الكتاب: حياة الحيوان الكبرى المؤلف: محمد بن موسى بن عيسى بن علي الدميري، أبو البقاء، كمال الدين الشافعي (المتوفى: 808هـ) الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة: الثانية، 1424 هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- حياة الحيوان الكبرى الدَّمِيري الكتاب: حياة الحيوان الكبرى المؤلف: محمد بن موسى بن عيسى بن علي الدميري، أبو البقاء، كمال الدين الشافعي (المتوفى: 808هـ) الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة: الثانية، 1424 هـ عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] الجزء الأول بسم الله الرّحمن الرّحيم المقدّمة عصر «1» المؤلف أولا: عاش المؤلف كمال الدين الدّميري، في عصرين متجاورين، هما عصر دولة المماليك البحرية والمماليك البرجية، وقد عاصر من سلاطين الفترتين اثني عشر سلطانا ابتداء من عهد الملك الصالح إسماعيل بن محمد بن قلاوون الذي تقلد السلطنة سنة 743 هـ حتى 745 هـ، وانتهاء بالملك الناصر فرج بن برقوق المتوفى سنة 814 هـ. الحال السياسية: وإذا كانت الفترة الأولى قد تميّزت بنوع من الاستقرار السياسي، خصوصا في بداياتها أيام بيبرس وقلاوون وابنه حسن، فإن هذا الأمر لم يكن متاحا دائما في الدولة الثانية، ولو أن العصر شهد سلاطين أقوياء مثل برقوق، وبرسباي، وغيرهما. ولكن الاضطرابات الداخلية لم تتوقف طيلة العصر، بسبب الشهرة إلى السلطة والتنافس عليها والحسد، وكثيرا ما كان يثور حاكم المنطقة ضد سلطانه، وكذلك القواد وكبار الأمراء، وكان الاستيلاء على السلطة في أي وقت أمر متاح للقادة الكبار في الجيش لأن السلطة شبه عسكرية، مركزية، والقواد العسكريون، يتمتعون بنفوذ واسع. والخليفة لا يملك إلا الاسم والتوقيع فحسب. وكذلك عامة الناس كانوا أبعد ما يكونون عن المتغيرات السياسية، وهم الذين يتحملون أوزار الانقلابات العسكرية والثورات دائما. الحروب والأوضاع العسكرية: خاض المماليك، في الدولة البحرية، ومنذ قيامها، حروبا عدة مشرفة، كان أولها معركة عين جالوت سنة 662 هـ التي أوقفت الزحف المغولي ووضعت له حدا، بل تراجع المغول بعد تلك المعركة منهزمين نحو الشرق، وتوالت المواجهات بعد ذلك، أيام الظاهر بيبرس الذي أمضى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 سبعة عشر عاما، وهي مدة سلطنته، مجاهدا مقاتلا ضد الصليبيين والمغول، واستطاع أن يحرر الكثير من المواقع التي احتلها الفرنجة على سواحل الشام. والواقع إن هذه الفترة من حكم المماليك قد انقذت ما تبقى من بلاد الإسلام، وتصدت بشجاعة للغزوين المغولي والصليبي. وقد أعاد السلطان الظاهر بيبرس الخلافة العباسية إلى سابق مجدها وجعل القاهرة مقر الخلافة بعد سنة 656 هـ حيث سقطت بغداد بأيدي المغول، واستمر الوضع العسكري على هذا المنوال في الدولة الثانية، حيث كان الفرنجة يحاولون النزول على سواحل الشام أو مصر بين وقت وآخر، فكانوا يتصدون لهم، وببسالة، حتى إن برسباي تعدى ذلك إلى أن غزا قبرس وأسر ملكها وغنم الغنائم العظيمة. أما