين يديه، وإنما يرسل القضاة في النواحي، فقد كان الحال كذلك في أيام الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم، فظلوا على سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم، في توليهم جميع ما حضرهم من الأحكام الشرعية، من صلاة، وبعث وترتيب الجيوش، وغير ذلك2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الدائرة القضائية للقضاة أيام الخلفاء الراشدين : يظهر -كما يرى بعض الباحثين- أن الدائرة القضائية كانت ضيقة للقضاة في أيام الخلفاء الراشدين، فلم يكن من اختصاصهم الحكم إلا في الخصومات المدنية، وأما القصاص والحدود -وهي العقوبات التي حددها الشرع، كعقوبة الزنا والسرقة وشرب الخمر- فلم تكن من اختصاصهم، بل كانت من اختصاص الخلفاء، وولاة الأمصار، وهذا يدل على أهمية قضايا القصاص والحدود, وأنه ليس لأي إنسان أن يحكم فيها, بل لا بد من الاحتياط الشديد فيمن يتولى الفصل في هذه القضايا، يؤيد هذا أن المصادر تنقل لنا قضايا حكم فيها الخلفاء والأمراء بالقتل قصاصا، أو حكموا فيها بجلد السكران، ولم تنقل المصادر أن قاضيا ليس أميرا على إقليم قضى بعقوبة من هذه العقوبات أو قام بتنفيذها. وكذلك كانت العقوبات التأديبية مثل الحبس لا يأمر بها القاضي, بل يأمر بها الخليفة أو عامله. وانتهى عصر الخلفاء الراشدين على هذا، فلما كان عصر معاوية بن أبي سفيان، كتب إلى قاضي مصر سليم بن عتر يأمره بالنظر في الجراح، وأن يرفع ذلك إلى صاحب الديوان، فيكون سليم بن عتر هذا أول من نظر في قضايا الجنايات، وحكم فيها1.   1 تاريخ القضاء في الإسلام، لمحمود بن محمد بن عرنوس، ص25، 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 طريقة اختيار القضاة : نظرا لعظم هذا المنصب، وخطره وسموه، كان التشديد في اختيار من يتولى القيام به، ولذلك كان عمر بن الخطاب -وهو الذي فصل القضاء عن الولاية- يتشدد في اختيار القاضي، ومما أثر عنه قوله: "ما من أمير أمر أميرًا، أو استقضى قاضيًا محاباة، إلا كان عليه نصف ما اكتسب من الإثم، وإن أمره أو استقضاه لمصلحة المسلمين كان شريكه فيما عمل من طاعة الله تعالى، ولم يكن عليه شيء مما عمل من معصيته"1.   1 تاريخ القضاء في الإسلام، لابن عرنوس، ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 مرجع القاضي في أحكامه : الكتاب الكريم هو المرجع الأول الذي يجب الرجوع إليه عند التعرف على أي حكم من الأحكام، والسنة هي المرجع الثاني بعد كتاب الله الكريم، وعلى هذا كان يسير الخلفاء الراشدون والقضاة في عهدهم, كما كان الولاة يسيرون في حياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن في الكتاب الكريم، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحكم الذي يراد للقضية، فهذا مجال القياس وغيره من الأدلة الأخرى، وأخذ رأي الآخرين بما يتفق والقواعد الشرعية العامة. والحديث المروي عن معاذ بن جبل يبين هذا المنهج، فيذكر العلماء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيًا قال له: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء"؟ , قال: أقضي بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله"؟ , قال: فبسنة رسول الله، قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله"؟ , قال: أجتهد ولا آلو "أي: لا أقصر في الاجتهاد والبحث"، فضرب رسول الله صدره بيده وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله". وكان من يتولى القضاء تتوافر فيه صفة الاجتهاد، وهذه تؤهله لاستنباط الحكم من الكتاب الكريم، أو السنة الشريفة، أو إعمال القواعد العامة التي أتت بها الشريعة الإسلامية. أخرج البغوي عن ميمون بن مهران1 قال: "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم عن رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى به، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين, وقال أتاني كذا وكذا، فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء، فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر عن رسول الله قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا، وإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله، جمع رءوس الناس وخيارهم، فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به. وكان عمر يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا يكر قضى فيه قضاء قضى به، وإلا دعا رءوس المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر قضى به". وكان القضاء ملازما للإفتاء، كما يظهر من قضاء أبي بكر وعمر.   1 تاريخ القضاء في الإسلام، لابن عرنوس، ص19، وإعلام الموقعين لابن القيم، الجزء الأول، ص62. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 اختيار القضاة، ووظيفة قاضي القضاة مدخل ... اختيار القضاة، ووظيفة قاضي القضاة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يختار القاضي، وكذلك الخلفاء الراشدون بعده كانوا يعينون القضاة، وفي عهد الدولة الأموية فوض معظم الخلفاء أمراء الولايات في أمر اختيار القضاة، ثم لما قامت الدولة العباسية استرد أبو جعفر المنصور حق تعيين الخلفاء للقضاة، فولى عبد الله بن لهيعة الحضرمي على مصر سنة 155هـ، فصار القاضي يعين من قبل الخليفة لا من قبل الوالي1.   1 القضاء في الإسلام بوجه عام، وفي العهد الإسلامي في مصر بوجه خاص، إلى سة 358هـ، لعطية مصطفى مشرفة، الطبعة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 القضاة" كان من اختصاص شاغلها تقليد من يصلح لمنصب القضاء، في أنحاء البلاد التي تخضع للخلافة، وله أيضًا حق عزله إذا أصبح مستحقا للعزل، ومن حقه أن يتفقد أحوال القضاة، فينظر في أقضيتهم، ويراجع أحكامهم، ويتتبع أخبارهم وسيرتهم بين الناس، بل كان له الحق في نقض أحكامهم. وقد نقل هذا النظام عن الفرس، فقد كان عندهم وظيفة "قاضي القضاة"، وأول ظهور هذه الولاية كان في بغداد، وكان لقب "قاضي القضاة" لا يطلق إلا على قاضي بغداد. وكان أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم أحد تلاميذ أبي حنيفة هو أول من شغل هذا المنصب, فكان أول من دعي بقاضي القضاة في الدولة الإسلامية، وهو أيضًا أول من غير لباس العلماء إلى هيئة خاصة، وكانت ملابس الناس كلها شيئًا واحدا، لا تميز فيه لأحد على أحد، وكان لا يقلد أحد القضاء ببلاد العراق، وخراسان والشام، ومصر إلا إذا أشار به القاضي أبو يوسف، وقد عمل من خلال ولايته هذه على نشر مذهب إمامه، فقد كان يولي القضاء أتباع مذهب أستاذه أبي حنيفة1.   1 تاريخ القضاء في الإسلام، لابن عرنوس، ص95-97، والقضاء في الإسلام، للأستاذ محمد سلام مدكور، ص46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 اختصاصات القاضي : بين الماوردي الأمور التي من حق القاضي ذي الولاية العامة أن يباشرها وهي عشرة أمور: أولا: الفصل في المنازعات وقطع التشاجر والخصومات، إما صلحا عن تراض بين الطرفين وهذا جائز، وإما إجبارًا بحكم بات من القاضي، وتنفيذه حينئذ واجب. ثانيا: استيفاء الحقوق ممن مطل بها، وإيصالها إلى من يستحقها، بعد ثبوت الاستحقاق بالإقرار أو البينة أو غيرهما من وسائل الإثبات. ثالثا: ثبوت الولاية على من كان ممنوعًا من التصرف لعدم أهليته بجنون، أو صغر، والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه1، أو فلس، حتى يحفظ الأموال على مستحقيها، ويصحح أحكام العقود فيها. رابعا: النظر في الأوقاف، بحفظ أصولها، وتنمية فروعها، وقبض غلتها وصرفها في سبلها. خامسًا: تنفيذ الوصايا طبقا لما اشترطه الموصي فيما أباحه الشرع ولم يحظره، فإن كانت لمعينين كان تنفيذها بالإقباض، وإن كان في موصوفين كان تنفيذها أن يتعين مستحقوها بالاجتهاد ويملكوا بالإقباض. سادسًا: تزويج المرأة التي لا ولي لها بالرجل الكفء، ولا يرى أبو حنيفة هذا الأمر من حقوق ولاية القاضي في شأن كل امرأة لا ولي لها، بل في شأن الصغيرة فقط التي لا ولي لها؛ لأنه يجوز عنده أن تنفرد المرأة البالغة بعقد الزواج، أي: تتولاه بنفسها لنفسها ولغيرها. سابعًا: إقامة الحدود على مستحقيها، فإن كانت من حقوق الله تعالى تفرد باستيفائها من غير أن يطالب بها أحد، إذا ثبتت هذه الحدود بالإقرار أو البينة، وإن كان من حقوق الآدميين كان استيفاؤها موقوفًا على طلب من مستحقها، ويرى أبو حنيفة أن كلا النوعين: حقوق الله وحقوق   1 السفيه هو المبذر لماله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 الآدميين لا تستوفى إلا بخصم مطالب. ثامنًا: النظر في مصالح عمله، من الكف عن التعدي في الطرقات، والأفنية، وإخراج ما لا يستحق من الأجنحة والأبنية، وله أن ينفرد بالنظر فيها وإن لم يحضره خصم، ويرى أبو حنيفة أنه لا يجوز للقاضي أن ينظر فيها إلا بحضور خصم مستعد. قال الماوردي: "وهي من حقوق الله تعالى التي يستوي فيها المستعدي وغير المستعدي، فكان تفرد الولاية بها أخص". تاسعًا: تصفح شهوده وأمنائه، واختيار النائبين عنه من خلفائه. عاشرًا: التسوية في الحكم بين القوي والضعيف، والعدل في القضاء بين المشروف والشريف1. وواضح أن الأخير من واجبات القاضي التي لا يجوز له تركها فلا يظهر عد الماوردي هذا الأمر من حقوق ولاية القاضي. هذا واختصاصات القاضي يمكن أن تحدد في مجال قضايا معينة كالجنايات, وكذلك يمكن أن يخصص له مكان معين لا يتعداه إلى غيره؛ لأن هذه أمور تخضع للمصلحة، وما يكون مناسبا لعصر قد لا يكون مناسبا لعصر آخر، فكل عصر ينظم القضاء بما يتلاءم مع ظروفه والمستجدات التي قد تتطلب نوعا من النظام لم يكن مطبقا في عصور سابقة، ويوضح ابن تيمية أن صلاحيات القاضي لا تتعين من جهة الشرع، وإنما بموجب ألفاظ التولية والأحوال والعرف2.   1 الأحكام السلطانية للماوردي، ص78. 2 الاختيارات الفقهية، ص332. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 التحكيم : في بعض الأحيان لا يلجأ الخصمان إلى القاضي للفصل بينهما، وإنما يلجآن إلى شخص لا يتولى منصب القضاء، فيحكمانه بينهما، إما لبعدهما عن مكان القاضي، أو اختصارا لإجراءات التقاضي، أو لأي غرض آخر، وهذا هو الحَكَم أو المحكم. وقد كان التحكيم معروفا في الجاهلية قبل مجيء الإسلام، ورتبة الحكم أو المحكم أقل من رتبة القاضي لعدة أمور. أحدها: أن حكم المحكم يقتصر على من يرضى بحكمه عند فريق من العلماء. الثاني: أن القاضي يقضي في أمور ليس من حق المحكم أن يحكم فيها، كالقصاص والحدود عند فريق من العلماء أيضًا، فحكم المحكم ليس مطلقا في كل قضية كالقاضي عند بعض العلماء. الثالث: عموم ولاية القاضي، فيتعدى الحكم الصادر عنه، إلى غير المتخاصمين، كما في القتل الخطأ وما ماثل هذا، بخلاف المحكم. هل التحكيم مشروع؟ يرى الحنفية والمالكية والحنابلة جواز التحكيم1. وأما الشافعية فقد اختلفت الآراء في فقههم، وأقوى الآراء عندهم جواز التحكيم، وهذا كما يفهم من كتبهم, قول قوي للشافعي رضي الله تعالى عنه، وقد نقلوا قولا آخر للشافعي بعدم   1 فتح القدير، ج7، ص316، وحاشية الدسوقي، ج4، ص135، والمغني، ج9، ص107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 جواز التحكيم، وعللوا لهذا بأن التحكيم فيه افتئات1 على رئيس الدولة ونوابه، فلا يجوز لهذا المعنى. وقد أجيب على هذا بأن المحكم ليس له سلطة الحبس، ولا استيفاء عقوبة لإنسان ثبت عنده ما يستوجبها، لئلا يخرق أبهة رئيس الدولة ولا نوابه، وعلى هذا فلا يتحقق هذا الافتيات عليهم. ويوجد رأي ثالث لبعض فقهاء الشافعية، يقول بجواز التحكيم بشرط عدم وجود قاض بالبلد؛ لأنه في هذه الحال توجد الضرورة المجيزة لذلك، أما إذا كان بالبلد قاض فلا يجوز التحكيم لعدم وجود الضرورة2. دليل القائلين بمشروعية التحكيم: استدل القائلون بمشروعية التحكيم بالكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول، أما الكتاب الكريم فقول الله تبارك وتعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} 3. وأما السنة الشريفة، فيما روي أن أبا شريح قال: يا رسول الله، إن قومي إذا اختلفوا في شيء فأتوني، فحكمت بينهم فرضي عني الفريقان، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا" رواه النسائي، والبيهقي4. ولو لم يكن التحكيم مشروعا لما   1 الافتئات على الحاكم هو تجاوز الحدود، والتعدي، واغتصاب السلطة. 2 نهاية المحتاج، ج8، ص242. 3 سورة النساء، من الآية: 35، وهي بتمامها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} . 4 السنن الكبرى، للبيهقي، ج10، ص145، والنسائي، ج8، ص199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 استحسنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرسول الله لا يستحسن شيئًا لا يجوز. وقد عمل -صلى الله عليه وسلم- بحكم سعد بن معاذ في بني قريظة، لما اتفقت اليهود على الرضا بحكمه فيهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد حكم سعد بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم، وكان حكم سعد بن معاذ حكما لمحكم وليس لقاض؛ لأن اليهود رضوا به حكما. وأما الإجماع، فقد ثبت أن التحكيم وقع لجمع من الصحابة، ولم ينكر ذلك أحد مع اشتهاره، فكان إجماعا، والإجماع هو أحد الأدلة الشرعية بعد الكتاب الكريم وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". وأما المعقول؛ فلأنه ما دام الشخصان اللذان يرضيان بالتحكيم لهما ولاية على نفسيهما فيكون التحكيم صحيحا. هل شروط القاضي شروط المحكم؟ يرى بعض الفقهاء أنه لا بد أن تكون الشروط المطلوبة في القاضي متوافرة في المحكم؛ لأن المحكم عندهم منزل منزلة القاضي، فلا بد أن تكون أهلية القاضي متحققة فيه وقت التحكيم ووقت الحكم جميعًا. وبعض الفقهاء يخفف في شروط المحكم فلا يشترط فيه شروط القاضي، ولذلك نرى الحنفية مع أنهم يشترطون البلوغ في القاضي كغيرهم من الفقهاء، فإننا نجد بعضهم يرى عدم اشتراط البلوغ في المحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فيرى بعض الحنفية جواز تحكيم الصبي المأذون، ومع أن الحنفية يرون أنه لا يجوز تحكيم الكافر إذا حكمه المسلمون بينهم، فإنهم يرون جواز تحكيمه بين الذميين أي: المواطنين في الدولة الإسلامية غير المسلمين؛ لأنه عندهم من أهل الشهادة عليهم، ويرون كذلك جواز تقليد الذمي القضاء ليحكم بين أهل الذمة كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى عند الكلام عن شرط الإسلام في القاضي. وسنتكلم في الفصل الأول إن شاء الله تعالى عن شروط الصلاحية للقضاء، وإذا كان من شروط القاضي عند الجمهور -كما سنعلم فيما بعد- أن يكون رجلا، فإنه لا بد أن يكون المحكم رجلا عند من يرى أنه منزل منزلة القاضي، وأما الحنفية فلأنهم يرون صحة قضاء المرأة إذا وليت القضاء -مع إثم موليها- في الأمور التي تصح فيها شهادتها، يرون أيضًا صحة حكم الحكم إذا كان امرأة، وحكمت في الأمور التي تصح أن تشهد فيها، وهي ما عدا قضايا الحدود والدماء1. ونجد بعض المالكية يرى عدم صحة تحكيم المرأة، وبعضهم يرى صحة تحكيمها. ومن شروط القاضي الإسلام، والحرية أي: لا يكون عبدًا، فكذلك يكون من شروط المحكم عند من ينزل المحكم منزلة القاضي، وعلى هذا فلا يجوز تحكيم الكافر، والعبد، وأجاز الحنفية كما أشرنا أن يكون الحكم ذميا إذا حكمه ذميان؛ لأنه -عند الحنفية- من أهل الشهادة فيما بين الذميين، فالحنفية يرون قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض فيكون من أهل الحكم عليهم2 وأصل الخلاف بين العلماء في صفات المحكم أن من جعل المحكم من باب الوكالة، لم يشترط فيه صفات تزيد عن صفات الوكل فالشرط الوحيد أن لا يكون ذاهب العقل، وأما من جعل ذلك من باب الولاية في حكم خاص، فقد اشترط أن يتحقق فيه شرط القاضي عنده3   1 فتح القدير، للكمال بن الهمام، وشرح العناية على الهداية لمحمد بن محمود البابرتي، وحاشية سعدي جلبي، ج7، ص315 وما بعدها. 2فتح القدير، ج7، ص316. 3المنتقى، شرح موطأ مالك، لسليمان بن خلف بن سعد الباجي، ج5، ص228، الطبعة الأولى. مطبعة السعادة، 1332هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 رجوع أحد الخصمين عن التحكيم : بين العلماء أن من حق كل من المتخاصمين أن يرجع عن تحكيمه قبل شروع المحكم في الحكم1؛ لأن الحكم لا يثبت إلا برضاه، فكان هذا كما لو وكل إنسان إنسانًا آخر في التصرف في بعض الأمور، ولكن الموكل رجع عن التوكيل قبل أن يتصرف الوكيل بمقتضى الوكالة، فإن له ذلك، فلا بد من استمرار الرضا حتى يحكم. وأما إذا كان رجوع أحد الخصمين بعد شروع المحكم في الحكم، ففيه رأيان: أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، فأشبه ما إذا رجع عن التحكيم قبل الشروع في الحكم. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن هذا يؤدي إلى أنه إذا رأى أي من المتخاصمين أن المحكم سيحكم لغير صالحه رجع عن التحكيم، فيبطل المقصود بالتحكيم.   1 نهاية المحتاج، ج8، ص243، وكشاف القناع للبهوتي، ج6، ص303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 إذا حكم المحكم: إذا حكم المحكم في المسألة التي ينظرها، هل يكون المتخاصمان ملزمين بهذا الحكم، أم أن لكل منهما أن يرفضه أو يقبله؟ اختلف الفقهاء على رأيين في هذه المسألة: الرأي الأول: أنه ينفذ حكمه عليهما، وبهذا قال أبو حنيفة، وهو قول راجح للشافعي ويراه أيضًا فقهاء الحنابلة وفقهاء الشيعة الإمامية، وفقهاء الإباضية1. الرأي الثاني: أنه لا يلزمهما ما حكم به إلا بتراضيهما، وهذا قول للشافعي مقابل لقوله السابق. مستند كل رأي: أما الرأي الأول فقد استدل له بما يأتي: أولا: ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون". ووجه الاستدلال بهذا الحديث أنه لولا أن حكم الحاكم يلزمهما لما لحقه هذا الذم. ثانيا: القياس على الذي تولى الحكم من جهة رئيس الدولة، فكما أن المولى من جهة رئيس الدولة -وهو القاضي- إذا حكم في قضية ينفذ حكمه من غير وقف على رضا أي من الخصمين، فالمحكم أيضًا يجب أن ينفذ حكمه ولا يشترط رضا أي من الطرفين بهذا الحكم قياسًا على القاضي2 وأما الرأي الثاني فقد علل له بأن رضاهما معتبر في الحكم، فكذا في لزومه3   1 شرح كتاب النيل وشفاء العليل، لمحمد بن يوسف أطفيش، ج13، ص11. 2 نهاية المحتاج، ج8، ص243. 3 المغني، ج9، ص108، ونهاية المحتاج، ج8، ص243، وشرائع الإسلام للحلي ج5، ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ما يجوز التحكيم فيه وما لا يجوز : تنقسم المنازعات من حيث جواز التحكيم وعدم جوازه إلى قسمين: 1- قسم اتفق العلماء على جواز التحكيم فيه، ويشمل الحقوق المالية وعقود المعاوضات، وما يصح فيه العفو والإبراء1. 2- قسم اختلف العلماء فيه، هل يجوز التحكيم فيه أم لا، وهو ما عدا ما ذكرنا كالزواج، واللعان، والقذف، وبقية الحدود والقصاص، وإليك تفصيل الكلام في هذا. اتفقت الروايات في الفقه الحنفي على أنه لا يجوز التحكيم في الحدود الواجبة حقا لله تبارك وتعالى "كحد السرقة، وحد الزنا، وحد شرب الخمر، وذلك لأن رئيس الدولة أو من ينيبه هو المتعين لاستيفائها. وهذا الرأي -كما قلنا- باتفاق الروايات في الفقه الحنفي، وهو أيضًا ما يراه فقهاء المالكية2. وفقهاء الشافعية، وقد صرح الشافعية بأن التعزير أيضًا -وهو العقوبة غير المقدرة- إذا كان حقا لله تبارك وتعالى لا يجوز التحكيم فيه3. وتكون عقوبة التعزير واجبة حقا لله تعالى في الجرائم، التي تتعلق بالاعتداء على الدين أو حياة الناس العامة، كما في سب الأديان غير الإسلام، أو إلقاء القاذورات في الطريق العام، أو إغراء الناس بالفساد كراقصة في الشارع العام، أو محلات لبيع، أو تأجير أشرطة "الفيديو" لتي تشيع الانحلال الأخلاقي، فهذه من حقوق الله تبارك وتعالى التي يجب تعزير فاعليها4. ويرى الرملي من فقهاء الشافعية أن حق الله المالي الذي لا طالب له معين كالكفارات والزكاة لا يجوز فيه أيضًا؛ لأنه يشترط مع حد الله تعالى والتعزير إذا كان حقا له سبحانه وتعالى بأن لا طالب معين لهما، وصرح بعض فقهاء الحنابلة بأنه يجوز التحكيم في الحدود وغيرها5.   1 ما يصح فيه الإبراء، كدين القرض، والثمن، والأجرة، والمهر، وبدل الخلع، وضمان المتلفات. 2 حاشية الدسوقي، ج4، ص136. 3 نهاية المحتاج، ج8، ص242. 4 منهاج الطالب في المقارنة بين المذاهب لأستاذنا الدكتور عبد السميع أحمد إمام رحمه الله تعالى، ص284. 5 كشاف القناع عن متن الإقناع، للبهوتي، ج6، ص303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 التحكيم في حد القذف والقصاص : اختلفت آراء فقهاء المذهب الحنفي في حد القذف "أي: عقوبة اتهام الغير بجريمة الزنا بلا بينة" والقصاص، فيرى بعضهم جواز التحكيم فيهما، ويرى البعض الآخر عدم جواز التحكيم. وقد علل للرأي القائل بجواز التحكيم في القصاص بأن الاستيفاء إليهما، وليس الحاكم هو المتعين للاستيفاء كما في الحدود الخالصة لله عز وجل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 والقصاص من حقوق الإنسان, فيجوز فيه التحكيم قياسا على التحكيم في الأموال. وأما الرأي الثاني القائل بأن التحكيم لا يجوز في الحدود والقصاص، فقد علل له بأن حكم المحكم حجة فقط في حق اللذين حكماه، وليس حجة في حق غير المحكمين، فيكون في هذا شبهة والقصاص والحدود تدرأ بالشبهات. وأيضًا فلأنه لا ولاية لهما على دمهما، ولهذا لا يملكان الإباحة، فلو قال شخص لشخص: اقتلني، فإنه لا يصح هذا الأمر الصادر منه، فلا يحل للآخر أن يقتله بناء على هذا الأمر1. عند المالكية: يرى المالكية أن التحكيم لا يجوز إلا في قضايا الأموال والجراح، سواء أكانت عمدا أم خطأ، ولو كانت الجراح عظما كقطع اليد أو الرجل، ويرون أن كل الحدود لا يجوز التحكيم فيها، وبناء على هذا فإن حد القذف لا يجوز التحكيم فيه، وقد عللوا لعدم جواز التحكيم في الحدود مطلقًا بأنه قد تعلق بها حق لغير الخصمين، فالحدود حق لله تعالى شرعت للزجر عن اقتراف الجرائم التي تستوجبها2. وكذلك يرى المالكية أن التحكيم لا يجوز في القصاص، وعللوا لهذا بنفس التعليل الذي عللوا به في جانب الحدود، وهو أن الحق في القصاص لله تعالى؛ لأن القصاص إنما شرع للزجر عن الاعتداء على حياة الإنسان.   1 فتح القدير، للكمال بن الهمام، وشرح العناية على الهداية للبابرتي، ج7، ص318. 2 الشرح الكبير، ج4، ص136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقد عد بعض فقهاء المالكية سبعة أمور لا يجوز التحكيم فيها، معللين ذلك بأن هذه الأمور لها قدر عظيم، فوجب أن يحتاط في شأنها، فلا يحكم فيها إلا من ولته الدولة ولاية عامة، والذي توليه الدولة ولاية عامة لا يكون ذلك إلا بعد التعرف على صفاته وقدراته التي تقتضي ذلك، ويكون في الأغلب مأمونا أمره، أو يكون الحاكم قدمه لمعنى يختص به في ضرورة داعية إليه. وأيضًا فلأن هذه الأمور تعلق بها حق لغير الخصمين إما لله تعالى، أو للإنسان، فوجب أن يحكم فيها القضاة لا المحكمون، وهذه الأمور السبعة هي: 1- الحدود: كالجلد، والرجم، وقطع يد السارق، وغيرها. 2- اللعان1. 3- القتل، سواء أكان عقوبة للارتداد عن الإسلام، أو لجريمة قطع الطريق، أو قصاصًا في النفس. 4- الولاء2. 5- النسب. 6- الطلاق. 7- العتق.   1 إذا اتهم الزوج زوجته بجريمة الزنا فقد أوجب عليه الشرع عقوبة القذف، وهي ثمانون جلدة، إلاإذا أقام أربعة شهود على ما يدعيه، أو يلاعن إن لم يستطع أن يقيم الشهود الأربعة، واللعان أن يقول عند الحاكم على المنبر في جماعة من المسلمين: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا أربع مرات، ويقول في الخامسة بعد أن يعظه الحاكم: وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين. كفاية الأخيار، للحصنى، ج2، ص120. 2 إذا أعتق السيد عبده باختياره، أو عتق عليه جبرا، تنشأ صلة بينهما تسمى "الولاء"، يحق للسيد بمقتضى هذه الصلة أن يرث عتيقه هذا إذا لم يخلف وارثا غير سيده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وقالوا إن الأمور التي تعلق بها حق الله تعالى هي: الحدود، والقتل، والعتق، والطلاق. فالحدود حق لله تعالى؛ لأنها وجبت زجرا عن ارتكاب ما يوجبها, والقتل قد يكون عقوبة لردة، أو لجريمة قطع الطريق، وكل هذا حق لله تعالى للتعدي على حرماته. وقالوا إن الذي يدل على أن الحق في الطلاق لله تعالى أن المطلقة طلاقا بائنا لا يجوز إبقاؤها في عصمة مطلقها ولو رضيت بذلك. والذي يدل على أن الحق في العتق لله تعالى أنه لا يجوز رد العبد للرق مرة ثانية بعد ما عتق, ولو رضي هو بذلك. وأما الأمور التي تعلق بها حق الإنسان فهي: اللعان، والولاء، والنسب، فإن الحق في اللعان للولد؛ لأنه يترتب على اللعان قطع نسبه، والولد غير الخصمين اللذين هما الزوج والزوجة. والحق في الولاء قد يكون لإنسان غير الخصمين, إذا كان النزاع بين المعتق وشخص آخر في الشخص المعتوق، بأن ادعى كل منهما أنه أعتقه. والحق في النسب قد يكون لإنسان غير الخصمين, إذا كان النزاع بين الأب ورجل آخر، فالأب ينفي نسب الابن ويقول إن هذا ليس ابني، والرجل الآخر يقول إنه ابنك. ومع أن بعض المالكية -كما ذكرنا- عد سبعة أمور لا يجوز التحكيم فيها، هي التي بيناها، فإن البعض الآخر منهم زاد عدة أمور أخرى هي أيضا عنده من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 اختصاص القاضي لا الحكم، فلا يجوز عند هذا البعض التحكيم في فسخ الزواج ولا في إثبات الرشد، أو ضده وهو السفه "أي: عدم إحسان التصرف في الأموال" لشخص من الأشخاص، ولا يجوز في أمر الغائب مما يتعلق بماله، وزجته، وحياته وموته، ولا يجوز في الحبس، ولا في عقد مما يتعلق بصحته وفساده. وقرر المالكية أن كل الأمور التي لا يجوز التحكيم فيها إذا حدث فيها تحكيم، وكان حكم المحكم صوابا فإنه يمضي، وليس لأحد الخصمين، ولا للقاضي حق نقضه؛ لأن حكم الحكم عندهم يرفع الخلاف كحكم القاضي, ولكن إذا نفذ الحكم، فإن الحاكم يؤدب المحكم؛ لأنه افتات على رئيس الدولة -إذا كان حكمه شرعيا- وعلى نوابه، وأما إذا حكم ولم ينفذ ما حكم به فلا أدب عليه، كما لو كان قد حكم بقتل، فعفى عن المحكوم عليه1. وبين المالكية أن الأمور التي تختص برئيس الدولة كالإقطاعات إذا حكم فيها المحكم لا ينفذ حكمه. عند الشافعية: وأما الشافعية فعلى الرأي القوي عندهم يجوز التحكيم في القصاص, ويوجد رأي غير قوي عندهم يقول بأن التحكيم لا يجوز إلا فيما دون القصاص والزواج، ونحوهما كاللعان وحد القذف2. عند الحنابلة: يرى بعض فقهاء الحنابلة أنه ينفذ حكم المحكم في جميع الأحكام إلا في أربعة أشياء: الزواج، واللعان، والقذف، والقصاص، وقال أبو الخطاب من فقهاء الحنابلة: ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه في هذه الأربعة3. وصرح صاحب كشاف القناع من فقهاء الحنابلة بأن حكمه ينفذ في كل الأمور من مال، أو قصاص، أو حد، أو زواج، أو لعان، أو غيرها4 وكذلك يرى الشيعة الإمامية أن حكم المحكم ينفذ في كل الأمور5.   1 الشرح الكبير، وحاشية الدسوقي عليه، ج4، ص136، والشرح الصغير، للدردير، ج4، ص198-200. 2 نهاية المحتاج، ج8، ص243. 3 المغني، ج9، ص108. 4 كشاف القناع عن متن الإقناع، لمنصور بن يونس بن إدريس البهوتي، ج6، ص303، مطبعة الحكومة السعودية. 5 شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، للمحقق الحلي جعفر بن الحسن، ج4، ص68، تحقيق عبد الحسين محمد علي.. منشورات، دار الأضواء، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 التحكيم بحل مشكلة المسلمين في البلاد غير الإسلامية ... التحكيم يحل مشكلة المسلمين في البلاد غير الإسلامية: المسلمون الآن موجودون بكثر في البلاد التي لا تدين بالإسلام, كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، والبلاد التي لا دين لها على الإطلاق، كروسيا. وقد تحدث بينهم خلافات تستدعي الحكم فيها بين طرفي النزاع، واللجوء إلى القاضي في هذه البلاد هو لجوء إلى قاض لا يتوفر فيه شرط الإسلام، وهو ما لا بد منه في القاضي الذي يحكم بين مسلمين. كما سنبين ذلك -إن شاء الله تعالى- عند الكلام عن شروط القاضي. وهذه مشكلة تعترض المقيمين في هذه البلاد. والحل -كما نرى- هو اللجوء إلى شخص مسلم ليكون حكما بين طرفي النزاع، وبشرط أن يكون هذا الشخص تتوفر فيه شروط المحكم، وبعض المذاهب الفقهية -كما سبق بيانه- يتوسع في الأمور التي يجوز للمحكم أن يحكم فيها، وصرح بعض فقهاء الحنابلة بأن حكم المحكم ينفذ في كل القضايا سواء أكانت داخلة في مجال الأموال، أم شئون الأسرة، أم غير ذلك من القضايا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 إلا أنه قد تنشأ مشكلة أخرى في هذه البلاد، هي أنه قد يحتاج الحكم الذي حكم به المحكم إلى توثيق حكومي، وأرى أنه في هذه الحالة -بعد حكم المحكم- يلجأ طرفا النزاع إلى القاضي غير المسلم في هذه البلاد بوصفه جهة توثيق حكومية لا جهة قضاء، ما دام أن هذا لا بد منه في هذه البلاد، فإذا حكم القاضي غير المسلم بنفس الحكم الذي حكم به المحكم الذي اختاراه ليحكم بينهما قبل ذلك فلا مشكلة، وتتخذ إجراءات التوثيق الحكومي بعد هذا الحكم الذي قضى به القاضي غير المسلم، واتفق مع الحكم الذي حكم به المحكم، وأما إذا اختلف الحكمان: حكم المحكم وحكم القاضي غير المسلم فلا ينفذ حكم القاضي غير المسلم، غير أنه إذا كان هذا الحكم الذي قضى به القاضي غير المسلم غير مناف لأحكام الشريعة الإسلامية، لكنه يحتاج إلى تنازل أحد طرفي النزاع عن بعض حقه الذي حكم له به المحكم قبل ذلك، فمن الممكن أن يتصالح الطرفان أمام المحكم الذي ارتضياه أولا، أو أمام محكم آخر، أو بينهما بدون تحكيم، نقول: من الممكن أن يتصالحا على فض النزاع بينهما على أساس هذا الحكم الذي قضى به القاضي غير المسلم، لا بوصفه حكما ملزما من القاضي غير المسلم، وإنما بوصفه صلحا يحل المشكلة حلا يتفق ونظام البلد الذي يقيمان فيه، وبشرط أن يتحقق الرضا التام من كل من طرفي النزاع. ثم أما بعد, فنحب أن نختم مباحث المقدمة بالكلام عن حكم الإهداء للقاضي وجعل أجر للقاضي، هل يجوز أم لا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 حكم الهدية للقاضي : بين العلماء ان الهدية للقاضي تكون حرامًا إذا كانت ممن له خصومة عند القاضي، أو من غلب على ظنه بأنه سيخاصم. وكذلك تحرم الهدية إذا كانت ممن لم يهد إليه شيئا قبل أن يتولى القضاء, أو كان له عادة في الإهداء إليه لكنه زاد عليها قدرا من أجل توليه هذا المنصب؛ لأنها -كما قال العلماء- توجب الميل القلبي إلى المهدي، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة "هدايا العمال سحت". وأما قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- للهدايا فكان ذلك؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- معصوم من الوقوع في الحكم بالميل إلى أحد الخصوم. وبيّن العلماء أنه لو أعطي للقاضي مال ليحكم بغير الحق, أو ليمتنع من حكم بحق، فهذا هو الرشوة المحرمة بإجماع علماء الأمة. ومثل ذلك ما لو كان القاضي يمتنع من الحكم بالحق إلا إذا أخذ مالا. لكن ذلك مع كونه حرامًا إلا أنه كما بين العلماء أقل إثما، وقد لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي في الحكم. وفي رواية "والرائش" وهو الماشي بينهما. ورخص بعض العلماء في الرشوة إذا كانت لو لم يدفعها صاحب الحق فسيضيع عليه ماله بالباطل, فتكون رخصة لصاحب الحق وحراما على المرتشي. وحكم الرائش أي: الواسطة بينهما هو حكم موكله، وأما إذا كانت الهدية ممن عادته أنه كان يهدي إلى القاضي قبل أن يتولى منصب القضاء، وقبل أن يترشح لهذا المنصب، لقرابة أو لصداقة مثلا، ولا توجد خصومة للمهدي حاضرة أمام القاضي ولا مترقبة، فتجوز الهدية إن كانت بقدر ما تعود المهدي سواء أكان ذلك من ناحية الكم أو الكيف؛ وذلك لأن التهمة -أي: الشك والريبة- منتفية حينئذ، بخلاف ما إذا كانت بعد الترشيح لهذا المنصب أو مع الزيادة على العادة، فتكون حراما في الجميع إن كانت الزيادة في الوصف, كأن كان يهديه قماشًا من قطن فأهدى إليه صوفا، فإن كانت في القدر ولم تتميز حرم الجميع كذلك. وأما إذا تميزت الزيادة، فإنه يحرم الزيادة فقط1. هذا وسنعود إلى هذا الموضوع مرة أخرى في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.   1 نهاية المحتاج، للرملي، ج8، ص243، 244. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 جعل أجر للقاضي من الخزانة العامة للدولة : علماؤنا -رضي الله عنهم- مختلفون في هذه المسألة، فبعضهم يرى كراهة أخذ الأجر على القضاء، وبعضهم لا يكره أن يأخذ القاضي الأجر على القضاء. ومن هؤلاء الإمام الغزالي، قال في إحياء علوم الدين: كل من يتولى أمرا تتقوى به مصلحة المسلمين ولو اشتغل بالكسب لتعطل عليه ما هو فيه فله في بيت المال حق الكفاية، قال: ويدخل في ذلك العلوم كلها أعني التي تتعلق بمصالح الدين1. وجواز الأجر على القضاء هو رأي جمهور العلماء، بين ذلك ابن حجر العسقلاني ثم نقل قول أبي علي الكرابيسي صاحب الشافعي: "لا بأس للقاضي أن يأخذ الرزق2 على القضاء عند أهل العلم قاطبة من الصحابة, ومن بعدهم, وهو قول فقهاء الأمصار لا أعلم بينهم اختلافا".   1 الإحياء، ج2، ص139. 2 الرزق: ما يدفعه الحاكم من بيت المال "الخزانة العامة للدولة" لمن يقوم بمصالح المسلمين، وقيل: الرزق ما يخرجه الحاكم كل شهر للمرتزقة من بيت المال، والعطاء ما يخرجه كل عام "فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص160" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ومع أن الكرابيسي لم يبلغه اختلاف بين العلماء في هذه المسألة فإن فيها في الواقع اختلافا, وإن كان ذلك لم يبلغ الكرابيسي، بيّن هذا الاختلاف ابن حجر العسقلاني وغيره من العلماء، قال ابن حجر العسقلاني، في مجال بيان حكم رزق الحاكم: "ورخص الشافعي وأكثر أهل العلم، وعن أحمد: لا يعجبني، وإن كان، فبقدر عمله مثل ولي اليتيم، واتفقوا على أنه لا يجوز الاستئجار عليه" ا. هـ1. فنخلص مما ذكرناه أن أكثر أهل العلم يرون جواز أخذ رزق من الخزانة العامة للقاضي، والبعض من العلماء يرون كراهة ذلك، ونقول أيضًا: إن بعض فقهاء الزيدية2 يرى أنه يحرم الأجرة على القضاء لمن تعين عليه، وكان عنده كفايته من النفقة، فإن لم تكن عنده كفايته وكان ذا حرفة يشغله القضاء عنها حل له أخذ الأجرة دفعا للضرر، فإن لم يتعين وله كفاية كره أخذ الأجرة؛ لأنه قربة. هذه هي آراء العلماء، وإليك بيانا لدليل كل رأي. الاستدلال للرأي القائل بكراهة أخذ الأجر على القضاء: استدل لهذا الرأي بعدة أمور، منها: أولا: القضاء هو أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وكان لا يجوز لمن أمر بمعروف أو نهى عن منكر أن يأخذ على فعله أجرا، فكذلك القاضي لا يأخذ على فعله أجرا؛ لأنه يفصل بين معروف ومنكر، وبين حق وباطل، قال المهلب: "وجه الكراهة أنه في الأصل محمول على الاحتساب لقوله تعالى لنبيه: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ   1 فتح الباري، لابن حجر، ج13، ص161. 2 البحر الزخار، لأحمد بن يحيى بن المرتضي، ج6، ص114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 عَلَيْهِ أَجْرًا} فأرادوا أن يجري الأمر فيه على الأصل الذي وصفه الله لنبيه"1. ثانيا: المفتي لا يجوز له أن يأخذ أجرا على فتيا له؛ لأنه يأمر بحق وينهى عن باطل، فكذلك القاضي. ثالثا: لا يجوز لأحد أن يأخذ أجرًا على تعليم الناس التوحيد والإسلام, فكذلك القضاء لا يأخذ عليه أجرا. رابعًا: لئلا يدخل في هذا النوع من الحكم من لا يستحقه فيتحيل على أموال الناس. الاستدلال للرأي القائل بجواز أخذ الأجر: استدل لهذا الرأي بما يأتي: أولا: الجهاد في سبيل الله أمر مفروض على الناس أن يفعلوه، وخاصة الناس يقومون به دون العامة، ولا بأس أن يأخذ المجاهدون في سبيل الله أرزاقا من بيت المال، وهم إنما قاموا في ذلك بحق، وقاموا بفصل بين معروف ومنكر، وكذلك القضاء يجوز للقاضي أن يأخذ عليه أجرا. ثانيا: أوجب الله تبارك وتعالى للعامل على الصدقة رزقا في عمالته، وجعل له سهما وحقا لقيامه وسعيه فيها، وقد قام عامل الصدقة بفرض من فروض الله عز وجل، إذ أخرج حقا من حقوقه، فاستحق بذلك سهما مفروضا، وكذلك القاضي يستحق سهما يفرض له.   1 فتح الباري. ج13، ص161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ثالثًا: ثبت أن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- كأبي بكر وعمر، كانوا يأخذون لأنفسهم أرزاقهم من بيت مال المسلمين "الخزانة العامة للدولة" وكذلك من بعدهم من الخلفاء، فعن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قال: لما استخلف أبو بكر قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه". وثبت أن عمر -رضي الله عنه- أخذ أيضًا وروي عنه قوله: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف. وأخرج الكرابيسي بسند صحيح عن الأحنف قال: كنا بباب عمر -فذكر قصة: وفيها- فقال عمر: "أنا أخبركم بما أستحل: ما أحج عليه وأعتمر، وحلتي الشتاء والقيظ، وقوتي وقوت عيالي كرجل من قريش ليس بأعلاهم ولا بأسفلهم" وكان شريح بن الحارث بن قيس النخعي الذي ولاه عمر قضاء الكوفة، ثم قضى لمن بعث بالكوفة زمنا طويلا، كان يأخذ على القضاء أجرا1. رابعًا: روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أيما عامل استعملنا، وفرضنا له رزقا، فما أصاب بعد رزقه فهو غلول". ثم قال أصحاب هذا الرأي: "وذلك واسع له، ومن تعفف عن ذلك فهو أفضل،   1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وأعلى منزلة إن شاء الله"1، وقال ابن القاص2: "وهذا كله إذا كان من مال الله من بيت مال المسلمين، فأما أن يجري له أهل عمله رزقا فلا يجوز له قبوله، وكذلك لو أجراه رجل منهم، أو أجراه السلطان من مال نفسه". والرأي القائل بجواز أخذ الأجر هو ما نختاره، إذ إن القضاء يحتاج إلى انشغال القاضي بأمور الناس، وقد يترتب على هذا أن يترك كثيرا من أمور نفسه لا يتولاها بنفسه، وقد يؤثر ذلك على ما يعتمد عليه في الإنفاق على نفسه وعلى من يعولهم من زوجة، وأولاد، أو غيرهم. وقد روى البخاري بسنده أن عبد الله بن السعدي أخبر أنه قدم على عمر في خلافته، فقال له عمر ألم أحدث أنك تلي من أعمال الناس أعمالا، فإذا أعطيت العمالة3 كرهتها؟ فقلت: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قلت: إن لي أفراسا وأعبدا وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين، قال عمر: لا تفعل، فإني كنت أردت الذي أردت، فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيني العطاء، فأقول: أعطه أفقر إليه مني، حتى أعطاني مرة مالا فقلت:   1 فتح الباري، لابن حجر، ج13، ص160، 161 وأدب القاضي والقضاء، لأبي المهلب هيثم بن سلمان القيسي، تحقيق الدكتور فرحات الدشراوي، ص17، وأدب القاضي، لأحمد بن أبي أحمد الطبري، المعروف بابن القاص، ج1، ص109 تحقيق، د. حسين خلف الجبوري. 2 أدب القاضي، لابن القاص، ج1، ص109. 3 العمالة -بضم العين- أجرة العمل، وأما العمالة -بفتح العين- فهي نفس العمل. فتح الباري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 أعطه أفقر إليه مني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "خذه فتموله وتصدق به" 1. فما جاءك من هذا المال -وأنت غير مشرف ولا سائل2. فخذه، وإلا فلا تتبعه نفسك"3. قال الإمام الطبري: في حديث عمر الدليل الواضح على أن لمن شغل بشيء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله ذلك، كالولاة، والقضاة، وجباة الفيء، وعمال الصدقة، وشبههم، لإعطاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمر العمالة على عمله"4. وفي ختام هذه المسألة نحب أن نبين أن بعض العلماء يرى أن أخذ الرزق على القضاء إذا كانت جهة الأخذ من الحلال جائز إجماعا، ومن تركه إنما تركه تورعا، وأما إذا كانت هناك شبهة فالأولى الترك جزما، وقال هذا البعض من العلماء أيضًا, ويحرم إذا كان المال يؤخذ لبيت المال من غير وجهه، واختلف إذا كان الغالب حراما5.   1 قال ابن بطال: "أشار -صلى الله عليه وسلم- على عمر بالأفضل؛ لأنه وإن كان مأجورا بإيثاره لعطائه عن نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته للصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل على عظيم فضل الصدقة بعد التمول، لما في النفوس من الشح على المال. فتح الباري، ج13، ص163. 2 اتفق العلماء على تحريم المسألة "أي: التسول" بغير ضرورة، واختلفوا في مسألة القادر على الكسب. والأصح التحريم، وقيل: يباح بثلاثة شروط، أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسئول، فإن فقد شرط منها فهو حرام باتفاق. فتح الباري. 3 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، ج13، ص160. 4 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر، ج13، ص160. 5 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 حق التقاضي مكفول للجميع : تؤكد النصوص الشرعية أن لكل فرد الحق في أن يدعي ليطال بحق يرى أنه يستحقه، ففي بعض المواقف نجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلبي -بدون أدنى غضاضة- طلب من أراد القصاص منه، فقد روى النسائي عن أبي سعيد الخدري1 قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم شيئا إذ أكب رجل، فطعنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تعال فاستقد" قال: بل عفوت يا رسول الله. وفي غزوة بدر الكبرى وقف -صلى الله عليه وسلم- بين الصفوف يعدلها بقضيب في يده فمر برجل يدعى سواد بن غزية حليف بني النجار، وهو خارج من الصف، فضربه بالقضيب في بطنه وقال: استقم يا سواد، فقال: أوجعتني يا رسول الله، وقد بعثت بالحق والعدل أقدني من نفسك "أي: اجعلني أقتص منك"، فكشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بطنه وقال: "استقد يا سواد"، "أي: اقتص مني" فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على ذلك"؟ , فقال: يا رسول الله قد حضر ما ترى, فأردت أن يكون آخر العهد أن يمس جلدي جلدك، فدعا له بخير2. ورو ابن كثير أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج على الناس في مرضه الذي توفي فيه، فقال: "أيها الناس، ألا من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت   1 نقلا عن الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج7، ص634، دار الشعب. 2 نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، للشيخ محمد الخضري، ص114, 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد، ولا يقول قائل: أخاف الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له علي أو حللني، فلقيت الله عز وجل وليس لأحد عني مظلمة" 1. وقد التزم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهذا المبدأ، فقد ثبت عن أبي بكر -رضي الله عنه، أنه قال لرجل شكا إليه عاملا "أي: واليا" أنه قطع يده ظلما: لئن كنت صادقا لأقيد بك منه. وثبت عن عمر -رضي الله عنه- أنه كان يقيد من نفسه، وروى أبو داود قال: خطب عمر فقال: إني لم أبعث عمالي "ولاتي" ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فُعل به ذلك فليرفعه إلي أقصه منه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلا أدب بعض رعيته تقصه منه؟ قال أي والذي نفسي بيده أقصه، وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه. وروى ابن حزم أن رجلا كان مع أبي موسى الأشعري، وكان ذا صوت ونكاية في العدو، فغنموا فأعطاه أبو موسى الأشعري بعض سهمه، فأبى أن يأخذ إلا جميعا, فضربه عشرين سوطا، وحلق رأسه، فجمع شعره ورحل إلى عمر فدخل عليه، فأخرج شعره فضرب به صدر عمر، وقص قصته، فكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: إن فلانا قدم علي فأخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذلك به فعزمت عليك إن كنت فعلت به ذلك في ملأ من الناس، فعزمت عليك لما جلست له في ملأ من الناس حتى يقتص منك. وإن كنت فعلت به ذلك في خلاء   1 السيرة النبوية، لابن كثير، ج4، ص457. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الفصل الأول: شروط الصلاحية للقضاء وعزل القاضي وانعزاله المبحث الأول: شروط الصلاحية للقضاء الشرط الأول: الإسلام ... الفصل الأول: شروط الصلاحية للقضاء، وعزل القاضي وانعزاله المبحث الأول: شروط الصلاحية للقضاء بين علماء المسلمين أنه لا بد من توافر شروط في الشخص حتى يصح توليته القضاء، وبينوا أنه لا يجوز لرئيس الدولة، أو من له حق تولية القضاة أن يولي شخصا هذا المنصب الخطير إلا إذا تحققت فيه هذه الشروط، ويجب عليه أن يجتهد في ذلك لنفسه وللمسلمين، ولا يحابي أحدا، ولا يقصد بالتولية إلا وجه الله تبارك وتعالى. وكان الحادي للعلماء إلى اشتراط هذه الشروط هو الاحتياط بقدر الإمكان أن تكون الأحكام الصادرة في القضايا أحكاما شرعية صادرة عن ذي أهلية صالحة لإصدار هذه الأحكام. وسنبين هذه الشروط بمشيئة الله تعالى، موضحين الخلاف إن وجدناه في شيء منها، وإليك بيانها. الشرط الأول: الإسلام يشترط في القاضي أن يكون مسلما، فلا يجوز أن يتولى القضاء غير المسلم، وهذا في القضاء بين المسلمين؛ لأن الكافر ليس له أهلية الولاية على المسلم، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} 1، والقضاء ولاية عامة، والولاية من أعظم السبل، فهذه الآية مع أنها خبر لفظا،   1 سورة النساء، الآية 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فإنها نهي في المعنى، فهي خبرية لفظا إنشائية معنى، كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، أي: تنهانا عن أن يكون للكفار علينا سبيل، أي: هيمنة، والقاضي له الهيمنة والولاية؛ لأن الولاية هي إنفاذ القول على الغير شاء أم أبى، وأحكام القاضي تنفذ سواء شاء المتخاصمون أم أبوا، فإذا ولينا الكافر القضاء على المسلمين كان له الهيمنة والولاية، وهذا يتنافى مع ما تفيده الآية من النهي عن أن يكون لغير المسلمين سيطرة أو ولاية على المسلمين. واشتراط الإسلام في القاضي إذا تولى القضاء بين المسلمين أمر أجمع عليه العلماء، وأما إذا تولى القضاء بين الكفار بأن ولينا أحد الذميين "مواطنا غير مسلم" هذا المنصب ليقضي بين غير المسلمين من المواطنين، فقد اختلف فيه على رأيين: أحدهما: ما يراه جمهور العلماء وهو أنه يشترط فيه الإسلام كما هو الشرط في القاضي بين المسلمين، وعلى هذا لا يصح تولية القضاء غير المسلم, ولو كان سيقضي بين غير المسلمين. الثاني: لا يشترط الإسلام في القاضي بين غير المسلمين، وهو ما يراه الحنفية. أدلة الجمهور: أولا: استندوا إلى أن المجتمع الإسلامي لا بد أن يكون العلو فيه للمسلمين، قال الله تبارك وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1. قالوا فلو قلد الكفار القضاء لجاز تنفيذ أحكامهم التي قضوا بها، وهذا يتنافى مع الصغار، فلا يجوز تقليدهم القضاء. ثانيا: ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" رواه الدارقطني في سننه، والطبراني في الأوسط، وعلقه البخاري2. فلو ولي الكافر القضاء في دولة الإسلام -ولو على كفار مثله- لكان له ولاية في دولة الإسلام، مع أن الحديث يفيد أن لا يكون فيها ولاية لغير المسلم. ثالثا: القصد من القضاء فصل الأحكام، وغير المسلم جاهل بالأحكام الشرعية3. رابعًا: العدالة من شروط القاضي، لذلك فالفاسق ممنوع من تولي القضاء مع أنه أحسن حالا من الكافر، فيكون الكافر ممنوعا من توليه من باب أولى؛ لأن الكافر أفسق الفساق، فالقياس الأولوي يؤدي إلى تحريم تولي الكافر القضاء، ولم يمنع الفاسق من تولي سلطة القضاء إلا لغياب صفة العدالة عن شخصه، ولا شك في أنه أحسن حالا من الكافر، فيكون حرمانه من هذه السلطة أولى لتمكن علة المنع عنده أكثر من الفاسق. أدلة الحنفية:   1 سورة التوبة، الآية: 29. 2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص67، والمغني، لابن قدامة، ج6، هامش ص356، مطابع سجل العرب. 3 منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، ج9، ص25, 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 سنجد فيما يأتي بعض أدلة الحنفية ضعيفًا والبعض قويا، ولكن الرأي يسلم ويكون مقبولا ولو بدليل واحد. استدل الحنفية بما يأتي: أولا: قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 1. فقد أفادت الآية أن للكفار ولاية بعضهم على بعض، فيتناول هذا أن لهم ولاية القضاء بعضهم على بعض. مناقشة هذا الاستدلال: أجيب عن هذا الاستدلال بأن الآية محمولة على الموالاة لا الولاية. ثانيا: قياس القضاء على الشهادة، فلما كان يصح للذمي أن يشهد على ذمي مثله، فإنه يصح للذمي أن يقضي على ذمي كذلك. ثالثًا: أن العرف جرى في البلاد الإسلامية منذ فجر التاريخ الإسلامي على تعيين قضاة من أهل الذمة ليحكموا بينهم. المناقشة: نوقش هذا بأن العرف الجاري بتقليدهم على أهل دينهم, إنما هو مجرد تقليد زعامة ورياسة، وليس تقليد حكم وقضاء، ويدل على ذلك: 1- أنهم لو امتنعوا من التحاكم إلى غير المسلم لا يجبرون على ذلك، وعليهم -إذا شاءوا- أن يتحاكموا إلى قاض من قضاة المسلمين. 2- أن رئيس الدولة الإسلامية لا يلزم بالحكم الذي قضى به القاضي غير   1 سورة المائدة الآية: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 المسلم، وله إذا شاء أن يعيد النظر في القضية بنفسه أو بواسطة قاض مسلم. أما لزوم حكمه لأهل دينه فما ذلك إلا لأنهم التزموه بتحاكمهم إليه، لا إلزامهم به من جهة تقليد القاضي عليهم أي: إن الإلزام بحكمه ليس ناشئًا عن كونه سلطة قضائية ملزمة1. وقد رجح بعض الباحثين الفضلاء2 مذهب الحنفية لعدة أمور: الأول: أن العرف الذي استند إليه الحنفية له أصل شرعي، وهو أن عمرو بن العاص، بعدما فتح مصر ولى القضاء قضاة من بين النصارى ليحكموا بين أهل ديانتهم، ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب أقره, ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة، وهذا هو أصل القضاء الملي في البلاد المصرية. الثاني: أنه يفهم من كلام فقهاء الحنفية أن القول بجواز تولية غير المسلم القضاء بين أهل ديانته إنما هو نوع من التسامح مع أهل الذمة، فلا ينبغي أن يفهم من هذه التولية أكثر من هذا، فلا يفهم منها أنه يجب على رئيس الدولة الإسلامية أو من له حق تولية القضاة أن يولي غير المسلم؛ لأن من الأصول المقررة أن كل ولاية عامة في بلاد الإسلام، إنما تستند إلى المسلمين لا إلى غيرهم، كما لا يفهم منها أن غير المسلمين مجبرون على أن يتحاكموا إلى القاضي غير المسلم؛ لأن لهم الحق في التحاكم إلى القاضي المسلم. الثالث: أن هذه التولية لا تنفي الصغار عنهم؛ لأن هذه التولية ليست على المسلمين، وإنما عليهم أنفسهم، فالصغار لازم لهم لكفرهم ولأدائهم الجزية، كما أنه ليس في هذه التولية علو على المسلمين؛ لأن العلو لا يتحقق إلا إذا شملت التولية الحكم بين المسلمين، وهذا غير حاصل3.   1 أدب القاضي للماوردي، ج1، ص229، ونهاية المحتاج، للرملي، ج8، ص238، ومحاضرات في علم القضاء، لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص42، وما بعدها مكتوبة بالآلة الكاتبة. 2 أستاذنا الدكتور عبد العال عطوة في محاضرات في علم القضاء، ص44. 3 محاضرات في علم القضاء للدكتور عبد العال عطوة، ص44, 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الشرط الثاني: البلوغ فلا يصح تولية الصبي القضاء، حتى لو كان مميزا واشتهر بالفطنة والذكاء، وهذا أمر مجمع عليه من العلماء، وقد استندوا إلى ما يأتي: أولا: ما رواه أبو هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعوذوا بالله من رأس السبعين، وإمارة الصبيان"، رواه أحمد1. ووجه الاستدلال أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بأن نتعوذ من إمارة الصبيان، ولا يكون التعوذ إلا من شر، فتكون إمارة الصبيان شرا، ونحن ممنوعون من ارتكاب الشر، فتكون توليتهم ممنوعة2؛ لأن ما يؤدي إلى الممنوع يكون ممنوعًا.   1 نيل الأوطار للشوكاني، ج9، ص167، مطبعة دار الجيل، بيروت. 2 لعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ثبت هذا الحديث -أمرنا بالتعوذ من رأس السبعين، لما ظهر فيها من الفتن العظيمة، كقتل الحسين -رضي الله تعالى عنه، ووقعة الحرة، وغير ذلك مما وقع في عشر السبعين، وكانت وقعة الحرة في أيام يزيد بن معاوية، وسببها أن أهل المدينة كانوا أعلنوا عصيانهم، وخلعوا يزيد بن معاوية، وولوا أمرهم عبد الله بن حنظلة، ولما بلغ ذلك يزيد أرسل إليهم من ينصحهم بالرجوع إلى طاعته، فلما لم يستجيبوا لذلك جهز جيشا، وجعل قيادته لمسلم بن عقبة المري، مكونا من اثني عشر ألفا من المقاتلين، استباحوا المدينة ثلاثا، يقتلون الناس، ويأخذون المتاع والأموال، نيل الأوطار للشوكاني، ج9، ص168، ومحاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية للشيخ محمد الخضري. الجزء الثاني ص199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 ثانيًا: أن القضاء محتاج إلى الفطنة وكمال الرأي، وتمام العقل، والصبي لا يتوافر فيه هذا، فلا يصح توليته. ثالثًا: إن الصبي ناقص الأهلية، يحتاج إلى تولية غيره عليه، فلا يصح أن يكون له الولاية على غيره. رابعًا: إن تولية رئيس الدولة لشخص أي منصب عام مقيدة بالنظر والمصلحة، ولا تتحقق المصلحة في تولية الصبي منصب القضاء فلا يصح توليته. ولا يشترط أن يبلغ القاضي سنا معينة، بل الشرط هو البلوغ، فإذا كان الشخص بالغا، وتوفرت فيه بقية الشروط الأخرى، فهو صالح لتولي هذا المنصب، حتى لو كان حديث السن، لكن لو رأى رئيس الدولة أو من له حق تولية القضاة اشتراط بلوغ سن معينة للصلاحية لهذا المنصب، فهذا لا شيء فيه؛ لأنه يدخل في باب المصلحة1. ولو قلد القضاء صبي فبلغ، هل يحتاج إلى تقليد جديد، أم لا؟ قال الحنفية ليس له أن يقضي بذلك الأمر الصادر له قبل البلوغ، بل لا بد من تولية جديدة، بخلاف الكافر إذا تولى القضاء ثم أسلم، والعبد إذا تولى القضاء ثم عتق، فإنه يجوز لهما أن يقضيا بتلك الولاية من غير حاجة إلى تجديد، كما لو تحمل العبد الشهادة حال رقه، ثم عتق فإنه يجوز له الشهادة. وبيّن الحنفية أن الفرق بين الكافر والعبد من جهة، والصبي من جهة أخرى، أن كلا من الكافر والعبد له ولاية، لكن به مانع، فإذا أسلم الكافر، أو عتق العبد،   1 محاضرات في علم القضاء، لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص38-40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 فقد زال المانع، أما الصبي فليس له ولاية أصلًا1. الأشياء التي يحصل بها البلوغ: من حكمة الله تبارك وتعالى ورحمته بعباده أنه لا يكلف الإنسان بالتكاليف الشرعية فيعاقبه إذا تركها إلا بحصول البلوغ، يبين هذا ما رواه الأئمة أحمد بن حنبل، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق". والتكليف بالأحكام الشرعية مرتبط بالبلوغ؛ لأن الأحكام الشرعية تتوجه إلى العاقل، فلا يكلف غير العاقل، ولما كان العقل شيئًا خفيا، فلا بد أن يكون هناك ما يدل على وجوده، فارتبط بالبلوغ؛ لأنه مظنة وجوده، فإذا بلغ الإنسان سواء أكان ذكرا أم أنثى فقد حدث مظنة وجود العقل عنده، فتتوجه إليه كل التكاليف الشرعية من فرائض يجب عليه أداؤها، كالصلاة، والصيام، والحج إن استطاع وغير ذلك من واجبات بينتها أدلة الشريعة، كما يكون محلا للعقوبة فإذا ارتكب ما يستوجب عقوبته استحق هذه العقوبة كسائر المكلفين. وهناك خمسة أشياء تدل على البلوغ، يشترك الذكر والأنثى في ثلاثة أشياء منها، وتختص الأنثى بشيئين: فأما الأشياء الثلاثة التي يشترك فيها الذكر والأنثى فهي خروج المني، ونبات الشعر الخشن حول عضو التذكير، وعضو التأنيث، والسن، وأما الشيآن اللذان   1 فتح القدير، للكمال بن الهمام، ج7، ص253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 يختصان بالأنثى فهما: الحيض، والحمل. وسنفصل الكلام عن هذه الأشياء الخمسة. وأولها خروج المني، وسواء خرج من الذكر أم من الأنثى في حال اليقظة أم في حال المنام بجماع أو باحتلام أو غير ذلك، فقد حصل به البلوغ وهذا محل إجماع أو بتعبير بعض العلماء: لا نعلم في ذلك اختلافا، ويدل على هذا قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} 1. وما رواه الأئمة: أحمد بن حنبل، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والحاكم، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق"، قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أن الفرائض والأحكام تجب على المحتلم العاقل". والثاني: من الأشياء الخمسة، وهو ثاني الأشياء المشتركة بين الذكر والأنثى إنبات الشعر الأسود المتجعد في العانة، فهذا عند فريق من العلماء إحدى العلامات الطبيعية للدلالة على حدوث البلوغ، وبين القائلون بأن هذا من علامات البلوغ أنه ليس من علامة البلوغ إنبات مطلق الشعر، بل لا بد من أن يكون الشعر الأسود المتجعد في هذا الموضع، وأما إنبات مطلق الشعر فإنه لا يكون علامة على البلوغ؛ لأن الزغب الضعيف أي: الشعر الصغير اللين، ينبت في الأطفال2. والقول بأن إنبات الشعر علامة من علامات البلوغ في الذكر والأنثى قال به مالك، وقال به الشافعي في أحد قوليه، وهو ما يراه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن   1 سورة النور، الآية رقم 59. 2 نيل الأوطار للشوكاني، ج5، ص371. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 راهويه، وأبو ثور، وغيرهم. ويوجد في الإنبات رأي ثان هو أن يكون بلوغا في حق غير المسلمين، وليس بلوغا في حق المسلمين، وهذا ما يراه الشافعي في القول الآخر له. ورأي ثالث في الإنبات، يراه أبو حنيفة، وهو أنه لا اعتبار به؛ لأنه لا يعدو أن يكون نبات شعر في جسم الإنسان، فأشبه شعر سائر البدن، فلا يثبت بالإنبات حكم، فليس هو ببلوغ ولا دلالة له على البلوغ1. وقد استدل العلماء القائلون بأن إنبات الشعر في هذا الموضع من علامات البلوغ, بما حدث عندما أخل يهود بني قريظة بالعهد الذي كان بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ورضوا بتحكيم سعد بن معاذ، فكان من حكمه عليهم أن تقتل رجالهم، فكان المسلمون إذا اشتبهوا في الشخص هل بلغ مبلغ الرجال أولا، كشفوا فإذا رأوا إنبات الشعر عومل الشخص معاملة الرجال، فيعاقب بعقوبتهم وهي القتل، فعن عطية القرظي -وكان يهوديا ثم أسلم- قال: "عرضنا على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلى سبيله، وكنت ممن لم ينبت فخلى سبيلي" رواه الخمسة: أحمد بن حنبل، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، وصححه الترمذي، وصححه أيضا ابن حبان والحاكم وقال: على شرط الصحيحين2.   1 ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج1، ص453، والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ج5، ص36، والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، للشوكاني، ج1، ص155. مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر. 2 نيل الأوطار، ج5، ص371، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير، ج1، ص453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 واستدل لهذا الرأي أيضًا بما كتب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى عامله أن لا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي. واستدل أيضا له بأن الشعر خارج يلازمه البلوغ غالبا, ويستوي فيه الذكر والأنثى فكان علما على البلوغ كالاحتلام. ومن أدلتهم أيضًا أن الخارج من الجسم ضربان: متصل ومنفصل، فلما كان من المنفصل كالمنى والحيض ما يثبت به البلوغ كذلك المتصل. وسبق أن ذكرنا أن الشافعي -رضي الله عنه- في أحد قوليه، يرى أن إثبات الشعر من علامات البلوغ في حق غير المسلمين لا في حق المسلمين، ولعله في هذا الرأي ملتزم بظاهر النص الوارد في حادثة تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة، فهذا النص ورد في غير مسلمين، لكن الرد على هذا الرأي بأن ما كان بلوغا في حق غير المسلمين كان بلوغا في حق المسلمين، كالاحتلام والسن، والإنبات أمر جبلي أي: طبيعي يستوي فيه جميع الناس1. هذا، وقد بيّن بعض العلماء أن إنبات شعر اللحية والشارب ليسا بعلامة على البلوغ؛ لأن الإنسان قد يبلغ قبل أن ينبت له شيء من ذلك بزمن طويل2. والثالث من الأشياء الخمسة وهو ثالث الأشياء المشتركة بين الذكر والأنثى: السن ويرى الأوزاعي، والشافعي وأحمد بن حنبل، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن تلميذا أبي حنيفة، أن مضي خمس عشرة سنة من حين الولادة يكون بلوغا،   1 المغني، لابن قدامة ج4، ص514، وتفسير ابن كثير، ج1، ص453. 2 أسهل المدارك، شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك. ج3، ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 سواء أكان ذلك في الذكر أم في الأنثى، وهو ما يراه أيضًا بعض فقهاء المالكية، ويراه عمر بن عبد العزيز، وجماعة من أهل المدينة، واختاره ابن العربي، وتجب عقوبات الحدود وفرائض الشرع عند هؤلاء العلماء على من بلغ هذه السن، قال أصبغ بن الفرج أحد فقهاء المالكية القائلين بهذا الرأي: "والذي نقول به إن حد البلوغ الذي تلزم به الفرائض والحدود خمس عشرة سنة، وذلك أحب ما فيه إلي، فأحسنه عندي؛ لأنه الحد الذي يسهم فيه في الجهاد ولمن حضر القتال"1. ويرى داود الظاهري أنه لا اعتبار بالسن في البلوغ، فلا يحكم ببلوغه بالسن ما لم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة2، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم" وإثبات البلوغ بغير الاحتلام مخالف للحديث، وهذا أيضًا ما يراه مالك. ويرى أصحاب مالك أن البلوغ في الذكر والأنثى بسبع عشرة سنة، ويوجد رأي آخر عندهم أنه يكون بثماني عشرة سنة، ورأي ثالث بخمس عشرة سنة3. وروي عن أبي حنيفة عدة روايات إحداها أنه لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم، وذلك سبع عشرة سنة، فتوقع عليه العقوبات الشرعية المحددة إذا ما ارتكب ما يستوجب توقيعها عليه.   1 الجامع لأحكام القرآن. للقرطبي، ج5، ص35، وتكملة فتح القدير، لقاضي زاده، ج9، ص270. 2 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ج5، ص35. 3 المغني، لابن قدامة، ج4، ص514، وأسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك، جمع أبي بكر بن حسن الكشناوي، ج3، ص5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وتوجد رواية أخرى عن أبي حنيفة أنه يرى أن البلوغ يكون بتسع عشرة سنة، وهي الرواية الأشهر، وأنه يرى أن الأنثى تبلغ بسبع عشرة سنة، وروي عنه رواية ثالثة رواها اللؤلئي أن البلوغ بثماني عشرة سنة في حق الغلام. وجمع بعض فقهاء الحنفية بين الرواية التي تقول إن أبا حنيفة يرى أن البلوغ في حق الغلام بثماني عشرة سنة، والرواية التي تقول إنه يرى أن البلوغ في حقه بتسع عشرة سنة بأن المراد أن يدخل في التاسعة عشرة, ويتم له ثماني عشرة سنة، فلا يكون اختلاف بين الروايتين1. وتوجد رواية رابعة أن الغلام والجارية يبلغان بخمس عشرة سنة2. وقد استدل للرأي القائل بأن البلوغ في الذكر والأنثى بخمس عشرة سنة، بحديث عبد الله بن عمر عندما عرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- ليشترك مع جيش المسلمين فيقاتل معهم في معركة أحد، وكانت سنه في هذا الوقت أربع عشرة سنة، فلم يسمح له النبي -صلى الله عله وسلم- بالاشتراك مع الجيش في الحرب، ولما بلغ خمس عشرة سنة، سمح له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالاشتراك في الحرب يوم الخندق، روى الجماعة: البخاري، ومسلم، وأحمد بن حنبل، والترمذي والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه عن ابن عمر قال: عرضت على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. ومعنى الإجازة: الإذن بالخروج للاشتراك في القتال، قال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث: إن هذا الفرق بين الصغير والكبير3.   1 تكملة فتح القدير، لقاضي زاده، ج9، ص270. 2 الجامع لأحكام القرآن، ج5، ص35، وتكملة فتح القدير، لقاضي زاده، ج9، ص270. 3 تفسير ابن كثير، ج1، ص453. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وقد تعقب بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث بأن هذا الحديث لا دلالة فيه على البلوغ؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يتعرض لسن عبد الله بن عمر، وإن فرض خطور ذلك المعنى ببال عبد الله بن عمر. ورد الشوكاني هذا التعقب بالزيادة التي جاءت في رواية أخرى لهذا الحديث عند البيهقي، وابن حبان في صحيحه، فقد جاءت الرواية عندهما بزيادة "ولم يرني بلغت" بعد قوله: "لم يجزني" وبزيادة: "ورآني بلغت"، بعد قوله: "أجازني"، وهذه الزيادة صححها أيضا ابن خزيمة. والظاهر أن عبد الله بن عمر لا يقول هذا بمجرد الظن من دون أن يصدر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على ذلك1. وعلل أصحاب الرأي القائل بأن البلوغ في الذكر والأنثى بخمس عشرة سنة، تساوي الذكر والأنثى في هذا المقدار من السنين مع أن الحديث في الذكر، عللوا هذا التساوي بأن السن معنى يحصل به البلوغ يشترك فيه الغلام والجارية فاستويا فيه كالإنزال للمني2. وقد استدل للرأي المنقول عن أبي حنيفة أن الغلام يبلغ بثماني عشرة سنة, والأنثى تبلغ بسبع عشرة سنة بقول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} 3. قال فقهاء الحنفية إن الصبي يبلغ أشده   1 نيل الأوطار للشوكاني، ج5، ص370-373. 2 المغني لابن قدامة، ج4، ص515. 3 سورة الإسراء، من الآية رقم: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 بثماني عشرة سنة، كما قاله عبد الله بن عباس، والقول بالثماني عشرة سنة هو أقل ما قيل في تفسير بلوغ الصبي أشده؛ لأن هناك رأيا ثانيا يقول: اثنتان وعشرون سنة، ورأيا ثالثا يقول: خمس وعشرون سنة، وهو قول عمر -رضي الله عنه، وإذا كان القول بالثماني عشرة سنة هو أقل ما قيل في تفسير بلوغ الصبي أشده فينبغي الحكم عليه للاحتياط. ولما كان الإناث نشوؤهن وإدراكهن أسرع من الذكور غالبا فإن ذلك دافع إلى الإنقاص في حقهن سنة، وكانت سنة كاملة؛ لأن السنة تشتمل على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة1. وبهذا ينتهي الكلام عن الأشياء الثلاثة التي يشترك فيها الذكر والأنثى، وهي: خروج المني، ونبات الشعر الخشن في العانة، والسن، وأما الشيآن اللذان تختص بهما الأنثى فيهما -كما بينا- الحيض والحمل. والحيض علامة من علامات البلوغ لا نعلم فيه خلافا كما عبر عن ذلك ابن قدامة، وقد روى الترمذي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" 2 قال الترمذي: حديث حسن. والحمل أيضًا علامة من علامات البلوغ؛ لأن الله عز وجل أجرى العادة على أن لا يخلق الولد إلا من لقاء بين حيوان منوي من الرجل وبويضة من المرأة، فمتى حملت فإنه يحكم ببلوغها في الوقت الذي بدأ فيه حملها3. هذا وإذا قارب الغلام أو الجارية الحلم وأشكل الأمر فيهما، وادعى أي منهما البلوغ فقال هو أو قالت هي: بلغت، فالقول قولهما، وتكون أحكام كل منهما أحكام البالغين؛ لأنه معنى لا يعرف إلا من جهتهما ظاهرا، فإذا أخبرا بذلك قبل قولهما فيه كما يقبل قول المرأة في الحيض، في العدة وبين بعض العلماء أنه يشترط في قبول قولهما في هذه الناحية إذا كان الغلام بلغ اثنتي عشرة سنة وبلغت الأنثى تسع سنين، فإذا كان أحدهما لم يبلغ ذلك فلا يقبل قوله؛ لأن الظاهر يكذبه4.   1 تكملة فتح القدير، لقاضي زاده، ج9، ص270. 2 الخمار: غطاء رأس المرأة. 3 المغني، لابن قدامة، ج4، ص515، وأسهل المدارك، شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك، لأبي بكر بن حسن الكشناوي، ج3، ص5، الطبعة الثانية. 4 حاشية سعدي جلبي على تكملة فتح القدير، ج9، ص270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 الشرط الثالث: من شروط القاضي العقل إذا كان لا يصح تولية الصبي القضاء فالمجنون لا يصح توليته من باب أولى، والعقل أحد الشروط المجمع عليها بين العلماء، لا يتصور الخلاف في ذلك، وقد عرف بعض العلماء العقل بأنه: "غريزة يتأتى بها درك العلوم وليست منها" واختار ابن السبكي أحد كبار فقهاء الشافعية تعريفا له بأنه: "ملكة يتأتى بها درك المعلومات"1. والعلماء مختلفون في محل العقل، فالشافعية يقولون إن محل العقل هو القلب، ويستندون في هذا إلى نصوص من القرآن والسنة، فمن القرآن قول الله   1 الأشباه والنظائر، لعبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، ج2، ص17، دار الكتب العلمية، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} 1. وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} 2 وقوله عز وجل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ، ومن السنة يستندون إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة" الحديث. وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن محل العقل الدماغ وليس القلب، وهو المعروف عن أبي حنيفة -رضي الله عنه3. هل يكتفى بالعقل الذي يتحقق به التكليف؟ هل يكتفى في شرط العقل أن يوجد عند الشخص العقل الغريزي، أي: العقل التكليفي، الذي يناط به التكليف، أم لا بد أن يتحقق عنده عقل اكتسابي زيادة على العقل التكليفي؟. اشترط الماوردي أحد أشهر علماء الشافعية زيادة العقل الاكتسابي، فلا يكفي عنده العقل الغريزي الذي هو مناط التكليف. قال الماوردي محددا مراده من شرط العقل: "ولا يكتفى فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز جيد الفطنة، بعيدا عن السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل وفصل ما أعضل"4. فالماوردي -كما هو واضح من كلامه- يرى أن مجرد وجود العقل   1 سورة الحج، الآية رقم: 46. 2 سورة الأعراف، الآية رقم: 179. 3 الأشباه والنظائر لابن السبكي، ج2، ص17، 18. 4 الأحكام السلطانية للماوردي، ص72، دار التوفيقية بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 التكليفي عند الشخص لا يكفي؛ لأنه يمكن أن يكون عنده العقل التكليفي، لكنه مع هذا تحقق فيه صفة الغفلة، فالفطانة1 إذن على رأي الماوردي مطلوبة في القاضي، وهي ضد الغفلة. والغفلة صفة تؤدي إلى أن ينخدع الشخص بتحسين الكلام، ولا يفطن إلى بعض الأمور التي تساعده في الحكم في القضية المطروحة أمامه، فلا بد من جودة العقل، وقوة إدراكه لمعاني الكلام. والمالكية أيضًا يشترطون ما اشترطه الماوردي، وهو شرط الفطانة2. والبعض منهم يرى أنها من الصفات المستحبة وليست شرطا في صحة التولية، وبعض ثالث منهم أيضا يرى أن مطلق الفطنة المانع من كثرة التغفل شرط في صحة التوليه لهذا المنصب، والفطنة الموجبة للشهرة بها غير النادرة ينبغي أن تكون من الصفات المستحبة في القاضي، ويرى الرملي أحد علماء الشافعية أن اشتراط الماوردي في القاضي زيادة العقل الاكتسابي مخالف لفقهاء الشافعية، أي: إنهم لم يشترطوا ما اشترطه الماوردي من زيادة على العقل التكليفي. ويرى بعض آخر من فقهاء الشافعية أن الذي اشترطه الماوردي لا بد منه، وأن مجرد العقل التكليفي الذي هو التمييز غير كاف في القاضي قطعا، وبين أن الرملي نفسه -وهو الذي لم يرض بما اشترطه الماوردي- اشترط أن يكون ذا يقظة تامة، وهذا مساو لما قاله الماوردي، فما قاله الماوردي ليس فيه زيادة   1 الفطنة والفطانة والفطن، كلها بمعنى واحد، وهي كلها مصدر للفعل فطن. المصباح المنير، مادة: فطن. 2 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، ج4، ص129، مطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 على هذا1, ونجد أن ابن جماعة الفقيه الشافعي يقول عند كلامه عن شرط العقل في القاضي "ونعني بالعقل صحة التمييز وجودة الفطنة والذكاء"2. وفي فقه الشيعة الإمامية نجدهم يشترطون في القاضي كمال العقل3. وجمهور العلماء لا يحددون للفطنة حدا معينا، لكن بعض فقهاء المالكية يرى أنه من المستحب أن لا يكون القاضي زائدا في جودة الذهن والرأي عن عادة الناس، وقد علل لهذا الرأي بأنه يخشى أن يحمله جودة رأيه وفكره على الحكم بين الناس بالفراسة4، وترك قانون الشريعة من طلب البينة "الشهود" وتجريحها وتعديلها، وطلب اليمين ممن توجهت إليه، وغير ذلك5. ويجاب عن هذا بأنه على العكس من ذلك، فإن المطلوب أن يكون القاضي زائدا في الفطنة والدهاء عن عامة الناس؛ لأن ذلك يؤدي إلى سرعة الوصول إلى الحق في القضايا المطروحة أمامه، ويؤيد هذا أن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أسرع في تولية كعب بن سور القضاء عندما ظهرت له زيادة فطنة عنده، فقد   1 مواهب الجليل، لشرح مختصر خليل، للخطاب، ج6، ص88، وحاشية أحمد بن عبد الرازق المعروف بالمغربي الرشيدي على شرح نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص238. 2 تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لمحمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، تحقيق الدكتور فؤاد عبد المنعم، ص88، الطبعة الأولى، 1405هـ، 1985م. 3 شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، للحلي جعفر بن الحسن، ج4، ص6، منشورات دار الأضواء، بيروت. 4 الفراسة هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية، كالاستدلال بشكل المرء ولونه، وقوله على خلقه. فيستدلون باتساع الجبين على الذكاء، وبعرض القفا على الغباء، وبضيق العين على الشح، وبغلظ الشفتين على الإسراف في الحب والبغض، تاريخ الأدب العربي للأستاذ أحمد حسن الزيات هامش، ص11. 5 الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي عليه ج4، ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ورى عن الشعبي أن كعب بن سور الأسدي كان جالسا عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فجاءت امرأة فقال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائما ويظل نهاره صائما، فاستغفر لها وأثنى عليها، ثم قال لها: نعم الزوج زوجك، فجعلت تكرر هذا القول، ويكرر عليها الجواب، فقال له كعب: يا أمير المؤمنين، هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه، فقال له عمر: كما فهمت كلامها فاقض بينهما، قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن فأقضي له ثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيها، ولها يوم وليلة، ثم قال للزوج: إن لها عليك حقا يا بعل، تصيبها في أربع لمن عدل، فأعطها ذاك ودع عنك العلل، فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب إلي من الآخر، اذهب فأنت قاض على أهل البصرة1. أما الخشية من أن يحكم القاضي بالفراسة، ويترك قانون الشريعة فلا محل لها؛ لأن من الشروط التي يجب أن تتحقق في القاضي شرط العدالة، والعدالة تمنع القاضي من أن يترك قانون الشريعة ويحكم بغير هذا القانون2.   1 المغني، لابن قدامة، ج7، ص303، 304. 2 محاضرات في علم القضاء للدكتور عبد العال عطوة، مكتوبة بالآلة الكاتبة، ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الشرط الرابع: الحرية أي: لا يكون عبدا، وهذا شرط اشترطه جمهور العلماء عندما كان الرق موجودا في عصورهم، وهو من الشروط التي قال بها جمهور العلماء، عدا ابن حزم والزيدية -فيما اطلعنا عليه من مصادر- وذلك لنقص العبد بجميع أقسامه، سواء أكان قنا، أي: خالص العبودية، أم مبعضا، أي: بعضه حر، وبعضه رقيق، كأن اشترك اثنان في ملكية عبد بميراث، أو بشراء أو بغير ذلك من أسباب التملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 المشروعة، ثم أعتق أحدهما نصيبه، أم كان مدبرا، أي: قال له سيده: أنت حر بعد موتي، أم معلقا عتقه على صفة، كأن قال له سيده: إن شفاني الله فأنت حر، فكل هذه الأنواع لا يصح توليتها منصب القضاء، لنقصان العبد، والنفوس البشرية تأنف من الانقياد لم به رق. وأيضًا فلأن الرق -كما قال العلماء- أثر كفر؛ لأنه في الأصل عقوبة وقعت على أسير الحرب من الكفار، لما استكبر عن عبادة الله تبارك وتعالى، جعله الله عبد عبيده. ويعلل العلماء أيضًا لهذا الشرط بأن العبد مشغول بحقوق سيده فلا يتفرغ لمصالح الأمة1. وقال الإمام الباجي، "ووجه ذلك أن منافع العبد مستحقة لسيده فلا يجوز أن يصرفها للنظر بين المسلمين"2. وقد دلل ابن حزم لرأيه بعدة أمور: الأمر الأول: أن القضاء هو نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبد كسائر أفراد الأمة مخاطب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الأمر الثاني: أن الله تبارك وتعالى أمرنا فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} 3 والعبد داخل في هذا الأمر، كسائر أفراد الأمة؛ لأن هذه الأوامر تعم كل رجل وامرأة، وحر وعبد، ولا يصح التفريق في الأحكام بين الرجال والنساء، والأحرار والعبيد إلا إذا جاء   1 الروض المربع، لمنصور بن يونس البهوتي، وحاشيته، ج3، ص385، مطبعة السعادة. 2 المنتقى، للباجي، شرح موطأ مالك، ج5، ص183. 3 سورة النساء، الآية رقم: 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 نص يفيد هذا التفريق في الحكم. الأمر الثالث: ما روي عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه انتهى إلى الربذة وقد أقيمت الصلاة، فإذا عبد يؤمهم فقيل له هذا أبو ذر فذهب يتأخر، فقال أبو ذر: أوصاني خليلي يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف. قال ابن حزم بعد أن ذكر هذا الأثر: "فهذا معنى جلي على ولاية العبد". الدليل الثالث: ما روي عن سويد بن غفلة قال: قال لي عمر بن الخطاب: أطع الإمام وإن كان عبدا مجدعا، قال ابن حزم: فهذا عمر لا يعرف له من الصحابة مخالف1. واستند الزيدية في رأيهم بجواز كون القاضي عبدا إلى أن العبد يصح شهادته فيصح حكمه كالحر2. وأما لو كان عبدا ثم أصبح حرا، فجمهور العلماء يرون صلاحيته لتولي منصب القضاء، ويرى سحنون أحد علماء المالكية أن العتيق لا يصلح لتولي القضاء، خوفا من أن تستحق رقبته، فتذهب أحكام الناس باطلا، أي: فترد الأحكام التي حكم بها3.   1 المحلى، لابن حزم، ج10، ص632. 2 البحر الزخار، لأحمد بن يحيى بن المرتضي، ج6، ص119، الناشر دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة. 3 تبصرة الحكام لابن فرحون، بهامش فتح العلي المالك، لمحمد عليش، ج1، ص24، ومواهب الجليل في مختصر خليل، للحطاب، ج1، ص87. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الشرط الخامس: الذكورة مدخل ... الشرط الخامس: الذكورة هذا الشرط محل اختلاف بين علمائنا -رضي الله تعالى عنهم- وهو من الشروط التي أخذت حيزا كبيرا من الاختلاف الفقهي قديما وحديثا. فجمهورهم -وفيهم جمهور المالكية وكذلك فيهم الشافعية، والحنابلة، وزفر من الحنفية والشيعة الإمامية1، والشيعة الزيدية2، والإباضية3- يرون أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء في أي نوع من أنواع القضايا، سواء أكانت في قضايا الأموال أم في قضايا القصاص، والحدود، أم في غير ذلك، ولو وليت المرأة القضاء كان من ولاها آثما، ولا ينفذ حكمها حتى لو كان موافقا للحق، وكان في الأمور التي تقبل فيها شهادتها4. ونرى أن من المستحسن هنا أن نوضح أن فقهاء الحنفية أيضا مع الجمهور, في القول بعدم جواز أن تتولى المرأة القضاء، لكن بعض الكاتبين في الفقه الإسلامي ينسبون إلى الحنفية أنهم يرون جواز أن تتولى المرأة القضاء في الأمور التي يصح لها   1 شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، للحلي جعفر بن الحسن، ج4، ص67، منشورات دار الأضواء، بيروت، ووسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، لمحمد بن الحسن الحر العاملي، ج18، ص6. دار إحياء التراث العربي ببيروت، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، لأبي بكر بن محمد الحسيني الحصني، ج2، ص257. 2 البحر الزخار، الجامع لمذاهب علماء الأمصار، لأحمد بن يحيى بن المرتضى، ج6، ص118، دار الكتاب الإسلامي بالقاهرة. 3 شرح النيل وشفاء العليل، ج13، ص23. 4 تبصرة الحكام، ج1، ص23، 24، والأحكام السلطانية للماوردي ص72، والمقنع ج2، ص609، والاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود مودود، ج2 ص84، والمنتقى، شرح موطأ الإمام مالك، لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي، ج5، ص182، مطبعة السعادة 1332هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 أن تشهد فيها، وهي ما عدا مسائل الحدود، والقصاص1. والواقع أن حقيقة مذهب الحنفية غير ذلك2؛ لأن الحنفية كما قلنا يقفون مع جمهور العلماء في القول بعدم جواز أن تتولى المرأة القضاء، لكنهم زادوا على   1 الحدود هي العقوبات المقدرة التي وجبت حقا لله تعالى، مثل: عقوبة الزنا، وعقوبة السرقة، وعقوبة شرب الخمر، فأما القصاص فهو عقوبة مقدرة وجبت حقا للآدمي، فإذا قتل إنسان إنسانا عمدا عدوانا كانت العقوبة القصاص وهي قتل القاتل. 2 من الكاتبين الذين نسبوا إلى الحنفية أنهم يرون جواز أن تتولى المرأة القضاء فيما تصح فيها شهادتها، الدكتور منير العجلاني في كتابه عبقرية الإسلام، في أصول الحكم ص353، والدكتور محمد فاروق النبهان في كتابه نظام الحكم في الإسلام، ص625، والدكتور محمد مصطفى الزحيلي في كتابه التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي، ص58، وهذا مخالف لحقيقة مذهب الحنفية، كما سنبين ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ذلك أن قالوا: إذا وليت المرأة القضاء مع الكراهة1 التحريمية، وأثم من ولاها فحكمت في الأمور التي تصح فيها شهادتها -وهي ما عدا مسائل الحدود والدماء- فإنه ينفذ حكمها إذا وافق كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأما إذا حكمت في الحدود والقصاص فلا ينفذ قضاؤها، حتى لو كان موافقا لكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، وهذا ما صرح به فقهاء الحنفية   1 فقهاء الحنفية يرون أن المكروه ينقسم إلى قسمين: أحدهما المكروه تحريما والثاني المكروه تنزيها، ويبينون أن مرادهم بالمكروه تحريما هو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتميا ملزما بدليل ظني كخبر الواحد، والقياس، وذلك كبيع الإنسان على بيع أخيه، وخطبته إلى خطبة أخيه، فإنه ثبت أن ذلك منهي عنه في حديث آحادي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو قوله: "المؤمن أخو المؤمن فلا يحل له أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" رواه أحمد ومسلم. ومثل ذلك أيضًا لبس الرجال الحرير والتختم بالذهب، فإن ذلك عند الحنفية مكروه تحريما؛ لأن طلب الكف عنهما كان طلبا حتميا لكنه بدليل ظني، هو حديث آحاد، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم: "هذان حرام على رجال أمتي حلال لنسائهم" مشيرا إلى الذهب والحرير. وأما المكروه تنزيها فهو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا غير حتمي. والفرق عند الحنفية بين الحرام والمكروه تحريما، أن الحرام هو ما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتميا ملزما بدليل قطعي -كالقرآن الكريم- كالزنا والقتل، وشرب الخمر. وأما المكروه تحريما فهو مع اشتراكه مع الحرام في أن كلا منهما طلب الشارع الكف عن فعله طلبا حتميا ملزما فإنه يختلف عنه في أن الدليل في الحرام دليل قطعي كالقرآن والسنة المتواترة، وأما الدليل في المكروه تحريما فهو دليل ظني كخبر الواحد، والقياس. وجمهور العلماء غير الحنفية لا يقسمون المكروه هذا التقسيم، فعندهم المكروه قسم واحد هو ما طلب الشارع من المكلف الكف عنه من غير تحتيم. والحنفية يرون أن تولية المرأة القضاء من قبيل المكروه تحريما لثبوت الدليل في ذلك في حديث آحادي هو قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". وفاعل المكروه تحريما يستحق العقاب عند الحنفية كفاعل الحرام، والفرق أن منكر الحرام يكفر؛ لأن دليله قطعي، ومنكر المكروه تحريما لا يكفر، لاتفاق العلماء على أن منكر ما كان دليله ظنيا لا يكفر. أصول الفقه الإسلامي للدكتور أبو العينين، ص273، وأصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكريا البري، ص273، دار إحياء التراث العربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 أنفسهم فهو ما قرره الغزي في تنوير الأبصار، قال الغزي: "والمرأة تقضي في غير حد وقود "أي: قصاص" وإن أثم موليها"1، وهو أيضا ما قاله صاحب مجمع الأنهر، قال: "ويجوز قضاء المرأة في جميع الحقوق لكونها من أهل الشهادة، لكن أثم المولي لها للحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" في غير حد وقود، إذ لا يجري فيهما شهادتها وكذا قضاؤها في ظاهر الرواية2. وأيضا ما قرره الكمال بن الهمام في سياق رده على استدلال الجماهير على عدم نفاذ حكمها لو وليت قال: "والجواب أن غاية ما يفيد منع أن تستقضي وعدم حله، والكلام فيما لو وليت، وأثم المقلد بذلك، أو حكمها خصمان، فقضت قضاء موافقا لدين الله، أكان ينفذ أم لا؟ لم ينتهض الدليل على نفيه بعد موافقته ما أنزل الله، إلا أن يثبت شرعا سلب أهليتها، وليس في الشرع سوى نقصان عقلها3. ومعلوم أنه لم يصل إلى حد سلب ولايتها بالكلية، ألا ترى أنها تصلح شاهدة4، وناظرة في الأوقاف ووصية على اليتامى، وذلك النقصان بالنسبة والإضافة، ثم هو منسوب إلى الجنس، فجاز في الفرد خلافه، ألا ترى إلى تصريحهم يصدق قولنا: الرجل خير   1 حاشية ابن عابدين "رد المحتار على الدر المختار"، ج5، ص440، الطبعة الثانية. مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1966. 2 مجمع الأنهر، لعبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بداماد أفندي في شرح ملتقى الأبحر لإبراهيم الحلبي، ج2، ص168. 3 في الحديث الشريف ما رواه البخاري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال مخاطبا النساء: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"، البخاري، ج1، ص211، ونقصان العقل أي: قوة الذاكرة عندها أقل من الرجل عموما، يوضح هذا قول الله تبارك وتعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا} وذلك لأن طبيعة المرأة وما يعتريها من مرض شهري وحمل وولادة يؤثر في قوة التذكر في كثير من الأحيان. 4 والشهادة نوع من الولاية؛ لأن الولاية معناها إنفاذ القول على الغير شاء أم أبى، والقضاء بواسطة الشهادة يحكم على المشهود عليه شاء أم أبى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 من المرأة، مع جواز كون بعض أفراد النساء خيرا من بعض أفراد الرجال، ولذلك النقص الغريزي نسب -صلى الله عليه وسلم- لمن يوليهن عدم الفلاح1، فكان الحديث متعرضا للمولين ولهن بنقص الحال، وهذا حق، لكن الكلام فيما لو وليت فقضت بالحق، لما يبطل ذلك الحق؟ "2. ولعل السبب في الخطأ الذي يقع فيه بعض الحاكين لمذهب الحنفية من الكاتبين المحدثين أن بعض المصادر القديمة في كتب الحنفية أنفسهم، وفي كتب غيرهم، يفهم من ظاهر عباراتها أن المرأة يجوز توليتها القضاء في غير قضايا الحدود والدماء، فمثلا يقول الكاساني أحد كبار فقهاء الحنفية المشتهرين في كتابه: "بدائع الصنائع"3: "وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادات في الجملة، إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأنه لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة". ولعل مراد الكاساني من عبارة: "وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة"، أن الذكورة ليست شرطا في كل ما يتصل بمسألة قضاء المرأة، إذ إنها لا تشترط في صحة حكمها في الأمور التي يجوز لها أن تشهد فيها، وهي عند الحنفية وجمهور العلماء ما عدا القصاص والحدود، فالمرأة إذا حكمت فيما يصح لها أن تشهد فيه كان حكمها صحيحا عند الحنفية، مع إثم من ولاها منصب القضاء. ونظير هذا التعبير في كلام العلماء، وهو تعبير "في الجملة" ما قاله العلماء عند بحث مسألة تصرفات الصبي المميز4، قال العلماء إن تصرفات الصبي المميز   1 يشير الكمال بن الهمام هنا إلى حديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". 2 شرح فتح القدير للكمال بن الهمام ج7، ص298، الطبعة الثانية، 1977. 3 الجزء السابع، ص3، دار الكتاب العربي - بيروت. 4 الصبي المميز هو من يفهم الخطاب، ويتصرف بناء على هذا الفهم تصرفا مقبولا، وغالبا ما يكون ذلك في سن السابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 جائزة في الجملة يريدون بذلك أنها تجوز في بعض الأحيان؛ وذلك لأن تصرفات الصبي المميز تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: أن تكون تصرفات نافعة نفعا محضا للصبي، وهذه جائزة ولو خالف ولي الصبي كالاصطياد، وقبول الهدية، وقبول الوصية؛ لأن ذلك نفع تام للصبي. الثاني: أن تكون تصرفات ضارة ضررا محضا بالصبي، وهذه غير جائزة ولو أجازها الولي، كالطلاق، وأن يهب هو لغيره شيئًا ماليا، أو يتصدق بشيء أو يقرض غيره أو يكفل مدينا لغيره، فهذه التصرفات وأمثالها لا تنفذ ولو أجازها وليه؛ لأنها تصرفات تؤدي إلى إلحاق الضرر المحض بالصبي. الثالث: أن تكون تصرفات مترددة بين النفع والضرر، وهو كل تصرف يحتمل أن يحقق نفعا للصبي ويحتمل في نفس الوقت أن يؤدي إلى خسارته، فهذه تكون صحيحة لكنها متوقفة على إجازة الولي، وذلك كالبيع والشراء، والإجارة، والزواج والمزارعة، والمساقاة، وسائر الشركات وما ماثل ذلك. فإذا قال العلماء إن تصرفات الصبي المميز جائزة في الجملة فإنهم يريدون أنها في بعض الحالات تكون جائزة، فلعل مراد الكاساني -كما قلنا قريبا- من عبارة "وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة"، أن الذكورة ليست شرطا في كل ما يتصل بمسألة قضاء المرأة؛ لأنها لا تشترط في صحة حكمها في الأمور التي يجوز لها أن تشهد فيها. لكن العبارة بهذا الشكل من الكاساني توهم بحسب فهم ظاهرها أن المرأة يجوز توليتها القضاء في غير قضايا الحدود والدماء، وخاصة وأن الكاساني يقول: "فليست من شرط جواز التقليد" ولو قال: فليست من شرط قضاء المرأة في الجملة، لكانت أقرب إلى ما يراه الحنفية، ولنواصل القراءة في كتب الحنفية لنجد أن بعض عباراتهم يوهم ظاهرها جواز تقليد المرأة القضاء في كل شيء, إلا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الحدود والقصاص. يقول المرغيناني: "ويجور قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص"1. ومع أن المرغيناني عبر بقوله: "ويجوز قضاء المرأة" إلى آخره، ولم يعبر بالقول مثلا: ويجوز تقليد المرأة القضاء، أو يجوز تولية المرأة القضاء، ومع أن تعبيره هذا يتفق في الواقع وما يراه الحنفية من عدم جواز تقليد المرأة القضاء, لكن إذا وليت القضاء فإنه يصح قضاؤها أي: حكمها فيما عدا القصاص والحدود مع إثم من ولاها، نقول: مع أن المرغيناني عبر بهذا فإن عبارته في ظاهرها توهم أن الحنفية يرون جواز توليتها القضاء فيما عدا الحدود والقصاص، ولا شك أن التعبير بالعبارة التي لا توهم أولى من التعبير بالعبارة الموهمة التي تحتاج إلى التدقيق والبحث عن المراد. ويقول الكمال بن الهمام في شرح فتح القدير2: "وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء في الحدود والدماء، فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما"، والكمال بن الهمام يريد بهذه العبارة أن الذكورة ليست شرطا في صحة الحكم إلا في الحكم في قضايا الحدود والدماء، وليس مراد ابن الهمام أن الذكورة ليست شرطا في تولية القضاء إلا في الحدود والدماء, وقد صرح هو نفسه بهذا المراد عندما كان يناقش استدلال القائلين بعدم نفاذ حكم المرأة لو وليت, ولو في غير الحدود والدماء, فقد قال هناك كما ذكرنا قريبا: "والجواب أن غاية ما يفيد منع أن تستقضى وعدم حله، والكلام فيما لو وليت وأثم المقلد "يعني من ولاها"، بذلك، أو حكمها خصمان فقضت قضاء موافقا لدين الله، أكان ينفذ أم لا؟ لم ينتهض   1 الهداية شرح بداية المهتدي كلاهما للمرغيناني مع شرح فتح القدير، ج7، ص397. 2 فتح القدير ج7، ص253 دار الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الدليل على نفيه بعد موافقته ما أنزل الله" إلى آخر ما قاله الكمال1. لكن عبارة ابن الهمام موهمة أن الحنفية يجيزون تولي المرأة القضاء في غير الحدود والقصاص كعبارة المرغيناني، وإن كان ابن الهمام في الحقيقة يريد بالقضاء الحكم وليس التولية. وإذا انتقلنا إلى مصادر أخرى لغير الحنفية، نجد الماوردي مثلا أحد أشهر فقهاء الشافعية، يقول في كتابه: الأحكام السلطانية2: "وقال أبو حنيفة: يجوز أن تقضي المرأة فيما تصح فيه شهادتها، ولا يجوز أن تقضي فيما لا تصح فيه شهادها". وملاحظتنا على هذه العبارة كملاحظتنا السابقة على عبارة المرغيناني والكمال بن الهمام حتى مع كون الماوردي -بغالب الظن- يريد بقوله: "تقضي" الحكم وليس التولية. ونجد الحافظ ابن حجر العسقلاني يقول في كتابه الموسوعي فتح الباري: "واتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي، إلا عند الحنفية، واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير"3. ونفس ملاحظتنا السابقة يمكن أن توجه إلى عبارة ابن حجر، مع زيادة أن الحنفية لم يستثنوا الحدود فقط، بل استثنوا الحدود والقصاص، إلا إذا كان يريد بالحدود ما يشمل القصاص بنوع من التجوز. ونجد ابن رشد -الحفيد- في كتابه: بداية المجتهد يقول: "وكذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم، وقال   1 فتح القدير، للكمال بن الهمام، ج7، ص298. 2 الأحكام السلطانية للماوردي، ص72، دار التوفيقية. 3 فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر. ج13، ص146، المكتبة السلفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال"1. ولا تسلم عبارة ابن رشد من الملاحظة التي كررناها على العبارات السابقة إلا إذا كان مراد ابن رشد من قوله: "وهي شرط في صحة الحكم" هي شرط في صحة ما قضت به, وليس المراد التولية فيمكن أن يعتذر عن ابن رشد بأن تعبيره بقوله: هي شرط في صحة الحكم, يعني بالحكم القضاء وليس التولية نفسها، لكن مع هذا فالعبارة موهمة بأن الحنفية يرون جواز التولية للمرأة منصب القضاء في الأموال. ومن الملاحظ أيضًا على ابن رشد أنه أخطأ في حكاية مذهب الحنفية على أنهم يقصرون جواز قضائها على الأموال، مع أنهم يقولون بصحة قضائها مع إثم من ولاها في كل ما عدا الحدود والقصاص، فليس صحة قضائها فيما لو وليت مع الإثم مقصورا على الأموال2. وأوضح في التصريح بأن أبا حنيفة يرى جواز تولية المرأة منصب القضاء قول الباجي صاحب كتاب المنتقي شرح موطأ الإمام مالك: "وقال أبو حنيفة يجوز أن تلي المرأة القضاء في الأموال دون القصاص"3. ونجد الصنعاني يقول في كتابه سبل السلام4: "وذهب الحنفية إلى جواز توليتها الأحكام إلا في الحدود" وهذه العبارة من الصنعاني ظاهرة وواضحة في أن   1 بداية المجتهد، ونهاية المقتصد، لابن رشد، ج2، ص564. 2 نظام القضاء في الإسلام، لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد ص28 مكتوب بالآلة الكاتبة. 3 المنتقي شرح موطأ مالك. لسليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي المتوفى سنة 494هـ، ج5، ص182، مطبعة السعادة، الطبعة الأولى 1332هـ. 4 جزء الرابع، ص123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 الذكورة ليست شرطا عند الحنفية في توليتها منصب القضاء، وهذا خطأ؛ لأن الحنفية لا يقولون بجواز توليتها القضاء لا في الحدود ولا في غيرها، ويقول ابن حزم في كتابه "المحلى"1: "وجائز أن تلي المرأة الحكم2. وهو قول أبي حنيفة" وهذا خطأ أيضًا من ابن حزم في حكاية مذهب أبي حنيفة. فهذه العبارات وأمثالها توهم أن الحنفية يرون جواز تولية المرأة القضاء في الأمور التي يصح لها أن تشهد فيها، لكننا وجدنا الغزي والكمال بن الهمام -كما بينا- يوضحان مذهب الحنفية على الصورة التي بيناها. ويمكن أن يقال إن بعض الحنفية متهمون ببعض التقصير في توضيح مذهبهم، فكان عليهم أن يعبروا في كتبهم بعبارات واضحة في الدلالة على المذهب، لا توهم هذا المعنى الذي توهمه غير الحنفية3. ومع أنه من الممكن أن يقال إن الغزي وابن الهمام وغيرهما من فقهاء الحنفية الذين بينوا أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء مخالفون لمذهب الحنفية وهو -كما نقله بعض العلماء- جواز توليتها في الأمور التي يصح لها أن تشهد فيها، وهي ما عدا القصاص والحدود، وعلى هذا يكون الرأي الذي أبداه ابن الهمام والغزي وصاحب مجمع الأنهر وغيرهم رأيا خاصا بأصحابه, وليس هو المذهب الفقهي للإمام المذهب أو لأئمتهم الكبار الأول، نقول مع أنه من الممكن أن يقال هذا لكن الرد عليه أن من المعهود إذا خالف بعض فقهاء مذهب معين قولا لإمام المذهب أن يذكر قول الإمام, ثم يبين أنه يرى رأيا آخر غير ما يراه الإمام، فلما لم يبين دامادا أفندي صاحب مجمع الأنهر والكمال بن الهمام صاحب شرح فتح القدير والغزي صاحب تنوير الأبصار أن هذا رأي مستقل عن المذهب الفقهي للأئمة السابقين في المذهب الحنفي، غلب على ظننا أن ما بينه هؤلاء هو حقيقة مذهب الحنفية.   1 المحلى، لابن حزم، ج9، ص429، دار الآفاق الجديدة، بيروت. 2 أن تلي المرأة الحكم: يعني: تلي المرأة القضاء، ولا يقصد ابن حزم بالحكم رياسة الدولة, ورأي ابن حزم في القول بجواز أن تتولى المرأة القضاء متفق مع مذهب الظاهرية في الأخذ بظاهر النصوص, إذ إن حديث "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" ورد في رياسة الدولة؛ لأن الرسول قاله عندما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى بعد وفاته. 3 نظام القضاء في الإسلام، لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 مدى توافق رأي الحنفية في قضاء المرأة مع رأيهم في أثر النهي : النواهي التي وردت في نصوص الشريعة في كتاب الله الكريم، أو على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تدل على تحريم الفعل المنهي عنه على رأي جمهور العلماء، إلا إذا وجدت قرينة تدل على صرف النهي عن تحريم الفعل إلى كراهته، وعلى هذا إذا فعل الإنسان ما نهى الشرع عنه يكون آثما، ويستحق العقوبة في الآخرة. وليس الأثر الأخروي لمخالفة النهي هو الأثر الوحيد، وإنما قد يوجد أثر دنيوي أيضًا في الفعل المنهي عنه إذا كان من العبادات أو المعاملات1. فما هو هذا الأثر عند الحنفية؟ وهل رأيهم في أثر النهي في الفعل المنهي عنه يتفق مع رأيهم في تولية المرأة القضاء؟   1 أصول الفقه الإسلامي، للأستاذ زكي الدين شعبان ص327 طبعة 1968. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 نرى -كما يرى بعض الباحثين-1 أن مذهب الحنفية في تولية المرأة القضاء لا يتفق مع موقفهم في الأصول من النهي ومقتضاه. ولكي يفهم مذهب الحنفية في هذه المسألة، يحسن أن نبين أن العلماء قسموا الأفعال التي نهى الشرع عنها إلى قسمين: القسم الأول: الشرعيات، ويراد بها ما طلبه الشارع لحكمة كالصلاة والصوم والإجارة. القسم الثاني: الحسيات وهي ما ليست كذلك، كالزنا، والقتل، وشرب الخمر. أما الحسيات فالحنفية والشافعية يتفقون على أن النهي عنها يقتضي الفساد, إذا كان النهي قد أتى مطلقا, أو دل الدليل على أن النهي لذات الشيء المنهي عنه، كالظلم، فإذا استولى أحد -ظلما- على شيء مملوك لغيره فلا تثبت له الملكية بهذا الاستيلاء الظالم، أو دل الدليل على النهي لوصف لازم للشيء المنهي عنه، كالزنا، فإنه لا يثبت به النسب.   1 أستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، نظام القضاء في الإسلام ص29, 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ويلاحظ هنا في هذا القسم أن الفساد والبطلان سواء1. وأما الشرعيات فمذهب الشافعية كمذهبهم في جانب الحسيات، أي: إن النهي يقتضي فساد الشيء المنهي عنه. أما الحنفية فلهم موقف آخر يفرقون فيه بين الباطل والفاسد، على الصور الآتية: أولا: إذا دل الدليل على أن النهي عن العمل كان لفقد أحد الشروط أو الأركان، أي: إن النهي لأصل العمل المنهي عنه وذاته وحقيقته -لأن المشروع بأصله هو الذي استوفى الشروط والأركان- فإن النهي حينئذ يقتضي البطلان، بمعنى عدم ترتيب أي أثر للعمل المنهي عنه، وفي هذه الحالة يقال إن العمل المنهي عنه لم يشرع بأصله ولا بوصفه، ومثال ذلك: النهي عن الصلاة بدون وضوء، أو بدون تكبيرة الإحرام، والنهي عن بيع الملاقيح "أي: الأجنة في بطونها أمهاتها" لعدم وجود أحد أركان البيع وهو المبيع؛ لأن من الجائز أن يكون انتفاخا في بطب أنثى الحيوان، وبيع الحيوان أو ثوب غائب لم يبين البائع صفته، فهو في هذه الحالة فَقَدَ شرطا من شروط البيع، وبيع الخمر أو الخنزير.   1 العلماء متفقون على أن الفساد والبطلان في العبادات بمعنى واحد، وهو أن تكون العبادة قد وقعت مخالفة لأمر الشارع، سواء أكانت المخالفة بسبب ترك ركن من أركانها كترك الركوع أو السجود في الصلاة، أو بسبب ترك شرط من شروطها كالصلاة بدون وضوء أو بملابس غير طاهرة. وإنما الخلاف بين العلماء في الفساد والبطلان في المعاملات كالبيع، والإجارة والرهن وغير ذلك، فجمهور العلماء يرون أن الفساد والبطلان بمعنى واحد في المعاملات كالعبادات سواء بسواء، والحنفية يفرقون بينهما في المعاملات، فالبطلان عندهم: مخالفة التصرف لأمر الشارع في ركن من أركانه أو أمر من الأمور الأساسية التي تقوم عليها هذه الأركان، ويرى الحنفية أنه لا يترتب على التصرف الباطل أي أثر من الآثار. وأما الفساد عند الحنفية فهو موافقة التصرف لأمر الشارع في أركانه, والأمور الأساسية التي تقوم عليها تلك الأركان, وحصول خلل في شرط من الشروط الزائدة على ذلك كالبيع بثمن مجهول، أو المقترن بشرط فاسد، والزواج بدون شهود. أصول الفقه الإسلامي، للأستاذ زكي الدين شعبان ص258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ثانيا: إذا دل الدليل على أن النهي عن العمل لوصف لازم للمنهي عنه دون أصله، فإن النهي حينئذ لا يقتضي البطلان، بمعنى عدم ترتيب الأثر، بل يترتب على المنهي عنه أثره لصحة الأصل، وإنما النهي هنا يقتضي الحرمة مطلقا، ويقتضي الفساد بمعنى مطلوبية التفاسخ في المعاملات لفساد الوصف، ويقال حينئذ: إن المنهي عنه مشروع بأصله، لا بوصفه. مثال ذلك الصوم في الأيام المنهي عنها، وهي العيدان وأيام التشريق الثلاثة1, فالنهي عن الصوم في هذه الأيام ليس لذات الصوم؛ لأن الصوم من العبادات، فلا يكون النهي عنه لذاته، وإنما النهي عن الصوم في هذه الأيام؛ لأن الصوم يكون إعراضًا عن ضيافة الله تعالى. فالناس يعتبرون -كما قال العلماء- في هذه الأيام ضيوفا على الله عز وجل، فلا يجوز لهم أن يصوموا. فتجزئ العبادة مع الإثم على كل حال والتعامل بربا الفضل، كبيع دينار بدينار وربع, فالنهي هنا ليس لذات البيع، بل لوجود الزيادة، والزيادة ليست هي عقد البيع ولا جزءًا كالوصف اللازم، فيثبت الملك ويطلب فسخ البيع. ثالثًا: إذا دل الدليل على أن النهي عن العمل لوصف مقارن له، ينفك عنه غير لازم له، فهذا النهي لا يقتضي بطلانا ولا فسادًا؛ لأن المنهي عنه شيء آخر في الحقيقة، هو هذا الوصف المقارن، وغاية ما يقتضيه كراهة التحريم. مثال ذلك النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة، فالنهي هنا؛ لأن المصلي شغل ملك الغير بغير حق، وهو أمر مقارن غير لازم، وكذلك النهي عن البيع وقت   1 روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم النحر، وروى مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل" وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم الأضحى، سبل السلام للصنعاني ج2، ص169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 النداء لصلاة الجمعة؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1. فالنهي عن البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ليس راجعا إلى ذات البيع ولا إلى صفة من صفاته، بل يرجع إلى أمر خارج عن البيع، وهو الاشتغال بالبيع عن أداء الواجب وهو صلاة الجمعة. وكذلك النهي عن إتيان الزوجة أثناء الدورة الشهرية في قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 2. فالنهي هنا ليس لذات الوطء؛ لأن وطء الزوجة حلال، وإنما النهي بسبب ما يجاوره من الأذى، فإذا حدث الوطء من الزوج حال الحيض فإنه يكون آثما؛ لأنه ارتكب شيئًا محرمًا، لكن هذا لا يمنع أن تترتب على الوطء جميع أحكام الوطء المشروعة، من ثبوت النسب، وحلها لزوجها الأول الذي طلقها ثلاث طلقات، وتكميل المهر؛ لأنها أصبحت مدخولا بها، وثبوت حرمة المصاهرة، والعدة ونحو ذلك. وبهذا نكون بينا مذهب الحنفية في النهي3 ومقتضاه، والسؤال الآن: النهي عن ولاية المرأة القضاء من أي قبيل؟ واضح أن ولاية القضاء مطلب شرعي، فإذا ورد نهي من الشرع عن تولية   1 سورة الجمعة، الآية رقم: 9. 2 سورة البقرة، الآية رقم: 222. 3 نظام القضاء في الإسلام، للدكتور إبراهيم عبد الحميد مكتوب بالآلة الكاتبة ص29, 30 وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، للدكتور مصطفى سعيد الخن ص345. مؤسسة الرسالة - بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المرأة القضاء, وهو الذي استفاده العلماء من حديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" -كما سنبين بعد ذلك- فإن ذلك يكون من قبيل النهي عن الشرعيات لا الحسيات، وعلى هذا فلا يصح تشبيهه بوطء الزوجة أثناء الدورة الشهرية؛ لأن النهي عن تولية المرأة القضاء لوصف في المرأة لازم غير منفك عنها، هذا الوصف هو نقصان عقلها ودينها, وما يضاف إلى ذلك إما أن يكون من علته أو يكون من إعراضه كعاطفية المرأة, وضعف جسمها بالنسبة إلى الرجل بسبب ما يحدث لها على مر الشهور والسنين من حيض وحمل وولادة ونفاس، ورضاعة. وتولية المرأة القضاء عقد، فنظيره الذي يتبادر إلى الذهن هو البيع بربا الفضل، كبيع دينار بدينار وربع، وهذا البيع إذا حدث يكون صحيحا مع حرمته, ويجب على المتعاقدين فسخ هذا العقد فكان على الحنفية -مراعاة لقواعدهم الأصولية- أن يقولوا بمثل هذا الحكم في تولية المرأة القضاء في غير الحدود والقصاص، لكنهم لم يفعلوا فلم يوجبوا عزل المرأة إذا تولت القضاء في غير الحدود والقصاص، واقتصروا على القول بإثم من ولاها مع صحة هذه التولية. فيكون الحنفية بذلك قد اعتبروا النهي عن توليتها القضاء من قبيل النهي عن الشيء لوصف مقارن له ينفك عنه غير لازم له، وهو لا يقتضي بطلانا ولا فسادا عندهم كما سبق بيانه. وهذا أشبه بالتحكم، ومقتضاه أن يكون الأثم الذي يلحق بمن يولي المرأة القضاء ناشئًا من كراهة التحريم لا من التحريم نفسه1. ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن غير الحنفية قد أخطئوا في فهم عبارات الحنفية؛ لأنه إذا قال المرغيناني: "ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود   1 أستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد. نظام القضاء في الإسلام ص29, 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 والقصاص" أو قال الكمال بن الهمام: "وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء في الحدود والدماء، فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما" فليس المراد التولية والتقليد؛ لأن التولية فعل المولي، والقضاء فعل القاضي، فلا يدل أحدهما على الآخر لاختلافهما، كما أنه لا يلزم من جواز حكم المرأة ونفاذه جواز توليتها؛ لأن توليتها قد تكون غير جائزة ويكون قضاؤها بناء على هذه التولية جائزا، وهذا مبني على أصول الحنفية وموقفهم من النهي ومقتضاه، فهم يرون أن النهي عن الشيء إذا لم يكن لذاته بل لوصف مجاور له، يكون مفيدا للمشروعية مع الكراهة التحريمية، أي: إن المكلف إذا فعل الشيء المنهي عنه فإن الفعل يكون صحيحا تترتب عليه الأحكام الشرعية لكن مع إثم الفاعل، فمثلا ورد النهي عن وطء الزوجة حال الحيض، والنهي هنا ليس لذات الوطء؛ لأن وطء الزوجة حلال، وإنما النهي بسبب ما يجاوره من الأذى، فإذا حدث الوطء من الزوج حال الحيض فإنه يكون آثما؛ لأنه ارتكب شيئًا محرما، لكن هذا لا يمنع أن تترتب على الوطء جميع أحكام الوطء المشروعة، من ثبوت النسب، وحلها للزوج الأول الذي طلقها ثلاث طلقات، وتكميل المهر، وثبوت حرمة المصاهرة، والعدة، ونحو ذلك1. ويرى هذا الباحث أن النهي عن تولية المرأة القضاء المستفاد من قوله -صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" من هذا القبيل؛ لأن النهي عن توليتها القضاء ليس لذات القضاء؛ لأن القضاء مشروع ومطلوب، وإنما هو لوصف مجاور هو مظنة تقصيرها في الحكم، لنقصها الطبيعي عن الرجل، وانسياقها وراء   1 مثال النهي عن الشيء لذاته تحريم بيع الميتة والدم والخنزير, ومثال النهي عن الشيء لا لذاته بل لوصف مجاور له النهي عن البيع وقت النداء للجمعة، وبيع ما فيه غرر ومعنى الغرر الخطر في جانب أحد المتعاقدين، مثل بيع سيارة مسروقة لا يعرف صاحبها مكانها، ومع ذلك يبيعها لآخر هو أيضا لا يعرف مكانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 العاطفة، وللعوامل الطبيعية التي تعتريها بتوالى الأشهر والسنين من حيض وولادة وإرضاع، وكل هذا يؤثر في انتظام قيامها بالقضاء وفي إصابة الحق. فإذا طبقت القاعدة المذكورة عند الحنفية فإنه لو ولى الحاكم أو من ينوب عنه المرأة القضاء، فإنه يكون آثمًا؛ لأنه عَمِلَ ما لا يجوز، لكن قضاءها يكون صحيحا نافذًا في كل ما تصح شهادتها فيه، وهو ما عدا الحدود والقصاص إذ كان موافقا للحق، وعلى هذا فإنه لا يلزم من صحة قضائها ونفاذه جواز تقليدها وتوليتها هذا المنصب1. هذا ما يراه بعض الباحثين، ونرى أن هذا غير مسلم؛ لأنه أولا: إذا تصورناه في عبارة المرغيناني وهي: "ويجوز قضاء المرأة في كل شيء إلا في الحدود والقصاص" وعبارة الكمال بن الهمام وهي: "وأما الذكورة فليست بشرط إلا للقضاء في الحدود والدماء فتقضي المرأة في كل شيء إلا فيهما" فلا يصح تصوره في عبارة الكاساني, وهو أحد أشهر فقهاء الحنفية، فعبارته نصها: "وأما الذكورة فليست شرط جواز التقليد في الجملة؛ لأن المرأة من أهل الشهادة في الجملة، إلا أنها لا تقضي بالحدود والقصاص؛ لأن لا شهادة لها في ذلك، وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة"2. فعبارة الكاساني غير دقيقة، ولو قال: "وأما الذكورة فليست من شرط   1 نظم القضاء في الإسلام، للمستشار جمال صادق المرصفاوي من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي الذي عقد بالرياض سنة 1396هـ، طبعته إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود، 1401هـ، 1981م. 2 الكاساني في بدائع الصنائع، ج7، ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 القضاء في الجملة" لكان من الممكن حملها على أنه ليس من شرط تنفيذ القضاء الذكورة، فالمرأة عند الحنفية يصح تنفيذ ما حكمت به مع إثم موليها، إذا كان ما حكمت به في غير القصاص والحدود فيكون معنى "في الجملة" في العبارة بعد تعديلها إلى: "وأما الذكورة فليست من شرط القضاء في الجملة" يكون معناها أنه لا تشترط، الذكورة في كل جزئيات هذه المسألة، بل في بعض جزئياتها لا تشترط, وهي ما إذا وليت وأثم موليها وحكمت في قضايا يصح لها أن تشهد فيها وهي ما عدا قضايا القصاص والحدود، وأما أن يقول الكاساني: وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد في الجملة, فهو في رأيي تعبير غير دقيق عن مذهب الحنفية, إلا إذا كان للكاساني رأي يخالف ما بينه الكمال بن الهمام وغيره، فالكمال بن الهمام وغيره بينوا أن الحنفية يرون أن الذكورة شرط لجواز التقليد، فهم متفقون مع الجمهور في أنه لا يجوز للحاكم أو من له سلطة تولية القضاة أن يولي المرأة القضاء, وخلافهم فقط مع الجمهور فيما لو وليت مع إثم من ولاها، هل ينفذ حكمها إذا حكمت في القضايا أو لا ينفذ، الجمهور يقولون لا ينفذ والحنفية يقولون ينفذ ما دام موافقا لأحكام الشرع, وفيما تصح فيه شهادتها. وهذا ما يجعلنا نقول إن بعض الحنفية يمكن أن يتهموا بأنهم قصروا في توضيح رأي الحنفية في هذه المسألة, بالصورة التي لا يحصل في فهمها أي لبس أو غموض. ثانيا: جعل النهي عن تولية المرأة القضاء الذي بيّن بعض العلماء أنه مستفاد من حديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" من قبيل النهي عن الشيء لوصف مجاور كالنهي عن الاتصال الجنسي بالزوجة أثناء الحيض غير دقيق -كما سبق بيانه- والدقة كما بيّن بعض الباحثين أن يكون من قبيل النهي عن الشيء لوصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 لازم، كالبيع بربا الفضل. بعد هذا نقول إن الجمهور -ومنهم الحنفية- يرون عدم جواز تولية المرأة القضاء، وقد خالف الجمهور ابن القاسم من المالكية1. والحسن البصري أحد كبار فقهاء التابعين، وابن حزم الظاهري، فهم يرون أنه لا تشترط الذكورة في القاضي، فيجوز عند ابن حزم أن تتولى المرأة القضاء، وينفذ حكمها في كل القضايا حتى قضايا القصاص والحدود؛ لأن شهادة المرأة عنده تصحيح فيهما2. ويجوز عند ابن القاسم أن تتولى المرأة القضاء، وينفذ حكمها فيما تصح فيه شهادتها أيضا عنده، وهو الأموال، وما لا يطلع عليه الرجال غالبا، كالولادة، واستهلال المولود، وعيوب النساء تحت الثياب, وكذلك نقل عن الحسن البصري أنه   1 ابن القاسم أحد كبار تلاميذ مالك، وقد لزم مالكا أكثر من عشرين سنة ولم يفارقه حتى توفي، وكان لا يغيب عن مجلسه إلا لعذر، ولهذا إذا اختلف أصحاب مالك فالقول عند المالكية قول ابن القاسم، المعيار المعرب والجامع المغربي عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب، تأليف أبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، ج10، ص45. 2 قال ابن حزم: "ولا يجوز أن يقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان، فيكون ذلك ثلاثة رجال وامرأتين، أو رجلين وأربع نسوة، أو رجلا واحدا وست نسوة أو ثمان نسوة فقط، ولا يقبل في سائر الحقوق كلها من الحدود والدماء، وما فيه القصاص، والنكاح، والطلاق والرجعة، والأموال إلا رجلان مسلمان عدلان أو رجل وامرأتان كذلك، أو أربعة نسوة كذلك. المحلى لابن حزم، ج9، ص395، وحاشية الدسوقي ج4، ص188، ونظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 يرى جواز ولايتها القضاء مطلقًا1.   1 حاشية الدسوقي، ج4، ص188، ونظام القضاء في الإسلام لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص23، ومواهب الجليل للحطاب، لشرح مختصر خليل، ج6، ص87، 88. يقول الحطاب عند الكلام عن اشتراط الذكورة في القاضي: قال في التوضيح: وروى ابن أبي مريم عن ابن القاسم جواز ولاية المرأة، قال ابن عرفة: قال ابن زرقون: أظنه فيما تجوز فيه شهادتها، قال ابن عبد السلام: لا حاجة لهذا التأويل، لاحتمال أن يكون ابن القاسم قال كقول الحسن والطبري بإجازة ولايتها القضاء مطلقا "قلت" الأظهر قول ابن زرقون؛ لأن ابن عبد السلام قال في الرد على من شذ من المتكلمين وقال: الفسق لا ينافي القضاء ما نصه: "وهذا ضعيف جدا؛ لأن العدالة شرط في قبول الشهادة، والقضاء أعظم حرمة منها" "قلت" فجعل ما هو مناف للشهادة منافيا للقضاء، فكما أن النكاح، والطلاق، والعتق، والحد، لا تقبل فيها شهادتها، فكذلك لا يصح فيها قضاؤها. ا. هـ. مواهب الجليل ج2، ص87، 88. ومن هذا النص يبين أن ابن القاسم يرى جواز تولية المرأة القضاء، على خلاف بين فقهاء المالكية في مجال هذه التولية عند ابن القاسم، فابن زرقون يظن أن هذا المجال عند ابن القاسم هو القضايا التي يجوز لها أن تشهد فيها، وابن عبد السلام يرى أن من المحتمل أن يكون مجال التولية عند ابن القاسم مطلقا, فتتولى المرأة القضاء في أي نوع من القضايا كما هو رأى الحسن البصري وابن جرير الطبري. ويرى الحطاب أن الأرجح هو ما يراه ابن زرقون في ظنه أن رأي ابن القاسم وهو جواز تولية المرأة القضاء هو في المجالات التي يجوز لها أن تشهد فيها، ولا يجوز توليتها القضاء فيما لا تصح شهادتها فيه وهو عند المالكية القصاص والحدود والطلاق والعتق، واستند الحطاب في ترجيحه لقول ابن زرقون إلى ما بينه ابن عبد السلام في مجال رده على من يرى أن الفاسق يجوز توليته القضاء, فقد قال ابن عبد السلام في رده على هذا: "وهذا ضعيف جدا؛ لأن العدالة شرط في قبول الشهادة، والقضاء أعظم حرمة منها" فجعل ابن عبد السلام كل الأمور التي تكون منافية للشهادة تكون منافية للقضاء؛ لأن القضاء أعظم حرمة من الشهادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 رأي ابن جرير الطبري : نجد بعض المصادر تنسب إلى ابن جرير الطبري، المؤرخ والمفسر، والفقيه المعروف1، القول بجواز أن تكون المرأة قاضية على الإطلاق في كل شيء ليس لها مجال محدد يصح لها أن تتولى القضاء فيه، بل يصح لها أن تتولاه في كافة أنواع القضايا2. ويرى أحد الباحثين الفضلاء أن هذا الرأي المنسوب لابن جرير الطبري خطأ من الناحية التاريخية والناحية الموضوعية. أما من الناحية التاريخية فلم يثبت عن ابن جرير هذا النقل، ولم يصح عنه كما صرح بذلك ابن العربي المفسر المعروف3. ويضاف إلى هذا -كما يقول الباحث الفاضل- أن النقل عن ابن جرير لم ينسب إلى كتاب من كتبه، ولم يرو عنه بسند من الأسانيد، وهذا ما يؤدي إلى عدم الاطمئنان إلى صحة نسبة هذا القول إلى ابن جرير من الناحية التاريخية. وأما من الناحية الموضوعية فإن هذا القول مخالف للحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" ومخالف لإجماع علماء   1 اسمه محمد بن جرير بن زيد بن خالد، ولد سنة 224 هجرية الموافقة لسنة 839 ميلادية في بلدة آمل بإقليم طبرستان وتوفي في بغداد سنة 310هـ الموافقة لسنة 923 ميلادية. وكان في البداية مقلدا لمذهب الشافعي، ثم أصبح مجتهدا له تلاميذ ومقلدون، وكان من المكثرين في التأليف في العلوم المختلفة، من هذه المؤلفات كتابه الشهير في التفسير المسمى: جامع البيان عن تأويل آي القرآن, ومنها أيضا كتاب في التاريخ، وكتاب اختلاف وهما من أهم الموسوعات العلمية الإسلامية. الأعلام للزركلي ج6، ص94، الطبعة الثالثة، وفقه محمد بن جرير الطبري للدكتور محمد رواس قلعة جي مكتوب بالآلة الكاتبة، ص2، والمدخل للفقه الإسلامي، للأستاذ عيسوي أحمد عيسوي، ص206. 2 بداية المجتهد، ج2، ص564 ومواهب الجليل لشرح مختصر خليل، للحطاب ج6، ص87. 3 أحكام القرآن، لابن العربي، ج3، ص445، مطبعة الحلبي بمصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الأمة الإسلامية السابقين على عصر ابن جرير على عدم جواز تولية المرأة القضاء، فليس لابن جرير سلف من الفقهاء يرى جواز تولية المرأة القضاء، والقول إذا كان مخالفا لإجماع علماء الأمة ولم يكن في عصر المجمعين فإنه يكون مردودا؛ لأنه إذا انعقد الإجماع في عصر من العصور على حكم شرعي فلا يجوز لمن جاء بعد هذا العصر أن يخالف الحكم الذي أجمع عليه العلماء. وعلى هذا فنسبة القول بجواز أن تتولى المرأة القضاء إلى ابن جرير لا تصلح رواية ودراية1. هذا ما يراه أحد الباحثين الفضلاء، وقد أجيب على ذلك بما يأتي: أولا: من ناحية أن هذا النقل لم يثبت عن ابن جرير، ولم ينسب إلى كتاب من كتبه، فالجواب أن كتب ابن جرير كثيرة، وفيها الموسوعي الضخم الذي لو نسب إليه لكاد أن يكون كعدم نسبته؛ لأن المراجعة المستوعبة تحتاج إلى عمر طويل، وربما وقع النص في موضوع لا يظن وجوده فيه؛ لأن المناسبة اقتضته، كما يحدث ذلك في كثير من المسائل العلمية في كتب القدامى، ويكفي أن العلماء الذي نقلوا رأى ابن جرير وهم من قممنا الشامخة، كالماوردي2، وابن رشد3،   1 هذا ما يراه أستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، في محاضرات القضاء، ص59، وأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة كتب في القضاء بهذا العنوان، وكذلك أستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد كتب في القضاء بحثا بعنوان "نظام القضاء في الإسلام" بعد ظهور بحث الدكتور عبد العال عطوة، ورد الدكتور إبراهيم عبد الحميد على الدكتور عبد العال عطوة في عدة آراء، ثم لما أعاد الدكتور عبد العال عطوة كتابة بحثه على الآلة الكاتبة مرة ثانية رد على اعتراضات وآراء الدكتور إبراهيم عبد الحميد، وقد استفدنا من كتابة هذين الأستاذين الكبيرين استفادة عظيمة, وندعو الله لهما بجزيل الثواب. 2 الأحكام السلطانية، ص72. 3 بداية المجتهد، ج2، ص564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 والحافظ بن حجر العسقلاني1، لم ينقلوا هذا الرأي بصيغة التمريض كأن يقولوا مثلا: وروي أن ابن جرير قال بجواز تولية المرأة القضاء، بل وجدناهم نقلوا رأي ابن جرير بصيغة الجزم، وليس هذا شأنهم في نقل الآراء التي تكون في موضع الشك2. كما يجوز أن يكون ابن جرير ذكر هذا الرأي في كتاب من كتبه ولم يصل إلينا هذا الكتاب، فكثير من التراث الإسلامي ضاع بفعل عوامل متعددة، فمن المحتمل أن يكون هذا الرأي المنسوب إلى الطبري قاله في كتاب له ضاع مع ما ضاع من التراث العلمي للمسلمين، وخاصة إذا علمنا أن ابن جرير الطبري اختار مذهبا فقهيا له مستقلا في كثير من الموضوعات، وعلل له ودلل عليه، ودونه في كتاب له يسمى "لطيف القول في أحكام الشرائع" وجعل هذا الكتاب مقسما على ثلاثة وثمانين كتابا، وهذا الكتاب ليس بأيدينا الآن، وربما فقد مع ما فقد من التراث الإسلامي، بل غالب الظن أنه فقد، وبفقده يكون مرجع هام جدا من مراجع فقه الإمام الطبري قد خسرناه, وتكون هناك قضايا وأحكام كثيرة لا نتعرف على رأي ابن جرير الطبري فيها إلا بواسطة ما ينقله العلماء عنه في بطون الكتب، أو بواسطة بعض اختيارات الطبري نفسه في تفسيره للقرآن الكريم المسمى بجامع البيان عن تأويل آي القرآن، أو فيما وصلنا من كتابه "تهذيب الآثار"3   1 فتح الباري، ج13، ص147. 2 نظام القضاء في الإسلام، للدكتور إبراهيم عبد الحميد ص23, 24. 3 تفسير الطبري ج7، ص43، وفقه محمد بن جرير الطبري للدكتور محمد رواس قلعة جي مكتوب بالآلة الكاتبة، ص1، 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ولنفرض أن ابن جرير الطبري لم تكن له كتب مؤلفة، ونقل عنه علماؤنا الثقات هذا الرأي المشهور عنه، أما كان يكفي هذا النقل عنه؟ أم كان سيرد هذا النقل بحجة أن ابن جرير الطبري ليس له كتاب منسوب إليه؟ إن مسائل كثيرة جدا أكثر من أن تحصى حكيت عن علماء كثيرين, ولم تكن مدونة في كتب لهم، ولم تكن محل اعتراض من هذه الناحية. إن نقل آراء العلماء يكفي في صحتها أن تكون الثقة متوافرة في الناقل، والذين نقلوا عن الطبري رأيه علماء أجلاء موضع الثقة التامة، ويحسن الظن بهم، وهذا كاف في صحة حكاية هذا الرأي عن الإمام ابن جرير الطبري، هذا بالإضافة إلى أننا لم نجد أحدا من العلماء ينسب إلى ابن جرير قولا بعدم جواز أن تتولى المرأة القضاء، ولا وجد هذا الرأي في كتاب من كتبه, وإلا لنقله العلماء عنه، وهذا يعد قرينة تؤيد نسبة الرأي إليه. ثانيًا: أما القول بأن نسبة الرأي القائل بجواز أن تتولى المرأة القضاء إلى ابن جرير لا تصلح من الناحية الموضوعية، بحجة أن هذا الرأي يخالف حديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، ومخالف لإجماع الأمة، فالجواب أن هذا الكلام لا يقال عند حكاية الآراء، وإنما الآراء يصح حكايتها ما دام ناقلوها موضع الثقة، وعلماؤنا الذين نقلوا عن ابن جرير قوله في قضاء المرأة موضع الثقة قطعا، وإذا كان الماوردي بعد أن نقل رأي ابن جرير بتجويز قضاء المرأة في جميع الأحكام، قال: "ولا اعتبار بقول يرده الإجماع مع قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني في العقل والرأي، فلم يجز أن يقمن على الرجال"1. فإن كلام الماوردي لا يصلح أن يرد نسبة قول إلى قائله، ولس هذا في غالب الظن ما قصد إليه الماوردي، كما هو واضح من عبارته، وموضع رد رأي ابن جرير بحجة الإجماع والآية الكريمة: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} لا يكون عند ذكر الآراء في المسألة المتنازع فيها، وإنما يكون عند الحوار العلمي بذكر حجج الأطراف المتنازعة2.   1 الأحكام السلطانية، ص72. 2 نظام القضاء في الإسلام لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص23، 24، مكتوبة بالآلة الكاتبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 تحديد الآراء: مما سبق يمكن أن نقول إن العلماء مختلفون في الذكورة هل هي شرط في القاضي أم لا، على ثلاثة آراء: الرأي الأول: ما يراه جمهور العلماء، وفيهم جمهور المالكية1، ومعهم الشافعية2 والحنابلة3 وزفر من الحنفية4، والشيعة الإمامية5 أن المرأة لا يجوز أن تتولى القضاء، ولو ولاها الحاكم هذا المنصب يكون آثما، وتأثم هي أيضا لرضاها بأمر لا يجوز6، ولو حكمت في أي قضية من القضايا، سواء أكانت من القضايا التي تصح شهادتها فيها كالأموال، والرضاع أم لا، لا ينفذ قضاؤها، فالذكورة عند الجمهور شرط للجواز وللصحة. الرأي الثاني: ما يراه الحنفية -غير زفر- أنه لا يجوز تولية المرأة القضاة، لكن لو وليت هذا المنصب -مع إثمها وإثم من ولاها- فحكمت، فإنه ينفذ حكمها في الأمور التي يصح لها أن تشهد فيها، وهي ما عدا مسائل الحدود والقصاص.   1 مواهب الجليل بشرح مختصر خليل، للحطاب ج6، ص87. 2 نهاية المحتاج للرملي ج8، ص226، وكفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، لأبي بكر بن محمد الحسيني الحصني ج2، ص257، دار إحياء الكتب العربية بمصر. 3 المقنع، لعبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي ص326 دار الكتب العلمية بيروت. 4 نظام القضاء في الإسلام لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص23، 24، مكتوبة بالآلة الكاتبة. 5 شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، للحلي أبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن، ج4، ص67. منشورات دار الأضواء - بيروت. 6يقول بعض العلماء: "من لا يصلح للقضاء تحرم توليته, ويحرم عليه أن يتولى ويحرم عليه أن يطلبه". كفاية الأخبار ج2، ص257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فالحنفية يرون كما يرى الجمهور أن قضاء المرأة في الحدود والقصاص لا ينفذ، ولو كان ما قضت به موافقا للحق، أما إذا حكمت في غير الحدود والقصاص فينفذ حكمها، فالذكورة عند الحنفية -غير زفر- شرط جواز لا شرط صحة. ومما يدل على أن الحنفية يرون عدم جواز تولية المرأة منصب القضاء، بجانب ما سبق أن نقلناه من عباراتهم في كتبهم، أن قاضي القضاة كان في أكثر العصور السابقة حنفيا، وكان من مهام منصبه تولية القضاة في جميع البلاد الإسلامية، ولو كان تولي المرأة القضاء جائزا لا إثم فيه عند الحنفية، لحدث ذلك ولو مرة في العصور السابقة1. الرأي الثالث: ما يراه محمد بن جرير الطبري، وكذلك يراه الحسن البصري أحد كبار فقهاء التابعين، وابن حزم الظاهري، وابن القاسم من المالكية، أنه يجوز تولية المرأة القضاء، وينفذ قضاؤها في كل ما تصح فيه شهادتها، غير أن هؤلاء مختلفون في الأمور التي تصح شهادة المرأة فيها، فابن جرير وابن حزم يريان أن للمرأة أن تشهد في كل شيء، وأما ابن القاسم فيرى أن شهادتها لا تصلح إلا في القضايا الأموال، وما لا يطلع عليه الرجال غالبا، كالولادة، واستهلال المولود، وعيوب النساء التي تحت الثياب، كالرتق، والقرن2. هذا وقد نسب الإمام الباجي أحد كبار فقهاء المالكية في القرن الخامس الهجري3 إلى محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة أنه قال: يجوز أن   1 نظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص28. 2 نظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص32، ومعنى الرتق انسداد محل الجماع من المرأة بلحم، ومعنى القرن انسداده بعظم. 3 ولد الباجي سنة 403هـ، وتوفى سنة 494هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 تكون المرأة قاضية على كل حال1. ولم أجد هذا الرأي المنسوب إلى محمد بن الحسن في كتب الحنفية التي اطلعت عليها. الاستدلال لكل رأي: الاستدلال للجمهور. أما الجمهور وهم القائلون بأن الذكورة شرط في جواز تولية القضاء، وفي صحة هذه التولية، فقد احتجوا باستدلالات من القرآن الكريم والسنة الشريفة، وادعوا الإجماع، واستدلوا أيضًا بالقياس وبالمعقول، فكان استدلالهم على الصورة الآتية: الدليل الأول: الكتاب الكريم. قال الله تبارك وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا} 2. وجه الاستدلال: ووجه الاستدلال بالآبة الكريمة، أن الآية أفادت حصر القوامة في الرجال،   1 المنتقى، شرح موطأ الإمام مالك، للإمام الباجي، ج5، ص182. 2 سورة النساء، الآية رقم: 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وذلك لأن قواعد اللغة العربية تقتضي أن المبتدأ المعرف بلام الجنس1 يقصر على الخبر، مثل أن تقول الكرم التقوى، والإمام من قريش2، والشاعر شوقي وما ماثل هذا، والحصر هنا حصر إضافي أي: بالنسبة إلى النساء، فالمعنى: القوامة للرجال على النساء وليس العكس، وهذا يستلزم أن لا تجوز ولا تصح ولاية المرأة القضاء، وإلا كان للنساء قوامة على الرجال، وهذا يتعارض مع ما أفادته الآية الكريمة. مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا الدليل بما يأتي: أولا: أن المراد بالقوامة في الآية الكريمة ليس المراد بها القوامة العامة التي تشمل القضاء وغيره، بل المراد هنا قوامة خاصة، وهي قوامة رب الأسرة عليها، أي: في الولاية الأسرية التي أشار إليها الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين قال: "والرجل في أهله راع هو مسئول عن رعيته" فيستأذن ويطاع، ويمتلك حق التأديب. فالآية الكريمة -إذن- ليست في موضوع النزاع، والذي يدل على أن المراد بالقوامة في الآية هي قوامة رب الأسرة عليها: ثلاثة أمور: الأمر الأول: سبب نزول الآية، فقد روي أن سعد بن الربيع نشزت امرأته فلطمها، فأتت النبي -صلى الله عليه وسلم- شاكية، فقال لها: "بينكما القصاص"   1 فائدة نحوية: علماء النحو يختلفون في أن التعريف باللام أو مجموع الألف واللام, ويختلفون أيضًا في أن "ال" حرف ثنائي همزته وصل، وهذا مذهب سيبويه، أو همزته قطع وهو رأي ابن مالك، ومن أجل هذا الخلاف يقال: الألف واللام، ويقال "ال" وهو قول من جعله ثنائيا همزته أصلية، فإنه يقول "ال" ولا يقول الألف واللام، كمالا نقول في "قد" القاف والدال، ويقال اللام وهو قول من جعل التعريف بها. الأشباه والنظائر، لعبد الوهاب بن السبكي، ج2، ص117. 2 نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار، لشمس الدين أحمد بن قودر، وهي تكملة فتح القدير للكمال بن الهمام، ج8، ص153، دار الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} 1. فأمسك -صلى الله عليه وسلم- حتى نزل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} الآية، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أردت أمرا وأراد الله غيره" 2. وهذا دليل على أن المراد بالقوامة قوامة الزوج على زوجته بالتأديب. الأمر الثاني: تركيب الآية وسياقها، فإن فيها إشارة إلى المهر، والنفقات التي يتحملها الأزواج، بقوله تعالى في الآية: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، وفيها إشارة إلى ما يجب للزوج على زوجته من طاعة وأمانة، وهو قوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} وفيها إشارة إلى السلطة المخولة للأزواج على زوجاتهم، وهو قوله تعالى: {وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} . فهذا يدل على أن المراد بالقوامة في الآية قوامة الرجال على زوجاتهم، وليس توليتهم عليهن في الولايات العامة، كرياسة الدولة، وغيرهما من الولايات. الأمر الثالث: صلاحية المرأة للولايات الخاصة، فالآية تفيد العموم إذن، ومما يبين أن المرأة تصلح للولايات الخاصة أنها تصلح وصية على اليتيم، وتصلح ناظرة مال الوقف؛ فلأنها قادرة على أن تقوم بأمور هذه الولاية جاز إسنادها إليها، فكذلك يجوز إسناد الولايات العامة إليها، ما دام مناط الحكم -وهو القدرة- متحققا، والحكم هو جواز وصحة الإسناد إليها، ولا تأثير لعموم الولاية أو خصوصها بعد أن تتحقق قدرة المرأة على ممارسة الولاية، ولولا أن الإجماع قد قام   1 سورة طه، الآية: 114. 2 أحكام القرآن لابن العربي، ج1، ص415، وقد ذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن روايات أخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 على عدم جواز تولي المرأة رياسة الدولة، وما هو بمثابتها كوزارة التفويض، وإمارة الإقليم، وورود النص في رياسة الدولة المانع لتولي المرأة إياها، لجاز أن تولى المرأة هذه الولايات العامة أيضًا، بدون فرق بين ولاية عامة وولاية خاصة1. ثانيا: لو سلمنا جدلا أن الآية تفيد العموم، فإن الاستدلال بها يكون غير تام التقريب2؛ لأن الدعوى عدم جواز تولية المرأة القضاء مطلقا، وعدم صحة هذه التولية مطلقا كذلك، سواء كان توليها القضاء على الرجال، أم على النساء، أم على الأحداث، أم على هؤلاء جميعا، والاستدلال بالآية أنتج الدعوى في الشق الأول فقط، أي: ولايتها على الرجال دون النساء والأحداث، وعلماؤنا ينصون على أنه من المستحب أن تفرد النساء بقاض إذا كان طرفا الخصومة منهن3. الجواب عن هذه المناقشات: أولا: أما المناقشة بتخصيص العموم في الآية بسبب النزول، فأجيب عنها بأن التخصيص بسبب النزول لا يسلم إلا على رأي ضعيف، في علم أصول الفقه، وإنما الرأي القوي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو المعتمد عند الأصوليين كما أن حذف متعلق القوامة يؤذن بعمومها.   1 نظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص31، 32. 2 التقريب هو سوق الدليل على وجه يستلزم المطلوب، فإذا كان المطلوب غير لازم واللازم غير مطلوب لا يتم التقريب وقيل: التقريب هو سوق المقدمات على وجه يفيد المطلوب، وقيل: هو سوق الدليل على الوجه الذي يلزم المدعي، وقيل: هو جعل الدليل مطابقا للمدعي. التعريفات للجرجاني، ص37. 3 نظام القضاء في الإسلام للدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص32، وأشار إلى حاشيتي قليوبي وعميرة على شرح جلال الدين المحلي على المنهاج، ج4، ص352، وتبصرة الحكام، ج1، ص36، لابن فرحون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 ثانيا: وأما المناقشة بتخصيص العموم في الآية بما ورد فيها من أحكام تتعلق بولاية الزوج على زوجته، فأجيب عنها بأن ذلك من باب إفراد فرد من أفراد العام فلا يكون مخصصا للعام, ومعنى إفراد فرد من أفراد العام تخصيص بعض العام بالذكر، أو بعبارة أخرى النص على واحد مما تضمنه, وحكم عليه بالحكم الذي حكم به على العام وهذا لا يكون مخصصا للعام، عند جمهور العلماء، مثال ذلك، قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب 1 دبغ فقد طهر" مع قوله -صلى الله عليه وسلم- في شاة ميمونة2: "ألا استمتعتم بإهابها فإن دباغ الأديب طهور". والدليل على أن إفراد فرد من أفراد العام، أي: تخصيص البعض بالذكر لا يكون مخصصا للعام، أن الحكم على الواحد لا ينافي الحكم على الكل؛ لأنه لا يوجد منافاة بين بعض الشيء وكله، بل الكل محتاج إلى بعضه، وإذا لم توجد المنافاة لا يوجد التخصيص؛ لأن المخصص لا بد أن يكون منافيا للعام3. ثالثا: وأما المناقشة الثالثة فحاصلها يرجع إلى معارضة الدليل بقياس الولايات العامة على الولاية الخاصة، وهذا قياس باطل؛ لأن الولاية الخاصة -كالتصرف في ريع دار موقوفة، أو الإشراف على مال يتيم ورعاية شئونه- يكفي فيها مجرد القدرة، أما الولاية العامة فإنها تحتاج إلى قدرة عالية تتناسب مع كثرة أعباء هذه الولاية وتشعبها، وعمومها، ومن الواضح أن من يستطيع أن يقوم بعمل خاص   1 الإهاب: الجلد قبل الدبغ. 2 بين العلماء أن سبب الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى شاة ميتة لإحدى زوجاته وهي أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنهن جميعا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ألا استمتعتم بإهابها، فإن دباغ الأديم طهور" سبل السلام للصنعاني، ج1، ص30. 3 شرح الأسنوي على منهاج الوصول في علم الأصول، ج2، ص133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قد لا يستطيع أن يقوم بالعمل العام، كالوزارة، والقضاء، وغيرهما. إذن فمناط1 الحكم في الولاية الخاصة، وهو مجرد القدرة لا يوجد في الولاية العامة التي تحتاج إلى القدرة العالية، لا مجرد القدرة. هذا إذا سلمنا أن مناط الحكم في تولي الولايات هو القدرة: وهذا إذا سلمنا أن مناط الحكم في تولي الولايات هو القدرة، ولكننا لا نسلم هذا؛ لأن القدرة وصف مضطرب، ليس له مقاييس أو موازين مضبوطة، والمعهود في الشرع أن يكون مناط الحكم وصفا ظاهرا منضبطا، وإذا نظرنا في الحديث الشريف: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" لنعرف الوصف الظاهر المنضبط الذي جعل مناطا لعدم الفلاح المانع من تولي المرأة الولاية نجد أنه الأنوثة التي يومئ إليها الحديث؛ لأن الأنوثة مظنة الإخلال أو عدم الكمال في القيام بأعباء الولاية. وعلى هذا فإذا وجدت الأنوثة، فقد وجد المانع من تولي الولايات العامة، ومنها القضاء، ولولا أن الإجماع قد قام على جواز أن تتولى المرأة الولايات الخاصة اكتفاء بمجرد توافر القدرة فيها، لقلنا أيضا بعدم جواز أن تسند الولايات الخاصة إلى المرأة، ولكن الإجماع قام على جواز ذلك. رابعا: وأما المناقشة بأن التقريب غير تام؛ لأن الدليل أنتج الأخص من الدعوى؛ لأنه أنتج عدم جواز أن تتولى المرأة القضاء بين الرجال فقط، دون النساء، والأحداث فهي غير صحيحة؛ لأن الدليل أنتج مساوي الدعوى، وذلك للمساواة بين الرجال والنساء والأحداث أمام القضاء؛ لأن لا يوجد فارق بين   1 مناط الحكم أي: علة الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 الرجال وغيرهم في مجال الخصومة والتقاضي، ومؤاخذة القاضي لهم على الأمور التي تحدث منهم. فإلحاق النساء والصبيان بالرجال إنما هو قياس في معنى الأصل، أو كما يسميه بعض العلماء: قياس جبلي، وإذا كان الدليل قد أنتج مساوي الدعوى كان التقريب تاما1. الدليل الثاني السنة: وى البخاري2 عن أبي بكرة -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيام الجمل3، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أهل فارس ملكوا بنت كسرى، قال: "لن يفلح قوم ولوا 4 أمرهم امرأة"، وزاد الترمذي5: فلما قدمت عائشة البصرة، ذكرت قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعصمني الله تعالى به. وجه الدلالة من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا بعدم فلاح من ولوا عليهم امرأة ولا   1 محاضرات في علم القضاء لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، مكتوبة بالآلة ص62، 63. 2 صحيح البخاري، ج9، ص55 مطبعة الفجالة. 3 أي: أيام معركة الجمل التي كانت بين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- ومخالفيه طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ومن معهما. 4 القاعدة العربية إذا أسند الفعل المعتل الآخر بالألف وهو ما يسمى مقصورا إلى واو الجماعة يفتح ما قبل واو الجماعة، وإذا كان معتل الآخر بغير الألف يضم ما قبل الواو، والقرآن الكريم فيه قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} وهو ما بين هذه القاعدة. 5 الترمذي ج9، ص119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 شك أن عدم الفلاح ضرر، والضرر يجب اجتنابه لقول الرسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، فيجب اجتناب ما يؤدي إليه، وهو تولية المرأة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب1. وهذا يساوي تماما من حيث المآل ما لو قلنا: إن هذا اللفظ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر في معنى النهي، فالجملة خبرية لفظا وإنشائية معنى. ولو صغنا هذا الدليل على هيئة قياس من الشكل الأول نقول: تولي المرأة الولايات العامة يؤدي إلى عدم الفلاح، وعدم الفلاح ضرر، فالنتيجة أن تولي المرأة الولاية العامة ضرر، والضرر ممنوع شرعا، ولا شك أن القضاء من الولايات العامة. وسواء أكان خبرا محضا بمعنى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخبرنا بعدم الفلاح إذا ولينا أمورنا امرأة، وحينئذ فالواحب علينا أن نبعد بأنفسنا عما يجر إلى عدم الفلاح، أم خبرا لفظا إنشاء معنى، بمعنى أن الجملة خبر من الناحية اللفظية، لكنها من حيث المعنى إنشاء؛ لأنها تنهانا عما يؤدي إلى عدم الفلاح وهو تولية المرأة أمورنا العامة، فإنه عام في جميع الولايات؛ لأن كلمة "أمرهم" صيغة من صيغ العموم، فإنها مفرد   1 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص123، ونيل الأوطار للشوكاني. ج8، ص298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 مضاف لمعرفة1، فيشمل جميع أمور الأمة التي تحتاج إلى من يقوم بأمرها، فيكون شاملا للقضاء وسائر الولايات الأخرى، سواء أكانت ولايات عامة، أم ولايات خاصة، إلا أن الإجماع قام على استثناء الولايات الخاصة فجاز إسنادها للمرأة، فتبقى المرأة ممنوعة من الولايات العامة. والسر في منع المرأة من الولايات العامة نقصان عقلها ودينها، وهي علة منصوصة في السنة الصحيحة2، وهو شيء من لوازم المرأة لا ينفك عنها؛ لأنه فطري.   1 صيغ العموم أو الألفاظ التي تفيد العموم كثيرة، منها لفظ "كل" ولفظ "جميع" فإنهما يدلان على العموم فيما يضافان إليه، مثل قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} ومثل قولك: جميع من يأتيني في منزلي أكرمه. ومن ألفاظ العموم الجمع المعرف باللام المفيدة للاستغراق والشمول مثل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . ومنهم المفرد المضاف إلى معرفة مثل قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". ومنها الجمع المضاف مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} . ومنها المفرد المعرف باللام مثل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} وقوله تعالى: {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . ومنها أسماء الشرط، مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ومنها أسماء الاستفهام مثل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} . ومنها النكرة في سياق النفي، أو في سياق النهي، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وقوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} . أصول الفقه للأستاذ زكي الدين شعبان، ص322. 2 في الحديث: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن"، قلن: يا رسول الله، وما نقصان ديننا وعقلنا؟ قال: "أليس تمكث إحداكن الليالي لا تصوم ولا تصلي، وشهادة إحداكن على نصف شهادة الرجل"؟. قد يثور سؤال: لماذا نسب النقص إلى النساء مع أنه ليس من فعلهن؟ وقد أجاب ابن العربي بقوله: "هذا من عدل الله يحط ما يشاء ويرفع ما يشاء، ويقضي ما أراد، ويمدح ويلوم، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون؛ وهذا لأنه خلق المخلوقات منازل، ورتبها مراتب، فبين ذلك لنا فعلمنا، وآمنا به، وسلمناه. أحكام القرآن، لابن العربي، القسم الأول، ص254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 فحصيلة هذا الدليل أنه ثبت في السنة نهي عن تولية المرأة الولايات العامة، وهو نهي لوصف لازم، وقد رجح علماء الأصول أن النهي يقتضي البطلان، وعلى هذا لا تجوز ولا تصح ولاية المرأة القضاء1. مناقشة الدليل: نوقش هذا الدليل بأنه ليس في محل النزاع أي: ليس في المسألة التي تختلف حولها؛ لأن الحديث وارد في رياسة الدولة، فيكون النهي المستفاد منه قاصرا على الولاية العظمى، فلا يشمل ولاية القضاء2، ويدل على أن الحديث وارد في الولاية العظمى أمران: الأول سبب ورود الحديث، فنص الحديث يبين أنه قيل بمناسبة تولية "نوران" بنت كسرى منصب الملك في بلاد الفرس بعد موت أبيها. وأجيب عن هذا بأن العبرة بعموم اللفظ لا يخصوص السبب كما هو المرجح في علم أصول الفقه. الثاني: أن كلمة "أمرهم" الواردة في الحديث الشريف يراد بها جميع شئون الأمة، والأمر الذي يعم جميع شئون الأمة هو رياسة الدولة؛ لأنها التي تستمد منها الأمة سائر الولايات، فيكون المنع مقصورا على رياسة الدولة. وأجيب على هذا بأن كلمة "أمرهم" مفرد مضاف إلى معرفة، والمفرد المضاف إلى معرفة صيغة من صيغ العموم، كما هو الراجح عند علماء الأصول،   1 نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص33. 2 المحلى، لابن حزم، ج9، ص429، دار الآفاق الجديدة، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وهو مذهب أكثر العلماء، وعلى هذا فكأن الحديث قال: لن يفلح قوم ولوا رياسة الدولة امرأة، ولن يفلح قوم ولوا الوزارة امرأة، ولن يفلح قوم ولوا القضاء امرأة، وهكذا سائر الولايات العامة، كإمارة البلاد، وقيادة الجيش، وما ماثل هذا1. الدليل الثالث الإجماع: دعى أصحاب هذا الرأي الإجماع2 على منع المرأة من تولي القضاء. وقالوا: قبل أن يعرف خلاف في مسألة قضاء المرأة كان الإجماع منعقدا على عدم جواز توليتها هذا المنصب وعدم صحة التولية، فلا يعتد بخلاف من خالف بعد ذلك، قال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 3. مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا الدليل بما يأتي: أولا: أن الإجماع لا يمكن تحققه، وعلى فرض أنخ ممكن التحقيق، فلا يمكن لنا أن نعلم بحدوثه؛ لأن من المحتمل أن يكون هناك مخالف لم نعلمه، ومن أين لنا أن ابن جرير الطبري، وابن القاسم، وابن حزم، والحنفية غير مسبوقين بما ذهبوا إليه؟ ما أجيب به عن المناقشة: أجيب عن هذه المناقشة بأن علماء الأصول قد أثبتوا أن الإجماع ممكن   1 محاضرات في علم القضاء، مصر سابق، ص66. 2 الإجماع -كما عرفه علماء أصول الفقه- هو اتفاق المجتهدين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر غير عصر رسول الله على حكم شرعي، والإجماع حجة شرعية، وهو المصدر الثالث بعد الكتاب الكريم أو السنة الشريفة، لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". 3 سورة النساء، الآية: 115. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 التحقق، وأنه يمكن الاطلاع عليه، فهذه القضية قد حسمها علم أصول الفقه. وبعد بذل الجهد في البحث والتحري عن المخالف لرأي الجمهور لم نعثر إلا على قول بالجواز منسوب إلى ابن جرير الطبري، وقد ثبت عدم صحة النقل عن ابن جرير1. رد على الإجابة: يمكن أن نرد على هذه الإجابة بأنه نقل ابن عبد السلام من علماء المالكية أن الحسن البصري قال بإجازة ولاية المرأة القضاء مطلقا، وثبت عن علماء موثوق بهم نسبة القول بجواز تولية المرأة القضاء إلى ابن جرير، ومن المستبعد أن يكون الحسن وابن جرير خالفا أمرا مجمعا عليه، وثبت أيضا عن ابن القاسم وابن حزم أنهما قالا برأي ابن جرير الطبري والحسن البصري، فابن جرير الطبري مسبوق هو وابن القاسم، وابن حزم بالحسن البصري الذي نسبه إليه ابن عبد السلام من المالكية القول بجواز أن تتولى المرأة القضاء2. كما أنه ثبت النقل عن ابن جرير أنه قال بجواز أن تتولى المرأة القضاء وما أثير حول صحة هذه النسبة إلى ابن جرير لم يثبت, وثبت صحة نسبة رأي ابن جرير إليه. ثانيا: نوقش الاستدلال بالإجماع أيضا بأنه على التسليم بأن الإجماع حجة شرعية، وأنه يمكن تحققه فإن الإجماع المدعى لم يصح، أي: لم يثبت إجماع على   1 محاضرات في علم القضاء، مصدر سابق، ص63. 2 مواهب الجليل، بشرح مختصر خليل، للحطاب، ج6، ص87، 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 عدم تولي المرأة الولايات العامة؛ لأنه ثبت أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- قد تولت قيادة الجيش وتزعمت الثورة ضد علي بن أبي طالب، ومعها من خيرة الصحابة أمثال الزبير بن العوام، وابنه عبد الله، وطلحة بن عبيد الله ولم ينكروا عليها. فهذا دليل على عدم صحة دعوى الإجماع، ويدل في نفس الوقت على جواز تولية المرأة القضاء؛ لأن القضاء أقل خطرا، وأدنى إلى تصون المرأة من قيادة الجيش، وتزعم الثورات1. ما أجيب به عن هذه المناقشة: أجيب عن هذه المناقشة بأن السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- لم تخرج زعيمة لثورة، أو قائدة لجيش. أما أنها لم تخرج زعيمة لثورة، فيدل عليه أنه لم ينقل أحد من المؤرخين أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة. أما أنها لم تكن قائدة لجيش؛ فلأن الثابت من كتب التاريخ أنها خرجت بتأثير جماعة يتزعمهم طلحة والزبير، أرادوا أن يوفقوا بين الناس، ويزيلوا ما بينهم من أسباب الخلاف بما في ذلك أمر قتلة عثمان، ورأوا أن وجود السيدة عائشة معهم، وهي أم المؤمنين، زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم، يمكن أن يؤدي إلى انضمام الناس إليهم، وأقنعوها بأن في خروجها إصلاحا بين الناس فخرجت لذلك. يقول ابن العربي المفسر المعروف في كتابه أحكام القرآن: "وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة، وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها   1 نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 إذا وقفت إلى الخلق وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 1، وبقوله2: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 3، وكاد الصلح أن يتم بين الفريقين المتنازعين، ولكن الأمور تطورت إلى غير ما يرجون، بفعل دعاة الفتنة من قتلة عثمان -رضي الله تعالى عنه، الذي خافوا أن يدفعوا إلى القتل إذا تم الصلح بين الفريقين. كان خروج عائشة اجتهادا منها، وقد ثبت رجوعها عن اجتهادها: على أن خروج السيدة عائشة -رضي الله تعالى عنها- كان اجتهادا منها، وقد ثبت أنها رجعت عن اجتهادها، وخطأت نفسها في ذلك، فلا حجة في فعلها حتى لو فرضنا جدلا أنها كانت قائدة لجيش، روى الطبري بسند صحيح عن أبي يزيد المديني، قال: قال عمار بن ياسر لعائشة لما فرغوا من الجمل: ما أبعد هذا السير من العهد الذي عهد إليكن -يشير إلى قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 4، فقالت: أبو اليقظان؟ قال: نعم، قالت: والله إنك -ما علمت- لقوال بالحق، قال: "الحمد لله الذي قضي لي على لسانك"5. الدليل الرابع: القياس الإجماع قام على عدم جواز أن تتولى المرأة رياسة الدولة، استنادا لحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وطبيعة المرأة تؤيد هذا، فهي بحكم غريزة   1 سورة النساء، آية رقم: 114. 2 سورة الحجرات، آية رقم: 9. 3 أحكام القرآن لابن العربي، المجلد3، ص36. 4 سورة الأحزاب، الآية 33. 5 فتح الباري لابن حجر، ج16، ص166، وما بعدها، ومحاضرات في علم القضا، مصدر سابق، ص69-71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الأمومة فيها عاطفية سريعة التأثر، سهلة الانقياد، وبحكم ما يعتريها من الأمور الطبيعية الخاصة بالنساء، من الحيض، والحمل، والولادة على مر الشهور، والأعوام، أضعف من أن تصل إلى الرأي الصائب الذي يحتاج إلى الاجتهاد وإعمال الفكر وتدافع عنه، وتواجه المشاكل بقدم ثابتة وقلب جريء، فيقاس القضاء على رياسة الدولة، بجامع أن كلا منهما ولاية عامة، فتكون ممنوعة من تولي القضاء، كما أنها ممنوعة من تولي رياسة الدولة. مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا الدليل بأن الأنوثة تصلح علة تمنع المرأة من تولي رياسة الدولة؛ لأن هذا المنصب يحتاج شاغله إلى الحزم والعزم، والإقدام والهيبة، وهي أمور لا تتوافر للمرأة غالبا، بل إننا نجد بعض القادة من الرجال تنهار أعصابهم إذا تعرضوا لموقف صعب من المواقف التي تتعرض لها الدول والشعوب، فكيف إذا تعرضت المرأة لمثل ذلك. ولكن الأنوثة في جانب القضاء لا تصلح أن تكون علة لمنع المرأة من تولي هذا المنصب، بل الأنوثة وصف طردي لا تأثير له، إذ قد ثبت بالإجماع -ولا أقل من اتفاق الخصوم- أن الأنوثة لا تأثير لها في الولاية الخاصة، كالوصاية على اليتيم، أو الولاية على الوقف فكذلك القضاء؛ لأن مناط الحكم هو القدرة على الولاية دون نظر إلى عموم أو خصوص1. ما أجيب عن هذه المناقشة: أجيب عن هذه المناقشة بأمرين:   1 نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الأمر الأول: أن الأنوثة مظنة الإخلال، أو عدم قيام المرأة قياما كاملا بأعباء الولاية، والأنوثة موجودة في كل ولاية من الولايات العامة ومنها القضاء, فلا يجوز تولية المرأة أي ولاية من الولايات، ولولا أن الإجماع قد قام على استثناء بعض الولايات فجاز أن تتولى المرأة هذه الولايات التي قام الإجماع على جوازها اكتفاء بالقدرة فيها، لقلنا أيضا بأنه لا يجوز للمرأة تولي أي نوع من الولايات، وتخصيص العلة بدليل هو الراجح عند علماء الأصول1. الأمر الثاني: أن القول بوجود الفارق بين ولاية القضاء ورياسة الدولة، وهو القدرة في ولاية القضاء دون رياسة الدولة -مع أن كلا منهما ولاية عامة- تحكم محض، والمساواة بين القضاء والوصاية على اليتيم نوع آخر من التحكم الذي لا يستند إلى دليل، وهذا مرفوض في البحث العلمي2. الدليل الخامس: ربما كانت المرأة ذات جمال باهر، فتحدث فتنة، وربما كان كلامها فتنة فيحدث الممنوع شرعا، وما أدى إلى الممنوع ممنوع. الدليل السادس: القضاء أكبر من حال الإمامة في الصلاة، ولما كان لا يجوز للمرأة أن تكون إمامة الرجال في الصلاة، مع جواز إمامة الفاسق، كان منعها من القضاء الذي لا يصح من الفاسق من باب أولى. الدليل السابع: القاضي يحضر محافل الخصوم والرجال فهو محتاج إلى   1 المصدر السابق، ص73. 2 المصدر السابق، ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 مخالطتهم والمرأة مأمورة بالتخدر فهي ليست أهلا للحضور في محافل الرجال1. الدليل الثامن: القضاء يحتاج إلى كمال الرأي، وتمام العقل والفطنة، والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي، وقد نبه الله عز وجل على نسيان النساء بقوله تبارك وتعالى في مقام الشهادة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 2. فالنساء - في الغالب- حتى لو كان بعضهن شديد الذكاء وأفضل من كثير من الرجال، هن معرضات للنسيان، وهذا مؤثر لا شك على استخدام الملكة العقلية، ولعل السبب في هذا ما يعتري المرأة من أمور غالب الظن أنها مؤثرة في قوة التذكر وكمال العقل، كالمرض الشهري، والحمل، والولادة، وما يصاحبهما من ثقل وآلام، وحمل لهموم الصغار ليلا ونهارا، وما يغلب في شأنها من قوة العاطفة التي يمكن أن تكون مؤثرا خطر عل كمال قدراتها العقلية حين الالتجاء إلى الملكة العقلية في حل المستعصي من المشكلات، والعويص من القضايا، فالعاطفة وشدتها يمكن أن تشوش على العاقل حتى لو كان حاد الذكاء شديد الفطنة. الدليل التاسع: لو كانت المرأة تصلح لقضاء لثبت توليتها هذا المنصب في عصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أو عصر الخلفاء الراشدين، ولكن لم ينقل أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولاها القضاء، أو ولاية بلد من البلاد،   1 فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص157، ونهاية المحتاج للرملي، شرح منهاج الطالبين للنووي، ج8، ص226. 2 سورة البقرة، الآية 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ولا ولاها أحد من الخلفاء الراشدين ذلك، ولا من بعدهم، ولو جاز ذلك لما خلا منه الزمان غالبا1. دليل رأي الحنفية: أما الحنفية وهم القائلون بأن لا يجوز تولية المرأة القضاء، لكن لو وليت وحكمت في بعض القضايا، فإنه -مع إثم من ولاها- لا ينفذ قضاؤها إلا في الأمور التي تصح فيها شهادتها، مثل: مسائل الرضاع، والولادة، والأموال وما ماثل هذا، وهي ما عدا مسائل الحدود والقصاص، فقد استدلوا على عدم جواز توليتها القضاء بالأدلة التي استدل بها جمهور العلماء، وكان مقتضى هذا أن تكون هذه الأدلة أيضا دالة على عدم صحة توليها القضاء، إلا أنهم استدلوا على صحة قضائها في غير مسائل الحدود والقصاص، أي: نفاذ حكمها -مع إثم من ولاها- بأن القضاء يشارك الشهادة في باب الولاية، والمرأة يصح لها أن تشهد في غير الحدود والقصاص، فيصح أن تكون قاضية في غير الحدود والقصاص2. مناقشة استدلال الحنفية: أجيب عن هذا الاستدلال بأمرين: الأول: أن الولاية في الشهادة تغاير الولاية في القضاء، وهذا يستلزم أن تكون الأهلية في الشهادة مغايرة للأهلية في القضاء. فمع أن كلا من القضاء والشهادة ولاية إلا أن الولاية في القضاء عامة شاملة، والولاية في الشهادة ليس فيها العموم والشمول بل هي خاصة قاصرة،   1 محاضرات في علم القضاء، مصدر سابق، ص63. 2 فتح القدير، ج7، ص292، 298، ولسان الحكام، ص24, أما قول الحنفية بأن لا ينفذ قضاء المرأة في القصاص والحدود فيستند إلى القياس الأولوي على الشهادة. نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وليس كل من يصلح لتولي الأمور الخاصة صالحا لتولي الأمور العامة1. وأيضا فإن ولاية القضاء تلزم الحق بدون واسطة، وأما ولاية الشهادة فلا تلزم إلا بواسطة حكم القاضي، فالفارق متحقق بين الولايتين، وإذا تحقق الفارق فلا يصح أن تبنى إحداهما على الأخرى2. الثاني: أن أدلة جمهور العلماء أفادت نفي جواز أن تتولى المرأة القضاء، وهذا يستتبع نفي الصحة، فإذا كنتم أيها الحنفية ترون كما يرى جمهور العلماء عدم جواز تولي المرأة القضاء فإن هذا يستلزم أن يكون حكمها غير صحيح. الرد على المناقشة: أجيب عن الأمر الثاني بأن ما استدل به الجمهور غاية ما يفيد أنه لا يجوز تولية المرأة القضاء والكلام, فيما لو وليت هذا المنصب وأثم موليها بذلك، أو حكمها خصمان، فقضت قضاء يوافق أحكام الشرع أكان ينفذ قضاؤها أم لا ينفذ؟ لم يقم دليل على عدم جواز التنفيذ بعد موافقة ما أنزل الله من الشرع، إلا إذا ثبت شرعا سلب أهليتها، ولا يوجد في الشرع، ما يسلب أهلية المرأة فليس في الشرع إلا نقصان عقلها، ومعلوم أنه لم يصل إلى حد سلب ولايتها بالكلية، يؤيد هذا أنها تصلح شاهدة، وناظرة في الأوقاف ووصية على اليتامى، ونقصان عقلها بالنسبة والإضافة، ثم هو منسوب إلى جنس النساء فيجوز في الفرد خلافه، فالعلماء يصرحون بصدق أن تقول: الرجل خير من المرأة مع أنه يجوز أن تكون بعض أفراد النساء خيرا من بعض أفراد الرجال، ولهذا النقص الغريزي نسب -صلى الله   1 قد يكون عند بعض الأشخاص القدرة على إدارة متجر، أو مصنع، ومع هذا لا يصلح لتولي بعض الولايات العامة كرياسة الدولة، أو الوزارة أو غير ذلك من الولايات العامة. 2 محاضرات في علم القضاء، لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 عليه وسلم- لمن يوليهم عدم الفلاح فكان الحديث متعرضًا للمولين، ولهن بنقص الحال، وهذا حق لكن الكلام فيما لو وليت فقضت بالحق لماذا يبطل ذلك الحق1. دليل من قال بجواز توليتها القضاء: استدل لهذا الرأي بما يأتي: الدليل الأول: الأصل2 هو أن كل من تكون عنده مقدرة الفصل في قضايا الناس، يكون حكمه جائزا، هذا هو أصل عام، أي: قاعدة كلية، وقد خصص الإجماع هذا الأصل العام، فأجمع العلماء على عدم جواز تولية المرأة رياسة الدولة، لوجود الحديث المفيد هذا الحكم، فيكون ما خصصه الإجماع هو المستثنى من هذا الأصل العام، ويبقى ما عداه على الحكم الأصل، وعلى هذا يصح للمرأة أن تتولى القضاء، ولا تعد أنوثتها مانعا؛ لأنها لا تؤثر في فهمها للحجج، وفصلها في الخصومات3. مناقشة هذا الدليل: أولا: المرأة غير قادرة على أن تفصل في الخصومات على الصورة الكاملة، للنقصان الطبيعي فيها؛ ولأنها تنساق كثيرا وراء العاطفة، ولتعرضها للأمور الطبيعية التي تخص النساء، من حيض، وحمل وولادة، وإرضاع، وهذا مما يؤثر على   1 فتح القدير، ج7، ص298. 2 كلمة أصل تستعمل في اللغة العربية بعدة معان، منها ما يبنى عليه غيره كما إذا قلنا: الأساس أصل الحائط، ومنها الدليل كقولنا: الأصل في وجوب الصلاة قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ومنها القاعدة كقولنا: الأصل في الأشياء الإباحة. 3 بداية المجتهد، لابن رشد، ج2، ص564، 565، وتكملة المجموع لمحمد نجيب المطيعي شرح المهذب للشيرازي، ج19، ص911، وتبصرة الحكام لابن فرحون، بهامش فتح العلي المالك، ج1، ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 قدرتها في فهم حجج المتخاصمين، وتكوين الحكم الكامل لديها، وطبيعتها تعرضها للنسيان، وهو ما قد يؤدي إلا أن يفوتها شيء من الأدلة أو وقائع القضية التي تنظرها. ثانيا: هذا القول منقوض برياسة الدولة، إذ إن المرأة قد تكون لها القدرة على أن تقوم بأعباء هذا المنصب، ومع ذلك فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز لها أن تتولاه1. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن القائلين بالجواز استثنوا رياسة الدولة لوجود الإجماع على منعها من توليها، المستند إلى الحديث: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". وهذا نظير عود الاستثناء في قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فإن الجمهور الذين يرون عود الاستثناء على جميع الجمل السابقة عليه يرون في نفس الوقت عدم سقوط الحد؛ لأن الحد في القذف لا يسقط بالإجماع فكذلك هنا يمكن الرد بأن رياسة الدولة مستثناة من هذه القاعدة التي نقول بها بالإجماع استنادا إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". الدليل الثاني: المرأة يجوز لها أن تكون مفتية، فيقاس القضاء على الإفتاء، بجامع أن كلا منهما مظهر للحكم الشرعي فيجوز أن تكون قاضية "المغني ج9، ص39". مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا الدليل بأنه قياس مع الفارق والقياس مع الفارق لا يصح، والفارق هنا من ناحيتين:   1 محاضرات في علم القضاء. مصدر سابق، ص74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الناحية الأولى: أن القضاء ولاية، والفتيا ليست كذلك1؛ لأن الفتيا لا إلزام فيها، بخلاف القضاء فإنه ملزم للخصمين. الناحية الثانية: أن المستفتي له أن يأخذ الفتوى وأن يدعها، بخلاف القضاء فإنه حكم ملزم. ما أجيب به عن المناقشة: أجيب عن هذه المناقشة بأن الفتوى أيضا قد تكون ملزمة، وذلك حين لا يكون هنالك إلا واحد يصلح للإفتاء، ولم يستثنوا هذه الحالة من أهلية المرأة للفتوى، مع أنها إذ ذاك ولاية، فالفتيا ولاية في الجملة هنا، أي: ولاية في بعض أجزاء المسألة التي نحن بصددها. الرد على الجواب: رد بعض العلماء بأن الإلزام هنا للضرورة، ومن المعروف أن الضرورة لها أحكام خاصة تخالف أحكام حالة الاختيار، وموضوع الخلاف مفروض في حالة الاختيار، ولهذا لو وجدت حالة الضرورة في قضاء المرأة، بأن ولاها سلطان ذو شوكة "قوة"، فإنه ينفذ قضاؤها، لئلا تتعطل مصالح الناس كما قال العلماء، وبهذا يظهر أن حالة الضرورة في قضاء المرأة هي حالة استثنائية2. الدليل الثالث: قياس القضاء على الحسبة، وقد روي أن عمر بن الخطاب   1 معنى الولاية إنفاذ القول على الغير شاء أم أبى، فالولاية ظاهرة في القضاء، وأما الفتوى فليس فيها ولاية أصلا. 2 محاضرات في علم القضاء، مصدر سابق، ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 رضي الله تعالى عنه ولى امرأة كان تدعى أم الشفاء ولاية الحسبة على السوق1, فيجوز تولية المرأة القضاء قياسا على الحسبة، بجامع أن كلا منهما ولاية عامة، فألأصل المقيس عليه هنا هو الحسبة، والفرع المقيس هو القضاء، والعلة الجامعة فيهما هي أن كلا منهما ولاية عامة, والحكم هو جواز تولي المرأة الحسبة فجاز بناء على هذا القياس توليتها القضاء. وقد استدل بهذا ابن حزم2. لكن هنا ملاحظة نحب أن نبينها هي أن غير ابن حزم استدل بهذا الأثر عن عمر على أنه استدلال بالقياس، فقاس القضاء على الحسبة، أما ابن حزم فمذهبه الفقهي والأصولي أن   1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة من وسائل إصلاح المجتمعات، وهو واجب لا بد من تأديته في المجتمع الإسلامي، وهو أحد الواجبات الكفائية، أي: التي إذا فعلها البعض سقط عن الباقين، لقول الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فلا بد من وجود طائفة في المجتمع، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، والحسبة هي أمر بمعروف ونهي عن منكر، وإذا قام الشخص بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير تعيين له من الدولة كان متطوعا بالحسبة ويسميه الفقهاء المتطوع, وأما إذا ما عينته الدولة لهذه الوظيفة يسمى محتسبا أو والي الحسبة، فالحسبة إذن وظيفة دينية شبه قضائية تقوم على فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومع أن أفراد المجتمع الإسلامي كلهم الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر امتثالا لما أمر به الشرع, إلا أنه كان في بعض العصور الإسلامية يخصص لذلك موظف خاص يسمى المحتسب. يقول ابن خلدون عن الحسبة: وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعين لذلك من يراه أهلا له، فيتعين فرضه عليه ويتخذ الأعوان على ذلك، مقدمة ابن خلدون، ص225. والأثر المروي عن عمر بن الخطاب يقول إن عمر بن الخطاب ولى امرأة حسبة السوق، أي: تتولى وظيفة محتسبة، فيكون من مهمتها النظر في الخلافات التي تحدث بين الناس في السوق، كدعاوى الغش والتدليس، والتطفيف في الكيل. لكن هذا الأثر المروي عن عمر لم يثبت كما بين العلماء وذكرناه في مناقشة هذا الدليل. بقي أن نقول إن وظيفة الحسبة يقوم بها في الفصل لحديث علماء الدين، ورجال الشرطة، ورجال حماية الآداب، ومفتشو التموين والصحة والمسئولون عن المكاييل والموازين. ورجال الشئون البلدية. 2 المحلى لابن حزم، ج9، ص429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 القياس ليس مصدرا من مصادر التشريع، وهو مذهب الظاهرية الذي ينتمي إليه ابن حزم، قال ابن حزم: "ولا يحل الحكم بقياس، ولا بالرأي، ولا بالاستحسان، ولا بقول أحد ممن دون رسول الله -صلى الله عليه وسلم، دون أن يوافق قرآنا أو سنة صحيحة؛ لأن كل ذلك حكم بغالب الظن، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" 1. ولهذا فإن ابن حزم لم يسق هذا الأثر ليقيس القضاء على الحسبة, وإلا لكان وقع في خطأ هو استدلاله بالقياس مع أن القياس لا يستدل به الظاهرية، وإنما كانت عبارة ابن حزم في كتابه المحلى: "وجائز أن تلي المرأة الحكم وهو قول أبي حنيفة، وقد روي عن عمر بن الخطاب، أنه ولى الشفاء -امرأة من قومه- السوق"2. وغالب الظن أن ابن حزم يرى أن المرأة التي يروى أن عمر بن الخطاب ولاها السوق، تولت القضاء والفصل في الخصومات التي تحدث بين أهل السوق. فلم يذكر ابن حزم هذا الأثر ليقيس القضاء على عمل المرأة التي روي أن عمر ولاها السوق، وإنما في غالب الظن هو يرى أن هذا العمل هو في حقيقته نوع من القضاء. مناقشة الدليل: أجيب عن هذا الدليل بما يأتي:   1 المحلى، لابن حزم، ج9. ص363. 2 المصدر السابق، ح9، ص429. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 أولا: أن فعل عمر ليس حجة؛ لأنه لا حجة لكلام أحد أو فعله سوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم، كما هو الراجح عند علماء الأصول، ولم يدع أحد من العلماء أنه لم يعرف لفعل عمر مخالف، حتى يكون إجماعا تثبت به الدعوى. وقد علق بعض الباحثين1 على استدلال ابن حزم بهذا الأثر المروي عن عمر قائلا: ومن العجيب أن يستدل ابن حزم بفعل عمر مع أنه ينفي حجية رأي الصحابي، وأعجب من هذا أنه خالف عادته عند الاستدلال بهذا الأثر، فلم يذكر له سندا، أو درجة، وأعجب من العجب أن يستأنس هنا بقول أبي حنيفة مع أنه أوسعه في غير هذا الموضع تشنيعا، وتجريحا. والأعجب من ذلك كله أنه يرى أن المرأة لا تزوج نفسها، ولا غيرها، ثم يرى هنا تقليدها القضاء لتزوج غيرها بمقتضى ولاية القضاء. ونقول من الممكن أن يتولى عقد الزواج في حال المرأة التي لا ولي لها قاض رجل، ولا تتولاه المرأة إذا كانت قاضية، وهذا لا مشقة فيه. ثانيا: سلمنا جدلا أن فعل عمر حجة، لكن هذا الأثر بالذات لم يثبت عنه، ولهذا يقول ابن العربي: "وروي أن عمر قدم امرأة على حسبة السوق، وهذا لم صح، فلا تلتفتوا إليه، إنما هو من دسائس المبتدعة في الأحاديث"2. الدليل الرابع: أنه ثبت أن الشرع أعطى للمرأة حق الولاية على بيت زوجها، وقيامها على إدارته وتدبيره فيجوز توليتها القضاء قياسا على ولايتها على بيت زوجها، بجامع أن كلا منهما ولاية، روى أحمد، ومسلم عن ابن عمر أن   1 أستاذنا الدكتور عبد العال عطوة في محاضرات في علم القضاء، ص80. 2 أحكام القرآن لابن العربي، ص3 ث 1445، ونظام القضاء في الإسلام. مصدر سابق، ص39، ومحاضرات في علم القضاء، مصدر سابق، ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كلكم راع، ومسئول عن رعيته، الإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها" الحديث. مناقشة الدليل: أجيب عن هذا بأن ولايتها على بيت زوجها ولاية خاصة، أما ولاية القضاء فولاية عامة، فلا يصح القياس هنا. الدليل الخامس: قياس القضاء على الشهادة، وبما أن الشهادة ثابتة للمرأة بنص القرآن الكريم، من قول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 1. فيثبت لها ولاية القضاء بطريق القياس. مناقشة الدليل: نوقش هذا الدليل بمثل ما نوقش به الدليل الرابع، أي: إنه لا يصح قياس ولاية القضاء على ولاية الشهادة؛ لأن ولاية القضاء عامة، وولاية الشهادة خاصة. وبعد، فإنه لم يترجح لي رأي من آراء علمائنا في مسألة تولي المرأة منصب القضاء، إلا أنه لا يفوتني أن أقول إنني أرجو ألا أكون بعيدا عن الصواب إذا قلت إنه يصح تولية المرأة القضاء, في القضايا التي يكون طرفا الخصومة فيها من النساء، كالحوادث التي تحدث بينهن في مجالسهن الخاصة؛ لأن القضاء في الحقيقة هو إظهار الحكم الشرعي في قضية من القضايا، ولا أظن أن أحدًا يجادل في أن كلا من الرجل والمرأة يستويان في هذه الناحية، وغاية ما هناك أن القضاء فيه إلزام   1 سورة البقرة، الآية: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 بخلاف إظهار الحكم الشرعي من المفتي مثلا، لكن يمكن أن نقول إن الإلزام بعد حكم القاضي إنما جاء من الشرع، لا من القاضي وواسطة التنفيذ هنا هي الحاكم. وإذا قلنا بهذا الرأي فإننا نشترط شرطا هو أن يكون ذلك في غير مسائل القصاص والحدود؛ لأنه قد ثبت أن المرأة بتكوينها النفسي والعاطفي قد تضعف عن نظر قضية قتل، وقد نشرت صحيفة الاتحاد التي تصدر في "أبو ظبي"، يوم الثلاثاء الموافق 23 من فبراير سنة 1988، أن قاضية في روما أصيبت بالإغماء عند سماعها تفاصيل جريمة قتل رهيبة حدثت في إيطاليا، قام فيها المجرم بتقطيع أوصال المجني عليه قبل أن يفارق الحياة، ولك أن تتصور أيها القارئ ما يحدث في جلسة محاكمة عندما تصاب القاضية بالإغماء، فعدم تولي المرأة القضاء في قضايا القصاص يصون المرأة من أن تتعرض لموقف يهز وجدانها وعواطفها. وكذلك لا يسمح لها بالقضاء في قضايا الحدود؛ لأنه لا يصح لها عند جمهور العلماء أن تشهد فيها, فلا يصح لها أن تقضي بطريق الأولى، ولا نتصور أن تنظر المرأة قضية جريمة الزنا، ولا يؤدي سماعها لتفصيل وصف الشهود لوقوع الجريمة إلى إيذاء مشاعرها، وجرح أنوثتها، وخدش حيائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الشرط السادس من شروط القاضي: العدالة توضيح معنى العدالة عند العلماء ... الشرط السادس من شروط القاضي: العدالة ليس المقصود بالعدالة هنا أن يكون الشخص عادلا في أحكامه, كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ الذي ليس له دراية بأساليب الفقهاء، بل لهذه الكلمة معنى آخر يريده العلماء، فعندما يشترط العلماء العدالة في الشخص، فإنهم يقصدون بها استعدادا ذاتيا يمنعه من ارتكاب الجرائم والمخالفات التي نهى الشرع عنها، بل ويقصدون أيضًا أن استعداده الذاتي يمنعه من فعل الأمور التي لم ينه الشرع عنها لكنها لا تليق بأمثاله بحسب عرف الناس في زمانه ومكانه. توضيح معنى العدالة عند العلماء: اختلفت عبارات العلماء في توضيح حقيقة العدالة، فال بعض العلماء من الحنفية، من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج فهو عدل، أي: إنه لم يتهم بأكل الحرام كالربا والسرقة، والعصب، وأكل مال اليتيم، وما شابه هذا، ولم يتهم بالزنا، وقال بعض العلماء من الحنفية من لم يعرف عليه جريمة في دينه فهو عدل، وقال بعضهم أيضا من يجتنب الكبائر، وأدى الفرائض، وغلبت حسناته سيئاته فهو عدل1، وعرفها ابن الحاجب بأنها محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة، ليس معها بدعة، وبين ابن الحاجب أنها تتحقق باجتناب الكبائر، وترك الإصرار على الصغائر، وبعض الصغائر، وبعض المباح2. ونقل ابن السبكي3 عن بعض العلماء قوله: "لا بد عندي في العدالة من وصف آخر لم يتعرضوا إليه، وهو الاعتدال عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه عن اتباع هواه. فإن المتقي للكبائر والصغائر الملازم لطاعة الله وللمروءة قد يستمر على ذلك ما دام سالما من الهوى، فإذا غلب هواه خرج عن الاعتدال, وانحل عصام التقوى فقال ما يهواه، وإبقاء هذا الوصف هو المقصود من العدل، كما يشير إليه قوله   1 بدائع الصنائع للكاساني. ج6، ص268. 2 بيان المختصر، شرح مختصر ابن الحاجب، لمحمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهاني، ج9، ص696. تحقيق دكتور محمد مظهر. 3 الأشباه والنظائر، لعبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة 771هـ، ج، ص45، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود، وعلي محمد عوض. دار الكتب العلمية ببيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 1 وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 2 فكم من صالح لا شك في صلاحه من عصمته أن لا يحد وفي نفسه أن لا يعصي، فإذا جرت عليه المقادير وغلب هواه قامت نفسه فانبعث منها ما لا يبقى معه صلاح. "فلا بد أن يمتحن الصالح حتى يعرف حاله في الرضا والغضب، وعند الأغراض، فإذا استوى كلامه فهو العدل، وإلا فليس بعدل وإن كان صالحا قبل حصول ما يغيره. فالعدالة هيئة راسخة في النفس تحمل على الصدق في القول في الرضا والغضب، ويعرف ذلك باجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر وملازمة المروءة والاعتدال، عند انبعاث الأغراض حتى يملك نفسه عن اتباع هواه. "فقد رأيت من لا يقوم على ذنب فيما يعتقد ثم يستر هواه، على عقله أعاذنا الله من ذلك". هذا ما يراه بعض العلماء نقله عنهم ابن السبكي وارتضاه مع زيادة رآها لا بد منها وهي -كما قال: "يشترط مع ذلك أن لا يكون متلبسا -حال الشهادة- بمعصية، وإن كانت صغيرة تغتفر إذا لم يكن متلبسا بها حال الشهادة. قال ابن السبكي: "وهذا لأن المعاصي من حيث هي منافية للعدالة، إلا أننا اغتفرنا الصغائر لقلة الصون عنها، ولا يقبل ذلك عند أداء الشهادة، فلمنصب   1 سورة الأنعام، الآية رقم: 152. 2 سورة البقرة، الآية رقم: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الشهادة أهبة تنافي المعاصي عنده. قال ابن السبكي: "وكان هذا للمحافظة على هذا المنصب، فإن من تلبس بالمعصية حال الشهادة كأنه لا مروءة له، وهذا الشرط قاله بعض أصحابنا بدليل". انتهى كلام ابن السبكي أحد كبار علماء الشافعية، وواضح من كلام ابن السبكي وشيخه أنهما يشددان في تحقيق العدالة ليتحقق الاحتياط الكامل في حقوق الناس، لكن هذا التشديد قد لا يكون متيسرا في الواقع؛ لأن ابن السبكي وشيخه يريان أنه لا بد من امتحان الصالح حتى يعرف حاله في الرضا والغضب وعند الأغراض، فإذا استوى كلامه فهو العدل، وإلا فليس بعدل وإن كان صالحا قبل حصول ما يغيره. وكأن معنى هذا أننا كلما احتجنا إلى العدالة في ولاية كالشهادة أو القضاء، أو رياسة الدولة أو غير ذلك يمتحن من نحتاج إلى شهادته، أو قضائه، أو رياسته، ولا نحكم على الناس أنهم عدول إلا إذا عرضناهم لمواقف نختبرهم فيها لنعرف حالهم في الرضا والغضب وعند الأغراض، وأظن أن هذا أمر مبالغ فيه. ثم نسأل: من سيمتحن من؟ هل كل الناس سيتحولون إلى ممتحنين -بصيغة اسم الفاعل- وممتحنين -بصيغة اسم المفعول- أم أن الحكام سيمتحنون المحكومين أم ماذا؟ هذا رأي فيه شدة. وإذا انتقلنا إلى فقيه آخر من فقهاء الشافعية هو الإمام السيوطي نجده ينهج نفس المنهج في التشديد في تحقيق العدالة، فقد ذكر السيوطي تعريفا للعدالة عند بعض العلماء هو: "اجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر" أي: واجتناب الإصرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 على الصغائر، وهذا التعريف ضعيف في نظر السيوطي لعدة أمور: أولا: لأن مجرد اجتناب الشخص للكبائر من غير أن تكون عنده ملكة وقوة تردعه عن الوقوع فيما يهواه غير كاف في صدق العدالة. وهذا غير مقبول من السيوطي؛ لأن المطلوب في المتصف بالعدالة أن لا يرتكب كبيرة، وقد وجد منه ذلك فليس لنا بعد هذا أن نبحث هل امتناعه من ارتكاب الكبيرة ناتج عن ملكة عنده، أو ليست عنده هذه الملكة؛ لأن هذا أمر نفسي. ثانيا: مما يضعف هذا التعريف أيضا في نظر السيوطي أن التعبير بالكبائر بلفظ الجمع يوهم أن ارتكاب الكبيرة الواحدة لا يضر وليس كذلك. ويمكن أن نجيب على هذا بأن المتبادر إلى الفهم إذا قيل إن إنسانا يجتنب الكبائر هو أنه لا يفعل أي كبيرة، ولا يفهم من هذا القول أنه يحتمل أنه يفعل كبيرة واحدة. ويلاحظ أن "أل" للجنس ويصدق ذلك بالمفرد. ثالثا: أن الإصرار على الصغائر من جملة الكبائر، فذكره في الحد تكرار، أي: ذكره في تعريفها تكرار، ويمكن أن نجيب بأن الإصرار على الصغائر وإن كان من جملة الكبائر حكما لا حقيقة لكن ذكره في التعريف يعد من زيادة الإيضاح. رابعًا: لأن صغائر الخسة كسرقة لقمة من الخبز وسرقة ليمونة أو برتقالة، وما شابه ذلك، ورذائل المباحات خارج عنه مع اعتباره. وهذا مسلم من السيوطي، وكان يمكن أن يتحاشى هذا الاعتراض بزيادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 تفيد هذا المعنى، فيقال مثلا: اجتناب الكبائر، والإصرار على الصغائر، والمباح الذي يخل بالمروءة، وإذا كان المباح الذي يخل بالمروءة طاعنا في العدالة فتكون الصغيرة الدالة على الخسة من باب أولى. والتعريف الذي يعده السيوطي أحسن تعريف للعدالة هو: "ملكة في النفس تمنع من اقتراف كبيرة، أو صغيرة دالة على الخسة، أو مباح يخل بالمروءة"1. وفي بعض كتب الشيعة الإمامية أن بعض أئمتهم يرى أن العدل يعرف بالستر والعفاف، وكف البطن والفرج واليد واللسان2، ويمكن الاعتراض على من عرف العدل بأنه من لم يطعن عليه في بطن ولا فرج، وعلى من عرفه كذلك بأنه من يعرف بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان، يمكن الاعتراض بأن عدم ارتكاب جريمة كبيرة كالقتل والزنا وشرب الخمر شرط في تحقيق العدالة، والكبائر ليست مختصة بالبطن والفرج واليد واللسان، فهناك جرائم كبيرة تصدر من عضو غير البطن والفرج واليد واللسان، كعقوق الوالدين والفرار من الزحف، فيكون التعريف غير جامع مع أنه يشترط في التعريف أن يكون جامعا مانعا. وإن كان يمكن الدفاع عن مثل هذا التعريف بأن تخصيص البطن والفرج بالذكر أو هما مع اليد واللسان, إنما بقصد به أن أكثر الجرائم الكبيرة تصدر عن هذه الأربعة3. ويحسن أن ننبه إلى أن العلماء يصرحون بأن الإصرار على الصغيرة هو في حكم الكبيرة من حيث قدحه في العدالة وري عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وغيرهما -رضي الله عنهم- أنهم قالوا: "لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع   1 الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص384. 2 الاجتهاد والتقليد، تأليف رضا الصدر، ص347. 3 الاجتهاد والتقليد، تأليف رضا الصدر، ص347. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 إصرار" قال النووي رحمه الله تعالى: "ومعناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار"1 ا. هـ، ولذلك فإن كلمة "كبيرة" في هذا التعريف تشمل الكبيرة حقيقة، كالقتل والزنا، وشرب الخمر، ونحو ذلك، وتشمل الإصرار على الصغيرة، ولهذا -في ظني- استغنى في هذا التعريف عن ذكر الإصرار على الصغيرة، وإن كان ذكر ذلك في التعريف -في رأيي- سيؤدي إلى زيادة إيضاح معنى العدالة. ومعنى "ملكة في النفس" أي: هيئة راسخة في النفس، أي: فطرة، أو ما يمكن أن نعبر عنه بعبارة أخرى استعداد ذاتي في الشخص، كما نقول: فلان عنده ملكة الرسم أي: عنده استعداد ذاتي يجعله يستطيع أن يرسم، وكما نقول: عنده ملكة الشعر أو ملكة الخطابة وهكذا. معنى الكبيرة: اضطربت أقوال العلماء في تعريف الكبيرة، حتى قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام: "لم أقف لأحد من العلماء على ضابط لذلك"2، يعني أنه لم يجد لها تعريفا عند العلماء سالما من الاعتراض، وقال النووي عن الصغائر والكبائر: "اختلفوا في ضبطها اختلافا كثيرا منتشرا جدا"3. عرفها الرملي أحد فقهاء الشافعية بأنها "ما فيه وعيد شديد بنص كتاب أو   1 شرح صحيح مسلم للنووي، ج2، ص87. 2 قواعد الأحكام في مصالح الأنام لأبي محمد عز الدين بن عبد العزيز عبد السلام، ص22 - دار الكتب العلمية. 3 نهاية المحتاج للرملي إلى شرح المنهاج، للنووي، ج8، ص294، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 سنة" ثم قال: "ولا يقدح في ذلك عدهم كبائر ليس فيها ذلك، كالظهار1، وأكل لحم الخنزير"2. لكن هذا من الرملي لا يسلم؛ لأنه لا بد في التعريف أن يكون جامعا مانعا، وهذا التعريف للكبيرة غير جامع لأفرادها؛ لأن الظهار وأكل الخنزير من الكبائر مع أنه لم يرد فيهما وعيد شديد لا في الكتاب ولا في السنة. وعرفها البعض بأنها: "كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة". أي: تشعر بأن مرتكبها قليل الاكتراث بالدين، وتشعر بأنه غير قوي التدين. واعترض على هذا التعريف بأنه يشمل الصغائر التي تدل على الخسة، كسرقة برتقالة، أو لقمة من الخبز، وما شابه ذلك، مع أن ذلك ليس بكبيرة، وعلى هذا فالتعريف غير مانع، والشرط في التعريف أن يكون جامعا مانعا. وقيل ما يوجب الحد3. ويعترض على هذا بأن هناك جرائم من الكبائر ولا يجب فيها حد، كأكل أموال اليتامى، وشهادة الزور، وما ماثل هذا، فالتعريف غير جامع، ومن شروط التعريف الصحيح أن يكون جامعا4.   1 معنى الظهار تشبيه الرجل زوجته بإحدى محارمه في عدم الاستمتاع بها، بأن يقول لزوجته أنت علي كظهر أمي، أو كظهر أختي وما شابه ذلك وهو حرام. 2 نهاية المحتاج للرملي إلى شرح المنهاج للنووي، ج8، ص294، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. 3 الحدود هي العقوبات المقدرة التي وجبت حقا لله تعالى كعقوبة الزنا والخمر. 4 نهاية المحتاج، ج8، ص294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقيل في تعريفها: "ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة"1. وقيل أيضا: "كل ما كان شنيعا بين المسلمين، وفيه هتك حرمة الدين"2. وقال أبو حامد العزالي3: "والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليها اعتيادا، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى، ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية فهذا لا يمنع العدالة وليس هو بكبيرة". ويرى الإمام أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام4 في كتاب القواعد أن الضابط في معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة هو أن يعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر, التي نص الشرع عليها في الكتاب أو السنة، فإذا كانت ناقصة عن أقل مفاسد الكبائر فيكون هذا الذنب صغيرة، وأما إن كانت مفسدته مساوية لأدنى مفاسد الكبائر أو تزيد عليه فيكون هذا الذنب من الكبائر، وذكر أمثلة لهذا، كشتم الله سبحانه وتعالى أو رسوله -صلى الله عليه وسلم، أو الاستهانة بالرسل أو تكذيب واحد منهم، قال: "فهي من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة، وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو أمسك مسلما لمن يقتله فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر، وكذلك لو   1 الروض المربع، لمنصور بن يونس البهوتي بحاشية العنقري، ج3، ص422، مطبعة السعادة. 2 رد المحتار، حاشية ابن عابدين، على الدر المختار، ج5, ص473، الطبعة الثانية. 3 نقلا عن النووي في شرح صحيح مسلم، ج2، ص85. 4 نقلا عن المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 دل الكفار على عورات المسلمين, مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم, فإن نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر، وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه، أما إذا كذب عليه كذبا يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر، قال: وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في مال حقير فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطما عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة من الخمر من الكبائر وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة، قال: والحكم بغير الحق كبيرة، فإن شاهد الزور متسبب والحاكم مباشر، فإذا جعل السبب كبيرة فالمباشرة أولى. قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها كل ذنب قرن به وعيد، أو حد، أو لعن، فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد، أو الحد، أو اللعن، أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة، ثم قال: والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، والله أعلم. هذه بعض تعريفات علمائنا -رضي الله تعالى عنهم. والكبائر كثيرة، كالقتل والزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وعقوق الوالدين، وأكل مال اليتيم، وشهادة الزور، والتعامل بالربا، وشتم الرجل والديه، والنميمة، وعدم الاستبراء من البول، واليمين الغموس واستحلال بيت الله الحرام، وغير ذلك، قال بعض العلماء إن حصر الكبائر لا يمكن استيفاؤه1. وأما الصغيرة فهي كل ما لا ينطبق عليها تعريف الكبيرة من الأمور المحرمة،   1 الأشباه والنظائر للسيوطي، ص389، وشرح صحيح مسلم للنووي، ج2، ص84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وذلك مثل سب الناس بألفاظ لا تعد من قبيل القذ "والقذف هو الرمي بالزنا" ومثل استماع كلام النساء الأجانب على وجه التلذذ به، والمعاكسات التليفونية للنساء، والنظر المحرم إليهن، والكذبة التي لا ضرر فيها ولا حد عليها1، واللعب بالنرد2، وتعاطي العقود الفاسدة3. معنى المروءة: يقصد العلماء من صفة المروءة أن يكون الإنسان نائيا بنفسه عن كل ما يمس كرامته، وكرامة الفئة التي ينتمي إليها، ويخدش مكانته في المجتمع، فليزمه أن يكون متمسكا بالمستوى الخلقي اللائق به وبأمثاله، غير مرتكب لفعل يحط من قدره، حتى لو كان هذا الفعل غير محرم في الشرع، ولا مكروها، لكنه غير لائق به في عرف المجتمع، فأستاذ الجامعة مثلا يلزمه أن يتحلى بالصفات التي تليق بأساتذة الجامعة فإذا كان عمل عملا لا يليق بأساتذة الجامعة فإنه لا يكون متصفا بالمروءة, وطالب العلم كذلك يلزمه أن يكون على الصفات التي تليق بطلبة العلم، فإذا فعل شيئًا لا يليق بطلبة العلم فإنه يكون غير متصف بالمروءة وهكذا. وإذا رجعنا إلى المعنى اللغوي للمروءة نجد أنها -كما جاء في المصباح:   1 حاشية قليوبي على شرح المحلي على المنهاج، ج4، ص319، والروض المربع بحاشية العنقري، ج3، ص422، ونظام القضاء في الإسلام، ص15. 2 والنرد يسمى الآن في عرف العامة بالطاولة. 3 نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص295، وحاشية الشبراملسي عليه، ج8، ص295، وقد تردد كثير من العلماء المتأخرين -كما قال ابن السبكي- في حكم الإقدام على العقود الفاسدة، أهو حرام، أم حلال؟ وقد استدل ابن الرفعة على أن الإقدام على العقد الفاسد حرام, يقول الله تبارك وتعالى، في مجال تحريم بعض النساء في الزواج: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ووجه الدلالة أن حقيقة الجمع بين الأختين بالوطء غير ممكنة، إنما الممكن في الجمع بينهما بالعقد. الأشباه والنظائر، لابن السبكي، ج1، ص245، دار الكتب العلمية ببيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات"1. وقد عرفت المروءة بعدة تعريفات، منها ما قاله الشيخ زكريا الأنصاري أحد فقهاء الشافعية، في تعريفها بأنها: "التخلف بخلق أمثاله في زمانه ومكانه، وعدم اتهام". وقريب من هذا تعريف بعض فقهاء الشافعية أيضًا وهو أن يسير كسير أشكاله في زمانه ومكانه.. وعرفها الشيخ الشرقاوي من الشافعية أيضًا بأنها: "توقي الأدناس عرفا". وعلل لكون ذلك مرجعه إلى العرف بأن المروءة لا تنضبط، بل تختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال والأماكن، بخلاف العدالة، فإنها ملكة راسخة في النفس لا تتغير بعروض أمر من الأمور المنافية لها، فلا تحتاج في ضبطها إلى العرف2. وقيل أيضًا في تعريفها "أن يصون نفسه من الأدناس وما يشينها بين الناس". وأما ابن قدامة الفقيه الحنبلي المعروف فقد عرف المروءة بأنها "اجتناب الأمور الدنيئة المزرية به"3. وعرفها الدردير الفقيه المالكي المعروف بأنها "كمال النفس بصونها عما يوجب ذمها عرفا، ولو مباحا في ظاهر الحال".   1 المصباح المنير، للفيومي، الميم مع الراء والهمزة. 2 حاشية الشرقاوي على التحرير، ج1، ص505، 506. 3 المغني، لابن قدامة، ج9، ص168. وكفاية الأخيار، ج2، ص279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقد ذكر علماؤنا -رضي الله تعالى عنهم- أمورا تخل بالمروءة، كالأكل في الأسواق إذا كان من شخص لا يعمل في السوق، وأما أهل السوق الجالسون فيه فلا يخل بمروءتهم الأكل فيه للضرورة، والمراد بالأكل في السوق -كما بين ابن قدامة- أن ينصب مائدة في السوق، ثم يأكل، والناس ينظرون، وليس المراد أكل شيء يسير، أو كان يأكل في دكان وهو مستتر، أو غلبه جوع أو عطش، أو كان صائما فبادر بالإفطار عملا بالسنة؛ لأن من المستحب تعجيل الإفطار، كما أرشدنا إلى ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" رواه البخاري ومسلم1. ومن الأمور التي ذكرها العلماء أيضًا المشي مكشوف الرأس في السوق، أو كشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه، أو ذكر أهله أو زوجته بالأمور السخيفة، ومنها الإكثار من الحكايات المضحكة بين الناس، بشرط أن تكون حكايات كاذبة، أما لو كانت صادقة فلا يخدش ذلك مروءته، وذكروا من ذلك أيضًا الحرفة الدنيئة، إذا كانت لا تليق به؛ لأنها تشعر بالخسة، بخلافها ممن تليق به2. ولا بد أن يلاحظ أن الصفات التي تسقط المروءة يتدخل في اعتبارها عرف الناس وتقاليدهم في كل عصر، وهو ما يفيده قولهم في تعريف المروءة بأنها: "التخلق بخلق أمثاله في زمانه ومكانه" أو "توقي الأدناس عرفا"، أو "أن يصون نفسه من الأدناس وما يشينها بين الناس" ولذلك وجدنا علماءنا القدامى يذكرون أن الأكل في الأسواق، والمشي مكشوف الرأس مما يخرم المروءة في عصرهم، لكن   1 سبل السلام، ج2، ص154. 2 حاشية الشرقاوي، ج2، ص506، 507، والمغني ج9، ص168، 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 عصرنا الذي نعيش فيه الآن يسمح بذلك، ولا يعد هذا قادحا في مروءة الشخص. مما سبق يتبين أن أساس المروءة أو معيارها راجع إلى القواعد التي استقرت في سلوك الأفراد في المجتمع الإسلامي، مراعى فيها تقاليد هذا المجتمع وقيمه السلوكية، أو بعبارة محددة عرفه وعاداته التي لا تخالف أحكام الشرع، وهذه أمور تختلف من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، وقد يكون العرف والعادات مانعا في مجتمع إسلامي وغير مانع في مجتمع إسلامي آخر، فيكون فعل شيء من الأشياء التي تخالف العرف والعادات في أحد المجتمعات مخلا بالمروءة مع أن هذا الفعل نفسه غير مخل بالمروءة في مجتمع إسلامي آخر. ومما سبق أيضا يتبين أن عدم المروءة يخل بصفة العدالة، وهي شرط مطلوب في القاضي عند كثير من العلماء. لماذا اشترطت المروءة في العدالة: وقد اشترطت المروءة في العدالة عند من يقول باشتراطها؛ لأنه -كما قال العلماء- من تخلق بما لا يليق وإن لم يكن حراما، جره ذلك إلى عدم المحافظة على دينه واتباع الشهوات1. وكأنهم يريدون أن يقولوا إن الإنسان إذا تجرأ على مخالف ما استقر عليه عرف المجتمع من اتباع قواعد في السلوك على أساسها يحترم الإنسان، ويصبح له قيمة اجتماعية، واستهان بذلك، فإن هذا قد يكون طريقا إلى تجرئة على اتباع شهواته ومخالفة أوامر الشرع، فالتجرؤ على الأمور اليسيرة المستقيمة قد يفضي إلى التجرؤ على ما هو أكبر، ومن الملاحظ أن مراعاة نظرة الناس قد تكون أحد الأسباب التي تؤدي إلى أن يبتعد الإنسان عن المحرمات حتى   1 المغني، ج9، ص168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 لا ينظر إليه الناس نظرة الازدراء والتحقير. وأيضًا؛ فلأن الأصل -كما قال العلماء1- أن حفظ المروءة من الحياء ووفور العقل، وطرح ذلك إما لخبل بالعقل، أو قلة حياء أو قلة مبالاة بنفسه، وحينئذ فلا يوثق بقوله في حق غيره، وهو أولى؛ لأن من لا يحافظ على ما يشينه في نفسه فغيره أولى، فإن من لا حياء فيه يصنع ما يشاء. لا يخرج الشخص عن العدالة بفعل صغيرة: والعدالة نقيضها الفسق، والعدل نقيضه الفاسق، وقال العلماء إنه لا يخرج الشخص عن العدالة بفعل صغيرة، لقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} قيل: اللمم هو صغار الذنوب؛ ولأن التحرز من الصغائر غير ممكن، لكن بعض العلماء قالوا أيضًا إن الإصرار على الصغيرة يخل بالعدالة، كما سبق أن بينا. المراد بالإصرار على الصغيرة: المراد بالإصرار على الصغيرة -عند بعض العلماء: التكرار، فلو فعلها مرة واحدة لا يكون مصرا، قال العز بن عبد السلام: "إذا تكررت منه الصغيرة تكررا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ردت شهادته، وروايته بذلك"، وقال البعض الآخر: المراد عدم التوبة، حتى لو فعلها مرة من غير توبة كان مصرا، وقيل أيضًا: هو العزم على المعاودة بعد الفعل وقبل التوبة، وقيل الإصرار على الصغيرة يكون بأن لا تغلب طاعاته معاصيه2. قال الشافعي -رضي الله عنه: إذا كان الأغلب الطاعة والمروءة قبلت   1 كفاية الأخيار، لتقي الدين الحصني، ج2، ص279. 2 المغني، ج9، ص168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الشهادة، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته1. هذا، وقد صرح بعض العلماء بأن الإصرار على الصغيرة لا يصيرها كبيرة حقيقة، وإنما يلحق بها في الحكم2. ونحن نرى ما يراه الشوكاني وهو أن الإصرار على الصغيرة لا يحولها إلى كبيرة، وإنما الإصرار على الصغيرة صغيرة، كما أن الإصرار على الكبيرة كبيرة3. وقد قال كثير من العلماء: من غلبت طاعاته معاصيه كان عدلا، وعكسه إذا كانت معاصيه تغلب طاعاته فهو فاسق، والمرا بالمعاصي التي غلبتها الطاعات هنا هي الصغائر. الضابط في الغلبة: يرى بعض العلماء أن الضابط في الغلبة هو العد من جانبي الطاعة والمعصية، من غير نظر لكثرة ثواب في الطاعة وعقاب في المعصية؛ لأن ذلك أمر أخروي، وهذا الضابط قريب من ضبطه بالعرف. وقال العلماء إن كل صغيرة تاب منها فاعلها لا تدخل في العد؛ لأن التوبة الصحيحة تذهب أثرها رأسا4. بعض العلماء يرى أنه ليس في الذنوب صغيرة: نقل عن جمع من العلماء كعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- والأشعري، وأبي إسحاق الإسفراييني الفقيه الشافعي الإمام في علم الأصول   1 نقلا عن كفاية الأخيار، للحصني، ج2، ص276. 2 نهاية المحتاج للرملي، ج8 ص294، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، ج1، ص22، وحاشية الشرقاوي، ج2، ص505. 3 قال الشوكاني: وقد قيل: إن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة، وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به، وإنما هي مقالة لبعض الصوفية، فإنه قال: لا صغيرة مع إصرار، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثا ولا يصح ذلك، بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة، والإصرار على الكبيرة كبيرة، إرشاد الفحول، للشوكاني ص53. 4 نهاية المحتاج، ج8، ص294. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والفقه، أنه ليس في الذنوب صغيرة، لكن ذلك منهم -كما قال العلماء- لأنهم كرهوا أن يسموا معصية الله تعالى صغيرة، إجلالا لذاته سبحانه وتعالى، فكل مخالفة هي بالنسبة إلى جلال الله تعالى كبيرة، مع اتفاقهم جميعا على أن بعض الذنوب يقدح في العدالة، وبعضها لا يقدح فيها، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق1، وأما جمهور العلماء من السلف والخلف، من جميع الطوائف، فيرون أن الذنوب تنقسم إلى صغيرة وكبيرة2. وهو مروي أيضًا عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما، وقال حجة الإسلام الغزالي في كتابه البسيط في المذهب3: "إنكا الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه، وقد فهما من مدارك الشرع" وقال الإمام النووي المحدث والفقيه الشافعي المشهور: "ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدا بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس، أو صوم رمضان، أو الحج، أو العمرة، أو الوضوء أو صوم عرفة، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك، كما ثبت في الصحيح ما لم يغش كبيرة، فمسى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر، وما لا تكفره كبائر، ولا شك في حسن هذا ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى، فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها، لكونها أقل قبحا، ولكونها متيسرة التكفير، والله أعلم"4. وأقول ويشير إلى هذا قول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا} فهذا النص الكريم يشير إلى أن هناك ذنوبا غير الكبائر، وقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} .   1 نهاية المحتاج، ج8، ص294. 2 نيل الأوطار للشوكاني، ج9، ص222. دار الجيل، بيروت. 3 نقلا عن النووي، في شرح صحيح مسلم، ج2، ص85. 4 المصدر السابق، ج2، ص85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 معنى التقوى : بين العلماء معنى التقوى بأن يطاع الله ولا يعصى، قال عبد الوهاب بن السبكي1 بعد بيان هذا المعنى: "وحقيقتها: التحرز بطاعة الله من عقوبته" قال: "وأصلها اتقاء الشرك، ثم اتقاء المعاصي، ثم اتقاء الشبهات، ثم اتقاء الفضلات". وبين ابن السبكي أن المتقي قد يكون عدلا وقد لا يكون، وعلل لذلك بما نقله عن بعض شيوخه، وهو أن اتقاء المعاصي -كبيرها وصغيرها- هو التقوى، فإن اتقى الكبائر -وكان عدلا- لم يقدح فيه إتيان الصغيرة، ولكنها تقدح في تقواه، فهذا عدل غير متق. وقال: وقد يتقي ولا يكون عدلا إذا لم يكن ذا هيئة راسخة في النفس, تحمل على ملازمة التقوى والمروءة. كما بين العلماء أن العدالة والتقوى قد تتحقق في الصبي مع عدم قبول شهادته؛ وذلك لأن البلوغ شرط في قبول قوله وليس شرطا في عدالته2.   1 الأشباه والنظائر لعبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، ج1، ص449، 450. 2 نفس المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 أكثر العلماء يشترطون العدالة في القاضي: اشترط العدالة في القاضي أكثر العلماء، فأكثر العلماء ومنهم الشافعية والمالكية في المشهور في مذهبهم، والحنفية في رواية، والحنابلة والشيعة الإمامية، والزيدية يرون أنه لا تصح ولاية الفاسق القضاء, ولا ينفذ حكمه حتى لو صادف الحق1. رأي الحنفية في ظاهر المذهب: ويرى الحنفية في ظاهر المذهب عندهم أن العدالة ليست شرطا من شروط جواز التولية، ولكنها شرط من شروط الكمال، أي: الأفضل والأكمل أن يكون القاضي عدلا، ولو قلد الفاسق صح في ظاهر المذهب, وعليه أن يحكم بفتوى غيره، ولكنهم يرون أنه لا ينبغي أن يقلد القضاء؛ لأن القضاء أمانة عظيمة، وهي أمانة الأموال والأبضاع والنفوس، فلا يقوم بوفائها إلا من كان كاملا في الورع والتقوى، إلا أنه مع هذا لو قلد هذا المنصب جاز التقليد في نفسه وصار قاضيا. فإن كان في الرعية عالم تحققت فيه صفة العدالة، فلا يحل شرعا عند الحنفية تولية من ليس كذلك، لكن لو ولي صحت توليته، وتنفذ قضاياه إذا لم يجاوز حد الشرع، كشهادة الفاسق عندهم لا يجوز قبولها، لكن لو قبلت شهادته نفذ الحكم بها مع وقوع القاضي في الإثم لقبولها. هذا هو ظاهر المذهب عند الحنفية -كما قلنا- وقد اختار الطحاوي أحد   1 شرح فتح القدير لابن الهمام، ج7، ص253، ومواهب الجليل للحطاب، ج6، ص87، ونظام القضاء في الإسلام، ص16، وشرائع الإسلام للحلي، ج4، ص67، ووسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي، ج18، ص2. والبحر الزخار لأحمد بن يحيى بن المرتضى، ج6، ص119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 كبار فقهائهم أن الفاسق إذا قلد القضاء لا يصبح قاضيا1، وهو ما يتفق ورأي الجمهور. التعليل لرأي الحنفية: علل الحنفية لرأيهم بأن كل من كان أهلا للشهادة كلا أهلا للقضاء وبالعكس، وذلك بناء على قاعدة أن حكم القضاء يستفاد من حكم الشهادة؛ لأن كلا من القضاء والشهادة من باب الولاية، وهي تنفيذ القول على الغير شاء أم أبى2،فكل ما يشترط في الشهادة يشترط في القضاء؛ لأن ولاية القضاء أعم أو أكمل من ولاية الشهادة أو مترتبة عليها، وكل ما لا يشترط في الشهادة لا يشترط في القضاء. ولما كان الفاسق عندهم أهلا للشهادة فلا تشترط العدالة في القاضي. وقد عللوا لعدم اشتراط العدالة في الشهادة، بأن المسلم إما أن يكون من أهل العصر الذي شهد لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية، وإما أن يكون من غيرهم، فإن كان من أهل ذلك العصر الذي شهد له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالخيرية فهذا ظاهر، وأما إن كان من غيرهم فنظرا إلى ظاهر حال المسلم،   1 شرح العناية على الهداية لمحمد محمود البابرتي مطبوع مع فتح القدير، ج7، ص254. 2 فالقضاء فيه تنفيذ القول على الغير شاء أم أبى، والشهادة كذلك فيها تنفيذ القول على الغير شاء أم أبى، وهذا هو معنى الولاية، انظر: أنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء، تأليف الشيخ قاسم القونوي، تحقيق الدكتور أحمد عبد الرزاق الكبيسي، ص229، الطبعة الأولى، 1986. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فظاهر حال المسلم أنه غير مرتكب للجرائم والمخالفات الدينية1.   1 شرح العناية على الهداية مع فتح القدير، ج7، ص254، وقد ثبتت أحاديث تبين فضل أهل القرون الثلاثة الأولى مثل ما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي يلونني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته". وفي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سأل رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي بعثت فيهم، ثم الثاني، ثم الثالث". وبعض الروايات شك الراوي هل بيّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فضل ثلاثة قرون أم أربعة؟ ففي الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم"، قال عمران: فلا أدري أقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قرنه مرتين أو ثلاثا، "ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن". وبعض الروايات فيها شك من الراوي هل ذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرن الثالث أم لا، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم"، والله أعلم: أذكر الثالث أم لا؟ "ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا". وقد فهم بعض العلماء من قوله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "يشهدون قبل أن يستشهدوا" أن المراد به أداء الشهادة بالحق قبل أن يطلبها المشهود له، وحملوا ذلك على ما إذا كان عالما، جمعا بين هذا وبين قوله -صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير الشهداء: الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". لكن ابن تيمية بيّن أن الصحيح أن الذم في هذه الأحاديث لمن يشهد بالباطل جاء في بعض ألفاظ الحديث "ثم يفشوا الكذب، حتى يشهد الرجل ولا يستشهد"، وقال ابن تيمية: "الاعتبار في القرون الثلاثة بجمهور أهل القرن وهم وسطه، وجمهور الصحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلا نفر قليل، وجمهور التابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصحابة في إمارة ابن الزبير وعبد الملك، وجمهور تابعي التابعين انقرضوا في أواخر الدولة الأموية، وأوائل الدولة العباسية، وصار في ولاة الأمور كثير من الأعاجم, وخرج كثير من الأمر عن ولاية العرب، وعربت بعض الكتب الأعجمية من كتب الهند، والفرس، والروم، وظهر ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشوا الكذب، حتى يشهد الرجل ولا يستشهد، ويحلف ولا يستحلف"، وقال ابن تيمية أيضًا: "الأعصار الثلاثة المفضلة لم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة، كما خرج من سائر الأمصار، فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وخرج منها العلم والإيمان خمسة: الحرمان، والعراقان، "يعني الكوفة والبصرة" والشام، منها خرج القرآن والحديث، والفقه والعبادة، وما يتبع ذلك من أمور الإسلام، وخرج من هذه الأمصار بدع أصولية غير المدينة النبوية. مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20، ص295 وما بعدها، وج10، ص357، 358. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 من أدلة القائلين باشتراط العدالة: أولا: قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 1. وجه الدلالة: وجه الدلالة أن الله عز وجل أمر بالتبين عند قول الفاسق، ولا يصح أن يكون الحاكم ممن لا يقبل قوله, ويجب التبين عند حكمه، فليس من المقبول أن نبحث في كل حكم أصدره القاضي الفاسق لنتبين مدى الحق فيه. ثانيا: الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا -عند الجمهور- فلا يكون قاضيا من باب أولى. الرأي الراجح: نرى ترجيح الرأي القائل باشتراط العدالة في القاضي، فلا يولى القضاء غير العدل ما دام يوجد غيره ممن تتوفر فيه العدالة, وسائر الشروط الأخرى المشترطة في القاضي. وقياس القضاء على الشهادة في عدم اشتراط العدالة لا نسلمه؛ لأننا لا نسلم أن العدالة لا تشترط في الشاهد، بل هي مشترطة فيه، لقوله تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وقوله عز وجل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ، فقد أمر الله عز وجل بالتوقف عن نبأ الفاسق، والشهادة نبأ فيجب التوقف عنه. وأيضًا؛ فلأن الفاسق لم يمنعه دينه من ارتكاب محظورات الدين، فلا يؤمن أن يمنعه عن الكذب، فلا تحصل الثقة بخبره2. وأيضًا فاشتراط العدالة في صحة التصرفات التي تشترط فيها العدالة إنما هو لتحقيق المصلحة للناس، لحصول الضبط بها عن الخيانة، والكذب، والتقصير؛ لأن الفاسق لا يتحقق عنده الوازع الديني فلا يوثق به3. هذا وقد بيّن العلماء أنه إذا لم يوجد من تتوافر فيه شروط العدالة لكي نوليه القضاء أقيم أصلح الموجودين وأقلهم فجورا، وهو ما يتبع أيضًا في مجال الشهادة؛ لئلا تضيع مصالح الناس؛ ولأن التكليف بالأحكام الشرعية مشروط بالإمكان4، قال تبارك وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} 5.   