الكتاب: رسائل المقريزي المؤلف: أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي (المتوفى: 845هـ) الناشر: دار الحديث، القاهرة الطبعة: الأولى، 1419 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- رسائل المقريزي المقريزي الكتاب: رسائل المقريزي المؤلف: أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني العبيدي، تقي الدين المقريزي (المتوفى: 845هـ) الناشر: دار الحديث، القاهرة الطبعة: الأولى، 1419 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة رسائل المقريزي تقى الدين المقريزى «1» أحمد بن على بن عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد بن أبي الحسن بن عبد الصمد بن تميم، التقى، أبو العباس بن العلاء ابن المحيوى الحسينى العبيدى البعلى الأصل، القاهرى، سبط ابن الصائغ، ويعرف بابن المقريزى- وهى نسبة لحارة فى بعلبك تعرف بحارة المقارزة. وكان أصله من بعلبك، وجدّه من كبار المحدثين، فتحول ولده إلى القاهرة وولى بها بعض الوظائف المتعلقة بالقضاء، وكتب التوقيع فى ديوان الإنشاء وأنجب صاحب الترجمة. وقال شيخنا: إنه رأى بخطه ما يدّل على تعيينه في سنة ست وستين وذلك بالقاهرة، ونشأ بها نشأة حسنة، فحفظ القرآن وسمع من جده لأمه الشمس بن الصائغ الحنفى «2» . شيوخه: سمع من جده لأمه كما ذكرنا آنفا، والبرهان الآمدى، والعزّ بن الكويك، والنجم بن رزين، والشمس بن الخشاب، والتنوخى، وابن أبى الشيخة، وابن أبى المجد، والبلقينى والعراقى والهيثمى والقرسيسى وغيرهم. وحج فسمع بمكة من النشاورى والأميوطى، والشمس بن سكر، وأبي الفضل النويرى القاضى، وسعد الدين الإسفرايينى، وأبى العباس بن عبد المعطى وجماعة. وقد أجاز له: الإسنوى والأذرعى وأبو البقاء السبكى، وعلى بن يوسف الزرندى وآخرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ومن الشام: الحافظ أبو بكر بن المحب وأبو العباس بن العز وناصر الدين محمد ابن محمد بن داود. مؤلفاته: كان المقريزى غزير الإنتاج والمادة العلمية فتارة تراه كيميائيا، وتاره تراه مؤرخا كما فى إمتاع الأسماع، والتنازع والتخاصم، وتارة تراه روحيا كما فى حث النفوس، فهو متنوع التصانيف، وهذه جملة غير يسيرة من مؤلفاته. 1- درر العقود الفريدة فى تراجم الأعيان المفيدة (ذكر فيه من عاصره) . 2- إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأخوال والحفدة والمتاع. 3- عقد جواهر الإسفاط فى ملوك مصر والفسطاط. 4- البيان والإعراب عمن فى أرض مصر من قبائل الأعراب. 5- الإلمام فيمن تأخر بأرض الحبشة من ملوك الإسلام. 6- الطرفة الغريبة فى أخبار حضر موت العجيبة. 7- معرفة ما يجب لآل البيت النبوى من الحق على من عداهم. 8- إتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء. 9- السلوك بمعرفة دول الملوك. 10- التاريخ الكبير المقفّى. 11- الإشارة والكلام ببناء الكعبة البيت الحرام. 12- التنازع والتخاصم بين بنى أمية وبنى هاشم. 13- شذور العقود أو النقود القديمة الإسلامية. 14- الضوء السارى فى معرفة خبر تميم الدارى. 15- الأوزان والأكيال الشرعية. 16- إزالة التعب والعنى فى معرفة الحال فى الغنى. 17- حصول الإنعام والمير فى سؤال خاتمه الخير. 18- المقاصد السنية فى معرفة الأجسام المعدنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 19- تجريد التوحيد. 20- مجمع الفرائد ومنبع الفوائد. 21- شارع النجاة. 22- الإيماء فى حل لغز الماء. 23- إغاثة الأمة بكشف الغمّة. 24- الخبر عن البشر. 25- المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار. 26- الذهب المسبوك فى ذكر من حج من الملوك. 27- العقود فى تاريخ العهود. 28- البيان المفيد فى الفرق بين التوحيد والتلحيد. 29- جنى الأزهار من الروض المعطار. صفاته وسلوكه: كان حسن المذاكرة بالتاريخ، لكنه قليل المعرفة بالمتقدمين؛ ولذلك يكثر له فيهم وقوع التحريف والسقط وربما صحف فى المتون، وكان كثير الاستحضار للوقائع القديمة فى الجاهلية. أما الوقائع الإسلامية ومعرفة الرجال وأسمائهم والجرح والتعديل والمراتب والسير وغير ذلك من أسرار التاريخ ومحاسنه فغير ماهر فيه. وكانت له معرفة قليلة بالفقه والحديث والنحو واطلاع على أقوال السلف، وإلمام بمذهب أهل الكتاب، حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفاده منه. وكان حسن الخلق، كثير التواضع، كريم العهد، عالى الهمة لمن يقصده، وكان محبا للمذاكرة والمداومة على التهجد والأوراد، وكان حسن الصلاة مزيدا فيها من الطمأنينة. وكانت الأكابر تجله: إما مداراة له، وخوفا من قلمه، أو لحسن مذاكراته. وكان مولعا بالتاريخ فجمع منه شيئا كثيرا، وصنّف فيه كتبا، وكان حسن الصحبة حلو المحاضرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 ومع كل هذا كان مشتغلا بضرب الرمل، وقد تولى الحسبة بالقاهرة فى آخر أيام الظاهر برقوق. وقد توفى رحمه الله فى عصر الخميس سادس عشر من رمضان سنة خمس وأربعين بالقاهرة بعد مرض طويل وكان عن عمر يناهز الثمانين. ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بحوش الصوفية البيبرسية- رحمه الله. وصف المخطوطات: وصلتنا مجموعة من رسائل المقريزى على ميكروفيلم رقم 4657 من المكتبة الوطنية بباريس L La Bibliothe que National de France LL وهى نسخة مكتوبة بالخط النسخى المعتاد، مسطرتها فى الغالب 24 سطرا، فى كل سطر من ثمانى إلى عشر كلمات. وبعد تفريغ الميكرو فيلم على الورق تمهيدا لتحقيقه، فوجئنا بأن بعض الرسائل مطموس تماما فى بعض صحائفه، والبعض الآخر ساقط منه كلمات من الوسط وهو ما يخل بسياق الكلام وبمضمونه. وحيث إن هذه الرسائل يصعب الحصول عليها جميعها للمقارنة مثلما يفعل فى أى مخطوطة، فقد نحيّنا المخطوطات المشوّهة واستعنا ببعض رسائل المقريزى المطبوعة للتوثيق ومراجعة النص الأصلى عليها. وقمنا بعمل الآتى: 1- رد كل آية إلى اسم سورتها وإثبات رقم الآية. 2- تخريج الأحاديث، وكانت هناك فى بعض المخطوطات نصوص لأحاديث ليس لها لفظ مشابه فخرجناها تخريجا محكما. 3- تخريج البلدان والأصقاع والنواحى. 4- ترجمة الأعلام والمشاهير ممن ذكرهم فى رسائله. 5- تفسير المعجم من غريب اللغة من معاجم اللغة العربية، كالقاموس المحيط واللسان والمعجم العربى الأساس ومختار الصحاح والمخصص وخلافه. 6- إصلاح الإسقاطات والتنبيه على المحو والطمس فى موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 مقدمات تحتل رسائل المقريزى مكانة مرموقة بين المخطوطات، خاصة التاريخية منها، وهى مجموعة رسائل متنوعة الموضوعات، غزيرة المادة العلمية فى بعضها، ضئيلة فى أخريات منها. والمقريزى عالم جليل، تارة تراه مؤرخا عندما يتناول موضوعا مثل «التنازع بين بنى أمية وبنى هاشم، وتارة تراه كيميائيا عندما يكتب عن الأجسام المعدنية والفلزات، وتراه فى الباقيات فقيها محدثا. وقد عكف بعض العلماء الأجلّاء على تحقيق بعض رسائله الصغيرة، ولكن فى اعتقادى أنه لم يتناولها أحد حتى الآن كاملة كمجموعة، وقد أعاننا الله على تحقيق جزء كبير منها- هو الذى بين يدى القارئ- والله أسأله أن يتمم لنا تحقيق الباقى إن شاء الله. والرسائل التى قمنا بتحقيقها مجموعها حوالى أربع عشرة رسالة، مختلفة الموضوعات، سهلة التناول، جيدة الصياغة، اللهم إلا بعض الإسقاطات والتصحيفات التى سننوّه عليها فى مواضعها، وهذه الرسائل بالترتيب هى: - 1- التنازع والتخاصم بين بنى أميّة وبنى هاشم، وهو يتناول النزاع القبلى بين القبيلتين، وكيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد ملّك بنى أمية على مكة والمدينة وحضر موت وجعل لهم السيطرة والغلبة ويسرد- فى أسلوب شائق- ما فعله أبو العباس السفاح مؤسس دولة بنى العباس من انتهاكاته للحرمات وسطوته وجبروته. 2- أما الرسالة الثانية فهى تجريد التوحيد، وفيها يتناول الفروق بين الشرك والتوحيد، ويأتى بأنواع الشرك مثل: الشرك فى الألفاظ، والسجود لغير الله، وشرك القدرّية، والشرك فى الربوبية، ويسوق أقوال كل من القدرية والجبرية فى الحكمة والتعليل. 3- والثالثة: البيان والإعراب عمّن فى أرض مصر من قبائل الأعراب، يتعرض فى هذه الرسالة عن البطون والأفخاذ والعشائر والقبائل والفصائل، ويسرد لأسماء بعض القبائل العربية التى ما زالت لهم ضياع وأموال حتى الآن فى شتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 محافظات مصر من شمالها إلى جنوبها، ويحكى بطريقة تاريخية رائعة عن كيفية قدومهم من الجزيرة العربية إلى الوطن العربى عامة ومصر خاصة. 4- والرابعة: هى النقود القديمة الإسلامية، وقد سبق المقريزى فى تناول هذا الموضوع العلّامة البلاذرى برسالة أسماها: «النقود» ، ويتعرض المقريزى للنقود القديمة التى كانت تستعمل فى صدر الإسلام وأيام الخلافة الإسلامية والعباسية. ويفرقّ بين الدرهم البغلى والدرهم الجواز، وبين معانى كل من كلمة النصّ والأوقية والرطل والدانق والقيراط، ويحكى أن كل خليفة من الخلفاء كان يضرب نوعا من النقود مثل سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه، عندما ضرب درهما نقش عليه: «الله اكبر» . ونقش معاوية دنانير، نقش عليها تمثالا متقلدا سيفا. 5- الخامسة: رسالة فى فضل آل البيت على من عداهم رضى الله عنهم أجمعين، وساق أدلته جميعا من كتاب الله وأحاديث رسول الله، كما أنه عقد مقارنة بين نصوص القرآن الكريم وتفسيرها فى أكثر من مرجع كالقرطبى وابن عطية. 6- السادسة: رسالة المقاصد السنّية فى معرفة الأجسام المعدنية، وههنا يبدو لنا المقريزى كعالم كيميائى بحت، فهو يشرح الأجسام المتولدة ويقسمها بين نامية وغير نامية. كما أنه شرح أقسام المعادن التى تتولد من الأبخرة والأدخنة المحبوسة فى الأرض. وفى آخر فصل يتحدث عن الفلزات كالزئبق والكبريت والفضة والنحاس وطريقة تكوين كل معدن منهم فى الأرض. 7- السابعة: رسالة عن الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام. فى هذه الرسالة إشارات لطيفة عن ألفاظ البطريق، وهى رتبة من الرتب الكهنوتية لدى النصارى، ولفظ الحطى وهى بلغة الأحباش تعنى: السلطان. ويتعرض لبعض الفرق كاليعقوبية، والملكانية. 8- الثامنة: رسالة قصيرة عن حرص النفوس على بقاء الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 9- التاسعة: عن حسن الخاتمة. 10- العاشرة: رسالة عن حل لغز الماء. 11- الحادية عشرة: نحل عبر النحل، وهى رسالة ممتازة وجديرة بالدراسة وقد نما إلى علمى مؤخرا أن أحد المحققين قام بتحقيقها بمفردها. وهذه الرسالة يشرح فيها المقريزى النحلة طبيا، وأوصافها، وأسماءها، وأنواع العسل، وفوائده الطبية، وباختصار كل ما يهم القائمين على تشريح النحل ومنتجاته. والله أسأل أن يجعله فى ميزان حسناتنا إنه نعم الوكيل. وأشكر شكرا خاصا للأستاذ الحاج/ عاطف محمود مصطفى، مدير دار الحديث على تبنيه هذا العمل وإخراجه إلى النور، بارك الله لنا فيه، آمين. المحققان رمضان محمد على البدرى واحمد مصطفى أحمد قاسم الطهطاوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 التنازع والتخاصم فيما بين بنى أمية وبنى هاشم (1) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المعطى ما شاء لمن شاء، لا مانع لعطائه ولا راد لمراده وقضائه، أحمده بما هو أهله من المحامد، وأشكره على فضله المتزايد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معاند، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ونبيّه وخليله، اللهم صلّ عليه وعلى آله وأصحابه ومحبيه وأهل طاعته وسلم وشرّف وكرّم. أما بعد، فإنى كثيرا ما كنت أتعجب من تطاول بنى أمية «1» إلى الخلافة مع بعدهم من جذم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقرب بنى هاشم وأقول: كيف حدّثتهم أنفسهم بذلك، وأين بنو أمية وبنو مروان بن الحكم من يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولعينه «2» من هذا الحديث مع تحكم العداوة من بنى أمية وبنى هاشم فى أيام جاهليتها، ثم شدة عداوة بنى أمية لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ومبالغتهم فى أذاه وتماديهم على تكذيبه فيما جاء به منذ بعثه الله عز وجل بالهدى ودين الحق إلى أن فتح مكة، شرّفها الله تعالى، فدخل من دخل منهم فى الإسلام كما هو معروف مشهور. وأردد قول القائل: وكم من بعيد الدار نال مراده ... وآخر دانى الدّار وهو بعيد فلعمرى لا بعد أبعد مما كان بين بنى أمية وبين هذا الأمر؛ إذ ليس لبنى أمية سبب إلى الخلافة ولا بينهم وبينها نسب إلا أن يقولوا: إنا من قريش فيساوون فى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 هذا الاسم قريش الظواهر، لأن قوله صلى الله عليه وسلّم: «الأئمة من قريش» «1» واقع على كل قرشى، ومع ذلك فأسباب الخلافة معروفة وما يدّعيه كل جيل معلوم، وإلى كل ذلك قد ذهبت الناس، فمنهم من ادعاها لعلى بن أبى طالب، رضى الله عنه، باجتماع القرابة والسابقة والوصية بزعمهم، فإن كان الأمر ذلك، فليس لبنى أمية فى شىء من ذلك دعوى عند أحد من أهل القبلة، وإن كانت إنما تنال الخلافة بالوراثة، وتستحق بالقرابة، وتستوجب بحق العصبة، فليس لبنى أمية فى ذلك متعلق عند أحد من المسلمين. وإن كانت لا تنال إلا بالسابقة فليس لهم فى السابقة قديم عهد مذكور ولا يوم مشهور، بل لو كانوا إذ لم تكن لهم سابقة، ولم يكن فيهم ما يستحقون به الخلافة، ولم يكن فيهم ما يمنعهم منها أشد المنع كان أهون وكان الأمر عليهم أيسر. فقد عرفنا كيف كان أبو سفيان «2» فى عداوته للنبى صلى الله عليه وسلّم وفى محاربته وفى إجلابه عليه وغزوه إيّاه، وعرفنا إسلامه كيف أسلم، وخلاصه كيف خلص، على أنه إنما أسلم على يدى العباس «3» رضى الله عنه، والعباس هو الذى منع الناس من قتله «4» وجاءه ............... ............... ....... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 رديفا «1» إلى النبى صلى الله عليه وسلّم، وسأل أن يشرّفه وأن يكرمه وبنيه به، وتلك يد بيضاء، ونعمة غراء، ومقام مشهور، وخير نمير منكور، فكان جزاء ذلك من بنيه أن حاربوا عليا «2» وسمّوا الحسن «3» ............... ................ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 وقتلوا الحسين «1» وحملوا النساء «2» على الأقتاب «3» وكشفوا عن عورة على بن الحسين حين أشكل عليهم بلوغه كما يصنع بذرارى «4» المشركين إذا دخلت ديارهم عنوة، وبعث معاوية بن أبى سفيان إلى اليمن بشر بن أرطاة فقتل ابنى عبيد الله ابن عباس وهما غلامان لم يبلغا الحلم، فقالت أمهما عائشة بنت عبد الله بن عبد الدار بن الدبان ترثيهما: يا من أحسّ ببنىّ اللذين هما ... كالدرّتين تشفى عنهما الصدف انجى على ودجى طفلى مرهقة ... مطرورة وعظيم الإثم يعترف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وقتلوا لصلب على بن أبى طالب رضى الله عنه تسعة، ولصلب عقيل بن أبى طالب رضى الله عنه تسعة، ولذلك قالت نائحتهم: عين جودى بعبرة وعويل ... واندبى إن ندبت آل الرسول تسعة منهم لصلب على ... قد أصيبوا وتسعة لعقيل هذا وهم يزعمون أن عقيلا «1» أعان معاوية على علىّ، فإن كانوا كاذبين فما أولاهم بالكذب، وإن كانوا صادقين فما حاذوه خيرا قد ضربوا عنق مسلم بن عقيل «2» صبرا وقتلوا معه هانئ «3» بن عروة؛ لأنه آواه ونصره، قال الشاعر: فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظرى ... إلى هانئ في السوق وابن عقيل ترى بطلا قد هشّم السيف رأسه ... وآخر يرمى من طمار قتيل «4» وأكلت هند «5» كبد حمزة «6» ، فمنهم ............... ............... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 آكلة الأكباد «1» ، ومنهم كهف النفاق «2» ، ونقروا «3» بين نحيتى الحسين رضى الله عنه ونبشوا زيدا «4» ............... ............... ......... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وصلبوه «1» وألقوا رأسه في عرضة الدار تطؤه الأقدام وتنقر دماغه الدجاج حتى قال الفرس: اطرد الديك عن ذؤابة «2» زيد ... طال ما كان لاقطه الدجاج وقال شاعر بنى أمية: صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة ... ولم تر مهديا على الجذع يصلب وقتلوا على بن عبد الله بن العباس «3» بالسياط مرتين على أن يزّوج ابنة عمه الجعفرية التى كانت عند عبد الملك بن مروان «4» ، وعلى أن يحلّوه قتل سليط، وسمّوا أبا هاشم بن محمد بن على، وضرب سليمان بن حبيب بن المهلب أبا جعفر المنصور «5» بالسياط قبل الخلافة. وقتل مروان الحمار «6» ............... ............... ........ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 الإمام إبراهيم «1» بن محمد بن على، أدخل رأسه في جراب نورة «2» حتى مات، وقتلوا يوم الحرة «3» عون بن عبد الله بن جعفر، وقتلوا يوم الطف مع الحسين أبا بكر بن عبد الله بن جعفر، وقتلوا يوم الحرّة الفضل بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، والعباس بن عتبة بن أبى لهب، وعبد الرحمن بن العباس ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. ومع ذلك فإن عبد الملك بن مروان أبو الخلف من بنى مروان أغرق الناس في الكفر «4» لأن جده لأبيه ............... ............... .......... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 الحكم بن أبي العاص «1» لعين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وطريده، وجده لأمه معاوية «2» بن المغيرة بن أبي العاص، طرده رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قتله على «3» وعمار صبرا، ولا يكون أمير المؤمنين إلا أولاهم بالإيمان وأقدمهم فيه. هذا وبنو أمية قد هدموا الكعبة «4» وجعلوا الرسول دون الخليفة «5» وختموا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أعناق أصحابه «1» وغيّر أوقات الصلاة، ونقشوا أكّف المسلمين، ومنهم من أكل وشرب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونهبت الحرم ووطئت المسلمات في دار «2» الإسلام بالبقيع في أيامه، وكان أبو جعفر المنصور إذا ذكر ملوك بنى أمية قال: كان عبد الملك جبّارا لا يبالى ما صنع، وكان الوليد «3» مجنونا، وكان سليمان «4» همه بطنه وفرجه، وكان عمر «5» عور بين عميان، فإن قيل: عدل، قيل: إن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عدله أن لا يقبلها ممن لم يكن لها أهلا ويتولاها بغير استحقاق «1» وكان رجلهم هشام «2» . وقد صدق أبو جعفر وكان يقال لهشام: الأحول السرّاق؛ لأنه ما زال يدخل عطاء الجند شهرا في شهر حتى أخذ لنفسه مقدار أرزاق سنة، فلذلك قالوا الأحول السراق، وقال خاله إبراهيم بن هشام المخزومى: ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتين فإن الحادى «3» حدا به مرة فقال: إن عليك أيها البختى «4» ... أكرم من تمشى به المطى فقال: صدق قولك، وقال مرة وأيدّه لأشكون سليمان بن عبد الملك يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وهذا ضعف شديد وجهل عظيم، وكان هشام يقول: والله إنى لأستحيى من الله أن أعطى رجلا أكثر من أربعة آلاف درهم. وقدم هشام ابنه سعيد على حمص فرمى بالنسب، فكتب أبو الجعد الطائى إلى هشام مع يحيى وأعطاه فرسا على أن يبلغ الكتاب وفيه: أبلغ لديك أمير المؤمنين فقد ... أمددتنا بأمير ليس عتيدا طورا يخالف عمرا في خليلته ... وعند رابحة يبغى الأمر والدينا فعزله وقال: يابن الخبيثة تزنى وأنت ابن أمير المؤمنين، أعجزت أن تفجر فجور قريش قبل هذا، وأظنه قال: لا يلى لى عملا أبدا. وحسبك من عبد الملك بن مروان قيامه على منبر الخلافة وهو يقول: «ما أنا بالخليفة المستضعف ولا بالخليفة المداهن «5» ولا بالخليفة المأفون «6» » «7» ، وهؤلاء هم سلقته وأئمته وبشفعتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 قام ذلك المقام، وبتأسيسهم وتقديمهم نال تلك الرئاسة، ولولا العادة المتقدمة والأجناد المجندة، والصفائح «1» القائمة لكان أبعد خلق الله من ذلك المقام، فالمستضعف عنده، عثمان بن عفان رضى الله عنه، والمداهن عنده معاوية رضى الله عنه، والمأفون عنده يزيد بن معاوية، والضعيف لا يكون خليفة؛ لأنه الذى ينال القوى منه عند انتشار الأمر عليه، والمداهن لا يكون إماما ولا يوثق منه بعقد ولا بوفاء عهد، ولا بضمير صحيح ولا بعيب كريم، والمأفون لا يكون إماما وهذا الكلام «2» نقض لسلطانه، وعداوة لأهله، وإفساد لقلوب شيعته، وقرة عين عدّوه، وعجز في رأيه، فإنه لم يقدر على إظهار قوته إلا بأن يظهر عجز أئمته، وقد كانت المنافرة لا تزال بين بنى هاشم وبنى عبد شمس، بحيث إنه يقال: إن هاشما وعبد شمس ولدا توأمين، خرج عبد شمس في الولادة قبل هاشم وقد لصقت إصبع أحدهما بجبهة الآخر، فلما نزعت دمى المكان، فقيل: سيكون بينهما وولديهما دم فكان كذلك. وقيل: إن عبد شمس وهاشما كانا يوم ولدا ... «3» وكانت جباههما ملصقة بعضها ببعض فأخذ السيف ففرّق بين جباههما بالسيف، فقال بعض العرب: ألا فرّق ذلك بالدرهم، فإنه لا يزال السيف بينهم في أولادهم إلى الأبد فكانت المنافرة بين هاشم بن عبد مناف وأخيه، وإن هاشما كانت إليه الرفادة «4» التى سنّها جده قصى «5» بن كلاب بن مرة مع السقاية «6» ؛ وذلك أن أخاه عبد شمس كان يسافر وقلّ ما يقيم بمكة، وكان رجلا مقلا وله ولد كثير، فاصطلحت قريش على أن ولىّ هاشم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 السقاية والرفادة، وكان هاشم رجلا موسرا فكان إذا حضر موسم الحج قام في قريش فقال: «يا معشر قريش إنكم جيران الله وأهل بيته وإنكم يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته وهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، وقد خصكم الله بذلك وأكرمكم حفظه منكم أفضل ما حفظ جار من جاره، فأكرموا ضيفه وزواره فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد على ضوامر «1» كالقداح وقد أزحفوا وتقلوا وقملوا وأرسلوا فأقرّوهم وأغنوهم وأعينوهم» «2» . فكانت قريش ترافل «3» على ذلك حتى أن كان أهل البيت ليرسلون بالشىء اليسير على قدرهم فيضمه هاشم إلى ما أخرج من ماله وما جمع مما يأتيه به الناس فأعجز كمله، وكان هاشم يخرج في كل سنة مالا كثيرا، وكان قوم من قريش يترافدون، فكانوا أهل يسار، فكان كل إنسان منهم ربما أرسل بمائة مثقال هرقلية «4» ، فكان هاشم يأمر بخياض من أدم «5» فتجعل في موضع زمزم من قبل أن تحفر «6» زمزم ثم يسقى فيها من البيار التى بمكة فيشرب الحاج، وكان يطعمهم أول ما يطعمهم قبل التروية «7» بيوم بمكة ويطعمهم بمنى وبعرفة (وكان) «8» يثرد «9» لهم الخبز واللحم، والخبز والسمن، والسويق «10» والتمر، ويحمل إليهم الماء حتى تنفرق الناس لبلادهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وكان هاشم يسمى عمرا، وإنما قيل له هاشم لهشمه الثريد «1» ، وهو أول من أطعم الثريد بمكة، وكان أمية بن عبد شمس ذا مال فتكلف أن يفعل كما فعل هاشم من إطعام قريش، فعجز عن ذلك فشمت به ناس من قريش وعابوه لتقصيره، فغضب ونافر «2» هاشما على خمسين ناقة سود الحدق وتنحر بمكة وعلى جلاء عشر سنين وجعلا بينهما الكاهن الخزاعى عبد عمرو بن الحمق وكان منزله عسفان، وخرج من أمية أبو هممة حبيب بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك الفهرى فقال: الكاهن والقمر الباهر والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر من منجد وغابر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر أول منه وآخر وأبو هممة بذلك خابر، فأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر وخرج أمية إلى الشام فأقام به عشر سنين، فكان هذا أول عداوة وقعت في بنى هاشم وبنى أمية، ولم يكن أمية في نفسه هناك وإنما رفعه أبوه وبنوه وكان مصفوفا، وكان صاحب عمار، يدل على ذلك قول ثقيل بن عبد العزّى جد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين تنافر إليه حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم، فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدامه عليه وقال: أبوك معاهر وأبو غف ... وذاد الفيل عن بلد حرام وذلك أن أمية كان يعرض لامرأة من بنى زهرة فضربه رجل منهم ضربة بالسيف، وأراد بنو أميّة ومن تابعهم إخراج زهرة من مكة، فقام دونهم قيس بن عدى السهمى، وكانوا أخواله، وكان منيع الجانب شديد العارض «3» ، حمّى الأنف، أبى النفس فقام دونهم وصاح: أصبح ليل، فذهبت مثلا، ونادى: ألا أن الظاعن «4» مقيم، ففى هذه القصة يقول وهب بن عبد مناف بن زهرة: مهلا أمية إن البغى مملكة ... لا يكسبنك يوما سدّه ذكره يتدركوا إليه والشمس طالعة ... يصب في الكأس منه .... «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وصنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب، زوّج ابنه عمرو بن أمية امرأته في حياة منه .... «1» فى الإسلام هم الذين أولدوا نساء آبائهم واستنكحوهن من بعد موتهن، وأما أن تزوجها في حياته وبنى عليها وهو يراه، فإن هذا لم يكن قط، وأمية قد جاوز هذا المعنى ولم يرض بهذا المقدار حتى نزل عنها وزوجها منه، وأبو معيط بن أبى عمرو بن أمية قد زاد في المقت درجتين، ثم نافر حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم، فما زال أمية يغزى حتى قتل وأخذ ماله فى خبر طويل، وتمادت العداوة بين البيتين حتى قام سيد بنى هاشم أبو القاسم محمد صلى الله عليه وسلّم ابن عبد المطلب بن هاشم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة يدعو قريشا إلى توحيد الله جلت قدرته، وترك ما كانت تعبد من دون الله، فانتدب لعداوته صلى الله عليه وسلّم جماعة من بنى أمية منهم: أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية حتى هلك على كفره بالله فى أول سنة من الهجرة أو في سنة اثنتين وهو يحاد الله ورسوله، ومنهم: عقبة ابن أبى معيط «2» أبان بن عمرو بن أمية وكان أشد الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأدى إلى أن قاتل يوم بدر فأتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد أرشر فأمر بضرب عنقه، فجعل يقول: يا ويلتى علام أقتل من بين هؤلاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لعداوتك لله ولرسوله» ، فقال: يا محمد، منك أفضل، فاجعلنى كرجل من هؤلاء من قومى وقومك يا محمد، من للصبية، قال: «النار» «3» وضرب عنقه. وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر به فصلب فكان أول مصلوب «4» فى الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وقال عطاء بن الشعبى: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لعقبة بن أبى معيط يوم بدر: «والله لأقتلنك» ، فقيل: أقتلته من بين قريش؟ قال: «نعم إنه وطئ على عنقى وأنا ساجد «1» فما رفعت حتى ظننت أن عينى قد سقطتا. وجاء يوما وأنا ساجد بسلا «2» شاة فألقاه على رأسى «3» فأنا قاتله» «4» ومنهم: الحكم بن العاص بن أمية، وكان عارا في الإسلام، وكان مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بمكة يشتمه ويسمعه ما يكره، فلما كان فتح مكة أظهر الإسلام خوفا من القتل فلم يحسن إسلامه، وكان مغموصا «5» عليه في دينه، ثم قدم المدينة فنزل على عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية رضى الله عنه وكان يطالع الأعراب والكفار بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمشى ذات يوم مشى الحكم خلفه فجعل يختلج «6» بأنفه وفمه كأنه يحاكى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويتفكك ويتحايل، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرآه، فقال له: «كن كذلك» «7» . فما زال بقية عمره على ذلك، واطلع يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في حجرة بعض نسائه فخرج إليه بعثرة، فقال: من هذا؟ لو أدركته لفقأت عينه «8» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وقال زهير بن محمد عن صالح بن أبي صالح قال: حدثنى نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كنا مع النبى صلى الله عليه وسلّم فمرّ الحكم بن أبي العاص، فقال النبى صلى الله عليه وسلّم: «ويل لأمتى مما في صلب هذا» «1» ، ثم إن النبى صلى الله عليه وسلّم: «لعنه وما ولد» «2» وغرّبه عن المدينة «3» ، فلم يزل خارجا عنها بقية حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وخلافة أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، فلما استخلف عثمان رضوان الله عنه، ردّه إلى المدينة وولده، فكان ذلك مما أنكره الناس على عثمان، وكان أعظم الناس شؤما على عثمان وأنهم جعلوا إدخاله المدينة بعد إطراد النبى صلى الله عليه وسلّم إياه وبعد امتناع أبي بكر «4» وعمر رضى الله عنهما من ذلك أكبر الحجج «5» على عثمان رضى الله عنه، ومات في خلافته فضرب على قبره فسطاط «6» ، وقد قالت عائشة رضى الله عنها لمروان بن الحكم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعن أباك وأنت في صلبه «1» . وقال عبد الرحمن بن حسّان بن ثابت لمروان بن الحكم: إن اللعين أباك فارم عظامه ... إن ترم ترم مخلجا مجنونا يضحى خميص «2» البطن من عمل التقى ... ويظل من عمل الخبيث بطينا وكان الحكم هذا يقال له: طريد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولعينه، وهو والد مروان «3» ابن الحكم الذى صارت إليه الخلافة بالغلبة وتوارثها بنوه من بعده، وكان رجلا لا فقه له، ولا يعرف بالزهد ولا برواية الآثار «4» ولا بصحبته، ولا بعد علمه، وإنما ولى رستاقا «5» من رساتيق درا بجرد «6» لابن عبد مر، ثم ولى البحرين لمعاوية، وقد كان أصحابه ومن تابعه ليبايع ابن الزبير حتى عبيد الله بن زياد، وقال يوم مرج راهط والروس تنبذ عن كواهلها (شعرا) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وما لهم غير حبس النفوس ... أى غلامى قريش غلب وهذا كلام من لا يستحق أن يلى ربعا من الأرباع أو خمسا من الأخماس، فكان مروان أول من شق عصا الإسلام بغير تأويل، وقال لخالد بن يزيد بن معاوية وأم خالد عنده: «اسكت يا ابن الرطبة «1» » ، فكان حنقه في هذه الكلمة وكتب عبد الملك بن مروان إلى محمد بن الحنفية «2» ، فلما نظر إلى عنوان الصحيفة استرجع وقال: انطلقا والعنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على سائر الناس، والذى نفسى بيده إنها لأمور لا يقر قرارها. ومنهم: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن أمية أحد من عادى الله ورسوله إلى أن قتل ببدر كافرا «3» ، قتله حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه، وعتبة هذا هو أبو هند بنت عتبة التى لاكت كبد «4» حمزة رضى الله عنه واتخذت مما قطعت منه مسكين «5» ومعضدين «6» وخدمتين «7» «8» ، وأعطت وحشيا قاتل حمزه حليا كان عليها من ورق «9» وجدع وخواتيم ورق كانت في أصابع رجليها، كل ذلك شماتة بحمزة رضى الله عنه من أجل أنه قتل أباها عتبة رأس الكفر في يوم بدر، وقيل: بل قتل عبيدة بن الحارث بن المطلب وأنشدت هند (شعرا) «10» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 عينى جودى «1» بدمع سرب ... على خير خندق «2» لم ينقلب تداعى به رهطه نصرة «3» ... بنو هاشم وبنو المطلب وقيل: إن عليا لما فرغ من الوليد بن عتبة واجتمع مع عبيدة على عتبة فقتلاه «4» ، وهند هذه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة بقتلها فأسلمت، ولما حضرت مع النساء تبايع بيعة الإسلام كان مما قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولا تقتلن أولادكن فقالت: ربيناهن صغارا وقتلتهن كبارا «5» ؛ وهى أم معاوية بن أبى سفيان الذى قاتل على بن أبى طالب رضى الله عنه، وأخذ الخلافة من الحسين بن على رضى الله عنهما واستلحق زياد بن سمية مرزيته واستخلف على الأمة ابنه يزيد «6» القرود ويزيد الخمور «7» . ومنهم: الوليد بن عتبة بن ربيعة وقتل ببدر كافرا، قتله علّى رضى الله عنه، والوليد هذا هو خال معاوية. ومنهم: شيبة بن ربيعة بن عبد شمس عم هند أم معاوية، وكان يجتمع مع قريش فيما يكيد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأذى، وقتله الله يوم بدر فيمن قتل من أعدائه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ومنهم: أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية وقائد الأحزاب الذى قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد، وقتل من خيار أصحابه سبعين بين مهاجرى وأنصارى، وكتب إليه «باسمك اللهم أحلف باللات والعزّى وإساف ونائلة وهبل، لقد سرت إليك، أريد استئصالكم، فأراك قد اعتصمت بالخندق، فكرهت لقاءنا، ولك منى كيوم أحد، وبعث بالكتاب مع أبى أسامة الحيثمى فقرأه على النبى صلى الله عليه وسلّم وقال: قد أتانى كتابك، وقد نما عزك بأحمق بنى غالب وسفيههم بالله الغرور، وسيحول الله بينك وبين ما تريد ويجعل لنا العاقبة، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وإساف ونائلة وهبل يا سفيف بنى غالب، ولم يزل يحادد الله ورسوله حتى سار رسول الله صلى الله عليه وسلّم لفتح مكة، فأتى به العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد أردفه؛ وذلك أنه كان صديقه ونديمه في الجاهلية، فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يؤمنه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال له: ويلك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله فقال: بأبى أنت وأمى ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، والله لقد ظننت أنه لو كان مع الله غيره لقد أغنى عنى شيئا، فقال: يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله؟ فقال: بأبى أنت وأمى، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما هذه ففى النفس منها شىء. فقال له العباس: ويلك، اشهد بشهادة الحق قبل أن يضرب عنقك، فشهد وأسلم «1» . فهذا حديث إسلامه كما ترى واختلف فى حسن إسلامه فقيل: إنه شهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانت الأزلام «2» معه يستقسم بها، وكان كهفا للمنافقين «3» ، وأنه كان في الجاهلية زنديقا، وفي خبر عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما أنه رآه يوم اليرموك قال: فكانت الروم إذا ظهرت، قال أبو سفيان: إيه بنى الأصفر فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان (شعرا) : وبنو الأصفر ملوك الروم ... لم يبق منهم ملك مذكور فحدث به ابن الزبير وقال: قاتله الله ... يأبى الإنفاقا أولسنا خيرا له من بنى الأصفر «4» ، ............... ............... ............... .... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وذكر عبد الرزاق «1» عن ابن المبارك «2» عن مالك بن مغول «3» عن ابن أبى بجير «4» قال: لما بويع لأبى بكر الصديق رضى الله عنه، جاء أبو سفيان إلى على رضى الله عنه فقال: أغلبكم على هذا الأمر أقل بيت في قريش، أما والله لأملأنها خيما ورجالا إن شئت، فقال على رضى الله عنه، ما زلت عدوا للإسلام وأهله، فما ضر ذلك الإسلام وأهله شيئا. إنا رأينا أبا بكر لها أهلا، وذكر المدائنى «5» عن أبى زكريا العجلانى عن أبى حازم «6» عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: حج أبو بكر رضى الله عنه ومعه أبو سفيان، فرفع صوته على أبى سفيان. فقال أبو قحافة: اخفض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب. فقال أبو بكر رضى الله عنه: يا أبا سفيان، إن الله بنى بالإسلام بيوتا كانت غير مبنية. وبيت أبى سفيان مما هدم، فليت شعرى بعد هذا بأى وجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 يبنى بيت أبى سفيان بعد ما هدمه الله. وروى عن الحسن أن أبا سفيان دخل على عثمان رضى الله عنه حين صارت الخلافة إليه بعد تيم وعدى فأدارها كالكرة، وفي رواية فترقفوها ترقف الكرة، واجعل أوتادها بنى أمية فإنما هو الملك ولا أدرى ما جنّة ولا نار «1» ، فصاح به عثمان رضى الله عنه: قم عنى فعل الله بك وفعل، وأبو سفيان هذا هو أبو معاوية، ولم يزل بعد إسلامه بعد هو وابنه معاوية من المؤلّفة. ومنهم: معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية «2» وهو الذى جذع أنف حمزة رضى الله عنه ومثّل به فيمن مثّل، فلما انهزم يوم أحد دخل على عثمان بن عفان رضى الله عنه ليخبره وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أمر بطلبه فأخرج من دار عثمان وأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوهبه لعثمان رضى الله عنه، وأقسم لئن وجد بعد ثلاث بالمدينة وما حولها ليقتلن، فخيّره عثمان وسار في اليوم الرابع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ فاطلبوه واقتلوه» فأصابوه، فأخذه زيد بن حارثة وعمار ابن ياسر فقتلاه «3» ، وقيل: بل قتله على رضى الله عنه. ومعاوية هذا هو أبو عائشة أم عبد الملك بن مروان، فعبد الملك بن مروان أغرق الناس في الكفر، لأن أحد أبويه الحكم بن أبي العاص لعين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وطريده، والآخر معاوية بن المغيرة. ومنهم: حمّالة الحطب، واسمها: أم جميل بنت حرب بن أميّة، كانت تحمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أغصان العضاه «1» والشوك فتطرحها على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله الضحاك «2» عن ابن عباس «3» ، وقال مجاهد: حمّالة النميمة «4» ، تحطّب على ظهرها، وإيّاها عنى الله تعالى بقوله في سورة تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قيل: عنى أن في جيدها سلسلة من نار أى من سلاسل جهنم. والجيد: العنق. ولما نزلت سورة «5» تبت يدى أبى لهب ... إلى آخرها، قالت امرأة أبى لهب: قد هجانى محمد، والله لأهجونه، فقالت مما قلنا: وديعة أبينا وأمره عصينا «6» وأخذت فهرا «7» لتضربه به فأغشى الله عليها «8» عنه وردّها بغيظها ولم تزل على كفرها حتى هلكت، وما أحد من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم إلا وقد بذل جهده في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبالغ في أذى من اتبعه وآمن به، ونالوا منهم من ألسنتهم وأنواع العذاب حتى فروا منهم مهاجرين إلى بلاد الحبشة، ثم إلى المدينة، وأغلقت أبوابهم بمكة، فباع أبو سفيان بن حرب بعض دورهم، وقضى من ثمنها دينا عليه، وهمّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم غير مرة، وتناظروا في أمره ليخرجوه من مكة أو يقيدوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ويحبسوه حتى يهلك أو يندبوا لقتله من كل قبيلة رجلا حتى يتفرق دمه في القبائل وبالغ كل واحد منهم في ذلك بنفسه وماله وأهله وعشيرته، ونصب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم الحبائل بكل طريق سرا وجهرا ليقتلوه، فلما أذن الله له في الهجرة وخرج من مكة، ومعه صاحبه أبو بكر الصديق رضى الله عنه إلى غار ثور وجعلوا لمن جاء بهما أو قتلهما ديتهما، ويقال: يعلو المائة بعير، ونادوا بذلك في أسفل مكة وأعلاها، كل ذلك حسدا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وبغيا، ويأبى الله إلا تأييد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإعلاء كلمته حتى صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، وظهر أمر الله وهم كارهون، كما ذكرت ذلك في كتاب «إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأخوال والحفدة والمتاع» صلى الله عليه وسلّم، ولله درّ القائل (شعرا) : عبد شمس قد أضمرت كبنى ها ... شم حربا يشيب منه الوليد فابن حرب للمصطفى وابن هند ... لعلى وللحسين يزيد وما الأمر إلا كما قال القائل الأخطل (شعرا) : إن العداوة تلقاها وإن قدمت ... كالعرق يكمن أحيانا وينتشر وأقول: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أبعد بنى أمية عنه وأخرجهم من ذوى «1» قرباه؛ لما أخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى- رحمه الله- فى كتاب فرض الخمس من الجامع الصحيح فقال: حدثنا عبد الله بن يوسف، ثنا الليث، عن عقيل عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم، قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان رضى الله عنه، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقلنا: يا رسول الله، أعطيت بنى المطلب وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنما بنو عبد المطلب وبنو هاشم شىء واحد «2» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وقال الليث: حدثنى يونس وزاد: قال جبير: ولم يقسم النبى صلى الله عليه وسلّم لبنى عبد شمس ولا لبنى نوفل، قال ابن إسحاق: وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم: عاتكة بنت مرّة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. وذكره البخارى في مناقب قريش «1» وقال في غزوة خيبر «2» : حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن جبير بن مطعم أخبره قال: أتيت أنا وعثمان إلى النبى صلى الله عليه وسلّم فقلنا: أعطيت بنى المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك، فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شىء واحد. قال جبير: ولم يقسم النبى صلى الله عليه وسلّم لبنى عبد شمس وبنى نوفل شيئا. وقد خرّج أبو داود «3» - رحمه الله- هذا الحديث من طريق الزهرى عن سعيد بن المسيب قال: حدثنى جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يقسم لبنى عبد شمس ولا لبنى نوفل شيئا من الخمس كما قسّم لبنى هاشم ولبنى المطلب، قال: وكان أبو بكر رضى الله عنه يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم غير أنه لم يكن يعطى قربى رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما كان يعطيهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان عمر رضى الله عنه يعطيهم، ومن كان بعده منه. واعلم أن قوله عن أبى بكر رضى الله عنه أنه لم يكن يعطى ذوى القربى كما كان النبى صلى الله عليه وسلّم يعطيهم، إنما هو مما كان صلى الله عليه وسلّم يعود به عليهم من سهمهم. وكانت حاجة المسلمين أيام أبى بكر أشد، [لا] «4» لأنه رضى الله عنه منعهم الحق المفروض لهم الذى سماه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم لهم، فقد أعاذه الله من ذلك. وخرج أبو داود من طريق محمد بن إسحاق عن الزهرى عن سعيد بن المسيب، قال: أخبرنى جبير بن مطعم قال: فلما كان يوم خيبر وضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم سهم ذى القربى في بنى هاشم وبنى المطلب، وترك بنى نوفل «5» وبنى عبد شمس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فانطلقت أنا وعثمان رضى الله عنه حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا تنكر فضلهم للموضع الذى وضع الله به منهم، فما بال إخواننا بنى المطلب أعطيتهم وتركتنا، وقرابتنا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام وإنما نحن وهم شىء واحد وشبك بين أصابعه «1» . وخرّجه إسحاق بن راهويه عن الزهرى عن ابن المسيب عن جبير، مثل ما تقدم وفيه قال: فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خمس الخمس من القمح والتمر والنوى. وقال الحسن بن صالح عن السدّى، فى ذى القربى: هم بنو عبد المطلب وخرّج النسائى من حديث سفيان عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد عن قول الله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ «2» قال: هذا مفتاح كلام الله ولله الدنيا والآخرة «3» . قال: اختلفوا في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم: سهم الرسول وسهم ذى القربى، فقال قائل: سهم الرسول للخليفة من بعده «4» ، وقال قائل: سهم ذى القربى لقرابة الرسول «5» ، وقال قائل: سهم ذى القربى لقرابة الخليفة فاجتمع رأيهم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله فكان ذلك في خلافة أبى بكر رضى الله عنه. وقد روى من بعض طرق ابن إسحاق عن الزهرى عن ابن المسيب، أن عثمان وجبير بن مطعم رضى الله عنهما كلّما رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سهم ذى القربى فقالا: قسمته بين بنى هاشم وبنى المطلب بن عبد مناف، ونحن وبنو المطلب إليكم سوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أنا وهم لم نزل في الجاهلية شيئا واحدا وكانوا معنا في الشّعب. كذا وشبّك أصابعه «1» . وكان من حديث الشّعب على ما ذكر محمد بن إسحاق «2» وموسى بن عقبة «3» فذكر ابن إسحاق أن النبى صلى الله عليه وسلّم لما قضى على الذى بعث به وقامت بنو هاشم وبنو المطلب دونه وأبوا أن يسلموه، فهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه، إلا أنهم اتقوا أن يشتدوا ويسلموا أخاهم لمن فارقه من قومه فلما فعل ذلك بنو هاشم وبنو المطلب، وعرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد صلى الله عليه وسلّم معهم، أجمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بنى هاشم وبنى المطلب أن لا ينكحوهم ولا ينكحوا إليهم، ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد البلاء عليهم، وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا. قال ابن عقبة: واجتمعت قريش ومكرها أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم علانية، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بنى عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، واجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا، فلما عرفت قريش أن القوم منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم اجتمع المشركون مع قريش، واجتمع رأيهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلّم للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق لا يقبلون من بنى هاشم أبدا صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الأسواق فلا يتركون طعاما يقدم مكة إلا بادروهم إليه فاشتروه يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وذكر ابن إسحاق القصة في دخولهم الشعب وما بلغوا من الجهد الشديد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع، حتى كره عامة قريش ما أصابهم وأظهروا كراهتهم لصحيفتهم المظلّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قال موسى بن عقبة: فلما كان بعد ثلاث سنين تلاوم رجال من بنى عبد مناف، ومن بنى قصى ورجال سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من هاشم ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستحقوا بالحق واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من العذر والبراءة منه، وبعث الله عز وجل على صحيفتهم التى المكر فيها برسول الله صلى الله عليه وسلّم الأرضة «1» فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق فلم تترك اسما لله عز وجل إلا لحسته وبقى ما كان فيها من شرك أو ظلم أو قطيعة رحم، وأطلع الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلّم على الذى صنع بصيحيفتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم لأبى طالب، فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبنى، وانطلق يمشى بعصابة من بنى المطلب حتى أتى المسجد وهو حافل «2» من قريش، فلما رأوهم عامدين جماعتهم ليعطوهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم فأتوا بصحيفتكم التى تعاهدتم عليها فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها، لا يشكون أن الرسول مدفوع إليهم فوضوعوها بينهم وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم فإنما قطعه بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه حظرا لهلكة قومكم وعشيرتكم. فقال أبو طالب: ما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف، إن ابن أخى قد أخبرنى ولم يكذبنى أن الله عز وجل برىء من هذه الصحيفة التى في أيديكم، ومحا كل اسم له فيها، وترك فيها عدوكم وقطيعتكم إيانا، وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذى قال ابن أخى كما قال فأفيقوا، فو الله لا نسلّمه أبدا حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان ما قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتم أو استحييتم، قالوا: رضينا بالذى تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق الصدوق قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذى قال أبو طالب قالوا: والله إن كان هذا قط إلا سحر من صاحبكم، فارتكسوا «3» وعادوا أشّر مما كانوا عليه من كفرهم والشدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 على رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين، والقيام بما تعاهدوا عليه، فقال أولئك النفر من بنى عبد المطلب: إن أولى بالكذب غيرنا، فكيف ترون وإنا نعلم أن الذى اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت «1» والسحر من أمرنا، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهى في أيديكم طمس الله ما فيها من اسم له، وما كان من بقى تركه أفنحن السحرة أم أنتم، فقال النفر من بنى عبد مناف وبنى قصى ورجال من قريش، ولدتهم نساء من بنى هاشم، منهم: أبو البخترى، ومطعم بن عدى، وزهير بن أمية بن المغيرة بن زمعة بن الأسود، وهشام بن عمرو، وكانت الصحيفة عنده وفي رجال من أشرافهم ووجوههم: نحن براء مما في هذه الصحيفة. فقال أبو جهل: هذا أمر قضى بليل. قال موسى بن عقبة: ولما أفسد الله صحيفة مكرهم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورهطه فعاشوا وخالطوا الناس «2» . فانظر- رحمك الله- كيف لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم القرابة في النسب وحدها قرابة معتبرة في أحكام الله عز وجل ما لم تقترن بها القرابة الدينية، فإنه كما قد رأينا أخرج بنى أمية من ذى القربى مع كونهم بنى أبيه عبد مناف بن قصى لما كان من عداوتهم له في دين الله تعالى وتكذيبهم لما جاء به من النبوة والرسالة، وكيف جعل بنى المطلب بن عبد مناف من ذى القربى؛ لأجل مسالمتهم له في الجاهلية وتسرعهم إلى مناصرته ومؤازرته وموالاته ومعاضدته، قال الأعشى: لا تطلبن الرد من متباعد ... ولا تنامن ذى بغضة إن يقرب فإن القريب من يقرب نفسه ... لعمر أبيك لا من تنسب فإذا أقرب الوسائل المودة وأبعد النسب العقوق، وقد قال تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «3» فقاربت ولاية الإسلام بين الغرباء، وتأمل ذلك يظهر لك منه إحداهما: أن القرابة بقرابة الدين لا بقرابة الطين، والثانية: أن مجرد القرابة ليس بشىء، وقد قيل: أقرب الوسائل المودة وأبعد النسب البغضة، قال القائل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 إن القرابة لا تقرب قاطعا ... وأرى المودة أكبر الأنساب ثم إنى أقول: يا عجب، كيف يستحق خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلّم «1» على أمته شرعا من لم يجعل الله له حقا في سهم ذى القربى، أم كيف يقيم دين الله من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونابذه وكابده وبذل جهده في قتله. وليت بنو أمية الخلافة، عدلوا وأنصفوا، بل حادوا في الحكم «2» وتعسفوا واستأثروا بالفىء «3» كله، وحرموه بنى هاشم جملة، وزادوا في العتو والتعدى حتى قالوا: إنما ذو القربى قرابة الخليفة منهم، حتى قرروا عند أهل الشام أنه لا قرابة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم يرثونه إلا بنى أمية، فلما قام بالأمر أبو العباس عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله ابن عباس المنعوت بالسفاح «4» ، وقتل مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلائف بنى أمية وأزال دولتهم، دخل عليه مشيخة من أهل الشام فقالوا: والله ما علمنا أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قرابة إلا بنى أمية حتى وليتم، فقال إبراهيم بن مهاجر (شعرا) : أيها الناس اسمعوا أخيركم ... عجبا زاد على كل عجب عجبا من عبد شمس إنهم ... فتحوا للناس أبواب الكذب ورثوا أحمد فيها زعموا ... دون عباس وعبد المطلب كذبوا والله ما نعلمه ... يحرز الميراث إلا من قرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وحتى صعد الحجاج بن يوسف يوما أعواد منبره وقال على رؤوس الأشهاد: أرسولك أفضل من خليفتك، يعرض بأن عبد الملك بن مروان بن الحكم أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما سمعه جبّله بن «1» .... قال: لله علىّ أن لا أصلى خلفه أبدا، وأنا رأيت من يجاهده مجاهدة، ولقد اقتدى بعدو الله الحجاج في كفره ابن شقى الحميرى، فإنه قام مجلس هشام بن عبد الملك وقال: أمير المؤمنين خليفة الله وهو أكرم على الله من رسوله، فأنت خليفة ومحمد رسول الله، وحتى أن يوسف ابن عمر عامل هشام قال في خطبته يوم الجمعة: إن أول من فتح للناس باب الفتنة وسفك الدماء على وصاحبه الزنجى- يعنى: عمار بن ياسر رضى الله عنهما، فهكذا كما ترى وإلى الله المشتكى. وقد خرّج الحاكم من حديث سعيد عن أبى إسحاق عن عمرو ذى مرّ عن على ابن أبى طالب رضى الله عنه في قوله عز وجل: وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ «2» قال: هما الأفجران من قريش وبنى المغيرة، فأما بنو المغيرة فقد قطع الله دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين «3» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح، وسئل على رضى الله عنه عن بنى أمية وبنى هاشم فقال: هم أكثر وأنكر وأمكر، ونحن أنصح وأصبح وأسمح. وقال أبو بكر بن أبى شيبة، ثنا حشرج «4» بن نباته قال: حدثنى سعيد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 جهمان «1» ، قلت لسفينة «2» : إن بنى أمية يزعمون أن الخلافة فيهم فقال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من أشر ملوك، وأول الملوك: معاوية «3» . فصل: وما زلت طوال الأعوام الكثيرة أعمل فكرى في هذا وأشباهه على مدة يطول ذكرها، وأذاكر به من أدركت من مشيخة العلم، ومن لقيت من حملة الآثار ونقلة الأخبار، فلا أجد في عمرى سوى رجلين: إما رجل عراه ما عرانى، وساءه ما قد دهانى، فهو يحذو في المقال حذوى ويشكو من الألم شكوى، وإما رجل يرتع في ميدان تقليده ويجول في عرصات تهوره وتفنيده فلا يزيدنى على التهويل والهدر التطويل إلى أن اتضح لى والحمد لله وحده سبب أخذ بنى أمية الخلافة ومنعها بنى هشام؛ وذلك أن أعجب الأمور لا تزال أبدا تالية بصدورها، والأسافل من كل شىء تابعة لأعاليها، وكل أمر كان خافيا إذا انكشف سببه زال التعجب منه، وما بعد على من بعد سبب. أخذ بنو أمية الخلافة وتقدمهم فيها على بنى هاشم إلا من أجل الإعراض عن الاعتناء بتعرف أوائل ذلك، وقلة البحث عن غوامضه، وأن الشىء لم يوضع في موضعه، وإنما سلك فيه الكافة إلا قليلا مذهب التعصب، والواجب على العاقل بعد معرفة ما خفى عن السبب الإذعان والتسليم وترك الاعتراض. فماذا بعد الحق إلا الضلال، وذلك أنه لا خلاف بين أئمة الحديث ونقّاد الأخبار وعلماء السير والآثار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم توفى وعامله على مكة أبو عبد الرحمن عتاب بن أسيد «4» بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشى الأموى، أحد من أسلم يوم فتح مكة، وأنه لم يزل على مكة منذ فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 عام ثمان من الهجرة إلى أن توفاه «1» الله عز وجل، فأقر أبو بكر الصديق رضى الله عنه عتابا حتى ماتا في يوم واحد «2» . وكان صلى الله عليه وسلّم قد قسّم اليمن بين خمسة رجال، خالد بن سعيد «3» على صنعاء، والمهاجر بن أمية «4» على جنده، وزياد بن لبيد على حضر موت، ومعاذ بن جبل على الجند، وأبو موسى الأشعرى على زبيد ورمع وعدن، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على صنعاء اليمن كما تقدم: خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، بعثه صلى الله عليه وسلّم إليها سنة عشر من الهجرة فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وخالد على اليمن، وكان أبان بن سعيد بن العاص «5» ابن أمية على البحرين: برّها وبحرها منذ عزل العلاء بن الحضرمى «6» حليف بنى أمية، وقيل: بل مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم والعلاء على البحرين، وكان عمرو بن سعيد ابن العاص بن أمية على تيماء وخيبر وتبوك وفدك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجع خالد بن سعيد وأبان وعمرو عن عمالتهم، فقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: ما لكم رجعتم عن عمالتكم، ما أحد أحق بالعمل من عمّال رسول الله صلى الله عليه وسلّم منكم، ارجعوا إلى أعمالكم، فقالوا: نحن بنو أبى حيحة «1» لا نعمل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبدا، ثم مضوا إلى الشام وقاتلوا فقتلوا في مغازيها «2» ، ويقال: ما فتحت بالشام كورة «3» من كور الشام إلا وجد عندها رجل من بنى سعيد ابن العاص ميتا، وكان أبو سفيان بن حرب بن أمية على نجران، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو عليها، وقيل: بل كان على نجران لما توّفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم: عمرو بن حزم ابن زيد بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك ابن النجار الأنصارى «4» . وروى الواقدى «5» ، عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أنه قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأربعة من بنى أمية عمّاله: عتاب بن أسيد على مكة، وأبان بن سعيد بن العاص على البحرين، وخالد ابن سعيد على صنعاء، وأبو سفيان بن حرب على نجران «6» . قال الواقدى: أصحابنا يجمعون على أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبض وأبو سفيان حاضر، وقال ابن الكلبى «7» : كان أبو سفيان غائبا، فلما قدم قال: كيف رضيتم يا بنى عبد مناف أن يلى أمركم غيركم «8» ، وقوم يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 أبا سفيان صدقات خولان ونخلة، وولى يزيد بن أبى سفيان «1» على نجران، والله أعلم. وكان حرش سعيد بن القشب الأسدى حليف بنى أمية فمات رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو عليها، وكان المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم المخزومى أخو أم سلمة أم المؤمنين رضى الله عنها صدقات كنده والصدف، ثم ولاه أبو بكر الصديق رضى الله عنه اليمن، وكان عمرو بن العاص بن وائل بن هشام بن سعيد ابن سهم السهمى «2» حين وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم على عمان بعدما بعثه النبى صلى الله عليه وسلّم على سريّة نحو الشام إلى إخوال أبيه العاص بن وائل من بلىّ يدعوهم إلى الإسلام ويستفزهم إلى الجهاد، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجليس فيه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه فصلوا خلفه، ثم عمل عمرو بن العاص بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضى الله عنهما. وكان على الطائف عثمان بن أبي العاص «3» بن بشر بن عبد دهمان الثقفى، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو عليها. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أسس هذا الأساس وأظهر بنى أمية لجميع الناس بتوليهم أعماله «4» فيما فتح الله عليه من البلاد كيف لا يقوى ظنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ولا ينبسط رجاهم، ولا يمتد في الولاية أملهم، أم كيف لا يضعف أمل بنى هاشم، وينقبض رجاهم ويقصر أملهم، وكبيرهم العباس بن عبد المطلب وابن أخيه على بن أبى طالب رضى الله عنهما، يريد أحدهما استعلام رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مرض موته عن هذا الأمر هل هو فيهم أم في غيرهم، ويأبى الآخر ذلك كما خرّج البخارى من حديث الزهرى قال: «أخبرنى عبد الله بن كعب بن مالك الأنصارى أن عبد الله بن عباس رضى الله عنه، أخبره أن على بن أبى طالب رضى الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم في وجعه الذى توفى فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئا، فأخذ بيده العباس بن المطلب رضى الله عنه وقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا «1» ، وإنى لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوفى في وجعه هذا، إنى لأعرف وجوه بنى عبد المطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فنسأله في من هذا الأمر، إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه، فأوصى بنا، فقال على: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإنى والله لا أسألها من رسول الله صلى الله عليه وسلّم» «2» ، رواه محمد بن إسحاق عن الزهرى، إلا أنه لم يذكر ما قال في العصا، وزاد في آخره: فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم «3» ، وفي رواية: وخلا العباس بعلى رضى الله عنهما، فقال له: هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أوصى إلى غيرك بشىء؟ فقال على: اللهم لا. خرج العباس على بغله حتى أتى عسكر أسامة بن زيد، فلقى أبا بكر وعمر وغيرهما فقال: هل أوصاكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشىء؟ قالوا: لا، فرجع إلى على فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقبوض فامدد يدك أبايعك، فيقال: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويبايعك أهل بيتك، فإن مثل هذا الأمر لا يؤخر، فقال: يرحمك الله، ومن يطلب هذا الأمر غيرنا يا عم؟! وفي رواية أن العباس قال لعلى رضى الله عنهما: هلم يدك أبايعك. فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 إن لى برسول الله شغلا، ومن ذاك الذى ينازعنا في هذا الأمر؟! «1» ، ورواية البخارى أثبت «2» . وقال ابن سعد «3» : أنبأنا محمد بن عمر، حدثنى محمد بن عبد الله بن أخى الزهرى، يقول: حدثتنى فاطمة بنت الحسن، قال: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قال العباس يا على: قم حتى أبايعك ومن حضر، فإن هذا الأمر إذا كان لم يرد مثله والأمر في أيدينا، فقال علّى: وأحد يطمع فيه غيرنا؟! فقال العباس: أظن والله سيكون. فلما بويع لأبى بكر رضى الله عنه ورجعوا إلى المسجد سمع علىّ التكبير فقال: ما هذا؟ فقال العباس: ما ورد مثل هذا قط، هذا ما دعوتك إليه فأبيت. قال على: أيكون هذا؟ فقال العباس: ما ورد «4» مثل هذا قطّ «5» . وقال محمد بن عمر، قد خرج أبو بكر رضى الله عنه من عند النبى صلى الله عليه وسلّم حين توفى، وتخلّف عنده علىّ والعباس، هذه المقالة خرّجها عبد الرزاق عن معمر عن الزهرى بمعناه «6» . قال عبد الرزاق: وكان معمر يقول لنا: أيهما كان أصوب عندكم رأيا؟ فنقول: العباس، فيأبى، ثم قال: لو أن عليا سأله عنها فأعطاه أياها فمنعه الناس كانوا قد كفروا، قال عبد الرزاق: فحدثنا به ابن عيينة فقال: قال الشعبى: لو أن عليا سأله عنها كان خيرا له من ماله وولده «7» . وروى إسماعيل بن [أبى] «8» خالد «9» ............... ............... .... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 عن الشعبى «1» قال: قال العباس لعلى رضى الله عنهما حين مرض النبى صلى الله عليه وسلّم: إنى أكاد أعرف في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الموت، فانطلق بنا إليه نسأله من يستخلف منا آنذاك، وإلا أوصى بنا، فقال على للعباس كلمة فيها جفاء، فلما قبض النبى صلى الله عليه وسلّم قال العباس لعلى: ابسط يدك فلنبايعك، فقبض يده، قال الشعبى: لو أن عليا أطاع العباس كان خيرا من حمر النعم «2» ، وقد رويت مع هذا الحديث أحاديث أخر إن كانت صحيحة فلا سبيل إلى ردها، وإن كانت «3» مفتعلة فقد صارت داعية إلى هذا الأمر الذى وقع النزاع [فيه] «4» وطال الخصام عليه. منها: ما رواه ابن الكلبى عن الحكم بن هشام الثقفى قال: مات عبيد الله بن جحش عن أم حبيبة بنت أبى سفيان، وكانت معه بأرض الحبشة فخطبها النبى صلى الله عليه وسلّم إلى النجاشى فدعا القرشيين، فقال: من أولادكم بأمر هذه المرأة؟ فقال خالد بن سعيد بن العاص: أنا أولاهم بها. قال «5» : فزوج نبيكم. قال: فزوجه ومهر عنه النجاشى أربعمائة دينار. وحملت إلى النبى صلى الله عليه وسلّم ومعهما الحكم بن أبي العباس فجعل النبى صلى الله عليه وسلّم يكثر النظر إليه، فقيل: يا رسول الله إنك لتكثر النظر إلى هذا الشاب، فقال: أليس ابن المخزومية؟ قالوا: بلى! قال: إذا بلغ بنو هذا أربعين رجلا كان الأمر فيهم، وكان مروان بن الحكم إذا جرى بينه وبين معاوية بن أبى سفيان كلام قال لمعاوية: إنى والله لأبو عشيرة وأخو عشيرة وما بقى ألا عشرة حتى يكون إلا فيّ، فيقول معاوية. أخذها والله من عين صافية. فهذا الحديث كما نسمع «6» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وقد روى أبو بكر بن أبى شيبة من حديث عبد الملك بن عمير «1» قال: قال معاوية ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن ملكت يا معاوية فأحسن «2» ، وقال وكيع: ثنا الأعمش عن أبى صالح قال: كان الحادى يحدو بعثمان رضى الله عنه ويقول: إن الأمير بعده علىّ، وفي الزبير خلف. فقال كعب الأحبار: بل هو صاحب البغلة الشهباء «3» يعنى معاوية، فلقاه فقال: يا أبا إسحاق ما يقول هذا وهاهنا علىّ والزبير وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلّم، قال: أنت صاحبها «4» . وقد جاء من طرق عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: رأيت في النوم بنى الحكم أو بنى أبي العاص وآخرون على منبرى كما تتروا القردة قال: فما رؤى النبى صلى الله عليه وسلّم مستجمعا ضاحكا حتى توفى «5» . وعن سعيد بن المسيب قال: رأى النبى صلى الله عليه وسلّم بنى أمية على منابرهم فساءه ذلك، فأوحى إليه إنما هى دنيا هى دنيا اعطوها فقّرت عينه، وهى قوله: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ «6» يعنى: بلاء للناس «7» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وقد روى أن رجلا قام إلى الحسن بن على رضى الله عنهما فقال: يا مسوّد وجه المؤمنين. فقال: لا تؤنبنى، رحمك الله، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد رأى بنى أمية يخطبون على منبره رجلا رجلا فساءه ذلك فنزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» والكوثر نهر في الجنة؛ ونزلت إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ «2» يعنى تملّك بنو أمية فحسب ذلك فإذا هو لا يزيد ولا ينقص «3» . وعن أبى هريرة وأبى سعيد الخدرى رضى الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا اتخذوا دين الله دغلا «4» وعباد الله خولا «5» ومال الله دولا «6» » «7» . قال الزبير بن بكار: قال عمى مصعب عن عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة أو غير عبد الله واحد، ثنيه محمد بن الضحاك الخزامى عن أبيه أن عمرو بن عثمان بن عفان اشتكى، وكان العوّاد يدخلون عليه فيخرجون ويتخلف مروان بن الحكم عنده فيطيل، فأنكرت رملة بنت معاوية ذلك- وهي امرأة عمرو بن عثمان فخرقت كوّة واستمعت على مروان فإذا هو يقول لعمرو: ما أخذ هؤلاء الخلافة إلا باسم أبيك فما يمنعك أن تنهض بحقك، فنحن أكثر منهم رجالا، منا فلان ومنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 فلان، ومنا فلان ومنهم فلان، حتى عدّد رجالا ثم قال: ومنا فلان وهو فضل وفلان وهو فضل وفلان وهو فضل، حتى يعدد فضول رجال بنى أبي العاص على بنى حرب، فلما برأ عمرو وتجهز للحج وتجهزت رملة في جهازه، فلما تجهز وخرج عمرو إلى الحج فخرجت رملة إلى أبيها فقدمت عليه الشام، فقال لها معاوية: واسوأتاه وما للحرّة تطلق! طلقك عمرو؟ فأخبرته الخبر، وقالت: وما زال يعد رجال بنى أبي العاصى على بنى حرب حتى ابنى عثمان وخالد ابنى عمرو، فتمنيت أنهما ماتا، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم (شعرا) : أواضع رجل فوق أخرى تعدّنا ... عديد الحصى ما إن تزال تكاثر وأمكم تزخر توما لبعلها ... وأم أخيكم نزره الولد عاقر واشهد يا مروان أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: إذا بلغ ولد الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا، ودين الله دخلا، وعباد الله خولا، فكتب إليه مروان: أما بعد يا معاوية، فإنى أبو عشرة وعم عشرة والسلام «1» . وروى عن معاوية أنه قال لعبد الله بن عباس رضى الله عنهما: أنشدك الله يا ابن عباس، أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذكر هذا- يعنى: مروان بن الحكم، فقال: أبو الجبابرة الأربعة، فقال ابن عباس: اللهم نعم «2» . وقد اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلّم في ولاية الأعمال: أبو بكر الصديق رضى الله عنه فإنه لما استخلف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وارتدت العرب قطع رضى الله عنه البعوث، وعقد أحد عشر لواء «3» على أحد عشر جندا، فعقد لخالد بن الوليد «4» المخزومى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وبعثه لقتال طلحة بن خويلد الأسدى، ثم مالك بن نويرة، وعقد لعكرمة بن أبى جهل «1» المخزومى، وبعثه لقتال مسيلمة بن ثمامة بن المطرح بن ربيعة بن الحارث «2» ، وعقد للمهاجر ابن أبى أمية المخزومى وبعثه لقتال جنود الأسود بن كعب بن عوف العنسى ومعونة الأبناء على قيس «3» بن المكشوح، وعقد الخالد بن سعيد بن العاص ابن أمية وبعثه إلى مشارف الشام، وعقد لعمرو بن العاص وبعثه إلى قضاعة، وعقد لحذيفة بن محصن العلقانى- من علقان- ابن شرحبيل بن عمرو بن مالك بن يزيد بن ذى الكلاع وبعثه إلى «دبا» وهى مدينة قديمة من مدن عمان، وعقد لعرفجة بن هرثمة وبعثه إلى مهرة، وبعث شرحبيل بن حسنة «4» فى أثر عكرمة بن أبى جهل، فإذا فرغ باليمامة لحق بقضاعة، وعقد لطرفة بن حاجب «5» وبعثه إلى بنى سليم ومن معهم من هوازن، وعقد لسويد بن مقرن بن عائد المزنى «6» ، وبعثه إلى عامل تهامة اليمن، وعقد للعلاء بن الحضرمى وبعثه إلى البحرين، فلحق كل أمير بجنده حتى انقضت حروب الردة، فبعث أبو بكر رضى الله عنه خالد بن الوليد لفتح العراق وأردفه بغيلان بن غنم بن زهير بن أبى شداد بن ربيعة بن هلال ابن وهب الفهرى وأمدها بالقعقاع بن عمرو، ووجه الجنود إلى الشام، فبعث خالد ابن سعيد بن العاص وأردفه بذى الكلاع، وعكرمة بن أبى جهل، وعمرو بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 العاص، والوليد بن عتبة، وعقد ليزيد بن أبى سفيان بن حرب على جيش عظيم هو جمهور من انتدب إليه، وجهزه عوضا عن خالد بن الوليد، وعقد لأبى عبيدة ابن الجراح «1» وبعثه إلى حمص، وأمد يزيد بن أبى سفيان بأخيه معاوية بن أبى سفيان ومعه جيش، فنزل أبو عبيدة الجابية، وترك يزيد البلقاء، ونزل شرحبيل بن حسنة الأردن، وقيل: بصرى، ونزل عمرو بن العاص القربات. ولما مات أبو بكر رضى الله عنه واستخلف من بعده عمر بن الخطاب رضى الله عنه، كانت عماله على مكة: نافع بن عبد الحارث الخزاعى، وعلى الطائف: عثمان بن أبي العاص بن أمية ثم سفيان بن عبد الله الثقفى «2» ، وعلى اليمن: يعلى بن منية «3» ، وعلى عمان واليمامة: حذيفة بن محصن، وعلى البحرين: العلاء بن الحضرمى، ثم عثمان بن أبى العاص، وعلى الكوفة: سعد بن أبى وقاص رضى الله عنه، ثم المغيرة بن أبى شعبة «4» رضى الله عنه، ثم عمار ابن ياسر «5» رضى الله عنه، ثم أبو موسى الأشعرى «6» رضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الله عنه، وعلى الشام: أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه، ثم يزيد بن أبى سفيان رضى الله عنهما، وعلى الجزيرة: عياض بن غنم «1» رضى الله عنه، وعلى مصر: عمرو بن العاص رضى الله عنه. فانظر كيف لم يكن في عمال أبى بكر وعمر رضى الله عنهما أحد من بنى هاشم، فهذا وشبهه هو الذى حدّ أنياب بنى أمية وفتح أبوابهم، وأنزع كأسهم، وقتل أمراءهم، حتى لقد وقف أبو سفيان بن حرب على قبر حمزة رضى الله عنه فقال: رحمك الله أبا عمارة، لقد قاتلتنا على مرّ صار إلينا. وروى أن الأمر لما أفضى إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه أتى أبو سفيان قبر حمزة رضى الله عنه فوكزه برجله ثم قال: يا حمزة، إن الأمر الذى كنت تقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم وكنا أحق به منهم «2» . قال مؤلفه: وما هى إلا الدنيا، وإن الدين لعارض فيها والعاجلة محبوبة، وبهذا ارتفعت رؤوس وضعفت نفوس، فإن دلائل الأمور تسبق وتباشير الخير تعرف ولله في خلقه قضاء يمضيه ويأبى الله أن يتم شىء من أمر الدنيا إلا ويعتريه النقص. [ فصل: في اختصاص بني هاشم بالدعوة والنبوة والكتاب على سائرهم من بين قريش ] (فصل:) لما كانت بنو هاشم من بين قريش كلها قد اختصها الله سبحانه بهذا الأمر- أعنى: الدعوة إلى الله تعالى والنبوّة والكتاب، فحازت بذلك الشرف الباقى، وكانت أحوال الدنيا من الخلافة والملك ونحوه زائلة؛ لهذا زواها الله عنهم تنبيها على شرفهم وعلّو مقدارهم، فإن ذلك هو خيره الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم، كما قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلّم لما خيّر اختار أن يكون نبيا عبدا ولم يختر أن يكون نبيا ملكا «3» ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وسأل مثل ذلك لآله كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عمارة بن زرعة عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» «1» . وروى أبو عيسى الترمذى من حديث عبد الله بن زحر عن على بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبى أمامة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلّم قال: «عرض علّى ربى ليجعل لى بطحاء «2» مكّة ذهبا، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما، وقال ثلاثا أو نحو هذا، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك» قال الترمذى: هذا حديث حسن «3» . وخرج البخارى من حديث ابن أبى ليلى، حدثنا على رضى الله عنه أن فاطمة عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرحى مما يطحن، فبلغها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بسبى، فأتته تسأله خادما فلم توافقه، فذكرت عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا فذهبنا لنقوم، فقال: على مكانكما، حتى وجدت برد قدميه على صدرى، فقال: أدلكما على خير مما سألتما: إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا أربعا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، فإن ذلك خير لكما مما سألتمانى. وأخرجه مسلم أيضا «4» . ولأبى داود من حديث أبي الورد عن على بن أعبد قال: قال لى على- رضى الله عنه: ألا أحدثك عنى وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانت من أحب أهله إليه، قلت: بلى، قال: فإنها جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، واستقت بالقربة حتى أثر في نحرها، وكنست البيت حتى أغبرّت ثيابها، فأتى النبى صلى الله عليه وسلّم خدم، فقلت: لو أتيت أباك فسألتيه خادما، فأتته فوجدت عنده أحداثا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 فرجعت فأتاها من الغد فقال: ما كان حالك، فسكتت، فقلت: أنا أحدثك يا رسول الله، جرت الرحى حتى أثرت في يدها، وحملت القربة حتى أثرت في نحرها، فلما أن جاء الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادما تقيها حرّ ما هى فيه، فقال: اتقى الله يا فاطمة وأدّى فريضة ربك واعملى عمل أهلك، فإذا أخذت مضجعك فسبحى ثلاثا وثلاثين واحمدى ثلاثا وثلاثين وكبرى أربعا وثلاثين فهى خير لك من خادم، قالت: رضيت عن الله وعن رسوله «1» . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عامر بن سعد عن أبيه عن النبى صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنى لأعطى الرجل وغيره أحب إلىّ منه خشية أن يكب في النار على وجهه» «2» . وفي رواية «فو الله إنى لأعطى الرجل وأدع الرجل، والذى أدع أحب إلىّ من الذى أعطى، ولكنى أعطى أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير» «3» . ومن حديث أنس بن مالك رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلّم «إنى أعطى رجالا حديثى عهد بكفر أتألفهم» «4» ، وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن بكر بن جنادة حدثه أن أبا سالم الحبشانى حدثه عن أبى ذر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: كيف ترى جعيلا «5» قال: قلت: [مسكينا] «6» كشكلة من الناس، قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 كيف ترى فلانا، قال: قلت: سيدا من سادات الناس، قال: فجعيل خير من ملء الأرض أو ألف، ونحو ذلك من فلان قال: قلت: يا رسول الله ففلان هكذا وأنت تصنع به ما تصنع قال: «إنه رأس قومه، وأنا أتألفهم به» «1» ، قال جامعه: وهذا على بن أبى طالب رضى الله عنه، كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يربأ «2» ببنى هاشم عن ولاية الأعمال. كما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن مالك عن ابن شهاب أن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، حدّثه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث حدثه قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا، والله لو بعثنا هذين الغلامين (قال لى وللفضل بن العباس) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكلّماه فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدى الناس وأصابا مما يصيب الناس، قال: فبينما هما فى ذلك، جاء على بن أبى طالب فوقف عليهما فذكرا له ذلك فقال: لا تفعلا فو الله ما هو بفاعل، فانتحاه «3» ربيعة بن الحارث فقال: والله ما تصنع هذا إلا نفاسة «4» منك، فو الله لقد نلت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فما نفسناه عليك. قال على- رضى الله عنه: أرسلوهما، فانطلقنا واضطجع، فلما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الظهر سبقناه إلى الحجرة، فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا، قال: أخرجا ما تصرّرانه «5» ، ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 قال: فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله، أنت أبرأ الناس، وقد بلغنا النكاح فجئنا لتأمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدى إليك كما يؤدى الناس ونصيب كما يصيبون. فسكت طويلا حتى أردنا أن نكلمه، وجعلت زينب تلمع «1» إلينا من وراء الحجاب أن لا تكلماه، قال: ثم قال: إن الصدقة لا تنبغى لآل محمد، إنما هى أوساخ الناس «2» ادعوا لى محمية (وكان على الخمس) ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب فجاءه فقال لمحمية: أنكح هذا الغلام ابنتك للفضل بن العباس، فأنكحه، وقال لنوفل: أنكح هذا الغلام ابنتك لى، فأنكحنى، وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا «3» . فهذا- أعزك الله- وإن كان إنما فيه منع بنى هاشم من تناول الصدقة لأنها محرمة عليهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إنما كانت أعماله التى يستعمل عليها عماله على قسمين: إما للحرب، أو على الصدقات، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنى هاشم من العمل على الصدقة بنصيب العامل وهو الصحيح: أنهم لا يستعملون عليها تنزيها لهم ولبنى المطلب عن أوساخ الناس لكرامتهم، وقد كان غير واحد من فضلاء الصحابة رضى الله عنهم يعلمون أن البيت أرفع قدرا عند الله من أن يبتليهم بعمال الدنيا، منهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، لما خرج الحسين بن على رضى الله عنهما يريد العراق وقد كتب إليه شيعتهم بالبيعة وحثوه على مسيرة إليهم ليقوم بأمر الأمة، بدل يزيد بن معاوية، لحقه عبد الله على مسيرة ليلتين، وقال: أين تريد؟ قال: العراق. قال: لا تأتهم هذه. قال الحسين: هذه كتبهم وبيعتهم «4» ، فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 ابن عمر: إن الله- عز وجل- خيّر نبيه صلى الله عليه وسلّم بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا وإنك بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والله لا يليها أحد منكم وما صرفها الله عنكم إلا للذى هو خير لكم فارجع، فأبى الحسين، وقال: هذه كتبهم وبيعتهم فاعتنقه عبد الله بن عمر وقال: أستودعك الله من قتيل فكان كما قال ابن عمر «1» ، وكذلك قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما للحسين: والله يابن أخى ما كان الله ليجمع لكم بين النبوة والخلافة «2» ، وهذا من فقههما، وقد أشار الحسن بن على رضى الله عنهما إلى ذلك في خطبته لما ترك الخلافة التى صارت إليه بعد أبيه وتنزه عنها وترّفع عن منازعة معاوية رضى الله عنه، فلما دخل معاوية الكوفة أشار عليه عمرو بن العاص أن يأمر الحسين فيخطب الناس ظنا منه أنه يعى، فخطب معاوية ثم أشار إلى الحسن أن يخطب فقام وحمد الله، ثم قال: أيها الناس إن الله هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول وإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلّم: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ «3» . فلما قالها، قال معاوية: اجلس ونقدها على عمرو وقال هذا من رأيك «4» فصدق الحسن رضى الله عنه فيما قال. [ فصل: في بيان السر في خروج الخلافة بعد رسول الله ص عن على بن أبى طالب ع إلى أبى بكر وعمر ثم عثمان ] (فصل:) ذهب بعضهم إلى أن السر في خروج الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن على بن أبى طالب إلى أبى بكر وعمر ثم عثمان، أن عليا لما ولىّ الخلافة حينئذ- وهو أبو الحسين- لأوشك أن يقول قائل، ويتخيل متخيل، أنه ملك متوارث لا يكون إلا في آل البيت كما يزعمه الرافضة «5» ، فصان الله العقائد من هذه الشبهة كما صانها من شبهة قول القائل عن النبى صلى الله عليه وسلّم هو رجل يطلب ملك أبيه وهو معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 حسن، ولهذا السر جعل صلى الله عليه وسلّم الخلافة العامة في قريش ولم يخص بها أهل بيته ولا بنى هاشم حتى لا يتخيل أنه ملك متوارث والله أعلم. وقد ظهر لى أن ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبنى أمية الأعمال كانت إشارة منه صلى الله عليه وسلّم أن الأمر سيصير إليهم، ولى بحمد الله في هذا النحو خير سلف وأجل قدوة. منهم: سعيد بن المسيب رحمه الله، قد ثبت في الصحيحين من حديث أبى موسى الأشعرى رضى الله عنه في حديث جلوس رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بئر أريس «1» ودخول أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وجلوسهما عن يمينه وشماله معه صلى الله عليه وسلّم في القف، ودخول عثمان بن عفان رضى الله عنه وجلوسه تجاههم «2» من الشق الآخر، وإن سعيد بن المسيب قال: فتأولت ذلك قبورهم، اجتمعت هاهنا وانفرد قبر عثمان رضى الله عنه «3» . وثبت من حديث جابر بن عبد الله رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم نحر في حجته التى يقال لها: حجة الوداع ثلاثا وستين بدنة «4» «5» فكان في نحره هذا العدد من البدن إشارة إلى أن مدة حياته صلى الله عليه وسلّم ثلاث وستون سنة. وثبت من حديث أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إن أحقّ الناس علىّ في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا، ألا خلّة الإسلام، لا تبقين خوخة في المسجد إلا خوخة أبى بكر» «6» . فكان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإبقاء خوخة أبى بكر رضى الله عنه في المسجد مع منع الناس كلهم من ذلك، إشارة ودليل على خلافته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأن ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلّم تنبيه للناس إلى المسجد كما كان يصير إمام المسلمين ويخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 من بيته إلى المسجد كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخرج، ذكره أبو بطال. وقد جعل جمهور الصحابة رضى الله عنهم استخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا بكر رضى الله عنه فى الصلاة وهو مريض دليلا وإشارة إلى أنه الخليفة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقالوا: قد رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم لديننا فلا نرضاه لدنيانا؟ «1» . وثبت في الصحيح من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: كان عمر رضى الله عنه يدخلنى مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم يدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله، فقال: إنه ممن قد علمتهم، قال: فدعاهم ذات يوم ودعانى معهم، وما رأيته دعانى يومئذ إلا ليريهم منى، فقال: ما تقولون في إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً «2» ، حتى ختم السورة؟ فقال: أمرنا أن نحمد ونستغفر إذا جاء نصرنا وفتح علينا. وقال بعضهم: لا ندرى، ولم يقل بعضهم شيئا. فقال لى: يا ابن عباس، أكذا هو؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أعلمه الله له يقول: إذا جاء نصر الله والفتح، فتح مكة، فذلك علامة أجلك، نسبح بحمد ربك ونستغفره، إنه كان توابا. قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم «3» ، فهذا فهم الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين وهم القدوة وهم الأسوة ووفقنا الله لاتبّاعهم. [ فصل: في الاعتراض على أخذ بنى العباس بن المطلب بن هاشم الخلافة نيفا على خمسمائة وعشرين سنة ] (فصل:) إياك والاعتراض على ما تقدم أخذ بنى العباس بن المطلب بن هاشم الخلافة، وأقاموا خلفاء نيفا على خمسمائة وعشرين سنة، فإن الخلافة إنما صارت إليهم بعد ما ضعف أمر الدين، وتخلخلت أركانه، وتداول الناس أمر الأمة بالغلبة، ونقذها حينئذ بنو العباس بأيدى العجم أهل خراسان، ونالوها بالقوة ومناهضة الدول وتناولوا العز كيف كان في وصل أمر الأمة أهل العدالة والطهارة، ولا وليهم ذو الزهادة والعبادة، ولأساسهم أرباب الورع والأمانة، بل استحالت الخلافة كسروية وقيصرية بحيث إن إبراهيم الإمام بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس لما وجّه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أبا مسلم الخراسانى «1» بخراسان ووصّاهم أن يسمعوا له ويطيعوا، قال له: إنك رجل منا أهل البيت، احفظ وصيتى، انظر هذا الحى من اليمن فأكرمهم واسكن بين ظهورهم فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم وإنهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، اقتل من شككت فيه، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتممه فاقتله «2» ، فأين- أعزك الله- هذه الوصية من وصايا الخلفاء الراشدين لعمّالهم، وتالله لو توجه أبو مسلم إلى أرض الحرب ليغزو أهل الشرك، بالله لما جاز أن يوصى بهذا، فكيف؟ وإنما توجه إلى دار السلام وقتال أبناء المهاجرين والأنصار وغيرهم من العرب لينزع من أيديهم ما فتحه آباؤهم من أرض الشرك ليتخذ مال الله دولا وعبيده خولا، فعمل أبو مسلم بوصية الإمام حتى غلب على ممالك خراسان وتحطمت عساكره إلى العراق، فيقال: إنه قتل ستمائة ألف «3» إنسان وصار في الناس بالعسف والجبرية لمرسى سيرته، إنه لما قوى أقره وصار في عسكر، ودخل مرو في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين ومائة، واستولى عليها، أراد الغدر بنصر بن سيار «4» ، وقد أنسه وبسطه وضمن له أن يكف عنه ويقوم بشأنه عند الإمام، فبعث إليه لاهز بن قريط وسليمان بن كثير وعمران بن إسماعيل وداود بن كراز، يعلمه أن كتابا أتاه من الإمام يعده فيه ويمنّيه ويضمن له الكرامة، ويقول له: إنى أريد مشافهته وأقرأ كتاب الإمام عليه، يريد بذلك أنه إذا أتاه قبض عليه، فلما أتته الرسل تلا تلاهز قول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الله تعالى: إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ «1» فتنبه نصر على ما أراد من تحذيره فقال: أنا صائر معكم إلى الأمير أبى مسلم، ودخل بستانا له، كأنه يريد أن يلبس ثيابه ويركب دابته وهرب إلى الرى، وسأل أبو مسلم عنه فأخبره بتلاوة لاهز له الآية فقال: فاضربا عنقه، فضربت عنق لاهز. وكان سليمان بن كثير الخزاعى أحد نقباء الدعوة فقتله أبو مسلم؛ لأنه كره سيرته، وأخذ عنقود عنب، فقال: اللهم سوّد وجه أبى مسلم كما سودت هذا العنقود واسقنى دمه، وقال أيضا: حفرنا نهرا بأيدينا فجاء غيرنا فأجرى فيه الماء- يعنى: أبا مسلم. وقتل زياد بن صالح من أجل أنه بلغه عنه أنه يقول: إنما بايعنا على إقامه العدل وإحياء السنن وهذا جائر ظالم يسير بسير الجبابرة، وكان مخالفا وكان لزياد بلاء حسن في إقامة الدولة، فلم يرع له ذلك فغضب عيسى بن ماهان مولى خزاعة، لقتل زياد، ودعى لحرب أبى مسلم سرا، فاحتال عليه بأن دس على بعض ثقاته بقتله فكتب إليه: إنى رسول أمير المؤمنين- يعنى: السفاح، قد قدم على الأمير بخلع .... «2» وللأولياء قصر إلينا لتشركنا في أمرنا فقدم عليه فأخذه وأدخله جوالق وضربه بالخشب حتى قتل. وكان أفلح بن مالك بن أسماء بن خارجة القوارى بخراسان وكان صديقا لأبى مسلم يلاعبه الشطرنج ويؤانسه، وكان ذا اقتداء بخراسان، فلما ظهرت الدعوة قدم على أبى مسلم وقال (شعرا) : قل للأمير أمين الإمام ... وصيّ وصيّ وصيّ وصيّ أتيتك لا طالبا حاجة ... وما لي في أرضكم من كفي وكان أبو مسلم يبّره ويكرمه، ثم أمر بقتله. فقيل له: صديقك وأنيسك، فقال: رأيته ذا همة وأبهة فقتلته مخافة أن يحدث حدثا، وكان لا يقعد على الأرض إذا قعدت على السرير، ولقد كان على كريما وكنت له محبا فعيّر أبو جعفر المنصور أبا مسلم بقتله فيما عيّره به لما عزم على قتله، وكان أبو مسلم يخدم يونس بن مسلم فابتاعه منه بكير بن ماهان بأربعمائة درهم، وبعث به إلى إبراهيم الإمام، فلما ملك أبو مسلم مرو، قدم عليه ابن عاصم فأكرمه غاية الإكرام، ثم دسّ إليه رجلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فقال، سله عن حاله عندى ولم أكرمه، فسأله فقال: كنت قهرمانا «1» له ناصحا، فقال أبو مسلم: أبيت إلا كرما، فقال: يا ابن الخنا «2» أردت أن أقول: إنك كنت لى خادما فتقتلنى، فبالله أسلكك لو لم أقلب المعنى ما كنت فاعلا، قال: قد والله كنت قدرت موضع خشيتك، قال: أكان هذا جزائى، قال: ومن جازيناه بجزائه وضعت سيفى فلم يبق بر ولا فاجر إلا قتلته. ومثل هذا كثير وما زال يسعى جهده حتى أزال بنى أمية، وأقيم عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس الملقب بالسفاح «3» فبعث عمه عبد الله بن على «4» لقتال مروان بن محمد، فقتله وبطش في أهل الشام بطش الجبارين، وصارت من الجور سيرة لم يسرها أحد قبله؛ وذلك أنه لما عزم مروان بالزاب وغلب على بلاد الشام، وقتل أهل دمشق وهدم سورها وسار إلى فلسطين نادى وهو على نهر فطرس في بنى أمية بالأمان واجتمعوا إليه فعجلت الخراسانية إليهم بالعمد فقتلوهم، وقتل عبد الله جماعة منهم ومن أتباعهم، وأمر بنبش قبر معاوية بن أبى سفيان فما وجد منه إلا خطا، ونبش قبر يزيد بن معاوية فوجد منه سلاميات «5» رجله، ووجد من عبد الملك بعض شؤون رأسه، ولم يوجد من الوليد وسليمان بنى عبد الملك إلا رفات، ووجد هشاما صحيحا إلا شيئا من أنفه وشيئا من صدغه «6» ، فضرب عدة سياط «7» وصلب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ووجدت جمجمة مسلمة بن عبد الملك فاتخذت عرضا حتى تناثرت، ولم يعرض لعمر بن عبد العزيز وجمع ما وجد في القبور فأحرقه، وخطب عبدة بنت عبد الله ابن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، زوجه هشام بن عبد الملك بن مروان، فأبت عليه التزويج فأمر ببقر بطنها وتقتل «1» ، وجعلت حين أتى بها لبقر بطنها تنشد (شعرا) : فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا فهذه سيرة عبد الله بن على «2» وولى السفاح ابن أخيه: إبراهيم بن يحيى بن محمد بن على سنة ثلاث وثلاثين ومائة، و [أما] الموصل فدخلها في اثنى عشر ألفا، فأول ما بدأ به أن دعا أهل الموصل فقتل منهم اثنى عشر وجزءا، فنفر أهل البلد وحملوا السلاح، فنادى من دخل الجامع فهو آمن، فأتاه الناس يهرعون إليه فأقام الرجال على أبواب الجامع، وقتل الناس فيه قتلا ذريعا تجاوز فيه الحد وأسرف فى المقدار فيقال: إنه قتل أحد عشر ألف إنسان ممن له خاتم سوى من ليس في يده خاتم وهم عدد كثير جدا بحيث لم ينج من رجال الموصل مع كثرتهم إلا نحو أربعمائة رجل، صدموا الجند فأخرجوا لهم، فلما كان الليل سمع صراخ النساء اللاتى قتل رجالهن فأمر من الغد بقتلهن، فأقام رجاله ثلاثة أيام يقتلون النساء والصبيان، وكان في عسكره قائد ومعه أربعة آلاف زنجى، فأخذوا النساء قهرا، فلما فرغ إبراهيم من قتل الناس في اليوم الثالث، ركب في اليوم الرابع وبين يديه الحراب والسيوف مسلولة، فأخذت امرأة بلجام دابته، فأراد أصحابه قتلها، فكفهم عنها، فقالت له: ألست من بنى هاشم، ألست ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أما تأنف العربيات المسلمات أن ينكحن الزنوج؟ فلم يجبها وبعث معها من بلّغها مأمنها، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 جمع من الغد الزنوج للعطاء وقتلهم عن آخرهم، ثم أمر أن لا يترك في الموصل ديك إلا ذبح ولا كلب إلا عقر، فنفذ ذلك فكانت هذه فعلة لم يسمع بأقبح منها إلا ما كان من السفاح فإن زوجته أم سلمة بنت يعقوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومية قالت له: يا أمير المؤمنين لأى شىء استعرض ابن أخيك أهل الموصل بالسيف، فقال لها: وحياتك لا ما أدرى ولم يكن عنده من إنكار هذا الأمر القطب سوى هذا، ولعمرى لقد فاق فرعون في فساده، وأربى عليه في عتوه وعناده، وابن السفاح بما فعله ابن أخيه قد صار يسوء أمة محمد صلى الله عليه وسلّم من العذاب أشد وأقبح ما كان فرعون يسوء بنى إسرائيل به، فكيف بها إذا ضمت مع ما حكاه البلاذرى «1» ، قال: كان أبو العباس السفاح يسمع الغناء، فإذا قال للمغنى: أحسنت، لم ينصرف من عنده إلا بجائزة وكسوة، فقيل له: إن الخلافة جليلة، فلو حجبت عنك من يشاهدك على النبيذ فاحتجبت عنهم، وكانت صلاته قائمة لهم. فأين هذا من الهدى النبوى وسير أئمة الهدى، فما أبعده عن هداهم، ولله درّ القائل: نزلوا بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء «2» أبعد منزل وأما أبو جعفر: عبد الله محمد المنصور «3» فإنه تزيا بنى الأكاسرة، وجعل أبناء فارس رجالا دولتهم كبنى يرمك، وبنى نوبخت «4» وأحدث تقبيل الأرض، وتحجب عن الرعية وترفع عليهم بحيث إن عقال بن شيبة قال له: احمد الله، فقد حزت هدى الخلفاء. فغضب المنصور، وقال: كبرت يا عقال وكبر كلامك. ففطن وقال: أجل، لقد أحزن سهلى واضطرب نقلى، وأنكرت أهلى، ولا أقوم هذا المقام بعد يومى. فلم يعش المنصور بعد ذلك إلا شهرين وأياما، وحتى أن الربيع حاجبه ضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 رجلا شمّت «1» المنصور عند العطسة، فلما اشتكى ذلك إلى المنصور قال: أصاب الرجل السنة وأخطأ الأدب. فأين قول أبى جعفر من حديث النبوة الناطقة والإمامة الصادقة؟! والله ما الأدب كله إلا في السنة النبوية، فإنها هى الجامعة للأدب النبوى والأمر الإلهى، لكنه غلب على القوم الجبروت، ودخلت النفرة في أنوفهم، وظهر الخسران بينهم فسموا موائد العجم أدبا وقدموها على السنة التى هى ثمرة النبوة فزادهم ذلك جفاء وقسوة، حتى أن أبا جعفر كان بايع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن «2» على بن أبى طالب ليلة تشاور بنى هاشم فيمن يعقدون له الإمامة، وذلك حين اضطربت بنو أمية، فلما أقيم أبو العباس عبد الله بن محمد السفاح في الخلافة وعهد بها عند وفاته لأخيه أبى جعفر عبد الله بن محمد المنصور وقام من بعده بالأمر، أهمه أمر محمد بن عبد الله وأخيه إبراهيم، وألح على أبيهما عبد الله بن الحسن أن يحضرهما إليه لما حج، وكان قد شردهما خوف جوره، ثم حبس عبد الله وعدّه من بنى حسن ومعهم محمد الديباج «3» ابن عبد الله ابن عمرو بن عثمان بن عفان، وهو أخوهم لأمهم فاطمة بنت أبى عبد الله الحسين ابن على بن أبى طالب، وجعل القيود والأغلال في أرجلهم، وأركبهم محامل «4» بغير وطاء، وسار بهم كذلك من المدينة النبوية وطنهم ووطن آبائهم حتى قدموا عليه وهو بالربذة «5» ، فأمر بالديباج فانشقت عنه ثيابه وضرب خمسين ومائة سوط، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فأصاب سوط منها في وجهه، فقال: ويحك اكفف عن وجهى فإن له حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال المنصور للجلاد: الرأس الرأس فضرب على رأسه نحوا من ثلاثين سوطا، فأصاب إحدى عينيه سوط منها، فسالت على خده، ثم قتله، ومضى ببنى حسن إلى الكوفة فسجنهم «1» بقصر ابن هبيرة، وأحضر محمد بن إبراهيم بن حسن وأقامه ثم بنى عليه أسطوانة وهو حى وتركه حتى مات جوعا وعطشا، ثم قتل أكثر من معه من بنى حسن، وكان إبراهيم القمر بن الحسن بن الحسن بن على ابن أبى طالب رضى الله عنهم فيمن حمل مصفدا بالحديد من المدينة إلى الأنبار، فكان يقول لأخويه عبد الله والحسن: أعوذ بالله من مناطهر منايا ما تمنينا ذهاب سلطان بنى أمية، واستبشرنا بسلطان بنى العباس، ولم يكن قد انتهت بنا الحال إلى ما نحن عليه، وقد قتل أبو جعفر أيضا إسماعيل الديباج بن إبراهيم القمر ومحمد بن إبراهيم فدفنه حيا، وكان لأبى القاسم الرسى بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل الديباج ضيعة بالمدينة يقال لها: الرّس، فلم يسمح له أبو جعفر بالمقام بها حتى طلبه، ففرّ إلى السند وقال (شعرا) : لم يروه ما أراقا لبقى دمّنا ... فى كل أرض ولم يقصر من الطلب وليس يشفى غليلا في حشاه سوى ... أن لا يرى فوقها أبناء ليت بنى وكتب صاحب السند إلى أبى جعفر أنه في خان بالمولتين مكتوبا يقول القاسم ابن إبراهيم طباطبا العلوى: انتهيت إلى هذا الموضع بعد أن انتقلت الدم من المشى، وقد قلت شعرا: عسى منهل يصفو فترى طميه ... أطال صداها المشرب المتكدر عسى جابر العظم الكسير بلطفه ... سيرتاح للعظم الكسير فيجبر عسى صور أسا لها الجرح ... سيبعثها عدل يجىء فتظهر عسى الله لا تيأس من الله إنه ... ييأس منه ما يعز ويعسر فكتب إليه: قد فهمت كتابك وأنا وعلى وأهله كما قيل يحاول إذلال العزيز، لأنه بدأنا بظلم واستمرت مرائره واستحلف ريطة امرأة ابنه محمد المهدى ألا تفتح بيتا عرضه عليها إلا مع المهدى بعد وفاته، ففتحه مع المهدى، فإذا فيه من قتل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الطالبين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وفيهم أطفال، فأمر المهدى فحفرت لهم حفرة ودفنوا فيها. فأين هذا الجور والفساد عن عدل الشريعة المحمدية وسيرة أئمة الهدى، وأين هذه القسوة الشنيعة مع القرابة القريبة من رحمة النبوة، وتالله ما هذا من الدين في شىء، بل هو من باب قول الله سبحانه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ «1» . وكان أبو الجهم بن عطية مولى باهلة من أعظم الدعاة قدرا وأعظمهم غنى، وهو الذى أخرج أبا العباس السفاح من موضعه الذى أخفاه فيه أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال «2» وحرسه، وقام بأمره حتى بويع بالخلافة، فكان أبو العباس يعرف له ذلك، وكان أبو مسلم يثق به ويكاتبه، فلما استخلف أبو جعفر المنصور وجار فى أحكامه، قال أبو الجهم: ما على هذا بايعناه، إنما بايعناهم على العدل، فأسرها أبو جعفر في نفسه ودعاه ذات يوم فجلس عنده ثم سقاه شربة من سويق «3» لوز وقعت في جوفه هاج به وجع، فتوهم أنه قد سم، فوثب، فقال له المنصور: إلى أين يا أبا الجهم، قال: إلى حيث أرسلتنى. ومات بعد يوم أو يومين فقال (شعرا) : أحذر سويق اللوز لا تشربنه ... فشرب سويق اللوز أردى أبا الجهم وأما غدره بأبى مسلم فغير خاف على رواة الأخبار، وكان أشد ما يحقده عليه كتابه إليه: أما بعد، فإنى اتخذت أخاك إماما وكان في قرابته برسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومحله من العلم على ما كان ثم استخف بالقرآن وحرّفه طمعا في قليل من الدنيا، قد نعاه الله لأهله، ومثلت له ضلالته على صورة العدل فأمرنى أن أجرد السيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وآخذ بالظنة «1» ، ولا أقبل معذرة وأن أسقم البرىء وأبرئ السقيم، وأثر أهل الدين في دينهم، وأوطأنى في غيركم من أهل بيتكم العتوة «2» بالإفك والعدوان، ثم إن الله بحمده ونعمته استنقذنى بالتوبة وكره إلى الحومة، فإن يعرف فقد عرف ذلك منه، وإن يعاقب فبذنوبى وما الله بظلام للعبيد. فكتب إليه أبو جعفر: قد فهمت كتابك أيها المدّل على أهل بيته بطاعته ونصرته ومحاماته وجميل بلائه، فقال: فلا يريك الله في طاعتنا إلا ما تحب، فراجع أحسن نيتك وعملك ولا يدعونك ما أنكرته إلى التجنى، فإن الغيظ ربما تعدى في العول فأخبر بما لا يعلم والله ولى توفيقك وتسديدك، فأقدم رحمك [الله] «3» مبسوط اليد في أمرنا محكما فيما هويت الحكم فيه، ولا تشمت الأعداء بك وبنا إن شاء الله تعالى «4» . فقدم عليه فقتله. فانظر- أعزك الله- إلى كتاب أبى مسلم يفصح لك عن سيرة القوم، ولن تجد أخبر بهم منه، ثم انظر إلى كتاب أبى جعفر جوابا له كيف لم ينكر عليه ما رماهم به ولا كذّبه في دعواه، ذلك يحقق عندك صدقه ولا يوحشنك هذا من أخبارهم بل ضمه إلى وصية إبراهيم الإمام تجدهما خرجا من آل واحد، وكان عبد الله بن ذؤابة وهو المقفع «5» قد كتب لعبد الله بن على أمانا حين أجاب أبو جعفر إلى أمانه، فكان فيه: فإن عبد الله بن عبد الله أمير المؤمنين، لم يف بما جعل لعبد الله بن على، فقد خلع نفسه والناس في حل وسعة من نقض بيعته، فأنكر أبو جعفر ذلك وأكبره واشتد غيظه على ابن المقفع. وكتب إلى سفيان بن معاوية «6» عامله على البصرة: اكفنى ابن المقفع. ويقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 إنه شافهه بذلك عند توديعه إياه، فجاءه ابن المقفع يوما فأدخله حجرة، ثم سجر له تنورا ألقاه فيه وهو يصيح: يا أعوان الظلمة، وقيل: إنه ألقى في بئر وأطبق عليه حجر. وقيل: حماما، فلم يزل فيه حتى مات، وقيل: دقت عنقه وقطّع عضوا عضوا وألقيت أعضاؤه في النار، وهو يراها ويصيح صياحا شديدا، وقيل: فى بئر النورة في الحمام وأطبق عليه صخرة فمات «1» . وشكا بنو على بن عبد الله ما صنع سفيان بابن المقفع إلى أبى جعفر المنصور، فأمر بحمل سفيان إليه، فلما جىء به وجاء عيسى بن على وغيره ليشهدوا عليه أن ابن المقفع دخل داره فلم يخرج، وصرفت دوابه، وغلمانه يصرخون وينعونه وجاء عيسى بتاجرين يثبتون الشهادة على قتله، فقال لهم المنصور: أرأيتكم إن أخرجت ابن المقفع إليكم، ماذا تقولون؟ فانكسروا على الشهادة، وكف عيسى عن الطلب بدم ابن المقفع، وكان سديف بن ميمون مولى آل المهلب مائلا إلى أبى جعفر، فلما استخلف وصله بألف دينار، ثم اتصل بمحمد وإبراهيم ابنى عبد الله بن حسن حتى قتلا، فاختفى حتى أمنه عبد الله بن على والى المدينة، فلما قدمها أبو جعفر جد فى طلبه حتى ظفر به فجعله في جوالق، وضرب حتى كسر، ثم رمى به في بئر وبه رمق حتى مات. فهذا وأمثاله من سيرته خلاف سنن الهدى، وكان الفضل بن الربيع يمنع عائد الخليفة أن يسأل عن شىء يقتضى جوابا ويقول: اجعلوا عيادتكم دعاء، فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح الأمير بالكرامة، وإن أردت السؤال عن حاله فقل: أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة، فإن المسألة توجب الجواب، وإن لم يجبك اشتد عليك وإن أجابك اشتد عليه. وكانت الخلفاء إذا عطست شمتت، فعطس هارون «2» الرشيد فشمته، فقال له الفضل: لا تعد، أتكلف أمير المؤمنين ردا وجوابا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فجروا على ذلك فيما بعد. وهذا المأمون «1» عبد الله بن هارون الرشيد قد أثر في الإسلام أقبح أثر، وهو أنه عرّب كتب الفلسفة حتى كاد بها أهل الزيغ والإلحاد للإسلام وأهله، وحمل مع ذلك الناس كافة على القول بخلق القرآن، وامتحنهم فيه أشد محنة، وأكثر من شراء الأتراك وتغالى في أثمانهم، حتى كان يشترى المملوك منهم بمائتى ألف درهم، وافتدى به أخوه أبو إسحاق المعتصم «2» ، فاشتد على الناس فى امتحانهم بالقول بخلق القرآن، وانتهك أعراضهم وبرح بالضرب الشديد أبشارهم، وأخرج العرب- قوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذين أقام الله بهم دين الإسلام- من الديوان، وأسقط عطاءهم فسقط فلم يفرض لهم بعده عطاء، وأقام بدلهم من الترك «3» ، وخلع لباس العرب وزيهم ولبس التاج وتزيا بزى العجم الذين بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلّم بقتلهم وقتالهم، فزالت به وعلى يديه الدولة العربية، وتحكم منذ عهده وأيام دولته الأتراك الذين أنذر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقتالهم، فغلبوا من بعده على الممالك، وسلطهم على ابنه جعفر المتوكل فقتلوه ثم قتلوا ابنه المستعين وتلاعبوا بدين الله وتغلبوا على الأطراف كلها، وفعل المتوكل جعفر بن المعتصم «4» فى خلافته من الانهماك في الترف المنهى عنه ما يقبح مثله من آحاد الرعية، وجهر بالسوء من القول في أمير المؤمنين على بن أبى طالب «5» رضى الله عنه، حتى قتله الله بيد أعوانه- وهو أنه كتب إلى الآفاق بأن لا يقبل علوى ضيعة ولا يركب فرسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ولا يسافر إلى طرف من الأطراف، وأن يمنعوا من اتخاذ العبيد إلا العبد الواحد، ومن كان بينه وبين واحد من الطالبين خصومة من سائر الناس قبل قول خصمه فيه، ولم يطالبه ببينة، وقرئ هذا الكتاب على منبر مصر، فيالله هل سمع في أخبار الجائرين أهل العناد والشقاق بمثل ما أمر به هذا الجائر!! لا جرم أن الله أخذه ولم يمهله فكانت دولته ستة أشهر. وما زالت أمور الإسلام تتلاشى والدولة تضعف إلى أن انتقل الملك والدولة فى آخر أيام المتقى إبراهيم بن جعفر المقتدر «1» ، وأول أيام خلافة المستكفى عبد الله ابن المكتفى «2» من بنى العباس إلى بنى بويه «3» الديلم، فلم يبق بيد بنى العباس من الخلافة إلا اسمها فقط من غير تصرف في ملك بحيث صار الخليفة منهم في يد الدولة البويهية ثم في الدولة السلجوقية إنما هو كان رئيس الإسلام إلا أنه لا ملك ولا حاكم تتحكم فيه الديلم، ومع الأتراك، منذ استولى معز الدولة أحمد بن بويه ببغداد في جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة تحت الحكم إلى أن قتلوا عن آخرهم وسبى حريمهم وهدمت قصورهم، وهلكت رعاياهم على يد عبد الله هولاكو وكانوا هم السبب في ذلك كما قد ذكر في سيرة الناصر أحمد بن المستضىء، وقد ثبت في الصحيح من حديث معاوية رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا أكبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» «4» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وروى وكيع عن كامل أبي العلاء عن حبيب عن أبى ثابت عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضى الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «يا معشر قريش إن هذا الأمر لا يزال فيكم حتى تحدثوا أعمالا تخرجكم منه فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شر خلقه فليحتوكم «1» كما يلتحى القضيب» وهو حديث مرسل «2» . وعبيد الله هذا هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأبو عبد الله الهذلى المدنى الأعمى أحد الفقهاء السبق، ومات سنة تسع وتسعين «3» والله أعلم بالصواب. [ فصل: اتفق في الخلافة الإسلامية كما اتفق في الملة الموسوية حذو القذاة بالقذاة ] (فصل:) وقد اتفق في الخلافة الإسلامية كما اتفق في الملة الموسوية حذو القذاة بالقذاة «4» ، وذلك أن العرب كلها ترجع إلى قحطان «5» وعدنان «6» فيقال لسائر قحطان: اليمن، ويقال لسائر بنى عدنان: المضرية والنزارية وهى قيس. والعرب كلها على ست طبقات: شعوب، وقبائل، وعمائر، وبطون، وأفخاذ، وفصائل، وما بينهما من الآباء يعرفها أهلها. قال الله جلت قدرته: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا «7» . فالشعوب جمع شعب بفتح الشين وهو أكبر من القبيلة، وقيل: الشعب هو الحى العظيم مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج سموا بذلك لتشعبهم واجتماعهم كتشعب أغصان الشجر، وقيل: الشعب القبيلة نفسها، وقد غلبت الشعوب بلفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الجمع على جيل العجم حتى قيل: المحتقر أمر العرب شعوبى. والقبائل جمع قبيلة من الناس بنو أب واحد، وهو دون الشعب، كبكر من ربيعة وتميم من مضر. وقيل: القبيلة الجماعة التى تكون من واحد، ويقال لكل جمع على شىء واحد: قبيل. قال الله تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ «1» . والشعب: القبيلة من قبائل الشجر وهى أغصانها. وقيل: من قبائل الرأس وهى أطباق الأربع، وقيل: لأن العمائر تقابلت عليها، والعمائر واحدة عمارة، وهى أصغر من القبيلة. وقيل: العمارة هى الحى العظيم الذى يقوم بنفسه، فدودان بن أسد عمارة. قال: الشعب يجمع القبائل، والعمارة تجمع البطون، والبطون واحدها: بطن، وهو دون القبيلة، وفخذ الرجل حيّه من أقرب عشيرته ورهطه الأدنون، وقيل: الفصيلة أقرب أب الرجل إليه فكأنه قبيلة، وقريش بطن، وقصّى عمارة، وهاشم فخذه، وبنو العباس فصيلة. وكما أن الله تعالى جعل العرب شعوبا وقبائل، فقد جعل بنى إسرائيل أسباطا، فالسبط من بنى إسرائيل كالقبيلة من العرب. وبنو إسرائيل ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليهم اثنا عشر سبطا، وهم: يوسف النبى، وبنيامين، وكاد، ويهوذا، ونفتالى، وزبولون، وشمعون، ورؤوبين، ويساخار، ولاوى، ودار، وياشر. وكل ولد من هؤلاء الاثنى عشر يقال له: سبط. ومنهم كلهم سائر بنى إسرائيل. فإذا عرفت ذلك فاعلم أن موسى صلوات الله عليه وسلامه هو موسى بن عمران بن فاهب بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام فهو من سبط لاوى، فلما مات لم يخلفه في بنى إسرائيل أحد من سبط لاوى الذين هم قرابته القريبة، وإنما خلفه يوشع عليه السلام، وهو من سبط أفرايم بن يوسف عليه السلام، وهو بعيد من سبط لاوى؛ وذلك أن يوشع بن نون بن اليشع بن صيهود بن لهذان بن تالح بن راشد بن بريعا بن أفرايم بن يوسف النبى بن يعقوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 عليهما السلام. وهكذا وقع في الإسلام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيد بنى هاشم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بلا خلاف في ذلك «1» . ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يخلفه في أمته أحد من بنى هاشم الذين هم أقرب العرب إليه، بل خلفه أبو بكر الصديق رضى الله عنه، وهو من بنى تميم بن مرة بن كعب، فإنه أبو بكر عبد الله بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم ابن مرة. فانظر كيف كان أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في البعد من جذم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كبعد يوشع من أصل موسى عليهما السلام، فإن أبا بكر رضى الله عنه إنما يلتقى مع رسول الله في مرة بن كعب بن لؤى بعد عدة آباء، وكذلك يوشع إنما يلتقى مع موسى في يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام بعد عدة آباء، كما أنه قام بأمر بنى إسرائيل بعد يوشع خليفة قومه جماعة مختلفو الأنساب بعضهم من سبط يهوذا، وبعضهم من سبط بنيامين، وبعضهم من سبط منشا بن يوسف عليه السلام، وبعضهم من سبط غان، وبعضهم من سبط ذان، كذلك قام في الخلافة بعد أبى بكر رضى الله عنه، جماعة مختلفة أنسابهم بعضهم من بنى عدى وهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدى بن كعب، وبعضهم من بنى العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص، وبعضهم من بنى هاشم وهو على بن أبى طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى وابنه الحسن بن على بن أبى طالب رضوان الله عليهم أجمعين، وبعضهم من بنى حرب بن أمية بن عبد شمس وهم معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنهما صخر بن حرب بن أمية وابنه يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، وبعضهم من بنى أسد بن عبد العزّى بن قصى بن كلاب وهو عبد الله بن الزبير رضى الله عنهما ابن العوام بن أسد بن عبد العزى، وبعضهم من بنى الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس وهم مروان بن الحكم وابنه عبد الملك بن مروان وبنوه. وكما أن بنى إسرائيل استقر أمرهم بعد من ذكرنا في يهود كذلك استقرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الخلافة بعد من ذكرنا في بنى العباس، وكما أن يهوذا عم موسى عليه السلام كذلك العباس بن عبد المطلب بن هاشم هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكما أن يهوذا قدّمه يعقوب على إخوته وبشره ومدحه كذلك العباس رضى الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجله ويكرمه ويثنى عليه. وكما أن أمر بنى إسرائيل افترق في دولة بنى يهوذا وصاروا بعد موت سليمان بن داود عليهما السلام فرقتين: فرقة بالقدس مع ابنه رجيعم بن سليمان عليه السلام وهو يهوذا وسبط بنيامين، وفرقة بشمرون مع بربعام ابن نياط وهم بقية الأسباط، كذلك لما صارت الخلافة في بنى العباس افترق أمراء الأمة فصار في الأنبار ثم في بغداد بنو العباس وفي الأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم وبنوه من بعده فلم تدخل الأندلس تحت طاعة بنى العباس، كما أنه تدخل شمرون تحت حكم سبط يهوذا. وكما أن مدينة القدس التى هى دار ملك يهوذا كانت تدعى أورشليم ومعناه: «دار السلام» ، كذلك بغداد دار ملك بنى العباس، كان يقال لها: دار السلام. وكما أن دولة بربعام من بعده بشمرون التى عرفت اليوم بنابلس انقرضت قبل دولة بنى يهوذا بالقدس، فإنها لم تقم غير مائتين وإحدى وستين سنة، فكذلك دولة بنى أمية بالأندلس فإنها انقرضت قبل انقراض دولة بنى العباس، فكانت مدتهم مائتين وسبع وستين سنة. وكما أن دولة بنى يهوذا بالقدس أقامت من عهد داود عليه السلام وهو أول من ملك منهم إلى أن انقرضت نحوا من خمسمائة سنة، فإنها قامت أربعمائة وعشر سنين، كذلك بنو العباس أقامت خلافتهم منذ أبي العباس عبد الله السفاح أول قائم منهم إلى أن انقرضت أيامهم خمسمائة وأربعا وعشرين سنة. وكما أن دولة بنى يهوذا انقرضت على يد بختنصر، فإنه سار إليهم من بلاد المشرق وقاتلهم وهدم مدينة القدس دار ملكهم وقتل رجالهم وسبى نساءهم، فكذلك زالت دولة بنى العباس على يد هولاكو لما قدم إلى بغداد من بلاد المشرق فقتل الرجال وسبى النساء. وكما أن أمر بنى إسرائيل لم يجمع بعد زوال دولتهم لواحد يقوم بدينهم، كذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلّم لم تجتمع بعد انقراض خلافة بنى العباس لواحد، بل صار فى كل قطر ملك. وكما عاد لبنى إسرائيل- بعد إزالة بختنصر دولتهم- ملك كانوا فيه تحت يد اليونان وغيرهم مدة عمارة بيت المقدس بعد عودهم من الجالية، كذلك أقام الأتراك ملوك مصر رجلا من بنى العباس وجعلوه خليفة وليس له أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ولا نهى ولا نفوذ كلمة. وكما أن بنى إسرائيل قوم موسى عليه السلام قطعهم الله فى الأرض، إنما كذلك قريش قوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم تفرقوا في أقطار الأرض وصاروا رعية ورعايا ليس لهم ملك ولا دولة. وكما أن أنساب بنى إسرائيل جهلت بأسرها إلا بعض بنى يهوذا، فإن نسبهم متصل بداود عليه السلام، كذلك قريش جهلت فى هذه الأيام أنساب جميع بطونها إلا ما كان من بنى حسن وحسين، فإن أنساب كثير منهم متصلة إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه. فانظر- أعزك الله- كيف تشابه أمر هذه الأمة المحمدية بأمر الأمة الموسوية، وقد أنذر بذلك رسول الله، وكان هذا من أعلام نبوته لما بينته في كتاب «إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأخوال والحفدة والمتاع صلى الله عليه وسلّم» . [ فصل: مطابقة السنن الكونية في الأمة الإسلامية لماسبقها من الشعوب والأمم من اليهو والنصارى وغيرهم ] (فصل:) ثبت في غير موضع من الصحيحين وغيرهما من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لاتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن» هذا لفظ مسلم، ولفظ البخارى «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذارع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن» هذا لفظ مسلم، ولفظ البخارى «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم ... » الحديث «1» بمثله. وفي لفظ له: لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟. قال: فمن؟. ولبقىّ بن مخلد «2» من حديث أبى سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه وسلّم قال: «لتتبعن سنن من كان من قبلكم باعا بباع وذراعا بذارع وشبرا بشبر حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم معهم. قالوا: يا رسول الله، اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 والنصارى؟ قال: فمن؟» «1» . والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. تم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 تجريد التوحيد المفيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 ( «تجريد التوحيد المفيد» ) «بسم الله الرحمن الرحيم» الحمد الله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد، فهذا كتاب جمّ الفوائد، بديع الفرائد، ينتفع به من أراد الله والدار الآخرة، سميته: كتاب تجريد التوحيد المفيد. والله أسأل العون على العمل به بمنه. اعلم أن الله سبحانه وتعالى هو رب كل شىء ومالكه وإلهه فالرب مصدر: ربّ يربّ ربا فهو رابّ «1» : فمعنى قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ* رابّ العالمين، فإن الرب سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لعباده، القائم بتربيتهم وإصلاحهم، المتكفل بصلاحهم من خلق ورزق وعافية وإصلاح دين ودنيا. والإلهية «2» كون العباد يتخذونه سبحانه محبوبا مألوها ويفردونه بالحب والخوف والرجاء والإخبات «3» والتوبة والنذر والطاعة والطلب والتوكل ونحو هذه الأشياء، فإن التوحيد حقيقة أن ترى الأمور كلها من الله تعالى تقطع الالفتات «4» إلى الأسباب والوسائط فلا ترى الخير والشر إلا منه تعالى، وهذا المقام يثمر التوكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وترك شكاية الخلق «1» وترك لومهم والرضا عن الله والتسليم لحكمه. وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الربوبية منه تعالى لعباده، والتأله من عباده له سبحانه، كما أن الرحمة هى الوصلة بينهم وبينه- عز وجل- واعلم أن أنفس الأعمال وأجلها قدرا توحيد الله تعالى، غير أن التوحيد له قشران: الأول: أن تقول بلسانك: لا إله إلا الله، ويسمى هذا القول توحيدا، وهو مناقض للتثليث الذى تعتقده النصارى، وهذا التوحيد يصدر أيضا من المنافق الذى يخالف سره جهره. والقشر الثانى: ألا يكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هذا القول، بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك والتصديق به، وهذا توحيد عامة الناس. لباب التوحيد وجوهره: ولباب التوحيد أن يرى الأمور كلها من الله تعالى ثم يقطع الالتفات عن الوسائط وأن يعبده سبحانه عبادة يقرّه بها، ولا يعبد غيره. ويخرج عن هذا التوحيد اتباع الهوى، فكل من اتبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده، قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ «2» وإذا تأملت عرفت أنّ عابد الصنم لم يعبده، إنما عبد هواه، وهو ميل نفسه إلى دين آبائه، فيتبع ذلك الميل، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعانى التى يعبّر عنها بالهوى. ويخرج عن هذا التوحيد السخط على الخلق والالتفات إليهم، فإن من يرى الكل من الله كيف يسخط على غيره أو يأمل سواه، وهذا التوحيد مقام الصديقين. ولا ريب أنّ توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقروا بأنه سبحانه وحده خالقهم، وخالق السموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله «3» ، وإنما أنكروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 توحيد الإلهية والمحبة كما قد حكى الله تعالى عنهم في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ «1» فلما سووا؟؟ غيره به في هذا التوحيد كانوا مشركين كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «2» . وقد علم الله تعالى عباده كيفية مباينة الشرك في توحيد الإلهية، وأنه تعالى [حقيق] بإفراده وليا وحكما وربا فقال تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا «3» وقال: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً «4» ، وقال: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا «5» فلا ولى ولا حكم ولا رب إلا الله الذى من عدل به غيره فقد أشرك في ألوهيته ولو وحد ربوبيته، فتوحيد الربوبية هو الذى اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الإلهية مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين؛ ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلا الله، ولو قال: لا ربّ إلا الله، لما أجزأه عند المحققين. فتوحيد الألوهية هو المطلوب من العباد؛ ولهذا كان أصل الله: الإله، كما هو قول سيبويه «6» ، وهو الصحيح وهو قول جمهور أصحابه إلا من شذ منهم «7» . وبهذا الاعتبار الذى قررنا به الإله وأنه المحبوب لاجتماع صفات الكمال فيه كان الله هو الاسم الجامع لجميع معانى الأسماء الحسنى والصفات العليا وهو الذى ينكره المشركون، ويحتجّ الربّ سبحانه وتعالى عليهم بتوحيدهم ربوبيته على توحيد ألوهيته كما قال تعالى: ِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ... «8» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وكلما ذكر تعالى في آياته جملة من الجمل قال عقبها: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ* ، فأبان سبحانه وتعالى بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات «1» توحيد الإلهية لا الربوبية على أن منهم من أشرك في ربوبيته «2» كما يأتى بعد ذلك إن شاء الله تعالى. وبالجملة فهو تعالى يحتج على منكرى الإلهية بإثباتهم الربوبية، والملك هو الآمر الناهى الذى لا يخلق خلقا بمقتضى ربوبيته ويتركهم سدى معطلين لا يؤمرون ولا ينهون ولا يثابون ولا يعاقبون فإن الملك هو الآمر الناهى المعطى المانع الضار النافع المثيب المعاقب؛ ولذلك جاءت الاستعاذة «3» فى سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة: الرب والملك والإله، فإنه لما قال: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «4» كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم، فبقى أن يقال: لما خلقهم هل كلفهم وأمرهم ونهاهم؟ قيل: نعم، فجاء مَلِكِ النَّاسِ فأثبت الخلق والأمر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ «5» ، فلما قيل ذلك قيل: فإذا كان ربا موجدا وملكا مكلّفا، فهل يحب ويرغب إليه ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر؟ قيل: إِلهِ النَّاسِ أى مألوههم ومحبوبهم الذى لا يتوجه العبد المخلوق المكلف العابد إلا له، فجاءت الإلهية خاتمة وغاية، وما قبلها كالتوطئة لها، وهاتان السورتان أعظم عوذة «6» فى القرآن، وجاءت الاستعاذة بهما وقت الحاجة إلى ذلك، وهو حين سحر النبى صلى الله عليه وسلّم، وخيّل له أنه يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الشىء وما فعله «1» ، وأقام على ذلك أربعين يوما كما في الصحيح «2» ، وكانت عقد السحر إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية فانحلت بكل آية عقدة «3» ، وتعلقت الاستعاذة في أوائل القرآن باسمه الإله، وهو المعبود وحده لاجتماع صفات الكمال فيه، ومناجاة العبد لهذا الإله الكامل ذى الأسماء الحسنى والصفات العليا المرغوب إليه في أن يعيذ عبده الذى يناجيه بكلامه من الشيطان الحائل بينه وبين مناجاة ربه، ثم استحب التعلق باسم الإله في جميع المواطن التى يقال فيها: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن اسم الله هو الغاية للأسماء؛ ولهذا كان كل اسم بعده لا يتصرف إلا به، فتقول: الله هو السلام المؤمن، فالجلالة تعرف غيرها، وغيرها لا يعرفها، والذين أشركوا به تعالى في الربوبية منهم من أثبت معه خالقا وإن لم يقولوا: إنه مكافئ له، وهم المشركون ومن ضاهاهم من القدرية «4» ، وربوبيته سبحانه للعالم الربوبية الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوالهم؛ لأنها تقتضى ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال. وحقيقة قول القدرية المجوسية أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ولا تتناولها ربوبيته، إذ كيف يتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 «أنواع الشرك الواقع في الأمم» : وشرك الأمم نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية. فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عباد الأصنام، وعباد الملائكة، وعباد الجن، وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات الذين قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى «1» ويشفعون لنا عنده وينالنا بسبب قربهم من الله [و] «2» كرامته لهم قرب وكرامة كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته. والكتب الإلهية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وترده وتقبح أهله وتنص على أنهم أعداء الله تعالى. وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أولهم إلى آخرهم، وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله. «الإشراك في المحبة» : وأصل الشرك في محبة غير الله تعالى، قال تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ «3» فأخبر سبحانه وتعالى أنه من أحب مع الله شيئا غيره كما يحبه فقد اتخذه ندا من دونه، وهذا على أصح القولين «4» فى الآية أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «5» ، والمعنى على أصح ............... ............... ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 القولين «1» أنهم يعدلون به غيره في العبادة فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة، وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ «2» ومعلوم قطعا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربهم وخالقهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرين بأن الله تعالى وحده هو ربهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها له وحده، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وأنه سبحانه هو الذى بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه، وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبة والعبادة «3» . «صرف العبادة إلى غير الله شرك أكبر» : فمن أحب غير الله تعالى وخافه ورجاه وذلّ له كما يحب الله ويخافه ويرجوه فهذا هو الشرك الذى لا يغفره الله، فكيف بمن كان غير الله آثر عنده وأحب إليه وأخوف عنده، وهو في مرضاته أشد سعيا منه في مرضاة الله، فإذا كان المسوى بين الله وبين غيره في ذلك مشركا، فما الظن بهذا؟ فعياذا بالله من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحد فهذا أحد أنواع الشرك. «كثرة الأدلة على توحيده تعالى» : والأدلة الدالة على أنه تعالى يجب أن يكون وحده هو المألوه يبطل هذا الشرك ويدحض حجج أهله، وهو أكثر من أن يحيط به إلا الله، بل كل ما خلقه الله تعالى فهو آية شاهدة بتوحيده، وكذلك كل ما أمر به فخلقه وأمره، وما فطر عليه عباده وركبه فيهم من العقول شاهد بأن الله الذى لا إله إلا هو، وأن كل شىء معبود سواه باطل، وأنه هو الحق المبين تقدس وتعالى. (شعر) وواعجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد وفي كل شىء له آية ... تدل على أنه واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 «الشرك في الربوبية» : والنوع الثانى من الشرك: الشرك به تعالى في الربوبية كشرك من جعل معه خالقا آخر، كالمجوس وغيرهم الذين يقولون بأن للعالم ربين: أحدهما خالق الخير ويقولون له بلسان الفارسية: «يزدان» ، والآخر خالق الشر ويقول له المجوس بلسانهم: «أهرمن» ، وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون بأنه لم يصدر عنه إلا واحد بسيط وأن مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس، وأن مصدر هذا العالم عن العقل الفعال فهو رب كل ما تحته ومدبره، وهذا شر من شرك عباد الأصنام والمجوس والنصارى، وهو أخبث شرك في العالم؛ إذ يتضمن من التعطيل وجحد الإلهية والربوبية واستناد الخلق إلى غيره سبحانه وتعالى ما لم يتضمنه شرك أمة من الأمم. «شرك القدرية» : وشرك القدرية مختصر من هذا، وباب يدخل منه إليه؛ ولهذا شبههم الصحابة- رضى الله عنهم- بالمجوس كما ثبت عن ابن عمر وابن عباس رضى الله عنهم. وقد روى أهل السنن فيهم ذلك مرفوعا «أنهم مجوس هذه الأمة» «1» وكثيرا ما يجتمع الشركان في العبد وينفرد أحدهما عن الآخر. والقرآن الكريم، بل الكتب المنزلة من عند الله تعالى كلها مصرحة بالرد على أهل هذا الإشراك كقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإنه ينفى شرك المحبة والإلهية. وقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فإنه ينفى شرك الخلق والربوبية، فتضمنت هذه الآية تجريد التوحيد لرب العالمين في العبادة وأنه لا يجوز إشراك غيره معه لا في الألفاظ ولا في الإرادات، فالشرك به فى الأفعال كالسجود لغيره سبحانه وتعالى، والطواف بغير بيته المحرم، وحلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الرأس عبودية وخضوعا لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذى هو يمينه تعالى في الأرض، أو تقبيل القبور واستلامها والسجود لها. «النهى عن اتخاذ القبور مساجد» : وقد لعن النبى صلى الله عليه وسلّم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد لله يصلى فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا تعبد من دون الله؟ فهذا لم يعلم معنى قول الله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «1» وفيه عنه أيضا «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم [أحياء] والذين يتخذون القبور مساجد» «2» . وفيه عنه أيضا صلى الله عليه وسلّم: «ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك» «3» . وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان عنه صلى الله عليه وسلّم: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» «4» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وقال صلى الله عليه وسلّم: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» «1» . وقال صلى الله عليه وسلّم: «إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله» «2» . أقسام الناس في زيارة القبور: والناس في هذا الباب- أعنى زيارة القبور- ثلاثة أقسام: قوم يزورون الموتى فيدعون لهم وهذه هى الزيارة الشرعية. وقوم يزورونهم يدعون بهم «3» ، وهؤلاء هم المشركون وجهلة العوام والطغام من غلاتهم. وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد» «4» . وقد حمى النبى صلى الله عليه وسلّم جانب التوحيد أعظم حماية تحقيقا لقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ حتى نهى عن الصلاة في هذين الوقتين «5» [لكونه] «6» ذريعة إلى التشبه بعبّاد الشمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين. وسد الذريعة بأن منع من الصلاة بعد العصر والصبح «7» ؛ لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين يسجد المشركون فيهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 للشمس. النهى عن السجود لغير الله: وأما السجود لغير الله، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا ينبغى لأحد أن يسجد لأحد إلا لله» «1» . ولا ينبغى في كلام الله ورسوله، إنما يستعمل للذى هو في غاية الامتناع كقوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «2» وقوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ «3» وقوله تعالى: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ «4» وقوله تعالى: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ «5» . الشرك في الألفاظ: ومن الشرك بالله تعالى المباين لقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ الشرك به في اللفظ كالحلف بغيره، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك» «6» صححه الحاكم وابن حبان. قال ابن حبان: أخبرنا الحسن وسفيان، حدثنا عبد الله بن عمر الجعفى، ثنا عبد الرحمن بن سليمان عن الحسن بن عبد الله النخعى عن سعد بن عبيدة قال: كنت عند ابن عمر- رضى الله عنهما- فحلف رجل بالكعبة فقال ابن عمر: «ويحك، لا تفعل، قال: سمعت رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 صلى الله عليه وسلّم: «من حلف بغير الله تعالى فقد أشرك» «1» . ومن الإشراك قول القائل لأحد من الناس: ما شاء الله وشئت، كما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلّم أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال صلى الله عليه وسلّم: «اجعلتنى لله ندا، قل ما شاء الله وحده» «2» . هذا مع أن الله وحده سبحانه قد أثبت للعبد مشيئة، كقوله تعالى: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ «3» فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لى إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لى في السماء وأنت لى في الأرض. فوازن بين هذه الألفاظ الصادرة من غالب الناس اليوم وبين ما نهى الله عنه من: شاء الله وشئت، ثم انظر أيها أفحش يتبين لك أن قائلها أولى [بالبعد] من إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وبالجواب من النبى صلى الله عليه وسلّم للقائل لتلك الكلمة وأنه إذا كان قد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ندا، فهذا قد جعل من لا يدانيه ندا. وبالجملة فالعبادة المذكورة في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وبالجواب من النبى صلى الله عليه وسلّم هى السجود والتوكل والإنابة والتقوى والخشية والتوبة والنذور والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس «4» خضوعا وتعبدا، والدعاء، كل ذلك محض حق لله تعالى. وفي مسند أحمد أن رجلا أتى به النبى صلى الله عليه وسلّم قد أذنب ذنبا، فلما وقف بين يديه قال: «اللهم إنى أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد. فقال صلى الله عليه وسلّم: عرف الحق لأهله» «5» وخرجه الحاكم من حديث الحسن عن الأسود بن سريع وقال: حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الشرك في الإرادة والنية: وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذى لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن نوى بعمله غير وجه الله تعالى فلم يقم بحقيقة قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، فإن إِيَّاكَ نَعْبُدُ هى الحنيفية ملة إبراهيم التى أمر الله بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها، وهى حقيقة الإسلام وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» فاستمسك بهذا الأصل، وردّ ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه تحقّق معنى الكلمة الإلهية. بطلان الوسائط والشفعاء في التقرب إلى الله: فإن قيل: المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله تعالى وأنه لعظمته لا ينبغى الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية، وإنما قصد تعظيمه وقال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وإنما أعبد هذه الوسائط لتقربنى إليه وتدخل بى عليه، فهو الغاية وهذه وسائل، فلم كان هذا القدر موجبا لسخط الله تعالى وغضبه ومخلدا في النار وموجبا لسفك دماء أصحابه «2» واستباحة حريمهم وأموالهم؟ وهل يجوز في العقل أن يشرع الله تعالى لعباده التقرب إليه بالشفعاء والوسائط فيكون تحريم هذا إنما استفيد بالشرع فقط، أم ذلك قبيح في الشرع والعقل يمنع أن تأتى به شريعة من الشرائع، وما السر في كونه لا يغفر من بين سائر الذنوب كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* «3» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أنواع الشرك: أما الشرك الأول فهو نوعان: أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون في قوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ «1» وقال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً «2» والشرك والتعطيل متلازمان، فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقرا بالخالق سبحانه وتعالى وصفاته ولكنه معطل حق التوحيد. أنواع التعطيل: وأصل الشرك وقاعدته التى يرجع إليها هو التعطيل وهو ثلاثة أقسام: أحدها: تعطيل المصنوع عن صانعه. الثانى: تعطيل الصانع عن كماله الثابت له. الثالث: تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد. ومن هذا: شرك أهل الوحدة، ومنه: شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأن الحوادث بأسرها مستندة إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها ويسمونها: العقول والنفوس. ومن شرك معطلة الأسماء والصفات كالجهمية «3» والقرامطة «4» وغلاة المعتزلة. شرك التشبيه والتمثيل وهو شرك من جعل معه إلها آخر كالنصارى في المسيح واليهود في عزير والمجوس القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة، وشرك القدرية المجوسية مختصر منه، وهؤلاء أكثر مشركى العالم، وهو طوائف جمة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 منهم من يعبد أجزاء سماوية. ومنهم من يعبد أجزاء أرضية، ومن هؤلاء من يزعم أن معبوده أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أن إلهه من جملة الآلهة. ومنهم من يزعم أنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه أقبل إليه واعتنى به، ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى الأعلى الفوقانى، والفوقانى يقربه إلى من هو فوقه حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى، فتارة تكثر الوسائط، وتارة تقل. حقيقة الشرك: فإذا عرفت هذه الطوائف وعرفت اشتداد نكير الرسول صلى الله عليه وسلّم على من أشرك به تعالى في الأفعال والأقوال والإرادات- كما تقدم ذكره- انفتح لك باب الجواب عن السؤال، فنقول: اعلم أن حقيقة الشرك تشبيه الخالق بالمخلوق في خصائص الإلهية، وهى التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى وسوى بين التراب ورب الأرباب، فأى فجور وذنب أعظم من هذا، واعلم أن من خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذى لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك بموجب أن تكون العبادة له وحده عقلا وشرعا وفطرة، فمن جعل ذلك لغيره فقد شبه الغير بمن لا شبيه له، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر من كتب على نفسه أنه لا يغفره أبدا. صرف العبادات إلى غير الله من التشبيه له بخلقه ومن خصائص الإلهية: العبودية التى لا تقوم إلا على ساق الحب والذل، فمن أعطاهما لغيره فقد شبه بالله سبحانه وتعالى في خالص حقه، وقبح هذا مستقر في العقول والفكر، ولكن لما غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق و [اجتالتهم] عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا كما روى ذلك عن الله «1» أعرف الخلق به وبخلقه، عموا عن قبح الشرك حتى ظنوه حسنا. ومن خصائص الإلهية: السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه به. ومنها: التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به. ومنها: التوبة، فمن تاب لغيره فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 شبهه به. ومنها: الحلف باسمه، فمن حلف بغيره فقد شبهه به. ومنها: الذبح له، فمن ذبح لغيره فقد شبهه به. ومنها: حلق الرأس، إلى غير ذلك. التشبه بالله: هذا في جانب التشبيه، وأما في جانب التشبه، فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه ورجائه ومخافته فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته، وهو حقيق بأن يهينه الله غاية الهوان، ويجعله كالذر تحت أقدام خلقه، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يقول الله عز وجل: العظمة إزارى والكبرياء ردائى فمن نازعنى في واحد منهما عذبته» «1» . تحريم التشبه بالله في أفعاله وأسمائه: وإذا كان المصور الذى يصنع الصور بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالمشبه بالله في الربوبية والإلهية كما قال صلى الله عليه وسلّم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» «2» . وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال: يقول الله عز وجل: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة» «3» . فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما. وكذلك من تشبه به تعالى في الاسم الذى لا ينبغى إلا له، كملك الملوك، وحاكم الحكام، وقاضى القضاة ونحوه، وقد ثبت في الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلّم أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 قال: «إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بشاهان شاه ملك الملوك لا مالك إلا الله» «1» وفي لفظ «أغيظ رجل عند الله رجل تسمى ملك الأملاك» «2» . وبالجملة فالتشبيه والتشبه هو حقيقة الشرك؛ ولذلك كان من ظن أنه إذا تقرب إلى غيره بعبادة ما يقربه ذلك الغير إليه فإنه يخطئ لكونه شبهه به، وأخذ ما لا ينبغى أن يكون إلّا له، فالشرك منحه سبحانه وتعالى حقه، فهذا قبيح عقلا وشرعا؛ ولذلك لم يشرع ولم يغفر لفاعله واعلمه. سوء ظن المعتقدين في الوسائط: واعلم أن الذى ظن أن الرب سبحانه وتعالى لا يسمع له أو لا يستجيب له إلا بواسطة تطلعه على ذلك أو تسأل ذلك منه فقد ظن بالله ظن السوء، فإنه إن ظن أنه لا يعلم أو لا يسمع إلا بإعلام غيره له وإسماعه فذلك نفى لعلم الله وسمعه وكمال إدراكه، وكفى بذلك ذنبا. وإن ظن أنه يسمع ويرى ولكن يحتاج إلى من يلينه ويعطفه عليهم فقد أساء الظن بأفضال ربه وبره وإحسانه وسعة جوده. وبالجملة فأعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، ولهذا يتوعدهم في كتابه على إساءة الظن به أعظم وعيد، كما قال الله تعالى: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً «3» ، وقال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ. فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ «4» أى فما ظنكم أن يجازيكم إذا عبدتم معه غيره، وظننتم أنه يحتاج في الاطلاع على ضرورات عباده لمن يكون بابا للحوائج إليه ونحو ذلك. عدم حاجته تعالى إلى الوسائط: وهذا بخلاف الملوك فإنهم محتاجون إلى الوسائط ضرورة لحاجتهم وعجزهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وضعفهم وقصور علمهم عن إدراك حوائج المضطرين. فأما من لا يشغله سمع عن سمع، وسبقت رحمته غضبه وكتب على نفسه الرحمة، فما تصنع الوسائط عنده. فمن اتخذ واسطة بينه وبين الله تعالى، فقد ظن به أقبح الظن، ومستحيل أن يشرعه لعباده، بل ذلك يمتنع في العقول والفطر. واعلم أن الخضوع والتأله الذى يجعله العبد لتلك الوسائط قبيح في نفسه كما قررناه، لا سيما إذا كان المجعول له ذلك عبدا للملك العظيم الرحيم القريب المجيب، ومملوكا له، كما قال تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ «1» أى إذا كان أحدكم يأنف أن يكون مملوكه شريكه في رزقه، فكيف تجعلون لى من عبيدى شركاء فيما أنا منفرد به، وهو الإلهية التى لا تنبغى لغيرى ولا تصلح لسواى، فمن زعم ذلك فما قدرنى حق قدرى ولا عظمنى حق تعظيمى. وبالجملة فما قدر الله حق قدره من عبد معه من ظنّ أنه يوصل إليه، قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً «2» إلى أن قال: ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ «3» وقال تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «4» فما قدّر القوىّ العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل. أصل ضلال أهل البدع والزيغ: واعلم أنك إذا تأملت جميع طوائف الضلال والبدع وجدت أصل ضلالهم راجعا إلى شيئين. أحدهما: الظن بالله ظن السوء. والثانى: أنهم لم يقدروا الرب حق قدره. فلم يقدره حق قدره من ظن أنه لم يرسل رسولا ولا أنزل كتابا، بل ترك الخلق سدى وخلقهم عبثا «5» . ولا قدره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 حق قدره من نفى عموم قدرته وتعلقها بأفعال عباده من طاعتهم ومعاصيهم وأخرجها عن خلقه وقدرته. ولا قدر الله حق قدره أضداد هؤلاء الذين قالوا: إنه يعاقب عبده على ما لم يفعله «1» بل يعاقبه على فعله سبحانه وتعالى. وإذا استحال في العقول أن يجبر السيد عبده على فعل ثم يعاقبه عليه، فكيف يصدر هذا من أعدل العادلين. وقول هؤلاء شر من أشباه المجوس القدرية الأذلين. ولا قدر الله حق قدره من نفى رحمته ورضاه ومحبته وغضبه وحكمته مطلقا وحقيقة فعله «2» ولم يجعل له فعلا اختياريا، بل أفعاله مفعولات منفصلة عنه. ولا قدره حق قدره من جعل له صاحبة وولدا، أو جعله يحلّ في مخلوقاته، أو جعله عين هذا الوجود «3» . ولا قدر الله حق قدره من قال: إنه رفع أعداء رسوله وأهل بيته وجعل فيهم الملك ووضع أولياء رسوله وأهل بيته، وهذا يتضمن غاية القدح في الرب، تعالى الله عن قول الرافضة «4» . وهذا مشتق من قول اليهود والنصارى في قول رب العالمين أنه أرسل ملكا ظالما وادعى النبوة وكذب على الله ومكث زمنا طويلا يقول: أمرنى بكذا ونهانى عن كذا، ويستبيح دماء أبناء الله وأحبائه، والرب تعالى يظهره ويؤيده ويقيم الأدلة والمعجزات على صدقه، ويقبل بقلوب الخلق وأجسادهم إليه، ويقيم دولته على الظهور والزيادة ويذل أعداءه أكثر من ثمانمائة عام. فوازن بين قول هؤلاء وقول إخوانهم من الرافضة تجد القولين سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ولا قدره حق قدره من زعم أنه لا يحيى الموتى ولا يبعث من في القبور ليبين لعباده الذى كانوا فيه يختلفون وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين. عبادة غير الله عبادة للشيطان: وبالجملة فهذا باب واسع، والمقصود أن كل من عبد مع الله غيره فإنما عبد شيطانا قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ «1» فما عبد أحد من بنى آدم كائنا من كان إلا وقد وقعت عبادته للشيطان فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله تعالى، وذلك غاية رضا الشيطان؛ ولهذا قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أى من إغوائهم وإضلالهم وقال: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ «2» فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذى لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفره بغير التوبة منه، وأنه موجب للخلود في العذاب، وأنه ليس تحريمه قبحه بمجرد النهى عنه فقط، بل يستحيل على الله سبحانه وتعالى أن يشرع لعباده عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه ما يناقض أوصاف كماله ونعوت جلاله. مراتب الناس في عبادة الله: واعلم أن الناس في عبادة الله تعالى والاستعانة به أقسام، أجلها وأفضلها أهل العبادة والاستعانة بالله عليها، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها نهاية مقصودهم؛ ولهذا كان أفضل ما يسأل الرب تعالى الإعانة على مرضاته، وهو الذى علمه النبى صلى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل فقال: «يا معاذ، والله إنى أحبك، فلا تدع أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» «3» ، فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته تعالى «4» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ويقابل هؤلاء القسم الثانى: المعرضون عن عبادته والاستعانة به فلا عبادة لهم ولا استعانة، بل إن سأله تعالى أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته، والله سبحانه وتعالى يسأله من في السموات والأرض، ويسأله أولياؤه وأعداؤه، فيمد هؤلاء وهؤلاء. وأبغض خلق الله إبليس، ومع هذا أجاب سؤاله وقضى حاجته «1» ومتّعه بها، ولكن لما لم تكن عونا على مرضاته كانت زيادة في شقوته وبعده. وهكذا كل من سأله تعالى استعان به على ما لم يكن عونا له على طاعته كان سؤاله مبعدا له عن الله. فليتدبر العاقل هذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه، بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه ويكون منعه منها حماية له وصيانة، والمعصوم من عصمه الله، والإنسان على نفسه بصيرة. وعلامة هذا أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر إذا رآه سبحانه وتعالى يقضى حوائج غيره يسىء ظنه به تعالى وقلبه محشو بذلك وهو لا يشعر. وأمارة ذلك حمله على الأقدار وعتابه في الباطن لها، ولقد كشف الله تعالى هذا المعنى غاية الكشف في قوله تعالى: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ. كَلَّا «2» أى ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته عليه، ولكنه ابتلاء منى وامتحان له أيشكرنى فأعطيه فوق ذلك أم يكفرنى فأسلبه إياه وأحوله عنه لغيره، وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذاك من هوانه علىّ ولكنه ابتلاء وامتحان منى أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته أم يسخط فيكون حظه السخط، وبالجملة فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه سبحانه وتعالى يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه عليه، وإنما يكرم سبحانه وتعالى من يكرم من عباده بأن يوفقه لمعرفته ومحبته وعبادته واستعانته. فغاية سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة به. القسم الثالث: من له من نوع عبادة بلا استعانة وهؤلاء نوعان: أحدهما: أهل القدر القائلون بأنه سبحانه وتعالى قد فعل بالعبد جميع مقدوره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 من الألطاف وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسول وتمكينه من الفعل فلم يبق بعدها إعانة مقدورة يسأله إياها «1» ، وهؤلاء مخذولون موكلون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد. قال ابن عباس رضى الله عنهما: الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض توحيده «2» . النوع الثانى: من لهم عبادة وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر وأنها بدون المقدور كالموت الذى لا تأثير له، بل كالعدم الذى لا وجود له، وأن القدر كالروح المحرك لها والمعول على المحرك الأول، فلم تنفذ بصائرهم من السبب إلى المسبب، من الآلة إلى الفاعل، فقلّ نصيبهم من الاستعانة، وهؤلاء لهم نصيب من التصرف بحسب استعانتهم وتوكلهم، ونصيب من الضعف والخذلان بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه لأزاله «3» . حقيقة الاستعانة: فإن قيل: ما حقيقة الاستعانة عملا؟ قلنا: هى التى يعبر عنها بالتوكل، وهى حالة للقلب تنشأ عن معرفة الله تعالى وتفرده بالخلق والأمر والتدبير والضر والنفع وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فتوجب اعتمادا عليه وتفويضا إليه وثقة به، فتصير نسبة العبد إليه تعالى كنسبة الطفل إلى أبويه فيما ينوبه من رغبته ورهبته، فلو دهمه ما عسى أن يدهمه من الآفات لم يلتجىء إلى غيرهما. فإن كان العبد مع هذا الاعتماد من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «4» أى كافيه. القسم الرابع: من له استعانة بلا عبادة، وتلك حالة من شهد تفرد الله بالضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والنفع ولم يدر «1» بما يحبه ويرضاه فتوكل عليه في حظوظه فأسعفه بها، وهذا لا عاقبة له سواء كانت أموالا أو رياسات، أو جاها عند الخلق أو نحو ذلك، فذلك حظه من دنياه وآخرته «2» . المتابعة والإخلاص شرطان لقبول الأعمال: واعلم أن العبد لا يكون متحققا بعبادة الله تعالى إلا بأصلين: أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلّم، والثانى: إخلاص العبودية. والناس في هذين الأصلين على أربعة أقسام: أهل الإخلاص والمتابعة، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم ومنعهم وإعطاؤهم وحبهم وبغضهم، كل ذلك لله تعالى، لا يريدون من العباد جزاء ولا شكورا، أعدوا الناس كأصحاب القبور لا يملكون ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. فإنه لا يعامل أحدا من الخلق إلا لجهله بالله وجهله بالخلق. والإخلاص هو العمل الذى لا يقبل الله من عامل عملا صوابا عاريا منه، وهو الذى ألزم عباده به إلى الموت، قال الله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* «3» وقال: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «4» ، وأحسن العمل أخلصه وأصوبه. (فالخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم) «5» ، وهذا هو العمل الصالح المذكور في قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ «6» وهو العمل الحسن في قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً «7» وهو الذى أمر به النبى صلى الله عليه وسلّم في قوله «كل عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 ليس عليه أمرنا فهو رد» «1» وكل عمل بلا متابعة فإنه لا يزيد عامله إلا بعدا من الله تعالى فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالأهواء والآراء. الضرب الثانى: من لا إخلاص له ولا متابعة له، وهؤلاء شرار الخلق وهم المتزينون بأعمال الخير يراؤون بها الناس، وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف عن الصراط المستقيم من المنتسبين إلى الفقه والعلم والفقر والعبادة، فإنهم يرتكبون البدع والضلال والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، وفي أضراب هؤلاء نزل قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «2» . الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله، لكنها على غير متابعة الأمر، كجهال العباد والمنتسبين إلى الزهد والفقر وكل من عبد الله على غير مراده. والشأن ليس في عبادة الله فقط، بل في عبادة الله كما أراد. ومنهم من يمكث فى خلواته تاركا للجمعة ويرى ذلك قربة «3» ويرى مواصلة صوم النهار والقيام بالليل قربة، وأن صيام يوم الفطر قربة وأمثال ذلك. الضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله تعالى، كطاعات المرائين، وكالرجل يقاتل رياء وسمعة وحمية وشجاعة وللمغنم، ويحج ليقال، ويقرأ ليقال، ويعلم ويؤلف ليقال، فهذه أعمال صالحة لكنها غير مقبولة، قال تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ «4» فلم يؤمر الناس إلا بالعبادة على المتابعة والإخلاص فيها، والقائم بهما هم أهل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. أفضل العبادات وأنفعها: ثم أهل مقام إِيَّاكَ نَعْبُدُ لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 والتخصيص أربعة طرق، وهم في ذلك أربعة أصناف «1» : الصنف الأول عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها، قالوا: لأنه أبعد الأشياء من هواها وهو حقيقة التعبد، والأجر على قدر المشقة، ورووا حديثا ليس له أصل «أفضل الأعمال أحمزها «2» » » أى أصعبها وأشقها، وهؤلاء هم أرباب المجاهدات والجور على النفوس، قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك إذ طبعها الكسل والمهادنة والإخلاد إلى الراحة، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق. من قال: إن الزهد أفضل العبادات: الصنف الثانى قالوا: أفضل العبادات وأنفعها التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان وإطراح الاهتمام بها وعدم الاكتراث لما هو منها. ثم هؤلاء قسمان: فعوامهم ظنوا أن هذا غاية، فشمروا إليه وعملوا عليه وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة ورأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها. وخواصهم رأوا هذا مقصودا لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على الله والاستغراق في محبته والإنابة إليه والتوكل عليه والاشتغال بمرضاته، فرأوا أفضل العبادات دوام ذكره بالقلب واللسان، ثم هؤلاء قسمان: فالعارفون إذا جاء الأمر والنهى بادروا إليه ولو فرّقهم وأذهب جمعهم، والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من القلب جميعته، فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفتوا إليه، ويقولون: يطالب بالأوراد من كان غافلا ... فكيف بقلب كل أوقاته ورد؟ ثم هؤلاء أيضا قسمان: منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيته. ومنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 من يقول بها ويترك السنن والنوافل ويعلم العلم النافع لجمعيته. والحق أن الجمعية حظ القلب، وإجابة داعى الله حق الرب فمن آثر حق نفسه على حق ربه فليس من العبادة في شىء «1» . الصنف الثالث: رأوا أن أفضل العبادات ما كان فيه نفع متعد فرأوه أفضل من النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالجاه والمال والنفع أفضل لقوله صلى الله عليه وسلّم: «الخلق عيال الله «2» وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله» «3» . قالوا: وعمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النفاع متعد إلى الغير، فأين أحدهما من الآخر، ولهذا كان «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» «4» ، وقد قال صلى الله عليه وسلّم لعلى: «لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» «5» ، وقال: «من دعا إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا» «1» . وقال: «إن الله وملائكته يصلون على معلمى الناس الخير» «2» وقال: «إن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة فى جحرها» «3» . قالوا: وصاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله ما دام نفعه الذى تسبب فيه. والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعهم فى معاشهم ومعادهم لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع؛ ولهذا أنكر النبى صلى الله عليه وسلّم على أولئك «4» النفر الذين هموا بالانقطاع والتعبد وترك مخالطة الناس، ورأى هؤلاء أن التفرغ لنفع الخلق أفضل من الجمعية على الله بدون ذلك، قالوا: ومن ذلك العلم والتعليم ونحو هذه الأمور الفاضلة. الصنف الرابع: قالوا: أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب سبحانه وتعالى واشتغال كل وقت بما هو مقتضى «5» ذلك الوقت، ووظيفته، فأفضل العبادات في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل من ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن. والأفضل في وقت حضور الضيف: القيام بحقه والاشتغال به. والأفضل في وقت السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والذكر والدعاء. والأفضل في وقت الأذان: ترك ما هو فيه من الأوراد والاشتغال بإجابة المؤذن «1» . والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجد والاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى المسجد. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج: المبادرة إلى مساعدته بالجاه والمال والبدن. والأفضل في السفر: مساعدة المحتاج وإعانة الرفقة وإيثار ذلك على الأوراد والخلوة. والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب والهمة على تدبره والعزم على تنفيد أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك. والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر. والأفضل في أيام عشر ذى الحجة: الإكثار من التعبد، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد وهو أفضل من الجهاد غير المتعين. والأفضل في العشر الأواخر من رمضان: لزوم المساجد والخلوة فيها مع الاعتكاف، والإعراض عن مخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى أنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم «2» وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجميعتك. والأفضل في وقت نزول النوازل وإيذاء الناس لك: أداء واجب الصبر مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 خلطتك لهم، والمؤمن الذى يخالط الناس ويصبر على أذاهم أو إيذائهم أفضل من المؤمن الذى لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه، وعزلتهم في الشر أفضل من خلطتهم فيه. فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله وقلله فخلطتهم خير من اعتزالهم، وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف التى قبلهم أهل التعبد المقيد، فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذى تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص ونزل عن عبادته فهو يعبد الله تعالى على وجه واحد. وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى، إن رأيت العلماء رأيته معهم، وكذلك في الذاكرين والمتصدقين وأرباب الجمعية وعكوف القلب على الله، فهذا هو الغذاء الجامع للسائر إلى الله في كل طريق والوافد عليه مع كل فريق. وأستحضر ههنا حديث أبى بكر الصديق رضى الله عنه وقول النبى صلى الله عليه وسلّم بحضوره «هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل منكم أحد أصبح اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: هل منكم أحد عاد مريضا؟ فقال أبو بكر: أنا، قال: هل منكم أحد اتبع اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا «1» ... » الحديث. هذا الحديث روى من طريق عبد الغنى بن أبى عقيل: ثنا نعيم بن سالم عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسا في جماعة من أصحابه فقال: «من صام اليوم؟ فقال أبو بكر: أنا، قال: من تصدق اليوم؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من عاد اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من شهد اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: وجبت لك» «2» يعنى الجنة. ونعيم بن سالم وإن تكلم فيه لكن تابعه سلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 ابن وردان «1» وله أصل «2» صحيح من حديث مالك عن محمد بن شهاب عن حميد ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودى في الجنة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة نودى من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد نودى من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعى من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعى من باب الريان، فقال أبو بكر رضى الله عنه: يا رسول الله، ما على من يدعى من هذه الأبواب كلها من ضرورة، فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها، قال: نعم وأرجو أن تكون منهم» «3» هكذا رواه عن مالك موصولا مسندا عن يحيى بن يحيى «4» ومعن بن عيسى «5» وعبد الله بن المبارك «6» . ورواه يحيى بن بكير «7» وعبد الله بن يوسف «8» عن مالك عن ابن شهاب «9» عن حميد «10» مرسلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وليس هو عند القعنبى «1» لا مرسلا ولا مسندا. ومعنى قوله: «من أنفق زوجين» يعنى شيئين من نوع واحد نحو درهمين أو دينارين أو فرسين أو قمصين، وكذلك من صلى ركعتين أو مشى في سبيل الله تعالى خطوتين، أو صام يومين ونحو ذلك، وإنما أراد- والله أعلم- أقل التكرار وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البر؛ لأن الاثنين أقل الجمع «2» ، فهذا كالغيث أين وقع نفع صحب الله بلا خلق، وصحب الخلق بلا نفس؛ إذا كان مع الله عزل الخلائق من البين، وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها، فما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم! وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه!. أقسام الناس في منفعة العبادة: واعلم أن للناس في منفعة العبادة وحكمتها ومقصودها طرقا أربعة، وهم في ذلك أربعة أصناف. الصنف الأول: نفاة الحكم والتعليل للذين يردون الأمر إلى نفس المشيئة وصرف الإرادة، فهؤلاء عندهم القيام بها ليس إلا لمجرد الأمر من غير أن يكون سببا لسعادة في معاش ولا معاد ولا سببا لنجاة، وإنما القيام بها لمجرد الأمر ومحض المشيئة، كما قالوا في الخلق: لم يخلق لغاية ولا لعلة هى المقصودة به ولا لحكمة تعود إليه منه، وليس في المخلوق أسباب تكون مقتضيات لمسبباتها، وليس في النار سبب للإحراق، ولا في الماء قوة الإغراق ولا التبريد. وهكذا الأمر عندهم سواء لا فرق بين الخلق والأمر، لا فرق في نفس الأمر بين المأمور والمحظور، ولكن المشيئة اقتضت أمره بهذا ونهيه عن هذا من غير أن يقوم بالمأمور صفة تقتضى حسنه ولا بالمنهى عنه صفة تقتضى قبحه، ولهذا الأصل لوازم فاسدة وفروع كثيرة، وهؤلاء غالبهم لا يجد حلاوة العبادة ولا لذتها ولا يتنعمون بها؛ ولهذا يسمون الصلاة والصيام والزكاة والحج والتوحيد والإخلاص ونحو ذلك تكاليف، أى كلفوا بها، ولو سمى مدعى محبة ملك من الملوك أو غيره ما يأمر به تكليفا لم يعد محبا له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وأول من صدرت عنه هذه المقالة: الجعد بن درهم «1» . رأى القدرية في الحكمة والتعليل: الصنف الثانى: القدرية النفاة الذين يثبتون نوعا من الحكمة والتعليل لا يقوم بالرب ولا يرجع إليه، بل يرجع لمحض مصلحة المخلوق ومنفعته، فعندهم أن العبادات شرعت أثمانا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنها بمنزلة استيفاء الأجير أجره، قالوا: ولهذا يجعلها سبحانه وتعالى عوضا كقوله: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «2» هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «3» ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «4» إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «5» وفي الصحيح: «إنما هى أعمالكم أحصيها لكم «6» ثم أوفيكم إياها» «7» . قالوا: وقد سماها جزاء وأجرا وثوابا؛ لأنه شىء يثوب إلى العامل من عمله أى يرجع إليه. قالوا: ويدل عليه الموازنة، فلولا تعلق الثواب بالأعمال عوضا عليها لم يكن للموازنة معنى. تناقض الجبرية والقدرية: وهاتان الطائفتان متقابلتان، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطا بالجزاء البتة، وجوزت أن يعذب الله من أفنى عمره في الطاعة، وينعم من أفنى عمره في مخالفته، وكلاهما سواء بالنسبة إليه، والكل راجع إلى محض المشيئة. والقدرية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 أوجبت عليه سبحانه وتعالى رعاية المصالح وجعلت ذلك كله بمحض الأعمال، وأن وصول الثواب إلى العبد بدون عمله فيه تنقيص باحتمال منة الصدقة عليه بلا ثمن، فجعلوا تفضله سبحانه وتعالى على عبده بمنزلة صدقة العبد على العبد وإعطائه ما يعطيه أجره على عمله أحب إلى العبد من أن يعطيه فضلا منه بلا عمل، ولم يجعلوا للأعمال تأثيرا في الجزاء البتة. والطائفتان منحرفتان عن الصراط المستقيم، وهو أن الأعمال أسباب إلى الثواب، والأعمال الصالحات من توفيق الله وفضله وليست قدرا لجزائه وثوابه، بل غايتها إذا وقعت على أكمل الوجوه أن تكون شكرا على أحد الأجزاء القليلة من نعمه سبحانه وتعالى، فلو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكان رحمته لهم خيرا من أعمالهم. الأعمال سبب لدخول الجنة: وتأمل قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» مع قوله صلى الله عليه وسلّم: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» «2» . نجد الآية تدل على أن الجنان بالأعمال، والحديث ينفى دخول الجنة بالأعمال، ولا تنافى بينهما؛ لأن توارد النفى والإثبات ليس على محل واحد، فالمنفى باء الثمنية واستحقاق الجنة بمجرد الأعمال ردا على القدرية المجوسية التى زعمت أن الفضل بالثواب ابتداء متضمن لتكدير المنة. والباء المثبتة التى وردت في القرآن هى باء السببية ردا على القدرية الجبرية الذين يقولون: لا ارتباط بين الأعمال «3» وجزائها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 ولا هى أسباب لها وإنما غايتها أن تكون أمارة. والسنة النبوية هى أن عموم مشيئة الله وقدرته لا تنافى ربط الأسباب بالمسببات وارتباطها بها. وكل طائفة من أهل الباطل تركت نوعا من الحق فإنها ارتكبت لأجله نوعا من الباطل بل أنواعا، فهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه «1» . رأى الفلاسفة والمتصوفة في العبادات: الصنف الثالث: الذين زعموا أن فائدة العبادة رياضة النفوس «2» واستعدادها لفيض العلوم والمعارف عليها وخروج قواها من قوى النفس السبعية والبهيمية، فلو عطلت العبادة لالتحقت بنفوس السباع والبهائم، فالعبادة تخرجها إلى مشابهة العقول فتصير قابلة لانتقاش صور المعارف فيها. وهذا يقوله طائفتان: أحدهما: من يقرب إلى الإسلام والشرائع من الفلاسفة القائلين بقدم العالم وعدم الفاعل المختار. والطائفة الثانية: من تفلسف من صوفية الإسلام ويقرب إلى الفلاسفة، فإنهم يزعمون أن العبادات رياضيات لاستعداد النفوس للمعارف العقلية ومخالفة العوائد. ثم هؤلاء من لا يوجب العبادة إلا بهذا المعنى، فإذا حصل لها ذلك بقى متحيرا فى حفظ أوراده والاشتغال بالوارد عنها. ومنهم من يوجب القيام بالأوراد وعدم الإخلال بها، وهم صنفان أيضا: أحدهما: من يقول بوجوبها حفاظا للقانون وضبطا للناموس. والآخرون: يوجبونها حفظا للوارد وخوفا من تدرج النفس بمفارقتها إلى حالها الأولى من البهيمية، فهذه نهاية أقدامهم في حكمة العبادة وما شرعت لأجله، ولا تكاد تجد في كتب المتكلمين على طريق السلوك غير طريق من هذه الطرق الثلاثة أو مجموعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 قول أهل الحق في العبادة: الصنف الرابع: هم القائلون «1» بالجمع بين الخلق والأمر والقدر والسبب، فعندهم أن سر العبادة وغايتها مبنى على معرفة حقيقة الإلهية ومعنى كونه سبحانه وتعالى إلها وأن العبادة موجب الإلهية وأثرها ومقتضاها وارتباطها، كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والإعطاء بالجود. فعندهم من قام بمعرفتها على نحو الذى فسرناها به لغة وشرعا مصدرا وموردا استقام له معرفة حكمة العبادات وغايتها به وعلم أنها هى الغاية التى خلقت لها العباد ولها أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وخلقت الجنة والنار. وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك في قوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2» فالعبادة هى التى ما وجدت الخلائق كلها إلا لأجلها كما قال تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً «3» أى مهملا. قال الشافعى رحمه الله: لا يؤمر ولا ينهى «4» . وقال غيره: لا يثاب ولا يعاقب. وهما تفسيران صحيحان، فإن الثواب والعقاب مترتب على الأمر والنهى. والأمر والنهى هى طلب العبادة وإرادتها. وحقيقة العبادة امتثالها؛ ولهذا قال تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا «5» وقال تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ «6» وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ «7» فأخبر الله تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق المتضمن أمره ونهيه وثوابه وعقابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 فإذا كانت السموات والأرض إنما خلقت لهذا وهو غاية الخلق، فكيف يقال أنه لا غاية له ولا حكمة مقصودة أو أن ذلك بمجرد استئجار العمال حتى لا يتكدر عليهم الثواب بالمنة، أو لمجرد استعداد النفوس للمعارف العقلية وارتياضها لمخالفة العوائد. وإذا تأمل اللبيب الفرق بين هذه الأقوال وبين ما دل عليه صريح الوحى علم أن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له والانقياد لأمره. محبة الله أصل العبادة: فأصل العبادة محبة الله، بل إفراده تعالى المحبة، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب ما يحبه لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته لأن محبتهم من تمام محبته وليست كمحبة من اتخذ من دونه أندادا يحبهم كحبه. وإذا كانت المحبة له هى حقيقة عبودية وسرها، فهى إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر والنهى تتبين حقيقة العبودية والمحبة. ولهذا جعل سبحانه وتعالى اتباع رسوله صلى الله عليه وسلّم علما عليها وشاهدا لها كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ «1» فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله تعالى وشرطا لمحبة الله، ووجود المشروط بدون تحقق شرطه ممتنع. فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة للرسول، ولا يكفى ذلك حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. ومتى كان عنده شىء أحب إليه منهما فهو الإشراك الذى لا يغفره الله. قال تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ «2» . تقديم الآراء على نصوص الوحى منافى للمحبة: وكل من قدم قول غير الله على قول الله أو حكم به أو حاكم إليه فليس ممن أحبه، لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه أو طاعته على قوله ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول ما قال الرسول صلى الله عليه وسلّم فيطيعه ويحاكم إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ويتلقى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك. وأما إذا قدر على الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعرف أن غير من اتبعه أولى به مطلقا أو في بعض الأمور كمسألة معينة ولم يلتفت إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلّم ولا إلى من هو أولى به فهذا يخاف عليه. وكل ما يتعلل به من عدم العلم أو عدم الفهم أو عدم إعطاء آلة الفقه في الدين أو الاحتجاج بالأشباه والنظائر أو بأن ذلك المتقدم كان أعلم منى بمراده صلى الله عليه وسلّم فهى كلها تعللات لا تفيد. هذا مع الإقرار بجواز الخطأ على غير المعصوم إلا أن ينازع في هذه القاعدة فتسقط مكالمته، وهذا هو داخل تحت الوعيد، فإن استحل مع ذلك ثلب من خالفه وقرض عرضه ودينه بأسنانه وانتقل من هذا إلى عقوبته أو السعى في أذاه، فهو من الظلمة المعتدين ونواب المفسدين «1» . قواعد العبادة: واعلم أن العبادة أربع قواعد، وهي التحقق بما يحب الله ورسوله ويرضاه، وقيام ذلك بالقلب واللسان والجوارح. فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع. فأصحاب العبادة حقا هم أصحابها، فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله تعالى عن نفسه وأخبر رسوله عن ربه من أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه وما أشبه ذلك. وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك والدعاء إليه والذاب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له والقيام بذكره تعالى وتبليغ أمره. وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة والخوف والرجاء والإخلاص والصبر على أوامره ونواهيه وإقراره والرضاء به وله وعنه والموالاة فيه والمعاداة فيه والإخبات إليه والطمأنينة به ونحو ذلك من أعمال القلوب التى فرضها آكد من فرض أعمال الجوارح، ومستحبها أحب إلى الله تعالى من مستحب أعمال الجوارح «2» . وأما أعمال الجوارح فكالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجماعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك. فقول العبد في صلاته: إِيَّاكَ نَعْبُدُ التزام هذه الأربعة وإقرار بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 وقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ طلب الإعانة عليها والتوفيق لها، وقوله: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ متضمن الأمرين على التفصيل وإلهام القيام [ .... ] وسلوك طريق السالكين إلى الله تعالى. والله الموفق بمنه وكرمه والحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبى بعده وعلى آله وصحبه وسلم. قال مؤلفه رحمه الله: إنه صححه جهد الطاقة ومبلغ القدرة في سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب. تم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 البيان والإعراب عمّن في أرض مصر من قبائل الأعراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 «بسم الله الرحمن الرحيم» الحمد الله ذى النعم الجزيلة والآلاء الجمّة الجليلة، أحمده على ما علم وفهم، وهدى إلى الطريق الأرشد الأقوم، حمدا كثيرا أثيرا بتيرا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، المبعوث إلى الكافة أجمعين، والمقدم على سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين، صلاة وسلاما باقيين إلى يوم الدين، وبعد: فهذه رسالة وجيزة في ذكر من بأرض مصر من طوائف العرب، قيّدتها لنفسى ولمن شاء الله من أبناء جنسى، والله أسأل المعونة بمنّه. اعلم أن العرب الذين شهدوا فتح مصر، قد بادهم الدهر وجهلت أحوال أكثر أعقابهم، وقد بقيت من العرب بقايا بأرض مصر، فممن بقى: ثعلبة وهى بالشام مما يلى أرض مصر إلى الخروبة وهم من طى ينتسبون إلى ثعلبه بن سلامان «1» بن تعل بن عمرو بن الغوث بن طى بن عاد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كملان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وثعلبة هذه بطن درما وزريق وكانوا يدا مع الفرنج لّما ملكوا البلاد في الإسلام قدر ما في يمن فخذ في طى هم بنو عمرو بن عوف بن ثعلبة بن سلامان. ودرما هى أم عمرو المذكور، فأعقب درما من أربعة أفخاذ «2» لصلبه وهم: سلامة، والأجم، وعمرو، وقصى، وأوس أولاد درما وهو عمرو بن عوف. وزريق هو أخو درما ابنى عوف بن ثعلبة بن سلامان. ومن أفخاذ زريق: أشعب ولبنى وثعلبة وعنى ونيل، ومن درما: البقعة وسبل من ولد نافع بن مروان، والحنابلة والمروانية «3» والحبانيون، ومن زريق: بنو وهم، والطلحيون، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الطلحيين آل حجاج وآل عمران والمصافحة، وكان مقدمهم سقير بن جرجى أمّر بالبوق والعلم. وفي زريق عدة بطون أيضا وكان مقدمهم عمرو بن عسيلة أمّر بالبوق والعلم. وجرم وهم من طىّ ثم من بنى جرم واسمه ثعلبة بن عمرو بن الغوث بن طىّ، وجرم امرأة حضت ثعلبة هذا فغلبت عليه وعرف بها، ثم جرم هذه هى فخذ بنى شمجى، وحيّان بن جرم، وجرم هذه تمر مع ثعلبة طى الذين تقدم ذكرهم، وكانوا يدا مع الفرنج لما تغلبوا على البلاد، وجرم هذه غير جرم قضاعة ينزلون من الشام ببلاد غزة والدراوم مما يلى الساحل إلى بلد الخليل عليه السلام. وفي جرم طى من ينزل الشام أيضا، ومن جرم قضاعة: بنو جشم وبنو قدامة وبنو عوف، وفيهم أيضا جرم بجيلة وجرم عاملة ومن جرم طى شمجى ويقال: شمجان وقمران وحيان، فلما فتح السلطان صلاح الدين يوسف «1» بن أيوب بلاد غزة وأعادها الله من أيدى الفرنج إلى المسلمين، جاءت لقلبه طائفة من جرم إلى مصر وبقيت جرم مكانها، والمشهور من جرم هذه الآن جذيمة، ويقال: إن لهم نسبا في قريش، وذهب بعضهم أنه ترجع إلى «مجزهم» ، وزعم إخوانها من جذيمة «2» بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤى بن غالب بن فهر، وجذيمة هذه العوسجة «3» وآل أحمد وآل محمود، وكلهم في إمارة شاور بن فهر، وجذيمة هذه آل عوسجة وآل أحمد وآل محمود، وكلهم في إمارة شاور بن سنان، ثم في بنيه، وكان لسنان أخوان فيهما سؤدد «4» ، وهما غانم وخضر، ومن جذيمة هؤلاء جماعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 مع الزيد بن جماعة منصور بن جابر، وجماعة عامر بن سلامة، ومنهم بنو أسلم، وأسلم هذه من جذام لا من جذيمة وإنما اختلطت مع جذيمة، ومنهم شبل ورضيعة جرم، ويفور والقدرة جماعة عليم بن رميح. والأحامدة والرفث وكور من جرم جماعة جابر بن سعيد، وموقع وكان كبير مالك الموقفى وكان مقدما عند السلطان صلاح الدين وأخيه العادل أبى بكر، ومنهم بنو غور، ويقال لهم: من جرم بن جرمز بن سنبس، ومن هؤلاء: العاجلة والقمار والعبادلة وبنو تمام وبنو جميل، ومن بنى جميل: بنو مقدام، ومن بنى غور: آل قادر وبنو عمون وبنو بهىّ، وبنو خولة وبنو هرماس، وبنو عيسى وبنو سهيل، وأرضهم الداروم وكانوا سفراء بين الملوك، وجاورهم قوم من زبيد يعرفون ببنى فهيد، ثم اختلطوا بهم. أما جرم طى فإنها تنزل من أرض مصر وسنبس وهم من طى ينتسبون إلى سنبس بن معاوية بن جزول بن تعل بن عمرو بن الغوث بن طى. وفي سنبس أفخاذ وعشائر كبنى لبيد وعمر وعدىّ وأبان وجرم ومحصب وقنة، فأما بنو عمرو فهم يدعون بنى عقدة، وعقدة أمهّم وإنما هم بنو عمرو بن سنبس بن معاوية، ومنهم الخزاعلة وأصلهم بنو قنة بن جلاد بن حميد بن خزعل بن عابد إحدى عشائر سنبس بن معاوية بن جزول. وإلى قنة هذا ينتسب معالى من فرع مقدّم سنبس، كان بالبحيرة وله جوار ومروءة «1» ، وفيه كرم وشجاعة، قتل صبرا في دار الراحة ... بفلسطين قريبا من غزة «2» وكثروا هناك واشتدت وطأتهم «3» على الولاة وصعب أمرهم، فبعث الوزير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 الناصر للدين أبو محمد الحسن بن على بن عبد الرحمن اليازورى «1» إليهم في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة يستدعيهم، وأقطعهم» البحيرة من أرض مصر، وكانت البحيرة يومئذ بنى قرّة من بطون حبيب بن جذام فنجعت «3» سنبس وعدت إلى البحيرة وأوطأهم الوزير ديار بنى قرة، وأقطعهم أرضيهم وديارهم واتسعت أحوالهم وفخم أمرهم وعظم في أيام الخلفاء الفاطميين، ولم يزالوا بالبحيرة إلى أن كانت سلطنة المعزّ عز الدين أيبك التركمانى أول ملوك الترك بديار مصر وأنفت «4» عربان مصر من تملكه عليهم؛ لأنه مملوك من جملة المماليك البحرية قد مسّه الرق، فاجتمعوا وأقاموا الشريف حصن الدين ثعلب بن الأمير الكبير نجم على ابن الأمير الشريف فخر الدين إسماعيل بن حصن الدين مجد العرب ثعلب الجعفرى في سنة إحدى وخمسين وستمائة، فقاتلهم الأتراك وأمسكوا الشريف وأصحابه ثم مضوا بعد وقعة دروط إلى ناحية سخا من الغربية، وكان من خلفاء سنبس عذرة ومدلج، ويجاورهم فرقة من كنانة بن خزيمة كان مقدّمهم في خلافة الفائز بنصر الله عيسى ابن الظافر ووزارة الصالح طلائع بن رزيك «5» ويجاورهم فرقة من بنى عدى بن كعب رهط «6» أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ومقدمهم خلف بن نصر بن منصور بن عبيد الله عدى بن محمد بن أبى بكر عبد الله بن عبيد الله بن أبى بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 رضى الله عنه، ونزلوا بالبرلس، وكانوا هم والكنانيون من ذوى الأعمار المذكورة فى نوبة دمياط، وخلف هذا هو حد بنى فضل الله المحلى بن دعجاب بن خلف بن نصر الله، ولّوا كتابة السر لملوك الترك بالقاهرة ودمشق نحو مائة سنة. وجذام وهم بنو جذام، واسمه: عامر، ويقال: عمرو بن عدى بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عرب بن زيد بن كهلان وهما إخوة لخم، واسمه مالك وإنما قيل لهم: لخم وجذام من أجل أنهما تخاصما فجذم جذام بفمه إصبع أخيه فقطعها، والجذم: القطع، ولخم وجه أخيه جذام، أى لطمه، فحصر عينه فسمى لخما، وقيل في سبب تسميتهما بذلك غير هذا. وقد اختلف أيضا في نسب جذام فقيل: جذام بن عدى بن عمرو بن سبأ، وقيل: جذام ولخم ابنا عدى بن عمرو بن الحارث بن مرة، وقيل: إن قنص بن معد بن عدنان هو أبو لخم، وأن أسده بن خزيمة أخا أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس ابن مضر هو أبو جذام، وأن جذام لحقت بالشام فانتمت إلى سبأ ولحقوا باليمن. وفي جذام عدة أبطن وأفخاذ وعشائر كبنى ضبيب بن قرط بن نبيج، وفي بنى ضبيب عدة أبطن [و] «1» وهم بنو سويد وبنو زيد وبنو بهجة، وهلبا سويد وهلبا مالك وهلبا بعجة وبردعة ورفاعة ونايل، وبنو مسعود وبنو الوليد وبنو منظور وبنو قّرّة الذين كانوا بالبحيرة قبل سنبس وبنو رداد ومحرية رهط رفاعة بن زيد جدّ بنى روح من الصحابة. فأما سويد بن زيد بن أمية بن الضبيب المذكور، وأما زيد فبنو زيد بن أميّه بن الضبيب، ومنهم بنو إمامة بن غطفان، ومنهم روح ومنهم قرظ بن حفيدة بن نبيح، ومنهم جرام وحشم وعطفان ونبيح بنو عبيد بن كعب وحطمة بنو عوف بن شبوه بن نزيل بن حشم بن جذام، ومنهم طريف بن ثعلبة بن نفذرة بن عوف بن طانجة بن مالك بن أسلم بن الهون بن أسعد بن بكر بن نزيل بن حشم ابن جذام. ويقال: طانجة بن الهون بن شبوة بن نزيل بن حشم. ومنهم عبيد بنو عبيد بن كعب بن على بن سعد بن إمامة بن غطفان، منهم بنو صليع وبنو الضبيب وبنو زيد وبنو سويد وبنو رذالة بن نبيح بن عبيد المذكور، وهم إخوة بنى حنيدة وصليع، ومنهم بنو شاكر بن الضبيب بن قرظ، وبنو عمرو بن سود بن بكر بن نزيل بن حشم بن جذام، فخذ من بنى خبيس وبنو عروس مطرود بن كعب بن على بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 سعد بن أيامة بن غطفان، ومنهم عابدة وصبرة وجاير، وفي صبرة هذه بنو جذام ابن صبرة بن نصر بن غنم بن غطفان بن سعد بن جزام بن جزام. وكان من بنى سويد الأمير المقدم زين الدولة طريف بن مكنون أحد الكرام من أكبر «1» الأمراء الجذاميين بمصر، كان في مضيفة أيام الغلاء اثنا عشر ألفا تأكل عنده كل يوم وكان يهشم الثريد «2» فى المراكب. ومن أولاده فضل بن شمج بن كمون وإبراهيم بن غالى، وأمر كل منهما بالبوق والعلم. ومن جذام: بنو كعب بن على بن سعيد بن أيامة، وهم فخذ بن الضبيب، عشيرة بنى زيد وسويد وميّة. ومن بنى كعب بنو صليع- بصاد مهملة، وبنو مطرود ونفاءة ورذّالة، ومن جذام: بنو كميل بن قرّة بن موهوب بن عبيد بن مالك بن سويد بن زيد بن ضبيب وهم جماعة صلاح وطارق من مقدمى جذام بالحوف «3» ومساكن جذام بالحوف وراشد وهم في اليمن «4» ، ويجمعهم فخذان وعشيرة في جذام من بنى سويد ثم من بنى عقبة، فالتى في سويد ولد راشد بن وليد بن سويد بن زيد بن ميّة من بنى الضبيب بن قرظ حفيدة ابن نبيج بن عبيد بن كعب بن على بن سعد بن إمامة بن غطفان. وقيل: أيامة بن عبيس بن غطفان بن سعد بن إياس بن جذام، ومن بنى راشد هذه: بنو حيّة بن راشد، منهم عروة بن تمام وماضى بن العريب، وبنو عامر بن راشد، منهم صخر بن عمارة، وبنو حلمة من بنى منيع أحد بنى عامر. وأما العشيرة فهى هلبا سويد «5» بنو راشد من هلبا بن مالك بن سويد، وأما التى في بنى عقبة أحد بنى محرية من بنى تيه من بنى الضبيب المذكور، منهم بنو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 حميدة بن صالح بن راشد، عشيرة في عقبة، منهم: حوذر بن حميد وله عقب، ومن بطون الحميد بن البراجسة والجواشنة والعكوك وأولاد غانم ومن جذام هلبا وهى هلبا سويد وهلبا بعجة، فهلبا بعجة هو أبو الفوارس هلبا بن بعجة بن زيد بن الضبيب بن قرظ بن حفيدة بن نبيح، وهلبا سويد هو هلبا بن مالك بن سويد بن زيد بن ضبيب المذكور. فمن هلبا بعجة الذواهبة والجزازرة والنجاد والغياث وبنو منظور والعبسة وبنو ثابت وبنو قبيصة وأمراؤهم أولاد بقر بن نجم، ومن هلبا سويد بنو عمرو وهم منهم أولاد شاش، ومنهم العطويون والحميديون والجابريون والفتاورة، ويقال لهم: أولاد طواح المكوس، وبنو عقبة وهم جذام ينسبون إلى عقبة بن عبيد بن مالك بن سويد بن زيد بن الضبيب. وقالوا: الضبيب بن قرظ بن حفيدة بن عمرو بن صليع بن نبيح بن عبيد بن كعب بن سعد بن أيامة بن غطفان بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام، وبعضهم يقول: حفيدة بن عمرو بن صليع بن نبيح بن كعب بن سعد بن إياس بن عبيس بن حرام بن جذام. ومنهم من أوصل عقبة جذام بإياد بن نزار، وإلى هذا الفخذ يرجع كل عقبىّ «1» ببلاد الشام وحوف مصر وما بين إيلة وحوف مصر، ولبنى عقبة من عقبة إيلة إلى داما قريب عينونة العايذ بياء آخر الحروف، وذال معجمة هم بطين من جذام ينسبون إلى عايذ الله، وقيل: ينسبون إلى عايذة إحدى بطون جذام والعايذ من القاهرة إلى عقبة إيلة، وبنو رداد بن بعجة بن زيد بن مية بن الضيب بن قرظ بن حفيدة ابن نبيح بن عبيد بن كعب بن على بن سعد بن أيامة بن غطفان بن سعد بن إياس ابن حرام بن جذام، ومنهم بنو ذبيب بن سنان المجرس وبنو ذواد بن سنان وفيهم من يسكن الشام، وبنو زيد مناة بن أقصى بن إياس بن حرام بن جزام، منهم بنو كنانة وبنو أروح وبنو كلب وبنو سعد من جذام. وفي جذام خمس سعود: سعد بن إياس «2» بن حرام بن جذام، وسعد بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 مالك بن مالك بن زيد بن أقصى بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام وإليه ينسب أكثر السعديين، وسعد بن مالك بن حرام بن جذام، وسعد بن أيامة بن غطفان، وقيل: سعد بن أيامة بن عنبس بن غطفان بن سعد بن مالك بن حرام بن جذام، وسعد بن مالك بن أقصى بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام. والخمسة اختلطت بمصر وأكثرهم مشايخ البلاد وخفراؤها ولهم مزارع، وفسادهم كثير، وسكنهم من منية غمر «1» إلى زفيتا «2» ومنهم الوزير شاور وإليه ينسب بنو شاور كبار منية غمر، ومنهم بنو عبد الظاهر الموقعين، ومنهم أهل برهمتوش، ومن هؤلاء بنو شاش، ومن سعد هذه بنو الضبيب وبنو زيد وبنو سويد وبنو ميّة، وفي سويد بن زيد بن مية: بنو قرّة وبنو ولد وبنو صبرة بن نصرة بن غطفان بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام. ويقال: صبرة بن نصرة بن غنم بن غطفان بن مالك بن حرام بن جذام والى بنى صبرة درك بركة الحج، ومن بنى سعد: بنو شاش وحوش وغيلان، وبنو قرّة ابن قيس في هلال بنى عامر وهم بنو قرة بن عمرو بن ربيعة من عبد مناف بن هلال ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، وفي نزار بنو قرّة بن عدىّ بن بشر بن رذالة بن نبيح بن كعب بن سعد بن إياس بن عنبس بن عبد عمرو ابن زهم ابن كعب بن إياد، ويقال: إن هذه الفخذ انقلبت في جذام، ولما قدم الغز صحبه أسد الدين شيركوه إلى مصر، كان بأرض مصر من الغرب طلحة وجعفر وبلى وجهينة ولخم وجذام وشيبان وعذر وعذارة وطى وسنبس والحنيفة ومخزوم. وفي جراية الدولة الفاطمية منهم ألوف. وجذام من قدماء عربان مصر قدموا مع عمرو بن العاص «3» ، وكانت لهم عدة إقطاعات، منها: هربيط وتل بسطة ونوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ودم وغير ذلك، وكان إقطاع ثعلبة جميعه في مناشين لجذام وإنما السلطان صلاح الدين وسّع لثعلبة في بلاد جذام، وكذلك كانت فاقوس «1» وما حولها لهلبا سويد وأمر جماعة منهم بالبوق والعلم، فممن أمر منهم: أبو رشد ابن حبشى بن نجم بن إبراهيم بن مسلم بن يوسف بن وافد بن عديد بن عقيل بن قرة بن موهوب بن عبيد بن مالك بن سويد، ودحية وثابت ابنا هانى بن حوط بن نجم بن إبراهيم، ولم تزل الأحوال في نجم وبنيه وكانت اليرموك الحيادرة ولد حيدرة بن معروف بن حبيب بن الوليد بن سويد وهم طائفة كبيرة، ولبنى عمارة بن الوليد بن سويد وفيهم عدد وممن أمر معيد بن منازل وأقطع شمس بن خثعم من ولد مالك بن هلبا ابن مالك بن سويد، وأمر واقتنى عددا من المماليك الأتراك والروم، وبلغ من الملك الصالح نجم الدين أيوب «2» منزلة وارتفع قدره في سلطنة المعز أيبك وقدّمه على عرب ديار مصر، ولم يزل على هذا حتى قتله غلمانه فأقام الملك المعز ابنيه سلمى ودغش عوضة، ثم قدم دغش دمشق فأمره الملك الناصر يوسف ببوق وعلم، وأمر الملك المعز أيبك أخاه سلمى ذلك فأبى حتى يؤمر مفرّج بن سالم بن راضى من هلبا بعجة، ثم أمر مزروع بن نجم كذلك في جماعة كثيرة من جذام وثعلبة، وخلف ابن سالم على إمرته ولده حسّان بن مفرج، وكان هيا بن علوان بن على ابن زيين بن حبيب بن نائل من هلبا جوادا كريما، طرقته «3» ضيوف في شتاء «4» وليس عنده حطب يقده «5» لطعامهم الذى أراد أن يصنعه لهم، فأوقد أحمالا من بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 كانت عنده وكان له كفر برسوط بنوحى مرصفى، وكان لبنى ردينى بن زياد بن حسين بن مسعود بن مالك بن سويد- ومنهم أولاد جيّاش بن عمران وكان للشواكرة «1» أولاد شاكرين راشد بن عقبة بن مجرية شنبارة بنى خصيب، وكان أولاد الحاج في أولاد العجار من أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وحميدة بن صالح بن أسد بن عقبة ذوو عدد يعرفون به، منهم فرقة بالحجاز من واصل بن عقبة وكان لبنى خليفة وحصر من بنى عبيد موضع حقوق هربيط يعرف بالأحراد وكانت زهير بالشام وامتزج من كان بديار مصر منهم بولد زيد وهم نجدى الحوف إلى ما يلى أشموم، وكانت قرارة بنى سعد تل طنبوب إلى نوب طريف، منهم بدقدس ودمريط وضواحى القاهرة إلى أطراف الشرقية، وبالإسكندرية من جذام ولخم جماعة ذو عدد وعدة «2» وشجاعة وإقدام، ولهم أيام معلومة وأخبار معروفة ووقائع مشهورة. وببلاد الصعيد عدة قبائل من العرب، ففى بلاد أسوان «3» وما تحتها: بنو هلال، وفي بلاد إخميم «4» وما تحتها: بلى. وفي بلاد منفلوط «5» وسيوط «6» : جهينة. وفي بلاد الأشمونين «7» : قريش. وفي معظم بلاد البهنسا: لوانة، ومنهم طوائف بالجيزة وبالمنوفية وبالبحيرة. وببلاد الفيوم: بنو كلاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 فأما بنو هلال فإنهم بنو هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حضعة بن قيس عيلان، ويقال: قيس بن عيلان (بالعين المهملة) ابن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وبنو هلال بطن من بنى عامر وكانوا أهل بلاد الصعيد كلها إلى عيذاب وبإخميم، منهم: بنو قرّة، وبساقية قلته، منهم: بنو غمر، وفي بنى هلال عدة بطون، منهم: بنو رفاعة وبنو حجير وبنو غريز وباصفون وإسنا بنو عقبة وبنو جميلة. وأما بلىّ «1» فإنها بلى بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حميرة بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان على ما في نسب قضاعة من الخلاف الذى يذكر في موضعه إن شاء الله تعالى. وبلى قيل «2» عظيم فيه بطون كثيرة، كانت بلى بالشام فنادى رجل بالشام: يا آل قضاعة، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى عامل الشام أن يسير ثلث قضاعة إلى مصر، فنظروا فإذا بلى ثلث قضاعة فسيروا إلى مصر فكانت بلى متفرقة بأرض مصر ثم اتفقت هى وجهينة «3» ، فصار لبلى من سوهاى» غربا إلى قرب قمولة «5» ، وصار من الشرق من عقبة فلو الخراب إلى عيذاب «6» . وكان ببلاد مصر هذه من بطون بلى: بنو هنى وبنو هرم وبنو سوادة وبنو جادية وبنو رايس، وبنو ناب وبنو شاد، وكان بنو شاد هم الأمراء وبنو هجيل بن الريب وهم العجلة، وفيهم الأمراء أيضا، وزعم بعضهم أن بنى شاد من بنى أميّة وصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 حين طردوا إلى القصر الخراب المعروف بهم وكان معهم رجل من ثقيف معه قوس فسموه القوس وعرفت ذريته بالقوسية أو القوسة، ودعوتهم لبنى شاد وهم بطوخ وكذلك يدعى لهم خلق سوى القوسة، منهم هذيل وهم بطوخ «1» أيضا. ومنهم بنو عماد وبنو فضالة وهم بفرشوط «2» وزعم قوم أن بنى شاد من بنى العجيل بن الذيب وإنما هم إخوتهم، وأن العجيل كان قد تزوج أخت إبراهيم بن شاد فولدت ابنا سمته: شاديا، فتوهم من لا علم له أن بنى شاد من بنى العجيل، وزعم آخرون أن العجيل من الذيب من ولد عمر بن ذى الجوشن «3» قاتل الحسين ابن على رضى الله عنهما ورحمه ولعن قاتله- وليس كذلك. وأما جهينة فإنها من قبائل اليمن وهى جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم ابن الحاف بن قضاعة، وهى قبيلة عظيمة وفيها بطون كثيرة وهى أكثر عرب الصعايدة، وكانت مساكنهم في بلاد قريش فأخرجتها قريش بمساعدة الخلفاء الفاطميين ونزلوا في بلاد إخميم أعلاها وأسفلها، وروى أن بلى وبطونها كانت لهذه الديار. وجهينة بالأشمونين جيرانا بمصر كما هم بالحجاز، فوقع بينهم واقع أدّى إلى دوام الفتنة، فلما خرج العسكر لإنجاد قريش على جهينة خافت بلى فانهزمت في أعلى الصعيد إلى أن أدينت لقريش وملكتهم دار جهينة، ثم حصل بينهم جميعا الصلح على مساكنهم هذه التى تقدم ذكرها وزالت الشحناء، وأما قريش فإنهم ولد مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وقيل: هم ولد فهر بن مالك بن النضر ورجّحه الزبير