الحجاز، أيام الدولة الثانية، فكان يخضع للسلطة المركزية، في القاهرة، وكان السلاطين، يتدخلون عند الضرورة، لفض النزاعات على الحكم في مكة وما يليها. كما امتدت سلطة الدولة المملوكية إلى اليمن والسواحل الشرقية لشبه الجزيرة العربية. الحال الاجتماعية: إن التنافس على السلطة، والمعارك الجانبية التي كانت تشب هنا وهنالك في مصر والشام، بالإضافة إلى المواجهات العنيفة ضد المغول ومن بعدهم الفرنجة الصليبيين، كانت تستنزف الطاقات المالية والاقتصادية في مصر، مما دفع الكثير من الملوك لفرض ضرائب جديدة كلما دعت الحاجة، مما أثقل كاهل الناس، خصوصا في مصر. ولم يقتصر الأمر، على الإنفاق الحربي، لكن اشتركت عوامل أخرى في تعقيد الأحوال المعيشية، من ذلك: الطاعون «1» والأوبئة الأخرى التى كانت تتفشى من وقت لآخر فيذهب آلاف الناس ضحية لذلك، وبالتالي ينعكس الأمر سلبا على البلاد لفقدان الأيدي العاملة في الزراعة وفي الحرف الأخرى، وأكثر ما يلاحظ ذلك في الدولة الثانية، حيث تفاقمت الضرائب «2» ، وازدادت المصادرات، وتغلب الجند على مقدّرات البلاد والعباد، وكثرت ثورات الأعراب، خصوصا في صعيد مصر. ويضاف على ذلك، ما كان يسببه انخفاض النيل من أزمة في ري المزروعات فتقل المواسم وترتفع الأسعار، ويكثر السلب والنهب والمصادرات. أما طبقات الشعب، فكانت الطبقة الحاكمة، طبقة المماليك السلاطين، والأمراء، والجنود ومعظمهم كانوا يتحدرون من أصول غير عربية، وبعضهم لم يكن يتكلم العربية. وعامة الشعب، وتنقسم إلى تجار متوسطي الحال، والسواد الأعظم من الناس من المزارعين والفقراء. الحال الثقافية: إن الأوضاع السياسية، غير المستقرة، والأحوال الاقتصادية المتدهورة، والحروب التي لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 تكاد تتوقف، حتى تشتعل في غير مكان، كل ذلك كان عائقا في وجه أي نهضة علمية شاملة، ولم يكن من السهل تخطي ذلك الواقع، خصوصا وأن بغداد عاصمة العلم والحضارة في المنطقة كلها قد سقطت وضاع بسقوطها تراث أجيال، في العلوم المختلفة، وتشتت أهل العلم، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من هام على وجهه ينشد الأمن والنجاة، وكان لحسن حظ بعضهم أن يمموا شطر مصر، فأفادوا منها وأعطوها من غزير علومهم، وبذلك تحوّلت الحركة العلمية إلى القاهرة فتوافد أهل العلم من جميع الأقطار الإسلامية، والعربية، إلى عاصمة الخلافة، نظرا لما تحتله هذه العاصمة من مكانة في قلوب أهل الإسلام باعتبارها ترفع راية الجهاد ضد قوى الطغيان والغزو، فضلا عن الرعاية التي لقيها أهل العلم في العهود المختلفة وفي الدولتين. ورعاية المماليك للعلم والعلماء، تتمثل بإقامتهم للمدارس، وقد اوقفوا لها الأوقاف، واجروا الرواتب على المعلمين والمتعلمين، واهتموا بالمساجد، فعينوا لها الخطباء والأئمة حتى غدت هي أيضا مراكز علمية مشعة، فمن المساجد التي لعبت دورا بارزا في النهضة، الجامع الأزهر وقد ساهم في إحياء العلوم المختلفة، علوم اللغة والطب والرياضيات والموسيقى والحديث النبوي وعلوم القرآن وغير