1 سورة الحجرات، الآية رقم: 6. 2 المغني، ج9، ص165. 3 المغني، ج9، ص40. 4 فتح القدير ج7، ص252 ومواهب الجليل، للحطاب، ج6، ص90. 5 سورة البقرة، الآية: 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 الشرط السابع من شروط القاضي السمع: فلا يسمح أن يتولى الأصم الذي لا يسمع شيئًا منصب القضاء؛ وذلك لأنه لا يستطيع أن يفرق بين إقرار من شخص وإنكار. وأما الذي يسمع بالصياح فيرى بعض الشافعية صحة توليته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الشرط الثامن البصر: بيّن الحنفية أن كلا من القضاء والشهادة يستمد من أمر واحد هو شروط الشهادة من الإسلام والبلوغ والعقل والحرية، وكونه غير أعمى ولا محدودًا في قذف فلا يولى الأعمى القضاء، وقال الإمام الباجي: "وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقد بلغني ذلك عن مالك"1، واستدل على هذا بأنه لا يعرف المدعي   1 المنتقى، شرح موطأ مالك، للباجي، ج5، ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 من المدعى عليه، والمقر من المقر له، والشاهد من المشهود عليه، وقال بعض العلماء إن من يرى أشباح الأشخاص ولا يعرف الصور هو في معنى الأعمى، فلا يصح توليته، لكن إذا كان بحيث لو قربت منه عرفها صح توليته القضاء. ولو كان يبصر نهارا فقط جاز توليته، وأما الذي لا يبصر نهارا ويبصر ليلا فقط، فقال الأذرعي من فقهاء الشافعية: ينبغي منعه. ويرى بعض فقهاء الشافعية أنه يجوز أن يكون القاضي أعمى1، وعلل لهذا الرأي بأن شعيبا عليه الصلاة والسلام كان أعمى. ويجاب عن هذا بأن البصر مشروط في الشاهد فمنع فقده ولاية القضاء بالقياس على الشهادة؛ لأن منصب الشهادة دون منصب القضاء، والشاهد يشهد في بعض الأشياء اليسيرة التي يثبت الاحتياج إليه فيها، وربما أحاط بحقيقة علمها، والقاضي ولايته عامة، ويحكم في قضايا الناس عامة، فإذا لم تقبل الشهادة من الأعمى، فيكون القضاء أولى في عدم القبول. وما ذكره أصحاب الرأي القائل بجواز أن يكون القاضي أعمى عن شعيب لا نسلمه، فإنه لم يثبت أنه كان أعمى، بل حتى على فرض أنه كان كذلك فلا يلزم ههنا؛ لأن الناس الذين آمنوا مع شعيب عليه السلام كانوا قليلين، وربما لا يحتاجون إلى حكم بينهم، لقلة عددهم وتناصفهم، فلا يكون هذا حجة في مسألتنا2، وهذا كله على التسليم بأن شرع من قبلنا شرع لنا، لكن هذه مسألة اختلف حولها الأصوليون، فليست محل اتفاق، ويمكن أن يقال: إن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا إلا إذا قام دليل في شريعتنا يلزمنا به.   1 تكملة المجموع لمحمد نجيب المطيعي، ج9، ص117. 2 الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 الشرط التاسع النطق: فلا يصح تولية الأخرس، حتى لو كانت إشارته مفهومة؛ لأنه لا يفهم إشارته جميع الناس. هذا، ويرى الدردير أحد علماء المالكية المشهورين، وكذلك شمس الدسوقي من علمائهم أن السمع والبصر والكلام ليست شرطا في صحة ولاية القاضي ابتداء, ولا في صحة دوامها، بل هي واجب غير شرط في الابتداء والدوام، فيجب أن يكون القاضي سميعا، بصيرا، متكلما، فلا يجوز تولية القاضي ابتداء، ولا استمرار ولايته إلا إذا كان متصفا بهذه الصفات الثلاث. فالأصم، أو الأعمى، أو الأبكم لا يجوز توليته ابتداء، ولا يجوز استمراره في هذا المنصب، مع صحة ما وقع من أحكامه1.   1 الشرح الصغير للدردير، ج4، ص191، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الشرط العاشر الكفاية: ومعنى هذا الشرط أن يكون عنده القدرة على النهوض للقيام بأمر القضاء، بأن تتوفر عنده اليقظة التامة، والقوة التي تعينه على تنفيذ الحق. وعلى هذا فلا يصح تولية المغفل1، ومختل النظر، بسبب كبر السن، أو وجود مرض عنده2.   1 المغفل هو من لا يستعمل القوة المنبهة مع وجودها فيه، وأما البليد فهو خال منها بالمرة. حاشية الصاوي على الشرح الصغير، ج4، ص243. 2 الروض المربع، شرح زاد المستقنع، لمنصور بن يونس البهوتي، مع حاشيته ج3، ص385. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الشرط الحادي عشر الاجتهاد: يقصد بهذا الشرط تحقق الكفاءة العلمية الكاملة في القاضي، التي تؤهله لمعرفة الأحكام الشرعية في القضايا التي تعرض عليه، حتى نأمن أن لا يحكم بين الناس على جهل، وهذا الشرط أحد الشروط التي اختلف العلماء حولها على رأيين: الرأي الأول: اشتراط الاجتهاد في القاضي، وهذا ما يراه بعض المالكية والشافعي، وأحمد بن حنبل، وبعض الحنفية، ويراه الشيعة الإمامية1، والشيعة الزيدية2، فلا يتولى القضاء جاهل بالأحكام الشرعية، ولا مقلد، وهو من حفظ مذهب إمامه، لكنه غير عارف بغوامضه، وقاصرا عن تقرير أدلته، كالذي يتبع المذهب الفقهي للإمام أبي حنيفة, فهو يحفظ أن مذهب إمامه الذي ينتمي إليه يرى أن من حق المرأة البالغة -سواء كانت بكرا أم ثيبا- أن تتولى عقد الزواج لنفسها أو لغيرها بوكالة أو وصاية. ولكن هذا الشخص المنتمي للإمام أبي حنيفة في مذهبه الفقهي لا يعرف الدليل الشرعي الذي استند إليه في هذا الحكم الشرعي. وكذلك يتبع مذهب الإمام مالك فيحفظ أن الإمام مالك يرى أن لمس الرجل للمرأة الأجنبية لا ينقض الوضوء إلا إذا كان بشهوة، وإذا لم يكن اللمس بشهوة فلا ينقض الوضوء3، ولكن هذا الشخص لا يعرف الدليل الذي استند إليه   1 شرائع الإسلام للحلي، ج4، ص67. 2 البحر الزخار، ج6، ص119. 3 مواهب الجليل للحطاب، وبهامشه التاج والإكليل للمواق، ج1، ص296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الإمام مالك في هذا الحكم. وكالذي يتبع مذهب الإمام الشافعي فيحفظ أن هذا المذهب يرى أن خلوة الزوج بالمرأة التي عقد عليها قبل أن يدخل بها دخولا حقيقيا لا تأخذ حكم الدخول الحقيقي, فلا يجب لها كل المهر المسمى في العقد بل نصفه فقط إذا حصل الطلاق قبل الدخول الحقيقي1، ولكن هذا المنتمي لمذهب الإمام الشافعي لا يعرف الدليل الذي استند إليه الشافعي في هذا الرأي. وكالذي يتبع مذهب الإمام أحمد بن حنبل فيحفظ مما يحفظ في هذا المذهب أنه يجوز للقاضي أن يحكم بشاهد واحد ويمين المدعي2، لكن هذا الشخص لا يعرف دليل ذلك. وهكذا، فهؤلاء مقلدون يحفظون مذاهب أئمتهم, لكنهم لا يعرفون غوامضها ولا تتوفر عندهم القدرة العلمية على تقرير الأدلة التي تستدل بها هذه المذاهب الفقهية, وهؤلاء لا يجوز توليتهم القضاء عند من يشترطون في القاضي أن يكون مجتهدا. الرأي الثاني: لا يشترط الاجتهاد في القاضي، وبهذا الرأي قال أبو حنيفة، وبعض المالكية3، كابن العربي، فإنه يرى أن الاجتهاد ليس شرطا بل يشترط عنده   1 الحاوي للماوردي، ج13، مخطوط بدار الكتب المصرية. 2 صحيح مسلم، بشرح النووي، ج12، ص4. 3 يرى ابن عبد السلام وغيره من فقهاء المالكية أنه يصح تولية المقلد القضاء لكن بشرط أن يكون مجتهد مذهب، أو مجتهد فتوى. أسهل المدارك، ج3، ص197، ونظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 العلم، وأما الاجتهاد إذا وجد فلا يجوز العدول عن صاحبه قط1. ويرى بعض فقهاء الإباضية أن الاجتهاد ليس شرطا في القاضي فينعقد القضاء لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد مع وجود من بلغها بشرط أن يكون ذا علم ونباهة، وفهم بما يتولى أمره2. معنى الاجتهاد: معنى الاجتهاد كما عرفه الأصوليون: "بذل الفقيه وسعه في استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية". ومعنى بذل الوسع أن يحس من نفسه العجز عن المزيد على ما بذله3، والتقليد يضاد الاجتهاد، وقد عرف العلماء التقليد بعبارات مختلفة، عرفه بعضهم بأنه قبول رأي الغير بلا دليل ولا حجة، وعرف الجرجاني بأنه عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقدا الأحقية فيه من غير نظر وتأمل في الدليل، فقال الجرجاني: إن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه. وعرفه ابن السبكي بأنه أخذ القول من غير معرفة دليله4. وعرفه تقي الدين الحصني: بأنه قبول قول المستند إلى الاجتهاد، فلو قال   1 مواهب الجليل، ج6، ص89. 2 شرح كتاب النيل، وشفاء العليل، ج13، ص20. 3 حاشية الصاوي على الشرح الصغير، ج4، ص188، وأصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكي الدين شعبان، ص423. 4 ويرى بعض العلماء أن أخذ القول مع معرفة دليله يمكن أن يسمى تقييدا ويكون هذا واسطة بين التقليد والاجتهاد، وعلل هذا بأنه لا ينطبق عليه تعريف الاجتهاد ولا تعريف التقليد، انظر شرح كتاب النيل وشفاء العليل، لمحمد بن يوسف أطقيش، ج17، ص474، 475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 إنسان مثلا: رأيت القطب, فإن الأخذ به يكون قبول خبر لا تقليد؛ لأنه لم يكن هذا القول مستندا إلى الاجتهاد، بل يستند إلى الرؤية1. هذا ما يتصل بمعنى كل من الاجتهاد، والتقليد، ويرى البعض أن القياس والاجتهاد بمعنى واحد، قال الشيرازي في كتابه "اللمع" في أصول الفقه: ذهب بعض الناس إلى أن القياس هو الاجتهاد, والصحيح أن الاجتهاد أعم من القياس؛ لأن الاجتهاد بذل المجتهد وسعه في طلب الحكم، وذلك يدخل فيه حمل المطلق على المقيد، وترتيب العام على الخاص، وجميع الوجوه التي يطلب منها الحكم، وبعض ذلك ليس بقياس. وقال القاضي عبد الوهاب من المالكية في كتابه "الملخص" في أصول الفقه: ذهب بعض أهل الأصول إلى أن الاجتهاد هو القياس, وأنهما اسمان بمعنى واحد، وهذا غير صحيح؛ لأن الاجتهاد أعم من القياس ينظم القياس وغيره، ولذلك قالوا: هذا الحكم علمناه قياسا وهذا علمناه اجتهادا، وقال في مواضع أخرى: اعلم أن الاستدلال أعم من القياس؛ لأن كل قياس يتضمن الاستدلال وليس كل دليل قياسا، يبين ذلك أن الاستدلال يصح في الظواهر والاستنباط على غير وجه القياس2. ومن المعلوم أن هناك ثلاثة أنواع من الاجتهاد. أحدها: الاجتهاد المطلق، وهو أم تتوافر في الشخص القدرة على استنباط   1 التعريفات للجرجاني، ص37، 38 وكفاية الأخيار، لتقي الدين الحصني، ج1، ص97. 2 نقلا عن كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض, للسيوطي، ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الحكم في جميع أبواب الشرع، بأن كان يستطيع أن يفتي في العبادات، والمعاملات من بيع وإجارة، ورهن، وشفعة، وغيرها، ومسائل الأسرة والجنايات وما عدا هذا من أبواب الشرع. النوع الثاني: اجتهاد المذهب، وهو أن يكون متمكنا من معرفة الأحكام في الوقائع التي لم يرد فيها نص عن إمام مذهبه، بطريق التخريج على النصوص، أو القواعد المنقولة عن هذا الإمام، فاجتهاده لا يخرج عن دائرة إمام مذهبه1. النوع الثالث: اجتهاد الفتوى، وهو أن يكون متمكنا من ترجيح قول لإمام المذهب على قول آخر، أو الترجيح بين ما قاله الإمام وما قاله تلاميذه، أو غيره من الأئمة. فالمجتهد المطلق مثل علماء الصحابة وأئمة المذاهب الأربعة المشتهرة، أبي حنيفة، ومالك والشافعي، وأحمد بن حنبل -رضي الله عنهم- جميعا. ومجتهد المذهب كابن القاسم، وأشهب في المذهب المالكي، والكمال بن الهمام في المذهب الحنفي، والغزالي، والنووي في المذهب الشافعي، ومجتهد الفتوى ككبار المؤلفين من أهل المذاهب2.   1 لكل إمام من الأئمة المجتهدين أصول يسير عليها في الاستنباط، وتختلف هذه الأصول بين الأئمة في بعضها، فمثلا يرى أبو حنيفة أنه إذا خالف الراوي بفعله ما رواه، فإنه يجب الأخذ بفعله لا بما رواه، ويرى الشافعي وجوب الأخذ بما رواه، وتطبيق هذه القاعدة يتضح مما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب"، فهذا حديث رواه أبو هريرة لكن ثبت من فعل أبي هريرة أنه غسل أقل من السبع، فهل نأخذ بروايته أم نأخذ بفعله؟ أبو حنيفة يرى الأخذ بالفعل؛ لأن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول، والشافعي يرى الأخذ بالقول لاحتمال النسيان من أبي هريرة. 2 حاشية ابن عابدين، ج5، ص365. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فما هو نوع الاجتهاد المشترط في القاضي عند من يقول به من العلماء من هذه الأنواع الثلاثة؟ أغلب الذين يشترطون الاجتهاد في القاضي يريدون به الاجتهاد المطلق، وقد بين العلماء أنه لا بد من توفر عدة أمور علمية، عند الشخص حتى يصح أن يتحقق عنده الاجتهاد المطلق، وهذه الأمور هي -بعد تحقق عدة شروط بدهية، وهي شرط الإسلام والبلوغ، وشدة الفهم بالطبع- ما يأتي: أولا: لا بد أن يكون عارفا من القرآن والسنة ما يتعلق بالأحكام، ولا يشترط أن يكون حافظا للآيات الكريمة أو الأحاديث الشريفة عن ظهر قلب، بل يكفي أن يكون عارفا بمواضع أحكام القرآن والسنة، لكي يرجع إليها عند الاحتياج إليها، لكن يجب أن يعرف خاص القرآن وخاص السنة وعامها، ومطلقهما ومقيدهما، ومجملهما ومبينهما، ويعرف الناسخ والمنسوخ، والنص والظاهر، والمحكم1 ويعرف من الستة: المتواتر، والآحاد؛ لأنه لا يتمكن من الترجيح بين   1 المحكم: هو اللفظ الذي وضحت دلالته على الحكم، ولا يحتمل تأويلا، ولا تخصيصا، ولا نسخا. - مثل النصوص التي تدل على أحكام أساسية هي من قواعد الدين، كالإيمان بالله تعالى, وملائكته.. إلخ. - أو كان نصًّا دل على حكم شيء هو من أمهات الفضائل كالعدل، والوفاء بالوعد. - أو دل على حكم جزئي ورد التصريح بتأييده ودوامه، مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} . الظاهر: هو اللفظ الذي وضحت دلالته على معناه، بحيث لا يتوقف فهم المراد منه على قرينة خارجية، مع احتمال التأويل والتخصيص, ولم يكن الحكم المستفاد منه هو المقصود الأصلي من سوق الكلام، مثاله: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فكلمة {أَحَلَّ} تدل دلالة واضحة على حرمة الربا, لكن كلا منهما ليس مقصودا بالأصالة من سوق الكلام، وإنما المقصود الأصلي بيان الفرق بين البيع والربا= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الأدلة عند تعارضها -بحسب الظاهر- إلا بمعرفة ذلك ويعرف الحديث المتصل، والمرسل1، والمنقطع، والمعضل، وغير ذلك من أنواع الحديث الضعيف، ويعرف الصحيح، والحسن، وحال الرواة قوة وضعفا؛ لأنه يتوصل بذلك إلى تقرير الأحكام، فيقدم عند التعارض، في ظاهر النصوص، الخاص على العام، والمقيد على المطلق والمبين على المجمل، والنص على الظاهر، والمحكم على المتشابه، والناسخ والمتصل، والقوي على مقابلها. ثانيا: أن يكون عارفا بلسان العرب، لغة ونحوا، وصرفا وبلاغة، لأنه لا بد منها في فهم الكتاب والسنة. ثالثا: أن يعرف أقوال العلماء من الصحابة ومن بعدهم، إجماعا واختلافا، فلا يخالفهم في اجتهادهم إذا أجمعوا على حكم من الأحكام ولا يجب أن يعرف   = لأن الآية نزلت ترد على الذين قالوا بالتساوي بينهما فقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} . النص: هو اللفظ الذي وضحت دلالته على معناه مع احتمال التأويل، والتخصيص، وكان الحكم المستفاد منه هو المفصود الأصلي من سوق الكلام، مثل {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} في التفرقة بين حكم البيع وحكم الربا. 1 المرسل: ما سقط منه الصحابي، والمنقطع ما حذف من سنده راو واحد قبل الصحابي، ولو تعدد في المواضع، بحيث لا يزيد الساقط في الموضع الواحد على واحد، مثاله في حديث متصل الإسناد رواه أحمد: قال أحمد، قال الشافعي، قال مالك: قال نافع، قال ابن عمر: فإذا قال أحمد: قال الشافعي، قال مالك، قال ابن عمر: وحذف منه نافعا كان منقطعا في موضع واحد، وإذا قال أحمد: قال مالك، قال ابن عمر، وحذف الشافعي ونافعا كان منقطعا في موضعين. والحديث المعضل: ما حذف من سنده اثنان على التوالي في الموضع الواحد، سواء كان الحذف من أوله أو من وسطه، أو من آخره. مثاله في المثال السابق، إذا قال أحمد: قال الشافعي قال ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وحذف منه مالكًا ونافعا على التوالي كان معضلا في وسطه، وهكذا. انظر الشهاوي: في مصطلح الحديث للدكتور إبراهيم دسوقي الشهاوي، ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أقوالهم في كل مسألة، بل في المسألة التي يريد أن يعرف حكمها، ويكفي أن يعرف أن المسألة التي يفتي أو يحكم فيها أن قوله لا يصادم الإجماع في هذه المسألة، إما بكونه يعلم أن قوله يوافق بعض العلماء السابقين، أو أنه يغلب على ظنه أن هذه المسألة من المسائل التي لم يتكلم فيها السابقون بل هي إحدى المسائل التي تولدت في عصره. رابعًا: أن يكون عارفا بالقياس، وشروطه وأنواعه، فيعرف القياس الجلي، وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق بين المقيس والمقيس عليه، أو بعبارة أخرى هو ما كانت علة الفرع أقوى منها في الأصل، كقياس الضرب لأحد الوالدين على التأفيف المحرم بقوله سبحانه وتعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ، ويعرف القياس المساوي، وهو ما يبعد فيه الفارق، أو هو ما كان العلة التي بنى عليها الحكم في الأصل موجودة بقدر ما هي متحققة في الأصل، وذلك كقياس إحراق مال اليتيم على أكله، الذي حرمه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ، وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} ، ويعرف القياس الأدنى، وهو ما لا يبعد فيه انتفاء الفارق، أو بعبارة أخرى هو ما كانت العلة في الفرع أضعف وأقل وضوحا مما في الأصل، مع تساوي الاثنين في تحقيق أصل المعنى الذي صار به الوصف علة، مثل قياس التفاح على القمح، في كونه من الأشياء الربوية -عند الشافعية- التي لا يجوز بيع شيء منها بجنسه بزيادة، والعلة المشتركة هنا بين القمح الذي ثبت حكمه من الحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 الشريف، وبين التفاح أن كلا منهما مطعوم1. ويجب كذلك أن يعرف طرق استخراج العلل، والاستنباط، وقد بيّن العلماء أنه لا يشترط أن يحصل على النهاية في كل الأمور التي اشترطت في المجتهد المطلق، بل يكفي الدرجة الوسطى في كل ذلك. واجتماع ذلك كله إنما هو الشرط في المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه2. ويبين القاضي عياض طريقة العمل بالأدلة الشرعية، فيقول: "إن ترتيب   1 قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء"، رواه البخاري ومسلم، وزاد مسلم وأحمد أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد". وقد اختلف العلماء في العلة في الربا في هذه الأصناف الستة، حتى يقاس عليها ما عداها، فيري ابن حزم الظاهري، وابن عقيل من علماء الحنابلة أنه لا يقاس على هذه الستة شيء آخر، أي: إن ربا التفاضل لا يحرم إلا في هذه الأصناف الستة المذكورة في الحديث، أما ابن حزم فلأن مذهبه لا يأخذ بالقياس، وأما ابن عقيل فلأنه لم يجد علة في الأصناف الستة ليعمل بالقياس، ويرى الحنفية أن العلة هي الكيل والوزن مع اتحاد الصنف، وهذا أيضا ما يراه الشيعة، وهو ظاهر مذهب أحمد، ويرى الشافعية أن ربا التفاضل يحرم في النقدين "الذهب والفضة"، وكل طعام بطعام إذا اتحد الصنف وهذا أيضًا رواية عن أحمد، ويرى المالكية أن ربا التفاضل يحرم في الصنف الواحد من النقدين أو من القوت وما يصلحه عادة. 2 نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص239، 240، وبين العلماء أن من لا تتوافر فيه صفة الاجتهاد لا يفتي الناس برأيه، وإنما يخبر عن فتوى المجتهدين، قال الإمام الباجي في مجال الاستدلال لشرط الاجتهاد في القاضي، بعد أن ذكر قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ، قال الباجي: "ومن ليس من أهل الاجتهاد فإنه لا يرى شيئًا، وبذلك قال الفقهاء المتقدمون إنه لا يفتي من لا يعرف ذلك إلا أن يخبر بما سمع، فلم يجعل ذلك من باب الفتوى، وإنما هو إخبار عن فتوى صاحب المقالة، عند الضرورة، لعدم المجتهد الذي تجوز له الفتوى" المنتقى شرح موطأ مالك للباجي، ج5، ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الاجتهاد على ما يوجبه العقل، ويشهد له الشرع، تقديم كتاب الله عز وجل على ترتيب أدلته في الوضوح، من تقديم نصوصه، ثم ظواهره ثم مفهوماته، ثم كذلك السنة على ترتيب متواترها، ومشهورها، وآحادها، ثم ترتيب نصوصها، وظواهرها، ومفهوماتها، ثم الإجماع عند عدم الكتاب ومتواتر السنة، وعند عدم هذه الأصول كلها القياس عليها والاستنباط منها، إذ كتاب الله مقطوع به، فوجب تقديم ذلك كله، ثم الظواهر، ثم المفهوم، لدخول الاحتمال في معناها، ثم أخبار الآحاد عند عدم الكتاب والمتواتر منها، وهي مقدمة على القياس، لإجماع الصحابة وتركهم نظر أنفسهم متى بلغهم خبر الثقة، وامتثالهم مقتضاه دون خلاف منهم في ذلك، ثم القياس أحرى عند عدم الأصول على ما مضى عليه عمل الصحابة ومن بعدهم من السلف المرضيين -رضي الله عنهم" ا. هـ1. سؤال: وهنا يمكن أن يسأل القارئ: هذه الشروط التي بينتموها لا تتحقق جميعها في شخص واحد، فكيف يجوز اشتراطها؟ هذا السؤال أثاره ابن قدامة الفقيه الحنبلي المشهور، وأجاب عنه بما يفيد أنه ليس من شرط المجتهد أن يكون محيطا بكل هذه العلوم إحاطة بجمع أقصاها، أو متبحرا فيها، حتى يكون في النحو كسيبويه، وفي اللغة كالخليل، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة، ولسان العرب، لا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا، فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب في حال خلافتهما، يسألهما بعض الناس عن الحكم في بعض المسائل، فلا يعرفان ما فيه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فيسألان الناس، فيخبرهما من يعلم بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.   1 الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، لمحمد بن الحسن الحجوي، ج1، ص384. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فقد سئل أبو بكر عن الميراث الذي تستحقه الجدة؟ فقال لها: مالك في كتاب الله شيء، ولا أعلم لك في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس، ثم قام، فقال: أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجدة، فقام المغيرة بن شعبة فقال: أشهد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها السدس. وثبت أن عمر -رضي الله عنه- استشار الناس في إملاص المرأة "أي: إسقاط جنينها بجناية عليها"، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى فيه بغرة1: عبد أو أمة، فقال لتأتين بمن يشهد معك، فشهد له محمد بن مسلمة. ومعنى هذا أنه لا مانع من أن يتوقف المجتهد في بعض المسائل. وصرح العلماء بأنه لا يشترط في المجتهد أن يعرف المسائل التي فرعها المحتهدون في كتبهم؛ لأن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد أن حازوا رتبة الاجتهاد، فلا تكون شرطا له. وصرح ابن قدامة بأنه ليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل، بل من عرف أدلة مسألة وما يتعلق بها تثبت له صفة الاجتهاد وإن كان جاهلا بغيرها، وذلك كما إذا كان يعرف الفرائض وأصولها فليس من شرط   1 سمى العبد والأمة غرة؛ لأنهما من أنفس الأموال، فالغرة عند العرب أنفس شيء يملك, وقد أجمع الفقهاء على تقدير الغرة بخمس من الإبل. وتجب الغرة في الجنين الذكر، وفي الجنين الأنثى، ولا فرق في قيمة الواجب لكل منهما، والفقهاء يقدرون دية الجنين الذكر بنصف عشر الدية الكاملة، ولما كانت دية الرجل الكاملة هي مائة من الإبل فإن نصف عشرها يكون خمسا من الإبل، ويقدر الفقهاء دية الجنين الأنثى بعشر دية الأم، ولما كانت دية المرأة خمسين من الإبل؛ لأنها نصف دية الرجل، فيكون عشرها خمسا من الإبل. التشريع الجنائي الإسلامي للأستاذ عبد القادر عودة، ج2، ص299، دار التراث بالقاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 اجتهاده فيها أن يكون عارفا بالبيوع، أو الحدود، أو غيرهما من مجالات الفقه الإسلامي. وقد ثبت أنه ما من إمام من الأئمة المجتهدين إلا وتوقف في بعض المسائل، وقال بعض العلماء: من يجيب في كل مسألة فهو مجنون، وإذا ترك العالم كلمة "لا أدري" أصيبت مقاتله. وحكى أن الإمام مالكا رضي الله عنه، وهو أحد الأئمة الأربعة المشتهرين سئل عن أربعين مسألة، فقال في ست وثلاثين منها: لا أدري، ولم يخرج بذلك عن كونه أحد المجتهدين الكبار. وإنما المعتبر أصول هذه الأمور, وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك، ورزق فهمه كان مجتهدا له الفتيا، وولاية القضاء1. وبين العلماء أن الاجتهاد المطلق أصبح سهلا بعد أن دونت العلوم، قال ابن الصباغ: "إن هذا سهل في هذا الزمان "يقصد زمانه" فإن العلوم دونت وجمعت". وما صرح به ابن قدامة يصح أن يسمى بتجزؤ الاجتهاد، ومعنى تجزؤ الاجتهاد أن تكون عنده القدرة على الاجتهاد في فن من فنون الفقه دون الفن الآخر منه2 كما لو كانت عنده قدرة الاجتهاد في فقه الأسرة فقط، أو فقه العبادات فقط، أو فقه المعاملات وهكذا. وبعض فقهاء الشافعية أيضا صرح بجواز تجزؤ الاجتهاد، قال محمد   1 المغني ج9، ص42، وإرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، للقسطلاني، ج10، ص234، دار الفكر. والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، لمحمد بن أحمد الشربيني الخطيب، ج5، ص81. مطابع الشعب. 2 كتاب النيل وشفاء العليل، لضياء الدين عبد العزيز الثميني مع شرحه لمحمد بن يوسف أطفيش، ج17، ص475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 الشربيني الخطيب "ويجوز تبعيض الاجتهاد بأن يكون العالم مجتهدا في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي يجتهد فيه"1. والواقع أن العلماء مختلفون في هذه القضية، ففريق من العلماء يرى أن الاجتهاد يتبعض أي: يتجزأ، وعزاه الصفي الهندي2 إلى الأكثرين من علماء الأمة، قال الشوكاني3: "قال ابن دقيق العيد وهو المختار؛ لأنه قد يمكن العناية بباب من الأبواب الفقهية حتى تحصل المعرفة بمآخذ أحكامه، وإذا حصلت المعرفة بالمآخذ أمكن الاجتهاد" ا. هـ. ومن أدلة هذا الرأي أنه لو لم يكن من المآثر تجزؤ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالما بجميع المسائل، واللازم منتف؛ لأن الواقع يبين أن كثيرا من علماء الأمة المجتهدين سئلوا في مسائل فلم يجيبوا بالحكم فيها، وكثيرا منهم سئل في مسائل فأجاب عن بعضها فقط، ولم يجب عن البعض الآخر، ولم يغير هذا من وصفهم ومكانتهم بأنهم مجتهدون بلا خلاف. وفريق آخر يرى أن الاجتهاد لا يتجزأ، ويستندون إلى أن من لا يستطيع الاجتهاد في بعض المسائل لا يستطيع الاجتهاد في البعض الآخر؛ لأن أكثر علوم الاجتهاد يتعلق بعضها ببعض, وكلها متناظمة متسقة بعضها مع البعض الآخر, وخاصة ما كان من علوم الاجتهاد مرجعه إلى ثبوت ملكة الاستنباط للأحكام   1 الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، ج2، ص298. 2 الصفي الهندي هو محمد بن عبد الرحيم صفي الدين الهندي، توفي سنة 715هـ، فقيه شافعي، ولد بالهند، وقدم اليمن، ثم انتقل إلى مكة، فالقاهرة، فالبلاد الرومية فدمشق، من مؤلفاته النهاية في أصول الفقه، انظر ما كتبه محققو كتاب "السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار" للشوكاني، ج1، ص24، "هامش" بتحقيق محمود النواوي وآخرين من مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بمصر، سنة 1993. 3 السيل الجرار، للشوكاني، ج1، ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الشرعية، فإن هذه الملكة إذا تمت حصلت القدرة للشخص على الاجتهاد في جميع المسائل، وإن نقصت هذه الملكة فإن الشخص لا يقتدر على الاجتهاد في أي مسألة، ولا تتحقق له الثقة في نفسه لتقصيره، ولا تتحقق ثقة الناس فيه لذلك. ويظهر من كلام الشوكاني في هذه القضية أنه يرى عدم تجزؤ الاجتهاد، وقد حكى هذين الرأيين اللذين ذكرناهما، وما يستند إليه كلاهما، ثم بين أنه إذا ادعى البعض أنه قد اجتهد في مسألة دون مسألة فهذه الدعوى يتبين بطلانها بأن يبحث معه من هو مجتهد اجتهادا مطلقا فإن هذا المجتهد المطلق سيورد على من يدعي الاجتهاد في مسألة دون مسألة من المسالك والمآخذ ما لا يستطيع تعقله1. ونرى الأخذ بالرأي القائل بجواز تجزؤ الاجتهاد؛ لأن المطلوب شرعا أن يكون الشخص ملما بكل ما يتصل بالمسألة التي يبحثها من أدلة شرعية، وهذا من الممكن ومتيسر لكثير من العلماء السابقين ومتيسر أيضا لبعض المعاصرين. والسؤال الذي يمكن أن يثار هنا هو ما هي مكانة علماء الفقه الإسلامي المعاصرين, وما هو موقعهم بالنسبة إلى أنواع الاجتهاد الثلاثة، هل فيهم من يصح أن يكون مجتهدا اجتهادا مطلقا، أو مجتهدا اجتهاد مذهب، أو اجتهاد فتوي؟ إذا قلنا بصحة القول بأنه يمكن تجزئة الاجتهاد كما بين العلامة ابن قدامة وغيره, بمعنى أنه يصح أن يكون الشخص مجتهدا في مسألة من المسائل الفقهية، كالطلاق الثلاث في كلمة واحدة، أو قضاء المرأة، أو باب من أبواب الفقه كالعبادات أو المعاملات، أو فقه الأسرة، أو غير ذلك، وليس بلازم أن يكون عالما بغير ذلك من المسائل أو الأبواب الأخرى في الفقه. إذا قلنا بهذا الرأي -وهو   1 السيل الجرار، ج1، ص24، 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 صحيح- فإنه يمكن أن تنطبق صفة الاجتهاد الجزئي على العديد من علماء الفقه الإسلامي المعاصرين, وإن كانوا قلة بالنسبة إلى باقي العلماء. وكذلك يمكن أن يكون بين الفقهاء المعاصرين من هو مجتهد اجتهاد مذهب، ومن هو مجتهد اجتهاد فتوي. لكن الاجتهاد المطلق غير المجزأ، وهو الذي يكون العالم عنده الملكة العلمية التي تؤهله لأن يستنبط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية في كل أبواب الشرع، وليس متخصصا في مسألة معينة، أو باب معين من أبواب الفقه كعلماء الصحابة، وأئمة المذاهب الفقهية الأربعة المشتهرة، فلا أعلم أن أحدا من علماء الفقه الإسلامي المعاصرين في مصر وغيرها من البلاد العربية أو الإسلامية أو غيرها يصح أن تنطبق عليه هذه الصفة. والكثيرون من علماء الأمة الإسلامية الآن ليسوا مجتهدين، لا اجتهادا مطلقا ولا اجتهاد مذهب، ولا اجتهاد فتوي، وإنما الصفة العلمية التي يصح أن يتصفوا بها هي أنهم علماء مخبرون عن فتوى، أو نقلة فتوى؛ لأنهم ينقلون فتاوي المجتهدين السابقين في شتى الموضوعات، ولم يتدخلوا باجتهاد في استنباط الحكم الشرعي، فهم فقط يحكون الفتوى عن غيرهم من الأئمة المجتهدين، وليس لهم حق الفتوى؛ لأن الفتوى حق المجتهد بأنواعه الثلاثة، قال الفقهاء المتقدمون: إنه لا يفتي من ليس من أهل الاجتهاد إلا أن يخبر بما سمع، فلم يجعل ذلك من باب الفتوى، وإنما هو إخبار عن فتوى صاحب المقالة عند الضرورة لعدم المجتهد الذي تجوز له الفتوى1. وسئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن فتوى المقلد فأجاب بأنه حامل فقه   1 المنتقى شرح موطأ مالك، للباجي، ج5، ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ليس بمفت ولا فقيه، بل هو كمن ينقل فتوى عن إمام من الأئمة، لا يشترط فيه إلا العدالة وفهم ما ينقله "كتاب الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض للسيوطي، ص23". إذا لم يوجد مجتهد: الذين يشترطون الاجتهاد في القاضي صرحوا بأنه لم يوجد المجتهد، فإنه يجوز تولية المقلد للضرورة، حتى لا تتعطل مصالح الناس، والمقلد هو من حفظ مذهب إمامه، لكنه غير عارف بغوامضه، وقاصر عن تقرير أدلته، كما سبق بيانه. ويسمون المقلد الذي تولى القضاء لعدم وجود المجتهد: قاضي الضرورة، وقال البعض من العلماء إنه يلزم قاضي الضرورة أن يبين مستنده إذا سئل عنه في كل الأحكام التي يصدرها، ولا يقبل قوله: حكمت بكذا من غير أن يبين مستنده في هذا الحكم، ولعل هذا من العلماء إنما كان لضعف ولايته. والمراد بمستنده في الحكم ما استند إليه من بينة، أو نكول عن اليمين أو نحو ذلك1. وبين بعض العلماء من القائلين باشتراط الاجتهاد أنه إذا لم يوجد المجتهد المطلق يولى أفضل المقلدين، وهو مجتهد الفتوى ومجتهد المذهب. هكذا يرى بعض العلماء، ويرى بعض آخر أنه لا يشترط الأفضل، بل يصح تولية من هو دون الأفضل مع وجوده ما دام عالما.   1 نهاية المحتاج، ج8، ص240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 بل صرح بعضهم بأنه يصح تولية غير العالم حيث شاور العلماء1. هذا، وإذا كان القاضي غير مجتهد فالواجب عليه أن يشاور العلماء، فإذا كانت آراؤهم مختلفة في هذه المسألة التي يستشيرهم فيها قضى بقول أعلمهم, وقيل يلزمه أن يقضي بقول أكثرهم، ويرى ابن فرحون أن الرأي القائل بأنه يقضي بقول أعلم العلماء هو الأصح، وقيل: إن للقاضي أن يحكم بقول من شاء من العلماء إذا رأى الصواب بذلك، ولم يقصد الهوى. وللقاضي غير المجتهد الاكتفاء بمشورة واحد من العلماء، فإن فعل ذلك فالأفضل أن يشاور أعلمهم2. دليل القائلين باشتراط الاجتهاد: استدل القائلون باشتراط الاجتهاد بما يأتي: أولا: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} . وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة أن الله تبارك وتعالى أعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا بين للناس ما أنزل إليهم يتفكروا ويعتبروا، فإذا لم يكن عندهم تبيين النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أنزله الله تبارك وتعالى من القرآن الكريم لم يحدث لهم التفكر في أحكامه. ثانيا: قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} .   1 حاشية الدسوقي، ج4، ص129. 2 تبصرة الحكام، لابن فرحون، بهامش فتح العلي المالك، ج1، ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وجه الاستدلال بهذا النص الكريم أن من لم تتوفر فيه صفة الاجتهاد فإنه لا يرى شيئًا1. ثالثا: ما رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا حكم الحاكم 2 ثم أصاب فله أجران، فإذا حكم واجتهد ثم أخطأ3 فله أجر" 4. أدلة القائلين بعدم اشتراط الاجتهاد: يستدل لهذا الرأي بما يأتي: أولا: أن الغرض من القاضي أن يفصل في الخصومات، وأن يوصل الحقوق إلى من يستحقها، فإذا أمكنه ذلك بعلم غيره، بأن يرجع إلى فتوى غيره من العلماء جاز قضاؤه5، كما يحكم بقول المقومين في الأمور التي تحتاج إلى تقويم الخبراء6، فإن من المسلم به أن القاضي يستعين في القضايا التي تحتاج إلى رأي الخبراء والمختصين برأي هؤلاء، ويحكم بناء على ما أبدوه من رأي, ومثل هذا حكمه في القضايا مستيقنا بعلم غيره من العلماء المجتهدين، فكما جاز له أن يحكم   1 المنتقى شرح موطأ مالك، ج5، ص183، وسبل السلام، ج1، ص117. 2 أي: إذا أراد أن يحكم بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك: "فاجتهد" فإن الاجتهاد إنما يكون قبل الحكم، وهذا مثل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ، وهي آية الوضوء ومعناها إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم. الآية. 3 أي: لم يوافق ما هو عند الله تعالى من الحكم. 4 سبل السلام، ج4، ص117 والمنتقى شرح موطأ مالك ج5، ص183. 5 بدائع الصنائع، ج7، ص3. 6 المغني، ج9، ص41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 بالرجوع إلى رأي الخبراء جاز له أن يحكم بعد الرجوع إلى علم غيره من المجتهدين. مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا الدليل بأن الغرض من نصب القاضي, وتقليده ليس القضاء على أي وجه كان، وإنما القضاء على وجه الكمال، وهذا لا يتحقق إلا إذا توفرت في القاضي صفة الاجتهاد1. ثانيا: ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: أنفذني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن وأنا حديث السن فقلت: تنفذني إلى قوم يكون بينهم أحداث ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: "إن الله تعالى سيهدي لسانك، ويثبت قلبك"، فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك. فهذا يدل على أن الاجتهاد ليس شرطا في جواز تولية القاضي؛ لأن عليا حينئذ لم يكن من أهل الاجتهاد2، بدليل أن عليا نفسه صرح بما يفيد أنه ليس مجتهدا وهو قوله: "ولا علم لي بالقضاء", وما دام علي ليس له علم بالقضاء فلا يكون مجتهدا؛ لأنه ليس من المتصور أن يكون الإنسان مجتهدا ولا يعلم القضاء، فهذا يفيد أن الاجتهاد ليس شرطا في القاضي. مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا الدليل بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا لعلي بأن يثبت الله قلبه، ويهدي لسانه، فإن كان بدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رزقه الله أهلية الاجتهاد فلا إشكال، وإلا فقد حصل له المقصود من الاجتهاد وهو العلم والسداد،   1 فتح القدير، ج7، ص244. 2 حاشية سعدي جلبي مع شرح فتح القدير، لابن الهمام، ج7، ص257، 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 فعلي -رضي الله عنه- كان يحكم وقد تحققت فيه الصفة العلمية التي تؤهله لذلك، وهذا لا يثبت في غير علي -رضي الله تعالى عنه1. هذا، وقد صرح القائلون باشتراط الاجتهاد في القاضي بأنه إذا فقد شرط الاجتهاد فولى رئيس الدولة مقلدا منصب القضاء، فإن أحكام هذا القاضي تنفذ للضرورة لئلا تتعطل مصالح الناس. وهذا أيضًا فيما لو ولى رئيس الدولة أي شخص آخر، غير أهل لمنصب القاضي، كالفاسق، والصبي، والمرأة، فإن قضاءهم ينفذ للضرورة2. وأرى ونحن في مجال الكلام عن الاجتهاد أن أنقل عبارة للصنعاني يوضح فيها أن الاجتهاد أمر غير متعذر، وكان كلام الصنعاني في سياق الرد على من يقول بأن الاجتهاد يكاد أن يكون معدوما بالكلية، وإذا كان الاجتهاد متعذرا فمن شرط القاضي أن يكون مقلدا مجتهدا في مذهب إمامه، ومن شرطه أن يتحقق أصول إمامه، وأدلته، وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا من مذهب إمامه. هذا ما قاله بعض العلماء ولم يرتض الصنعاني هذا الكلام ورد عليه بقوة قائلا: "ولا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان وإن تطابق عليه الأعيان، وقد بينا بطلان دعوى تعذر الاجتهاد في رسالتنا المسماة بإرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد3 بما لا يمكن دفعه، وما أرى هذه الدعوى التي تطابقت عليها الأنظار إلا من كفران   1 فتح القدير، ج7، ص256. 2 تكملة المجموع، لمحمد نجيب المطيعي، ج19، ص117. 3 جمعت ضمن الرسائل المنبرية كما هو مبين بهامش سبل السلام، ج4، ص118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 نعمة الله عليهم، فإنهم -أعني المدعين لهذه الدعوى والمقررين لها- مجتهدون يعرف أحدهم من الأدلة ما يمكنه بها الاستنباط مما لم يكن قد عرفه عتاب بن أسيد قاضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في اليمن، ولا معاذ بن جبل قاضيه فيها وعامله عليها، ولا شريح قاضي عمر وعلي -رضي الله عنه- على الكوفة". ثم يقول الصنعاني: "فهلا جعل هذا المقلد إمامه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عوضا عن إمامه، وتتبع نصوص الكتاب والسنة عوضا عن تتبع نصوص إمامه، والعبارات كلها ألفاظ دالة على معان، فهلا استبدل بألفاظ إمامه ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها ونزل الأحكام عليها, إذا لم يجد نصا شرعيا عوضا عن تنزيلها على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصا؟ تالله لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، من معرفة الكتاب والسنة إلى معرفة كلام الشيوخ والأصحاب وتفهم مرامهم، والتفتيش عن كلامهم، ومن المعلوم يقينا أن كلام الله تعالى وكلام رسوله الله -صلى الله عليه وسلم- أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة المرام، فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه والأسماع، وأقربه إلى الفهم والانتفاع، ولا ينكر هذا إلا جلمود الطباع، ومن لا حظ له في النفع والانتفاع، والأفهام التي فهم بها الصحابة الكلام الإلهي والخطاب النبوي هي كأفهامنا، وأحلامهم كأحلامنا، إذ لو كانت الأفهام متفاوته تفاوتا يسقط معه فهم العبارات الإلهية والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين، ولا مأمورين، ولا منهيين، لا اجتهادا ولا تقليدا. أما الأول فلاستحالته؛ وأما الثاني فلأنا لا نقلد حتى نعلم أنه يجوز لنا التقليد، ولا نعلم ذلك إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنة على جوازه، لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز التقليد، فهذا الفهم الذي فهمنا به هذا الدليل نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل، على أنه قد شهد المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بأنه يأتي من بعده من هو أفقه1 ممن في عصره وأوعى لكلامه، حيث قال: "فرب مبلغ أفقه من سامع" وفي لفظ "أوعى له من سامع". انتهى هذا الكلام الجيد للصنعاني، ولا يخفى على القارئ أن الصنعاني يقصد الحث على الاجتهاد لمن عندهم القدرة العلمية التي تؤهلهم لفهم نصوص الكتاب والسنة، حسب القواعد الواجب مراعاتها في استنباط الأحكام، ولا يظن أن الصنعاني قصد أن من حق كل أحد أن يجتهد في استنباط الأحكام، ولو لم يكن مؤهلا التأهيل العلمي لذلك. وبعد، فمن الأفضل في العصر الذي نعيش فيه أن يوجد تقنين شرعي موحد، لعدم توفر شرط الاجتهاد في القضاء الآن؛ ولأن النظم المعاصرة تلزم القاضي أن يحكم بالنصوص القانونية، ولا يحق له أن يخرج عنها.   1 سبل السلام، ج4، ص148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 الشرط الثاني عشر: عند بعض العلماء . ألا يكون دفع رشوة لتوليه القضاء: اشترط المالكية لصحة تولية القاضي الذي لا يتعين عليه القضاء: ألا يكون قد دفع رشوة ليحصل على هذا المنصب، فإن كان ممن لا يجب عليه تولي القضاء ودفع رشوة لكي يحصل على هذا المنصب فلا تنعقد عندهم ولايته، وقضاؤه مردود، حتى لو وافق الحق، وتوفرت فيه شروط القضاء، هكذا صرح علماء المالكية1 وأما إذا كان يجب عليه تولي القضاء، فقد اختلف المالكية فيه، هل يجوز له أن يبذل مالا ليتقلد منصب القضاء أم لا، على رأيين في الفقه المالكي: أحدهما الجواز؛ لأنه إنما بذلك المال ليحصل على أمر واجب، والآخر بعدم جواز ذلك. وكذلك يرى الشافعية أنه إذا تعين للقضاء واحد لا يصلح له غيره لزمه طلبه. حتى لو توصل إلى ذلك بدفع مال فاضل عن قوته، وقوت من تلزمه نفقته؛ لأن القضاء يترتب عليه مصلحة عامة للمسلمين، فوجب بذلك المال للقيام بهذه المصلحة2 ومال بعض الشافعية إلى أنه يجب عليه طلب القضاء, وإن كان يظن عدم إجابته طلبه، أخذا من قول العلماء: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عدم الامتثال له.   1البهجة، شرح التحفة، ج1، ص19، والشرح الصغير لأحمد الدردير، ج4، ص191. 2نهاية المحتاج، وحواشيه، ج8، ص236. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الشرط الثالث عشر: عند بعض العلماء أن لا يكون ميا لا يكتب: يرى بعض العلماء أنه يشترط في القاضي أن يكون كاتبا. وهذا أحد الشروط المختلف فيها، فيرى بعض العلماء اشتراطه، فلا يصح أن يولى القضاء الأمي الذي لا يكتب وإن كان عالما عدلا، ويرى البعض الآخر أنه يصح أن يكون القاضي أميا لا يكتب. دليل الرأي المجوز: أما الرأي القائل بجواز أن يكون القاضي أميا، فقد علل ذلك بأنه مع كونه أميا فهو من أهل الاجتهاد والعدالة، وفقد الكتابة لا يؤثر فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وأيضًا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يكتب، وهو إمام الأئمة، وحاكم الحكام. دليل الرأي المانع: وأما الرأي القائل بعدم صحة تولية الأمي القضاء، فقد علل ذلك بأنه يحتاج إلى أن تقرأ عليه المحاضر والسجلات، ويقف على ما يكتب كاتبه، فإذا لم يكن كاتبا فربما غير عليه القارئ أو الكاتب. وقد أجاب أصحاب هذا الرأي على قياس القاضي على النبي -صلى الله عليه وسلم، بأن القياس لا يصح، لوجود الفارق بينهما، فإن عدم كون النبي -صلى الله عليه وسلم- كاتبا من معجزاته -صلى الله عليه وسلم، لكي يثبت أن القرآن العظيم الذي تحدى به الإنس والجن هو من عند الله تبارك وتعالى، وهو -صلى الله عليه وسلم- معصوم ولا يتحقق لغيره هذه الصفة. وأيضًا فإن أصحابه -رضي الله تعالى عنهم- كانوا يتصفون بالعدالة والخيانة منهم مأمونة في الكتابة له، بل حتى لو فرضنا أنه كان يمكن لأحدهم أن يخون, فإن الله تبارك وتعالى يعلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك1. هل يشترط أن يكون القاضي واحدا؟ صرح بعض العلماء بأنه يجب أن يكون القاضي واحدا، بمعنى أن لا يتولى القضاء قاضيان فأكثر على وجه الاشتراك، بحيث لا يكون من حق أحدهما أن ينفرد بالنظر في قضية ولا قبول بينة، ولا أن ينفرد بإنفاذ حكم، وعبر أحد العلماء عن هذا الحكم بقوله: لا يجوز أن يكون الحاكم نصف حاكم.   1 المنتقى شرح موطأ مالك، للباجي، ج5، ص184، وتكملة المجموع للمطيعي، ج19، ص117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فعلى هذا لا يجتمع اثنان بحيث يكونان جميعا حاكما في قضية واحدة، وأما أن يتعدد القضاة في البلد الواحد بحيث ينفرد كل واحد منهم بالنظر في القضايا التي ترفع إليه، فذلك أمر جائز لا شيء فيه. وقد استدل لهذا بأن المذاهب الفقهية مختلفة، والأغراض متباينة، ولا يصح أن يتفق رجلان في كل شيء حتى لا يرى أحدهما خلاف ما يراه الآخر، وإذا أشرك بين القاضيين فإن ذلك يكون داعيا إلى أن يختلفا في القضية التي ينظرانها، ويوقف نفوذهما كتعدد رئيس الدولة في القطر الواحد. وبين أصحاب هذا الرأي أنه لا يعترض على هذا الرأي بتعدد الحكم عند حدوث الشقاق بين الزوجين1، وبتعدد الحكم في جزاء قتل الصيد في الحرم؛ لأن الحكمين في الشقاق الحادث بين الزوجين, أو الحكمين في تقدير جزاء قتل الصيد في الحرم, إنما يحكمان في قضية واحدة وليس لهما ولاية القضاء، فإن اتفق حكمهما نفذ حكمهما وإن اختلفا لم ينفذ حكمهما, وأسند الحكم إلى غيرهما فلا يحدث من ذلك أي ضرر، وهذا يتنافى مع الولاية والقضاء ولاية؛ لأن من تولى القضاء لا يمكن الاستبدال به عند الخلاف في الرأي؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن تتوقف الأحكام ويمتنع تنفيذها2. ونرى أنه لا مانع من تعدد القاضي في نظر قضية واحدة، ولربما كان التعدد أدعى إلى الحيطة في الحكم، وعند الاختلاف يرجح الحكم الذي قال به الأكثر, ويحتاط في ذلك بأن يكون عدد القضاة عددا وتريا، بأن يكونوا ثلاثة، أو خمسة مثلا، والقوانين الوضعية راعت هذا الاحتياط في تشكيل المحكمة المختصة بنظر -   1 عند حدوث الشقاق بين الزوجين أوصى الشرع بتدخل حكمين ليصلحا بين الزوجين, أحدهما من أهل الزوج والثاني من أهل الزوجة، في قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} . 2 المنتقى شرح الموطأ، ج5، ص182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 الدعوى، فمع أن القانون ينص على أن تشكل المحكمة الجزئية من قاض واحد من قضاة المحكمة الابتدائية التابعة لها المحكمة الجزئية، فإنه نص على أن تشكل محكمة الجنح والمخالفات المستأنفة من ثلاثة قضاة من المحكمة الابتدائية، وأن تشكل محكمة الجنايات من ثلاثة من مستشاري محكمة الاستئناف، وأن تشكل محكمة النقض من خمسة من مستشاريها، كما جاء في المواد رقم3، 4، 7، 9، 11، من قانون السلطة القضائية والمادة رقم 366 من قانون الإجراءات الجنائية، فإذا صدر الحكم من إحدى هذه المحاكم دون أن يتحقق العدد المنصوص عليه قانونًا كان الحكم باطلا1. هل يشترط علم من له سلطة تعيين القضاة بتحقق الشروط في الشخص: بعد أن بينا فيما سبق الشروط التي قال بها العلماء من القاضي حتى تصح توليته، نحب أن نبين هنا هل يكتفى بمجرد ظن من له سلطة تولية القضاة أن هذه الشروط موجودة فيمن سيوليه، أم لا بد أن يعلم تحقق هذه الشروط ولا يكتفى بمجرد الظن؟ أجاب عن هذا السؤال بعض الفقهاء بأن المدار في هذه الشروط على ما في نفس الأمر، لا على ما في ظن المكلف، وذلك بأن يكون عالما بوجود هذه الشروط في هذا الشخص الذي سيوليه القضاء، أو يعتمد على شهادة عدلين عارفين بوجود هذه الشروط في هذا الشخص، ويندب له اختباره حتى يزداد بصيرة، لكن لو   1 دروس الإجراءات الجنائية، الحكم ونظرية الطعن فيه، دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية، ص6، وفريضة القضاء بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي للدكتور محمود الزيني، ص31، 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 ولى رئيس الدولة، أو من له سلطة تولية القضاة شخصًا لا يعلم فيه هذه الشروط، ثم بعد التولية تبين أنها موجودة في هذا الشخص الذي ولاه القضاء فإن توليته تصح1. ومعنى هذا أنه نظرا لسمو هذا المنصب وخطورته، فإنه يجب على رئيس الدولة أو من له سلطة تولية القضاة أن يتحرى عن الأشخاص الذين يمكن توليتهم هذا المنصب, ولا يكتفي بمجرد الظن، بل لا بد من التأكد التام من توفر الشروط فيه، إما بعلمه هو شخصيا بوجود الشروط في الشخص، أو أن يشهد عدلان بوجود هذه الشروط فيه. صفات مستحبة في القاضي: بيّن علماؤنا -رضي الله عنهم- أن هناك أمورا من المستحب أن تكون موجودة فيمن يتولى القضاء، بجانب الشروط التي لا بد من توافرها فيه، ومن هذه الأمور: أولا: أن يكون حليما. ثانيا: أن يكون عالما بلغات المتقاضين أمامه، ولا يحتاج إلى مترجم. ثالثا: أن يكون جامعا للعفاف، بعيدا عن الطمع. رابعا: أن يكون لينا في الكلام. خامسا: أن يكون ذا سكينة ووقار. سادسا: أن لا يكون جبارا متكبرا؛ لأن ذلك يمنع الخصم من أن يستوفي حجته.   1 نهاية المحتاج، ج8، ص239. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 سابعا: أن لا يكون ضعيفا مهينا؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة تجرأ الخصمان أمامه بالشتائم وذكر السخف، بل ربما تجرآ عليه توقحا واستخفافا، فيستحب أن يكون شديدا من غير عنف، لينا من غير ضعف1. وبعد، فنحب في ختام الكلام عن شروط القاضي أن نذكر ما قاله أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب "آداب القضاء" له2، وهو بيان لمتى يستحق الشخص أن يكون قاضيا، قال الكرابيسي: "لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه، وعلمه، وورعه، قارئا لكتاب الله، عالما بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حافظا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة، عالما بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التابعين، يعرف الصحيح من السقيم، يتبع في النوازل الكتاب، فإن لم يجد فالسنن، فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة, فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن, ثم بالسنة, ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم، والمشاورة لهم، مع فضل وورع، ويكون حافظا للسانه، وبطنه وفرجه، فهما بكلام الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى"، ثم قال الكرابيسي: "وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم".   1 نهاية المحتاج، ج8، ص244. 2 نقلا عن فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 المبحث الثاني: عزل القاضي وانعزاله مدخل ... المبحث الثاني: عزل القاضي وانعزاله إذا فقد القاضي أحد الشروط المطلوب تحققها فيه فإنه يصبح من الطبيعي ألا يكون أهلا للاستمرار في منصبه، وكان يكفي أن نتكلم بإجمال في هذه المسألة، لكننا نرى أن الكلام في هذا الموضوع يحتاج إلى شيء من التفصيل، لوجود آراء في بعض الأمور، هل تؤدي إلى انعزاله تلقائيا عن منصبه، فلا تنفذ أحكامه اللاحقة، أم لا تؤدي إلى انعزاله، ولا بد من صدور أمر ممن له سلطة تولية القضاء وعزلهم بعزله؟ وإليك بيانا للأمور التي تؤدي إلى انعزاله عن منصبه، مع ذكر الخلاف إن وجدناه في شيء منها. الأمر الأول: الردة عن الإسلام، والعياذ بالله. الأمر الثاني: زوال العقل، وقد قسم بعض العلماء زوال العقل إلى قسمين: 1- ما يرجى زواله، كالإغماء. 2- ما لا يرجى زواله، كالجنون والخبل. وكلا الأمرين أي: الجنون والخبل, يوجب انعزال القاضي حتى لو قل الزمن1. الأمر الثالث: المرض الذي لا يرجى زواله، بشرط أن يكون عاجرا عن الحكم بين الناس مع وجود هذا المرض2 كإصابته بمرض يؤثر على القدرة على التفكير السليم. الأمر الرابع: العمى، وكذلك لو ضعف بصره حتى صار كالأعمى، لكن لو عمي بعد ثبوت قضية عنده، ولم يبق إلا أن يقول: حكمت بكذا، ولم يكن محتاجا مع هذا إلى الإشارة فإن حكمه ينفذ في هذه القضية. الأمر الخامس: ذهاب السمع. الأمر السادس: إذا أصابته الغفلة، أو نحوها فأذهبت أهلية اجتهاده، وذلك عند العلماء القائلين باشتراط الاجتهاد المطلق في القاضي، أو الاجتهاد المقيد. وكذا إن لم يكن مجتهدا وصحت ولايته على الرأي القائل بعدم اشتراط الاجتهاد فأصيب بالغفلة، أو النسيان، مما أدى إلى إذهاب صفة الضبط عنده. الأمر السابع: زوال العدالة، بأن ارتكب أي جريمة تؤدي إلى إسقاط صفة العدالة، وتوجب وصفه بالفسق، كما لو شرب خمرا، أو سرق، أو أخذ رشوة، وهكذا.   1 نهاية المحتاج، ج8، ص244. 2 شرح منتهى الإرادات، ج3، ص465. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ما يراه العلماء فيما إذا كانت صفة العدالة تتوافر في القاضي ثم ارتكب ما يخل بالعدالة، وتوجيه كل رأي: وكذا إن لم يكن مجتهدا وصحت ولايته على الرأي القائل بعدم اشتراط الاجتهاد فأصيب بالغفلة، أو النسيان، مما أدى إلى إذهاب صفة الضبط عنده. الأمر السابع: زوال العدالة، بأن ارتكب أي جريمة تؤدي إلى إسقاط صفة العدالة، وتوجب وصفه بالفسق، كما لو شرب خمرا، أو سرق، أو أخذ رشوة، وهكذا. وكذا لو كان الذي تولى القضاء فاسقا إلا أن من ولاه لم يكن يعلم بفسقه، ثم زاد فسقه، فإنه ينعزل، ولا ينفذ حكمه1. ومن الواضح أن هذا عند القائلين بأن الفاسق لا يصح توليته القضاء.   1 فتح القدير، ج7، ص254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 هذا، ويحسن أن نبين هنا آراء العلماء في القاضي إذا كانت تتوافر فيه صفة العدالة، ثم ارتكب أمرا من الأمور التي تخل بالعدالة، وتوجب اتصافه بالفسق، كأخذ الرشوة وغيرها، من أسباب الفسق، كالزنا، وشرب الخمر، هل ينعزل بنفس الفسق، أو لا ينعزل حتى يعزله رئيس الدولة، أو نائبه. آراء العلماء: اختلف العلماء في هذه المسألة على رأيين: الرأي الأول: يرى بعض الحنفية أنه إن كان القاضي عدلا، ثم فسق بعد توليته القضاء فإنه لا ينعزل، لكنه يستحق العزل، أي: يجب على رئيس الدولة أو نائبه عزله. معنى أنه لا ينعزل: ومعنى أنه لا ينعزل أي: بمجرد فسقه لا ينعزل تلقائيا، بل لا بد من عزل رئيس الدولة أو نائبه له، وهذا يقتضي أن أحكامه تكون نافذة فيما ارتشى فيه وفي غيره من القضايا، ما لم يعزله رئيس الدولة أو نائبه1. والقول بعدم الانعزال بالفسق حتى يعزله رئيس الدولة هو أيضًا أحد قولين في فقه المالكية، وأشار المازري إلى ترجيح القول بعدم الانعزال، وهو ما يراه أصبغ من المالكية أيضًا2. الرأي الثاني: يرى الإمام الشافعي أن القاضي إذا فسق ينعزل، وهو قول   1 بدائع الصنائع، ج7، ص17، وتبصرة الحكام، ج1، ص78. 2 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج1، ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 في الفقه المالكي، كما أشرنا قبلا، وهذا أيضًا ما تراه فرقة المعتزلة1. ومع أن الحنفية يرون -في ظاهر المذهب عندهم- أن العدالة ليست شرطا من شروط جواز التولية، فإن بعضهم يرى أنه إذا ولى رئيس الدولة أو من له سلطة تولية القضاة عدلا، ثم فسق، فإنه ينعزل بهذا الفسق2. توجيه الرأي الأول: استند الرأي الأول القائل بعدم انعزال القاضي إذا ارتكب ما يخل بعدالته، إلى أن العدالة ليست شرطا عندهم في أهلية القضاء، كما سبق بيانه عند الكلام عن شروط القاضي، لكن على رئيس الدولة أو من له سلطة تولية القضاة ألا يولي القضاء إلا من يتصف بالعدالة، فإذا ولي غيره صحت التولية، مثل شهادة الفاسق عندهم لا يحل قبولها، لكن لو قبلت شهادة الفاسق نفذ الحكم بها. توجيه الرأي الثاني: وأما الرأي الثاني فأصحابه مختلفون في الاستدلال على ما يرونه، وممن قال به -كما أسلفنا- الشافعي، والمعتزلة، وبعض فقهاء الحنفية، ولكل منهم اتجاه في الاستدلال. أما الشافعي فيرى أن العدالة شرط أهلية القضاء، وقد زالت صفة العدالة من   1 بدائع الصنائع، ج7، ص17. 2 بدائع الصنائع للكاساني، ج7، ص3، وبداية المجتهد، ج2، ص564، وتكملة المجموع للمطيعي، ج19، ص116 ونهاية المحتاج، ج8، ص238، والمغني، ج9، ص40، 41، وحاشية الدسوقي، ج4، ص129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 القاضي بالفسق، فتبطل الأهلية. وأما المعتزلة فمن أصول مذهبهم أن الفسق يخرج صاحبه عن الإيمان، أي: إن المؤمن إذا زنى، أو سرق، أو شرب خمرا، أو ارتكب أي جريمة تؤدي إلى اتصافه بالفسق، فإن ذلك يؤدي إلى خروجه من الإيمان، وإن كان المعتزلة، يقولون مع خروج مرتكب الكبيرة من الإيمان فإنه لا يدخل في الكفر، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، ومخلد في النار يوم القيامة إذا لم يتب عما ارتكب من جرائم. وهذا أصل عندهم من الأصول التي بنوا عليها مذهبهم، وعلى هذا فإذا فسق القاضي فإنه يخرج من الإيمان عندهم، فتبطل أهلية القضاء عنده1؛ لأنه ليس من المقبول أن يكون بفسقه قد خرج من الإيمان ومع ذلك يبقى في منصب القضاء. وأما البعض من فقهاء الحنفية الذين يرون أنه إذا ولي القضاء في حال عدالته، ثم فسق، فإنه ينعزل، فقد عللوا لرأيهم هذا بأن عدالته في معنى المشروطة في توليه منصبه؛ لأن من له سلطة تولية القضاة حينما ولاه وهو عدل فقد اعتمد عدالته، فكان توليه منصب القضاء مقيدا بوجود العدالة فيه، فصار كأنه علق بقاءه في منصب القضاء بحال عدالته، فيزول توليه هذا المنصب بزوال العدالة2.   1 بدائع الصنائع، ج7، ص17. 2 فتح القدير، ج7، ص254، وأنيس الفقهاء في تعريفات الألفاظ المتداولة بين الفقهاء، تأليف الشيخ قاسم القونوي، ص232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 عزل رئيس الدولة للقضاة : يرى فقهاء الشافعية أن لرئيس الدولة الحق في أن يعزل القاضي الذي يوجد غيره صالحا للقضاء، إذا ظهر منه خلل لا يقتضي انعزاله، كما لو كثرت شكاوى الناس منه، أو ظن أنه ضعيف، أو زالت هيبته في القلوب، وعللوا ذلك، بأن فيه احتياطا. وكذلك قال الشافعية إنه يحق لرئيس الدولة أن يعزل القاضي إذا لم يظهر منه خلل، لكن هناك من هو أفضل منه؛ لأن في هذا رعاية للأصلح للمسلمين. وصرحوا بأن هذا من حق رئيس الدولة، وليس واجبا عليه، وكذلك إذا كان هناك مثله في الصفات، أو دونه، لكن في عزله مصلحة كتسكين فتنة، فإنه يحق لرئيس الدولة عزله أيضا عندهم، لما فيه من المصلحة للمسلمين. وفي فقه الشيعة الإمامية أنه لو رأى الإمام أو النائب عزله لوجه من وجوه المصالح أو لوجود من هو أتم منه نظرا، فإنه جائز مراعاة للمصلحة. وأما إذ لم يكن هناك مصلحة في عزله فيوجد اتجاهان في الفقه الإسلامي: أحدهما: لا يجوز لرئيس الدولة أن يعزله، وهذا ما يراه الشافعية، وبعض المالكية، وبعض الحنابلة1. وقد استند هذا الاتجاه إلى ما يأتي: أولا: إذا عزله من غير مصلحة فإن ذلك يعد عبثا، وتصرفات رئيس الدولة   1 نهاية المحتاج، ج8، ص145، والشرح الصغير، ج4، ص201، والمغني، ج9، ص103، وشرائع الإسلام للحلي، ج4، ص71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يجب أن تصان عن العبث. ثانيا: رئيس الدولة إنما ولاه القضاء لمصلحة المسلمين، فلا يملك أن يعزله مع سداد حاله، كولي المرأة إذا عقد عليها عقد الزواج لم يكن من حقه أن يفسخ هذا العقد. ثالثا: القاضي في الحقيقة وكيل عن الأمة، وإذا تعلق بالوكالة حق الغير -وهو هنا حق المسلمين- فلا يجوز عزل الوكيل. الاتجاه الثاني: يجوز لرئيس الدولة أن يعزله، وممن قال بهذا الرأي الحنفية، وقد صح عن أبي حنيفة، أنه قال: لا يترك القاضي على القضاء إلا حولا؛ لأنه إذا اشتغل بالقضاء ينسى العلم، فيعزله السلطان، بعد الحول، ويستبدل به غيره، حتى يشتغل بالدرس1. وكذلك يرى بعض الحنابلة أن لرئيس الدولة عزل القاضي بغير سبب، يبرر ذلك وقد استند هذا الاتجاه إلى ما يأتي: أولا: القياس على الولاة على البلاد، فلما كان لرئيس الدولة أن يعزل ولاته الذين ولاهم على البلاد فكذلك يكون له أن يعزل قضاته، قياسا عليهم من باب أولى؛ لأن الإمارة أعلى من القضاء. مناقشة هذا الاستدلال: يمكن أن يجاب عن استدلالهم بالقياس بأن هذا القياس لا يصح، لوجود   1 الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود، ج2، ص116، مطابع الشعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الفارق وهو مانع من صحة القياس؛ لأن الإمارة ليست أعلى من القضاء، بل العكس هو الصحيح، ولذلك قال العلماء: "إن خطة القضاء أعظم الخطط قدرا"، والقاضي ليس وكيلا لرئيس الدولة، وإنما هو يعمل بولاية المسلمين، وفي حقوقهم. ثانيا: سوابق تاريخية حدثت من بعض الخلفاء الراشدين، في عزل القضاة، فقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، أنه قال: لأعزلن أبا مريم، وأولين رجلًا إذا رآه الفاجر فرقه "أي: خافه" فعزله عن قضاء البصرة، وولى مكانه كعب بن سوار. وولى علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، أبا الأسود ثم عزله، فقال له: لم عزلتني، وما خنت ولا جنيت؟ فقال: إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين. مناقشة هذا الاستدلال: يجاب عن هذا بأن العزل كان لحاجة تدعو إلى ذلك1، وليس العزل بغير حاجة وإلا كان عبثا. الرأي الراجح: أن عزل القاضي لا يكون إلا لمصلحة؛ لأن الحاكم -كما يصرح العلماء- إنما يولي القضاة نيابة عن المسلمين، وهذا يؤكد أن القاضي لا يصح عزله إلا بسبب يبرر هذا العزل. إذا كان القاضي متعينا: إذا كان القاضي متعينا بأن لم يكن هناك من يصلح لتولي القضاء غيره، فإنه   1 نظام القضاء في الإسلام، مصدر سابق، ص61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ليس من حق رئيس الدول أو غيره أن يعزله، ولو قام بعزله لم ينعزل. لا ينعزل القاضي حتى يبلغه خبر عزله: بيّن العلماء أن القاضي لو عزله رئيس الدولة في الحالات التي يصح له فيها أن يعزله، لا ينعزل إلا بعد أن يبلغه خبر عزله، فلا ينعزل بمجرد عزل الحاكم له؛ لأنه لو كان ينعزل بمجرد عزل الحاكم له لترتب على ذلك في بعض الحالات أضرار عظيمة؛ لأنه ستكون تصرفاته منقوضة وفاسدة في القضايا التي ينظرها بعد عزل الحاكم له, وقبل أن يبلغه خبر هذا العزل. متى يحصل بلوغ خبر العزل للقاضي المعزول؟ يحصل بلوغ خبر العزل إلى القاضي بشاهدين يشهدان أن الحاكم عزله، وأيضًا تغني استفاضة الأخبار بذلك. وكذلك إذا كتب من له سلطة تولية القضاة إلى القاضي قائلا: إذا قرأت كتابي فأنت معزول، فقرأه، فقد انعزل بعد القراءة، لتحقق الصفة التي علق عليها العزل. ولا يشترط أن يقرأ القاضي الكتاب بالتلفظ، بل ينعزل أيضا إذا طالعه وفهم ما فيه, وإن لم يتلفظ به كما هي العادة في قراءة المكتوبات. وينعزل كذلك لو قرأه غيره عليه على الرأي الأصح عند الشافعية؛ لأن القصد من الكتاب إعلامه بالعزل، وليس القصد أن يقرأه بنفسه سواء أكان قارئا أم أميا1.   1 نهاية المحتاج، ج8، ص245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 لا ينعزل القاضي بموت رئيس الدولة، أو انعزاله: لا يؤدي موت رئيس الدولة، أو انعزاله إلى انعزال القاضي، لعدة أمور: الأمر الأول: أن الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- ولوا قضاة في زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم. الأمر الثاني: أنه لو انعزل القضاة بموت رئيس الدولة لأدى هذا إلى تعطيل القضاء في الأمور التي تحتاج إلى حكم القاضي فيها، حتى يولي رئيس الدولة الجديد قضاة آخرين، وهذا قد يكون ضررا عظيما، ونحن ممنوعون شرعا من إحداث الضرر. الأمر الثالث: أن القاضي لا يعمل بولاية رئيس الدولة وفي حقه، بل يعمل بولاية المسلمين وفي حقوقهم، ورئيس الدولة بمنزلة النائب عنهم؛ لأنه يولي القضاة نيابة عن المسلمين. وإذا كان رئيس الدولة نائبا عن المسلمين فإن فعله يكون بمنزلة فعل عامة المسلمين، ولا شك أن ولايتهم بعد موت الرئيس باقية، فيبقى القاضي في منصبه1. عزل القاضي نفسه: إذا عزل القاضي نفسه اختيارا، ولا يوجد عنده عذر يبرر عزله نفسه، وليس به عجز يمنعه من القيام بأعباء هذا المنصب، فإن هذا من حقه، لكن يرى بعض العلماء منعه من ذلك إذا كان قد تعلق لأحد حق بقضائه، وكان انعزله   1 بدائع الصنائع، ج7، ص16، ونهاية المحتاج، ج8، ص247، والمغني، ج9، ص103، والشرح الصغير، ج4، ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بسبب الضرر لمن التزم بينه وبين خصمه1. لكن ينبغي هنا أن نقول أيضا: إذا كان عزل القاضي نفسه بغير عذر سيؤدي إلى خلو هذا المنصب ممن توفر فيه شروط القاضي؛ لأنه لا يوجد شخص آخر تتوفر فيه هذه الشروط، فإنه في هذه الحال لا يصح عزله لنفسه، حتى يظهر من تتوفر فيه الشروط المطلوبة، بل إنه يحرم عليه عزل نفسه -من غير عذر- إذا كان يعلم أنه لا يوجد غيره واحد تتوافر فيه الشروط, فإنه يجب عليه القبول ولا يجوز له أن يرفضه.   1 تبصرة الحكام، ج1، ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 الفصل الثاني: الدعوى ونظام الفصل فيها بيان معنى الدعوى، والفرق بينها وبين الإقرار والشهادة مدخل ... الدعوى ونظام الفصل فيها: معنى الدعوى، والفرق بينها وبين الإقرار، والشهادة: الدعوى: معناها الدعوى في اللغة: الطلب، ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} ، وجمع الدعوى دعاوى بفتح الواو وكسرها، وفي الشرع: إخبار عن ثبوت حق على غيره، عند حاكم، أو محكم، أو سيد، أو ذي شوكة، أي: ذي قوة غالبة على غيره. وسواء أكان ثبوت الحكم له أم لموكله؛ لأن الدعوى يصح فيها التوكيل، ولا بد أن يكون الغير منكرا للحق المدعى، أو مقرا به لكنه ممتنع، وأما إذا لم يكن كذلك فلا فائدة في الدعوى، ولهذا عرفها بعض العلماء بأنها: "مطالبة بحق لازم، حال، عند قاض، على منكر، أو مقر ممتنع بشروط". وقد اشترط بعض العلماء -كما هو مبين في التعريف الأول- أن تكون الدعوى إخبارا عند حاكم، أو محكم، أو سيد كالادعاء على عبد عند سيده، وهذا أيام وجود الرق، لكن الآن -بحسب ما نعلم- لا يوجد رقيق، أو تكون إخبارا عند ذي شوكة، أي: شخص له قوة تمكنه من إيصال الحقوق إلى أربابها بعد أن يحكم بها، وهو في ناحية انقطع غوث الحاكم عنها كالأماكن البعيدة في الصحراء الشاسعة أو في الغابات المترامية الأطراف، ولم يرجع الناس إلا إليه فإذا لم تكن الدعوى عند واحد من هؤلاء فلا تسمى دعوى عند البعض من العلماء. وسميت الدعوى بهذا الاسم؛ لأن المدعي يدعو صاحبه إلى مجلس الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 ليخرج من دعواه1. الفرق بين الدعوى والإقرار والشهادة: الفرق بين الدعوى، والإقرار، والشهادة، أن الدعوى إخبار بحق له على غيره، والإقرار إخبار بحق لغيره عليه، والشهادة إخبار بحق لغيره على غيره. أركان الدعوى: الركن هو ما لا بد منه وكان جزءا من حقيقة الشيء، فالركوع مثلا لا بد منه في الصلاة، وهو جزء من حقيقتها، ولهذا يسمى ركنا من أركان الصلاة، وأما إذا كان الشيء لا بد منه لكنه ليس جزءا من الحقيقة، بل خارجا عنها، فيسميه العلماء شرطا، كالوضوء لا بد منه لصحة الصلاة، لكنه ليس جزءا من حقيقة الصلاة بل هو خارج عنها، ولهذا فهو شرط من شروط صحة الصلاة وليس ركنا من أركانها. وأركان الدعوى أي: الأمور التي لا بد منها وداخلة في حقيقتها هي: 1- القول الطالب للحق، المقبول، بأن يكون ملزما بشيء على الخصم، وغير ذلك لا يسمى دعوى. 2- إضافة الحق لنفسه، أو لمن ناب عنه. أهل الدعوى: يرى الحنفية أن أهل الدعوى هو العاقل المميز، ولو صبيا، إذا كان مأذونا له في الخصومة، وأما إذا لم يكن مأذونا له في الخصومة فلا يكون من أهل الدعوى.   1 حاشية الشرقاوي على شرح التحرير للشيخ زكريا الأنصاري، ج2، ص509، مطبعة دار إحياء الكتب العربية، ونهاية المحتاج للرملي، ج8، ص333. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وأما الشافعية فيرون أنه لا بد أن يكون المدعي بالغا عاقلا، وأما المدعى عليه فتصح الدعوى عليه ولو كان صبيان أو مجنونا ما دام مع المدعي بينة, ويحلف المدعي أيضا مع البينة، وإلا فلا تسمع الدعوى على المعتمد في فقه الشافعية1. طرفا الخصومة في الدعوى: طرفا الخصومة في الدعوى هما: المدعي، والمدعى عليه، ولا بد من تعريف كل منهما؛ لأن القاضي سيطالب المدعي بالبينة "الشهود"2. فإذا أقام البينة حكم له القاضي، وإذا لم يقم البينة طلب اليمين من المدعى عليه. والأصل في هذا أحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما في سنن البيهقي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر". وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن إسناد هذا الحديث عند البيهقي إسناد   1 المجاني الزهرية لمحمد صالح بن عبد الفتاح بن إبراهيم الجارم على الفواكه البدرية لمحمد بن محمد بن خليل المعروف بابن الغرس، ص88، والشرقاوي على التحرير، ج2، ص510. 2 سميت البينة بينة وهي الشهود عند الجمهور؛ لأنها تبين عن الحق، وتوضحه بعد خفائه، من قولهم: بأن الشيء إذا ظهر. ومن المعلوم أن تبين الحق إنما هو بعد أداء الشهادة، فهم قبل الأداء شهود، وبعد الأداء بينة، وتسميتهم شهودا بعد أداء الشهادة، باعتبار ما كان، وتسميتهم بينة قبل الأداء باعتبار ما يئول إليه، حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص509. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 صحيح1، لكن الأصيلي زعم أن قوله: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" إدراج في الحديث2. وروى ابن حبان عن ابن عمر نحو هذا الحديث، وروى الترمذي نحوه أيضًا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهو في صحيحي البخاري ومسلم من حديث ابن عباس أيضا بلفظ: "ولكن اليمين على المدعى عليه" 3. وقد بين العلماء أن الحكمة في كون البينة على المدعي واليمين على من أنكر، أن جانب المدعي ضعيف؛ لأن دعواه تخالف الأصل؛ لأن الأصل براءة الذمة، فكلف الحجة القوية، وهي البينة، لبعدها عن التهمة، وجانب المنكر "المدعى عليه" قوي، لموافقته للأصل، وهو براءة الذمة, فاكتفى منه بالحجة الضعيفة -وهي اليمين- لقربها من التهمة، فجعلت الحجة القوية في الجانب الضعيف، والضعيفة في الجانب القوي، ليحصل التعادل بينهما4. فلا بد -إذن- من تحديد معنى كل من المدعي، والمدعى عليه.   1 الحديث الصحيح هو ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط تاما عن مثله إلى منتهى السند من غير شذوذ ولا علة قادحة. 2 الإدراج في متن الحديث معناه أن يضيف الراوي شيئًا من كلامه أو كلام غيره, من غير فصل بين الحديث وبين ذلك الكلام، فيتوهم السامع أن هذا الكلام المدرج من كلام الرسول -صلى الله عليه وسلم، فيرويه مرفوعا. مصطلح الحديث للشهاوي، ص40. 3 نيل الأوطار للشوكاني، ج9، ص220، وسبل السلام للصنعاني، ج3، ص132. 4 حاشية الشرقاوي على شرح التحرير، ج2، ص509، ومسالك الدلالة في شرح متن الرسالة، لأحمد بن محمد بن الصديق، ص316. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 معنى المدعي والمدعى عليه: اختلفت عبارات العلماء في تعريف المدعي، والمدعى عليه، فبعضهم عرف المدعي بأنه: "من خالف قوله الظاهر" والمدعى عليه بأنه "من وافق قوله الظاهر"، وقيل: المدعي هو: "من لا يجبر على الخصومة إذا تركها"، والمدعى عليه" من إذا ترك الخصومة يجبر عليها". وقيل المدعي "من لا يستحق إلا بحجة" والمدعى عليه "من يستحق بقوله من غير حجة". وقال محمد بن الحسن: المدعى عليه هو المنكر، ويدل لهذا ما ورد من قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "واليمين على من أنكر"، وروى "اليمين على المدعى عليه"، ولكن كما قال علماء الحنفية الشأن في معرفة المنكر والترجيح بين المدعي والمدعى عليه بالفقه يعني إذا تعارضت الجهتان: أي: جهة الادعاء، الصورة وجهة الإنكار المعنوي فالترجيح يكون بالمعنى؛ لأن الاعتبار للمعاني دون الصور. وضربوا مثلا لذلك بالمودع -بفتح الدال- إذا قال: رددت الوديعة فهو من حيث الصورة يدعي رد الوديعة، فهو مدع صورة، لكن من حيث المعنى ينكر ضمان الوديعة، فهو من ناحية المعنى مدعى عليه. ولهذا قال الحنفية: إن القول قول المودع -بفتح الدال- مع يمينه؛ لأنه من حيث المعنى منكر لضمان الوديعة، فيأخذ حكم المدعى عليه، ولا اعتبار بكونه مدعيا من حيث الصورة، فهو من حيث الصورة يدعي رد الوديعة، فلا اعتبار بذلك، لكن لو أقام المودع -بفتح الدال- بينة قبلت بينته؛ لأن البينة تقبل لدفع اليمين كما قال الحنفية، ولهذا قالوا في مسألة اختلاف الزوجين في قدر المهر فادعت المرأة الزيادة فإذا أقامت بينة، قبلت، وإن أقام الزوج بينة، تقبل أيضًا؛ قالوا: لأن البينة تقبل لدفع اليمين1. هذه بعض أقوال علمائنا -رضي الله عنهم- في معنى المدعي والمدعى عليه، وقيل غير ذلك2.   1 نتائج الأفكار، تكملة فتح القدير، لأحمد بن قويدر، ج8، ص157. 2 حاشية الشرقاوي على شرح التحرير، ج2، ص509، والمجاني الزهرية على الفواكه البدرية، ص63، مطبعة النيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 حكم الدعوى : حكم الدعوى هو وجوب الجواب على الخصم وهو المدعى عليه بلا أو نعم، فإذا أقر بما يدعيه المدعي ثبت المدعى به، وإن أنكر قال القاضي للمدعي، ألك بينة؟ "شهود"، فإن قال: لا، قال القاضي -استحبابا: لك يمينه، ولو سكت المدعى عليه فإن سكوته يعد إنكارا للدعوى فتسمع البينة عليه، إلا إذا كان أخرس1. الدعوى إما صحيحة أو فاسدة: الدعوى إما أن تكون صحيحة أو فاسدة، فالصحيحة هي ما يتعلق بها أحكامها، من إحضار الخصم، والمطالبة بالجواب، ووجوب الجواب، واليمين إذا أنكر ولا برهان، والإثبات بالبينة، ولزوم إحضار المدعى به إن كان نقليا لا يتعسر نقله. وأما الدعوى الفاسدة فهي بخلاف ذلك، وفسادها يكون بفقد أحد الشروط التي اشترطها العلماء لصحة الدعوى، وإليك بيانا لهذه الشروط.   1 المجاني الزهرية، على الفواكه البدرية، ص88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 شروط صحة الحكم في الدعوى الشرط الأول: عند بعض العلماء حضور الخصم المدعي عليه آراء العلماء في القضاء على الغائب ... شروط صحة الحكم في الدعوى: يشترط لصحة الحكم في الدعوى عدة شروط: الشرط الأول: عند بعض العلماء - حضور الخصم المدعى عليه يرى فريق من العلماء أنه يشترط لصحة الحكم في الدعوى حضور الخصم المدعى عليه، والخصم المدعى عليه إما أن يكون أصيلا أي: هو بذاته، أو وكيلا عن الأصيل، أو وصيا، أو وليا، أو وارثا، أو من بينه وبين الغائب اتصال في المدعى به، كما لو كفل شخص شخصا آخر في دين، فالخصم هنا هو المدين المكفول عنه، وقد ناب عنه الكفيل لما بينهما من الاتصال في الدين المدعى به عليه بحكم الكفالة. فلا يصح القضاء على الغائب عند فريق من العلماء، فإذا ادعى شخص حقا على شخص آخر غائب في بلد آخر بعيد وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه، فلا يصح القضاء على هذا الغائب، وهذه مسألة مختلف فيها بين العلماء، وإليك بيانا لما يراه العلماء فيه. آراء العلماء في القضاء على الغائب: اختلف العلماء في القضاء على الغائب على رأيين: الرأي الأول: أنه لا يصح القضاء بشيء على الغائب، وهذا ما يراه أبو حنيفة، وابن الماجشون من المالكية، ونقل عن أحمد بن حنبل، وابن أبي ليلى، والثوري هذا الرأي أيضًا. الرأي الثاني: يصح القضاء على الغائب في حقوق الآدميين، ولا يقضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 عليه في حدود الله تعالى، وهو ما يراه الشافعي، والظاهرية وجمهور العلماء1. وقبل أن نبين أدلة كل فريق نحب أن نبين عدة صور اتفق عليها أبو حنيفة والشافعي فقد اتفقا على أنه: أ- لو ادعى رجل على وارث مالا، كان له على أبيه وللميت ورثة غائبون وأقام المدعي بينة على دعواه، فإنه يحكم القاضي بالبينة على الحاضر والغائب وعلى الميت. ب- لو ثبت عند القاضي على شخص أنه مفقود، ولهذا الشخص مال مودع عند رجل، فإن القاضي يحكم للزوجة والأولاد بنفقتهم، ويصح أيضًا أن يباع عقاره لذلك. ج- لو لحق المرتد بدار الحرب2 فجاءت زوجته تطلب الحكم بالتفريق بينهما، فإنه يحكم القاضي لها بالبينونة إذا أقامت بذلك بينة. د- لو كان الشخص غائبًا عن المجلس لكنه حاضر في البلد لا يجوز القضاء عليه؛ لأنه يمكن للقاضي أن يحضره3. هذه بعض صور متفق على حكمها في الفقه الحنفي والشافعي، وننتقل بعد ذلك إلى بيان أدلة الفريقين:   1 صحيح مسلم بشرح النووي، ج12، ص8، المطبعة المصرية، وقوانين الأحكام الشرعية لمحمد بن جزي، ص306، ومغني المحتاج لمحمد الشربيني الخطيب، ج4، ص414، والشرح الصغير للدردير, ج5، ص25، مطبعة المدني، والمغني ج11، ص412، 485، والمحلى على المنهاج، ج4، 308، والمحلى لابن حزم، ج9، ص366، ونتائج الأفكار "تكملة فتح القدير"، ج8، ص153، ووسائل الشيعة للحر العاملي، ج8، ص216. 2 دار الحرب أو دار الكفر بمعنى واحد، وهو دولة الكفر وما يتبعها كذلك من أرض تخضع لسيادتها. 3 أدب القاضي، لأحمد بن أبي أحمد، المعروف بابن القاص، ج2، ص360-362. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أدلة القائلين بجواز الحكم على الغائب : أولا: عموم الأدلة كقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، ولم يفصل النص الكريم بين الحاضر وغيره، وقوله عز وجل: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ، فلم يخصص الله تبارك وتعالى حاضرا من غائب. ثانيا: صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه حكم على الغائب، كما حدث في حادثة العرنيين الذين قتلوا الرعاء، وسملوا أعينهم، وفروا، فأرسل إليهم القائف يتبعهم وهم غيب، حتى أدركوا، واقتص منهم. ثالثا: ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لأولياء عبد الله بن سهل -رضي الله عنه- الذي وجد مقتولا في خيبر1 وادعوا أن أهل خيبر قتلوه، قال لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته" 2. رابعا: صح عن عمر، وعثمان -رضي الله عنهما- القضاء على الغائب، ولا مخالف لهما من الصحابة. خامسا: القياس، فإن الدعوى تسمع على الميت والصغير، مع أنهما أعجز عن الدفع من الغائب، فيقاس الغائب عليهما. سادسا: المدعي له بينة مسموعة عادلة فجاز الحكم بها, كما لو كان الخصم   1 نيل الأوطار للشوكاني، ج7، ص183، 184، والمحلى، لابن حزم، ج9، ص369. 2 الرمة: الحبل الذي يربط به من وجب عليه القصاص، المغني، ج8، ص77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 حاضرا1. خامسا: ما روته عائشة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنها، قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك" 2. فقد بيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن لها أن تأخذ من مال أبي سفيان، وهذا قضاء عليه في غيابه. الإجابة عن حديث هند: أجاب القائلون بعدم جواز الحكم على الغائب عن الاستدلال بحديث هند، بأن هذا الحديث لا يدل لمخالفيهم؛ لأن ما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهند لم يكن قضاء، وإنما كان فتوى، أو إعانة لها على أخذ ماله، قالوا: لأن هندا لم تدع الزوجية، ولم تقم البينة3. ومع أن الإمام النووي -رضي الله تعالى عنه- من فقهاء الشافعية فإنه لا يوافق على الاستدلال بحديث هند على صحة القضاء على الغائب؛ لأن قضية هند كانت بمكة، وكان زوجها أبو سفيان حاضرا بها لا غائبا عنها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد، أو مستترا لا يقدر عليه، أو متعززا، وهذا الشرط غير متحقق في هذه القضية؛ لأن أبا سفيان موجود فالحكم عليه ليس غيابيا، فلا يكون هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضاء على الغائب، وإنما هو إفتاء منه -صلى الله عليه وسلم-4 أي: إن هندا جاءت طالبة للفتوى وليست طالبة لأن يقضي لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على زوجها أبي سفيان.   1 المغني، ج11، ص485، والمحلى لابن حزم، ج9، ص369. 2 صحيح مسلم، بشرح النووي، ج12، ص7. 3 شرح الكنز لمحمود العيني، ج2، ص91، والمهذب للشيرازي، ج2، ص303. 4 صحيح مسلم، بشرح النووي، ج12، ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 أدلة المانعين للحكم على الغائب : استدل المانعون للحكم على الغائب بالأدلة الآتية: أولا: قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} . فالآية الكريمة ذمتهم لإعراضهم إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، وهذا يدل على أنه يجب عليهم أن يحضروا للحكم، ولو نفذ الحكم مع الغيبة، لم يجب الحضور ولم يستحقوا الذم، فدل هذا على عدم جواز الحكم على الغائب1. مناقشة الاستدلال: ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال بأنه لا منافاة بين ذمهم على عدم الحضور؛ لأنه واجب عليهم عدم الغيبة، فيمكن أن يجتمع الأمران: الذم على عدم الحضور ونفوذ الحكم مع الغيبة. ثانيا: ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تقض لأحد الخصمين حتى تسمع كلام الآخر، فإنك إذا   1 أدب القضاء، لابن أبي الدم، القسم الدراسي لمحقق الكتاب، ج1، ص158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 سمعت كلام الآخر علمت كيف تقضي" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي بمعناه، وقال فيه الترمذي، هذا حديث حسن صحيح. فسماع كلام الآخر مستلزم لحضوره. مناقشة الاستدلال بالحديث: أجاب المخالفون عن الاستدلال بهذا الحديث بأنا نقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلام كل منهما، وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين، ويفارق الحاضر الغائب، فإن البينة لا تسمع على حاضر إلا بحضرته، والغائب بخلافه. قال ابن حزم بعد فرض أن هذا الحديث وما يفيد معناه صحيح: "لو صحت الأخبار لما كان لهم بها متعلق أصلا؛ لأنه ليس فيها أن لا يقضي على غائب، بل فيها أن لا يقضي على حاضر بدعوى خصمه، دون سماع حجته، وهذا شيء لا نخالفهم فيه، ولا يجوز أن يقضي على حاضر ولا غائب بقول خصمه، لكن بالذي أمر الله تعالى به من البينة العدلة فقط"1. ثالثا: ما روي عن عمرو بن عثمان بن عفان، قال: أتى عمر بن الخطاب رجل قد فقئت عينه، فقال له عمر: تحضر خضمك، فقال له: يا أمير المؤمنين أما بك من الغضب إلا ما أرى؟ فقال له عمر: فلعلك قد فقأت عيني خصمك معا، فحضر خصمه قد فقئت عيناه معا، فقال عمر: إذا سمعت حجة الآخر بان القضاء. قال المستدلون بهذا: ولا يعلم لعمر بن الخطاب في ذلك مخالف من   1 المحلى لابن حزم، ج9، ص368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الصحابة1، وقد أجاب ابن حزم على هذا بعدة أمور: أولا: لا يصح هذا عن عمر؛ لأن هذا مروي من طريق محمد الغفاري عن ابن أبي ذئب الجهني، وهما مجهولان، وجهالة الراوي ترد الحديث، قال ابن حزم: "لا يدرى من هما في خلق الله تعالى". ثانيا: هذا الأثر مروي عن عمرو بن عثمان بن عفان عن عمر بن الخطاب؛ وهذا كذب لأن عمرو بن عثمان بن عفان لم يولد إلا ليلة موت عمر. ثالثا: على فرض صحة ما نقل عن عمر فليس فيه إلا أنه يقضي على غائب بدعوى خصمه، وهذا حق لا ينكر. رابعا: أن النقل الصحيح عن عمر، وعثمان أنهما قضيا على الغائب إذا صح الحق، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلاف ذلك2. رابعا: القضاء إنما هو لقطع المنازعة، ولا توجد منازعة هنا لعدم الإنكار. خامسا: القضاء على الغائب قضاء لأحد الخصمين وحده، فلا يجوز، كما لو كان الآخر في البلد. سادسا: يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة، ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه.   1 المحلى، لابن حزم، ج9، ص368. 2 المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 مناقشة هذه الاستدلالات: أجيب عن هذه الاستدلالات بأن أبا حنيفة ناقض الأصل الذي يقول به، فقال إذا جاءت امرأة فادعت أن لها زوجا غائبا، وله مال في يد رجل، وتحتاج إلى النفقة، فاعترف لها بذلك، فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة. ونرى الأخذ بالرأي القائل بصحة القضاء على الغائب بعد محاولات إحضاره، ما دامت البينة موجودة، لكي لا تضيع حقوق الناس، والعصر الذي نعيش فيه شاهد على حالات كثيرة يستولي فيها بعض الناس على أموال الآخرين لاستثمارها -ظاهرا- في تجارة أو غيرها، ثم يهرب، فهل تضيع حقوق الناس بحجة عدم القضاء على الغائب, أم ينظر القاضي في القضية ويطلب البينة، فإذا قامت البينة حكم القاضي بمقتضاها، وسنجد -كما سنبين- أن بعض فقهاء الحنفية يرى القضاء على الغائب مخالفا بهذا رأي إمامه أبي حنيفة -رضي الله تعالى عنه. وقد دافع ابن حزم الظاهري بعباراته الهجومية المألوفة منه عن الرأي القائل بصحة القضاء على الغائب، قال: "وما ندري في الضلال أعظم من مثل حاكم شهد عنده العدول بأن فلانا الغائب قتل زيدا عمدا، أو خطأ، أو أنه غصب هذه الحرة، أو تملكها، أو أنه طلق امرأته ثلاثا، أو أنه غصب هذه الأمة "الجارية" من هذا، أو تملك مسجدا، أو مقبرة، فلا يلتفت إلى كل ذلك، وتبقى في ملكه الحرة، والفرج الحرام، والمال الحرام، ألا إن هذا هو الضلال المبين، والجور المتيقن، والفسق المتين، والتعاون على الإثم والعدوان"1.   1 المحلى، لابن حزم، ج9، ص369. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 اضطراب فقهاء الحنفية في مسائل الحكم على الغائب : مع أنه صح النقل عن أبي حنفية -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يرى أنه لا يقضي على الغائب بشيء، فإن فقهاء الحنفية قد اضطربت آراؤهم وبيانهم في مسائل الحكم للغائب وعليه، ولم ينقل عنهم أصل قوي ظاهر تبنى عليه الفروع بلا اضطراب ولا إشكال, كما قرر ذلك صاحب كتاب جامع الفصولين، وهو من كبار فقهاء الحنفية، واستظهر أن القاضي عليه أن يتأمل في الوقائع التي تعرض عليه، ويحتاط للحقوق حتى لا تضيع، ويلاحظ الحرج الذي يمكن أن يحدث للمتخاصمين، ويقدر الضرورات، فيقضي بحسبها جوازا وفسادا وذكر مثالين لهذا: المثال الأول: لو طلق الزوج زوجته عند العدول، ثم غاب الزوج عن البلد، ولا يعرف مكانه، أو كان مكانه معروفا، ولكن القاضي لا يستطيع إحضاره، ولا تستطيع الزوجة أن تسافر إليه هي أو وكيلها لبعده الشاسع، أو لأي مانع آخر. المثال الثاني: لو غاب المدين وله نقد في البلد. ويرى صاحب جامع الفصولين أنه في مثل هذين المثالين لو أقام الخصم البرهان الغائب، بحيث اطمأن قلب القاضي, وغلب على ظنه أنه حق لا تزوير فيه ولا حيلة، فينبغي للقاضي أن يحكم على الغائب أو له، وكذلك ينبغي للمفتي أن يفتي بجواز ذلك، دفعا للحرج عن الناس والضرورات، وصيانة للحقوق عن الضياع، خاصة وأن مسألة القضاء على الغائب من المسائل الظنية الاجتهادية، وذهب إلى جواز الحكم على الغائب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وفيه روايتان عن فقهاء الحنفية ثم قال: "والأحوط أن ينصب عن الغائب وكيل يعرف أنه يراعي جانب الغائب، ولا يفرط في حقه"1. الغائب عند المالكية: بيّن فقهاء المالكية أن الغائب إما أن يكون قريب الغيبة، كما لو كانت المسافة بيننا وبينه تستغرق يومين أو ثلاثة "بوسائل المواصلات البدائية أي: بالحيوانات" وإما أن يكون بعيدا جدا، كالبعد بين تونس والمدينة المنورة. فإذا كان قريب الغيبة فحكمه حكم الحاضر في سماع الدعوى عليه والبينة، ثم يرسل إليه القاضي يخبره إما أن يقدم إلى مقر القاضي, أو يوكل عنه وكيلا في الدعوى، فإذا لم يقدم ولا وكل عنه وكيلا حكم عليه القاضي. وأما إن كان بعيد الغيبة جدا فالقاضي يقضي عليه بعد سماع الشهود وتزكيتهم بيمين القضاء من المدعي أن حقه ثابت على المدعى عليه، وأنه ما برأه به، ولا وكل الغائب شخصا يقضي هذا الحق عنه، ولا أحاله على أحد في جميع هذا الحق ولا بعضه. وبين المالكية أن يمين القضاء واجبة لا يتم حكم القاضي إلا بها، كما هو المذهب عندهم2.   1 جامع الفصولين، لمحمود بن إسرائيل، الشهير بابن قاضي سماونة، ج1، ص43، طبعة أولى، والمجاني الزهرية على الفواكه البدرية لابن الغرس، ص96. 2 الشرح الصغير، ج5، ص24، 25، مطبعة صبيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الغائب عند الشافعية: الغائب الذي يحكم عليه عند الشافعية نوعان: النوع الأول: من كانت المسافة بين القاضي وبينه فوق مسافة العدوى، ويحددون مسافة العدوى بأنها المسافة التي لو خرج مبكرا1 لبلد القضاء لرجع إليها في يومه2 بعد فراغ زمن المخاصمة المعتدلة من دعوى، وجواب، وإقامة بينة حاضرة، وتعديلها، قالوا: والعبرة بسير الأثقال؛ لأنه منضبط3. وقيل أن يكون بينه وبين القاضي مسافة القصر، وهي ثمانون كيلو مترا تقريبا، كالمسافة بين مكة وجدة، عندما كانت كذلك قبل أن تزحف المساكن من المدينتين، لكن المسافة الآن قد قلت عن ثمانين كيلو مترا بين جدة ومكة. النوع الثاني: الحاضر في البلد لكنه توارى، أو تعزز، وعجز القاضي عن إحضاره، فهذا أيضًا يعد غائبا ويحكم القاضي عليه، لتعذر الوصول إليه، وإلا لاتخذ الناس ذلك ذريعة إلى إبطال الحقوق. وأما غير هذين فلا تسمع الحجة ولا يحكم عليه إلا بحضوره، كما هو مبين في فقه الشافعية4. وأكثر أهل العلم يرون أن الحاضر في البلد أو قريب منه إذا لم يمتنع من الحضور لا يقضي عليه قبل أن يحضر أمام القاضي؛ لأنه يمكن سؤاله، فلا يجوز الحكم عليه قبل سؤاله كالحاضر الذي يحضر مجلس القاضي، ولا يصح القياس على الغائب البعيد؛ لأن البعيد لا يتيسر سؤاله. أما لو امتنع المدعى عليه من الحضور، أو توارى فيجوز القضاء عليه؛ لأنه تعذر حضوره وسؤاله أمام القاضي، فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد، بل هذا أولى؛ لأن الغائب البعيد معذور، وهذا لا عذر له5.   1 التبكير كما قال الشافعي إما أن يكون معناه الخروج عقب طلوع الفجر، وهذا أخذا مما قالواه في صلاة الجمعة، فإن التبكير فيها يدخل وقته من طلوع الفجر، أو يكون معناه التبكير في عرف الناس, وهو الخروج قبيل طلوع الشمس. الجمل على المنهج، ج5، ص364. 2 القدر الذي ينتهي به سفر الناس غالبه هو أوائل الليل. 3 سميت مسافة العدوى بهذا -كما قال بعض العلماء- لأن القاضي يعدي أي: يعين من طلب خصما منها على إحضاره، وقد علق على هذا بعض آخر من العلماء: "ولعل هذا تفسير باللازم، وإلا فمعنى أعدى: أزال العدوان، كما أن اشتكى أزال الشكوى، وفي المصباح: واستعديت الأمير على الظالم طلبت منه النصرة، فأعداني عليه أعانني ونصرني، فاستعدى طلب التقوية والنصرة، والاسم العدوى. قال ابن فارس: العدوى طلبك إلى وال ليعديك على ظلمك، أي: ينتقم منه باعتدائه عليك، والفقهاء يقولون: إلى مسافة العدوى، وكأنهم استعاروها من هذه العدوى؛ لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعد يوم واحد، لما فيه من القوة والجلادة. حاشية الجمل على المنهج، ج5، ص364. 4 الغاية القصوى في دراية الفتوى، لعبد الله بن عمر البيضاوي، تحقيق علي محيي الدين علي القره داغي، ج2، ص1012، وحاشية الجمل على شرح المنهج لزكريا الأنصاري، ج5، ص359، 360 مطبعة مصطفى محمد. 5 المغني، ج11، ص487. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 شروط القضاء على الغائب عند القائلين به : الشرط الأول, تعسر إحضار المدعى عليه. الشرط الثاني: أن يكون المدعى به حقا لآدمي، فإن كان حقا خالصا لله تبارك وتعالى فلا يصح القضاء به على الغائب، كحد شرب الخمر، والزنا؛ وذلك لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، بخلاف حقوق الآدميين، فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم القاضي بالمال دون عقوبة السرقة, وهي قطع اليد؛ لأن العقوبة هنا هي حق من حقوق الله تبارك وتعالى، وأما المال فهو حق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 الإنسان1. ويرى الشافعية جواز القضاء على الغائب في حد القذف؛ لأن حد القذف فيه حقان: حق لله تبارك وتعالى، وحق للعبد، لكن حق العبد أغلب عند الشافعية, ولهذا جاز القضاء فيه على الغائب2. الشرط الثالث: أن يصرح المدعي بالدعوى، ويعين المدعى به من ناحية القدر، والجنس. الشرط الرابع: أن يقيم المدعي البينة، وهل يقوم القاضي باستحلاف المدعي مع بينته أم لا؟ للعلماء في هذا رأيان: أحدهما: أنه لا يستحلف المدعي مع بينته، وهذا منقول عن أحمد في أشهر روايتين عنه. وقد استند هذا الرأي إلى ما يأتي: أولا: ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه". ثانيا: البينة التي أقامها المدعي بينة عادلة، وما دامت بينة عادلة لا تجب اليمين معها، ما لو كانت اليمين على الحاضر. الرأي الثاني: يستحلف المدعي مع بينته، وهذا ما يراه الشافعي، ورواية ثانية عن أحمد، ويراه المالكية كما سبق أن بينا.   1 المصدر السابق، ج11، ص486. 2 فتاوى الإمام النووي المسمى المسائل المثنورة، ص163، دار الكتب العلمية، ببيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وقد استند هذا الرأي إلى ما يأتي: أولا: يجوز أن يكون المدعي قد استوفى ما قامت به البينة، أو ملكه العين التي قامت بها البينة، ولو كان المدعى عليه حاضرا فادعى ذلك لوجبت اليمين، فإذا تعذر ذلك فيه لغيابه وجب أن يقوم القاضي مقامه في الأمور التي يمكن أن يدعيها الغائب. ثانيا: القاضي مأمور بالاحتياط في حق الغائب؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، واستحلاف المدعي من الاحتياط1. لا يحلف المدعي على حاضر إذا أقام البينة: العلماء الذين يرون استحلاف المدعي على الغائب مع وجود البينة، إنما قالوا ذلك احتياطا للغائب؛ لأنه يجوز أن يكون قد حدث بعد ثبوته بالبينة إبراء من هذا الحق، أو قضاء، أو حوالة، وأما إذا كانت الدعوى على حاضر, وأقام المدعي البينة فليس للقاضي تحليف المدعي مع البينة، حتى لو ارتاب القاضي، وما على القاضي عند الارتياب إلا أن يحتاط في البحث عن حال الشهود. نصب "مسخر" يقوم مقام الغائب: يرى بعض العلماء أنه في حالة نظر الدعوى على غائب يستحب للقاضي أن ينصب مسخرا، أي: شخصا يقوم مقام المدعى عليه الغائب، ينكر ما يدعي المدعي نيابة عن الغائب بأن يقول للمدعي: ليس لك عليه ما تدعيه، وذلك لكي تكون الحجة التي يقيمها المدعي على إنكار منكر، ويرى هذا البعض من العلماء أن هذا من المسخر وإن كان كذبا -والكذب حرام- إلا أنه جاز هنا لأنه من المصلحة، والكذب قد يجوز للمصلحة، وخصوصا وأن الأصل براءة ذمة الغائب مما يدعيه عليه خصمه2. ونصب المسخر -كما قال أحد أساتذتنا3- إغراق في الحرص على الشكليات يشبه المهزلة، وإلا فما الذي يمنع من سماع البينة، حتى على تقدير أن الغائب في الواقع مقر ونحن لا نعلم، وتكون حجة ضرورة -لمكان الغيبة والجهالة- واقعة موقع الاستثناء من الأصل العام الذي يقرر أن البينة لا تقام على مقر، وأليس هذا أفضل ألف مرة من ذلك السخف الذي لا معنى له "نصب المسخر"؟   1 المغني، ج11، ص486. 2 قال بهذا الرأي الشافعية، وبعض الحنفية. 3 الدكتور إبراهيم عبد الحميد، في نظام القضاء في الإسلام، ص253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 الشرط الثاني من شروط صحة الحكم في الدعوى : أن لا يسبق من المدعي ما يناقض دعواه: اشترط العلماء هذا الشرط؛ لأن يستحيل الجمع في الصدق بين سابق كلامه ولاحقه، كما لو ادعى شخص ملكية دار بعد إقراره أنه استأجرها؛ لأن استئجارها إقرار بالملك للمؤجر، فيكون بدعواه متناقضا، والتناقض يمنع صحة الدعوى. وقد استثنى بعض العلماء من هذا بعض المسائل: منها ما لو كذب القاضي المدعي فيما سبق منه، فتصح الدعوى حينئذ؛ لأن الكلام بهذا التكذيب -الذي حدث من القاضي- صار غير معول عليه، فلم يوجد التناقض. ومنها ما لو أقر بالرضاع، فقال عن امرأة معينة: هذه رضيعتي، ثم اعترف بالخطأ في إقراره، فله أن يتزوج بها بعد ذلك. ومنها ما لو صدق الورثة امرأة على أنها زوجة لمورثهم ودفعوا الميراث إليها، ثم دعواهم استرجاع الميراث منها بحكم الطلاق البائن الذي كان قد حصل من مورثهم حال صحته، ووفاته بعد هذا الطلاق، فتسمع دعواهم، لقيام العذر في ذلك لهم، حيث استصحبوا الحال في الزوجية، فصدقوا المرأة فيها، وخفيت عليهم البينونة؛ لأنها من الأمور التي ينفرد بها الزوج، ولذلك كان التناقض عفوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 الشرط الثالث من شروط صحة الحكم في الدعوى : أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت: يشترط لصحة الدعوى أن يكون المدعى به قابلا للثبوت، بأن لا يكون مستحيلا في الحس، أو في العقل، أو في العادة؛ لأن الدعوى تكون في حال المستحيل المادي ظاهرة الكذب مع احتمال الصدق احتمالا بعيدا، وفي حال المستحيل الحسي والعقلي متيقنة الكذب، فلا تحتمل الصدق بأي حال من الأحوال. مثال المستحيل العقلي ادعاؤه أن شخصًا ابنه، مع أنه لا يولد مثله لمثله، كأن كان المدعي في الأربعين من عمره، والمدعى بنوته في الخامسة والثلاثين من عمره. ومثال الدعوى بالمستحيل الحسي ادعاؤه مثل الجبل ذهبا أو فضة. ومثل بعض العلماء للدعوى بالمستحيل العادي بدعوى من هو معروف بالفقر والحاجة -وهو يأخذ الزكاة من الأغنياء- على آخر أنه أقرضه من مال نفسه مائة ألف دينار ذهبا، نقدا، دفعة واحدة، وأنه استهلكها في شئون نفسه بعد أن استقرضها وقبضها، ويطالبه برد بدلها فيرى بعض العلماء أن مثل هذه الدعوى لا يلتفت إليها القاضي، ولا يسأل المدعى عليه عن جوابها1. وأرى أن مثل هذه الدعوى لا مانع من سماعها؛ لأنه في بعض الأحيان تدل ظواهر الأمور على خلاف الحقيقة والواقع، فربما كان هذا الذي ظاهره الفقر والاحتياج غنيا في واقع الأمر، فما المانع من سماع دعواه والتحقيق فيها، ومطالبته بالبينة.   1 المجاني الزهرية، على الفواكه البدرية، ص105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الشرط الرابع عند بعض الحنفية : اشتمال الدعوى على المطالبة: مطالبة المدعى عليه بالمدعى به شرط من شروط صحة الدعوى عند أرباب المتون والشروح من فقهاء الحنفية، وأما أصحاب الفتاوى من فقهائهم فجعلوا اشتراط هذا الشرط قولا ضعيفا، والصحيح -كما قرر ذلك بعض الحنفية- ما في الفتاوى وهو عدم اشتراط المطالبة أصلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الشرط الخامس من شروط صحة الحكم في الدعوى : أن يكون المدعى به معلوما: لا بد من أن يكون المدعى به معلوما لكي تكون الدعوى صحيحة، بأن يفصل المدعي ما يدعيه، فيقول في دعوى القتل مثلا: قتله عمدا، أو شبه عمد، أو خطأ، وقتله وحده، أو اشترك مع غيره، فإذا أطلق ما يدعيه كقوله: هذا قتل ابني، استحب للقاضي استفصاله فيما ذكره. وإذا كان المدعى به شيئًا من الحبوب كالقمح أو غيره، فتكون الدعوى معلومة ببيان الجنس، كالقمح أو الشعير، وبيان القدر، والنوع، والصفة. وهذا إذا لم يكن المدعى به حاضرا، وإلا فتكفي الإشارة إليه. وهذا أيضا إذا كانت الدعوى دعوى عين، وأما دعوى الدين فلا يشترط فيها شيء من ذلك، بل المطلوب فيها أن يذكر المدعي ما يحصل به معلومية المدعى به ولو ببعض الأمور التي ذكرناها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 الشرط السادس، الشرط السابع، الشرطب الثامن: كونها ملزمة: أن تكون في مجلس القضاء: أن تكون بلسان المدعي أو وكيله الشرط السادس: كونها ملزمة يشترط لصحة الدعوى أن تكون ملزمة بشيء على الخصم، وإلا كانت عبثا، كما لو ادعى شخص التوكيل على موكله الحاضر، فهذه الدعوى لا يسمعها القاضي؛ لأن الوكالة عقد غير لازم، فبإمكان الموكل عزل وكيله. الشرط السابع: أن تكون في مجلس القضاء: فإذا كانت الدعوى في غير مجلس القضاء فلا تكون صحيحة، فلا يلزم المدعى عليه بالجواب، كما لا تسمع الشهادة إلا بين يدي القاضي. الشرط الثامن: أن تكون بلسان المدعي أو وكيله يرى أبو حنيفة رضي الله عنه لا بد أن تكون الدعوى بلسان المدعي، إذا لم يكن به عذر، إلا إذا رضي المدعى عليه لسان غيره. وأما أبو يوسف، ومحمد صاحبا أبي حنيفة، فيريان أنه لا يشترط ذلك، حتى لو وكل المدعي رجلا بالخصومة من غير عذر، ولم يرض به المدعى عليه تصح الدعوى، فيلزم المدعى عليه الجواب، وتسمع البينة. ونرى رجحان هذا الرأي، وسنعاود الكلام -إن شاء الله تعالى- بعد ذلك عن الوكالة في الدعوى. هذا، وقد بيّن العلماء أن المدعي إذا كان عاجزًا عن الدعوى عن ظهر قلبه، فإنه يصح له أن يكتب دعواه في صحيفة، ويدعي منها، فتسمع دعواه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الشرط التاسع، الشرط العاشر، الشرط الحادي عشر: الشرط الثاني عشر: أن لا تكون بنذر لمخلوق: تعيين المدعي عليه: أن لا يكون المدعي أو المدعي عليه حربيا أن تكون الدعوى محققة الشرط التاسع: أن لا تكون بنذر لمخلوق: بيّن بعض العلماء أنه يشترط لصحة الدعوى عدم كونها بنذر لمخلوق؛ لأن النذر لا يكون إلا لله عز وجل، فلا تسمع الدعوى بالنذر للمخلوق، ولا يقضى به1. الشرط العاشر: تعيين المدعى عليه: لا بد في صحة الدعوى من تعيين المدعى عليه. الشرط الحادي عشر: أن لا يكون المدعي أو المدعى عليه حربيا: يرى بعض فقهاء الشافعية أنه يشترط لصحة الدعوى أن يكون كل من المدعي والمدعى عليه غير حربي، لا أمان له، فلا تصح الدعوى من الحربي الذي لم يعط الأمان من المسلمين, ولا تصح كذلك الدعوى عليه. أما إذا كان الحربي له أمان من المسلمين، كأن عقدنا معه هدنة، أو أعطيناه أمانا مخصوصا فتسمع الدعوى منه وعليه. الشرط الثاني عشر: تكليف المدعي يشترط عند بعض الفقهاء في صحة الدعوى التكليف في المدعي، أي: إن   1 المجاني الزهرية، على الفواكه البدرية، ص94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 يكون بالغا عاقلا، وعلى هذا فلا تصح الدعوى من الصبي والمجنون. هكذا قرر فقهاء الشافعية1، وأما المالكية فلا يشترطون البلوغ في المدعي فإذا ادعى غير البالغ, وأقام شاهدا واحدا قبلت منه الدعوى2، وأما الحنفية فيرون أن الصبي إذا كان مميزا مأذونا له في المخاصمة3 فإنه يصح أن يكون مدعيا. حكم المدعى عليه من حيث اشتراط التكليف: هذا بالنسبة للمدعي، وما المدعى عليه فعند الحنفية أيضًا يشترط فيه التكليف4، فلا تصح الدعوى عندهم على الصبي والمجنون, ويرى الشافعية أنه لا تسمع الدعوى على الصبي والمجنون إلا في الإتلاف، فإذا أتلف الصبي أو المجنون شيئًا فإن الدعوى تصح عليه مع البينة واليمين، كالدعوى على الغائب والميت.   1 حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص510، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، ج2، ص224. والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، لمحمد الشربيني الخطيب، ج5، ص94، مطابع الشعب. 2 الشرح الصغير، مع حاشية الصاوي، ج4، ص286. 