بن بكار وغيره، وقيل: هم ولد النضر بن كنانة، فعلى قول الزبير [يكون] «4» فهر جماع قريش ومنه افترقت بطون قريش، وإنما قريش جماع نسب ليس بأب ولا أم ولا حاضن ولا حاضنة، والقرش عند العرب التجمع، فمن بطون قريش: الجعافرة، بنو جعفر الطيار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ابن أبى طالب، واسمه عبد مناف بن عبد المطلب واسمه شيبة الحمد، هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. ومن الجعافرة الزيانية أولاد على بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه، عرف بنو على هذا بالزيانية؛ لأن أمه زينب المذكورة، ومن الزيانية العشيرة المعروفة ببنى ثعلب الداوودى الحجازى ابن داود بن موسى بن إبراهيم بن إسماعيل ابن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه، فهم عشيرة نزلت بجرجة من أعمال سيوط يعرفون بطلحة وجعفر فهم علّاق «1» - بفتح العين المهملة وتشديد اللام، وحامد ووديعة وإبراهيم أولاد مسلّم- بضم الميم وفتح السين المهملة وتشديد اللام- ابن عبد الله بن حسين بن ثعلب المذكور. ويقال: فيمن هو في بنى ثعلب الثعلبى الجعفرى الزينبى والجعافرة هو لابد مع بنى طلحة بن عمرو بن عبيد الله بن معمر بن عثمان بن عمر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمى. ويقال لطلحة هذا: طلحة الجود، وتزوج طلحة المذكور فاطمة بنت القاسم بن محمد بن جعفر وإنها زينب بنت على بن أبى طالب رضى الله عنه، فولدت فاطمة بنت القاسم لطلحة الجود إبراهيم بن طلحة، وولدت زينب بنت على بن أبى طالب رضى الله عنه لعلى بن عبد الله بن جعفر أولادا عرفوا بالزيانية، وهم: بنو جعفر الذى بمصر بالصعيد، ومنهم ثعلب، ومن هنا كانت بنو طلحة المذكور يدا مع بنى جعفر وهم بطون منهم بنو طلحة من بنى محمد بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وليس كذلك؛ لأن محمد بن أبى بكر ليس في ولده طلحة، وإنما طلحة في ولد عبد الرحمن بن أبى بكر وأخوه إبراهيم بن طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر المذكور من أمه فاطمة بنت القاسم المذكورة. وفاطمة هذه هى أم يحيى وأمّ أبى بكر ابنى حمزة بن عبد الله بن الزبير بن العوّام رضى الله عنهما، ومن هذه الأخوة كانت بنو طلحة بن عمرو بن عبيد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ابن معمر التيمى مع بنى الزبير ومع الجعافرة أهل الصعيد. إن الجعافرة لا يجمعهم بطنان، هما: بنو عبد الله وبنو محمد، وغلب على بنى محمد اسم بنى إسماعيل، وهو إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر، وفي بنى محمد عدّة بطون هم الخلصيون والصالحيون وبنو على وبنو صالح وبنو قاسم وبنو إدريس وبنو شاكر وبنو عبد الله- بفتح الدال- على كل حال، وبنو شعران وبنو داود وأولاد بريق وبنو والى وبنو زيد وبنو إبراهيم وأولاد الشريف الأمير الكبير حصن الدولة مجد العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن يعقوب بن أبى جميل بن جعفر بن موسى بن إبراهيم بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر وبنو علّاق، وفي بنى عبد الله الحسنات وهم أولاد أحمد بن سعد الدولة بن حسنة بن سلطان ويجمعهم بنو عبد الله غير عبد الله الأول، وبنو إبراهيم وبنو عيسى وبنو أحمد وبنو يوسف وبنو سليمان، وبنو حبيب وبنو إدريس وبنو مقيل وبنو حسين، ويتبع بنى عبد الله هؤلاء من أخلافهم عترة وقرارة وبنو عثمان أحد بطون بنى أميّة وبنو خالد وبنو مسلّمة وبنو منباب وبنو عسكر وبنو ندا. وقيل: إن بنى ندا من بنى جعفر ومن أخلاف بنى محمد أولاد حسين والأنصار ومزينة، وكان لجعفر بن إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر عدة أولاد، هم: إسماعيل وداود ومحمد وعبد الله وموسى وعيسى ويوسف، وكان له سبط «1» اسمه قاسم بن يعقوب بن جعفر. فمن قاسم هذا: بنو إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر، وأما بنو إبراهيم في بنى محمد فإنهم يرجعون إلى إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله ابن جعفر، والخلصيون هم ولد عيسى بن جعفر بن إبراهيم هذا. وأما أولاد الشريف حصن الدولة مجد العرب ثعلب بن يعقوب بن أبى جميل بن جعفر بن موسى بن إبراهيم بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد ابن على بن عبد الله بن جعفر، فإنهم فخر الدين بن إسماعيل ونجم الدين على وحسام الدين عبد الملك وفاس الدين عز العرب، وقطب الدين حسام ونصار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فمن الأمير فخر الدين إسماعيل ابن الأمير الشريف حصن الدين ثعلب: جمال الدين مراد معين الدين محمد وشهاب الدين إبراهيم، والأمير نجم الدين على وشرف الدين أبو جميل وشهاب الدين عبد الله، ومن نجم الدين على ابن حصن الدولة ثعلب: عز الدين قيصر ونصير الدين قسور وتاج الشرف قيس وهمام الدين إبراهيم. ومن حسام الدين عبد الملك ابن حصن الدولة ثعلب: نور الدين حامد وشرف الدين عيسى، ومن فارس الدين عز العرب ابن حصن الدولة ثعلب: سابق الدين مودود وناصر الدين صلاح وعلم الدين عزيز والشجاع كليب والشهاب أحمد والجمال مراد والشرف جزى والفخر إسماعيل وسيف الدين سخطة الذى شنق على باب زويلة في سنة اثنتين وخمسين وستمائة. ومن قطب الدين حسام ابن حصن الدولة ثعلب: شهاب الدين ثعلب وفلك الدين حامد وعماد الدين مسلم وزين الدين يعقوب ومعين الدين محمد وفخر الدين أحمد، وأما نصار ابن حصن الدولة ثعلب فلم يكن له غير ابنة واحدة. ومن مشاهير أولاد جمال الدين من ابن فخر الدين إسماعيل ابن حصن الدولة ثعلب: الشريف شرف الدين عيسى، ومن ولد معين الدين محمد بن الأمير فخر الدين إسماعيل ابن حصن الدولة ثعلب: الشريف تقى الدين جعفر. ومن أولاد الأمير الكبير نجم الدين على ابن الأمير فخر الدين إسماعيل ابن حصن الدولة ثعلب: الأمير حصن الدولة ثعلب أمير الجعافرة ورئيس القوم الذى أنف من سلطنة المماليك الأتراك وثار في سلطنة المعز أيبك التركمانى، وكاتب الملك الناصر يوسف بن العزيز صاحب دمشق، وجمع عربان مصر فخرجت إليه الأتراك وحاربوه فقبض عليه وسجن بالإسكندرية حتى شنقه الظاهر بيبرس وقتل معه جمال الدولة أبو عملاق أحمد ابن علم الدين عبد الله بن الحسين ثعلب بن عبد الله بن محمد بن سليمان بن موسى بن إبراهيم بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن على بن عبد الله بن جعفر، وأبو عملاق هذا من بطن يقال لهم: بنو داود بن يوسف بن جعفر بن إبراهيم، وقيل: إلى داود بن محمد بن جعفر بن إبراهيم، وهم ثلاثة أثلاث: ثلث لجعفر بن سليمان ابن جمال الدولة أبو عملاق، وثلث للفارس همّام الدولة، وثلث لزيّالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وهم ينقسمون أيضا إلى الكبر والصغر، فالكبر أولاد مسلم وأولاد عمود وأولاد سلمة وأولاد الفارس هم أم الدولة، والصغر أولاد جعفر ابن عز الدولة. وفي الجعافرة أولاد عز الدين على وولده، ونصير الدين قتلة ابنه شهاب الدين على. وفيهم أولاد عز العرب وبنو إدريس النعم وبنو صالح بن محمد بن جعفر ابن إبراهيم، وهم أخوال الشريف فخر الدين إسماعيل بن ثعلب، وفيهم بنو طى وبنو زيد وأولاد يوسف بن جعفر بن إبراهيم، وكان الشريف ثعلب صاحب دروة شريام. وكانت مساكن الجعافرة من بحرى منفلوط إلى سملّوط «1» غربا أو شرقا ولهم بلاد أخرى يسيرة، وبجرجة «2» منفلوط قوم من بنى الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، وفي سيوط طائفة من أولاد إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على بن الحسين بن على رضى الله عنهم، يعرفون بأولاد الشريف قاسم، وكانت بلاد الأشراف التى ينزلون بها هم ومواليهم وأتباعهم وأخلافهم من الأشمونين إلى بحرى أتليد، ومعظمهم بالذورة، وكان بالصعيد من قريش بنو طلحة وبنو الزبير وبنو شيبة وبنو مخزوم وبنو أميّة وبنو زهرة وبنو سهم. فأما بنو طلحة فهم ينسبون إلى طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وهم ثلاث فرق: بنو إسحاق، ويقال: إن إسحاق ليس بجدّ، ولكنه موضع تحالفوا عنده سمّوه إسحاق، وبنو قصّة وهم بطون كثيرة مشتتون في البلاد، وبنو محمد من ولد محمد بن أبى بكر رضى الله عنه، ومنازل بنى طلحة هؤلاء بالبرجيين بطحا. وأما العمريون الذين بأرض مصر فإنهم ينسبون إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، وقال الشريف محمد بن أسعد الجوّانى النسابة «3» : وهم يكذبون في ذلك؛ لأن أنسابهم لا تتصل به وقد لقيت منهم جماعة وعرّفتهم كذبهم بطرق علمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وأما بنو الزبير فهم من ولد عبد الله بن الزبير بن العوّام رضى الله عنهما، وهم بنو بدر وبنو مصلح وبنو رمضان، ومنهم بنو مصعب بن الزبير رضى الله عنه ويعرفون بجماعة محمد بن رواق، ومنهم بنو عروة بن الزبير رضى الله عنه، وهم بنو غنى وبلادهم بالبهنسا «1» وما يليها، وصار أكثرهم صاحب معايش وأهل زرع وفلاحة وماشية وضرع. وأما بنو مخزوم فيزعمون أنهم من ولد خالد بن الوليد رضى الله عنه، وقد اتفق علماء الأنساب على انقراض عقب «2» خالد، ولعلهم من بنى مخزوم وهم أكثر قريش بقية، وفيهم بأس ونجدة وبلادهم متاخمة «3» لمن تقدم ذكرهم. وأما بنو شيبة فينتسبون إلى شيبة بن عبد الدار بن قصى ويعرفون بجماعة نهار وديارهم نواحى تسقط، وأما بنو ميّة فمنهم ولد أبان بن عثمان بن عفان رضى الله عنه، وولد خالد بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، وبنو مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وبنو حبيب بن عبد الملك بن مروان وديارهم تندة وما حولها، ومنهم المروانية أولاد مروان بن الحكم، دمّرت الدولة الفاطمية وهم بأماكنهم لم يرّوع لهم سرب ولم يكدّر لهم شرب. وأما بنو سهم فمن ولد عمرو بن العاص «4» رضى الله عنه ابن وائل بن هاشم ابن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك، وكانوا بفسطاط مصر وفرّق منهم أشتات بالصعيد ولهم حصة «5» فى وقف عمرو بن العاص رضى الله عنه على أهله بفسطاط مصر وكان دور بنى سهم حول جامع عمرو بن العاص من الفسطاط «6» إلى أن [اندثرت] «7» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وذكر الزبير بن بكّار أن ولد عطا بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم بمصر وكان بصعيد مصر أولاد الكنز أصلهم من ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وكانوا ينزلون اليمامة «1» وقدموا أرض مصر في خلافة المتوكل على الله أعوام بضع وأربعين ومائتين في عدد كثير، وانتشروا في النواحى ونزل طائفة منهم بأعالى الصعيد وسكنوا بيوت الشّعر في «براريها» الجنوبية وأوديتها، وكانت البجة تشن الغارات على القرى الشرقية في كل وقت حتى أخربوها فقامت ربيعة في منعهم من ذلك حتى كفوهم ثم تزوجوا منهم واستولوا على معدن الذهب بالعلّاقى «2» فكثرت أموالهم واتسعت أحوالهم وصارت لهم مرافق ببلاد البجة، واختطوا قرية تعرف بالنمامش وحفروا بها آبارا وراس «3» عليهم إسحاق بن بشر مدّة ثم خالف عليه بعض أهله وكانت عيذاب لبنى يونس من ربيعة ملكوها عند قدومهم من اليمامة فجرى بينهم وبين بنى بشر حروب انهزموا فيها ومضوا من عيذاب إلى الحجاز، ثم وقعت حروب بين بنى بشر قتل فيها إسحاق فأحضروا إليهم بلبيس «4» ، الشيخ أبا عبد الله محمد بن على بن محمد بن يوسف المعروف بأبى زيد بن إسحاق بن إبراهيم بن مسروق وهو ابن عم إسحاق بن بشر المقتول، ويرجع نسبه إلى مسروق ابن معدى كرب بن الحارث بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن على بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أقصى بن دعمى ابن جديلة بن أسد بن ربيعة الفرس بن نزار بن معد بن عدنان أم حنيفة صفية بنت كاهل بن أسد بن خزيمة، فولد حنيفة: الدول وعديا وعامرا وزيد مناة وحجرا، منهم بنت الحارث بن الدول بن صباح بن عزة بن أسد، فولد الدول بن حنيفة: مرّة وثعلبة وعبد الله وذهلا، أمهم عبلة بنت سدوس بنت شيبان، فولد ثعلبة بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الدول ابن حنيفة: يربوع ومعاوية، فولد يربوع بن الدول ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة: عبيدا، فولد عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة: مسلمة وزيد والحارث. قال الجوانى: وبنو الحارث بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدول فخذ بنى مسروق، هذا ينتسب كنز الدولة حامى أسوان فنزل أسوان وأنشأ مكانه المعروف بساقية شعبان، ولم يزل رئيسا على ربيعة حتى مات فقام برئاستهم بعده ابنه أبو المكارم هبة الله ابن الشيخ أبى عبد الله محمد بن على- يعرف بالأهوج المطاع، وهو الذى ظفر بأبى ركوة الخارج على الحاكم بأمر الله وقبض عليه فأكرمه الحاكم إكراما عظيما ولقّبه كنز الدولة وهو أول من لقب بذلك منهم ولم تزل الإمارة فيهم، وكلهم يعرف بكنز الدولة حتى كان آخرهم كنز الدولة، فقتله الملك العادل أبو بكر بن أيوب في سابع صفر سنة سبعين وخمسمائة عندما خالف على السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وجمع لحربة وقتل أخا أبى الهيجاء السمين ودعى للأمير داود بن العاضد ومحمد فقتله على مدينة طور بعد حروب شديدة. كنانة «1» : هم بنو كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهم بنو الليث وبنو خمرة ابنا بكر بن عبد مناة بن كنانة، وبنو فراس بن غانم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة ولم تمكنهم قريش من التعدية إلى بلادها عند قدومهم من بادية الحجاز إلا بمراسلة بنى إبراهيم بن محمد، وكان مع كنانة جماعة من أخلاط العرب دخلت في لفيفها «2» وبنو الليث منهم سكان ساقية قلته وباقيهم فيما يليها، وبالصعيد أيضا طائفة من الأنصار رضى الله عنهم، والأنصار قبيل «3» عظيم من قبائل الأزد، وقيل لهم: الأنصار من أجل أنهم نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهم الأوس والخزرج ابنا حارثة وبنو العنقاء بن عمرو وهو من بقيا بن عامر وهو ماء السماء ابن حارثة وهو الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، ومنهم بأرض مصر بنو محمد وبنو عكرمة وديارهم بحرى منفلوط، فأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 بنو محمد فمن ولد حسان بن ثابت بن المنذر بن حوام بن عمرو بن زيد مناة بن عدى بن عمر بن مالك بن النجاد بن الوليد الأنصارى رضى الله عنه. وبنو عكرمة ينسبون إلى سيد الأوس سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس ابن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن النبيت وهو عمرو بن مالك بن الأوس الأنصارى الأشهلى أبو عمرو رضى الله عنه. وبأرض مصر بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصيفة بن قيس بن غيلان وهم بنو عوف بن بهثة بن سليم بن منصور، فخذ، وبنو عوف بن يمين بن امرئ القيس بن بهثة، فخذ، وبنو عوف بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة بن بهثة، فخذ، وعوف هؤلاء في بلاد الصعيد وفي الفيوم وفي البحيرة إلى بلاد المغرب منهم أمم لا تحصى كثرة. وبأرض مصر أيضا قرارة «1» وهم بنو قرارة بن ذبيان بضم الذال المعجمة بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس غيلان وسمى فزّارة واسمه عمرو لأن سعد بن ذبيان أخاه فزر «2» ظهره فكانت به فزرة فسمى فزارة. وفي هذا فزارة هذه عدة عشائر كبنى شمخ وظالم ومرّة ومازن وشكم وسعد ولوذان وغير ذلك. وفزارة «3» هذه منها جماعة بالصعيد وجماعة بضواحى القاهرة في قليوب وما حولها وهم عرفت البلد بخراب فزارة. وبأرض مصر أيضا لوانة وهم يزعمون أنهم من قيس ثم من ولد لوا بن بربر بن جابر بن بغيض بن ديث بن غطفان بن سعد بن قيس غيلان، وقيل: بربر بن قيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ابن غيلان، وقيل: بر بن معد عدنان، وزعموا أن معد عدنان تزوج امرأة من بنى إسرائيل فولدت له بر بن معد، ثم عاد معد إلى الحجاز وترك بر عند أمه فخرج عندما كبر إلى أبيه معد فتعلم العربية بالحجاز وكان يعرف العبرانية «1» لغة أمه، فلما مات أبوه معد بن عدنان ترك بر إخوته نزار بن معد وغيره، ومضى نحو المغرب فتزوج هناك وأعقب «2» وهذا قول باطل. وزعم بعضهم أن بر إنما هو من ولد قيدار بن إسماعيل وأنه كان ارتكب ذنبا فطرده أبوه قيدار وقال له: البر البر اذهب يا بر فما أنت بر، فأتى فلسطين فتزوج من العماليق فولدت له لوانة ومزاتة وزنارة وهوارة وزويلة ومغيلة وملطة وكتامة وغمادة ونفوسة، فلما قتل جالوت على يد نبى الله داود عليه السلام دخلوا إلى بلاد المغرب، وهذا القول أيضا لا يصح. وقيل: بل البربر ولد قبط بن قفط بن تبصر بن حام وأن أفريقين بن قيس بن صيفى بن زرعة وهو حمير الأصغر بن سبأ الأصغر افتتح أفريقية فسميت به، وقيل: ملكها جبريل فسميت به حينئذ البرابر برابر؛ وذلك أنه قال لهم: ما أكثر بربرتكم. والذى يشبه الصواب أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح ثم من ولد بر ويقال: بر بن بديان بن كنعان المذكور وأن صوى بن وجيك بن مادغس بن بر ولد له بر مادغس وبرنس، فولد برنس: كتامة وعجيسة ومصمودة واورية وورداجة وأوريغة فولد أوريغ بن برنس بن صرى هوار، وولد مادغس بن صرى: وجيك ضرى ولوى الكبير وهو لوانة ونقوس وداش فتزوج أم داش هكذا أرزيع بن برنس والد هوارة فدخل نسبه في هوارة فولد إداش بن زجيك بن مادغس: واسفاتة واترارة وهتروتة وصنبرة وهزاعة وأوطيطة ونزهنة، فصارت هذه كلها في هوارة، وولد صرى بن زجيك: ذانا وهو أبو زنانة وسمحان ودرسطف، فولد زانا بن زنانة: ورسيج والد يديت وفرينى، فولد فرينى بن زانا بن يحيى بن مرنتا: ورجلة ومنحصة وغالتة، وولد ورسيج بن زانا: مسارت وبنى ناجرة وبنى واسين، وولد ورسطيف بن يحيى: مكناسة وأوكنة ووزنتاج مكنسة وبطالسة وكرنيطة وسورجة، وولد سمحان بن يحيى وزاعة ووزارة، وولد تمريت بن ضرى مطماطة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وصدفورة ولمانة ومذعوة وصدينة ومغيلة ومكزوزة وكشّاتة ودونة ومديونة. وولد لوى: أبو لوانة نقراو ولو الصغير بن لوى الكبير، تركه أبوه حملا فولد نقزاو بن يطوفت: الماضة ومرنيسة وزهيلة وسوعانة وزيم وورجول وورعروس وغسّاسة وورد بن ورسيف، وولد المهاص: دحية تبرغاسن ووريتون، فولد تبرغاسن بن الهاص: ورفجوهم، فولد ورفجوم: وانجن وبعد غش وما ايتجدل وكرطيط ووتمول ورجال وسبيت، وولد لوا بن لوا: عترورة وأكورة، وولد كرطيط: سدرانة، ويقال: مغوارة وهو من زنانة تزوج أم سدرانه وكأن سدرانة أخا أولاد مغوارة لأمهم، وولد كطوف: جلانة ومغاغة، وولد أوريغ بن برنس: هوّارة، وملد وصقر وفلدن، فولد ملد بن أوديغ: مليلة وسطط وروفل أسيل ومسراتة، ويقال لهؤلاء: لهانة مقر بن أوريغ وزمور وكباد ومسراى. وولد فلدن بن أوريغ: قمصاتة وورسطيف ويل وبيانة، ويقال: إن صهناج ولمط إنما هما ابنا امرأة يقال لها: تزكى لا يعرف لها أب تزوجها أوريغ فولدت له: هواد فهم إخوة لأم. ولزنارة بطون عظيمة كبنى برزال وبنى زمر ومغرادة وبنى صبغار ويقال: إن سدرانة ومزانة ولوانة من القبط. وفي لوانة عدة بطون كبنى بلال وبنى مجدول وبنى حديدى وقطوفة وبركين ومالوا ومزورة. فأما بنى حديدى فإنهم مجمع أولاد قريش وأولاد زعازع وهم أشهر من في الصعيد، وأما قطوفة فإنها تجمع مغاغة وواهلة، وأما بركين فإنها تجمع بنى زيد وبنى روحين، وأما مزورة فإنها تجمع بين ولكان وبين عرواس، وأما بنو بلال ففرقتان: فرقة بالساوية وفرقة بالجزيرة، فالتى بالبهنسا بنو محمد وبنو على وبنو نزار ونصف بنى شهلان، والتى بالجيزية بنو مجدول وسقارة وبنو أبى كثير وبنو الجلاس، ونصف بنى شهلان لهذه الفرقة التى تنزل الجيزة «1» حدو خاص، والفرقة التى تنزل البهنساوية البلارية ومنهم مغاغة ولهم سملوط إلى الساقية ولبنى بركين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قلوسنا، وما معها إلى بحرى طنبدا، ولبنى حدو خاص الكفور وسفط «1» وجرجة «2» وأهريت «3» وبنو مجد وبنو على أمراء وهم بنى زعازع ومزورة، فيهم بنو وركان وبنو فغراس وبنو حمان وبنو الحكم وبنو الوليد وبنو الحجاج وبنو المحرينة. ويقال: إن بنى الحجاج من بنى خماس؛ ولهذا كانوا يودون معهم القطائع وبنو نزار في إمارة بنى زعازع وهم من بنى ندية ومنهم نصف بنى عامر والحماسنة والضباعنة، وأفرد قوم منهم الإمارة تاج الملك عزيز بن ضبعان ثم ولده، ومنهم بنو زيد وأمراؤهم أولاد قريش ومساكنهم نويرة دلاص وكان قريش عبدا صالحا كثير الصدقة وهو والد سعد الملك. وفي المنوفية «4» من لوانة بن يحيى والوسوة وعبدة ومصلحة، وبنو مختار ومعهم في البلاد أحلاف من مزاتة وزنارة وهوارة وبنى الشعرية في أقوام آخرين ومن زنارة مزديش وبنو صالح وبنو مسام وزمران وورديغة وعرمان ولقان ومن هوارة بنو محريش وبنو سرات، وبنو قطران وبنو كبريت، وهوارة يقال: إنهم من هوّار واسمه المثنى فيقال: هوار بن المثنى، ويقال: ابن المثنى بن نمحصب وقيل: المثنى بن المسور بن المثنى بن خلاع بن أيمن بن دعين بن سعد بن حمير الأصغر بن سبأ الأصغر وأنه خرج المسور بن المثنى من مصر في طلب إبل قد فقدها فذهبت نحو المغرب وهو في أثرها، فإنه كان من أجناد مصر الذين أسكنهم التبابعة بها، لما طوفوا الأرض، فلما دخل أفريقية فقال: تهورنا، والتهوّر: الحمق، فنزل على قوم من رتانة فتزوج العرجاء أم صنهاج ولمط ابنى الأكبر، وقد مات زوجها فمات عنها وكانت جميلة فكثر نسله فهم الهواريون. وقيل: هوارة وكتامة وصنهاجة إخوة وهم أولاد قيس بن ذرعة بن ذهير بن أيمن بن همشيع بن حمير الأكبر بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 بل هوارة وصنهاجة وكنانة ودنهاج وثلكان وتركوت وسيساج وعجيس من أولاد كان ابن صالوت أحد بنى شكلرجيم بن مصريم بن حام بن نوح عليه السلام. وقيل: هوارة من ولد قبط من قوط بن حام بن نوح عليه السلام، ويقال: جالوت بن بربر بن قبط بن مصر بن قوط، ويقال: إن مصر هو ابن يبصر بن حام بن نوح عليه السلام وأن تركوت هى ابنة أحد أولاد يمن وأن بعلها كان يعرف بكاهن بن جالوت وأنه أبو البربر، وأن من ولد تركوت هذه إبراهيم جد على بن يوسف بن تاشفين بن إبراهيم ملك الملثمين، ومن ولد تركوت أيضا ملوك كزولة الجبل المعروف بجبل الكسّة وهم يزيدون على ثلاثمائة قبيلة، كل قبيلة ثلاثون ألف نسمة، ومنهم انسكات ومصلات واريش وبنو طريف وبنو جابر وبنو وعردة ومستوكة وارغتان. وقيل: إن ولد صهناج يلرن وهم الملثمون وتزكيك ومسرفة ومسطوفة وهم صنّاع در اللمط وملتة بنت صنهاج، وعرفوا بأمهم، ومنير وجزوم وهوارة يزعمون أنهم من البربر «1» وأن مزّاتة ولوانة كانوا منهم فانقطعوا عنهم وفارقوا ديارهم وصاروا إلى برقة وغيرها، وتزعم هوارة أيضا أنها من قوم من أهل اليمن جهلوا أنسابهم وكل هذه الأقوال لا تثبت [أى شىء] «2» بالصواب أنهم من ولد هوّار بن أوريغ بن برنس بن صرى بن وجيك بن مادغش بن برّ بن بديان بن كنعان بن حام ابن نوح عليه السلام كما تقدم. وهوّارة تتناسب بطونها كما تنتسب العرب وأصل ديارها من آخر عمل سوت إلى طرابلس ثم قدم منهم طوائف إلى أرض مصر وتركوا بلاد البحيرة وملكوها من قبل السلطان هوارة التى ببلاد الصعيد، أنزلهم الظاهر برقوق بعد واقعة بدر بن سلام هناك في سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة تخمينا؛ وذلك أنه أقطع إسماعيل بن مازن منهم ناحية جرجا وكانت خرابا فعمرها وأقام بها حتى قتله على بن غريب فولى بعده عمر بن عبد العزيز الهوارى حتى مات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 فولى بعده ابنه محمد المعروف بأبى الشون، وفخم أمره وكثرت أمواله، فإنه أكثر من زراعة النواحى وإقامة دواليب السكر واعتصاره حتى مات، فولى بعده أخوه يوسف بن عمر ثم لخم. واسم لخم مالك بن عدى بن الحارث ابن مرّة بن أدد بن زيد بن كملان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وفي لخم بطون كثيرة منها بالبر الشرقى من أرض مصر بنو سماك، وهم بنو مزو وبنو مليح وبنو يتهان وبنو عبس وبنو كريم وبنو بكر وديارهم من طارف ببا «1» إلى منحدر دير الجميزة في البر الشرقى، ومنهم بنو حدان وهم بنو محمد وبنو على وبنو سالم وبنو مدلج وبنو رعيس وديارهم من دير الجميزة إلى ترعة صون، ومنهم بنو راشد وهم بنو معمر وبنو واصل وبنو مرا وبنو حيّان وبنو معاذ وبنو النيص وبنو حجرة وبنو شتوة، وديارهم من مسجد موسى إلى أشكو ونصف بلاد إتفيح «2» ولبنى النيص الحى الصغير، ولبنى أشتوه من ترعة شريف إلى معصرة بوش «3» . ومنهم بنو جعد وهم بنو مسعود وبنو حرير وبنو زبير وبنو ثمال وبنو نصّار وسكنهم ساحل إتفيح. ومنهم بنو عدى وهم بنو موسى وبنو محرب ومساكنهم تلى بنى جعد، ومنهم بنو بحر وهم بنو سهل وبنو معطار وبنو فهم وبنو عشير وبنو مسند وبنو سباع ومسكنهم الحى الكبير، ومنهم قسيس «4» ، وسكنهم بلاد أشكر، ولبنى غنم منهم العدوية ودير الطين «5» إلى جسر مصر، ولبنى عمر ومنهم نصف حلوان، ولبنى حجرة النصف الآخر من حلوان ونصف طرا بالبحيرة والغربية طوائف من مزّاتة وبقليوب طوائف من قرارة ومنهم بنو نقاية وفيهم أعيان، ودارهم أطراف الشرقية وبالمنوفية فرقة من لوانة من مزانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ومن زنارة ومن هوارة كما تقدم وبقطب الأخارسة وبنو بياضة، وهم من ثعلبة ومنهم بنو صدر بالبدرية وهى طريق البر من الشام إلى مصر وإليهم تنسب قلعة صدر، وفي الطينة- وهي طينة تنيس عرب كانوا بعمل تنيس يقال لهم: بنو عذر- بضم العين المهملة وفتح الذال العجمة- وبنو عذر بن سعد بن دافع بن مالك بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان وهؤلاء النفر الذين بالطينة قوم لا خلاق لهم ولا ذمام. وبأرض مصر حرام وحرام في جزام وفيهم أفخاذ وعشائر، وقليل في عرب مصر من يعرفها، ومنهم بنو صبرة بن غطفان بن سعد بن إياس بن حرام بن جذام والى بنى صبرة درك بركة الحاج وفي الخزرج ثم في سلمة بنو حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن على بن أسد بن شاددة بن يزيد بن جشم بن الخزرج، منهم جابر بن عبد الله الأنصارى رضى الله عنهما، ويقال: إن حرام القاطنة بمصر من الخزرج وهم بنو حية وبنو ذبيان وهم أشتات، فيهم مشايخ بلاد وخولة وقضاة وفقهاء، وليست دار خاصة ولا مكان معروف. وفي الدقهلية والمرتاحية عرب يدعون الحمارسة وقوم ينسبون إلى قريش وهم نفر من بنى عذرة وهم من كنانة بن عذرة لا كنانة بن خزيمة، وهم بنو كنانة بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن نؤر بن كلب بن دبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وفيهم بنو شهاب وبنو زيدة والرواشدة «1» وهم غير رواشدة هلبا سويد وبنو عصا وبنو محمد وبنو سنان وبنو حمرة وبنو فراس وهم بمنية محمود ومنية عدلان، وبنو لام وليسوا بلام الحجاز وبنو شمش والفضليون وقرارتهم كوم الثعالب وبها طوائف من عمرو وزهير المقدم ذكرهم، والحصينين ورذالة الأحامدة وليسوا أبا حامدة هلبا والجمازية وهم بنو جماز وبعضهم أصحاب أقطاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وفي بنى زهير هؤلاء بنو عربز وبن سبيب وبنو عبد الرحمن وبنو مالك وبنو عبيد غير بنى عبيد المقدم ذكرهم، وبنو عبد القوى وبنو شاكر وهم غير شاكر عقبة وبنو حسن وبنو شما، وهم غير شما آل ربيعة، وبنو سليم وهم مرقيس وهم ولد سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس غيلان وإليه يرجع كل سلمى. وكان نزول سليم وعدة قبائل من قيس في أرض مصر سنة تسع ومائة وأمير مصر إذ ذاك الوليد بن رفاعة بن خالد بن ثابت بن طاعن الفهمى، ولم يكن بأرض مصر أحد من قيس قبل ذلك إلا من كان منهم عدوان فإنهما من قيس في جديلة وهما ابنا عمرو بن قيس غيلان اسما جديلة بنت مراخت تميم بن مرة، وفهم هذا قتله أخوه عدوان واسمه الحارث، فسمى عدوانا؛ لأنه عدا على أخيه منهم فوفد عبيد الله الجنحاب بن مولى بن سلول عامل هشام بن عبد الملك على خراج مصر على هشام، فسأله أن ينقل إليها من قيس أبياتا فأذن له هشام في إلحاق ثلاثة آلاف منهم وتحويل ديوانهم على مصر على أن لا ينزلوا بالفسطاط ففرض لهم أبن الجنحاب وقدم بهم فأنزلهم الحوف الشرقى وفرّقهم فيه، وعن الهيثم بن عدى قال: حدثنى غير واحد أن عبيد الله بن الجنحاب لما ولاه هشام مصر، قال: ما لدى قيس فيها حظ إلا لناس من جديلة، وهم فهم وعدوان، فكتب إلى هشام أن أمير المؤمنين- أطال الله بقاه- قد شرف هذا الحى من قيس ونعشهم ورفع من ذكرهم وإنى قدمت مصر فلم أر لهم فيها حظا إلا أبياتا من فهم وفيها كور ليس فيها أحد وليس يضر بأهلها نزولهم معهم، ولا يكثر ذلك خراجا وهى بلبيس، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينزلهما هذا الحى من قيس فليفعل، فكتب إليه هشام أنت ورأيك. فبعث إلى البادية فقدم عليه مائة أهل بيت من بنى نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ومائة أهل بيت من بنى عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس غيلان بن مضر البطن المشهورة التى منها بنو كلاب وجعدة وعقيل وقشير والبكا وعجلان وعبد الله وربيعة وسواة وهلال ونمير ومائة أهل بيت من هوازن بن منصور «1» بن عكرمة بن حفصة بن قيس غيلان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 فأنزلهم ببلبيس وأمرهم بالزرع ونظر إلى الصدقة من العشور «1» فصرفها إليهم فاشتروا إبلا فكانوا يحملون الطعام إلى القلزم فكان الرجل يصيب في الشهر العشرة دنانير وأكثر ثم أمرهم بشراء الخيول فجعل الذى يشترى المهر لا يمكث إلا شهرا حتى يركب وليس عليهم مؤنة في أعلاف إبلهم ولا خيلهم لجودة مرعاهم، فلما بلغ ذلك عامّة قومهم تحمل إليهم خمسمائة أهل بيت من البادية فكانوا على مثل ذلك فأقاموا سنة فأتاهم نحو من خمسمائة بيت من البادية فكانوا على مثل ذلك، وبلبيس ألف وخمسمائة أهل بيت من قيس، حتى إذا كان في زمن مروان ابن محمد وولى الحوثرة بن سهيل الباهلى مصر، أشالت إليه قيس فمات مروان وبها ثلاثة آلاف أهل بيت ثم توالدوا، وقدم عليهم من البادية من قدم، فأحصوا في ولاية محمد بن سعيد فوجدوا خمسمائة ألف ومائتين ما بين صغير وكبير. وفي هذه القبيلة قبيلة سليم بطون وأفخاذ وعشائر كبنى ذكوان وهلال وعوف والحرث ورفاعة وعصبة وظفر وعميرة وبهز وغيرهم، ومساكن سليم هذه ببرقة مما يلى مصر، وكانت في غالبة نجد بالقرب من خيبر ومنها حرة بن سليم وحرة النار بين وادى القرى وبنها ثم تحولوا إلى مصر وأفريقية ولم يبق لهم عدد ولا بقية في بلادهم وصار لهم بأفريقية عدد عظيم، فمنهم بها بنو الشريد لهم صولة وشوكة، وبنو زغب بن مالك بن بهتة كانوا بين الحرمين فصاروا إلى أفريقية في جوار إخوانهم بنى رباب بن مالك ثم صاروا في جوار بنى كعب، ومن سليم: بنو رباب من مالك ينزلون ما بين قابس وبرقة وهم ببرقة بجوار هيب، ومنهم بنو سليمان بن ذياب في جبهة فزان وودان وروساد- باب الآن ما بين طرابلس وقابس، وبينهم بنو صابر والمحامد بنواحى قابس وبينهم في بنى رجاب بن محمود، ومن سليم بن عوف بن بهثة أخوة عوف بن بهمه ما بين السدرة من برقة إلى حدود إسكندرية، وبنو أحمد منهم، منهم باجد أبيه لهم عدد ويرجعون إلى شماخ ولها العز في هيب، ومن هيب: سيال ومحارب ورياستهما في بنى عزاز ولهيب في سليم عزة لاستيلائهما على أقليم طويل خرّبت مدته وصارت ولايته لأشياخهم ونحت أيديهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 خلق من البر، وفيهم الأبطال والأنجاب والإمرة فيهم وفي أولاد عزاز بن مقدام، وكان فريد بن عزاز جليل القدر معظّما في الدولة، وبنو زايد وحمدان وزيّان كلهم كرام. أما أبو خالد عطا الله بن عمر بن عزاز كان كريما مطاعا في قومه وبنوه معز وعمر. ومنهم علوى بن إبراهيم بن عزاز وسلطان بن زيان بن عزاز وعمر بن مشعل بن عزاز وجماعة بن مليح المنصورى أصحاب غازى بن يحج، وعليان بن عويف وبلبوش وكان قد هرب من السلطان الملك الظاهر فاتخذ جيشا وراءه فقاتلوه وأخذوه أسيرا فاعتقله مرّة ثم أفرج عنه، وهو والد زيد بن بلبوش. ومنهم جماعة سعيد بن العريب بن الأحمر وجماعة محمد الهوارى وكانت الإمرة على عربان البحيرة في أيام الناصر محمد بن قلاوون فيهم وهى لقايد بن مقدم وخالد بن أبى سليمان وكانا أميرين سيدين ذوى كرم وأمن وشجاعة. وفيما بين الإسكندرية والعقبة الكبرى جماعة فايد وزنارة ومزاتة وخفاجة وهوازة وسماك ولبيد جماعة سلام وفزارة ومحارب وقضاب والزعافته وبشر والجواشنة والبعاجنة والقبايص وأولاد سليمان والقصاص والعلاونة ومنازلهم من العقبة الكبرى إلى سوسة ثم جماعة جعفر بن عمر وهم المثانية والياسة وعرعره والعظمة والعكمة والمزايل والمغزة، ومن المعزة الجعافرة جماعة جعفر بن عمر، ومنهم البدادى أيضا ومنهم السهاونة والجلدة وأولاد أحمد ومنازلهم من سوسة إلى بئر السدرة وهى آخر حدود ديار مصر ومسافتها من الإسكندرية نحو شهر بسير القوافل. وأما طريق مكة- شرّفها الله تعالى- فإن من القاهرة إلى عقبة أيلة للعائد ومن العقبة إلى داما بالقرب من عينونة لبنى عقبة، ومن داما إلى أكدى ليلى، ومن أكدى إلى ثما وهى آخر الوعرات الجهنية. ومن تما إلى نهاية بدر على الفرعا إلى نهاية الصفرا على نقب لبنى حسن أصحاب بدر إلى رملة عالج في طرف قاع البزوة، ومن الصغرى إلى الجحفة ورابغ لزبيد الحجاز. ومن الجحفة على قديد وما حولها إلى عقبة السويق لسليم، ومن عقبة السويق إلى خلص إلى عسفان للرشيف حسار من بنى حسن، ومن ثنية عسفان إلى المخاطب لبنى جابر وهم في طاعة صاحب مكة، ومن المخاطب لصاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 مكة وبنى حسن في برقة أحياء من بنى جعفر. وكان شيخهم أبو ذويب وأخوة حامد بن كميل وهم ينسبون إلى العرب فتارة فى بنى كعب بن سليم وتارة في فزارة، والصحيح أنهم من مسراتة إحدى بطون هوارة. وفيما بين برقة والعقبة أولاد سلام، وما بين العقبة الكبيرة والإسكندرية أولاد مقدم وهم بطنان: أولاد التركية وأولاد فايد مقدم وسلام معا، وهم ينسبون إلى لبيد بن على بن هبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وهم ثلاثة إخوة: لبيد وحديد وزبيد بنو على بن هبة بن جعفر، ومن حديد: محارب، وبقال وأولاد مقدم من ربيعة بن نزار، وقيل: لبيد بن سليم، وفيهم هيب ورواحة وفزارة وهؤلاء يقال: إنهم من غطفان، والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. قال مؤلفه: حرره جهد الطاقة مؤلفه وجامعه أحمد بن على المقريزى الشافعى فى ذى القعدة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة. والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبى بعده وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 النقود القديمة الإسلامية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين وبعد: فقد تمكنا من تحرير رسالة لطيفة في أمر النقود الإسلامية وأسأل الله التوفيق بمنه وكرمه آمين. فصل في النقود ذكر أبو بكر بن أبى شيبة في مصنفه عن كعب أن أول من ضرب الدينار والدرهم آدم عليه السلام وقال: لا تصلح المعيشة إلا بهما. اعلم أن النقود التى كانت للناس على وجه الدهر، على نوعين: السود الوافية والطبرية والعتق، وهما ما كان البشر يتعاملون به. فالوافية هى البغلية «1» وهى دراهم فارس- الدرهم وزنه زنة المثقال الذهب، والدراهم الجواز تنقص في العشرة ثلاثة فكل سبعة بغلية، عشرة بالجواز «2» ، وكان لهم أيضا دراهم تسمى جوراقية «3» ، وكانت نقود العرب في الجاهلية التى تدور بينها: الذهب والفضة لا غير، ترد إليها من المماليك، ودنانير الذهب قيصرية «4» من قبل الروم. ودراهم «5» الفضة على نوعين ............... ............... ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 سود وافية «1» وطبرية «2» عتق، وكان وزن الدراهم والدنانير في الجاهلية مثل وزنها فى الإسلام مرتين: ويسمى المثقال من الفضة درهما ومن الذهب دينارا «3» . ولم يكن شىء من ذلك يتعامل به أهل مكة في الجاهلية، وكانوا يتبايعون بأوزان، اصطلحوا عليها فيما بينهم، وهو الرطل الذى هو اثنتا عشرة أوقية، والأوقية هى أربعون درهما فيكون الرطل «4» ثمانين وأربعمائة درهم. والنص، وهو نصف الأوقية حوّلت صاده شينا فقيل: «نشّ» «5» وهو عشرون درهما والنواة «6» وهي خمسة دراهم، والدرهم الطبرى ثمانية دوانيق، والدرهم البغلى أربعة دوانيق، وقيل العكس، والدرهم الجوراقى أربعة دوانيق ونصف والدانق ثمانى حبات وخمسا حبة من حبات الشعير المتوسطة التى لم تقشر، وقد قطع من طرفيها ما امتد. وكان الدينار يسمى لوزنه دينارا وإنما هو تبر «7» ، ويسمى الدرهم لوزنه درهما، وإنما هو تبر، وكانت زنة كل عشرة دراهم ستة مثاقيل. والمثقال زنة اثنين وعشرين قيراطا «8» إلا حبّة «9» وهو أيضا بزنة اثنتين وسبعين حبة شعير، مما تقدم ذكره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وقيل: إن المثقال منذ وضع لم يختلف في جاهلية ولا إسلام، ويقال: إن الذى اخترع الوزن في الدهر الأول، بدأه بوضع المثقال أولا فجعله ستين حبة، زنة الحبة مائة من حب الخردل البرى المعتدل، ثم ضرب صنجة «1» بزنة مائة من حب الخردل، وجعل بوزنها مع المائة الحبة صنجة ثالثة، حتى بلغ مجموع الصنج خمس صنجات، فكانت صنجته نصف سدس مثقال ثم أضعف وزنها حتى صارت ثلث مثقال فركب منها نصف مثقال، ثم مثقالا وعشرة وفوق ذلك، فعلى هذا تكون زنة المثقال الواحد ستة آلاف حبة. ولما بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلّم أقرّ أهل مكة على ذلك كله وقال: «الميزان ميزان أهل مكة» وفي رواية «ميزان المدينة» وقد ذكرت طرق هذا الحديث والكلام عليه في مجاميعى. وفرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم زكاة الأموال، فجعل في كل خمس أواق من الفضة الخالصة التى لم تغشّ خمسة دراهم وهى النواة، وفرض في كل عشرين دينارا نصف دينار، كما هو معروف في مظنّته من كتب الحديث. النقود الإسلامية قد تقدم ما فرضه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في نقود الجاهلية من الزكاة وأنه أقر النقود فى الإسلام على ما كانت عليه، فلما استخلف أبو بكر الصديق رضى الله عنه، عمل في ذلك بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يغيّر منه شىء، حتى إذا استخلف أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وفتح الله على يديه مصر والشام والعراق لم يعترض لشىء من النقود بل أقرها على حالها. فلما كانت سنة ثمانى عشرة من الهجرة وهى السنة الثامنة من خلافته أتته الوفود، منهم: وفد البصرة، وفيهم الأحنف بن قيس، فكلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه في مصالح أهل البصرة، فبعث معقل بن يسار فاحتقر «نهر معقل» الذى قيل فيه: «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 ووضع الجريب «1» والدرهمين في الشهر، فضرب حينئذ عمر رضى الله عنه، الدراهم على نقش الكسروية «2» وشكلها بأعيانها غير أنه زاد في بعضها «الحمد لله» وفي بعضها «محمّد رسول الله» ، وفي بعضها «لا إله إلا الله وحده» وفي آخر مدة عمر وزن كل عشرة دراهم ستة مثاقيل، فلما بويع أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه ضرب في خلافته دراهم نقشها «الله أكبر» . فلما اجتمع الأمر لمعاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه، وجمع لزياد بن أبيه الكوفة والبصرة، قال: «يا أمير المؤمنين إن العبد الصالح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه صغّر الدرهم وكبّر القفيز «3» ، وصارت تؤخذ عليه ضريبة أرزاق الجند وترزق عليه الذرّية طلبا للإحسان إلى الرعية، فلو جعلت أنت عيارا دون ذلك العيار، ازدادت الرعية به مرفقا ومضت لك السنة الصالحة. فضرب معاوية رضى الله عنه تلك الدراهم السود الناقصة من ستة دوانيق فتكون خمسة عشر قيراطا تنقص حبّة أو حبتين وضرب منها زياد، وجعل وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، وكتب عليها فكانت تجرى مجرى الدراهم. وضرب معاوية أيضا دنانير عليها تمثال متقلدا سيفا، فوقع منها دينار ردىء في يد شيخ من الجند فجاء به إلى معاوية، وقال: يا معاوية، أنا وجدت ضربك شر ضرب، فقال له معاوية: لأحرمنّك عطاءك، ولأكسونّك القطيفة. فلما قام عبد الله بن الزبير- رضى الله عنه- بمكة ضرب دراهم مدوّرة، وكان أول من ضرب الدراهم المستديرة، وكان ما ضرب منها قبل ذلك ممسوحا غليظا قصيرا، فدورها عبد الله، ونقش على أحد وجهى الدراهم «محمد رسول الله» وعلى الآخر «أمر الله بالوفاء والعدل» . وضرب أخوه مصعب بن الزبير دراهم بالعراق، وجعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل، وأعطاها الناس في العطاء حتى قدم الحجاج بن يوسف العراق، من قبل أمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 المؤمنين عبد الله بن مروان، فقال: «ما تبقى من سنة الفاسق أو المنافق شيئا» فغيرها. فلما استوثق الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل عبد الله ومصعب ابنى الزبير فحص عن النقود والأوزان والمكاييل، وضرب الدنانير والدراهم في سنة ست وسبعين من الهجرة فجعل وزن الدينار اثنين وعشرين قيراطا إلا حبة بالشامى، وجعل وزن الدرهم خمسة عشر قيراطا سوى، والقيراط أربع حبات، وكل دانق قيراطين ونصفا. وكتب إلى الحجاج وهو بالعراق أن اضربها قبلى، فضربها وقدمت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبها بقايا الصحابة رضى الله عنهم أجمعين، فلم ينكروا منها سوى نقشها، فإن فيها صورة، وكان سعيد بن المسيب- رحمه الله- يبيع بها ويشترى ولا يعيب من أمرها شيئا. وجعل عبد الملك الذهب الذى ضربه دنانير، على المثقال الشامى وهى الميالة الوازنة المائة دينارين، وكان سبب ضرب عبد الملك الدنانير والدراهم كذلك أن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان قال له: يا أمير المؤمنين، إن العلماء من أهل الكتاب الأول يذكرون أنهم يجدون في كتبهم أن أطول الخلفاء عمرا من قدس الله تعالى في درهمه، فعزم على ذلك ووضع السكة الإسلامية. وقيل: إن عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى ملك الروم: قل هو الله أحد، وذكر النبى صلى الله عليه وسلّم في ذكر التاريخ، فأنكر ملك الروم ذلك، وقال: إن لم تتركوا هذا وإلا ذكرنا نبيكم في دنانيرنا بما تكرهون، فعظم ذلك على عبد الملك واستشار الناس، فأشار عليه يزيد بن خالد بضرب السكة وترك دنانيرهم. وكان الذى ضرب الدراهم رجل يهودى من تيماء: يقال له سمير نسبت الدراهم إذ ذاك إليه، وقيل لها: الدراهم السميرية «1» . وبعث عبد الملك بالسكّة «2» إلى الحجاج فسيّرها الحجاج إلى الآفاق لتضرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الدراهم بها، وتقدم إلى الأمصار كلها أن يكتب إليه منها في كل شهر بما يجتمع قبلهم من المال كى يحصيه عندهم وأن تضرب الدراهم في الآفاق على السكة الإسلامية، وتحمل إليه، أولا فأولا، وقدّر في كل مائة درهم درهما عن ثمن الحطب وأجر الضرّاب، ونقش على أحد وجهى الدرهم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وعلى الآخر: «لا إله إلا الله» ، وطوّق الدرهم على وجهيه بطوق وكتب في الطوق الواحد «ضرب هذا الدرهم بمدينة كذا» وفي الطوق الآخر «محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون» ، وقيل: الذى نقش فيها: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ هو الحجاج. وكان الذى دعا عبد الملك إلى ذلك، أنه نظر للأمة، وقال: هذه الدراهم السود، الوافية الطبرية، العتق، تبقى مع الدهر. وقد جاء في الزكاة أن في كل مائتين، وفي كل خمس أوراق خمسة دراهم، واتفق أن يجعلها كلها على مثال السود العظام مائتى عدد يكون قد نقص من الزكاة، وإن عملها كلها على مثال الطبرية، ويحمل المعنى على أنها إذا بلغت مائتى عدد وجبت الزكاة فيها، فإن فيه حيفا «1» وشططا، على أرباب الأموال فاتخذ منزلة بين منزلتين، يجمع فيها كمال الزكاة من غير بخس ولا إضرار بالناس مع موافقة ما سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده من ذلك. وكان الناس قبل عبد الملك يؤدون زكاة أموالهم شطرين، من الكبار والصغار، فلما اجتمعوا مع عبد الملك على ما عزم عليه، عهد إلى درهم واف فوزنه فإذا هو ثمانية دوانيق، وإلى درهم من الصغار فإذا هو أربعة دوانيق، فجمعهما وكمّل وزن الأكبر على نقص الأصغر وجعلهما درهمين متساويين زنة كل منهما ستة دوانيق سوى. واعتبر المثقال أيضا فإذا هو لم يبرح فى آباد «2» الدهر، موفى محدودا، كل عشرة دراهم منها ستة دوانيق فإنها سبعة مثاقيل سوى، فأقرّ ذلك وأمضاه من غير أن يعرض لتغييره، فكان فيما صنع عبد الملك في الدراهم ثلاث فضائل: الأولى: أن كل سبعة مثاقيل زنة عشرة دراهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 والثانية: أنه عدّل صغارها وكبارها حتى اعتدلت وصار الدرهم ستة دوانيق. الثالثة: أنه موافق لما سنّه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في فريضة الزكاة بغير وكس «1» ولا اشتطاط، قضت بذلك السنة واجتمعت عليهما الأمة. وضبط هذا الدرهم الشرعى المجمع عليه أنه كما مرّ زنة العشرة منه سبعة مثاقيل، وزنة الدرهم الواحد خمسون حبة وخمسا، حبة من الشعير الذى تقدم ذكره آنفا. ومن هذا الدرهم تركب الرّطل «2» والقدح «3» والصاع «4» وما فوقه، ولنلمع بذلك من طرف مما ذكرته في كتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» عند ذكر دار العيار، فأقول: إنما جعلت العشرة من الدراهم الفضية بوزن سبعة مثاقيل من الذهب؛ لأن الذهب أوزن من الفضة وأثقل وزنا، فأخذت حبة فضة وحبّة ذهب ووزنتا فرجحت حبة الذهب على حبة الفضة ثلاثة أسباع، فجعل من أجل ذلك كل عشرة دراهم زنة سبعة مثاقيل، فإن ثلاثة أسباع الدرهم إذا أضيفت عليه بلغت مثقالا، والمثقال إذا نقص منه ثلاثة أعشار بقى درهما وكل عشرة مثاقيل تزن أربعة عشر درهما، وسبعى درهم. فلما ركّب الرطل، جعل الدرهم من ستين حبة، لكن كل عشرة دراهم تعدل زنة سبعة مثاقيل، فتكون زنة الحبة سبعين حبة من حب الخردل، ومن ذلك تركب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الدرهم فركب الرطل ومن الرطل تركب المد، ومن المد تركب الصاع وما فوقه، وفي ذلك طرق حسابية مبرهنة بأشكال هندسية ليس هذا موضع إيرادها. وكان مما ضرب الحجاج الدراهم البيض ونقش عليها «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فقال القرّاء: قاتل الله الحجاج، أى شىء صنع للناس!! الآن يأخذ الدرهم الجنب والحائض. وكانت الدراهم قبل منقوشة بالفارسية، فكره ناس من القراء مسّها وهم على غير طهارة وقيل لها: المكروهة، فعرفت بذلك. ووقع في المدينة أن مالكا- رحمه الله- سئل عن تغيير كتابة الدنانير والدراهم لما فيها من كتاب الله عز وجل. فقال: أول ما ضربت على عهد عبد الملك بن مروان، والناس متوافرون، فما أنكر أحد ذلك وما رأيت أهل العلم أنكروه، ولقد بلغنى أن ابن سيرين كان يكره أن يبيع بها ويشترى، ولم أر أحدا من ذلك ههنا، يعنى- رحمه الله تعالى- أهل المدينة النبوية. وقيل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: «هذه الدراهم البيض، فيها كتاب الله تعالى، يقبلها اليهودى والنصرانى والجنب والحائض، فإن رأيت أن تأمر بمحوها فقال: أردت أن تحتج علينا الأمم أن غيّرنا توحيد ربنا واسم نبينا صلى الله عليه وسلّم. مات عبد الملك والأمر على ما تقدم، فلم يزل من بعده في خلافة الوليد ثم سليمان بن عبد الملك ثم عمر بن عبد العزيز إلى أن استخلف يزيد بن عبد الملك فضرب الهبيريّة «1» بالعراق عمر بن هبيرة على عيار ستة دوانيق، فلما قام هشام بن عبد الملك وكان جموعا للمال، أمر خالد بن عبد الله القسرى في سنة ست ومائة من الهجرة أن يعيد العيار إلى وزن سبعة، وأن يبطل السكك من كل بلدة، إلا واسطا «2» فضرب الدراهم بواسط فقط، وكبّر السكة فضربت الدراهم على السكة الخالدية حتى عزل خالد في سنة عشرين ومائة، وتولى من بعده يوسف بن عمر الثقفى، فصغّر السّكة وأجراها على وزن ستة وضربها بواسط وحدها حتى قتل الوليد بن يزيد في سنة ست وعشرين ومائة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فلما استخلف مروان بن محمد الجعدى، آخر خلائف بنى أمية، ضرب الدراهم بالجزيرة على السكة بحرّان إلى أن قتل. وأتت دولة بنى العباس، فضرب عبد الله بن محمد السفاح الدراهم بالأنبار «1» ، وعملها على نقش الدنانير، وكتب عليها السكة العباسية، وقطع منها ونقصها حبّة ثم نقصها حبتين. فلما قام من بعده أبو جعفر المنصور نقصها ثلاث حبات، فصارت تلك الدراهم ثلاثة أرباع قيراط؛ لأن القيراط أربع حبات، فكانت الدراهم كذلك، وحدثت الهاشمية على المثاقيل البصرى فكان يقطع على المثاقيل الميالة الوازنة التامة فأقامت الهاشمية على المثاقيل والعتق على نقصان ثلاثة أرباع قيراط مدة أيام أبى جعفر وإلى سنة ثمان وخمسين ومائة. فضرب المهدى محمد بن جعفر فيها سكّة مدوّرة فيها نقطه، ولم يكن لموسى الهادى بن محمد سكّة تعرف، وتمادى الأمر على ذلك إلى شهر رجب من سنة ثمان وسبعين ومائة، فصار نقصانها قيراطا غير ربع حبة، فلما صيّر هارون الرشيد السكك إلى جعفر بن يحيى البرمكى، كتب اسمه بمدينة السلام «2» وبالمحمدية «3» من الرى على الدنانير والدراهم وصير نقصان الدرهم قيراطا إلا حبة. وضرب الأمين دنانير ودراهم وأسقط منها. ثم أخوه محمد المأمون فلم تجز مدة، وسميت: الرباعيات، وكان ضرب ذلك بمرو «4» قبل قتل أخيه. وهارون الرشيد أول خليفة ترفع عن مباشرة العيار بنفسه، وكان الخلفاء من قبله يتولون النظر في عيار الدراهم والدنانير بأنفسهم. وكان هذا مما نوّه باسم جعفر بن يحيى؛ إذ هو شىء لم يتشرف به أحد قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 واستمر الأمر كما ذكر إلى شهر رمضان سنة أربع وثمانين ومائة، فصار النقص أربعة قراريط وحبة ونصف حبة، وصارت لا تجوز إلا في المجموعة أو بما فيها ثم بطلت، فلما قتل هارون الرشيد جعفرا، صير السكك إلى السندى، فضرب الدراهم على مقدار الدنانير، وكان سبيل الدنانير في جميع ما تقدم ذكره سبيل الدراهم، وكان خلاص السندى جيدا أشد الناس خلاصا للذهب والفضة. فلما كان شهر رجب سنة 192 نقصت الدراهم الهاشمية نصف حبة، وما زال الأمر في ذلك كله عصرا يجوز جواز المثاقيل ثم ردت إلى وزنها، حتى كان أيام الأمين محمد بن هارون الرشيد، فصيّر دور الضرب إلى العباس بن الفضيل بن الربيع، فنقش في السّكة بأعلى السطر: «ربى الله» ومن أسفلها «العباس بن الفضل» . فلما عهد الأمين إلى ابنه موسى ولقبه: (الناطق بالحق المظفر بالله) ضرب الدنانير والدراهم باسمه، وجعل زنة كل واحد عشرة ونقش عليه: كل عز ومفخر ... فلموسى المظفّر ملك خص ذكره ... فى الكتاب المسطّر فلما قتل الأمين واجتمع الأمر لعبد الله المأمون، لم يجد أحدا ينقش الدراهم فنقشت بالمخراط «1» كما تنقش الخواتم، وما برحت النقود على ما ذكر، أيام المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، فلما قتل المتوكل وتغلبت الموالى من الأتراك وتناثر سلك الخلافة وبقيت الدولة العباسية في الترف، وقوى عامل كل جهة على ما يليه، وكثرت النفقات وقلت المجابى «2» بتغلّب الولاة على الأطراف، وحدثت بدع كثيرة من حينئذ، ومن جملتها غش الدراهم. ويقال: إن أول من غش الدراهم وضربها زيوفا «3» : عبيد الله بن زياد حين فرّ من البصرة في سنة أربع وستين من الهجرة ثم فشت في الأمصار «4» أيام دولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 العجم من بنى بوية «1» وبنى سلجوق «2» والله أعلم. نقود مصر أما مصر من بين الأمصار، فما برح نقدها المنسوب إليه قيم الأعمال وأثمان المبيعات، ذهبا في سائر دولها، جاهلية وإسلاما، يشهد لذلك بالصحة أن خراج مصر فى قديم الدهر وحديثه إنما هو الذهب كما ذكرته في (كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) فإنى أوردت فيه مبلغ خراج مصر، منذ مصرّت بعد الطوفان، إلى زماننا هذا، ويكفى من الدلالة على صحة ذلك، ما رويته من طريق مسلم وأبى داود رحمهما الله تعالى، من حديث أبى هريرة رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «منعت العراق درهمها وقفيزها «3» ، ومنعت الشام مدّها ودينارها، ومنعت مصر إردبّها ودينارها» الحديث «4» فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم كل بلد وما تختص به من كيل، ونقد، وأشار إلى أن نقد مصر: الذهب. وكأن في هذا الحديث ما يشهد بصحة فعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه، فإنه لما افتتح العراق في ست عشرة من الهجرة، بعث عثمان بن حنيف رضى الله عنه ففرض على أهل السواد «5» على كل جريب «6» من الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب القصب والشجر ستة دراهم، وعلى جريب البر أربعة دراهم، وعلى جريب الشعير درهمين، وكتب بذلك إلى عمر رضى الله عنه فارتضاه. ولما فتحت مصر سنة 20 على القول الراجح، فرض عمرو بن العاص رضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الله عنه على جميع من بها من القبط البالغين من الرجال دون النساء والصبيان والشيوخ دينارين على كل رأس، فجبيت أول عام اثنا عشر ألف ألف دينار، وقد روى أنها جبيت ستة عشر ألف ألف دينار، وهما روايتان معروفتان، فأقر ذلك عمر ابن الخطاب رضى الله عنه. ومن أنعم النظر في أخبار مصر عرف أن نقدها وأثمان مبيعاتها وقيم أعمالها لم يكن إلا من الذهب فقط إلى أن ضعفت مملكتها باستيلاء الفرنج عليها فحدث حينئذ اسم الدراهم، وسأبين فيما يأتى طرفا من ذلك. ومع هذا، فإن مصر لم تزل منذ فتحت دار إمارة، وسكّتها إنما هى سكّة بنى أمية ثم من بنى العباس، إلا أن الأمير أبا العباس أحمد بن طولون ضرب بمصر دنانير عرفت بالأحمدية، وكان سبب ضربها أنه ركب يوما إلى الأهرام فأتاه الحجّاب بقوم عليهم ثياب صوف ومعهم المساحى «1» والمعاول، فسألهم عما يعملون فقالوا: نحن قوم نتبع المطالب. فقال لهم: لا تخرجوا بعد هذا إلا بمشورة ورجل من قبلى، وسألهم عمّا وقع إليهم من الصفات فذكروا له أن في سمت «2» الأهرام مطلبا قد عجزوا عنه؛ لأنهم يحتاجون في إحاثته» إلى قدر كبير من المال، ونفقات واسعة، فأمر بعض أصحابه أن يكون معهم، وتقدم إلى عامل معونة الجيزة «4» ، فى دفع جميع ما يحتاجون إليه من المال والنفقات، فأقام القوم يعملون إلى أن ظهرت لهم العلامات، فركب أحمد بن طولون حتى وقف على الموضع وهم يحفرون فجدّوا في الحفر وكشفوا عن حوض مملوء دنانير وعليه غطاء مكتوب عليه بالبربوية «5» فأحضر من قرأه ففسره فقال: «أنا فلان بن فلان، الملك الذى ميّز الذهب من غشّه ودنسه، فمن أراد أن يعلم فضلى وفضل ملكى على ملكه، فلينظر إلى فضل عيار دينارى على ديناره، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 فإن تخلص الذهب من الغش تخلص في حياته وبعد وفاته» . فقال أحمد بن طولون: الحمد لله على ما نبهتنى عليه هذه الكتابة فإنه أحب إلىّ من المال، ثم أمر لكل رجل كان يعمل بمائتى دينار منه، وأنفذ بأن يوفّى الصنّاع أجرهم ووهب لكل رجل منهم خمسة دنانير، وأطلق للرجل الذى أقام معهم من أصحابه ثلاثمائة دينار، وقال لخادمه نسيم: خذ لنفسك منه ما شئت. فقال: ما أمرنى به مولاى أخذته. فقال: خذ ملء كفيك جميعا و؟؟ عد من بيت المال مثل ذلك كرّتين، فبسط نسيم كفيه فحصل على ألف دينار. وحمل أحمد بن طولون ما بقى فوجده أجود عيارا من عيار السندى بن هاشك ومن عيار المعتصم، فتشدد حينئذ أحمد بن طولون في العيار حتى لحق ديناره بالعيار المعروف له- وهو الأحمدى الذى كان لا يصاب بأجود منه. ولما دخل القائد أبو الحسين جوهر الكاتب الصقلى إلى مصر بعساكر الإمام المعز لدين الله في سنة 358 هـ، وبنى القاهرة المعزّية حيث كان مناخه الذى نزل فيه، صارت مصر من يومئذ دار ملكه، وضرب جوهر القائد الدينار المعزّى ونقش عليه فى أحد وجهيه ثلاثة أسطر، أحدها: «دعى الإمام المعز لتوحيد الأحد الصمد» وتحته سطر فيه «ضرب هذا الدينار بمصر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة» وفي الوجه الآخر «لا إله إلا الله، محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون على أفضل الوحيين وزير خير المرسلين» . وكثر ضرب الدينار المعزى حتى أن المعز لما قدم إلى مصر سنة ثنتين وستين وثلاثمائة ونزل بقصره من القاهرة، أقام يعقوب بن كلس بن عسلوج بن الحسن لقبض الخراج، فامتنع أن يأخذ إلا دينارا معزيا، فاتضع الدينار الراضى وانحط ونقص من صرفه، أكثر من ربع دينار، وكان صرف الدينار المعزى خمسة عشر درهما ونصفا. وفي أيام الحاكم بأمر الله- أبى على المنصور بن المعزّ- تزايد أمر الدراهم في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وثلاثمائة فبلغت أربعة وثلاثين درهما بدينار، ونزل السعر واضطربت؟؟ أمور الناس، فرفعت تلك الدراهم وأنزل من القصر عشرون صندوقا فيها دراهم جدد فرفعت للصيارف، وقرئ سجل يمنع المعاملة بالدراهم الأولى وترك من في يده شىء منها ثلاثة أيام، وأن يورد جميع ما تحصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 منها إلى دار الضرب، فاضطرب الناس وبلغت أربعة دراهم بدرهم جديد، وتقرر أمر الدارهم الجدد على ثمانية عشر درهما بدينار. فلما زالت الدولة الفاطمية بدخول الفرس الشام ومصر على يد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فى سنة تسع وستين وخمسمائة، قرّرت السّكة بالقاهرة باسم المرتضى بأمر الله وباسم الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى، صاحب بلاد الشام، فرسم اسم كل منهما في وجه، وفيها عمت بلوى المصارف بأهل مصر؛ لأن الذهب والفضة خرجا منها وما رجعا وعدما، فلم يوجدا، ولهج الناس بما غمّهم من ذلك وصاروا إذا قيل: دينار أحمر، فكأنما ذكرت حرمة له، وإن حصل في يده فكأنما جاءت بشارة الجنة له، ومقدار ما حدث أنه خرج من القصر ما بين درهم ودينار، ومصاغ وجوهر ونحاس، وملبوس، وأثاث وقماش وسلاح ما لا يفى به ملك الأكاسرة ولا تتصوره الخواطر ولا تشتمل على مثله الممالك ولا يقدر على حسابه إلا من يقدر على حساب الخلق في الآخرة. نقلت ما هذا نصه من خط القاضى الفاضل عبد الرحيم، ثم لما استبد الملك صلاح الدين، بعد موت الملك العادل نور الدين، أمر في شوال سنة 583 بأن تبطل نقود مصر، وضرب الدينار ذهبا مصريا، وأبطل الدرهم الأسود، وضرب الدراهم الناصرية وجعلها من فضة خالصة ومن نحاس، نصفين بالسوى، فاستمر ذلك بمصر والشام إلى أن دخل الملك الكامل ناصر الدين محمد بن العادل أبى بكر محمد بن أيوب، فأبطل الدرهم الناصرى، وأمر في ذى القعدة من سنة 622 بضرب دراهم مستديرة، وتقدم أنه لا يتعامل الناس بالدراهم المصرية العتق، وهى التى تعرف في مصر والإسكندرية بالزيوف. وجعل الدرهم الكامل ثلاثة أثلاث، ثلثيه من فضة، وثلثيه من نحاس، فاستمر ذلك بمصر والشام مدة أيام ملوك بنى أيوب. فلما انقرضوا وقامت الأتراك من بعدهم أبقوا سائر شعارهم واقتدوا في جميع أحوالهم وأقروا نقدهم على حاله، من أجل أنهم كانوا يفتخرون بالانتماء إليهم، حتى أنى شاهدت المراسيم التى كانت تصدر عن الملك المنصور قلاوون وفيها بعد البسملة «الملكى الصالحى» وتحت ذلك بخطه «قلاوون» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 فلما ولى الملك الظاهر ركن الدين ببيرس البندقدارى، الصالحى، النجمى، وكان من أعظم ملوك الإسلام، وممن يتعين على كل ملك معرفة سيرته، ضرب دراهم ظاهرية وجعلها كل مائة درهم من سبعين درهما فضة خالصة وثلاثين نحاسا رنكة «1» على الدرهم، وهو صورة سبع، فلم تزل الدراهم الظاهرية والكاملية بديار مصر والشام إلى أن فسدت في سنة 781، بدخول الدراهم الحموية «2» فكثر تعنت الناس منها، وكان ذلك في إمارة الظاهر برقوق، فلما وصل الأمر إليه وأقام الأمير محمود بن على أستادارا «3» أكثر من ضرب الفلوس، وأبطل ضرب الدراهم فتناقصت، حتى صارت عرضا ينادى عليه في الأسواق بحراج حراج «4» وغلبت الفلوس إلى أن قدم الملك المؤيد شيخ عز نصرة من دمشق في رمضان سنة 817، بعد قتل الأمير نوروز الحافظى نائب دمشق، فوصل مع العسكر وأتباعهم شىء كثير من الدراهم البندقية «5» والدراهم النوروزية «6» فتعامل الناس بها وحسن موقعها لبعد العهد بالدراهم. فلما ضرب الملك المؤيد شيخ عز نصرة الدراهم المؤيدية «7» فى شوال منها نودى فى القاهرة بالمعاملة بها في يوم السبت 24 صفر سنة 818 فتعامل الناس بها، وقد قال مسدّد: حدثنا خالد بن عبد الله: حدثنا مالك عن يحيى بن سعيد، عن سعيد ابن المسيب، قال: قطع الدينار والدرهم من الفساد في الآخرة يعنى كسرهما، وأنا أقول: إن في ضرب الملك المؤيد الدراهم المؤيدية ست فضائل: الأولى: موافقة سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في فريضة الزكاة؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام، إنما فرضتها في الفضة الخالصة لا المغشوشة. الثانية: اتباع سبيل المؤمنين، وذلك أنه اقتدى في عملها خالصة بالخلفاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الراشدين، وقد تقدم بيان ذلك فلا حاجة إلى إعادته. الثالثة: أنه لم يتبع سنّة المفسدين الذين نهى الله عن اتباعهم بقوله عز وجل: وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ «1» وبيان ذلك: أن الدراهم لم تغشّ إلا عند تغلب المارقين الذين اتبعوا قوما قد ضلوا كما مرّ آنفا. الرابعة: أنه نكب عن الشره في الدنيا، وذلك أن الدرا؟؟ هم لم تغشّ إلا للرغبة في الازدياد منها. الخامسة: أنه أزال الغش عملا بقوله صلى الله عليه وسلّم: «من غشنا فليس منا» «2» . السادسة: أنه فعل ما فيه نصح لله ولرسوله، وقد علم قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: الدين النصيحة. الحديث «3» . ويمكن أن يتلمح لها فوائد أخر. وإنه ليكثر تعجّبى من كون هذه الدراهم المؤيدية ولها من الشرف والفضل ما ذكر، وللملك المؤيد من عظيم القدر، وفخامة الأمر ما هو معروف، ومع ذلك تكوم مضافة ومنسوبة إلى الفلوس، التى لم يجعلها الله تعالى قط نقدا في قديم الدهر وحديثه، إلى أن راجت في أيام أقبح الملوك سيرة وأردأهم سريرة: الناصر فرج، وقد علم كل من رزق فهما وعلما أنه حدث من رواجها خراب الإقليم، وذهاب نعمة أهل مصر وأن هذا في الحقيقة كعكس للحقائق، فإن الفضة هى نقد شرعى، لم تزل في العالم والفلوس، إنما هى أشبه بلا شىء، فيصير المضاف مضافا إليه، اللهم ألهم مولانا الملك المؤيد بحسن السفارة الكريمة، أن يألف من أن يكون نقده مضافا إلى غيره، وأن يجعل نقده تضاف إليه النقود، كما جعل الله تعالى اسمه الشريف يضاف إليه اسم كل من رعيته، بل كل ملك من مجاورى ملكه، والأمر في ذلك سهل إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وذلك أنه برز المرسوم الشريف، لموالينا قضاة القضاة، أعز الله بهم الدين، أن يلزموا شهود الحوانيت، بأن لا يكتب سجل أرض، ولا إجارة دار ولا صداق امرأة ولا مسطور بدين، إلا ويكون المبلغ من الدنانير المؤيدية، ويبرز أيضا للدواوين الملكية ودواوين الأمراء، والأوقاف ألا يكتبوا في دفاتر حساباتهم متحصلا ولا مصروفا إلا من الدراهم المؤيدية، فتصير الدراهم المؤيدية ينسب إليها ما عداها من النقود، كما جعل الله تعالى الملك المؤيد عزّ نصرة، يضاف إليه ويتشرف به كل من انتسب أو انتمى إليه، والله تعالى أعلم. وأما الفلوس، فإنه لم تزل سنة الله في خلقه وعادته المستمرة، منذ كان الملك إلى أن حدثت الحوادث والمحن بمصر، منذ سنة ست وثمانمائة، فى جهات الأرض كلها- عند كل أمة من الأمم، كالفرس، والروم، وبنى إسرائيل، واليونان والقبط والنبط، والتبابعة، وأفيال اليمن، والعرب العاربة والعرب المستعربة، ثم في الدولة الإسلامية، من حين ظهورها. على اختلاف دولها التى قامت بدعوتها، كبنى أمية بالشام والأندلس وبنى العباس بالعراق، والعلويين بطبرستان وبلاد المغرب، وديار مصر والشام وبلاد الحجاز واليمن ودولة بنى بويه، ودولة الترك بنى سلجوق، ودولة الأكراد بمصر والشام، ودولة بنى مرين بالمغرب، ودولة بنى نصر بالأندلس، ودولة بنى حفص بتونس، ودولة بنى رسول باليمن، ودولة الحطى بالحبشة، ودولة بنى تيمورلنك بسمرقند، ودولة بنى عثمان بالجانب الشمالى الشرقى- أن التى تكون إثمانا للمبيعات، وقيم الأعمال، إنما هى الذهب والفضة فقط. ولا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عند أمة من الأمم، ولا طائفة من طوائف البشر، أنهم اتخذوا أبدا في قديم الزمان ولا حديثه نقدا غيرهما، إلا أنه لما كانت فى المبيعات محقرات تقل عن أن تباع بدرهم، أو بجزء منه، احتاج الناس من أجل هذا في القديم والحديث من الزمان إلى شىء سوى الذهب والفضة، يكون بإزاء تلك المحقرات، ولم يسمّ أبدا ذلك الشىء الذى جعل للمحقرات نقدا البتة، فيما عرف من أخبار الخليقة، ولا أقيم قط بمنزلة أحد النقدين، واختلفت مذاهب البشر وآراؤهم فيما يجعلونه بإزاء تلك المحقرات، ولم يزل بمصر والشام وعراقى العرب والعجم وفارس والروم في أول الدهر وآخره، ملوك هذه الأقاليم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 لعظمهم وشدة بأسهم، ولعزة ملكهم وكثرة شأوهم وخنزوانية «1» سلطانهم، يجعلون بإزاء هذه المحقرات نحاسا يضربون منه قطعا صغارا تسمى فلوسا «2» لشراء ذلك، ولا يكاد يوجد منها إلا اليسير، ومع ذلك فإنها لم تقم أبدا في شىء من هذه الأقاليم، بمنزلة أحد النقدين قط. وقد كانت الأمم في الإسلام وقبله، لهم أشياء يتعاملون بها بدل الفلوس كالبيض والكسر من الخبز والورق ولحاء «3» الشجر والودع «4» الذى يستخرج من البحر ويقال له: الكورى وغير ذلك. وقد استقصيت ذكره في كتاب (إغاثة الأمة بكشف الغمّة) وكانت الفلوس لا يشترى بها شىء من الأمور الجليلة وإنما هى لنفقات الدور، ومن أنعم النظر «5» فى أخبار الخليفة عرف ما كان الناس فيه بمصر والشام والعراق من رخاء الأسعار، فيصرف الواحد العدد اليسير من الفلوس في كفاية يومه. فلما كانت أيام محمود بن على، أستادار الملك الظاهر برقوق، استكثر من الفلوس، وصارت الفرنج تحمل النحاس الأحمر رغبة في فائدته، واشتهر الضرب فى الفلوس عدة أعوام والفرنج تأخذ ما بمصر من الدراهم إلى بلادهم، وأهل البلد تسبكها، لطلب الفائدة حتى عزّت وكادت تفقد، وراجت الفلوس رواجا عظيما حتى نسب إليها سائر المبيعات وصار يقال: كل دينار بكذا من الفلوس. وتالله، إن هذا الشىء يستحيا من ذكره لما فيه من عكس الحقائق إلا أن الناس لطول تمرنهم عليه ألفوه، إذ هم أبناء العوائد، وإلا فهو في غاية القبح، والمرجو أن يزيل الله عن بلاد مصر هذا العار، بحسن السفارة الكريمة، أرجو إن شاء الله تعالى أن يكون الأمر فيه هينا، وذلك أن ينظر إلى النحاس الأحمر القرص المجلوب من بلاد الفرنج كم سعر القنطار منه، ويضاف إلى ثمن القنطار جملة ما يصرف عليه بدار الضرب إلى أن يصير فلوسا، فإذا جمل ذلك عرف كم يصرف لكل دينار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 من الفلوس، وإذا عرف كم كل دينار منها، عرف بكم كل درهم مؤيدى وفي هذا سر شريف، وهو أنه من استقرى سير فضلاء الملوك، فإنه يجدهم يأنفون أن يبقى لغيرهم ذكر، ويحرصون على تفردهم بالمجد فإذا ضرحت «1» هذه الفلوس صار نقدا للناس، بين درهم مؤيدى وفلوس مؤيدية. وكفاك إشارة وتنبيها على شرف بقاء الذكر مدى الدهر، قول الله تعالى عن إبراهيم الخليل، صلوات الله وسلامه عليه: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «2» . وقوله تعالى في معرض الامتنان على نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «3» . وقوله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «4» . وهذه رتبة لا يرغب عنها إلا خسيس القدر وضيع النفس، ومقام الملوك يجل عن أن يشاركهم أحد في رتبة عزّ أو منصب رفعة، وإنى لأرجو الله سبحانه أن يصلح الله بحسن سفارتكم ما قد فسد، إن شاء الله تعالى. ولولا خوف الإطالة لذكرت ما كان من ضرب الملوك للفلوس وأنها لم تزل بالعدد إلى أن أمر الأمير يلبغا السالمى- رحمة الله عليه- أن تكون بالميزان وذلك فى سنة 806 وللبلاد قوانين وعوائد متى اختلت فسد نظامها. والله تعالى يختم بخير أعمالنا، والحمد الله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 معرفة ما يجب لآل البيت النبوى من الحق على من عداهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله حق حمده، وصلى الله على محمد رسوله وعبده، وآله وصحبه وأتباعه وجنده. وبعد: فإنى لما رأيت أكثر الناس في حق آل البيت مقصرين، وعمّا لهم من الحق معرضين، ولمقدارهم مضيعين، وبمكانتهم من الله تعالى جاهلين، أحببت أن أقيّد في ذلك نبذة تدل على عظيم مقدارهم، وترشد المتقى لله تعالى على جليل أقدارهم، ليقف عنده حده، ويصدق بما وعدهم الله ومنّ [به] «1» عليهم من صادق وعده. والله أسأل الهداية، وأعوذ به من الضلال والغواية، إنه قريب مجيب. [ فصل في تفسير آية التطهير وبيان المراد بأهل البيت في الآية المباركة ] (فصل) قال الله جل جلاله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2» . قال الأستاذ أبو الحسن على بن إسماعيل بن سيده «3» رحمه الله: الرّجس: القذر. وقال ابن دريد «4» : ورجل مرجوس، ورجس: نجس، وأحسبهم قد قالوا: رجس: نجس، وهى الرجاسة «5» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 والنجاسة والرجس: العذاب، كالرجز، ورجس الشيطان وسوسته «1» . وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى «2» رحمه الله: يقول الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أى السوء والفحشاء يا أهل البيت، بيت محمد، ويطهركم من الدنس الذى يكون في أهل معاصى الله تطهيرا. وذكر بسنده عن [سعيد عن] «3» قتادة قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً : فهم أهل بيت طهرهم الله من السوء وخصهم برحمة منه. وعن ابن وهب قال نقلا عن [ابن] «4» زيد قال: الرجس هاهنا الشيطان وسوى ذلك من الرجس الشر [ك] «5» ، واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: أَهْلَ الْبَيْتِ فقال بعضهم: عنى به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعلىّ، وفاطمة، والحسن والحسين، رضى الله عنهم، ثم ذكر من حديث مندل عن الأعمش عن عطية، عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «نزلت هذه الآية في خمسة: فىّ وفي على، وحسن، وحسين، وفاطمة ... إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «6» . ومن حديث زيد، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلّم عندى وعلى وفاطمة والحسن والحسين، فجعلت لهم خزيرة «7» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 فأكلوا وناموا وغطى عليهم كساء، أو قطيفة، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتى، أذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا» . ومن حديث [يونس] «1» بن إسحاق قال: أخبرنى أبو داود عن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد النبى صلى الله عليه وسلّم قال: رأيت النبى صلى الله عليه وسلّم إذا طلع الفجر جاء إلى باب على، وفاطمة، رضى الله عنهما، فقال: «الصلاة الصلاة، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » . ومن حديث أبى نعيم الفضل بن ركين قال: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن كلثوم المحاربى، عن أبى عمار قال، إنى لجالس عند واثلة بن الأسقع- رضى الله عنه- وذكروا عليا- رضى الله عنه- فشتموه، فلما قاموا قال: اجلس حتى أخبرك عن هذا الذى شتموه، إنى عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ جاءه على، وفاطمة، وحسن، وحسين، فألقى عليهم كساء له، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتى، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قلت: يا رسول الله، وأنا، قال: وأنت، قال: فو الله إنها لمن أوثق عمل عندى. ومن الحديث الوليد بن مسلم قال: حدثنا ابن عمرو قال: حدثنى شدّاد أبو عمار قال: سمعت واثلة بن الأسقع يحدث قال: سألت عن على بن أبى طالب، رضى الله عنه، في منزله، فقالت فاطمة، رضى الله عنها: قد ذهب يأتى برسول الله صلى الله عليه وسلّم، إذ جاء، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ودخلت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الفراش، وأجلس فاطمة عن يمينه وعليا عن يساره، وحسنا، وحسينا رضوان الله عليهم، بين يديه، فلقع عليهم بثوبه، وقال: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ، اللهم هؤلاء أهلى، اللهم أهلى أحق» قال واثلة فقلت: من ناحية البيت: وأنا يا رسول الله من أهلك؟ قال: «وأنت من أهلى» قال واثلة: إنها لمن أرجى ما أرتجى. ومن حديث وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب عن أم سلمة، رضى الله عنها، قالت: لما نزلت الآية: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا، وفاطمة، وحسنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وحسينا فجلّل عليهم «1» بكساء خيبرى «2» وقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتى، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» قالت أم سلمة: ألست منهم؟ قال: «أنت إلىّ خير» . ومن حديث سعيد بن زربى، عن محمد بن سيرين، عن أبى هريرة، رضى الله عنه، عن أم سلمة رضى الله عنها، قالت: جاءت فاطمة رضى الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببرمة «3» لها قد صنعت فيها عصيدة تحملها على طبق، فوضعتها بين يديه، فقال: أين ابن عمك، وابناك؟ فقالت: في البيت. فقال: ادعيهم. فجاءت عليا فقالت: أجب النبى صلى الله عليه وسلّم أنت وابناك. قالت أم سلمة: فلما رآهم مقبلين مد يده إلى كساء كان على المنامة «4» ، فمده، وبسطه، فأجلسهم عليه، ثم أخذ بأطراف الكساء الأربعة بشماله فضمه فوق رؤوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربه تعالى، ذكر، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل البيت، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» . ومن حديث فضيل بن مروزق، عن عطية، عن أبى سعيد، عن أم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلّم؛ أن هذه الآية نزلت في بيتها: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قالت: وأنا جالسة على باب البيت، فقلت: أنا يا رسول الله، ألست من أهل البيت؟ قال: إنك إلى خير، أنت من أزواج النبى. قالت: وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم [وعلى] «5» وفاطمة، والحسن والحسين. ومن حديث هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، عن عبد الله بن وهب ابن زمعة قال: أخبرتنى أم سلمة رضى الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جمع فاطمة، والحسن والحسين، رضى الله عنهم، ثم أدخلهم تحت ثوبه، ثم جأر «6» إلى الله تعالى و [قال] «7» : «اللهم هؤلاء أهل بيتى» فقالت أم سلمة: يا رسول الله، أدخلنى معهم. قال: إنك من أهلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ومن حديث محمد بن سليمان [بن] «1» الأصبهانى، عن يحيى بن عبيد المكى عن عطاء عن عمر بن أبى سلمة قال: نزلت هذه الآية على النبى صلى الله عليه وسلّم وهو في بيت أم سلمة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً فدعا حسنا، وحسينا، وفاطمة، فأجلسهم بين يديه، ودعا عليا فأجلسه خلفه، فتجلّل «2» هو وهم بالكساء، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتى فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» قالت أم سلمة: أنا معهم؟ قال: «أنت [على] «3» مكانك، وأنت على خير» . ومن طريق السدّى، عن أبي الدّيلم قال: قال على بن الحسين- رحمه الله- لرجل من أهل الشام: أما قرأت في الأحزاب: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً . قال: ولأنتم هم؟ قال: نعم. ومن حديث بكير بن أسماء قال: سمعت عامر بن سعد قال: قال سعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين نزل عليه الوحى، فأخذ عليا وابنيه، وفاطمة، فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال: «رب هؤلاء أهلى، وأهل بيتى» . ومن حديث عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن حكيم بن سعد قال: ذكرنا على بن أبى طالب عند أم سلمة رضى الله عنها فقالت: في بيتى نزلت: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً قالت أم سلمة: جاء النبى صلى الله عليه وسلّم إلى بيتى فقال: لا تأذن لأحد. فجاءت فاطمة، رضى الله عنها، فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن، رضى الله عنه، فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه، ثم جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا حول النبى صلى الله عليه وسلّم على بساط، فجللهم النبى صلى الله عليه وسلّم بكساء كان عليه، ثم قال: «هؤلاء أهل بيتى فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» . هذه الآية نزلت حين اجتمعوا على البساط. قالت أم سلمة: فقلت: يا رسول الله، وأنا؟ قالت: فو الله ما أنعم «4» وقال: إنك إلى خير. وقال آخرون: بل عنى بذلك أزواج النبى صلى الله عليه وسلّم. ثم ذكر من طريق الأصبغ [عن علقمه] «5» قال: كان عمر رضى الله عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ينادى في السوق: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. قال: نزلت في نساء النبى صلى الله عليه وسلّم خاصة. وقال العلامة أبو محمد ابن عطية «1» : والرجس اسم يقع على الإثم وعلى [العذاب] «2» ، وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله تعالى جميع ذلك عن أهل البيت [ونصب أهل البيت] «3» على المدح. أو على النداء للمضاف أو بإضمار: أعنى. واختلف الناس في أهل البيت من هم؟ فقال عكرمة، ومقاتل، وابن عباس [رضى الله عنهم] «4» : هم زوجاته خاصة لا رجل معهم «5» ، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبى صلى الله عليه وسلّم. قال أبو سعيد الخدرى، رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نزلت هذه الآية في خمسة: فىّ، وفي على، وفاطمة، والحسن، والحسين. ومن حجة الجمهور قوله: عَنْكُمُ ، ويُطَهِّرَكُمْ بالميم، ولو كان للنساء خاصة لقال: «عنكن» . قال ابن عطية: والذى يظهر [لى] «6» أن زوجاته لا يخرجن عن ذلك البتة، فأهل البيت: زوجاته، وبنته وبنوها، وزوجها، وهذه الآية تقتضى أن الزوجات من أهل البيت؛ لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن. أما [أن] «7» أم سلمة، رضى الله عنها قالت: نزلت هذه الآية في بيتى، فدعا «8» رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وفاطمة، وحسنا، وحسينا، فدخل معهم «1» تحت كساء خيبرى، وقال: «هؤلاء أهل بيتى، وقرأ الآية، وقال: اللهم أذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرا» . قالت أم سلمة: فقلت: وأنا يا رسول الله؟ فقال: «أنت من أزواجى وأنت إلى خير» . وقال الثعلبى «2» : قيل: هم بنو هاشم، فهذا على [أن] «3» البيت يراد به بيت النسب، فيكون العباس وأعمامه [وبنو أعمامه] «4» منهم، وروى نحوه عن زيد بن أرقم، رضى الله عنه. وقال الشيخ أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبى «5» : إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال الزجاج: قيل: يراد به نساء النبى صلى الله عليه وسلّم، وقيل: يراد به نساؤه وأهله الذين هم أهل بيته. وأهل [البيت] «6» : نصب على المدح قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال [النحاس] «7» : إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند أبي العباس محمد بن يزيد «8» قال: لا يبدل من المخاطب، ولا من المخاطب؛ لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين «ويطهركم تطهيرا» مصدر فيه معنى التوكيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 قوله: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ «1» . هذه الألفاظ تعطى أن أهل البيت: نساؤه. ومن اختلف أهل العلم في أهل البيت من هم؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس: هم زوجاته خاصة لا رجل معهن، وذهبوا إلى أن البيت أريد به مساكن النبى صلى الله عليه وسلّم لقوله تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ. وقال فرقة منهم الكلبى: هم على وفاطمة والحسن والحسين خاصة، وفي هذا أحاديث عن النبى صلى الله عليه وسلّم، واحتجوا بقوله تعالى: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً بالميم، ولو كان للنساء خاصة لكان: «عنكن» و «يطهركن» إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل، يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ أى امرأتك ونساؤك. فيقول: هم بخير. قال تعالى: أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ «2» . [والذى يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت] «3» من الأزواج وغيرهم، وإنما قال: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعليا وحسنا وحسينا كانوا فيهم. وإذا اجتمع المذكر والمؤنث، غلب المذكر، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت؛ لأن الآية فيهن، والمخاطبة لهن، يدل عليه سياق الكلام والله أعلم. أما أن أم سلمة رضى الله عنها قالت: نزلت هذه الآية في بيتى، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا، وفاطمة، وحسنا، وحسينا، فدخل معهم تحت كساء خيبرى، وقال: «هؤلاء أهل بيتى، وقرأ الآية، وقال: اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» فقالت أم سلمة، وأنا معهم يا نبى الله؟ قال: «أنت على مكانك وأنت على خير» . أخرجه الترمذى «4» وغيره «5» وقال: هذا حديث غريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وفي رواية: وقالت أم سلمة: أدخلت رأسى في الكساء وقلت: وأنا منهم؟ قال: نعم. وقال الثعلبى: هم بنو هاشم، فهذا [يدل] «1» على أن البيت يراد به بيت النسب، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم، وروى نحوه عن زيد بن أرقم. وعلى قول الكلبى، يكون قوله: وَاذْكُرْنَ ابتداء مخاطبة أمر الله تعالى أزواج النبى صلى الله عليه وسلّم على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتكن من آيات الله تعالى والحكمة. قال أهل العلم بالتأويل: آيات الله: القرآن، والحكمة: السنّة. والصحيح أن قوله: وَاذْكُرْنَ منسوق «2» على ما قبله، وقال: عَنْكُمُ كقوله: أَهْلَ فالأهل مذكر، فسماهن- وإن كن إناثا- باسم التذكير، فلذلك صار «عنكم» ، ولا اعتبار بقول الكلبى وأشباهه فإنه توجد له أشياء من هذا التفسير ما [لو] «3» كان في [زمن] «4» السلف الصالح لمنعوه وحجروا عليه. فالآيات كلها من قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً «5» ، منسوق بعضا على بعض، فكيف صار في الوسط كلاما منفصلا لغيرهن؟ وإنما هذا شىء جرى في الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما نزلت هذه الآية دخل عليه على، وفاطمة، والحسن، والحسين، رضى الله عنهم، فعمد النبى صلى الله عليه وسلّم إلى كساء فلفها عليهم، ثم ألوى «6» بيده إلى السماء فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتى، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» «7» . فهذه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد نزول الآية، أحب أن يدخلهم في الآية التى خوطب بها [الأزواج] «8» ، فذهب الكلبى وطائفة أنها لهم خاصة، وإنما هى دعوة لهم خارجة عن التنزيل والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وقال العلامة نجم الدين سليمان بن عبد القوى بن عبد الكريم الطوفى «1» فى كتاب «الإشارات الإلهية في المباحث الأصولية» قوله عز وجل: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً احتج بها الشيعة على أن أهل البيت معصومون، ثم على أن إجماعهم حجة، وكل من كان كذلك فهو معصوم. أما الأولى: فلنص هذه الآية. وأما الثانية: فلأن الرجس اسم جامع لكل شر ونقص، والخطأ وعدم العصمة بالجملة شر ونقص، فيكون ذلك مندرجا تحت عموم الرجس الذاهب عنهم، فتكون الإصابة في القول والفعل والاعتقاد، والعصمة بالجملة ثابتة لهم، وأيضا فلأن الله عز وجل طهرهم، وأكد تطهيرهم بالمصدر حيث قال: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أى ويطهركم من الرجس وغيره تطهيرا؛ إذ هى تقتضى عموم تطهيرهم من كل ما ينبغى التطهر منه عرفا أو عقلا، أو شرعا؛ والخطأ وعدم العصمة داخل تحت ذلك، فيكونون مطهرين منه، ويلزم من ذلك عموم إصابتهم وعصمتهم. ثم أكدوا دليل عصمتهم من الكتاب والسنة في علىّ رضى الله عنه وحده، وفي فاطمة عليها السلام وحدها، وفي جميعهم. أما دليل العصمة في على رضى الله عنه [فلما] «2» ثبت أن النبى صلى الله عليه وسلّم لما أرسله إلى اليمن قاضيا قال: يا رسول الله، كيف تبعثنى قاضيا ولا علم لى بالقضاء؟ قال: [اذهب] «3» فإن الله سيهدى قلبك، ويسدد لسانك، ثم ضرب صدره وقال: «اللهم اهد قلبه وسدد لسانه» . قالوا: قد دعا له بهداية القلب [وسداد] «4» اللسان، وأخبره بأن سيكونان له، ودعاؤه مستجاب، وخبره حق وصدق، ونحن لا نعنى بالهداية إلا هداية القلب، ونطق اللسان بالصدق، فمن كان عنده للعصمة معنى غير هذا أو ما يلازمه فليذكره. وأما دليل العصمة في جميعهم، أعنى في فاطمة رضى الله عنها، فقوله صلى الله عليه وسلّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 «فاطمة بضعة منى يريبنى ما رابها، ويؤذينى ما آذاها» «1» والنبى صلى الله عليه وسلّم معصوم، فبضعته- أى جزؤه، والقطعة منه يجب أن تكون معصومة. وأما دليل العصمة في جميعهم، أعنى عليا وفاطمه وولديهما، فلقوله صلى الله عليه وسلّم: «إنى تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتى أهل بيتى، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض» رواه الترمذى «2» . ووجه دلالته أنه لازم بين أهل بيته، والقرآن المعصوم، وما لازم المعصوم فهو معصوم. قالوا: وإذا ثبت عصمة أهل البيت وجب أن يكون إجماعهم حجة لامتناع الخطأ والرجس عليهم بشهادة السمع المعصوم، وإلا لزم وقوع الخطأ فيه وإنه محال. واعترض الجمهور بأن قالوا: لا نسلم أن أهل البيت في الآية من ذكرتم بل هم نساء النبى صلى الله عليه وسلّم بدليل سياقها وانتظام ما استدللتم به معه، فإن الله تعالى قال: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ «3» الآية. ثم استطردها إلى أن قال: وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ الآية. فخطاب نساء النبى صلى الله عليه وسلّم، مكتنف لذكر أهل البيت قبله وبعده، منتظم له، فاقتضى أنهن المراد به، وحينئذ لا يكون لكم في الآية متعلق أصلا، ويسقط الاستدلال بها بالكلية، سلمناه، لكن لا نسلم أن المراد بالرجس ما ذكرتم، بل المراد به رجس الكفر، أو نحوه من المسميات الخاصة. وأما ما أكدتم به عصمتهم من السنة فأخبار آحاد لا تقولون بها مع أن دلالتها ضعيفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وأجاب الشيعة بأن قالوا: الدليل على أن أهل البيت في الآية [هم] «1» من ذكرنا: النص والإجماع «2» . أما النص فما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلّم أنه بقى بعد نزول هذه الآية ستة أشهر يمر وقت صلاة الفجر على بيت فاطمة رضى الله عنها، فينادى: «الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» . رواه الترمذى وغيره «3» . وهو تفسير منه لأهل البيت بفاطمة ومن في بيتها، وهو نص، وأنصّ منه حديث أم سلمة رضى الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلّم أرسل خلف على وفاطمة وولديهما- رضى الله عنهم- فجاؤوا فأدخلهم تحت الكساء ثم جعل يقول: «اللهم إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتى. اللهم هؤلاء أهل بيتى وخاصتى- وفي رواية حامّتى- اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» . قالت أم سلمة: فقلت: يا رسول الله، ألست من أهل بيتك؟ قال: «أنت إلى خير» رواه أحمد «4» . وهو نص في أهل البيت، وظاهر في أن نساءه لسن منهم؛ لقوله لأم سلمة: «أنت إلى خير» ولم يقل: بلى أنت منهم. وأما الإجماع فلأن الأمة اتفقت على أن لفظ أهل البيت إذا أطلق إنما ينصرف إلى ما ذكرناه دون النساء ولو لم يكن إلا شهرته فيهم كفى. وإذا ثبت مما ذكرناه من النص والإجماع أن أهل البيت على وزوجته وولداه، فما استدللتم به من سياق الآية، ونظمه على خلافه لا يعارضه؛ لأنه مجمل يحتمل الأمرين، وقصاراه أنه ظاهر فيما ادعيتم، لكن الظاهر لا يعارض النص والإجماع، ثم إن الكلام العربى يدخله الاستطراد والاعتراض- وهو تخلل الجملة الأجنبية بين الكلام المنتظم المتناسب، كقوله تعالى: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ «5» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 فقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ جملة معترضة من جهة الله تعالى بين كلام بلقيس. وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «1» . أى فلا أقسم بمواقع النجوم. إنه لقرآن كريم. وما بينهما اعتراض على اعتراض، وهو كثير في القرآن وغيره من كلام العرب، فلم لا يجوز أن يكون قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ جملة معترضة متخللة لخطاب نساء النبى صلى الله عليه وسلّم على هذا النهج؟ وحينئذ يضعف اعتراضكم. وأما الرجس فإنما يجوز حمله على الكفر، أو على مسمى خاص لو كان له معهود، ولكن لا معهود له، فوجب حمله على عمومه إذ هو اسم جنس معرّف باللام، وهو من أدوات العموم، وأما ما ذكرناه من أخبار الآحاد فإنما أكدنا به دليل الكتاب، ثم هى لازمة لكم، فنحن أوردناها «2» إلزاما لا استدلالا. قال [الطوفى] «3» : واعلم أن الآية ليست نصا ولا قاطعا في عصمة أهل البيت، وإنما قصاراها أنها ظاهرة في ذلك بطريق الاستدلال الذى حكيناه عنهم، والله أعلم. وقال العارف محيى الدين أبو عبد الله محمد بن عربى «4» رحمه الله تعالى: «كل عبد إلهى توجه لأحد عليه حق من المخلوقين فقد نقص من عبوديته لله تعالى بذلك القدر [من الحق] «5» فإن ذلك المخلوق يطلبه بحقه وله عليه سلطان به، فلا يكون عبدا محضا خالصا لله تعالى، وهذا هو الذى رجح عند المنقطعين إلى الله انقطاعهم عن الخلق، ولزومهم السياحات، والبرارى، والسواحل، والفرار من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الناس، والخروج عن ملك الحيوان، فإنهم يريدون بذلك الحرية من جميع الأكوان. ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم عبدا محضا «1» قد طهره الله تعالى وأهل بيته تطهيرا، وأذهب عنهم الرجس وهو كل ما يشينهم، فإن الرجس هو القذر عند العرب، كذا قال الفراء «2» قال الله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. فلا يضاف إليهم إلا مطهر ولابد، فإن المضاف إليهم هو الذى يشبههم، فما يضيفون لأنفسهم إلا من له حكم الطهارة والتقديس. فهذه شهادة من النبى صلى الله عليه وسلّم لسلمان الفارسى، رضى الله عنه، بالطهارة والحفظ الإلهى والعصمة حيث قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سلمان منا أهل البيت» وشهد الله لهم بالتطهير، وذهاب الرجس عنهم؟ وإذا كان لا يضاف إليهم إلا مقدس مطهر، وحصلت له العناية الإلهية بمجرد الإضافة، فما ظنك بأهل البيت في نفوسهم فهم المطهرون، بل هم عين الطهارة. فهذه الآية تدل على أن الله تبارك وتعالى قد شرك أهل البيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «3» . وأى وسخ وقذر أقذر من الذنوب وأوسخ؟ فطهر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم بالمغفرة مما هو ذنب بالنسبة إلينا لو وقع منه صلى الله عليه وسلّم لكان ذنبا في الصورة لا في المعنى؛ لأن الذم لا يلحق به على ذلك من الله تعالى ولا منا شرعا، فلو كان حكمه حكم الذنب لصحبه ما يصحب الذنب من المذمة، ولم يكن يصدق قوله: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. فدخل الشرفاء أولاد فاطمة عليهم السلام كلهم إلى يوم القيامة في حكم هذه الآية من الغفران، فهم المطهرون باختصاص من الله تعالى، وعناية بهم لشرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 محمد صلى الله عليه وسلّم وعناية الله تعالى بهم. فينبغى لكل مسلم أن يصدق الله تعالى في قوله: لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً . فيعتقد في جميع ما يصدر من أولاد فاطمة رضى الله عنهم، أن الله تعالى قد عفا عنهم فيه. ولا ينبغى لمسلم أن يلحق المذمة، ولا ما يشنؤ «1» أعراض من قد شهد الله تعالى بتطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم لا بعمل عملوه، ولا بخير قدموه، بل سابق عناية واختصاص إلهى ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ* «2» . وإذا صح الخبر الوارد في سلمان رضى الله عنه، فله هذه الدرجة، فإنه لو كان سلمان على أمر يشنؤه الله وتلحقه المذمة من الله تعالى بلسان الذنب عليه، لكان مضافا إلى أهل البيت من لم يذهب عنه الرجس، فيكون لأهل البيت من ذلك بقدر ما أضيف إليهم وهم المطهرون بالنص، فسلمان منهم بلا شك. وإذا كانت مرتبة مخلوق عند الله تعالى بهذه المثابة أن يشرف المضاف إليهم بشرفهم، وشرفهم ليس لأنفسهم، وإنما الله تعالى هو الذى اجتباهم وكساهم حلّة الشرف، فكيف بمن له الشرف، والشرف التام لنفسه، فهو المجيد سبحانه وتعالى، فالمضاف إليه من عباده الذين هم عباده، وهم الذين لا سلطان ولا ملك لمخلوق عليهم، قائمون بحقوق سيدهم، واقفون عند مراسمه وحدوده، فشرفهم أعلى. وهؤلاء هم أقطاب «3» هذا المقام، ومن هؤلاء الأقطاب ورث سلمان رضى الله عنه شرف أهل البيت، فكان رضى الله عنه من أعلى الصحابة بالحقوق وأقواهم على أدائها، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من فارس، وأشار إلى سلمان الفارسى رضى الله عنه، فسرّ سلمان الذى ألحقه بأهل البيت ما أعطاه النبى صلى الله عليه وسلّم أداء كتابته، فهو عتيقه صلى الله عليه وسلّم ومولى القوم منهم. وبعد أن تبين لك منزلة أهل البيت عند الله تعالى وأنه لا ينبغى لمسلم أن يذمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 أصلا، فإن الله تعالى طهرهم، فليعلم الذام لهم أن ذلك يرجع إليه ولو ظلموه، فذلك الظلم هو في زعمه، لا في نفس الأمر، بل حكم ظلمهم ينافى نفس الأمر، كجرى المقادير على العبد في ماله يغرق أو يقع في النار فيحترق أو يموت له أحد أحبابه، أو يصاب هو في نفسه، وهذا كله مما لا يوافق غرضه، ولكن ينبغى أن يقابل ذلك كله بالرضا والتسليم، وإن نزل عن هذا المقام فبالصبر، وإن ارتفع فبالشكر، فإن في طى ذلك نقمة «1» من الله تعالى له، وليس وراء ما ذكرناه خير، فإنه ما وراءه إلا الضجر والتسخط؛ ولذلك ينبغى أن يقابل المسلم جميع ما يطرأ عليه من أولاد فاطمة رضى الله عنهم في ماله وفي أهله، وفي عرضه وفي نفسه أن يقابله بالرضا والتسليم والصبر، ولا يلحق بهم المذمة أصلا، وإن توجهت عليهم الأحكام الشرعية من إقامة الحدود المشروعة، فذلك لا يقدح في هذا، وإنما نمتنع من إلحاق الذم بهم وسبهم؛ إذ قد ميزهم الله تعالى عنا بما ليس لنا معهم فيه قدم، وأما أداء الحقوق المشروعة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقترض من اليهود، وإذا طالبوه بحقوقهم أداها على أحسن ما يمكن. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» فذلك حق الله تعالى، ومع هذا لم يذمهم الله تعالى. وإنما كلامنا في حقوقكم، وفيما لكم أن تطالبوهم به فلكم ذلك، وليس لكم ذمهم ولا الكلام في أعراضهم، ولا سبهم، وإن نزلتم عن طلب حقوقكم، وعفوتم عنهم فيما أصابوه منكم كان لكم بذلك عند الله الزلفى، فإن النبى صلى الله عليه وسلّم ما سأل منكم إلا المودة في القربى، ومن لم يقبل سؤال نبيه فيما هو قادر عليه فبأى وجه يلقاه غدا أو يرجو شفاعته، وهو ما أسعف نبيه فيما سأله من المودة في قرابته، ثم إنه جاء بلفظ المودة وهى الثبوت على المحبة، فإن من ثبت على محبته استصحب المودة في كل حال، وإذا استصحب المودة في كل حال لم يؤاخذ أهل البيت فيما يطرأ منهم في حقه مما لا يوافق غرضه، ألا ترى ما قال المحب وما ذكر المودة التى هى أتم: وكل ما يفعل المحبوب محبوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وقال الآخر: أحب لحبها السودان حتى ... أحب لحبها سود الكلاب وكانت الكلاب تناوشه، وهو يتحبب إليها، فهذا فعل المحب في حب من لا تسعده محبته عند الله تعالى ولا تورثه القربة عند الله تعالى، فهل هذا إلا من صدق الحب، وثبوت الود في النفس، فلو أحببت الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم أحببت أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلّم ورأيت كل ما يصدر منهم في حقك أنه جمال محض تتنعم به وتعلم أن لك عناية عند الله تعالى حيث ذكرك من يحبه وهم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولو ذكروك بذم وسب فتقول: الحمد الله الذى أجرانى على ألسنتهم، وتزيد الله تعالى شكرا على هذه النعمة، فإنهم ذكروك بألسنة طاهرة قد طهرها الله تعالى بطهارة لم يبلغها علمك. وإذا رأيناك على ضد هذه الحالة مع أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذى أنت محتاج إليه، وله عليك المنة حيث هداك به، فكيف أثق أنا بودك إذ تزعم أنك شديد الحب فىّ والرعاية لجانبى، وما ذاك على الحقيقة إلا من نقص إيمانك، ومن مكر الله تعالى واستدراجه بك حيث لا تعلم، وصورة المكر فيه أن تقول وتعتقد أنك في ذلك ذابّ عن دين الله تعالى وشرعه، وإنى ما طلبت إلا ما أباح الله تعالى لى طلبه، ويندرج الذم في ذلك الطلب المشروع، والبغض والمقت، وأنت لا تشعر. والدواء الشافى من هذا الداء العضال «1» أنك لا ترى نفسك صاحب [حق معهم] «2» ، بل تنزل عن حقك لئلا يندرج فيه ما ذكرت لك، وما أنت من حكام المسلمين حتى تقيم فيهم حدود الله تعالى، فلو كشف لك عن منازلهم في الآخرة عند الله تعالى لوددت أن تكون [عبدا من عبيدهم] «3» . والله يلهمنا رشد أنفسنا بمنه وكرمه. قال جامع هذه النبذة «4» : ويؤيد مقالة الشيخ محيى الدين هذه ما أخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الحاكم في مستدركه من حديث معاوية بن هشام قال: حدثنا عمر بن غياث «1» عن عاصم، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، رضى الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها على النار» . وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وذكر الفقيه الحافظ محب الدين أحمد عبد الله الطبرى «2» فى كتابه «ذخائر العقبى في مناقب ذوى القربى» من حديث عمران بن حصين رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سألت ربى أن لا يدخل النار أحدا من أهل بيتى فأعطانا ذلك» . أخرجه الملا في سيرته. ومن حديث على رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لفاطمة رضى الله عنها: يا فاطمة، تدرين لم سميت فاطمة؟ قال على رضى الله عنه: لم سميت؟ قال: «إن الله عز وجل قد فطمها وذريتها من النار يوم القيامة» . أخرجه الحافظ الدمشقى. وقد رواه الإمام على بن موسى الرضا «3» بسنده، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله فطم ابنتى فاطمة وولداها ومن أحبهم من النار» . وأخرج الإمام أحمد من حديث أبى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من أبغض أهل البيت فهو منافق» . وروى أبو الفرج الأصبهانى من طريق عبد الله بن عمر القواريرى، حدثنا يحيى ابن سعيد، عن سعيد بن أبان القرشى قال: دخل عبد الله بن حسن على عمر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 عبد العزيز وهو حديث السن له وفرة «1» ، فرفع مجلسه وأقبل عليه، وقضى حوائجه ثم أخذ عكنة «2» من عكنة فغمزها حتى أوجعه وقال: اذكرها عندك للشفاعة، فلما خرج لامه قومه وقالوا: فعلت هذا بغلام حدث؟ فقال: إن الثقة حدثنى حتى كأنى أسمعه من في رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنما فاطمة بضعة منى يسرنى ما يسرها» «3» وأنا أعلم أن فاطمة لو كانت حية لسرها ما فعلت بابنها. قالوا: فما معنى غمزك بطنه، وقولك ما قلت؟ قال: إنه ليس أحد من بنى هاشم إلا وله شفاعة، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا. وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «4» . قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائى، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، ومجاهد، وطلحة، والحسن، وقتادة، وأهل مكة: وَاتَّبَعَتْهُمْ بالتاء ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ على الإفراد. وقرأ نافع، وأبو جعفر، وابن مسعود بخلاف عنه، وأبو عمرو بخلاف عنه، وشيبة، والجحدرى، وعيسى وَاتَّبَعَتْهُمْ بالتاء ذُرِّيَّتُهُمْ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ على إفراد في الأولى وجمع في الثانية. روى خارجة عنه مثل قراءة حمزة. وقرأ ابن عامر وابن عباس وعكرمة وسعيد ابن جبير، والضحاك وَاتَّبَعَتْهُمْ بالتاء ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ جمعا في الموضعين. وقرأ أبو عمرو والأعرج وأبو رجاء والشعبى وابن جبير والضحاك: (وأتبعناهم) بالنون (ذرياتهم بهم) جمعا في الموضعين، فكون الذرية جمعا في نفسه حسّن الإفراد في هذه القراءات، وكون المعنى يقتضى انتشارا وكثرة حسّن جمع الذرية في قراءة من قرأ: (ذرياتهم) . والَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ واتَّبَعَتْهُمْ خبره، واتَّبَعَتْهُمْ فعل متعد إلى مفعول، واتَّبَعَتْهُمْ متعدى بالهمزة إلى مفعولين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 والذريات التى كانت فاعله صارت مفعولا ثانيا، وهكذا في جميع موارد هذا الفعل حيث وردت كقوله تعالى: لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً. وقوله صلى الله عليه وسلّم: «وأتبعه ستا من شوال» . وقوله: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» . وقوله: «وأتبع أهل القليب لعنة» «1» فى جميع هذه آخر الذى كان فاعلا ولم يقدم على قياس قوله تعالى: وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ «2» . وقوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا «3» ونحو ذلك. والظاهر أنه يجوز العكس في الموضعين بأن يقول: «أتبعت الذرية أباهم» و «أسكنت الأرض إياكم» . ولعل اختيار العكس للبدأة بالأهم، وإنما عرف هذا بالقرينة، ولو قلت: «أتبعت زيدا عمرا، وأورثت سالما غانما، احتمل» ، والحمل على ما ورد من نظائرها يقتضى أن عمرا تابع وسالما وارث. وقوله: «بإيمان» متعلق ب «أتبعنا» . وقال الزمخشرى: متعلق ب «ألحقنا» وهل هو إيمان الذرية فيراد بهم الكبار البالغون، أو إيمان الآباء فيراد بهم الصغار؟ فيه خلاف، والصحيح أنه يراد بهم الصغار. وعلى هذا فالتنكير في الإيمان يراد به التعظيم تنبيها على أنه إيمان خالص عظيم المنزلة، وعلى الأول يكون التنكير للتقليل كأنه قال: شىء من الإيمان لا يوصلهم لدرجة الآباء أتبعناهم آباءهم. وهل التبع في الدخول أو في رفع الدرجة؟ قال أبو على الفارسى: إن حملت الذرية على الصغار كان قوله: «بايمان» فى موضع النصب على الحال من المفعول، أى اتبعتهم بإيمان من الآباء ذريتهم. يعنى على قراءة الجمهور، وكلا القولين مروى عن ابن عباس رضى الله عنه. وقال الواحدى: والوجه أن تحمل الذرية على الصغير والكبير؛ لأن الكبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 يتبع الأب بإيمان نفسه، والصغير يتبع الأب بإيمان الأب، والذرية تقع على الصغير والكبير. وقد اختلف الناس في معنى الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: قال ابن عباس رضى الله عنهما، وابن جبير، والجمهور: أخبر الله تعالى أن المؤمنين الذين تتبعهم ذريتهم في الإيمان، فيكونون مؤمنين كآبائهم، وإن لم يكونوا في التقوى والأعمال كالآباء، فإنه يلحق الأبناء بمراتب أولئك الآباء كرامة للآباء. وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبى صلى الله عليه وسلّم فجعلوا الحديث تفسير الآية، وهو ما رواه جبارة بن المغلس، حدثنا قيس عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله ليرفع ذرية المؤمن إليه في درجته، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، ثم قرأ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ . قال: ما أنقصنا الآباء بما أعطيناه البنين. قال ابن عطية: وكذلك وردت أحاديث تقتضى أن الله تعالى رحم الآباء رعيا للأبناء الصالحين. ثانيها: قال ابن عباس رضى الله عنهما أيضا والضحاك: معنى هذه الآية أن الله تعالى ألحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين، يعنى الموارثة والدفن في قبور المسلمين وفي أحكام الآخرة، وفي الجنة، ومعنى هذا القول أن أولادهم الكبار تبعوهم بإيمان منهم، وأولادهم الصغار تبعوهم بإيمان الآباء، لأن الولد يحكم له بالإسلام تبعا لوالديه، فيكون معنى الآية على هذا. وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ ، أى إن بلغت أن آمنت ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان. ثالثها: ذهب بعض الناس إلى إخراج هذا المعنى من هذه الآية، وذلك لا يترتب إلا بأن يجعل اسم الذرية بمثابة نوعهم على نحو ما هو في قوله تعالى: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ «1» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وقال الكلبى عن ابن عباس رضى الله عنه: إن كان الآباء أرفع درجة من الأبناء رفع الله تعالى الأبناء إلى درجة الآباء، وإن كان الأبناء أرفع درجة من الآباء رفع الله الآباء إلى درجة الأبناء. وهذا القول اختيار الفراء. والآباء على هذا القول داخلون في اسم الذرية، ويجوز ذلك كما قيل في قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. قال ابن عطية: وفي هذا نظر. وحكى أبو حاتم عن الحسن أنه قال: الآية في الكبار من الذرية، وليس فيها من الصغار شىء. وقال القاضى منذر بن سعيد البلوطى: هى في الصغار لا في الكبار. وحكى الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى قولا معناه: أن الضمير في قوله: بِهِمْ عائد على الذرية، والضمير الذى بعده في ذُرِّيَّتُهُمْ* عائد على «الذين آمنوا» أى اتبعتهم الكبار، وألحقنا نحن بالكبار الصغار. قال ابن عطية: وهذا قول مستنكر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أيضا أنه فسّر الذين آمنوا: بالمهاجرين والأنصار، والذرية: بالتابعين. قال ابن عطية: وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأول بمعنى أن الصغار والكبار المقصرين يلحقون بالآباء؛ لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة، فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسىء، ولفظه «ألحقنا» تقتضى أن للملحق بعض التقصير في الأعمال. قال جامعه: خرّج الحاكم من حديث عبد الرزاق، عن سفيان الثورى، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قال: إن الله عز وجل يرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل، ثم قرأ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ. يقول: وما أنقصناهم «1» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وروى شريك عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: يدخل الرجل الجنة فيقول: أين أبى؟ أين أمى؟ أين ولدى؟ أين زوجى؟ فيقال له: لم يعملوا مثل عملك. فيقول: كنت أعمل لى ولهم، فيقال لهم: ادخلوا الجنة. ثم قرأ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ «1» . قال جامعه: فإذا أكرم الله تعالى المؤمن لإيمانه، فجعل ذريته الذين لم يستحقوا درجته معه في الجنة لتقصيرهم، فالمصطفى صلى الله عليه وسلّم أكرم على ربه تبارك وتعالى من أن يهين ذريته بإدخالهم النار في الآخرة، وهو عز وجل يقول: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «2» . بل من كمال شرفه صلى الله عليه وسلّم ورفيع قدره، وعظيم منزلته عند الله عز وجل، أن يقر الله سبحانه وتعالى عينه بالعفو عن جرائم ذريته، والتجاوز عن معاصيهم، ومغفرة ذنوبهم، وأن يدخلهم الجنة من غير عذاب جهنم. وقال تعالى: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً «3» . قال سفيان عن مسعر عن عبد الملك عن ميسرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضى الله عنهما في قوله: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً قال: حفظا لصلاح أبيهما، وما ذكر عنهما صلاحا. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين «4» ، وكان السابع من آبائهما. قال جامعه: فإذا صح أن الله سبحانه قد حفظ غلامين لصلاح أبيهما فيكون قد حفظ الأعقاب برعاية الأسلاف وإن طالت الأحقاب «5» . ومن ذلك ما جاء في الأثر أن حمام الحرم من حمامتين عشّشتا على فم الغار الذى اختفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فلذلك حرّم حمام الحرم. وإذا كان كذلك فمحمد صلى الله عليه وسلّم أحرى وأولى وأحق، وأجدر أن يحفظ الله ذريته، فإنه إمام الصلحاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وما أصلح الله فساد خلقه إلا به. ومن جملة حفظ الله تعالى لأولاد فاطمة عليها السلام أن لا يدخلهم النار يوم القيامة. وقد خرج أبو داود الطيالسى، حدثنا عمرو بن ثابت، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل، عن حمزة بن أبى سعيد الخدرى عن أبيه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «ما بال أقوام يزعمون أن رحمى لا تنفع، والذى نفسى بيده إن رحمى لموصلة في الدنيا والآخرة وإنى فرطكم «1» على الحوض، أيها الناس ألا وسيجىء قوم يوم القيامة، فيقول القائل منهم: يا رسول الله، أنا فلان بن فلان، فأقول: أما النسب فقد عرفت، ولكنكم ارتددتم بعدى، ورجعتم القهقرى» «2» . ورواه شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن سعيد بن المسيب وحمزة ابن أبى سعيد، عن أبى سعيد الخدرى، عن النبى صلى الله عليه وسلّم فذكره، قيل لشريك: يا أبا عبد الله، علام حملتم هذا الحديث؟ قال: عن أهل الردة. ورواه قتيبة وعبد الرحمن بن شريك عن شريك. وقال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ «3» قال أبو جعفر الطبرى: يقول الله تعالى: جنات عدن يدخلها هؤلاء الذين وصف صفتهم، وهم الذين يوفون بعهد الله، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم، والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم، وأقاموا الصلاة، وفعلوا الأفعال التى ذكرها الله تعالى في هذه الآيات الثلاث، ومن صلح من آبائهم وأزواجهم، وهم نساؤهم وأهلوهم، وذرياتهم، وصلاحهم: إيمانهم بالله تعالى، واتباعهم أمره، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلّم. ثم ذكر عن مجاهد: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ من آمن في الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وقال الإمام أبو الحسن على بن أحمد الواحدى «1» : «ومن صلح» موضع «من» رفع عطف على الواو في «يدخلونها» . وقال أبو إسحاق: وجائز أن يكون نصبا كما تقول: «دخلوا وزيدا» أى مع زيد. وقال ابن عباس رضى الله عنهما: «ومن صلح من آبائهم» يريد من صدق بما صدقوا به، وإن لم يعمل مثل أعمالهم. وقال أبو إسحاق: اعلم أن الأنساب لا تنفع بغير أعمال صالحة. فعلى قول ابن عباس، رضى الله عنهما: معنى صلح: صدق، وآمن، ووحد، وعلى ما ذكره أبو إسحاق معناه: صلح في عمله. والصحيح ما قال ابن عباس، رضى الله عنهما؛ لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بما يراه في أهله حيث بشره بدخول الجنة مع هؤلاء، فدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع العامل، ولا فائدة للتبشير والوعد إلا بهذا؛ إذ كل مصلح في عمله قد وعد دخول الجنة. وقال القرطبى: «ومن صلح من آبائهم» يجوز أن يكون معطوفا على «أولئك» والمعنى: أولئك ومن صلح من آبائهم وأزواجهم، وذرياتهم لهم عقبى الدار. ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المرفوع في: «يدخلونها» وحسن العطف لما حال الضمير المنصوب بينهما، ويجوز أن يكون المعنى: يدخلونها فيدخلها من صلح من آبائهم أى من كان صالحا، لا يدخلونها بالأنساب، ويجوز أن يكون موضع «من» نصبا على تقدير: يدخلونها مع من صلح من آبائهم، أى: وإن لم يعملوا مثل أعمالهم يلحقهم الله تعالى بهم كرامة لهم. وقال ابن عباس، رضى الله عنهما: هذا الصلاح: الإيمان بالله والرسول، ولو كان لهم مع الإيمان طاعات أخرى لدخلوها بطاعتهم لا على وجه التبعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 قال القشيرى: وفي هذا نظر؛ لأنه لابد من الإيمان فالقول في اشتراط العمل الصالح كالقول في اشتراط الإيمان، فالأظهر أن هذا الصلاح في جملة الأعمال، والمعنى أن النعمة غدا تتم عليهم بأن جعلهم مجتمعين مع قراباتهم في الجنة وإن كان لا يدخلها كل إنسان بعمل نفسه، بل برحمة الله تعالى. قال جامعه: فإذا جاز أن يكرم الله تعالى عباده المؤمنين بالذين عملوا بطاعته، ونهوا أنفسهم عن مخالفته بأن يدخل معهم الجنة من أهاليهم وذوى قراباتهم من كان مؤمنا قد قصّر في عبادة ربه، وخالف بعض ما نهى عنه بطريق التبعية لهم، لا أنهم قد استحقوا تلك المنازل بما أسلفوا من الطاعات في أيام الحياة الدنيا، فرسول الله صلى الله عليه وسلّم سيد المرسلين وإمام المتقين لولىّ بهذه الكرامة أن يدخل الله تعالى عصاة ذريته الجنة تبعا له، ويرضى عنهم أخصامهم. وقال تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1» . قال الطبرى: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم: قل يا محمد للذين يمارونك في الساعة من مشركى قومك: قل لا أسألكم أيها القوم على دعايتكم إلى ما أدعوكم إليه من الحق الذى جئتكم به، والنصيحة التى أنصحكم، ثوابا وجزاء وعوضا من أموالكم تطعونيه إلا المودة في القربى، فاختلف أهل التأويل ما يعنى بقوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال بعضهم: معناه: إلا أن تودونى في قرابتى منكم وتصلوا رحمى بين وبينكم. ثم ذكر من طريق الشعبى عن ابن عباس، رضى الله عنهما قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبينهم قرابة، فقال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودونى في القرابة التى بينى وبينكم. وعن طاوس في قوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال: سئل عنها ابن عباس رضى الله عنهما فقال سعيد بن جبير: هى قربى آل محمد، فقال: عجل أبو عبد الله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يكن بطن من بطون قريش إلا وله فيه قرابة قال: فنزلت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «2» . قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 إلا القرابة التى بينى وبينكم أن تصلوها «1» . وفي رواية عن ابن عباس، رضى الله عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قرابة فى جميع قريش، فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال: يا قوم إن أبيتم أن تتابعونى فاحفظوا قرابتى فيكم، لا يكن غيركم من العرب أولى أن يحفظنى وينصرنى منكم. وفي رواية عن ابن عباس، رضى الله عنهما، يعنى محمدا صلى الله عليه وسلّم قال لقريش: لا أسألكم من أموالكم شيئا ولكن لا تؤذونى لقرابة بينى وبينكم، فإنكم قومى وأحق من أطاعنى، وأجابنى. وعن عكرمة رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وسلّم كان واسطا في قريش، وكان له فى كل بطن من قريش نسب فقال: لا أسألكم عليه أجرا على ما أدعوكم إليه إلا أن تحفظونى في قرابتى. وعن أبى مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بنى هاشم، وأمه من بنى زهرة، وأم أبيه من بنى مخزوم، فقال: «احفظونى في قرابتى» . وعن عكرمة قال: «تعرفون قرابتى وتصدقونى فيما جئت به وتمنعونى» . وعن قتادة: أن الله أمر محمدا صلى الله عليه وسلّم أن لا يسأل الناس على هذا القرآن أجرا إلا أن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة، وكل بطون قريش قد ولدته، وبينه وبينهم قرابة. وعن مجاهد قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أن يتبعونى ويصدقونى ويصلوا رحمى. وعن السدّى قال: لم يكن بطن من بطون قريش إلا لرسول صلى الله عليه وسلّم فيهم ولادة، فقال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودونى لقرابتى منكم. وعن الضحاك في قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى يعنى قريشا، يقول: إنما أنا رجل منكم فأعينونى على عدوى، واحفظوا قرابتى، وإن الذى جئتكم به لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى أن تودونى لقرابتى وتعينونى على عدوى. وعن أبى زيد يقول: إلا أن تودونى لقرابتى كما توادونى في قرابتكم وتواصلون بها، ليس هذا الذى جئت به يقطع ذلك عنى، فلست أبتغى على الذى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 جئت به أجرا آخذه على ذلك منكم. وعن قتادة قال: كل قريش قد كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرابة، فقال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودونى بالقرابة التى بينى وبينكم. وعن عطاء بن دينار يقول: لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا إلا أن تودونى فى قرابتى منكم وتمنعونى من الناس. وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل لمن اتبعك من المؤمنين لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا إلا أن تودوا قرابتى. ثم ذكر عن السدّى عن أبي الديلم قال: لما جىء بعلى بن الحسين أسيرا، وأقيم على درج «1» دمشق، قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد الله الذى قتلكم واستأصلكم، وقطع قرن الفتنة. فقال له على: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: قرأت: «آل حم» ؟ قال: قرأت القرآن ولم اقرأ «آل حم» . قال: ما قرأت قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ؟ قال: فإنكم لإياهم؟ قال: نعم. وعن مقسم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: قالت الأنصار: فعلنا وفعلنا، فكأنهم فخروا، فقال ابن عباس- أو العباس: لنا الفضل عليكم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتاهم في مجالسهم فقال: يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلاء فأعزكم الله بى؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بى؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أفلا تجيبونى؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: ألا تقولون: أولم يخرجك قومك فآويناك؟ أولم يكذبوك فصدقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك؟ قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا، وما في أيدينا لله ولرسوله. قال: فنزلت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى. وعن أبي العالية عن سعيد بن جبير: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال: هى قربى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وعن أبى إسحاق: سألت عمرو بن شعيب، عن قول الله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال: قربى النبى صلى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وقال آخرون: بل معنى ذلك: قل لا أسألكم أيها الناس على ما جئتكم به أجرا إلا أن توددوا إلى الله، وتتقربوا إليه بالعمل الصالح والطاعة. ثم ذكر من طريق قزيمة بن سويد عن ابن أبى نجيح عن مجاهد، عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «قل لا أسألكم على ما جئتكم به من البينات والهدى أجرا إلا أن تودوا الله وتتقربوا إليه بطاعته» . وعن الحسن: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال: القربى إلى الله. وفي رواية: إلا التقرب إلى الله تعالى، والتودد إليه بالعمل الصالح. وفي رواية: قل لا أسألكم على ما جئتكم به أجرا إلا المودة في القربى: إلا أن توددوا إلى الله تعالى بما يقربكم إليه من عمل بطاعته. وعن قتادة: عن الحسن، بنحوه. وقال آخرون: بل معنى ذلك: إلا أن تصلوا قرابتكم. ثم ذكر عن عبد الله بن القاسم في قوله: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال: أمرت أن تصل قرابتك. قال الطبرى: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معناه: قل لا أسئلكم عليه أجرا يا معشر قريش إلا أن تودونى في قرابتى منكم، وتصلوا الرحم التى بينى وبينكم ثم استدل لذلك. وقال ابن عطية «1» : اختلف الناس في معناه- يعنى قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال ابن عباس، رضى الله عنهما، وغيره: هى آية مكية نزلت في صدر الإسلام، ومعناها: استكفاف «2» شر الكفار، ودفع أذاهم، أى إنى ما أسألكم على القرآن والدين، والدعاء إلى الله تعالى إلا أن تودونى لقرابة هى بينى وبينكم فتكفوا عنى أذاكم. قال ابن عباس، وابن إسحاق، وقتادة: لم يكن في قريش بطن إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم نسب أو صهر، والآية على هذا هى استعطاف، ودفع أذى وطلب سلامة منهم، وذلك كله منسوخ بآية السيف، ويحتمل على هذا التأويل أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 معنى الكلام استدعاء نصرهم أى لا أسألكم غرامة ولا شيئا إلا أن تودونى لقرابتى منكم، وأن تكونوا أولى بى من غيركم. وقال مجاهد: المعنى إلا أن تصلوا رحمى باتباعى. وقال ابن عباس أيضا ما يقتضى أنها مدنية، وسببها: أن قوما من شباب الأنصار فاخروا المهاجرين وطالوا بالقول على قريش، فنزلت الآية في ذلك على معنى: إلا أن تودونى فتراعونى في قرابتى وتحفظونى فيهم. وقال بهذا المعنى في هذه الآية: على بن الحسين رضى الله عنهما، واستشهد بهذه الآية حين سيق إلى الشام أسيرا. وهو تأويل سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب، وعلى هذا التأويل قال ابن عباس رضى الله عنهما، قيل: يا رسول الله، من قرابتك الذين أمرنا بمودتهم؟ فقال: «على وفاطمة وابناهما» . وقيل: هم ولد عبد المطلب. قال ابن عطية: وقريش كلها عندى قربى وإن كانت تتفاضل. وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ومن مات على بغضهم لم يشم رائحة الجنة» . وقال ابن عباس أيضا- فى كتاب الثعلبى: سبب نزول هذه الآية أن الأنصار جمعت لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مالا وساقته إليه فرده عليهم، ونزلت الآية في ذلك. وقال ابن عباس أيضا: معنى الآية: قربى الطاعة، والتزلف إلى الله تعالى كأنه قال: إلا أن تودونى لأنى أقربكم من الله، وأريد هدايتكم وأدعوكم إليها. وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه: إلا أن تتوددوا إلى الله تعالى بالتقرب إليه. وقال عبد الله بن القاسم في كتاب الطبرى: معنى الآية إلا أن تتوددوا بعضكم إلى بعض، وتصلوا قراباتكم، فالآية على هذا أمر بصلة الأرحام. وذكر النقاش عن ابن عباس، ومقاتل والكلبى والسدى: أن الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة سبأ: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ «1» . والصواب أنها محكمة، وعلى كل قول فالاستثناء منقطع، و «إلا» بمعنى لكن، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قال جامعه: ويظهر لى أن الخطاب في الآية عام لجميع من آمن، وذلك أن العرب بأسرها قوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذين هو منهم، فيتعين على من سواهم من العجم أن يوادوهم، ويحبوهم. وقد ورد في الأمر بحب العرب أحاديث، وأن قريشا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من اليمن كلهم، فإنهم كلهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فعلى كل يمانى من العرب أن يود قريشا ويحبهم من أجل أنهم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبنو أبيه إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام. وقد وردت أحاديث في تفضيل قريش وفي تقديمها على غيرها وأن بنى هاشم رهط رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأسرته، فيجب ويتعين على من عداهم من قريش محبتهم ومودتهم، وأن عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وذريتهما أقرب العرب من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتتأكد مودتهم، ويجب على بنى هاشم، بل وجميع قريش إكرامهم لما يجب من أكيد مودتهم ويتعين من فضائلهم، وفوق كل ذى علم عليم. وقال الطوفى: اختلف في القربى فقيل: هى قربى كل مكلف أوصى بمودتها فهى كالوصية بصلة الرحم، وقيل: هى قربى النبى صلى الله عليه وسلّم ثم اختلف فيها فقيل: هى جميع بطون قريش كما فسره ابن عباس رضى الله عنهما فيما رواه البخارى وغيره. وقيل: هى قرابة الأدنين، وهم أهل بيته: على وفاطمة وولداهما أوصى بمودتهم، وعند هذا استطالت الشيعة وزعموا أن الصحابة رضى الله عنهم خالفوا هذا الأمر، ونكثوا هذا العهد بأذاهم أهل البيت بعد النبى صلى الله عليه وسلّم مع أنه سأل مودتهم ونزلها منزلة الأجر على ما لا يجوز الأجر عليه. وإلى هذه الآية أشار الكميت بن زيد الأسدى «1» وكان شيعيا حيث يقول: وجدنا لكم في آل حم آية ... تأوّلها منا تقى ومعرب «2» أى المجاهر، ومن يحب التقية جميعا، فتأولناها جميعا على أنكم المراد بها. وأجاب الجمهور بمنع أن القربى فيها من ذكرتم، ثم يمنع أن أحدا من الصحابة رضى الله عنهم، آذاهم أو نكث العهد فيهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 حدثنى الشيخ الفقيه الحنفى الصوفى جمال الدين أبو المحاسن محمد بن إبراهيم بن أحمد المرشدى المكى، حرّمه الله بالمحرم الشريف تجاه الكعبة المعظمة قال: أخبرنى الإمام العلامة مفتى المسلمين زين الدين عبد الرحمن الخلال البغدادى، وقد جاور بمكة- شرفها الله تعالى- أن بعض أمراء تيمور لنك أخبره أنه لما مرض تيمور لنك مرض الموت اضطرب ذات يوم اضطرابا كثيرا واسود وجهه وتغير لونه ثم أفاق، فذكروا له ذلك فقال: إن ملائكة العذاب أتته، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال لهم: اذهبوا عنه، فإنه كان يحب ذريتى ويحسن إليهم، فذهبوا. وقد حدثنى بهذا الخبر عن الخلال أيضا تلميذه الفاضل شرف الدين أحمد بن إسماعيل بن عثمان الشهرزورى الكورانى الشافعى والشيخ جمال الدين المرشدى، والشيخ زين الدين الخلال. وللشيخ شرف الدين الكورانى عندى ترجمة في كتاب «درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة» وكتب إلى المحدث الفاضل أبو حفص بن محمد الهاشمى، وشافهنى به غير مرة قال: أخبرنى الشيخ شمس الدين محمد بن حسن الخالدى قال: رأى بعض أصحابنا النبى صلى الله عليه وسلّم في المنام ورأى عنده تيمور لنك فقال له: وصلت إلى هنا يا عدو؟ فقال له النبى صلى الله عليه وسلّم: «إليك يا محمد فإنه كان يحب ذريتى» . وحدثنى الشيخ الفاضل يعقوب بن يوسف بن على بن محمد القرشى المكناسى قال: أخبرنى أبو عبد الله محمد الفاسى قال: كنت أبغض بنى حسين أشراف المدينة المنورة لما كان يظهر لى من تعصبهم على أهل السنة بالمدينة وتظاهرهم بالبدع مدة مجاورتى بالمدينة، فنمت مرة بالنهار بالمسجد النبوى تجاه القبر المقدس، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يقول لى: يا فلان، ما لى أراك تبغض أولادى؟ فقلت: حاشا لله يا رسول الله، ما أكرههم، وإنما كرهت منهم ما رأيت من تعصبهم على أهل السنة. فقال لى مسألة فقهية: أليس الولد العاق يلحق بالنسب؟ فقلت: بلى يا رسول الله. فقال: هذا ولد عاق، فانتبهت وقد زال بغضى لهم وصرت لا ألقى أحدا من بنى حسين أشراف المدينة إلا بالغت في إكرامه ولله الحمد والمنة. وقد ذكرت المذكور في كتاب «درر العقود» ونعم الرجل هو. وحدثنى قاضى القضاة عز الدين عبد العزيز بن عبد العزيز بن عبد المحمود البكرى البغدادى الحنبلى قال: رأيت في المنام كأنى بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 انفتح القبر المقدس وخرج منه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجلس وعليه أكفانه وأشار بيده المقدسة أن تعال، فقمت وجئت حتى دنوت منه، فقال لى: قال للمؤيد يفرج عن عجلان، فانتبهت وصعدت على عادتى إلى مجلس السلطان المؤيد شيخ، وأخذت أحلف له إيمانا حرجة أنى ما رأيت عجلان قط، ولا بينى وبينه معرفة ثم قصيت عليه رؤياى، فسكت وقمنا حتى انفض المجلس، فقام وخرج من مجلسه إلى دركاه القلعة «1» ووقف عند مرماه نشّاب استجدها، ثم استدعى الشريف عجلان من سجنه وأفرج عنه. ولما حدثنى القاضى عز الدين بهذا الخبر أقسم بالله أنى ما كنت قبل رؤياى هذه أعرف الشريف عجلان بل ولا رأيته قط. قلت: عجلان هذا هو الشريف عز الدين عجلان بن تعير بن منصور بن جماز بن شيخة بن هاشم بن قاسم بن مهنا ابن حسين بن مهنا بن داود بن قاسم بن عبد الله بن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن على بن حسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم. ولى المدينة النبوية بعد وفاة أخيه ثابت بن تعير، ثم عزل، ثم أعيد، ثم عزل ثانيا بعزيز بن هيازع بن هبة بن جماز بن منصور في ذى الحجة سنة إحدى وعشرين وثمانمائه، وحمل في الحديد من المدينة إلى القاهرة وسجن في برج بقلعة الجبل حتى أفرج عنه عند ما ذكر القاضى عز الدين المنام للملك المؤيد شيخ، وأعيد بعد ذلك إلى إمارة المدينة، ثم عزل عنها بخشرم بن دوفان بن جعفر بن هبة بن جماز، وقتل في ذى الحجة سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة في حرب بينه وبين مانع ابن على بن عطية بن منصور بن جماز، واتفق أن الشريف سرواح بى مقبل بن نخبار ابن مقبل بن محمد بن رابح بن إدريس بن حسن بن أبى عزيز قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسن بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسين ابن على بن أبى طالب رضى الله عنهم، قبض على أبيهم مقبل أمير ينبع في سنة خمس وعشرين وثمانمائة وأقيم عوضه في إمرة ينبع ابن أخيه عقيل بن زبير بن نخبار، وحمل حتى سجن بالإسكندرية، ومات في سجنه، وكحل ابنه سرواح هذا حتى سالت حدقتاه وورم دماغه ونتن، وأقام خارج القاهرة مدة وهو أعمى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ثم مضى إلى المدينة المنورة ووقف تجاه قبر جده المصطفى صلى الله عليه وسلّم وشكا ما به وبكى ودعا الله تعالى ثم انصرف، وبات تلك الليلة فرأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد مسح بيده المقدسة على عينه فانتبه، وقد رد الله عليه بصره فاشتهر خبره عند أهل المدينة وأقام عندهم مدة ثم عاد إلى القاهرة، فبلغ السلطان الملك الأشرف برسباى قدومه وأنه يبصر فقبض عليه وطلب المزينين اللذين أكحلاه وضربهما ضربا مبرحا فأقاما عنده بيّنة يرتضيها من أتباعه بأنهم شاهدوا الميل وقد أحمى بالنار ثم كحل به سرواح فسالت حدقتاه بحضورهم، فعند ذلك كف عن قتلهما؛ لأنه ظن أنهما تمالأا على عدم إكحاله، وكذلك أخبر أهل المدينة النبوية أنهم شاهدوا سرواح وهو ذاهب الحدقتين ثم إنه أصبح عندهم وقد أبصر بعد عماه وقص عليهم رؤياه، فأفرج عن سرواح وأقام حتى مات بالطاعون في آخر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة شهيدا غريبا مقلا. وحدثنى الرئيس شمس الدين محمد بن عبد الله العمرى قال: سرت يوما في خدمة القاضى جمال الدين محمود العجمى محتسب القاهرة من منزله حتى جاء إلى بيت الشريف عبد الرحمن الطباطبى المؤذن ومعه نوابه وأتباعه، فاستأذن عليه فخرج من منزله وعظم عليه مجىء المحتسب إليه وأدخله إلى منزله فدخلنا معه وجلسنا بين يديه على مراتبنا فلما اطمأن به الجلوس قال للشريف: يا سيد حاللنى قال: ألم أحاللك يا مولانا؟ قال: لما صعدت البارحة إلى القلعة وجلست بين يدى مولانا السلطان- يعنى الظاهر برقوق- فجئت أنت وجلست فوقى في المجلس فقلت في نفسى: كيف يجلس هذا فوقى بحضرة السلطان؟ ثم لما قمنا وكان الليل ونمت رأيت في نومى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا محمود، تأنف أن تجلس تحت ولدى؟ فبكى عند ذلك الشريف عبد الرحمن وقال: يا مولانا، ومن أنا حتى يذكرنى رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ فبكى الجماعة وسألوه الدعاء وانصرفنا، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم. تتبعه مؤلفه أحمد بن على المقريزى وذلك في ذى القعدة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 المقاصد السنية فى معرفة الأجسام المعدنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه والتابعين، صلاة باقية إلى يوم الدين ... وبعد: فهذه مقالة وجيزة في ذكر المعادن قدتها تذكرة لى ولمن شاء الله تعالى من عباده، وبالله أستعين فهو المعين. اعلم أن الأرض «1» جسم بسيط طبعها بارد يابس وهى متحركة إلى الوسط، وشكها قريب من الكرة، والقدر الخارج منها محدث، وخلقت باردة لأجل الغلظ والتماسك، إذ لولاهما لما أمكن قرار الحيوان على ظهرها «2» ، وحدوث المعادن والنبات في جوفها، وهى ثلاث طبقات: طبقة قريبة من المركز وهى الأرض الصرفة، وطبقة طينية انكشف بعضها وأحاط البحر بالبعض الآخر والأرض الأفلاك «3» وهى واقعة في الوسط، والهواء والماء يحيط بها من جميع الجهات. والإنسان في أى موضع وقف على سطح الأرض تكون رأسه مما يلى السماء ورجلاه مما يلى الأرض، وهو يرى من السماء نصفها، وإذا انتقل إلى موضع آخر ظهر له من السماء مقدار ما خفى عنه من الجانب الآخر، ولكل تسعة عشر فرسخا «4» فى الأرض درجة من درجات الفلك، والبحر محيط بأكثر وجه الأرض، والمكشوف منها قليل وهو ناء عن الماء على هيئة بيضة غاطسة في الماء، وقد خرج من الماء محدبها، وليست الأرض منتصبة ولا ملساء ولا مستديرة، بل كثيرة الارتفاع والانخفاض، وأما باطنها فكثيرة الأودية والأهوية والكهوف والمغارات، ولها منافذ وخلجانات ممتلئة مياها وبخورات ورطوبات دهنية ينعقد منها الجواهر المعدنية، وتسلك الأبخرة والرطوبات دائما في الاستحالة والتغير والفساد. وأما ظهرها فكثير الجبال والأودية والجداول والبطاح «5» والآجام «6» والرحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 والغدران «1» ، وفيها منافذ وخلجان تجرى بعضها إلى بعض دائما، والرياح والغيوم والأمطار لا تنقطع منها أبدا ألا أن البقاع تختلف شرقا وغربا وجنوبا وشمالا في الليل والنهار والصيف والشتاء، والمعادن والنبات والحيوان أبدا في الكون والفساد، فما في الأرض موضع إلا وهناك معدن أو نبات أو حيوان بحسب اختلاف صورتها ومزاجها وأجناسها وألوانها وأنواعها، لا يعلم تفصيلها إلا الله خالقها لا إله إلا هو. فصل: الأجسام المتولدة إما نامية أو غير نامية، والنامية إما أن تكون لها قوة الحس والحركة أو لا، فالتى لها الحس والحركة هى الحيوان، والتى لا حس لها ولا حركة فهى النبات «2» وغير النامية فهى المعادن، وأول ما تستحيل إليه الأركان الأبخرة والعصارات، فالبخار ما يصعد من لطيف مياه البحار والآبار والآجام بواسطة تسخين الشمس، والعصارات ما يمكث في بطن الأرض من مياه الأرض ويختلط بالأجزاء الأرضية فيغلظ وتنضجها الحرارة المختنقة في عمق الأرض فتصيرها مادة للمعادن والنبات والحيوان، وأول مراتب الكائنات تراب وآخرها نفس ملكية «3» . فالمعادن أولها متصل بالتراب وآخرها متصل بالنبات، والنبات أوله متصل بالنبات وآخره متصل بالإنسان، والإنسان أوله متصل بالحيوان وآخره متصل بالملائكة. وبيان ذلك: أن أول المعادن الجص والملح مما يلى التراب، فهو تراب رملى حصل له بلل من الأمطار فانعقد وصار حصى، والملح مما يلى الماء وهو ما امتزج باخرا سبخة من الأرض فانعقد ملحا. وآخر المعادن مما يلى الكمأة «4» وهى تتكون في التراب كالمعدن وتنبت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 مواضع نديّة أيام الربيع من الأمطار وأصوات الرعود، وكما ينبت النبات ففيها شبه من المعدنيات لكونها نامية كنمو النبات. وأما النبات فإن أوله وأدونه مما يلى التراب وهو خضراء الدمن «1» والكمأة، أما خضراء الدمن فإنها غبار يتلّبد من الأرض فيصيبه بلل الأمطار فيصبح بالمغدوات أخضر، كأنها حشيش أخضر من نداوة الليل وطيب النسيم، ولا تنبت الكمأة ولا خضراء الدمن إلا في زمن الربيع، فأحدها نبات معدن والآخر معدن نباتى. والنبات أشرفه النخلة «2» فإن أحوالها مباينة أشخاص النبات، فإن فحولة النخل مباينة لأشخاص إناثه، ولفحولته في إناثه لقاح كما في الحيوان، وإذا قطع رأس النخلة جفّت وبطل ثمرتها كالحيوان، وغير متبين أن النخلة نبات حيوان، وأما الحيوان فإن أوله وأدونه يشبه النبات وهو ما ليس له سوى حاسة اللمس فقط وهو الحلزون «3» فإنه دودة في جوف أنبوبة حجرية توجد بالسواحل، وتلك الدودة تبرز لنصف بدنها من جوف تلك الأنبوبة وتنبسط يمنة ويسرة لطلب ما تغتذى به فإذا أحست برطوبة أو لين انبسطت، وإن أحست بصلابة انقبضت واستترت في جوف الأنبوبة من فوق لجسمها وليس لها سمع ولا ذوق ولا شم إلا اللمس فقط. وهذا حال أكثر الديدان المتولدة من الطين، فهذا النوع حيوان نباتى؛ لأنه ينبت جسمه كما ينبت النبات، وأما الحيوان الذى يلى الإنسان فالقرد «4» ؛ لأن شكل جسده قريب من جسد الإنسان، ونفسه تحاكى أفعال النفوس الإنسانية، وكذا الفرس «5» الجواد، فإن الأصايل من الخيول لها ذكاء وحسن أدب وكرم أخلاق حتى أنها لا توّرث ما دام المالك راكبها، ولها أقدام في الهيجاء «6» وصبر على الطعن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وكذا الفيل «1» فإنه يفهم الخطاب ويمتثل الأمر والنهى كأنه إنسان عاقل، وآخر مرتبة الحيوان الإنسان، وهو طبقتان أدناها يلى الحيوان وهم الذين لا يعلمون سوى المحسوسات ولا يرغبون إلا في زينة الحياة الدنيا ولذاتها من الأكل والشرب والنكاح. قال الله تعالى فيهم: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا «2» . فهم يرتقون كالخنازير والحمر «3» ويدّخرون ما يحتاجون إليه كالنمل، ويقتتلون ويتخاصمون على حطام الدنيا كما يتشاجر «4» الكلاب على الجيف، فهؤلاء وإن كانت صورهم صور الإنسان، فإن أفعال نفوسهم أفعال حيوانية، وأعلى مراتبها الإنسانية تلى الملائكة وهى مرتبة الذين انتبهت نفوسهم من نوم الغفلة، وانفتحت أعين بصائرهم حتى رأت بنور قلوبها ما غاب عن حواسها وشاهدت بصفاء جواهرها عالم الأرواح الملكية وتبين لها سرورهم ونعيمهم فرغبت فيه وزهدت زخرف الدنيا الفانية وأقبلت على تحصيل الآخرة فهم من أصناف الملائكة مع خلطتهم لأبناء جنسهم من الآدميين. فصل في أقسام المعادن اعلم أن الأجسام المتولدة من الأبخرة والأدخنة المحتبسة في الأرض إذا اختلطت على من دب من الاختلاطات مختلطة في الكم والكيف، كانت إما قوية التركيب أو ضعيفة التركيب، والقوية التركيب: إما متطرفة، أو غير متطرفة هى الأجساد السبعة التى يقال لها: الفلزات «5» ، وهى الذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد والأسرب والخارصينى «6» . وغير المتطرفة إما في غاية اللين أو غاية الصلابة، فالتى في غاية اللين كالزئبق، والتى في غاية الصلابة كاليواقيت، وهى إما تنحل بالرطوبات وهى الأجسام الملحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 كالزاج والشب «1» والنوشادر، وإما لا تنحل وهى الأجسام الدهنية كالزرنيخ «2» والكبريت «3» على اختلاف اختلاطها في الكم والكيف. والزئبق يتولد من أجزاء مائية أرضية، فإذا أنضجتها الحرارة القوية صار كالدهن. وأما الأجسام الصلبة الشفافة فإنها تتولد من مياه عذبة وقفت في معادنها بين الحجارة الصلدة زمانا طويلا حتى غلظت وصفت وأنضجتها الحرارة في المعدن بطول مكثها. وأما غير الشفافة فإنها تتولد من الماء والطين إذا امتزجا وكانت فيهما لزوجة وأثرت فيها حرارة الشمس في المدة الطويلة، وأما الأجسام المنحلّة بالرطوبة فإنها تتولد من مياه مختلطة بأجزاء أرضية محترقة يابسة اختلاطا شديدا. وأما الأجسام الدهنية فإنها تتولد من الرطوبات المحتقنة في باطن الأرض إذا احتوت عليها حرارة المعدن حتى تحللت واختلطت بتربة البقاع، فإن زادت غلظا وصارت كالدهن. والذهب لا يتولد إلا في البرارى الرملية والجبال الرخوة، والفضة والنحاس والحديد وأمثالها لا تتولد إلا في الأراضى الندية والرطوبات الدهنية، والأملاح لا تتولد إلا في الأراضى السبخة والبقاع المالحة، والجص لا يكون إلا في الأراضى اللينة، والإسفيداج «4» لا ينعقد إلا في الأرض الرملية المختلط ترابها بالجص والزاجات «5» ، والشبوب «6» لا تتكون إلا في التراب العفن الناشف. وعلى هذا القياس حكم سائر أنواع الجواهر والأحجار، وكل واحد منها يختص ببقعة من البقاع ويتولد من خواص تلك البقعة والمعادن مع كثرة أفرادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ثلاثة أنواع: الفلزات والأحجار والأجسام الدهنية، وقد اشتهر أن الياقوت والماس واللعل والعتيق «1» والفيروزج «2» والجزع «3» واللازورد يختص بالشرق، وأن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير والزئبق والزبرجد «4» والدهنج مختص بالغرب، وأن الزمرد بمصر، ويوجد ببلاد الهند معادن ذهب، وبالرامغان معدن ذهب، وبسفالة الزنج معدن فضة، وفي الهند المهند معادن حديد تصنع منه السيوف الهندية. القول في الفلزات اعلم أن الفلزات تتوالد باختلاط الزئبق والكبريت، فإن كان الزئبق والكبريت صافيين واختلطا اختلاطا تاما وشرب الكبريت رطوبة الزئبق كما تشرب الأرض نداوة الماء وكانت فيه قوة صباغة ومقدارهما متناسبان، وحرارة المعدن تنضجهما على اعتدال ولم يعرض لهما عارض من البرد واليبس قبل إنضاجهما، فإن ذلك ينعقد على طول الزمان ذهبا إبريزا، وإن كان الزئبق والكبريت صافيين ونضج الكبريت والزئبق نضجا تاما وكان الكبريت أبيض انعقد ذلك فضة، وإن وصل إليه قبل استكمال النضج برد عاقه توّلد الخارصينى. وإن كان الزئبق صافيا والكبريت رديئا وفيه قوة محرقة توّلد النحاس، وإن كان الكبريت غير جيد الاختلاط مع الزئبق تولد الرصاص، وإن كان الزئبق والكبريت رديئين وكان الزئبق رديئا متخلخلا والكبريت رديئا متحرقّا تولد الحديد، وإن كانا مع رداءتهما ضعيفى التركيب تولد الأسرب. وبسبب هذه الاختلافات في الاختلاطات اختلفت أجناس الجواهر المعدنية وهى العوارض التى تعرض لكيفيتها مفرطة أو قاصرة، فالذهب حار لطيف ويشده اختلاط أجزائه الترابية والمائية، لا يحترق بالنار؛ لأن النار لا تقدر على تفريق أجزائه، ولا يبلى بالتراب ولا يصدأ على طول الزمان ولا تنقصه الأرض ولا يتغير ريحه بالمكث في الخبء، وهو ألطف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 شىء شخصا وأثقل شىء وزنا، وهو لين أصفر برّاق حلو الطعم طيب الرائحة ثقيل رزين، فصفرة لونه من ناريته، ولينه من دهنيته، وبرقه من صفاء ماهيته، وعزّته ليست لقلته، فإنه أكثر من النحاس والحديد، فإنه يستخرج دائما من معادنه ولا يتطرق إليه التلف بخلاف النحاس والحديد فإنهما يتلفان بطول المكث، وإنما عزّ؛ لأن من ظفر بشىء منه دفنه، فالذى تحت الأرض أضعاف الذى بأيدى الناس. ومن خواصه أنه يقوّى القلب ويدفع الصرع إن علّق على إنسان، ويمنع الفزع، ومن اكتحل بميل «1» ذهب جلا عينه وقوّاها وحسن النظر، وإن ثقبت شحمة الأذن بإبرة من ذهب لم تلتحم، وإن كون الجرح لم ينفط وبرئ سريعا، وإمساكه في الفم يزيل البخر «2» وينفع من أوجاع القلب والخفقان وحديث النفس، وإن كويت به مقادم أجنحة الحمام ألفت أبراجها، وإن طرح منه وزن حبتين في وزن عشرة أرطال زئبق غاص إلى قعره، ولو طرح في هذا القدر مائة درهم من غيره من الأجساد الثقيلة عام فوقه ولم ينزل فيه، ولو تختم بخاتم ذهب من في أصبعه داحس «3» خفف وجعه. والفضة أقرب الفلزات إلى الذهب ولولا البرد الذى أصابها قبل النضج لكانت ذهبا، وهى تحترق بالنار وتبلى بالتراب بطول المكث وتنتن بالمكث في الحجارة ولها وسخ، وإذا أصابها رائحة الزئبق أو الرصاص تكسرت عند الطرق، وإن أصابها رائحة الكبريت اسودت، ومن خواصها تقطيع الرطوبات اللزجة إذا خلطت سحالتها «4» بالأدوية المشروبة وتنفع من البخر والحكة والجرب وعسر البول، وتنفع مع الزئبق طلاء للبواسير، والشرب في آنية الفضة يسرع السكر. النحاس ويقال له: الشبه- بسكون الباء وكسر الشين- ويقال: بفتحها- قريب من الفضة لم يباينها إلا بالحمرة واليبس، فحمرته من كثرة حرارته الكبريتية، ويبسه وغلظه ووسخه من غلظ مادته، فمن قدر على تبييضه وتليينه فقد ظفر بحاجته. وأجوده الشديد الحمرة، وأردؤه المشرب بالسواد، وإذا أوفى النحاس من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الحموضات أخرج زنجارا، وإدمان الأكل فيه «1» من الأطعمة الدسمة يورث أمراضا رديئة كداء الفيل «2» والسرطانات ووجع الكبد والطحال وفساد المزاج لا سيما إن ترك فيها الدسم أو الحامض يوما وليلة، فإنه أسرع للقتل. والحديد بعيد من الاعتدال لكدورة مادته الكبريتية والربيعية وسواد لونه لإفراط حرارته، وهو أكثر فوائد من جميع الفلزات وأقلها ثمنا حتى قيل: إنه [ما] «3» من صنعة إلا وللحديد في أدواتها مدخل. وهو ثلاثة أصناف: السابورقان والأينث والذكر، والسابورقان هو الفولاذ المعدنى، وإذا علقت برادة الحديد على من يغط في نومه زال عنه، وحمل الحديد يقوى القلب ويذهب المخاوف والأفكار الرديئة، ويطرد الأحلام الرديئة ويسّر النفس، ويزيد هيبة حاملة في أعين الناس، وصداه يأكل أوساخ العين اكتحالا «4» ، ويبرئ جرب الأجفان والسيل، وينفع النقرس، والتحمل به ينفع البواسير، والماء الذى فيه الحديد ينفع من أورام الطحال وضعف المعدة، وإذا حمى مسمار بالنار حتى يحمر ودلّك به النصل «5» فإنه لا يصدأ، وإذا ألقيت برادة الحديد في شراب مسموم مصّت كل ما كان من السهم وذهب ضرره، وإذا تحملت التى بها النزيف زنجار «6» الحديد قطعه، وإذا حكّ بالخل ولطخ على الحمرة المنتشرة والبثور وعلى الداحس وخشونة الجفون والبواسير نفعها، ويشد اللثة، وينفع من النقرس إذا لطخ به، وينبت الشعر في داء الثعلب «7» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الرصاص: بفتح الراء- قاله أبو عبيد، وحكى غيره الكسر، وهو الإنك وهو الأسرب، والرصاص القلعى الشديد البياض ضد الفضة، دخلت مادته ثلاث آفات: نتن الرائحة والرخاوة والصرير، كما تدخل الآفة على الجنين في بطن أمه، ومن طوّق شجرة بطوق رصاص في أصلها من الأرض لم يسقط من ثمرتها شىء، وإذا شدت منه صفحة على الظهر سكن الإنعاظ وبطل الاحتلام، وإن ألقى شىء منه في قدر لم ينضج لحمها، وإذا دلّك الرصاص بملح ودهن دلكا قويا وأخذ من السواد الحاصل منه وطلى به السيف فإنه لا يصدأ، وإذا خلط بدهن الورد نفع من البواسير، والقروح تندمل، وإذا لطخ الأصبع بدهن أو شحم ودلك به الرصاص ولطخ به الحاجبان قوى شعرهما، وكثرة الأسرب- وهو الإنك- تولده كتولد الرصاص، وهو ردىء ومادته أكثر وسخا، ومن خواصه تكليس «1» الذهب وتكسير الماس، فإن الماس إذا وضع على سندان «2» وضرب بمطرقة لم ينكسر، ودخل في أحدهما، وإذا وضع على الأسرب تكسر باد في ضربه، وإذا شدت صفيحة أسرب على الجنازير والغدد وقروح المفاصل ذابت، وإذا شدت على البطن أضعفت الباه ومنعت كثرة الاحتلام. الخارصينى معدنه بالعين ولونه أسود يضرب إلى حمرة ويتخذ منه فصول تعظم مضرتها لا سيما إذا نشبت بشىء لا تنفصل منه إلا بعد عناء، ويتخذ منه مرآة تنفع صاحب اللقوة «3» إذا أدام النظر إليها وهو في بيت مظلم، وإذا نتف بمنقاش يعمل منه الشعر لم ينبت أبدا. القول في الأحجار اعلم أن الأحجار متولدة من مياه الأمطار والأنداء «4» المحتقنة في جوف الأرض إن كانت شفافة أو من امتزاج الماء بالأرض إن كان بأرض لزوجة وأثرت فيها حرارة الشمس زئيرا شديدا. أما القسم الأول فإن مياه الأمطار والأنداء إذا احتبست في المغارات والكهوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ولم يخالطها شىء من الأجزاء الأرضية وأثرت فيها حرارة المعدن وطال وقوفها هناك، فإنها تزداد صفاء وثقلا وغلظا، فتنعقد منها الأحجار الصلبة التى لا تتأثر من الماء والنار كاليواقيت، واختلفت ألوانها بسبب حرارة المعدن وقلّتها. أما القسم الثانى فيتولد من امتزاج الماء والأرض إذا كانت لزجة وأثرت فيها حرارة الشمس مدة طويلة، ألا ترى أن النار إذا أثرت في اللين كيف تصليه وتصيّره أجزاء، فإن الآجر صنف من الحجر إلا أنه رخو وكلما كان تأثير النار فيه أكثر كان أصلب، ثم إن هذه الأحجار تختلف باختلاف الأماكن، فإن كانت في بقاع سبخة تولدت منها أنواع الأملاح والبوارق والشبوب، وإن كانت في بقاع غضة تولدت فيها أنواع الزاجات الأحمر والأصفر والأخضر، وإن كانت في بقاع ترابية وطين حر انعقدت حجرا مطلقا، وقد ينعقد الحجر في بعض المواضع من الماء. ومن خاصية ذلك الموضع أن يرى الماء في بعض المواضع يتقاطر من أعلاه، فإن أخذ قبل أن يقع على الأرض بقى ماء، وإن ترك حتى يقع على الأرض صار حجرا صلدا، أو ما ذاك إلا لخاصية في ذلك الموضع يعقد بها الماء حجرا. ووجد في بعض المواضع حيوانات ونبات قد مسخها الله حجارة، فجاز أن يكون بهذا الطريق وأن يكون قد أفاض الله تعالى على تلك الأرض قوة عند غضبه على سكانها حتى ظهرت من جوف الأرض وصيّرت عليها شبه حجر صلد. وحكى ابن سينا أنه كان على الجبل الذى «بجاجرم» فرأى جردقا «1» من الخبز أطرافها ذاتية ووسطها مقعر كما يكون بجرادق الخبز وعلى ظهرها خطوط كما يكون الخبز من أناشق التنور «2» ، فبواسطة هذه العلامات يغلب على الظن ولا يشك الناظر إليه أنه كان خبزا فمسخه الله حجرا. والجواهر المعدنية كثيرة ولم يعرف الناس منها إلا القليل. والأحجار منها ما هو صلب لا يذوب بالنار ولا تعمل فيه القوس كاليواقيت، ومنها ما هو تراب رخو يذوب في الماء كالأملاح والزاجات، ومنها ما هو نبات مصنوع كإقليميا الذهب والفضة والزنجفر والزيجات. ومنها ما بينه وبين آخر ألفة كالذهب والماس، فإن الماس إذا قرب من الذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 تشبث به حتى قيل: إن الماس لا يوجد إلا في معادن الذهب، ومنها ما بينه وبين آخر مجاذبة شديدة حتى أن كل واحد منهما يجذب الآخر كالعاشق والمعشوق كما شاهده كل أحد في الحديد والمغناطيس، فإن بين هذين المعدنين ملاءمة شديدة، بحيث إذا شم أحدهما رائحة الأخرى سرى إليه فأمسكه مسكا شديدا ولم يفارقه إلا بجاذب يجذبه، ومنها ما بينه وبين آخر مخالفة كالسنبادج وسائر الأحجار فإنه يحكها ويجعلها ملساء، وكالأسرب والماس، فإن الماس يقهر سائر الأحجار والأسرب يقهره. ومنها ما فيه قوة منظفة كالنوشادر، فإنه ينظف سائر الأحجار من الوسخ. والأحجار كثيرة جدا. الزاج أصناف وهو يتولد من أجزاء أرضية محرقة، ومن أجزائه مائية يختلط بعضها ببعض اختلاطا شديدا فيحدث فيه دهنية قابلة لذوبانه بسبب الحرارة الزائدة، فما كان منه يغلب عليه قوة الحديد كان أحمر أو أصفر، وما غلبت قوة النحاس مال لونه إلى الخضرة، ويقال: إن الزاجات تتولد من الزئبق الميت والكبريت الأخضر، وهى ألوان فمنها: الأحمر، والأخضر، والأصفر، والأسود، والأبيض وهو أخص أنواع الزاجات، ويجلب من نواحى قبرص. واعلم أن الرطوبات المحتقنة تحت الأرض تسحق في الشتاء وتبرد في الصيف فإذا فرّت الحرارة وأسخنت باطن الأرض وكهوف الجبال في أيام الشتاء اكتسبت الرطوبات المنصبة إلى تلك المواضع بواسطة الحرارة دهنية، فإذا أصابها نسيم الهوى وبرودة الجو انعقدت وربما بقيت مائعة فتصير كبريتا أو زئبقا أو نفطا بحسب اختلاف البقاع وتغير الهوى، ويقال: إن أول هذه القوى- أعنى: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة في تكوين المعادن- الزئبق؛ وذلك أن الرطوبة المحتقنة في جوف الأرض والبخارات المحتسبة فيها إذا تعاقب عليها حر الصيف مع حرارة المعدن لطفت وخفت وتصاعدت إلى سقوف المغاير ونحوها فتعلقت بها زمانا حتى يتعاقب عليها برد الشتاء فتغلظ وتجمد وتتقاطر إلى أسفل المغاير فتختلط بتربة تلك البقاع وتمكث زمانا، وحرارة المعدن تعمل دائما في إنضاجها وطبخها وتصفيتها حتى تصير تلك الرطوبة المائية بما اختلط بها من الأجزاء الترابية، وبما تكتسب من نقلها وغلظها بطول الوقوف وإنضاج الحرارة لها كبريتا محرقا، فإذا اختلط الزئبق والكبريت مرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ثانية وتمازجا والتدبير بحالة فإنه يتركب من مزاجها الجواهر المعدنية التى قد تقدم ذكرها. الزئبق: يتولد من أجزاء مائية اختلطت بأجزاء أرضية لطيفة كبريتية اختلاطا شديدا حتى لا يتميز أحدهما من الآخر ويكون عليه غشاء ترابى فإذا اتصلت إحدى القطعتين بالأخرى انفتح الغشاء وصارت القطعتان واحدة والغشاء محيط بها كقطرة الماء إذا وقفت على التراب فإنها تبقى مدّورة وتحيط بها الأجزاء الأرضية من التراب، وربما أصاب تلك القطرة قطرة أخرى وانشق ذلك الغلاف وصارت القطرتان واحدة وأحاط بها الغلاف البرّانى وسبب بياض الزئبق صفاء ذلك الماء ونقاء التراب الكبريتى. وقال أرسطو «1» الزئبق من جنس الفضة لإزالة الآفات، دخلت عليه في معدنه، والآفات هى الرصاص، وتلك الآفات مخلخلة، فصار كأنه شبيه بالمفلوج، وله أيضا صرير ورائحة ورعدة، وهو يحل أجسام الأحجار كلها إلا الذهب فإنه يغوص فيه، وأصل الزئبق من أذربيجان وبالأندلس معدنه أيضا. والكبريت: يتولد من أجزاء مائية وهوائية وأرضية فإذا اشتد اختلاط بعضها ببعض بسبب حرارة قوية ونضج تام حتى يصير مثل الدهن وينعقد بسبب برودة جزئية وهو ألوان أحمر وأبيض. فالأحمر معدنه في مغرب الشمس بمواضع لا ساكن بها بالقرب من بحر أوقيانوس والأبيض قد يكون كافيا في عيون الماء الجارى، ويوجد لذلك الماء رائحة منتنة، ويقال: الكبريت عين تجرى، فإذا جمد ماؤها صار كبريتا أصفر وأبيض وأكدر. وقال الرازى: إن الكبريت يتولد من البخار اليابس الدخانى إذا ماس شيئا من الدخان الرطب لطبخ حرارة الشمس لرطوبة الماء حتى تحيله نارا أو نفطا أو ما أشبه ذلك، والكبريت من البخار الدخانى والرطب امتزجا وطبختها حرارة الشمس حتى صار ما فيه من الرطوبة دهنا لطيفا حارا خفيفا، ولذلك نفاذه؛ لأنه شديد الحرارة فتسرع إليه النار؛ لأن النار تطلب أحرها لقربها منه، بدليل أن الأشياء الرطبة الباردة واليابسة لا تحترق لمضادتها النار بطرفيها، والأشياء الباردة لا تحترق؛ لأنها لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 رطوبة فيها، وإنما عدو النار الرطوبة؛ لأنها صاعدة لا تقيم في أسفل إلا معلقة بما يجذبها إلى أسفل كما لا يقيم الحجر في الجو إلا بما يغمده. وقال الخليل بن أحمد: الكبريت عين تجرى، فإذا جمد ماؤها صار كبريتا أبيض وأصفر وأكدر، والأحمر منه من الجوهر، ومعدنه خلف التبت في وادى النمل الذى مر به سليمان، ونسله مثل الذباب تخفر أسرابا بناؤها كبريت أحمر. قال مؤلفه أحمد بن على المقريزى: حررته في شوال سنة إحدى وأربعين وثمانمائة إلا في مواضع فإنها تحتاج إلى مراجعة. وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذه جملة من أخبار الطائفة القائمة بالملة الإسلامية ببلاد الحبشة، المجاهدين في سبيل الله من كفر به وصدّ عن سبيله، تلقيتها بمكة- شرّفها الله تعالى- أيام مجاورتى بها في سنة تسع وثلاثين وثمانمائة من العارفين بأخبارهم، والله أسأل التوفيق إلى سواء الطريق بمنّه وكرمه. ذكر بلاد الحبشة اعلم أن بلاد الحبشة أوّلها من جهة المشرق المائل إلى جهة الشمال بحر الهند المار من باب المندب إلى بلاد اليمن، وفيها يمر نهر حلو يقال له: سيحون، يرفد نيل مصر، وجهة الحبشة الغربية تنتهى إلى بلاد التكرور مما يلى جهة اليمن، وأوّلها مغازة مكان يسمى وادى بركة يتوصل منه إلى سحرت، وكانت مدينة المملكة فى القديم، ويقال لها: أخشوم، ويقال لها: أنصار رفرفتا وبها كان النجاشى، ثم إقليم أمحرا، وهو الآن مدينة المملكة ويسمى أيضا: مرعدى، ثم إقليم شاوه، عدل الأمراء، ثم إقليم حماسا، ثم إقليم باربا، ثم إقليم الطرار الإسلامى الذى يقال له: الزيلع، ولكل إقليم من هذه الأقاليم الاثنى عشر ملك، والكل من تحت يد الحطىّ ومعناه بالعربية: السلطان. وتحت يده تسع وتسعون ملكا هو تمام المائة إلا أن بلادهم غير مشهورة عندنا، وجميع بلاد الحبشة تزرع على المطر مرتين فيحصل لهم في السنة الواحدة فعلان، وإذا أكثر عندهم نزول المطر وقعت الصواعق، وعندهم أشجار كثيرة منها ما تطول الواحدة منهم مائتى فارس، فمن أشجارهم شجر الأبنوس. وعندهم القنا وهو نوعان: صامت ومجوف، ولهم منابت لا تعرف بأرض مصر ولا الشام ولا العراق، وعندهم معدن الحديد ومعدن الذهب، ويوجد في بلادهم معدن الفضة، وتعظم عندهم الحيّات، بحيث تقوم الحية بأعلى الجبل فتصير في الجوشة قوس قزح في عظمها لا في اللون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وأخبرنى بعض ثقة «1» أنه شاهد ذلك، وعندهم سحرة يمنعون الريح أن تهب، فيأمر الحطى «2» بعضهم أن يضربوا فلا زالوا يهيئون حتى تهب الريح فيذرون عليها غلالهم، وهو عند الحبش دجاج برى، ولهم دجاج ثان يخرج هو والبط من بركة ماء في إقليم هدية من بلاد الزيلع وهو يتولد من هذا الماء، ولا بد للحبشة من مطران «3» يولّيه بطريق «4» النصارى اليعاقبة» بمصر بعد سؤال الحطى لسلطان مصر فى ذلك بكتاب يبعثه مع رسله وصحبته هدية، فيتقدم للبطريق بتعيين مطران لهم. والحبشة قوم يدينون بالنصرانية من قديم ويعتقدون مذهب اليعقوبية، وهم يتشددون في ديانتهم تشددا زائدا ويعادون من خالفهم من سائر الملل «6» أشد عداوة ويعادون الطائفة الملكية «7» من النصارى، بحيث أخبرنى من دخل منهم إلى بلاد الحبشة أنه أظهر بها أنه يعقوبى خوفا من القتل لو علموا أنه ملكى. والحبشة تسكن بيوتا من قش تطلى بأخثاء البقر، ويأكلون اللحم نيئا، حتى لقد أخبرنى من شاهد الحطى داود بن يوسف أرعد يأكل كرش بقرة نيئا وما فيه من بقايا الفرث «8» يسيل على حنكه «9» . وشاهد رجلا يأكل دجاجة وهى «10» تصيح وهم عراة الأبدان لا يكادون يعرفون لبس المخيط، بل يرتدون ويتّزرون «11» فى أوساطهم، وليس للحطى ديوان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 لكنه إذا خرج للغزو أمر جنده فألقى كل منهم حجرا في موضع بعينه لذلك، فإذا رجع من غزاته أخذ كل واحد من العسكر حجرا، فما فضل من الحجارة علموا به عدة من هلك منهم، فلما هلك الحطى داود بن يوسف أرعد سنة اثنتى عشرة وثمانمائة أقيم بعده ابنه تدرش، فهلك سريعا وأقيم بدله أخوه إسحاق بن داود بن سيف أرعد، ورأيت من يسميه أيرم ففخم أمره؛ وذلك أن بعض المماليك الجراكسة ممن كان ذردكاش «1» بديار مصر قدم عليه وأقام عنده وعمل له زردخانة «2» تشتمل على آلات السلاح من السيوف والرماح والزرديات ونحو ذلك، وكانوا من قديم الدهر إنما سلاحهم الحراب يرمون بها، وقدم عليه من أمراء الدولة بمصر شخص يقال له: الطنبغا مفرق، حتى ولى بعض بلاد الصعيد، ثم فر إليه، وكان يعرف من أساليب اللعب بآلات الحرب ومن أنواع الفروسية أشياء، فحظى عند الحطى وعلّم عساكره رمى النشّاب «3» واللعب بالرمح والضرب بالسيف، وعمل لهم النفط فعرفوا صناعات الحروب، وقدم عليه أيضا من قبط مصر نصرانى يعقوبى يعرف بفخر الدولة فرتب له المملكة، وجىء له بالأموال فصار له ملك له سلطان وديوان بعد ما كانت مملكته ومملكة آبائه همجا لا ديوان لهما ولا ترتيب ولا قانون وانضبطت عنده الأمور وتميز زيّه من رعيته بالملابس الفاخرة بعد ما كان داود بن سيف أرعد يخرج عريانا، وقد عصب رأسه بعصابة حمراء، فصار إسحاق يمر في موكب جليل بشارة الملك، حتى لقد أخبرنى من رآه وهو راكب فرسه وقد مر في موكبه، وبيده اليمنى صليب من ياقوت أحمر قد قبض عليه بكفه ووضعها على فخذه وطرفا الصليب بارزتان عن يده بروزا كثيرا، فلما تحضرت دولته وقويت شوكته وسوس إليه شياطينه أن يأخذ ممالك الإسلام، فأوقع من تحت يده في ممالك الحبشة من المسلمين وقائع شنيعة طويلة قتل فيها وسبى واسترق عالما لا يحصيه إلا خالقه سبحانه وتعالى. وأزال دولة المسلمين من هناك كما يأتى ذكره إن شاء الله تعالى، ثم كتب إلى ملوك الإفرنج يحثهم على ملاقاته لإزالة دولة الإسلام وواعدهم على ذلك، وأخذ فى تمهيد ما بينه وبين البلاد الإسلامية واستجلاب العربان إليه، فعاجله الله تعالى بنقمته وأهلكه عقيب ذلك في ذى القعدة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، وسلّط الله على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 أمحرة طائفته الملك العادل جمال الدين بن سعد الدين، فأوقع بهم وقائع وأفنى منهم أمما وأسر منهم عوالم ملأت أقطار الأرض يمنا وهندا وحجازا ومصرا وشاما وروما. وقد أقيم بعد إسحاق المذكور ابنه اندراس فهلك لأربعة أشهر من ولايته، وأقيم بعده عمّه نخربزاى بن داود بن سيف أرعد، فلم تطل أيامه وهلك في شهر رمضان سنة أربع وثلاثين فأقيم عوضه سلمون بن إسحاق بن داود فهلك سريعا. فكان للحبشة في سنة أو نحوها أربعة ملوك وتوالت حروب المسلمين فيهم تقتل وتأسر وتسبى وتحرق وتغنم، ثم فشا في عامة بلاد الحبشة وباء عظيم شنيع فى سنة تسع وثلاثين وثمانمائة وهلك فيه الحطى وعالم عظيم، حتى قيل: إنه قد خلت البلاد لموت أهلها والله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. ذكر بلاد الزيلع «1» اعلم أن بلاد الزيلع كما تقدم من جملة أراضى الحبشة، وعرفت بقرية بجزيرة فى البحر يقال لها: زيلع، وطول أرض الزيلع برا وبحرا نحو شهرين، وعرضها أكثر من شهرين، إلا أن غالبها قفار غير مسكونة ومقدار العمارة مسافة ثلاثة وأربعين يوما طولا في عرض أربعين يوما. وتنقسم إلى سبع ممالك، وهى: أوفات ودوارو وارابينى وهدية وشرخا وبالى ودارة، ولكل مملكة من هذه الممالك السبع ملك، ويتسلط عليهم جميعهم الحطى ملك أمحرة، ويأخذ منهم القطيعة من المال في كل سنة، وهى قماش وغيره، وكلها ممالك ضعيفة قليلة المتحصل، وبها المساجد والجوامع التى تقام بها الجمعة والجماعة، وعند أهلها محافظة على الدين ويقال لها: الجبرت، وهى بلاد حارة وبيوتهم من طين وحجر وخشب، وليس لها أسواق ولا بها فخامة لأمورهم. ومملكة أوفات طولها خمسة عشر يوما في عرض عشرين كلها عامرة بالقرى، والأسعار بها رخيصة. أخبرنى الشيخ المعمر الأديب الشاعر المغربى الجوّال في الأرض رحمه الله قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 رأيت بمدينة أوفات أيام عمارتها الموز يباع كل عرجون «1» بربع درهم فيه نحو مائة موزة، ورأيت اللحم يباع كل طابق وهو ثلاثون رطلا بدرهم ونصف، وملك أوفات يحكم على الزيلع، وغالب أهلها شافعية المذهب وكثر فيهم بعهدنا الحنفية، وكلام أهلها باللغة الحبشية، ويتكلمون أيضا بالعربية. ولهذه المملكة عدّة مدن وملكها يجلس على كرسى ويركب بالحتر «2» والطبل والزمر، وعندهم الفواكه وقصب السكر، ولهم منابت لا تعرف بمصر والشام، منها شجرة يقال لها: جات، لا ثمر لها، يؤكل ورقها وهى تشبه أوراق شجرة النارنج، وهى تزيد في الذكاء وتذكر النسيان وتفرح وتقلل شهوة الأكل والجماع وتقلل النوم لأهل تلك البلاد، فى أكل هذه الشجرة رغبة كثيرة لا سيما أهل العلم، ويجلب إليها الذهب من داموت وسجام وهما معدنان ببلاد الحبش وله معاملتهم. ومملكة دوارد وطولها خمسة أيام في عرض يومين وأهلها حنفية المذهب ومعاملتهم الحديد، وتسمى الواحدة من تلك الحدايد حنكة- بفتح الحاء المهملة وضم النون والكاف- وهى طول الإبرة والرأس، الغنم بثلاثة آلاف حنكة وهى مجاورة الأوفات. ومملكة أرابينى طولها أربعة أيام وعرضها كذلك وأهلها حنفية، وهى تلى دوارد، وهم كأهلها فى المعاملة وغيرها. ومملكة هديّة طولها ثمانية أيام وملكها أكثر الجميع عسكرا، وزيهم كزى أهل أرابينى حتى في المعاملة وإليها يجلب الخصيان الخدام الذين يعرفون في أرض مصر بالطواشية، واحدهم طواشى، فإن صاحب أمحرة يمنع من خصى العبيد ويشدد في ذلك، فتأتى بهم السرّاق إلى مدينة وستلوا وأهلها همج لا دين لهم فتخصى بها العبيد، فإنه لا يوافق على ذلك في جميع بلاد الحبشة سواهم، ثم تحمل من يخصى إلى مدينة هدّية فتعاد عليهم الموسى مرة ثانية حتى ينفتح مجرى البول فإنه يكون قد انسد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 بالقيح، ثم يعالجون حتى ... «1» أهل هدية بذلك، وقلّ من يعيش من الخصيان؛ لأنهم يحملون إلى هدية من غير علاج. ومملكة شرخا طولها ثلاثة أيام وعرضها أربعة أيام وأهلها حنفية. ومملكة بالى طولها عشرون يوما في عرض ستة أيام وهى أكثر بلاد الزيلع خصبا ومعاملتهم بالأعواض غنما ببقر وبقرا بثياب، ونحو ذلك وأهلها حنفية. ومملكة دارة طولها ثلاثة أيام في عرض ثلاثة أيام وهى أضعف ممالك الزيلع وأهلها حنفية وهم أيضا يتعاملون بالأعواض. وجميع ملوك هذه الممالك إنما هم نواب عن الحطى لا يقيمهم إلا هو، ويجاور هذه البلاد ناصع وسواكن ودهلك وأهلها مسلمون. والستة الممالك الزيلع لغاتهم مختلفة تبلغ زيادة على خمسين لسانا وكلهم يكتب بالقلم الحبشى، وكتابتهم من اليمين إلى الشمال، وعدّة حروف هذا القلم ستة عشر، لكل حرف سبعة حروف، جملة ذلك مائة واثنا عشر ألف حرف سوى حروف أخر مستقلة بذواتها لا تفتقر إلى حرف من الحروف المذكورة مضبوطة بحركات متصلة بالحرف لا، منفصلة عنه، هكذا كان ترتيب هذه البلاد ومنها ما بقى ومنها ما زال بزوال الدول وقيام دول سواها. سنّة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تحويلا. ذكر الدولة القائمة بجهاد النصارى من الحبشة اعلم أن هذه الدولة قام بها قوم من قريش، فمنهم من يقول: هم من بنى عبد الدار ومنهم من يقول: إنهم من بنى هاشم ثم من ولد عقيل بن أبى طالب، قدم أولهم من الحجاز ونزلوا أرض جيرة التى تعرف اليوم بجبرت وهى من أراضى الزيلع واستوطنوها وأقاموا بمدينة أوفات، وعرف جماعة منهم بالخير واشتهر بالصلاح إلى أن كان منهم عمر الذى قال له: ولسمع، ولاه الحطى مدينة أوفات وأعمالها. فحكم بها مدة طويلة وصارت له بها شوكة قوية وشكرت سيرته حتى مات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وترك أربعة أولاد أو خمسة ملكوا أوفات من بعده واحدا بعد آخر، منهم: بزوا، ومنهم: حق الدين الأول، حتى كان آخرهم صبر الدين محمد بن ولخوى بن منصور بن عمرو لسمع، فملك أوفات حدود سنة سبعمائة من سنّى الهجرة وطالت مدته، فلما مات ابنه على بن صبر الدين محمد بن عمر ولسمع واشتهر ذكره في البلاد وخرج عن طاعة الحطى ثم عاد إليها، فإن أهل البادية لم توافقه، بل خالفت عليه فولى الحطى سيف أرعد ابنه أحمد، ويعرف بحرب أرعد بن على بن صبر الدين محمد بن صبر محمد بن عمر ولسمع على مدينة أوفات وأعمالها، وقيّض على عليّ وأنزل عنده بمكان هو وأولاده، فأقام على بن صبر الدين عند الحطى نحو ثمانى سنين ثم رضى عليه وأعاده إلى ولايته على مدينة أوفات ثانيا، وقد صار ابنه أحمد حرب أرعد إلى الحطى فألزمه أن يقيم ببابه فأقام بخدمته، وولد له هناك ثلاثة أولاد منهم: سعد الدين محمد، ثم إن الحطى رضى عليه وكتب إلى أبيه على يأمره أن يوليه موضعا من أعمال جبرت، فامتثل ذلك ووّلاه عملا من أعماله فسار إلى ذلك العمل وأقام به مدة إلى أن قتل في بعض حروب رعيته، فقام في موضعه أخوه أبو بكر بن على، وكان أحمد حرب أرعد قد ترك بمدينة أوفات ولدا يقال له: حق الدين، وقد اشتغل بطلب العلم وصار مطرح الجانب لأعراض جده على بن صبر الدين عنه وهجره إياه مع معاداة عمه «ملا أصفح» بن على له العداوة الشديدة ومقته المقت الزائد. ثم إنه أخرجه من مدينة أوفات إلى بعض أعمالها وألزم والى تلك الجهة أن يهينه ويستخدمه فأخرجه والى الجهة إلى جباية «1» مال بعض النواحى، فأخذ عند ما صار إلى ما وليه في تدبير أمره وإحكام عمله وجمع الناس عليه حتى قوى جانبه وأظهر الخلاف على من والاه، فسار إليه وحاربه فانتصر عليه حق الدين وقتله وغنم ما كان معه وضم إليه من كان معه من المقابلة، وبذل لهم المال فقامت قيامة عمه «ملا أصفح» وكتب إلى الحطى يخبره الخبر ويطلب منه النجدة لمحاربته، فأمده الحطى سيف أرعد بعسكر يقال: إن عدّته ثلاثون ألفا، فلقيهم حق الدين، وقاتلهم قتالا شديدا، أيده الله عليهم حتى قتل منهم خلقا كثيرا، وغنم منهم ما معهم، وهزم عمه، وقد شهد الواقعة فصار في هزيمته إلى الحطى فبعث معه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 عساكر عظيمة جدا فتلقاهم حق الدين وقاتلهم، فقتل عمه «ملا أصفح» بن على ابن صبر الدين محمد بن عمر ولسمع، واستأصل حق الدين العساكر فلم ينج منهم إلا القليل وغنم ما معهم. وسار إلى مدينة أوفات وبها جدّه على بن صبر الدين وقد اشتد حزنه على ولده «ملا أصفح» فإنه كان أعز أولاده عنده وكان هو القائم بأمر الدولة وتدبير الأمور، وتزايد مع ذلك حنقه على حق الدين وبغضه إياه إلا أن ضرورة الحال اقتضت كفه عنه لعجزه عن مقاومته، فتأدب حق الدين مع جده وأقرّه على ولاية أوفات، فأمده عند ذلك بمال حمله إليه، وسار حق الدين ومعه عن أوفات وأخرج معه أيضا أهلها إلا ... «1» ونزل بأرض شوة وبنى هناك مدينة سماها «وجل» ، وأنزل بها أهل أوفات وجعلها دار ملكه، فتلاشت من حينئذ مدينة أوفات واتضعت حتى خربت، وكان حق الدين هذا أول من خالف من أهل بيته على الحطى ملك أمحرة من الحبشة الكفرة. وخرج من طاعته وهو أول من استبد منهم بالأمر وما زال يحارب الحطى وعساكره ويأسر منهم ويغنم إلى أن مات الحطى «سيف أرعد» ، وأقام بعده بأمر الحبشة ابنه الحطى داربت وهو داود بن سيف أرعد، فاستمر حق الدين على محاربته إياه والله يؤيده بنصره على أمحرة، بحيث إنه كانت له فيهم بضع وعشرون وقعة في مدة تسع سنين، آخرها أنه سار إليهم وقاتلهم قتالا شديدا، استشهد فيه سنة ست وسبعين وسبعمائة بأرض شوة ولم يوجد مع القتلة وكانت مدة سلطنته نحو عشر سنين، وكان شجاعا مقداما قوى النفس عجولا مهابا، وقام من بعده أخوه سعد الدين أبو البركات محمد بن على بن صبر الدين محمد ولخوى ابن منصور بن عمرو لسمع. فمضى على سيرة أخيه حق الدين في جهاد أمحرة الكفرة لكن بتؤدة وسياسة حسنة، فكثرت عساكره وتعددت غاراته واتسعت مملكته، فقاتل مرة في اثنين وسبعين فارسا فكسرهم، ثم ظفر به العدو بعد ذلك في موضع يقال له: أهبرة، وربطوه وساقوه إلى كبيرهم، فأدركه أحد فرسانه وقاتل من معه حتى خلصه من أيديهم، وأركبه فرسه ورده إلى أصحابه، فجمعهم وجد في جهاد أمحرة، ولقى ابن مر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فيمن أمر الحطى وهزمه وأسر من معه حتى أبيع كل عبدين من الأسرى بتفضيله، ومضى من فوره إلى زلال ففتح تلك البلاد وغنم أموالها فبلغت حصته لخاصة نفسه أربعين ألفا فرّقها بأجمعها على الفقراء والمساكين وعلى العسكر حتى لم يجد ما يأكله إلى أن أطعمته إحدى زوجاته. وحصل لسليم بن عباد زوج ابنته اثنتا عشرة ألف بقرة، فأمره أن يخرج منها زكاتها فامتنع فتغير عليه، فأرسل الله تعالى عليه الكفرة فأخذوه وما معه، فلم يفلت منه سوى زوجته وابنه سعد الدين بحيلة تداركها الله فيها بلطفه. وغزا أيضا بلادا تسمى زمدوة في أربعين فارسا وبها من الكفرة أعداد لا تحصى، فكانت بينه وبينهم قتلة عظيمة نصره الله فيها نصرا عزيزا، وغنم ما لا يدخل تحت حصر، وغزا بالى وأمحرة وهم في عشرة أمراء، كل أمير منهم عشرة آلاف، وهو فى خمسين فارسا وجميع من معه لا يبلغون عدّة أمير منهم، فعندما تلاقى الجمعان توضأ هو وأصحابه وصلوا ركعتين وسأل الله تعالى النصر وهم يؤمّنون على دعائه، ثم ركب بمن معه وقاتلهم فهزمهم الله ونصره عليهم فقتل وأسر منهم عددا لا يحصى بحيث بقيت رؤوس القتلى ملء الأرض لا يجد المار موضعا يمر به إلا عليهم، وكان بينه إذ ذاك وبين بلاده مسافة اثنى عشر يوما فعاد منصورا غانما، وجرد مرة من أصحابه رجلا يقال له: «أسد» فى أربعين فارسا فلقيه أمير من أمراء الحطى يقال له: «زان حش» فى خمسين فارسا لابسين آلة الحرب ومعه من العساكر الراكبين الخيل عريا عالم كبير، وكان مشهورا بالقوة والشجاعة، فاقتتل الفريقان أعظم قتال وأشدّه فقتل الله اللعين ونصر المسلمين نصرا مؤزرا وغنموا غنائم عظيمة، فجمع الحطى أمحرة ونزلوا إلى بلاد المسلمين فلقيهم أمير اسمه محمد في ستة فرسان ونحو ألف راجل «1» فقاتلوا قتالا شديدا عظيما استشهد فيه الأمير محمد [ومن] «2» معه ولم يسلم منهم سوى فارس واحد فأخذه الحطى أميرا يقال له: بارو، فلقيه سعد الدين بنفسه ومعه الفقهاء والفقراء والفلاحون وجميع أهل البلاد وقد تحالفوا «3» جميعا على الموت، فكانت بينهما وقعة شنيعة استشهد فيها من المشايخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 الصلحاء أربعمائة شيخ، كل شيخ منهم له عكاز وتحت يده من الفقراء السالكين عدد عظيم فاستحر القتل في المسلمين حتى هلك أكثرهم وانكسر من بقى، ومر سعد الدين على وجهه وأمحرة في أثره تتبعه حتى التجأ إلى جزيرة زيلع في وسط البحر فحصروه بها ومنعوه الماء إلى أن دلّهم [عليه] «1» من لا يتقى الله على الوصول إليه، فلما وصلوا إليه قاتلهم فأصيب في جبهته بعد فقده الماء ثلاثة أيام، فخر إلى الأرض فطعنوه فمات- رحمه الله- وهو يتشهد ويضحك وذلك في سنة خمس وثمانمائة، وقد ملك نحوا من ثلاثين سنة، وكان رجلا صالحا. وفي أيامه مات جده على بن صبر الدين في سجن الحطى بعد ما أقام مسجونا نحو الثلاثين سنة، ولما قتل سعد الدين ضعف المسلمون بموته واستولى الحطى وقوم أمحرة على البلاد وسكنوها وبنوا بها الكنائس، وخرّبوا المساجد وأوقعوا بالمسلمين وقائع نزل فيها من القتل والأسر والسبى والاسترقاق ما لا يمكن التعبير عنه مدة عشرين سنة، وكان أولاد سعد الدين قد فروا إلى بلاد العرب، وهم عشرة، أكبرهم صبر الدين على، فأكرمهم الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل ملك اليمن وأنزلهم ثم جهزّهم وقاد لهم ستة أفراس فخرجوا إلى موضع يسمى: يسارة، حتى فتح الله عليهم ولحق بهم عساكر أبيهم، فقام بأمرهم صبر الدين على وزحف لقتال أمحرة في سبعة من الفرسان سوى المشاة وقاتل في موضع يقال له: ذكر أمحرة وهم في ثمانين فارسا فهزمهم واستولى على ذلك الموضع، وسار إلى سرجان وقاتل من هناك وكسرهم وحرق كنائسهم وبيوتهم، وغنم من الذهب وغيره ما لا يحصى، وما زال ينتصر على أمحرة حتى جمعوا له وصاروا في عشرة أمراء تحت يد كل أمير زيادة على عشرين ألفا ومقدمهم يقال له: «بخت بقل» ملّكه بلاد المسلمين وأقاموا بها سنة، وصبر الدين بمن معه فارس من بلد إلى بلد، وبهم من الجوع والعطش والتعب ما لا يوصف، ثم أيّده الله وقوّاه حتى جرّد أخاه محمدا ومعه حرب جوش وغيره من الأعيان في عشرين فرسا إلى بلد يقال لها: رطوا، فقاتلوا أمحرة قتالا عظيما، قتل فيه مقدّمهم في عدة من أمراء الحطى. وقتل من عسكرهم ما لا يحصى وهزموا بقاياهم وغنموا غنائم كثيرة وملكوا البلد زمانا، ثم صار صبر الدين بنفسه وطلع إلى بيت الملك وقاتل أمحرة وقتل أميرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 كبيرا وحرق بيت الملك وأكثر في قتل من هناك وعاد، ثم جرّد أخاه إلى قلعة بروت ففتحها صلحا وعاد منصورا، ثم جرّد أميرا اسمه عمرو ومعه ستة فرسان إلى بلاد لجب وأمحرة في عدد كالجراد، فكانت بينهم وقعة عظيمة قاتل المسلمون فيها قتالا كبيرا شديدا حتى ماتوا كلهم وقد صارت المزاريق تأتيهم كالمطر من كثرتها، ثم قطعوا بالسيوف رحمة الله عليهم، وشهد صبر الدين مرة وقعة كاد العدو أن يأخذه قبضا باليد فنجا بفرسه وقد اعترضه واد عرضه نحو عشرة أذرع فوثب بفرسه حتى تعداه وخلصه الله منهم، وما زال يلى أمر المسلمين إلى أن مات على فراشه مبطونا «1» بعد ثمانى سنين في حدود سنة خمس وعشرين وثمانمائة، وكانت سيرته مشكورة، فقام بالأمر أخوه منصور بن سعد الدين وعضّده أخوه محمد وسار إلى جداية وهى دار ملك الحطى وبها صهره فقاتله حتى أخذه أسيرا وقتله في عدّة كبيرة فالتجأ نحو الثلاثين ألفا إلى جبل يقال له: مخا، فحصرهم فيه زيادة على مدة شهرين يقاتله كل يوم حتى كلّوا وجاعوا وعطشوا، فنادى فيهم يخيرهم بين الدخول في دين الإسلام وبين اللحاق بقومهم، فأسلم منهم نحو العشرة آلاف ونزلوا إليه من الصبح إلى غروب الشمس، وصار من الغد بقيتهم إلى بلادهم، فغنم من الخيل مائتى فرس عربية، وأقام عشرة أيام وقد جمع أمحرة جيشا وأتوه في عدد كالجراد المنتشر من كثرتهم، فقاتلهم أشد قتال حتى كلّت الفرسان وخيولها من شدة الحرب وقتل عشرة من أمراء المسلمين، فوقع منصور وأخاه في قبضة الحطى إسحاق المدعو إيرم بن داود بن سيف أرعد فكاد يطير من الفرح وقيدهما وسجنهما ووكل بهما، وذلك فى سنة ثمان وعشرين وثمانمائة لسنتين من ولاية منصور، واستولت النصارى من أمحرة على البلاد كما كانوا، وعندما قبض على منصور قام بالأمر في الحال أخوه جمال الدين محمد بن سعد الدين وهو ضعيف، وقد نفى معه من الأمراء حرب جوش، وكان من أمراء الحطى فأسلم في أيام سعد الدين، وقدم إليه فصار من أكابر الأمراء لقوته وشجاعته وكثرة أتباعه، فخرج على جمال الدين البرابر، فوجه إليهم حرب جوش، فعرض عليهم الصلح وقد جمعوا إليه جمعا فيه سبعة آلاف قوس وسيف فأبوا إلا محاربته وهو موافقهم من الصبح إلى الظهر، ثم قاتلهم قتالا عظيما حتى هزمهم الله إلى بيوتهم وهو في أقفيتهم «2» فانقادوا لأمره ودخلوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 طاعته ودفعوا إليه زكاة أموالهم وعاد مؤيدا ظافرا. ثم بعث حرب جوش إلى بلاد بالى في عشرين فارسا، فلقى أمحرة وهم في عدد عظيم لم يجتمعوا فيما مضى مثله، فقاتلهم أشد قتال فانتصر عليهم وعاد، فجمع الحطى عساكر كثيرة جدا ونزل حذاءه فسار إليهم جمال الدين وحاربهم وعاد منصورا، وتوجه من أمحرة إلى نجرة وقد استطال الحطى وجمع عليه نحو مائة أمير وعزم على الا يبقى بالحبشة مسلما، فلقيه جمال الدين في خمسمائة فارس وقد جمع الحطى من الفرسان ما لا يحصى كثرة، فكانت بين الفريقين وقعة عظيمة، فقتل الله أمحرة وهزم باقيهم، وركب جمال الدين أقفيتهم وهو يتبعهم ثلاثة أيام وهو يقتل ويأسر حتى امتلأت الأرض بالقتلى وحرق الكنائس والبيوت وسبى النساء والأولاد، وغنم الأموال حتى بلغت عدة الخيول الملبّسة «1» التى غنمها زيادة على مائة فرس. وأما الخيول العراة فلا تحصى لكثرتها وأقام في هذه الغزوة «2» ثلاثة أشهر وبعث حرب جوش إلى بالى فقتل وأسر وسبى ما لا ينحصر، وغنم غنائم عظيمة حتى صار يعطى لكل فقير ثلاثة رؤوس من الرقيق، ومن كثرتهم أبيع الرأس من الرقيق بربطة ورق وبخاتم واحد ورجع منصورا غانما، فسار جمال الدين بنفسه لغزو أمحرة فى جمع عظيم لم يجتمع في إيابه مثله ومعه ألف فارس وهو يقتل ويأسر ويسبى ويغنم والحطى بجموعه هارب منه وهو في طلبهم يتبعهم خمسة أشهر حتى وصل إليه، فلم يقابله الحطى وهرب منه إلى رأس بحر النيل. فعاد جمال الدين بغنائم لا تحد ولا تعد، ثم بعث أخاه أحمد والأمير حرب جوش إلى دوارو فأوقعا بأمحرة وقائع عديدة وأسرا منهم ثلاثة أمراء، وغنما ستين فرسا وغنائم كثيرة وعاد بأعز نصر، ثم صار جمال الدين بنفسه يقتل ويأسر مسافة عشرين يوما فتفرقت أمحرة في ثلاثة مواضع، تريد أن تأخذ بلاد جمال الدين وعياله فعاد راجعا يريد لقاءهم، وقطع مسافة عشرين يوما في سبعة أيام ثم لقيهم ببلاد تسمى هواى، وقد تعب هو وأصحابه تعبا شديدا كثيرا والعدو مستريح فكانت بينهم وقعة عظيمة ومن كثرة الجموع وشدة القتال، اختلط الناس فما كان أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 يعرف صديقه من عدوه ثم أنزل الله نصره على المؤمنين، فأخذوا جانبا من أمحرة وانتصر أمحرة أيضا وأخذوا جانبا من المسلمين وغنم كل منهم ما حازه، ثم ثار على جمال الدين بنو عمه وحسدوه وقتلوه في جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وثمانمائة، وله في السلطنة سبع سنين، وكان خير ملوك زمانه دينا ومعرفة وقوة وشجاعة ومهابة وجهادا في أعداء الله تعالى بحيث إنه ملك كثيرا من بلاد الحطى وأعماله، ودخل جمان من عمال الحطى وولاة أعماله في طاعته وقتل وأسر من أمحرة الكفرة ما لا يدخل تحت حصر، حتى امتلأت بلاد الهند واليمن وهرمز والحجاز ومصر والشام والعراق وفارس من رقيق الحبشة الذين أسرهم وسباهم في غزاته، وما زال مؤيدا من الله تعالى منصورا على أعداء الله حتى ختم الله له بالحسنى وكتب الله له الشهادة. وكان يصحب الفقهاء وأهل الفقر من الصالحين وينشر؟؟ العدل في أعماله حتى فى أهله وولده. ولقد بلغ من عدله أن لعب بعض صغار أولاده ذات يوم مع أنداده وأترابه من الولدان، فضرب صغيرا منهم كسر يده، ولم يبلغ جمال الدين حتى مضت مدة فاشتد في الإنكار على خدمه إذ لم يعلموه، وطلب أولياء الصغير الذى كسرت يده وعتبهم على إخفاء هذا عنه، وجمع أهل دولته وطلب إبنه الجانى الصغير في كسر يده ليقتص منه، فقام أعيان الدولة وأمراؤهم بين يديه يضرعون إليه في العفو وأنهم يرضون أولياء الصغير، فلم يفعل وأبى إلا إحضار ولده فأحضر إليه، فلما قدّمه ليقتص منه ضج الجميع والبكاء وقام أولياء المكسور وعفوا فلم يرجع إلى أحد وقدم ابنه إليه وأخذ يده بيده ووضعها على حجر وضربها بحديدة كسرها وهو يصيح ثم أغمى عليه فحمل إلى أمه وأصوات ذلك الجمع كله على كثرته قد ارتفعت بالعويل والبكاء رحمة للصغير. فكان أمرا مهولا وجمال الدين مع ذلك ثابت وقائل لولده: ذق كما أذقت ولد الناس، حدثنى بهذا الخبر الثقات الذين حضروا ذلك المجلس بين يدى جمال الدين وشاهدوه، فلم يتجاسر بعد ذلك أحد من أهل الدولة أن يمد يده لمال أحد ولا استطاع بعدها ولا حقير أن يجنى على غيره، وكان من شدة مهابته إذا أمر بشىء أو نهى عنه لا يتعداه أحد من أمرائه، بل يقف الجميع عند أمره ونهيه في جميع أعماله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 خوفا من شدة سطوته واتقاء عقوبته. ومناقبه عديدة ومآثره كثيرة، وجملة القول فيه أن الله تعالى أيّد به الدين وأعز بدولته الإسلام والمسلمين، وكان من جليل سعادته أن الله تعالى أهلك في أيام دولته طاغية الكفر الحطى إسحاق بن داود بن سيف أرعد في ذى القعدة سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة، فأقيم بعده اندراس بن إسحاق فهلك لأربعة أشهر من ولايته وقام بأمر أمحرة عمه حزيتاى بن داود بن سيف أرعد، فكانت أربع ملوك في نحو سنة وكل ذلك تعظم فتوحات جمال الدين الجليلة، وتعدد وقائعه العظيمة، وتكثر أعماله وعماله وغنائمه وأسراه وقتلاه وسباياه تمكينا من الله تعالى له في الأرض وتأييدا له بالنصر، ومع هذه الفتوحات العظيمة فلقد أسلم على يديه عالم من أمحرة لا يحصى عددهم، هداهم الله به وأنقذهم من النار بيمن دولته، وذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. ولما استشهد جمال الدين قام بأمر المسلمين من بعده أخوه شهاب الدين أحمد بدلاى، وما زال يجتهد في تحصيل قاتل أخيه جمال الدين حتى ظفر به وقتله، وجرى على سنّة أخيه في غزو أمحرة وفتح من بلادهم عدة أعمال وقتل طائفة من أمرائهم وحرق البلاد وغنم وقتل وأسر وسبى عالما كثيرا، بحيث كثرت الأموال من الذهب والفضة والثياب والدروع في أيدى جماعته. وحازوا من الوصايف ما لا يعد، وخرّب ست كنائس وعدة قرى واسترد البالى من أيدى الناس النصارى ورد إليها ألف بيت من المسلمين، إلا أنه حدث في أيامه سنة تسع وثلاثين وباء عظيم مات فيه من المسلمين والنصارى عوالم كثيرة جدا، وهلك الحطى، وأقاموا بعده صبيا صغيرا. وهذا السلطان بدلاى مقيم في بلاد وذكر أخوه خير الدين في بلاد ركلة. وأظهر بدلاى سيرة العدل في مملكته، فأمنّت الطرقات وانكف الناس عن الظلم من العسكر وغيرهم ورخصت الأسعار في أيامه. وأظهر بدلاى سيرة العدل في مملكته، فأمنّت الطرقات وانكف الناس عن الظلم من العسكر وغيرهم ورخصت الأسعار في أيامه. قال مؤلفه- تغمده الله برحمته: حرره جامعه ومؤلفه أحمد بن على المقريزى- فى ذى القعدة سنة إحدى وأربعين وثمانمائة، فصح جهد الطاقة والله أعلم بعيبه وأحكم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد الله رب العالمين. تم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 حرص النفوس الفاضلة على بقاء الذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله على جزيل نعمه، ووفور أفضاله وعموم فضله وغزير فعاله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وبعد: فهذه مقالة لطيفة، وتحفة سنية شريفة في حرص النفوس الفاضلة على بقاء الذكر. أسأل الله تعالى أن يجعل لنا ثناء حسنا في الصالحين، وأن يحبونا بالزلفى يوم الدين بمنّه وكرمه آمين. اعلم أن البقاء من أحسن صفات الله تعالى، فاتصاف العبد بما أمكن من البقاء هو أعلى صفاته وأفضلها؛ إذ ليس للعبد من نفسه إلا العدم، وأما الوجود فمن قبل الله تعالى، وقد تقرر في موضعه من الحكمة أن لكل شىء غاية، فغاية المعدن أن يصير ذهبا، وغاية النبات النخلة، وغاية الحيوان الإنسان، وغاية الإنسان أن يكون عالما، وغاية العالم أن يكون ملكا مقربا باقيا بالذكر، فالفاضل هو الذى يحرص على بقاء ذكره دائما، قال الله تعالى حكاية عن إمام الحنفاء إبراهيم الخليل عليه السلام أنه قال: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «1» والمراد باللسان: القول، فوضع اللسان موضع القول. قال عبد الله بن عباس رضى الله عنهما: هو إجماع الأمم عليه، وعن مجاهد والحسن: الثناء الحسن، وعن مجاهد قال: ما أراد إلا الثناء الحسن، فليس أمة إلا وهى توده «2» ، وقيل: معناه «3» : سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق فاستجيب دعاؤه في نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم. وعن القشيرى «4» [قال] : أراد الدعاء الحسن له إلى القيام الساعة، فإن زيادة الثواب مطلوبة في كل وقت ومن كل أحد «5» . وقد جعل الله تعالى ذلك لإبراهيم عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 السلام؛ إذ ليس أحد صلى على النبى صلى الله عليه وسلّم في صلاته إلا وهو يصلى على إبراهيم عليه السلام. وعن الإمام مالك بن أنس- رحمه الله- أنه قال: لا بأس أن يحب الرجل أن يثنى عليه صالحا وأن يرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله تعالى «1» . وقال تعالى ممتنا على نبيه وكليمه موسى عليه السلام: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي «2» . وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «3» أى حبا في قلوب عباده، وثناء حسنا، فنبه الله تعالى بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ على استحباب اكتساب ما يورث الرجل الذكر الجميل إذ الذكر الجميل؛ هو الحياة الدائمة. وقد قال حاتم الطائى وهو: أبو سفانة حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الجواد المشهور من أبيات: أماوى إن المال غاد ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث وقال آخر: ثمن الإحسان شكر ... ويرى المعروف ذخر وثناء الحى بعد ال ... موت للميت عمر وقال آخر» : قد مات قوم وهم في الناس أحياء ويقال: ذكر الفتى عمره الثانى «5» . ولعمرى إن الزمان الذى يثنى فيه على الميت بعد موته أحسن عمريه وأطولهما وأشرفهما، وقد قيل في هذا المعنى: ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور وقد قيل أيضا: كل الأمور تزول عنك وتنقضى ... إلا الثناء فإنه لك باق ولو اننى خيرت كل فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وقال القاضى أبو بكر محمد بن العربى «1» : وقال المحققون من شيوخ الزهد: وهذا دليل على الترغيب في العمل الصالح الذى يكسبه الثناء الحسن قال صلى الله عليه وسلّم «2» : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» «3» وفي رواية: «إلا من سبع» «4» وكذلك «من مات مرابطا يكتب له عمله إلى يوم القيامة» «5» وقد منّ الله تعالى على نوح وإبراهيم وموسى وهارون وإلياس عليهم السلام بقوله: وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* «6» ومعناه تركنا عليه ثناء حسنا في كل أمة، وقال تعالى ممتنا على نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ «7» يعنى لا إله إلا الله، فلا يزال في ذريته من يقولها. قال مجاهد وقتادة «8» : ومنّ تعالى على رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلّم بقوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «9» . فعن ابن عباس رضى الله عنهما: يعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 القرآن شرف لك ولقومك «1» . وقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ «2» أى شرفكم. قال أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى «3» : إنما وضع الذكر موضع الشرف؛ لأن الشرف مذكر. وعن الإمام مالك- رحمه الله- فى قوله: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ قول الرجل: حدثنى أبى عن جدى «4» ، وقال تعالى ممتنا على سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلّم: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «5» ذهب الجمهور إلى أن معناه إذا ذكرت ذكرت معى، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة يقول «6» : أشهد أن لا إله إلا الله، إلا قال: أشهد أن محمدا رسول الله. ويروى أن المسيح عليه السلام قال: «الذى يعلم ويعمل بما علم يدعى في ملكوت السموات عظيما» . وعن نبى الله سليمان بن داود عليهما السلام أنه قال: «الذكر الجميل خير من الرائحة الطيبة، والإنسان يوم يموت خير من يوم يولد؛ لأن الرائحة الطيبة قولا تبلغ ربع ميل، والثناء الحسن «7» والصفات الجميلة قد تبلغ أقصى الآفاق؛ وذلك أنّ الإنسان ما دام حيا يزهد فيه نظراؤه، فإن النفوس كأنها ناظرة إليه، ومن شأن صاحب المروءة أن يزهد فيما ظفر به لأنه في يده قد أمن فواته، وأن يحرص على طلب ما غاب عنه، ويرغب في تحصيله، فإذا مات الإنسان فقد فات، فتلمح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الألسنة حينئذ بتكرار أخباره وإثارة فضائله، ونشر مآثره، وإذاعة محاسنه، حتى لقد كان موته سببا لاشتهار فضائله أكثر من اشتهارها في حياته، فهو يوم وفاته خير من يوم ولادته؛ لأن يوم ولادته إنما يراد به ملك الغاية، وغاية الإنسان إما عالم فهو ملك باق، وإما جاهل غير متبع فهو شيطان أو بهيمة، فولادة الإنسان إنما هى ليكون له لسان صدق في الآخرين، فإن الفضائل بالفعل حق الثناء عليه أيام حياته وكثر انتشار فضائله بعد موته، وانتشارها بعد موته حياة باقية يتوجّه إليها الصالحون ويرغب فيها العارفون، فيوم كمال الغاية المطلوب والفضل المتوجه إليها الفضل من يوم الولادة، وقد قيل: المرء ما دام حيا يستهان به ... ويعظم الزور فيه حين يفتقد فاحرص يا أخى- أعزك الله بتقواه، ونوّر قلبك بنوره حتى لا تشهد سواه- أن تكون كما الورد، فإنه كان أولا بسيطا غير مركب، فلما سرى في التراب، وظهر في عالم العيان بصورة الشجر ذات الغصن والورق والورد عابا بالتقطير «1» إلى مرتبته، وأصله من البساطة وصورة المائية لكن بزيادة الكمال من طيب الرائحة وتفريح القلب وتقويته إلى غير ذلك من الخواص، فكذا فكن إن كنت ممن سبقت له الحسنى فإنك عندما تعينت صورتك البشرية كانت صفاتك جميعها بريئة من السوء، فإذا تهذبت بالرياضة والسلوك إلى الله تعالى تطهرت أخلاقك من الشر والنقائص وازدادت كمّا بما تحلت به من الآداب والمعارف وسائر الفضائل الروحانية، والله يؤيدنا بتوفيقه من غير خذلان ويعيننا على سلوك طريقه المستقيم، فإنه المستعان. قال مؤلفه: تم ذلك على يد جامعه ومنشئه أحمد بن عبد القادر بن محمد المقريزى الشافعى- غفر الله ذنبه وستر عيبه بجاه سيدنا محمد وآله وصحبه والحمد لله وحده، تم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 حصول الإنعام والمير فى سؤال خاتمة الخير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 (حصول الإنعام والمير في سؤال خاتمة الخير «1» ) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله وحده وصلى الله على سيدنا محمد الذى جاءنا بالبينات والهدى فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده حتى ظهر دينه على كل دين، وملته على كل ملة، وعلى آله وأصحابه وسلم، وبعد: فنسأل الله المبتدئ لنا بنعمه قبل استحقاقها، المانّ به علينا مع تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب من شكره لها أن يجعلنا من خير أمة أخرجت للناس وأن يرزقنا فهما في كتابه، ثم سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم قولا وعملا يؤدى له عنه حقه ويوجب لنا نافلة من يده بمنه وكرمه، وأن يختم لنا منه بخير وعافية بلا محنة، فإن سؤال العبد ربه تعالى أن يختم له بخير، وطلب ذلك لأخيه المؤمن من أهم الأمور وأصله ثابت بالكتاب والسنة. قال الله جل جلاله حكاية عن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلوات الله عليهم: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «2» . على أن علماء التفسير قد اختلفوا في قوله: تَوَفَّنِي مُسْلِماً على قولين: أحدهما: أنه تمنى الموت، والآخر: أنه تمنى الوفاة على الإسلام إذا جاء أجله، فأما الأول، فعن السدى عن ابن عباس- رضى الله عنهما- وقد ذكر قول يوسف عليه السلام: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ... الآية. قال: هو أول نبى سأل الله الموت «3» ، وعن ابن جريج «4» قال: قال ابن عباس رضى الله عنهما في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ الآية، قال: اشتاق إلى لقاء ربه، فأحب أن يلحقه بآبائه فدعى الله أن يتوفاه ويلحقه بهم، ولم يسأل نبى قط الموت غير يوسف عليه السلام «1» وهو قول قتادة في قوله: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ قال: لما جمع الله شمل يوسف وأقر عينه وهو يومئذ مغموس في الدنيا وملكها وغضارتها اشتاق إلى الصالحين قبله «2» ، وقال ابن عباس: ما تمنى نبى قط الموت قبل يوسف عليه السلام، وفي رواية: لما جمع الله ليوسف شمله وتكاملت عليه النعم سأل لقاء ربه وقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ... الآية، فلم يتمن الموت أحد نبى لا غيره إلا يوسف، وعن ابن أبى نجيح «3» : لما جمع الله بين يوسف وبين أبيه وإخوته وهو يومئذ ملك مصر اشتاق إلى لقاء الله تعالى وإلى آبائه الصالحين إبراهيم وإسحاق ويعقوب قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ... الآية. وأما القول الآخر فعن الضحاك في قوله: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ قال: توفنى على طاعتك واغفر لى إذا توفيتنى «4» ، وعن ابن عباس في رواية عن عطاء: يريد لا تسلبنى الإسلام حتى تتوفانى عليه «5» . وقال الواحدى «6» فى قوله: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ هذا دليل فيه على تمنى الموت، بل هو دليل على سؤال أن يكون موته على الإسلام إذا كان، وقال أبو العباس أحمد بن يوسف الكواشى «7» : تَوَفَّنِي مُسْلِماً أى موحدا مخلصا ولا تجعل لى إلى نفسى رجوعا بحال ولا تدبير بسبب، فقد ذقت مرارات الأسباب فيما اخترته لنفسى وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بآبائه النبيين، أو بأهل الجنة، أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 هم الذين زين الله تعالى ظاهرهم بآداب الخدمة ونوّر بواطنهم بنور اليقين والمعرفة وجعلهم راحة لعباده. وقال القرطبى بعدما ذكر قول قتادة: وقيل: إن يوسف لم يتمن الموت، وإنما تمنى الوفاة على الإسلام: إذا جاء أجلى توفنى مسلما، وهذا قول الجمهور، ثم ذكر الأحاديث الواردة في النهى عن تمنى الموت «1» وقال: إذا ثبت هذا فكيف يقال: إن يوسف تمنى الموت والخروج من الدنيا وقطع العمل، هذا بعيد إلا أن يقال: إن ذلك كان جائزا في شرعته، انتهى. وقد أثنى تعالى على الذين يدعونه فيقولون: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ وسماهم راسخين في العلم، ومعلوم أن أحدا لا يدعو فيقول: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ «2» . ومعلوم أن أحدا لا يدعو فيقول: رب لا تسلبنى سمعى وبصرى بعدما جعلتهما لى، إلا وهو خائف عليهما وجل من ذهابهما، فلما أثنى الله تعالى على الداعين إياه بذلك كان الثناء في الحقيقة بما استحقوه بمعرفتهم عند النعمة عليهم في هداية الله إياهم للإسلام، وصانهم بها، وخوفهم أن يسلبوها، وهذا أصرح شىء فى الحث على طلب خاتمة الخير. وقال تعالى حكاية عن أهل الجنة أنهم يقولون: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ «3» فروى أنهم كانوا مشفقين من أن يسلبوا الإسلام فيوردوا يوم القيامة موارد الأشقياء، وكانوا يدعون الله تعالى أن لا يفعل بهم ذلك، فلما كانوا مشفقين أن يسلبوا الإسلام جزاهم ربهم سبحانه وتعالى بإشفاقهم عن دينهم الناشئ عن حبهم إياه، وعرفانهم قدره، أن ثبتهم عليه حتى إذا هم في الآخرة إلى رضوانه، وحلول دار المقامة من جناته، وقال تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً «4» إلى قوله: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ «5» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 قال القرطبى: أى أبرارا مع الأنبياء أى في جملتهم «1» وقال ابن عطية «2» فى المعنى: توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم «3» ، وقال أبو حيان «4» : وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ جمع برر، على وزن فعل، كصلف، أو جمع بارر على وزن فاعل كضارب، وأدغمت الراء فيهما في الراء، وهم الطائعون لله، وقيل: هم هنا الذين برّوا الآباء والأبناء، و «مع» هنا مجاز عن الصحبة الزمانية إلى الصحبة في الوصف. أى: توفنا أبرارا معدودين في عمل الأبرار، والمعنى: اجعلنا ممن توفيتهم طائعين لك، وقيل: المعنى: احشرنا معهم في الجنة. فقد تبين من كتاب الله تعالى أن طلب خاتمة الخير- وهو الوفاة على الإسلام- من سنن المرسلين، وشعار المؤمنين، فقد ورد عن بعضهم: كان آخر ما تكلم به أبو بكر الصديق رضى الله عنه: تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ، وأما أصل ذلك من السنة، فقد خرّج البخارى ومسلم من حديث قتيبة «5» بن سعيد قال: ثنا يعقوب «6» يعنى ابن عبد الرحمن القارى، عن أبى حازم «7» عن سهل «8» بن سعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الساعدى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» «1» . ذكره البخارى في كتاب الإيمان «2» مطولا، وذكره في كتاب الجهاد، وترجم عليه باب: «لا يقول: فلان شهيد» «3» . حدثنا سعيد «4» بن أبى مريم: ثنا أبو غسان «5» : ثنى أبو حازم، عن سهل: أن رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبى صلى الله عليه وسلّم، فنظر النبى صلى الله عليه وسلّم فقال: «من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا» . فاتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين حتى جرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة «6» سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه، فأقبل الرجل إلى النبى صلى الله عليه وسلّم مسرعا فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: «وما ذاك؟» قال: قلت لفلان: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه، وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين فعرفت أنه لا يموت على ذلك، فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه، فقال النبى صلى الله عليه وسلّم عند ذلك: «إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أهل الجنة. ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار وإنما الأعمال بالخواتيم» «1» . فانظر- رحمك الله- كيف نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على التيقظ، وأن لا نغترّ بما يبدو من ظاهر الأعمال. وإنّ العبرة بما يختم للعبد به. فلذلك طلب أهل الله من ربهم سبحانه أن يختم لهم بخير، إذ خاتمة الخير هى المعتبرة عند الله، وهى التى بها ينال العبد النجاة من النار، والفوز بالجنة. وقد خرّج مسلم هذا الحديث مختصرا من طريق أبى هريرة رضى الله عنه، فقال: ثنا قتيبة بن سعيد، قال: أنبأنا عبد العزيز- يعنى ابن محمد- عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار. وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة» «2» . فانظر- رحمك الله- كيف نص في حديث أبى هريرة هذا على ذكر الخاتمة، لا جرم أن كان طلب الخير أهم ما توجه إليه المتقون فقد جاء في بعض الآثار: المخلصون على خطر عظيم. وخرج هذا الحديث أيضا أبو بكر بن أبى شيبة من طريق أنس بسند في غاية الصحة وسياقة مفيد لما نحن بصدده، فقال: أنا يزيد بن هارون عن حميد عن أنس- رضى الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لا عليكم ألا تعجلوا بحمد أحد حتى تنظروا بما يختم له، فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا سيئا، وإن العامل ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ لو مات عليه دخل النار، ثم يتحول فيعمل عملا صالحا، وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله قبل موته» . قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعمله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه» «3» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وقال أيضا: أنا يزيد بن الحباب ثنا معاوية بن صالح أنبأنا عبد الرحمن بن جبير ابن نفير الحضرمى عن أبيه عن عمرو بن سمعة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا أراد الله بعبده خيرا عسله قبله» . قيل: وما عسله؟ قال: «يفتح له عملا صالحا بين يدى موته حتى يرضى من حوله» «1» . وهذه مسألة من مسائل أصول الدين مهمة جرى فيها خلاف كبير بين الأشاعرة «2» وبين الماتريدية «3» من الحنيفة، وهى مسألة الموافاة. فذهب أصحابنا الأشعرية ومن تابعهم إلى القول بالموافاة، وهى أن العبرة في حال العبد المكلف بالخاتمة لأعماله، فمن ختم له من الناس بالإيمان تبين أنه كان عند الله مؤمنا من الابتداء، وأنه كان حين يخر ساجدا للصنم معتقدا للشرك مصرحا بأنه ند لله تعالى كان مؤمنا، ومن ختم له بالكفر- نعوذ بالله من ذلك- تبين أنه كان كافرا من الابتداء، وحين كان مصدقا لله ولرسوله كان عند الله كافرا «4» . ومنع الماتريدية أصحاب أبى منصور الماتريدى من الحنفية «5» هذا القول وأبطلوه واحتجوا بأن الإيمان هو التصديق بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلّم من عند الله تعالى، وهو أمر حقيقى لا يتبين بانعدامه أنه ما كان موجودا، كمن كان قائما ثم قعد، أو كان شابا ثم شاخ لم يتبين أنه كان قائما ولا شابا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 «الاستثناء في الإيمان» : ونشأ عن هذه المسألة مسألة أخرى عظم فيها الخلاف من الفريقين، وأطلق بعض مخالفى الأشعرية لسانه من أجل هذه المسألة بما لا يحمل وهى: هل يقال: أنا مؤمن إن شاء الله أو لا؟ فذهب أكثر أصحابنا الأشاعرة إلى أنه يجوز إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمن إن شاء الله، لا للشك، بل لأن مذهبهم العبرة بحالة الموت، لا الإيمان الموجود في الحال ولا للكفر الموجود في الحال، بل ذلك الحال مشتبه عليهم، وإذا لم يعلموا بها لم يعلموا ما هم عليه في الحال لسقوط ما هو الموجود للحال، وتذكر- رحمك الله- هنا حال سحرة فرعون وحال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أول أمرهم وما آلت إليه أحوالهم، يفدك هنا فائدة جليلة، وقد أشار إلى ذلك بعض أهل العرفان بقوله: «وكم لله من قوم هم في المعاصى والمعاصى لا تضرهم» . «رفض الحنفية للاستثناء» : وخطأ الحنفية من استثنى في إيمانه وقالوا: قد شهد الله لمن آمن بالله ورسوله بقوله: آمَنَ الرَّسُولُ ... «1» الآية وخرج بقطع القول للذين قالوا: رَبُّنَا اللَّهُ* «2» ولم يأمرهم بالاستثناء، وكذلك قال تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ... «3» فأمر تعالى بذلك من غير استثناء، وقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ ... إلى قوله: وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ «4» فجعل تعالى قول القائل: إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أحسن قول. «كلام السلف في الاستثناء» : وقال النووى «5» : واختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمن. فقالت طائفة: لا يقول: أنا مؤمن مقصرا عليه، بل يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وحكى هذا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا المتكلمين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وذهب آخرون إلى جواز إطلاقه وأنه لا يقول: «إن شاء الله» وهذا هو المختار، وقول أهل التحقيق. وذهب الأوزاعى وغيره إلى جواز الأمرين «1» ، والكل صحيح باعتبارات مختلفة فمن أطلق نظر إلى الحال وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال، ومن قال: إن شاء الله، فقالوا فيه: هو إما للتبرك، وإما لاعتبار العاقبة، وما قدر الله تعالى فلا يدرى أيثبت على الإيمان أم يصرف عنه، والقول بالتخيير حسن صحيح نظرا إلى مأخذ القولين، ورفعا لحقيقة الخلاف، وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا، منهم من قال: هو كافر، ولا يقال: إن شاء الله، ومنهم من قال: هو فى التقييد كالمسلم على ما تقدم، فيقال على قول التقييد: هو كافر إن شاء الله تعالى نظرا إلى الخاتمة، وأنها مجهولة، وهذا القول اختاره بعض المحققين والله أعلم. انتهى «2» . وقد جاء في معنى خاتمة الخير أحاديث وآثار. قال ابن السنى: ثنا نجيح بن إبراهيم بن محمد بن ميمون ثنا صالح بن أبى الأسود عن عبد الملك النخعى عن ابن جدعان، عن أنس بن مالك رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول إذا انصرف من الصلاة: «اللهم اجعل خير عمرى آخره، واجعل خير عملى خواتمه، واجعل خير أيامى يوم لقاك» «3» . وقد روى عن الإمام أبى عبد الله أحمد بن حنبل رضى الله عنه أنه كان كثيرا ما يدعو: اللهم أمتنى على الإسلام والسنة. ومن الأدعية المأثورة: «اللهم ألبسنى العافية كى تهيننى المعيشة، واختم لى بخير حتى لا تقرنى ذنوبى، واكفنى مؤونة الدنيا وكل هول في الآخرة حتى تدخلنى الجنة في عافية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 ومن دعاء بعضهم: اللهم إنى أعوذ بك من العجز عند الكبر، وأعوذ بك من سوء الخاتمة عند الموت. والله الموفق والهادى إلى سبيل الرشاد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا دين الإسلام بالسيوف الحداد. والحمد الله وحده ... تم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 (الإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد وقف ذو القريحة «1» الشحيحة، والخاطر الحائر على ما برزت به الإشارة الكريمة، من حل لغز قد استغلق معناه، وبعد مرماه، فامتثلت ذلك ولم أكن هنالك أدخل الألغاز غير صناعتى، والنظر فيها ومعاناتها ليست من بضاعتى، لكنى سألت الله أن ييسر لى حله، فأعان عليه، وأهدى بفضله إليه، فإذا هو قد ألغز فى الماء الذى به حياة الأنفس، وحياة كل شىء حى وبيانه أنه قال: ما قولكم في شىء يطير بلا جناح يبيض ويفرخ في البطاح «2» ؟ هذا إشارة إلى نزول الماء من السحاب، فإن الطيران هو الاستعلاء في جو السماء والارتفاع في الهواء والمرور فوق الأرض وتحت السماء، وكذلك الماء فإنه يستعلى في الجو، فإن الشمس إذا أشرقت وارتفع الندى طار، وحقيقة الندى النازل من السمآء إنما هو أجزاء مائية صغيرة واعتبره هذا تجده عيانا، فإنك إذا وضعت قشرة بيضاء تحت السماء في ليلة ذات أندية فإنها توجد في السحر قد امتلأت ماء، فإذا طلعت الشمس تراها ترتفع في الجو بنفسها حتى تغيب عن العيان، وأما مرور الماء فوق الأرض وتحت السماء، فأمر مشاهد عند نزول المطر، فقد بان واتضح أنه يطير بلا جناح، وإطلاق الطيران عليه يكون من باب الاستعارة. وقوله: «يبيض ويفرخ في البطاح» استعارة لطيفة، فإن الماء إذا نزل إلى الأرض أخرجت عند ذلك حبّها، ومن هذا فاستعار اسم البيض والفراخ لما يكون عن الماء، والاستعارة تكون بأوفى علاقة كما تقرر في علم البيان. «رأسه في ذنبه» يشير إلى أن وقت نزول الماء من السماء يرى خطوطها؟؟ كأنها حبال أو أعمدة، أو خيوط بحسب غزارته، فيكون رأس الخط الممتد مما يلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الأرض، وفي الحقيقة إنما هو طرفه الآخر، وذكر الذنب أيضا إنما يكون من باب الاستعارة، وإذا بالذنب الطرف. وقوله: «وعينه في موضع قتبه «1» » معنى مستغلق شرحه أن الماء إذا اجتمع فى موضع ثم سقط فيه المطر انتشر في أعلاه- أعنى سطحه- شىء مستدير يقال لما كان مثله في الخمر عند من لها أحباب، ولله در أبي الحسن بن هانئ الحكمى حيث يقول: كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء «2» در على أرض من الذهب فاستعار الغيث لما يتكون في سطح الماء الذى هو ظهره في تلك الهيئة، وشبه تلك الفواقع التى حدثت في الماء بالعيون وهى شبه تلك الفواقع التى حدثت في الماء بالعيون، وهى شبه بالحدقة ومقلة العين فلذلك قال: وعينه في موضع قتبه، ولم يقل: وعينه في قتبه تحقيقا للاستعارة، وناسب ذكر القتب دون ما سواه آلات الدواب كالسرج والإكاف «3» ونحوهما شيئين أحدهما: «أن البعير الذى القتب آلة لظهره يشبه بالسفن، ففى الأمثال «الإبل سفن البر» ، ويؤخذ هذا المثل من القرآن الكريم، قال الله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ «4» والضمير في قوله: مِنْ مِثْلِهِ يعود إلى الفلك وهو معنى حسن، والثانى: أنه لا يوجد في الدواب ما يوقر «5» وهو بارك ثم يثور بحمله سوى البعير، قال الله تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ «6» يعنى- والله أعلم- الإبل، فشابه البعير- من هذه الحيثية- السفن؛ لأنها تحمل من الأثقال ما لا يحمله سواها مما أعد للحمل. وقوله: «ويسمع بأذن واحدة، ويبصر بعين زائدة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 استعارة لطيفة؛ لأن الناس إذا قحطوا وضجوا «1» بالدعاء نزل الغيث غالبا، فعبر عن نزوله وقت اجتماعهم بالدعاء بالسمع، فكأنه سميع لصحيح الأصوات باختلاف اللغات، وتفنن العبارات، فنزل من أعلى السماوات، والأذن الواحدة إشارة إلى الجهة، فإن نزوله إنما هو من جهة العلو المعبر عنها بالسماء، ولا يرد على هذا أن الماء ينبع من الأرض فإنه لا ماء فيها إلا ما استودعته منه في جوفها مما نزل من السماء. قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ «2» ، وكونه يبصر بعين زائدة إشارة إلى ما تقدم تبيانه من ظهور تلك الفواقع التى تشبه مقلة العين، فصار كأنه يبصر بعين هى واحدة في الهيئة لا متعددة الكيفية، يعنى استدارتها، وما ألطفه حين وصف العين بالزيادة، إذ هى حادثة لا أصلية كما يحدث الموج في البحر، فلا هو هو ولا هو غيره، ولأصحابنا من الصوفية هنا كلام لا يليق بهذا المقام ذكره. وقوله: «له قرن كالنخلة السّحوق» «3» هذا تخيل حسن، فإن الماء في حال نزوله من السماء يرى كحبال ممتدة عبّر عن هيأتها بالقرن «4» من باب الاستعارة يعمى به. وقوله: «يعجب من أبصره ويروق» ظاهر فإن الماء يعجب من رآه ويروقه. وقوله: «يصل إلى الغرب بالليل» معنى عويص جدا يحتاج إلى إطالة شرح، وملخصه: أن جميع أنهار الأرض الكبار تنبعث خارجة من جهة المشرق، وتمر في جريانها أمة نحو الغرب، ما عدا أنهار ثلاثة وهى: نيل مصر، وعاصى «5» مدينة حماة، ونهر أيل بأطراف بلاد الترك مما يلى الخطا، فإن هذه الأنهار الثلاثة تخالف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 سائر أنهار الأرض، وتخرج من جهة الجنوب وتمر إلى الشمال، ولهذا علل لا يحتمل هذا الموضع إيرادها فاستعار هذا الملغز لمرور مياه الأنهار نحو الغرب، وذكره الليل لا يلزم منه الاختصاص دون النهار، وهذه مسألة من مسائل أصول الفقه، وهى: أن التنصيص على الشىء باسمه العلم لا يدلّ على الخصوص لقوله صلى الله عليه وسلّم: «الماء من الماء» «1» ومعنى الحديث الغسل بالماء من إنزال المنى «2» ، ولا يلزم منه اقتصار الغسل على نزول المنى، بل يلزم منه ومن الإيلاج، وفي هذه المسألة خلاف قديم ولشرحها موضع معروف من كتب الفقه. وقوله: «ويسجد طول دهره لسهيل «3» » فهذا أعوص مما قبله لكن نبيّنه فنقول: سهيل أحد الكواكب الثابتة التى تعرف بالبيانية «4» ، وهو أبدا لا يرى إلا في ناحية الجنوب، ومتى تركت عراق الغرب وراءك وسرت لا تراه، ويصير بتلك الأقطار الشمالية أبدا الخفاء، كما هو جهات الجنوب أبدى الظهور. وفي إقليمى مصر والشام يرى محاذيا للأفق أحيانا، ويخفى أوقاتا، والسحب إنما تنشأ من البخار دائما، وهى مركبة من بخارين فتصير عند انتشائها تواجه سهيلا؛ لأن ناحية الجنوب حيث مدار سهيل ليس فيها بخار «5» كما تقرر في موضعه من العلم الطبيعى، ولا يعترض بما يشاهد من بلاد الشام وما وراءها من الشمال والمشرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 من تصاعد الأبخرة في أيام الشتاء من الجبال وقفر «1» الأرض، فنقول وقد نشأ السحاب من هذين أيضا فما دام الأمر كذلك، فإن البخار الناشئ من الأرض إنما يسير بالنسيم إلى بخار البخار وهما يتحدان عند تصاعدهما فيكون منهما السحاب، ولست الآن بصدد الكلام على هذا فله مكان هو أليق به من هنا. وقوله: «فتقرب به الملوك للخالق» : تنويه بهذا المعمّى، حيث نصّ على الملوك، فإنهم أعلى طبقات البشر ولأمر ما يسود من يسود، فما من ملك من الملوك إلا وهو إذا أراد الصلاة التى هى أشرف ما تقرب بها العباد إلى ربهم عز وجل، فإنه يرفع أحداثهم بالماء. وقوله: «ويوحدوه بقول صادق» . أى: يفردوه فلا يتقربون في تطهيرهم بغيره، ولا يرد على هذا التيمم بالصعيد من التراب وغيره، فإنه بدل لا يصار إليه إلا عند فقد الماء صورة أو معنى. قوله: «النصارى تتقرب به واليهود» . قول ظاهر ما أحد منهم إلا وهو يتقرب بالماء في إزالة أحداثه. ولا يرّد على هذا كون النصارى الآن لا تغتسل من جنابة، ولا تتوضأ، بل ولا توجب إزالة شىء من النجاسات العينية بالماء، فإن هذا من بدع ضلالتهم التى ابتدعوها، وليس مما جاء به المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، كما ابتدعوا الصوم، وأحدثوا فيه أسبوعا من الأسبوع يلزم اليعاقبة دون المليكة افتراء على الله، وكما ابتدعوا الرهبانية، وكما ابتدعوا ومنعوا من أكل اللحوم في أيام الصوم، وكما ابتدعوا من بدعهم التى اتبعتها «2» فى حواشى الإنجيل عندما طالعته قديما. وقوله: «والكتب المنزلة بذلك شهود» كلام صحيح، ففى القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والزبور وسائر كتب الأنبياء التى توجد اليوم بأيدى اليهود والنصارى وهى نيف على خمسين كتابا، فى عدة مواضع شاهدة أن الماء يتقرب به، ولولا خوف الإطالة لسردت منها كثيرا، فقبح الله النصارى وجعل عليهم ما يخرج من أسافلهم حيث استدلوا على ترك إزالة النجاسات العينية بقوله في الإنجيل: «ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 النجس ما يخرج منك، إنما النجس كلمة تخرج من فيك» فإن هذا لا يقتضى ما زعموه، إنما فيه شناعة الكلام الخبيث لا حجة لهم غيرها، وقد بسطت الكلام في حواشى الإنجيل عليها بما لا يرده إلا جاهل أو معاند. وقوله: «ريشه كثير ووبره غزير» إشارة إلى كونه يتكون عنه ما يلبسه الإنسان من القطن والكتان ونحوهما من الثياب يقال لها: ريش ورياش، وهما قراءتان في قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى «1» . فقرأ الجمهور من الناس «وريشا» ، وقرأ الحسن «2» وعاصم «3» وجماعة «ورياش» بألف بعد الياء، وقال الكلبى «4» : لباس التقوى: العفاف «5» . وقيل في قوله تعالى: أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أنزلنا من السماء ماء فأنبتنا به لباسا، وبهذا يتبين معنى قوله: ووبره غزير. وقوله: «طعامه الجوز والعسل» : معناه: من طعامه الذى يتكون في الأرض عقيب ريها منه مما يطعمه الناس الجوز والعسل. وقوله: «وبه يضرب المثل» يريد: معنى قولهم هو أعذب من الماء، هو أصفى من الماء، هو ألذّ من الماء عند الظمآن، ونحو ذلك، على ما تضمنه «كتاب الأفعال» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 لابن القوطية «1» ، وعلى ما هو عند الناس من ضربهم المثل بالماء. وقوله: «شرابه اللبن والخمر» يعنى: يكون من شرابه اللبن، فإنه يتولد في الحيوان ما يتغذاه، والأغذية كلها من الماء وكلها لا تكون إلا عن الماء، وأما الخمر فالأمر فيه ظاهر. وقوله: «ونقله الملح والتمر» هو أيضا من هذا الباب كأنه يقول: ومما ينتقل به مما يكون عنه الملح والتمر، وحقيقة الملح ما جمد في أرض خاصة، فاستحال أو أحالته الأرض إلى طبيعتها، كما قد علل هذا في موضعه من العلم الطبيعى، وأما التمر فإنه يتكون أيضا عن الماء ومما ينتقل به أى يوجد أحيانا. وقوله: «يكره النسوان ويحب الغلمان» فإنه معنى مستغلق بعيد المعنى يحتاج إيضاح؛ لأنه مما لا يعرفه إلا الأقل من القليل، ولولا خشية الظن أنى أتكثر بما لا أعرف لما سمحت به، فإن كثيرا من أصحابنا- غفر الله لهم- يوهم أحدهم أنه يعرف العلم كله، فإذا فضحته شواهد هذا الامتحان تبين أنه لا يعرف شيئا. فنقول: من الأسرار المعتبرة عند أئمة السحرة أنه إذا نزل المطر والبرد فتجردت امرأة من جميع ثيابها واستلقت على قفاها، ورفعت رجليها وباعدت ما بينهما بحيث يبقى فرجها بارزا نحو السماء، فإن المطر والبرد يرتفع نزوله عن تلك المزرعة والساحة التى بها تلك المرأة، ولا ينزل عليها منه شىء ما دامت المرأة كذلك، وشرط بعضهم أن تكون المرأة حائضا. وأما حب الغلمان فسر بديع لم أر أحدا يذكرانى به، وهو أيضا من علوم القدماء، وذلك أن العين إذا أرادوا استبطا «2» أو كان ماؤها قليلا وقصدوا غزارته فإنهم يعمدون إلى سبعة غلمان بارعين في الجمال، فائقين في الحسن، مجيدين لضرب العود، عارفين بصناعة الموسيقا، ذوى أصوات مطربة، ثم يقومون صفا واحدا متحاذين وبيد كل واحد منهم عود وقد استقبلوا بوجوههم منبع العين، ويحركون أوتار عيدانهم تحريكا واحدا بإيقاع واحد مدة ثلاث ساعات بطالع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 معروف، فإن ذلك الماء يسيح حتى يبل أقدامهم فكلما تأخروا تبعهم حتى يحصل به الغرض، فينصرفوا، فاعتبر ذلك بأن تجلس جماعة على شاطئ سيما وقت المد، ويكون من الجماعة صبى، فإذا تأملت البحر تجده يقذف موجه إلى جهة الصبى أشد ما يقذف به إلى جهة غيره من الجماعة، ولله في خليقته أسرار يبدى منها ما يشاء لمن يشاء سبحانه. وقوله: «يحمل الأثقال وهو ضعيف» كلام صحيح، فإن السفن تمر فيه وهى موسقة بالأحمال، ومع حملها فهو في نفسه ضعيف، فإنه يؤثر فيه كل شىء ويغير بما يغيره. «ويقذى «1» الأسد وهو ضعيف» صحيح أيضا، فإن المطر إذا نزل منه قطرة فى عين الأسد صار كأنما في عينه قذاة، وهى القشة ونحوها، وفي هذا الكلام إشارة إلى أنه ينكى الأسد الذى هو أقوى الحيوانات من كونه نحيفا يعنى لطيفا فلا شىء ألطف من الماء حاشا الهوى. وقوله: «إن طلب أدرك وإن طلب أهلك» بلاغة، فإن الفصيح لا يستعمل هذه الجملة من الكلام إلا في حالة المغالبة كالحرب ونحوها، ففيه تنويه بقدر هذا المعمّى، وأنه لا يغالب، وكذلك هذا الماء من غالبه غلبه وأهلكه، ومن قوته مع لطافته سرعة نفوذه وسريانه في أضيق المسام. وقوله: «يقطع في الأرض في ساعة بلا مال ولا بضاعة» إشارة إلى سرعة نزول الماء من السماء، وهو ظاهر، ويمكن أن يقال: أراد بالقطع الإبانة، فإن الماء يقطع في الأرض، أى: يجعل فيها أخاديد سيما وقت مسيل الماء في الأودية. وقوله: «ويسكن القصور» ظاهر إذ ما من قصر إلا وفيه الماء. وقوله: «ويأوى الليل إلى القبور» تعمية لطيفة، فإن الندى والطل يكون نزولهما ليلا أندى، وما الندى إلا الماء، وما من قبر بارز لا يحول بينه وبين الماء شىء إلا وينزل عليه الندى ليلا، فإذن صدق عليه أنه يأوى إلى القبور. وقوله: «يبكى على الأحباب ويندب فقد الشباب» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 من المعانى الجيدة، فإنك تقول: بكت السماء: إذا نزل الغيث، ويعدون نزول المطر على رممهم وديارهم التى أقفرت «1» من [ساكنيها] «2» بكاء وندما، وفي أشعارهم وأشعار من بعدهم من هذا كثير يخرجنا عن الغرض إيراده. وقوله: «ما ملكه قط بشر، ولا حازه أنثى ولا ذكر» . إشارة إلى أن الماء لا يملك، وذلك ما لا خلاف فيه فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الذى لا يملك فقال: «الماء والكلأ» أو قال: «الماء والنار» «3» . وقوله: «تلعب به الصبيان» كلام بين بنفسه، فمن ذا صبى لا يلعب بالماء، كذلك كنتم من قبل. وقوله: «تقلى من سعره الأثمان» كلام بين نفسه، وكل أحد يعلم أن الماء حتى عزّ وجوده اشتراه مبتغيه وطلبه بأعلى الأثمان. روينا عن ابن السماك «4» أنه قال لهارون الرشيد: يا أمير المؤمنين، لو منعت عنك شربة من الماء، بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكى، قال: فلو شربتها واحتبست فلم تخرج، بكم تشترى خروجها؟ قال: بنصف ملكى الآخر. قال: فما قدر ملك قيمته بوله، فبكى الرشيد. وقوله: «تمازجه الإيقاف» وأظنه تصحيف. وقوله: «وما يتلى في سورة ق» يشير إلى قوله: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ «5» . وقوله: «يصلى ويصوم» . فصلاته إما دلالته على خالقه سبحانه وتعالى، أو حمل ذلك على ظاهره وهما قولان مشهوران، وقد ثبت بنص كتاب الله أن كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 مخلوق فإنه يسجد لله، قال الله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ «1» . وكرر هذا في غير موضع. وصيامه في قوله الأول: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج «2» وأخرى تعلك «3» اللجم «ويقعد ويقوم» : فقعوده: ركوده في المستنقعات والبرك، وقيامه حال كونه مطرا، وهذا من باب الاستعارة. وقوله: «خلقته لا تحصى وصفاته لا تستقصى» كلام ظاهر، فمن يحيط بخلقة الماء ويعلمها إلا الخالق تعالى، ومن ذا يستقصى صفاته يعنى منافعه، فكفاك قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ «4» ففيه أعظم دلالة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وفوق كل ذى علم عليم. هذا ما دل قائد الاختيار عليه، وقام دليل الفكر إليه، فأملاه الجنان على اللسان، وخطه البنان في نصف النهار الأول من يوم الثلاثاء لأربع عشرة خلت من شهر الله المحرم الحرام سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة من غير مراجعة كتاب، ولا تعليق مسودة، فإن كنت أصبت فلله المنة أهل الحمد ومستحقه، وإن أخطأت فعذرى مقبول عند أهل الإنصاف لقصور باعى في العلوم النقلية والعقلية، وقد انتهى ما نقلته من الإشارة والإيماء إلى حل لغز الماء. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، تم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 نحل عبر النحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد: فهذا قول وجيز في ذكر النحل «1» وما أودع فيه البارى جلت قدرته من غرائب الحكمة، وعجائب الصنع، يعتبر أولو الأبصار، ويتذكّر أرباب الاعتبار، والله الموفق. [ فصل في تعرف النحل وأنواعه وخصائصه ] (فصل) النّحل: حيوان ذو هيئة طريفة، وخلقة لطيفة، ومهجة «2» نحيفة، وسطه مربّع مكعّب، وموخّره مخروط، ورأسه مدوّر مبسوط، وفي وسط بدنه أربعة أيد «3» ، وأرجل متناسبة المقادير، كأضلاع الشّكل المسدّس في الدائرة. والنّحل: أنثى، واحدتها: نحلة «4» ، وتصغّر: نحيلة. ومن أسمائها: الخشرم «5» ، والدّبر «6» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وقيل: الدّبر، للزنابير، وهو المشهور. فإنّ حمى الدّبر «1» ، إنما حمته الزنابير، لا النّحل. وقيل: الخشرم: ذكر النّحل. ويقال للجماعة من النحل: الثّول «2» ، ولا واحد له، ويقال لها: الأوب «3» ، واحدها آيب. وتسمى أيضا: نوبا، واحدها: نائب، وقيل: النّوب من النحل التى فيها سواد. وقال ابن قتيبة: «يقال لجماعة النّحل: دبر، وثول، وخشرم، ولا واحد لشىء من هذا» . ومن النّحل: سود، وهى أصغر من الصّفر. والصّفر أكبر من السّود. والنحل تلد من غير لقاح الذكور، وتتّخذ بيوتها مسدّسة. وهو حيوان فهيم، فيه كيس «4» ، وشجاعة، ونظر في العواقب، ومعرفة بفصول السنة، وأوقات المطر، وتدبير المنزل، والطاعة الكبيرة، والاستكانة لأميره وقائده «5» . [ فصل في بيان أصناف النحل ] (فصل) النحل تسعة أصناف: منه ستّة يأوى بعضها إلى بعض، وهى تقسّم الأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بينها، فمنها ما يبنى بالشّمع، ومنها ما يأتى بالعسل، ويمجّه في أبيات الشّهد، ومنها ما يأتى بالماء فيمدّ العسل به. وهى في ألوانها ثلاثة أصناف: غبر وهى أصغرها، وسود وهى أوسطها، وصفر وهى أعظمها. والنحل والنّمل: أكسب الحيوان كلّه، وأدأبه على عمله. والنحلة الكريمة تكون صغيرة مستديرة مختلفة اللّون؛ والنّحل المستطيل غير كريم، ولا عمول، ولا متقن لما يعمل؛ والنحل الصّغار يخرج تلك الطوال من أبياتها، وتطردها؛ وإذا قويت النّحل على ذلك فهو منتهى كرم النّحل. والنحل الصّغير عمّال، وهى سود الألوان كأنها محترقة. فأما النحل الصّافى النقى فإنها تشبّه بالنساء البّطالات التى لا تعتملن؛ والنحل تخرج ما كان بطّالا، وما لا يشفق على العسل. والنحل التى تسرح في الجبال أصغر من نحل السّهل، وأكثر عملا، وقد جعل الله تعالى في النحل: الملك المطاع، يقال له: اليعسوب «1» ، يتوارث الملك عن آبائه وأجداده، لأن اليعاسيب لا تلد إلا اليعاسيب. فاليعاسيب هى ملوكها، وقاداتها، وعليها تأتلف «2» النّحل، وتستقيم أمورها، وتنتقل حيث انتقل، وتقيم حيث يقيم، فاليعسوب فيها كالأمير المطاع. ومن العجب: أنّ اليعسوب لا يخرج من الكور «3» ، ولا يذهب لرعى؛ لأنه إن خرج خرج معه جميع النّحل، فيقف العمل؛ ومتى عجز الواحد منها عن الطيران حملته النحل حملا. وإن هلك يعسوب الخلية، أقامت النحل بعده متعطلة لا تبنى ولا تعسل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وأكتأبت لذلك، وجعلت تطير مع وجه الأرض في التراب! فيعلم أنه قد مات اليعسوب، فتطلب يعسوبا آخر، فتأتى به فتجعله في تلك الخليّة، فتراجع النحل عملها. فإن لم تقم لها يعسوبا فإنها تهلك عاجلا. وجثة اليعسوب: مثل جثة نحلتين، وهو يأمرهم بالعمل، ويرتب على كل واحد ما يليق، فيأمر بعضها ببناء البيت، وبعضها بعمل العسل، ومن لا يحسن العمل يخرجه من الكور، ولا يتركه مع النحل فيبطّلهم، وينصّب بوابا على باب البيت ليمنع دخول ما وقع من النّحل على شىء من القاذورات. واليعسوب إذا همّ بالخروج طنّ قبله بيوم أو يومين ليعلم الفراخ ما همّ به فتستعدّ له. وأجناس النّحل كثيرة: فأما اليعاسيب فهى جنسان: أحدهما أحمر اللون وهو أفضل اليعاسيب، والآخر أسود مختلف اللون؛ ومنها ما تكون جثته مثل جثة أربع نحلات؛ وله حمة «1» ؛ وهو أسود النصف المقدّم، أحمر النصف المؤخر، وإنما كان أكثر من واحد صار مع كل يعسوب طائفة من النّحل؛ وإذا خرج اليعسوب من الخلية تبعته النحل كلها. وإذا كان اليعسوب عظيما سمّى جحلا «2» بتقديم الجيم على الحاء. وملوك النّحل لا تلذع، ولا تغضب لأنّ اليعسوب حليم جدا. وإن في هذا القدر لعبرة؛ لأن هذا لو كان في واحد من عقلاء الإنس، الذين فضّلوا على جميع الحيوان؛ لكان ذلك عجبا؛ ولذلك قال الله تعالى بعدما قصّ علينا ما ألهمه هذا الحيوان على ضعفه ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ* «3» أى يعتبرون بما قد ألهمه «4» النحل من لطيف الصنعة، ودقّة الحيلة، مع ضعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 البنية. ولذلك زعم بعض العلماء المتقدمين: «أن النحل أشبه الحيوان في تدبير أمرها بالإنسان» ثم قال: «أمرهنّ شبيه بأمير يسوس المدائن الكثيرة الأهل» . والنحل تبنى لملوكها بيوتا على حدة تكون فيها؛ وكذلك تبنى لذكورها. وزعم بعضهم أن الذكور تنفرد ببناء بيوتها، والذكور لا تعمل شيئا، والعمل للإناث، وهى تقوّت ملوكها وذكورها. وليس للنّحل أقوات إلّا العسل. والذّكور لا تكاد تخرج إلا إذا أحبّت أن تحرك أبدانها لتخفّ، فإنها حينئذ تخرج بأجمعها، فترتفع في الهواء فتدوّى، ثم ترجع، فتدخل الخليّة. وإذا كان الزّمان جدبا، وقلّ العسل، قتلت النحل ذكورها، وكثيرا ما يهرب النحل الذّكور إذا أحسّت بذلك، فترى واقعة على ظهور الخلايا خارجا، وهذا شاهد على ما ذكروا من شحّ النحل على العسل وشفقتها عليه، والحرص على الادّخار، والأخذ بالوثيقة عند سوء الظنّ، مع طيب النفس، والسلس «1» عند رخاء البال، وإمكان الكسب، وإن هذا لخلق عجيب، وفهم لطيف. وكذلك ما ذكروا من طردها ذوات البطالة منها، الكسالى، المتكلة على كسب غيرها، والمعوّلة على ذخائر سواها؛ ولو أننا استعملنا مثل هذا التدبير في كسالانا كان أحزم لنا وأنفع لهم. ومن الشاهد على أنها لأنفسها ادّخرت ما في بيوتها، وما جمعت من كدّها لا لغير ذلك، شدّة شحّها عليه، وضنّها به، وذبّها عنه، وولهها إذا عرض له، وإلقاؤها أنفسها في المهالك، فإنها تقاتل كل شىء عرض لذخائرها، ثم لا تهرب منه- كائنا ما كان- إلا ما كان من أمثالها من النّحل؛ فإنه ربما أراد بعضها الغارة على بعض، فاقتتلت حتى يقتل بعضها بعضا، أو يهزمه، فيهرب المقهور منها- حينئذ- ويسلم حوزته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 قال ابن سينا «1» : «وقد قاتل النحل نحلا غريبا زاحمها في الخليّة وكان رجل يعين النحل الأهلىّ فلم تلسعه البتة» «2» . والنحل إذا قويت على شىء لسعته أبدا حتى يموت أو يهرب، ولذلك احتالت الشارة لها بالدّخان حتى جلوها به، ووصلوا إلى العسل. قال أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا في كتابه (الشفاء) : «وإذا لدغت النحلة حيوانا وخلّفت الإبرة فيه ماتت؛ وربما قتلت النحلة من تخلّف فيه الإبرة، وقد قتلت فرسا» قال: «وقد أخبرت بقرية فيها خلايا النّحل، أنهم غزوا مرة، وكاد الأكراد ينهبونهم، فسلّطوا عليهم النحل، فهزمت النحل أولئك الأكراد لسعا لهم، ولدوابّهم» «3» . والنّحل إذا لسعت شيئا، فنشبت حمتها فيه لم تستطع رجع حمتها فتنصل، فإذا نصلت حمتها ماتت. والحماة: الشّعر في أذنابها، التى بها تلسع؛ وهى إذا شاءت أخرجتها، وإذا شاءت ردتها. وإنّما الحمة في العربيّة: السمّ، إلّا أنّ العامة تسمّى ذلك الشّعر حماة. قال ابن سينا: «لا يبعد أن تكون إبرة النّحلة- مع أنها سلاح- نافعة في إحالة جوهر الرّطوبات إلى العسلية، بأن تأتيها وترسل فيها قوة ما» «4» . وإذا دخّن عليها، فأحسّت بأنّه يوخذ ما في بيوتها من العسل بادرت إلى أكله، فتأكله أكلا ذريعا، حتّى لو أمكنها استنفاده لفعلت. وفي ذكور النّحل صنف تخاتل «5» ، فتدخل في بيوتها، فتأكل العسل، وتسمّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 «اللصوص» ، فإذا قدرت النحل عليها، أو ظفرت بها في مثاويها «1» قتلتها. ولا تخلو مثاويها- إذا سرحت- من حفظة منها تكون فيها. وإذا كان النحل كريما لم يترك في الخلية هامّة «2» تضر بالشّهد إلا قتلها أو أخرجها؛ وأما غير الكريم فإنّه يتوانى، ويتغافل ويترك أعماله تفسد، وتهلك. ويعرض للخلية من بطالة النحل وتهاونها رائحة منتنة جدّا، فتفسد. وجنس النحل ألطف أجناس الحيوان كلها، ولذلك تكره كلّ رعى يكون منتنا، أو زهم «3» الرائحة؛ ولا تقرب الأنتان والأقذار، وتكره أيضا الروائح الزهمة، والأدهان، وإن كانت عطرة، وتلسع المتدهّن إذا دنا منها. وتوافقها الأصوات اللذيذة المطربة، ولا يضررن بشىء من معايش الناس. والنحل يحب الصّعتر «4» ، وأجوده الأبيض. والنحل تستتر عن الريح، وتشرب الماء الصّافى، ولا تشرب إلا بعد إلقاء التّفل. والنحلة ذبابة ذات حمة، وألسنة. وبهذا العضو توصّل جميع أجناس الأذية إلى غيرها، وبه توصّل أيضا الطّعم إلى أجوافها، لأن طعمها ليس سوى الرّطوبات؛ فبهذا العضو تمتصّها، ثم تردّ ألسنتها تلك في أوعيتها من أفواهها؛ وسمّيت ألسنة؛ وليست بألسنة، ولا خراطيم، ولكنّها بالألسنة أشبه. وإذا ترشّفت النحل تلك الحلاوة من الأزهار، والأنوار، فجمعتها في صدورها، أقبلت إلى الشهد فأتاعته- أى: أفرغته، فى نخاريبه، والنخاريب «5» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 بالنون قبل الخاء المعجمة: الثقب المهيّأة من الشمع، وبالتاء المثناة من فوق: خروق كبيوت الزنابير. والنّحلة إذا وقعت على ضرب من الزّهر فلم تكتف بما جرست «1» منه انتقلت إلى مثله من جنسه، ولم تنتقل إلى جنس آخر، إلى أن تراجع الخليّة فتمج ما استوعبت، ثم تعود إلى الرعى، فإذا امتلأت بيوت الشّهد من العسل ختمت على تلك النّخاريب بغطاء رقيق من الشمع، حتى يكون الشمع محيطا بها من جميع جوانبها، كأنّها رأس البرنيّة «2» مسدودة بالقراطيس، لينضج العسل، فإنها إن لم تفعل ذلك فسد الشّهد وتولد فيه دود يسمى «العنكوبت» فإن قويت على تنقيته منها، سلم الشّهد، وإلا فسد كله. وإذا أزهرت الأعشاب عملت النحل الشمع؛ ولذلك ينبغى أن يؤخذ بعض الشمع في ذلك الإبّان، إن احتيج إليه، فإنها تعيده من ساعته. والنحل تعمل في العسل في زمانين: فى الربيع، والخريف، والربيع أجوده وأكثره. وهى تجىء إلى بيوتها بشىء آخر، ليس بشمع، ولا عسل، ولكن بينهما، كأنه خبيص «3» يابس، فيه بعض اللين، إذا غمزته تفرّق، وليس بشديد الحلاوة، ولا عذب، يشبّه القدماء حلاوته بحلاوة التّين، تجىء به النحل كما تجىء بالشمع، وتحمله على أعضادها، وسوقها. والعرب تسمّيه: «الإكبر» «4» - بكسر الباء وضمها- وهو «الموم» «5» ؛ ويقال فيه: «العكبر» «6» ؛ فترى النّحلة تطير، وذلك العكبر متعلق منها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 فتجعله في نخاريب الشّهد مكان العسل، ولا تكثر النحل منه إلا في السّنة المجدبة، وأكثر ما تأتى بالعكبر من السّدر «1» ، والناس يأكلونه كما يؤكل الخبز فيشبع، ويحملونه في المزاود «2» إذا سافروا، وهو مفسد للعسل؛ والنّحل تأكله إذا لم تجد غيره. والنحل تشرب من الماء ما كان صافيا عذبا، وتطلبه حيث كان، ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعه، فإذا قل العسل في الخلية قرنه بالماء ليكثر؛ خوفا على نفسه من نفاده. وللنحل نجو «3» ، وأكثر ما تقذف إذا كانت تطير في دفعات؛ لأن في زبلها نتنا، وهى تكره النتن؛ فإذا أنجت في الخلية أنجت في موضع معتزل لا يختلط ببنيانها، ولا يفسد من عسلها شيئا. وإذا امتلأت نخاريب الشهد عسلا ختمتها، وتختم أيضا ما يكون فيه فراخها من النخاريب بأرقّ الشمع. والختم: أن تسدّ أفواه النخاريب بشمع رقيق، ليكون الشمع محيطا بالعسل فى كل وجه، وربما لطّخ الختام- بعد الفراغ منه- بشىء أسود شديد السّواد، حريف الرّيح، شبيه بالشمع، وهو من الأدوية الكبار للضّرب «4» ، والجروح، ويسمى بالفارسية: «مياى» ، وهو عزيز قليل. ومن خاصيته أنه يجذب الشوك والنصول، ويقال: من استصحبه أورثه الغم، ومنعه الاحتلام. والنحل تحسّ بالبرد والمطر، وعلامة ذلك لزومها الخليّة. وفي لطف إحساس كثير من الحيوان عجب عجيب، وإن في ذلك لعبرة لأولى الألباب، فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ «5» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 فصل في بيان فائدة شمع النحل وخصائصه (فصل) الشّمع: هو جدران بيوت النحل التى تبيض وتفرخ فيهن، ويكون خزانة للعسل. ويقال: الشمع، بإسكان الميم وتحريكها «1» . ويقال: الشّهد، بضم الشين وفتحها. والواحدة: شهدة، وفيها الوجهان، والضم لغة أهل الحجاز، وجمع الشّهد: شهاد. وكل شهدة: قرص، والجمع: قروص. ولمأوى النحل وبيوتها أسماء، فإن كانت بيوتها في الجبال فهى: المباءة، والوقبة «2» ، والجبح «3» ، والجبخ «4» بالحاء المهملة والخاء المعجمة والفتح والكسر. فإذا عسلت النحل فيما يتّخذ لها الناس من الخشب فهى: النّحايت «5» ، واحدتها: نحيتة؛ وتسمى الخلايا، وواحدتها: خليّة. وكذلك ما يعمل لها من الطّين والأخثاء «6» فهى خلايا. وقد يسمى ما تتبوّء في الجبال أيضا: خلايا. ومن الخلايا: ما تنصبه في الحيطان، وأكثر ذلك تنضدها «7» فى المصانع، وواحدها: مصنعة، وهى موضع يعزل للنحل، منتبذ «8» عن البيوت فتنضدها سافا «9» سافا على نشز «10» من الأرض، وتخالف بين أبوابها فتكون أبواب ساف إلى أدبار ساف كذلك حتى تنضد جميعا فربما كان النضد منها مثل الدار العظيمة، ثم تغطى ليكنّها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 ويقال للخليّة: معسلة. وقطف فلان معسلته إذا أخذ ما فيها من العسل. والخلايا الأهلية تسمى في بعض البلدان: الدّباسات «1» . ولا تعرف في كلام العرب؛ وتسمى أيضا: الكوارات، والجمع: كواير، والواحدة: كوارة، وهى عربية. وقيل: الكواير صغار الخلايا. وقيل: إذا بنت النّحل بيتا من غير أن يوضع لها، فهو الكوّارة- بضم الكاف. ومن لطيف معرفة النحل بما يصلحها: أنهنّ قد علمن ضعفهن، فهن يشيّدن عشاشهنّ، وتحصّنها بالضيّق والاعوجاج؛ وإذا كان باب الخليّة واسعا ضيقنه. ومن شأن النحل في تدبير معاشها أنها إذا أصابت موضعا نقيا بنت فيه بيوتا من الشمع أولا، ثم تتّخذ البيوت التى تأوى فيها ملوكها، ثم بيوت ذكورها، ثم بيوت إناثها، وهى تعمل الشّمع أوّلا، ثم تلقى فيه البزر «2» ، وتقعد عليه، وتحضنه كما تحضن الطير، فالشمع لها بمنزلة العش للطير، والبزر بمنزلة البيض، وهى تملأ بعض البيوت عسلا، وبعضها فراخا. وهى تتخذ البيوت قبل المرعى، فإذا استقر لها بيت، خرجت منه فرغت، ثم آوت إلى بيوتها. وهى تبيض في بعض البيوت، وتحضن وتأوى إلى بعض بيوتها وتنام أيام الصيف، والشتاء، ويوم المطر، والريح والبرد. الآفات التى تصيب الخلايا ومن آفات الخلايا: السوس، ودواؤه أن يطرح في كل خليّة كفّ ملح وأن تفتح في كلّ شهر مرّة، وتدخّن بأخثاء البقر «3» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ومن آفاتها أيضا: دود يتولد فيها صغار، تنبت لها أجنحة؛ وفراشة رقطاء تدخل الخليّة فتأكل العسل حتى تربو، ولها عينان وسمعان «1» فتضر بالنحل وبالعسل، ولا تستطيع الخروج من الخليّة لعظمها حتى تفتق الخلية، فتؤخذ، فتذبح. والسّرفة «2» : مضرة بالخلايا، وهى دودة رقطاء، شعراء، تأكل ورق الشجّر، وتنسج عليه، وهى من آفات النحل. ومن أفات النحل: الدّبر، يقتلها، ويذهب بها إلى بيوته. ومن آفاتها: الخطاطيف والضفادع، فإنها تلتقف النحل إذا وردت لتشرب. ومن آفاتها: الجراذين، تكمن لها بقرب الخلايا فتلقفها، ولا تقدر النحل لها على ضرر. والنحل تمرض على رعى الزّهر التى وقعت فيها القملة، وإذا كان الربيع ممحلا «3» ، أو حارّا، شبيها بالصيف في الحرّ، وقلة المطر، أسرع المحل «4» إلى النحل. ويعرف خصب الخليّة بكثرة دوىّ النحل فيها، وخروجها ودخولها. وتسمى فراخ النحل: الطّرد، والجمع طرود. ويسمّى أيضا: اللوت، والنحل تودع فراخها نخاريب الشهد، وتختم عليها بالشمع، فإذا آن لها الخروج شقت الختام، وخرجت. وملوك النحل: لا ترى خارجا إن لم تكن مع عنقود من عناقيد الفراخ، وإذا خرج معها التّفت الفراخ به. وإن كانت عدّة ملوك افترق الطّرد، فصار مع كل واحد من الملوك فرقة من الطّرد. وإنما قالوا: عناقيد الفراخ؛ لأنّ شكل الفراخ إذا خرجت من الخليّة في التفافها مثل عنقود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وإذا خرجت الفراخ بيعسوبها، وسقطت على شجرة أو غيرها، احتال القوم على يعسوبها حتى يأخذوه، ويلقوه في خليّة، أو نحوها، فإنّ الفراخ تصير معه حيث يصير، وإذا أخذ يعسوب خليّة تبعه جميع نحل تلك الخليّة؛ حبّا ليعسوبها، وإذا هلك الملك هلك جميع الطّرد، وإن خرج الملك طلبه الطرد حتى يجده بمعرفة رائحته. والعسل الحسن: عسل الفراخ؛ لقلة تجربتها؛ وذلك أنّها متبدئة، فلا تترك غاية. وإذا خرجت الفراخ الحدث، ابتدأت في العمل بعد ثلاثة أيام. وإذا أرادوا إدخال الفراخ الخليّة دلّكوا باطنها بورق طيّب الرائحة لعجبها به، لأن النّحل تعجب بالرائحة الطيبة، وتكره الرائحة الخبيثة؛ ولذلك ربما كرهت خليتها، وهمّت بتركها، وعلامة ذلك أن يتعلّق بعضها ببعض، فإذا رأى القوم ذلك عرفوه، فنضحوا داخل الخلية بشراب حلو فتألفها؛ وإذا دهن إنسان يده بدهن كريه الرائحة ثم أدناها إلى النّحل لم تلسعه. وفراخ النحل أزعر «1» من الأمّهات، والأمّهات زغب «2» الرّقاب، قرع الرؤوس، وفي رؤوسها قبح. والنحل تسمّى أول ما تخرج فراخها: «المراضع» . وتسمّى الفراخ: «الرّضع» ، وليس ثمّ رضاع، وإنما هذه استعارة، وإذا تمّت الفراخ نحلا، قيل: هى نحل أبكار، إلى أن تفرخ. ومنه كتاب الحجّاج بن يوسف الثقفى إلى عامله بفارس «أن ابعث إلىّ بعسل خلّار «3» ، ومن النّحل الأبكار، من الدستفشار «4» الذى لم تمسه النار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وروى: «عسل أبكار، يريد الجوارى الأبكار لا يليه غيرهن» . والنحل الكريم هو الذى يتقن عمله، فيأتى بوجوه الشّهد ملسا. وإذا لم يكن كريما جاء الشّهد قليل الاستواء، منفتح الخاتم، كأنها تعمل أعمالها بالبخت كيفما جاء. ويقال: إن العسل الأبيض عمل شبابها، والعسل الأصفر عمل كهولها. وذكور النحل أعظم جثثا من إناثها، ولا حمات لها، وهى أبطل، وأقل حركة. والنحل إذا كثرت ملوكها في الخلايا قتلتها، لئلا تكثر فتشتّت النحل؛ لأن النحل يتفرّق على الملوك. ولشيار «1» عسل الخلايا في السّنة مرتين: مرّة في الربيع، وهو أجود الشيارين، ومرّة في الخريف. ويقال: «شار العسل يشور شورا، وشيارا، ومشارة. واشتاره يشتاره اشتيارا؛ وأشاره يشيره إشارة» . والشّور: العمل في اجتناء العسل وأخذه، ثم العسل نفسه شورا، كما سمّى العسل أريا. والعامة تسمى شيار العسل جزارا فيقولون: «جزار الشّهد» ، كما يقولون في جزار العسل، ويسميه آخرون «قطاف» . وإذا أرادوا اشتيار العسل دخّنوا على النحل حتى يخرج من الخلية، وذلك جلاؤها، وقد جلاها يجلوها جلاء، وهى جلوة النحل، أى طردها بالدّخان. ويقال لذلك الدخان: «الإيام» «2» ، ولا يقال لشىء من الدخان (إيام) سواه، فيقال إذا دخّن عليها: آمها- بالمد- يئومها إياما فهو آئم، والنحل مئومة، وإن شئت مئوم عليها، فإذا جلوها بالإيام- فى أحد الشيارين- وأخذوا ما في الخلية من العسل تركوا لها مقدار قوتها في شتائها وإلّا هلكت؛ وربّما جعلوا مكان العسل تمرا، أو زبيبا ونحوه من الحلواء، فتقتاته، فإن ترك لها من العسل أكثر من حاجتها تبطلت، وقلّ عملها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ومما ينشّط النحل للعمل، أن تقل الذكورة في الخليّة، فإذا قطف الشهد، فمن الناس من يخلّص العسل من الشّمع بالنار، ويطبخ الشّهد حتى إذا ذاب أقرّه حتى يبرد، فيعلو الشمع جامدا، فيؤخذ، ويبقى العسل خالصا، ومن الناس من يخلّصه بالاعتصار بالأيدى وإن كان كثيرا، فبالأرجل، وذلك هو الدستفشار، الذى لم تمسه النار، وهو أفضل. وكان للعرب في كل مصنعة من مصانع العسل معصرة من محيّرة يلقى الشهد فيها، فإذا ألقى الشهد فيها تكسّر، وبرز العسل عفوا، فجرى وسال في حياض، فيجتمع فيها وقد زايل الشمع وخلص، فما برز من العسل عفوا وجرى، فذلك العسل: سلافة «1» ، وأفضل العسل وأصفاه. وما سال إلى الحوض، وقد زال شمعه سمّى ذوبا، ونسيلا؛ فإن بقى في الشمع من العسل شىء اعتصر بالأيدى، ثم يوعى العسل في الوجاب. والوجاب: أسقية عظام، السقاء منها جلد تيس «2» وافر، وواحد الوجاب: وجب. وكانوا لا ينتفعون بالشّمع، ويرمون به، فإذا تطاولت الأيام بلى فاسودّ، فزبّل به المزارع، فهو: أجود مال. ويقال لما يوعى فيه العسل أيضا: «زق» «3» ، وجمعه: «زقاق» . وإذا خلص العسل من شمعه وجثّه، فهو: ماذى. والجثّ «4» : كل قذى يخالطه من أجنحة النّحل وأبدانها وفراخها وموتاها وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 وماذىّ العسل أيضا: ناصحه، ونصوحه: خلوصه، والنّصيحة مأخوذة منه. ويقال: الجثّ: خرشاء العسل، أى شمعه، وما فيه من ميّت النحل. والنّفض: خرؤها. وإذا كانت وقبة النّحل في الجبل، وأمكنهم الارتقاء إليها، ارتقوا فاشتاروا ما فيها، وإن لم يمكنهم الارتقاء- وذلك أن النّحل تهرب بما تأتى فتجعله في أمنع ما تقدر عليه من وقاب الجبال، فإذا كانت الوقبة كذلك تدلوا عليها بالحبال الطّوال، وربما وصلت الحبال، وكثيرا ما تنقطع فيعطب «1» المتدلّى، وإذا تدلّى المشتار، وقد لبس صدار أدم وأخذ معه حافته: وهى وعاء من أدم كالخريطة «2» واسعة الأسفل، يجعل فيها آلته، وصفنه. والصّفن: شىء مثل السّفرة ربما جعل فيها العسل، وربما استفى به الماء، ومعه مسأبة: وهى سقاء العسل، وربما كانت قربة، ومعه أخراصه: وهى قضبان ينزع بها الشّهد، ومعه محجن «3» يجتذب به ما تأبّى عليه من الشهد، كل ذلك مشاور، الواحد منها: «مشوار» ؛ لأنه يشتار به. وهى أيضا: «المحابض» ، واحدها: «محبض» «4» . فإذا استقر في مباءة النّحل حلّ عنه الحبال، وقدح بزنده، وآم «5» على النحل، ثم اشتار، وأوعى فى مسابيه وقربته، وصفنه، ورقّاها بالحبال إلى أصحابه، أو هبط بها إن كان ارتقى على رجليه. وإن كان العسل كثيرا ملأ منه الأسقية الكثيرة. وإذا كانت الخليّة هكذا فهى عاسلة والجبح «6» عاسل- أى: كثير العسل. ويقال للذى يشتار العسل أيضا: عاسل؛ وكل موضع عسل من وقبة أو خليّة فهو: معسلة؛ وإذا كانت الشّهدة رقيقة خفيفة العسل فهى: هنّ، وإذا كانت نخاريبها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 فارغة فهى مخربة؛ ويقال للثقب المهيّأة من الشّمع التى تمجّ العسل فيها: النخاريب، واحدها: نخروب. وفي لطف حسن النّحل أعجوبة قد تحيّر فيها قدماء العلماء، وذلك أنه إذا أزمع شتاء شات بالكون، أو مطر من غير أن يرى الناس لذلك أمارة، ترى النّحل قبل كون ذلك ساكنة في داخل الخليّة، فيعلم قوّامها- بطول التجارب- أن قد اقترب شتاء، وبرد، ومطر. وكانت العرب تعلم أن بردا قد اقترب وقوعه، أو جرادا قد دنا مجيئه بما يرون من حال النّحل، وذلك أنهم يرونها قبل أن يكون ذلك فاترة عن العمل، كأنها قد اعتراها كسل وانكسار، فعند ذلك يترقّبون أن سيكون برد أو جراد فيكون كذلك «1» . والبرد، والجراد، مضران بالنحل، وأضرّهما الجراد؛ لأنه يلحس «2» الأرض فتهلك النّحل. وكفى عجبا بما تراه من أنك إذا فتحت وعاء العسل في بيت ضيّق وعلى بعد منك خلايا نحل، فما تشعر بأول من هجوم النّحل عليك، وفي البيت بيوت أخر بها أناس لم يشعروا بفتح ذلك الوعاء. وكذلك الخليّة إذا حوّلت من أرض إلى أخرى لم تعرفها نحل تلك الخلية قط، فإذا نصبت في تلك الأرض الغربية، ثم فتحت وذهب النحل منها في تلك الأرض المجهولة من كلّ وجه، فإنها تئوب إلى خليتها بعينها، لا تخطئها، ولا تضل عنها، وربما حملت الخلايا في بعض البلدان- إذا أجدبت المراعى- إلى بلدان أخر شاسعة لطلب المرعى، ثم تطلق عنها فتسرح في تلك البلاد، وتعمل أعمالها من غير تدريب ولا تدريج كما كانت تعملها من قبل، ثم لا تغلط نحلة فتدخل في خلية غير خليتها والخلايا متلاصقة أو مجاورة، وفي كل هذا عبرة وأعجوبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 [الدّبر: عسله وأنواعه] ومن الدّبر: جنس أسود شديد السواد، عريض قصير كأنه في الخلقة صغار الجعلان، ولها حمات مؤذية، تعسل عسلا قليلا في نخاريب تبنيها من الطين أشباه البلوط، تلصقها بالصخر، وتعسل فيها عسلا صلبا جدا، ثم تختمها أيضا بالطّين، فتجدها الرعاة والحطّابون كذلك، فربما وجدوا منها العشرين والثلاثين في مكان واحد لاصقا بعضها ببعض، فيستخرجون العسل الذى فيها فيأكلونه وذلك نزر وقليل. ومن الدّبر: جنس آخر أصفر صغير مخطط، أدغر «1» أملس، أدقّ من النحل وأخفّ، مؤذى اللّسع، وإذا لسع لم تنصل حمته، يزعمون أنه يعسّل عسلا قليلا. والبلاد الباردة أوفق للنحل، والنجود «2» أوفق لها من الأغوار. وجرت العادة بأرض مصر أن فراخ النّحل تجمع من شهر أمشير، ويبتدأ بجناه «3» فى برمودة. وأجود مراعيه القرط «4» ، والجلبّان «5» ، وتسقى أمّهاته العسل عند اشتداد البرد، وحدوث الهواء الشديد؛ ومقدار ما تسقى المائة خلية عشرة أرطال، والذى يتحصل من المائة خليّة في كل سنة ما بين ستة قناطير عسل إلى خمسة قناطير وعشرون رطلا من الشمع، ويموت في السنة على الأكثر عشرون خليّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فصل: فى العسل «1» وأنواعه العسل يؤنّث ويذكّر، ويصغّر: «عسيلة» ، ويجمع: عسولا، وأعسالا وعسلانا، وعسلا إذا أردت ضربا منه. ويسمّى العسل: الأرى «2» . وأصل الأرى: العمل. يقال: أرت النحلة تأرى، أريا: إذا عملت العسل، وبنت الشّهد. ويقال للعسل: لعاب النحل. ويقال له: الشّوب، والسّلوى، والذّوب. وقيل: لا يسمّى العسل ذوبا إلا إذا أزيل الشمع وجرى، فحينئذ هو ذوب، وكل جار ذائب. ويقال للعسل: النّسيل، والنّسيلة، والذواب، والطّرم، ويسمّى: جنى النحل، وريق النحل، ومجاج النحل. والعسل مختلف الألوان، والطعوم، والروائح، والمتانة، والرقة والصّفاء، والكدر، وكثرة الحلاوة وقلتها، وكل ذلك على قدر النبات الذى يجرسه النحل. فعسل النّدغ «3» والسّحاء «4» أبيض ناصع البياض كأنه ربد الضأن في البيان. وهما شجرتان بيضاوا الزهر. والندغ: صعتر البر. والسحاء أيضا: صعتر البر. وقيل: السّحاء: شوك قصار كثير الزهر، كثير العسل، لا يرعاه إلا النحل فقط. وأكثر منابته تهامة «5» ، وقد روى الأصمعى «6» أن ............... .... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 .............. .... سليمان «1» بن عبد الملك بن مروان حج فأتى الطائف، فوجد ريح النّدع، فكتب إلى والى الطائف: «انظر لى عسلا من عسل الندغ والسّحاء، أخضر في السّقاء، أبيض في الإناء، من حدب بنى شبابة» ، ويقال: حداب بنى شبابة من فهم بن مالك بن الأزد، وليسوا من عدوان «2» وحداب بنى شبابة أكثر أرض العرب عسلا وعنبا، وتينا وربّى «3» . واليمن: كلّها أرض عسل. ويقال: إن عسل النّدغ إذا كان في السّقاء، فنظرت إليه رأيته كأنه اللبن المذرّح «4» ، فإذا أخرجت منه شيئا فجعلته في إناء أبيض، وكذلك جميع العسل إذا كان كثيرا في وعاء رأيته أخضر، فإذا أخرجت منه شيئا تبّين لونه إن كان أحمر، أو أصفر، أو غيره. والمذرّح: الذى كثر عليه الماء. فإذا كثر عليه الماء أخضرّ وأصفى عسل العرب: عسل الشّيعة «5» ، وهى شجيرة لها نور ذكىّ. وعسل الضّرم «6» لونه كلون الماء، وهو أجود عسلهم. والضّرم أبيض اللون، ونباته شبيه بنبات النّدغ. ومن عسل العرب المذخ، ونحله تجرس رمّان البرّ الذى يقال له: «المظّ» ، فإن جلّناره كثير العسل. والعسل الصعترى، معروف وهو أشد العسل حروفة، وأرقّه. وكذلك العسل اللّوزى معروف، وليس من عسل أرض العرب، وهو من أشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 العسل اعتدالا، وفيه رائحة نور اللّوز، وأكثر ما كان يؤتى به من بلاد الجزيرة. وكل نبات كثر ببلاد فيها نحل، فإن الغالب على عسلها عسل ذلك الشجر، وإذا اختلف نباتها لم يغلب على عسلها نبت بعينه. وقد يصير العسل مرا إذا جرست نحله النور المرّ كعسل الأفسنتين «1» ، وليس من نبات بلاد العرب، وفي عسله مرارة. وعسل السّدر «2» قليل الحلاوة، قليل المتانة. ومن كلّ الشّجر تجرس النّحل، إلّا أن تكون شجرة خبيثة الرائحة زهمة، أو ذات سمّ، فإنها لا تقرب من ذلك شيئا. وأجود العسل عند العلماء به: ما طاب ريحه، وعذب طعمه، وصدقت حلاوته، ومتن حتى إذا مددته امتدّ، وخلته لون الذهب، فإذا قطر على الأرض استدار واجتمع إلى نفسه؛ فإذا وعى العسل فى الجرار علا أرقّه، وسفل أمتنه وأجوده. وأمّا ما اسودّ من العسل فإنّه ردىء، ما لم يكن سواده من تقادم فإن العسل إذا تقادم مال إلى السّواد، ونقصت حلاوته. وإذا كان العسل متينا صلبا فهو ضرب، وكذلك الشهد، يقال: «استضرب العسل إذا صلب واشتد» . وقد يبلغ من شدة العسل في بعض البلاد أن يكسر الشّهد كسرا، والعسل المتقادم الشديد كله يستضرب. ويقال للعسل المتين: «حميت» ، ويقال للعسل الشديد: «جلس» ويقال لما رقّ من العسل: «وديس» . فصل: فى ماهية العسل ذكر القدماء من الحكماء أن العسل طلّ خفىّ يقع على الزّهر، وعلى غيره فيلقطه النّحل، وذكر أنّ هذا الطّل بخار بتصاعده، فيستحيل في تصاعده، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وينضج في الجوّ فيستحيل أيضا، ويغلظ في اللّيل فيقع عسلا، إلا أنّه يختلف في وقوعه إلى الأرض، فمنه ما يقع عسلا كما هو في بعض الجبال. ومنه ما يقع على الأشجار والحجارة. وهذا القسم يختلف بحسب ما يقع عليّه، فما ظهر منه لقطه الناس وما خفى منه تلتقطه النحل. وتتصرف النحل فيما تلقطه منه تأثير، فإنه يلقطه ليغتذى به، وليدخره. وذكر أرسطو أن غذاء النحل من الفضول الحلوة، والرّطوبات، يرشح بها الزّهر والورق، فتجمع ذلك كله، وتدخره، وهو العسل؛ وتجمع مع ذلك رطوبات دسمة تتخذ منها بيوت العسل، وهذه الدسومات هى الشمع، وهى تلقطها بخراطيمها، وتحملها على فخذيها، وتنقلها من فخذيها إلى صلبها. وقال الكواشى «1» فى «تفسيره» : إن العسل ينزل من السماء فيثبت في أماكن، فتأتى النحل فتشربه، ثم تأتى الخلية فتلقيه في الشمع المهيأ للعسل في الخلية، لا كما يتوهّم بعض النّاس أنّ العسل من فضلات الغذاء، وأنه قد استحال فى المعدة عسلا. ومن العسل جنس سمّى، من شمّه ذهب عقله، فكيف من أكله. [فوائد العسل] أجود العسل: الصادق الحلاوة، الطيب الرائحة، مع ميل إلى الحرافة «2» والحمرة، والمتانة، وأن يكون لزجا لا يتقطع، وأن يجنى في الربيع. وأردؤه: ما قطف في الشتاء. وطبع عسل النحل: حار يابس في الثانية، فيه قوة جالبة، مفتّحة لأفواه العروق، لجلبه الرّطوبات من قعر البدن. وهو يمنع العفونة والفساد من اللّحم. وإذا لطّخ به البدن منع القمل، والصئبان، وقتلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وإذا أضيف إليه القسط «1» ، ولطّخ على الكلف «2» أزاله. وإذا عمل في ملح ودهن على آثار الضّربة التى لونها كلون الباذنجان أزالها. وهو ينقّى القروح الوسخة؛ وإذا طبخ حتى يغلظ فإنه يبرئ الجراحات الطرّية. وإذا لطّخ مع الشّبت أبرأ القوابى «3» . وإذا خلط بالملح الذرآنى «4» ، وقطّر في الأذن نقّاها، وجفّف قروحها، وقوى به السّمع. الاكتحال به يجلو ظلمة البصر. والتحنك «5» والغرغرة به يبرئ الخوانيق «6» واللّوزتين. والعسل يقوّى المعدة، ويشهّى الطعام، ويليّن البطن إن وجد حركة وقلّة استعداد من الغذاء للنّفوذ، فإن تمكن من تنفيذ الغذاء عقل. وإن شرب مسخّنا بدهن ورد نفع من نهش الهوام، ومن شرب الأفيون. ولعقه يعالج به عضّة الكلب الكلب «7» . ويحفظ الميت إذا وضع فيه دائما. ويحفظ اللّحم ثلاثة أشهر والفاكهة ستة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أشهر، إذا وضعا فيه. فصل في تكريم النحل من خلال تنويه الله تعالى بذكرها في القرآن (فصل) وكفى للنّحل شرفا تنويه الله تعالى بذكرها في محكم كتابه العزيز، حيث قال: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ «1» . «أوحى» : معناه ألهم. أى خلق سبحانه وتعالى في أنفس النّحل ابتداء من غير سبب ظاهر قوة بها تدرك منافعها، وتجتنب مضارّها، وتحسن تدبير معاشها، لم يدر مخلوق ما تلك القوة، وإن شارك النّحل فيها كثير من الحيوان، فإنّ لها عليهم مزيّة اختصاص بأنه تعالى عبّر عن إلهامها بالوحى تشريفا لها بخلاف غيرها، فإنّه تعالى قال: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «2» . وقال ... رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «3» فدخلت النّحلة في هذا العموم، وامتازت بأن صارت مما أوحى الله سبحانه وتعالى إليها، وأثنى عليها، فعلمت مساقط الأنوار من وراء البيداء، فتقع هناك بروضة عبقة، وزهرة أنقة، ثم يصدر عنها ما تحفظه رضابا وتلفظه شرابا. وقال الزجّاج «4» : «سمّيت نحلا؛ لأن الله تعالى نحل الناس العسل الذى يخرج منها، إذ النّحلة: العطية» «5» . وذكر في كتاب «عجائب المخلوقات» «6» : «إنّ يوم عيد الفطر يقال له: يوم الرحمة؛ إذ فيه أوحى ربك إلى النحل صنعه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بيوت النّحل وقد جعل الله تعالى بيوت النّحل ثلاثة أنواع: إمّا في الجبال وكواها، وإمّا في الخشب المنحوت من الشّجر أو المجوّف منها، وإمّا فيما يعرش الإنسان، أى يهيئ من الخلايا ونحوها لقوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي الآية، فقرأ ابن عامر «1» : «يعرشون» بضم الراء، وقرأ الباقون- بكسرها- إلا عاصما، فإنه اختلف عنهم فروى الوجهان جميعا «2» . وأصل العرش: السّرير المتخذ للملك، ثم استعير لغيره، فأطلق العرش على البيت، وجمعه: عروش. وعرش البيت: سقفه، والعرش: الخيمة، والجمع: أعراش وعروش. وعرش العرش يعرشه- بكسر الراء وضمها- عرشا: عمله، وعرش الرّجل: قوام أمره. وثلّ عرشه: هدم ما هو عليه من قوام أمره «3» . والعرش: المنزل، وجمعه: عرش. والعرش والعريش: ما يستظل به، وجمعه: عروش. وعرش البئر والرّكية «4» يعرشها عرشا: طواها من أسفلها بالحجارة، ثم طوى سائرها بالخشب، فالطىّ بالحجارة فقط. والعرش: ما عرشها به من الخشب، وجمعه: عروش. وعرش الكرم: ما دعّم به من الخشب. يقال: عرش الكرم يعرشه عرشا وعروشا: عمل له عرشا. فلا يوجد للنّحل في غير هذه الثلاثة. وأكثر بيوتها في الجبال، ثم في الأشجار، ثم فيما يعرش الناس، وهى أقل بيوتها، وأباح تعالى للنحل أكل ما شاءت من الأشجار بقوله عزّ من قائل: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ... «5» فقوله: مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ المراد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 «بعضها» كقوله تعالى ... وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ... «1» يريد به «البعض» ؛ والسّبل: الطرق، واحدها: سبيل، وأضافها سبحانه إليه؛ لأنه الذى خلقها وقد أذن النّحل في سلوكها، أى تدخل طرق ربّها لطلب الرّزق في الجبال، وخلال الشّجر. وذلّل لها الطرق: أى سهّلها، تقول: «سبيل مذلّل» : أى سهل سلوكه، وقد يكون (ذللا) : حالا من النّحل، أى تنقاد، وتذهب حيث شاء صاحبها، وذلك أنها تتبع أصحابها حيث ذهبوا، وتقف موقف يعسوبها، وتسير بمسيرة «2» . و (ذللا) جمع ذلول وهو المنقاد: أى المطيع. ثم عدّد تعالى على خلقه ما أنعم به عليهم من العسل الذى يخرج من النّحل، فإن في خروجه منها عبرة، فقال سبحانه: ... يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ ... يعنى: العسل، فإنه من أفواه النّحل، لدلالة القرآن على أنها ترعى الزّهر، فيستحيل في أجوافها عسلا، ثم تلقيه من أفواهها فيجتمع منه القناطير المقنطرة. روى عن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنه- أنّه قال- وقد حقّر الدنيا: «أشرف لباسها لعاب دودة، وأشرف شرابها رجيع نحلة» ، وفي رواية: «إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم، ومشروب، وملبوس، ومركوب، ومنكوح، ومشموم؛ فأشرف المطعوم: العسل، وهو مذقة ذباب. وأشرف المشروب: الماء، ويستوى فيه البرّ والفاجر. وأشرف الملبوس: الحرير، وهو نسج دودة. وأشرف المركوب: الفرس، وعليها تقاتل الرجال. وأشرف المشمومات: المسك، وهو دم حيوان. وأشرف المنكوحات: فرج المرأة، وهو ميال» «3» فقال قوم: «هذا يدل على خروج العسل من غير أفواه النحل» . وقال قوم: «لا ندرى أيخرج من أفواهها أو من أسافلها، غير أنّه لا يتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 صلاحه إلّا بحمى أنفاسها» «1» . وقد صنع بعض قدماء الفلاسفة بيتا من زجاج ليرى كيف تصنع النحلة العسل، وتضعه في بيوته من الشمع، بعد ما أدخلها في البيت؛ فلطّخت النحلة باطن الزّجاج بطين حتى لم يرها. وقال تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها ؛ لأن استحالة الأطعمة لا تكون إلا في البطن. ثم عدّد تعالى أنواع العسل الذى أنعم به على عباده، فقال: مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ يعنى من الأحمر، والأبيض، والجامد، والسائل؛ ليتذكروا قدرته سبحانه على الإيجاد والاختراع، فإن الأصل واحد، وما يكون عنه مختلف بسبب وقوع تنوّع غذائه، كما قد اختلف أيضا طعمه بحسب مراعى النّحل. ثم وصف تعالى هذا الخارج من النّحل بصفة شريفة، وهى (الشفاء) الذى أودعه فيه، فقال تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ، والجمهور على أن الضّمير عائد إلى العسل. واحتج من ذهب إلى ذلك، بأن مساق الكلام للعسل، وبقوله صلى الله عليه وسلّم: «صدق الله وكذب بطن أخيك» «2» يريد عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: ... يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ... ، وهو العسل؛ وهذا تصريح منه- عليه الصلاة والسلام- بأن الضمير في قوله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ يعود إلى الشراب الذى هو العسل، وهو الصحيح «3» . وبه قال عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 والحسن، وقتادة «1» . وروى عن مجاهد، والضحّاك، والفرّاء «2» ، وابن كيسان «3» أن الضمير عائد على (القرآن) أى: «في القرآن شفاء للناس» ، وهو ضعيف «4» لمخالفته ظاهر القرآن، وصريح حديث المشتكى بطنه. وقال النحاس «5» : «أى فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس» . وزعم بعض غلاة الشّيعة: أن هذه الآية يراد بها آل البيت عليهم السلام، وأن الشّراب: القرآن والحكمة، والنّحل المذكور في الآية: هم آل البيت «6» ، ورووا حديثا أن النّبىّ صلى الله عليه وسلّم قال لعلى- رضى الله عنه: «أنت يعسوب المؤمنين، والمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 يعسوب الكفار» «1» ، وفي رواية: «والمال يعسوب الظلمة» «2» ، وفي رواية: «والمال يعسوب المنافقين» «3» . ومعنى يعسوب المؤمنين: أى كبير المؤمنين الذين يلوذون بك، وإليك ينقادون «4» والكفار والظّلمة والمنافقون إنما يلوذون بالمال كما تلوذ النحل بيعسوبها؛ ولذلك قالوا: «علىّ أمير النحل» وقد اختلف في قوله تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ هل هو على عمومه، أم لا؟ فذهب قوم إلى أنّه عام في كل حال، ولكل أحد؛ فعن عبد الله بن عمر- رضى الله عنهما- أنه كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلّا جعل عليه عسلا، حتى الدمّل إذا خرج به طلى عليه عسلا «5» . وعن أبى وجرة عوف بن مالك «6» بن أبى عوف الأشجعى أنّه كان يكتحل بالعسل، ويداوى به كلّ سقم. ومرض عوف بن مالك هذا، فقيل له: «ألا نعالجك؟» فقال: «ايتونى بماء» فإن الله تعالى يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً «1» ثم قال: «ايتونى بعسل» فإن الله تعالى يقول: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ، وائتونى بزيت، فإن الله تعالى يقول: ... مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ ... «2» فجاءه بذلك فخلطه، ثم شربه فبرئ. وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن خيثمة عن الأسود، قال: قال عبد الله: «عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل» «3» . حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبى إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله قال: «العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور» «4» . وذهب آخرون إلى أنه ليس بعام في كل علّة «5» ، وكلّ إنسان، وإنما هو خبر بأنه يشفى كما يشفى غيره من الأدوية بعض الأمراض، لا كلها. واحتجوا لذلك بأن «شفاء» نكرة في سياق الإثبات، ولا عموم فيها باتفاق أهل العربية. والتحقيق: أنّ من قوى يقينه، وصدق عزمه، لثبات قدمه ورسوخها في التصديق، فإنه يشفى بالعسل في كل جميع الأدواء، ويبرئ به الله على يديه سائر الأمراض، وأما من ضعف يقينه، وكان في شكّ، وتردد بين ما جاء به القرآن، وما ذكره الأطباء، فإنّه موكول إلى ما تعلّق به. وقد اعترض على من قال بعموم منافع العسل «6» : أنه يضرّ بعض الناس كمن عنده صفراء محترقة، فإنه إذا شرب العسل عظمت مضرّته، أجيب: بأنه قد تقرر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 بأن ما من شىء، وإن جلّت منفعته، كالماء «1» الذى منه حياة كل حيوان ونبات، إلا وفيه مضرّة ما، وما من شىء وإن عظمت مضرّته كالأفعى ونحوها إلّا وفيه منفعة، فالحكم للغالب، فما غلبت منفعته مضرته قيل فيه: نافع بإطلاق، وما غلبت مضرته منفعته قيل فيه: ضار بإطلاق. ولا ريب عند الأطباء وغيرهم في عموم منفعة العسل، والتّداوى به في أكثر الأمراض، ومدحه لا سيما ما ركّب منه: كالسّكنجبين «2» والمعاجين، فإنّ أصلها العسل، ولا يغرنّك ما ألفته من استعمال ما ذكرنا بالسّكر دون العسل، فإنه أمر محدث لا تكاد تجده في كتب قدماء أطباء الإسلام، فضلا عن أطباء اليونان ومن قبلهم، وأنت تعرف صحة ذلك إن كنت ممن تمهّر في الطب. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر من يشتكى بطنه بشرب العسل، فلما أخبره أخو المشتكى بأنه لم يزده إلا استطلاقا أمره صلى الله عليه وسلّم بمعاودة شربه، إلى أن قال صلى الله عليه وسلّم: «صدق الله، وكذب بطن أخيك» . فاعترض بعض من في قلبه شك بأن الأطباء قد أجمعوا على أن العسل يسهل، فكيف يوصف لمن به إسهال؟، وأجيب بالمنع، فقد نص علماء الطب كمحمد بن زكريا الرازى «3» ، والرئيس أبى على بن سينا «4» ، ومن قبلهما جالينوس «5» فى آخرين، بأن العسل وإن كان يجذب الرّطوبات من قعر البدن، ويليّن الطبيعة، وإن كان الاستعداد من الغذاء في النفود قليلا أطلق. هذا هو التحقيق في ذلك. فتبين أن العسل ليس بمسهل على كل حال، وأن حكاية الإجماع غير صحيحه، فمن الأطباء من ذلك سوى من ذكرنا. وأجاب بعضهم: بأنّ الإسهال المذكور كان عن امتلاء وهيضة، فناسبه شراب العسل ليخرج ما هنالك منها حتى يذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الامتلاء «1» ، وقد أغنانا الله، وله الحمد، بما أنزله في كتابه، وما صحّ من حديث نبيه محمد صلى الله عليه وسلّم عن أقوال الأطباء التى لا تكاد أدلتها تصحّ، إذ غايتها أن تكون إقناعيّة. هذا لو كان قول الأطباء فيه ما يخالف ذلك، وأما ما كان موافقا فماذا بعد الحق إلّا الضلال. وأوع سمعك فائدة جليلة، وهى أن الطبّ النبوى جميعه قسمان: أحدهما: ما كان من عادة العرب العلاج والتّداوى به. الثانى: ما جاء بوحى إلهى. فالأول: قسم من أقسام الطب. والثانى: لا يصح تأثيره إلا مع قوة إيمانية، ويقين صادق، وإلا فلا منفعة له، فإنه إذا اقترن به ما شرطناه، لأنجع دواء، وأسرع شفاء، فطالما استشفى وشفى أهل الله «2» ، وخاصته بآية من القرآن، وبلعقه من عسل، أدواء يعجز عنها حذاق الأطباء ... وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ*. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 [ فصل في نهي النبي عن قتل أربع من الدواب ومنها النحلة ] (فصل) خرج أبو داود في «سننه» من حديث عبد الله بن عباس- رضى الله عنهما- أن النبى صلى الله عليه وسلّم نهى عن قتل أربع من الدّواب: الهدهد، والصّرد «1» ، والنملة، والنحلة» «2» . وكره مجاهد قتل النحل. وقال في «الإبانة» «3» : «يكره قتلها» وروى الحكيم أبو عبد الله محمد بن على الترمذى «4» فى كتاب «نوادر الأصول» «5» من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبى صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ الزّنابير كلّها في النّار، يجعلها الله عذابا لأهل النار، إلا النّحل» » ، وقال أبو يعلى «7» الموصلى: حدثنا شيبان «8» بن فروخ، حدثنا سكين «9» بن عبد العزيز، عن أبيه أنس بن مالك- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عمر الذّباب أربعون ليلة، والذّباب كلّه في النّار إلا النّحل» «1» . وحدثنا الحسن بن عمر بن شقيق، حدثنا إسماعيل «2» ، عن الأعمش «3» ، عن مجاهد، عن ابن عمر- رضى الله عنهما- عن النبى صلى الله عليه وسلّم قال: «الذباب كلّه في النّار إلا النّحل» «4» ، وكان مجاهد يكره قتل النّحل. وخرّجه أبو أحمد بن عدّى «5» فى «كتاب الكامل» من حديث عمرو بن نفيل «6» ، عن مجاهد، عن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الذّباب كلّه في النّار إلا النّحل» «7» . وللبخارى من حديث عائشة- رضى الله عنها- قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلّم يعجبه الحلواء والعسل «8» . وله من حديث جابر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ابن عبد الله- رضى الله عنه- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن كان في شىء من أدويتكم، أو يكون في شىء من أدويتكم خير، ففى شرطة محجم أو شربة عسل، أو لذّعة بنار توافق الدّاء، وما أحب أن أكتوى» «1» . وله عن ابن عباس- رضى الله عنهما- عن النبى صلى الله عليه وسلّم قال: «الشفاء في ثلاثة: فى شرطة محجم، أو شربة عسل، أوكيّة بنار، وأنا أنهى أمّتى عن الكىّ» «2» . وخرجه مسلم عن جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن كان في شىء من أدويتكم خير، ففى شرطة محجم، أو شربة من عسل، أو لذعة بنار» قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وما أحبّ أن أكتوى» «3» . وللبخارى ومسلم من حديث أبى سعيد الخدرى- رضى الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلّم فقال: إنّ أخى قد استطلق بطنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اسقه عسلا» فقال: لقد سقيته، فلم يزده إلا استطلاقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «صدق الله وكذب بطن أخيك» فسقاه فبرئ. وفي لفظ مسلم أنّ رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسلّم فقال: «إنّ أخى عرب «4» بطنه» ، فقال: «اسقه عسلا ... » الحديث «5» . وفي لفظ البخارى أنّ رجلا أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «أخى يشتكى بطنه» ، فقال: «اسقه عسلا» ثم أتاه الثانية فقال: «اسقه عسلا» ، ثم أتاه الثالثة، فقال: «اسقه عسلا» ثم أتاه، فقال: «فعلت» فقال: «صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلا» . فسقاه فبرئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 وخرج ابن ماجه، والحاكم من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه- أن النبى صلى الله عليه وسلّم قال: «العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشّفاءين: القرآن والعسل» «1» . ولابن ماجه من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- أن النبى صلى الله عليه وسلّم قال: «من لعق العسل ثلاث غدوات كلّ شهر، لم يصبه عظيم من البلاء» «2» . [ فصل في سماع النبي ص دوي النحل عند نزول الوحي ] (فصل) روى الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى- فى «مسنده» ، وأبو عيسى محمد بن عيسى الترمذى في «جامعه» ، والحاكم أبو عبد الله في «مستدركه» من حديث عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يسمع عنده دوىّ كدوىّ النحل، فأنزل عليه يوما، فمكثنا ساعة، ثم سرّى عنه، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، فقال: «اللهمّ زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنّا، ثم قال: «أنزل علىّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنّة» ، ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ... «3» الآيات، وهو حديث صحيح «4» الإسناد. ولابن ماجه، من حديث النّعمان بن بشير أن النبى صلى الله عليه وسلّم قال: «إنّ مما تذكرون من جلال الله: التّسبيح، والتّهليل، والتّحميد، ينعطفن حول العرش، لهنّ دوىّ كدوىّ النّحل تذكّر بصاحبها، أما يحب أحدكم أن يكون له، أو لا يزال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 له من يذكّر به» «1» وهو صحيح على شرط مسلم. وفي المستدرك عن أبى سبرة «2» الهذلىّ، قال عبد الله بن عمرو فحدثنى حديثا عن النبى صلى الله عليه وسلّم فهمته وكتبته بيدى: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما حدث عبد الله ابن عمرو، عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يحبّ الفاحش والمتفحش، وسوء الجار، وقطيعة الرّحم» ، ثم قال: «إنّ مثل المؤمن كمثل النّحلة وقعت فأكلت طيّبا، ثمّ سقطت ولم تفسد، ولم تكسر، ومثل المؤمن كمثل القطعة الذّهب الأحمر إذا دخلت النّار، فنفخ عليها، فلم تتغيّر ووزنت فلم تنقص» «3» ، قال: صحيح الإسناد. وخرّج الطبرانى في «الأوسط» من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مثل بلال مثل النّحلة، غدت تأكل من الحلو والمرّ، ثم هو حلوّ كلّه» «4» . روى الإمام أحمد وأبو بكر بن أبى شيبة، والطبرانى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «المؤمن كالنّحلة تأكل طيّبا، وتضع طيّبا، وقعت فلم تكسر، ولم تفسد» «5» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 روى البيهقى في «شعب الإيمان» من حديث مجاهد قال: صاحبت عمر من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلا هذا الحديث: «إنّ مثل المؤمن كمثل النّحلة إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك، وكلّ شأنه منافع، وكذلك النّحلة كلّ شأنها منافع» «1» . قال ابن الأثير: «وجه المشابهة بين المؤمن والنّحلة: حذق النحل وفطنته، قلّة أذاه وخفارته، ومنفعته، وسعيه، وتنزّهه عن الأقذار، وطيب أكله، وأنه لا يأكل من كسب غيره، ونحوله، وطاعته لأميره، وأن للنّحل آفاتا تقطعه عن عمله منها الظلمة، والغيم، والريح، والدخان، والماء، والنّار، وكذلك المؤمن له آفات تفتّره عن عمله: ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السّعة، ونار الهوى» «2» . وفي مسند الدارمى «3» عن على بن أبى طالب- كرم الله وجهه- أنه قال: «كونوا في النّاس كالنّحلة في الطير، إنه ليس في الطير شىء إلا وهو يستضعفها، ولو تعلم الطير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها. خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإن للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب» «4» . وله عن ابن عباس- رضى الله عنه- أنه سأل كعب الأحبار: «كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ فقال: نجده: محمّد بن عبد الله، يولد بمكة، ويهاجر إلى طيبة، ويكون ملكه بالشام، ليس بفحّاش ولا بصخّاب في الأسواق، ولا يكافئ بالسّيئة السّيئة، ولكن يعفو ويغفر، وأمته الحمّادون، يحمدون الله في كلّ سرّاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وضراء، يوضئون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم، يصفّون في صلاتهم كما يصفّون في قتالهم، دويّهم في مساجدهم كدوىّ النّحل يسمع مناديهم في جوّ السّماء» «1» . وقال بعض الحكماء لتلامذته: «كونوا كالنّحل في الخلايا» قالوا: «وكيف النّحل في الخلايا؟» قال: «إنها لا تترك عندها بطّالا إلّا نفته، وأقصته عن الخلية؛ لأنه يضيق المكان، ويفنى العسل، ويعلّم النشيط الكسل» «2» . وقال الشيخ أبو حامد الغزالى في كتاب «الإحياء» «3» : انظر إلى النّحل كيف أوحى الله إليها حتى اتّخذت من الجبال بيوتا، وكيف استخرجت من لعابها الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء، والآخر شفاء؛ ثم لو تأمّلت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها من النجاسات والأقذار، وطاعتها لواحد من جملتها، وهو أكبرها شخصيا، وهو أميرها؛ ثم ما سخّر الله تعالى لأميرها من العدل والإنصاف بينها حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كلّ ما وقع منها على نجاسة، لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرا في نفسك، وفارغا من همّ بطنك وفرجك وشهوات نفسك، فى معاداة أقرانك، وموالاة إخوانك. ثم دع عنك جميع ذلك، وانظر إلى بنيانها من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدّس، فلا تبنى منها مستديرا، ولا مربّعا، ولا مخمسا، إلّا مسدّسا، لخاصية في شكل المسدس يقصر فهم المهندسين عن درك ذلك، وهو أنّ أوسع الأشكال وأحواها: المستدير وما يقرب منه. فإنّ المربّع تخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النّحل مستدير ومستطيل، فترك المربّع حتى لا تبقى الزّوايا فارغة، ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة، فإنّ الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصّة، ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الاحتواء من المستدير، ثم تتراص الجملة منه بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس، وهذه خاصية هذا الشكل. فانظر كيف ألهم الله تعالى هذا النّحل- على صغر جرمه- اتّخاذ هذه الأشكال المتّساوية الأضلاع بحيث لا يزيد ضلع عن ضلع ولا ينقص؛ لطفا به، وعناية بوجود ما هو محتاج إليه ليتهنّى عيشه، فسبحانه ما أعظم شأنه، وأوسع فضله وامتنانه!. وقال بعض الحكماء: «وبيوت النحل من أعجب الأشياء؛ لأنها مبنية على الشّكل الذى لا ينحرف، كأنه استنبط بقياس هندسى، ثم هو من دائرة مسدسة لا يوجد فيها اختلاف، فبذلك اتّصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة؛ وذلك أن الأشكال من الثلاثة إلى العشرة إذا جمع كلّ واحد منها إلى أمثاله لم يتصل، وجاءت بينها فروج إلا الشكل المسدس، فإنه إذا اجتمع إلى أمثاله اتّصل كأنّه قطعة واحدة، كلّ هذا بغير قياس ولا آلة، ولا بركاز، بل ذلك من أثر صنع اللطيف الخبير، وإلهامه أيّاها» . وقال آخر: «جمع الله تعالى في النّحلة السمّ والعسل، ليكون دليلا على كمال قدرته، وأخرج منها العسل، ممزوجا بالشّمع، وكذلك عمل المؤمن ممزوج بالخوف والرجاء» . وفي «تاريخ أصبهان» «1» فى ترجمة أحمد بن الحسن، عن عمر يرفعه: «أول نعمة تقع في الأرض العسل» «2» . ويقال في المثل: «أنحل من نحلة، وأهدى من نحلة» ويقال: «كلام كالعسل، وفعل كالأسل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 [فصل اختلف أهل العلم في أكل النّحل] (فصل) اختلف أهل العلم في أكل النّحل، فأباحه بعضهم كالجراد. والمذهب تحريم «1» أكلها. وإن كان العسل الخارج منها حلالا، كالآدمية، لبنها حلال، ولحمها حرام؛ ولأن النّبى صلى الله عليه وسلّم نهى عن قتلها، وقد اختلف أيضا في بيعها، فقال أصحابنا: بيع النحل وهو في الكوّارة صحيح «2» إن رئى جميعه، وإلّا فهو بيع غائب، فإن باعها وهى طائرة، فقال في «التتمة» «3» : يصح، وقال في «التهذيب» «4» عكسه. وصورة المسألة: أن تكون الأمّ في الكوّارة، كما قاله ابن الرّفعة «5» والأصحّ من الوجهين الصحّة. والفرق بينها وبين باقى الطير من وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 أحدهما: أنها لا تقصد بالجوارح بخلاف غيرها. والثانى: أنها لا تأكل في العادة إلّا ما ترعاه، فلو توقّف صحّة البيع على رؤيتها لربّما أضرّ بها، أو تعذر بسببه بيعها، بخلاف غيرها من الطيور «1» . وذهب أبو حنيفة- رحمه الله- إلى أنّه لا يصح بيعها كالزنابير وسائر الحشرات «2» . واحتجّ أصحابنا بأنه حيوان طائر ينتفع به، فجاز بيعه كالشاة، بخلاف الزّنبور والحشرات، فإنه لا منفعة فيها. واختلف أيضا في زكاة العسل، فروى أبو عيسى الترمذى من حديث صدقة بن عبد الله «3» عن موسى بن يسار، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فى العسل في كل عشرة أزق «4» زق «5» » «6» . قال أبو عيسى: «فى إسناده مقال» . ولا يصح عن النبى صلى الله عليه وسلّم في هذا الباب كبير شىء، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق «7» وقال بعض أهل العلم: «وليس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 العسل شىء، وصدقة بن عبد الله «1» ليس بالحافظ، وقد خولف في روايته هذا الحديث» . وقال أحمد بن حنبل: «صدقة ليس يساوى حديثه شيئا» «2» . وقال ابن حبان: «يروى الموضوعات عن الثّقات» . وقال النسائى: «صدقة ليس بشىء، وهذا حديث منكر» . ولذلك لم ير مالك، والشافعى في العسل زكاة، وبه قال داود «3» ، ومن قبله سفيان الثورى، والحسن «4» بن حىّ. وروى عن علىّ وابن عمر «5» ، رضى الله عنهما، وذهب الشافعى في القديم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 إلى القول بزكاة العسل «1» . وقال أبو حنيفة: إن كان النحل في أرض العشر «2» ففيه الزّكاة، وهى عشر ما أصاب منه قلّ أو كثر، وإن كان النحل في أرض خراج «3» فلا زكاة فيه كثر أو قلّ، وإن كان في المفاوز والجبال، على الأشجار وفي الكهوف فلا شىء فيه، وهو بمنزلة الثمار تكون في الجبال والأودية لا خراج عليها ولا عشر «4» . وقال أبو يوسف «5» : «إذا بلغ العسل عشرة أرطال ففيه رطل واحد، وهكذا ما زاد ففيه العشر، والرّطل هو الفلفلى» . وقال محمد بن الحسن «6» : «إذا بلغ العسل خمسة أفراق، ففيه العشر وإلا فلا» . والفرق «7» : ستة وثلاثون رطلا فلفلية، والخمسة الأفراق مائة وثمانون رطلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 فلفلية «1» . وقال أحمد بوجوب الزكاة في العسل، واحتج أصحاب أبى حنيفة لقولهم بما روى عن عطاء «2» الخراسانى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال لأهل اليمن في العسل: «إنّ عليكم في كل عشرة أفراق فرقا» » وردّ ذلك بأن عطاء لم يدرك عمر. وقد روى أن عاملا لعمر على الطائف، كتب إليه: «إن رجالا من فهم «4» كلمونى فى خلاياهم، أسلموا «5» عليها وسألونى أن أحميها لهم» «6» . فكتب إليه عمر: «إنما هو ذباب غيث، فإن أدوا زكاته فاحمه لهم» . وقوله: «إنما هو ذباب غيث» : أى يكون مع الغيث، يريد أنها تعيش بالمطر؛ لأنها تأكل ما ينبت عنه، فإذا لم يكن غيث لم يكن لها ما تأكل، فشبهها بالراعى والسائمة من النّعم، إذا لم يكن على صاحبها منها مؤونة وجب فيها الزكاة. وقال ابن قتيبة في كتاب «الغريب» «7» : وهذا الحديث خرّجه أبو داود، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 حديث عمرو بن شعيب «1» عن أبيه عن جده قال: «جاء هلال- أحد بنى متعان- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعشور نحل له وسأله أن يحمى له واديا يقال له: سلبة «2» ، فحمى له رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك الوادى، فلما ولى عمر بن الخطاب رضى الله عنه كتب سفيان بن وهب إلى عمر يسأله عن ذلك، فكتب عمر: إن أدى إليك ما كان يؤدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من عشور نحله، فاحم «3» له سلبة، وإلا فإنما هو ذباب غيث، يأكله من شاء «4» . واحتجوا بحديث الحارث «5» بن عبد الرحمن بن سعد ابن ذباب، عن منير بن عبد الله «6» ، ويقال: منير بن عبيد الله، عن أبيه، عن سعد بن أبى ذباب. وكانت له صحبة، أنه أخذ عشر العسل من قومه، فأتى به عمر رضى الله عنه فجعله عمر في صدقات المسلمين، قال: وقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسلمت وبايعته، فاستعملنى على قومى، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 واستعملنى أبو بكر رضى الله عنه بعده، ثم استعملنى عمر رضى الله عنه من بعده فذكر الخبر، وفيه: قلت لعمر: يا أمير المؤمنين، ما ترى في العسل؟ قال: «خذ منه العشر» فقلت: أين أضعه؟ قال: «ضعه في بيت المال» ، وفي رواية: فقلت لقومى: «فى العسل زكاة، فإنه لا خير في مال لا يزكى» فقالوا: كم ترى؟ فقلت: «العشر» ، فأخذته، وأتيت به إلى عمر رضى الله عنه «1» . وردّ هذا أيضا بأن منير بن عبد الله مجهول، وأبوه مجهول «2» ، وقد قال فيه بعض رواته عقين «3» بن عبد الله، ولا يدرى من هو، واحتجوا بما روى عن نعيم «4» بن حماد، عن بقية «5» ، عن محمد بن الوليد الزبيدى «6» ، عن عمرو بن شعيب، عن هلال «7» بن مرّة، أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: فى عشر العسل: «ما كان منه في السهل ففيه العشر، وما كان منه في الجبل ففيه نصف العشر» «8» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 وردّ بأن؟؟ بقية ضعيف، وهلال بن مرة لا يدرى من هو. وصحّ عن مكحول، ومحمد بن شهاب الزهرى: «أن في كل عشرة أزقاق زقّا» «1» . وعن الأحوص بن حكيم، عن أبيه أنه قال: «فى كل عشرة أرطال رطل» . وعن سعيد «2» بن عبد العزيز، عن سليمان «3» بن موسى: «فى كل عشرة أزقاق من عسل زق» ، قال: «والزق يسع رطلين» «4» . وروى عن عمر بن عبد العزيز زكاة العسل. ولا يصح عنه، وبه قال ربيعة، ويحيى بن سعيد، وعبد الله بن وهب. واحتج من رأى زكاة العسل بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: «جاء هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعشور نحل له، وسأله أن يحمى له واديا يقال له: سلبة؟؟ فحماه له. وبحديث عمرو بن شعيب قال: كتب بعض أمراء الطائف إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه: «إن أصحاب النّحل لا يؤدّون إلينا ما كانوا يؤدون إلى النبى صلى الله عليه وسلّم ويسألون مع ذلك أن تحمى لهم أوديتهم، فاكتب إلىّ برأيك في ذلك» . فكتب إليه عمر: «إن أدّوا إليك ما كانوا يؤدون إلى النبى صلى الله عليه وسلّم فاحم لهم أوديتهم، وإن لم يؤدوا إليك ما كانوا يؤدونه إليه، فلا تحم لهم» . قال: «وكانوا يؤدون إلى النبى صلى الله عليه وسلّم عن كل عشرة قرب قربة» «5» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وعن عمرو بن شعيب أن عمر- رضى الله عنه- كتب: «فى العسل عن كل عشرة قرب قربة» . وردّ بأن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ضعيف لا يصح «1» . واحتجوا بحديث عبد الله بن محرز «2» ، عن الزهرى، عن أبى سلمة عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل اليمن: «أن يؤخذ من العسل العشر» «3» . واحتجوا بحديث سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى أن أبا سيارة المتعى «4» قال للنبى صلى الله عليه وسلّم: «إن لى نحلا» فقال له: «فأدّ منه العشر» «5» . ورد بأنه حديث منقطع؛ لأن سليمان بن موسى لا يعرف له لقاء أحد من الصحابة رضى الله عنهم. واحتجوا بحديث ابن جريج قال: كتبت إلى إبراهيم «6» بن ميسرة أسأله عن زكاة العسل، فذكر جوابه، وفيه أنه قال: «ذكر لى من لا أتهم من أهلى أن عروة «7» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 ابن محمد السعدى قال له: «إنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن صدقة العسل، فردّ إليه عمر: قد وجدنا بيان صدقة العسل بأرض الطائف، فخذ منه العشور» «1» . ورد بأنه حديث منقطع، فإنه عمن لم «2» يسمّ. وعورض قولهم بما رواه أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاوس، أن معاذ بن جبل لما أتى اليمن، أتى بالعسل، وأوقاص «3» الغنم. فقال: «لم أومر فيها بشىء» «4» . وبحديث وكيع عن سفيان الثورى، عن عبيد الله «5» بن عمر، عن نافع قال: بعثنى عمر بن عبد العزيز على اليمن، فأردت أن آخذ من العسل العشر، فقال المغيرة بن الحكم الصنعانى: «ليس فيه شىء» فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز فقال: «صدق، هو عدل رضى» «6» . [ فصل في تسمية البعض بأسماء النحل وتكنيتهم بها والسبب في ذلك ] (فصل) كان سعيد «7» بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف يقال له: «عكّة العسل» ، وكان غير طويل. وكان يقال لمصعب بن الزبير: «آنية النحل» ؛ من كرمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وحكى أن عبد المؤمن بن على القيسى الكومى «1» القائم بدولة الموحدين، أتباع أبى عبد الله محمد بن تومرت، ببلاد المغرب، نام ذات يوم بالنهار- وهو صبى- تجاه أبيه، وأبوه قائم يعمل آنية الفخار فسمع أبوه دويا من السماء فرفع رأسه، فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت على الدار، فنزلت كلها على عبد المؤمن وهو نائم فغطته، ولم يظهر من تحتها، ولا استيقظ! فرأته أمه على تلك الحال، فصاحت وخافت عليه، فسكتها أبوه، فقالت: «أخاف عليه» فقال: «لا بأس عليه، وإنى لمتعجب مما يدل عليه هذا» . ثم إنه غسل يده من الطين، ولبس ثيابه، ووقف ينظر ما يكون من أمر النحل، فطار عنه بأجمعه، واستيقظ الصبىّ وما به من ألم» ! فتفقدت أمّه جسده، فلم تر به أثرا، ولم يشك إليها ألما، وكان بالقرب منهم رجل معروف بالزجر فمضى إليه أبو عبد المؤمن، وأخبره بما رآه من النحل مع ولده، فقال: «يوشك أن يكون له شأن، ويجتمع على طاعته أهل المغرب» فكان من أمر عبد المؤمن ما هو معروف» «2» . ويقال: أوّل من أوقد الشمع، واستصبح به: جذيمة «3» الأبرش، وهو أيضا أول من نصب المجانيق في الحرب. وأول من اتخذ الشمع الغلاظ التى فيها الأمنان «4» : الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان «5» ، ثم صالح بن على بن عبد الله بن عباس «6» بمصر. وإنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 كانت لبنى أمية، ومن قبلهم من الملوك بالشام، سوى الوليد شمع. فى الشمعة منها الرطلان، والثلاثة الأرطال، وكانت لها أتوار «1» صغار، فى التور منها شوكة «2» تكون الشمعة فيها، ومسرجة «3» عليها شوكة. وكتب أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم «4» إلى عمر بن عبد العزيز، وهو عامله على المدينة: «إنّ من قبلى من الأمراء كان يجرى عليهم رزق الشمع» . فكتب إليه: «إنك طالما مشيت في طرق المدينة بلا شمع يمشى به بين يديك، فأعرض عن هذا، ولا تعاودنى فيه» . وكانت ملوك بنى أمية تستصبح بالزيت في القناديل، ويمشى بين أيديها بالشمع الطوال، الذى طول الواحدة منها ثلاثة أشبار، وكان من دونهم يستعملون من الشمع الفتائل المثنى بعضها على بعض، فلما كان زمن يزيد «5» بن عبد الملك اتّخذ له من الشمع الطوال ما فيه ستة أرطال، وأكثر من ذلك، ثم أسرف الوليد ابن يزيد بن عبد الملك «6» فى استعماله الشمع في مجالسه، ولم يكن أبو جعفر المنصور «7» يستصبح إلا بالزيت في القناديل، وربما خرج إلى المسجد ومعه من يحمل سراجا بين يديه، ثم إنه حمل بين يديه ما فيه الرطل والمنّ من الشمع، وكان إذا أراد قراءة الكتب أو كتابتها، أحضر معه شمعة في تور، ثم ترفع إذا فرغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 لما زفت بوران «1» بنت الحسن بن سهل على الخليفة المأمون «2» : عبد الله بن هارون الرشيد، أوقد على المأمون في تلك الليلة شمعة عنبر، وزنها أربعون منوا. وكان ثمن الشمع والخيش في أيام المتوكل جعفر بن محمد المعتصم في كل سنة ألف ألف ومائتى ألف درهم. وحكم الصابىّ «3» عن بعض الرسل قال: «ذهبنا إلى باب مسعود- يعنى ابن محمود بن سبكتكين «4» بغزنة. فشاهدنا بالباب أصناف العساكر، وملوك جرجان، وطبرستان، وخراسان، والهند، والسند، والترك، وقد أقيمت الفيلة عليها الأسرة والعماريات «5» الملبسة بالذهب، مرصعة بأنواع الجواهر، وإذا بأربعة آلاف غلام مرد «6» وقوف سماطين، وفي أوساطهم مناطق «7» الذهب، وبأيديهم أعمدة الذهب، ومسعود جالس على سرير من الذهب لم يوضع على الأرض مثله، وعليه الفرش الفاخرة، وعلى رأسه تاج مرصع بالجواهر واليواقيت، وقد أحاط به الغلمان الخواص بأكمل زينة ثم قام مسعود إلى سماط «8» من فضة، عليه خمسون خوانا من الذهب، على كل خوان «9» خمسة أطباق من ذهب فيها أنواع الأشربة، فسقاهم الغلمان، ثم قام مسعود إلى مجلس عظيم الأقطار فيه ألف دست من الذهب، وأطباق كبار خسروانية، فيها الكيزان، وعلى كل طبق ذرافة ذهب، وأطباق ذهب عليها المسك والعنبر، والكافور، وأشجار الذهب مرصعة بالجواهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 واليواقيت، وشموع في رأس كل شمعة قطعة من الياقوت الأحمر، تلمع؟؟ لمعادن النار، وأشجار العود قائمة بين ذلك، وفي جوانب المجلس بحيرة في جوانبها من الجواهر، والعنبر، والفصوص، والؤلؤ شىء يقصر الوصف عنه، وذكر أشياء أخر. ولما زفت قطر الندى بنت الأمير أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون- على الخليفة المعتضد «1» بالله أبي العباس أحمد بن الموفق أبى أحمد طلحة بن المتوكل، وقد حملها إليه أبوها من مصر إلى بغداد بجهاز جليل القدر إلى الغاية، قال المعتضد: «أكرموها بشمع العنبر» ، فوجد في خزائنه أربع شمعات من عنبر فى أربعة أنوار من فضة، فلما كان وقت العشاء جاءت قطر الندى إليه وقدامها أربعمائة وصيفة، فى يد كل وصيفة منهنّ تور ذهب، أو فضة، وفيه شمعة عنبر، فقال المعتضد: «أطفئوا شمعنا واسترونا» . ولما ماتت عبدة، ورشيدة: ابنتا المعز لدين الله أبى تميم معدّ بن منصور أبى الطاهر إسماعيل الفاطمى، ختم على مقاصير كل واحدة منهما، وعلى صناديقهما، وما يجب أن يختم عليه من موجودهما بأربعين رطلا من الشمع، وكتب موجود عبدة في ثلاثين رزمة ورق. وكان راتب أبى طاهر محمد بن بقية «2» : وزير عز الدولة بختيار بن معز الدولة أحمد بن بويه، من الشمع في كل شهر ألفى منّ، ومنّ، ومن الثلج في كل يوم ألف رطل. وفي سنة اثنتين وثمانين وستمائة قدم عبد الرحمن الشيرازى والأمير صمداعوا الططرى، والصاحب شمس الدين محمد بن الصاحب شرف الدين التيتى برسالة الملك أحمد أغا سلطان ابن هولاكو إلى البيرة «3» ، وعلى رأس الشيخ عبد الرحمن الجتر- كما هى عادته في بلاد التتر- فخرج إلى لقائهم من أمراء حلب الأمير جمال الدين أقوش الفارسى، ومنع عبد الرحمن من حمل الجتر» على رأسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 ومن حمل السلاح أيضا، وعدل بهم عن الطريق في مسيرهم حتى قدموا دمشق فى ليلة الثلاثاء ثانى عشرين من ذى الحجة من غير أن يراهم أحد، لا في مسيرهم، ولا وقت قدومهم، فأنزلوا بقاعة رضوان من؟؟ القلعة، وأجرى لهم في كل يوم ألف درهم سوى الحلوى والفاكهة وغير ذلك من أنواع المأكل، وهى ألف درهم أخرى؛ فقدم الخبر بقتل أحمد أغا، وتملك أرغون بن أبغا بن هولاكو بعده، فسار السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفى من قلعة الجبل بديار مصر إلى دمشق، فقدمها يوم السبت ثانى عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين وستمائة، ونزل بقلعتها، وألبس في تلك الليلة ألفا وخمسمائة مملوك أقبية «1» من حرير أطلس أحمر بطرز، وعلى رؤوسهم كلفتات «2» زركش، وبأوساطهم حوايص «3» ذهب، وأشعل بين يديه ألفا وخمسمائة موكبية كبيرة بيد كل منهم شمعة، واستدعى عبد الرحمن ورفقته وأدوا رسالة أحمد أغا، وعادوا إلى موضعهم، ثم استدعاهم واستعاد كلا منهم ثانيا، وردهم إلى مكانهم، وأحضرهم مرة ثالثة، وسألهم عن أشياء، ثم أخبرهم بقتل من أرسلهم، وقيام أرغون من بعده وأعادهم إلى قاعة رضوان، ثم نقلها؟؟ منها، وأخذ ما معهم، ومن جملته: مسبحة لؤلؤ قيمتها مائة ألف درهم، وشىء كثير ما بين ذهب ولؤلؤ، واعتقلوا حتى مات عبد الرحمن في ثامن عشر شهر رمضان، ونقل ابن التيتى إلى قلعة الجبل. وفي سنة إحدى وتسعين وستمائة ركب السلطان صلاح الدين خليل بن قلاوون من قلعة؟؟ الجبل إلى دمشق، ثم خرج منها في ليلة الثلاثاء تاسع شوال بعد ما رسم لجميع أهل الأسواق أن يخرج كل واحد منهم وبيده شمعة موكبية قد أشعلت فامتثلوا ذلك، ووقفوا من باب النصر إلى مسجد القدم، فعندما ركب السلطان اشتعلت تلك الشموع دفعة واحدة، فسار بينها حتى نزل مخيمه؟؟. فكانت من الليالى المذكورة، والوقودات المشهورة. وفي ليلة الجمعة حادى عشر شعبان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة كان زفاف ابنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام على الأمير آنوك ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون «1» بعد ما أقام- المهم- سبعة أيام بلياليها، وحضره نساء الأمراء بأجمعهن وجلس السلطان في ليلة السابع على باب القصر من قلعة الجبل، وتقدم الأمراء على مراتبهم واحدا بعد واحد، لعرض شموعهم التى يقدمونها، فكان الأمير منهم يقبل الأرض، ويتأخر فيقدم شموعه، حتى انتهوا فكانت زنة شمعهم المحضر في تلك الليلة ثلاثة آلاف قنطار وستين قنطارا، وفي تلك الشموع ما اعتنى به، ونقش نقشا بديعا تنوع صناعه في تحسينه، وبالغوا في التأنق فيه، ثم جلس السلطان ليلة العرس، وأشعلت بأسرها بين يديه، وقد جلس ابنه آنوك تجاهه، فأقبل الأمراء وكل أمير يحمل بنفسه شمعة، ومن خلفه مماليكه تحمل بقية شمعه، ويتقدم واحد بعد واحد- على قدر رتبته- وهو يقبل الأرض، فما تم مرور آخرهم حتى مضى معظم الليل، فنهض السلطان وعبر إلى حيث مجتمع النساء، فقامت نساء الأمراء بأسرهن وقبّلن الأرض واحدة بعد أخرى، وقدمن ما أتين به من التحف الفاخرة، والنقوط، حتى انتهين، ثم قمن يرقصن عن آخرهن واحدة بعد واحدة، والمغانى تزفهن، وأنواع المال من الذهب والفضة، وشقاق الحرير تلقى على المغنيات فحصل لهن من ذلك ما يجلّ وصفه. ثم جلس السلطان من الغد، وخلع على جميع الأمراء، وبعث إلى نسائهم، كل واحدة بتعبية قماش على مقدار زوجها، فكان هذا العرس من الأعراس العظيمة، ذبح فيه من الخيل، والبقر والغنم، والأوز والدجاج ما يزيد على عشرين ألف حيوان، وعمل فيه من السكر برسم الحلوى والمشروب ثمانية عشر ألف قنطار، وكانت شورة العروس التى حملها أبوها تنكز. وذكر القاضى شهاب الدين أحمد بن القاضى محيى الدين يحيى بن فضل الله العمرى «2» فى كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» عند ذكر مدينة «ذلّة» من بلاد الهند، ما نصه: «وأما العسل فأكثر من الكثير، وأما الشمع فلا يوجد إلا في دور السلطان ولا يسمح فيه لأحد» والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 [ فصل أجود ما قيل في الشمعة ] (فصل) ومن جيّد ما قيل في الشمعة قول الموفق أبي الحجاج يوسف بن محمد بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء بمصر «1» . وصحيحة بيضاء تطلع في الدّجى ... صبحا وتشفى الناظرين بدائها شابت ذوائبها أوان شبابها ... واسودّ مفرقها أوان فنائها كالعين في طبقاتها ودموعها ... وسوادها وبياضها وضيائها ولما نزل أبو على الحسن الأعصم بن أبى منصور أحمد بن أبى سعيد الحسن بن بهرام الجنابى القرمطى «2» إلى الرملة، وقد قدم من الإحساء «3» لحرب جوهر القائد لسنة ست وستين وثلاثمائة، أحضر إليه الفراشون في بعض الليالى الشموع على العادة، فقال لكاتبه أبى نصر بن كشاجم «4» : «ما يحضرك في هذه الشموع» فقال: «إنما نحضر مجلس السيد لنسمع من كلامه، ونستفيد من أدبه، فقال الحسن بن أحمد بديها: ومجدولة مثل صدر القنا ... تعرّت، وباطنها مكتسى لها مقلة هى روح لها ... وتاج على هيئة البرنس «5» إذا غازلتها الصبا حرّكت ... لسانا من الذهب الأملس وإن رنقت لنعاس عرا ... وقطت من الرأس لم تنعس وتنتج في وقت تلقيحها ... ضياء يجلّى دجى الحندس فنحن من النور في أسعد ... وتلك من النار في أنحس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 فقام أبو نصر، وقبل الأرض واستأذن في إجارتها، فأذن له فقال: وليلتنا هذه ليلة ... تشاكل أشكال إقليدس فيا ربة العود حثّى الغنا ... ويا حامل الكأس لا تحبس فخلع عليه وعلى جميع من حضر مجلسه، وحمل إليه حلة سنية. ولله درّ الأديب مظفر بن محاسن الدلال، أحد شعراء دمشق في الأيام الناصرية يوسف بن غازى صاحب حلب، حيث يقول: كن محسنا مهما استطعت فهذه الد ... نيا وإن طالت قصير عمرها إن المآثر في الورى دراته ... يفنى مؤثّرها، ويبقى ذكرها فترى الكريم كشمعة من عنبر ... ضاءت، فإن طفيت تضوّع نشرها وما أحسن قول أبي الحسين عمر بن يعقوب الأنبارى «1» - أحد عدول بغداد- وقد رثى الوزير محمد بن محمد بن بقية، الملقب بنصر الدولة، وزير عز الدولة بختيار ابن معز الدولة أحمد بن بويه لما قتله عضد الدولة أبو شجاع فنّا خسره ابن ركن الدولة أبي الحسن بن بويه، وصلبه بقوله: علو في الحياة، وفي الممات ............... الأبيات التى لم يقل في مصلوب مثلها، فلم يزل عضد الدولة يطلبه مدة سنة حتى أتاه بأمان فقال له: «ما حملك على رثاء عدوى؟» . فقال: «حقوق وجبت، وأياد سلفت، فجاش الحزن في قلبى، فرثيت» . وكان بين يدى عضد الدولة شموع تزهر فقال: «هل يحضرك في هذه الشموع شىء» فأنشد ارتجالا: كأن الشموع وقد أطهرت ... من النار في كلّ رأس سنانا أصابع أعدائك الخائفين ... تضرّع تطلب منك الأمانا فخلع عليه، وأعطاه فرسا وبدرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وقال مجير الدين محمد بن على بن يعقوب بن تميم «1» ، وقد اجتاز ليلة بدار بعض أصحابه ومعه شمعة فطفيت، فأوقدها من داره: يا أيها المولى الشريف ومن له ... فضل يفوق به على أهل الأدب لما أزرتك شمعتى لتبرّها ... جاءت تحدث عن سراجك بالعجب وافته حاسرة فقبل رأسها ... وأعادها نحوى بتاج من ذهب وينسب لأمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف «2» ، الثانى والثلاثين من خلفاء بنى العباس أنه قال في الشمعة: وصفراء مثلى في القياس ودمعها ... سجام على الخدين مثل دموعى تذوب كما قد ذبت وجدا ولوعة ... ويحوى حشاها ما حوته ضلوعى وللمستنجد أيضا: وباخل أشعل في بيته ... فى مرّة منه لنا شمعه فما جرت من عينها دمعة ... حتى جرت من عينه دمعه «3» وقال الأديب الكاتب الناسك: فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن علىّ بن محمد بن عبد الواحد بن أبي اليمن بن عز القضاة يصف شموعا: وزهر شموع إن مددن بنانها ... لمحو سطور الليل ناب عن البدر وفيهن كافورية خلت أنها ... عمود صباح فوقه كوكب الفجر وصفراء تحكى شاحبا شاب رأسه ... فأدمعه تجرى على ضيعة العمر وخضراء يبدو وقدها فوق قدها ... كنرجسة تزهو على الغصن النضر ولا غرو أن يحكى الأزاهر حسنها ... أليس جناها النحل قدما من الزهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وقال الشريف الأديب الشاعر: أبو الحسن على بن محمد بن الرضى بن محمد ابن حمزة بن أميركا، المعروف بابن دفتر خوان الطوسى: وعجيبة تحكى بقد نخلة ... ذهبية لهبية تشكو الصدى ومقطها منها يعيد حمامة ... بيضا، ويلقيها غرابا أسودا وقال العلامة أبو الفضل أحمد بن يوسف بن أحمد التيفاشى «1» : غصن بدا من فضة ... أمسى بتبر مسمرا يجنى المقطّ وردة ... منه ويلقى عنبرا وقال الأمير سيف الدين أبو الحسن علىّ بن عمر بن قزل «2» المعروف بابن المشد: ولم أر مثل شمعتنا عروسا ... تجلت في الدجي ما بين جمع نصبناها لخفض العيش جزما ... فآذن ليلنا منها برفع كأن عقود أدمعها عليها ... سلاسل فضة أو قصب طلع وقال الأديب العارف شهاب الدين أبو الفضل محمد بن عبد المنعم بن محمد المعروف بابن الخيمى «3» الأنصارى- فأحسن ما شاء: وشمعة مزّقت ثوب الظلام بما ... بثت من النور في الأرجاء متسعا وأحرقت نارها ما مزقت فترى ... بالقسط تخرجه من ظهرها قطعا وقال مظفر بن إبراهيم بن جماعة بن على الأعمى: جاءت بجسم لسانه ذهب ... تبكي وتشكو الهوى وتلتهب كأنها في يمين حاملها ... رمح لجين لسانه ذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وقال عبد الجبار بن أبى بكر بن محمد بن حمديس أبو محمد الأزدى الصقلى «1» : قناة من الشمع مركوزة ... لها حربة طبعت من ذهب تحرّق بالنار أحشاؤها ... فتدمع مقلتها باللهب تمشى لنا نورها في الدّجى ... كما يتمشى الرضا في الغضب فأوحب لآكلة جسمها ... بروح تشاركها في العطب وقال: مصفرة الجسم وهى ناحلة ... تستعذب العيش مع تعذّبها تطعن صدر الدجى بعالية ... صنوبرىّ لسان كوكبها إن تلفت روح هذه اقتبست ... من هذه فضلة تعيش بها كحية باللسان لاحسة ... ما أردكت من سواد غيهبها وقال السرى بن أحمد الرفاء الكندى الموصلى «2» : أعددت لليل إذا الليل غسق ... وقيد الألحاظ من دون الطرق قضبان تبر عرّبت من الورق ... شفاؤها إن مرضت ضرب العنق وقال من أبيات: ولما دنا الليل فرّجته ... بروح تحيّف جثمانها بشمع أعير قدود الرماح ... وسرج ذراها وألوانها غصون من التبر قد أزهرت ... لهيبا يزيّن أفنانها فيا حسن أرواحها في الدجى ... وقد أكلت فيه أبدانها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وقال القاضى ناصح الدين أبو بكر بن محمد الأرجانى من قصيدة: نمت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للناس من فيها قلب لها لم يزل طول اللسان لها ... فى الحى يجنى عليها ضرب هاديها غريقة في دموع وهى تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظيها تنفست نفس المهجور إذا ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها يخشى عليها الرّدى مما ألمّ بها ... نسيم راح إذا وافى يحييّها بدت كنجم هوى في إثر عفرية ... فى الأرض فاشتعلت من نواصيها نجم رأى الأرض أولى أن يبوّءها ... من السماء فأضحى طوع أهليها كأنها غرّة قد سال شاذخها ... فى وجه دهماء يرهاها تجليها أو ضرّة خلقت للشمس حاسدة ... فكلما حجبت قامت تحاكيها ما طنبت قط في أرض مخيمة ... إلا وأقمر للأبصار داجيها فالوجنة الورد إلا في تناولها ... والقامة الغصن إلا في تثنيها قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجنى على الكف إن أهويت تجنيها ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت ... وما على غصنها شوك يوقيها صفر غلائلها، حمر عمائمها ... سود ذوائبها، بيض لياليها وصيفة لست منها قاضيا وطرا ... إن أنت لم تكسها تاجا يحليها صفراء هندية في اللون إن نعتت ... والقد والدين إن أتممت تشبيها فالهند تقتل بالنيران أنفسها ... وعندها أنها إذ ذاك تحييها قدّت على قدّ ثوب قد تبطنها ... ولم يقدّر عليها الثوب كاسيها أبدت إلىّ ابتساما في خلا ... وعبرتى أنا محض الحزن يمريها فقلت في جنح ليل وهى واقفة ... ونحن في حضرة جلّت أياديها لو أنها علمت في قرب من نصبت ... من الورى لثنت أعطافها تيها وقال المرتضى أبو محمد عبد الله بن القاسم بن مظفر بن على الشهرزورى «1» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 ناديتها ودموعها ... تحكى سوابق عبرتى والنار من زفراتها ... تحمى تلهب زفرتى ماذا التجنب والبكا ... ءفأعربت عن قصتى قالت: فجعت بمن هوي ... ت فمحنتى من منحتى بالنار فرّق بيننا ... وبها أفرّق حملتى وقال أيضا: إذا صال البلى وسطا عليها ... تلقته بذل في التوانى إذا خضعت تقط بحسن مس ... فتحنى في المقام بلا توانى كأنى مثلها في كل حال ... أمرت بكم، وتحبينى الأمانى وقال الفتح بن خاقان «1» فى كتاب العقيان: «ركب عبد الجليل بن وهبون وأبو الحسن غلام البكرى نهر إشبيلية في ليلة أظلم من قلب الكافر، وأشد سوادا من طرف الظبى، ومعها غلام وضىّ قد أطلع وجه البدر ليلة تمامه، على غصن بان من قوامه، وبين أيديهم شمعتان قد أزرتا بنجوم السماء، ومزقتا رداء الظلماء، وموّهتا بذهب، ونورهما لجين الماء، فقال عبد الجليل ارتجالا: كأنما الشمعتان إذ سمتا ... خدّ غلام محسّن الغيدى وفي حشا النهر من شعاعهما ... طريق نار الهوى إلى كبدى وقال غلام البكرى: أحبب بمنظر ليلة ليلاء ... تجنى بها اللذات فوق الماء فى زورق يزهو بغرة أغيد ... يختال مثل البانة الغناء قرنت يداه الشمعتين بوجهه ... كالبدر بين النسر والجوزاء والتاج فوق الماء ضوء منهما ... كالبرق يخفق في غمام سماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وكتب بعض الأدباء إلى الأفضل شاهنشاه بن أمير الجيوش بدر الجمالى، وقد أسرج الشموع على حافات النيل: أبدعت للناس منظرا عجبا ... لا زلت تحيى السرور والطربا ألفت بين ضدين مقتدرا ... فمن رأى الماء خالط اللهبا كأنما الليل والشموع به ... أفق سماء تألقت شهبا قد كان من فضة فصيّره ... توقد النار فوقه ذهبا وقال أبو الحسن على بن أبي البشر: شربنا من غروب الشمس شمسا ... مشعسة إلى وقت الطلوع وضوء الشمع فوق النيل باد ... كأطراف الأسنة في الدروع وقال الغزّى «1» : كالشمع يكبى ولا يدرى أعبرته ... من صحبته النار أو من فرقة العسل آخر: وقصب من الشمع مصفرة ... وراح مدار كلون العقيق فعشق الفراش لناريهما ... فإما حريق وإما غريق ولأبى الحسن على، المعروف بدوخلة الكاتب: لقد أشبهتنى شمعة في صبابتى ... وفي هول ما ألقى وما أتوقّع نحول وحرق في فناء ووحدة ... وتسهيد عين الاصفرار وأدمعى خاتمة المؤلف تم بحمد الله وعونه وحسن توفيقه وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الفهارس العامة 1- الآيات القرآنية 2- الأعلام 3- الأحاديث 4- القبائل 5- البلدان 6- النقود والدارهم والموازين 7- أسماء المراجع 8- الفهرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فهرس الآيات القرآنية م: الآية: الصفحة 1: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها: 190 2: إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل: 218 3: إنك من تدخل النار فقد أخزيته: 201 4: أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون: 199، 200 5: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس: 191، 192، 193 6: جنات عدن يدخلونها: 199، 200 7: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: 193 8: فلا أقسم بمواقع النجوم: 191 9: قل لا أسألكم عليه من أجر: 204 10: قل ما سألتكم من أجر: 208 11: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك: 192 12: والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم: 197 13: وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين: 172 14: واجعل لى لسان: 175 15: واذكرن ما يتلى فى بيوتكن: 186 16: وإنه لذكر لك ولقومك: 175 17: وأورثنا القوم الذين كانوا: 198 18: ورفعنا لك ذكرك: 175 19: ولا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى: 198 20: ولنسكننكم الأرض: 198 21: يا أيها النبى قل لأزواجك: 187 22: يا نساء النبى لستن كأحد من النساء: 189 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الأعلام : الصفحة: م: الأعلام: الصفحة: أبان بن سعيد: 46 2: إبراهيم الإمام: 66 3: إبراهيم بن جعفر: 46، 47 4: إبراهيم بن محمد: 20 5: إبراهيم بن مهاجر: 43 6: إبراهيم بن ميسرة: 327 7: إبراهيم بن هاشم: 23 8: إبراهيم بن يحيى: 68 9: ابن الأثير: 316 10: ابن السنى: 263 11: ابن جرير: 160، 180، 200، 12: ابن حبان: 322 13: ابن دريد: 178 14: ابن سيده: 179 15: ابن عطية: 183، 199، 200، 258 16: أبو إسحاق: 44 17: أبو البحترى: 41 18: أبو بطال: 64 19: أبو بكر الأرجانى: 341 20: أبو بكر الصديق: 29، 34 45، 46 47، 48 55، 63 64، 79 114، 324 21: أبو بكر بن أبي شيبة: 44، 260، 327 22: أبو بكر محمد بن حزم: 330 23: أبو جعفر المنصور: 69، 70 71، 72 73، 330 24: أبو الجهم بن عطية: 72 25: أبو حازم: 33، 258، 259 26: أبو حامد الغزالى: 317 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 27: أبو حنيفة النعمان: 320، 322 28: أبو الحسن الكاتب: 342 29: أبو الحسن الواحدى: 202 30: أبو داود: 311، 323 31: أبو ذر: 59 32: أبو زكريا العجلانى: 34 33: أبو سالم الجيشانى: 59 34: أبو سبرة الهذلى: 315 35: أبو سعيد الخدرى: 184 36: أبو سفيان: 14، 33 34، 47 57 37: أبو سيارة المتعى: 327 38: أبو عبيدة بن الجراح: 56 39: أبو على بن سينا الرئيس: 309 40: أبو عيسى الترمذى: 320 41: أبو العباس القرطبى: 185 42: أبو قحافة: 34 43: أبو مسلم الخراسانى: 66، 67 44: أبو موسى الأشعرى: 56 45: أبو نصر كشاجم: 335 46: أبو يعلى الموصلى: 311 47: أبو يوسف القاضى: 322 48: أحمد بن حنبل: 32، 263، 323 49: أحمد بن محمد بن الحسن: 317 50: أحمد بن القاضى: 334 51: أحمد بن الموفق: 332 52: أحمد بن يوسف: 256 53: إسحاق بن راهوية: 320 54: إسماعيل بن خالد: 68 55: إسماعيل الديباج: 71 56: إسماعيل بن على: 312 57: الأسود بن سريع: 97 58: الأشجعى: 307 59: الأصمعى: 297 60: الأعصم بن أبي منصور: 335 61: أفلح بن مالك: 66 62: أنس بن مالك: 263، 311 63: الأوزاعى: 263 الباء 64: البخارى: 38، 58 59، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 259، 312 65: بختيار بن معز الدولة: 332 66: بشر بن أرطأة: 16 67: بكير بن ماهان: 66 68: البيهقى: 316 69: بنو إسرائيل: 78 70: بنو أمية: 13 71: بنو العباس: 64 72: بنو بويه الديلم: 76 73: بنو هاشم: 13، 26 68 74: بوران بنت الحسن: 330 التاء 75: الترمذي: 320 الثاء 76: الثعلبى الحفر: 185، 187 77: ثعلبة بن سلامان: 125 الجيم 78: جابر بن عبد الله: 63، 311 79: جالينوس: 309 80: جبير بن مطعم: 39 81: جذيمة بن مالك: 126 82: الجعد بن درهم: 16 83: جعفر المتوكل: 75 الحاء 84: حاتم الطائى: 248 85: حاتم بن عبد الله: 248 86: الحارث بن سعد: 324 87: الحاكم: 44، 95 314 88: حبيب بن عامر: 26 89: الحجاج بن يوسف: 244 90: حرب بن أمية: 27 91: الحسن بن أحمد: 335 92: الحسن البصرى: 272 93: الحسن بن صالح: 39 94: الحسن بن عبد الله: 54 95: الحسن النخعى: 95 96: حشرج بن نباته: 45 97: حفص بن سليمان: 72 98: الحكم بن أبى العاص: 21، 29 31، 35 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 54 99: الحكم بن أبى العباس: 51 100: الحكم بن هشام: 51 101: حمزة بن عبد المطلب: 17، 57 102: حميد بن عبد الرحمن: 14 الخاء 103: خالد بن الوليد: 54 104: خالد بن سعيد بن العاص: 46، 55 105: خالد بن يزيد بن معاوية: 56 106: خيثمة: 308 الدال 107: الدارمى: 316 108: داود كراز: 65 الزاى 109: الزبير بن بكار: 53 110: الزهرى: 50 111: زياد بن صالح: 66 112: زياد بن لبيد: 46 113: زيد بن على: 19 114: زينب بنت جحش: 61 السين 115: السدى: 39 116: سديف بن ميمون: 74 117: السرى بن أحمد الكندى: 339 118: سعد بن أبى ذباب: 324 119: سعد بن أبى وقاص: 56 120: سعد بن إياس: 132 121: سعيد بن أبى مريم: 259 122: سعيد بن جبير: 64 123: سعيد بن جهمان: 45 124: سعيد بن العاص: 46، 328 125: سعيد بن عبد العزيز: 327 126: سعيد بن القشب: 48 127: سعيد بن المسيب: 48، 63 128: سعيد بن هشام: 23 129: سفيان الثورى: 308، 328 130: سفيان بن عبد الله الثقفى: 56 131: سفيان بن معاوية: 73 132: سفينة: 45 133: سكين بن عبد العزيز: 311 134: سلمة بن وردان: 114 135: سليمان بن الأشعث: 58 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 136: سليمان بن حبيب: 56 137: سليمان بن داود عليه السلام: 55 138: سليمان بن عبد الملك: 598 139: سليمان بن كثير: 60 140: سليمان بن موسى: 326 141: سيبويه: 87 142: سهل بن سعد: 258 143: سيف الدين تنكز: 334 144: سيف الدين قلاوون: 333 الشين: 267 145: شاهنشاه بن أمير الجيوش: 56 146: شرحبيل بن حسنة: 55 147: شرحبيل بن عمرو بن مالك: 148: الشعبى: 50 149: شيبان بن فروخ: 311 الصاد 150: صالح بن أبى الأسود: 263 151: صلاح الدين بن قلاوون: 333 152: صخر بن حرب: 14، 33 34، 47 57 153: صدقة بن عبد الله: 321 الضاد 154: الضحاك بن مزاحم: 36 الطاء 155: طاووس بن كيسان: 305 156: طرفة بن حاجب: 55 157: طلحة بن خويلد الأسدى: 55 العين 158: العباس بن عبد المطلب: 15، 33 50 159: العاص بن وائل: 48 160: عامر بن وائل: 48 161: عامر بن سعيد: 59 162: عبد الجبار بن حمد: 339 163: عبد الحق بن عطية: 258 164: عبد الرحمن بن سليمان: 96 165: عبد الرحمن الشيرازى: 332 166: عبد الرازق بن همام: 34 167: عبد الغنى بن أبى عقيل: 113 168: عبد الله بن الزبير: 33، 34 169: عبد الله بن زحر: 58 170: عبد الله بن زياد: 30 171: عبد الله بن عباس: 30، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 311 172: عبد الله بن عمر: 95، 96 312، 321 173: عبد الله بن عمر الجعفى: 95 174: عبد الله بن عمرو: 315 175: عبد الله بن كعب: 49 176: عبد الله بن المبارك: 34 177: عبد الله بن محرز: 327 178: عبد الله بن محمد بن على: 69 السفاح 179: عبد الله بن مسعود: 305 180: عبد الله بن مسلم بن قتيبة: 250، 280، 324 181: عبد الله بن المقفع: 73، 74 182: عبد الله بن هارون الرشيد: 331 183: عبد الله بن هولاكو: 79 184: عبد المطلب بن ربيعة: 60 185: عبد المطلب بن هاشم: 29 186: عبد الملك بن جريج: 250، 327 187: عبد المؤمن بن على القيس: 329 188: عتاب بن أسيد: 21 189: عتبة بن أبي ربيعة: 31 190: عثمان بن أبى العاص: 51، 69 191: عثمان بن عفان: 24، 29 35، 37 39، 48 79 192: عرفجة بن هرثمة: 55 193: عروة بن محمد: 327 194: عطاء الخراسانى: 323 195: عقال بن شيبة: 69 196: عقيل بن أبى طالب: 17، 38 197: عكرمة بن أبى جهل: 54، 55 198: على بن أبى طالب: 14، 16 24، 32 49، 50 52، 63 81، 304، 321 199: على بن عبد: 58 200: عمار بن ياسر: 57 201: عمارة بن زرعة: 58 202: عمر بن عبد العزيز: 68 203: عمرو بن حزم بن زيد: 41 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 204: عمرو بن الحمق: 29 205: عمرو بن سمعة: 260 206: عمرو بن شعيب: 324، 327 207: عمرو بن عثمان بن عفان: 53 208: عمرو بن العاص: 42، 55 209: عون بن عبد الله بن جعفر: 20 210: عوف بن مالك: 307 الغين 211: الغزى: 342 212: غلام البكرى: 341 الفاء 213: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: 50 214: فاطمة بنت الحسن: 50 215: الفتح بن خاقان: 341 216: الفضل بن الربيع: 74 217: الفضل بن العباس: 60 218: فناحسرو بن ركن: 336 القاف 219: القرطبى: 257، 258 220: قرة بن كعب: 79 221: قصى بن كلاب: 24 222: قطر الندى بنت الأمير: 332 223: قيس بن عدى: 33 224: قيس المكشوح: 55 الكاف الكواشى: 256 اللام 226: لاهز بن قريط: 65 الميم 227: المأمون: 74 228: المتوكل جعفر بن محمد: 331 229: المستكفى عبد الله المتكفى: 76 230: المستنجد بالله أبى المظفر: 337 231: المغيرة بن شعبة: 56 232: المهاجر بن أمية: 46، 47 233: مجاهد بن جبير: 247، 249، 305، 311، 312 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 234: محمد بن إبراهيم: 71 235: محمد بن إسحاق: 40 236: محمد بن إسماعيل البخارى: 38 237: محمد بن الحنفية: 31 238: محمد الديباج: 71 239: محمد بن السائب الكلبى: 272 240: محمد بن الصاحب: 53 241: محمد بن بقية: 332 242: محمد بن شهاب: 38، 39 114 243: محمد بن على الترمذى: 311، 314 244: مروان بن الحكم: 30، 54 245: مروان الحمّار: 97 246: مروان بن محمد: 43، 67 247: مسلم بن الحجاج: 60، 313 248: مسلم بن عقيل: 17 249: مسلمة بن عبد الملك: 67 250: مسيلمة بن ثمامة: 55 251: مطعم بن عدى: 42 252: مظفر بن إبراهيم بن جماعة: 338 253: مظفر بن محاسن: 336 254: معاذ بن جبل: 46 255: معاوية بن المغيرة: 21، 35 256: معمر بن راشد: 47 257: معن بن عيسى: 114 258: مكحول الدمشقى: 326 259: موسى بن سيار: 320 260: موسى بن عقبة: 40 النون 261: النعمان بن بشير: 314 262: نافع: 328 263: النحاس: 306 264: النسائى: 322 265: نصر بن سيار: 65 266: نعيم بن حماد: 321 الهاء 267: هارون الرشيد: 74 268: هاشم: 24، 26 78 269: هانىء بن عروة: 17 270: هشام بن عبد الملك: 23، 44 271: هلال بن مرة: 326 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 الواو 272: الواحدى: 256 273: وكيع بن الجراح: 52 الياء 274: يحيى بن بكير: 38، 114 275: يزيد بن أبى سفيان: 56، 57 276: يزيد بن الحباب: 260 277: يزيد بن معاوية: 67 278: يعقوب بن إسحاق: 78 279: يعقوب بن عبد الرحمن: 258 280: يعلى بن منبه: 56، 57 281: يوسف بن محمد الخلال: 335 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 فهرس الأحاديث م: الحديث: الصفحة 1: اتقى الله يا فاطمة وأدى فريضة ربك: 59 2: أجعلتني لله ندا: 96 3: أد منه العشر: 327 4: إذا أخذتما مضاجعكما: 58 5: إذا أراد الله بعبده خيرا عسله: 260 6: إذا بلغ بنو هذا أربعين رجلا ملكوا: 51 7: إذا بلغ ولد الحكم ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا: 53، 54 8: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: 249 9: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من سبع: 249 10: اسقه عسلا: 313 11: اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد: 94 12: أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون: 100 13: أشرف لباسها لعاب دودة (موقوف) : 304 14: أشهد أن رسول الله لعن أباك: 30 15: أغيظ رجل عند الله رجل تسمى ملك الأملاك: 101 16: أفضل الأعمال أحمزها: 109 17: الأئمة من قريش: 14 18: اللهم اجعل خير عمرى آخره: 263 19: اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا: 58 20: اللهم زدنا ولا تنقصنا: 314 21: اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد: 94 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 22: أليس ابن المخزومية: 51 23: أنا وبنو عبد المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام: 39 24: أنا وهم لم نزل فى الجاهلية ولا الإسلام: 40 25: إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بشاهان شاه: 101 26: إن أدّوا إليك ما كانوا يؤدون إلى النبى صلى الله عليه وسلّم فاحم لهم: 324 27: إن الله لا يحب الفاحش والمتفحش: 315 28: إن آمن الناس علىّ فى صحبته وماله أبو بكر: 63 29: إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس: 259 30: إن رجالا من فهم كلمونى فى خلاياهم (موقوف) : 323 31: إن الزنابير كلها فى النار: 311 32: إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة: 259 33: إن العالم يستغفر له من فى السموات ومن فى الأرض: 111 34: إن كان فى شىء من أدويتكم: 313 35: إن مثل المؤمن كمثل النحلة: 315 36: إن معاوية أصبح قريبا لم ينفذ: 35 37: إن ملكت يا معاوية فأحسن: 52 38: إن مما تذكرون من جلال الله: 314 39: إن من شرار الناس من تدركهم الساعة: 93 40: إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد: 76 41: أنت أبرأ الناس: 61 42: أنت يعسوب المؤمنين: 306 43: إنما بنو عبد المطلب وبنو هاشم شىء واحد: 37 44: إنهم مجوس هذه الأمة: 92 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 45: إنى لأعطى الرجل وغيره أحب منه: 59 46: أول نعمة تقع في الأرض العسل: 318 47: ايتونى بماء (موقوف) : 307 48: جاء هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له: 324 49: خذ منه العشر (موقوف) : 325 50: الخلق عيال الله: 110 51: الذباب كله فى النار إلا النحل: 312 52: رأيت فى النوم بنى الحكم أو بنى أبى العاص: 52 53: رأى النبى بنى أمية على منابرهم: 52 54: الشفاء فى ثلاثة: 313 55: صدق الله وكذب بطن أخيك: 309، 313 56: عرض على ربى ليجعل لى بطحاء مكة ذهبا: 58 57: عرف الحق لأهله: 96 58: العسل شفاء من كل داء (موقوف) : 308 59: عليكم بالشفاءين: القرآن والعسل: 308 60: عمر الذباب أربعون ليلة: 312 61: فى العسل فى كل عشرة أزق زق: 320 62: قد أتانى كتابك وقديما غرك يا أحمق: 33 63: كن كذلك: 28 64: كونوا فى الناس كالنحلة (موقوف) : 316 65: كيف ترى جعيلا: 59 66: لتتبعن سنن الذين من قبلكم: 81 67: لتتبعن سنن من قبلكم: 81 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 68: لعداوتك لله ولرسوله: 27 69: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد: 93 70: لعن الله زوارات القبور: 93 71: لم أومر فيها بشىء (موقوف) : 328 72: لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله: 59 73: لو كنت متخدا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا: 63 74: ما كان منه فى السهل ففيه العشر: 325 75: مثل بلال مثل النحلة: 315 76: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا: 259 77: من أنفق زوجين فى سبيل الله: 114 78: من حلف بغير الله فقد أشرك: 96 79: من شهد اليوم جنازة: 113 80: من صام اليوم: 13 81: من عاد اليوم مريضا: 13 82: من لعق العسل ثلاث غدوات كل شهر: 314 83: الماء من الماء: 270 84: المؤمن كالنحلة تأكل طيبا: 310 85: نجده محمد بن عبد الله يولد بمكة ويهاجر إلى طيبة (موقوف) : 316 86: نعم إنه وطىء على عنقى: 28 87: نهى عن قتل أربع من الدواب: 311 88: هل منكم أحد اتبع اليوم جنازة؟: 113 89: هل منكم أحد أطعم اليوم مسكينا: 113 90: والله لأقتلنك: 28 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 91: ويل لأمتى مما فى صلب هذا: 29 92: والله إنى لأعطى الرجل وأدع الرجل: 59 93: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقى: 100 94: ويلك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله: 33 95: لا تقتلن أولادكن: 32 96: لا عليكم أن لا تعجلوا بحمد أحد حتى تنظروا بما يختم له: 260 97: لا ينبغى لأحد أن يسجد لأحد: 95 98: يا معاذ والله إنى أحبك: 104 99: يا معشر قريش إن هذا الأمر لا يزال فيكم: 77 100: يؤخذ من العسل العشر: 327 101: يقول الله عز وجل: العظمة إزارى والكبرياء ردائى: 100 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فهرس القبائل م: اسم القبيلة: الصفحة 1: البربر: 148 2: الرواشدة: 150 3: السلاجقة: 166 4: الشواكرة: 134 5: المروانية: 124 6: بلى بن عمرو: 135 7: فزارة بن ذبيان: 144 8: هلباء سويد: 131 9: هوازن بن منصور: 151 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 فهرس البلدان م: اسم البلد: الصفحة 1: إخميم: 134 2: أسوان: 134، 143 3: أشمون: 134 4: أطفيح: 149 5: إهريت: 147 6: البهنسا: 146 7: الجيزة: 146، 168 8: الحوف: 130 9: العلاقى: 142 10: المحمدية: 165 11: اليمامة: 142 12: الأنبار: 162 13: ببا: 149 14: بلبيس: 142، 151 15: بوش: 149 16: جرجا: 137 17: جهينة: 134، 136 18: حلوان: 149 19: دير الطين: 149 20: زفتى: 132 21: سفط: 147 22: سملوط: 140 23: سوهاى: 135 24: سيوط: 134 25: طوخ: 136 26: عزة: 127 27: عيذاب: 135 28: فاقوس: 133 29: فرشوط: 136 30: فسطاط: 141، 151 31: قمولة: 135 32: مرو: 165 33: منفلوط: 134، 140 34: منوف: 147، 149 35: منية غمر: 132 36: واسط الحجاج: 164 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 فهرس النقود والدراهم والموازين م: الحديث: الصفحة 1: البغلية: 157 2: البندقية: 171 3: الجريب: 160 4: الجواز: 157 5: الجواقية: 157 6: الحموية: 171 7 الرطل: 158، 163 8: السكة: 161، 162 9: السميرية: 161 10: الصاع: 163، 164 11: الفلوس: 173 12: القدح: 163 13: القفيز: 160 14: الكسروية: 160 15: المؤيدية: 171 16: النوروزية: 171 17: الهبيرية: 164 18: جريب: 166 19: دينار: 158 20: سود واقية: 158 21: طبرية: 158 قيراط: 158 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 ثبت بالمراجع 1- القرآن الكريم 2- صحيح البخارى 3- صحيح مسلم 4- سنن أبى داود 5- سنن النسائى 6- سنن ابن ماجه 7- سنن الترمذى 8- البداية والنهاية- ابن كثير- طبع دار الحديث 9- معجم قبائل العرب- عمر رضا كحالة- مؤسسة الرسالة 10- القاموس المحيط- الفيروزآبادى- مؤسسة الرسالة. 11- المعجم الوجيز- مجمع اللغة العربية 12- المعجم العربى الأساس- مؤسسة لاروس 13- المخصص- ابن يده- دار الكتب العلمية 14- مختار الصحاح- الرازى- دار المنار 15- الأعلام- خير الدين الزركلى- دار العلم للملايين 16- الضوء اللامع- السخاوى- دار الجيل 17- شذرات الذهب- لابن العماد الحنبلى- دار الكتب العلمية 18- معجم البلدان- ياقوت الحموى- دار صادر 19- نهاية الأرب- النويرى 20- صبح الأعشى فى صناعة الإنشى- القلقشندى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 21- حياة الحيوان- كمال الدين الدميرى- دار الكتب العلمية 22- الفرق بين الفرق- البغدادى 23- مروج الذهب ومعادن الجوهر- المسعودى 24- وفيات الأعيان- ابن خلكان 25- معجم الأدباء- ياقوت- دار صادر 26- مقالات الإسلاميين- الأشعرى 27- جلاء الأفهام- ابن القيم 28- معالم السنن- الخطابى 29- الإعلام بقواطع الإسلام- ابن حجر 30- زاد المعاد- ابن القيم الجوزية 31- التفسير القيم- ابن القيم 32- مدارج السالكين- ابن القيم 33- طبقات الحفاظ- للسيوطي. 34- تذكرة الحفاظ- الذهبى. 35- شرح صحيح مسلم- النووي. 36- مجمع البحرين- حسن الصغانى. 37- صحاح اللغة- الجوهرى. 38- لسان العرب- ابن منظور. 39- المزهر- جلال الدين السيوطى. 40- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع. 41- النجوم الزاهرة- ابن تعزي بردي. 42- التعريفات- الجرجانى. 43- الجامع لمفردات الأودية- ابن البيطار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 44- الملل والمنحل- الشهرستانى. 45- أحكام القرآن- لابن العربى. 46- هدية العارفين- إسماعيل باشا البغدادى. 47- الدرر الكامنة- ابن حجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 الفهرس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467