ذلك من علوم العصر، ومن المساجد التي لعبت الدور نفسه، جامع العطارين بالاسكندرية، وجامع دمياط، وجامع اسيوط، وقوص، وقفط. كما رعى السلاطين المدارس الدينية التي كانت تدرس الفقه على المذاهب الأربعة، وجامع عمرو بن العاص الذي كان يضم أربعين حلقة. ومن الجدير بالذكر، أن ديوان الإنشاء كان من المؤسسات التي ساهمت في الإبقاء على العربية كلغة للتأليف والكتابة، باعتبار أن هذا الديون، هو الأكثر نشاطا في حقل الكتابة، فهو السجل الرسمي للدولة وفيه تدون كافة الوثائق الصادرة، والواردة، وكان يقوم بذلك كتاب أدباء بلغاء عملوا على إغناء العربية بأساليبهم الرفيعة، ولو طغى عليها بعض التصنع في بعض الأحيان. ولا يفوتنا أن ننوه بما كان للقضاء من دور مميز، هو الآخر، حمل عبئا غير قليل في التّمكين للعربية ولأساليب التعبير من خلال ما يدونه القضاة من عهود ومواثيق وأحكام. ونظرا لما تقدم، فباستطاعتنا أن نرصد مئات الأعلام، علماء وأدباء، فمن المؤرخين أبو المحاسن، يوسف بن تغري بردي المتوفى سنة 874 هـ، وشمس الدين السخاوي المتوفى سنة 902 هـ، وتقي الدين المقريزي المتوفى سنة 845 هـ. وابن إياس المتوفى سنة 930 هـ. وفي اللغة والأدب: جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ والذي تعد مؤلفاته بالعشرات في كل علم وفن: في التفسير والحديث والفقه واللغة والنحو، وابن تيميه المتوفى سنة 728 هـ. ومن الجدير بالذكر أن أهل السلطة كانوا يقربون أهل المعرفة والأدب، ولكنهم تشددوا مع المنحرفين عن الدين، ومع أهل الفلسفة، ومن أهل الفلسفة التفتازاني سعد الدين، وعبد الرحمن الإيجي ونصير الدين الطوسي، وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وقد تنافس أهل العلم في اقتناء الكتب وجمعها، حتى ليقال إن نجم الدين بن حجي «1» ترك بعد وفاته ثلاثة آلاف مجلد من الكتب النفيسة. وذكر المقريزي، في القاهرة وحدها أربع عشرة مكتبة عامة. ولم تكن دمشق تقل شأنا في هذا المجال، وعرف فيها من المدارس العمرية والناصرية، وخزانة للكتب. وفي حلب عرفت نهضة علمية، تمثلت بعدد المدارس التي كانت فيها حتى اجتياح تيمور لنك لها سنة 803 هـ. إذ بلغ عدد مدارسها ثلاثمائة مدرسة، دمرها الغزو المغولي في ذلك الوقت، ولكن نشأت مدارس أخرى منها: الشعبانية، والعثمانية، والمنصورية، والخسروية «2» ، وكانت لها أوقاف جارية. وعلى وجه العموم، فإن العصر المملوكي، بفترتيه، عرف نشاطا ثقافيا ملحوظا، في سائر العلوم والفنون، للأسباب التي أشرنا إليها حتى عدّت المؤلفات بعشرات الآلاف في مدة زمنية لم تتجاوز ثلاثمائة عام، تعاقب خلالها على الحكم سلاطين أشدّاء، وجهوا همهم إلى الحرب والجهاد، ولكنهم لم يغفلوا أبدا عن تشجيع العلوم وتقريب العلماء، فلا يخلو عصر أحد منهم من بناء جامع أو مدرسة، أو مكتبة كما فعل قلاوون، وابنه الناصر، والملك الظاهر جقمق، وبيبرس وقايتباي وقانصوه الغوري. وبعضهم كان مثقفا كالمؤيد شيخ الذي كان «يركز الفن وينظم الشعر، وله أشياء كثيرة من الفن دائرة بين المغنين الآن» «3» . ترجمة المؤلف «4» اسمه ونسبه: محمد بن موسى بن عيسى بن علي الكمال أبو البقاء، الدّميري الأصل، القاهري الشافعي. كان اسمه كمالا بغير إضافة، وكان يكتبه كذلك بخطه في كتبه ثم تسمّى محمدا، وصار يكشط الأول، وكأنه، لتضمنه نوعا من التزكية مع هجر اسمه الحقيقي. نشأته وشيوخه: ولد في القاهرة سنة 742 هـ، وتكسّب بالخياطة، ثم أقبل على العلم، فسمع جامع الترمذي على مظفّر الدين العطار المصري، وعلى علي بن أحمد العرضي الدمشقي. كما سمع بالقاهرة من عبد الرحمن بن علي الثعلبي، ومن محمد بن علي الخزاوي: كتاب «الخيل» للحافظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 شرف الدين الدمياطي عنه. كما سمع «العلم» للمرهبي، ومن غيرهما شيوخهما. وفي مكة المكرمة، سمع من الجمال محمد بن أحمد بن عبد المعطي: صحيح ابن حبّان، وغير ذلك. وسمع فيها سنن ابن ماجه، ومسند الطيالسي، ومسند الشافعي، ومعجم ابن قانع، وأسباب النزول للواحدي، والمقامات الحريرية وغير ذلك، على كمال الدين محمد بن عمر بن حبيب الحلبي. وممن أخذ عنهم الشيخ بهاء الدين أحمد بن الشيخ تقي الدين السّبكي، وقد أجاز له النويري أبو الفضل كمال الدين بالفتوى والتدريس بناء على طلب السبكي. ومن شيوخه في الفقه جمال الدين عبد الرحيم الإسنائي، وفي الأدب الشيخ برهان الدين القيراطي. مؤلفاته: وقد برع الدميري، في التفسير والحديث والفقه وأصوله، والعربية والأدب، وله تصانيف في العلوم المختلفة منها: 1- الديباجة، في شرح سنن ابن ماجه، وهو في خمس مجلدات. 2- النجم الوهّاج، في شرح المنهاج للنواوي. 3- حياة الحيوان الكبرى، وقد اختصره التقي «1» الفاسي سنة 822 هـ. 4- أرجوزة في الفقه. 5- التذكرة. 6- شعر ونظم. 7- مختصر شرح لامية العجم للصفدي. سيرته وطلابه: كان خيّرا عابدا، صائما، وكان تصدى للتدريس والإفتاء في أماكن كثيرة من القاهرة منها: الجامع الأزهر وكانت له حلقة ودرس أسبوعي. ودرّس الفقه في القبّة من خانقاه بيبرس بالقاهرة. من أهم تلاميذه، الذين أخذوا عنه الحديث التقي الفاسي، في مصر والإمام صلاح الدين خليل بن الأقفهي، في مكة المكرمة. وقد ذكّر ووعظ في مدرسة ابن البقري، وجامع الظاهر بالحسينية، كما درّس وأفتى أثناء مجاوراته في مكة المكرمة، وكان نزلها لأول مرة سنة 762 هـ، فجاور ثم حج وكرر ذلك مرارا وتزوّج ورزق اولادا، وكان حجه الأخير سنة 800 هـ، وانصرف من حجه ذلك إلى القاهرة حيث مات فيها سنة 808 هـ، ودفن في مقابر الصوفية بسعيد السعداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 منهج المؤلف إن الدميري، قد رتّب كتابه على حروف المعجم، وضمنه من أسماء الحيوانات ما تنامى إلى سمعه، ومن مصادر كثيرة ومختلفة تتراوح ما بين كتب يونانية وعربية قديمة أو ما كان قريبا لعهد المؤلف، الذي اطلع على تلك الكتب، المتخصصة في عالم الطب والحيوان، ووعى ما فيها، ونقّحها، وطرح جانبا ما لم يقتنع به، وأقرّ ما رأى عليه إجماعا لدى العلماء، ومع حذره الشديد، فإنه قد أبقى على معلومات كثيرة، غريبة وعجيبة، ولكنه نقلها على ذمة أصحابها