3 لو كان الصبي مرّنه والده على البيع والشراء, وكيفية مطالبة المدينين بما عليهم, وأذن له والده في أن يخاصم من عليه دين لوالده، أي: أن يدعي أمام القاضي فإن هذا الصبي يكون مأذونا له في المخاصمة. 4 بدائع الصنائع، ج6، ص222. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 الشرط الثالث عشر: أن تكون الدعوى محققة بيّن العلماء أنه لا بد أن تكون الدعوى محققة، فلو قال: أظن أن لي عليه ألفا لا تسمع الدعوى، لتعذر الحكم بالمجهول، لكن صرح العلماء بأن الظن الغالب ينزل منزلة التحقيق1.   1 تبصرة الحكام لابن فرحون، ج1، ص129، بهامش فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 حكم الوكالة في الدعوى: تجوز بعوض وبغير عوض اختلاف العلماء فيما لو اتفقا على أجرة إذا كسب القضية ... حكم الوكالة في الدعوى: تجوز بعوض وبغير عوض: بيّن العلماء أنه يجوز التوكيل في الخصومة سواء أكان الموكل رجلا أم امرأة، وللموكل أن يعزل الوكيل إن ظهر منه غش في خصومته، وميل مع المخاصم له، وكما تجوز الوكالة بغير عوض، تجوز أيضًا بعوض، فلو كانت بعوض فهي عقد لازم، ولا يصح لواحد منهما التخلي، ويشترط أن يكون بعوض معلوم، وإلى أجل معلوم، وفي عمل معروف. اختلاف العلماء فيما لو اتفقا على أجرة إذا كسب القضية: واختلف العلماء فيما لو اتفقا على أن له عوضا معلوما إذا أدرك حقه، وإذا لم يحكم القاضي به فليس له شيء؟ ومن يرى جواز هذا الاتفاق يشبهه بالاتفاق مع الطبيب على البرء من المرض، فإن برئ فله كذلك ,وإلا فلا شيء له. وروي عن مالك -رضي الله عنه- كراهة الجعل على الخصومة بشرط أن لا يأخذ إلا بإدراك الحق؛ لأنها على الشر والمجادلة؛ ولأنها قد تطول ولا ينجز غرض الجاعل فيذهب عمل من قام بالخصومة مجانا. ويروى عنه رواية أخرى بالجواز؛ لأن الضرورة قد تلجئ الناس إلى ذلك1.   1 لأنه قد يكون الموكل مسافرا بعيدا، أو مريضا لا يستطيع الانتقال إلى مقر القاضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 الوكالة عن المتهم بدعوى الباطل لا تجوز: وصرح العلماء بأن الوكالة عن المتهم بدعوى الباطل لا تجوز، ولا يجوز شرعا المجادلة عنه. فالوكالة في الخصومة -وهي التي يقوم بها المحامون1 في عصرنا- مشروطة بأن يعمل الوكيل أو يغلب على ظنه أن موكله ليس على باطل، وإلا فلا يجوز له أن يكون وكيلا عنه2؛ لأن أكل الناس بالباطل -سواء أكان مباشرة أم بالوكيل- لا يجوز شرعا، وليضع المحامون أمامهم الحديث الذي روته السيدة أم سلمة -رضي الله عنها- زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مواريث قد درست ليس بينهما بينة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنكم تختصمون إلى رسول الله، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له من النار، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة" 3.   1 أصدرت الحكومة المصرية عام 1881 لائحة المحاماة، وفيها سميت حرفة المحاماة، وبعد خمس سنوات أطلق عليهم رسميا اسم "الأفوكاتية" أسوة بزملائهم أمام المحاكم المختلطة، وكان موجودا في مصر إلى سنة 1910 محامون لا يحملون أي شهادات دراسية، وصدر قانون نقابة المحامين في مصر سنة 1912، وفي هذه السنة قيد أول محام في مصر أمام النقابة. محسن محمد "جريدة أخبار اليوم" في 4/ 9/ 1993. 2 تبصرة الحكام، ج1، ص154 وما بعدها. 3 الحديث منفق عليه، ورواه أيضا أحمد بن حنبل، سبل السلام للصنعانين ج4، ص121، ومسند أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 هل يسقط الحق بتقادم الزمان ؟ قرر السرخسي أحد كبار فقهاء الحنفية في كتابه "المبسوط" أن الرجل إذا ترك الدعوى ثلاثا وثلاثين سنة، ولم يكن هناك مانع يمنعه من الدعوى كالغيبة ونحوها، ثم ادعى بعد ذلك لا تسمع دعواه. التعليل لذلك: وعلل لذلك بأن ترك الدعوى كل هذه المدة من غير عذر مع التمكن من إقامتها يدل على عدم الحق في الظاهر، لكن في بعض كتب الحنفية الأخرى، كالأشباه لابن نجيم، أن الحق لا يسقط بتقادم الزمان، ويوضح بعض علمائهم أن عدم سماع الدعوى بعد المدة المذكورة، إنما هو للنهي عنه من السلطان، فيكون القاضي معزولا عن سماعها إلا بأمر، فإذا أمر بسماعها بعد هذه المدة تسمع، وقال إن سبب النهي إرادة قطع الحيل والتزوير. رأي بعض الحنفية ومحاولة التوفيق بين ما قاله السرخسي وبين مبدأ عدم سقوط الحق بالتقادم: لكن بعض الحنفية لم يشترط في حصة الدعوى عدم مضي هذه المدة، وصرح هذا البعض من الحنفية بأن من القضاء الباطل القضاء بسقوط الحق بمضي سنين، وحاولوا أن يوفقوا بين ما قاله السرخسي وبين مبدأ عدم سقوط الحق بالتقادم، فقالوا إن ما في المبسوط لا يخالف هذا المبدأ، فإنه ليس فيه قضاء بالسقوط، وإنما فيه عدم سماع الدعوى1. لكنني أرى أنه سواء أقلنا مع السرخسي بعدم سماع الدعوى إذا تركها صاحبها ثلاثا وثلاثين سنة، أم قلنا بسقوط الحق بمضي هذه السنين أو أقل أو أزيد، فالنتيجة واحدة على كلا القولين وهي سقو الحق؛ لأنه إذا قلنا بعدم سماع الدعوى؛ لأن الحاكم قد أمر بذلك، فإن القضاة يكونون ممنوعين بأمر الحاكم من   1 تكملة حاشية ابن عابدين، ج7، ص485، والمجاني الزهرية، ص108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 سماع الدعوى التي تركها صاحبها سنين معينة، وهذا يؤدي إلى أن المدعي صاحب الحق لن يجد قاضيا يدعي أمامه، فتكون النتيجة لهذا سقوط الحق بالتقادم. ولهذا فإننا نرى أن المالكية كانوا أكثر وضوحا -كما سنعلم قريبا- عندما قرر بعضهم سقوط الحق بمضي سنين معينة، وليس عدم سماع الدعوى فقط. وكذلك وجدنا عند الشافعية أن بعضهم -كالإمام الرملي- أفتى أن الحق إذا مضى عليه خمس عشرة سنة، لا تسمع به الدعوى لمنع ولي الأمر القضاة من ذلك، فلم يجد صاحبه قاضيا يدعيه عنده1. ما يراه المالكية: ونجد المالكية مختلفين، فبعضهم يرى أن الديون الثابتة في الذمة يسقطها مضي عشرين عاما مع حضور رب الدين، وتمكنه من الطلب به، ولا يوجد مانع يمنعه منه، وبعضهم يرى أن الديون تسقط بمضي ثلاثين عاما، إذا كان صاحب الدين أيضا حاضرا، ومتمكنا من الطلب بها، وهذا ما يراه مالك -رضي الله عنه، ويرى بعضهم عدم سقوطها أصلا، وهذا هو الذي اختاره ابن رشد في البيان، فقد قال: "إذا تقرر الدين في الذمة، وثبت فيها لا يبطل وإن طالب الزمان، وكان ربه حاضرا ساكتا قادرا على الطلب به، لعموم خبر "لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم"2.   1 حاشية الجمل على شرح المنهج، ص339، مطبعة مصطفى محمد. 2 الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص236، والشرح الصغير، ج5، ص67، مطبعة صبيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 ما نراه: وأقول: هذا هو الحق الذي يجب أن يصار إليه، وما على القاضي إلا أن يطلب الحجة. من صاحب الحق، فإذا تمكن المدعي من إثبات حقه بوسائل الإثبات المشروعة, كان على القاضي أن يقضي له بحقه، سواء مضت مدة طويلة أم لا، وليس من حق رئيس الدولة أو ولي الأمر أن يمنع القضاة من سماع الدعوى؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يأكل الناس أموال غيرهم بالباطل. وأكل أموال الناس بالباطل لا يجوز حتى ولو حكم به الحاكم، يؤيد ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: $"إنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" متفق عليه1. لا يصح الأخذ بقرينة وترك الأخذ بالبينة: ومما يدل على عدم سقوط الحق بتقادم الزمان ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه سلم- قال: $"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" والمدعي قد يكون صاحب حق في الواقع فإذا لم تسمع دعواه، ولو طال الزمان، لكان المدعى عليه آكلا لمال امرئ مسلم بغير طيب من نفسه. لا يجوز إغفال مصلحة المدعي: ومن الضعف أن نأخذ بقرينة ترجح جانب المدعى عليه وتترك الأخذ بالبينة, التي قد تكون في جانب المدعي، فإن القائلين بعدم سماع الدعوى بعد مضي سنين حدودها، قد عللوا لرأيهم هذا بأن ترك الدعوى كل هذه المدة من غير عذر مع التمكن من إقامتها، يدل على أن المدعي ليس له الحق في الظاهر، أي: إن سكوته هذه المدة قرينة على عدم ثبوت حقه ظاهرا، ونقول إن القرينة هنا أضعف من البينة، وإذا كان أصحاب الرأي القائل بعدم سماع الدعوى بمضي سنين معينة، قد راعوا مصلحة المدعى عليه، فقد أغفلوا في الوقت نفسه مصلحة المدعي، الذي قد يكون معه من وسائل الإثبات ما يستطيع بها أن يبين بجلاء حقه المدعى به. أقصى ما يمكن نسبته إلى المدعي هو الإهمال: إن أقصى ما يمكن نسبته إلى المدعي هو الإهمال والتفريط في طلب حقه طوال السنين الماضية، وهل الإهمال والتفريط جريمة كبيرة تستوجب أن يحرم الإنسان من حق يستطيع أن يقيم عليه البينة؟ هل الإهمال والتفريط يستوجب أن يمنع الإنسان حتى من المطالبة بحقه؟   1 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 نظام الفصل في الدعوى خطاب عمر لأبي موسى الأشعري ... نظام الفصل في الدعوى: تمهيد: نحب قبل بيان نظام الفصل في الدعوى أن نذكر كتاب عمر -رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري، ففيه آداب جليلة للقضاة، وبيان لصفة الحكم وكيفية الاجتهاد واستنباط القياس، كتب عمر يقول: خطاب عمر لأبي موسى الأشعري: "أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فعليك بالعقل والفهم وكثرة الذكر، فافهم إذا أدلى إليك الرجل الحجة، فاقض إذا فهمت، وامض إذا قضيت، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، آس بين الناس في وجهك ومجلسك، وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 حراما، أو حرم حلالا، ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهي إليه، فإن جاء ببينة أعطيته حقه وإلا استحللت عليه القضية، فإن ذلك أبلغ للعذر وأجلى للعمى، ولا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فرجعت فيه عقلك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك مما ليس في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، ثم اعرف الأشباه والأمثال، وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله تعالى، وأشبهها بالحق، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء، أو نسب، أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر، وادرأ بالبينات والأيمان، وإياك والغضب، والقلق، والضجر، والتأذي بالناس عند الخصومة، والتنكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله تعالى به الأجر، ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله تعالى ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شانه الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا فما ظنك بثواب من الله في عاجل زرقة وخزائن رحمته، والسلام" ا. هـ1. بعد ذلك نقول: إذا صحت الدعوى بتوفر الشروط المطلوب فيها، فإن على القاضي أن يسأل الخصم "المدعى عليه" عنها، كأن يقول: خصمك ادعى عليك كذا وكذا، فماذا تقول؟ فإذا أقر المدعى عليه حكم القاضي عليه بإقراره، وإن أنكر، سأل القاضي المدعي البينة في دعواه، فإن أقامها يحكم القاضي على خصمه، وإذا لم يقم البينة قام القاضي بتحليف الخصم "المدعى عليه" إن طلب المدعي تحليفه؛ لأنه حقه، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- روي عنه أنه قال   1 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص119، والأحكام السلطانية، للماوردي، ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 للمدعي: "ألك بينة"؟ فقال: لا فقال: "فلك يمينه"، فقال: يحلف ولا يبالي، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ليس لك إلا هذا، شاهداك أو يمينه". دليل على أن اليمين حق للمدعي لا للقاضي: فهذا يدل -كما قال العلماء- على أن اليمين حق للمدعي لا للقاضي، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أضاف اليمين إلى المدعي بلام التمليك. ولا يصح للقاضي أن يحلف المدعى عليه إلا بعد أن يطلب المدعي تحليفه؛ لأنه حق له فلا يستوفيه بدون إذنه، فلو حلفه القاضي قبل طلب المدعي فلا يعتد باليمين؛ لأنها يمين قبل وقتها، وللمدعي الحق في أن يطالب بإعادتها؛ لأن اليمين الأول لم تكن يمينه. اليمين توجه إلى كل من ادعي عليه حق: جمهور العلماء من سلف الأمة وخلفها، ومنهم الشافعي -رضي الله عنهم- جميعا، يرون أن اليمين تتوجه على كل من ادعى عليه حق، سواء أكان بينه وبين المدعي اختلاط أم لا. ويرى مالك وجمهور أصحابه، والفقهاء السبعة1، فقهاء المدينة أن اليمين   1 الفقهاء السبعة هم: سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي، المتوفى سنة 94، وعروة بن الزبير بن العوام الأسدي، المتوفى سنة 94، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي المتوفى سنة 106، وخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري المتوفى سنة 99، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المتوفى سنة 95، وسليمان بن يسار الهلالي المتوفى سنة 107، واختلف في السابع فقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر العدوي المتوفى سنة 106، وقيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي المتوفى سنة 93. قال عبد الله بن المبارك كان فقهاء المدينة سبعة، وقال: وكانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعا فنظروا فيها، فلا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها فيصدرون، شرح الأمير على نظم 39 مسألة لا يعذر فيها بالجهل، لبهرام بن عبد الله، ص5، وتبيين المسالك للشيخ عبد العزيز محمد، ج1، ص24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 لا تتوجه إلا على الشخص الذي ثبت أن بينه وبين المدعي خلطة، لئلا يبتذل السفهاء أهل الفضل، بتحليفهم مرارا في اليوم الواحد، فاشترطت الخلطة حتى تدفع هذه المفسدة. وقال المؤيدون لهذا الرأي أيضًا: قد ثبت وتقرر أن الإقدام على اليمين يصعب على كثير من الناس، سيما على أهل الدين، وذوي المراتب والأقدار، وهذا أمر معتاد بين الناس على مر الأعصار، لا يمكن جحده، وكذلك روي عن جماعة من الصحابة أنهم افتدوا من أيمانهم، منهم عثمان وابن مسعود، وغيرهما، وإنما فعلوا ذلك لمروءتهم، ولئلا يبقى للظلمة إليهم إذا حلفوا -ممن يعادي الحالف، ويحب الطعن عليه- طريق إلى ذلك. وبعض فقهاء المالكية يرى أنه لا تشترط الخلطة في تحليف المدعى عليه، وأن القول باشتراط الخلطة قول ضعيف، وجرى العمل في المذهب المالكي على الرأي القائل بعدم اشتراط الخلطة1. وعلى القول الذي يذهب إلى اشتراط ثبوت الخلطة، هل يشترط تعدد العدول في إثباتها؟ هنا أيضا رأيان عند من يرى ثبوت الخلطة: أحدهما أنه تثبت الخلطة بعدل واحد، ولو كان امرأة، لكن بعض فقهاء المالكية بيّن أن هذا الرأي ضعيف2. ومع أن المالكية -كما بينا- مختلفون في اشتراط ثبوت الخلطة، في تحليف   1 بلغة السالك لأقرب المسالك، إلى مذهب الإمام مالك، لأحمد بن محمد الصاوي على الشرح الصغير، لأحمد بن محمد بن أحمد الدردير، ج3، ص339. مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1952. 2 المصدر السابق، ج3، ص339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 المدعى عليه فإنهم متفقون على أن هناك ثمان مسائل تتوجه فيها اليمين, وإن لم يثبت خلطة. الأولى: الصانع إذا ادعي عليه بما له فيه صنعة، فتتوجه عليه اليمين ولو لم تثبت خلطة بينهما، وعللوا لهذا بأنه لما نصب نفسه للناس فإن هذا التنصيب في معنى الخلطة، وكذلك يعطى نفس الحكم التاجر ينصب نفسه للبيع والشراء. الثانية: المتهم بين الناس يدعى عليه بسرقة أو غصب، فتتوجه عليه اليمين ولو لم تثبت خلطة. وهذا في الشخص محل الاتهام بين الناس، وأما الشخص مجهول الحال فيه رأيان عند المالكية. الثالثة: الضيف إذا ادعى، أو يدعى عليه. الرابعة: الدعوى في شيء معين، كثوب بعينة. الخامسة: الوديعة على أهلها، بأن يكون المدعي ممن يملك تلك الوديعة والمدعى عليه ممن يودع عنده مثلها، والحال يقتضي الإيداع كالسفر والغربة. السادسة: المسافر إذا ادعى على رفقته. السابعة: المريض إذا ادعى في مرض موته على غيره بدين مثلا. الثامنة: البائع إذا ادعى على شخص حاضرا المزايدة أنه اشترى سلعته بكذا وهذا الشخص الحاضر ينكر الشراء1. معنى الخلطة: اختلف العلماء في تفسير الخلطة، فيرى البعض أن معناها أن يكون معروفا معاملته ومداينته، وقيل: تكفي الشبهة، وقيل أن يليق بالمدعي أن يدعي بمثل هذه   1 المصدر السابق، ج3، ص339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الدعوى على مثل المدعى عليه، وقيل أن يليق بالمدعي أن يعامل المدعى عليه بمثل هذه الدعوى. والواقع أن جمهور العلماء لهم دليل قوي واضح هو القاعدة التي بينها حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" وغير هذا من الأحاديث التي تدور حول هذا المعنى. وأما الرأي الذي يشترط الخلطة فلا يستند إلى أصل من كتاب أو أو سنة، أو إجماع، ومصلحة المدعي أقوى من دفع مفسدة المدعى عليه بابتذال الأراذل للأكابر وتحليفهم، فقدمت الأولى على الثانية لقوتها. ويمكن أن نقول: إنه إذا ثبت أن المدعي يريد ابتذال الأكابر وتحليفهم فإنه يعاقبه القاضي، ويبقى الأصل العام وهو: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. نكول المدعى عليه: النكول في اللغة مصدر للفعل "نكل" ومعناه: نكص، أي: رجع عن شيء قاله، أو عدو قاومه، أو شهادة أراد أداءها، أو يمين وجبت عليه. والنكول نوعان، حقيقي، وهو أن يقول: لا أحلف، وحكمي وهو أن يمتنع عن اليمين. والامتناع عن اليمين يعد نكولا حكما إذا عرف أنه ليس في لسانه آفة تمنعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 عن اليمين، أو في أذنه ما يمنع سماع كلام القاضي. وقد بيّن العلماء أنه بامتناعه عن اليمين مرة يعد ناكلا، لكن من المستحب للقاضي أن يعرض اليمين عليه ثلاث مرات، ويشترط في النكول أن يكون مجلس القاضي1. بعد هذا نقول: إذا نكل المدعى عليه عن اليمين -في قضايا الأموال- بعد أن طلبها القاضي منه فما الحكم؟ اختلف العلماء في هذا على الصورة الآتية: الرأي الأول: إذا لم يحلف المدعى عليه حكم القاضي عليه بنفس النكول, ولا ترد اليمين على المدعي، وذلك في قضايا الأموال. وهذا الرأي ما اختاره فقهاء الحنابلة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. الرأي الثاني: إذا نكل المدعى عليه لا يقضي القاضي عليه بالنكول، بل ترد اليمين على المدعي، فإن حلف المدعي قضى له القاضي، فيستحق المدعى به بيمينه، لا بنكول خصمه، وإن لم يحلف المدعي صرفهما القاضي. وهذا مذهب الشافعي، ومالك، وصوبه أحمد، وبه قال الأوزاعي، وشريح وابن سيرين، وهو مروي عن ابن عمر، وعلي، والمقداد بن الأسود وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، رضي الله عنهم. الرأي الثالث: لا يقضي بالنكول، ولا بالرد، ولكن يحبس المدعى عليه حتى يجيب إما بإقرار، أو إنكار يحلف معه. وهذا قول في مذهب أحمد، وأحد رأيين لفقهاء الشافعية، وقول ابن أبي ليلى.   1 المجاني الزهرية، ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أدلة الأراء مدخل ... أدلة الآراء: أدلة الرأي الأول: استدل للرأي الأول القائل بأنه إذا نكل المدعى عليه حكم القاضي بنفس النكول، بالأدلة الآتية: أولا: ما رواه أبو عبيد بسنده عن سالم بن عبد الله أن أباه -عبد الله بن عمر- باع عبدا له بثمانمائة درهم بالبراءة، "أي: من العيوب" ثم إن صاحب العبد خاصم فيه ابن عمر إلى عثمان بن عفان، فقال عثمان لابن عمر: احلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد". ثانيا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "اليمين على المدعى عليه" فاليمين محصورة في جانب المدعى عليه، فلم تشرع لغيره. أدلة الرأي الثاني: أما الرأي الثاني القائل بأنه لا يقضي بالنكول بل ترد اليمين على المدعي، فإن حلف قضى له، وإلا صرفهما، فقد استدل له بما يأتي: أولا: ما رواه الدارقطني من حديث نافع عن ابن عمر "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رد اليمين على طالب الحق". ثانيا: ما روي أن المقداد اقترض عن عثمان مالا، فقال عثمان: هو سبعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 آلاف، وقال المقداد: هو أربعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: احلف أنه سبعة آلاف، فقال له عمر: أنصفك، فأبى أن يحلف فقال عمر: خذ ما أعطاك. ثالثا: ما رواه البيهقي عن علي قال: "اليمين مع الشاهد، فإن لم تكن له بينة فاليمين على المدعى عليه، إذا كان قد خالطه، فإن نكل حلف المدعي". رابعًا: ما روي عن سالم بن غيلان التجيبي، أن رسول الله -صلى اله عليه وسلم- قال: "من كانت له طلبة عند أحد، فعليه البينة، والمطلوب أولى باليمين، فإن نكل حلف الطالب وأخذ". لكن أجيب عن هذا الحديث بأنه مرسل1. خامسا: أن الشارع شرع اليمين مع الشاهد الواحد، فقد روى مسلم في صحيحه، من حديث عمرو بن دينار، عن ابن عباس: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بشاهد ويمين" قال عمرو: في الأموال.   1 الحديث المرسل: ما سقط منه الصحابي، بأن يروي التابعي مباشرة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فيقول الحسن البصري -مثلا وهو تابعي- قال رسول الله، وهو أحد أنواع الأحاديث الضعيفة عند جمهور أهل الحديث، وأما الفقهاء فبعضهم يرى جواز الاحتجاج به كأبي حنيفة، وكذلك مالك وأحمد في المشهور عنهما، وبعضهم كالشافعي يرى أنه لا يصح الاحتجاج بالمرسل إلا مرسل سعيد بن المسيب، وأما ما عداه من المرسل فلا بد من تحقق الشروط الآتية: الشرط الأول: أن يكون الراوي من كبار التابعين. الشرط الثاني: أن يكون ممن يروي عن الثقات دائما، بحيث إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا، ولا مرغوبا عن الرواية عنه. الشرط الثالث: أن يكون هذا التابعي ممن يوافق الحفاظ في أحاديثهم إذا شاركهم، لا يخالفهم إلا بنقص لفظ من ألفاظهم التي لا يختل بها المعنى. الشهاوي في مصطلح الحديث، ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 فلم يكتف في جانب المدعي بالشاهد الواحد بل أتى باليمين تقوية لشاهده، وإذا كان شاهد المدعي قد قوي باليمين فإن نكول المدعى عليه أضعف من شاهد المدعي, فهو أولى بأن يقوى بيمين الطالب؛ لأن النكول ليس بينة من المدعى عليه، ولا إقرارا، وهو حجة ضعيفة، فلم يقو على الاستقلال بالحكم، فإذا حلف معها المدعي قوي حانبه، فاجتمع النكول من المدعى عليه واليمين من المدعي، فقاما مقام الشاهدين، أو الشاهد، أو الشاهد واليمين. قالوا: ولهذا لم يحكم على المرأة في اللعان بمجرد نكولها دون يمين الزوج، فإذا حلف الزوج، ونكلت عن اليمين، حكم عليها: إما بالحبس حتى تقر بالزنا أو تلاعن كما يقول أحمد وأبو حنيفة، وإما بالحد كما يقول مالك والشافعي. دليل الرأي الثالث: وأما الرأي الثالث القائل بأنه لا يقضي بالنكول ولا بالرد، ولكن يحبس المدعى عليه حتى يجيب بإقرار أو إنكار يحلف معه، فقد احتج له بأن المدعى عليه قد وجب عليه أحد الأمرين: إما الإقرار، وإما الإنكار، فإذا امتنع من أداء الواجب عليه عوقب بالحبس ونحوه حتى يؤديه، قالوا: وكل من عليه حق فامتنع عن أدائه فهذا سبيله. وأما الآخرون فقد فرقوا بين الموضعين وقالوا: لو ترك المدعي ونكوله لأدى هذا إلى أن تضيع حقوق؛ لأن المدعى عليه من الممكن أن يصبر على الحبس، فإذا نكل عن اليمين ضعف جانب المرأة الأصلية فيه وقوي جانب المدعي فقوي باليمين1. إذا نكل المدعي أيضا: بيَّنّا فيما سبق أن بعض العلماء يرى أنه إذا نكل المدعى عليه أن اليمين ترد على المدعي، فإن حلف قضى القاضي له، والسؤال الآن ما هو الحكم -على هذا الرأي- لو نكل المدعي أيضا عن اليمين؟ أجاب أصحاب هذا الرأي بأنه لو نكل المدعي أيضًا صرفهما القاضي2.   1 الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية، ص137، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، والشرح الكبير لعبد الرحمن بن محمد بن قدامة المقدسي، ج11، ص427، وتكملة فتح القدير لشمس الدين أحمد بن المعروف بقاضي زاده، ج8، ص176. 2 الشرح الكبير، لعبد الرحمن بن محمد بن قدامة، ج11، ص428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 يكفي في اليمين الحلف بالله، أو صفة من صفاته : إذا اقتصر القاضي على الإحلاف بالله تعالى كان هذا كافيا، قال -صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر" وكذلك لو كان اليمين بصفة من صفاته عز وجل كقول الحالف: وعزة الله، وعظمة الله، كان هذا كافيا. وشدد بعض فقهاء الشافعية فقال: بأنه لا بد من أن يغلظ اليمين بذكر أوصاف الله عز وجل، كأن يقول مثلا: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وقالوا في التعليل لهذا: ليخرج بها من عادة الناس في معهود أيمانهم مما يكثرونه في كلامهم من لغو اليمين، لكن يرى البعض الآخر أن التغليظ مستحب وليس بلازم. وفي الفقه الحنفي نجد بعض فقهائه يبينون أن اليمين يكفي فيها الحلف بالله تعالى، وللقاضي أن يغلظ اليمين إن شاء؛ لأن أحوال الناس شتى، فمنهم من يمتنع عن اليمين بالتغليظ، ويتجاسر عند عدمه، فيغلظ له اليمين لعله يمتنع بذلك. وقيل: لا تغلظ اليمين على الذي عرف بالصلاح، وتغلظ على غيره، وقيل: تغلظ على الخطير من المال دون الحقير1.   1 المجاني الزهرية، ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 تغليظ الحلف بالمكان والزمان : العلماء مختلفون في تغليظ الحلف بالمكان والزمان هل يجوز للحاكم أم لا؟ على أربعة آراء: الرأي الأول: ما يراه جمهور العلماء، وهو وجوب التغليظ في الزمان والمكان، وعندهم أن التغليظ على الحالف إذا كان في المدينة أن يكون الحلف على المنبر، وإذا كان الحالف في مكة فالتغليظ عليه أن يحلف بين الركن والمقام، وأما في غير مكة والمدينة فالتغليظ يكون فيها المسجد الجامع. هذا ما يختص بالتغليظ بالمكان عند الجمهور، وأما التغليظ في الزمان فكأنهم يقولون ينظر إلى الأوقات الفاضلة، مثل: بعد العصر، وليلة الجمعة، ويومها وما ماثل هذا. الرأي الثاني: لا تغليظ في الزمان ولا في المكان، وهذا ما يراه الحنفية والحنابلة، والهادوية من فقهاء الزيدية، قال أصحاب هذا الرأي: ولا يجب على الحالف أن يجيب الحاكم إلى ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الرأي الثالث: تغليظ الحلف بالمكان والزمان مستحب وليس واجبا، وهو ما يراه بعض العلماء. الرأي الرابع: أن هذا متروك للحاكم واجتهاده، فإذا رأى أن التغليظ بالزمان أو المكان حسن ألزم الشخص به، وإلا تركه. ما استدل به الجمهور: استدل الجمهور بما يأتي: أولا: ما رواه جابر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار" رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي وصححه ابن حبان. ثانيا: ما روي أن عمر، وعثمان، وابن عباس، وغيرهم من السلف فعلوا ذلك. ثالثا: استدلوا للتغليظ بالزمن بقوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} قال المفسرون: هي صلاة العصر. ما استدل به الحنفية ومن معهم: استدل الحنفية ومن وافقهم بإطلاق أحاديث: "اليمين على المدعى عليه" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وبقوله -صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" 1. هذا، ولم أطلع على دليل للرأيين الثالث والرابع. الكافر يحلف أيضا: بيّن العلماء أن الكافر يحلف أيضًا وهذا يدل على عظم اليمين، وعظم الجرم عند الحديث فيها، يقول الصنعاني أحد كبار علماء الحديث والفقه عن اليمين: "يعظم شأنها، فإنها إشهاد لله سبحانه أن الحقيقة كما يقول، ولو كان الأمر على خلاف الدعوى لكان مفتريا على الله أنه يعلم صدقه، فلما كانت بهذه المنزلة العظيمة هابها المؤمن بإيمانه وعظمة شأن الله عنده أن يحلف كاذبا، وهابها الفاجر لما يراه من تعجيل عقوبة الله لمن حلف يمينا فاجرة"2 ا. هـ. فليحذر المسلمون الذين يتجرءون على الحنث بالأيمان أن يصيبهم غضب الله تعالى، والأصل في هذا ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، حلّف ابن صوريا، اليهودي على حكم الزنا في التوراة، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى". تغليظ اليمين على غير المسلمين: وتغليظ اليمين على اليهودي -كما قال العلماء- أن يحلفه القاضي بالله الذي أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق، وتغليظها على النصراني بأن يحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وتغليظها على المجوسي والوثني بأن يحلفه بالله الذي خلقه وصوره.   1 أدب القضاء لابن أبي الدم، ج1، ص554، تحقيق ودراسة الدكتور محيي هلال السرحان. 2 سبل السلام، للصنعاني ج4، ص131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 هل يحلف القاضي من لا يعتقد بوجود الله تعالى: بيّن العلماء أن القاضي يحلّف الدهري أيضا, وهو من لا يعتقد خالقا ولا معبودا، كالشيوعيين، فيحلفه بالله الخالق الرازق، وأجابوا على سؤال يمكن أن يثار هنا، وهو أن الدهري لا ينزجر باليمين فلما فائدة تحليفه؟ قالوا: إن في تحليفه فائدتين: إحداهما: إجراء حكم المسلمين عليهم، فالله تبارك وتعالى يقول: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} . الثانية: أن يزداد بهذا اليمين إثما، ويدركه شؤمها، فربما يتعجل بها انتقام الله عز وجل1، وقد روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يمين الغموس تدع الديار بلاقع" 2. وهو حديث رواه أبو حنيفة من حديث أبي هريرة، ولفظه "تذر" بدل "تدع"، وأخرجه أبو داود، والبيهقي وقالا عنه: إنه مشهور بالإرسال، ورواه عبد الرزاق مرسلان ومعضلا3.   1 المصدر السابق، ج1، ص548. 2 البلقع والبلقعة: الأرض القفر التي لا شيء عليها. 3 المقدمة السلطانية في السياسة الشرعية، لطوغان شيخ المحمدي الأحمدي من علماء الحنفية في القرن التاسع الهجري، وهي موضوع رسالة ماجستير مقدمة من يوسف صديق إسماعيل، إلى كلية الشريعة والقانون بالقاهرة، مكتوبة بالآلة الكاتبة، ص323، 324. ومعنى الحديث المرسل، ما سقط منه الصحابي بأن يرفعه التابعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، بأن يقول التابعي كالحسن البصري مثلا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجمهور المحدثين يرون أن المرسل من أنواع الأحاديث الضعيفة، وأما الفقهاء فبعضهم يوافق جمهور علماء الحديث كالإمام الشافعي، وكثير من الفقهاء والأصوليين، وبعضهم يحتج بالحديث المرسل كالإمام أبي حنيفة، والإمام مالك، وقول عن الإمام أحمد، وبعض أهل العلم. وأما الحديث المعضل فهو ما سقط من رواته راويان متتاليان أو أكثر سواء كان السقوط حقيقيا أم حكميا، والسقوط الحقيقي كإرسال تابع التابعي, وكأن يقول بعض المؤلفين في الفقه الإسلامي في القرن الثاني الهجري وما بعده، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه يوجد راويان فأكثر بين هؤلاء المؤلفين ورسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأما السقوط الحكمي فيتحقق بوجود راويين مبهمين متواليين. انظر المختصر الوجيز في علوم الحديث للدكتور محمد عجاج الخطيب، ص151، 152 مؤسسة الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 تعتبر في اليمين نية القاضي: قال العلماء إن نية القاضي المستحلف للخصم هي التي تعتبر، سواء أكان الخصم موافقا للقاضي في مذهبه أم لا، لحديث: "اليمين على نية المستحلف". وفي رواية أخرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك"، فهذا دليل على أن اليمين على نية الذي يقوم بالتحليف ولا ينفع فيها نية الحالف إذا كان ينوي بها نية أخرى تخالف ما أظهره1. رواه الإمام مسلم2. والمعنى في هذا أنه لو كانت نية الحلف هي المعتبرة لأدى ذلك إلى بطلان فائدة الأيمان وضاعت الحقوق؛ لأن كل واحد يحلف على ما يقصده هو لا ما يقصده القاضي، فلو ادعى مثلا حنفي على شافعي شفعة الجوار -والقاضي يعتقد أن للجار حق الشفعة كما هو مذهب الحنفية- فليس للمدعى عليه أن يحلف على أنه غير مستحق لها عملا باعتقاده هو؛ لأنه شافعي، والشافعية يرون أن الشفعة للشريك فقط لا للجار، بل يجب عليه اتباع القاضي. وعلى هذا فلو ورى الحالف في يمينه بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليفه، كقوله والله لا يستحق علي دينارا ولا درهما ولا أقل من ذلك ولا أكثر، وكان يقصد دينارا ودرهما لدولة أخرى غير الدولة التي تعاملا بدنانيرها أو دراهمها، أو تأول بأن اعتقد الحالف خلاف نية القاضي كحنفي حلف شافعيا على شفعة الجوار، فحلف الشافعي أنه لا يستحقها عليه، فإن ذلك لا يدفع إثم اليمين الفاجرة؛ لأن اليمين إنما شرعت لكي يهاب الخصم الإقدام عليها خوفا من الله تبارك وتعالى، فلو صح تأويله لأدى ذلك إلى بطلان هذه الفائدة؛ لأن كل شيء   1 سبل السلام، ج4، ص102. 2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص102 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 قابل للتأويل في اللغة. وبيّن العلماء أن إثم الحالف إذا فعل هذا مقيد بأمرين: الأمر الأول: أن يكون الحلف بالله تعالى، فإن كان القاضي قد حلفه بالطلاق أو العتاق، لحلف وورى نفعته التورية، وإن كانت حراما؛ لأنه يبطل بها حق المستحق، لأن القاضي ليس له حق التحليف بالطلاق والعتاق كما يرى ذلك النووي من فقهاء الشافعية المشهورين والمحدثين. الأمر الثاني: أن لا يكون خصمه ظالما في نفس الأمر، ومثل العلماء لهذا بما لو كان عنده وديعة لإنسان، فأراد ظالم أخذ هذه الوديعة منه، فأنكر أن عنده وديعة، فإن اكتفى الظالم بيمينه قال العلماء فليحلف ولا إثم عليه1. لا يستحلف القاضي أحدا بالطلاق: قال الماوردي أحد كبار فقهاء الشافعية وغيره إنه لا يجوز للقاضي أن يحلف أحدا بطلاق، أو عتق، أو نذر، وقال الشافعي -رضي الله عنه: متى بلغ الإمام "رئيس الدولة" أن قاضيا يستحلف الناس بطلاق، أو عتق، أو نذر عزله عن الحكم؛ لأنه جاهل، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من أهل العلم يرى الاستحلاف بذلك2. فوائد اليمين: لليمين عدة فوائد، منها:   1 مغني المحتاج، ج4، ص475. 2 حاشية الجمل على شرح المنهج، ج3، ص427. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 1- تخويف المدعى عليه سوء عاقبة الحلف الكاذب، فيحمله ذلك على الإقرار بالحق. 2- القضاء عليه إذا نكل عنها. 3- انقطاع الخصومة والمطالبة في الحال، وتخليص كل من الخصمين من ملازمة الآخر. اليمين لا تسقط الحق: ولكن اليمين لا تسقط الحق، ولا تبرئ الذمة، لا باطنا ولا ظاهرا، أي: لا بينه وبين الله تبارك وتعالى، ولا أمام القضاء لما رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم عن ابن عباس "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر رجلا بعد ما حلف بالخروج من حق صاحبه" كأنه -صلى الله عليه وسلم- علم كذبه، فلو أقام المدعي بينة بعد حلف المدعى عليه سمعت وقضى القاضي بها لقوله -صلى الله عليه وسلم: "البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة" رواه البخاري. 4- إثبات الحق بها إذا ردت على المدعي، أو أقام شاهدا واحدا كما يرى ذلك بعض العلماء. 5- تعجيل عقوبة الكاذب المنكر لما عليه من الحق في الدنيا، فإن اليمين الغموس تدع الديار بلاقع1، فيشتفي المظلوم بذلك عوض ما ظلمه بإضاعة حقه2.   1 في مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي: "البلقع، والبلقعة": الأرض القفر التي لا شيء فيها، يقال اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع، قلت: هو حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم" ا. هـ. مختار الصحاح. 2 الطرق الحكمية لابن القيم، ص133، ومغني المحتاج، ج4، ص477. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 ما يصح الاستحلاف فيه وما لا يصح: تنقسم الحقوق إلى قسمين: القسم الأول: حقوق الله تعالى. القسم الثاني: حقوق الآدميين. وتنقسم حقوق الله تعالى إلى قسمين: أحدهما: الحدود، أي: العقوبات المقدرة حقا لله تعالى، وهذا القسم تشرع فيه اليمين، قال ابن قدامة، لا نعلم في هذا خلافا؛ لأن المطلوب في الحدود الستر، والتعريض لمن أقر بها لكي يرجع عن إقراره، كما عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لماعز عندما جاءه واعترف بالزنا، فيكون عدم الاستحلاف فيها أولى. أي: إنه إذا كان من الجائز صحة رجوع المقر عن إقراره في الحدود، فيكون أولى عدم استحلاف من لم يقم عله بينة ولم يحصل منه إقرار. القسم الثاني: الحقوق المالية، كدعوى الزكاة على رب المال، وأن الحول قد تم وكمل النصاب، ففي هذه اختلف العلماء، فيرى أحمد بن حنبل أن القول قول رب المال من غير يمين، ولا يستحلف الناس على صدقاتهم؛ لأنها حق الله فأشبهت الحدود؛ ولأن ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة. ويرى الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد استحلاف رب المال؛ لأنها دعوى مسموعة أشبه بحق الآدمي، وبما أن حقوق الآدميين يجري فيها الاستحلاف فكذلك الزكاة. إذا تضمنت الدعوى في الحدود حقا لآدمي: وبين العلماء أن الدعوى في الحدود إذا تضمنت حقا للآدمي، كما لو ادعي عليه سرقة ماله ليضمن السارق أن يأخذ منه ما سرقه، أو ادعي عليه الزنا بجاريته ليأخذ منه مهرها، فإن الدعوى تسمع ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله تعالى. فإذا ادعي على شخص سرقة مال ولا توجد بينة، فإن القاضي يوجه اليمين إلى المتهم بالسرقة فإذا لم يحلف ثبت عليه المال المسروق صيانة لحق الإنسان، ولم يثبت حد السرقة؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات، وهي أيضًا مبنية على الستر. وكذلك لو ادعي على شخص أنه زنا بجارية ولا توجد بينة، فإن القاضي يطالبه باليمين، فإذا امتنع من اليمين ألزمه القاضي بمهر الجارية، ولم يثبت حد الزنا لدرء الحدود بالشبهات؛ ولأنها مبنية على الستر كما بينا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 أقسام حقوق الآدميين : وتنقسم حدود الآدمي أيضًا إلى قسمين: أحدهما: ما هو مال، أو المقصود منه المال، وهذا القسم تشرع فيه اليمين باتفاق العلماء، فإذا لم يكن مع المدعي بينة حلف المدعى عليه وبرئ، لعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "ولكن اليمين على المدعى عليه" وقد ثبت هذا في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض. القسم الثاني: ما ليس بمال ولا المقصود منه المال، وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين رجلين، كالقصاص، وحد القذف، والزواج، والطلاق، والرجعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 والعتق، والنسب، والاستيلاد1، والولاء2، والرق، وهذا القسم مختلف فيه على رأيين: الرأي الأول: يرى مالك أن المدعى عليه في هذا القسم من الحقوق لا يستحلف، ولا تعرض عليه اليمين، وهذا ما يراه أحمد أيضًا في روايتين عنه، قال أحمد: لم أسمع من مضى جوزوا الأيمان إلا في الأموال والعروض خاصة، ونحوه قاله أبو حنيفة، فقد نقل عنه قوله: لا يستحلف في النكاح وما يتعلق به من دعوى الرجعة، والفيئة في الإيلاء، ولا في الرق وما يتعلق به من الاستيلاد، والولاء، والنسب. وقد علل لهذا الرأي بما يأتي: أولا: هذه الأشياء لا يدخلها البدل، واليمين إنما تكون فيما يدخله البدل، فإن المدعى عليه مخير بين أن يحلف أو يُسَلِّم. ثانيا: هذه الأشياء لا تثبت إلا بشاهدين رجلين، فلا تصح فيها اليمين كالحدود. الرأي الثاني: يرى الشافعي، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة أنه يستحلف في كل حق لآدمي، وهذا أيضًا رأي مخرج في فقه الحنابلة، وتوجد   1 معنى الاستيلاد أي: اتخاذ الجارية أم ولد، فمن المعلوم أن السيد يجوز له أن يستمتع بجاريته استمتاعا جنسيا، فإذا حملت وولدت تسمى في العرف الإسلامي حينئذ أم ولد، وأم الولد لا يجوز بيعها ولا هبتها، وإنما تصير حرة هي وأولادها بعد وفاة سيدها. 2 إذا عتق السيد عبده أو جاريته تنشأ علاقة جديدة بينهما تسمى الولاء, وبمقتضى هذا الولاء يحق للسيد أن يرث عبده أو جاريته إذا لم يكن له ورثة من أقاربه، أو له ورثة لا يستوعبون التركة كلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 رواية أحمد أنه يستحلف في الطلاق، والقصاص، والقذف. وقد استند هذا الرأي إلى ما يأتي: أولا: ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" متفق عليه1. وهذا عام في كل مدعى عليه، وهو ظاهر في دعوى الدماء لذكرها في الدعوى. ثانيا: هذه دعوى صحيحة في حق لآدمي، فصح أن يحلف فيها المدعى عليه كدعوى المال2. يستحب للقاضي أن يأمر الخصمين بالصلح: قال العلماء إذا اتضح الحكم للقاضي بين الخصمين فالمستحب أن يأمرهما بالصلح؛ لأن ذلك يقلل ما في نفسيهما من العداوة، فإذا لم يرضيا بالصلح لزمه أن يحكم بينهما3.   1 سبل السلام، ج4، ص132. 2 المغني، ج9، ص237-239، ص272. 3 المهذب للشيرازي، ج2، ص305. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الفصل الثالث: وسائل الإثبات مدخل ... الفصل الثالث: وسائل الإثبات وسائل الإثبات متعددة: وسائل الإثبات متعددة, بعضها متفق عليه بين العلماء، وبعضها مختلف فيه، وسنتكلم -إن شاء الله تعالى- عن هذه الوسائل، مبينين آراء العلماء في الوسائل المختلف فيها، وما تستند إليه هذه الآراء. ونرجح ما نراه مستحقا للترجيح إن ظهر لنا وجه للترجيح. هل وسائل الإثبات محصورة في عدد معين؟ وقبل أن نتكلم عن هذه الوسائل نحب أن نبين أن بعض العلماء يحصر طرق القضاء، أي: الأدلة المثبتة للدعوى أو الحجج الشرعية، في عدد معين وهم جمهور العلماء، والبعض الآخر -كابن القيم- يرى أن أدلة إثبات الدعوى ليست محصورة في عدد معين. ومع أن الجمهور يرون أن أدلة إثبات الدعوى محصورة فإنهم مختلفون في العدد الذي تنحصر فيه هذه الأدلة، فبعضهم حصرها في سبع، وهي البينة والإقرار واليمين، والنكول عن اليمين، والقسامة، وعلم القاضي، والقرينة القاطعة، وأدرجوا فيها القيافة, ومنهم من حصرها في ست، وهي البينة، والإقرار، واليمين والنكول عن اليمين، والقسامة، وعلم القاضي، ولا يرى هذا البعض أن القرينة القاطعة تعد وسيلة من وسائل الإثبات، نظرا لما فيها من احتمال عدم الدلالة. ومن العلماء من حصرها في ثلاث، وهي البينة، واليمين، والنكول عن اليمين، ولم يعدوا الإقرار في الأدلة المثبتة للدعوى، ملاحظين أن الإقرار موجب للحق نفسه، وليس طريقا للحكم؛ لأن الحكم فصل الخصومة، ولا توجد خصومة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 مع وجود الإقرار، وكذلك لم يعدوا القسامة طريقا بين طرق القضاء أي: دليلا مثبتا للدعوى، لأنها تدخل في اليمين؛ لأن القسامة ما هي إلا أيمان كما سيتبين بعد ذلك فيما سيأتي عند الكلام عنها، ولم يعدوا كذلك علم القاضي ترجيحا لسمعته، ونفيا للتهمة عنه، التي يمكن أن تلحق به إذا حكم في إحدى القضايا بعلمه، وكذلك لم يعدوا القرائن لما فيها من احتمال عدم الدلالة. ومن العلماء من عدها خمسة عشر ومنهم من عدها سبعة عشر. أصحاب الرأي المقابل للجمهور: وأما أصحاب الرأي المقابل لرأي الجمهور فمن أشهرهم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فهؤلاء لا يرون انحصار طرق القضاء في عدد معين، فكل أمر يترجح عند القاضي أنه دليل على إثبات الحق يعد طريقا من طرق الحكم وعليه أن يحكم به. يقول ابن القيم: "إذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم وجه الله ودينه، فأي طريق استخرج به العدل والقسط فهو من الدين وليس مخالفا له"1 وإليك بيانا للوسائل التي نراها مثبتة للحقوق.   1 الطرق الحكمية لابن القيم، ص16، وتبصرة الحكام، ج1، ص204، ومحاضرات في علم القاضي، والقرائن، والنكول عن اليمين، والقيافة لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص1، 2 مكتوبة بالآلة الكاتبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الوسيلة الأولى: الإقرار معنى الإقرار الفر ق بين الإقرار والشهادة والدعوى ... الوسيلة الأولى: الإقرار الإقرار أقوى وسائل الإثبات: الإقرار من أقوى وسائل الإثبات وأشدها، وهو أقوى من البينة "الشهود" كما قرر العلماء؛ لأن القضاء يستند في البينة إلى ظن، وإذا كان القضاء يستند إلى الظن فأن يستند إلى العلم من باب أولى؛ لأن الحكم بالإقرار مقطوع به، والحكم بالبينة مظنون. وأيضًا فإن الإقرار خبر صادق، أو صدقه راجح على كذبه؛ لأنه تهمة الكذب منتفية عن المقر1. ولا غرو أن يقال: الإقرار أو الاعتراف سيد الأدلة، ولهذا قدمته على ما عداه. معنى الإقرار: الإقرار في الأصل مصدر للفعل "أقر"، ومعناه في اللغة: الإثبات، وأما معناه في الشرع فهو: "إخبار الشخص يحق عليه". الإقرار له ثلاثة معان: ويسمى اعترافا أيضًا في اللغة، والشرع، وعلى هذا فيمكن أن يقال إن الإقرار له ثلاثة معان. 1- لغوي فقط وهو الإثبات. 2- شرعي فقط وهو إخبار الشخص بحق عليه. 3- شرعي ولغوي وهو الاعتراف2. الفرق بين الإقرار والشهادة والدعوى: والفرق بين الإقرار والشهادة والدعوى -كما بينا ذلك عند الكلام عن الدعوى- أن الإقرار إخبار بحق على المقر، والشهادة إخبار بحق للغير على الغير،   1 حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، مبحث الإقرار، ص201، مطابع الشعب. 2 حاشية قرة عيون الأخيار، "تكملة حاشية ابن عابدين" لمحمد علاء نجل ابن عابدين ج8، ص95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 والدعوى إخبار بحق له على غيره. الحال في الأمور العامة: وهذا كله في الأمور الخاصة، وأما الأمور العامة، أي: التي تقتضي أمرا عاما لكل أحد، فيرى بعض العلماء أنه إما أن يكون الإخبار فيها عن محسوس أو عن أمر شرعي. فإن كان الإخبار فيها، عن محسوس، كإخبار الصحابي -مثلا- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الأعمال بالنيات"، فإن هذا يسمى رواية. وأما إن كان الإخبار فيها عن أمر شرعي فإما أن يكون فيه إلزام أم لا، فإن كان إخبارا عن أمر شرعي، وفيه إلزام فهذا يسمى حكما أو قضاء، وإن كان إخبارا عن أمر شرعي، وليس فيه إلزام فهذا يسمى فتوى. وعلى هذا تكون الأقسام ستة: 1- إقرار. 2- شهادة. 3- دعوى. 4- رواية. 5- حكم، أو قضاء. 6- فتوى1. ويرى عبد الوهاب بن السبكي أن الخبر إذا اقتضى شرعا عاما فإن كان عن حكم شرعي فهو الفتيا، وإن كان عن أمر محسوس، فإن كان مما لا يتخاصم فيه الناس، ويترافعون إلى الحكام فهو الرواية، مثل: "ركعتان قبل الصبح خير من الدنيا وما فيها" فإن الناس لا يترافعون إلى الحكام في مثل هذا بل يستفتون العلماء فيه، وإن كان مما يترافع الناس فيه فيحتمل رأيين والأرجح أنه شهادة1.   1 معين الحكام، للطرابلسي، ص125، وقد فرق القرافي بين الرواية والشهادة، بأن المخبر عنه إن كان أمرا عاما، لا يختص بمعين فهذه الرواية، وأما إن كان مختصا بمعين فهو شهادة، مثل أن يقول العدل للقاضي: لفلان على فلان كذا من المال. كفاية الأخيار، ج2، ص284. 2 الأشباه والنظائر، لعبد الوهاب بن السبكي، ج2، ص162، 163. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 أدلة اعتبار الإقرار : قامت الأدلة من الكتاب والسنة، وإجماع العلماء على اعتبار الإقرار وسيلة من وسائل إثبات الحقوق وغيرها. فمن القرآن الكريم قول الله تبارك وتعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} ، فقد أمره الله عز وجل بالإملال، فلو لم يقبل إقراره لما كان للإملال معنى، وقوله تبارك وتعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} . ومعنى {قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} مواظبين على العدل مجدين في إقامته، ومعنى {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} ، أي: تقيمون شهادتكم لوجه الله تبارك وتعالى ولو على أنفسكم، بأن تقروا عليها. ومن السنة، أخبار، كخبر الصحيحين أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أنشدك1 الله إلا قضيت لي بكتاب الله،   1 أنشدك -بفتح الهمزة وضم الشين- أسألك رافعا نشيدي أي: صوتي، قال ابن حجر العسقلاني: ضمن أنشدك معنى أذكرك فحذف الباء: أي: أذكرك الله رافعا نشيدي أي: صوتي. سبل السلام، ج4، ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه1: نعم فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قل"، قال: إن ابني كان عسيفا2 عند هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابن جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليد والغنم رد 3، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد 4 يا أنيس 5 إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجمت6. وقد أجمع العلماء على أن الإقرار وسيلة من وسائل الإثبات.   1 قال الصنعاني: كأن الراوي يعرف أنه أفقه منه، أو من كونه سأل أهل الفقه. 2 أي: أجيرا. 3 أي: مردودة، ومعناه يجب ردها إليك، والوليدة هي الجارية الصغيرة. 4 واغد يا أنيس أي: انطلق. 5 صحابي مشهور، وهو أنيس بن الضحاك الأسلمي، والمرأة أيضًا أسلمية، وأنيس تصغير أنس قال الصنعاني: رجل من الصحابة لا ذكر له إلا في هذا الحديث. سبل السلام للصنعاني ج4، ص3. 6 صحيح مسلم بشرح النووي، ج11، ص205، قال الصنعاني: "واعلم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يبعث إلى المرأة لأجل إثبات الحد عليها، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قد أمر باستتار من أتى بفاحشة وبالستر عليه، ونهى عن التجسس، وإنما ذلك لأنه لما قذفت المرأة بالزنا بعث إليها -صلى الله عليه وسلم- لتنكر فتطالب بحد القذف، أو تقر بالزنا فيسقط عنه، فكان منها الإقرار فأوجبت على نفسها الحد" سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 أركان الإقرار، وشروط المقر ... أركان الإقرار: للإقرار أربعة أركان: 1- مقر. 1- مقر له. 3- مقر به. 4- صيغة. شروط المقر: اشترط العلماء في المقر ثلاثة شروط: الشرط الأول: البلوغ، فلا يصح إقرار الصبي ولو كان مراهقا أي: قارب البلوغ؛ لأن أقوال الصبي وأفعاله لاغية، إلا في العبادة من الصبي المميز، كالصلاة والحج فإنها صحيحة. ولا يؤخذ الصبي بعد بلوغه بشيء أقر به حال صباه إلا إذا أقرب به ثانيا بعد بلوغه. وصرح العلماء بأن الصبي لا يصح إقراره حتى لو أذن له وليه في الإقرار. ويرى فقهاء الحنفية أن الصبي إذا أذن له وليه في التجارة صح إقراره بالمال، وعللوا هذا بأنه من ضرورات التجارة؛ لأنه لو لم يصح إقراره لا يعامله أحد. وقالوا إنه يدخل في الإذن كل ما كان طريقه التجارة، كالدين، والوديعة، والعارية، والمضاربة، والغصب، فيصح إقراره بها، فيلحق الصبي المأذون له بالتجارة بالبالغ في هذه الأمور؛ لأن الإذن يدل على عقله، فلو لم يكن عاقلا لما أذن له وليه، بخلاف ما ليس من باب التجارة، كالمهر، والجناية، والكفالة، فلا يصح إقراره بها؛ لأن التجارة مبادلة المال بالمال، والمهر مبادلة مال بغير مال، والجناية ليست بمبادلة شيء، والكفالة تبرع ابتداء فلا تدخل تحت الإذن1. الشرط الثاني: من شروط الإقرار: العقل، فلا يصح الإقرار من المجنون، والمغمى عليه، والذي زال عقله بعذر، كشرب دواء لم يكن يعلم أنه مسكر، أو أكره على شرب الخمر.   1 تكملة حاشية ابن عابدين، ج8، ص103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 إقرار السكران المتعدي بسكره: واختلف العلماء في إقرار السكران الذي تعدي بسكره على رأيين: الرأي الأول: يرى جمهور فقهاء الشافعية أنه يصح الإقرار منه، حتى لو كان السكر طافحًا عليه بحيث يسقط كالمغمى عليه، مع أنه عندهم غير مكلف في هذه الحالة، فالإقرار منه صحيح عندهم كبقية تصرفاته له وعليه. وقد عللوا رأيه هذا بالتغليظ عليه؛ لأنه ارتكب معصية بإزالة عقلة، فجعل كأنه لم يزل1. الرأي الثاني: يرى فريق آخر من العلماء أنه لا يصح الإقرار من السكران، وهذا الرأي يراه الإمام أحمد بن حنبل في قوله الأخير، بعد أن كان يفتي بنفوذ طلاقه، ويراه من الحنفية الطحاوي، والكرخي، وحكي عن أبي يوسف، وزفر، ويراه من الشافعية المزني، وابن سريح، وجماعة ممن اتبعهما، واختاره الجويني، ويرى ابن قيم الجوزية أن الصحيح أنه لا عبرة بأقوال السكران، من طلاق، ولا عتاق، ولا بيع، ولا هبة، ولا وقف، ولا إسلام، ولا ردة، ولا إقرار، وقد استدل لهذا الرأي بعدة أدلة منها: أولا: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} .   1 مغني المحتاج، ج3، ص279، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم مبحث الإقرار، ص204. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ثانيا: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- باستنكاه1 ماعز لما أقر بالزنا بين يديه. ثالثا: فتوى عثمان، وابن عباس بأن السكران لا يقع طلاقه، ولم يخالفهما أحد من الصحابة. رابعا: القياس على من زال عقله بدواء، أو بنج، أو مسكر بعذر. خامسا: السكران لا قصد له، فهو أولى بعدم المؤاخذة ممن جرى اللفظ على لسانه من غير قصد له2. الشرط الثالث من شروط الإقرار: الاختيار، فلا يصح إقرار المكره بما أكره عليه، قال تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} فقد جعل الله عز وجل الإكراه مسقطا لحكم الكفر، فيكون ما عداه أولى. لكن لو أقر المكره بغير ما أكره عليه فإقراره صحيح؛ لأنه حينئذ غير مكره. صورة إقرار المكره: صورة إقرار المكره أن يسأله القاضي أو الحاكم عن المدعى به فيجيب بالنفي، فيضرب ليقر، فإذا أقر حينئذ فإن إقراره غير صحيح. وأما لو سئل المدعى عليه عن المدعى به فسكت ولم يجب بشيء لا إثباتا ولا نفيا، أي: لم يقل: نعم عندي، ولا ليس عندي، فضرب بأمر القاضي ليصدق في   1 أي: شم ريح فمه. 2 إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية، ج4، ص47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 القضية ويأتي بأحد الشيئين: أي: عندي، أو ليس عندي، فمتى أجاب بشيء ولو نفيا لم يتعرض له, فإن بعض فقهاء الشافعية يرى أنه لو أقر حينئذ صح إقراره، وعلل لهذا الرأي بأنه حينئذ ليس مكرها؛ لأن المكره من أكره على شيء واحد، وهذا إنما ضرب لكي يصدق، أي: يقول الصدق، بأن يقول: نعم عندي أو يقول: ليس عندي، والصدق ليس منحصرا في الإقرار. لكن مع هذا فإن صاحب هذا الرأي يرى كراهة إلزامه بالإقرار الذي حدث منه, حتى يراجع ويقر ثانيا. وواضح للقارئ أن فرض المسألة أن المضروب لو أجاب ولو بنفي ما ادعي به عليه ترك وشأنه، وهذا هو فرض المسألة، لكن من المستبعد أن يكون ما يحدث هو هذه الصورة، وإنما الذي يحدث عادة هو أنه يضرب المتهم ليقر بالحق، ويريد من يضربونه بذلك أن يقر بما ادعاه خصمه عليه، قال الأذرعي أحد فقهاء الشافعية: الصواب فيما لو ضرب ليقر بالحق ويراد بذلك الإقرار بما ادعاه خصمه أنه إكراه، سواء أقر في حال ضربه أو بعده، وعلم أنه لو لم يقر لضرب ثانيا. وقد صرح بعض الفقهاء بأن الضرب في الصورتين السابقتين حرام، أي: سواء أكان قد ضرب ليصدق في القضية فمتى أجاب بشيء ولو نفيا لم يتعرض له، أم كان قد ضرب ليقر بما ادعاه خصمه عليه، فيحرم ضربه في الصورتين خلافا لم توهم من الفقهاء أنه حلال إذا ضرب ليصدق في القضية، وصرح بعض العلماء بأن الضرب حرام حتى لو كان ضربا خفيفًا1. لو ادعى بعد الإقرار أنه كان مكرها: لو أقر المدعى عليه لكنه ادعى بعد الإقرار أنه كان مكرها ساعة الإقرار، فإما أن يكون هناك قرينة دالة على صدقه في دعواه الإكراه أم لا، فإن كان هناك قرينة تدل على صدقه كما لو كان قد حبس قبل الإقرار، فإنه يصدق بيمينه، فإذا حلف على ما ادعاه من الإكراه سقط الإقرار، وأما إذا لم تكن هناك قرينة تدل على صدقه فلا اعتبار بادعائه الإكراه في إقراره. لو تعارض الشهود في إكراهه واختياره: لو شهد شهود أنه أكره في إقراره، وشهد آخرون أنه كان مختارا فيه، قدمت شهادة من يشهد بالإكراه؛ لأن الذي يشهد بالإكراه معه زيادة علم.   1 حاشية الجمل على شرح المنهج لزكريا الأنصاري، ج3، ص430، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، بحث الإقرار، ص205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ما يراه ابن تيمية وابن القيم في ضرب المتهم أو حبسه حتى يقر : يفصل ابن تيمية -ويوافقه تلميذه ابن القيم1- فيبين أن الدعاوي قسمان؛ لأنها إما أن تكون دعوى تهمة أو دعوى غير تهمة، ودعوى التهمة هي دعوى الجناية والأفعال المحرمة التي توجب عقوبة فاعلها، مثل دعوى القتل وقطع الطريق، والسرقة، والقذف، والعدوان على الناس بالضرب، وبغير ذلك من العدوان الذي يتعذر إقامة البينة عليه في غالب الأوقات في العادة. ودعوى غير التهمة هي أن يدعي دعوى عقد، كعقد بيع، أو رهن، أو ضمان، أو يدعي دعوى لا يكون فيها سبب فعل محرم، مثل دين ثابت في الذمة، كثمن بيع، أو قرض، أو مهر، أو دية قتل خطأ، أو غير ذلك، فدعوى غير التهمة   1 مجموع فتاوى أحمد بن تيمية، المجلد الخامس والثلاثون، ص389، وما بعدها، تصوير الطبعة الأولى سنة 1398هـ، والطرق الحكمية لابن القيم، ص108 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 -إذن- تشمل نوعين هما: دعوى العقد، ودعوى فعل غير محرم. فإذا كانت الدعوى غير تهمة بنوعيها اللذين بيناهما: وهما دعوى العقد, ودعوى فعل غير محرم، فإن الحكم في ذلك هو أنه إذا أقام المدعي الحجة الشرعية ثبتت الدعوى على المدعى عليه، وإلا فالقول قول المدعى عليه مع يمينه إذا لم يأت المدعي بحجة شرعية وهي البينة. وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلب البينة من المدعي واليمين من المدعى عليه في حكومات معينة ليست من جنس دعاوى التهم، روى البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس أنه قال: كانت بيني وبين رجل حكومة في بئر، فاختصمنا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "شاهداك أو يمينه" فقلت: إذن يحلف، ولا يبالي1، فقال: "من حلف على يمين صير يقطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان"، وفي رواية فقال: "بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه". وروى مسلم والترمذي عن وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة، إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي وبيدي أزرعها لس له فيها حق، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي: "ألك بينة"؟ , قال: لا، قال: "فلك يمينه"، فقال يا رسول الله: الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، فليس يتورع من شيء، فقال: "ليس لك منه إلا ذلك". وأما دعاوي التهم فينقسم المدعى عليه بالنسبة إليها إلى ثلاثة أقسام: لأن المتهم إما أن يكون بريئًا ليس من أهل تلك التهمة، كما لو كان رجلا صالحا مشهورا   1 كان خصم الأشعث يهوديا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 مشهودا له بالاستقامة، أو يكون فاجرا من أهل تلك التهمة، أو يكون مجهول الحال لا يعرف الحاكم حاله. إن كان بريئًا ليس من أهل تلك التهمة: فإن كان المتهم بريئا ليس من أهل تلك التهمة فباتفاق العلماء لا يجوز عقوبته لا بضرب ولا بحبس، ولا بغيرهما. فإذا وجد في يد رجل مشهود له بالعدالة مال مسروق، وقال هذا الرجل العدل: ابتعته من السوق، لا أدري من باعه، فلا عقوبة على هذا العدل باتفاق العلماء، ثم قال فقهاء المالكية وغيرهم: يحلف المستحق أنه ملكه ما خرج عن ملكه ويأخذه، وقرر هؤلاء أنه لا تطلب اليمين من هذا العدل. ولكن هل يعاقب الذي اتهم هذا الرجل المشهود له بالعدالة والاستقامة أم لا؟ يرى مالك وبعض فقهاء مذهبه أنه لا أدب على المدعي إلا إذا ثبت أنه قصد أذيته، وعيبه، وشتمه فيؤدب، وأما إذا كان ذلك طلبا لحقه فلا يؤدب، وقال بعض آخر من فقهاء مذهبه يؤدب سواء قصد أذيته أو لم يقصد، وقد صرح ابن فرحون أن هذا الرأي هو الصحيح عنده، وعلل ذلك بأنه يؤدي إلى صيانة البرآء من تسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء، والرأي المقابل للصحيح هو أن المتهم لا عقوبة عليه1.   1 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج2، ص153، بهامش فتح العلي المالك لمحمد أحمد عليش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ويرى الطرابلسي -أحد فقهاء الحنفية- أن المتهم له بذلك يعاقب لنفس العلة، وهي صيانة لسلطة أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء الصلحاء، ونقل عن أبي حنيفة فيمن قال لغيره يا فاسق يا لص: "فإن كان من أهل الصلاح ولا يعرف بذلك فعلى القاذف التعزير؛ لأن الشين يلحقه إن كان بهذه الصفة وإن كان يعرف به لم يعزر"1. المتهم المجهول الحال: وأما إذا كان المتهم مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور، فهذا يحبس حتى ينكشف حاله، ويتبين للحاكم أمره عند عامة علماء الإسلام، وذلك لما رواه أبو داود في سننه، والترمذي، والنسائي، وغيرهم، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حبس رجلا في تهمة" قال الترمذي: حسن، وزاد هو والنسائي: "ثم خلى عنه". وروي عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حبس في تهمة يوما وليلة استظهارا وطلبا لإظهار الحق بالاعتراف2. والأصول المتفق عليها بين الأئمة توافق ذلك، فإنهم متفقون على أن الحاكم يجب عليه أن يحضر المدعى عليه -الذي يجب عليه الحضور- إذا طلب المدعي إحضاره إلى مجلس القضاء حتى يفصل بينهما، ويحضره من مسافة العدوي -وهي ما لا يمكن الذهاب إليه والعود في نفس اليوم- كما يقول بعض فقهاء الشافعية والحنابلة ورواية عن أحمد، وعند بعضهم يحضره من مسافة القصر -وهي مسيرة   1 معين الحكام للطرابلسي، ص178. 2 الطرق الحكمية، لابن القيم، ص108 وما بعدها، ونيل الأوطار للشوكاني، ج9، ص217، دار الفكر، ومجموع فتاوى ابن تيمية، ج35، ص389 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 يومين بالدواب- كما هو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، وهي كالمسافة بين مكة وجدة. ثم إن الحاكم قد يكون مشغولا عن تعجيل الفصل في القضية، وقد تكون عنده قضايا سابقة عن هذه القضية، فيكون المدعى عليه محبوسا معوقا من حين أن طلبه القاضي إلى أن يفصل بينه وبين خصمه، وهذا نوع من الحبس بدون تهمة، فيجوز الحبس في التهمة من باب أولى؛ لأن الحبس الشرعي ليس هو الحبس في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء أكان في بيت أم في مسجد، أم كان بملازمة الخصم أو وكيل الخصم له1 ولهذا سماه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أسيرا. يروي أبو داود وابن ماجه عن الهرماس ابن حبيب، عن أبيه، قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بغريم لي، فقال لي: "الزمه" ثم قال: "يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك "؟ وفي رواية ابن ماجه: ثم مر بي آخر النهار، فقال: "ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم". وهذا هو الحبس الذي كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومضى عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعهد أبي بكر -رضي الله عنه، ولم يكن هناك مكان خاص معد لسجن من يحكم عليه بالحبس، ولكن لما انتشرت الرعية أيام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- اشترى دارا بمكة وجعلها سجنا،   1 اختلف العلماء في الحبس واتخاذ السجن، فيرى أبو حنيفة، ومالك، والشافعي جواز ذلك، وحكي عن إبراهيم بن أبي يحيى أنه كره ذلك، ومن حجته في هذا الرأي أن الله تبارك وتعالى شرع الأحكام وفرض الحدود، فكل من وجب عليه حد أو غرم أخذ منه، ومن يمنع من ذلك عزر بما يؤلمه، قياسا على الحدود، وفي الحبس ضرر يتعرض له عياله، والضرر فساد، والله لا يحب الفساد، وأما الرأي الأول فمستنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حبس، وكذلك الخلفاء الراشدون "أدب القاضي" لابن القاص، ج1، ص124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وحبس فيها من حكم عليه بالحبس. واختلف العلماء في مقدار الحبس في التهمة هل هو مقدر بمدة معينة؟ أم أن ذلك متروك لاجتهاد الحاكم. المتهم المعروف بالفجور: وأما إذا كان المتهم معروفا بالفجور مثل المتهم بالسرقة إذا كان معروفا بها قبل ذلك، والمتهم بقطع الطريق إذا كان معروفا به، والمتهم بالقتل، أو كان أحد هؤلاء معروفا بما يقتضي ذلك، فهذا يجوز حبسه؛ لأنه إذا جاز حبس مجهول الحال فإن حبس هذا يكون أولى: قال ابن تيمية: "وما علمت أحدا من أئمة المسلمين يقول: إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوي يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره، فليس هذا -على إطلاقه- مذهبا لأحد من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم من الأئمة، ومن زعم أن هذا -على إطلاقه وعمومه- هو الشرع فقد غلط غلطا فاحشا مخالفا لنصوص رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولإجماع الأئمة، وبمثل هذا الغلط الفاحش تجرأ الولاة على مخالفة الشرع، وتوهموا أن الشرع لا يقوم بسياسة العالم ومصلحة الأمة". هذا النوع من المتهمين يسوغ ضربه: وهذا النوع من المتهمين يسوغ ضربه، يشهد لهذا ما روي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الزبير بتعذيب المتهم الذي غيب ماله حتى أقر به، في قصة ابن أبي الحقيق رأس يهود خيبر1، فقد روى البخاري عن ابن عمر قال: "أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل خيبر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم   1 الطرق الحكمية لابن القيم، ص108 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها، ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله -صلى لله عليه وسلم- الصفراء، والبيضاء، والحلقة1، وهي السلاح، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم، ولا عهد، فغيبوا مَسْكا2 فيه مال وحلى لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعم حيي واسمه سعية3: "ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير "؟ , فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك" وقد كان حيي قد قتل قبل ذلك، فدفع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سعية إلى الزبير، فمسه بعذاب، فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل النبي -صلى الله عليه وسلم- ابني أبي الحقيق، وأحدهما زوج صفية بن حيي بن أخطب، وسبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا4. هذا ما يراه ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ومن وافقهما5، ونرى بعض الشافعية6 يبين أن الإكراه في الإقرار الذي لا يصح الإقرار به هو أن يضرب ليقر، أما لو ضرب ليصدق في القضية فأقر في حالة ضربه أو بعد حدوث الضرب فإنه يلزمه ما أقر به، وعلل ذلك بأنه ليس مكرها في إقراره، إذ المكره من أكره على شيء واحد، وهذا الشخص إنما ضرب ليصدق في القضية، والصدق ليس منحصرا   1 الحلقة بفتح الحاء وسكون اللام. 2 المسلك -بفتح الميم وسكون السين: الجلد. 3 سعية بفتح السين وسكون العين. 4 نيل الأوطار، ج8، ص206. 5 معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، لعلي بن خليل الطرابلسي ص178. الطبعة الثانية. 6 مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب، ج2، ص240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 في الإقرار، لكن مع هذا فإن صاحب هذا الرأي يرى أن من المكروه إلزامه بهذا الإقرار الذي أقر به حالة الضرب أو بعده، حتى يراجع ويقر مرة ثانية. ويرى بعض آخر من الشافعية، وهو الإمام الأذرعي أن الإقرار لا يصح بعد الضرب؛ لأنه إكراه، ومن شروط صحة الإقرار عدم الإكراه، قال الأذرعي: "الولاة في هذا الزمان يأتيهم من يتهم بسرقة، أو قتل، أو نحوهما، فيضرهما، فيضربونه ليقر بالحق، ويراد بذلك الإقرار بما ادعاه خصمه، والصواب أن هذا إكراه، سواء أقر في حال ضربه أم بعده، وعلم أنه إن لم يقر بذلك لضرب ثانيا" انتهى كلام الأذرعي1. وفي فقه المالكية نجد التصريح بحبس المتهم المعروف بالفجور وضربه قال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: "من شهدت عليه بينة أنه سارق معروف بالسرقة متهم بها، وقد سجن فيها غير مرة إلا أنهم حين شهدوا عليه لم يجدوا معه سرقة، فقال: لا قطع عليه بهذه الشهادة ولكن عليه الحبس الطويل"2. ونقل ابن فرحون أيضًا عن بعض كتب المالكية أنه "يضرب السارق حتى يخرج الأعيان التي سرقها"3. وفي فقه الحنفية نجد الطرابلسي أيضًا يقسم المدعى عليه بالنسبة إلى دعاوي التهم إلى ثلاثة أقسام كما قسمها ابن تيمية، وابن القيم، وابن فرحون المالكي، مع ملاحظة أن الطرابلسي وابن فرحون من الواضح أنهما متأثران بتقسيم ابن تيمية   1 نقلا عن مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب، ج2، ص240. 2 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج4، ص157، بهامش فتح العلي المالك. 3 نفس المصدر والصفحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وابن القيم، وأيدا هذا التقسيم بنقول من فقههم أي: فقه الحنفية وفقه المالكية، يقول الطرابلسي عند كلامه عن المتهم المعروف بالفجور1: "إذا رفع للقاضي رجل يعرف بالسرقة والدعارة فادعى عليه بذلك رجل فحبسه لاختبار ذلك، فأقر في السجن بما ادعي عليه من ذلك فذلك يلزمه، وهذا الحبس خارج عن الإكراه، قال في شرح التجريد في مثله: وإن خوفه بضرب سوط، أو حبس يوم حتى يقر فليس هذا بإكراه، قال محمد: وليس في هذا وقت، ولكن ما يجيء منه الاغتمام البين؛ لأن الناس متفاوتون في ذلك، فرب إنسان يغتم بحبس يوم، والآخر لا يغتم، لتفاوتهم في الشرف والدناءة، فيفوض ذلك إلى رأي كل قاض وزمانه، فينظر إن رأى أن ذلك الإكراه فوت عليه رضاه أبطله وإلا فلا". واختلف العلماء فيما إذا أقر المتهم المعروف بالفجور حال الضرب أو الحبس، فبعضهم يرى أنه يؤخذ بهذا الإقرار إذا ظهر صدقه، مثل أن يخرج الشيء المسروق بعينه، ولو رجع عن ذلك الإقرار بعد الضرب لا يقبل منه الرجوع بل يؤخذ به، والبعض من العلماء يرى أنه لا بد من إقرار آخر بعد الضرب وإذا رجع عن الإقرار لم يؤخذ به2. وبعد، فيحسن أن نوضح هنا أن الطرابلسي الفقيه الحنفي يرى أن حبس المتهم أو ضربه ليقر إنما هو في قضايا الأموال، وأما لو أكرهه القاضي أو غيره على الإقرار بجريمة تستحق حدا، أو قصاصا فلا يجوز إقراره3. ويرى بعض العلماء أن الضرب حرام سواء ضرب ليقر أو ليصدق4.   1 معين الحكام، للطرابلسي، ص179. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35، ص404. 3 معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، للطرابلسي، ص179، مطبعة مصطفى الحلبي. 4 حاشية البجيرمي على المنهج ج3، ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 الشرط الرابع من شروط المقر: الرشد إن كان الإقرار بحق لآدمي. إذا كان الإقرار يتعلق بحق لآدمي، كالإقرار بالمال، أو بالزواج اشترط في المقر أيضًا بجانب الشروط الثلاثة السابقة شرط رابع هو الرشد، والمراد بالرشد كون الشخص مطلق التصرف، فلا يصح إقرار السفيه بدين، أو إتلاف مال، أو نحو ذلك كما قال العلماء1، قال بعض العلماء: لا يلزمه الإقرار ظاهرا ولا باطنا، أي: لا فيما بينه وبين الناس ولا فيما بينه وبين الله، وقال البعض الآخر: يلزم السفيه الإقرار بدين أو إتلاف مال أو نحو ذلك باطنا أي: فيما بينه وبين الله فيغرمه للمقر له بعد فك الحجر عنه. وصرح العلماء بأن السفيه إذا أقر بغير المال، كالطلاق والظهار، ونحوهما، فإن إقراره يكون صحيحا، ويصح إقرار السفيه في الجنايات، والحدود. الشرط الخامس عند بعض العلماء: أن يكون المقر غير متهم في إقراره: اشترط المالكية أن يكون المقر غير متهم في إقراره، وعلى هذا لو أقر المريض مرض الموت لمن يتهم بمودته كابنه البار به، أو زوجته التي يميل إليها فلا يصح الإقرار عند المالكية، سواء أكان المتهم بمودته وارثًا أم غير وارث، إلا إذا أجاز الورثة هذا الإقرار فيصح. وأما إقراره لغير متهم عليه فيصح عندهم حتى لو كان بأزيد من ثلث ما يملك2.   1 الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، لمحمد الشربيني الخطيب، ص114، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم مبحث الإقرار، ص205. 2 بلغة السالك لأقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، لأحمد بن محمد الصاوي، على الشرح الصغير للدردير، ج2، ص190، وقوانين الأحكام لابن جزي، ص324. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ما يراه الحنفية: ويرى الحنفية أن إقرار المريض لوارثه باطل إلا إذا صدقه بقية الورثة، واستندوا في هذا إلى رواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا وصية لوارث ولا إقرار بدين" وأيضًا فإنه تعلق به حق جميع الورثة، فإذا أقر المورث لبعض ورثته فإنه يكون قد أبطل حق الباقين، وفيه إيقاع العداوة بينهم؛ لأن فيه إيثارا لبعض الورثة على البعض الآخر، وذلك ينشئ العداوة والبغضاء، قالوا: وقضية يوسف وإخوته أكبر شاهد1. ما يراه الشافعية: وأما الشافعية -على الرأي الراجح عندهم- فيرون أنه يصح إقراره في مرضه لوارثه كإقراره للأجنبي؛ لأن الظاهر أنه محق في إقراره؛ لأنه انتهى إلى حالة يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر. ويوجد قول للشافعي -رضي الله تعالى عنه- بعدم صحة الإقرار للوارث؛ لأنه متهم بحرمان بعض الورثة2. ما يراه الحنابلة: يرى الحنابلة عدم صحة إقرار المريض مرض الموت بالمال لأحد الورثة3. ويحسن هنا أن ننبه إلى أن الخلاف بين العلماء هو في صحة الإقرار وعدمها، وأما التحريم والإثم فلا شك فيه إذا كان المقر قد قصد بإقراره أن يحرم بعض الورثة فلا يوجد خلاف بين العلماء في هذا، وقال العلماء: لا يحل للمقر له أن يأخذ المقر به في هذه الصورة4. هذا، وفي ختام الكلام عن شروط المقر يحسن أن نبين أن العلماء لم يشترطوا في المقر صفة العدالة كما هو الشرط في الشاهد عند جمهور العلماء -كما سنعرف فيما بعد إن شاء الله تعالى- وذلك لأن طبع الإنسان يزعه عن أن يقر على نفسه بما يقتضي قتلا، أو قطعا، أو تغريم مال، فلهذا قبل الإقرار من البر والفاجر، اكتفاء بالوازع الطبيعي5.   1 الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود، ج2، ص190، مطابع الشعب. 2 حاشية سليمان البجيرمي على شرح منهاج الطلاب لزكريا الأنصاري ج3، ص76، 77، واختلف الشافعية في كونه وارثا هل يعتبر وارثا حال الموت أو بحال الإقرار، ويظهر أثر الخلاف فيما لو أقر لزوجته ثم طلقها طلقة بائنة ومات، أو أقر لأجنبية ثم تزوجها. 3 مختصر المقنع، لشرف الدين أبو النجا، ص115. 4 الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع، ج3، ص55. 5 الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص387. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 شروط المقر له : يشترط في المقر له الشروط الآتية: أولا: أن يكون أهلا لاستحقاق المقر به، فلو أقر شخص لدابة فلا يصح الإقرار؛ لأنها ليست أهلا لذلك، وأما لو قال: علي بسبب هذه الدابة لفلان كذا فإن الإقرار يصح، حملا على أنه استأجرها، أو استعملها تعديا، أو جنى عليها. ويصح الإقرار لحمل امرأة؛ لأنه أهل للاستحقاق. ثانيا: عدم تكذيبه للمقر، كأن يقول للمقر: ليس لي عليك شيء، فلو كذبه في إقراره له بمال، فإن هذا المال يترك في يد المقر؛ لأن يده تشعر بالملك بحسب الظاهر، وسقط الإقرار. ثالثا: أن يكون المقر له معينا تعيينا يتوقع معه طلب، وعلى هذا لو قال شخص: علي مال لرجل من أهل البلد لم يصح الإقرار، وأما لو قال: علي مال لأحد هؤلاء الثلاثة فيصبح. رابعا: أن لا يكذبه الشرع في إقراره، كما لو أعتق عبدا ثم أقر له هو أو غيره عقب عتقه بدين أو عين لم يصح الإقرار؛ لأن أهلية الاستحقاق لم تثبت له إلا في الحال، إلا إذا كان هذا المقر له حربيا له ملك فاسترقه المسلمون في الحرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 شرط المقر به ... شروط المقرب به: يشترط في المقر به الشروط الآتية: أولا: انتفاء ملكه في حال الإقرار، وعلى هذا لو قال: داري لفلان، فلا يعد هذا إقرارا بل كلام لغو؛ لأن إضافة الدار إليه تقتضي ثبوت الملك له فيكون هذا منافيا للإقرار لغيره؛ لأن حقيقة الإقرار إخبار بحق سابق عليه، ويكون كلامه حينئذ محمولا على الوعد بالهبة، قال البغوي أحد فقهاء الشافعية: "فإن أراد به الإقرار قبل منه". ثانيا: أن يكون المقر به بيد المقر ولو في المآل، فلو أقر بحرية عبده بيد غيره، ثم اشتراه، فإن القاضي يحكم بالحرية، فترفع يده عنه مؤاخذة بإقراره السابق، ويفسر شراؤه لهذا العبد بأنه افتداء له من جهته، لاعترافه بحريته التي تمنع شراءه. ثالثا: أن يكون المقر به مما يجب تسليمه إلى المقر له، فلو أقر أنه غصب حفنة من تراب أو حبة من قمح أو أي شيء من هذا القبيل لا يصح؛ لأن المقر به لا يلزمه تسليمه إلى المقر له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 هل يشتطر أن يكون المقر به معلوما ... هل يشترط أن يكون المقر به معلوما: بيّن العلماء أنه لا يشترط في المقر به أن يكون معلوما، بل يجوز الإقرار ويلزمه سواء أكان المقر به معلوما أم مجهولا. وقد عللوا عدم منع جهالة المقر به لصحة الإقرار بأن الحق المجهول قد يلزم الشخص، كما لو أتلف مالا لشخص آخر لا يدري قيمته، أو يجرح جراحة لا يعلم أرشها "تعويضها" أو كان قد تبقى عليه بقية حساب لا يحيط به علمه، والإقرار ما هو إلا إخبار عن ثبوت الحق فيصح بالمجهول، ويطلب القاضي منه أن يبين ذلك المجهول ليتمكن من استيفائه، فإن لم يبين أجبره القاضي على البيان. هذا، وقد سبق أن بينا في شروط المقر له أنه يشترط أن يكون المقر له معينا، فلو كان المقر له مجهولا لا يصح الإقرار؛ لأن المجهول لا يصلح أن يكون مستحقا لشيء1. شروط صيغة الإقرار: يشترط في الصيغة أن تكون لفظا يشعر بالتزام بحق، سواء أكان اللفظ صريحا أم كتابة. وبين الشافعية أن الكتابة مع النية في معنى اللفظ، سواء صدرت من ناطق أو أخرس، وسواء كان للأخرس إشارة مفهمة أو لا، فهي -أي: الكتاب- عند الشافعية كناية مطلقا, وإن انضم إليها قرائن لا تصيرها صريحا2، وفي معنى اللفظ   1 المختار من كتاب اللباب لعبد الغني الغنيمي، في شرح الكتاب لأحمد بن محمد القدوري، ص290، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، والمجاني الزهرية، ص80. 2 حاشية الجمل على شرح المنهج، ج3، ص427 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 إشارة الأخرس المفهمة. هذا، ونحب أن نبين أن المشهور عن الشافعي -رضي الله عنه- عدم الاعتماد على الخط المجرد، وهو أيضا مذهب مالك، لإمكان التزوير في الخطوط، وروى الخصاف عن أبي حنيفة "إذا وجد القاضي في ديوانه شيئا لا يحفظ، كإقرار الرجل بحق من الحقوق، وهو لا يذكر ذلك ولا يحفظه، فإنه لا يحكم به، ولا ينفذه حتى يذكره، أو تقوم عليه بينة، وقال أبو يوسف ومحمد ما وجده القاضي في ديوانه من شهادة شهود عنده لرجل على رجل بحق، أو إقرار رجل لرجل بحق، والقاضي لا يحفظ ذلك ولا يذكره، فإنه ينفذ ذلك ويقضي به إذا كان تحت خاتمه محفوظًا، إذ ليس كل ما في ديوان القاضي يحفظ". ويرى بعض الباحثين صحة الإقرار بالكتابة؛ لأن الذين يمنعون الاحتجاج بالكتابة وحدها إنما قالوا بذلك خشية أن يحدث التزوير فيها والمحاكاة1. ونحن نرى صحة هذا الرأي، وخاصة بعد أن أصبح للخطوط خبراء يميزون خط الشخص عن غيره، وبعد ما ثبت أن الخطوط لا تتطابق وبإمكان الخبير أن يعرف التزوير إذا حدث في الخطوط، ويمكن أن يتقوى هذا الرأي بما يأتي: أولا: ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ووجه الدلالة أنه لو لم يكن من الجائز أن تعتمد على الخط لما كان لكتابة الوصية فائدة. ثانيا: ما ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرسل كتبا إلى الملوك وغيرهم، وكان يرسل المكتوب مع رسول مختوما، ويأمره بأن يدفعه إلى المكتوب إليه. ثالثا: ما رواه كثير من العلماء من أنه يصح اعتماد راوي الحديث على الخط, وجواز التحدث بهذا المكتوب، ولو لم يعتمد على ذلك لضاع كثير من الأحاديث والأحكام الفقهية التي تناقلها المحدثون والفقهاء بطريق الكتابة. والمطلوب التحقق بأية وسيلة أن هذا المكتوب هو خط شخص معين، والعبرة كما يقول الإمام أحمد بن حنبل أن يكون خطه معروفا مشهورا، فإن القصد حصول العلم بنسبة الكتابة إليه2.   1 القضاء في الإسلام، للأستاذ محمد سلام مدكور، ص80. 2 المصدر السابق، ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الرجوع عن الإقرار : المقر به نوعان: النوع الأول: حق الله -عز وجل- الخالص1، وهو ما يسقط بالشبهة من الحدود، كحد السرقة، وحد الزنا، وشرب الخمر. النوع الثاني: حق الآدمي2، سواء أكان مالا كثمن أرض بيعت، أو بدل قرض، أو كان عقوبة كحد القذف، أي: اتهامه من شخص بجريمة الزنا من غير   1 يعرف حق الله تعالى بأنه كل ما ليس للعبد إسقاطه، كالإيمان بالله تعالى، وسائر العبادات، والحدود، ويمكن أن يعرف أيضًا بأن: ما يتعلق به النفع العام من غير اختصاص بأحد. 2 يعرف حق الآدمي بأنه كل ما يصح للإنسان إسقاطه، أو ما يتعلق به مصلحة خاصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 بينة1، والقصاص، وحد القذف حق لآدمي على الرأي القائل بأنه مع ملاحظة أن فيه حقا لله وحقا للإنسان، فإن حق الإنسان غالب. فأما حقوق الآدميين فقد اتفق العلماء على أنه لا يصح الرجوع عن الإقرار بها؛ لأنها حقوق تثبت للمقر له، فلا يملك المقر إسقاطها بغير رضاه، وبين بعض العلماء أن حق الله المالي2، كالزكاة، والكفارة لا يصح الرجوع فيه عن الإقرار به لما فيه من شائبة حق الآدمي3. وأما حقوق الله عز وجل الخالصة، وهي ما يسقط بالشبهة من الحدود كحد الزنا، وحد السرقة، فقد اختلف العلماء فيه على رأيين:   1 حد القذف يجتمع فيه حق الله وحق الإنسان، ففيه حق الإنسان؛ لأن مما لا شك فيه أن للإنسان المطعون في عرضه حقا في تطبيقه على من رماه بالزنا، حتى يدفع العار عنه ويعلم الناس أن إلصاق الجريمة به كان كذبا وافتراء، وفيه أيضا حق الله تعالى؛ لأنه سبحانه يريد المصالح لعباده، ومن مصلحتهم أن تصان أعراضهم من أن تمس بأذى، فكان أمره جل وعلا أن يعاقب القاذف ومن حق الله تبارك وتعالى أن يمتثل العباد لأوامره ويجتنبوا نواهيه، وقد اختلف العلماء، فقال الحنفية إن حق الله في حد القذف هو الأغلب، والشافعية يرون أن حق الإنسان هو الأغلب, وعلى هذا الرأي الأخير يجوز أن يورث، ويعفى عنه من المقذوف، ولا يجري فيه التداخل. 2 قسم العلماء الحقوق المالية التي تجب لله تعالى إلى ثلاثة أقسام: الأول: قسم يجب لا بسبب من الإنسان، فإذا عجز عنه الإنسان وقت وجوبه لا يثبت في الذمة بل يسقط، وذلك كزكاة الفطر. الثاني: قسم يجب بسبب من جهة الإنسان -على سبيل البدل- فيثبت في ذمته، تغليبا لمعنى الغرامة، كجزاء الصيد في الحرم، وفدية الحلق في الحج. الثالث: قسم يجب بسبب من جهة الإنسان -لا على سبيل البدل- كخصال الكفارة الواجبة على من جامع في نهار رمضان. الأشباه والنظائر، لعبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، الجزء الأول، ص28، دار الكتب العلمية - بيروت. 3 حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، ج2، ص3، مطبعة عيسى البابي الحلبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 أحدهما: أنه يصح الرجوع عن الإقرار بها، فلو أقر إنسان بجريمة الزنا ثم رجع عن إقراره فإنه يقبل منه، سواء كان الرجوع قبل صدور الحكم عليه بالحد، أو بعده، وسواء أكان رجوعه قبل تنفيذ الحكم أم في أثنائه. وهذا الرأي يراه الحنفية، والشافعية، والإمام أحمد، وهو مروي عن الإمام مالك في قول له. ويحصل الرجوع عن الإقرار بالزنا، بقوله: كذبت، أو رجعت عما أقررت به، أو ما زنيت، أو كنت فاخذت، أو نحو ذلك. الرأي الثاني: أنه لا يقبل منه الرجوع عن الإقرار بعد كماله كغيره من الإقرارات فإنه لا يصح الرجوع فيها. وهذا يراه ابن أبي ليلى، وأبو ثور، ورواية عن مالك، وقول للشافعي. ما استند إليه الرأي الأول: استند الرأي القائل بصحة الرجوع عن الإقرار بحقوق الله تبارك وتعالى، إلى ما يأتي: أولا: ما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "جاء ماعز الأسلمي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إنه قد زنى، فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه الآخر فقال: يا رسول الله، إنه قد زنى، فأعرض عنه، ثم جاءه من شقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الآخر فقال: يا رسول الله، إنه قد زنى، فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرة1، فرجم بالحجارة، فلما وجد مس الحجارة فر، يشتد، حتى مر برجل معه لحي2 جمل فضربه به، وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه فر حين وجد مس الحجارة ومس الموت، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هلا تركتموه"، رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وقال: إنه حديث حسن. وفي رواية رواها أبو داود: فقال -صلى الله عليه وسلم: "هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه" 3. قال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على أنه يقبل رجوعه4. ثانيا: ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عرض لماعز -عندما جاءه معترفا بالزنا- بالرجوع بقوله: "لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت" فلو لم يسقط به الحد لما كان له معنى5. ثالثا: الرجوع عن الإقرار مثل الإقرار الأول، كل منهما خبر يحتمل الصدق والكذب، وهو نفسه مصدر لخبرين، ولا يوجد مرجح يرجح الأخذ   1 الحرة -بفتح الحاء- أرض ذات حجارة سود. 2 اللحى -بفتح اللام وسكون الحاء- عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان. 3 نيل الأوطار، ج7، ص269. 4 مغني المحتاج، ج4، ص150. 5 نيل الأوطار للشوكاني، ج7، ص268، والمغني لابن قدامة، ص8، ص197، ونصب الراية للزيلعي، ج3، ص167، وحاشية ابن عابدين، ج4، ص10، وبدائع الصنائع، ج7، ص232، 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 بالإقرار على الأخذ بالرجوع، وتلك شبهة والحدود تدرأ بالشبهات كما هي القاعدة الشرعية المقررة. ما استند إليه الرأي الثاني: وأما الرأي القائل بأنه لا يقبل الرجوع عن الإقرار بحقوق الله تبارك وتعالى، فقد استند إلى ما يأتي: أولا: أن ماعزا بعد أن أحس بألم الحجارة وألم الموت، فر من الناس، ومع ذلك قتلوه، فلو كان الرجوع عن الإقرار في الحدود مقبولا لألزم النبي -صلى الله عليه وسلم- من قتلوه بدية القتل الخطأ1. مناقشة هذا الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يلزمهم بالدية؛ لأن هروب ماعز عند تنفيذ الحد لا يدل صراحة على الرجوع عن الإقرار، لاحتمال أن يكون الهروب من ألم الضرب. وعلى فرض أنه يدل صراحة على الرجوع عن الإقرار, فإنه لم ينقل أن أولياء ماعز طالبوا بالدية حتى يقضى لهم بها. ثانيا: قياس الإقرار بالحدود على الإقرار بالحقوق الأخرى، ولما كان الإقرار بالحقوق غير الحدود لا يصح الرجوع فيه، فكذلك الإقرار بالحدود لا يصح الرجوع فيه.   1 معنى الدية: المال الذي يجب بسبب الجناية على النفس أو ما دونها، وما دون النفس كتعطيل منفعة عضو من أعضاء الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 مناقشة هذا الاستدلال: نوقش هذا الاستدلال بأن هذا قياس مع الفارق، والقياس مع الفارق لا يصح، والفارق بين الأمرين أن الحدود تدرأ بالشبهات، والحقوق الأخرى لا تدرأ بالشبهات1. هذا، وقد انتصر الشوكاني للرأي القائل بعدم قبول الرجوع عن الإقرار بعد كماله فقال2: هذا الرجوع ليس بشبهة تدرأ بها حدود الله، ولا يصح الاستدلال على سقوط الحد بالرجوع عن الإقرار بما أخرجه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وحسنه، ورجال إسناده ثقات عن أبي هريرة: "أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد، فأخبروا بذلك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: "هلا تركتموه" لأنه لا يدل على أنه قد سقط عنه الحد بذلك، بل على أنه إذا ترك ورجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد يأتي بشبهة مقبولة. وهكذا لا يصح الاستدلال بحديث جابر عند أبي داود، والنسائي "أن ماعزا صرخ بهم فقال: يا قومي ردوني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "فهلا تركتموه وجئتموني به"، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما أراد رجوعه إليه للاستثبات إذا جاء بشبهة مقبولة. على أنه قد روي في بعض طرق الحديث عند مسلم، والنسائي وأبي داود   1 نيل الأوطار، للشوكاني ج7، ص268، والمغني لابن قدامة ج8، ص197، ونصب الراية، للزيلعي ج3، ص167، وحاشية ابن عابدين ج4، ص10، وبدائع الصنائع ج7، ص232، ص233. 2 نيل الأوطار للشوكاني، ج7، ص270، والسيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، ج4, ص316، 317. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 -واللفظ له- من حديث أبي سعيد قال: "لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع، فوالله ما أوسقناه ولا حفرنا له، ولكنه قام لنا، قال أبو كامل وهو الجحدري: فرميناه بالعظام، والمدر، والخزف، فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة فانتصب لنا، فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكت" فدل هذا على أنه إنما فر إلى المحل الذي توجد فيه الحجارة التي تسرع في القتل. "وهكذا لا يصح الاستدلال بما أخرجه أبو داود عن بريدة قال: "كنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال: لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، فإنه رجمهما بعد الرابعة". ثم قال الشوكاني بعد ذلك: وعلى كل حال ليس التحدث الواقع بينهم مما تقوم به الحجة؛ لأنه مجرد حدس، وبهذا تعرف أنه لا دليل على أن الرجوع عن الإقرار يسقط به الحد، وقد حصل المقتضى بالإقرار فلا يسقطه إلا بدليل يدل على سقوطه دلالة بينة ظاهرة". انتهى كلام الشوكاني في الدفاع عن رأيه، لكننا نسأل: وماذا نقول في الرواية التي رواها أبو داود1 التي بينت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه" ألا تدل هذه الرواية للرأي الآخر؟ وأليس هذا -كما يقول ابن عبد البر- أوضح دليل على أنه يقبل رجوعه2.   1 نيل الأوطار، ج7، ص269. 2 مغني المحتاج، ج4، ص150. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 هروب المقر أثناء تنفيذ الحد : كما اختلف العلماء في الرجوع عن الإقرار في الحدود هل يقبل أم لا؟ اختلفوا في هروب المقر أثناء تنفيذ الحد عليه، هل يعد رجوعا عن الإقرار أم لا؟ على رأيين: أحدهما: ما يراه الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وهو أن هروبه يعد رجوعا عن الإقرار1؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال بعد أن ذكر له أنهم قتلوا ماعزا على الرغم من هروبه: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه" 2. الرأي الثاني: يراه فقهاء الشافعية في الأصح عندهم، وهو أن هروبه لا يسقط الحد عنه، وعللوا هذا بأنه قد صرح بالإقرار ولم يصرح بالرجوع، لكن مع هذا يرى فقهاء الشافعية أنه يجب الكف عنه في الحال، فلا يستمر تنفيذ الحد عليه، ولا يتبع، فإن رجع عن الإقرار قبل منه هذا الرجوع وإن لم يرجع عن إقراره نفذ الحد3. الرأي الراجح: نرى -كما يرى بعض الباحثين4- رجحان رأي الشافعية في الأصح عندهم؛ لأن الإنسان بطبيعته التي طبعه الله عليها يتأمل من العقوبات البدنية، كأي   1 رد المحتار، "حاشية ابن عابدين"، ج4، ص10، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، والشرح الصغير لأحمد الدردير، ج5، ص120، مطبعة المدني، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص318، والمغني، ج8، ص159، وفتح القدير لابن الهمام، ج5، ص222. 2 المغني، ج8، ص159، 160. 3 مغني المحتاج، ج4، ص151. 4 الزميل الدكتور أنور دبور في كتابه: الشبهات وأثرها في إسقاط الحدود، ص95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 حيوان آخر، فإذا اشتد به الألم فإنه عادة يحاول أن يوقف هذا الألم، ولو بالهروب من سبب الألم، وعلى هذا فالأولى أن لا يعتبر الهروب رجوعا عن الإقرار؛ لكن لأن القاعدة الشرعية أن الحدود تدرأ بالشبهات، وهروب المقر يصلح أن يكون شبهة تدرأ الحد عنه فإنه يجب أن يوقف التنفيذ في الحال، ولا يتبع، حتى نعلم منه أنه رجع عن إقراره فنتركه، وإلا تم تنفيذ الحد. هذا، وقد بيّن بعض العلماء من الذاهبين إلى صحة الرجوع عن الإقرار بحقوق الله الخالصة أنه يسن للمقر بالزنا أن يرجع عن هذا الإقررا، بل صرحوا بأنه يسن له عدم الإقرار من أول الأمر، سترا على نفسه، ويجب عليه أن يتوب بينه وبين الله تبارك وتعالى، لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من أتى من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله تعالى، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد"، وصرحوا أيضًا بأنه يسن للشهود ترك الشهادة في جريمة الزنا، وكذلك يسن للقاضي، وغيره أن يعرض للمقر بالزنا بالرجوع، بأن يقول للمقر: لعلك قبلت، أو فاخذت، أو باشرت في غير الفرج، وما ماثل هذا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- عرض لماعز -عندما اعترف بالزنا- بالرجوع، حيث قال له: "لعلك قبلت، لعلك لمست، لعلك فاخذت، أبك جنون"؟. وقال العلماء أيضا إن من المستحب التعريض للمقر بالسرقة بالرجوع، فيقول القاضي للمقر بالسرقة مثلا: لعلك أخذت المسروق من غير حرزه، أو أنك ظننته مالك، لكن قال العلماء: لا يقول القاضي له: ارجع عن إقرارك، لئلا يكون آمرا له بالكذب على احتمال أنه صادق في إقراره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 حكم الرجوع في حد القذف: وقد بين العلماء أن هذا بالنسبة للحدود التي تعد حقوقا خالصة لله عز وجل، أما حد القذف فلأنه فيه حقا لله عز وجل وحقا للإنسان -على اختلاف بين العلماء في أي الحقين هو الغالب1- فلا يجوز للقاضي ولا غيره أن يعرض فيه للمقر بالرجوع؛ لأنه يؤدي إلى ضياع حق الإنسان الذي طعن في شرفه وعرضه، وهو محتاج إلى دفع هذا العار الذي حاول أن يلصقه به المقر. الرجوع عن الإقرار في السرقة يصح في حق العقوبة: وقال بعض العلماء إن الرجوع عن الإقرار في السرقة يصح في حق العقوبة وهي قطع اليد، لا في حق المال؛ لأن حد السرقة حق خالص لله عز وجل، فيصح الرجوع عنه، فأما المال فحق الإنسان فلا يصح الرجوع فيه. وأما حد القذف فلا يصح الرجوع عن الإقرار فيه؛ لأن فيه حقا للإنسان فيكون المقر متهما في الرجوع فلا يصح كالرجوع عن الإقرار في سائر الحقوق الخالصة للإنسان. الرجوع عن الإقرار بالقصاص: وكذلك الرجوع عن الإقرار بالقصاص لا يصح؛ لأن القصاص حق خالص للإنسان فلا يحتمل الرجوع2.   1 اختلف العلماء في حد القذف، هل حق الله غالب فيه على حق الآدمي، أم أن حق الآدمي غالب على حق الله تبارك وتعالى، فيرى أبو حنيفة أن حق الله هو الأغلب كما في سائر الحدود، ويرى الشافعي أن الأغلب فيه حق الإنسان. 2 بدائع الصنائع، ج7، ص233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 الفرق في الرجوع بين حق الله وحق الإنسان : والفرق بين حقوق الله وحقوق الإنسان، أن حق الله تبارك وتعالى مبني على المسامحة، أي: على المساهلة، وهو أيضًا مبني على الدرء والستر كلما أمكن ذلك، ولهذا يسقط بالشبهة، وأما حق الإنسان فمبني على المشاحة، أي: على المخاصمة والمجادلة1.   1 حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، مبحث الإقرار ص202. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الوسيلة الثانية من وسائل الإثبات: البينة مدخل ... الوسيلة الثانية من وسائل الإثبات: البينة البينة حجة شرعية ووسيلة من وسائل الإثبات بإجماع العلماء، لكن العلماء مختلفون في المراد بها، فهي عند جمهور العلماء مرادفة1 للشهود، أما عند ابن تيمية وابن القيم فلا تختص بالشهود، بل هي أعم من هذا، شاملة لكل ما يبين الحق ويوضحه، قال ابن القيم: "فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة، أو الشاهد لم يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الحجة، والدليل، والبرهان، مفردة، ومجموعة، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له، والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرهما من أنواع البينة قد يكون أقوى منهما، كدلالة الحال على صدق المدعي فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد2. لماذا خص الجمهور البينة بالشهود: ومع أن جمهور العلماء يرون أن البينة مرادفة للشهود فإنني لم أجد -كما لم يجد بعض الباحثين من قبلي ممن كتبوا في هذا الموضوع3- تعليلا لتخصيص البينة بالشهود. ولعل الذي حدا جمهور العلماء على أن يخصوا البينة بالشهود أن البينة قد وردت في النصوص الشرعية في أكثر من موضع مرادا بها الشهود وحدهم، من   1 الترادف هو اختلاف اللفظ واتحاد المعنى، مثل: أسد، وليث، وقسورة، فهذه الألفاظ تفيد معنى واحدا هو الحيوان المفترس الذي له لبدة ومخالب وأنياب وشجاع. 2 الطرق الحكمية، لابن القيم ص14. 3 أستاذنا الدكتور أحمد عبد المنعم البهي في كتابه: من طرق الإثبات في الشريعة والقانون، ص5، دار الفكر العربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ذلك ما أخرجه البخاري وأبو داود، والترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك". ومن المعلوم أن القرآن الكريم نص قبل هذه الحادثة على أن البينة التي تثبت بها جريمة الزنا هي أربعة شهود، وهو قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1. ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- اختصم إليه الأشعث بن قيس مع آخر في بئر، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "بينتك أو يمينه" وفي رواية أخرى في نفس الواقعة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال له: "شاهداك أو يمينه"، وهذا يعد تفسيرا للفظ البينة الوارد في الرواية الأولى2. ولو لم يكن معنى   1 سورة النور، الآية رقم 4. 2 في كثير من الأحاديث الشريفة تختلف ألفاظ الرواة عن الواقعة الواحدة، لكنها جميعا تتفق في المعنى، كهذا الحديث الذي معناه، فرواية تقول إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينتك أو يمينه" ورواية أخرى تقول إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "شاهداك أو يمينه" وهو نفس معنى الرواية الأولى. وهذا دليل على جواز رواية الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمعنى؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- قد نقلوا القضية الواحدة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بألفاظ مختلفة. لكن يحسن هنا أن ننبه إلى أن علماءنا رضي الله عنهم -احتياطا منهم في جانب السنة الشريفة- لم يجيزوا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمعنى إلا لمن كان خبيرا بالألفاظ في لغة العرب، ومقاصدها، عالما بما تختلف به دلالتها، فإن لم يكن الشخص على هذا المستوى العلمي لم يجز له أن يروي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمعنى. كما يحسن هنا أن ننبه أيضًا إلى أن العلماء بينوا أن جواز الرواية بالمعنى بالشرط المذكور إذا كانت الرواية بالمعنى في غير المصنفات المخصصة لرواية الحديث، وأما المصنفات الحديثية فقد بيّن العلماء أنه لا يجوز التغيير فيها وإن كان موافقا للمعنى، حفاظا على الحديث من أي نوع من التغيير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 البينة هو الشاهدين في هذه القصة لما عبر راوي الحديث بلفظ "شاهداك أو يمينه". ولعل الجمهور أيضا لاحظوا أن القرآن الكريم اعتبر الشهادة أساسا للإثبات في مواضع مختلفة، ففي البيع يقول الله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم} 1 وفي الطلاق والرجعة يقول عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} 2 وفي الديون يقول عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 3 وفي الوصية في السفر يقول عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} 4. وأما ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما فيرون أن البينة إذا وردت في لسان الشرع فإنما المراد بها الحجة والدليل، ولم تأت مرادا بها الشهود وحدهم، فإذا حملناها على الشهود فقط, فإن هذا يكون تخصيصا بلا دليل يدل على التخصيص، ويلزم من ذلك أن نكون قد حملنا كلام الشارع على غير المراد، وهذا لا يجوز. قال ابن القيم5: "فإنها "يعني البينة" في كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وقال: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} وقال: {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} وهذا كثير لم يختص لفظ البينة بالشاهدين ولا استعمل في الكتاب فيهما البتة".   1 سورة البقرة، الآية رقم: 282. 2 سورة الطلاق الآية رقم: 2. 3 سورة البقرة الآية رقم: 282. 4 سورة المائدة، الآية رقم: 106. 5 إعلام الموقعين لابن القيم ج1، ص75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 هذا، ومع أن جمهور العلماء يرون أن البينة مرادفة للشهود, فإنهم لا يقصدون أن وسائل الإثبات منحصرة في الشهادة، بل إن مرادهم أن البينة إذا أطلقت لا تنصرف إلا إلى الشهادة، مع وجود وسائل أخرى للإثبات تكلموا عنها كالإقرار، وعلم القاضي، وغيرهما، إلا أن هذه الوسائل لا تسمى عندهم بينة، وإنما يسمونها بأسمائها1. والشهادة إحدى وسائل الإثبات في النظام القضائي الإسلامي بالإجماع، وهي في اللغة الإخبار بصحة الشيء عن مشاهدة وعيان، لا عن تخمين وحسبان بحق على آخر، ولهذا قال بعض العلماء إنها مشتقة من المشاهدة التي تنبئ عن المعاينة، وبعض آخر يرى أنها مشتقة من الشهود بمعنى الحضور، روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" أي: حضرها، ويقال: فلان شهد الحرب، أو شهد قضية كذا أي: حضرها. وقد سمى الشهود بينة لحصول البيان بقولهم، وارتفاع الإشكال بشهادتهم، فالشهود يتبين بهم الحق أي: يظهر الحق بشهادتهم، ومن المعلوم أن تبين الحق إنما يكون بعد أداء الشهود لشهادتهم، فهم قبل أداء الشهادة شهود، وبعد أدائها بينة، ولكن أيضًا يسمون شهودا بعد الأداء باعتبار ما كان، ويسمونه بينة قبل الأداء باعتبار ما يئول إليه2.   1 من طرق الإثبات، للدكتور أحمد البهي، ص11، 12. 2 حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، مبحث الإقرار، ص202، وأنيس الفقهاء، للشيخ قاسم القونوي، ص235، الطبعة الأولى وحاشية الشرقاوي، على شرح التحرير لزكريا الأنصاري، ج2، ص509. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 تعريف الشهادة عند الفقهاء مدخل ... تعريف الشهادة عند الفقهاء: عرفها بعض فقهاء الشافعية بأنها: "إخبار بحق للغير على الغير بلفظ أشهد" وعرفها بعض آخر بأنها: "إخبار عن شيء بلفظ خاص". ويرى القليوبي أحد فقهاء الشافعية أن التعريف الثاني أولى؛ لأنه يشمل مثل الشهادة برؤية الهلال، فليس فيها إخبار بحق للغير على الغير، قال القليوبي: ولعل اختيار الأول لأجل قولهم: والإقرار إخبار بحق لغيره عليه، وعكسه الدعوى. ويمكن أن نقول إن التعريف الأول يصح أن يكون جامعا للشهادة برؤية الهلال؛ لأن الذي يشهد برؤية هلال رمضان يشهد بأن الصوم وجب على العباد، وهي شهادة بحق الله على البشر أن يصوموا رمضان، فهي أيضًا شهادة بحق للغير على الغير. وعرفها بعض فقهاء الحنفية بأنها: "إخبار بتصديق مشروطا فيه مجلس القضاء ولفظة الشهادة"1. أدلة مشروعية الشهادة: الشهادة: حجة مظهرة للحق مشروعة بنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وإجماع علماء الأمة الإسلامية. فمن القرآن الكريم قول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 2. وقوله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 3. ومن السنة إخبار كخبر الصحيحين: "ليس لك إلا شاهداك أو يمينه" وما رواه البيهقي وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "البينة على المدعي"، وأما خبر: "أكرموا الشهود فإن الله تعالى يستخرج بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم" فضعيف كما قاله البيهقي، وقال الذهبي في الميزان: إنه حديث منكر. وقد أجمعت الأمة على أن الشهادة حجة مشروعة4.   1 حاشية القليوبي على شرح المحلى على المنهاج للنووي، ج4، ص318، وأنيس الفقهاء، ص235، ونهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، للرملي، ج8، ص292. 2 سورة البقرة، الآية رقم: 282. 3 سورة الطلاق، الآية رقم: 2. 4 مغني المحتاج ج4، ص426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 حكم الشهادة : يجب على القاضي أن يحكم بموجبها إذا كانت مستوفية لشروطها؛ لأنها إذا كانت مستوفية لشروطها مظهرة للحق، والقاضي مأمور بالقضاء بالحق، قال تبارك وتعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} 1. أداء الشهادة: أداء الشهادة فرض كفاية على من علمها، فإن تعينت عليه لزمه القيام بها، وإن قام بها اثنان غيره سقط عنه أداؤها إذا قبلها القاضي، فإن كان قد تحملها جماعة فأداؤها واجب على الكل، فإذا امتنعوا أثموا جميعا كسائر فروض الكفايات.   1 سورة ص: الآية: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ودليل وجوبها قول الحق تبارك وتعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} 1، فقد نهى الله تبارك وتعالى عن الإباء عند الدعاء للشهادة، وهذا أمر بالحضور عند الدعاء، وقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} 2، وهذا وعيد من الله عز وجل، واستحقاق الوعيد بترك الواجب. وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} وفي الآية الأخرى: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . ولأن الشهادة أماة فيلزمه أداؤها عند طلبها قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} . ومعنى أن الشهادة فرض على الكفاية، أنه إذا أدى الشهادة البعض من الناس سقط الفرض عن الباقين؛ لأنه إذا أبى جميع الناس أن يؤدوا الشهادة أدى هذا إلى إضاعة الحقوق، وإذا أجاب الناس كلهم إليها أدى هذا إلى تضييع الأعمال، فصارت لهذا فرضا على الكفاية3. فإذا عجز عن أدائها أو كان سيلحقه ضرر في بدنه، أو ماله، أو أهله، أو عرضه فقد أفتى بعض العلماء بأنها لا تجب عليه4، لقول الله عز وجل: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} 5.   1 سورة البقرة، الآية رقم: 282. 2 سورة البقرة، الآية رقم: 283. 3 أحكام القرآن، لابن العربي، القسم الأول، ص256. 4 المغني، ج9، ص157، 158، وكشاف القناع، ج6، ص400. 5 سورة البقرة، الآية رقم 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 يجب أداؤها عند الطلب: يجب أداء الشهادة إذا طلبها المدعي لأنها حقه، فتتوقف على طلبه كسائر الحقوق، وإذا كان صاحب الحق لا يعلم بها، وخاف الشاهد فوت الحق على صاحبه، فيرى فريق من العلماء أن أداء الشهادة حينئذ مندوب وليس واجبا، وقال فريق آخر يجب عليه أن يشهد بلا طلب من صاحب الحق. أما الذين يرون أن الأداء للشهادة حينئذ مندوب وليس فرضا، فقد استدلوا لرأيهم بقول الله تبارك وتعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} فإن الله تبارك وتعالى فرض أداء الشهادة إذا دعي الشهداء إلى الأداء، فإذا لم يدع الشاهد إلى الأداء كان الأداء ندبا لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها". وأما أصحاب الرأي القائل بالوجوب -وهو الصحيح- فيستندون إلى ما ثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" فقد تعين أن ينصره بأداء الشهادة التي هي عنده، إحياء لحقه الذي يكاد أن يضيع عليه1. وهذا في حقوق الناس. أما في حقوق الله تبارك وتعالى -وهي كل ما ليس للمكلف إسقاطه2- فيجب أداء الشهادة فيها بلا طلب من أحد، وقد استثنى العلماء من حقوق الله عز وجل الحدود، فبينوا أن الشاهد في الحدود مخير بين الستر والإظهار؛ لأن إقامة الحدود حسبة، والستر على المسلم حسبة، والستر أفضل، لقول الرسول -صلى الله   1 أحكام القرآن، لابن العربي، القسم الأول، ص257. 2 كالطلاق، والرضاع، والعتق، والوقف على مسجد أو مدرسة، ونحوهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 عليه وسلم- للذي شهد عنده: "لو سترته بثوبك لكان خيرا لك" وقوله -صلى الله عليه وسلم: "من ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة" وقد صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عرض لماعز بالرجوع عن الإقرار بالزنا، وسأله عن حاله سترا عليه، وكفى به عليه الصلاة والسلام قدوة لنا. والنصوص القرآنية التي أمرت بأداء الشهادة محمولة على الشهادة في حقول الإنسان، بدليل السياق في قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وقول سبحانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} فإن هذه النصوص الكريمة جاءت في سياق الكلام عن الديون بين العباد، وقال العلماء: إن الستر والكتمان إنما يحرم لخوف فوت حق المدعي المحتاج إلى إحياء حقه من الأموال وذلك في حق العباد، وأما الحدود فهي حقوق لله تبارك وتعالى وهو -عز وجل- موصوف بالغنى والكرم, وليس فيه فوت حقه فلهذا جاز للشاهد أن يختار جانب الستر في الحدود1. لكن العلماء قالوا في السرقة: يجب على الشاهد أن يشهد بالمال فيقول: فلان أخذ المال، لكي يحفظ حق المسروق منه، ولا يقول: فلان سرق، لكي يصون يد السارق عن القطع، وبهذا يكون قد جمع بين الستر والإظهار2. ويعجبني هنا تقسيم بعض العلماء -كسليمان الباجي، وابن فرحون من كبار فقهاء المالكية المشهورين- لحقوق الله تبارك وتعالى بالنسبة لأداء الشهادة، فقد قسمها هذا البعض إلى قسمين: أحدهما: قسم لا يستدام فيه التحريم.   1 أنيس الفقهاء، ص236. 2 اللباب لعبد الغني الغنيمي، في شرح الكتاب لأحمد بن محمد القدوري، ج4، ص54، 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 والثاني: قسم يستدام فيه التحريم. فأما القسم الذي لا يستدام فيه التحريم مثل الزنا، وشرب الخمر، وما أشبه ذلك فلا يضر الشاهد تركه لأداء الشهادة، والتعليل لهذا الحكم أنه بهذا العمل قد ستر على مرتكب الفعل، والستر في مثل ذلك جائز، بل مستحب، لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لهزال في قضية ماعز الذي اعترف للرسول -صلى الله عليه وسلم- بالزنا: "هلا سترته بردائك"، وإن كان ابن رشد قد أشار إلى أن هذا الحكم في حق من يندر منه مثل هذه الأفعال، وأما الإنسان الذي يكثر منه وقوع مثل هذه الأفعال وعمل أنه مشتهر ولا ينفك عنه فينبغي أن يشهد عليه, وأن يبلغ الحاكم بما ارتكبه من جريمة. وأما القسم الذي يستدام فيه التحريم، وذلك كالطلاق، والخلع والرضاع، والعتق، والعفو عن القصاص، وتملك المساجد، والقناطر والطرق، وما أشبه ذلك فإنه يلزمه أن يخبر بشهادته وأن يبلغ الحاكم بما علمه. وصرح بعض المالكية بأنه إذا لم يؤد الشهادة في هذا النوع من حقوق الله تبارك وتعالى، فإن ذلك يعد تجريحا له، فلا يصلح للشهادة بعد ذلك؛ لأن سكوته عن ذلك بعدم أدائه للشهادة جرحة في حقه إلا إذا ثبت أنه كان له عذر في عدم القيام بأداء الشهادة1. وبان مما سبق أن الستر على المسلم في حقوق الله أفضل، لحث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذلك.   1 تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، لابن فرحون، ج1، ص206، بهامش فتح العلي المالك، والمنتقى شرح موطأ مالك، ج5، ص188. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وبين العلماء أن الستر مندوب وليس واجبا، فلو رفعه إلى الحاكم كان متعاطيا لأمر من الأمور الجائزة فلا يكون مرتكبا لإثم والدليل على ذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يوجه لوما إلى هزال في قصة ماعز، ولا أبان له أنه ارتكب إثما، بل حرضه على أنه كان ينبغي له أن يستره. قال الصنعاني: بعد أن بين ذلك1: "فإن علم أنه تاب وأقلع حرم عليه ذكر ما وقع فيه ووجب عليه ستره، وهو في حق من لا يعرف بالفساد والتمادي في الطغيان، وأما من عرف بذلك فإنه لا يستحب الستر عليه، بل يرفع أمره إلى من له الولاية إذا لم يخف من ذلك مفسدة؛ وذلك لأن الستر عليه يغريه على الفساد ويجرئه على أذية العباد، ويجرئ غيره من أهل الشر والعناد، وهذا بعد انقضاء فعل المعصية، فأما إذا رآه وهو فيها فالواجب المبادرة لإنكارها والمنع منها مع القدرة على ذلك، ولا يحل تأخيره؛ لأنه من باب إنكار المنكر لا يحل تركه مع الإمكان". وقال الصنعاني بعد ذلك: "وأما إذا رآه يسرق مال زيد فهل يجب عليه إخبار زيد بذلك أو ستر السارق؟ " وأجاب عن هذا السؤال بقوله: "الظاهر أنه يجب عليه إخبار زيد وإلا كان معينا للسارق بالكتم منه على الإثم، والله تعالى يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . ولما بيّن العلماء أن الستر مندوب، بينوا أن الشهادة تكون خلاف الأولى، قال الكمال بن الهمام: "وإذا كان الستر مندوبا إليه ينبغي أن تكون الشهادة به خلاف الأولى التي مرجعها إلى كراهة التنزيه؛ لأنها في رتبة الندب في جانب الفعل وكراهة التنزيه في جانب الترك" ثم قال الكمال بن الهمام: "وهذا يجب أن   1 سبل السلام، ج4، ص169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 يكون بالنسبة إلى من لم يعتد الزنا ولم يتهتك به، أما إذا وصل الحال إلى إشاعته والتهتك به، بل بعضهم ربما افتخر به فيجب كون الشهادة به أولى من تركها؛ لأن مطلوب الشارع إخلاء الأرض من المعاصي والفواحش بالخطابات المفيدة لذلك, وذلك يتحقق بالتوبة من الفاعلين والزجر لهم، فإذا ظهر حال الشره في الزنا مثلا، والشرب، وعدم المبالاة به، وإشاعته، فإخلاء الأرض المطلوب حينئذ بالتوبة، احتمال يقابله ظهور عدمها ممن اتصف بذلك، فيجب تحقيق السبب الآخر للإخلاء وهو الحدود, بخلاف من زنى مرة أو مرارا متسترا متخوفا متندما عليه، فإنه محل استحباب ستر الشاهد"1. وإذا كان الستر جائزا في حقوق الله بالنسبة إلى الشهود فهو جائز أيضا بالنسبة إلى مرتكب فاحشة كالزنا والخمر. كما بين الغزالي، فقد قسم العزالي الكذب إلى واجب ومباح ومحرم. وقال: "إن كل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب وحده فمباح إن أنتج تحصيل ذلك المقصود. وواجب إن وجب تحصيل ذلك. وهو إذا كان فيه عصمة من يجب إنقاذه، وكذا إذا خشي على الوديعة من ظالم وجب الإنكار والحلف، وكذا إذا كان لا يتم مقصود حرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بالكذب فهو مباح، ثم قال: وكذا إذا وقعت منه فاحشة كالزنا وشرب الخمر وسأله السلطان فله أن يكذب ويقول: ما فعلت، ثم قال: "وينبغي أن تقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت مفسدة الصدق أشد فله الكذب، وإن كانت بالعكس أو شك فيها حرم الكذب، وإن تعلق بنفسه استحب أن لا يكذب، وإن تعلق بغيره لم تحسن المسامحة بحق   1 فتح القدير، للكمال بن الهمام، ج5، ص214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الغير، والحزم تركه حيث أبيح"1. لا يجوز الشهادة إلا بما علمه الإنسان: قال العلماء إنه لا تجوز الشهادة إلا بما يعلمه الإنسان، لقول الله تبارك وتعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 2، وقوله تبارك وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} 3. ويذكر بعض العلماء في هذا المقام حديثا مرويا عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، أخرجه ابن عدي بإسناد ضعيف، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل: "ترى الشمس؟ ", قال: نعم، قال: "على مثلها فاشهد أو دع"، لكن ابن حجر العسقلاني أحد كبار علماء الحديث ضعف هذا الحديث، مع تصحيح الحاكم له، فقرر أن الحاكم أخطأ في تصحيح هذا الحديث؛ لأن في إسناده محمد بن سليمان بن مشمول، وقد ضعفه النسائي، وقال البيهقي: لم يرو من وجه يعتمد عليه4. مدرك العلم الذي تقع به الشهادة: مدرك العلم الذي تقع به الشهادة اثنان: 1- الرؤية.   1 سبل السلام، ج4، ص202. 2 سورة الزخرف، الآية: 86 والآية بتمامها: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . 3 سورة الإسراء، الآية رقم: 36. 4 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص130، وكشاف القناع، ج6، ص402. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 2- السماع. وما عدا ذلك من مدارك العلم، كالشم والذوق، واللمس، لا حاجة إليها في الشهادة في الأغلب. فأما ما يقع بالرؤية فالأفعال، مثل الغصب، والإتلاف، والزنا، وشرب الخمر، وسائر الأفعال، وكذلك الصفات المرئية، كالعيوب في البيع ونحوها، فهذا لا تتحمل الشهادة فيه إلا بالرؤية؛ لأن الشهادة عليه ممكنة قطعا، فلا يرجع إلى غير ذلك. وأما السماع فنوعان: أحدهما: السماع من المشهود عليه، مثل العقود كالبيع، والإجارة، والرهن، وغير ذلك من الأقوال، فلا بد من سماع كلام المتعاقدين، ولكن هل لا بد من رؤية المتعاقدين أم يكفي سماع صوتيهما من غير رؤية: يرى بعض العلماء أنه لا تجوز الشهادة إلا إذا شاهد الشاهد المشهود عليه، وهذا ما يراه أبو حنيفة، والشافعي؛ لأن الأصوات تتشابه، فلا يجوز أن يشهد عليها من غير رؤية، كالشهادة على الخط. ويرى فريق آخر من العلماء أنه لا يشترط رؤية المتعاقدين إذا عرفهما الشاهد وتيقن كلامهما، وهذا ما يراه ابن عباس، والزهري، وربيعة، والليث بن سعد، وشريح، وعطاء، وابن أبي ليلى، ومالك، والحنابلة؛ لأن الشاهد عرف المشهود عليه يقينا فجازت شهادته عليه كما لو كان رآه، وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور، وإنما تجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقينا، وقد يحصل العلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 بالسماع يقينا، وقد ثبت أن الشرع اعتبره، فإنه من الجائز رواية الحديث الشريف من غير رؤية، ولهذا قبلت رواية الأعمى للحديث، ورواية الذين رووا الحديث عن أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير محارمهن، فإنهم رووا عنهن الحديث من غير رؤية لهن؛ لأن مخاطبة الرجال الأجانب لزوجات الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا تجوز إلا من وراء حجاب، قال تبارك وتعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} 1. النوع الثاني من السماع: ما يعلمه بالاستفاضة: وقد اتفق العلماء على صحة الشهادة بالاستفاضة في النسب، والولادة قال ابن المنذر: أما النسب فلا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه، ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به، إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره، ولا يمكن المشاهدة فيه، ولو اعتبرت المشاهدة لما عرف أحد أباه ولا أمه ولا أحدا من أقاربه. واختلف الفقهاء فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب والولادة، فيرى الحنابلة وبعض فقهاء الشافعية أن الشهادة بالاستفاضة تجوز على تسعة أشياء: الزوجية، والملك المطلق، أي: الذي لم يبين له سبب من عقد أو غيره، والوقف ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء2، والولاية، والعزل؛ لأن هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها، فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة كالنسب.   1 سورة الأحزاب، من الآية رقم: 53. 2 إذا أعتق السيد عبده أو جاريته، نشأت علاقة بينهما تسمى الولاء، وهي علاقة أشبه بعلاقة النسب، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب" فتعطي للسيد حق ثبوت ميراث العبد الذي أعتقه، أو الجارية التي أعتقها إذا لم يكن للعبد أو الجارية من يرثه، أو وجد من يرثه لكنه لم يستغرق نصيبه كل التركة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ويرى بعض آخر من فقهاء الشافعية أنه لا تجوز الشهادة بالاستفاضة في الوقف، والولاء، والعتق، والزوجية؛ لأن الشهادة ممكنة فيها بالقطع، فإنها شهادة بعقد، فتكون كالشهادة على سائر العقود, ويرى أبو حنيفة أن الشهادة بالاستفاضة لا تقبل إلا في الزواج، والموت، ولا تقبل في الملك المطلق؛ لأنها شهادة بمال فهي أشبه بالدين. وقد رد ابن قدامة على بعض فقهاء الشافعية الذي يرى عدم جواز الشهادة بالاستفاضة في الوقف، والولاء، والعتق، والزوجية، بأن الشهادة هنا ليست بالعقود، وإنما الشاهد يشهد بالوقف الحاصل بالعقد، فهو بمنزلة الملك، وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد، وكذلك الحرية، والولاء، وهذه جميعها لا يمكن القطع بها كما لا يمكن القطع بالملك1. بم تحصل الاستفاضة؟ يرى الهادوية إحدى فرق الزيدية أن الاستفاضة شهرة في المحلة تثمر ظنا أو علما2. وعند بعض فقهاء الحنابلة أن الاستفاضة تحصل بكثرة الإخبار بالأمر الذي يشهد عليه، ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم، وعن بعض آخر من فقهاء الحنابلة, وهو قول المتأخرين من فقهاء الشافعية أنه يكفي أن يسمع الشاهد من اثنين عدلين ويسكن قلبه إلى خبرهما؛ لأن الحقوق تثبت بقول اثنين، وقد رجح ابن قدامة أن الاستفاضة تحصل بكثرة الإخبار بالأمر الذي يشهد عليه ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم، معللا هذا بأنه هو الذي يقتضيه لفظ الاستفاضة، فإنها مأخوذة من فيض الماء لكثرته3.   1 المغني، ج9، ص161، 162. 2 سبل السلام، ج4، ص130. 3 المغني، ج9، ص162. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 هل يشترط لفظ الشهادة عند الأداء : اشترط الحنفية في كتبهم1، وكذا الشافعية2، والحنابلة3 أن تؤدي الشهادة بلفظ أشهد، ونقل ابن القيم4 الفقيه الحنبلي المشهور أن مذهب مالك -رحمه الله، وأبي حنيفة وظاهر كلام أحمد بن حنبل، أنه لا يشترط في صحة الشهادة لفظ أشهد، بل متى قال الشاهد: رأيت كذا، أو سمعت ونحو ذلك، كانت شهادة منه. وصرح المالكية بأنه لا يشترط في أداء الشهادة صيغة معينة، فتصح بكل ما يدل على حصول علم الشاهد بالأمر الذي يشهد به، كقوله رأيت كذا، أو سمعت كذا5. وكذلك يرى ابن تيمية أنه لا يشترط لفظ الشهادة حتى تصح، فكل من أخبر بشيء فقد شهد به وإن لم يتلفظ بلفظ أشهد، قال ابن تيمية: اشتراط لفظ الشهادة لا أصل له في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا قول أحد من الصحابة،   1 بدائع الصنائع، ج9، ص4029، والهداية، ج3، ص118. 2 مغني المحتاج، ج4، ص453. 3 كشاف القناع، ج6، ص404. 4 إعلام الموقعين، لابن القيم، ج1، ص75. 5 الشرح الصغير لأحمد الدردير، ج2، ص348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ولا يتوقف إطلاق لفظ الشهادة لغة على ذلك1. وفي كتب الحنفية نجد تعليلا لاشتراط لفظ الشهادة بأن الأمر بالشهادة في النصوص القرآنية والحديثية جاء بلفظ الشهادة، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، وقال تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} ، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وذكروا هنا أيضا حديثا ضعفه بعض علماء الحديث وهو حديث: "إذا رأيت مثل الشمس فاشهد". وحاصل هذا أن النصوص وردت بلفظ الشهادة، وهنا يمكن أن يثار اعتراض على هذا الاستدلال بأن غاية ما هناك أن النصوص وردت بلفظ الشهادة, وذلك لا يوجب على الشاهد لفظ الشهادة، كما قال تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، وكما جاء في السنة في تكبير افتتاح الصلاة قوله -صلى الله عليه وسلم: "تحريمها التكبير"، ومع ذلك فإن أبا حنيفة لم يشترط في تكبيرة الإحرام لفظ التكبير2 فمن أين لزم في الشهادة؟. وقد أجاب الكمال بن الهمام عن هذا الاعتراض, بأنه يوجد فرق معنوي، هو أن لفظة الشهادة أقوى في إفادة تأكيد متعلقها من غيرها من الألفاظ كأعلم وأتيقن، لما فيها من اقتضاء معنى المشاهدة والمعاينة التي مرجعها الحس؛ ولأنها من   1 إعلام الموقعين، لابن القيم، ج1، ص75. والاختيار لتعليل المختار ج2، ص196 والمغني ج9، ص216، وفتح القدير لابن الهمام ج7، ص376، والطرق الحكمية لابن القيم، ص239، ونهاية المحتاج للرميلي ج8، ص292. 2 تكبيرة الإحرام عند أبي حنيفة من فروض الصلاة، وليست ركنا من أركانها، فتح القدير لابن الهمام مع شرح العناية على الهداية، للبابرتي، ج1، ص274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ألفاظ الحلف، فالامتناع عن الكذب بهذا اللفظ أظهر بخلاف التكبير فإنه للتعظيم، وليس لفظ أكبر أبلغ من لفظ أجل، أو لفظ أعظم، فكانت الألفاظ سواء، فلم يثبت خصوصية توجب تعيين لفظ أكبر1. وأما ابن قدامة، الفقيه الحنبلي الشهير، فقد علل لاشتراط لفظ الشهادة بأمرين: الأمر الأول: أن الشهادة مصدر شهد يشهد شهادة، فلا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها. الأمر الثاني: أن لفظة الشهادة فيها معنى لا يحصل في غيرها من اللفظات، بدليل أنها تستعمل في اليمين فيقال: أشهد بالله، ولهذا تستعمل في اللعان ولا يحصل ذلك من غيرها من الألفاظ2. ونرى أن الرأي القائل بعدم اشتراط لفظ أشهد أولى بالترجيح، ونقول مع ابن القيم: "ليس في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موضع واحد يدل على اشتراط لفظ الشهادة، ولا ورد ذلك من أحد من الصحابة، ولا ورد في القياس والاستنباط ما يقتضي ذلك، بل الأدلة المتظاهرة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ولغة العرب تنفي ذلك، قال الله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ} الآية، ومعلوم أنه ليس المراد التلفظ بلفظ أشهد في هذا المحل، بل مجرد الإخبار بتحريمه، وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ} ، ولا يتوقف صحة ذلك على أن يقول سبحانه: أشهد، وكذلك قوله تعالى: {شَهِدَ   1 فتح القدير، ج7، ص376. 2 المغني، ج9، ص216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} الآية، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وقال تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي: أخبر به وتكلم به عن علم، وقال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} والمقر على نفسه لا يقول أشهد، وسمى ذلك شهادة، ولا يفتقر صحة الإسلام إلى أن يقول الداخل في الإسلام أشهد أن لا إله إلا الله، بل لو قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله كفى، وقال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، حُنَفَاءَ} ، وقال عليه الصلاة والسلام: "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله" وقال عليه الصلاة والسلام: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، ألا وقول الزور" فسمى قول الزور شهادة، وقال ابن عباس: "شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس" ومعلوم أن عمر بن الخطاب لم يقل لابن عباس: أشهد عندك، ولكن أخبره، فسمى ذلك شهادة، فاشتراط لفظ الشهادة لا أصل له في الكتاب ولا في السنة، ولا في عمل السلف الصالح" ا. هـ. ويرى ابن فرحون أن مما يؤيد ما نقله ابن قيم الجوزية عن مذهب المالكية وهو عدم اشتراط لفظ الشهادة، ما ذكره ابن بطال، في المقنع عن أصبغ قال: لقد حضرت ابن وهب ومن معه من الفقهاء عند القاضي العمري، فكان كاتب القاضي يقرأ على القاضي شهادة الشاهد بمحضر الشاهد، ثم يقول للشاهد: هذه شهادتك، فإذا قال نعم، قبل ذلك منه. فقول الشاهد نعم ليس هو إنشاء للشهادة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وقد اكتفى به من الشاهد1. شروط الشاهد: شروط الشاهد إما أن تكون شروطا في تحمله الشهادة أي: ساعة مشاهدة الحدث، أو تكون شروطا في أدائها، فأما شروط التحمل فثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يكون عاقلا وقت التحمل، فلا يحصل التحمل من المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن تحمل الشهادة ما هو إلا فهم للحادثة وضبطها، وهذا لا يحصل إلا بوجود آلة الفهم والضبط، وهي العقل. الشرط الثاني: يرى الحنفية اشتراط البصر وقت التحمل فلا يصح تحمل الشهادة من الأعمى، ويرى الشافعي أن البصر ليس شرطا لصحة التحمل، ولا لصحة الأداء. التعليل لرأي الحنفية: أما الحنفية فقد عللوا لرأيهم بأن الشرط في الشهادة هو سماع الشاهد من الخصم؛ لأن الشهادة تقع له، ولا يعرف الشاهد كونه خصما إلا بالرؤية؛ لأن النغمات يشبه بعضها بعضا. التعليل لرأي الشافعي: وأما التعليل لرأي الشافعي فهو أن الحاجة إلى البصر عند التحمل لحصول العلم بالمشهود به، وذلك يحصل بالسماع، وللأعمى سماع صحيح، فيصح تحمله الشهادة، ويقدر على الأداء بعد التحمل2، وسنعود إن شاء الله تعالى إلى الكلام   1 تبصرة الحكام لابن فرحون ج1، ص261، 262. 2 بدائع الصنائع، ج6، ص266، وفتح القدير، ج7، ص376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 عن شهادة الأعمى بتفصيل عند الكلام عن شروط الأداء. الشرط الثالث من شروط التحمل: أن يكون التحمل بمعاينة المشهود به بنفسه لا بغيره إلا في أشياء مخصوصة يصح التحمل فيها بالتسامع من الناس، مثل الزواج، والنسب, والموت، فله تحمل الشهادة في هذه الأشياء بالتسامع من الناس وإن لم يعاين بنفسه؛ لأن مبنى هذه الأشياء على الاشتهار فقامت الشهرة فيها مقام المعاينة، فالزوج مثلا من شأنه أن يعلمه الكثير من الناس كبيرهم وصغيرهم، وكذلك النسب، والموت، فتشيع أخبار أمثال ما ذكرنا بخلاف الحال في عقد بيع مثلا، فقد لا يعلمه إلا طرفا العقد والشاهدان، ولا يتسامع به الناس، وكذلك الأمر في قرض أو رهن وأشباه ذلك، من الأمور التي ليست مما يتسامع به الناس عادة، فلا بد فيها من معاينة المشهود بنفسه. لا يشترط في التحمل الإسلام والحرية والعدالة: ولا يشترط في التحمل الإسلام والحرية والعدالة، وإنما هي شروط في الأداء كما سنبين بعد ذلك, فلو كان وقت التحمل كافرا، أو عبدا، أو فاسقا، ثم بلغ الصبي، وعتق العبد، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق، فأدوا الشهادة عند القاضي فإن شهادتهم تقبل1. شروط الأداء: الشرط الأول: الإسلام في الشهادة على المسلمين، قال تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، والكافر ليس عدلا، وليس منا، وأيضًا فإن الكافر أفسق الفساق، ويكذب على الله تعالى، فلا يؤمن الكذب منه على خلقه، وهنا نحب أن نتكلم عن مسألتين: شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض، وشهادتهم على المسلمين في الوصية في السفر.   1 بدائع الصنائع، ج6، ص266. 2 سورة الطلاق، الآية رقم: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض : يحسن هنا قبل حكاية آراء العلماء في هذه المسألة أن نبين أن كل من لا يدين بدين الإسلام يعد كافرا، سواء أكان يدين بدين سماوي سابق للإسلام كاليهودية أو النصرانية، أو لا يدين بدين سماوي بل بدين من الأديان التي اخترعها البشر كالهندوسية، والبوذية وغيرهما أو لا يدين بأي دين، لا سماوي ولا غيره كالشيوعيين ومن لا يعتقدون في أي دين. قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقد سمى الله تبارك وتعالى الكتابيين والمشركين كفارا في قوله عز وجل: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} . وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} . وإذا ما وضح هذا نقول: للعلماء في هذه المسألة ثلاثة آراء: الرأي الأول: لا تجوز شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض ولو كانوا أتباع ملة واحدة، كشهادة النصراني على النصراني، واليهودي على اليهودي، وهذا الرأي يراه الشافعي -رضي الله عنه، وهو الرواية القوية عن أحمد. الرأي الثاني: تجوز شهادة بعضهم على بعض، ولو كانوا أتباع ملل مختلفة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ونقل هذا الرأي عن نافع مولى ابن عمر، والشعبي، والزهري، في إحدى روايتين، ويراه شريح، وأبو حنيفة وأصحابه، وعمر بن عبد العزيز. الرأي الثالث: لا تجوز شهادتهم على بعضهم إلا إذا كانوا أتباع ملة واحدة، فلا تجوز شهادة النصراني على اليهودي ولا العكس، وهو رواية أخرى عن الزهري، وروي هذا الرأي عن الحسن البصري، وعطاء، وغيرهم. أدلة القائلين بشهادتهم ولو اختلفت مللهم: أولا: قول الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} 1. فأخبر الله عز وجل أن منهم الأمين على هذا القدر الكبير من المال، مع غير ملته فيؤديه له، ولا يخون هذه الأمانة، ولا ريب أن يكون مثل هذا أمينا على قرابته وذوي ديانته أولى. ثانيا: قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2، فأثبت لهم الولاية على بعضهم بعضا، والولاية أعلى رتبة من الشهادة، وغاية الشهادة أن نشبهها بالولاية. ثالثا: إذا كان للكافر حق تزويج ابنتيه وأخته، وله الولاية على مال أولاده، فقبول شهادته عليهم أولى وأحرى. رابعا: ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكم بشهادتهم في الحدود، عندما جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا، فأقام الحد عليهما بقول اليهود، ولم   1 سورة آل عمران، الآية رقم: 75. 2 سورة الأنفاقل، الآية رقم: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 يسأل اليهودي واليهودية ولا طلب اعترافهما وإقرارهما، قالوا: وهذا ظاهر في سياق القصة بجميع طرقها، ولا يوجد في أي طريق منها ألبتة أنه رجمهما بإقرارهما، مع أننا نجد أنه لما أقر ماعز بن مالك والغامدية اتفقت جميع طرق الحديثين على ذكر الإقرار. خامسا: أجاز الله تبارك وتعالى، شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية للحاجة، ومعلوم أن حاجة الكفار إلى قبول شهادة بعضهم على بعض أعظم بكثير من حاجة المسلمين إلى قبول شهادتهم عليهم، فإن الكفار يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملات من المداينات، وعقود المعاوضات، وغيرها، وتقع بينهم الجنايات، وعدوان بعضهم على بعض، لا يحضرهم في الغالب مسلم، ويتحاكمون إلينا، فلو لم تقبل شهادة بعضهم على بعض لأدى ذلك إلى تظالمهم، وضياع حقوقهم، وفي ذلك فساد كبير، فأين الحاجة إلى قبول شهادتهم في السفر على المسلمين من الحاجة إلى قبول شهادة بعضهم على بعض في السفر والحضر؟. سادسا: الكافر قد يكون عدلا في دينه بين قومه، صادق اللهجة عندهم. فلا يمنعه كفره من قبول شهادته عليهم إذا ارتضوه، قالوا: وقد رأينا كثيرا من الكفار يصدق في حديثه، ويؤدي أمانته، بحيث يشار إليه في ذلك، ويشتهر به بين قومه وبين المسلمين، بحيث يسكن القلب إلى صدقه، وقبول خبره وشهادته ما لا يسكن إلى كثير من المنتسبين إلى الإسلام. سابعا: أباح الله تبارك وتعالى معاملتهم وأكل طعامهم، والزواج بنسائهم، وذلك يستلزم الرجوع إلى أخبارهم قطعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 فإذا جاز لنا أن نعتمد على خبرهم فيما يتعلق بنا في الأعيان التي تحل وتحرم, فلأن نرجع إلى أخبارهم بالنسبة لما يتعلق بهم من ذلك أولى. فإن قيل: هذا للحاجة الداعية إلى ذلك، قلنا: وذلك أشد حاجة. ثامنا: أمر الله تبارك وتعالى بالحكم بينهم إما إيجابا وإما تخييرا، والحكم إما أن يكون بالإقرار، وإما أن يكون بالبينة، ومن المعلوم أنهم مع إقرار المدعى عليه لا يرفعون إلينا قضاياهم، ولا يحتاجون إلى الحكم غالبا، وإنما يحتاجون إلى الحكم عند التجاحد وإقامة البينة، وهم في الغالب لا تحضرهم البينة من المسلمين، ومن المعلوم أن الحكم بينهم مقصوده العدل، وإيصال كل ذي حق منهم إلى حقه، فإذا غلب على الظن صدق مدعيهم بمن يحضره من الشهود الذين ترتضونهم ولا سيما إذا كثروا فالحكم بشهادتهم أقوى من الحكم بمجرد نكول المدعى عليه أو اليمين. الاستدلال للرأي القائل بعدم قبول شهادة الكافر على الكافر ولو اتحدت الملة: يمكن أن يعتمد رأيهم على الأدلة الآتية: أولا: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله تبارك وتعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} وقوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} . ووجه الدلالة أن الكافر ليس عدلا، ولا نرتضيه، وليس من رجالنا فلا يصح أن يكون شاهدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 مناقشة هذا الاستدلال: أجاب المخالفون بأن هذا إنما هو في الحكم بين المسلمين، فإن السياق كله في ذلك، فإن الله تبارك وتعالى قال: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 1، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} إلى قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 2، وكذلك قال تبارك وتعالى في آية المداينة وهي قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} ثم قال عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 3، فلا يوجد في شيء من هذه النصوص الكريمة تعرض لحكم أهل الكتاب ألبتة. ثانيا: قال الله تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} 4، وكيف تقبل شهادة إنسان على إنسان يبغضه ويكن له العداوة؟ مناقشة هذا الاستدلال: أجاب المخالفون بأن هذا إما أن يراد به: العداوة التي بين اليهود والنصارى، أو يراد به: العداوة التي بين فرقهم وإن كانوا ملة واحدة، وهذا لا يمنع قبول شهادة بعضهم على بعض؛ لأنها عداوة دينية فهي كالعداوة التي بين فرق الأمة   1 سورة النساء، الآية رقم: 15. 2 سورة الطلاق، الآيتان رقم1، ورقم: 2. 3 سورة البقرة، الآية رقم: 282. 4 سورة المائدة، الآية رقم: 64. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 الإسلامية، وتفرقهم شيعا، وإذاقة بعضهم بأس بعض، وليست عداوة شخصية بين الأفراد لأمر من الأمور الدنيوية، والعداوة بين فرق الأمة الإسلامية لم تمنع قبول شهادة بعضهم على بعض1. ثالثا: احتج الشافعي -رضي الله تعالى عنه- بأن من كذب على الله فهو أولى أن يكذب على مثله من إخوانه وأقاربه، أي: كأن الشافعي -رضي الله عنه- يرى أن من تجرأ على الكذب على الخالق فأنكر نبوة رسول من رسله فإن تجرؤه على الخلق يكون أولى. مناقشة هذا الاستدلال: أجاب المخالفون بأن جميع أهل البدع قد كذبوا على الله ورسوله، والخوارج من أصدق الناس لهجة ومع ذلك فقد كذبوا على الله ورسوله، وكذلك القدرية والمعتزلة، وهم يظنون أنهم صادقون غير كاذبين، فهم متدينون بهذا الكذب، ويظنون أنه من أصدق الصدق. رابعا: قبول شهادتهم فيه إكرام لهم، ورفع منزلتهم وقدرهم ورذيلة الكفر تنفي ذلك.   1 قال الشافعي في كتابه "الأم": "ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تباينا شديدا، واستحل بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك متقادما، منه ما كان في عهد السلف وإلى يومنا هذا، ولم نعلم أحدا من سلف الأمة يقتدي به، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله، ورآه استحل ما حرم الله تعالى عليه، فلا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل إذا كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم". نقلنا هذا النص للشافعي في كتاب "الأم" عن تقي الدين الحصني، في كتابه "كفاية الأخيار"، ج2، ص277، 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 مناقشة هذا الاستدلال: أجاب المخالفون بأن رذيلة الكفر لم تمنع قبول قولهم على المسلمين للحاجة، بنص القرآن الكريم، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وكذلك لم تمنع رذيلة للكفر ولاية بعضهم على بعض، وعرافة بعضهم على بعض، وكون بعضهم حاكما وقاضيا عليهم، فلا تمنع رذيلة الكفر أن يكون بعضهم شاهدا على بعض. وليس في هذا تكريم لهم، ولا رفع لأقدارهم، وإنما هو دفع لشرهم بعضهم عن بعض، وإيصال أهل الحقوق منهم إلى حقوقهم بقول من يرتضونه، وهذا من تمام مصالحهم التي لا غنى لهم عنها. ومما يوضح ذلك، أنهم إذا رضوا بأن نحكم بينهم، ورضوا بقبول قول بعضهم على بعض، فألزمناهم بما رضوا به، لم يكن ذلك مخالفا لحكم الله ورسوله، فإنه لا بد أن يكون الشاهد بينهم ممن يثقون به، فلو كان معروفا بالكذب وشهادة الزور لم نقبله ولم نلزمهم بشهادته1. أدلة القائلين بشهادتهم إذا اتحدت الملة: أولا: ما رواه الدارقطني، وابن عدي من حديث أبي هريرة، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجوز شهادة ملة على ملة إلا ملة محمد، فإنها   1 الطرق الحكمية لابن القيم، ص206 وما بعدها، وفتح القدير لابن الهمام، ج7، ص416، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص165، شرح جلال الدين المحلي على المنهاج، وحاشيتا قليوبي وعميرة عليه، ج4، ص299، والمغني لابن قدامة، ج12، ص54، 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 تجوز على غيرهم". مناقشة هذا الاستدلال: أجيب عن هذا بأن علماء الحديث قد ضعفوا هذا الحديث، بأن أحد رواته ضعيف وهو عمر بن راشد، ورواه عبد الرزاق بمعناه مرسلا، والمرسل ضعيف عند جمهور المحدثين، ورواه البيهقي وضعفه1. ثانيا: أهل الملة الواحدة بعضهم يلي على بعض، ولا عداوة بينهم ولا بغضاء فجازت الشهادة فيما بينهم، أما الكفار مختلفو الملل فبينهم من العداوة والبغضاء ما يقطع الولاية ويمنع قبول الشهادة، قال تبارك وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} ، وقال عز وجل: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} ، وإن كان هذا شأنهم فلا تقبل شهادتهم على بعض. مناقشة هذا الاستدلال: أجيب عن هذا الاستدلال بأن العداوة التي بين الملل المختلفة من الكفار إنما هي عداوة دينية، والعداوة الدينية ليست مانعا من قبول الشهادة، كالعداوة التي بين فرق الأمة الإسلامية2. وإنما الذي يمنع من الشهادة هو العداوة الشخصية. الرأي الراجح: يغلب على الظن ترجيح الرأي القائل بقبول شهادة الكافر على الكافر، ولو اختلفت الملة، لأمرين: أحدهما: كثرة الأدلة التي استدل بها لهذا الرأي، وسلامته من الاعتراض. الثاني: الإجابات القوية التي أجيب بها على أدلة المخالفين، وفي النهاية نسأل أصحاب الرأي القائل بعدم قبول شهادة غير المسلمين فيما بينهم إذا تحاكموا إلينا ولم يكن معهم شهود من المسلمين، ألا يحكم القاضي بينهم؟ أم يجيز المانعون هذه الصورة للضرورة، كما أجاز مالك -رضي الله عنه- شهادة الطبيب الكافر على المسلم للضرورة3.   1 كفاية الأخيار، للحصني ج2، ص275. 2 مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين محمود شلتوت، ومحمد علي السايس، ص132، 134. 3 مقارنة المذاهب في الفقه للأستاذين الشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد علي السايس، ص134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية حال السفر : إذا كان المسلم في سفر فمرض، وأراد أن يوصي مثلا برد الوديعة إلى صاحبها، ولا يوجد شاهد مسلم، كأن كان قد سافر إلى إحدى البلاد الأوروبية، للتعليم أو للتجارة، أو للعلاج، أو للسياحة، وليس معه إلا النصارى أو اليهود ممن يعرفهم، فأشهد على الوصية اثنين من هؤلاء النصارى أو اليهود، فهل تقبل شهادتهما على المسلم أم لا؟ للعلماء في هذه المسألة رأيان: أحدهما: قبول شهادة غير المسلمين على المسلمين في السفر، وهذا الرأي يراه أبو موسى الأشعري، وحكي عن ابن عباس، ويراه شريح، وسعيد بن المسيب، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وأحمد، والظاهرية وغيرهم. الرأي الثاني: لا تقبل شهادة غير المسلمين على المسلمين في السفر، روي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 هذا الرأي عن الحسن البصري، والزهري، وزيد بن أسلم، ويراه مالك، والشافعي1. دليل الرأي الأول: استدل أصحاب الرأي الأول بقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} 2. ووجه الدلالة واضح من الآية، فإن الله تبارك وتعالى بين أن الشهادة في الحال التي نتكلم فيها تكون من اثنين ذوي عدل من المؤمنين، أو شهادة آخرين من غير المؤمنين. مناقشة هذا الاستدلال: أجيب عن الاستدلال بالآية الكريمة بعدة إجابات؛ لأن المخالفين لهذا الرأي مختلفون في تخريج الآية على ثلاثة طرق: الإجابة الأولى: أن المراد بقوله تبارك وتعالى: {مِنْ غَيْرِكُمْ} ، أي: من غير قبيلتكم، وقد روي هذا عن الحسن البصري، وروي عن الزهري أيضًا.   1 الطرق الحكمية لابن القيم، وفتح القدير، ج7، ص417، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص172، شرح المحلى على المنهاج، وحاشيتا قليوبي وعميرة عليه، ج4، ص323. 2 سورة المائدة، الآية رقم: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 الرد على الإجابة: رد المخالفون بأن هذا القول لا يخفى بطلانه وفساده، فإنه ليس في أول الآية خطاب لقبيلة دون قبيلة، بل هو خطاب عام لجميع المؤمنين، فالنص الكريم في أول الآية هو قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، فلا يكون غير المؤمنين إلا من الكفار، هذا مما لا شك فيه، والذي قال: من غير قبيلتكم زلة عالم، غفل عن تدبر الآية، فلم يخاطب الله تبارك وتعالى بهذا النص الكريم قبيلة معينة حتى يكون قوله {مِنْ غَيْرِكُمْ} أيتها القبيلة. الإجابة الثانية: أن الآية منسوخة، وهذا مروي عن زيد بن أسلم وغيره. الرد على هذه الإجابة: رد المخالفون بأن دعوى النسخ باطلة؛ لأنه يتضمن أن حكم الآية باطل، لا يحل العمل به، وأنه ليس من الدين، وهذا لا يقبل إلا إذا اعتمد على حجة صحيحة لا معارض لها، ولا يمكن لأحد قط أن يأتي بنص صحيح صريح متأخر عن هذه الآية, مخالف لها لا يمكن الجمع بينه وبينها، فإن وجد إلى ذلك سبيلا صح النسخ، وإلا فليس معه إلا مجرد الدعوى الباطلة. ثم قد قالت أعلم نساء الصحابة بالقرآن أنه لا منسوخ في المائدة، فقد صح عن السيدة عائشة -رضي الله عنها، فيما يرويه جبير بن نفير أنها قالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت, فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه1.   1 مقارنة المذاهب في الفقه مصدر سابق، ص135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ولو كان يجوز أن تقبل دعوى النسخ بلا حجة أو برهان لكان كل من احتج عليه بنص يقول: هو منسوخ. الإجابة الثالثة: أن المراد بالشهادة في الآية: أيمان الوصي بالله تعالى للورثة، وليس المراد بها الشهادة المعروفة. الرد على هذه الإجابة: رد المخالفون بأن هذا القول باطل من عدة وجوه، وذكر ابن القيم ثلاثة عشر وجها، نذكر لك معظمها: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى قال: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ولم يقل: أيمان بينكم، والمتعارف من كلمة الشهادة في القرآن والسنة إنما هو الشهادة المعروفة، فالحمل على غيرها خروج باللفظ عن ظاهره لغير دليل، أي: إن الأصل هو أن يكون الكلام على ظاهره؛ لأن القرآن الكريم خوطب به الناس جميعا، بحيث إن البدوي العادي يفهم المراد من القرآن بدون أن يكون وصل إلى درجة من العلم، فإذا أريد باللفظ غير الظاهر فلا بد أن تكون هناك قرينة تصرفه عن معناه الظاهر ولا قرينة هنا. الوجه الثاني: أنه سبحانه قال: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} واليمين لا يشترط فيها ذلك، فإن الكافر يصح أن يحلف أمام القاضي. الوجه الثالث: أنه تعالى قيد ذلك بالضرب في الأرض "أي: السفر" فقال سبحانه: {أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} وليس ذلك شرطا في اليمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الوجه الرابع: أنه تعالى قال في الآية: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ} وهذا لا يقال في اليمين في هذه الأفعال، بل هو نظير قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} . الوجه الخامس: أنه تعالى قال في الآيتين التاليتين للآية: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} . فالله تبارك وتعالى قال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} ولم يقل أن يأتوا بالأيمان. الوجه السادس: أنه تبارك وتعالى قال في الآية الثالثة: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} فجعل سبحانه وتعالى الأيمان قسيما للشهادة، وهذا صريح في أنها غير الشهادة. الوجه السابع: أن الشاهدين يحلفان بالله {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} ولو كان المراد بها اليمين لكان المعنى: يحلفان بالله لا نكتم اليمين، وهذا لا معنى له قطعا، فإن اليمين لا تكتم، فكيف يقال لشخص: احلف أنك لا تكتم حلفك؟. الوجه الثامن: أن الله تبارك وتعالى قال: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ومن المعلوم أنه لا يصح أن يكون المعنى: أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت؛ لأن الموصي إنما يحتاج للشاهدين لا إلى اليمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 الوجه التاسع: أن حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم ,الذي حكم به وحكم به الصحابة بعده- هو تفسير للآية قطعا، وما عداه باطل، فوجب أن يرغب عنه. اعتراض وجواب: إذا كان يمكن الاعتراض بأن الله تبارك وتعالى سمى أيمان اللعان1 شهادة في قوله عز وجل: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} وقوله عز وجل: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ، فالجواب عنه -كما بين ابن القيم- أن الله تبارك وتعالى سمى أيمان الزوج شهادة؛ لأنها قائمة مقام البينة المطلوبة في إثبات جريمة الزنا، ولذلك يجب رجم الزوجة إذا امتنعت عن الأيمان، وسمى أيمانها شهادة؛ لأنها في مقابلة شهادة الزوج. وأيضًا فإن هذه اليمين خصت من بين الأيمان بلفظ الشهادة بالله تأكيدا لشأنها، وتعظيما لخطرها2.   1 إذا اتهم الزوج زوجته بجريمة الزنا، أو نفى ولدها منه، فإن القاضي يطالبه بالبينة "الشهود" وإلا أقيم عليه حد جريمة القذف لاتهامه لزوجته، وهو جلده ثمانون جلدة، وقد أعطاه الشرع حق اللعان حتى يدرأ العقوبة عنه، وكيفية اللعان أن يقول الزوج: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، أو نفي الولد، ويكرر ذلك أربع مرات، ويقول في المرة الخامسة: وعليه لعنة الله إن كان من الكاذبين، وإذا أنكرت المرأة فلها حق اللعان، وتقول هي أيضًا أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، أو نفي الولد، وتقول في المرة الخامسة: إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. 2 الطرق الحكمية ص212، وإعلام الموقعين لابن القيم ج1، ص91، والروض المربع بحاشية العنقري ج3، ص420، 421، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم ج2، ص350، وكشاف القناع ج6، ص412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 دليل الرأي الثاني: القائل بمنع شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية في السفر: أدلة أصحاب هذا الرأي لا تخرج عما استدلوا به على منع شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض، وهي المسألة السابقة عن المسألة التي نتكلم فيها الآن، وقد سبق مناقشة ما استدلوا به، ويزاد هنا في الاستدلال على منع شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية في السفر أن الشهادة من باب الولاية، والكافر ليس له ولاية على المسلم؛ لقول الله عز وجل: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} ، فالله نهانا عن أن يكون للكفار علينا سبيل. الجواب عن هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن هذا النص الكريم غير متصل بسبيل الشهادة والقضاء، وإنما هو سبيل العزة والقهر والغلب1. الرأي الرجح: نرى أن الرأي القائل بصحة شهادة غير المسلم على المسلم في الوصية في السفر أولى بالقبول، لسلامة الاستدلال بالآية الكريمة التي اعتمد عليها أصحاب هذا الرأي, ولضعف ما استدل به المخالفون، وبهذا نكون انتهينا من الكلام عن الشرط الأول من شروط أداء الشهادة، وهو شرط الإسلام، ونواصل الكلام الآن عن بقية شروط أداء الشهادة. الشرط الثاني من شروط أداء الشهادة: الحرية، وهذا الشرط قال به الفقهاء عندما كان الرق موجودا في عصورهم، لكن هذا الشرط عند القائلين به أصبح   1 مقارنة المذاهب في الفقه، مصدر سابق، ص135، 137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 شرطا علميا لا حقيقة له في الواقع الذي نعيشه، فلا تقبل شهادة العبد عند مالك وأبي حنيفة، والشافعي؛ لأن أداء الشهادة فيه معنى الولاية، والعبد ليس أهلا للولاية. ويرى أحمد بن حنبل، والظاهرية، وبعض فقهاء الشافعية أنه لا تشترط الحرية في الشاهد، فتجوز شهادة العبد، لعموم آيات الشهادة وهو داخل فيها، قال تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} والعبد من رجالنا، وقال عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وهو عدل، والعبد ما دام عدلا تقبل روايته وفتياه، وأخباره الدينية، فتقبل شهادته. ولما رواه عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء "أي: جارية"، فقالت: قد أرضعتكما، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "وكيف وقد زعمت ذلك"؟ , رواه البخاري ومسلم. وأيضًا فإن الأصل إنما هو اشتراط العدالة، والعبودية ليس لها تأثير في الرد إلا أن يثبت ذلك من كتاب أو سنة، أو إجماع1. ونرى رجحان هذا الرأي؛ لأن الشهادة وإن كان فيها شبه بالولاية، لكنها ليست كالولاية من كل الوجوه، وعموم الأدلة يفيد قبول الشهادة من العبد والجارية. الشرط الثالث من شروط أداء الشهادة: التكليف: فلا تقبل شهادة المجنون بإجماع العلماء، وكذلك لا تقبل شهادة المعتوه وهو المختل العقل دون الجنون2. وما دام شرط التكليف لا بد منه في الأداء فلا تقبل شهادة الصبي، لقول الله عز وجل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم} ، والصبي ليس من رجالنا؛ ولأنه غير مقبول القول في حق نفسه، ففي حق غيره أولى؛ ولأنه غير كامل العقل3. فلا تقبل شهادته ولو لصبي مثله أو على صبي كما يقول جمهور العلماء.   1 بداية المجتهد، لابن رشد، ج2، ص502، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم ج2، ص350، والمغني ج11، ص416. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الخلاف في شهادة الصبيان على بعض في الجراحات التي تحدث بينهم مدخل ... الخلاف في شهادة الصبيان على بعض في الجراحات التي تحدث بينهم: اختلف العلماء في شهادة الصبيان بعضهم على بعض, في القتل والجراحات التي تحدث بينهم، كما لو كان الصبيان تلاميذ في مدرسة ابتدائية، وحدث بينهم شجار ونزاع أدى إلى قتل أحدهم أو جرحه، بعيدا عن أعين المشرفين على المدرسة، فلم يكن بينهم أحد البالغين حتى يشهد بما رآه، فيرى جمهور الفقهاء عدم قبول شهادتهم؛ لأن من شروط الشهادة العدالة، ومن شرط العدالة: البلوغ. ويرى الإمام مالك قبول شهادة الصبيان فيما يقع بينهم من القتل والجراحات ما لم يتفرقوا، ولا تقبل شهادتهم في الأموال، فالأموال إذن متفق عليها بين العلماء في عدم قبول شهادة الصبيان فيها، وإنما الخلاف بين مالك والجمهور في القتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 والجراحات التي تحدث بينهم. وكذلك يرى ما يراه مالك ابن أبي ليلى، وبعض التابعين، وفي كتب الإمامية ما يفيد قبول شهادة الصبيان في القتل, وأنه تقبل شهادتهم بينهم ما لم يتفرقوا أو يرجعوا إلى أهلهم. ولم يستند رأي الإمام مالك إلا على ما روي عن ابن الزبير، قال الشافعي: فإذا احتج محتج بهذا قيل له: إن ابن عباس قد ردها، والقرآن يدل على بطلانها1. وظاهر من قول الشافعي -رضي الله عنه- أنه إذا كان قد روي عن ابن الزبير ما يفيد رأي مالك فإنه قد روي عن صاحبي آخر ما يرد شهادة الصبيان، ويشير الشافعي بقوله: والقرآن يدل على بطلانها إلى قوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فالصبيان ليسوا من رجالنا. اشترط المالكية في قبول شهادة الصبيان عدة شروط: اشترط المالكية في كتبهم عدة شروط لقبول شهادة الصبيان بعضهم على بعض في القتل والجراحات، وإليك بيانا لهذه الشروط: 1- حرية الشاهد، فلا يصح شهادة الصبي إذا كان عبدا. 2- الإسلام.   1 بداية المجتهد، لابن رشد "الحفيد"، ج2، ص502، وحاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، ج2، ص350، والمغني ج11، ص416، ووسائل الشيعة للحر العاملي، ج18، ص252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 3- التمييز؛ لأن غير المميز لا يضبط ما يقول، واشترط بعض فقهائهم أن يكون ابن عشر سنين؛ لأن الذي سنه أقل من عشر سنين لا يثبت على كلام. 4- الذكورة، فلا تجوز شهادة الأنثى، حتى لو تعددت الإناث وكثرن، ولو كان معهن ذكر. 5- التعدد، بأن يكون عدد الشهود اثنين فأكثر. 6- أن لا يكون الشاهد عدوا للمشهود عليه، وصرح المالكية بأن العداوة هنا مانعة من صحة الشهادة سواء كانت العداوة بين الصبيان أنفسهم، أو بين آبائهم. 7- أن لا يكون الشاهد قريبا للمشهود له ولو بعدت القرابة. 8- أن لا يحدث اختلاف بين الصبيان فإن اختلفوا بأن قال بعضهم: قتله فلان، وقال غيره: بل فلان، لم تقبل شهادتهم. 9- أن لا يكون قد تفرقوا، فإن كانوا تفرقوا لم تقبل شهادتهم، وعلل المالكية هذا بأن التفرق مظنة التعليم، أي: يعلمهم غيرهم من الكبار ماذا يقولون، إلا إذا شهد رجال عدول على ما نطق به الصبيان قبل تفرقهم ثم تفرقوا، ففي هذه الحال تقبل شهادتهم. 10- أن لا يكون قد حضر بينهم شخص بالغ وقت القتل أو الجرح، فإن حضر بالغ وقت القتل، أو حضر بعده، بحيث أمكن تعليمهم لم تقبل شهادتهم، سواء أكان البالغ ذكرا أم أنثى، حرا أم عبدا، مسلما أم كافرا، واحدا أم متعددا. ويرى بعض فقهاء المالكية أن حضور البالغ غير العدل ممن لا تقبل شهادته كالكافر، والفاسق، والعبد مع الصبيان وقت وقوع القتل أو الجرح لا يمنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 شهادة الصبيان. 11- أن لا تكون شهادة الصبيان بأن كبيرا قتل الصغير، أو بأن صغيرا قتل كبيرا، فإن شهدوا بأن كبيرا هو الذي قتل الصغير، أو أن صغيرا قتل الكبير لم تقبل شهادتهم، فلا بد من شهادة بعضهم لبعض على بعض. 12- أن لا يكون الشاهد منهم مشهورا بالكذب. 13- أن يكون الشاهد من جملة الصبيان المجتمعين، فإن كان صبيا مر عليهم لا تقبل شهادته. إذا رجع الصبيان عن شهادتهم: صرح المالكية بأنه لا يقدح في شهادة الصبيان إذا تحققت الشروط المذكورة رجوعهم عن شهادتهم قبل الحكم أو بعده، ولا تجريحهم من غيرهم أو من بعضهم لبعض، إلا التجريح بالكذب في المجرب به. وبقي أن نقول: إن المالكية بينوا أنهم إذا قالوا بجواز شهادة الصبيان في القتل فإن غير واحد من فقهائهم قال إنه لا تقبل في القتل حتى يشهد العدول على رؤية البدن مقتولا، وعلى هذا فلو شهدوا بأن ابن فلان قتل ابن فلان، ورماه في البحر لم تقبل شهادتهم1. الشرط الرابع من شروط الشهادة: العدالة الأئمة الأربعة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، متفقون على وجوب العدالة في الشاهد؛ لأن الفاسق إذا لم ينزجر عن غير الكذب من محظورات دينه فقد لا يتزجر عنه أيضًا، فكان متهما بالكذب2. لكن الخلاف في أمرين: أحدهما: هل يجب السؤال عن عدالة الشاهد من عدمها أم يكتفى بعدالته الظاهرة؟ والثاني: إذا قضى القاضي بشهادة الفاسق، هل يصح هذا القضاء أم لا؟ الشافعي وغيره يرون أنه لا يصح القضاء بشهادة الفاسق، فلا تقبل الشهادة من الفاسق، لقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} 3، وقوله عز وجل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 4. وقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 5، والفاسق ليس بمرضي؛ ولأن القاضي يحكم بقول الشاهد وينفذه في حق الغير، فيجب أن يكون قوله مؤديا إلى أن يغلب على ظن القاضي صدق الشاهد، ولا يكون ذلك إلا بالعدالة6. وقد سبق بيان معنى العدالة عند الكلام عن شروط القاضي.   1 حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص183. 2 شرح العناية على الهداية، مطبوع مع فتح القدير، ج7، ص397. 3 سورة الحجرات، الآية رقم: 6. 4 سورة الطلاق، الآية رقم: 2. 5 سورة البقرة، الآية رقم: 282. 6 الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمود بن مودود، ج2، ص16، مطابع الشعب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 معنى العدل باطنا وظاهرا : إذا ثبتت عدالة شخص عند الحاكم سمي عدلا باطنا، وأما من لم تثبت عدالته عند الحاكم لكن ظاهره أنه يتصف بها فيسمى عدلا ظاهرا، فالعدالة الظاهرة تعرف بالمخالطة، والعدالة الباطنة تثبت بالتزكية عند الحاكم1. والعلماء يسمون   1 مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب، ج3، ص145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الذي يشهد أمام القاضي بعدالة الشهود أو ضدها مزكيا، وعندما يتكلم العلماء عن التزكية يبينون أن التزكية تفتقر إلى أن يكون المزكي عارفا من حال الشاهد ما يثبت عدالته، في ظاهر حاله وباطنه، فنرى بعضهم يصرح بأن المزكي يزكي الشاهد عند القاضي, إذا كان للمزكي معرفة بباطن الشاهد كمعرفته لظاهره، وصرح البعض بأن هذا يكون صحبه الصحبة الطويلة، وعامله بالأخذ والعطاء في الحضر والسفر. كما بيّن العلماء أن الهفوات الصغيرة من الشخص لا تؤثر في تزكيته، قال بعض علماء المالكية: إنه لا يؤثر في ذلك أن يقارف بعض الذنوب كالأمر الخفيف من الزلة والفلتة، فمثل هذا لا يمنع كونه عدلا. ونقل البعض عن الإمام مالك قوله: من الناس من لا تذكر عيوبهم يكون عيبه خفيفا، والأمر كله حسن، ولا يعصم أحد من أهل الصلاح1. ويجب على القاضي عند الشافعي وغيره كأحمد، وأبي يوسف ومحمد، أن لا يقبل الشهادة إلا من الشخص الذي ثبتت عدالته، فإذا عرف عدالته قبل شهادته، وإذا عرف فسق الشاهد رد شهادته، ولا يحتاج إلى بحث عنه، كالشخص الذي انتشر خبر فسقه بين الناس. وإذا لم يعرف القاضي عدالة الشاهد ولا فسقه سأل عنه، أي: سأل الناس الذين يعرفونه عن أحواله؛ لأن معرفة العدالة شرط في قبول الشهادة بجميع الحقوق، وهذا ما يراه الشافعي، ويراه أحمد في رواية عنه.   1 المنتقى، للباجي، شرح موطأ مالك، ج5، ص195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وعن أحمد رواية أخرى تقول بصحة الحكم بشهادة من عرف إسلامه عملا بظاهر الحال، إلا أن يقول الخصم: هو فاسق، وكذلك يرى أبو حنيفة أنه يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن حال الشهود حتى يطعن الخصم، إلا في الحدود والقصاص فإنه يسأل عن حال الشهود؛ لأنه يحتاط فيها ويحتال لإسقاطها، فيشترط الاستقصاء فيها؛ ولأنها تدرأ بالشبهات، ويرى مالك أن من كان مشهورا بالعدالة لا يسأل القاضي عنه، ومن عرف أنه غير عدل لا تقبل شهادته، وإنما يسأل القاضي عن الشاهد إذا شك في عدالته، وقد بين الحنفية أن الفتوى في مذهبهم على رأي أبي يوسف ومحمد في هذه المسألة. وقد استدل لمن يكتفي بالعدالة الظاهرة بما يأتي: أولا: الظاهر من المسلمين العدالة، ولهذا قال عمر -رضي الله عنه: "المسلمون عدول بعضهم على بعض" في كتابه الذي كتبه لأبي موسى الأشعري. ثانيا: روي أن أعرابيا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فشهد برؤية الهلال فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أن لا إله إلا الله" فقال: نعم، فقال: "أتشهد أني رسول الله"؟ قال: نعم، فصام، وأمر الناس بالصيام. ووجه الدلالة واضح وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخذ بشهادة الأعرابي بمجرد ثبوت أنه مسلم ولم يسأل عن عدالته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ثالثا: العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله عز وجل، ودليل ذلك الإسلام، فإذا وجد فليكتف به إلا إذا قام الدليل على خلافه. الاستدلال للرأي القائل بوجوب السؤال عن الشاهد: استدل لهذا الرأي بأن العدالة شرط في الشاهد فوجب العلم بها كشرط الإسلام، فإن شرط الإسلام لا يكتفى فيه بظاهر الحال, وإنما لا بد أن نسأل عنه، ويؤيد هذا الحديث الذي ذكرناه قريبا، وهو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل الرجل عن إسلامه عندما جاء يشهد برؤية الهلال، فقال له عليه الصلاة والسلام: "أتشهد أن لا إله إلا الله"، فقال الرجل: نعم. فقال: "أتشهد أني رسول الله"؟ قال: نعم. فصام، وأمر الناس بالصيام. وأجاب أصحاب هذا الرأي عن الاستدلال للرأي الآخر بحديث الأعرابي، بأن هذا الأعرابي المسلم كان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه سلم، ثبتت عدالتهم بثناء الله تبارك وتعالى عليهم، قال الله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1. وقال تبارك وتعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ   1 سورة التوبة، الآية رقم: 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وأيضًا فإن من ترك دينه الذي كان عليه في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إيثارا لدين الإسلام وصحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثبتت عدالته. وأما قول عمر فيمكن أن يجاب عنه بأن المراد به أن الظاهر هو عدالة المسلمين, ولا يمنع ذلك وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة، فقد روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه أتى بشاهدين، فقال لهما: لست أعرفكما، ولا يضركما إن لم أعرفكما، جيئا بمن يعرفكما، فأتيأ برجل، فقال له عمر: تعرفهما؟ فقال: نعم، فقال عمر: صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا، قال عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تقطع فيها الرحم؟ قال: لا، قال: كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا، قال: يابن أخي لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما. وهذا من عمر بحيث يدل على أنه لا يكتفي بدونه2. معنى المزكي: والعلماء -كما بينا سابقا- يسمون الذي يشهد بعدلة الشهود، أو ضدها مزكيا، ويرى بعض العلماء أن من المستحسن أن يتخذ القاضي مزكيا، أي: معدلا   1 سورة الحشر، الآيات، 8، 9، 10. 2 المغني، ج11، ص415، طبع دار الكتاب العربي ببيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 يشهد بعدالة الشاهد لشدة الحاجة إليه، ليعرف القاضي عن طريقه حال من يجهل حاله من الشهود؛ لأن القاضي لا يتيسر له البحث عنهم1. شروط المزكي أو المعدل: يشترط في المزكي الشروط التي تشترط في الشاهد؛ لأن التزكية شهادة بالعدالة، ويشترط فيه أيضًا زيادة على شروط الشاهد أن يكون عارفا بأسباب الجرح والتعديل، ويرى بعض العلماء أنه يجب عليه أن يذكر سبب الجرح، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وأما سبب التعديل فلا يجب ذكره؛ لأن الأصل العدالة، فلا يقبل الجرح إلا مفسرا، كأن يقول مثلا: أشهد أنه فاسق؛ لأنه زنى، أو سرق، أو نحو ذلك، ولا يصير قاذفا بذكر الزنا حتى لو انفرد بهذا؛ لأنه مسئول فهو في حقه فرض كفاية أو فرض عين، بخلاف شهود الزنا إذا نقصوا عن الأربعة، فإنهم يعدون مرتكبين لجريمة القذف؛ لأن المطلوب منهم الستر. ويرى بعض آخر أنه لا يجب ذكر سبب الجرح، وسنعود لهذه المسألة قريبا. تعارض البينة في التجريح والتعديل: إذا حدث خلاف على شاهد معين، فشهد اثنان بعدالته، وشهد اثنان آخران بعدم عدالته، فإنه يقدم شهود الجرح على شهود التعديل؛ لأن مع شهود الجرح زيادة علم، إلا إذا قال شهود التعديل إنه تاب من سبب الجرح، فيقدم حينئذ شهود التعديل؛ لأن معهم حينئذ زيادة علم على شهود الجرح2.   1 مغني المحتاج، ج4، 388. 2 الشرح الصغير للدردير ج5، ص37، مطبعة المدني، وحاشية قرة العيون "تكملة ابن عابدين" ج7، ص80، وفتح القدير لابن الهمام، ج7، ص377، 378. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وفي هذا المعنى يقول ابن السبكي أحد كبار فقهاء الشافعية: "من الكلمات الدائرة -في الفقه والأصول- أن الجرح مقدم على التعديل، لم يستثن أكثر الأصحاب من هذا إلا إذا قال المعدل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح لكنه تاب منه، وحسنت حالته، قالوا: فتقدم بينة التعديل؛ لأن معها زيادة علم. لكنهم وإن لم يصرحوا باستثناء عين هذه الصورة، فقد صرحوا بمأخذ المسألة الذي يدور معه حكم تقديم الجرح على التعديل والتعديل على الجرح، فإنهم قالوا -على اختلاف طبقاتهم- إن الجارح إنما قدم لما عنده من الزيادة على ما خفي على المعدل؛ وذلك لأن المعدل يبني على ما هو الأصل الظاهر من حال المسلم، والجارح اطلع على ما نسخ ذلك الأصل ونقل عنه"1. هل يقبل الجرح والتعديل من واحد: العلماء في هذا على رأيين: الأول: يرى أنه يقبل الجرح والتعديل من واحد، وهو ما يراه أبو حنيفة، ورواية عن أحمد، واختاره بعض فقهاء الحنابلة. الثاني: يرى أنه لا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين على الأقل، وهو ما يراه مالك والشافعي، وجمهور فقهاء الحنابلة، ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وابن المنذر. وقد استدل للرأي القائل بقبول الجرح والتعديل من واحد بأن الجرح أو التعديل خبر لا يعتبر فيه لفظ الشهادة، فيكون مقبولا من واحد، كما هو الحال في رواية الحديث، فإنها تقبل من الواحد. وأما الرأي القائل بعدم قبول الجرح والتعديل إلا من اثنين فقد استدل له بأن الجرح أو التعديل إثبات صفة ممن يبني القاضي حكمه على صفته, فاعتبر فيه العدد كالشهادة. وقد رد أصحاب هذا الرأي على الاستدلال للرأي المقابل بقياس الجرح والتعديل على رواية الحديث, بأن الجرح والتعديل يخالف الرواية، فإنها مبنية على المساهلة, ولذلك قبلت من الواحد، ولم يسلموا بأن الجرح والتعديل لا يحتاج إلى لفظ الشهادة، وقالوا: بل يجب لفظ الشهادة فيهما2.   1 الأشباه والنظائر، لابن السبكي، ج1، ص444. 2 المغني، ج11، ص421، ومغني المحتاج، ج4، ص388، والاختيار لتعليل المختار، ج2، ص198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 هل لا بد من التفسير في الجرح : اختلف العلماء في هذا على رأيين: أحدهما: يقبل الجرح المطلق، وهو أن يشهد أنه فاسق أو أنه ليس بعدل, وهذا ما يراه أبو حنيفة، ورواية عن أحمد. الثاني: لا يسمع الجرح إلا مفسرا، فيقول مثلا: أشهد أني رأيته يشرب الخمر، أو يتعامل بالربا، أو يظلم الناس بأخذ أموالهم أو بضربهم، أو يقول إنه علم ذلك باستفاضته أي: انتشاره في الناس. وهذا ما يراه الشافعي والحنابلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الاستدلال بالرأي الأول: أولا: التعديل يسمع مطلقا فكذلك الجرح قياسا عليه. ثانيا: التصريح بالسبب يجعل الجارح فاسقا, ويوجب عليه الحد في بعض الحالات, كما لو شهد عليه بالزنا وليس معه شهود غيره يكملون نصاب شهادة الزنا، فيؤدي هذا إلى جرح الجارح، وإبطال شهادته، ولا يتجرح بها المجروح. مناقشة الاستدلال: أجيب عن هذا الاستدلال من قبل المخالفين بعدم التسليم بأن التصريح بالسبب يؤدي إلى جرح الجارح وإيجاب الحد عليه؛ لأنه يمكنه أن يذكر السبب بطريقة التعريض من غير تصريح. فإن اعترض معترض بأن في بيان السبب هتكا للمجروح، فالجواب أنه لا بد من هتكه للحاجة الداعية إلى ذلك، كما جازت الشهادة عليه لإقامة الحد عليه إذا ارتكب ما يوجب إقامة الحد عليه، بل هنا أولى؛ لأن فيه رفع الظلم عن المشهود عليه، وهو حق آدمي، فكان أولى بالجواز. وأيضًا فإن هتك عرضه إنما حصل بسببه؛ لأنه تعرض للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه، فكان هو الهاتك لنفسه؛ لأن فعله هو الذي أحوج الناس إلى جرحه. الاستدلال للرأي الثاني: أما الرأي القائل بأنه لا يسمع الجرح إلا مفسرا، فقد استدل له بما يأتي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 أولا: الناس يختلفون في أسباب الجرح، كما اختلفوا مثلا في شارب النبيذ، وعلى هذا فالواجب أن لا يقبل مجرد الجرح بدون تفسير، لاحتمال أنه يجرحه بشيء لا يراه القاضي جرحا. ثانيا: الأصل في المسلمين العدالة، والجرح ينقل الشخص عن هذا الأصل، فلا بد من معرفة الشيء الذي أدى إلى نقله عن هذا الأصل، لاحتمال أن الجارح يعتقد نقله عن أصل العدالة بشيء لا يراه القاضي ناقلا عن هذا الأصل1. هل يقبل الجروح والتعديل من النساء: للعلماء أيضًا رأيان في هذه المسألة: أحدهما: يقبل الجرح والتعديل من النساء، وهذا ما يراه أبو حنيفة. الثاني: لا يقبل الجرح والتعديل منهن، وهو ما يراه الشافعية والحنابلة. وقد استدل للرأي الأول بأن الجرح والتعديل لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فأشبه رواية الحديث، وكما أنه تقبل الرواية من المرأة فكذلك الجرح والتعديل يقبلان منها. واستدل الرأي الثاني بأن الجرح والتعديل شهادة فيما ليس بمال ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه الشهادة في القصاص، وكما أنه لا تقبل شهادة النساء في القصاص، فكذلك هنا. ولم يسلم أصحاب هذا الرأي بقول أصحاب الرأي الأول أن الجرح والتعديل لا يعتبر فيه لفظ الشهادة، وأوجبوا لفظ الشهادة فيه2.   1 المغني، ج11، ص424. 2 المغني، ج11، ص425. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 لا يقبل جرح الشهود من الخصم، رأي الحنفية في اشتراط عدالة الشاهد ... لا يقبل جرح الشهود من الخصم: اتفق الفقهاء على أنه لا يقبل الجرح للشهود من الخصم، فلو قال المشهود عليه: هذان فاسقان، أو عدوان لي، أو آباء للمشهود له، لم يقبل قوله مجردا من البينة؛ لأنه متهم في قوله، ويشهد بما يجر إلى نفسه نفعا، فأشبه الشهادة لنفسه. ولو كان قول الخصم يقبل من غير بينة لأدى هذا إلى أنه لا يريد أحد أن يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها، فتضيع الحقوق وتذهب حكمة شرع البينة. هذا، وقد بيّن بعض العلماء أن البلد يتعذر فيه العدول، تقبل شهادة بعضهم على بعض؛ لأن الحال حينئذ حال ضرورة، ونفس هذا الحكم إذا تعذرت العدالة في القضاة وسائر الولاة1. رأي الحنفية في اشتراط عدالة الشاهد: يرى الحنفية وجوب العدالة في الشاهد، متفقين في هذا مع المذاهب الثلاثة الأخرى، كما سبق أن بينا، لكنهم يرون أنه إذا قضى القاضي بشهادة الفاسق ينفذ حكمه، فالعدالة -إذن- ليست عندهم شرطا في صحة الأداء، فلو قضى القاضي بشهادة الفاسق صح عند الحنفية وكان القاضي آثما. رأي أبي حنيفة: ويرى أبو حنيفة جواز الاقتصار على ظاهر عدالة الشاهد المسلم إلا في   1 مواهب الجليل، ج6، ص171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الحدود والقصاص، ولا يسأل القاضي عنه إلا إذا طعن فيه الخصم، لقول عمر -رضي الله تعالى عنه: "المسلمون عدول" ولأن العدالة هي الأصل؛ لأن الإنسان يولد غير فاسق، فالعدالة أمر يقيني بحسب الأصل، والفسق أمر طارئ مظنون، فلا يجوز ترك الأصل اليقيني بأمر مظنون. إجابة المخالفين: وأجاب المخالفون لرأي أبي حنيفة عن الاستدلال بقول عمر "المسلمون عدول" بأن هذا معارض بما روي عنه أنه أتى بشاهدين فقال لهما: "لست أعرفكما ولا يضركما أني لم أعرفكما، جيئا بمن يعرفكما". وأما القول بأن العدالة هي الأصل في المسلمين، فقد أجيب عنه بأن الغالب الخروج عنها، وقال البعض: إن العدالة ليست هي الأصل من الإنسان، وإنما الأصل الجهل والظلم، بدليل قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} 1 فالفسق والعدالة كل منهما يطرأ على الآخر. لماذا استثنيت الحدود والقصاص: وأما استثناء الحدود والقصاص من الاقتصار على ظاهر العدالة في الشاهد عند أبي حنيفة؛ فلأنه كما أن الأصل في الشاهد العدالة فالأصل في المشهود عليه العدالة، والشاهد وصف المشهود عليه بالقتل أو الزنا مثلا، فتقابل الأصلان، فيكون الترجيح بالعدالة الباطنة؛ وأيضًا فلأن الحدود مبناها على الإسقاط، فيسال القاضي عن الشهود احتيالا لدرء الحدود.   1 سورة الأحزاب، الآية رقم: 72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 ما عليه الفتوى في الفقه الحنفي: وأما الرأي الذي عليه الفتوى في الفقه الحنفي فهو ما يراه أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة، وهو أن القاضي لا بد أن يسأل عن الشهود في السر والعلانية في كل الحقوق، سواء أكانت في مجال القصاص والحدود أم في غيرهما، وسواء طعن الخصم في الشهود أم لا؛ لأن الحكم إنما يجب بشهادة العدل فوجب البحث عن العدالة. ويقول أبو بكر الرازي أحد كبار فقهاء الحنفية: "لا خلاف بينهم في الحقيقة، فإن أبا حنيفة أفتى في زمان كانت العدالة فيه ظاهرة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- عدل أهله، وقال: "خير القرون قرني 1، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب"، واكتفى بتعديل النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي زمانهما "يقصد زمان أبي يوسف ومحمد الذي استمر فترة بعد وفاة أستاذهما" فشا الكذب فاحتاجا إلى السؤال، ولو كان في زمنه ما سألا "أي: لو كانت حياتهما في مدة حياة أستاذهما فقط ما سألا"، ولو كان في زمنهما لسأل، فلهذا قلنا: الفتوى على قولهما"2. ونحب أن نبين أن سؤال القاضي عن الشهود في كل الحقوق عند أبي يوسف ومحمد واجب، وليس شرطا لصحة الحكم عندهما، أي: فيأثم القاضي   1 القرن: الجيل من الناس، قيل ثمانون سنة، وقيل سبعون، وقال الزجاج: الذي عندي والله أعلم أن القرن أهل كل مدة كان فيها نبي أو طبقة من أهل العلم، سواء قلت السنون أو كثرت، قال: والدليل عليه قوله عليه السلام: "خير القرون قرني"، يعني أصحابه، "ثم الذين يلونهم" يعني التابعين، "ثم الذين يلونهم" أي: الذين يأخذون عن التابعين. المصباح المنير. 2 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص196، واللباب في شرح الكتاب، ج4، ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 بتركه ولا يبطل الحكم، فالسؤال واجب ديني فيأثم القاضي بتركه فقط، وأما القضاء فنافذ1. وبعد، فإننا نرجح الرأي القائل بعدم الاكتفاء بالعدالة الظاهرة، ويؤيد هذا قول الله تبارك وتعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} والرضا معنى يكون في النفس بما يظهر لها من الأمارات عليه، ويقوم من الدلائل المبينة له كما قال ابن العربي2. وهنا يمكن أن يثار سؤال هو إذا فقدت العدالة، وعم الفسق في المجتمع فما الحكم؟ نجد العلماء يختلفون في حكم هذه الحالة، فبعضهم يرى أن القاضي يحكم في هذه الحالة بشهادة الأمثل فالأمثل، أي: يؤخذ بشهادة الأقل فسقا كلما أمكن، للضرورة، وهذا يراه جمع من فقهاء الشافعية منهم الأذرعي، والغزي وبعض فقهاء المالكية، والبعض يرى أنه لا يؤخذ بشهادة الفاسق مطلقا مهما كانت أحوال الناس، وهذا يراه العز بن عبد السلام، والرملي من فقهاء الشافعية؛ لأنه إذا كان في الأخذ بشهادة الأمثل فالأمثل من الفساق مصلحة فإن هذه المصلحة يعارضها المفسدة التي ستلحق المشهود عليه3.   1 تكملة حاشية ابن عابدين، ج7، ص79، والمجاني الزهرية، ص109. 2 أحكام القرآن، لابن العربي، القسم الأول، ص254. 3 نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي، ج8، ص292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 هل تقبل شهادة الفاسق إذا تاب ؟ اتفق العلماء على أن الفاسق إذا عرفت توبته مما كان سببا في فسقه من أي جريمة تذهب العدالة، كالقتل، والزنا، والسرقة، وأكل الربا، ونحو ذلك، فإنه تقبل شهادته إلا من كان فسقه بسب جريمة القذف، وهي الرمي بالزنا على جهة التعيير أو نفي النسب، لا على جهة الشهادة، فقد اختلف العلماء في القاذف إذا تاب هل تقبل شهادته أما لا؟ 1. فيرى جمهور العلماء قبول شهادته، ويرى أبو حنيفة عدم قبولها. وسبب الخلاف بينهم أن الاستثناء الواقع في قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. هل يعود إلى أقرب مذكور إليه، وهو الفسق أو يعود   1 صرح بعض فقهاء الحنابلة بأن لا يشترط في التوبة إصلاح العمل, بل يكفي مجرد التوبة لكي نحكم على الشخص بأنه تاب، واستدل على ذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" ولأن شهادة الكافر تقبل بمجرد الإسلام فشهادة الفاسق تقبل بمجرد التوبة من باب أولى. كشاف القناع، ج6، ص419. 2 سورة النور الآية رقم: 4، والآية رقم: 5، وقد صرح بعض العلماء بأن توبة القاذف تكون بأن يكذب نفسه حتى لو كان صادقا فيقول: كذبت فيما قلت؛ لأنه كاذب في حكم الله تعالى بقوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله تعالى، وإن كان في الأمر نفسه صادقا، ويرى هذا الرأي الإمام الشافعي, وأما الإمام مالك فيرى أنه ليس من شرط توبته ولا يؤثر في قبول شهادته، رجوعه عن قذفه وإنما يعتبر في ذلك بصلاح حاله، ووجه الرأي الأول أن المعصية إذا كانت بالأقوال فإن التوبة منها بالقول, وتكذيب الإنسان لنفسه لجريمة الردة عن الإسلام لما كانت قولا كانت التوبة منها بتكذيب قوله المقدم. ووجه الرأي الثاني أن هذه توبة من ذنب، فكانت بالاستغفار والعمل الصالح كسائر الذنوب. المنتقى، شرح موطأ مالك، ج5، ص208، وكشاف القناع، ج6، ص420. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الاستثناء إلى الجميع إلا ما خصصه الإجماع وهو أن التوبة لا تسقط الحد عنه. فيرى أبو حنيفة أن الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} يعود فقط إلى أقرب مذكور وهو وصفهم بالفسق فيرتفع الفسق فقط إذا تابوا، ولا يعود الاستثناء إلى غير ذلك. وأما جمهور العلماء فيرون عود الاستثناء إلى جميع المذكور في الآية الكريمة, إلا ما خصصه الإجماع وهو عدم سقوط الحد بالتوبة1. وهذه القاعدة التي اختلف الجمهور وأبو حنيفة حولها، وهي إذا تعقب الاستثناء جملا معطوفة هل يعود إلى جميعها كما يرى الجمهور ومنهم مالك والشافعي وأصحابهما، أو يرجع الاستثناء إلى أقرب مذكور كما يرى أبو حنيفة، وجل أصحابه؟، هذه القاعدة أيضا سبب الخلاف بين العلماء فيها سببان: السبب الأول: هل الجمل المعطوفة لها حكم الجملة الواحدة نظرا للعطف الذي فيها، أو أن لكل جملة من هذه الجمل المعطوفة لها حكمها المستقل، وحرف العطف محسن لا مشرك، وهذا هو الصحيح في عطف الجمل، بدليل أنه يجوز أن تعطف الجمل المختلفة بعضها على بعض كما هو المعروف في علم النحو. السبب الثاني: هل الاستثناء نشبهه بالشرط في عوده إلى الجمل المتقدمة   1 بداية المجتهد، ج2، ص503، ومغني المحتاج، ج4، ص434، وما بعدها، وكشاف القناع، ج6، ص423، وزوائد الكافي والمحرر على المقنع لعبد الرحمن بن عبيدان، ج2، ص229، والاختيار لتعليل المختار، ج2، ص204، وما بعدها، وتكملة حاشية ابن عابدين، ج7، ص112، واللباب، ج4, ص60، ووسائل الشيعة، ج18، ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 عليه، فإنه يعود إلى جميع الجمل عند الفقهاء أو لا نشبهه بالشرط؛ لأن تشبيهه بالشرط، نكون قد قسناه عليه، والقياس في اللغة لا يصح كما هو مقرر في علم أصول الفقه. ويرى القرطبي أن كلا الأمرين محتمل ولا ترجيح بينهما، ولهذا يتعين الوقف، وبين أن الإشكال يتأيد بأنه قد جاء في القرآن الكريم كلا الأمرين، فآية المحاربة قد عاد الضمير فيها إلى الجميع باتفاق العلماء، وهي قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1. وآية قتل المؤمن خطأ الاستثناء فيها يعود على الأخيرة فقط باتفاق العلماء, وهي قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 2. وآية القذف التي معنا الآن محتملة للوجهين. ثم بيّن القرطبي أن علماء المالكية يقولون إن هذا من ناحية النظر الكلي الأصولي, وبين أنه يترجح قول مالك والشافعي من ناحية النظر الفقهي الجزئي، بأن يقال: الاستثناء في آية القذف راجع إلى الفسق، والنهي عن قبول الشهادة جميعا إلا أن يثبت التفريق بين ذلك بحديث يجب التسليم له.   1 سورة المائدة، الآيتان: 33، 34. 2 سورة النساء، الآية: 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 وأيضًا فإن الإجماع قد قام على أن التوبة تمحو الكفر، فيجب أن يكون ما هو أقل من الكفر أولى. ونقل القرطبي عن أبي عبيد قوله الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، معللا ذلك بأنه ليس من نسب إنسان إلى الزنا بأعظم جرما من مرتكب الزنا، ثم الزاني إذا تاب قبلت شهادته؛ لأن $"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} ، ولا شك أن هذا الاستثناء إلى الجميع. ونقل القرطبي أيضا عن الزجاج قوله: وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، وقال الزجاج: وقوله: {أَبَدًا} أي: ما دام قاذفا، كما يقال: لا تقبل شهادة الكافر أبدا، فإن معناه ما دام كافرا. ومما يؤيد قبول شهادة التائب من القذف -عند أصحاب هذا الرأي- أنه إن كان الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة عند أقوام الأصوليين، فقول الله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} تعليل لا جملة مستقلة بنفسها، أي: لا تقبلوا شهادتهم لفسقهم، فإذا زال الفسق فلم لا تقبل شهادتهم؟ 1. وعلى الرأي القائل بقبول شهادة التائب من القذف ففي أي شيء تقبل شهادته؟ اختلف العلماء في هذا أيضًا، فيرى بعض العلماء أن شهادته تقبل في كل شيء إلا في القذف، ويعلل لهذا الرأي أن الصفات التي طبعت عليها الناس   1 الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ج12، ص180، 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 أن من كانت به وصمة أو تورط في أمر من الأمور يحرص على أن يلحق ذلك بغيره من الناس حتى يساووه في هذا الأمر وينفي عنه معرة ذلك، فيتهم أن يشهد على غيره بما وافقه ليساويه. ويرى بعض آخر من العلماء أن من أقيم عليه الحد في جريمة قذف أو زنا فإن شهادته تقبل في القذف والزنا وغيره، وعلل لهذا الرأي بأنه إذا حكمنا بعدالته فإن هذا ينفي مثل هذه التهمة عنه، فإذا قبلنا شهادته في غير ذلك من الحد وجب أن نقبل شهادته في جريمة القذف1. الشرط الخامس من شروط أداء الشهادة: النطق فلا تقبل الشهادة من الأخرس، حتى لو كانت إشارته مفهومة؛ لأن الشهادة يعتبر فيها اليقين، وإنما اكتفي بإشارة الأخرس في أحكامه المختصة به للضرورة، وهذا ما يراه فقهاء الحنفية ومالك وأحمد، وهو قول للشافعي، والأصح من قوله أن شهادته مقبولة إذا كانت إشارته مفهومة2. الشرط السادس: كونه يقظانا فلا تقبل شهادة مغفل لا يضبط الأمور، ولا كثير الغلط والنسيان؛ لأن الثقة لا تحصل بقوله؛ لأنه من المحتمل أن تكون شهادته في الأمور التي غلط فيها وسها؛ ولأنه ربما شهد على غير من استشهد عليه3.   1 المنتقى شرح موطأ مالك، ج5، ص208. 2 كشاف القناع، ج6، ص411، وفتح القدير، للكمال بن الهمام، ج7، ص399. 3 كشاف القناع، ج6، ص412. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الشرط السابع: كونه غير متهم بتهمة ترد شهادته: فلا تقبل شهادة المتهم، لقول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} 1، والريبة حاصلة في المتهم، ولما روى الحاكم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تجوز شهادة ذي الظنة، ولا ذي الحنة". ومعنى الظنة -بكسر الظاء وتشديد النون- التهمة2، ومعنى الحنة -بكسر الحاء وفتح النون بلا تشديد: العداوة. وقد بيّن العلماء أن أصل رد الشهادة ومبناه التهمة؛ لأنها خبر يحتمل الصدق والكذب، وإنما تحصل الحجة بهذا الخبر بترجيح جانب الصدق فيه على جانب الكذب، وبوجود التهمة أي: الشك والريبة لا يترجح جانب الصدق، كما بيّن العلماء أن التهمة قد تكون لمعنى في الشاهد كما لو كان فاسقا، فإن من لم ينزجر عن غير الكذب من المحرمات فقد لا ينزجر عن الكذب أيضا, فكان متهما بالكذب، وقد تكون التهمة لمعنى في المشهود له من قرابة يتهم بها بإيثار المشهود له على المشهود عليه، وقد تكون لخلل في أداء التمييز كالعجمي المفضي إلى تهمة الغلط في الشهادة3. ومعنى التهمة أن يجر بشهادته نفعا إلى نفسه أو إلى من لا تقبل شهادته له، أو يدفع عنها أو عمن ذكر ضررا4، هذا، وسنتكلم عن حكم شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه، وشهادة أحد الزوجين للآخر، وشهادة الأخ لأخيه، وشهادة العدو على عدوه.   1 سورة البقرة، الآية رقم: 282. 2 التهمة بضم التاء وفتح الهاء. 3 العناية على الهداية، للبابرتي، ج7، ص397. 4 نهاية المحتاج، للرملي، ج8، ص300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 شهادة الأب لابنه والعكس، شهادة أحد الزوجين للأخر ... شهادة الأب لابنه والعكس: يرى جمهور العلماء رد شهادة الأب لابنه، والابن لأبيه والأم لابنها، وابنها لها؛ لأن المنافع بين الآباء والأولاد متصلة، ولهذا لا يجوز أداء الزكاة إليهم، فتكون شهادة لنفسه من وجه، ولتمكن التهمة. وخالف شريح، وأبو ثور، وداود بن علي الظاهري، فقالوا: تقبل شهادة الأب لابنه إذا كان الأب عدلا، واستند هؤلاء إلى قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 1. وما دام الله عز وجل قد أمرنا أن نؤدي الشهادة ولو كانت على أنفسنا أو على الوالدين والأقربين فإن هذا يقتضي إجزاء المأمور به، ولا يستثنى من هذا إلا ما خصصه إجماع العلماء من شهادة المرء لنفسه، فإنها لا تصح بالإجماع، فيستثنى هذا فقط، ويبقى ما عداه على الإجزاء. ويمكن أن يعلل لرأيهم أيضًا بأن الشهادة ترد لموضع اتهام الشاهد بالكذب، وهذه التهمة إنما هي في جانب الفاسق، وأما الشخص المتصف بالعدالة فلا توجد هذه التهمة في جانبه؛ لأنه لا تجتمع العدالة مع التهمة. شهادة أحد الزوجين للآخر: اختلف العلماء في شهادة أحد الزوجين للآخر، فيرى أبو حنيفة، ومالك والحنابلة عدم صحة هذه الشهادة، وأجازها الشافعي، وأبو ثور، والحسن البصري.   1 سورة النساء، الآية رقم: 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ويرى ابن أبي ليلى، والنخعي قبول شهادة الزوج لزوجه، وعدم قبول شهادتها له. وقد علل العلماء لعدم قبول شهادة أحد الزوجين للآخر بأن المنافع بينهما متصلة في العادة، فتقع الشهادة لنفسه من وجه، فالشاهد منهما ينتفع بشهادته، لتبسط كل منهما في مال الآخر؛ ولأن يسار الرجل يزيد في نفقة زوجته. وأما الرأي القائل بقبول شهادة أحد الزوجين للآخر فقد علل له بأن الحاصل بين الزوجين عقد يطرأ, ويزول فلا يمنع قبول الشهادة، كما لو شهد الأجير للمستأجر وعكسه. ونرى رجحان الرأي القائل بعدم قبول شهادة أحد الزوجين للآخر فالتهمة هنا قوية، وليست درجة العلاقة بين الزوجين كالدرجة التي بين الأجير والمستأجر فهي أقوى وأدوم من جانب الزوجين ومصالحهما مشتركة إذا وجد النفع لأحدهما يعود ولو بطريق غير مباشر إلى الزوج الآخر، ووجود المحبة والميل القلبي الموجود عادة بين الزوجين تهمة تمنع قبول الشهادة، وقد لا يوجد هذا بين الأجير والمستأجر، فالقياس هنا غير سليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 شهادة الأخ لأخيه : يرى جمهور العلماء صحة شهادة الأخ لأخيه، وقيدها الإمام مالك بما إذا لم يدفع بذلك عن نفسه عارا، وما لم يكن منقطعا إلى أخيه يناله بره وصلته، وخالف الأوزاعي الجمهور فقال: لا تجوز. ولعل الميل الغريزي من الأخ لأخيه يمكن أن يكون تهمة ترد شهادة الأخ لأخيه، فمن هذه الناحية نرى أن الأوزاعي قد احتاط في هذا الأمر عندما قال بعدم الجواز، فلعل رأيه أصوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 شهادة العدو على عدوه : العدو هو من يبغض المشهود عليه بحيث يتمنى زوال نعمته، ويحزن بسروره ويفرح بمصيبته. وقد اختلف العلماء أيضًا في قبول شهادة العدو على عدوه، فيرى مالك والشافعي عدم قبولها، وهذا ما اختاره المتأخرون من فقهاء الحنفية1. ويرى الحنابلة قبولها2. وبين العلماء أن العدو هنا هو العدو في الأمور الدنيوية، وأما العداوة في الأمور الدينية فليست قادحة في الشهادة، فتقبل شهادة المسلم على غير المسلم، وشهادة غير المبتدع على المبتدع3. الشرط الثامن من شروط أداء الشهادة: الرشد عند بعض الفقهاء: اشترط الشافعية والمالكية في الشاهد أن يكون رشيدا، وعلى هذا فلا تقبل شهادة المحجور عليه بسفه عندهم4. الشرط التاسع: الذكورة في الشهادة بالحدود، والقصاص: فلا تقبل -عند جمهور العلماء- شهادة المرأة في قضايا الحدود، والقصاص، وخالف ابن حزم الظاهري فأجاز شهادتها في الحدود والقصاص، فهي عنده تصلح شاهدة في كل شيء5، وكذلك يرى الشوكاني جواز شهادة النساء في القصاص6. ويرى البعض جواز شهادة النساء في كل شيء مع الرجال إلا الزنا؛ لأنه لا ينبغي أن تنظر النساء إلى جريمة الزنا وقت ارتكابها7. وقال عطاء بن أبي رباح: تجوز شهادة النساء مع الرجال في كل شيء، وتجوز على الزنا امرأتان وثلاثة رجال8. وسنعود إلى هذا الموضوع مرة ثانية إن شاء الله تعالى، عند الكلام عن مراتب الشهادة.   1 في هذه المسألة قولان معتمدان عند فقهاء الحنفية: أحدهما عدم قبولها على العدو، وهذا اختيار المتأخرين، ثانيهما: أنها تقبل إلا إذا فسق بها. 2 المغني، ج11، ص425. 3 مغني المحتاج، ج4، ص435. 4 حاشية الباجوري على شرح ابن قاسم، ج2، ص349، وحاشية الدسوقي، ج4، ص65، والمجاني الزهرية، ص80. 5 المحلى لابن حزم، ج9، ص395. 6 نيل الأوطار، للشوكاني، ج7، ص183. 7 المحلى، لابن حزم، ج9، ص397. 8 المحلى، ج9، ص398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 هل يشترط البصر في أداء الشهادة : وعدنا عند كلامنا عن شروط التحمل في الشهادة أن نعود بالتفصيل إلى الكلام عن شهادة الأعمى، ونحن الآن نفصل الكلام فنقول: يرى ابن القيم قبول شهادة الأعمى في المسموعات، قال: "دلت الأدلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 المتضافرة -التي تقرب من القطع- على قبول شهادة الأعمى فيما طريقه السمع إذا عرف الصوت1. وفي الفقه الحنفي نجد رأيا يقول بعدم قبول شهادة الأعمى؛ لأن أداء الشهادة يحتاج إلى التمييز بالإشارة بين المشهود له والمشهود عليه، والأعمى لا يميز إلا بالنغمة، والنغمة قد تشبه النغمة2. ويرى المالكية قبول شهادة الأعمى فيما عدا المرئيات مطلقا، من المسموعات والملموسات، والمذوقات، والمشمومات، سواء تحملها قبل العمى أم لا؛ لأنه يضبط الأقوال بسمعه، والملموس، والمذوق، والمشموم يستوي فيه الأعمى وغيره. قال ابن العربي المفسر المعروف المالكي المذهب -عند تفسير قول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 3: "عموم قوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} يقتضي جواز شهادة الأعمى على ما يتحققه ويعلمه، فإن السمع في الأصوات طريق للعلم كالبصر للألوان، فما علمه أداه، كما يطأ زوجته باللمس والشم، ويأكل بالذوق، فلم لا يشهد على طعام اختلف فيه قد ذاقه"4. وأما الأفعال المرئية فلا تجوز شهادته فيها عند المالكية مطلقا, كما هو المذهب عندهم, سواء أكان قد علمها قبل العمى أم لا، كما قال بعضهم، ويرى بعض آخر منهم أنه تجوز شهادته بالأفعال إن كان علمها قبل العمى، أو علمها بحس كما في   1 الطرق الحكمية، ص242. 2 فتح القدير، ج7، ص397. 3 سورة البقرة، الآية: 282. 4 أحكام القرآن، لابن العربي، القسم الأول، ص252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 الزنا1. ويرى الشافعية عدم قبول شهادة الأعمى إلا في أربعة مواضع: الأول: الترجمة، فيجوز أن يكون مترجما أمام القاضي؛ لأن الترجمة تفسير، ونقل اللفظ لا يحتاج إلى معاينة وإشارة. ويشترط الشافعية في ترجمة كلام الخصم أو الشاهد للقاضي أن يقوم بالترجمة اثنان على الأقل، فلا يكفي مترجم واحد. الثاني: ما يثبت بالاستفاضة، مثل النسب، والموت، والزواج. الثالث: ما تحمله قبل العمى، إن كان المشهود له، والمشهود عليه معروفي الاسم والنسب، لحصول العلم بالمشهود عليه. الرابع: في قبضه على المقر إلى أن يشهد عليه عند القاضي بما سمعه منه، من طلاق، أو عتق، أو مال لشخص معروف الاسم والنسب، وما شابه ذلك. وزاد بعض الشافعية إسماع الأعمى للقاضي كلام الخصم أو الشاهد، فيجوز الإسماع منه2. ويرى الحنابلة صحة شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت. ويرى الظاهرية قبول شهادة الأعمى مطلقا في الأقوال والأفعال فيما تحمله قبل العمى، وفيما تحمله بعد العمى3. وإذا دخل شخص في الشهادة وهو بصير، ثم أداها وهو أعمى فإن الشافعي يرى جواز ذلك، وأما إذا دخلها وهو أعمى ثم أداها وهو بصير، فلا تجوز عنده، وهذا أيضًا ما يراه ابن أبي ليلى، ويرى أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أنه إن دخلها وهو بصير ثم أدها وهو أعمى لم تجز شهادته، وإن دخلها وهو أعمى ثم أداها وهو بصير جازت، وأما أبو يوسف فيرى أنه إن دخلها وهو بصير ثم أداها وهو أعمى جازت، فيوافق الشافعي في ذلك4.   1 حاشية الدسوقي، ج4، ص167. 2 الشرقاوي على التحرير، ج2، ص532، دار إحياء الكتب العربية. وتكملة المجموع، شرح المهذب، للمطيعي، ج20، ص263. 3 المحلى لابن حزم، ص9، ص433. 4 أدب القاضي، لابن القاص، ج1، ص304. وفتح القدير، لابن الهمام، ج7، ص399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 مراتب الشهادة : اتفق العلماء على ما يأتي: أولا: لا تثبت جريمة الزنا بأقل من أربعة شهود عدول ذكور، إلا من خالف جمهور العلماء كابن حزم، فإنه يرى أن المرأة لها حق الشهادة في كل شيء، قال ابن حزم: "ولا يجوز أن يقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين، أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان، فيكون ذلك ثلاثة رجال وامرأتين، أو رجلين، وأربع نسوة، أو رجلا واحدا وست نسوة، أو ثمان نسوة فقط، ولا يقبل في سائر الحقوق كلها من الحدود، والدماء، وما فيه القصاص، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والأموال، إلا رجلان مسلمان عدلان، أو رجل وامرأتان كذلك، أو أربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 نسوة كذلك"1. وقد استدل العلماء على اشترط أربعة شهود ذكور في إثبات جريمة الزنا بقول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 2، وقوله تبارك وتعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} 3. وقوله تبارك وتعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} 4، وما رواه مسلم أن سعد بن عبادة -رضي الله عنه- قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: "نعم". ثانيا: تثبت الأموال وما كان المقصود منه المال بشاهدين ذكرين عدلين، أو بشاهد عدل ذكر وامرأتين، والمال كالأعيان والديون، وأما ما كان المقصود منه المال فذلك كالبيع، والإجارة، والرهن، والإقرار، والغصب، وقتل الخطأ، وما ماثل هذا. كل ذلك يثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وهذا محل إجماع بين العلماء5، لقوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ   1 المحلى، لابن حزم، ج9، ص395، 396. 2 سورة النور، الآية رقم: 4. 3 سورة النساء، الآية رقم: 15. 4 سورة النور، الآية: 13. 5 كفاية الأخيار، ج2، ص280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 1. فكان هذا النص الكريم على عمومه إلا الأمور التي جاء دليل خاص يخصصها. ولا يشترط عند اشتراك رجل وامرأتين في الشهادة أن تتقدم شهادة الرجل على المرأتين، فتصح الشهادة سواء تقدمت شهادته على المرأتين أو تأخرت، بل ولا يشترط العجز عن شهادة رجلين، فسواء أكان من المقدور شهادة رجلين أم كان من غير المقدور فإن شهادة المرأتين مع الرجل صحيحة2. هذا، وقد بين الله عز وجل سبب كون شهادة المرأتين تقومان مقام شهادة رجل، وهو أن إحدى المرأتين الشاهدتين قد تنسى فتذكرها المرأة الأخرى، ومعنى هذا أن المرأة بطبيعتها معرضة للنسيان أكثر من الرجل، ولعل ذلك راجع إلى ما يعتريها من أمور طبيعية كالحيض والنفاس، والحمل، مما قد يؤثر على قوة حافظتها، فينسيها بعض الوقائع، فإذا كان امرأتان في الشهادة فإن إحداهما تذكر الأخرى إذا   1 سورة البقرة الآية رقم: 282، وقد يسأل سائل: لماذا لم يكتف بامرأة واحدة مع رجل، فيذكرها الرجل الذي معها إذا نسيت، فما الحكمة فيه؟ أجاب عن هذا ابن العربي الفقيه المالكي والمفسر المشهور بقوله: "إن الله سبحانه شرع ما أراد، وهو أعلم بالحكمة، وأوفى بالمصلحة، وليس يلزم أن يعلم الخلق وجوه الحكمة وأنواع المصالح في الأحكام، وقد أشار علماؤنا أنه لو ذكرها إذا نسيت لكانت شهادة واحدة، فإذا كانت امرأتين وذكرت إحداهما الأخرى كانت شهادتهما شهادة رجل واحد، كالرجل يستذكر في نفسه فيتذكر". 2 كفاية الأخيار، ج2، ص280. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 نسيت، ويرى بعض العلماء المعاصرين أن الإسلام عندما جعل شهادة المرأتين مساوية لشهادة رجل واحد، فإنه بذلك يقدر ظروف المرأة واهتماماتها التي تجعلها -في الغالب- على بعد من تعاملات المجتمع في البيع والشراء والمداينة، أما الأشياء التي تكون على قرب منها وتحيط بها دون سواها من الرجال، فقد أخذ الإسلام بشهادتها دون الرجال، وذلك كأمور الرضاع والولادة، والحيض، والبكارة، والثيوبة1. واختلف العلماء على الصورة الآتية: أولا: جمهور العلماء على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنا بشاهدين عدلين ذكرين، ويرى الحسن البصري أنه لا تقبل الشهادة بأقل من أربعة شهداء. وهذا الرأي ضعيف لقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وقوله تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . ويرى أحمد بن حنبل فيما يختص بمعرفة أهل الخبرة والطب قبول شهادة الخبير أو الطبيب الواحد إذا لم يوجد غيره، وأما إذا أمكن شهادة اثنين فقال فقهاء الحنابلة لا يكتفى بدونهما. كما يرى أحمد أيضًا -في إحدى روايتين عنه- قبول شهادة الواحد في الترجمة ونحوها. ويرى مالك، والشافعي، وبعض فقهاء الحنابلة أنه لا بد في الترجمة من   1 الشيخ محمد متولي الشعراوي، في أحاديثه الدينية، جريدة الأخبار القاهرية، في 3/ 9/ 1993. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 اثنين عدلين. والاكتفاء بواحد في الترجمة هو قول أبي حنيفة أيضًا1، ويرى محمد بن الحسن أنه لا يجوز أقل من رجلين، أو شاهد وامرأتين2. ثانيا: جمهور العلماء على أن الحكم يجب بالشاهدين من غير يمين المدعي، ويرى ابن أبي ليلى أنه لا بد من يمينه. ثالثا: جمهور العلماء على أنه لا تقبل شهادة النساء في الحدود والقصاص، سواء كان معهن رجل أو كن منفردات، وقد استند هذا الرأي إلى ما روي عن الزهري قال: "مضت السنة من النبي -صلى الله عليه وسلم، ومن أبي بكر، وعمر أنه لا تجوز شهادة النساء في الطلاق، ولا في النكاح، ولا في الحدود" فهذا الحديث بيّن أن ثلاثة أشياء لا تقبل فيها شهادة المرأة, وقاسوا القصاص على الثلاثة المذكورة بجامع أن الكل ليس مالا، ولا يقصد منه مال. ويرى ابن حزم أن شهادة النساء تقبل في الحدود والقصاص، إذا كان النساء أكثر من واحدة، قال ابن حزم: "ولا يجوز أن يقبل في الزنا أقل من أربعة رجال عدول مسلمين، أو مكان كل رجل امرأتان مسلمتان عدلتان، فيكون ذلك ثلاثة رجلا وامرأتين، أو رجلين وأربع نسوة، أو رجلا واحدا وست نسوة، وثمان نسوة فقط، ولا يقبل في سائر الحقوق كلها من الحدود، والدماء، وما فيه القصاص، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والأموال إلا رجلان مسلمان عدلان، أو رجل   1 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص195. 2 المبسوط للسرخسي، ج16، ص89، وأدب القاضي، لابن القاص، ج1، ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وامرأتان كذلك، أو أربع نسوة كذلك، ويقبل في كل ذلك حاشا الحدود رجل واحد عدل وامرأتان كذلك مع يمين الطالب"1. واستند ابن حزم في رأيه إلى ظاهر الآية الكريمة: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} . وقد بين الشوكاني وغيره أن حديث الزهري الذي استند إليه الجمهور ضعيف، فقد أخرج قول الزهري المذكور ابن أبي شيبة، بإسناد فيه الحجاج بن أرطأة، وهو ضعيف، بجانب أن الحديث مرسل لا تقوم بمثله الحجة2. وقال ابن حزم في تضعيفه، لهذا الحديث: "وأما الخبر من قول الزهري: مضت السنة من النبي -صلى الله عليه وسلم، ومن أبي بكر، وعمر أنه لا تجوز شهادة النساء في الطلاق، ولا في النكاح، ولا في الحدود فبلية؛ لأنه منقطع من طريق إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف عن الحجاج بن أرطأة، وهو هالك"3، ولهذا فإن الشوكاني يرى أن حديث الزهري لا يصلح مخصصا للعموم المستفاد من القرآن باعتبار ما دخل تحت نصه وهو الطلاق والنكاح، والحدود، فضلا عما لم يدخل تحت نصه، بل ألحق بطريق القياس وهو القصاص. ومراد الشوكاني من العموم المستفاد من القرآن هو ما يستفاد من قول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} 4، ولهذا فلا مانع عند الشوكاني أن يشهد رجل وامرأتان في قضية من قضايا القصاص5.   1 المحلى، لابن حزم، ج9، ص395، 396. 2 نيل الأوطار، للشوكاني، ج7، ص183، وكفاية الأخيار، ج2، ص281. 3 المحلى، لابن حزم، ج9، ص403. 4 سورة البقرة، الآية رقم 282. 5 نيل الأوطار، ج7، ص183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 رأي المالكية في شهادة النساء بعضهن على بعض في الأعراس ومساكن الطالبات، ونحو ذلك : اختلف المالكية في شهادة النساء بعضهن على بعض فيما يقع بينهن من الجراح والقتل في المواضع التي لا يحضرها الرجال، كالحمامات العامة الخاصة بهن والأعراس، والمآتم، وما أشبه ذلك1 من صور الحياة التي نعيشها، كمساكن الطالبات، وحمامات السباحة الخاصة بالنساء، ومدارس البنات، ونوادي النساء، فيرى بعض فقهائهم أن شهادتهن لا تجوز؛ لأن الغالب عدم ضرورتهن إلى الاجتماع في ذلك، وصرح بعضهم بأن هذا الرأي هو الصحيح. ويوجد رأي آخر عندهم بجواز شهادتهن لحاجتهن إلى ذلك، قال أحد المؤيدين لهذا الرأي من المالكية: ولم يزل النساء يجتمعن في الأعراس والمآتم في زمنه -صلى الله عليه وسلم- وهلم جرا، فإذا لم يقبل قول بعضهن على بعض ذهبت دماؤهن هدرا. وبعضهم يحرر موضع الخلاف في الفقه المالكي بأن هذا إذا كان اجتماعهن   1 تبصرة الحكام، ج1، ص295، 296. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 في العرس المباح، الذي لا يختلط فيه الرجال مع النساء ولم يكن هناك منكر ظاهر، أو كان دخولهن الحمام العام بالملابس التي لا تكشف شيئًا مما يجب عليهن ستره، فهذه مسألة الخلاف عند فقهاء المالكية، وأما إذا كن في الحمام العام غير ساترات لما يجب ستره، أو في الأعراس التي يمتزج فيها الرجال والنساء فلا خلاف في المذهب أن شهادة بعضهن على بعض لا تقبل، وكذلك المأتم لا يحل حضوره إذا كان فيه نوح, وما أشبه ذلك مما حرمه الشرع؛ لأن النساء بحضورهن في هذه المواضع تسقط عدالتهن، والله تبارك وتعالى اشترط العدالة من الرجال والنساء بقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} . رابعا: يرى أبو حنيفة قبول شهادة النساء مع الرجال في أحكام الأبدان، مثل: الزواج، والطلاق، والرجعة، والعتق. وقد بيّن الحنفية مستند هذا الرأي1، فذكروا أنه روي عن عمر "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة النساء في النكاح". وقالوا إن المرأة من أهل الشهادة كما بينت الآية، فتقبل شهادتها لوجود المشاهدة، والحفظ، والأداء كالرجل، وأما زيادة النسيان في المرأة فتجبر بزيادة العدد، وإليه الإشارة بقوله تبارك وتعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} . ويرى مالك أن شهادة النساء لا تقبل في حكم من أحكام البدن، وأما حقوق الأبدان المتعلقة بالمال، مثل: الوكالات، والوصية التي لا تتعلق إلا بالمال، فقال   1 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 مالك، وابن القاسم، وابن وهب: يقبل فيها شهادة شاهد وامرأتين، وقال أشهب وابن الماجشون: لا يقبل فيها إلا رجلان. خامسا: حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا بل نادرا، ويختص النساء بمعرفتها في الغالب. مثل: الولادة، والحيض، والعدة، والبكارة والثيوبة، واستهلال المولود، وعيوب النساء تحت الثياب، كالرتق، والقرن، والرضاع من الثدي وكذا عيوب النساء في الأجزاء التي تعد من عورة المرأة كالبرص وغيره، تقبل فيها شهادة النساء منفردات، أي: ليس معهن رجل. وقد استدل لشهادة النساء منفردات في هذه الأمور بقول الزهري: "مضت السنة بأن تجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن، رواه عبد الرازق عن الزهري بمعناه؛ وأيضًا فلأن الرجال لا يطلعون على ذلك في الغالب، فلو لم تقبل شهادة النساء في هذه الأمور لأدى ذلك إلى تعذر إثباتها1. ولم يختلف العلماء إلا في الرضاع والاستهلال، فيرى أبو حنيفة عدم قبول شهادتين إلا مع الرجال؛ لأن الرضاع عنده من حقوق الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء، فكما يطلع عليه النساء يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة من الرجال، فلا توجد الضرورة إلى شهادتهن منفردات؛ ولأن الحرمة متى ثبتت ترتب عليها زوال الملك في الزواج، وإبطال الملك لا يثبت إلا بشهادة الرجال. وكذلك يرى أبو حنيفة أنه لا تقبل شهادتهن منفردات في استهلال المولود؛ لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال فإن الاستهلال صوت يكون عقيب الولادة، ويحل للرجال سماع هذا الصوت2.   1 كفاية الأخيار، ج2، ص281. 2 الاختيار لتعليل المختار ج2، ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 هل يشترط العدد في انفراد النساء بالشهادة: الذين يرون قبول شهادة النساء منفردات في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا, مختلفون في العدد المشترط في ذلك منهن. على الصورة الآتية: الرأي الأول: كل موضع تقبل فيه شهادة النساء منفردات يصح فيه شهادة امرأة واحدة. وهذا الرأي يراه أحمد، وأبو حنيفة وأصحابه، والثوري، قال ابن القيم: "وصح عن ابن عباس، وروي عن عثمان، وعلي، وابن عمر، والحسن البصري، والزهري، وروي عن ربيعة، ويحيى ين سعيد، وأبي الزناد، والنخعي، وشريح، وطاوس، والشعبي: الحكم في الرضاع بشهادة امرأة واحدة، وأن عثمان -رضي الله عنه- فرق بشهادتها بين الرجال ونسائهم، وذكر الزهري أن الناس على ذلك, وذكر الشعبي ذلك، عن القضاة جملة، وروي عن ابن عباس: أنها تستحلف مع ذلك"1. الرأي الثاني: لا تقبل فيه إلا امرأتان، وهو ما يراه الحكم، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، ومالك، والثوري، ورواية أخرى عن أحمد، وهو أيضًا ما يراه الزهري غير أنه استثنى الشهادة في استهلال المولود, فبين أنه يرى قبول شهادة امرأة واحدة يه.   1 الطرق الحكمية لابن قيم الجوزية، ص182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الرأي الثالث: لا يقبل فيما تصح فيه شهادة النساء منفردات إلا ثلاث نسوة لا أقل من ذلك، وهذا ما يراه عثمان البتي. الرأي الرابع: لا يقبل فيه إلا أربع نسوة، وهو ما يراه عطاء، والشعبي، وقتادة، والشافعي، وأبو ثور. أدلة الرأي الأول: الدليل الأول: روى أحمد، والبخاري، وغيرهما عن عقبة بن الحارث، أنه تزوج أم يحيى بن أبي إهاب، فجاءت أمة "جارية" سوداء فقالت: قد أرضعتكما، قال: فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم، فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال: "وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما، فنهاه عنها"، وفي رواية دعها عنك. مناقشة هذا الدليل: أولا: أجيب عن الحديث بأنه محمول على الاستحباب. الرد على هذه الإجابة: رد الشوكاني بأن النهي حقيقة في التحريم -كما هو القاعدة الأصولية- فلا يخرج عن معناه الحقيقي إلا لقرينة صارفة. ثانيًا: قال البعض إن أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- للرجل كان من باب الاحتياط، وأجيب بأن هذا مخالف للظاهر، ولا سيما بعد أن كرر السؤال أربع مرات كما في بعض الروايات، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له في جميعها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 كيف وقد قيل، وفي بعضها: دعها عنك. ولو كان أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- للرجل من باب الاحتياط لأمره بالطلاق لكن لم يثبت في رواية أنه -صلى الله عليه وسلم- أمره بالطلاق1. الدليل الثاني: ذكر ابن قدامة حديثا قال إن الفقهاء ذكروه في كتبهم، وهو ما رواه حذيفة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز شهادة القابلة. الدليل الثالث: ذكره ابن قدامة أيضًا، وهو ما رواه أبو الخطاب عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة". الدليل الرابع: أن المشهود فيه معنى يثبت بقول النساء المنفردات، فلا يشترط فيه العدد، كرواية الأحاديث، وأخبار الديانات. دليل الرأي القائل بأن لا بد من امرأتين: استدل لهذا الرأي بما يأتي: أولا: الرجال أكمل عقلا من النساء، ومع ذلك لا يقبل منهم في الشهادة إلا اثنان. ثانيا: كما كان عدد الرجال حيث تجوز شهادتهم اثنين، فكذلك عدد النساء حيث تجوز شهادتهن اثنتين2.   1 نيل الأوطار ج7، ص125، ومغني المحتاج ج4، ص442، والطرق الحكمية ص151، وص182، 183، والاختيار لتعليل المختار ج2، ص196، والمغني ج9، 156، 157. 2 أدب القاضي، لابن القاص، ج1، ص289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ويمكن أن نجيب على هذا بأن هذا الاستدلال في مقابلة النص فلا يقبل. دليل الرأي القائل بأن لا بد من ثلاث: استدل له بأن كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل. ويمكن أن نجيب عن هذا الاستدلال أيضًا بما أجيب به عن الاستدلال للرأي الذي قبله. دليل الرأي القائل بأن لا بد من أربع: استدل لهذا الرأي بأن الله عز وجل قد جعل عديل الشاهد الواحد امرأتين، واشترط الاثنينية في قوله سبحانه وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، فلما أجاز الله عز وجل شهادة النساء هنا أقام امرأتين مقام رجل واحد، فإن مقتضى هذا القياس أن تكون أربع نسوة مقام رجلين1. مناقشة هذا الاستدلال: يمكن أن يجاب بأنه كان يمكن التسليم بهذا الاستدلال لو لم يرد في الرضاع ما يخصص هذا العام، فلا شك أن حديث عقبة بن الحارث أخص مطلقًا.   1 أدب القاضي، لابن القاص، ج1، ص289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 رجوع الشهود عن الشهادة مدخل ... رجوع الشهود عن الشهادة: إذا أدى الشهود شهادتهم، ثم رجعوا عنها فما الحكم؟ نحب في البداية أن نبين أن العلماء قرروا أنه لا يصح الرجوع عن الشهادة إلا في مجلس القاضي؛ لأنه يحتاج فيه إلا حكم القاضي بمقتضى هذا الروجع، فلا بد من مجلس القاضي كما هو الحال في الشهادة فإنها لا بد أن تؤدى أمام القاضي1. هذا، وقد فصل العلماء في هذه المسألة، فالشهود إما أن يكون رجوعهم عن الشهادة قبل الحكم من القاضي، أو يكون الرجوع بعد الحكم. فإن كانوا رجعوا عن الشهادة قبل الحكم امتنع على القاضي الحكم بشهادتهم، وإن أعادوها أيضًا، سواء أكانت شهادتهم في قضية من قضايا العقوبات أم في غيرها. وقد علل لهذا بما يأتي: أولا: لأن القاضي لا يدري هل صدق الشهود في موقفهم الأول أو في موقفهم الثاني، فينتفي الظن بصدقهم، والظن بصدق الشاهد مطلوب. ثانيا: لأن كذب الشهود ثابت بالتأكيد، إما في الشهادة، أو في الرجوع، ولا يجوز الحكم بشهادة الكذاب.   1 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وبين العلماء أنه لو رجع الشهود عن شهادتهم في جريمة الزنا وجب أن يعاقبوا بحد القذف، وإن قالوا غلطنا، لما في هذا من التعبير اللاحق بالمشهود عليه، وكان يلزمهم أن يتثبتوا قبل الإقدام على الشهادة بالزنا. لو كان الرجوع بعد الحكم: لو كان الرجوع بعد الحكم، فإما أن يكون قبل استيفاء المحكوم به، أو يكون بعد استيفائه. فإن رجعوا عن الشهادة بعد الحكم في القضية وقبل الاستيفاء، فإما أن يكون الرجوع قبل استيفاء مال شهدوا به، أو شهدوا بعقد يوجبه ولو كان عقد زواج كما قال فقهاء الشافعية، أو يكون الرجوع قبل استيفاء عقوبة، ولكل من هاتين الصورتين حكمها. فإن كان بعد الحكم وقبل استيفاء مال نفذ الحكم به, واستوفى المال عند فريق من العلماء هم الجمهور؛ لأن القضاء تم. وهذا ليس من الأمور التي تسقط بالشبهة حتى يتأثر برجوع الشهود عن شهادتهم. ويرى سعيد بن المسيب والأوزاعي أن الحكم لا ينفذ؛ لأن الحكم الذي حكم به القاضي كان مبنيا على شهادتيهما، فإذا رجعا فيها زال ما بني عليه حكم القاضي, فيبطل الحكم كما لو تبين أن الشاهدين كافران. وقد أجيب عن هذا بأن بطلان الحكم في حالة تبين أن الشاهدين كافران, كان لعدم توافر شرط صحة الحكم وهو عدالة الشهود، بخلاف الحال هنا، فيجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 أن يكون الشاهدان متحقق فيهما العدالة والصدق في شهادتهما, وإنما كان الكذب في رجوعهما عن الشهادة. وأما إن كان الرجوع بعد الحكم وقبل استيفاء عقوبة في شهادة بها، سواء أكانت لله تبارك وتعالى، كحد الزنا، أو كانت لآدمي كحد القذف، فلا تستوفى تلك العقوبة؛ لأنها تسقط بالشبهة، ورجوع الشهود شبهة. إن رجعوا بعد استيفاء المحكوم به: يرى الشافعية أنهم لو رجعوا بعد استيفاء المحكوم به لم ينقض الحكم، لتأكد الأمر بالاستيفاء؛ ولأنه يجوز صدقهم في الشهادة وكذبهم في الرجوع، ويجوز أيضًا عكسه، وليس لأحد الأمرين أولوية على الآخر. وعلى هذا فإن كان المستوفي عقوبة، كأن كان قصاصا في النفس أو في الطرف، أو قتل ردة، أو رجما في جريمة الزنا، أو جلدا ومات المجلود، أو كان قطع سرقة، ثم رجعوا عن الشهادة وقالوا: تعمدنا الشهادة، فإنه يجب عليهم القصاص، أو دية مغلظة في مالهم موزعة على عدد رءوسهم، إن عفى الأولياء عن القصاص إلى الدية؛ لأنهم تسببوا في إهلاكه. وبين الشافعية أنه يجب القصاص على القاضي إن قال: تعمدت الحكم بشهادة الزور، والقول بالقصاص على الشاهدين قال به أيضًا ابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والحنابلة غير أن الحنابلة قالوا: إذا قال الشهود تعمدنا الشهادة عليه، ولا نعلم أنه يقتل بهذا، وكان الشهود ممن يجوز أن يكون جاهلا بالحكم وجبت الدية في أموالهما مغلظة؛ لأنه شبه عمد، وكذلك يرى الحنفية أنه لا يفسخ الحكم إذا رجع الشهود بعد الحكم، لكنهم قالوا: إذا رجع شهود القصاص ضمنوا الدية ولا قصاص عليهم؛ لأن القصاص عند الحنفية لا يجب في جريمة القتل بالتسبب، بل لا بد في القصاص -عندهم- من القتل مباشرة، ولا يوجد القتل بالمباشرة هنا1.   1 مغني المحتاج ج4، ص457، والاختيار لتعليل المختار، ج2، ص215، والمغني، ج9، ص247، وفتح القدير، ج7، ص478، ونظرية التوثيق في الشريعة الإسلامية للدكتور أمين عبد المعبود، ص80، الناشر مكتبة الصفار بالكويت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 إن رجع الشهود في الطلاق البائن وما ماثله : إذا شهد شاهدان بطلاق بائن، سواء أكان بعوض "خلعا" أم بثلاث، أم قبل الدخول، وشهدا بالرضاع الذي يثبت تحريم الزواج، أو شهدا باللعان، أو نحو ذلك مما يترتب عليه البينونة كالتفريق بين الزوجين بالعيوب1، وفرق القاضي بين الزوجين بناء على شهادة الشهود, ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإن الشافعية يرون نفاذ الفراق، وعللوا لهذا بأن قول الشاهدين في الرجوع محتمل للصدق والكذب، فلا يرد الحكم بقول محتمل للصدق والكذب. ويلزم الشهود الراجعون عن الشهادة بمهر المثل للزوج2، حتى لو كان الفراق قبل الوطء، ويوجد قول آخر للإمام الشافعي بأنه إذا كان القاضي حكم بالفراق قبل الوطء، وجب على الشهود الراجعين نصف مهر المثل؛ لأن نصف   1 يرى جمهور العلماء حق التفريق بين الزوجين بالعيوب فإذا كان الزوج مثلا لا يعلم بأن الزوجة مجنونة أو مجذومة أو برصاء، أو رتقاء أو قرناء, ثم عقد عليها ولم يحدث منه رضا بالعيب فله حق التفريق ولا يتحمل نصف المهر قبل الدخول. 2 مهر المثل هو المهر الذي يدفع عادة لمثل هذه الزوجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 المهر فقط هو الذي فات على الزوج. وأما الرأي الأول -وهو الأقوى عند الشافعية- فقد نظر إلى بدل ما فوته الشهود على الزوج؛ لأن النظر في الإتلاف إلى الشيء الذي أتلف1. إذا رجع الشهود ضمنوا المال: إذا شهد شاهدان بمال، فقضى به القاضي، وأخذه المدعي، ثم رجع الشاهدان في شهادتهما، ضمناه للمشهود عليه، لوجوب التسبب على وجه التعدي وهذا يوجب الضمان. فإن رجع أحد الشاهدين فقط ضمن نصف المال المحكوم به، ولو كان الشهود ثلاثة فرجع واحد منهم فقط فلا شيء عليه؛ لأن شهادة الاثنين الباقيين على شهادتهما يثبت بها جميع الحق، فإن رجع واحد آخر ضمنا نصف المال. وإن كان الشهود رجلا وامرأتين فرجعت واحدة فعليها ربع المال، وإن   1 هنا يمن أن يعترض على الشافعية بأنهم قالوا في مسألة مشابهة بحكم مخالف للرأي القوي عندهم في مسألة رجوع الشهود في الطلاق البائن وما ماثله، فلو كان رجل متزوجا من امرأة بالغة وعقد أيضا على طفلة صغيرة في سن الرضاع، فإن هذا العقد صحيح لكن لا يتمتع بها إلا إذا بلغت سنا تصلح فيه للاستمتاع، فلو حدث أن أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة فإنه يلزم الكبيرة نصف مهر المثل فقط، فلماذا لم يقل الشافعية بأن الأصح في مسألة رجوع الشهود وجوب نصف مهر المثل فقط وليس مهر المثل كاملا؟ وقد أجاب الشافعية عن هذا الاعتراض بأن فرقة الرضاع حقيقة، فلا توجب إلا النصف كالمفارقة بالطلاق، أما في مسألة رجوع الشهود فإن الزواج باق في رأي الزوج والشهود، لكن الشهود بشهادتهم قد حالوا بين الزوج والبضع، فلزم أن يغرموا قيمته، كالغاصب الذي حال بين المالك والشيء المغصوب. مغني المحتاج، ج4، ص458. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 رجعت المرأتان ضمنتا نصفه. ولو شهد رجل وعشر نسوة، ثم رجع الجميع عن الشهادة، فيرى أبو حنيفة، أنه يلزم الرجل سدس المال، ويلزم النساء خمسة أسداسه؛ لأن كل امرأتين مقام رجل، فصار الأمر كشهادة ستة من الرجال. وأما أبو يوسف ومحمد بن الحسن فيريان أنه يلزم الرجل نصف المال والنسوة العشر النصف الآخر؛ لأن النساء وإن كثر عددهن في الشهادة فهن مقام رجل احد؛ لأنه لا يثبت بهن إلا نصف الحق. ولو رجع ثمان من النسوة فلا شيء عليهن؛ لأن نصاب الشهادة في الأموال لا زال باقيا بالرجل، والمرأتين الباقيتين على شهادتهما من النسوة العشر. ولو رجع الرجل وثمان نسوة فعلى الرجل نصف المال ولا شيء على الراجعات؛ لأنه بقي منهن من يقوم به نصف الحق. ولو شهد رجلان وامرأة، ثم رجع الجميع فالضمان على الرجلين خاصة؛ لأن الحق ثبت بهما دون المرأة1.   1 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 تعارض البينتين من شخصين : إذا ادعى شخصان عينا تحت يد شخص ثالث وهو منكر لها، وأقام كل منهما بينة على أنها ملكه، وكانت كل من البينتين مطلقة التاريخ، أو كانتا متفقتين، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة، سقطت البينتان كما يقول الشافعية، لتناقض موجبيهما، فيكونان في هذه الحال أشبه بالدليلين إذا تعارضا ولا يوجد ما يرجح أحد الدليلين على الآخر. وعلى هذا يصح الأمر كأنه لا يوجد بينة، ويصار إلى التحالف، فيحلف الثالث لكل منهما يمينا، هذا هو الرأي القوي في فقه الشافعية. ويوجد قول ضعيف للشافعي -رضي الله عنه- أن البينتين لا تسقطان بل تستعملان صيانة لهما عن الإلغاء بقدر الإمكان. فعلى هذا الرأي الأخير يلزم نزع العين ممن هي في يده؛ لاتفاق البينتين على أن هذه العين ليست لواحد معين. لكن ما هو التصرف الذي يفعل على هذا الرأي؟ اختلفت الأقوال التي نقلت عن الشافعي -رضي الله عنه، ففي قول له تقسم العين بينهما، أي: يكون لكل منهما نصفها، وفي قول آخر يقرع بينهما ويرجح من خرجت له القرعة، وفي قول ثالث توقف العين بينهما حتى يتبين الأمر فيها، أو يصطلحا على شيء. إذا كانت العين في يدهما: إذا كانت العين في يد شخصين, وأقام كل منهما بينة بقيت العين في يدهما كما كانت أولا؛ لأن البينتين لما تعارضتا تساقطتا، فإنه ليس أحد المدعين أولى بالعين من الآخر. إذا كانت العين في يد أحدهما: إذا كانت العين في يد أحدهما، فأقام غيره بينة بملكيته لهذه العين، وأقام هو بينة، قدمت بينة صاحب اليد؛ لأنهما مستويان في إقامة البينة، ولكن بينته ترجحت بكون هذه العين تحت يده، فيقضي له بها، كما لو تعارض حديثان أحدهما يؤيده القياس1.   1 مغني المحتاج، ج4، ص480، والمغني، ج9، ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 زيادة العدد في إحدى البينتين أو زيادة العدالة: المذهب عند الشافعية أن البينتين تتساويان حتى لو كانت إحداهما تزيد في العدد عن الأخرى، فإذا كان مع كل من المدعيين شهود، لكن شهود أحدهما أكثر عددا من شهود الآخر، فلا ترجيح للشهود الأكثر، بل قال الشافعية أيضًا لا ترجيح حتى لو زاد وصف شهود أحد المدعيين من الورع أو غيره عن وصف شهود المدعي الآخى، بل البينتان متعارضتان لكمال الحجة من الطرفين. ويوجد قول للشافعي -رضي الله تعالى عنه- أن الشهود الأكثر عددا يرجحون على الشهود الأقل1. وكذلك يرى أبو حنيفة، والحنابلة أنه لا ترجيح بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة2، وأما المالكية فيرون أنه ترجح إحدى البينتين بزيادة العدالة، لكن لا ترجح بزيادة العدد -في المشهور في فقههم- ولو كثر إلا إذا أفادت الكثرة   1 مغني المحتاج، ج4، ص482. 2 المغني، ج9، ص282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 العلم1. ويرى الأوزاعي أنه عند تعارض البينتين تقسم العين بحسب عدد الشهود فإذا شهد شاهدان لأحدهما، وشهد للآخر أربعة قسمت العين المتنازع عليها أثلاثا. فأما القائلون بالترجيح بكثرة العدد أو اشتهار العدالة فقد علل لرأيهم بما يأتي: أولا: القياس على الرواية في الحديث، فلو تعارض حديثان فأحد الحديثين يرجح بذلك، فكذلك الشهادة؛ لأن كلا منها خبر. ثانيا: أن الشهادة إنما شرعت؛ لأنها تحقق غلبة الظن بالمشهود به، وإذا كثر العدد أو قويت العدالة كان الظن أقوى. وأما الأوزاعي، فقد علل لما يراه بأن الشهادة سببب الاستحقاق فيوزع الحق عليها. وأما القائلون بأنه لا ترجيح بكثرة العدد، ولا اشتهار العدالة فقد علل لرأيهم بأن الشهادة مقدرة بالشرع فلها نصاب معين، فلا تختلف بالزيادة، وأما الرواية فلا ضبط فيها، ولذلك كان العمل فيها بأرجح الظنين فيصح فيها الترجيح بالزيادة2. لو شهد لأحد المدعيين رجلان وشهد للآخر رجل وامرأتان: لو كان لأحد المدعيين شاهدان رجلان، وللمدعي الآخر رجل وامرأتان في قضايا الأموال فيرى المالكية ترجيح جانب الشاهدين الرجلين3. والمذهب في الفقه الشافعي أنه لا ترجيح للجانب الذي يشهد له الرجلان لقيام الحجة بكل من البينتين. ويوجد قول للشافعي يرجح الجانب الذي يشهد له الرجلان، وعلل لهذا الرأي بزيادة الوثوق بشهادة الرجلين، ولذلك يثبت بشهادة رجلين أمور لا تثبت برجل وامرأتين. وصرح ابن قدامة أيضًا من فقهاء الحنابلة بأنه لا ترجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين في الأموال؛ لأن كل واحد من البينتين حجة في الأموال فإذا اجتمعتا تعارضتا4.   1 الشرح الصغير للدردير، مع حاشية الصاوي، ج4، ص306. 2 تبصرة الحكام، ج1، ص309. والمغني ج9، ص282، 283. 3 الشرح الصغير، ج4، ص306، وتبصرة الحكام، ج1، ص310. 4 مغني المحتاج، ج4، ص482، والمغني ج9، ص283. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 لو كان لأحد المدعيين شاهدان وللآخر شاهد ويمين: ذكر ابن قدامة رأيين في الفقه الحنبلي على الإطلاق من غير تفصيل بين ما إذا كان لصاحب الشاهد واليمين يد على العين المدعاة، أو لم يكن له يد عليها. أحد الرأيين: لا ترجح شهادة الرجلين على شهادة الشاهد مع يمين الخصم الآخر؛ لأن كل واحدة منهما حجة بمفردها في الأموال، فإذا اجتمعتا تعارضتا. والرأي الثاني: أن الجانب الذي معه الشاهدان يرجح لأمرين: الأول: أن الشاهدين حجة باتفاق العلماء، وأما الشاهد واليمين فمختلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 فيهما هل يصلحان حجة أم لا؟. الثاني: أن اليمين قول لنفس المدعي وأما البينة الكاملة فشهادة أجنبيين فيجب تقديم شهادة الأجنبيين، كوجوب تقديمها على يمين المنكر1. وكذلك إذا انتقلنا إلى فقه المالكية نجد أحمد الدردير لم يفصل أيضًا، بل يقرر على الإطلاق ترجيح جانب الشاهدين على جانب الشاهد واليمين2. أما في فقه الشافعية، فنجد التفرقة في الحكم بين ما إذا كان لصاحب الشاهد واليمين يد على العين المدعاة، وما إذا لم يكن له يد عليها. فإن لم يكن لصاحب الشاهد واليمين يد على العين المدعاة فإن جانب الشاهدين يرجح على جانب الشاهد واليمين، كما هو القول الأقوى من قولين للشافعي -رضي الله عنه؛ لأن الشاهدين حجة بإجماع العلماء، وأما القضاء بالشاهد ويمين المدعي فمحل خلاف بينهم. والقول الثاني المنقول عن الشافعي أنهما يتعادلان، فإن كل واحد منهما حجة في قضايا الأموال عند الانفراد. وهذا الحكم -كما بين فقهاء الشافعية- إذا لم يكن لصاحب الشاهد واليمين يد على العين المدعاة، وأما إذا كان له يد عليها فيقدم على المدعي الآخر، كما هو الرأي الأقوى من رأيين لفقهاء الشافعية؛ لأن وضع اليد يقوي جانبه3.   1 المغني، ج9، ص283. 2 الشرح الصغير مع حاشية الصاوي، ج4، ص306. 3 مغني المحتاج، ج4، ص309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 هذا، وفي ختام كلامنا عن تعارض البينتين نحب أن نذكر ما يراه ابن فرحون أحد فقهاء المالكية المشهورين، فقد بين ثلاثة أمور للترجيح بين البينتين إذا تعارضتا ولم يمكن الجمع بينهما, وإليك بيان هذه الأمور. الأمر الأول: الزيادة في العدالة، وهذا هو المشهور في الفقه المالكي، مع ملاحظة أن الترجيح بالعدالة لا يكون إلا في الأموال خاصة. ويوجد رواية عن مالك -رضي الله عنه- أنه لا يرجح بها. الأمر الثاني: اشتمال إحدى البينتين على زيادة تاريخ المتقدم، أو سبب ملك، مثل أن تشهد بينة أنه ملك العين المتنازع عليها منذ سنة وتشهد الأخرى للمدعي الآخر أنه ملكها منذ سنتين فترجح السابقة. وأما سبب الملك فمثل أن نذكر إحدى البينتين سبب الملك من نتاج أو زراعة، وتكون شهادة البينة الأخرى مطلقة لا تذكر سوى مجرد الملك، فإنه يرجح التي ذكرت السبب. الأمر الثالث: قوة الحجة فيقدم الشاهدان على الشاهد واليمين، وعلى الشاهد والمرأتين إذا استووا في العدالة1.   1 تبصرة الحكام، ج1، ص309. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الشهادة على الشهادة: بيّن العلماء أنه يجوز الشهادة على الشهادة بإجماع العلماء1، كأن يقول الشاهد الأصلي لشخص آخر: أنا شاهد بأن فلانا أقر عندي أن لفلان كذا من المال. وأشهدك على شهادتي، فيشهد الآخر بهذه الشهادة، فيقول أمام القاضي: أشهد على شهادة فلان بكذا، ويرى الحنفية أنه لا تجوز الشهادة على الشهادة إلا إذا قال الأصل اشهدوا على شهادتي بذلك، أو اشهدوا أن فلانا أقر عندي أن لفلان عليه كذا فاشهدوا على شهادتي، بذلك إذا احتيج إليها، قالوا: لأنها في الحقيقة توكيل وتحميل؛ لأنه لا بد من نقل الشهادة إلى مجلس القاضي، ولما كانت لا بد من نقلها كان لا بد من تحملها والتحميل لا يصح إلا بالأمر2. الأدلة على قبلوها: أولا: عموم قول الله تبارك وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . ثانيا: الحاجة قد تدعو إليها؛ لأن الشاهد الأصلي قد يتعذر عليه أداء الشهادة لبعض العوارض كالسفر الطويل أو المرض، أو الفقد. ثالثا: الشهادة وسيلة من وسائل إظهار الحق، كالإقرار، فيصح الشهادة عليها. مجال قبولها: يرى الحنفية قبول الشهادة على الشهادة في كل الحقوق التي لا تسقط بالشبهة، وأما الحق الذي يسقط بالشبهة فلا تصح فيه، ولهذا فهم يرون عدم قبولها فيما يوجب الحد أو القصاص3.   1 مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بدامادا أفندي، ج2، ص211. 2 معين الحكام، للطرابلسي ص111. 3 فتح القدير، ج7، ص462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وهذا أيضا ما يراه أحمد، أما مالك فيرى أنها تقبل في الحدود والقصاص أيضا. ويرى الشافعية قبولها في كل ما ليس عقوبة لله تبارك وتعالى، كالإقرار والعقود، والفسوخ، والرضاع، والولادة، وعيوب النساء التي تجيز التفريق بين الزوجين بأمر القاضي. وتقبل أيضا عند الشافعية في إثبات عقوبة لآدمي، كالقصاص وحد القذف1، أما العقوبة إذا كانت حقا لله تبارك وتعالى، كالزنا، وشرب الخمر، فلا تقبل فيها الشهادة على الشهادة، كما هو القول الأقوى من قولين للشافعي -رضي الله عنه؛ لأن حق الله مبني على التخفيف بخلاف حق الآدمي. أسباب تحمل الشهادة على الشهادة: بين العلماء أن تحمل الشهادة على الشهادة له أسباب ثلاثة: الأول: أن يلتمس الشاهد الأصيل من الشاهد الفرع رعاية الشهادة وحفظها فيقول الأصيل للفرع مثلا: أنا شاهد بأن لفلان على فلان كذا، وأشهدك على شهادتي. السبب الثاني: أن يسمع رجل رجلا آخر يشهد أمام القاضي أو المحكم أن لفلان على فلان كذا من المال، فله أن يشهد على شهادته، وإن لم يلتمس منه الأصل هذه الشهادة. السبب الثالث: أن يسمعه يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألفا -مثلا- عن ثمن مبيع، أو قرض، أو غيرهما، فيجوز لمن سمعه أن يشهد على هذه الشهادة   1 حد القذف فيه حقان: حق لله وحق للإنسان، ويرى الشافعية أن الغالب فيه حق الإنسان، ويرى الحنفية أن الغالب فيه حق الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 إذا كان قد بيّن سبب الشهادة حتى لو لم يطلب منه الأصل ذلك؛ لأن بيان السبب رافع لاحتمال الوعد والتساهل. هذا ما يراه الشافعية، ويرى الحنفية أنه لو قال: اشهدوا على شهادتي، فسمعها رجل آخر لم يشهد على شهادته، وعللوا ذلك بأن التحمل شرط، ولم يوجد هذا التحمل1 ونرى ضعف هذا الرأي، لأن الشهادة وسيلة من وسائل إثبات الحقوق, وأي وسيلة تثبت الحق تكون جائزة، والشهادة على الشهادة يثبت بها الحق، وسماع الرجل لقوله: اشهدوا على شهادتي نعده تحملا. لو كان الشاهد الأصيل مردود الشهادة: بيّن فقهاء الشافعية أنه لا يصح تحمل الشهادة على شخص مردود الشهادة بفسق أو غير؛ لأنه غير مقبول الشهادة. هل تقبل شهادة المرأة على شهادة غيرها: يرى الحنفية صحة شهادة النساء على شهادة غيرهن، وأما الشافعية فيرون أنه لا تقبل شهادة النساء في هذا النوع من الشهادة، حتى لو كانت الشهادة في ولادة، أو رضاع أو مال. شروط قبول الشهادة على الشهادة: اشترط العلماء لقبول الشهادة على الشهاد عدة شروط: الأول: تعذر أو تعسر الشاهد الأصيل، كأن مرض بمرض يؤدي إلى أن   1 معين الحكام للطرابلسي ص111. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 يلحقه مشقة ظاهرة لو أدى الشهادة، أو كان غائبًا1، أو كانت المرأة مخدرة، كما قال الحنفية، أي: لا تخالط الرجال. الشرط الثاني: أن يسمى الشهود الأصول، حتى يعرف القاضي عدالتهم، ويتمكن الخصم من تجريحهم إن عرف ما يجرحهم2. هل يجوز أخذ الأجرة على الشهادة: بيّن فقهاء الشافعية أنه لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت عليه الشهاد3، وأما من لم تتعين عليه فيحتمل رأيين عندهم. وأما الحنابلة فيرون أن من عنده ما يكفيه ليس له أن يأخذ أجرا على أداء الشهادة، معللين لهذا الرأي بأن أداء الشهادة، أداء فرض، فإن الشهادة مع أنها   1 يقدر الحنفية الغيبة المعتبرة هنا بمسيرة ثلاثة أيام ولياليها فصاعدا، بالدواب وقد عللوا لهذا بأن المعجز عن أداء الشهادة من الأصيل بعد المسافة، فقدروها بمسافة اعتبرها الشرع بعيدة فأثبت رخصا عندها، كالفظر في رمضان، وقصر الصلاة الرباعية، وامتداد مسح الخف، وعدم وجوب الجمعة، وحرمة خروج المرأة بلا محرم أو زوج، وغير ذلك، وروي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة أنه إن كان الشاهد الأصيل في مكان لا يستطيع أن يبيت في أهله لو غدا لأداء الشهادة فإن شهادة الفرع تصح، إحياء لحقوق الناس، وقد علق الحنفية على الرأي الأول بأنه الأحسن؛ لأن العجز شرعا يتحقق به، وعلقوا على رأي أبي يوسف بأنه أرفق، لإحياء حقوق الناس، وتوجد رواية أيضًا عن أبي يوسف ومحمد أن شهادة الفرع تقبل وإن كانوا في المصر؛ لأنه ينقل قول الأصل فكان كنقل إقراره. فتح القدير، وشرح العناية على الهداية، ج7، ص468، 469. ومعين الحكام للطرابلسي ص111. 2 مغني المحتاج، ج4، ص452 وما بعدها. 3 تتعين الشهادة كما لو كان شخصان قد شهدا عقدا، أو على دين مثلا، واحتاج القضاء إلى شهادتيهما، وأما لو كان الشهود أكثر من المطلوب فلا تتعين الشهادة، بل تصير فرض كفاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 فرض كفاية إلا أن فرض الكفاية إذا قام به البعض يقع منهم فرضان, فالإنسان أثناء أدائه لفرض الكفاية إنما يقوم بفرض في وقت الأداء. وإذا لم يكن عند الشاهد ما يكفيه ولم تتعين عليه الشهادة فيجوز عند الحنابلة أن يأخذ الشاهد أجرة على الشهادة، وقد علل هذا الحكم بأن النفقة على عيال الشاهد فرض عين عليه، فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإذا أخذ الأجرة جمع بين الأمرين. هذا إذا لم تتعين عليه الشهادة، أما إذا تعينت عليه فيوجد احتمالان عند الحنابلة: أحدهما جواز أخذ الأجرة، والثاني عدم الجواز لئلا يأخذ العوض عن أداء فرض عين1. وقال ابن تيمية: "وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال: هي أربعة أوجه في مذهب أحمد وغيره. أحدها: أنه لا يجوز مطلقا، والثاني: لا يجوز إلا عند الحاجة، والثالث: يجوز إلا أن يتعين عليه، والرابع: يجوز، فإن أخذ أجرا عند التحمل لم يأخذ عند الأداء"2.   1 المغني، ج9، ص158. 2 مجموع فتاوى ابن تيمية، ج28، ص99، 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الوسيلة الثالثة من وسائل الإثبات: نكول المدعى عليه عن اليمين: وقد بينا سابقا عند كلامنا عن نظام الفصل فى الدعوى آراء العلماء في النكول، وما استندت إليه آراؤهم، فليرجع إليه القارئ إن أراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الويسيلة الرابعة: يمين المدعي مع الشاهد ... الوسيلة الرابعة: يمين المدعي مع الشاهد، قد لا يتيسر للمدعي شاهدان يشهدان له بالحق المدعى، فيكون معه شاهد واحد، وقد يحدث أن يتحقق وجود شاهدين فيموت أحدهما، أو يتعذر حضوره والاتصال به، فهل يصح في مثل هذا أن يحلف المدعي، فيحكم له القاضي بالحق الذي يدعيه بناء على يمينه مع الشاهد الواحد، أم أنه لا يصح الحكم بالشاهد ويمين المدعي؟. العلماء في هذه المسألة على رأيين: أحدهما: ما يراه جمهور العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم أن القاضي يصح له أن يقضي بشاهد ويمين المدعي. ومن هؤلاء أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن حزم الظاهري، والإمامية، والزيدية. الرأي الثاني: ما يراه أبو حنيفة وأصحابه أبو يوسف، ومحمد, وزفر، وزيد بن علي، والشعبي، والحكم، والأوزاعي، والليث بن سعد، وبعض أصحاب مالك، أنه لا يحكم بشاهد ويمين في شيء من الأحكام1.   1 صحيح مسلم، بشرح النووي، ج12، ص4، وبداءة المجتهد، ج2، ص501، والمدونة الكبرى، رواية سحنون عن ابن القاسم، عن الإمام مالك بن أنس، ج12، ص183، والأم للإمام الشافعي ج6، ص254، ونهاية المحتاج للرملي، ج8، ص296، والمغني لابن قدامة، ج12، ص10، والمحلى لابن حزم، ج10، ص481، والروض النضير، ج4، ص103، والبحر الزخار، لأحمد بن يحيى المرتضى، ج5، ص403، وبدائع الصنائع، للكاساني، ج8، ص3924، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي، ج4، ص294، وحاشية ابن عابدين، ج2، ص401، وسبل السلام للصنعاني، ج4، ص131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 دليل الرأي الأول: استدل للرأي القائل بصحة القضاء بالشاهد ويمين المدعي بحديث عن عمرو بن دينار، عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بيمين وشاهد، رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه1، والنسائي، وقال: إسناده جيد2، وفي رواية: قال عمرو، في الأموال. وعن جابر بن عبد الله، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد. رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه3. وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى بشهادة شاهد واحد، ويمين صاحب الحق، وقضى به أمير المؤمنين علي بالعراق، رواه أحمد، والدراقطني4. أدلة الرأي الثاني: المصادر التي اطلعت عليها تبين الأدلة التي اعتمد عليها الحنفية فيما يرونه في مسألة القضاء بالشاهد ويمين المدعي، لكننا لم نجد أدلة مستقلة للمشاركين لأبي حنيفة في الرأي، كالشعبي، والحكم, والأوزاعي، والليث بن سعد، وغير هؤلاء ممن ذكرناهم مع أبي حنيفة عند حكاية الآراء، كما لم يجد من سبقني في الكتابة   1 سنن ابن ماجه، ج2، ص793. 2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص131. 3 سنن الترمذي، ج6، ص618. 4 سنن الدراقطني، ج4، ص212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 في هذه المسألة من الباحثين المحدثين -فيما أعلم-1 أدلة لغير أبي حنيفة. وعلى هذا سنذكر أدلة الحنفية باعتبارها مستندا لهم ولغيرهم من الذين يشاركونهم الرأي في هذه المسألة، استدل الحنفية لرأيهم القائل بعدم صحة القضاء الشاهد واليمين بالقرآن الكريم، والسنة الشريفة. الدليل الأول من القرآن: قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 2 وجه الاستدلال بهذه الآية، أن هذه الآية الكريمة جاءت في مقام بيان كيفية الشهادة، واقتصرت على ذكل صورتين فقط للشهادة، فالحاصل أن الله تبارك وتعالى اقتصر في مقام البيان على شهادة الرجلين، والرجل والمرأتين، والاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر، فكأن الحق تبارك وتعالى قال: لا تستشهدوا بغيرهم فإذا قيل بصحة القضاء بالشاهد واليمين فإن هذا يكون منافيا للحصر، ويكون زيادة على القرآن بحديث مروي بطريق الآحاد، والزيادة على القرآن نسخ له، ولا يصح نسخ القرآن بالسنة الآحادية؛ لأن القرآن متواتر فهو قطعي الثبوت، وخبر الآحاد ظني الثبوت، فلا ينسخ المتواتر الذي هو قطعي الثبوت، ولا تقبل الزيادة من الأحاديث إلا إذا كان   1 ممن سبقني في الكتابة من المحدثين أستاذنا الدكتور أحمد عبد المنعم البهي في كتابه: من طرق الإثبات في الشريعة الإسلامية وفي القانون. ص23. 2 سورة البقرة، الآية رقم 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الخبر بها متواترا، أو مشهورا على الأقل1. مناقشة الاستدلال: أجيب على هذا الاستدلال بما يأتي: أولا: إننا نسلم بأن الاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر، ولكنه يفيده بطريق المفهوم، والمفهوم عند الحنفية من قبيل المسكوت عنه، فلا دلالة فيه على النفي. ولو سلمنا أن المفهوم هنا معمول به كالمنطوق، فإن القاعدة أن المفهوم إذا عارضه منطوق فإنه يقدم المنطوق على المفهوم، وهنا في مسألتنا هذه قد عارض المفهوم منطوق حديث: قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- باليمين مع الشاهد2. ثانيا: إن أبا حنيفة وأصحابه يرون أن نكول المدعى عليه -أي: امتناعه من اليمين- يوجب أن يقضي القاضي عليه بنفس النكول، وهذا قسم ثالث ليس له ذكر في الآية الكريمة، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ   1 يقسم الحنفية الحديث إلى متواتر وآحاد، ومشهور، ويقسم غيرهم الحديث إلى نوعين فقط هما: المتواتر والآحاد. ويعرف المتواتر بأنه ما روي من طريق تحيل العادة توافق رواته على الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والحديث الآحادي هو ما روي من طريق لا تحيل العادة توافق رواته على الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والحنفية يجعلون المشهور قسما وسطا بين المتواتر والآحاد، ويعرف بأنه ما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق الآحاد، واشتهر في عصر التابعين أو تابعي التابعين، فالحديث المشهور كان أولا مرويا بطريق الآحاد، ثم اشتهر في العصر الثاني أو الثالث وتلقته الأمة بالقبول، وصار كالمتواتر، وذلك مثل حديث المسح على الخف، وحديث الرجم في عقوبة الزاني المحصن، أي: المتزوج. 2 منهاج الطالب في المقارة بين المذاهب، لأستاذنا الدكتور عبد السميع إمام، ص227. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ، بل وليس له ذكر في القرآن الكريم ليدل عليه1. ثالثا: الحديث لم ينسخ الآية، بل خصص عمومها، وتخصيص القرآن بالسنة جائز، وكذلك الزيادة عليه، كما في قوله تبارك وتعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بعد أن ذكر سبحانه وتعالى المحرمات من النساء في الزواج، مع أن الزواج بالعمة مع بنت أخيها محرم بالإجماع، وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم. رابعا: أن الحنفية ردوا الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على ما في القرآن، مع أنهم أخذوا بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة، كلها زئدة على ما في القرآن كالوضوء بالنبيذ، ونقض الوضوء بالقيء، ونقضه بالقهقهة في الصلاة، وشهادة المرأة الواحدة في الولادة، ولا قود إلا بالسيف، ولا تقطع الأيدي في الغزو، ولا يرث الكافر المسلم، ولا يؤكل الطافي من السمك، ويحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير, ولا يقتل الوالد بالولد، ولا يرث القاتل، وغير ذلك من الأمثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب. الرد على المناقشة: أجاب الحنفية بأن الأحاديث الواردة في هذه المواضع المذكورة أحاديث مشهورة، فوجب العمل بها لشهرتها.   1 أحكام القرآن لابن العربي، القسم الأول ص253. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 رد المخالفين عليهم: رد المخالفون بأن أحاديث القضاء بالشاهد واليمين رواها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكثر من عشرين صحابيا، وفيها ما هو صحيح، فأي شهرة تزيد على هذه الشهرة؟ 1. الدليل الثاني: السنة وأما ما استند إليه القائلون بعدم صحة القضاء بالشاهد واليمين من السنة، فما رواه ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر" رواه البيهقي، وروى ابن حبان نحوه عن ابن عمر. وروى الترمذي نحوه أيضا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده2. واستدلوا أيضًا من السنة بما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لرجل جاء يدعي على آخر دعوى: "شاهداك أو يمينه" 3. وجه الدلالة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الأول حصر اليمين في المنكر، أي: المدعى عليه، فلو كان للمدعي يمين أيضًا لما كان الحصر صحيحا.   1 نيل الأوطار، للشوكاني، ج9، ص190، وما بعدها. 2 نيل الأوطار، ج9، ص220. 3 روى البخاري ومسلم عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "شاهداك أو يمينه"، صحيح البخاري، ج10، ص231، ونيل الأوطار، ج9، ص216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وأما في الحديث الثاني فقد خير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدعي بين أمرين لا ثالث لهما، وهما شاهدان للمدعي، أو يمين المدعى عليه، فإذا قيل بأن للمدعي الحق في اليمين مع شاهد فإن هذا ينافي التخيير؛ لأن هذا أمر ثالث لم يذكره الحديث مع أنه ورد في مقام البيان، والاقتصار في مقام البيان يفيد الحصر، لو كان هناك طريق آخر لإثبات الحق، لبينه الرسول -صلى الله عليه وسلم، كأن يقول: شاهداك، أو يمينه، أو شاهدك ويمينك، وغير ذلك، ولكن الحديث حصر إثبات الحق بشاهدي المدعي، أو يمين المدعى عليه. فالتخيير كان بين أمرين فقط، فما زاد على ذلك كان منافيا للتخيير فلا يصح. مناقشة هذا الاستدلال: أجيب عن هذا الاستدلال بأن معنى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" معنى عام، ويتناول كل أنواع البينة، وهي تصدق بشاهدين، وشاهد ويمين؛ لأن اليمن يسمى في عرف الشرع شهادة، يؤيد هذا قول الله تبارك وتعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} ، أي: أربعة أيمان يقسمها الذي يتهم زوجته بجريمة الزنا، وليس معه شهود يشهدون على هذه الجريمة. وأيضًا فإن معنى قوله -صلى الله عليه وسلم: "واليمين على من أنكر" يحمل على ما إذا لم يكن مع المدعي أصل الشهادة، ولا خلاف في هذا. وأما تخيير الرسول -صلى الله عليه وسلم- للمدعي بين الشاهدين، ويمين المدعى عليه، فمحمول كذلك على أن المدعي لم يكن معه أصل الشهادة، فكان التخيير بين أن يأتي بالشهادة التي تصدق بشاهد ويمين، وبين يمين المدعى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 وبهذا يتبين أنه لا تعارض بين حديث القضاء بشاهد ويمين وبين الأحاديث التي يوهم ظاهرها أنها تعارضه. الرأي الراجح: الرأي القائل بصحة القضاء بالشاهد ويمين المدعي في الأموال هو الأولى بالقبول، لثبوت الحديث الذي يفيد هذا، ولضعف استدلال الحنفية ومن معهم؛ ولأن القول بصحة القضاء بالشاهد مع يمين المدعي يتفق مع روح التشريع الإسلامي، إذ إنه في بعض الأحايين يكون للمدعي شاهدان، فيموت أحدهما، أو يكون غائبا لا يتوصل إلى شهادته بسهولة، أو يكون قد طرأ له ما يمنعه من أداء الشهادة كالجنون، فإذا لم يقض القاضي له بالحق المدعى بالشاهد الواحد الباقي مع يمينه فإن هذا يؤدي إلى ضياع الكثير من حقوق الناس، مع وجود الظن بثبوت هذه الحقوق، والشريعة تعتبر الظنون في كثير من الأحايين وشهادة الشاهد الواحد تفيد ظنا ما بثبوت الحق؛ لأن الشاهد متصف بالعدالة، والعدالة مانعة له من الكذب، فإذا تأكدت شهادته بيمين المدعي حصل الظن الغالب بثبوت الحق1. فالأخذ برأي الحنفية -إذن- يؤدي إلى التضييق على الناس في الحصول على الحقوق، وهذا يعد في ذاته ضررا، والشريعة الإسلامية حرمت الإضرار بالنفس أو بالغير، فضلا عما في الأخذ برأي الجمهور من تبسيط إجراءات التقاضي, وإيصال الحقوق إلى أصحابها بأبسط الطرق وأسهلها ما دام ذلك لا يتعارض مع   1 منهاج الطالب في المقارنة بين المذاهب، للدكتور عبد السميع إمام، ص228-232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 نص شرعي أو قاعدة عامة أتت بها شريعة الإسلام، ومن الملاحظ أن القوانين الوضعية قد أخذت بهذا الحكم وهو جواز سماع الشاهد وتحليف المدعي اليمين إذا عجز عن تقديم البينة الكاملة. هذا، ومع أن جمهور العلماء -كما بينا- يرون أن الشاهد واليمين وسيلة من وسائل الإثبات، فإنهم مختلفون في مجال القضاء بالشاهد واليمين، ففقهاء المدينة، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي، وأحمد يرون أن الشاهد واليمين لا يكون وسيلة من وسائل الإثبات إلا في الأموال، وما يئول إلى الأموال1. ويرى ابن حزم أنهما وسيلة من وسائل الإثبات في كل الحقوق ما عدا الحدود2. ومن أدلة أصحاب الرأي الأول ما أخرجه الشافعي عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد، قال عمرو: في الأموال"، وما أخرجه البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه "أن رسول   1 العلماء يختلفون في ما يئول إلى المال باختلاف نظرتهم إليه، فمع أنهم اتفقوا على أيلولة بعض المسائل إلى المال، كالهبة، والإجارة، والشفعة، والحوالة، فإنهم اختلفوا في جراح العمد، فيرى مالك أنها مما يئول إلى المال؛ لأنها تئول إليه إذا تصالح الطرفان، يجوز أن يحكم فيها بالشاهد واليمين، وأما الشافعي، وأحمد فيخالفانه في هذا ويريان ترجيح جانب القصاص على جانب المال، ولهذا لم يجوزا القضاء فيها بالشاهد واليمين، ويرى بعض الباحثين أن العلماء أن العلماء ليس عندهم ضابط معين تندرج تحته المسائل التي تئول إلى المال عندهم، ولكل منهم نظر خاص في اندراج الجزئيات تحت القاعدة العامة، ولهذا يتفقون في بعض الحالات, ويختلفون في البعض الآخر عند كلامهم عما يئول إلى المال. انظر: من طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص39. 2 المحلى، لابن حزم، ج9، ص396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 الله -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد، يعني في الأموال"، وفي سنن أبي داود1 أنه قال سلمة في حديثه: قال عمرو في "الحقوق" يريد أن عمرو بن دينار الذي روى هذا الحديث عن ابن عباس، خص الحكم بالشاهد واليمين بالحقوق، قال الخطابي: "وهذا خاص بالأموال دون غيرها، فإن الراوي وقفه عليها، والخاص لا يتعدى به محله، ولا يقاس عليه غيره، واقتضاء العموم منه غير جائز؛ لأنه حكاية فعل والفعل لا عموم له. ا. هـ. قالوا: ولأنه ثبت من القرآن الكريم أنه لا يقبل في الرجعة أقل من شاهدين، قال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} على خلاف العلماء في الشهادة على الرجعة، هل هي واجبة أو مستحبة، لكن لو حدثت الشهادة فلا بد فيها من شاهدين، وروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحاديث تفيد أن الزواج لا يصح إلا بحضور شاهدين. وهذه الأحاديث وإن كان قد قيل إن بعضها ضعيف، أو إن رفعه ضعيف، فإن العلماء قالوا إنها مع ذلك تصلح دليلا على وجوب شاهدين على عقد الزواج؛ لأن بعضها -في رأيهم- يقوي بعضا قالوا: فيقاس على الرجعة والزواج جميع الأمور التي اشترطنا فيها الشاهدين، بجامع أنها ليست مالا ولا يقصد منها المال. وقالوا إن الزواج والطلاق والعتق كل منها حق يتعلق بجميع البدن كالقصاص في القتل، فلا يثبت باليمين مع الشاهد. وأما ابن حزم فيرى أن الأخبار التي جاءت في هذه المسألة -أي: مسألة القضاء بشاهد ويمين- جاءت عامة، ولم يأت شيء من الأخبار يخصص العموم، وأما الحدود فليس لها مطالب إلا الله عز وجل، ولذلك فليس من المتصور أن يقضي فيها بالشاهد مع يمين المستحق2. وفي ختام هذه المسألة نحب أن نبين أن مالكا والشافعي -رضي الله عنهما- اختلفا في جواز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدعي، فيرى مالك جواز ذلك، فكما جاز عنده الحكم بالشاهد ويمين المدعي، يجوز بدل الشاهد امرأتان مع يمين المدعي، وأما الشافعي فلا يرى جواز ذلك3.   1 نقلا عن سبل السلام للصنعاني، ج4، ص132. 2 المحلى لابن حزم، ص9، ومن طرق الإثبات للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص40، 41. 3 أدب القاضي، لابن القاص، ج1، ص302. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الوسيلة الخامسة من وسائل الإثبات: يمين المدعي إذا نكل المدعى عليه إذا لم يكن مع المدعي بينة، وطالب القاضي المدعى عليه باليمين فامتنع عن اليمين، فيرى بعض العلماء ومنهم مالك، والشافعي، وأحمد -كما بينا سابقا- رد اليمين على المدعي، فإن حلف قضى القاضي له. وهذه مسألة خلافية ذكرنا آراء العلماء فيها، وأدلتهم عند الكلام عن نظام الفصل في الدعوى، فلا داعي لإعادة الكلام عنها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الوسيلة السادسة: القسامة تعريف القسامة عند العلماء مدخل ... الوسيلة السادسة: القسامة القسامة بفتح القاف والسين من غير تشديد، ومعناها الأيمان، وكلمة "القسامة" مشتقة من القسم وهو اليمين، كاشتقاق كلمة "الجماعة" من الجمع، وقد حكى إمام الحرمين الجويني أن القسامة عند الفقهاء اسم للأيمان، وعند أهل اللغة اسم للحالفين، وقد صرح بذلك صاحب القاموس، وقال صاحب المصباح المنير: "والقسامة -بالفتح- الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم، يقال: قتل فلان بالقسامة إذا اجتمعت جماعة من أولياء القتيل فادعوا على رجل أنه قتل صاحبهم، ومعهم دليل دون البينة، فحلفوا خمسين يمينا أن المدعى عليه قتل صاحبهم، فهؤلاء الذين يقسمون على دعواهم يسمون قسامة أيضًا"1. فإذا حدثت جريمة قتل، ولم يوجد شهود شهدوا هذه الحادثة، وادعى أولياء القتيل على رجل أنه القاتل بناء على أمر أو أمور لم تصل إلى مرتبة البينة كوجود عداوة بين القتيل وبين المدعى عليهم، فهل تسمع دعوى أولياء القتيل أم لا يسمعها القاضي، وتصير الجريمة ضد مجهول؟ هنا نجد في الفقه الإسلامي فريقا من العلماء يرون أن الأيمان في هذه الحال تقوم مقام البينة، وفريقا آخر لا يرى هذا الرأي، والذين يرون أن الأيمان تقوم مقام البينة مختلفون فيمن يتوجه إليهم الأيمان، هل هم أولياء الدم فيقسمون خمسين يمينا أن الذي ادعوا عليه قيامه بجريمة القتل هو القاتل، أم أن الذين يقومون بالحلف هم المدعى عليهم. بهذا الرأي قال فريق من العلماء، وبالرأي الآخر قال فريق ثان منهم. هذا عند القائلين بأن الأيمان في هذه القضية تقوم مقام البينة، ثم هناك في الفقه الإسلامي فريق ثالث يرى أنه لا يستحق بالقسامة إلا دفع الدعوى فقط. تعريف القسامة عند العلماء: عرفها الحنفية وهم من القائلين بأن الأيمان توجه إلى المدعى عليهم بأنها:   1 المصباح المنير، للفيومي، مادة: قسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 "أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار، أو موضع خارج من مصر، أو قرية قريب منه، بحيث يسمع الصوت منه، إذا وجد في شيء منها قتيل به أثر لا يعلم من قتله، يقول كل واحد منهم: بالله ما قتلت، ولا علمت له قاتلا"1. وعرفها المالكية وهم من القائلين بأن الأيمان تتوجه إلى أولياء الدم بأنها حلف خمسين يمينا أو جزءًا منها على إثبات الدم2. وعرفها الشافعية وهم أيضًا من الفريق الذي يرى أن الأيمان توجه إلى أولياء الدم بأنها اسم للأيمان التي تقسم على أولياء الدم3. وعرفها الحنابلة بأنها "الأيمان المكررة في دعوى القتل"4. هذا، وجمهور فقهاء الأمصار يرون وجوب الحكم بالقسامة على الجملة، أي: مع اختلافهم في بعض أمور فيها، ومن الجمهور مالك والشافعي وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وداود الظاهري، وأتباع هؤلاء العلماء، وغيرهم من فقهاء الأمصار، ويرى سالم بن عبد الله، وأبو قلابة، وعمر بن عبد العزيز، وابن علية أنه لا يجوز الحكم بالقسامة5. دليل مشروعيتها عند القائلين بها: ثبتت مشروعية القسامة عند القائلين بها بالسنة الشريفة، فروي عن أبي   1 بدائع الصنائع ج10، ص4735، وفتح القدير، ج8، ص384. 2 مواهب الجليل شرح مختصر خليل ج6، ص273. 3 مغني المحتاج ج4، ص109. 4 المغن ج10، ص2. 5 بداية المجتهد لابن رشد ج2، ص522. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن رجل من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأنصار، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية. رواه أحمد، ومسلم، والنسائي. وعن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومُحيِّصة1 بن مسعود إلى خيبر وهو يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة، وحُويِّصة2 ابنا مسعود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: كبر، كبر3، وهو أحدث القوم، فتكلما، قال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم؟ فقالوا: وكيف نحلف ولم نشهد "أي: لم نشهد الجريمة وقت حدوثها" ولم نر؟ قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينا، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله4 النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده5، وفي رواية متفق عليها فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على   1 بضم الميم وكسر الياء مشددة، ومخففة، لغتان مشهورتان. 2 بضم الحاء وتشديد الياء وتخفيفها، لغتان مشهورتان. 3 أي: دع من هو أكبر منك سنا يتكلم. 4 عقله، أي: أعطى ديته. 5 من عنده يحتمل أن يكون من خالص مال الرسول -صلى الله عليه وسلم، صادف في بعض الأحوال أن كان هذا المال عنده، ويحتمل أنه من مال بيت المال ومصالح المسلمين، صحيح مسلم بشرح النووي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 رجل منهم فيدفع برمته" 1. فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم"، قالوا: يا رسول الله، قوم كفار؟. وفي لفظ لأحمد: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تسمون قاتلكم، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا، ثم نسلمه". وفي رواية متفق عليها: "فقال لهم: تأتون بالبينة على من قتله"، قالوا: ما لنا من بينة، قال: "فيحلفون"، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبطل دمه، فوداه2 بمائة من إبل الصدقة3. فهذه الأحاديث الشريفة دليل على مشروعية القسامة، وإلى هذا ذهب جمهور الصحابة، والتابعين، والعلماء من الحجاز، والكوفة، والشام، ومن هؤلاء مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وسفيان الثوري، وداود، وأصحابهم، وغير ذلك من فقهاء الأمصار. وقد اتفق هؤلاء على مشروعية القسامة في الجملة، لكنهم مختلفون في التفاصيل. فإذا وجد شخص مقتولا في محلة قوم4، أو بلدة صغيرة لأعدائه، لا يسكنها غيرهم، ولا يعرف قاتله، ولا توجد بينة بقتله، وادعى وليه القتل على أهل   1 الرمة: الحبل الذي يربط به من عليه القصاص. المغني، ج8، ص77، وقال في المصباح: "والرمة بالضم: القطعة من الحبل، وبه كني ذو الرمة، وأخذت الشيء برمته أي: جميعه، وأصله أن رجلا باع بعيرا وفي عنقه حبل، فقيل: ادفعه برمته، ثم صار كالمثل في كل ما لا ينقص ولا يؤخذ منه شيء" المصباح المنير، مادة: رمم. 2 فوداه أي: دفع ديته، وإنما وداه الرسول -صلى الله عليه وسلم- قطعا للنزاع، وإصلاحا لذات البين، فإن أهل القتيل -كما قال النووي- لا يستحقون إلا أن يحلفوا أو يستحلفوا المدعى عليهم، وقد امتنعوا من الأمرين، وهم مكسورون بقتل صاحبهم فأراد الرسول جبرهم وقطع المنازعة. 3 نيل الأوطار، ج7، ص183، 184. 4 محلة القوم، المكان الذي ينزله القوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 هذا المكان الذي وجد به القتيل، ادعاه عليهم كلهم أو على بعضهم فيرى الشافعية أن يحلف المدعي الوارث على القتل الذي ادعاه خمسين يمينا1، فإذا حلف على أن القتل كان خطأ أو شبه عمد، وجبت دية على العاقلة، وإذا حلف على أن القتل كان عمدا وجبت دية حالة على المقسم عليه، ولا يجب القصاص على القول الجديد للشافعي، وهذا الرأي أيضًا مروي عن الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، وعثمان البتي، وغيرهم2. وقد استند هذا الرأي إلى ما يأتي: أولا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما رواه البخاري: "إما أن تدوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب" فقد أطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- إيجاب الدية، ولم يفصل بين ما إذا كان القتل خطأ أو غيره، ولو كانت الأيمان صالحة للقصاص لذكر القصاص. ثانيا: القسامة حجة ضعيفة، فلا توجب القصاص، احتياطا لأمر الدماء، كالشاهد واليمين. وأما القول القديم للشافعي في بغداد قبل أن ينتقل إلى مصر فهو وجوب القصاص في الدعوى بقتل العمد، وهو أيضًا ما يراه مالك وأصحابه، والليث بن سعد، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوية، وأبو ثور، وداود الظاهري. وقد استند هذا الرأي إلى ما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله -صلى الله   1 وإذا كان للقتيل ورثة خاصة وزعت الأيمان الخمسون عليهم بحسب الإرث. 2 صحيح مسلم بشرح النووي، ج11، ص143، 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 عليه وسلم قال: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم"؟ أي: دم قاتل صاحبكم. مناقشة هذا الاستدلال: أجيب عن هذا الاستدلال بأن التقدير: بدل دم صاحبكم، وعبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدم عن الدية؛ لأنهم يأخذونها بسبب الدم1. القسامة ليست محل اتفاق بين العلماء: ذهب إلى مشروعية القسامة جمهور الصحابة والتابعين والعلماء، وقد اتفق هؤلاء على مشروعية القسامة في الجملة، لكنهم اختلفوا في التفاصيل. ويرى جماعة من العلماء من سلف الأمة أن القسامة غير ثابتة، فلا حكم ولا عمل بها، وممن روى عنهم هذا الرأي أبو قلابة، وسالم بن عبد الله، وسلمان بن يسار، وإبراهيم بن علية، والبخاري، وعمر بن عبد العزيز في رواية عنه. وعمدة جمهور العلماء ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- من حديث حويصة ومحيصة، إلا أنهم مختلفون في ألفاظه. وأما القائلون بأن القسامة غير ثابتة فيعللون هذا الرأي بأنها مخالفة لأصول الشريعة التي أجمع عليها العلماء من وجوه: منها أن البينة على المدعي واليمين على المنكر في أصل الشرع. ومنها أن اليمين لا تجوز إلى على ما علمه الإنسان قطعا بالمشاهدة الحسية أو ما   1 مغني المحتاج، ج4، ص114 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 يقوم مقامها، فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل، بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر. ولهذا روى البخاري1 عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أذن للناس فدخلوا عليه فقالوا: ما تقولون في القسامة؟ قالوا: نقول: إن القسامة القود بها "أي: القصاس بها" حق، قد أقاد بها الخلفاء2 فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ... فقلت: يا أمير المؤمنين، عند أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا، قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهادتهم؟ قال أبو قلابة: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: إنهم إن أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا. وأيضًا فإنه لم يرد في تلك الأحاديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حكم بالقسامة، وإنما كانت القسامة من أحكام الجاهلية، فتلطف لهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام، ولذلك قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لهم -أي: لولاة الدم وهم الأنصار: "أتحلفون خمسين يمينا"؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد، قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا كيف نقبل أيمان قوم كفار؟.   1 فتح الباري ج12، ص230. 2 المراد بالخلفاء، معاوية, وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك بن مروان، فتح الباري ج12، ص240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشاهدوا لقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هي السنة. ثم قال أصحاب هذا الرأي: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة, ويتطرق إليها التأويل، فصرفها بالتأويل إلى الأصول الشرعية أولى1. إجابة القائلين بمشروعية القسامة: أجاب القائلون بمشروعية القسامة بأن القسامة أصل من أصول الشريعة مستقل، لورود الدليل بها، فتخصص بها الأدلة العامة، وفيها حفظ للدماء، وزجر للمعتدين، ولا يحل طرح سنة خاصة لأجل سنة عامة، وعدم الحكم في حديث سهل بن أبي حثمة لا يستلزم عدم الحكم مطلقا، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قد عرض على المتخاصمين اليمين وقال إما أن تدوا2 صاحبكم وإما أن تأذنوا بحرب كما في رواية متفق عليها، وهو عليه الصلاة والسلام لا يعرض إلا ما كان مشروعا. وأما ادعاء أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال تلطفا بهم وإنزالا لهم من حكم الجاهلية فادعاء باطل، كيف وفي حديث أبي سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية3.   1 بداية المجتهد، ج2، ص465. 2 أي: تعطوا الدية. 3 نيل الأوطار، ج7، ص186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 ما يجب بالقسامة، من يبدأ بالحلف في القسامة ... ما يجب بالقسامة: اختلف العلماء القائلون بالقسامة فيما يجب بها، فيرى مالك، وأحمد أنه يستحق بها القصاص في القتل العمد، والدية في القتل الخطأ. ويحتج لهذا الرأي بما رواه مالك من حديث ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة، وفيه: فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم". ويرى الشافعي، والثوري، وجماعة من العلماء أنه تستحق بها الدية فقط. وعمدة هذا الرأي هو أن الأيمان يوجد لها تأثير في استحقاق الأموال في الشرع، مثل ما ثبت من الحكم في الأموال باليمين والشاهد، ومثل وجوب المال بنكول المدعى عليه، أو بنكوله ورد اليمين على المدعي عند من يرى من العلماء رد اليمين على المدعي إذا نكل المدعى عليه. ويرى بعض علماء الكوفة أنه لا يستحق بالقسامة إلا دفع الدعوى، اعتمادا على أن الأصل هو أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه. ويرى بعض العلماء أنه يحلف المدعى عليه ويغرم الدية، فعلى هذا الرأي إنما يستحق بالقسامة دفع القصاص فقط1. من يبدأ بالحلف في القسامة اختلف العلماء القائلون بالقسامة، أي: الذين قالوا إنه يستوجب بها مال أو دم فيمن يبدأ بالأيمان الخمسين. الرأي الأول: يرى جمهور العلماء ومنهم مالك، والشافعي، وأحمد،   1 بداية المجتهد، ج2، ص466. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ودواد، أنه يبدأ المدعون فيحلفون خمسين يمينا، ويجب الحق بحلفهم هذه الأيمان الخمسين. واحتج أصحاب هذا الرأي بالحديث المروي عن سهل بن أبي حثمة، وفيه التصريح بالابتداء بيمين المدعي، وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح. ويرى فقهاء الكوفة والبصرة، وكثير من أهل المدينة أنه يبدأ المدعى عليهم بالأيمان. وقد استند هذا الرأي إلى رواية تبين الابتداء بيمين المدعى عليهم. وقد أجيب على هذا بما قاله أهل الحديث من أن هذه الرواية وهم من الراوين1. الحكم إذا لم يحلف المدعون: إذا رفض المدعون أن يحلفوا -على الرأي القائل بأن المدعون هم الذين يحلفون- حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ ولا شيء عليه، وهذا ما يراه مالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأبو ثور، وهذا ظاهر المذهب في الفقه الحنبلي2. وأما الحنفية -كما سبق بيانه- فيرون أن ولي القتيل لا يحلف, بل الذي يحلف هو المدعى عليهم، فيختار منهم ولي الدم خمسين رجلا، ويحلف كل منهم   1 صحيح مسلم بشرح النووي، ج11، ص144، وبداية المجتهد، ج2، ص467. 2 المغني، ج8، ص77، 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 بالله ما قتلت ولا علمت له قاتلا، وإذا لم يبلغ الحالفون هذا العدد يكرر عليهم اليمين حتى يبلغ الخمسين؛ لأن اليمين واجب بالنص، فيجب إتمامها ما أمكن، ولا يشترط معرفة الحكمة في هذا العدد الثابت بالنص1. فالقسامة عند جمهور العلماء دليل للمدعي لإثبات تهمة القتل إذا لم توجد وسيلة أخرى من وسائل الإثبات التي تصلح في هذا الأمر، وأما عند الحنفية فهي دليل لنفي التهمة عن المدعى عليهم2. ويرى الحنفية أن الدعوى إذا كانت قتل عمد تجب الدية بعد الحلف، فإن أبوا أن يحلفوا يحبسون حتى يحلفوا، أو يقروا، فيلزم المقر ما أقر به. وأما إذا كانت الدعوى قتل خطأ فيرون وجوب الدية إذا نكل المدعى عليهم، ولا يحبسون3. إذا لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه: إذا امتنع المدعون من الأيمان، ولم يقبلوا الأيمان من المدعى عليهم دفعت دية القتيل من بيت المال "الخزانة العامة" يدل على هذا أنه لما قتل عبد الله بن سهل بخيبر، وأبى الأنصار أن يحلفوا وقالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ أدى النبي -صلى الله عليه وسلم- ديته من عنده كراهية أن يبطل دمه4.   1 مجمع الأنهر، في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بدامادا أفندي، ج2، ص678، 679، دار إحياء التراث العربي. 2 الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ج6، ص394، دار الفكر، بدمشق. 3 مجمع الأنهر، ج2، ص678، 679. 4 المغني، ج8، ص78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 هل يحلف النساء والصبيان؟ االصبيان فقد اتفق العلماء على أنهم لا يحلفون، سواء أكانوا من الأولياء أم كانوا من المدعى عليهم؛ لأن الأيمان حجة للحالف، والصبي لا يثبت بقوله حجة، ولو أقر على نفسه لم يقبل فقوله في حق غيره لا يقبل من باب أولى. وأما النساء فإذا كن من أهل القتيل لم يستحلفن، وهذا ما يراه ربيعة، والثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي، والحنابلة. ويرى مالك أن النساء تستحلف في قسامة القتل الخطأ دون القتل العمد، ويرى الشافعي أن يحلف كل وارث بالغ، سواء كان رجلا أو امرأة؛ لأنها يمين في دعوى، فتشرع في حق النساء كسائر الأيمان. الاستدلال لعدم استحلاف النساء: استدل لهذا الرأي بما يأتي: أولا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم". ثانيا: الأيمان هنا حجة يثبت بها قتل العمد، فلا يصح سماعها من النساء، قياسا على الشهادة منهن في القتل1. إن كان في الأولياء صبيان ورجال: إن كان في الأولياء صبيان ورجال بالغون، أو كان فيهم حاضرون وغائبون، فلا تثبت القسامة حتى يبلغ الصبي في قول لبعض فقهاء الحنابلة؛ لأن الحق لا يثبت إلا ببينته الكاملة، والبينة هنا أيمان الأولياء كلهم، والأيمان لا تدخلها النيابة. ويرى بعض الذين قالوا إن القسامة يستحق بها القصاص في القتل العمد، أن القتل إذا كان عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير، ولا يقسم الحاضر حتى يقدم الغائب؛ لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئًا في الحال. وأما إذا كان القتل موجبا للمال، كالقتل الخطأ، وشبه العمد2، حاضر المكلف أن يحلف ويستحق قسطه من الدية. وهذا ما يراه بعض فقهاء الحنابلة، وهو أيضًا مذهب الشافعي، مع ملاحظة أن الشافعي من العلماء القائلين بأن القسامة يستحق بها الدية فقط، كما سبق أن بينا ذلك عند كلامنا عما يجب بالقسامة3   1 المصدر السابق، ج8، ص80. 2 القتل شبه العمد هو الضرب بما لا يقتل غالبا كالعصا الصغيرة، ونحوها. 3 المغني، ج8، ص80، 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 متى تجب القسامة ؟ بين العلماء أن القسامة لا تجب بمجرد الدعوى من أولياء الدم، بل لا بد من أن تقترن بها شبهة يغلب الظن الحكم بها، وقد اختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة، ولها سبع صور: الأولى: أن يقول المقتول في حياته بعد إصابته: دمي عند فلان، وهو قتلني أو ضربني. فهذا يوجب القسامة عند مالك، والليث بن سعد، ولا يوجبها عند غيرهما من سائر العلماء، فلم ير أحد غير مالك والليث في هذا قسامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 قال أصحاب مالك محتجين لهذا الرأي إنه لو شرطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى هذا إلى إبطال الدماء غالبا، وقالوا: ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق ويتجنب الكذب والمعاصي، ويتزود بالبر والتقوى، فوجب قبول قوله. الثانية: اللوث1 من غير بينة على معاينة القتل. وبهذا قال مالك، والليث بن سعد، والشافعي، ومن اللوث أن لا يوجد إلا شاهد واحد عدل، وكذلك شهادة جماعة لا تتحقق فيهم صفة العدالة. الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح، فعاش المجروح بعده أياما، ثم مات قبل أن يفيق منه، قال مالك، والليث: هو لوث، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا قسامة هنا، بل يجب القصاص بشهادة العدلين.   1 اللوث بفتح اللام وسكون الواو، وقد فسره الحنفية بأنه العداوة، وفسره الشافعية بأنه قرينة حال توقع في القلب صدق المدعي بأن يغلب على الظن صدقه، بأ يكون هناك علامة القتل على واحد معين، كوجود بعض الدم على جسمه، أو ملابسه، أو ظاهر يشهد للمدعي من عداوة ظاهرة، أو وجد قتيل تفرق عنه جمع، كأن ازدحموا على بئر، أو على باب الكعبة، أو ازدحموا لرؤية لاعب يؤدي ألعابا سحرية في ميدان عام، أو تظاهرات في الشوارع بالأعداد الكبيرة، ثم تفرقوا عن قتيل، ولا يشترط هنا كونهم أعداء، أو شهادة رجل واحد عدل، فهذا أيضا لوث، أو شهادة جماعة غير عدول أن أهل هذا الموضع قتلوه. ومعنى اللوث عند مالك كمعناه عند الشافعية. ويرى أحمد بن حنبل في رواية عنه أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كما كان بين الأنصار ويهود خيبر، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وما بين البغاة وأهل العدل، وما بين الشرطة واللصوص، وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله. وفي رواية ثانية عن أحمد أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي. مجمع الأنهر، ج2، ص678، والمغني، ج8، ص68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الرابعة: وجود المتهم عند المقتول أو قريبا منه، أو يكون آتيا من جهته ومعه آلة القتل، وعليه أثره من لطخ دم وغيره، وليس هناك سبع ولا غيره مما يمكن أن يكون السب في قتله، أو تفرق جماعة عن قتيل، فهذا لوث موجب للقسامة عند مالك والشافعي. الخامسة: أن تقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل ففيه القسامة عند مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه. وتوجد رواية أخرى عن مالك بأنه لا قسامة، بل الواجب فيه الدية على الطائفة الأخرى، إن كان القتيل من إحدى الطائفتين، أما إن كان من غيرهما فيجب على الطائفتين ديته. السادسة: أن يوجد الميت في زحمة الناس، قال الشافعي: تثبت فيه القسامة وتجب بها الدية، وقال مالك: هو هدر، وقال الثوري، وإسحاق بن راهويه: تجب ديته في بيت المال "الخزانة العامة للدولة". السابعة: أن يوجد قتيل في محلة قوم وقبيلتهم، أو مسجدهم، فقال مالك، والليث، والشافعي، وأحمد، وداود، وغيرهم: لا يثبت بمجرد هذا قسامة، بل القتل هدر؛ لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة طائفة لينسب إليهم قتله، قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه، ولم يخالطهم غيرهم، فيكون كالقصة التي جرت بخيبر، فحكم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقسامة لورثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 القتيل، لما كان بين الأنصار واليهود من العداوة، ولم يكن هناك سواهم، وتوجد رواية أخرى عن أحمد بمثل قول الشافعي. وقال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السابقة إلا في هذه الصورة؛ لأنها عندهم هي الصورة التي حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها بالقسامة1. أبو حنيفة يشترط وجود أثر بالقتيل: اشترط أبو حنيفة وصاحباه، والثوري وجود أثر بالقتيل حتى يتحقق اللوث. ويرى مالك، والشافعي، والحنابلة وجوب القسامة بنفس وجود القتيل في محلة قوم دون اشتراط الأثر الذي اشترطه أبو حنيفة ومن معه، وهذا الرأي مروي عن عمر وابن مسعود، وقال به الزهري وجماعة من التابعين، وهو أيضا ما يراه ابن حزم2. وبعد، فإن أحكام القسامة -كما يقول الشوكاني- مضطربة غاية الاضطراب, والأدلة فيها واردة على أنحاء مختلفة، ومذاهب العلماء في تفاصيلها متنوعة إلى أنواع ومتشعبة إلى شعب3.   1 صحيح مسلم بشرح النووي، ج11، ص144. 2 بداية المجتهد، ج2، ص469، والمغني، ج8، ص81. 3 نيل الأوطار، ج7، ص190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الوسيلة السابعة من وسائل الإثبات: القافة . معنى القافة: القافلة جمع قائف، مثل الباعة جمع بائع، والقائف في اللغة: متتبع الآثار، وفي الشرع: من يلحق النسب بغيره عند الاشتباه، بما خصه الله تبارك وتعالى به من علم ذلك. فالقائف نستعين به بوصفه وسيلة من وسائل إثبات النسب، فكما يثبت النسب بالإقرار، وبالشهادة، يثبت أيضًا بقول القائف، فإذا وجد شك في بنوة إنسان لإنسان فإنه من المشروع أن يؤخذ برأي بالقائف، وهو الشخص الذي أعطاه الله القدرة على أن يعرف وجوه الشبه بين الابن وأبيه، فمن ألحقه به ألحقناه به، ومن البديهي أن لا نثق في قدرة شخص على هذا إلا بعد اختياره مرات عديدة حتى نتأكد من صلاحيته للقيام بهذه المهمة، وكانت العرب تحكم بالقيافة، وتفخر بها، وتعدها من أشرف علومها، فأقر الإسلام هذه الوسيلة في إثبات النسب. الدليل على مشروعية القضاء بالقافة: يدل على مشروعية إثبات النسب بالقافة ما رواه البخاري، ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دخل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم- مسرورا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 تبرق أسارير وجهه1، فقال: "ألم ترى أن مجززا المدلجي 2 دخل علي فرأى أسامة وزيدا عليهما قطيفة، قد غطيا بها رءوسهما، وقد بدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". وكان المنافقون أيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطعنون في نسب أسامة بن زيد بن حارثة؛ لأنه كان طويلا، أسود، أقنى الأنف3، وكان زيد بن حارثة قصيرا بين السواد والبياض، أخنس الأنف4, وكان طعن المنافقين في نسب أسامة مغيظة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب زيدا وابنه، ولا غرو في ذلك، فقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متبنيا زيدا قبل أن يحرم الله تبارك وتعالى التبني في شريعة الإسلام5. وأسامة هو ابن أم أيمن، وكانت وصيفة لعبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم، وحاضنته عليه الصلاة   1 الأسارير هي الخطوط التي في الجبهة، والواحد منها سر، وسرر، وجمعها أسرار وأسرة، وجمع الجمع أسارير، ومعنى تبرق أسارير وجهه أي: تضيء وتستنير من الفرح والسرور، سبل السلام، ج4، ص136. 2 كان مجزز قائفا، والمدلجي أي: من بني مدلج. 3 القناء -بفتح القاف: احديداب في الأنف، يقال: رجل أقنى الأنف وامرأة قنواء. 4 يقال: خنس الأنف -خنسا- بوزن تعب تعبا -أي: انخفضت قصبته، فالرجل أخنس، والمرأة خنساء- المصباح. 5 كان التبني شائعا في الجاهلية، ولم يحرم في بداية الإسلام فاستمر، ثم حرمه الله تبارك وتعالى بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} ، [سورة الأحزاب الآية رقم: 4] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 والسلام، وكانت حبشية سوداء1. فلما قال مجزز المدلجى ذلك -وهو لا يرى إلا أقدامهما فقط- سر ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ووجه الاستدلال بالحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقر أن يؤخذ بحكم القائف، وإقراره -صلى الله عليه وسلم- ذلك يدل على أن القافة حق، فإن التقرير أحد أنواع السنة2، وهي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله تبارك وتعالى، قال الشافعي -رضي الله عنه: "فلو لم يعتبر قوله لمنعه من المجازفة، وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يقر على خطأ، ولا يسر إلا بالحق". وحقيقة التقرير أن يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- فعلا من فاعل، أو يسمع قولا من قائل، أو يعلم به، وكان ذلك الفعل من الأفعال التي لا يعلم تقدم إنكاره لها، كمضي كافر إلى كنيسة، ولم ينكره. والرسول -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر عمل القائف، بل إن استبشاره به أوضح في التقرير، فإنه استبشر بكلام مجزز في إثبات نسب أسامة إلى زيد، فدل ذلك على تقرير كون القيافة طريقا إلى معرفة الأنساب3.   1 ثبت في الصحيح أن أم أيمن كانت حبشية، وصيفة لعبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم، ويقال: كانت من سبي الحبشة الذين قدموا زمن حادثة الفيل، فصارت لعبد المطلب، فوهبها لعبد الله والد النبي -صلى الله عليه وسلم، وتزوجت قبل زيد عبيدا الحبشي فولدت له أيمن، فكنيت به واشتهرت بكنيتها، واسمها بركة، سبل السلام، ج4، ص136، 137. 2 السنة أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته. 3 سبل السلام، ج4، ص137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ونقل عن بعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم اعتبروا عمل القائف أيضًا، فقد روى مالك عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب كان يليط1 أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام، فأتى رجلان إلى عمر -رضي الله عنه- كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفا، فنظر إليه القائف، فقال: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، ثم دعا المرأة، فقال: أخبريني خبرك، فقالت: كان هذا -لأحد الرجلين- يأتيها في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن أنه قد استمر بها حمل، ثم ينصرف عنها، فأهريقت عليه دما، ثم خلف عليها هذا -تعني الرجل الآخر- فلا أدري من أيهما هو؟ فكبر القائف، فقال عمر للغلام: فإلى أيهما شئت فانتسب، فقضاء عمر بمحضر الصحابة بالقيافة من غير إنكار من أحد يكون كالإجماع تقوى به أدلة القيافة، قال العلماء: والعمل بالقيافة مروي عن ابن عباس، وأنس بن مالك، ولا مخالف لهما من الصحابة2. روى الشافعي أن أنسا شك في مولود له فدعا له قائفا. هذا، وقد ذهب إلى أن القائف حجة في إثبات النسب مالك، والشافعي، وأحمد، وخالف أبو حنيفة وأصحابه، والهادوية إحدى فرق الزيدية، وقالوا: لا اعتبار بقول القائف، لكن هؤلاء محجوجون بما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبعض صحابته -رضي الله عنهم3.   1 يليط مأخوذ من ألاطه يليطه إذا ألصق به. 2 سبل السلام، ج4، ص137. 3 مغني المحتاج، ج4، ص488. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 حجة المانعين لثبوت النسب بالقافة: احتج القائلون بأن القافة ليست وسيلة من وسائل إثبات النسب بعدة أمور، وستقتصر على ذكر بعضها، اختصارا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه متى ثبت النص لا يقبل غيره، قال العلماء: لا يقبل التعليل في مقابلة النص1، وإليك بعض ما استدل به المانعون لثبوت النسب بالقافة: أولا: العمل بالقافة تعويل على مجرد الشبه، والشبه قد يقع بين الأجانب الذين لا تربطهم صلة القرابة، وقد ينتفي الشبه بين الأقارب. مناقشة هذا الاستدلال: أجاب المخالفون عن هذا الاستدلال بأن قولكم أن القائف يعتمد الشبه هذا حق، فالشبه يكون بين الولد وأبويه، وأصول الشرع وقواعده والقياس الصحيح تقتضي الشبه في لحوق النسب، والشارع متشوف إلى اتصال الأنساب وعدم انقطاعها، ولهذا اكتفى في ثبوتها بأدنى الأسباب، من شهادة المرأة الواحدة على الولادة، والدعوى المجردة مع الإمكان، وظاهر الفراش، فلا يستبعد أن يكون الشبه الخالي عن سبب مقاوم له كافيا في ثبوته. فإن قيل: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألغى الشبه في لحوق النسب، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رجلا قال له عليه الصلاة السلام: إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال: "هل لك من إبل"؟ , قال: نعم، قال: "فما ألوانها"؟ , قال: حمر، قال: "فهل فيها من أورق"؟ 2، قال: نعم، إن فيها أورق، قال: "فأنى لها   1 فتح القدير، ج7، ص375. 2 الجمل الأورق الذي يكون لونه كلون الرماد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 ذلك"؟ , قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: "وهذا عسى أن يكون نزعه عرق". فالجواب: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يعتبر الشبه ههنا لوجود الفراش؛ لأنه توجد زوجية هنا، والفراش أقوى من الشبه، بل في الحديث ما يدل على اعتبار الشبه، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أحال على نوع آخر من الشبه، وهو شبه الأصول الأول، وهذا الشبه أولى؛ لأنه تقوى بالفراش. وأما قولهم بأن الشبه قد يقع بين الأجانب، وقد ينتفي بين الأقارب، فالجواب عليه بالتسليم بهذا، لكن الظاهر الأكثر وقوعا خلاف ذلك، وهو الذي أجرى الله تبارك وتعالى العادة به، وجواز التخلف عن الدليل والعلامة الظاهرة في النادر لا يخرجه عن أن يكون دليلا عند عدم معارضة ما يقاومه. ألا ترى أن الفراش دليل على النسب والولادة، وأن فلانا هو ابن فلان، ويجوز -بل يقع كثيرا- تخلف دلالته، وتخليق الولد من غير ماء صاحب الفراش، وهو الزوج، ولا يبطل ذلك كون الفراش دليلا. وكذلك أمارات الخرص1، والقسمة، والتقويم وغيرها، قد تتخلف عنها أحكامها ومدلولاتها، ولا يمنع ذلك اعتبارها، وكذلك شهادة الشاهدين.   1 يعمل بالخرص في الزكاة، فإذا بدا صلاح ثمار النخل والكرم -العنب- ينبغي للحاكم أن يرسل ساعيه ليخرصها، أي: يقدر كمية الثمار بحسب اجتهاده، وغالب ظنه، حتى يعرف ما يجب فيها من الزكاة بعد أن ينظر في الرطب الموجود على النخل والعنب الموجود على الشجر، ويقدر باجتهاده ما يجيء من ذلك التمر والزبيب، المغني، ج2، ص706. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 وغيرهما، وأمثال ذلك كثير1. ثانيا: لو أثر الشبه والقافة في نتاج الإنسان لأثر أيضًا في نتاج الحيوان. مناقشة هذا الاستدلال: أجيب عن هذا بعدة وجوه: الوجه الأول: منع الملازمة، إذ لم يذكروا عليها دليلا سوى مجرد الدعوى، فأين التلازم شرعا وعقلا بين الناس. الوجه الثاني: أن الشارع يتشوف إلى ثبوت الأنساب مهما أمكن، ولا يحكم بانقطاع النسب إلا حيث يتعذر إثباته، ولهذا ثبت بالفراش، وبالدعوى المجردة وبالأسباب التي بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان. الوجه الثالث: أن سبب النسب هو الاتصال الجنسي، وهو إنما يقع غالبا في غاية من التستر والتكتم عن العيون وعن اطلاع القريب والبعيد عليه، فلو كلف بأن يأتي بالبينة على سبب النسب لأدى ذلك إلى ضياع أنساب بني آدم، وفسدت أحكام الصلات التي بينهم، ولهذا وجدنا أن النسب يثبت بأيسر شيء، من فراش، ودعوى، وشبه، حتى إن أبا حنيفة، أثبته بمجرد العقد، مع القطع بعدم وصول أحد الزوجين إلى الآخر وخروجه منهما، احتياطا للنسب، ومن المعلوم أن الشبه أولى وأقوى من ذلك بكثير. الوجه الرابع: أن الله تبارك وتعالى جعل بين أشخاص الآدميين من الفروق في صورهم, وأصواتهم، وغير ذلك ما يتميز به بعضهم من بعض، ولا يحصل   1 الطرق الحكمية لابن القيم، ص252، وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الاشتباه بينهم بحيث يتساوى الشخصان من كل وجه إلا في بعض الحالات النادرة غاية الندرة، مع أنه أيضًا في هذه الحالات النادرة جدا لا بد من الفرق، وهذا القدر لا يوجد مثله بين أشخاص الحيوان، بل التشابه فيه أكثر، والتماثل أغلب، فلا يكاد الحس يميز بين نتاج حيوان ونتاج حيوان غيره برد كل منهما إلى أمه وأبيه، وإن كان قد يقع ذلك, لكن وقوعه قليل بالنسبة إلى أشخاص الآدميين، فإلحاق أحدهما بالآخر ممتنع. وبعد، فقد كان ما سبق بعضا مما استدل به المانعون للقافة ودورها في إثبات النسب، وما أجيب به من أصحاب الرأي القائل بأنها وسيلة من وسائل إثباته، وواضح صحة رأي الجمهور وبطلان رأي مخالفيهم؛ لأنه إذا كانت السنة قد دلت على ثبوت النسب بهذا الطريق، فلا مجال للرأي، وإنما يكون العمل بما ثبت بالسنة، وعلى هذا فلا اعتبار بما استند إليه المانعون للقافة في النسب. شروط القائف: اشترط العلماء عدة شروط في القائف، حتى تطمئن النفس إلى ما يحكم به، وهذه الشروط هي: أولا: الإسلام، فلا يقبل قول الكافر في هذا الأمر. ثانيا: العدالة، فلا يقبل قول الفاسق؛ لأن القائف حاكم، أو قاسم. ثالثا: أن يكون بصيرا، فلا اعتبار بقول الأعمى، وهذا شرط بدهي، إذ لا يعقل أن يحكم الأعمى بأن هذا ابن هذا بناء على الشبه الموجود بينهما. رابعا: أن يكون ناطقا، فلا اعتبار بإشارة الأخرس حتى لو كانت إشارته مفهومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 خامسا: انتفاء العداوة عن الذي ينفيه عنه، وانتفاء الولاء عمن يلحقه به. سادسا: أن يكون مجربا -بفتح الراء المشددة- في معرفة النسب، أي: أن يكون قد ثبت من التجارب المتعددة صدقه فيما يقول، ويمكن أن يكون ذلك باختياره في قرابات ثابتة بين ابن وأبيه، وابن وأمه، وأخ وأخيه، كابن يعرض على القائف مع رجال ليس فيهم أبوه عدة مرات, ثم يعرض عليه مع رجال فيهم أبوه, فإن عرفه ثبتت الثقة بقوله, وهكذا في الابن مع أمه بأن يعرض على القائف في نسوة ليس فيهن أمه عدة مرات, ثم يعرض عليه في نسوة فيهن أمه، وكذلك الأمر بالنسبة للأخ مع أخيه، حتى نطمئن إلى أن أحكامه صحيحة، فكما لا يولى الرجل منصب القضاء إلا بعد أن نعرف علمه بالأحكام، فكذلك لا يؤخذ بقول شخص في إثبات النسب إلا إذا ثبت علمه -بطريقة الاختبار- في معرفة النسب، فلا بد أن يغلب على ظننا أن قول هذا الشخص الذي يدعي العلم بالقيافة عن خبرة بمعرفة الأنساب، وليس عن مجرد صدفة واتفاق. سابعا: أن يكون حرا على الراجح من رأيين لفقهاء الشافعية، قياسا على القاضي، والرأي الثاني لا يشترط الحرية في القائف، قياسا على المفتى، فإن الإفتاء كما يجوز من الحر يجوز أيضًا ممن به رق، وهذا الرأي الأخير هو الأرجح. ثامنا: اشتراط فقهاء الشافعية أيضًا -على الرأي الراجح عندهم- أن يكون ذكرا قياسا على القاضي أيضًا, والرأي الثاني عندهم أنه لا يشترط الذكورة في القائف، قياسا على المفتى، فالإفتاء كما يجوز من الرجل يجوز من المرأة فكذلك القيافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 والرأي الأخير -بحسب ظني- هو الأولى بالقبول؛ لأن المدار في كون الشخص يصلح للنسب أو لا يصلح، هو قدرته على معرفة أن هذا ابن لهذا، أو أن هذا أخوه، وهكذا، فإذا تحققنا من قدرته بالاختبار مرات عديدة، فلا معنى هنا لاشتراط الذكورة، فإذا تحققنا من قدرة امرأة على هذا الأمر فقد تحقق المقصود. تاسعا: اشترط بعض فقهاء الشافعية التعدد في القائف، فلا يكفي على هذا الرأي قبول الواحد، قياسا على القاضي، والقاسم. وأرى أن الراجح عند فقهاء الشافعية هو المستفاد أيضا من قصة القائف مع زيد بن حارثة وأسامة ابنه، فالقائف كان واحدا، وهو مجزز المدلجي، وأقر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك، وإذا ثبت النص فلا اعتبار بما يخالفه. عاشرا: اشترط البعض أن يكون القائف مدلجيا أي: من بني مدلج، لكن الراجح عدم اشتراط بذلك. وقد استند الرأي القائل باشتراط كونه من بني مدلج إلى أن الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كانوا يرجعون إلى بني مدلج في ذلك دون غيرهم، وقد يخص الله عز وجل جماعة بنوع من المناصب والفضائل. وأما الرأي الراجح فيعلل له بأن القيافة نوع من العلم، ولا يختص العلم بقوم دون قوم، فمن تعلم هذا العلم عملنا بقوله، وفي سنن البيهقي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان قائفا يقوف، مع أن عمر ليس مدلجيا. مما سبق يتبين لنا أن النسب يثبت بقول القائف، فإذا حدث أن شخصين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 تداعيا ولدا مجهول النسب، صغيرا، سواء أكان لقيطا أم غير لقيط، عرضناه على القائف، فمن ألحقه به لحقه. وكذلك لو اشترك رجلان في اتصال جنسي بامرأة، فولدت ولدا من الممكن أن يكون من كل منهما، وادعى كل منهما، أو أحدهما أنه ولده ولم يتخلل بين الجماعين حدوث حيضة، فإنه يعرض على القائف، حتى لو كان الولد بالغا عاقلا, فلا يشترط أن يكون صغيرا كما هو الشرط في الصورة الأولى. واشتراك رجلين في الاتصال الجنسي بامرأة له عدة صور: من هذه الصور ما لو حدث الاتصال الجنسي بشبهة، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بوطء الشبهة، كأن وجدها كل منهما في فراشه فظنها زوجته، ومنها ما لو اتصل الرجل جنسيا بزوجته ثم طلقها، فاتصل بها آخر جنسيا بشبهة، أو تزوجها زواجا فاسدا لم يستوف أركان عقد الزواج وشروط صحته، ثم اتصل جنسيا بها بعد هذا الزواج الفاسد. هذا وقد بين العلماء أنه لو تخلل بين الاتصال الجنسي من الرجلين حيضة، فالولد يحكم به للرجل الثاني؛ لأن الحيض أمارة ظاهرة من حصول براءة الرحم عن الأول فينقطع تعلقه عنه، وإذا انقطع عن الأول تعين للثاني. إذا أشكل الأمر على القائف: قال بعض فقهاء الشافعية إنه لو تحير القائف فلم يستطع إلحاقه بأحدهما، وقف الأمر حتى يبلغ الطفل موضوع القضية ويعقل، ويختار الانتساب إلى أحد الرجلين بحسب الميل القلبي الذي يجده، ويحبسه القاضي ليختار إن امتنع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 الانتساب، إلا إذا لم يجد ميلا إلى أحدهما فيتوقف الأمر1. ويرى ابن القيم أنه إذا تعذرت القافة أو أشكل الأمر عليها كان المصير إلى القرعة أولى من ضياع نسب الولد، وتركه هملا لا نسب له، وعلل لهذا بأن القرعة هنا أقرب الطرق إلى إثبات النسب، فإنها طريق شرعي، وقد سدت الطرق كلها ما عداها. وإذا كانت صالحة لتعيين الأملاك المطلقة، وتعيين الرقيق من الحر، وتعيين الزوجة من الأجنبية2. فكيف لا تصلح لتعيين صاحب النسب من غيره؟ ومن المعلوم أن طرق حفظ الأنساب أوسع من طرق حفظ الأموال، والشارع إلى ذلك أعظم تشوفا، فالقرعة شرعت لإخراج المستحق تارة، ولتعيينه تارة، وهنا أحد المتداعيين هو أبوه حقيقة فعملت القرعة في تعيينه، كما عملت في تعيين الزوجة عند اشتباهها بالأجنبية3.   1 مغني المحتاج، ج4، ص488-490. 2 إذا كان لرجل أكثر من زوجة فطلق واحدة، ولم تكن له نية لامرأة بعينها، فيرى أحمد -كما نقل عنه- أنه يعمل بالقرعة، فالتي أصابتها القرعة هي المطلقة، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يعمل بالقرعة هنا، ولكن إذا كان الطلاق بواحدة لا بعينها ولا نواها فإنه يختار صرف الطلاق إلى أي واحدة شاء, وإن كان الطلاق لواحدة بعينها ونسيها فإنه يتوقف فيهما حتى يتذكر ولا يقرع بينهما ولا يختار صرف الطلاق إلى واحدة منهما، وقال مالك: يقع الطلاق على الجميع. الطرق الحكمية، ص345. 3 الطرق الحكمية لابن القيم، ص275. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الوسيلة الثامنة من وسائل الإثبات: القرينة القاطعة عند الجمهور مدخل ... الوسيلة الثامنة من وسائل الإثبات: القرينة القاطعة عند الجمهور تمهيد: إذا وجدنا شخصا سكران، أو وجدناه يتقايأ الخمر فهذه قرينة تفيد الظن الغالب الذي يقرب من اليقين أنه شرب الخمر متعمدا، وإذا وجدت امرأة حامل ليس لها زوج فهذه قرينة تفيد الظن الغالب الذي يقرب من اليقين كذلك أن هذه المرأة زانية، وإذا رأينا إنسانا ممسكا بسكين ملوثة بالدماء وقد خرج من دار مضطربا ممتقع اللون خائفا، فدخلنا الدار فور خروجه فوجدنا قتيلا مضرجا في دمائه, ولا يوجد في الدار غير هذا الرجل الذي خرج، فهذه قرينة تفيد الظن الغالب أيضًا الذي يقرب من اليقين أن هذا الرجل الذي خرج بهذه الحال هو الذي قتل القتيل، وإذا سكتت البكر عند أخذ إذنها في الزواج، فهذا يعد قرينة تفيد رضاها بالزواج، وإذا قبض الموهوب له الهبة مع حضور المالك وسكوته فإن هذا يعد قرينة تفيد الإذن بالقبض، وإذا وجدنا بقعة دم من فصيلة دم القتيل على ملابس المتهم، أو وجدت بصمته على السلاح المستعمل في الجريمة فهذا يعد قرينة تفيد الظن الغالب الذي يقرب من اليقين أن المتهم هو فاعل الجريمة، هذا وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم في أية قضية, إلا إذا وجدت الحجة التي يثبت بها الحق، واتفقوا أيضًا على أن الإقرار، والبينة، واليمين، والنكول، حجج شرعية يعتمد عليها القاضي في قضائه ويعول عليها في حكمه1، ولكنهم مختلفون في القرائن القاطعة هل تصلح وسيلة من وسائل الإثبات أم لا، والملاحظ أن فقهاءنا القدامى -رضي الله عنهم- قد تعرضوا في كتبهم لوسائل الإثبات، وأفردوا لكل منها بحثا مستقلا، كالشهادة، والإقرار، والنكول عن اليمين، وغيرها، لكنهم لم يذكروا القرائن صراحة في طرق الإثبات، ولم يخصوها ببحث مستقل، إلا أنهم أخذوا بها في الجملة في مسائل كثيرة من الفقه الإسلامي، ومنها مسائل متفق عليها بين الأئمة الأربعة، ويمكن القول بأن جمهور العلماء يرون أن القرينة القاطعة إحدى وسائل الإثبات في الجملة وإن كان قد حدث خلاف بينهم في بعض الجزئيات، وأما الذين لا يرون أنها وسيلة من وسائل الإثبات فهم عدد قليل من العلماء1. وإليك أولا تعريف القرينة ، وأنواعها، ثم تتبع ذلك بذكر آراء العلماء فيها، وأدلتهم، وشروط العمل بها عند القائلين بها، ومجال القضاء بها.   1 مقارنة المذاهب في الفقه للشيخين محمود شلتوت، ومحمد علي السايس، ص137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 تعريف القرينة : القرينة في اللغة لها معان متعددة، فمن معانيها النفس؛ وتسمى بذلك لأنها تقارن الإنسان وتصاحبه، ومنها الزوجة، فيقال: فلانة قرينة فلان، بمعنى زوجته؛ وهي كذلك لأنها تقارن الزوج وتلازمه طوال مدة الزوجية، وأما في اصطلاح أرباب العربية فهي: أمر يشير إلى المقصود، أو هي ما يدل على الشيء من غير الاستعمال فيه. وهي إما حالية أو مقالية، وبعبارة أخرى إما معنوية أو لفظية، ومثال الحالية ما لو قلت لشخص يتجهز للسفر: في كنف2 الله ورعايته، فإن العبارة فيها حذف يدل عليه حال المسافر من تجهزه للسفر، وتأهبه له وهو القرينة الحالية، والتقدير: سر في كنف الله ورعايته، ومثال المقابلة، ما لو قلت: رأيت أسدا يخطب في الناس يحثهم على الجهاد، فالمراد من هذا التعبير الرجل الشجاع، والدليل ذكر الخطابة التي لا يمكن أن تكون من الأسد الحقيقي، وهذا قرينة مقالية3.   1 محاضرات في علم القاضي والقرائن وغيرهما للدكتور عبد العال عطوة، ص29-31، مكتوبة بالآلة الكاتبة. 2 الكنف -بفتح الكاف والنون- معناه في اللغة: الجانب. والجمع أكناف، مثل سبب وأسباب. المصباح المنير. 3 حجية القرائن في القانون والشرعية للشيخ فتح الله فتح الله زيد، رسالة للأستاذية مقدمة إلى كلية الشريعة بالأزهر سنة1355، مكتوبة بالخط الرقعة، ص70، وهي بمكتبة كلية الشريعة والقانون بالقاهرة، برقم42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 هذا ولم أجد كما لم يجد من سبقني في الكلام عن القرينة، من العلماء الأفاضل واطلعت على كتاباتهم فيها، تعريفا لفقهائنا القدامى للقرينة، على الرغم من أنهم ذكروا صورا فقهية كان الحكم فيها مبنيا على القرينة. ويعزو ذلك أحد فقهائنا المحدثين1، إلى وضوح معناها وعدم الخفاء فيها، ولعلهم -كما يبين هذا الفقيه الفاضل- اكتفوا بعطف التفسير والمرادف عن بيانها، إذ كثيرا ما يتبعون القرينة بكلمتي الأمارة والعلامة، وكأنهم بهذا يريدون أن يبينوا أن القرينة هي الإمارة والعلامة. وقد اجتهد الفقهاء المعاصرون في إيجاد تعريف للقرينة، وقد تنوعت تعريفاتهم لها، وإليك بعضا منها. عرفها الشيخ فتح الله زيد بأنها "الأمارة" التي نص عليه الشارع أو استنبطها أئمة الشريعة باجتهادهم2، أو استنتجها القاضي من الحادثة وظروفها وما يكتنفها من أحوال3. ويلاحظ على هذا التعريف أنه ورد فيه كلمة "الأمارة" والأمارة تدل على   1 الشيخ فتح الله فتح الله زيد في رسالته، "حجية القرائن"، ص8. 2 مثال الأمارة التي نص عليها الشارع سكوت البكر فإنه إذن في زواجها، والفراش فإنه يثبت النسب من صاحبه، ومثال الأمارة التي استنبطها العلماء باجتهادهم إهداء المرأة ليلة الزفاف إلى الزوج الذي لم يرها قبل ذلك فإنه يحل له الدخول بها ولو لم يشهد شاهدان على أنها زوجته. 3 حجية القرائن، ص8، للشيخ فتح الله زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الشيء على سبيل الظن، فلا تشمل ما تدل عليه على سبيل الشك أو الوهم1، مع أن القرينة قد تكون دلالتها على سبيل الشك، أو الوهم. ومثال القرينة التي تفيد شكا وجود رجل وامرأة أجنبية عنه في مكان مظلم ليلا، خال بعيد عن الناس، ولم ير أحد ما يدل على أنهما ارتكبا جريمة الزنا، ومثال القرينة التي تفيد وهما، ما لو سافر رجل مع من يحبها على طائرة، فمن الوهم احتمال ارتكابهما جريمة الزنا أثناء طيران الطائرة، حتى لو كان السفر ليلا ولمسافة طويلة جدا، ونوم جميع الركاب. فالقرينة -إذن- قد تكون دلالتها في بعض الصور على سبيل الشك أو الوهم، والتعريف المذكور للقرينة قصر معناها على "الأمارة" والأمارة تدل على الشيء على سبيل الظن: لا على سبيل الشك أو الوهم، مع أن القرينة قد تدل على واحد من الأمور الثلاثة: الظن، والشك، والوهم، وعلى هذا فالتعريف غير جامع. والشرط في التعريف أن يكون جامعا مانعا، جامعا لكل أفراد المعرف، مانعا من دخول المعرف فيه، فإذا عرفنا الإنسان مثلا بأنه حيوان يتكلم العربية، فهذا تعريف غير جامع؛ لأن من أفراد الإنسان من لا يتكلم العربية ويتكلم الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما، ولهذا فمن التعاريف الصحيحة أن نقول: الإنسان حيوان   1 الأمارة في اللغة العلامة، وزنا ومعنى، وأما في الاصطلاح، فهي التي يلزم من العلم بها الظن بوجود المدلول، كالسحاب بالنسبة إلى المطر، فإنه يلزم من العلم بالسحاب الظن بوجود المطر، وفرق العلماء بين الأمارة والعلامة، بأن العلامة هي ما لا ينفك عن الشيء، كوجود الألف واللام على الاسم، فمن علامات الاسم وجود الألف واللام، مثل: المدرسة، والمسجد، والقلم، وهكذا، والأمارة تنفك عن الشيء، كالسحاب بالنسبة للمطر، فقد يوجد السحاب ولا يوجد المطر، بعكس الألف واللام فكلما وجدت الألف واللام وجد الاسم. المصباح المنير، للفيومي، والتعريفات للجرجاني، ص20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 ناطق، وإذا قلنا: الإنسان حيوان يأكل الخضروات فهذا تعريف غير مانع؛ لأنه يدخل في التعريف حيوانات أخرى غير الإنسان، فلا يكون التعريف مانعا. فالشرط في التعريف كما بينا أن يكون جامعا مانعا، والتعريف المذكور للقرينة لم يكن جامعا لكل أفرادها. ونفس هذه الملاحظة من الممكن أن توجه إلى ما جاء في المجلة العدلية خاصا بتعريف القرينة، ففي المادة 741 أن القرينة هي الأمارة البالغة حد اليقين. وعرفها الأستاذ مصطفى الزرقا والدكتور وهبة الزحيلي بأنها: "كل أمارة ظاهرة تقارن شيئًا خفيا فتدل عليه". ويلاحظ على هذا التعريف أن فيه دورا، والدور باطل، بيان الدور أنه من المعلوم أن التعريف يقصد به توضيح حقيقة المعرف، فالمعرف لا يفهم معناه إلا إذا فهم التعريف، فلو كان التعريف أيضًا لا يفهم إلا إذا فهم المعرف حصل الدور، وهذا ما حدث هنا، فإنه ذكر في تعريف القرينة كلمة "تقارن" وكلمة "تقارن" لا تفهم إلا إذا فهمنا كلمة "قرينة" فصار فهم التعريف متوقفا على فهم المعرف، ومعلوم أن فهم المعرف متوقف على فهم التعريف، فيحدث الدور، والدور باطل؛ لأنه يستلزم أن يكون الشيء سابقا لشيء آخر ولاحقا في نفس الوقت، وهذا تناقض. كما يلاحظ على هذا التعريف أيضا نفس الملاحظ التي لوحظت على تعريف الشيخ فتح الله زيد، والتعريف الذي جاء في المجلة العدلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وعرفها الدكتور عبد العال عطوة بأنها "ما تدل على أمر خفي مصاحب لها بواسطة نص، أو اجتهاد، أو فهم يفيضه الله تعالى على من يشاء من عباده" ويمكن أن يستخلص من هذا التعريف الأخير -وهو الذي نرتضيه- أن للقرينة ثلاثة أركان، وهي التي سنذكرها فيما يلي، لكن نحب قبل أن نذكر هذه الأركان أن نشير إلى أنه من المستحسن أن تزاد كلمة "من الفقهاء" بعد كلمة "أو اجتهاد". الأول: الأمر الظاهر "الدال". الثاني: الأمر الخفي، الذي دل عليه الأمر الظاهر، وهو المجهول في بادئ الأمر "المدلول". الثالث: الصلة الموجودة بين الأمر الظاهر وبين الأمر الخفي، التي يتوصل بها إلى معرفة الأمر الخفي. وتتضح هذه الصلة وتبين إذا توفرت قوة الذهن، والفطنة، واليقظة، وبما يفيضه الله تبارك وتعالى على عباده من المواهب العقلية، وهذا في غير القرائن التي نص الشرع عليها في القرآن أو السنة، أو استنبطها علماء الشريعة باجتهادهم1.   1 المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى الزرقا، ج2، ص918، والفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي، ج6، ص782، ومحاضرات في علم القاضي والقرائن للدكتور عبد العال عطوة، ص28، 29، ومن طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص72. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 أقسام القرينة من حيث دلالتها : اختلف الفقهاء المعاصرون في أقسام القرينة، فقسمها الدكتور عبد العال عطوة إلى قسمين: أحدهما: ما تكون دلالته قوية بحيث تصل إلى درجة اليقين. القسم الثاني: ما تكون دلالته ضعيفة بحيث تهبط إلى درجة الاحتمال البعيد الذي يعتبر في حكم العدم. مثال للقسم الأول: ومثل للقسم الأول بالمثال الذي ذكره ابن الغرس من علماء الحنفية في كتابه الفواكه البدرية1، وهو خروج إنسان من دار مضطربا خائفا، وملابسه ملوثة بالدماء، ويحمل سكينا كذلك ملوثة بالدماء، فدخل الناس الدار فور خروجه فوجدوا شخصا مذبوحا مضرجا بدمائه، ولم يجدوا في الدار غير هذا الذي خرج بهذه الهيئة، فهذه الأوصاف قرينة قوية تدل على أن هذا الذي خرج هو الذي قتل من بداخل الدار، واحتمال أن يكون قتل نفسه، أو أن شخصا آخر قتله وتسور الجدار وفر هاربا احتمال بعيد لا يلتفت إليه؛ لأنه احتمال غير ناشئ عن دليل. مثال للقسم الثاني: ومثل للقسم الثاني ببكاء الشاكي فإنه ليس دليلا على أن الباكي مظلوم، لاحتمال أن يكون البكاء مصطنعا. ومثاله أيضًا -عنده- وجود رجل وامرأة أجنبية عنه في مكان مظلم ليلا، ولم ير أحد من الشهود حدوث أمر موجب إقامة عقوبة الزنا عليهما، فإن هذا لا   1 المجاني الزهرية لمحمد صالح بن عبد الفتاح بن إبراهيم الجارم، على الفواكه البدرية لمحمد بن محمد بن خليل المعروف بابن الغرس، ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 يعد حجة لإقامة الحد عليهما، وإنما يستحقان التعزير1 على وجودهما معا بهذه الصورة، وقد روي عن ابن مسعود أنه قضى في رجل وجد مع امرأة في ملحفة، ولم يقم عليهما الدليل بأكثر من ذلك أن يجلد أربعين جلدة وعرفه للناس2، وثبت عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه عزر رجلا وجد معه امرأة بعد العتمة في ريبة بضربه دون المائة جلدة3. وقسمها الدكتور أنور دبور إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قرائن ذات دلالة قوية، ومثل لها بالمثال المذكور في القسم الأول عند الدكتور عبد العال عطوة. القسم الثاني: قرائن ذات دلالة ضعيفة، وهذا النوع ليس كالنوع الأول يستبعد معه احتمال غيره، وإنما يحتمل غيره احتمالا ليس ببعيد، ويختص بترجيح إحدى اليدين المتنازعين، كما في تنازع الزوجين على متاع البيت، فإنه يقضي للزوج بالأشياء التي تناسب الرجال، ويقضي للزوجة بالأشياء التي تناسبها. ففي مثل هذا يوجد احتمال غير بعيد أن تكون الأشياء المناسبة لأحد الطرفين المتنازعين قد آلت إلى الطرف الآخر بطريق الميراث، أو التجارة، أو الهبة، أو غير ذلك. القسم الثالث: القرائن ذات الدلالة الملغاة: كما لو تعارضت قرينتان   1 التعزير عقوبة غير مقدرة في الشرع تجب إما حقا لله أو حقا للإنسان. 2 كان عبد الله بن مسعود قاضيا على الكوفة بتولية عمر بن الخطاب. 3 محاضرات في علم القاضي, والقرائن, النكول عن اليمين, القيافة, لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 إحداهما أقوى من الأخرى، فحينئذ تكون القرينة المرجوحة منهما ملغاة فلا يلتفت إليها، وأمثلة هذا القسم كثيرة، منها تنازع رب الدار مع خياط يعمل في داره على ملكية مقص أو أداة من أدوات الخياطة، فيحكم بذلك للخياط، ولا يلتفت لوضع اليد هنا؛ لأنه معارض بقرينة أقوى، بخلاف ما لو تنازع الخياط مع رب الدار على ملكية ثوب موجود في الدار فإنه يحكم به لصاحب الدار، لعدم وجود قرينة أقوى من وضع اليد في هذه الحال1. ونرى أن القسم الثالث لا حاجة إليه في التقسيم، ومجال الكلام عنه عند الكلام عن شروط العمل بالقرينة فيذكر هناك أن من شروط العمل بالقرينة أن لا يعارضها قرينة أخرى. تقسيم الدكتور عبد السميع إمام: وقسم الدكتور عبد السميع إمام القرينة إلى أربعة أقسام: القسم الأول: ما يفيد اليقين، كشهود جماعة على موت شخص أو قتله، ثم جاء المشهود عليه حيا، فإن وجوده حيا دليل قاطع على كذب الشهود أو خطئهم يقينا. القسم الثاني: ما يفيد غالب الظن الذي يقرب من اليقين, كوجود امرأة حامل لا زوج لها، ولا سيد لها -إن كانت جارية- لأنه يجوز للسيد أن يطأ جاريته، ووجود شخص سكران أو يتقايأ الخمر، فإن هذه القرينة تفيد الظن الغالب الذي يقرب من اليقين بأن المرأة حملت سفاحا، وأن السكران شرب الخمر متعمدا.   1 القرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي، للدكتور أنور دبور، ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 القسم الثالث: ما يفيد مجرد الظن الذي وجد معه ما يقويه لكن يحتمل خلاف ما دلت عليه القرينة، ومثل لهذا القسم بوجود شخص ملابسه ملوثة بدماء القتيل، أو ممسكا بسكين وبجانبه الشخص القتيل، وفي هذا النوع يرى المالكية وجوب أن يطلب مع القرينة ما يقويها، ولهذا قالوا: إن مثل هذا يعتبر لوثا1 "علامة" يقسم معه أولياء القتيل, ويستحقون القصاص من المتهم بالقتل إن كان القتل عمدا، أو الدية إن كان القتل خطأ، وعلى هذا فإن تقوى هذا النوع حتى صار مفيدا لغلبة الظن, وجب على القاضي في رأي المالكية أن يقضي به في الحدود2 وغيرها إذا عجز المتهم عن إقامة الدليل المنافي له. القسم الرابع: ما يفيد مجرد الظن العادي ولم يوجد معه ما يقويه ولم يوجد أيضًا ما ينافيه إلا مجرد احتمالات قريبة الوقوع في العادة، كوجود شخص يمسك بكأس الخمر فارغة وبها أثر الخمر، أو وجود آخر يركب سيارة وقد وقف بجوار شخص قتيل أو مصاب بجروح، فهذا النوع يفيد ظنا بأن الممسك بكأس الخمر فارغة قد شربها، وأن الواقف بسيارته بجوار الجريح أو القتيل هو الذي جرحه أو قتله، ولكن يحتمل احتمالا ليس ببعيد أن ممسك كأس الخمر لم يشربها، وأن الواقف بسيارته يجوار الجريح أو القتيل لم يجرحه أو يقتله، ويرى الدكتور عبد السميع إمام أن مثل هذا النوع من القرائن لا يقضى به في غيرها، فلو ادعى شخص على آخر سرقة ماله ووجد المال المسروق في بيت المتهم، فلا يحكم عليه بحد السرقة إلا إذا قامت البينة "الشهود" على أنه سرق هذا المال، أو وجدت   1 سبق بيان معنى "اللوث" عند الكلام عن القسامة، ص428. 2 الحدود، وهي العقوبات المقدرة التي وجبت حقا لله عز وجل، كعقوبة الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وقطع الطريق، والقذف أي: رمي الغير بالزنا من غير بينة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 قرائن أخرى تقوي هذه القرينة، وأما المال المسروق الذي وجده عنده واتهم بسرقته فإنه يضمنه1. هذه هي اتجاهات الفقهاء المعاصرين الذين اطلعنا على كتاباتهم في تقسيم القرينة، ويمكن لنا أن نقسمها إلى أربعة أقسام: القسم الأول: أن تكون دلالتها قوية بحيث تفيد اليقين، وهو القسم الأول من تقسيم الدكتور عبد السميع إمام، ومثاله نفس المثال المذكور، وهذا النوع -كما قال الدكتور عبد السميع- لا يسوغ لأحد أن يرده، ولا يقضي به، فإنه أقوى من الشهادة والإقرار. ومثال هذا القسم أيضًا سلامة قميص يوسف عليه السلام فإنه قرينة قوية تفيد اليقين أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكله الذئب كما ادعى إخوته. هذا وقد كان رأيي أنه يمكن أيضا أن يمثل لهذا النوع من القرائن بما لو ثبت من تحليل دم الزوجين أن دمهما من فصيلة "A" وثبت من تحليل دم الطفل أن دمه من فصيلة "B" فإن هذا يعد قرينة قوية تفيد اليقين أن الطفل ليس ابنا لهذين الزوجين؛ وذلك لأنه -كما قال العلماء التجريبيون- تتأثر فصيلة دم الطفل بنوع فصيلة دم الأب والأم، وقالوا من المستحيل العادي إذا كانت فصيلة الدم من الزوجين "A" أن تكون فصيلة دم طفل من هذا الزواج "B" وإنما فصيلة الدم التي   1 منهاج الطالب، في المقارنة بين المذاهب، للدكتور عبد السميع إمام، ص246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 من المحتمل أن تكون لهذا الطفل هي "O" أو 1"A"، وكان من رأيي أنه بناء على هذا فيمكن أن يكون تحليل الدم وسيلة يقينية لنفي النسب، كما يرى ذلك بعض الباحثين المعاصرين2 لكن رأيي تغير في هذه المسألة؛ لأن نظام فصائل الدم الذي يؤكده علماء الوراثة الآن لم يجئ باستقراء وتتبع كامل لكل أفراد البشر في العصور المختلفة، وإنما هو نتيجة استقراء ناقص، ومن المحتمل أن تشذ عما قاله علماء الوراثة حالات متعددة، ولهذا أرى الآن أنه لو شك زوج في زوجته، بناء على أمارات قوية رسخت هذا الشك عنده ثم جاء ولدها بفصيلة دم يستحيل عندهم أن تكون فصيلة محتملة لهذا الولد من هذا الزواج، فإن هذا في رأيي الآن، قرينة لا تفيد اليقين، ولكنها تفيد غلبة الظن فقط، وإذا كان من الجائز للزوج الذي غلب   1 لتمام الفائدة ننقل هنا جدولا كتبه أحد علماء الوراثة: انظر: الوراثة والإنسان للدكتور محمد الربيعي، ص78، ص79 مطابع الرسالة بالكويت. 2 القرائن ودورها في الإثبات للدكتور أنور دبور، ص214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 على ظنه سوء في سلوك زوجته أن يقذفها بالزنا إذا رأى أمارة قوية, كما صرح بذلك بعض فقهائنا القدامى1، فإنه بناء على هذا، إذا جاءت فصيلة دم الولد مخالفة لما هو معروف علميا الآن من الفصائل المحتملة في هذا الزواج كان ذلك مبررا للزوج في جواز إقدامه على اتهام امرأته, التي يغلب على ظنه سوء سلوكها؛ لأمارة أخرى قوية مع هذه الأمارة، بجريمة الزنا ونفي الولد باعتبار أن تحليل الدم قرينة قوية تفيد غلبة الظن ولا تفيد اليقين كما كنت أرى قبل ذلك، مع ملاحظة أنه إذا لم ينف الزوج الولد فالقاعدة الشرعية أن الولد للفراش أي: ينسب للزوج، كما بين ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الشريف: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وكل هذا بناء على ما قرره علماء الوراثة والأطباء، فالفتوى مبنية على أن ما قالوه وقرروه حقيقة علمية لا تقبل النقض، فهم المسئولون عن تقرير هذه الحقيقة العلمية، والفقه الإسلامي يتفق مع الحقائق العلمية. لكن لا يكون تحليل الدم وسيلة لإثبات النسب، وهذا بناء على ما أكده الأطباء والمعمليون المعاصرون، فالفتوى تبنى على ما قرروه في ذلك، فهم المسئولون عن هذه النتيجة التي نحكيها عنهم، فإذا كان ما قرروه قد ثبت ثبوتا قطعيا لا يتخلف ولو مرة، فيكون الحكم كما بينا. القسم الثاني: أن تكون دلالة القرينة لا تفيد اليقين لكنها تفيد غالب الظن الذي يقرب من اليقين، ويمكن التمثيل لهذا القسم بظهور الحمل على امرأة ليست مزوجة ولا معتدة، ووجود شخص سكران أو يتقايأ الخمر، فإن مثل هذا -كما سبق تقريره- يفيد ظنا غالبا يقار اليقين أن المرأة حملت من سفاح وأن السكران   1 يرى الحنابلة وبعض المالكية أنه يجوز للرجل أن يلاعن امرأته, إذا رأى رجلا يعرف بالفجور يدخل إليها ويخرج من عندها. تبصرة الحكام ج2، ص118 والطرق الحكمية ص25 وبين بعض الحنفية أنه إذا كان للرجل جارية غير عفيفة تخرج وتدخل, ويعزل عنها سيدها, فجاءت بولد, وأكبر ظنه أنه ليس منه كان في سعة من نفيه. البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم ج3، ص214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 أو الذي يتقايأ الخمر قد شربها متعمدا. وأرى أيضًا أن المثال الذي ذكره الدكتور عبد العال عطوة للقرينة التي تكون دلالتها قوية بحيث تصل إلى درجة اليقين، وأعني به صورة الرجل الذي خرج من دار مضطربا، ملوثة ملابسه بالدماء يحمل سكينا ملوثة أيضا.. إلى آخره، أرى أن هذه الصورة تصلح أن تكون مثالا هنا للقرينة التي تفيد غالب الظن الذي يقرب من اليقين، وليس كما يرى الدكتور عبد العال عطوة وغيره أن دلالة القرينة هنا قوية تصل إلى درجة اليقين. فمن المحتمل أن يكون القتيل قد أراد قتل الذي خرج بهذه الهيئة فأخذ السكين وأصاب نفسه عند الاشتباك بين الاثنين بالقوة الزائدة، فأخذها الخارج وفر هاربا مذعورا من هول الحادث ولم يحس بحمله للسكين. وهذا الاحتمال أثاره صاحب تكملة ابن عابدين مع احتمالات أخر، رآها لا تشجع على القول بوجوب القصاص، على الخارج من الدار بهذه الصفة، قال صاحب تكملة ابن عابدين معقبا على هذه الصورة التي ذكرها ابن الغرس من الحنفية في كتابه الفواكه البدرية: "والحق أن هذا محل تأمل، ولا يظن أن في مثل ذلك يجب عليه القصاص، مع أن الإنسان قد يقتل نفسه، وقد يقتله آخر ويفر، وقد يكون أراد قتل الخارج فأخذ السكين وأصاب نفسه فأخذها الخارج، وفر منه وخرج مذعورا, وقد يكون اتفق دخوله فوجده مقتولا فخاف من ذلك وفر، وقد تكون السكين بيد الداخل فأراد قتل الخارج ولم يتخلص منه إلا بالقتل فصار دفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 الصائل1، فلينظر التحقيق في هذه المسألة" ا. هـ. كما يمكن أيضا التمثيل لهذا القسم بوجود بقعة من دم إنساني، من نفس فصيلة دم القتيل، على ملابس صديق له، كان يوجد معه في وقت مقارب لوقت ارتكاب الجريمة، أو وجود بصمة المتهم على السلاح المستعمل في جريمة القتل. ويرى بعض العلماء المعاصرين أن البصمة تفيد اليقين، فيعتمد عليها أكثر من الاعتماد على الشهود؛ لأن شهادة الشهود تفيد غلبة الظن بما شهدوا به، وأما البصمة فدلالتها يقينية لا تكذب2. ويمكن أن يقال إن الشهود يحكون ما حدث أمامهم، فغالب الظن -لأنهم عدول- أن ما يشهدون به حدث، أما البصمة فلا تفيد إلا مجرد وجود صاحبها في مكان البصمة، ولا تفيد يقينا بحدوث الواقعة محل التهمة من صاحب البصمة؛ لأن وجوده في مكان الجريمة لا يستلزم أن يكون هو الذي ارتكبها، فقد يكون حضر إلى هذا المكان لأمر آخر غير ارتكاب هذه الجريمة، وقد يكون وجوده في مكان الجريمة قبل وقوعها أو بعد وقوعها. القسم الثالث: أن تكون القرينة تفيد مجرد الظن العادي ولم يوجد معه ما يقويه، كما لم يوجد معه ما ينافيه، إلا مجرد احتمالات قريبة الوقوع في العادة،   1 الصائل الشخص الذي يعتدي على نفس إنسان أو عرضه أو ماله، ويجوز شرعا للإنسان المعتدى عليه أن يصد الصائل بأي وسيلة يمكنه ولو بالقتل بشرط استعمال الوسيلة الأخف، فإن لم يمكنه إلا بالقتل قتله. 2 يرى هذا الرأي الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه: الجواهر في تفسير القرآن الحكيم، ج19، ص152، انظر: القرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي للدكتور أنور دبور، ص208. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 وهذا القسم ذكره الدكتور عبد السميع إمام قسما رابعا عند تقسيمه للقرينة، ومثاله وجود شخص يركب سيارة وقد وقف بجوار جريح أو قتيل، فهذا النوع -كما سبق بيانه- يفيد ظنا ما بأن الذي يقف بسيارته بجوار الجريح أو القتيل هو الذي أصابه، ولكن في نفس الوقت يحتمل احتمالا غير بعيد أنه لم يصبه بسيارته. كما يمكن التمثيل لهذا القسم أيضا بما لو وجدت إجابة الطالب في أوراق الامتحان مطابقة تمام المطابقة لما هو مكتوب في الكتاب المقرر دراسته، فهذا يفيد ظنا ما بأن الطالب قد اعتمد على الغش في الامتحان؛ لأن مما جرت به العادة أن لا تكون إجابات الطلاب في الامتحان مطابقة تمام المطابقة لما هو موجود في الكتب، وإنما يختلف تعبير الطلاب كثرة أو قلة عن تعبير الكتاب المقرر، وكلما قويت حافظة الطالب كان تعبيره قريبا مما هو موجود في الكتب، ولكن في نفس الوقت يحتمل احتمالا غير بعيد أن الطالب قد بلغ درجة قوية جدا في ملكة الحفظ، فساعد ذلك على أن تكون إجابته بهذه الصورة. القسم الرابع: أن تكون دلالة القرينة تفيد ظنا ضعيفا، كبكاء الشاكي، ووجود رجل وامرأة غريبة عنه في مكان مظلم وحدهما ليلا، لكن لم يشهد شهود بأنه حدث بينهما ما يوجب إقامة حد الزنا عليهما. وهذا القسم هو القسم الثاني من القسمين اللذين قسم الدكتور عبد العال عطوة القرينة إليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 أقسام القرينة عند القانونيين : قسم فقهاء القانون القرينة إلى قسمين: 1- قرينة قضائية. 2- قرينة قانونية. أما القرينة القضائية فهي منسوبة إلى القضاء، ومعنى ذلك أنها من استنتاج القاضي، وأما القرينة القانونية فهي منسوبة إلى القانون، ومعنى ذلك أنها منصوص عليها في القانون. وقد عرفوا القرينة القضائية بأنها ما يستنبطه القاضي من الأمارات والوقائع للدلالة على أمر مجهول. فالقاضي هو الذي يستنبط القرينة بتفسيره لواقعة معلومة في الدعوى التي تعرض عليه، ويستدل بها على الواقعة التي يراد إقامة الدليل عليها. ومثالها وجود سند الدين في يد المدين، فإن هذا يعد قرينة دالة على أنه قد وفى ما عليه، وقلة الثمن الذي بيع به شيء من الأشياء المنقولة والظروف الأخرى التي تم فيها البيع، يعد قرينة دالة على سوء نية المشتري, وأنه كان يعلم بأن هذا الشيء المبيع ليس ملكا للبائع. وأما القرينة القانونية هي ما يستنبطه واضع القانون من واقعة معلومة يحددها للدلالة على أمر مجهول ينص عليه. مثل القرينة التي نص عليها في المادة 587 من التقنين المدني المصري، فقد اعتبر في هذه المادة أن وفاء المستأجر بقسط من الأجرة في عقد الإيجار قرينة دالة على أنه قد وفى الأقساط التي سبقت هذا القسط, حتى يقوم الدليل على عكس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 ذلك. وذلك لأن من المألوف بين الناس، ومما تعارفوا عليه أن المؤجر لا يعطي المستأجر ما يفيد سداد القسط اللاحق إلا إذا كان المستأجر قد وفى الأقساط السابقة على هذا القسط. ومثل التصرف القانوني الذي يصدر من شخص في مرض الموت ويكون مقصودا به التبرع، فإن المادة 916، اعتبرت هذا التصرف تصرفا مضافا إلى ما بعد الموت، وتسري عليه أحكام الوصية، أيا كانت التسمية التي أعطيت لهذا التصرف، كأن كان هذا التصرف تحت اسم البيع مثلا. فالقرينة القانونية ليست من استنباط القاضي كما هو الحال في القرينة القضائية، بل هي من عمل القانون، وليس للقاضي سلطة فيها1. هذا، ويمكن القول بأن ما يسميه فقهاء القانون بالقرينة القانونية يقابله في الفقه الإسلامي القرينة التي نص الشارع عليها، مثل سكوت المرأة البكر إذا استأذنها وليها في تزويجها فإن هذا السكوت يعد قرينة تفيد حصول الإذن منها في تزويجها، لقوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها، قال: "أن تسكت". ووجود الفراش فإنه يعد قرينة تثبت نسب الولد من صاحبه، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش".   1 دروس في أحكام الالتزام للدكتور فتحي عبد الرحيم عبد الله، ص554 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 آراء الفقهاء في حجية القرائن مدخل ... آراء الفقهاء في حجية القرائن: اختلف الفقهاء في القرينة هل تعد وسيلة من وسائل الإثبات أم لا، على رأيين: الرأي الأول: القرينة وسيلة إثبات، وهذا ما يراه جمهور الفقهاء، غير أنهم مختلفون في بعض الصور هل تصلح أن تكون وسيلة إثبات أم لا. وممن قال بحجية القرينة بعض الحنفية كالزيلعي، وابن الغرس، والطرابلسي، وبعض المالكية كعبد المنعم بن الفرس، وابن فرحون، والمازري، وبعض الشافعية كالعز بن عبد السلام، وابن أبي الدم، وبعض فقهاء الحنابلة كابن القيم1. الرأي الثالث: القرينة لا تصلح وسيلة من وسائل الإثبات، قال بهذا الرأي بعض الحنفية كالخير الرملي في الفتاوى الخيرية، والجصاص، وصاحب تكملة رد   1 تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي، ج3، ص229 والمجاني الزهرية، لمحمد صالح بن عبد الفتاح بن إبراهيم الجارم، على الفواكه البدرية، لمحمد بن محمد بن خليل المعروف بابن الغرس ص82، ومعين الحكام للطرابلسي ص161، وتبصرة الحكام لابن فرحون بهامش فتح العلي المالك، ج2، ص113، وما بعدها، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، ج2، ص115-120، وأدب القضاء لابن أبي الدم، ج1، ص187، والطرق الحكمية لابن القيم، ص9، وما بعدها، والشرح الصغير مع حاشية الصاوي, ج3، ص539، ومقارنة المذاهب في الفقه للشيخين محمود شلتوت ومحمد علي السايس، ص137 وما بعدها, ومنهاج الطالب في المقارنة بين المذاهب للدكتور عبد السميع إمام، ص242، ومن طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي -رحمه الله تعالى، ص75، ومحاضرات في علم القاضي، والقرائن وغيرهما للدكتور عبد العال عطوة، ص32، 44، والقرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي للدكتور أنور محمود دبور ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 المحتار وبعض المالكية كالقرافي1. الاستدلال لكل رأي: أدلة الجمهور: أولا: قول الله تبارك وتعالى في سورة يوسف2: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} . وجه الاستدلال أن أخوة يوسف أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم في ادعائهم أن يوسف أكله الذئب، لكن والدهم يعقوب عليه الصلاة والسلام استدل على كذبهم بعلامة تعارض ذلك، وهي سلامة قميص يوسف من التخريق، إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس قميصه ويسلم القميص فلا يتخرق. ثانيا: قول الله تبارك وتعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} 3.   1 أحكام القرآن للجصاص، ج3، ص171، والفروق للقرافي مع إدرار الشروق على أنواء الفروق لقاسم بن عبد الله الأنصاري، ج4، ص65، 110، دار المعرفة، بيروت، والأصول القضائية في المرافعات الشرعية للشيخ علي قراعة ص275، والقرائن ودورها في الإثبات للدكتور أنور محمود دبور، ص28، 29. 2 سورة يوسف، الآية رقم: 18. 3 سورة يوسف، الآية رقم: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة أنها أفادت الحكم بالأمارات؛ لأنه توصل بقد القميص إلى معرفة الصادق منهما من الكاذب، وما هذا إلا عمل بالأمارات وجعلها سببا للحكم، وهذا دليل على أنه يجوز أن يعمل بالقرينة ويعتمد عليها في الأحكام1. قال ابن القيم: ذكر الله شهادة الشاهد ولم ينكرها، بل لم يعبه، بل حكاها مقرا لها. وقد يعترض على الاستدلال بهذه الآية الكريمة بأن هذا في شريعة أخرى غير شريعتنا فلا يلزمنا، وقد أجيب عن هذا بأن كل ما أنزل الله علينا فإنما أنزله لفائدة فيه ومنفعة، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} 2 فآية يوسف صلاة الله عليه وسلامه مقتدى بها معمول عليها، وقد اتفق العلماء على أن شرع من قبلنا يكون شرعا لنا إذا كان قد سيق بطريق يفيد استحسانه وعدم إنكاره، فهو في هذه الحالة يصبح من باب التقريرات, والآية التي معنا من هذا القبيل3. هذا، وقد اختلفت الروايات في الشاهد الذي قال: {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، فروي أنه طفل تكلم في المهد، قال السهيلي: وهو الصحيح للحديث الوارد فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال غيره: إنه رجل حكيم ذو عقل   1 من طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص76. 2 سورة الأنعام، الآية رقم: 9. 3 من طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من أهل المرأة، قيل: إنه ابن عمها، قال السدي: وهذا القول الثاني هو الصحيح، وروي عن ابن عباس أنه كان رجلا من خاصة الملك. قال القرطبي: إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالأمارات ... وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع" ا. هـ1. وقد عقب ابن فرحون على ما قاله القرطبي قائلا: وفيما قاله القرطبي نظر؛ لأنه وإن كان طفلا فالحجة قائمة منه بإذن الله تعالى، أرشدنا على لسانه إلى التفطن والتيقظ، والنظر إلى الأمارات والعلامات التي يعلم بها صدق المحق وبطلان قول المبطل، ويكون ذلك أبلغ من الحجة من قول الكبير؛ لأن قول الكبير اجتهاد ورأي منه، ونطق الصغير من قبل الله تعالى. ا. هـ.2. ثالثا: قول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 3. وجه الدلالة: أن الرضا معنى يكون في النفس وهذا في الشهادة يكون نتيجة لما يظهر من أمارات, ويقوم من دلائل تبين صدق الشاهد أمام الحاكم. قال ابن العربي: "قال علماؤنا: هذا دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات   1 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ج9، ص149، 150، 173، 174. 2 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج2، ص111-113. 3 سورة البقرة، الآية رقم: 282. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 والعلامات على ما خفي من المعاني والأحكام1. رابعا: ثبت من السنة الشريفة الحكم بما يظهر من قرائن الأحوال والأمارات. من ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- حكم اللوث2 في القسامة، وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا، ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة، واللوث دليل على القتل. قال بعض فقهاء المالكية: واللوث في الحديث المذكور هو ما ذكر فيه من العداوة بينهم، وأنه قتل في بلدهم، وليس فيها غير اليهود، وقال المازري من فقهائهم أيضًا: إن القرائن تقوم مقام الشاهد، فقد يكون قد قام من القرائن ما دل على أن اليهود قتلوه، ولكن جهلوا عين القاتل، ومثل هذا لا يبعد إثباته لوثا، فلذلك جرى حكم القسامة فيه. ومن السنة أيضا ما ورد في الحديث الصحيح في قضية الأسرى من قريظة، لما حكم فيهم سعد بأن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية، فكان بعضهم يدعي عدم البلوغ، فكان الصحابة يكشفون عن مؤتزرهم فيعلمون بذلك البالغ من غيره، وهذا من الحكم بالأمارات. ومنها حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وخلفائه من بعده بالقافة، وجعلها دليلا على ثبوت النسب، وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات. ومنها قوله -صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر في   1 أحكام القرآن لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، القسم الأول، ص254. 2 سبق بيان معنى اللوث في ص428. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 نفسها، وإذنها صمتها" فجعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- سكوتها قرينة على رضاها، وتجوز الشهادة عليها بأنها رضيت بناء على هذا السكوت، وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن1. ومنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده، فقال له -صلى الله عليه وسلم: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك" قال ابن القيم: فهاتان قرينتان في غاية القوة: كثرة المال، وقصر المدة التي ينفق كله فيها2. ومنها ما وقع في غزوة بدر لابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل، فقال لهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هل مسحتما سيفيكما؟ فقالا: لا، فقال: أرياني سيفكما، فلما نظر إليهما قال: هذا قتله، وقضى له بسلبه" فاعتمد الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الأثر الموجود في السيف، ومعنى السلب: الأشياء التي تكون مع القتيل، من السلاح، أو الآلات، أو الثياب، أو النقود، أو الخيل، وغير ذلك. أدلة القائلين بعدم الحكم بالقرائن: استدل القائلون بأن القرائن لا تصلح أن تكون وسيلة للإثبات بعدة أدلة، نذكر منها ما يأتي: أولا: ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة،   1 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج2، ص113 وما بعدها. 2 الطرق الحكمية، ص9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها" 1. وجه الدلالة من هذا الحديث أن القرائن لو كانت وسيلة للإثبات لأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- عقوبة الزنا على هذه المرأة، التي ظهرت قرائن من جانبها عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفيد وقوع الزنا منها، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقم عقوبة الزنا عليها مع وجود القرائن، فدل هذا على عدم الحكم بالقرائن. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا الدليل بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقم عقوبة الزنا على المرأة لضعف القرائن والأمارات التي ظهرت منها، فهي ليست قوية الدلالة كالحمل مثلا حتى يحكم عليها بحد الزنا، وضعف القرائن يدرأ الحدود؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات كما هو القاعدة الشرعية الثابتة2. ثانيا: القرائن ليست مطردة في دلالتها وغير منضبطة؛ لأنها تختلف قوة وضعفا، فلا تصلح لبناء الحكم عليها، على أن القرائن قد تبدو قوية ثم يعتريها الضعف3. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا الدليل بأن القائلين بأن القرائن وسيلة من وسائل الإثبات اشترطوا أن تكون القرائن قوية لا يشك في قوتها ولا يمترى في دلالتها، ومن   1 نيل الأوطار، ج8، ص305، شركة الطباعة الفنية المتحدة. 2 محاضرات في علم القاضي - القرائن، وغيرها لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص42. 3 مقارنة المذاهب للشيخين محمود شلتوت والسايس، ص140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 السهل على الحكام وغيرهم أن يصلوا إليها، ويقفوا عليها، ومن هذا النوع قرائن تبلغ درجة من القوة بحيث تفوق في دلالتها دلالة الشهادة وغيرها من طرق الإثبات الأخرى، وذلك كما لو ادعي على رجل أنه ارتكب جريمة الزنا، فبان أنه مجبوب، أو ادعي على امرأة أنها ارتكبت جريمة الزنا فتبين أنها بكر. أما القول بأن القرائن قد تبدو قوية ثم يعتريها الضعف فالجواب أن ما يعتري القرائن من احتمال الضعف قد يعتري غيرها من وسائل الإثبات، فقد يقر إنسان بالسرقة ثم نتبين بعد ذلك أن إقراره لم يكن اختيارا، وإنما كان تحت تأثير التعذيب ولم يكن سارقا في الواقع، أو يكون الإقرار قد حدث بدون إكراه لكنه كان لسبب آخر دفعه إلى هذا الإقرار الكاذب، وقد يبدو للقاضي أن الشهود صادقون في شهادتهم، ثم يتبين بعد ذلك أنهم شهود زور. فإذا كانت وسائل الإثبات يتوجه إليه هذا الضعف المحتمل, ولا يكون ذلك قادحا في صلاحيتها للإثبات فكذلك القرائن، ولا معنى لتوجيه هذا للقرائن بخصوصها. وأيضًا فإن العبرة في هذا حين القضاء، فإذا ظهر وقت القضاء إفادة وسيلة من وسائل الإثبات الغرض المقصود وجب على القاضي أن يقضي بها، وليس مطلوبا من القاضي أن ينظر إلى ما يمكن أن يطرأ في المستقبل، والقرائن وسيلة مثل سائر الوسائل في هذا المعنى1. ثالثا: أن القرآن والسنة قد ذما اتباع الظن، والقضاء بالقرائن ليس قائما إلا   1 محاضرات في علم القاضي - القرائن، وغيرها للدكتور عبد العال عطوة، ص43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 على الظن، قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} 1، وقال تبارك وتعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 2، وقال عز وجل: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} 3، وروى مسلم، وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" 4. ويمكن صياغة الدليل على شكل قياس من الشكل الأول فنقول: القرينة   1 سورة النجم، الآية رقم: 23. 2 سورة النجم، الآية رقم: 28. 3 سورة النساء، الآية رقم: 157. 4 صحيح مسلم بشرح النووي، ج16، ص118، وسنن أبي داود، ج5، ص217، ومعنى الظن المنهي عنه هو ما يخطر بالنفس من التجويز المحتمل للصحة والبطلان فيحكم به ويعتمد عليه. وقد قسم الزمخشري الظن إلى أربعة أقسام: واجب، وحرام، ومندوب، ومباح، فالواجب حسن الظن بالله تبارك وتعالى، والحرام سوء الظن به عز وجل، ومنه أيضا سوء الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة، وهو المراد بقوله -صلى الله عليه وسلم: $"إياكم والظن"، والمندوب حسن الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة، والمباح سوء الظن بمن اشتهر بين الناس بمخالطة الريب والمجاهرة بالخبائث فلا يحرم سوء الظن به؛ لأنه قد دل على نفسه، ومن ستر على نفسه لم يظن به إلا خيرا, ومن دخل في مداخل السوء اتهم, ومن هتك نفسه ظننا به السوء، والضابط الذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها هو أن كل ما لا تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وممن عرفت منه الأمانة في الظاهر، فإذا ظننا به الفساد والخيانة فهذا من الظن المحرم، بخلاف من اشتهر بين الناس يتعاطى الريب، وسمي الظن حديثا؛ لأنه حديث النفس. قال الصنعاني: "وإنما كان الظن أكذب الحديث؛ لأن الكذب مخالفة الواقع من غير استناد إلى أمارة، وقبحه ظاهر لا يحتاج إلى إظهاره، وأما الظن فيزعم صاحبه أنه استند إلى شيء فيخفى على السامع كونه كاذبا بحسب الغالب، فكان أكذب الحديث"، سبل السلام للصنعاني، ج4، ص189، 190. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 تفيد الظن، والظن مذموم شرعا، فالنتيجة أن القرينة مذمومة شرعا، وما دامت مذمومة لا يصح أن تكون وسيلة إثبات. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن الظن الذي لا يعد دليلا -وهو الظن الذي نهت عنه النصوص الشرعية- هو الظن في العقائد؛ لأن العقيدة لا تثبت بالظن باتفاق العلماء، يقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام: "إنما ذم الله العمل بالظن من كل موضع يشترط فيه العلم أو الاعتقاد الجازم، كمعرفة الإله ومعرفة صفاته"1 أو الظن السيئ الذي يقوم الشخص بتحقيقه، أو هو الشك الذي يعرض للمرء فيحققه ويحكم به مثل أن يظن بإنسان أنه زنى، أو سرق، أو قطع الطريق أو قتل نفسا، أو أخذ مالا، أو ثلب عرضا فأراد أن يؤاخذه بذلك من غير حجة شرعية يستند إليها ظنه، وأراد أن يشهد عليه بذلك على ظنه المذكور، فهذا ممنوع في الشرع، أما في غير ذلك فالإجماع على العمل بالظن، فإن تكاليف الشرع فيما عدا العقائد مبنية على الظن2.   1 قواعد الأحكام، للعز بن عبد السلام، ج2، ص52. 2 محاضرات في علم القاضي، مصدر سابق، ص42-44، ومن طرق الإثبات للدكتور أحمد البهي، ص83. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 الرأي الراجح : من الاستدلالات لكل فريق من الفريقين، والمناقشات التي وردت على الأدلة، يمكن بغالب الظن القول بأن رأي جمهور العلماء هو الأولى بالترجيح، لسلامة الأدلة التي اعتمد عليها هذا الرأي، ولضعف ما استند إليه القائلون بعدم حجية القرائن. ومن الغريب أن الفقهاء الذين ذهبوا إلى عدم الأخذ بالقرينة، وجدناهم قد عملوا بالقرينة وخالفوا مذهبهم في منع العمل بها، فقد أوجبوا على القاضي أن يقضي بنكول المدعى عليه عن اليمين، مع أن القضاء بالنكول عن اليمين ليس إلا رجوعا إلى القرينة الظاهرة عندهم التي دلت على كذب الناكل عن اليمين، وقدموا العمل بهذه القرينة على أصل براءة الذمة. بل إن بعضهم ذهب إلى أبعد من هذا، فبنى أحكاما مختلفة على قرائن أخرى، فالخير الرملي أحد فقهاء الحنفية المانعين للعمل بالقرائن، والذي أنكر على ابن الغرس ذكره للقرينة بين وسائل الإثبات قائلا: "لا شك أن ما زاده ابن الغرس غريب خارج عن الجادة، فلا ينبغي التعويل عليه" هذا الفقيه المانع للأخذ بالقرائن سئل عن مسألة فبنى الحكم فيها على القرينة. فقد جاء في "الفتاوى الخيرية" سئل: رجل تلقى بيتا عن والده، وتصرف فيه ما كان يتصرف أبوه من غير منازع ولا مدافع مدة تنيف على الخمسين سنة، وبرز جماعة يدعون أن البيت لجدهم الأعلى، فهل تقبل دعواهم مع اطلاعهم على التصرف المذكور، واطلاع آبائهم، وعدم قيام مانع يمنعهم من الدعوى؟ ". أجاب: لا تسمع هذه الدعوى، فقد جاء في فتاوى الولوالجي رجل تصرف زمانا في أرض، ورجل آخر رأى الأرض والتصرف، ولم يدع ومات على ذلك، لم تسمع بعد ذلك دعوى ولده، وتترك للمتصرف؛ لأن شاهد الحال لهم، هذا مع ما في سماعها من فتح باب التزوير والتلبيس. فهنا نجد الخير الرملي يمنع سماع الدعوى في هذه المسألة التي سئل عنها مستندا إلى فتوى الولوالجي بعدم السماع بناء على القرينة1. وإذا رجحنا رأي الجمهور فهو بالشروط التي بينها العلماء، وسنتكلم عنها فيما سيأتي عقب هذا، وفي غير الحدود والقصاص كما سيبين رجحان القائلين بذلك، وأما في القصاص، والحدود فسنبين رأينا فيهما فيما سيأتي بمشيئة الله تعالى.   1 من طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون، لأستاذنا الدكتور أحمد عبد المنعم البهي، رحمه الله، ص85، 86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 ما يشترط للعمل بالقرينة : يشترط العلماء القائلون بأن القرينة وسيلة من وسائل الإثبات شرطين في العمل بها: الشرط الأول: أن تكون القرينة قطعية في دلالتها، ويريد العلماء أن تكون قوية الدلالة بحيث تقارب اليقين؛ وذلك لأن العلم القطعي يستعمله العلماء في معنيين: أحدهما: العلم الذي لا يوجد معه احتمال نقيضه أصلا، كالعلم الذي نستفيده من النصوص المحكمة، والمتواترة1. المعنى الثاني: العلم الذي يوجد معه احتمال نقيضه   1 المحكم هو اللفظ الذي وضحت دلالته على الحكم، ولم يحتمل تأويلا ولا تخصيصا ولا نسخا، وذلك مثل النصوص التي تدل على أحكام أساسية هي من قواعد الدين، كالإيمان بالله تعالى وحده، وبملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر، أو كان نصا دل على حكم شيء هو من أمهات الفضائل كالعدل، والوفاء بالعهد، أو دل على حكم جزئي ورد التصريح بتأييده، ودوامه، مثل قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} . أصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكي الدين شعبان، ص355. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 احتمالا غير ناشئ عن دليل، مثل العلم المستفاد من الظاهر والنص1،   1 الظاهر هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة واضحة، بحيث لا يتوقف فهم المراد منه على قرينة خارجية، مع احتمال التأويل والتخصيص، ولم يكن الحكم المستفاد منه هو المقصود الأصلي من سوق الكلام، مثاله قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فإن كلمة {وَأَحَلَّ} تدل دلالة واضحة على أن البيع حلال، وكلمة {حَرَّمَ} تدل دلالة واضحة على أن الربا حرام، ولا يحتاج كل من هذين اللفظين في دلالته إلى قرينة خارجية، وكل منهما ليس مقصودا بالأصالة من سوق الآية، وإنما المقصود الأصلي منها بيان الفرق بين البيع والربا؛ لأن الآية نزلت ترد على الذين قالوا بالتساوي بينهما فقالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} فاختلاف الحكمين فيهما يوصل إلى عدم التماثل بينهما. وأما النص فهو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة واضحة، مع احتمال التأويل والتخصيص، وكان الحكم المستفاد منه هو المقصود الأصلي من سوق الكلام، ومثاله قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} فإنه يدل دلالة واضحة على التفرقة بين البيع والربا مع احتمال التأويل والتخصيص، وهذا الحكم هو المقصود الأصلي من هذا النص. أصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكي الدين شعبان، ص351-353. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 والخير المشهور1، والأول يسميه العلماء علم اليقين، والثاني يسمى علم الطمأنينة، ويريد العلماء بالقطع في القرينة القطع بالمعنى الثاني؛ لأن القطع على المعنى الأول   1 جمهور العلماء يقسمون الحديث إلى قسمين: متواتر، وآحاد، فالمتواتر هو ما روي من طريق يستحيل بحسب العادة أن يتفق رواته على الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولا يشترط عدد معين لرواته عند جمهور العلماء, وإنما يكفي أن يبلغ رواته عددا يقع معه اليقين، وبعض العلماء يشترط عددا معينا. وقد اختلف هؤلاء في العدد فيرى البعض أن لا يقل رواته عن خمسة، والبعض يرى أن لا يقلوا عن سبعة، والبعض عشرة، والبعض يرى أنهم لا يقلون عن اثني عشر ومنهم من قال: لا يقلون عن أربعين، ومنهم من عين الرواة بسبعين، ومنهم من قال بثلاثمائة وبضعة عشر، وكل هذه الأعداد لا تستند إلى دليل قوي، ومثال الحديث المتواتر "إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وأما الحديث الآحاد فهو ما روي بطريق لا تحيل العادة تواقف رواته على الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وحديث الآحاد هو غالب الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وبين العلماء أن الحديث المتواتر يفيد الثبوت يقينا، وأما حديث الآحاد فيفيد الثبوت بغالب الظن، قال التفتازاني: "والعقل شاهد بأن خبر الواحد العدل لا يوجب اليقين، وأن احتمال الكذب فيه قائم وإن كان مرجوحا". وقال الشاشي: "حكم خبر الواحد أنه يوجب العمل به، ولا يوجب العلم، لا علم اليقين، ولا علم الطمأنينة" ويقول أبو بكر السرخسي: "إن أصل البدع والأهواء إنما ظهر من قبل ترك عرض أخبار الآحاد على الكتاب والسنة، فإما قوما جعلوها أصلا مع الشبهة في اتصالها برسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومع أنها لا توجب علم اليقين، ثم تأولوا عليها الكتاب والسنة المشهورة، فجعلوا التبع متبوعا، وجعلوا الأساس ما هو غير متيقن به، فوقعوا في الأهواء، والبدع". وقال عبد القاهر البغدادي: "أخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل كانت موجبة للعمل دون العلم". هذا هو تقسيم الحديث عند جمهور العلماء، وأما الحنفية فزادوا قسما ثالثا جعلوه وسطا بين المتواتر والآحاد، وسموه مشهورا وهو أقوى من حديث الآحاد في الثبوت, وأقل من المتواتر. وعرفه بعضهم بأنه الحديث الذي يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق الآحاد، واشتهر في عصر التابعين أو تابعي التابعين. وقال علماء الحنفية: الثابت بالحديث المشهور على طمأنينة لا علم يقين؛ لأن فيه شبهة توهم الكذب عادة باعتبار رواية الأصل؛ لأنه آحاد، وقول الحنفية إن الحديث المشهور يفيد علم طمأنينة معناه أنه يفيد ظنا قويا أقوى مما يفيده الحديث الآحادي، ولا مانع من أن العلم قد يطلق ويراد به الظن، كما في قول الله تبارك وتعالى في شأن النساء المؤمنات اللاتي يهاجرن إلينا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [سورة الممتحنة الآية رقم: 10] ، أي: ظننتموهن مؤمنات. الشهاوي في مصطلح الحديث، للدكتور إبراهيم الشهاوي، ص9، وأصول السرخسي، ج1، ص292، 293، دار المعرفة للطباعة ببيروت، وشرح التلويح على التوضيح للتفتازاني، دار الكتب العلمية ببيروت، ج2، ص4، وأصول الشاشي، ص274، دار الكتاب العربي ببيروت، وأصول الدين للبغدادي، ص12، دار الكتب العلمية ببيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 لا يتحقق في باب القرائن، فالقطع في القرينة عند العلماء شامل للظن الغالب؛ لأن وسائل الإثبات مهما كانت قوتها فإن دلالتها لا تخلو من ظن. مثال للقرينة القاطعة في دلالتها: ومثال القرينة القاطعة في دلالتها ظهور حمل امرأة ليست مزوجة ولا معتدة، وظهور السكر من شخص، أو وجد يتقايأ الخمر، ومثل ابن الغرس من الحنفية في كتابه الفواكه البدرية بالمثال الذي تكرر ذكره، والذي نقله العلماء عنه، وهو خروج رجل من دار مضطربا خائفا يحمل في يده سكينا ملوثة بالدماء، وملابسه كذلك ملوثة بالدماء، فدخل الناس فور خروجه في الدار رجلا مذبوحا مضرجا في دمائه. وذكر الدكتور عبد العال عطوة، مثالا لذلك أيضًا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعم حيي بن أخطب عندما ادعى نفاد المال: $"العهد قريب والمال أكثر من ذلك"، فكثرة المال، وقصر الفترة الزمنية التي من المحتمل أن لا يكون المال قد أنفق فيها كله، هما قرينتان في غاية القوة على أن المال الذي ادعى نفاده عم حيي بن أخطب لا زال موجودا، ولذلك أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الزبير بن العوام أن يمسه بعذاب، وكان نتيجة ذلك أن أرشد إلى المال وأخرجه من مخبئه. الشرط الثاني: أن لا يعارض القرينة قرينة أخرى، أو دليل آخر، فإن عارضها شيء من هذا فلا تصلح أن تكون وسيلة للإثبات. ومثال هذا قرينة الدم على قميص يوسف، الذي جاء به أخوته يدعون أن الذئب قد أكله، وأن هذا أثر دمه على قميصه، فإن هذا يعد بحسب الظاهر قرينة قوية على قتل الذئب ليوسف، ولكن لما وجد أبوه يعقوب عليه الصلاة والسلام قميصه سليمان لم يتخرق استدل بهذا على كذب أخوة يوسف، فإنه لو كان حقا ما يقولون لمزق الذئب قميصه، فهذا دليل على أن يوسف لم يقتله الذئب. ومثاله أيضا ما لو وجد سند الدين عند المدين، فهذا يعد قرينة على أن المدين سدد الدين الذي كان عليه، لكن لو أقام الدائن البينة على أن المدين قد أخذ السند منه غصبا، أو سرقه، فإن هذه القرينة أصبحت دلالتها كاذبة؛ لأنه وجد دليل يعارضها ولهذا لا يحكم القاضي ببراءة ذمة المدين1.   1 محاضرات في علم القاضي: القرائن، وغيرها، مصدر سابق ص29-31، ومن طرق الإثبات في الشريعة وفي القانون، لأستاذنا الدكتور أحمد عبد المنعم البهي -رحمه الله تعالى، ص73، 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 مجال القضاء بالقرائن : هل القرائن عند من يقول بها تصلح أن تكون وسيلة إثبات في الحدود والقصاص أيضا بجانب كونها عندهم وسيلة من وسائل الإثبات في غير ذلك من العقود المالية وغيرها، فلو وجدت امرأة حامل ليس لها زوج هل يقام عليها حد الزنا، أم لا؟ وإذا وجد شخص تفوح من فمه رائحة الخمر، أو وجد يتقايؤها هل يقام عليه حد شرب الخمر؟ وإذا وجد المال المسروق في بيت المتهم بالسرقة هل يقام عليه حد السرقة؟ وهل إذا وجدت قرينة على القتل العمد كبقعة دم من فصيلة دم القتيل على ملابس المتهم هل يجب القصاص من هذا المتهم؟ وقد ذكرنا سابقا أن العلماء والأطباء يؤكدون أن فصيلة دم الطفل تتأثر بنوع فصيلة دم الأب والأم، وعلى هذا لو ثبت معمليا -مثلا- أن دم كل من الزوج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 والزوجة من فصيلة "أ" ودم الطفل من فصيلة "ب" فالأطباء يقطعون بعدم ثبوت نسب هذا الطفل من هذا الزوج، لكن هل يعد هذا وسيلة إثبات لجريمة الزنا على الزوجة، فيحكم عليها بحد الزنا بناء على هذا الفحص، وإذا ثبت معمليا من فحص دم المتهم بشرب الخمر، أنه تناولها، فهل يحق للقاضي بناء على نتيجة الفحص أن يحكم عليه بعقوبة الشرب؟ وإذا وجدت بصمات المتهم بالسرقة على بعض الأشياء في المحل المسروق، أو وجدت الأشياء المسروقة بحوزته وأنكر سرقتها فهل يجوز الحكم بقطع يده بناء على هذه القرينة، وإذا ثبت بالتسجيل الصوتي أن المتهم قد طعن المدعي في عرضه، فرماه بجريمة الزنا، فهل يكون هذا التسجيل الصوتي وسيلة إثبات لجريمة القذف يحق للقاضي بناء عليها أن يحكم على صاحب الصوت بحد القذف إن لم يستطع أن يقيم البينة على اتهامه1، وبعبارة عامة هل يجوز العمل بلا قرائن في جرائم الحدود والقصاص؟ هذا موضع خلاف بين العلماء وسنحكي خلافهم أولا في القرينة في الحدود، ثم نتبع ذلك بالكلام عن خلافهم في القرينة في القصاص:   1 إذا كان المتهم بجريمة القذف زوجا ورمى زوجته بالزنا، فمن الممكن درء الحد عنه إذا لاعن زوجته، وإذا لم يكن زوجا فلا بد أن يشهد أربعة شهود على أن جريمة الزنا وقعت، وإلا عوقب بعقوبة القذف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في الحدود : 1 اختلف الفقهاء في هذا على رأيين: الرأي الأول: يرى المالكية اعتبار القرائن في الحدود2، ويوافقهم على هذا الرأي ابن القيم الفقيه الحنبلي المشهور3 وروى الحنابلة رواية عن أحمد تقول بوجوب الحد بوجود رائحة الخمر من فم شخص، ومع أنهم ذكروا رواية عن أحمد تقول إنه لا يحد بالسكر أو بتقايؤ الخمر، لاحتمال أن يكون مكرها، أو لم يعلم أنها تسكر، إلا أن ابن قدامة قال: "ورواية أبي طالب عنه "أي: عن أحمد" في الحد بالرائحة تدل على وجوب الحد ههنا بطريق الأولى". لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها، فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها4. الرأي الثاني: يرى الحنفية، والشافعية، والحنابلة عدم اعتبار القرائن وسائل إثبات في الحدود4.   1 إذا كان المتهم بجريمة القذف زوجا ورمى زوجته بالزنا، فمن الممكن درء الحد عنه إذا لاعن زوجته، وإذا لم يكن زوجا فلا بد أن يشهد أربعة شهود على أن جريمة الزنا وقعت، وإلا عوقب بعقوبة القذف. 2 قال المالكية: إن المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يعرف لها زوج، أو كانت أمة "أي: جارية" وكان سيدها منكرا لوطئها فإنها تعاقب عقوبة الزنا، ولا يقبل دعواها الغصب على ذلك بلا قرينة تشهد لها بذلك، ولا دعواها أن هذا الحمل سببه وجود مني في الحمام، ولا من اتصال جني بها، إلا لقرينة مثل كونها عذراء، وهي من أهل العفة. وقال مالك في الموطأ: الأمر عندنا في المرأة توجد حاملا ولا زوج لها، فتقول: قد استكرهت، أو تقول: تزوجت، أن ذلك لا يقبل منها وأنها يقام عليها الحد، إلا أن يكون لها على ما ادعت من النكاح بينة، أو على أنها استكرهت. وصرح المالكية بأنه إذا شهد عدلان أنهما شما رائحة الخمر من إنسان يجب إقامة حد الشرب عليه، وكذلك لو شهدا بأنه تقايأها. موطأ مالك وشرحه تنوير الحوالك للسيوطي، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، للدردير، ج4، ص309، والشرح الصغير، ج4، ص501، 502. 3 الطرق الحكمية، ص6. 4 المغني، ج8، ص309. 5 مغني المحتاج، ج4، ص149، 150، حيث حصر الشافعية وسائل إثبات جريمة الزنا في البينة والإقرار, وص190 حيث صرحوا بأنه لا يحد بريح الخمر, والسكر, والقيء, وإنما يحد بالإقرار أو الشهادة، وانظر المغني، ج8، ص191، ص309، وفتح القدير، ج5، ص213، وص308، ونيل الأوطار، ج6، ص160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 أدلة القائلين بالاعتماد على القرائن في الحدود: استدل القائلون بأن القرينة وسيلة إثبات في الحدود بأدلة نذكر منها: أولا: ما روي عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: كان فيما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، والرجم في كتاب الله حق1 على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف. رواه الجماعة إلا النسائي2. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا الدليل بأن هذا قول عمر، وأقوال الصحابة مختلف فيها هل تصلح أن تكون حجة أم لا، فلا يؤخذ بقول عمر في إثبات مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس، وكون عمر قال هذا بمجمع من الصحابة ولم ينكر عليه أحد لا يستلزم أن يكون إجماعا؛ لأن الإنكار في المسائل المجتهد فيها -التي تختلف فيها الآراء- غير لازم للمخالف، ولا سيما إذا كان القائل بذلك عمر، وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة وغيرهم3. ثانيا: ما روي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: يا أيها الناس،   1 أي: في قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} فقد بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن المراد به رجم المحصن "المتزوج" وجلد غير المحصن. 2 صحيح البخاري، ج8، ص208، وصحيح مسلم، ج4، ص267، ونيل الأوطار، ج8، ص307، وسبل السلام، للصنعاني، ج4، ص8. 3 نيل الأوطار، ج8، ص307. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 إن الزنا زناءان: زنا سر، وزنا علانية، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمي، وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الإمام "أي: رئيس الدولة" أول من يرمي1. فهذا القول من علي -رضي الله عنه- يدل على أنه كان يعد ظهور الحمل دليلا على حدوث جريمة الزنا، وبين أن ذلك موجوب لإقامة الحد، وأن الحاكم أول من يرمي الزانية التي ظهر حملها، وإذا كان حد الزنا قد ثبت بالقرينة، وهي هنا الحمل، فيقاس على حد الزنا سائر الحدود فتثبت هي الأخرى بالقرينة. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا الاستدلال بما أجيب به عن الاستدلال بالأثر المروي عن عمر، وهو أن هذا قول صحابي، وقول الصحابي اختلف العلماء في الاحتجاج به، وإذا قيل إن عليا قال هذا بجمع من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، فالجواب أيضًا كما سبق في الإجابة عن الاستدلال بالأثر المروي عن عمر أن الإنكار في المسائل الاجتهادية المختلف فيها لا يلزم المخالف. اختلفت الرواية عن الصحابة في هذا الشأن: وهذا بالإضافة إلى أنه قد اختلفت الرواية عن الصحابة في هذا الشأن، فقد روي أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب ليس لها زوج، وقد حملت، فسألها عمر، فقالت: إني امرأة ثقيلة الرأس، وقع علي رجل وأنا نائمة، فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عمر عنها الحد.   1 المغني ج8، ص211. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وروى البراء بن صبرة عن عمر، أنه أتي بامرأة حامل فادعت أنها أكرهت، فقال: خلوا سبيلها. وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا: إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل، وروى الدارقطني بإسناده، عن عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعقبة بن عامر أنهم قالوا: إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت1. ويضاف إلى ما ذكر أيضًا أن إثبات الحدود بالقياس ليس محل اتفاق بين العلماء. ثالثا: ما روي عن علقمة بن وائل الكندي عن أبيه، أن امرأة خرجت على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تريد الصلاة، فتلقاها رجل، فتجللها2 فقضى حاجته منها، فصاحت، فانطلق ومر عليها رجل فقالت إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا، ومرت بعصابة "أي: جماعة" من المهاجرين فقالت: إن ذاك الرجل فعل بي كذا وكذا، فانطلقوا، فأخذوا الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها، وأتوها به فقالت: نعم هو هذا، فأتوا به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما أمر به ليرجم قام صاحبها الذي وقع عليها فقال: يا سول الله أنا صاحبها، فقال لها: "اذهبي فقد غفر الله لك"، وقال للرجل قولا حسنا، وقال للرجل الذي وقع عليها "ارجموه"، وقال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم" 3.   1 المصدر السابق، ج8، ص211. 2 تجللها، أي: تغشاها، أي: وطئها. 3 عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، لابن العربي المالكي، ج6، ص235-237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 وجه الاستدلال بهذا الحديث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمر برجم الذي أغاث المرأة بدون شهادة على الزنا أو الإقرار به، وإنما بناء على القرينة الظاهرة، وهي أنهم أدركوه يشتد هربا كما جاء في بعض الروايات أن القوم أخبروا أنهم أدركوه وهو يشتد، ففي سنن النسائي من حديث سماك، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أن امرأة وقع عليها في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مر عليها، وفر صاحبها، ثم مر عليها ذوو عدد فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه إليها، فقال: أنا الذي أغثتك. وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به النبي -صلى الله عليه وسلم، فأخبرته أنه الذي وقع عليها، وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذب، هو الذي وقع علي، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "انطلقوا به فارجموه" فقام رجل من الناس، فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم، الذي وقع عليها، والذي أغاثها والمرأة، فقال: "أما أنت فقد غفر لك"، وقال للذي أغاثها قولا حسنا، فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنا، فأبى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "لأنه قد تاب إلى الله" 1. فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر برجم الذي أغاث المرأة بدون شهادة تثبت زنا الرجل بالمرأة، أو حدوث إقرار منه، وإنما بناء على القرينة الظاهرة، وهي   1 إعلام الموقعين، لابن القيم، ج3، ص8، وقد استخلص ابن القيم من هذا الحديث سقوط الحد عن التائب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 أن جماعة الرجال أخبروا أنهم أدركوه يشتد، وقول المرأة المعتدى عليها أنه هو هذا الذي فعل بها، وهذا يدل على أن القرينة يعتمد عليها في إثبات جريمة الزنا وإقامة الحد، ويقاس على ذلك سائر الحدود. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا الحديث بأنه مضطرب في متنه، فبعض الروايات صرحت بأنه امتنع عن رجم الذي اعترف بالزنا لتوبته، وبعضها صريحة في رجمه، وهذا يورث ضعفا في الحديث فلا يجوز الاستدلال به. رد القائلين بالقرائن في الحدود: رد القائلون بأن القرائن وسيلة إثبات في الحدود على هذه الإجابة بأن الاضطراب الواقع في الحديث ليس في الأمر برجم الذي أغاثها, وإنما هو في رجم الذي ارتكب جريمة الزنا معها، ومحط استدلالنا إنما هو في رجم الذي أغاثها بناء على القرينة التي هي شواهد الحال من القبض على المغيث وهو يجري، وإصرار المرأة على أنه هو الذي وقع عليها، وهذا القدر قد اتفقت عليه رواية الترمذي وغيره، وبهذا يثبت عدم الاضطراب فيها فتكون صالحة للاستدلال بها. رد الجمهور: رد المؤيدون لرأي الجمهور بأن الخلاف في متن الحديث أورث شبهة الضعف فلا يصح أن يستدل بحديث مختلف في متنه1.   1 محاضرات في علم القاضي والقرائن، وغيرهما لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 رابعا: ما رواه حصين بن المنذر قال: "شهدت عثمان بن عفان أتى بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها1، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي" رواه مسلم2. وجه الاستدلال بهذا الحديث أن تقايؤ الخمر قرينة على شربها، وقد أمر عثمان بجلد الوليد بناء على شهادة واحد بأنه شربها، وشهادة آخر أنه رآه يتقايؤها، وبين أن التقايؤ يدل على الشرب، وقد وقع ذلك بجمع من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، فدل هذا على أن القرينة يؤخذ بها في إثبات حد الخمر. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن التقايؤ لا يكفي في ثبوت حد الشرب، لإمكان أن يكون المتقيئ لها مكرها على شربها، أو شربها وهو لا يعلم أنها خمر، أو نحو ذلك3. ويمكن أيضًا أن يقال إن القرينة هنا قوت الشاهد فجاز الحكم بها، كما جاز   1 الحار من العمل: شاقة وشديده، ومعنى: "قارها" أي: ما لا مشقة فيه من الأعمال، والمراد من الجملة: ول الأعمال الشاقة من تولى الأعمال التي لا مشقة فيها. 2 نيل الأوطار، ج7، ص156، مطبعة مصطفى البابي الحلبي. 3 المصدر السابق، ج7، ص160. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 الحكم بالشاهد واليمين. خامسا: ما رواه السائب بن يزيد "أن عمر خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شرب الطلاء1، وإني سائل عما شرب، فإن كان مسكرا جلدته، فجلده عمر الحد تاما، رواه النسائي والدارقطني2. وجه الاستدلال أن ريح الخمر قرينة على شربها، وقد حكم عمر بجلد من وجد منه ريح الشراب، فدل ذلك على أن القرينة وسيلة من وسائل إثبات حد الشرب. مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا بأنه يمكن أن يقال أن عمر جلده؛ لأنه اعترف بأنه شرب الطلاء، وليس لوجود الرائحة3. سادسا: ما رواه علقمة قال: كنت بحمص، فقرأ ابن مسعود سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أنزلت، فقال عبد الله: والله لقرأتها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "أحسنت" فبينما هو يكلمه إذ وجد منه ريح الخمر، فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب؟ فضربه الحد. متفق عليه4.   1 الطلاء أو المثلث هو اسم للمطبوخ من ماء العنب إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه، وهو حرام عند جمهور العلماء وبعض العرب يسمي الخمر الطلاء تحسينا لاسمها لا أنها الطلاء بعينها، مختار الصحاح. والفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ج6، ص154. 2 نيل الأوطار، ج7، ص162. 3 محاضرات في علم القاضي، مصدر سابق، ص50. 4 نيل الأوطار، ج7، ص168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وجه الاستدلال بهذا الأثر أن ريح الخمر قرينة على شربها، وقد أقام عبد الله بن مسعود حد الشرب على من وجد منه ريحها، فدل ذلك على أن القرينة وسيلة من وسائل إثبات الحدود. مناقشة هذا الدليل: نوقش هذا الاستدلال بأنه يمكن أن يقال إن القرينة هنا وصلت إلى درجة من القوة بحيث يقطع معها بنفي الاحتمال، وهي هذيان الرجل وتخليطه حيث كذب بكتاب الله عز وجل. أدلة القائلين بعدم العمل بالقرائن في الحدود: أولا: ما رواه ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها" 1. وجه الدلالة من هذا الحديث أن القرينة لو كانت وسيلة تثبت الحد لأقام الرسول -صلى الله عليه وسلم- حد الزنا على هذه المرأة التي ظهر من حالها قرائن تفيد وقوع الزنا منها، لكنه -صلى الله عله وسلم- لم يفعل هذا، ويقاس على ذلك كل حد لعدم الفارق بين حد الزنا وسائر الحدود. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا الدليل -كما سبق- بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يقم حد الزنا على هذه المرأة لضعف القرائن التي ظهرت من حالها، فهي ليست قرائن قوية في دلالتها كوجود الحمل مثلا لكي يحكم عليها بحد الزنا، وضعف   1 المصدر السابق، ج8، ص305، شركة الطباعة الفنية المتحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 القرائن يدرأ الحد؛ لأن القاعدة الشرعية أن الحدود تدرأ بالشبهات1. ثانيا: ما رواه ابن عباس قال: شرب رجل فسكر، فلقي يميل في الفج2، فانطلق به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فلما حاذى بدار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: "أفعلها؟ ولم يأمر فيه بشيء". رواه أحمد وأبو داود3. وجه الاستدلال بهذا الحديث أن السكر قرينة تدل على شرب الخمر، ومع وجود هذه القرينة فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر بجلد السكران فدل هذا على عدم العمل بالقرينة في حد الشرب، ومثله سائر الحدود. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يقم حد الشرب على هذا الرجل؛ لأنه لم يحدث منه إقرار أمامه، ولا شهد عليه أحد بأنه رآه يشرب الخمر؛ ولأنه تشفع بالعباس عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يصل أمره إلى الحاكم وهو الرسول -صلى الله عليه وسلم. ثالثا: ما روي عن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن   1 محاضرات في علم القاضي، مصدر سابق، ص51، 52. 2 الفج: الطريق الواسع بين الجبلين. 3 نيل الأوطار، ج7، ص168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" رواه الترمذي1 والحديث وإن كان فيه مقال إلا أنه روي من طرق أخرى تعضده موقوفا ومرفوعا، فيكون صالحا للاحتجاج به على أن الحدود تدرأ بالشبهات المحتملة لا بمطلق الشبهة، بالإضافة إلى أن العلماء تلقوه بالقبول، وهذا يعتبر تصحيحا له. ووجه الاستدلال أن الرسول -صلى الله عليه وسلم، كما في هذا الحديث أمر بدرء الحدود بالشبهات المحتملة، والقرائن مبنية على الشبهة، فدل هذا على عدم اعتبار القرائن في الحدود2. رابعا: إقامة الحد إضرار بمن لا يجوز الإضرار به، وهو قبيح من الناحية العقلية والشرعية، فلا يحوز منه إلا ما أجازه الشارع كالحدود والقصاص وما أشبه ذلك بعد حصول اليقين؛ لأن مجرد الحدس، والتهمة، والشك، مظنة للخطأ والغلط، وما كان كذلك فلا يستباح به تأليم المسلم وإضراره بلا خلاف3. ومما سبق يغلب على الظن عدم العمل بالقرائن في الحدود، ومن أقوى الأدلة على ذلك أن القرينة مبنية على الشبهة والحدود تدرأ بالشبهات.   1 المصدر السابق، ج7، ص118. 2 محاضرات في علم القاضي, القرائن, النكول عن اليمين, القيافة، لأستاذنا الدكتور عبد العال عطوة، مكتوبة بالآلة الكاتبة، ص47، ص53. 3 نيل الأوطار، ج7، ص117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 آراء الفقهاء في العمل بالقرينة في القصاص : إذا وجدت آثار دماء على ملابس المتهم في جريمة القتل، وظهر من التحليل المعملي أن هذا الدم من فصيلة دم القتيل، أو وجدت بصمة المتهم على السلاح المستعمل في جريمة القتل، أو تعرف الكلب البوليسي على المتهم فأخرجه من وسط مجموعة من الناس بعد شم أثر من آثار القتيل، أو ثبت بالتسجيل الصوتي أن المتهم قد اعترف بقتل المجني عليه، فهل يجيز هذا للقاضي أن يحكم بالقصاص على المتهم بناء على أي قرينة من هذه القرائن وما شابهها؟ يرى بعض الفقهاء أنه يؤخذ بالقرائن -إذا كانت قوية الدلالة بحيث تقارب اليقين- في إثبات جريمة القتل بدون احتياج إلى القسامة1، وأما إذا كانت القرائن ضعيفة فإنه يعمل بالقسامة. ويرى آخرون عدم جواز العمل بالقرائن في إثبات جرائم القتل, ولو كانت القرائن قوية الدلالة بحيث تقارب اليقين، بل يلجأ إلى القسامة وموجبها في صورة معينة2. وممن يرى أن القرائن تصلح وسيلة من وسائل إثبات القصاص ابن الغرس من الحنفية3, وابن فرحون من المالكية4، وابن القيم الفقيه الحنبلي   1 سبق بيان معنى القسامة، وآراء العلماء فيها هل تصلح وسيلة إثبات أم لا. 2 سبق ذكر هذه الصورة وآراء العلماء فيها عند الكلام عن القسامة. 3 المجاني الزهرية على الفواكه البدرية، ص83. 4 تبصرة الحكام، ج2، ص113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 المشهور1. ونقل الحنفية عن أبي حنيفة -رضي الله عنه- أنه يرى أن النكول عن اليمين قرينة يؤخذ بها في دعوى القصاص في الأطراف، فيقضي القاضي بالقصاص في العمد في الأطراف عند نكول المدعى عليه عن اليمين، ويقضي بالدية في الخطأ، وأما صاحباه أبو يوسف ومحمد فيريان أنه في حالة النكول لا يقضي بالقصاص في النفس والطرف جميعا، ولكن يقضي بالأرش "التعويض" والدية، سواء أكانت الدعوى في القصاص في النفس أم في الأطراف2. ويرى جمهور العلماء أن القرائن ليست وسيلة إثبات في القصاص ولو كانت قوية الدلالة وقاربت اليقين، والواجب حينئذ هو القسامة وموجبها في صورة معينة3. أدلة القائلين بإثبات القصاص بالقرينة: أولا: استدل هؤلاء بالأدلة التي استدلوا بها على أن القرينة وسيلة من وسائل الإثبات، وقالوا في توجيه الاستدلال بها أن هذه الأدلة عامة في جميع الحقوق فتشمل الحدود والقصاص.   1 الطرق الحكمية ص7. 2 البدائع، ج6، ص230، وتكملة فتح القدير لقاضي زاده، ج8، ص190. 3 محاضرات في علم القاضي, القرائن, النكول عن اليمين, القيافة، للدكتور عبد العال عطوة، ص53، والقرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي، للدكتور أنور دبور، ص170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 مناقشة ما استدلوا به: أجيب عن هذا بما يلي: 1- لا يوجد في هذه الأدلة التي استدللتم بها على العمل بالقرائن ما يدل على أنها عامة حتى تشمل القصاص. 2- القرائن في قضايا الدماء يكتنفها من الغموض والاحتمالات ما لا يكتنف غيرها، فالقرينة القوية في دلالتها قد تفيد القتل، لكنها لا تفيدنا ما إذا كان القتل عمدا أو شبه عمد، أو خطأ، مع أن هذه الأنواع الثلاثة مختلفة في أحكامها، بل لو سلمنا أنها تفيدنا أن القتل كان عمدا فإنها لا تفيدنا هل كان القتل دفاعا عن النفس، أو العرض، أو المال، أو كان غيلة وظلما، إلى غير ذلك من الاحتمالات، وعلى هذا فلا تصلح أن تكون وسيلة إثبات في القصاص؛ لأنه كالحدود يدرأ بالشبهات. ثانيا: النكول عن اليمين في جرائم الاعتداء على الأطراف دليل على أن الناكل إما مقر بالجريمة، أو باذل، أي: سمحت نفسه وأباح جسمه للعقوبة، وإلا لحلف قياما بالواجب عليه ودفعا للضرر عن نفسه. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا الدليل بأن القضاء بالنكول في مسائل الدماء قضاء بقرينة ضعيفة؛ لأنه كما يحتمل أن يكون المدعى عليه قد امتنع عن اليمين احترازا عن اليمين الكاذبة، يحتمل أن يكون امتناعه تورعا عن اليمين الصادقة، ويحتمل أيضًا أن يكون بسبب الاشتباه، والقضاء بالقرينة وبخاصة الضعيفة لا يجوز في مسائل الدماء؛ لأنه يجب الاحتياط فيها أكثر من غيرها1.   1 محاضرات في علم القاضي, القرائن إلخ، مصدر سابق، ص54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 أدلة المانعين لإثبات القصاص بالقرينة: أولا: ما روي عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهو يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشخط في دمه قتيلا، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "كبر، كبر" 1، وهو أحدث القوم، فتكلما، قال: "أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم"؟ , فقالوا: وكيف نحلف ولم نشهد2، ولم نر؟ قال: "فتبرئكم يهود بخمسين يمينا"، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله3 النبي -صلى الله عليه وسلم- من عنده4. وفي رواية متفق عليها: فقال لهم: "تأتون بالبينة على من قتله"؟ , قالوا: ما لنا من بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبطل دمه، فوداه5 بمائة من إبل الصدقة6. وجه الاستدلال بهذا الحديث أنه دل على أن دعوى القتل لا تثبت إلا بشاهدين أو بالقسامة إذا لم يوجد الشاهدان، وهذا ينفي أن القرينة وسيلة إثبات فيها.   1 أي: دع من هو أكبر منك سنا يتكلم. 2 أي: لم نشهد الجريمة وقت حدوثها. 3 أي: أعطى ديته. 4 نيل الأوطار، ج7، ص183. 5 أي: دفع ديته. 6 نيل الأوطار، ج7، ص183، 184. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا الدليل بأن الحديث لا يوجد فيه دليل على الاقتصار على الشاهدين في إثبات دعاوى القتل، وعلى هذا فلا يكون الحديث دالا على عدم اعتبار القرينة وسيلة من وسائل الإثبات. ثانيا: الاحتياط في الدماء مثل الاحتياط في الحدود بل أكثر منها وأولى، ولما كانت القرائن في الدماء في كثير من الحالات يكتنفها الغموض والإبهام، فإن هذا يعد شبهة يجب أن تكون دارئة للقصاص؛ لأنه يدرأ بالشبهات كما تدرأ بها الحدود1. الرأي الراجح: يغلب على الظن أن ما يراه الجمهور -وهو عدم القضاء بالقرينة في القصاص- هو الرأي الراجح، وأقوى ما يسند هذا الرأي هو أن القرينة في كثير من الحالات يكتنفها الغموض والإبهام، وهذا شبهة والقصاص يدرأ بالشبهات، وهذا دليل قوي، وأما ما استند إليه القائلون بأن القرينة تصلح أن تكون وسيلة إثبات في القصاص، فقد ضعف من قبل المخالفين، ولكن ينبغي أن نذكر ما قاله بعض العلماء المعاصرين, وهو أنه إذا كانت القرينة قاطعة بحيث لا تكون محتملة لأدنى شك، فإنها تكون وسيلة إثبات في جرائم القتل كما لو وجدت بصمات المتهم على السكين التي تمت بها جريمة القتل لكن بشرط، وهو إذا لم يستطع المتهم أن يضعف من دلالة هذه القرينة فيورث شبهة تنقذه من عقوبة القصاص، لكن هذا الرأي محل نظر.   1 محاضرات في علم القاضي, القرائن، إلخ، مصدر سابق، ص54، 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 عمل فقهاء المذاهب الأربعة بالحكم بالقرائن : يجب أن نذكر في ختام الكلام عن القرينة وآراء العلماء فيها من حيث كونها وسيلة إثبات أم لا، أن الفقهاء من المذاهب الفقهية الأربعة عملوا بالقرائن في مسائل كثيرة، وإليك بعضا من هذه المسائل: المسألة الأولى: يرى الفقهاء جميعا جواز اتصال الرجل جنسيا بالمرأة التي أهديت إليه ليلة الزفاف, إذا كان لا يعرفها وإن لم يشهد عنده عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقد عليها، وإن لم يستنطق النساء أن هذه زوجته، وذلك اعتمادا على القرينة الظاهرة المنزلة منزلة الشهادة، وممن بيّن ذلك الشافعية في كتبهم، فنجد الرملي أحد فقهاء الشافعية يبين في مجال الكلام عن شروط الشاهد أنه يشترط فيه الإبصار فلا تقبل شهادة الأعمى لا على فعل كالزنا، والغصب والرضاع والولادة والإتلاف، ولا على قول كالعقود والفسوخ لانسداد طريق المعرفة مع اشتباه الأصوات وإمكان التصنع فيها، ثم يبين جواز وطء الأعمى لزوجته اعتمادًا على قرينة. فيقول: "وإنما جاز له وطء زوجته اعتمادا على صوتها لكونه أخف، ولذا نص الشافعي على حل وطئها اعتمادا على لمس علامة يعرفها فيها، وإن لم يسمع صوتها، وعلى أن من زفت له زوجته أن يعتمد قول امرأة: هذ زوجتك، ويطؤها. بل ظاهر كلامهم جواز اعتماده على قرينة قوية أنها زوجته وإن لم يخبره أحد بذلك"1. الثانية: جواز الاعتماد على قول الصبيان المرسل معهم بالهدايا، وأنها مرسلة إليهم، فتقبل أقوالهم ويجوز أكل الطعام المرسل به.   1 نهاية المحتاج للرملي إلى شرح المنهاج، للنووي، ج8، ص299. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الثالثة: جواز أخذ ما يسقط من الإنسان إذا لم يعرف صاحبه مما لا يتبعه الإنسان، كالفلس، والثمرة ونحو ذلك. الرابعة: جواز أخذ ما يبقى في البساتين والمزارع من الثمار والحب بعد انتقال أهله عنه، وتخليته، وتسييبه. الخامسة: جواز أخذ ما يسقط من الحب عند الحصاد مما لا يعتني صاحب الزرع بلقطه. السادسة: يجوز للضيف أن يقدم على الأكل إذا قدم له صاحب المنزل الطعام, وإن لم يأذن له باللفظ، إذا علم أن صاحب الطعام قدمه له خاصة، وليس هناك غائب ينتظر حضوره، اعتبارا بدلالة الحال الجارية مجرى القطع. السابعة: القضاء بالنكول "الامتناع عن اليمين"، واعتباره في الأحكام، وليس إلا رجوعا إلى مجرد القرينة الظاهرة، فقدمت على أصل براءة الذمة1. الثامنة: إذا تنازع الزوجان في متاع البيت، ولا توجد بينة فجمهور الفقهاء يرون أن للرجل ما يعرف للرجال وللمرأة ما يعرف للنساء2. التاسعة: جواز شهادة الشاهد على القتل الموجب للقصاص أنه قتله عمدا عدوانا، والعمدية صفة تقوم بالقلب، فجاز للشاهد أن يشهد بها اكتفاء بالقرينة   1 معين الحكام لعلي بن خليل الطرابلسي، ص166، والطرق الحكمية، لابن القيم، ص25. 2 الطرق الحكمية، ص25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الظاهرة1. العاشرة: إقرار المريض لوارث أو صديق ملاطف لا يقبل عند المالكية لقيام قرينة التهمة في قصده نفع الوارث، أو إيصال ذلك لبعض الورثة على يد صديقه. الحادية عشرة: إذا ادعت الزوجة أن زوجها لم يكن ينفق عليها فيما مضى من الزمان وهما في بيت واحد، فلا يقبل قولها عند مالك، وأحمد؛ لأن وجودهما في بيت واحد قرينة دالة على كذبها. الثانية عشرة: انعقاد التبايع بالمعاطاة من غير لفظ، اكتفاء بالقرائن والأمارات الدالة على الرضا، قال بهذا المالكية والحنابلة وقال به أيضًا الحنفية، وإن خالف القدوري من علمائهم فذكر أن التعاطي يجوز في الأشياء الخسيسة كالرغيف، والبيضة، ولا يجوز في الأشياء النفيسة، قال صاحب البدائع معقبا على ما ذكره القدوري: ورواية الجواز في الأصل مطلق عن هذا التفصيل وهي الصحيحة2. وخالفهم الشافعي -رضي الله عنه- في ذلك، لكن جماعة من الشافعية منهم النووي، والبغوي، والمتولي اختاروا صحة البيع بالمعاطاة في كل ما يعده الناس بيعا، ويرى ابن سريج والروياني من فقهاء الشافعية جواز البيع بالمعاطاة في الأشياء غير النفيسة، وهي التي جرت عادة الناس فيها بالمعاطاة، كشراء رغيف، أو حزمة بقل ونحوهما3.   1 تبصرة الحكام، ج2، ص116. 2 البدائع، ج5، ص134. 3 مغني المحتاج، لمحمد الشربيني الخطيب، ج2، ص3، والفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 الثالثة عشرة: يرى الحنابلة وبعض المالكية أنه يجوز للرجل أن يلاعن امرأته، فيشهد عليها بالزنا توكيدا لشهادته باليمين، إذا رأى رجل يعرف بالفجور يدخل إليها, ويخرج من عندها نظرا إلى الأمارات والقرائن الظاهرة1. ثم أما بعد، فإنه إذا كانت القرينة تصلح أن تكون وسيلة إثبات لحكم معين في بعض الأمور، فإن الفراسة لا تصلح أن تكون أساسًا للحكم، وجمهور العلماء على منع القضاء بالفراسة؛ لأن القضاء لا بد أن يعتمد على الأدلة الظاهرة الواضحة، والحكم بالفراسة ما هو إلا اعتماد على فكرة وجدت في نفس الإنسان، وقد تكون هذه الفكرة صحيحة، وقد تكون خطأ؛ لأنها لم تبن إلا على الظن والتخمين، والظن كما أنه قد يصيب في بعض الأحيان فإنه كثيرا ما يخطئ، فيؤدي ذلك إلى القضاء بالظلم2. قال ابن العربي: "الفراسة لا يترتب عليها حكم"، وقال: "إن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا، وليس الفراسة منها". وقال ابن فرحون: الحكم بالفراسة مثل الحكم بالظن والحزر، والتخمين، وذلك فسق وجور من الحاكم، والظن يخطئ ويصيب3.   1 تبصرة الحكام، ج2، ص118، والطرق الحكمية، ص25. 2 أحكام القرآن لابن العربي، ج3، ص1119، وتبصرة الحكام، ج2، ص120، ومعين الحكام، ص124، والقرائن ودورها في الإثبات للدكتور أنور دبور، ص14، 15. 3 تبصرة الحكام، ج1، ص202، 203، ج2، ص130، 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الوسيلة التاسعة من وسائل الإثبات: القرعة يبين العلماء أن القرعة من طرق الأحكام، قال بذلك الأئمة الأربعة, ويؤيد هذا الرأي أن الله تبارك وتعالى أخبر بها عن أنبيائه، مقررا لحكمها، غير ذام لها، وفعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده، قال عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} 1، قال قتادة: كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم، فتشاح عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا عليها بسهامهم، أيهم يكفلها، فقرع زكريا وكان زوج أختها، فضمها إليه. وقال تبارك وتعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} 2، أي: فقارع فكان من المغلوبين، أي: وقعت القرعة عليه. فهذا هو شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يوجد في شريعتنا ما يلغيه3. وإذا انتقلنا إلى السنة وجدنا فيها ما يؤكد ذلك أيضًا، ففي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لو يعلم   1 سورة آل عمران، الآية رقم: 44. 2 سورة الصافات، الآية رقم: 131. 3 المراد بشرع من قبلنا الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمم السابقة بواسطة رسله عليهم الصلاة والسلام الذين أرسلهم إلى هذه الأمم، كسيدنا إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا". وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله تعالى عنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه". وفي الصحيحين عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان يختصمان في مواريث لهما، لم تكن لهما إلا دعواهما، فقال: "إنما أنا بشر, وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن 1 بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار" ورواه أبو داود في السنن، وفيه: فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لك، فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم: "أما 2 إذ فعلتما ما فعلتما، فاقتسما وتوخيا الحق 3، ثم استهما 4، ثم تحالا". فالسنة إذن قد جاءت بالقرعة، كما جاء بها القرآن الكريم، وفعلها أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال البخاري في صحيحه: "ويذكر أن قوما   1 ألحن: أي: أفطن وأعرف، ويجوز أن يكون معناه: أفصح تعبيرا عنها وأظهر احتجاجا فربما جاء بعبارة تخيل إلى السامع أنه محق، وهو في الحقيقة مبطل، والأظهر أن يكون معناه أبلغ، كما في رواية في الصحيحين أي: أحسن إيرادا للكلام. نيل الأوطار، ج5، ص377. 2 أما بتخفيف الميم، قال بعض العلماء: يحتمل أن تكون بمعنى حقا وكلمة إذ تفيد التعليل. نيل الأوطار، ج5، ص377. 3 توخيا الحق، أي: اقصدا الحق فيما تصنعان من القسمة. 4 استهما: أي: ليأخذ كل منكما ما تخرجه القرعة من القسمة ليتميز سهم كل واحد منكما عن الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 اختلفوا في الأذان، فأقرع بينهم سعد"1. حجة المبطلين للقرعة: خالف البعض فلم يعدوا القرعة طريقا من طرق الأحكام، وقلوا إن القرعة قمار وميسر، وقد حرمه الله في سورة المائدة وهي من أواخر القرآن نزولا، وإنما كانت مشروعة قبل ذلك. مناقشة هذا الدليل: نجيب عن هذا بأن الله ورسوله شرعا القرعة، فأخبر الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه مقررا لحكمها غير ذام لها، وفعلها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه عن بعده، وقد صانهم الله -سبحانه وتعالى- عن القمار بكل طريق، فلم يبح الله عز وجل لعباده القمار قط، ولا جاء به نبي أصلا2. موضع القرعة: قال العلماء: متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة فلا يجوز الإقراع بينه وبين غيره؛ لأن القرعة حينئذ ضياع ذلك الحق المعين والمصلحة المتعينة، ومتى تساوت الحقوق والمصالح فهذا هو موضع القرعة عند التنازع دفعا للضغائن والأحقاد، والرضا بما جرت به الأقدار3.   1 روي أنه تشاح الناس يوم القادسية في الأذان، فأقرع بينهم سعد بن أبي وقاص. 2 الطرق الحكمية، ص335 وما بعدها. 3 تبصرة الحكام، ج2، ص106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الوسيلة العاشرة: فضاء القاضي بعلمه أو بخلاف علمه ... الوسيلة العاشرة: قضاء القاضي بعلمه أو بخلاف علمه هنا مسألتان: قضاء القاضي بخلاف علمه، وقضاء القاضي بعلمه، فأما المسألة الأولى وهي قضاؤه بخلاف علمه، كما لو شهد شاهدان بزوجية بين اثنين, وهو يعلم أن بينهما محرمية برضاع مثلا, أو طلاقا بائنا، فقد نقل الإمام النووي إجماع العلماء على عدم جواز قضاء القاضي بخلاف علمه، فلا يقضي بالبينة "الشهود" في ذلك؛ لأنه لو قضى بها لكان قاطعا ببطلان حكمه بها حينئذ، والحكم بالباطل حرام، وإن كان بعض فقهاء الشافعية قد اعترض على النووي في دعواه الإجماع برأي لبعض الفقهاء من الشافعية حكاه الماوردي بأنه يحكم القاضي بالشهادة المخالفة علمه1. وعلى هذا فالجمهور من فقهاء الشافعية -وليس كلهم- يرون عدم جواز قضاء القاضي بخلاف علمه، وخالف في هذا صاحب الرأي الذي حكاه الماوردي، ويرى الشافعية أنه كما لا يحكم بخلاف علمه في هذه الحال لا يحكم أيضًا بعلمه لمعارضة البينة "الشهود" له، مع عدالتها في الظاهر، بل يجب على القاضي أن يتوقف عن الحكم حتى يظهر فسق الشهود، فيحكم بعلمه أو نحو ذلك كرفع الدعوى إلى قاض آخر غيره2. وأما المسألة الثانية، وهي قضاؤه بعلمه3 فسنفصل الكلام عنها بعض التفصيل فنقول:   1 المصدر السابق، ج4، ص398. 2 حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص495. 3 علم القاضي قد يكون حصل بالمعاينة، أو بسماع الإقرار، أو بمشاهدة الأقوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 اختلف علماؤنا -رضي الله تعالى عنهم- في قضاء القاضي بعلمه على عدة آراء نذكر ثلاثة منها: أحدها: لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه لا في الحدود ولا في غيرها، لا فيما علمه قبل توليته القضاء ولا بعده، وهذا ما يراه شريح، والشعبي، ومالك وأكثر أصحابه، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد، وهو قول للشافعي يعد غير قوي عند الشافعية، وهذا الرأي أيضًا ظاهر المذهب في فقه الحنابلة. هذا، وقد نسب ابن قدامة -الفقيه الحنبلي المعروف- إلى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة القول بأن القاضي لا يحكم بعلمه1، لكننا نجد الحنفية يصرحون في كتبهم بأن محمد بن الحسن يقول بأن القاضي له أن يحكم بعلمه في حقوق العباد، بل في الوقت الذي نرى فيه فقهاء الحنفية يحكون عن أبي حنيفة -رضي الله تعالى عنه- أنه يشترط لقضاء القاضي بعلمه في حقوق العباد أن يكون ذلك في زمن ولايته، ومحلها، نراهم ينقلون عن صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنهما يريان صحة قضاء القاضي بعلمه قبل ولايته، وفي غير محلها2، والحنفية أدرى بآراء أئمتهم. والرأي الثاني: يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه، وهو ما يراه أبو ثور، وأبو يوسف والقول الراجح عند الشافعية للشافعي قال الربيع المرادي: كان الشافعي يرى القضاء بالعلم ولا يبوح به مخافة قضاة السوء، وقد حرر أصحاب الشافعي المذهب بأن القولين للشافعي في غير الحدود، وأما في الحدود فلا يجوز القضاء   1 المغني، ج11، ص400. 2 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 بعلم القاضي بأسبابها قولا واحدا1، ويرى أحمد أيضًا في رواية ثانية عنه صحة قضاء القاضي بعلمه. وقد اشترط فقهاء الشافعية أن يكون القاضي مجتهدا لكي يصح قضاؤه بعلمه، لا أن يكون قاضي ضرورة كما هو موجود الآن، ويبنوا أنه من المستحب أن يكون ظاهر التقوى والورع، واشترطوا أن يصرح القاضي بما استند إليه حتى ينفذ حكمه، فيقول: علمت أن له عليك ما ادعاه، وقضيت أو حكمت عليك بعلمي، واشترطوا أيضا أن يكون القضاء في غير عقوبة الله تعالى، وأن لا تقوم بينة "شهود" بخلافه، وإلا فلو قامت بينة بخلاف علمه، توقف عن الحكم كما سبق أن بينا، فلو شهد عنده شاهدان بزواج امرأة وهو يعلم بينونتها من زوجها فلا يحكم بالبينة, ولا يحكم كذلك بعلمه، بل يتوقف، فالشروط -إذن- عند الشافعية لقضاء القاضي بعلمه أربعة: 1- أن يكون القاضي مجتهدا فلو كان قاضي ضرورة امتنع عليه القضاء بعلمه، فلو قال: قضيت بحجة شرعية أوجبت الحكم بذلك، وطلب منه بيان مستنده لزمه أن يبين ما استند إليه، فإن امتنع قاضي الضرورة من ذلك فلا يعمل بقضائه2. 2- أن يكون القضاء في غير عقوبة الله تعالى. 3- أن لا تقوم بينة بخلاف علمه.   1 محاضرات في علم القاضي والقرائن وغيرها، مصدر سابق، ص29. 2 نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص259، 260، وحاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص495. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 4- أن يصرح بمستنده، فيقول علمت أن له عليك ما ادعاه وقضيت أو حكمت عليك بعلمي. الرأي الثالث: ما يراه أبو حنيفة، وهو أن ما كان من حقوق الله لا يحكم فيه بعلمه، كحد الزنا، وحد الخمر، وحد السرقة، وأما حقوق الآدميين كالدية وضمان المسروق، والزواج والطلاق وما يتعلق بهما، والبيع والهبة، ونحو ذلك، مما علمه قبيل ولايته، أو في غير محل ولايته لا يقضي به، وما علمه في زمن ولايته ومحلها قضى به1. أدلة الرأي المانع لقضاء القاضي بعلمه: أولا: ما روي عن أم سلمة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض 2 فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" 3. فدل هذا الحديث الشريف على أنه -صلى الله عليه وسلم، إنما يقضي بما يسمع لا بما يعلم. مناقشة هذا الدليل:   1 معين الحكام، للطرابلسي، ص121، والاختيار لتعليل المختار، ج2، ص121. 2 ألحن أي: أفطن بها، ويجوز أن يكون معناه أفصح تعبيرا عنها، وأظهر احتجاجا حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل، قال الشوكاني: والأظهر أن معناه أبلغ كما وقع في رواية الصحيحين أي: أحسن إيرادا للكلام. نيل الأوطار، ج9. 3 نيل الأوطار، ج9، ص185. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 أجيب عن هذا بأن التنصيص على السماع، لا ينفي كون غيره طريقا للحكم، بل يمكن أن يقال إن هذا الحديث أظهر في الاحتجاج للقائلين بجواز قضاء القاضي بعلمه, فإن العلم أقوى من السماع؛ لأنه يمكن بطلان ما سمعه الإنسان ولا يمكن بطلان ما يعلمه1. ثانيا: ما روته عائشة -رضي الله تعالى عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا2، فلاحاه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه3، فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: القود4 يا رسول الله، فقال: "لكم كذا وكذا"، فلم يرضوا، فقال: "لكم كذا وكذا"، فرضوا، فقال: "إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم"، قالوا: نعم، فخطب فقال: "إن هؤلاء الذين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا، أفرضيتم؟ قالوا: لا"، فهم المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يكفوا عنهم، فكفوا، ثم دعاهم فزادهم، فقال: "أفرضيتم"؟ , قالوا: نعم، قال: "إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم"، قالوا: نعم، فخطب فقال: "أرضيتم"؟ , فقالوا: نعم. رواه الخمسة إلا الترمذي5. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن الاستدلال بهذا الحديث بأن ليس فيه إلا مجرد وقوع الإخبار من   1 نيل الأوطار، ج9، ص198. 2 المصدق بتخفيف الصاد, هو الذي يأخذ صدقات الإبل والبقر والغنم. 3 شجه أي: أحدث به شجة، والشجة الجراحة التي تكون في الوجه أو في الرأس. 4 أي: القصاص. 5 نيل الأوطار، ج9، ص195، والخمسة هم: أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وأبو داود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما حصل به الرضا من المطالبين بالقصاص، وإن كان المانعون للقضاء بعلم القاضي قد احتجوا بعدم قضاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هؤلاء المطالبين بالقصاص بما رضوا به في المرة الأولى، فلم يكن هناك مطالب له بالحكم عليهم1. ثالثا: ما روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: لو رأيت حدا2 على رجل لم أحد حتى تقوم البينة. رابعا: قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قضية الحضرمي والكندي: "شاهداك أو يمينه" وفي لفظ: "ولس لك إلا ذلك" 3. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن التنصيص على ما ذكر لا ينفي ما عداه. وأما قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: $"وليس لك إلا ذلك" فلم يقله النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد علم بالمحق منهما من المبطل حتى يصح الاستدلال به على عدم قضاء القاضي بعلمه، بل المراد أنه ليس للمدعي تجاه المنكر إلا اليمين وإن كان فاجرا، إذا لم يكن للمدعي برهان4. خامسا: ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: "لولا أن   1 المصدر السابق، ج9، ص198. 2 أي: لو رأيت ما يستوجب الحد. 3 نيل الأوطار، ج9، ص198، والمغني، ج11، ص400-402. 4 نيل الأوطار، ج9، ص198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 يقول الناس زاد عمر آية في كتاب الله لكتبت آية الرجم". فقول عمر: "لولا أن يقول الناس" إلى آخره إشارة إلى أن ذلك من قطع الذرائع، لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم بشيء1. مناقشة هذا الدليل: يمكن أن نجيب بأن مثل هذا لا يصح التسليم بروايته عن عمر، فمعنى هذا أن عمر كان يرى أن القرآن ينقصه آية يجب أن تكتب فيه، إلا أن تخوفه من كلام الناس واتهامه بأنه زاد آية في كتاب الله منعه من ذلك، وهذا كلام خطير جدا لا يصح التسليم بثبوته عن عمر أو غيره من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهم، فنحن نؤمن والمسلمون جميعا يجب عليهم أن يؤمنوا بأنه لا يوجد في القرآن آية ناقصة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد تكفل بحفظه، فقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فلو كان عمر يجد آية لكتبها، من غير تردد ولم يأبه لكلام الناس؛ لأن كلام الله عز وجل لا يتوقف في إثباته على رضا أحد أو عدم رضاه. ولعل مما يشير إلى ضعف هذا الأثر أن رواية البخاري عقوبة رجم الزاني المحصن عن عمر لم يرد فيها أن عمر امتنع عن كتابة آية الرجم خشية أن يقول الناس، زاد عمر آية في كتاب الله. فقد روى البخاري في باب الاعتراف بالزنا،   1 المصدر السابق، ج9، ص196. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 قال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان1 عن الزهري عن عبيد الله2، عن ابن عباس -رضي الله عنهما، قال: قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحمل، أو الاعتراف3. أدلة الرأي القائل بصحة قضاء القاضي بعلمه: أولا: حديث هند زوج أبي سفيان، لما قالت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال لها -صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". ووجه الاستدلال أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى لها ولولدها من غير بينة ولا إقرار، لعلمه بصدقها. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن الحديث لا يدل على جواز قضاء القاضي بعلمه؛ لأنه فتيا وليس حكما، وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة المستفتي، فيكون المعنى: إن صح كلام هند كان لها أن تأخذ من مال زوجها وولدها بالمعروف، والذي يدل على أن الحديث فتيا أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك في حق أبي سفيان   1 سفيان بن عيينة. 2 عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. 3 فتح الباري، ج12، ص137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 من غير حضوره، ولو كان حكما عليه، لاستدعاه ولم يحكم عليه في غيابه1. ثانيا: ما رواه ابن عبد البر في كتابه أن عروة ومجاهدا رويا أن رجلا من بني مخزوم استعدى2 عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا، وقال عمر: "إني لأعلم الناس بذلك، وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان، فائتني بأبي سفيان، فأتاه به، فقال له عمر: يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا، فنهضوا، ونظر عمر وقال: يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من هنا فضعه ههنا، فقال: والله لا أفعل، فقال: والله لتفعلن، فقال: والله لا أفعل، فعلاه بالدرة3، وقال: خذه، لا أم لك فضعه هنا، فإنك -ما علمت- قديم الظلم، فأخذ أبو سفيان الحجر ووضعه حيث قال عمر، ثم إن عمر استقبل القبلة فقال: اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه، وأذللته لي بالإسلام، فاستقبل القبلة أبو سفيان، وقال: اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر. فهذا الأثر يبين أن عمر قد حكم بعلمه. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن ما روي عن عمر كان إنكارا منه لمنكر رآه، ولم يكن حكما، يدل على ذلك أنه لم توجد من الطرفين دعوى وإنكار بشروطهما.   1 المغني، ج11، ص402، 403. 2 في المصباح: واستعديت الأمير على الظالم طلبت منه النصرة، فأعداني عليه أعانني ونصرني، فالاستعداء طلب التقوية والنصرة. 3 الدرة بكسر الدال: السوط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 ثم لو فرضنا أن ذلك كان حكما من عمر فإنه يعارضه ما روي عن عمر أنه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما: أنت شاهدي فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد1. ثالثا: القاضي يحكم بالشاهدين؛ لأنهما يعطيانه ظنا غالبا بصحة ما شهدا به، فيكون ما تحققه القاضي وقطع به أولى بالحكم2. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن القضاء بالشاهدين لا يؤدى إلى تهمة بخلاف قضاء القاضي بعلمه فإنه يوجد تهمة، إذ لا يؤمن على التقي أن تتطرق إليه التهمة، فمن المحتمل أن يكون هذا وسيلة إلى أن توجه القاضي أهواؤه، فيحكم على من يشاء من غير بينة، ولا غيرها من الحجج3. رابعا: القاضي يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم، فكذلك يحكم بعلمه في ثبوت الحق، قياسا عليه. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن الجرح والتعديل يحكم القاضي فيه بعلمه باتفاق العلماء؛ لأنه لو لم يحكم فيه بعلمه لأدى هذا إلى التسلسل، والتسلسل باطل، وبيان التسلسل أن القاضي يحتاج إلى معرفة عدالة المزكيين وجرحهما، فإذا لم يعمل   1 المغني، ج11، ص402. 2 حاشية الجمل على شرح المنهج، ج5، ص349، وبداية المجتهد، ج2، ص587. 3 المغني، ج11، ص403. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين، ثم كل واحد من المزكيين الأخيرين، يحتاج أيضًا إلى مزكيين، وهكذا يحدث التسلسل وأما مسألتنا فبخلاف ذلك1. التعليل لرأي أبى حنيفة: أما جواز قضائه بما علمه من حقوق الآدميين في زمن ولايته ومحلها؛ فلأن علمه كشهادة الشاهدين بل هو أولى؛ لأن اليقين حاصل بما علمه بالمعاينة والسماع، والحاصل بالشهادة ليس إلا غلبة الظن. وأما عدم جواز قضائه بما علمه قبل ولايته، أو في غير محله ولايته فلأنه قبل ولايته، وفي غير محل ولايته شاهد لا حاكم، وشهادة الفرد لا تقبل، وصار كما لو كان قد علم ذلك بالبينة العادلة ثم ولي القضاء فإنه لا يعمل بها. وأما حقوق الله عز وجل فلا يقضي فيها بعلمه؛ لأنه خصم فيها، فالحاكم نائب عن الله تبارك وتعالى في تنفيذ حقوقه عز وجل2. دليل من استثنى الحدود: استدل من استثنى الحدود -كالزنا والسرقة، وقطع الطريق, وشرب الخمر- من القضاء بعلم القاضي بما يأتي: أولا: ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا، فجاء من أرضه عشاء، فوجد عند أهله رجلا .... ، فذكر حديث تلا عنهما إلى أن قال: ففرق النبي -صلى الله عليه   1 المصدر السابق، ج11، ص403. 2 الاختيار لعليل المختار، ج2، ص121، 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 وسلم- بينهما، وقال: "إن جاءت به أصيهب 1، أريسح 2، حمش الساقين 3، فهو هلال، وإن جاءت به أورق 4، جعدا 5، جماليا 6، خدلج الساقين 7، سابغ الأليتين 8، فهو للذي رميت به"، فجاءت به أورق جعدا، جماليا، خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال سول الله -صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" 9. فظاهر هذا الحديث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد علم وقوع الزنا من المرأة ولم يحكم بعلمه. مناقشة هذا الدليل: أجاب الشوكاني عن هذا الاستدلال بقوله: ويمكن أن يجاب عن الحديث بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما لم يعمل بعلمه لكونه قد حصل التلاعن، وهو   1 أصيهب تصغير أصهب، والأصهب من الرجال: الأشقر، ومن الإبل الذي يخالط بياضه حمرة. 2 أريسح تصغير أرسح، وروي بالصاد بدلا من السين، ويقال أيضًا: الأرصع بالصاد والعين. 3 وهو ضعيف لحم الفخذين والأليتين: قال أهل اللغة: حمش الرجل حمشا صار دقيق الساقين. 4 الأورق: الأسمر. 5 جعد الشعر: بضم العين وكسرها, جعودة: إذا كان فيه التواء وتقيض، فهو جعد وذلك خلاف الشعر المسترسل. 6 جماليا -بضم الجيم وتشديد الميم- هو العظيم الخلق كأنه الجمل. 7 خدلج -بفتح الخاء والدال وتشديد اللام مع الفتح- أي: ضخم. 8 يقال: إلية سابغة أي: طويلة. 9 نيل الأوطار، ج7، ص70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 أحد الأسباب الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجم، والنزاع إنما هو في الحكم بالعلم من دون أن يتقدم سبب شرعي ينافيه1. ثانيا: استدل أيضًا من قال باستثناء الحدود من القضاء بعلم القاضي بأن الحدود تدرأ بالشبهات كما هو القاعدة الشرعية، ويندب سترها2. رأي الشوكاني وهو ما نختاره: وقال الشوكاني بعد أن ذكر آراء العلماء في مسألة قضاء القاضي بعلمه وجملة من أدلتهم: "والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال: إن كانت الأمور التي جعلها الشارع أسبابا للحكم كالبينة، واليمين، ونحوها، أمورا تعبدنا الله بها لا يسوغ لنا الحكم إلا بها، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين، فالواجب علينا الوقوف عندها والتقيد بها، وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنا ما كان، وإن كانت أسبابا يتوصل الحاكم بها إلى معرفة المحق من المبطل، والمصيب من المخطئ، غير مقصودة لذاتها بل لأمر آخر وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظن، وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع، فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر، فلا شك ولا ريب أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه؛ لأن شهادة الشاهدين والشهود لا تبلغ إلى مرتبة العلم الحاصل عن المشاهدة، أو ما يجري مجراها، فإن الحاكم بعلمه غير الحاكم الذي يستند إلى شاهدين أو يمين، ولهذا يقول المصطفى -صلى الله عليه وسلم: "فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه، إنما أقطع له قطعة من نار".   1 نيل الأوطار، ج9، ص199-200. 2 مغني المحتاج، ج4، ص398. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 فإذا صار الحكم مع تجويز كون الحكم صوابا وتجويز كونه خطأ فكيف لا يجوز مع القطع بأنه صواب لاستناده إلى العلم واليقين. ولا يخفى رجحان هذا وقوته؛ لأن الحاكم به قد حكم بالعدل والقسط والحق كما أمر الله تعالى. ثم بين الشوكاني أن مما يؤيد هذا حديث الحضرمي والكندي فقد جاء رجل من حضرموت ورجل من كنده إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، قال الكندي هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للحضرمي "ألك بينة" .... الحديث. قال الشوكاني: فإن البينة في الأصل ما به يتبين الأمر ويتضح، ولا يرد على هذا أنه يستلزم قبول شهادة الواحد والحكم بها؛ لأنا نقول: إذا كان القضاء بأحد الأسباب المشروعة فيجب التوقف فيه على ما ورد، وقد قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ، وقال -صلى الله عليه وسلم: "شاهداك"، وإنما النزاع إذا جاء بسبب آخر من غير جنسها هو أولى بالقبول منها كعلم الحاكم" ا. هـ1. فالشوكاني يؤيد الرأي القائل بجواز أن يقضي القاضي بعلمه, ونرى ما يراه الشوكاني غير أنه احتياطا في هذه المسألة لا بد من أن يكون القاضي عدلا، حتى يصح له أن يحكم بعلمه، وأما لو فقدت العدالة فيمن يصلح لتولي القضاء، فولي   1 نيل الأوطار، ج9، ص199. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 أفضل من توفرت فيه بقية الشروط فلا يصح لهذا أن يحكم بعلمه؛ لأنه غير مأمون أن يدعي علما بحدوث جرائم من أشخاص يريد أن يؤذيهم، فيدعي مثلا على رجل أنه شاهده يطلق زوجته طلاقا ثالثا ونحو هذا، وقد صرح بعض العلماء بهذا, قال الأذرعي أحد فقهاء الشافعية: "وإذا أنفذنا أحكام القاضي الفاسق للضرورة فينبغي أن لا ينفذ قضاؤه بعلمه بلا خلاف، إذ لا ضرورة إلى تنفيذ هذه الجزئية النادرة مع فسقه الظاهر، وعدم قبول شهادته بذلك قطعا"1. وبعد، فبهذا تكون قد انتهينا من الكلام عن وسائل الإثبات، ونحب قبل أن ننتقل إلى مسألة أخرى، أن نبين أن المجتمعات التي لم تعرف الإسلام كانت إلى ما قبل القرن الثالث عشر الميلادي تتبع وسائل في الإثبات أقرب إلى الفوضى ولعب الأطفال، فقد كان المطلوب من المدعى عليه أن يحمل حديدا محميا، أو يغمس ذراعه في زيت أو ماء مغلي، أو يلقى في حفرة فيها مجموعة من الثعابين، فإن كان برئيًا فإن العناية الإلهية ستنقذه ولا يصاب بأي أذى، وأما لو أصيب بأذى فإن اتهامه يكون مقطوعا به، كما أنه كان من الأدلة المتعارف عليها أن يحضر كل خصم ديكا، فتتقاتل الديكة، وينظر إلى الديك الغالب على أنه دليل على صدق دعوى صاحبه. وفي القانون الروماني كان حسن الصوت دليلا على ثبوت الحق لصاحبه، وفي اليابان كان الشخص ينتحر أمام باب خصمه بشق بطن نفسه إذا لم يستطع التوصل إلى دليل يؤيد جانبه، ومعنى ذلك إثبات الحق واستنزال غضب الآلهة على خصمه.   1 مغني المحتاج، ج4، ص399. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 كانت هذه الوسائل تتبع في الفصل في الخصومات في الوقت الذي كانت أنوار الشريعة الإسلامية قد سطعت منذ خمسة قرون على البلاد الإسلامية، وأرسيت مبادئ العدل والحق والمساواة أمام القانون1. هذا وسننتقل الآن إلى الكلام عن مسألة قوية الصلة بالدعوى, وهي هل يجوز في بعض الحالات استيفاء الحق بدون قضاء؟ سنبين فيما يأتي آراء العلماء، وما يستند إليه آراؤهم, ونرجح بمشيئة الله تعالى ما نراه أولى بالترجيح. استيفاء الحق بدون قضاء: قبل أن نبين آراء علمائنا -رضي الله تعالى عنهم- في هذه المسألة التي تعرف في الفقه الإسلامي بمسألة الظفر، نحب أن نوضح أن العلماء قد اتفقوا على أنه إذا كان من عليه الحق مقرا به باذلا له فلا يجوز لصاحب الحق أن يأخذ من ماله إلا المقدار الذي يعطيه، فإن أخذ من ماله شيئًا بغير إذنه لزمه أن يرده إليه حتى لو كان قدر حقه؛ لأنه لا يجوز أن يملك عينا من أعيان ماله من غير رضا منه لغير ضرورة, وإن كانت من جنس حقه؛ لأن الإنسان قد يكون له غرض في العين. وكذلك اتفق العلماء على أنه إذا كان من عليه الحق مانعا له لوجود أمر يبيح له المنع، كالتأجيل في الدين، والإعسار، لم يجز لصاحب الحق أن يأخذ شيئًا من ماله، فإن أخذ شيئًا لزمه أن يرده إن كان لا يزال باقيا، فإن كان قد تلف لزمه أن يرد له عوضه.   1 من وسائل الإثبات في الشريعة وفي القانون، للدكتور أحمد عبد المنعم البهي، ص15، 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 وإذا كان من عليه الحق قد منعه بغير حق، وكان الدائن قادرا على استخلاص حقه عن طريق الحاكم أو القاضي، فإنه لا يجوز له الأخذ أيضًا مستقلا عن الحاكم أو القاضي أو من يقوم مقامهما؛ وذلك لأن في إمكانه أن يستوفي حقه بمن يقوم مقامه من حاكم أو غيره فكان كما لو كان قادرا على استيفائه عن طريق وكيله. واختلف العلماء فيما إذا كان من له الحق لا يقدر على استيفاء حقه، لكون من عليه الحق جاحدا له، ولا توجد بينة مع صاحب الحق أو لكونه لا يجيبه إلى الحاكمة، ولا يستطيع إجباره على ذلك، أو نحو هذا، هل لصاحب الحق أن يأخذ قدر حقه بدون رفع للقاضي وبدون علم من كان الحق تحت يده؟ أو ليس له ذلك؟ وإليك الآراء والأدلة: الرأي الأول: ليس لصاحب الحق أخذ قدر حقه، وهذا هو المشهور في المذهب الحنبلي، وإحدى روايتين عن مالك. الرأي الثاني: لصاحب الحق -إن لم يقدر على استخلاص حقه بعينه- أن يأخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه، وهذا ما يراه الشافعي ورأي متخرج في الفقه الحنبلي مأخوذ من قول أحمد في المرتهن: يجوز له أن يركب ويحلب بقدر ما ينفق على المرهون المركوب كالحصان أو المحلوب كالبقرة، والمرأة تأخذ مئونتها، وبائع السلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضا. الرأي الثالث: إن لم يكن لغيره عليه دين فله أن يأخذ حقه، وإن كان عليه دين لم يجز، وهذا هو المشهور من مذهب مالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 الرأي الرابع: أن من كان له دين على آخر، وامتنع المدين عن الوفاء بالدين فللدائن أن يأخذ مقدار دينه من مال المدين لكن بشرط أن يكون هذا المال من جنس حقه وبنفس صفته، وهذا ما يراه فقهاء الحنفية1. أدلة الآراء: دليل المجيزين: حديث هند زوج أبي سفيان حين جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، رواه البخاري ومسلم. ووجه الدلالة من الحديث أنه إذا جاز للزوجة أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها بغير إذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل أن يأخذ حقه. وقد علل للمشهور من مذهب مالك, وهو أنه إن كان لغيره عليه دين لم يجز، بأن الدائنين يتحاصان في مال من عليه الدين إذا أفلس. وعلل لرأي الحنفية بأنه إذا لم يكن المال من جنس حقه وبنفس صفته فإنه حينئذ يكون اعتياضا، ولا تجوز المعاوضة إلا بالرضا من المتعاوضين، لقول الله تبارك وتعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . مناقشة الاستدلال بحديث هند: أجاب الحنابلة عن الاستدلال بحديث هند بعدة إجابات:   1 المغني، ج9، ص326، وتكملة حاشية ابن عابدين، ج1، ص380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 1- أجاب الإمام أحمد بأن حقها واجب عليه في كل وقت، وهذا إشارة من الإمام أحمد إلى وجود الفرق بين النفقة والدين، فإن النفقة تحتاج في كل يوم -تجب فيه- إلى محاكمة ومخاصمةو وفي هذا مشقة واضحة، بخلاف الدين. 