وناقليها، فأيّد كل مروياته بإسنادها إلى رواتها، بالتسلسل المعروف وصولا إلى المنشإ الأساس، ولم يفته أن يرد، حيث يقتضي الأمر، على الأغاليط. أما طريقته في عرض المعلومات، فإنه يبدأ بوصف الحيوان، بعد أن يضبط اسمه ضبطا تاما بالشكل، ويعرّف بالأصل اللغوي له، ويقدم بعد ذلك عرضا لبعض الأخبار والمرويات التي تدل على طبائع ذلك الحيوان، وفي هذا الإطار يستحضر طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة، والآيات القرآنية الكريمة التي لها علاقة بالموضوع، فضلا عما جاء حوله من أشعار قديمة، وأمثال وحكم. ثم يورد ما قاله الفقهاء في شأن الحيوان المذكور من حيث الحكم الشرعي في أكله أو عدمه، يؤيد ذلك بالأقوال المختلفة، وبأحاديث نبوية وآيات كريمة، وينتهي إلى ذكر الخواص الطبية من المنافع والمضار من لحم ذلك الحيوان أو غيره. منهج التحقيق اعتمدت في تحقيق الكتاب، الطبعة المصرية، التي توزعها مكتبة محمود توفيق الكتبي بمصر، وهي طبعة قديمة، لا تخلو من الأخطاء، وتقع في مجلدين كبيرين، وصفحاتها كبيرة يزيد عدد الأسطر في كل صفحة على ثلاثين سطرا، وعدد كلمات كل سطر يتراوح ما بين خمس عشرة إلى عشرين كلمة. ولقد قمت بضبط نصوص الكتاب، بوضع علامات الوقف، والحركات المناسبة في أواخر الكلمات حيث يلزم. ثم حددت بدايات: للمقاطع والفقرات، وانتقلت بعد ذلك إلى تحقيق الكتاب، بتخريج الأبيات الشعرية من مصادرها في الدواوين، وفي أمهات كتب الأدب والتاريخ، وخرّجت الآيات، والأحاديث النبوية ما أمكنني، ولم اهتد إلى بعض الأحاديث فتركتها، ولم أشر إلى ذلك. كما خرّجت أمثال الكتاب، وعرّفت بأعلامه وخصوصا الشعراء، بإشارات سريعة، ولم اتوقف على الدقائق، والتفاصيل لغير حاجة. وبعد، فإن ما قمت به، ما هو إلا محاولة متواضعة، أرجو أن أكون قد وفقت في مسعاي، لإخراج هذا الكتاب في حلة جديدة تليق به، داعيا المولى عز وجل أن ينفعنا به، إنه سميع مجيب. والله الموفق أحمد حسن بسج بيروت في 17 جمادى الأولى 1414 هجرية الموافق 1/11/1993 رومية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي شرف نوع الإنسان، بالأصغرين: القلب واللسان، وفضله على سائر الحيوان بنعمتي المنطق والبيان، ورجحه بالعقل الذي وزن به قضايا القياس في أحسن ميزان، فأقام على وحدانيته البرهان. أحمده حمدا يمدنا بمواد الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي لا يدرك كنه ذاته بالحدود والرسوم ذوو الأذهان، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المخصوص بالآيات البينات كل البيان، صلّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه، صلاة وسلاما يدومان ما دام الملوان، ويبقيان في كل زمان وأوان. وبعد، فهذا كتاب لم يسألني أحد تصنيفه، ولا كلفت القريحة تأليفه، وإنما دعاني إلى ذلك أنه وقع في بعض الدروس، التي لا مخبأ فيها لعطر بعد عروس، ذكر مالك الحزين والذيخ المنحوس، فحصل في ذلك ما يشبه حرب البسوس، ومزج الصحيح بالسقيم، ولم يفرق بين نسر وظليم، وتحككت العقرب بالأفعى، واستنت الفصال حتى