2- فرق ابن قدامة بين النفقة والدين بفرقين. أحدهما: أن للمرأة من التبسط في مال زوجها بحكم العادة ما له تأثير في إباحة أخذ الحق بالمعروف، بخلاف الأجنبي. الفرق الثاني: أن النفقة إنما هي لإحياء النفس، وهذا مما لا يصبر عنه، ولا سبيل إلى تركه، فجاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين. 3- فرق بعض الحنابلة بين النفقة والدين بفرق آخر، وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة، فكأن الحق صار معلوما بعلم قيام مقتضيه1. ويمكن الرد على الإجابة الأولى بأن فرض المسألة هو إذا لم يستطع صاحب الحق أن يستوفي حقه بطريق القضاء, أو غيره من طرق استيفاء الحقوق كالتحكيم، فهو لا يستطيع أن يحصل على حقه لا بغير مشقة ولا بمشقة، فهو أولى بالحصول عليه من الزوجة التي تستطيع أن تحصل على حقها بطريق القضاء ولو بمشقة. ويمكن الرد على الفرق الأول من الفرقين اللذين فرق بهما ابن قدامة بين النفقة والدين بأننا لا نظن أن ما للمرأة من التبسط في مال زوجها يبيح لها أن تأخذ من ماله لنفقتها ما يزيد عن المعروف، فتساوت في هذا مع صاحب الحق في أنه أيضًا لا يباح له أن يأخذ ما يزيد عن حقه.   1 المغني، ج9، ص377، وكشاف القناع، ج6، ص351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 وعلى الفرق الثاني بأنه قد لا يجد الدائن ما ينفقه على نفسه ومن يعوله إلا حقه الذي ظفر به، وقد تكون هذه حال نادرة لكنها قابلة للحدوث، فهل يباح له الظفر بحقه حينئذ أم لا؟ وأما الرد على الإجابة الثالثة فيمكن أن يقال إنه إذا كان قيام الزوجية كقيام البينة، فإن صاحب الحق يعتمد على أقوى من البينة، وهو ثبوت حقه بينه وبين الله تعالى. أدلة المانعين: الدليل الأول: ما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وجه الاستدلال أنه متى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير علمه فقد خانه، فيدخل في عموم الخبر1. مناقشة الاستدلال بالحديث: أولا: لم يثبت هذا الحديث، فقد قال فيه الشافعي: هذا حديث ليس بثابت، واستنكره أبو حاتم الرازي2. ثانيا: على فرض ثبوت هذا الحديث فإنه لا يدل للمانعين؛ لأن أخذ الحق من مال من ينكره ولا يرضى بأدائه ليس خيانة، وإنما الخيانة أخذ مال الغير ظلما   1 المغني، ج9، ص326، 327، وكشاف القناع، ج6، ص351. 2 التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، لابن حجر، ج3، ص97، شركة الطباعة الفنية، ونظرية الدعوى للدكتور محمد نعيم عبد السلام، القسم الأول, ص164. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وعدوانا، ومعنى الحديث: لا تخن من خانك بأن تقابله بخيانة مثل خيانته، وهذا لم يخنه؛ لأنه أخذ حق نفسه، والأول يغتصب حق غيره1. الدليل الثاني: ما روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه "، وهذا لم يأخذ مال غيره بطيب من نفسه فيكون حراما2. مناقشة هذا الدليل: يمكن أن يجاب عن الاستدلال بهذا الحديث بأن الحديث ليس على إطلاقه، بدليل أنه يجوز للشفيع أخذ المشفوع فيه بالثمن جبرا عن المشتري ويجوز انتزاع مال الظالم لتوفية مظالمه، وانتزاع مال المدين المماطل لتسديد ديونه، والحنابلة أنفسهم أجازوا أن ينتفع المرتهن بالركوب كالحصان والمحلوب كالبقرة بغير إذن الراهن نظير نفقته وبقدرها، فكذلك هنا يجوز أخذ الحق جبرا عن المنكر له ما دام صاحب الحق لا يستطيع أن يصل إلى حقه بغير هذا من قضاء أو تحكيم أو غيرهما. الدليل الثالث: أن الآخذ إما أن يأخذ من جنس حقه أو لا، فإن أخذ من غير جنس حقه، فإن هذا يكون معاوضة بغير تراض وهي لا تجوز، وإن أخذ من جنس حقه فليس له تعيين الحق بغير رضا صاحبه؛ لأن التعيين إليه، ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول اقضني حقي من هذا الكيس دون غيره؟   1 المحلى لابن حزم، ج8، ص182، ونظرية الدعوى، مصدر سابق، القسم الأول، ص165. 2 المغني، ج9، ص327، وكشاف القناع، ج6، ص351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 مناقشة هذا الدليل: من الممكن أن يجاب عن هذا بأنه إن أخذ من جنس حقه وإن كان معاوضة بغير تراض صح له ذلك؛ لأن من عليه الحق ممتنع أصلا من أداء الحق، فيكون أشبه بأخذ بدل المغصوب وإن كان من غير جنسه، إذا هلك عند الغاصب؛ لأن الممتنع من أداء الحق كالغاصب، وإلا فيمكن أن يقال: أخذ بدل المغصوب لا يجوز؛ لأنه معاوضة بغير تراض، ومثل هذا لا يصح قوله. وأما القول بأنه ليس للدائن تعيين الحق بغير رضا صاحبه فهذا يسلم إذا كان من عليه الحق مستعدا لأدء الحق، وأما إذا كان ممتنعا فكيف يتحقق منه التعيين والتعيين إنما هو فرع الاعتراف بالحق والاستعداد لأدائه، والمثال المذكور وهو عدم جواز اقضني حقي من هذا الكيس دون هذا الكيس إنما يصح التمثيل به لو كان المدين معترفا بالحق مستعدا لأدائه، لكن لو امتنع عن أداء هذا الحق فلا وجه للتمثيل بهذا المثال. الرأي الراجح: الرأي الراجح الذي نراه أولى بالترجيح هو الرأي القائل بالجواز بالشروط الآتية التي قال بها المالكية والشافعية. شروط الجواز: بين علماء المالكية والشافعية عدة شروط لا بد من توفرها حتى يجوز لصاحب الحق أخذه من الجاحد له، وإليك هذه الشروط: الشرط الأول: أن يأمن وقوع فتنة، من ضرب، أو جرح، أو حبس، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 شابه ذلك، فإن أدى أخذه للفتنة والشحناء فلا يجوز ذلك. الشرط الثاني: أن يأمن حدوث رذيلة تنسب إليه، فقد يضبط ويتهم بالسرقة، أو الغصب، فإذا أمن حدوث ذلك فقد تحقق هذا الشرط. الشرط الثالث: أن يكون الحق في غير عقوبة، وأما إذا كان الحق عقوبة فلا يصلح له أن يستوفيها بنفسه، بل لا بد أن يلجأ إلى الحاكم، فليس له أن يضرب من ضربه، ولا يجرح من جرحه، ولا يسب من سبه، وهكذا1. الشرط الرابع: إذا كان الحق دينا فيشترط أن يكون الدين حالا والمدين ممتنع من الأداء, أما لو كان غير ممتنع من الأداء فله أن يطالبه بالدين، ولا يحل له أن يأخذ شيئًا من ممتلكات المدين؛ لأن المدين مخير في دفع ما عليه من أي مال يشاء, فليس للمستحق إسقاط حقه من ذلك إجبارا. وعلى هذا فإن أخذه لم تثبت ملكيته له، ولزمه أن يرده إلى صاحبه، فإن تلف عنده ضمنه، فإذا تساوى الحقان جاء التقاص. الشرط الخامس: اشترط فقهاء الشافعية في الحق إذا كان دينا أن يكون دينا لآدمي، أما دين الله تعالى كالزكاة، والكفارة إذا امتنع المالك من أدائها وظفر الفقير أو غيره من المستحقين للزكاة أو الكفارة بجنسها من ماله فليس له حق الأخذ2.   1 الشرح الصغير، ج5، ص60، 61. 2 مغني المحتاج، ج4، ص461، 462. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 إن كان الحق منفعة: بين فقهاء الشافعية أن المنفعة كالعين إذا كانت واردة على عين، فله أن يستوفيها من هذه العين بنفسه إن توفرت الشروط المطلوبة في الاستيفاء بدون القضاء، وأما إن كانت المنفعة واردة على ذمة فهي كالدين، فإن قدر على تخليصها بأخذ شيء من ماله فله ذلك بشروطه. المأخوذ إما أن يكون من جنس حقه أو لا: المأخوذ إذا كان من جنس حقه كما لو كان غصب منه قمحا فوجد قمحا للغاصب فأخذ منه مقدار المغصوب فإنه يتملكه بدلا عن حقه. وأما إن كان المأخوذ من غير جنس حقه فإنه يبيعه بنفسه مستقلا؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وله أن يوكل شخصا آخر في بيعه. هذا هو الرأي القوي في فقه الشافعية، ويوجد رأي آخر يقول بوجوب رفعه إلى قاض لبيعه فلا يبيع هو بنفسه مستقلا؛ لأنه لا يصح أن يتصرف في مال غيره لنفسه. هذا الخلاف بين فقهاء الشافعية في صورة ما إذا لم يطلع القاضي على الحال، وأما لو كان القاضي مطلعا عليه فلا يصح له أن يبيعه باتفاق فقهاء الشافعية. المأخوذ مضمون عليه: بين فقهاء الشافعية أن المأخوذ مضمون على الأخذ على الرأي الراجح من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 رأيين لفقهاء الشافعية. وعلى هذا يكون ضامنا له إذا تلف قبل تملكه وبيعه، بالأكثر من قيمته من حين أخذه إلى حين تلفه، قياسا على الغاصب؛ لأنه أخذه بغير إذن المالك لنفسه. والرأي الثاني لفقهاء الشافعية أنه لا يضمنه إلا إذا فرط في المحافظة عليه من التلف، وعلل لهذا الرأي بأنه أخذ ما يتوثق من حقه، وليتوصل إليه كالمرتهن إذا أخذ المرهون، وما دام الشارع قد أذن له في الأخذ فإن إذن الشارع يقوم مقام إذن المالك. وعلى الرأي الأول يحسن أن يبادر إلى بيع ما أخذه بحسب الإمكان، فإن قصر في ذلك فنقصت قيمته ضمن النقصان ولو انخفضت القيمة وارتفعت وتلف فالقيمة مضمونة عليه بالأكثر. وبين الشافعية أن هذا الخلاف فيما لو تلف قبل أن يتمكن من البيع، وأما إذا تمكن من البيع لكنه لم يفعل فإنه يضمن باتفاق الآراء عندهم. وقال الشافعية أيضًا أن محل الخلاف بينهم فيما لو كان المأخوذ من غير جنس الحق، أما لو كان المأخوذ من جنس حقه فإنه يضمنه ضمان يد بلا خلاف عندهم أيضا، لحصول ملكه بالأخذ عن حقه. ومعنى كونه مضمونا عليه قبل بيعه أنه لو حصل في الشيء المأخوذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 زيادة قبل البيع، كما لو ولدت البقرة مثلا كانت هذه الزيادة داخلة في ملك المأخوذ منه. لا يأخذ المستحق فوق حقه إن أمكنه الاقتصار: بين العلماء أنه لا يجوز للمستحق أن يأخذ فوق حقه إذا كان يمكنه الاقتصار على قدر حقه؛ لأن المقصود هو الحصول على الحق، وقد حصل هذا المقصود، فإن أخذ زيادة عن حقه كان ضامنا للمقدار الزائد؛ لأنه تعدى بأخذ هذا المقدار الزائد. أما إذا لم يمكنه أن يقتصر على قدر حقه، بأن كان لم يتمكن إلا من الظفر بمتاع تزيد قيمته على حقه، فله أن يأخذه، وبين الشافعية أنه لا يكون ضامنا للزيادة؛ لأنه لو لم يأخذها لحقه الضرر. ثم إن كان يتعذر عليه أن يبيع قدر حقه فقد كان من حقه أن يبيع الجميع، ويأخذ من الثمن مقدار حقه، ويجب عليه أن يرد ما زاد عن مقدار حقه، فيرد الزيادة على غريمه بصورة الهبة ونحوها. وأما إن كان لا يتعذر عليه أن يبيع قدر حقه فإنه يجب عليه أن يبيع منه هذا القدر، ووجب عليه أن يرد إلى غريمه ما زاد عن ذلك. يرى الشافعية جواز أخذ مال غريم الغريم: إذا كان لخالد مثلا دين على أحمد، ولأحمد على عمر مثله، فإن الشافعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 أجازوا أن يأخذ خالد من مال عمر ما يستحقه على أحمد, واشترطوا لذلك عدة شروط: الأول: أن لا يكون مستطيعا للظفر بمال الغريم. الثاني: أن يكون غريم الغريم هو أيضًا جاحدا للحق، أو ممتنعا أيضًا كالغريم. الثالث: أن يحيط الآخذ غريمه علما بأنه أخذ حقه من مال غريمه، حتى إذا طالبه الغريم بعد ذلك كان هو الظالم. الرابع: أن يعلم غريم الغريم، فيعلمه فيما بينه وبينه1. وبهذا نكون قد انتهينا من مباحث الفصل الثالث, وننتقل الآن إلى الفصل الرابع الذي خصصناه للكلام عن أصول في القضاء الإسلامي.   1 مغني المحتاج، ج4، ص461، وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 الفصل الرابع: أصول في القضاء الأصل الأول: العدل بين الخصمين ... الفصل الرابع: أصول في القضاء سنتكلم بمشيئة الله تعالى في هذا الفصل عن عدة أمور تعد أصولا في القضاء، بعضها متفق عليه بين العلماء، وبعضها مختلف فيه، وسنبين الاختلاف إن وجدناه في شيء من هذه الأصول، مدللين لأراء علمائنا -رضي الله تعالى عنهم- مرجحين بمشيئة الله تعالى ما نراه مستحقا للترجيح. وإليك الكلام عن هذه الأصول: الأصل الأول: العدل بين الخصمين القاضي مأمور بالعدل والإنصاف بين المتحاكمين، فيسوي بينهما في الإذن بالدخول عليه معا، ولا يدخل أحدهما قبل الآخر ويرى بعض العلماء أن التسوية بينهما مستحبة في دخولهما عليه، وإقباله عليهما، واستماعه منهما، ويرى ابن أبي الدم الفقيه الشافعي أن ذلك واجب عليه، ويرى كراهية القيام لهما جميعا، قال: فإنه قد يكون أحدهما شريفا، والآخر وضيعا، فإذا قام لهما علم الوضيع أن قيامه للشريف، وكذلك يعلمه الشريف فيزداد تيها ويزداد الوضيع كسرا، وترك القيام لهما أقرب إلى العدل، وأنفى للتهم1. وقال ابن قدامة الفقيه الحنبلي المعروف: على القاضي العدل بين الخصمين في كل شيء، من المجلس والخطاب واللحظ واللفظ والدخول عليه، والالتفات إليهما، والاستماع منهما، وهذا قول شريح، وأبي حنيفة، والشافعي، ولا أعلم فيه مخالفا2. وصرح بعض العلماء بوجوب التسوية بين الخصمين في القيام والجلوس، والكلام، والاستماع، والنظر لهما حتى لو كان أحدهما مسلما شريفا والآخر كافرا، لكن بعضا آخر من العلماء يرى جواز رفع المسلم على الذمي3.   1 أدب القضاء، لإبراهيم بن عبد الله الهمداني الحموي المعروف بابن أبي الدم، ج1، ص353، تحقيق ودراسة الدكتور محيي هلال السرحان. 2 المغني، ج11، ص441. 3 الغاية القصوى في دراية الفتوى، لعبد الله بن عمر البيضاوي، تحقيق علي محيي الدين علي القره داغي، ج2، ص1009، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 الأصل الثاني: البينة على المدعي واليمن على من انكر، الأصل الثالث: حكم القاضي لا يجرم حلالا ولا يحل حراما ... الأصل الثاني: البينة على المدعي واليمين على من أنكر وهذا الأصل تكلمنا عنه سابقا بما فيه الكفاية، عند الكلام عن نظام الفصل في الدعوى، ولا حاجة تدعونا إلى إعادة ما قلناه هنا, فليرجع إليه هناك. الأصل الثالث: حكم القاضي لا يحرم حلالا ولا يحل حراما هل القضاء إظهار لحكم الله تبارك وتعالى، أو هو إثبات لحكم المدعى به وإنشاء له، أو بعبارة أخرى: إذا حكم القاضي في قضية من القضايا بشيء للمدعي فهل يصبح هذا الشيء الذي قضى به حلال للشخص الذي حكم له القاضي، بصرف النظر عما إذا كان الشخص يستحق ما قضى به القاضي في الواقع ونفس الأمر أم لا؟ أم لا بد لكي يكون الشيء الذي قضى به القاضي حلالا أن يكون في الواقع مستحقا له فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى؟ هذه مسألة من المسائل التي اختلف العلماء فيها، وقبل أن نبين ما يراه علماؤنا -رضي الله عنهم، نحب في البداية أن نوضح الأمور التي يقضي فيها القاضي، لكي يكون ذلك مدخلا لذكر آراء العلماء وأدلتهم في هذه المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 الأمور التي يقضي القاضي فيها متنوعة وكثيرة نذكر منها هنا: 1- العقود، كالزواج والبيع والإجارة والرهن وغير ذلك من العقود. 2- الفسوخ، والمراد بها كل ما يرفع حكم العقد، وهذا شامل للطلاق. 3- الأملاك المرسلة: أي: المطلقة عن إثبات سبب الملك، كأن ادعى ملكا مطلقا في دار، أو في أرض، أو في طعام، من غير تعيين بشراء أو إرث. 4- الأملاك غير المرسلة: أي: التي ذكر لها سبب معين، كالزواج والبيع والإجارة. والشهادة -كما سبق بيانه- إحدى وسائل الإثبات التي يحكم القاضي بمقتضاها، ولا بد من توفر شروط في الشهود لكي تصح الشهادة، وقد تكلمنا عن هذه الشروط وذكرنا آراء العلماء في بعض الشروط المختلف فيها، عند كلامنا عن البينة بوصفها إحدى وسائل الإثبات. فإذا ظهر أن الشهود لم تتحقق فيهم الشروط المطلوبة شرعا كأن تبين أنهم كفار في الشهادة على المسلمين في غير الوصية في السفر، فإنه -بإجماع العلماء- لا ينفذ حكم القاضي لا ظاهرا ولا باطنا، ومعنى باطنا أي: فيما بيننا وبين الله -تبارك وتعالى. وأما إذا لم يظهر ما يمنع من قبول شهادة الشهود، ولكنهم كانوا في الواقع شهود زور، وطرفا القضية يعلمان أنهما شهود زور، ولا يعلم القاضي أنهما شهود زور فحكم بمقتضى شهادتهم بناء على ظنه عدالتهم، فهل حكم القاضي حينئذ ينفذ ظاهرا وباطنا؟ أم أنه لا ينفذ إلا ظاهرا فقط، وعلى طرفي القضية أن يتبعا ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 هو في الحقيقة وواقع الأمر حسب علمهما؟. هذه مسألة اختلف حولها العلماء كما ذكرنا، وقد اتفقوا على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا إذا كان الشهود شهود زور فيما يلي: 1- الأملاك المرسلة، والدين الذي لم يبين سببه، فلا ينفذ الحكم إلا ظاهرا فقط بإجماع العلماء؛ لأن لا بد لثبوت الملك من سبب، وأسباب الملك كثيرة، ولا يمكن القاضي تعيين شيء منها إلا بالحجة المثبتة لذلك، فلم يكن القاضي مكلفا بالقضاء بالملك، وإنما هو ملكف بأنه يقصر يد المدعى عليه عن الشيء المدعى، وذلك نافذ منه ظاهرا، فأما أن ينفذ باطنا بمنزلة إنشاء جديد، فليس للقاضي القدرة عليه بلا سبب شرعي, وعلى هذا لا يحل للمقضي له أن يستمتع بالجارية التي حكم له القاضي بملكيتها ولا يحل له أن يأكل مما حكم به القاضي له، ولا أن ينتفع به انتفاع المالك، كأن يلبسه إذا كان المقضي به من الملبوسات أو غير ذلك من أنواع الانتفاع التي هي حق لمالك الشيء. وفي نفس الوقت يحل للمقضي عليه أن يأكل من هذا الشيء أو يلبسه إذا كان مما يلبس، أو ينتفع به انتفاع المالك، لكن يفعل ذلك سرا، وإلا فسقه الناس. ومثل الأملاك المرسلة الإرث. 2- إذا كانت شهادة الزور في الأملاك بسبب، وذكر السبب وكان سببا لا يمكن إنشاؤه كالإرث، فلا ينفذ القضاء باطنا أيضًا باتفاق العلماء. واختلف العلماء في المحكوم فيه إذا كان من الأمور التي للقاضي مدخل فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 كالعقود والفسوخ، كالزواج والطلاق على رأيين. أحدهما ما يراه أبو حنيفة، وهو أن حكم القاضي إثبات الحكم المدعي وإنشاء له، فيجوز أن ينفذ فيها ظاهرا وباطنا، وربما عبر بعض الحنفية عن هذا بأن قضاء القاضي يغير الحكم عند الله. الثاني: ما يراه جمهور العلماء، وهو أن لا ينفذ القضاء بشهادة شهود الزور باطنا، فحكم الحاكم -قاضيا أو غيره- لا يزيل الشيء عن صفته، فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا، وربما عبروا عن هذا بأن قضاء القاضي لا يغير الأحكام الشرعية عن حقائقها الموضوعة عند الله تعالى، وبأن القضاء ينبني على الحجة، فإن كانت حجة حقيقية ظاهرا، وباطنا، نفذ الحكم ظاهرا وباطنا، وإن كانت حجة في الظاهر فقط لم ينفذ إلا في الظاهر فقط. ومن الجمهور مالك والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وداود الظاهري، وغير هؤلاء، ووافق الجمهور في هذا الرأي من الحنفية أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر1. فلو شهد شاهدان زورا بزواج رجل بامرأة وهي تنكر، فحكم القاضي بصحة هذا الزواج بشهادة هذين الشاهدين عملا بظاهر عدالتهما إذا كان القاضي لا يرى وجوب البحث عن العدالة في الشاهد بأن كان قاضيا حنفيا، أو كان قاضيا   1 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص122، وحاشية الدسوقي، ج4، ص156، وأدب القاضي للخصاف شرح الجصاص، ص216، ومغني المحتاج، ج4، ص397، والمغني، ج1، ص407، 408، وكشاف القناع، ج6، ص352، والشرح الصغير، ج4، ص223، والأشباه والنظائر لعبد الوهاب بن السبكي، ج2، ص300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 يرى وجوب البحث عن عدالة الشهود، كالمالكي والشافعي، لكن عجزت المرأة عن تجريح الشاهدين، فإن أبا حنيفة -رضي الله تعالى عنه- يرى أنه يحل للرجل الذي حكم له القاضي بصحة الزواج أن يستمتع بالمرأة استمتاع الزوج بزوجته. ويرى جمهور العلماء عدم جواز استمتاع المحكوم له بهذه المرأة؛ لأنها ليست زوجته في الواقع فيما بينه وبين الله، وعليها أن تمتنع منه وتهرب ما أمكنها، فلا يحل لها أن تمكن من نفسها، وعليها أن تدفعه كما يدفع الصائل على البضع1، وقال العلماء عليها أن تصده عن نفسها حتى لو قتلته جاز لها ذلك. وكذلك لو أن رجلين تعمدا الشهادة زورا على رجل أنه طلق امرأة ثلاثا، والزوج منكر لذلك، فقبل القاضي شهادتيهما ظانا عدالتهما، ففرق بين الزوجين، جاز عند أبي حنيفة لأحد الشاهدين زواجها بعد انقضاء عدتها وهو يعلم بتعمده الكذب. وجمهور العلماء يحرمون عليه ذلك, لكن بعض فقهاء الحنفية صرح بأن الفتوى في الفقه الحنفي في هذه المسألة كما يقول أبو يوسف، ومحمد، وزفر، وجمهور العلماء، لا كما يقول أبو حنيفة، نظرا لظهور أدلة الجمهور بالنسبة لدليل أبي حنيفة، على الرغم من مبالغة السرخسي أحد أشهر علماء الحنفية في كتابه   1 إذا شرع إنسان في الاعتداء على إنسان آخر يضرب أو إرادة قتل، أو نهب مال، أو هتك عرض، فهذه جريمة صيال، والمعتدي يسمى صائلا، والمعتدى عليه يسمى مصولا عليه، ويجوز للمصول عليه أن يدفع الصائل بكل وسيلة, ولو باستعمال القوة على أن يتبع الأخف فالأخف، وإذا أراد الاعتداء على العرض ولم يندفع إلا بقتله جاز قتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 "المبسوط" ومبالغة غيره من علمائهم في توجيه رأي أبي حنيفة1. ما يشترط لنفاذ القضاء ظاهرا وباطنا عند أبي حنيفة: يشترط شرطان لنفاذ القضاء ظاهرا وباطنا عند أبي حنيفة في الدعاوى التي يرى أنه ينفذ ظاهرا وباطنا فيها: الشرط الأول: أن يكون المحل قابلا للحكم الذي قضى به القاضي، فلو لم يكن المحل قابلا للحكم فلا ينفذ الحكم باطنا باتفاق العلماء، وذلك كما لو ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها، وشهد له شاهدان زورا بذلك، فحكم القاضي بالزوجية مع أنه يعلم أن هذه المرأة محرمة على هذا الرجل، بسبب من أسباب التحريم، ككونها زوجة لغيره، أو معتدة للغير، أو مرتدة عن الإسلام والعياذ بالله تعالى، أو أخته من الرضاع، فإن هذا الحكم لا يجوز تنفيذه باطنا؛ لأن المحل غير قابل لإنشاء العقد عليه. الشرط الثاني: عدم علم القاضي بأن الشهود شهود زور، فلو كان القاضي يعلم أن هؤلاء الشهود شهود زور، فإن الحكم لا يجوز تنفيذه أصلا، لا في الظاهر ولا في الباطن، وذلك لعدم تحقيق شرط صحة القضاء، وهو الشهادة الصادقة في غالب الظن عند القاضي. ومثل الحكم بشهادة الزور ما لو حكم القاضي أيضًا بنكول المدعى عليه عن اليمين.   1 مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لعبد الله محمد بن سليمان المعروف بداما أفندي، ج2، ص170. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 هذاه وقد اختلفت الرواية عن أبي حنيفة في قضاء القاضي في الهبة، والصدقة، وبيع الشيء بغبن فاحش, ففي رواية عنه أن قضاء القاضي لا ينفذ باطنا؛ لأن القاضي إنما يصير منشئا فيما له ولاية الإنشاء، وليس له ولاية إنشاء التبرعات في ملك الغير، أو البيع بغبن فاحش؛ لأن هذا يعد تبرعا1. الاستدلال للآراء: الاستدلال لرأي الجمهور. استدل لرأي الجمهور بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون أحلن بحجته من بعض، فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار". متفق عليه. وفي رواية: فبكى الرجلان، وقال كل منهما: حقي لك، فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم: "أما إذ فعلتما فاقتسما، وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحللا" 2. وهذا يدخل فيه ما إذا ادعى أنه اشترى منه شيئًا فحكم له القاضي به3.   1 فتح القدير، لابن الهمام، وشرح العناية على الهداية، ج7، ص706، والأصول القضائية في المرافعات الشرعية، للشيخ علي قراعة، ص306، الطبعة الثانية، مطبعة النهضة. 2 فتح الباري، ج13، ص174، قال ابن حجر العسقلاني ذاكرا فوائد الحديث: "وفيه أنه ربما أداه اجتهاده -صلى الله عليه وسلم- إلى أمر فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف ذلك، لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه -صلى الله عليه وسلم- لثبوت عصمته". 3 المغني، ج11، ص408، 409. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 الاستدلال لرأي أبي حنيفة: استدل لرأي أبي حنيفة بالأدلة الآتية: الدليل الأول: ما جاء عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: أن رجلا خطب امرأة فأبت، فادعى أنه تزوجها، وأقام شاهدين بين يدي علي بن أبي طالب فقضى له بذلك، فقالت المرأة: إنهما شهدا بالزور، فزوجني أنت منه، فقد رضيت، فقال علي: شاهداك زوجاك، وأمضى النكاح". وجه الدلالة: أنه لو لم ينعقد العقد بين الرجل وهذه المرأة بقضاء علي لما امتنع علي من العقد عند طلبها ورغبة الرجل فيها، وقد كان في ذلك تحصينها من الزنا، وكان ذلك منه قضاء بشهادة الزور1. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن الاستدلال بهذا الأثر بأنه لم يثبت عن علي -رضي الله عنه- ذلك، بل لو صح ما نقل عن علي فلا حجة فيه؛ لأن عليا أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه، ولم يجبها إلى ما طلبته من تزويجها به؛ لأن في ذلك طعنا على الشهود، وهذا لا يقبل إلا بالبينة2. الدليل الثاني: التفريق بين المتلاعنين، فقد ثبت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرق بين المتلاعنين، مع احتمال أن يكون الرجل قد صدق فيما رماها به من الزنا، وكذلك يحتمل أن يكون الرجل كاذبا في اتهامها بالزنا وهي الصادقة في   1 فتح القدير، لابن الهمام، ج3، ص354. 2 كشاف القناع، ج6، ص352. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 نفى هذه الجريمة عن نفسها، فإن كان هو الكاذب فلم تحرم عليه إلا بحكم الحاكم، وكذلك لو كانت هي الكاذبة فلم تحرم عليه أيضا إلا بحكمه؛ لأن زناها لا يوجب فرقتها على قول أكثر الفقهاء، والحكم بالتفريق ينفذ ظاهرا وباطنا؛ لأنه يحرم على الزوج أن يجامع زوجته التي لاعن منها، ويحرم عليها كذلك أن تمكنه من نفسها، ويحل لها أن تتزوج غيره وتمكن هذا الغير من نفسها، وهذا هو معنى النفاذ في الباطن، مع أن الباطن في هذه الحال مخالف للظاهر، فهذا دليل على أن حكم القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا، وإن كانا في الواقع مختلفين. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأمرين: الأول: أن الفرقة في اللعان تقع عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب، وأما حكم القاضي في غير هذه الحال فلا يقع عقوبة، فلا يصح القياس على اللعان، لوجود الفارق بينهما1. الأمر الثاني: أن القاضي يفرق بين المتلاعنين؛ لأنه يعلم أن أحدهما كاذب قطعا، فهو ينشئ التفريق بينهما قاصدا متعمدا، وأما ما نحن فيه فليس كذلك؛ لأن القاضي لا يعلم أن الشهود شهود زور على الطلاق، أو الزواج، ولا تتوجه إرادته إلى الإنشاء، وإنما يحكم بناء على غالب ظنه أن البينة التي شهدت أمامه بينة عادلة تظهر الحق2.   1 فتح الباري ج13، ص175، وبداية المجتهد، ج2، ص566، 567. 2 نظرية الدعوى بين الشريعة الإسلامية وقانون المرافعات المدنية والتجارية القسم الثاني، ص235، للدكتور محمد نعيم ياسين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 الدليل الثالث: أن القاضي قد قضى بحجة شرعية في أمر من الأمور التي له ولاية الإنشاء فيها، فجعل الإنشاء تحرزا عن الحرام والحديث الذي استدل به الجمهور وهو حديث: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي" صريح في المال، وليس النزاع في الأموال، بل الأموال متفق على أن حكم القاضي فيها بناء على شهادة زور لا ينفذ باطنا؛ لأن القاضي لا يملك دفع مال شخص إلى شخص آخر، لكنه يملك إنشاء العقود، والفسوخ، فإنه يملك بيع جارية شخص لشخص آخر، حال الخوف من موتها للحفظ وحال غيبة سيدها، ويملك إنشاء الزواج على الصغيرة التي لا يوجد لها ولي، ويملك الفرقة بين الزوجين إذا ثبت أن الزوج به عيب العنة1، فيجعل قضاء القاضي إنشاء احترازا عن الحرام. مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن شرط صحة الحكم وجود الحجة وإصابة المحل، وإذا كانت البينة في نفس الأمر شهود زور لم تحصل الحجة؛ لأن حجة الحكم هي البينة العادلة، فإن الشهادة إظهار الحق وحقيقة الحكم إنفاذ ذلك، وإذا كان الشهود كذبة لم تكن شهادتهم حقا. الدليل الرابع: لو لم نقل بنفاذ الحكم باطنا فلو حكم القاضي بالطلاق لبقيت المرأة حلالا للزوج الأول باطنا وللثاني ظاهرا، فلو ابتلي الثاني بمثل ما ابتلي الأول حلت للثالث ظاهرا وهكذا، فتحل لجمع متعدد في زمن واحد، ولا يخفى فحش هذا بخلاف ما إذا قلنا بنفاذ الحكم باطنا فإنها لا تحل إلا لواحد.   1 العنة: عدم القدرة على انتشار عضو التذكير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 مناقشة هذا الدليل: أجيب عن هذا بأن الجمهور إنما قالوا في هذا: تحرم على الثاني إذا علم أن الحكم ترتب على شهادة الزور، فإذا اعتمد الحكم وتعمد الدخول بالمرأة فقد ارتكب محرما، كما لو كان الحكم في الأموال، فأكل هذا المال الذي حكم له به، ولو ابتلي الثاني بمثل هذا الابتلاء كان حكم الثالث كذلك، والفحش إنما لزم من الإقدام على تعاطي المحرم، فكان كما لو زنوا في الظاهر واحدا بعد واحد1. الرأي الراجح: من الواضح أن ما ذهب إليه الجمهور هو الرأي الصحيح في هذه المسألة لعدة أمور: أولا: لقوة الاستدلال للجمهور بالحديث الصحيح. ثانيا: لأن ما استدل به لأبي حنيفة -رضي الله عنه- لم يصمد للطعون الموجهة إليه، ويكفي في البرهنة على أن ما يقول به جمهور العلماء هو الرأي الصحيح أن الفتوى في المذهب الحنفي في هذه القضية على خلاف ما يراه أبو حنيفة، وأن أصحابه الثلاثة أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وزفر، لا يرون ما يراه إمام المذهب، وإنما يتفق رأيهم مع جمهور العلماء. ثالثا: لا فرق في الحلال والحرام بين مال واستمتاع بامرأة أجنبية، فإذا كان حكم القاضي بشهادة الزور في الأموال لا يحلها، فكذلك يجب أن يكون الحكم في الأبضاع، قال الشافعي -رضي الله عنه: "إنه لا فرق بين دعوى حل الزوجة لمن أقام بتزويجها شاهدي زور، وهو يعلم كذبهما، وبين من ادعى على حر أنه ملكه وأقام بذلك شاهدي زور، وهو يعلم حريته، فإذا حكم له الحاكم بأنه   1 فتح الباري ج13، ص176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 ملكه لم يحل له أن يسترقه بالإجماع". رابعا: القول بأن حكم الحاكم يحل ظاهرا وباطنا بجانب مخالفته للحديث الصحيح فإنه يخالف أمرين قطعيين: أحدهما: الإجماع السابق على عصر أبي حنيفة، فلم ينقل عن أحد من العلماء قبله -سواء أكان من الصحابة أم من التابعين- أنه يرى ما يراه أبو حنيفة. ثانيهما: القاعدة التي أجمع عليها العلماء ووافقهم أبو حنيفة ومن يرى رأيه من الحنفية وهي "أن الإبضاع أولى بالاحتياط من الأموال". وبعد، فنستعير من ابن حزم عبارته في كتابه "المحلى" بعد أن ذكر الحديث الذي استدل به جمهور العلماء، فنقول: "فإذا كان حكمه عليه الصلاة والسلام وقضائه لا يحل لأحد منا ما كان عليه حراما، فكيف القول في قضاء أحد بعده؟ "1. ولا داعي لذكر بقية عبارة ابن حزم، فقد يفهم منها الإساءة إلى من يقول برأي أبي حنيفة، رضي الله تعالى عن جميع علمائنا. ويقول القرطبي: "شنعوا على من قال ذلك قديما وحديثا لمخالفة الحديث الصحيح؛ ولأن فيه صيانة المال وابتذال الفروج، وهي أحق أن يحتاط لها وتصان"2.   1 المحلى، لابن الحزم، ج10، ص618. 2 فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 بقي أن نقول إن علماءنا -رضي الله تعالى عنهم- بينوا أن قضاء القاضي ينفذ ظاهرا وباطنا قطعا في الأمور التي اتفق عليها العلماء, وأما في الأمور التي اختلف العلماء فيها، كالشفعة مثلا، فإن الحنفية يرون أنها تكون للشريك، وللجار، والجمهور يرون أنها لا تكون للشريك، وكميراث ذوي الأرحام فإن المالكية وجمهور فقهاء الشافعية لا يورثونهم والحنفية، والحنابلة، وبعض فقهاء الشافعية يقولون بتوريثهم، نقول وأما في الأمور التي اختلف العلماء فيها فهناك رأيان أصحهما عند بعض العلماء أن حكم القاضي فيها ينفذ ظاهرا وباطنا حتى لو كان الحكم لمن لا يعتقد صحة هذا الحكم. قال أصحاب هذا الرأي: حتى تتفق الكلمة ويتم الانتفاع، وعلى هذا لو حكم قاض حنفي المذهب لشافعي بشفعة الجوار، أو بالإرث بسبب أنه من ذوي الأرحام، حل للشافعي -كما قال بعض العلماء- الأخذ بهذا الحكم، وليس للقاضي منعه من الأخذ بذلك، ولا من الدعوى به إذا أرادها، اعتبارا بعقيدة القاضي؛ ولأن هذا الأمر من الأمور المجتهد فيها، والاجتهاد إنما يكون -هنا- من القاضي لا من غيره1.   1 إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، لأحمد بن محمد القسطلاني، ج1، ص348. دار الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 الأصل الرابع: لا يقضي القاضي وهو غضبان عن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان"، رواه الجماعة. هذا الحديث الشريف يبين أصلا هاما في أصول القضاء الإسلامي، وسبب النهي -كما قال علماؤنا, رضي الله تعالى عنهم- أن الحكم في حال استيلاء الغضب على الحاكم قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق، فمنع من ذلك، وقالوا أيضا: النهي عن الحكم حال الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر, فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه المطلوب شرعا. وإذا كان النهي عن الحكم في حال الغضب قد ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن الفقهاء -رضي الله عنهم- عدوه بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر، كالجوع، والعطش المفرطين، والوجع المزعج، ومدافعة أحد الأخبثين، وغلبة النعاس وشدة الخوف أو الحزن أو الهم أو السرور، وسائر الأمور التي يتعلق بها القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر، الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب وهو قياس مظنة، على مظنة كما قال ابن دقيق العيد1، أي: استنباط معنى دل عليه النص، فإنه لما نهى عن الحكم حال الغضب فهم منه أن الحكم لا يكون إلا في حال استقامة الفكر، فكان علة النهي المعنى المشترك وهو تغير الفكر واختلاله، والوصف بالغضب يسمى علة، بمعنى أنه مشتمل عليه، فألحق به ما في معناه كالجائع والعطشان2. وبعبارة أخرى فإن اقترن النهي بالغضب يشير إلى أن العلة في هذا النهي هي الغضب الذي يكون مظنة لتشويش الفكر، ولما كان التشويش معنى مناسبا لهذا الحكم, ومنضبطا فقد جعله العلماء علة بالإجماع، ولهذا قال العلماء بتحريم قضاء القاضي في كل حال يحصل له فيها تشويش الفكر بأي سبب من الأسباب، قياسا على القضاء في حال الغضب الذي ورد فيه النهي من رسول الله -صلى الله عليه   1 فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، ج13، ص137. 2 المصدر السابق، ج13، ص137. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 وسلم1، ومثل هذا يسميه علماء الأصول دلالة النص على أن الوصف علة بطريق الإيماء أي: بطريق التلميح. وهنا يمكن أن يثار سؤال هو لماذا اقتصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ذكر الغضب؟ وقد أجاب العلماء بقولهم: وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس، وصعوبة مقاومته، بخلاف غيره. هذا وقد رأى بعض العلماء أنه يكره أن يقضي القاضي في حال الغضب, سواء أكان الغضب لنفسه أم لله تعالى؛ لأن المحذور تشويش الفكر وهو لا يختلف بذلك، ويرى البعض الآخر أن القضاء مكروه حال الغضب لنفسه, وأما إذا كان الغضب لله تعالى فلا يكون القضاء مكروها في هذه الحال، كما بين بعض العلماء أن الكراهة تنتفي إذا دعت الحاجة إلى الحكم في الحال2. لو خالف القاضي فحكم في حال الغضب: تبين أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى الحاكم عن أن يحكم في حال الغضب، والسؤال الآن، ماذا لو خالف القاضي النهي فحكم في حال غضبه؟ اختلف العلماء فيما لو قضى القاضي في حال الغضب على الوجه الآتي: الرأي الأول: ما يراه جمهور العلماء، وهو صحة القضاء حال الغضب إن صادف الحق. وقد استند هذا الرأي إلى ما رواه عبد الله بن الزبير عن أبيه، أن رجلا من   1 أصول الفقه الإسلامي، للأستاذ زكي الدين شعبان، ص153. 2 نهاية المحتاج، للرملي، ج8، ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شراج الحرة1، التي يسقوا بها النخل، فقال الأنصاري: سرح2 الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للزبير: "اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك"، فغضب الأنصاري، ثم قال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك3. فتلون وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال الزبير: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" ,4 فقال الزبير: والله إني لا أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . وجه الاستدلال بالحديث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى للزبير بعد أن أغضبه خصمه. وكأن الجمهور جعلوا ذلك قرينة صرفت النهي الموجود في حديث: "لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان" من التحريم إلى الكراهة، لكن يمكن أن يجاب عن هذا بما قاله الشوكاني: "ولا يخفى أنه لا يصح إلحاق غيره -صلى الله عليه وسلم- به في مثل ذلك؛ لأنه معصوم عن الحكم بالباطل في رضائه وغضبه   1 الشراج -بكسر الشين- هي مسايل النخل والشجر، مفردها شرجة، وإضافتها إلى الحرة لكونها فيها، والحرة: بفتح الحاء، هي أرض ذات حجارة سود. 2 سرح الماء -بفتح السين وتشديد الراء المكسورة- أي: أرسله. 3 أن كان ابن عمتك -بفتح الهمزة- لأنه استفهام للاستنكار أي: حكمت بهذا لكونه ابن عمتك، قال العلماء: وإنما ترك -صلى الله عليه وسلم- قتله بعد أن جاء في مقاله بما يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- جار في الحكم لأجل القرابة؛ لأن ذلك كان في أوائل الإسلام، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتألف الناس إذ ذاك. 4 الجدر -بفتح الجيم وسكون الدال- هو الجدار، والمراد به أصل الحائط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه عن الخطأ. الرأي الثاني: ما يراه بعض الحنابلة، وهو أنه لا ينفذ الحكم في حال الغضب، واستدلوا بالنهي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن القضاء في حال الغضب والنهي يقتضي الفساد. وقد أجيب عن هذا بأن النهي الذي يفيد فساد المنهي عنه هو ما كان لذات المنهي عنه1، أو لجزئه2 أو لوصفه الملازم له3، لا المفارق كما هنا وكما في النهي عن البيع حال النداء للجمعة، وهذه قاعدة مقررة في الأصول. الرأي الثالث: التفصيل بين ما إذا كان الغضب قد طرأ على القاضي بعد أن استبان له الحكم في القضية المعروضة عليه، فلا يؤثر الغضب في صحة الحكم؛ لأن الحق قد استبان قبل الغضب فلا يؤثر الغضب فيه، وبين ما إذا كان الغضب قد حصل للقاضي قبل أن يستبين له الحكم في القضية فيؤثر في صحة الحكم4.   1 النهي لذات المنهي عنه كالنهي عن الزنا، والغصب، فالزنا لا يترتب عليه ثبوت النسب ولا حرمة المصاهرة بل يأثم فاعله ويستحق أن يعاقب. 2 كأن كان المنهي عنه قولا، والنهي عنه لخلل في أركانه كالنهي عن بيع الميتة. 3 النهي للوصف الملازم، كالنهي عن الصوم يوم العيد، والنهي عن البيع المشتمل على الربا, فالنهي عن الصوم يوم العيد ليس لذات الصوم؛ لأن الصوم عبادة فلا ينهى عنه لذاته، وإنما النهي عنه للإعراض عن ضيافة الله تعالى في هذا اليوم، وكذلك النهي عن البيع المشتمل على الربا ليس لذات البيع، بل لوجود الزيادة الخالية عن العوض. 4 نيل الأوطار، ج9، ص177-179، والمغني ج1، ص394-395، وجواهر الإكليل شرح مختصر خليل لصالح عبد السميع الأبي، ج2، ص225، دار إحياء الكتب العربية. ونهاية المحتاج، للرملي، ج8، ص242. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 الأصل الخامس: لا يقبل القاضي هدية ممن له خصومة في الحال الرشوة هي أخذ المال لإبطال حق، أو تحقيق باطل والرشوة من الأمور المحرمة؛ لأنها من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، وقد نهى الله -تبارك وتعالى- عن أكل أموال الناس بالباطل، وهي صفة اليهود، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم"، رواه أحمد والترمذي وصححه. وأما الهدية، فقد صرح العلماء بأن الأولى سد بابها، ثم إن كان للمهدي خصومة في الحال حرم على القاضي أن يقبل هديته كما بينا سابقا حتى لو كان له عادة بالهدية لصداقة، أو قرابة. وبين العلماء أن القاضي يجب عليه أن لا يقبل هدية من لم تكن له عادة قبل تولي القاضي منصبه، حتى لو لم تكن له خصومة، استنادا إلى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "هدايا العمال غلول" وفي رواية "سحت"، رواه الإمام أحمد -رضي الله عنه. وأما إن كان المهدي لا خصومة له، وله عادة بالهدية وأهدى قدر عادته, ومثل ما كان يهديه فقال العلماء: يجوز للقاضي حينئذ قبولها. فإن أهدى أكثر من المعتاد أو أرفع مما كان يهديه، كأن كان يهدي المأكولات فأهدى الثياب، لم يجز للقاضي قبول هديته1. وبين بعض العلماء أن حكم الهدية بالمنافع المقابلة بالمال عادة كسكنى بيت   1 كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، لتقي الدين الحصني، ج2، ص260، دار إحياء الكتب العربية، والروض المربع بحاشيته، ج3، ص390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 مثلا، تأخذ حجم الهدية بالأعيان، بخلاف غيرها كاستعارة كتاب من كتب العلم كما بين البعض أيضًا أن أكل القاضي حال كونه ضيفا عند بعض من يخضعون لولايته يأخذ حكم الهدية له وتأخذ حكم الهدية له، وبين بعضهم أيضا أنه يجوز للقاضي أن يأخذ الهدايا من رئيس الدولة إذا كانت الهدية من مال الرئيس بشرط أن يكون ذلك معتادا لمثله، وأن لا تؤثر الهدية في تغيير قلب القاضي عن التصميم عن الحق، وصرح بعض العلماء بأنه لا يلتحق بالقاضي في الأحكام الخاصة بالهدية وقيودها المفتي والواعظ، ومعلم القرآن والعلم؛ وذلك لأنهم ليس لهم أهلية الإلزام بخلاف القاضي فحكمه ملزم، قال الرملي أحد كبار فقهاء الشافعية: "والأولى في حقهم "يعني المفتي ومن ذكر معه" إن كانت الهدية لأجل ما يحصل منهم من الإفتاء والوعظ، والتعليم عدم القبول، ليكون عملهم خالصا لله تعالى، وإن أهدي إليهم تحببا وتوددا لعلمهم وصلاحهم فالأولى القبول، وأما إذا أخذ المفتي الهدية ليرخص في الفتوى فإن كان بوجه باطل فهو رجل فاجر يبدل أحكام الله تعالى ويشتري بها ثمنا قليلا، وإن كان بوجه صحيح فهو مكروه كراهة شديدة"1. والأولى كما صرح العلماء أن من جاز له قبول الهدية من القضاة أن يثيب عليها أي: يعطي بدلها للمهدي، أو يردها لمالكها، أو يضعها في بيت المال "الخزانة العامة للدولة" وسد باب القبول مطلقا كما صرح العلماء أيضًا أولى حسما للباب2. وفي نهاية الكلام عن الرشوة والهدية نحب أن نبين أن بعض العلماء يرى أن دفع المال لإبطال الظلم جائز للدافع حرام على الآخذ3.   1 نهاية المحتاج للرملي، ج8، ص243، 244. 2 المصدر السابق، ص244. 3 شرح الخرشي على مختصر خليل، لمحمد الخرشي، ج7، ص93، دار صادر ببيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 الأصل السادس: لا يقضي القاضي لنفسه ولمن لا تقبل شهادته له صرح العلماء بأن لا يجوز للقاضي أن يحكم لنفسه، كما لا يجوز أن يشهد لنفسه، وحكم الحاكم لنفسه من خصائص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأنه معصوم من الهوى والغرض، وبين العلماء أنه يجوز للقاضي أن يعزر من أساء الأدب عليه فيما يتعلق بأحكامه التي حكم بها، كأن يقول له: حكمت بالجور، وما ماثل هذا. وإذا عرضت حكومة لوالديه، أو لأحد أولاده، أو من لا يقبل شهادته له ففيه رأيان: أحدهما: لا يجوز له أن يحكم فيها بنفسه، وإن حكم لم ينفذ حكمه، وهذا ما يراه أبو حنيفة والشافعي والمالكية وبعض فقهاء الحنابلة؛ لأنه لا تقبل شهادته له فلم ينفذ حكمه، كما لا ينفذ الحكم لنفسه. الرأي الثاني: ينفذ حكمه، وهو رأي بعض فقهاء الحنابلة، وأبى يوسف صاحب أبي حنيفة، وابن المنذر، والمزني، وأبي ثور لأنه حكم لغيره أشبه الحكم للأجانب1، قال الشيرازي: "وهذا خطأ؛ لأنه متهم في الحكم كما يتهم في الحكم نفسه"2. لو كانت الخصومة بين والديه أو ولديه، أو والده وولده: للعلماء رأيان في هذه المسألة: أحدهما: لا يجوز له الحكم بينهما، وهو ما يراه بعض فقهاء الحنابلة، وأحد رأيين محتملين في فقه الشافعية، وقد علل لهذا الرأي، بأنه لا تقبل شهادته لأحدهما على الآخر فلم يجز الحكم بينهما قياسا على الشهادة. الرأي الثاني: يجوز له الحكم بينهما وهو كما يراه بعض فقهاء الشافعية وبعض فقهاء الحنابلة، وقد علل لهذا الرأي بأن الخصمين عنده سواء فارتفعت تهمة الميل إلى أحدهما فأشبها الأجنبيين3.   1 مغني المحتاج، ج4، ص397، والمغني، ج11، ص404. 2 المغني، ج11، ص483، والشرح الصغير، ج5، ص19، ومغني المحتاج، ج4، ص393، واللباب في شرح الكتاب لعبد الغني الغنيمي، ج4، ص90، مطبعة المدني، وأدب القضاء لابن أبي الدم، ج1، ص404، والروض المربع بحاشيته، ج3، ص391. 3 المغني، ج1، ص483، والمهذب للشيرازي، ج2، ص292. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 الأصل السابع: الحكم بالاجتهاد الثاني للقاضي إذا تغير اجتهاد القاضي قبل أن يحكم في القضية فإنه يجب عليه أن يحكم بما تغير اجتهاده إليه، ولا يجوز له أن يحكم باجتهاده الأول؛ لأنه إذا حكم باجتهاده الأول فقد حكم بما يعتقد أو يغلب على ظنه أنه باطل. وقال العلماء: إنه إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصا، ولا إجماعا أو خالف اجتهاده اجتهاد من كان قبله في هذا المنصب لم ينقضه لمخالفته، وقد استدل العلماء على هذا بأن الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعوا على هذا، فقد نقل عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه حكم في مسائل باجتهاده، وخالفه عمر -رضي الله عنه، ولم ينقض أحكامه، وعلي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- خالف عمر في اجتهاده، فلم ينقض أحكامه1. وروي أن عمر بن الخطاب لقي رجلا له خصومة فقال له: ما صنعت؟ قال الرجل: قضى علي وزيد بكذا، قال عمر: لو كنت أنا لقضيت بكذا، فقال الرجل: وما يمنعك والأمر إليك؟ "يعني أنه رئيس الدولة" قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه لفعلت، ولكن أردك إلى رأي والرأي مشترك، ولم ينقض عمر ما قضى به علي وزيد.   1 المغني، ج11، ص405، 406. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 الأصل الثامن: جواز الطعن في الأحكام في بعض الأحوال تمهيد: هنا أمر يحسن التنبيه عليه هو أنه يجب أن يتوفر الاحترام الكامل للأحكام التي تصدر عن القاضي، سواء من طرفي الخصومة: المدعي والمدعى عليه، أو غيرهما، فهذا يؤدي إلى أن يحصل الاستقرار والثبات في المراكز القانونية التي صدرت بشأنها الأحكام. لكن الأحكام التي يصدرها القضاة هي أحكام صادرة عن بشر، والبشر ليسوا بمعصومين من الخطأ إلا من عصم الله صاحب العزة والجلال من الرسل والأنبياء، ولهذا فاحتمال الخطأ في الأحكام القضائية وارد، ولا بد من أن يكون هناك علاج وتصحيح للأخطاء التي يمكن أن تقع في الأحكام القضائية، ولكي يحدث التوفيق -في القوانين الوضعية- بين إرادة الاستقرار والثبات في المراكز القانونية التي صدرت بشأنها الأحكام, وبين إرادة تصحيح الأخطأ التي يمكن أن تحدث من القضاة, أجاز القانون الوضعي للخصوم أن يطلبوا من القضاء إعادة النظر في القضية محل الحكم، باتباع وسيلة من الوسائل التي نظمها القانون، وهذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 الوسائل تسمى في الاصطلاح القانوني: طرق الطعن في الأحكام1. وقد قسم القانونيون هذه الطرق إلى قسمين: طرق طعن عادية، وطرق طعن غير عادية أو استثنائية، وأطلق على طرق الطعن العادية هذا الوصف؛ لأنه لا يشترط في جواز ممارستها أسباب معينة، بخلاف طرق الطعن غير العادية فقد اشترط القانون أسبابا محددة لها. فأما طرق الطعن العادية فهي: المعارضة، والاستئناف، وأما الطرق غير العادية فهي: التماس إعادة النظر، والطعن بالنقض، وإليك توضيح معنى كل طريق من هذه الطرق. المعارضة: طريق طعن عادي في الأحكام التي صدرت في غيبة المحكوم عليه, يرفع إلى نفس المحكمة التي صدر عنها الحكم المطعون فيه لا إلى محكمة أعلى, ولهذا فإن المعارضة لا تعد درجة ثانية من درجات التقاضي2. وقد أصبحت المعارضة غير جائزة في المسائل المدنية والتجارية. الاستئناف: طريق طعن عادي به يطرح الخصم الذي صدر الحكم كليا أو جزئيا لغير صالحه القضية كلها، أو جزءا منها أمام محكمة أعلى من المحكمة التي صدر عنها الحكم3،   1 مبادئ المرافعات في قانون المرافعات الجديد، للدكتور عبد الباسط جمعى، ص523، دار الفكر العربي. 2 أصول المرافعات للدكتور أحمد مسلم، ص693، دار الفكر العربي. 3 قانون القضاء المدني الكويتي، د. فتحي والي، ص391، مطبعة جامعة الكويت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 التماس إعادة النظر: طريق طعن غير عادي يرفع إلى المحكمة التي أصدرت الحكم الملتمس فيه، ويجوز أن ينظر من نفس القضاة الذين أصدروا الحكم موضوع الالتماس، ولهذا لا يعد التماس إعادة النظر درجة من درجات التقاضي. ولأن هذا الطريق من طرق الطعن طريق غير عادي فإنه لا يجوز إلا لأسباب معينة وردت في القانون على سبيل الحصر. ومن هذه الأسباب ما إذا حدث غش من الخصم "المطعون ضده" من شأنه أن يؤثر في الحكم. ومنها ما إذا حال الخصم دون تقديم أوراق قاطعة في الدعوى بشرط أن يحصل عليها الملتمس بعد صدور الحكم. ومنها حصول الملتمس على إقرار بأن الورقة، أو الأوراق التي بني الحكم عليها مزورة، ومنها ما إذا قضى بعدم صدور الحكم بتزوير هذه الأوراق. ومنها إذا قضى بعد صدور الحكم بأن الشهادة التي بنى عليها مزورة. الطعن بالنقض: طريق غير عادي من طرق الطعن في الأحكام فلا يجوز إلا بالنسبة إلى أحكام معينة وفي أحوال خاصة في غير نصابها الانتهائي. وقد نص القانون على أسباب معينة هي التي تجيز الطعن بالنقض، منها في القانون المصري إذا كان الحكم الذي يطعن فيه قد صدر مخالفا للقانون، أو كان نتيجة خطأ في تطبيقه أو في تأويله1. الحال في الفقه الإسلامي: ما سبق كان بيانا لطرق الطعن في الأحكام في القانون الوضعي فإذا انتقلنا   1 بحوث في قواعد المرافعات والقضاء في الإسلام للدكتور عبد العزيز خليل بديوي، ص515، وما بعدها والقضاء في الإسلام وحماية الحقوق لنفس المؤلف، ص79، وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 إلى الفقه الإسلامي نجد أن العدل المطلق هدف من أهداف القضاء في الإسلام، ويقتضي هذا أن يبحث القاضي عن الحق، فأينما وجده قضى به، وإذا أخطأ القاضي في حكمه فخالف نصا شرعيا من الكتاب الكريم، صريح الدلالة أو السنة الشريفة صريحة الدلالة كذلك أو إجماعا من العلماء على حكم معين فلا بد من نقض هذا الحكم، أي: إبطاله، وقد عبر فقهاؤنا القدامى بنقض الحكم ويريدون به إبطاله واعتباره كأنه لم يكن في صورة معينة، سنتكلم عنها فيما سيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى، فليس المراد بالنقض في الفقه الإسلامي بالنقض عند القانونيين وهو أنه أحد طرق الطعن غير العادية، يقصد به تقويم الاعوجاج القانوني في الحكم المطعون فيه، وتوحيد فهم القضاة للقانون1. ونقض هذا الحكم أو طلب نقضه حق لكل من يعلم به، بل واجب عليه، سواء في هذا القاضي الذي أصدره ثم تبين له مصادمته للنصوص الشرعية، أو أحد أطراف الخصومة، بل لأي إنسان آخر ليس له صلة بالقضية أن يطلب نقض هذا الحكم، استنادا إلى سلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي السلطة التي خولها الله تبارك وتعالى لكل فرد من أفراد المسلمين ليتحقق بذلك الرقابة التي تحقق الإصلاح. هذا، وسنختار التعبير عن هذه العملية باستئناف الأحكام دون التعبير بأي طريق آخر من طرق الطعن المعروف في القانون الوضعي، والتي أعطينا القارئ فكرة سريعة عنها. الدليل على جواز الاستئناف في الأحكام: أقوى ما يدل على جواز الاستئناف في الأحكام القضائية حديث رسول الله   1 القضاء في الإسلام وحماية الحقوق، للدكتور عبد العزيز خليل بديوي، ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 -صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" فهذا الحديث الشريف يفيد حكما عاما لكل الأحوال، فليس مقصورا على حال معينة، بل ينتظم عامة الأحوال دون فصل بين ما قبل الحكم وما بعده1. وقد حاول بعض العلماء الاستدلال لجواز الاستئناف لكن أدلتهم كان بعضها غير واضح الدلالة، وبعضها حديثا غير ثابت، وبعضها قولا لصحابي، ومعروف أن قول الصحابي إن كان حجة عند بعض العلماء فليس حجة عند البعض الآخر. فأما الدليل غير واضح الدلالة على جواز الاستئناف, فهو ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم الآخر -وهو أفقه منه: نعم فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قل"، قال: إن ابني كان عسيفا2 عند هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، "أي: جارية صغيرة" فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام، واغد يا أنيس 3 إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها"، فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فرجمت4.   1 نظام القضاء في الإسلام، لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص296. 2 عسيفا أي: أجيرا. 3 تصغير أنس بضم الهمزة وفتح النون. 4 صحيح مسلم، بشرح النووي، ج11، ص250، ونيل الأوطار، ج8، ص281. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 فقد استدل البعض بهذا الحديث على جواز الاسئناف1, ولا نرى صحة الاستدلال بهذا الحديث على الاستئناف؛ لأنه لم يصدر حكم من قاض في هذه القضية قبل أن ترفع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وإنما يبين الحديث أن الرجل أخبره بعض الناس أن على ابنه الرجم، فافتدى منه بمائة شاة وجارية، فسأل أهل العلم فأخبروه أن على ابنه جلد مائة وتغريب عام، فأهل العلم الذين أخبروه إنما أفتوه بهذا الحكم, ولم يكونوا قضاة أصدروا حكما قضائيا حتى يصح الاستدلال بالحديث. وأما الحديث الذي لم يثبت2 فهو ما رواه الإمام أحمد وغيره، عن حنش بن المعتمر، عن علي بن أبي طالب قال: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد3، فبينما هم كذلك يتدافعون، إذ سقط رجل فتعلق بآخر، ثم تعلق الرجل بآخر، حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الأسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر، فأخرجوا السلاح ليقتتلوا فأتاهم علي -رضي الله عنه- على تفيئة ذلك "أي: على أثر ذلك" فقال: تريدون أن تقاتلوا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حي؟ إني أقضي بينكم قضاء، إن رضيتهم به فهو القضاء، وإلا حجز بعضكم عن بعض، حتى تأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم، فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية، وثلث   1 التراتيب الإدارية، لعبد الحي الكتاني، ج1، ص56. 2 استدل بهذا الحديث المستشار جمال صادق المرصفاوي، انظر: نظام القضاء في الإسلام، له، ص152، من البحوث المقدمة لمؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض، 1396هـ. 3 الزبية حفرة تحفر لصيد الأسد؛ سميت بذلك لأنهم كانوا يحفرونها في موضع عال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 الدية ونصف الدية، والدية كاملة، فللأول ربع الدية؛ لأنه هلك1 من فوقه ثلاثة وللثاني ثلث الدية وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة، فأبوا أن يرضوا، فأتوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عند مقام إبراهيم2 فقصوا عليه القصة، فقال: "أنا أقضي بينكم"، واحتبى3، فقال رجل من القوم: إن عليا قضى فينا، فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله -صلى الله عليه وسلم4، وزاد في بعض ألفاظه: "وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا". الحديث ضعيف؛ لأن حنشا راوي الحديث اختلف العلماء في توثيقه5، ويكفي هذا في رد الحديث، لكن بعض الباحثين يرى أنه يضاف إلى عدم ثبوت الحديث أن عليا لم يحكم بينهم بصفته قاضيا؛ لأن القاضي لا يخير الخصوم والحديث يبين أن عليا خيرهم، وأيضا فإن الخصوم لم يترافعوا إلى علي، وإنما هو الذي جاءهم عقب الحادثة ليقوم بالصلح بينهم، أي: إنه عرض نفسه ليكون حكما بينهم فقبلوا تحكيمه على شرط أنهم إذا لم يرضوا بما يحكم به فلا يلزمهم، فلم يكن في هذه الحادثة حكم قاض حتى يمكن أن يقال إنه وجد الاستئناف6.   1 هلك -بتشديد اللام في لغة بني تميم- بمعنى أهلك، فالفعل قد يتعدى بالهمزة فيقال: أهلكته وفي لغة بني تميم يتعدى بنفسه، فيقال هلكته، واستهلكته، المصباح المنير. 2 أي: في موسم الحج. 3 يقال في اللغة: احتبى الرجل، أي: جمع ظهره وساقيه بثوب أو غيره وقد يحتبي بيديه. 4 مسند الإمام أحمد، ج2، ص473، دار المعارف، 1947م. 5 قال الهيثمي بعد أن ذكر هذا الحديث في "المجمع" وفيه حنش، وثقه أبو داود، وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح. انظر هامش زاد المعاد لابن القيم، ج5، ص14، تعليق لشعيب الأرنؤط وعبد القادر الأرنؤط. 6 الدكتور إبراهيم عبد الحميد، نظام القضاء في الإسلام، ص297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 ونرى أن حكم علي في هذه الحادثة -لو ثبت الحديث- يمكن أن يكون حكم قاض؛ لأن عليا كان أرسله الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيا، كما هو معروف، وكونه هو الذي أتاهم عقب الحادثة لا يغير الأمر من قاض إلى محكم؛ لأن البيئة كانت بيئة ساذجة لا تعقيد فيها، والبساطة من علي تجيز له -وهو القاضي- أن يذهب إلى الخصوم، وخاصة إذا كان الأمر خطيرا جدا، فقد كادت القبائل أن يسيل بعضها دم بعض. وكونه خيرهم أن يرضوا بما يحكم به أو ينتظروا -بعد حكمه- حى يعرضوا الأمر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا لم يرضوا بما حكم، فهذا أيضًا مقبول من قاض في مجتمع بسيط لم يوجد فيه تعقيد الإجراءات. فليست المشكلة في هذه الأمور، وإنما المشكلة أن الحديث لم يثبت، ولو ثبت الحديث لكان من وجهة نظرنا دالا على الاستئناف. وأما قول الصحابي ففي مصنف عبد الرزاق1 "أتى ابن مسعود برجل وجد مع امرأة في لحاف، ولم تقم البينة على غير ذلك فضربه عبد الله أربعين2، وأقامه للناس، فغضب قومه من هذا وانطلقوا إلى عمر -رضي الله عنه، فقالوا: فضح منا رجلا، فقال عمر: بلغني أنك ضربت رجلا من قريش، قال عبد الله: أجل وقص عليه القصة، فقال له عمر: أرأيت ذلك؟ قال: نعم، قال عمر: نعم ما رأيت، فعند ذلك قال الشاكون، جئنا نستعديه عليه، فاستفتاه".   1 كان عمر بن الخطاب قد ولى عبد الله بن مسعود القضاء في الكوفة. 2 نظام القضاء في الإسلام، لأستاذنا الدكتور إبراهيم عبد الحميد، ص298، وأصول الفقه الإسلامي للأستاذ زكي الدين شعبان، ص205. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وقول الصحابي -حتى لو كان من اثنين- لا يعد حجة كما قال الشافعي في الجديد من مذهبه، واختاره جمع من متأخري الحنفية، والشافعية، والمالكية وأكثر المتكلمين. هذا، ويمكن القول بأن فقهاءنا القدامى تعرضوا لبحث موضوع استئناف الأحكام، لكن ليس بهذا العنوان، وإنما سموه بالدفع1 وما قالوه في دفع الدعوى بعد الحكم من القاضي ينطبق على الاستئناف؛ لأنه ليس إلا نظر في الدعوى مرة ثانية، غير أن الفقهاء القدامى لا يشترطون تغيير القاضي الذي سينظر في الدعوى مرة أخرى كما هو الحال في الاستئناف بوصفه طريقا من طرق الطعن في الأحكام في القوانين الوضعية2. ومن يرجع إلى كتب الحنفية يجد فيها ما يفيد هذا، فقد بين بعضهم أنه كما يصح الدفع عند القاضي الأول يصح عند قاض آخر، وكما يصح قبل الإشهاد يصح   1 الدفع هو دعوى يثيرها المدعى عليه مناهضة للدعوى الأصلية، كأن يدعي شخص على آخر أنه اقترض منه ألف جنيه، وطالبه بأدائها، فدفع المدعى عليه هذه الدعوى بأداء هذا الدين إلى المدعي، وحينئذ يصبح المدعى عليه مدعيا، ويصبح المدعي مدعيا عليه. وقال العلماء: إنه إذا استطاع الدافع أن يثبت دعواه بإقرار المدعي، أو بإقامته البينة اندفعت دعوى المدعي، وإذا لم يستطع إثبات دعواه قام القاضي بتحليف المدعي الأصلي -بطلب من المدعى عليه- فإذا امتنع عن اليمين ثبت دفع المدعى عليه، وبطلت الدعوى، وإن حلف المدعي عادت الدعوى الأصلية. وبين بعض فقهاء الحنفية أنه كما يصح دفع الدعوى قبل الحكم يصح دفعها بعد الحكم في بعض الحالات. محاضرات في المرافعات الشرعية، ألقاها على طلبة المعهد العالي للقضاء بالسعودية الدكتور عبد العظيم شرف الدين، ص85، 92، مكتوبة بالآلة الكاتبة. 2 تاريخ القضاء في الإسلام، لمحمود بن محمد بن عرنوس، ص214، 215، الطبعة الأولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 بعده، وقال ابن نجيم في أشباهه1 بعد أن قرر هذا: وهو المختار إلا في ثلاث مسائل. الأولى: إذا قال لي دفع، ولم يبين وجهه لا يلتفت إليه. الثانية: لو بين لكن قال: بينتي غائبة عن البلد، لم يقبل. الثالثة: لو بين دفعا فاسدا. وفي الفقه المالكي نجد اختلافا بين فقهائه فيما لو أتى المحكوم عليه ببينة لم يعلم بها، وطلب فسخ الحكم عنه، على ثلاثة آراء: الأول: أنه تسمع البينة، فإن شهدت بما يوجب الفسخ فسخ الحكم عنه، وهذا ما يراه ابن القاسم. الثاني: لا تسمع البينة، وهذا ما يراه سحنون. الثالث: إن قام بالبينة عند ذلك القاضي الحاكم نقضه، وإن قام عند غيره لم ينقضه، وهذا ما يراه ابن المواز2. وإذا انتقلنا إلى فقه الشافعية نجد أنهم تكلموا عمن أخذ منه مال بناء على شهادة الشهود، ثم ادعاه، فقالوا: تسمع دعواه وترجح بينته بملكه على بينة خصمه؛ لأن له يدا سابقة على المال.   1 الأشباه والنظائر، لزين العابدين بن إبراهيم بن نجيم، ص225، طبعة 1968، وحاشية قرة عيون الأخيار "تكملة حاشية ابن عابدين" لمحمد علاء الدين، ج7، ص490. 2 تبصرة الحكام، لابن فرحون، ج1، ص80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 واختلف فقهاء الشافعية فيما لو حكم القاضي بإزالة يد شخص عن عين من الأعيان التي تحت يده، بناء على بينة أقامها شخص آخر فحكم له القاضي بهذه البينة، مستندا إلى ما قبل إزالة يده مع استدامته إلى وقت الدعوى، واعتذر عن ذلك بغيبة شهوده -مثلا- فيرى النووي أن على القاضي أن يسمع بينته وتقدم على بينة من حكم له القاضي بها؛ لأن صاحب اليد قد أزيلت يده لعدم الحجة، فإذا ظهرت الحجة حكم بها، بخلاف ما إذا لم تستند بينته إلى ذلك، أو لم يعتذر بما ذكر ونحوه فلا تقدم بينته. ويرى القاضي حسين من فقهاء الشافعية أنه لا تسمع البينة، فلا ينقض القضاء، ونقل الهروي عن القاضي حسين أنه قال: أشكلت علي هذه المسألة نيفا وعشرين سنة لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد وتردد فيها جوابي، ثم استقر على أنه لا ينقض1. ومع احترامنا الكامل لكلا الرأيين في الفقه الشافعي، مع ميلنا إلى ما يراه الإمام النووي من ترجيحه جانب اليد الذي لم يكن معه بينة وقت نظر الدعوى، ثم تيسر له بعد ذلك أن يثبت حقه بالبينة، نقول مع احترامنا لكلا الرأيين فإننا نستفيد من هذا الخلاف أن مبدأ الاستئناف يقول بعض الفقهاء به من الشافعية؛ لأن الاستئناف ما هو إلا نظر للدعوى مرة ثانية، وهذا ما حدث هنا في المسألة التي حكينا خلاف فقهاء الشافعية فيها. وخلاصة ما تقدم أن استئناف الأحكام قال به فقهاؤها القدامى، بل عبر بعضهم بكلمة الاستئناف، قال ابن القاص: "اتفق الجميع على أنه ليس للقاضي أن   1 مغني المحتاج، ج4، ص481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 يتعقب حكم من كان قبله، وعلى أنه إن رفع إليه قضية قاض وكان فاسفا، أو مرتشيا، أو ساقط العدالة لا يجوز قضاؤه، كان عليه نقضه، واستئناف الحكم بين الخصمين"1. وقد قال باستئناف الأحكام بعض فقهاء الحنفية، وبعض فقهاء المالكية، وبعض فقهاء الشافعية، وأقوى ما يمكن الاستدلال به لهذا قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي" فهو عام يشمل حالة ما قبل الحكم من القاضي, وحالة ما بعد الحكم. متى ينقض الحكم؟ نريد بالنقض هنا إبطال الحكم, واعتباره كأن لم يكن، هو المعنى الذي يقصده فقهاؤنا القدامى عندما يتكلمون عن نقض الأحكام كما سبق أن بينا، وهو من المعاني اللغوية لكلمة النقض. ونحب في البداية أن نبين أمرين: أحدهما: أن العلماء متفقون على أنه ليس للقاضي أن يتعقب حكم من كان قبله من القضاة، واتفقوا أيضًا على أنه إن رفع إليه قضية قاض كان فاسفا، أو مرتشيا، أو ساقط العدالة لا يجوز قضاؤه، فإنه يجب عليه أن ينقضه، وأن يستأنف الحكم بين الخصمين. وكذلك اتفقوا كذلك على أنه إن رفع إليه قضاء قاض عدل فوجده قد خالف قرآنا أو سنة فإنه يجب عليه أن ينقضه، وأن على القاضي أن يرده على نفسه   1 أدب القاضي، لابن القاص، ج2، ص372. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 أيضا إن كان قد أخطأ في مثل ذلك1. الأمر الثاني: أن العلماء صرحوا بأن حكم القاضي في المسائل المجتهد فيها لا ينقض، أي: إذا حكم قاض في مسألة من المسائل الخلافية التي اجتهد العلماء فيها، وكان لكل فريق رأي فيها، فلا يصح لقاض آخر أن ينقض هذا الحكم. قال ابن قدامة -الفقيه الحنبلي المشهور- بعد أن بين آراء العلماء وأدلتهم في مسألة تولي المرأة عقد الزواج، ورجح الرأي القائل بأن الزواج لا يصح إلا بولي، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها، ولا توكيل غير وليها في تزويجها، فإن فعلت لم يصح عقد الزواج، قال ابن قدامة بعد أن بين ذلك: "فإن حكم بصحة هذا العقد حاكم، أو كان المتولي لعقده حاكما لم يجز نقضه"2. وذكر العلماء أمثلة للمسائل الخلافية التي لا يصح للقاضي أن ينقض الحكم فيها, إذا كان مخالفا لما يراه منها الحكم ببطلان خيار المجلس ومنع القصاص من القتل العمد بالمثقل، وصحة الزواج بعبارة المرأة، أو بشهادة ممن لم يتوفر فيه شرط العدالة، وأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف، ورد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب فالقاعدة المستقرة عند العلماء أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وقالوا إن الدليل على هذه القاعدة إجماع الصحابة -رضي الله عنهم، ورووا أن أبا بكر حكم في مسائل خالفه فيها عمر ولم ينقض حكمه، وحكم عمر في الجد في الميراث أحكاما مختلفة. وعلل العلماء هذه القاعدة بأن الاجتهاد الثاني ليس أولى من الاجتهاد   1 أدب القاضي، لأبي العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري، المعروف بابن القاص، تحقيق الدكتور حسين خلف الجبوري، ج2، ص372، الطبعة الأولى، 1989. 2 المغني، لابن قدامة، ج7، ص339. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 الأول، فلو أجيز نقض الأحكام الاجتهادية أدى هذا إلى عدم الاستقرار في الأحكام، وفي ذلك مشقة شديدة تلحق بالناس، فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلم جرا1. فالمسائل الاجتهادية -إذن- لا ينقض قاض حكم قاض آخر فيها، والسؤال الآن: ما هو الحكم لو تبين خطأ القاضي؟ هب يبقى الحكم الذي صدر من القاضي -مع تبين خطئه؟ أم بنقض أي يحكم ببطلانه؟ هذه قضية لعلمائنا -رضي الله عنهم- آراء فيها على الصورة الآتية التي سنذكرها، مع ملاحظة أن نقض الحكم واجب. إذا خالف الشرع -على القاضي إذا رفعت إليه قضية حكم فيها قاض آخر فبان له خطؤه، وهو واجب أيضًا على القاضي الذي أصدر هذا الحكم إذا بان لهذا القاضي خطأ نفسه، كما بينا ذلك سابقا، ولكن ما هو الخطأ الذي يبرر النقض؟ إليك الآن بيانا لما يراه العلماء في هذه المسألة. الرأي الأول: إن كان الخطأ لمخالفة نص الكتاب، أو السنة أو الإجماع، نقض حكمه. وهذا ما يراه فقهاء الحنابلة، والشافعي وزاد إذا خالف قياسا جليا نقضه، لا قياسا خفيا. ونسب ابن قدامة -الفقيه الحنبلي المشهور- إلى أبي حنيفة ومالك القول بأن الحكم لا ينقض إلا إذا خالف الإجماع، قال ابن قدامة: ثم ناقضا "يعني أنا   1 الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 حنيفة ومالكي" ذلك فقال مالك: إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه، وقال أبو حنيفة: إذا حكم بحل متروك التسمية "أي: في الذبائح" أو حكم بين العبد بالقرعة نقض حكمه. وبالرجوع إلى ما كتبه الحنفية نجد أنهم يقررون أن حكم القاضي لا ينقض إلا إذا خالف القرآن أو السنة المشهورة أو الإجماع. ومثل بعض الحنفية للحكم بالمخالف للكتاب الكريم بالقضاء بحل متروك التسمية عمدا؛ لأنه في رأيهم مخالف لقوله تبارك وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ويرى البعض الآخر من الحنفية أن الأحسن أن يمثل بالقضاء بتقديم الوارث على الدين؛ لأن القرآن صريح في وجوب تقديم الدين على توزيع الميراث. ومثل الحنفية للحكم المخالف للسنة المشهورة بالقضاء بحل المطلقة ثلاثا، بعقد الزوج الثاني بلا دخول حقيقي؛ لأن هذا مخالف للحديث المشهور، وهو حديث العسيلة1.   1 روي عن عائشة زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن امرأة رفاعة أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالت: يا رسول الله، إني كنت تحت رفاعة، فطلقني آخر التطليقات الثلاث، وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، فوالله ما وجدت منه إلا مثل الهدبة "هدبة الثوب: حاشية الثوب" فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 ومثلوا للحكم المخالف للإجماع بحل متعة1 النساء2 ونجد الدردير أحد أشهر فقهاء المالكية يقرر أن حكم القاضي ينقض إذا خالف إجماعا، أو نصا، أو قياسا جليا3.   1 معنى المتعة الزواج المؤقت بأمد معلوم أو أمد مجهول، وسمي زواج المتعة؛ لأن المقصود منه مجرد التمتع لمدة معينة، وقد أجمع العلماء على أن زواج المتعة كان مباحا مدة, ثم نسخ حكم الإباحة فصارت محرمة, وشذت فرقة الإمامية إحدى فرق الشيعة الإمامية عن الإجماع, فقالوا بأن المتعة لا زالت مباحة. 2 الاختيار لتعليل المختار، لعبد الله بن محمد بن مودود، ج2، ص120، ومحمع الأنهر، ج2، ص169. 3 مثال الحكم المخالف للإجماع ما لو مات شخص وترك أخوة، وجدا فحكم القاضي بأن الميراث كله للأخوة دون الجد، فهذا الحكم مخالف للإجماع؛ لأن علماء الأمة الإسلامية على رأيين: رأي يقول بأن الجد يحجب الأخوة في الميراث كما يحجبهم الأب، فيكون الميراث كله للجد، ورأي يقول بأن الجد يقاسم الأخوة، أما حرمان الجد من في الميراث بالكلية فلم يقل به أحد من العلماء فمتى حكم بهذا قاض بناء على أن الأخ يدلي بالبنوة والجد يدلي بالأبوة، والبنوة مقدمة على الأبوة وجب نقض هذا الحكم، ولو كان من قال بهذا مفتيا لم يجز تقليده. ومعنى القياس الجلي هو ما قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين المقيس والمقيس عليه، أو ببعد تأثيره، فالأول هو قياس كقياس الضرب على التأفيف للوالدين، الذي ورد تحريمه في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} بجامع الإيذاء والثاني قياس المساوي، كقياس إحراق مال اليتيم على أكله، فإن الفارق بين الضرب والتأفيف وهو أن الضرب إيذاء بالفعل والتأفيف إيذاء بالقول، لا يؤثر في الحكم وهو حرمة الضرب أي: لا ينفيها، والفارق بين الإحراق والأكل وهو أن الأول إتلاف بلا فائدة بخلاف الثاني بعيد، فلا ينفي الحرمة، فلو حكم قاض بعدم تعزير من ضرب أباه لكون الضرب ليس حراما بطل حكمه، وكذلك لو حكم بعدم تعزير من أحرق مال يتيم لكون الإحراق ليس حراما بطل حكمه، وأما القياس الأدون فهو القياس الخفي، كقياس الذرة أو الأرز على القمح في باب الربا بجامع الطعم فإن الفارق موجود وهو كثرة الاقتيات في القمح دون الذرة والأرز فالقياس الجلي يشمل الأولى والمساوي كما صرح بذلك بعض علماء الشافعية في كتب الفقه والأصول. حاشية الشرقاوي على التحرير، ج2، ص495. مطبعة دار إحياء الكتب العربية وحاشية الجمل على شرح المنهج، ج5، ص351. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 ومثل للحكم المخالف للنص بأن يحكم بالشفعة للجار، وعلل لهذا بأن الحديث الصحيح وارد باختصاصها بالشريك دون الجار، ولم يثبت له معارض صحيح عند المالكية. وكذلك ينقض الحكم عند المالكية إذا ضعف دليله، ومثلوا لهذا الحكم بغير الشهود العدول، أو بالأقوال الضعيفة المردودة في المذهب الفقهي الذي ينتمي إليه القاضي، ومن ذلك عندهم الحكم بتوريث ذوي الأرحام والشفعة للجار1. وبين بعض فقهاء الشافعية أن قضاء القاضي ينقض إذا تبين وجود خطأ به، والقاضي منصوب لكي يحكم بين الناس بأحكام الشرع، وأحكام الشرع منوطة بأسباب تتعلق بوجودها، ووجودها يثبت عند القاضي بطريق شرعي، والخطأ محصور في ثلاثة مواطن. أحدها: أن يكون الخطأ في الحكم الشرعي بأن يكون القاضي حكم بحكم يخالف نصا، أو إجماعا، أو قياسا جليا. فيجب نقضه لتحقق الخلل في الحكم، وليس معنى النقض هنا الحل بعد العقد، بل المعنى هو الحكم ببطلان الحكم المتقدم، وبيان أنه لم يقع صحيحا؛ لأنه ليس بحكم الشرع، والقاضي أو الحاكم إنما يثبت الشرع فلا يكون حكمه صحيحا إلا إذا حكم بحكم الشرع، وكلمة "نقض الحكم" هنا في هذا الموطن متمكنة؛ لأن المقصود إبطال ذات الحكم الذي صدر من القاضي. الثاني: أن يكون الحكم مبني على سبب يظن القاضي وجوده، وهو في   1 الشرح الصغير، للدردير ج5، ص21، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج4، ص153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 الواقع غير موجود، كما لو حكم القاضي بشهادة زور، وهو لا يعلم أنها شهادة زور، فإذا تبين أنها شهادة زور فإن الحكم المبني عليها ينقض في بعض المواضع بالإجماع، وفي بعضها بخلاف فيه بين العلماء. والخطأ هنا في السبب ووضع الحكم في غير موضعه، والنقض هنا معناه إبطال تعلق الحكم بذلك المحل، وكلمة "نقض الحكم" في هذا الموطن غير متمكنة؛ وذلك لأنه لم ينقض الحكم في ذاته لوجود خطأ به، وإنما نقض عن ذلك المحل وأخرج المحل عنه، فالخطأ حصل في السبب لا في الحكم، والمخطئ هنا هو الشاهد لا القاضي الذي أصدر الحكم، وإن كان حصل للقاضي نوع من الخطأ وهو أنه ظن وجود السبب الحاصل بالشهادة. الثالث: أن يكون الخلل في الطريق، كما لو حكم القاضي بشهادة كافرين، فهذا الحكم لا يصح لاشتراط الإسلام في الشاهد، فإذا تبين أن الشاهدين كافران فإنه يجب نقض الحكم، سواء كان المشهود به صحيحا أم لا؛ لأن الحكم المعتبر شرعا هو ما كان ثابتا بطريقه الشرعي، فإذا كان بغير الطريق الشرعي فقد حصل الخطأ في الطريق فيجب نقضه، والخطأ هنا حدث من القاضي في اعتقاده عدالة الشهود، وكلمة "نقض الحكم" هنا كهي في الموطن الثاني، وإن كان الفقهاء أطلقوا كلمة "النقض" على جميع المواطن وهو الصحيح1. الرأي الثاني: ينقض القاضي جميع ما بان له خطؤه.   1 الأشباه والنظائر لابن السبكي، ج1، ص406، ويظهر لي أن هذا ما نقله عبد الوهاب بن السبكي عن والده علي بن عبد الكافي السبكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 وهذا الرأي محكى عن أبي ثور، وداود الظاهري. وقد استدل من قال بنقض حكم القاضي إذا خالف الكتاب الكريم أو السنة أو الإجماع بما يأتي: أولا: قول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". ثانيا: حديث معاذ، لما أرسله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيا قال له: "بم تحكم"؟ , قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد"؟ , قال: بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "فإن لم تجد"؟ , قال: أجتهد رأيي لا آلوا، قال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله". فهذا الحديث الشريف بين أنه لا اجتهاد مع الكتاب والسنة, فشرط الحكم بالاجتهاد عدم النص1. ثالثا: الإجماع قام على نقض الحكم إذا خالف أمرا مجمعا عليه بين العلماء2. رابعا: ما روي أن عمر -رضي الله تعالى عنه- كان يفاضل بين الأصابع في الدية، نظرا لتفاوت منافعها، فلما روي له حديث عن رسول الله -صلى الله عليه   1 الشرح الصغير لأحمد الدردير، ج5، ص21، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4، ص153. 2 مغني المحتاج، ج4، 397، والمغني، ج11، ص404. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 وسلم- في التسوية نقض حكمه، رواه الخطابي في المعالم. خامسا: ما روي أن عليا -رضي الله تعالى عنه- نقض قضاء شريح في ابني عمر, أحدهما أخ لأم بأن الميراث كله للأخ، متمسكا بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} فقال له علي: قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} . الاستدلال لعدم النقض في حال مخالفة القياس الخفي: استدل لهذا بأن الظنون المتعادلة لو نقض بعضها بعضا لما استمر حكم، ولشق الأمر على الناس. ومن المشهور عن عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- أنه حكم بحرمان الأخوة الأشقاء في المسألة المشتركة في الميراث1، ثم شرك بينهم وبين الأخوة لأم بعد ذلك، ولم ينقض قضاءه الأول، وقال ذاك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي2. هذا وقد صرح العلماء بأنه في حالة النقض يجب على القاضي أن يبين السبب الذي نقض الحكم من أجله، حتى لا ينسب للجور والهوى بنقضه   1 المسألة المشتركة في الميراث: إذا ماتت امرأة وتركت: زوجا، وأما وجدة، واثنين فأكثر من الأخوة لأم, وأخوة أشقاء، واحدا أو أكثر ذاكرا فقط، أو ذكورا وإناثا، وقد سماها العلماء بالمشتركة لاشتراك الأخوة الأشقاء مع الأخوة لأم في الميراث وتسمى الحمارية لقول الأشقاء هب أن أبانا كان حمارا، والحجرية. أو اليمية، لقولهم: هب أن أبانا كان حجرا في اليم. 2 مغني المحتاج، ج4، ص396. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 الأحكام التي حكم بها غيره من القضاة1. وأما الرأي القائل بأن على القاضي أن ينقض جميع ما بان له خطؤه، فيدل له ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام، فقضى به للكبرى، فخرجتا إلى سليمان فأخبرتاه، فقال: ائتوني بسكين أشقه بينكما نصفين، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضي به للصغرى" 2. وفي ختام الكلام عن هذه المسألة نحب أن نبين أن هناك رأيا ضعيفا يذهب إلى أن القاضي لا ينقض حكمه إذا أخطأ، واستند هذا الرأي الغريب إلى ما رواه البخاري ومسلم عن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا حكم الحاكم 3 فاجتهد ثم أصاب فله أجران، فإذا حكم واجتهد ثم أخطأ 4 فله أجر". والجواب عن هذا الاستدلال أن هذا الحديث الشريف لا يدل على أن القاضي لا ينقض حكمه إذا أخطأ؛ وذلك لأن المراد أن يكون الحاكم اجتهد فأخطأ الحكم الذي عند الله عز وجل في نفس الأمر من الحق، وهذا الخطأ لن نعلمه إلا   1 الاختيار لتعليل المختار، ج2، ص12، والمغني ج11، ص404. 2 سبل السلام، للصنعاني، ج4، ص119. 3 أي: إذا أراد الحكم، بدليل قوله بعد ذلك: "فاجتهد" فإن الاجتهاد إنما يكون قبل الحكم. 4 أي: لم يوافق ما هو عند الله تعالى من الحكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 يوم القيامة أو بوحي من الله تبارك وتعالى، والكلام هنا في خطأ الحاكم الذي يظهر له في الدنيا من عدم استكمال الشروط التي يجب أن تتوفر في الحكم أو نحو ذلك1. كما نحب أن نبين أن بعض فقهاء المالكية قسم ما أخطأ فيه القاضي إلى أربعة أقسام: الأول: أن يكون قضاؤه مخالفا للكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة. الثاني: أن يكون قد قصد أن يحكم بمذهب معين فذهب في حكمه إلى غير هذا المذهب. الثالث: أن يكون قد اجتهد لنفسه فحكم بالرأي الذي يرى أنه صواب، ثم تبين له بعد ذلك باجتهاد ثان أن الصواب خلاف ما حكم به. الرابع: أن يكون حكم في القضية التي ينظرها بناء على ظن وتخمين بدون اجتهاد ولا رأي. فأما حكم الأول فإنه يفسخ حكمه إذا خالف الحق المقطوع به، فإذا لم يفسخ هو هذا الحكم حتى جاء قاض بعده فإنه يجب على من أتى بعده أن يفسخ هذا الحكم؛ لأنه مما يقطع ببطلانه ولا يجوز الإقرار عليه. وأما القسم الثاني وهو إذا كان يقصد أن يحكم بمذهب معين فذهب في حكمه إلى غير هذا المذهب فهذا يفسخه هو بنفسه، ولا يفسخه من يتولى القضاء بعده، وإنما لم يكن لغيره أن يفسخ هذا الحكم؛ لأن ظاهره الصحة إذا كان جاريا على مذهب بعض العلماء، ولا يعلم خطؤه، إلا من قوله هو فلم يكن للثاني سبيل   1 سبل السلام، ج4، ص119، 120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 إلى نقضه، إلا إذا شهدت بينة حضرته وعلمت قصده في الحكم وذهابه عنه إلى سبيل الخطأ، فإذا شهد شاهدان بذلك عند القاضي الثاني نقضه ولم يمضه. وأما القسم الثالث فمذهب ابن القاسم وغيره أنه يرجع إلى الرأي الثاني الذي انتهى إليه باجتهاده الثاني ويفسخ الحكم الأول. ومذهب ابن الماجشون وسحنون وغيرهما أنه لا يجوز له أن يفسخ الحكم الأول. وأما القسم الرابع وهو أن يكون قد حكم بناء على ظن وتخمين من غير نص أو اجتهاد في الأدلة فذلك باطل؛ لأن الحكم بالظن فسق، وظلم، وخلاف الحق, ويجب على القاضي الذي أصدر هذا الحكم أن يفسخه بنفسه، كما يجب على غيره أن يفسخه إذا ثبت أنه حكم به على هذه الصورة1. ثم أما بعد، فهذا ما يسر الله تبارك وتعالى كتابته في موضوع النظام القضائي في الفقه الإسلامي، وأدعوه عز وجل أن ينفع بما كتبت، وأن يغفر لي ما قصرت وما أخطأت فيه، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. دكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقه المقارن. عميد كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر.   1 معين الحكام على القضايا والأحكام لأبي إسحاق إبراهيم بن حسن بن عبد الرفيع، تحقيق الدكتور محمد بن قاسم بن عياد، الجزء الثاني، ص638، دار الغرب الإسلامي، بيروت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 باب الفهارس : الصفحة الموضوع 1-4 تقديم البحث 5-74 المقدمة: وتشتمل على الآتي: 6 التعريف بالقضاء 7 القضاء في لغة العرب 7 معنى الاصطلاح عند العلماء "بالهامش" 9 القضاء في اصطلاح فقهاء الشريعة 9 معنى المشترك اللفظي والمشترك المعنوي "بالهامش" 9 رأي العلماء في وجود المشترك في اللغة "بالهامش" 16 ضرورة القضاء في المجتمع، وسموه، وخطره 20 مشروعية القضاء 22 الحكم الشرعي لوجود القاضي في المجتمع 22 معنى الفرض الكفائي، وحكمه، ومتى يتحول إلى فرض عيني؟ 23 إقامة قاض بين الناس فرض عين على رئيس الدولة 24 الدليل على أن نصب القاضي فرض 25 ينبغي اختيار الأفضل لمنصب القضاء 26 حكم قبول القضاء 29 حكم طلب القضاء 32 القضاء عند العرب قبل الإسلام 32 الأمور التي يختلف فيها القضاء 34 بعض الحكام الذين اشتهروا في الجاهلية من الرجال والنساء 36 القضاء في عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 38 الدليل على أن الرسول كان يقضي في القضايا بنفسه 41 كان منصب القضاء في عهد الرسول يضاف إلى منصب الولاية العامة 42 مرجع من يقوم بالقضاء 42 القضاء في عصر الخلفاء الراشدين 43 عمر بن الخطاب أول من فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية 44 عمر أول من أنشأ بيت مال المسلمين "الخزانة العامة للدولة" 44 الدائرة القضائية للقضاء أيام الخلفاء الراشدين 45 طريقة اختيار القضاة 46 مرجع القاضي في أحكامه 47 اختيار القضاة، وظهور وظيفة قاضي القضاة 48 أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة أول من غير لباس العلماء إلى هيئة خاصة 48 اختصاصات القاضي 51 التحكيم، وآراء العلماء في مشروعيته، وشروطه 55 رجوع أحد الخصمين عن التحكيم 57 ما يجوز التحكيم فيه وما لا يجوز 58 التحكيم في حد القذف، والقصاص 63 التحكيم يحل مشكلة المسلمين في البلاد غير الإسلامية 64 حكم الهدية للقاضي 66 جعل أجر للقاضي من الخزانة العامة للدولة، آراء العلماء، وأدلتهم والرأي المختار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 71 اتفق العلماء على حرمة التسول بغير ضرورة، واختلفوا في مسألة القادر على الكسب هل يباح له التسول أم لا "بالهامش" 2 حق التقاضي مكفول للجميع 75-214 الفصل الأول شروط الصلاحية للقضاء، وعزل القاضي وانعزاله ويشتمل على مبحثين: 76 المبحث الأول: شروط الصلاحية للقضاء 76 الشرط الأول: الإسلام 77 آراء العلماء في شرط الإسلام فيمن يتولى القضاء بين غير المسلمين، وأدلتهم، ومناقشتها، والرأي الراجح 81 الشرط الثاني: البلوغ، ودليل هذا الشرط 83 الأشياء التي يحصل بها البلوغ، آراء العلماء فيها، وأدلتهم 91 الشرط الثالث من شروط القاضي: العقل 92 هل يكتفي بالعقل الذي يتحقق به التكليف 94 معنى الفراسة "بالهامش" 95 الشرط الرابع: الحرية، آراء العلماء وأدلتهم 98 الشرط الخامس: الذكورة، آراء العلماء في هذا الشرط، وأدلتهم، والمناقشات، والرأي المختار 100 المكروه عند الحنفية قسمان "بالهامش" 102 سبب الخطأ الذي يقع فيه بعض الحاكين لمذهب الحنفية في تولي المرأة القضاء 108 مدى توافق رأي الحنفية في قضاء المرأة مع رأيهم في أثر النهي مع بيان ما يراه العلماء في النهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 113 بعض الباحثين المعاصرين يرى أن غير الحنفية أخطئوا في فهم عبارات الحنفية في مسألة تولي المرأة القضاء، والرد عليه في ذلك 118 ما نقل عن ابن جرير الطبري من جواز تولي المرأة القضاء، وما اعترض به بعض الباحثين على صحة نسبة هذا الرأي إلى الطبري، والرد عليه 151 الشرط السادس من شروط القاضي: العدالة 157 توضيح معنى العدالة عند العلماء 160 معنى الكبيرة 161 معنى الصغيرة وأمثلة لها 161 أمثلة للصغيرة 163 معنى المروءة 163 أمثلة لأمور تخل بالمروءة عند الفقهاء القدامى 164 الأمور التي تخل بالمروءة يتدخل في اعتبارها العرف 165 لماذا اشترطت المروءة في العدالة؟ 165 لا يخرج الشخص عن العدالة بفعل صغيرة 166 المراد بالإصرار على الصغيرة 166 الشوكاني بين أن الإصرار على الصغيرة لا يحولها إلى كبيرة 168 بعض العلماء يرى أنه ليس في الذنوب صغيرة 169 معنى التقوى 169 أكثر العلماء يشترطون العدالة في القاضي 170 رأي الحنفية في اشتراط العدالة في القاضي وتعليل رأيهم 170 معنى الولاية 170 تعليل الحنفية لعدم اشتراط العدالة في الشاهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 172 من أدلة القائلين باشتراط العدالة في القاضي 172 الرأي الراجح في عدالة القاضي 173 الشرط السادس من شروط القاضي: السمع 173 الشرط السابع: البصر 175 الشرط الثامن: النطق 175 الشرط التاسع: الكفاية 175 معنى المغفل والبليد "بالهامش" 176 الشرط العاشر: الاجتهاد، آراء العلماء فيه 176 معنى المقلد 178 معنى الاجتهاد، والتقليد 179 يرى بعض العلماء أن القياس والاجتهاد بمعنى واحد 179 أنواع الاجتهاد 180 إذا خالف الراوي بفعله ما رواه "بالهامش" 181 لا بد من توافر أمور علمية في المجتهد 181 معنى المحكم، والظاهر "بالهامش" 182 معنى النص، والحديث المرسل، والمعضل "بالهامش" 183 معنى القياس الجلي، والمساوي، والأدنى 184 غير المجتهد لا يفتي الناس برأيه "بالهامش" 187 ليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل أو بعبارة أخرى يصح تجزؤ الاجتهاد، ويرى بعض العلماء أن الاجتهاد لا يتجزأ، ومستند كل رأي، والرأي الراجح في هذه القضية 190 ما هو وضع علماء الأمة المعاصرين بالنسبة للاجتهاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 191 الحكم إذا لم يوجد مجتهد 192 دليل القائلين باشتراط الاجتهاد في القاضي، ومخالفيهم، ومناقشة الدليل 195 الاجتهاد أمر غير متعذر 197 من الأفضل في العصر الذي نعيش فيه أن يوجد تقنين شرعي موحد 197 الشرط الحادي عشر عند بعض العلماء: أن لا يكون دفع رشوة 198 الشرط الثاني عشر عند بعض العلماء: أن لا يكون أميا 199 هل يشترط أن يكون القاضي واحدا؟ ما يراه العلماء ودليلهم والرأي المختار 201 هل يشترط علم من يولي القضاة بتحقق الشروط فيمن يرشح للقضاء 202 صفات مستحبة في القاضي 204 المبحث الثاني: عزل القاضي وانعزاله 206 ما يراه العلماء فيما إذا كانت صفة العدالة تتوافر في القاضي ثم ارتكب ما يخل بالعدالة، وتوجيه كل رأي 209 متى يحق لرئيس الدولة عزل القاضي؟ ما يراه العلماء، وأدلتهم، ومناقشة الأدلة، والرأي الراجح 213 لا ينعزل القاضي بموت رئيس الدولة أو انعزاله 213 عزل القاضي نفسه 215-268 الفصل الثاني: الدعوى ونظام الفصل فيها 216 معنى الدعوى، والفرق بينها وبين الإقرار، والشهادة 217 أركان الدعوى 217 أهل الدعوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 218 طرفا الخصومة في الدعوى 219 الحكمة في كون البينة على المدعي واليمين على من أنكر 220 معنى المدعي، والمدعى عليه 221 حكم الدعوى 221 الدعوى إما صحيحة أو فاسدة 222 شروط صحة الحكم في الدعوى، والشرط الأول: حضور المدعى عليه 222 آراء العلماء في القضاء على الغائب 223 صور اتفق عليها أبو حنيفة والشافعي في مسألة القضاء على الغائب 224 أدلة القائلين بجواز الحكم على الغائب 225 حديث هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، والإجابة على الاستدلال به لجواز القضاء على الغائب 226 أدلة المانعين للحكم على الغائب، ومناقشتها 230 اضطراب فقهاء الحنفية في مسائل الحكم على الغائب 231 الغائب عند المالكية 232 الغائب عند الشافعية 232 معنى التبكير "بالهامش" 232 مسافة العدوي "بالهامش" 233 شروط القضاء على الغائب عند من يقول به 234 هل يجوز للقاضي استحلاف المدعي مع بينته؟ ما يراه العلماء، وما استندوا إليه يرى بعض العلماء أنه يستحب للقاضي نصب شخص يقوم مقام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 235 المدعى عليه الغائب 236 الشرط الثاني من شروط صحة الحكم في الدعوى: أن لا يسبق من المدعي ما يناقض دعواه 237 الشرط الثالث: أن يكون المدعى به مما يحتمل الثبوت 238 الشرط الرابع: اشتمال الدعوى على المطالبة 238 الشرط الخامس: أن يكون المدعى به معلوما 239 الشرط السادس: كونها ملزمة 239 الشرط السابع: أن تكون في مجلس القضاء 239 الشرط الثامن: أن تكون بلسان المدعي أو وكيله 240 الشرط التاسع: أن لا تكون بنذر لمخلوق 240 الشرط العاشر: تعيين المدعى عليه 240 الشرط الحادي عشر: أن لا يكون المدعي أو المدعى عليه حربيا 240 الشرط الثاني عشر: تكليف المدعي 241 حكم المدعى عليه من حيث اشتراط التكليف 241 الشرط الثالث عشر: أن تكون الدعوى محققة 242 حكم الوكالة في الدعوى 242 اختلاف العلماء فيما لو اتفقا على أجرة إذا كسب القضية وإذا لم يكسبها فليس له شيء 243 الوكالة عن المتهم بدعوى الباطل لا تجوز شرعا 243 هل يسقط الحق بتقادم الزمان؟ آراء العلماء، والرأي المختار 247 نظام المحاماة في مصر "بالهامش" 247 نظام الفصل في الدعوى 247 خطاب عمر لأبي موسى الأشعري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 249 اليمين توجه إلى كل من ادعي عليه حق 249 الفقهاء السبعة "بالهامش" 249 يرى مالك وجمهور أصحابه أن اليمين لا توجه إلا إلى الشخص الذي ثبت أن بينه وبين المدعي خلطة 252 نكول المدعى عليه، آراء العلماء فيما يجب على القاضي فعله، وأدلة كل رأي 257 يكفي في اليمين الحلف بالله أو صفة من صفاته 258 تغليظ الحلف بالمكان والزمان، آراء العلماء، وأدلتهم 261 معنى الحديث المرسل، والمعضل "بالهامش" 262 تعتبر في اليمين نية القاضي 263 لا يستحلف القاضي أحدا بالطلاق 263 فوائد اليمين 264 اليمين لا تسقط الحق 265 ما يصح الاستحلاف فيه وما لا يصح 266 أقسام حقوق الآدميين 267 معنى الاستيلاء "بالهامش" 268 يستحب للقاضي أن يأمر الخصمين بالصلح 269-527 الفصل الثالث: وسائل الإثبات 270 هل وسائل الإثبات محصورة في عدد معين؟ 271 الوسيلة الأولى: الإقرار 272 معنى الإقرار، والفرق بينه وبين الشهادة والدعوى 274 أدلة اعتبار الإقرار 275 أركان الإقرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 276 شروط المقر 277 حكم إقرار السكران المتعدي بسكره، ما يراه العلماء ودليلهم 280 لو ادعى بعد الإقرار أنه كان مكرها 280 ما يراه ابن تيمية وابن القيم وغيرهما في ضرب المتهم أو حبسه حتى يقر 284 لم يكن أيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكان خاص للسجن 284 اختلاف العلماء في الحبس واتخاذ السجن "بالهامش" 290 إقرار المريض لوارثه، ما يراه العلماء 291 شروط المقر له 292 شروط المقر به 293 شروط صيغة الإقرار 293 حكم الإقرار بالكتابة، ما يراه العلماء، والرأي الراجح 295 الرجوع عن الإقرار 296 حد القذف يجتمع فيه حقان: حق الله وحق الإنسان "بالهامش" 296 الحقوق المالية التي تجب لله تعالى "بالهامش" 302 هروب المقر أثناء تنفيذ عقوبة حدية، آراء العلماء ودليلهم والرأي الراجح 305 الفرق في الرجوع عن الإقرار بين حق الله وحق الإنسان 306 الوسيلة الثانية من وسائل الإثبات: البينة 306 البينة عند الجمهور مرادفة للشهود، وعند ابن تيمية وابن القيم أعم من هذا 307 جواز رواية الحديث بالمعنى، وشرط ذلك "بالهامش" 310 تعريف الشهادة عند الفقهاء، وأدلة مشروعيتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 311 حكم الشهادة وحكم أدائها 313 يجب آداء الشهادة عند الطلب 313 الشاهد في الحدود مخير بين الستر والإظهار 314 حقوق الله تعالى بالنسبة لأداء الشهادة قسمان 318 لا يجوز الشهادة إلا بما علمه الإنسان 318 مدرك العلم الذي تقع به الشهادة 320 ما يجوز الشهادة فيه بالاستفاضة 321 بم تحصل الاستفاضة 322 هل يشترط لفظ الشهادة عند الأداء، آراء العلماء وتوجيه كل رأي والرأي الراجح 326 شروط الشاهد 326 ما يراه العلماء في شرط البصر في الشاهد، وتعليل كل رأي 327 شروط الأداء في الشهادة 328 آراء العلماء في شهادة غير المسلمين بعضهم على بعض, وأدلتهم، ومناقشة الأدلة، والرأي الراجح 336 شهادة غير المسلمين على المسلمين في الوصية في السفر، ما يراه العلماء وأدلتهم، ومناقشة الأدلة، والرأي الراجح 341 معنى اللعان "بالهامش" 344 اختلاف العلماء في شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراحات التي تحدث بينهم 347 الأئمة الأربعة متفقون على وجود عدالة الشاهد، لكن الخلاف في أمرين 348 معنى العدل باطنا وظاهرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 350 أدلة من يكتفي بالعدالة الظاهرة في الشاهد 351 الاستدلال للرأي القائل بوجوب السؤال عن الشاهد 352 معنى المزكي للشاهد، وشروطه 352 تعارض البينة في التجريح والتعديل 354 هل يقبل الجرح والتعديل من واحد فقط؟ ما يراه العلماء، ودليل كل رأي 355 هل لا بد من التفسير في الجرح، ما يراه العلماء، والدليل لكل رأي 357 هل يقبل الجرح والتعديل من النساء، ما يراه العلماء، والدليل لكل رأي 358 لا يقبل جرح الشهود من الخصم مجردا من البينة 358 رأي الحنفية في اشتراط عدالة الشاهد، وما عليه الفتوى عندهم 361 إذا فقدت العدالة، وعم الفسق في المجتمع فما الحكم في الشهادة 362 هل يقبل شهادة الفاسق إذا تاب؟ آراء العلماء وسبب الخلاف 362 هل يشترط في التوبة إصلاح العمل أم يكفي مجرد التوبة؟ "بالهامش" 362 توبة القاذف بم تكون؟ "بالهامش" 365 في أي شيء تقبل شهادة التائب من القذف 368 شهادة الأب لابنه، والعكس 368 شهادة أحد الزوجين للآخر، آراء العلماء، والرأي الراجح 369 شهادة الأخ لأخيه، آراء العلماء، والرأي المختار 370 آراء العلماء في شهادة العدو على عدوه 371 هل يشترط البصر في آداء الشهادة، آراء العلماء 374 مراتب الشهادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 376 لماذا لم يكتف بامرأة واحدة مع رجل فيذكرها الرجل الذي معها إذا نسيت "بالهامش" 377 آراء العلماء في عدد الشهود في الترجمة 378 آراء العلماء في شهادة المرأة في الحدود والقصاص، ودليل كل رأي 380 رأي المالكية في شهادة النساء بعضهن على بعض في الأعراس ومساكن الطالبات، والأماكن التي لا يحضرها الرجال 382 تقبل شهادة النساء في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا 382 حكم شهادة النساء منفردات في الرضاع واستهلال المولود 383 هل يشترط العدد في انفراد النساء بالشهادة؟ آراء العلماء وأدلتهم 387 رجوع الشهود عن الشهادة قبل حكم القاضي أو بعده قبل استيفاء المحكوم به، أو بعد الاستيفاء 390 رجوع الشهود في الطلاق البائن وما ماثله 392 تعارض البينتين من شخصين 394 زيادة العدد في إحدى البينتين أو زيادة العدالة 395 لو شهد لأحد المدعيين شاهدان رجلان، وللمدعي الآخر رجل وامرأتان 396 لو كان لأحد المدعيين شاهدان وللآخر شاهد ويمين 399 الشهادة على الشهادة، حكمها ومجال قبولها، وأسبابها وشروطها 402 حكم أخذ الأجرة على آداء الشهادة، آراء العلماء في ذلك 403 الوسيلة الثالثة من وسائل الإثبات: نكول المدعى عليه عن اليمين الوسيلة الرابعة من وسائل الإثبات: يمين المدعي مع الشاهد، آراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 404 العلماء في ذلك، وأدلتهم، ومناقشتها، والرأي الراجح 407 معنى الحديث المتواتر، والمشهور، والآحادي "بالهامش" 412 معنى ما يئول إلى الأموال "بالهامش" 414 الوسيلة الخامسة من وسائل الإثبات: يمين المدعي إذا نكل المدعى عليه 414 الوسيلة السادسة: القسامة، معناها، ودليل مشروعيتها عند القائلين بها وآراء العلماء فيها، وأدلتهم, والمناقشة 422 ما يجب بالقسامة 423 من يبدأ بالحلف في القسامة 426 هل يحلف النساء والصبيان؟ آراء العلماء في ذلك، وأدلتهم 427 متى تجب القسامة 428 معنى اللوث عند العلماء 431 الوسيلة السابعة من وسائل الإثبات: القافة، معناها، والدليل على مشروعيتها 434 آراء العلماء في القافة 438 شروط القائف 441 إذا أشكل الأمر على القائف 442 الوسيلة الثامنة من وسائل الإثبات: القرينة القاطعة 444 تعريف القرينة 446 معنى الأمارة، والفرق بينها وبين العلامة "بالهامش" 448 أقسام القرينة من حيث دلالتها 453 هل تحليل الدم يصلح وسيلة لنفي النسب؟ 454 جدول يبين فصائل الدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 458 أقسام القرينة عند القانونيين 161 آراء الفقهاء في حجية القرائن، وأدلتهم، ومناقشتها 469 أقسام الظن، ولماذا كان الظن أكذب الحديث "بالهامش" 470 الرأي الراجح في حجية القرينة أمام القاضي 472 ما يشترط في العمل بالقرينة أمام القضاء 472 معنى المحكم "بالهامش" 473 معنى الظاهر، والنص "بالهامش" 474 معنى الحديث المتواتر والمشهور، والآحاد "بالهامش" 476 مجال القضاء بالقرائن 477 آراء العلماء في العمل بالقرينة في الحدود، وأدلتهم، ومناقشتها والرأي الراجح 489 آراء العلماء في العمل بالقرينة في القصاص، وأدلتهم ومناقشتها والرأي الرجح 494 عمل فقهاء المذاهب الأربعة بالحكم بالقرائن 498 الوسيلة التاسعة من وسائل الإثبات: القرعة، آراء العلماء في حجيتها، وأدلتهم، ومناقشتها، وموضوع القرعة 501 الوسيلة العاشرة من وسائل الإثبات: علم القاضي، آراء العلماء، وأدلتهم في ذلك، ومناقشتها، والرأي الراجح 515 المجتمعات التي لم تعرف الإسلام كانت تتبع وسائل في الإثبات أقرب إلى الفوضى 516 استيفاء الحق بدون قضاء، آراء العلماء، وأدلتهم، ومناقشتها، 516 والرأي الراجح، وشروط الاستيفاء بدون قضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 528-574 الفصل الرابع: أصول في القضاء 529 الأصل الأول: العدل بين الخصمين 530 الأصل الثاني: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر 530 الأصل الثالث: حكم القاضي لا يحرم حلالا ولا يحل حراما، آراء العلماء في بعض المسائل، وأدلتهم، ومناقشتها، وبيان الرأي الراجح وأسباب ذلك 542 الأصل الرابع: لا يقضي القاضي وهو غضبان 544 آراء العلماء فيما لو حكم القاضي في حال الغضب، وأدلتهم 547 الأصل الخامس: لا يقبل القاضي هدية ممن له خصومة 548 الأصل السادس: لا يقضي القاضي لنفسه، ولمن لا تقبل شهادته له 550 الأصل السابع: الحكم بالاجتهاد الثاني للقاضي 551 الأصل الثامن: جواز الطعن في الأحكام في بعض الأحوال 552 طرق الطعن في القانون الوضعي 554 الدليل على جواز الاستئناف في الأحكام 562 متى يجوز نقض حكم القاضي؟ 566 معنى زواج المتعة "بالهامش" 570 المسألة المشتركة في الميراث "بالهامش" 574 مصادر البحث 587 فهرس الموضوعات 603 كتب صدرت للمؤلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 الكتب التي صدرت للمؤلف: عنوان الكتاب الناشر وتاريخ النشر 1- رياسة الدولة في الفقه الإسلامي - دراسة مقارنة. دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 1975 دار القلم بدبي بالإمارات العربية المتحدة عام 1985. 2- الحقوق والواجبات والعلاقات الدولية في الإسلام. دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 1974م. دار اقرأ ببيروت عام 1983م. دار الضياء بالقاهرة عام 1991م. 3- عقد الزواج، أركانه، وشروط صحته في الفقه الإسلامي - دراسة مقارنة. دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 1977. 4- الاستمتاع بين الزوجين في الصوم والاعتكاف والحج - دراسة مقارنة. دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 1980م. 5- الحقوق الزوجية المشتركة في الفقه الإسلامي - دراسة مقارنة. دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 1980م. 6- الحج والعمرة - دراسة مقارنة. دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 1980م 7- سلطة القاضي في التفريق بين الزوجين بالأمور التي تمنع الاستمتاع - دراسة مقارنة. دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 1981م. 8- مهر الزوجة وما يتصل به من قضايا في الفقه الإسلامي - دراسة مقارنة. دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 1982م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 9- فقه النساء في الخطبة والزواج. دار الاعتصام بالقاهرة عام 1984م. دار الفضيلة بالقاهرة عام 1990م. 10- عقد البيع في الشريعة الإسلامية. دار الكتاب الجامعي بالقاهرة عام 1985م. 11- النظريات العامة في الفقه الإسلامي - نظرية الحق. دار القلم بالإمارات العربية المتحدة عام 1987م. 12- فقه المواريث بالاشتراك مع الدكتور وهبة الزحيلي والدكتور رمضان الشرنباصي. دار القلم بالإمارات العربية المتحدة عام 1987م. 13- النظام القضائي في الفقه الإسلامي - دراسة مقارنة. مكتبة الفلاح بالكويت عام 1989. دار البيان بالقاهرة عام 1994م. 14- بحوث في الفقه المقارن - رؤية هلال رمضان في بعض البلاد دون البعض الآخر، وزكاة حلي النساء والأواني والتحف الذهبية والفضية، والزكاة في مال الصبي والمجنون. مكتبة الفلاح بالكويت عام 1988. 15- القضايا الثلاث - تغيير المنكر بالقوة، والخروج على الحاكم، وتكفير الدولة. دار الفضيلة بالقاهرة عام 1989. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 تصويب الأخطاء: الصفحة السطر الخطأ التصويب 33 9 فطلب التحكيم فليس ملزما للمحكم فالتحكم ليس ملزما للمحكم 46 11 رسول اله رسول الله 62 3 لا يحوز أمر الغائب ولا يجوز في أمر الغائب 72 5 يقسم شيذا يقسم شيئا 74 2 القصاص للقصاص 78 9 فالفاسق منوع فالفاسق ممنوع 84 13 البلوغ وأنه البلوغ أنه 104 12 البعارة العبارة 106 4 وإن كان يمكن أن يعتذر فيمكن أن يعتذر 109 2 بين النهي من النهي 109 9 النهي عنه النهي عنها 125 5 الذكرة الذكورة 138 12 العهد إليكن العهد الذي عهد إليكن 139 2 الطبيبة الطبيعة 147 3 هذا هنا 153 4 فأمن نفسه قامت نفسه 157 8، 9 فلان عنده ملكة أي فطرة أي عنده استعداد ذاتي فلان عنده ملكة الرسم، أي عنده استعداد ذاتي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592