القرعى، وصيروا الأروى مع النّعام ترعى، وقضوا باجتماع الحوت والضب قطعا، واتخذ كل أخلاق الضبع طبعا، ولبس «1» جلد النمر أهل الإمامة، وتقلدها الجميع طوق الحمامة. والقوم إخوان وشتى في الشيم ... وقيل في شأنهم: اشتدي زيم «2» وظن الكبير أنه «أصدق من القطا «3» وأن الصغير كالفاختة غلطا، وصار الشيخ الأفيق، كذات التحيين والمعبد ذو التحقيق كالراجع بخفي حنين «4» والمقيد كالأشقر تحيرا، والطالب كالحباري تحسرا، والمستمع يقول: كل الصيد في جوف الفرا «5» والنقيب كصافر يكرر «أطرق كرا» «6» فقلت عند ذلك في بيته يؤتى الحكم، وبإعطاء القوس باريها «7» تتبين الحكم، وفي الرهان سابق الخيل يرى، «وعند الصباح يحمد القوم السّرى» «8» واستخرت الله تعالى وهو الكريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 المنان، في وضع كتاب في هذا الشأن وسميته حياة الحيوان، جعله الله موجبا للفوز في دار الجنان، ونفع به على ممر الأزمان، إنه الرحيم الرحمن ورتبته على حروف المعجم، ليسهل به من الأسماء ما استعجم. باب الهمزة الأسد : من السباع معروف، وجمعه أسود وأسد وآسد وآساد والأنثى أسدة وفي حديث «1» أم زرع: «زوجي إن دخل فهد، وإن خرج أسد» . وله أسماء كثيرة، قال ابن خالويه: للأسد خمسمائة اسم وصفة. وزاد عليه علي بن قاسم بن جعفر اللغوي مائة وثلاثين اسما فمن أشهرها: أسامة والبيهس والنآج والجخدب والحارث وحيدرة والدوّاس والرئبال وزفر والسبع والصّعب والضّرغام والضّيغم والطيثار والعنبس والغضنفر والفرافصة والقسورة وكهمس والليث والمتأنّس والمتهيّب والهرماس والورد. وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى. ومن كناه أبو الأبطال وأبو حفص وأبو الأخياف وأبو الزعفران وأبو شبل وأبو العباس وأبو الحارث. وإنما ابتدأنا به لأنه أشرف الحيوان المتوحش؛ إذ منزلته منها منزلة الملك المهاب، لقوته وشجاعته وقساوته وشهامته وجهامته وشراسة خلقه، ولذلك يضرب به المثل في القوّة والنجدة والبسالة وشدّة الإقدام والجراءة والصّولة. ومنه قيل لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: أسد الله ويقال: من نبل الأسد أنه اشتق لحمزة بن عبد المطلب من اسمه، وكذلك لأبي قتادة، فارس النبي صلى الله عليه وسلم. ففي صحيح مسلم، في باب إعطاء القاتل سلب المقتول. فقال «2» أبو بكر رضي الله عنه: «كلا والله لا يعطيه أضيبعا من قريش، ويدع أسدا من أسد الله تعالى يقاتل عن الله ورسوله» . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة. وهو أنواع كثيرة، قال أرسطو: رأيت نوعا منها يشبه وجه الإنسان، وجسده شديد الحمرة، وذنبه شبيه بذنب العقرب، ولعل هذا هو الذي يقال له الورد. ومنه نوع على شكل البقر له قرون سود نحو شبر، وأما السبع المعروف فإن أصحاب الكلام في طبائع الحيوان، يقولون: إن الأنثى لا تضع إلّا جروا واحدا تضعه لحمة ليس فيه حسّ ولا حركة، فتحرسه كذلك ثلاثة أيام، ثم يأتي أبوه بعد ذلك فينفخ فيه، المرة بعد المرة، حتى يتنفس ويتحرك وتنفرج أعضاؤه، وتتشكل صورته، ثم تأتي أمه فترضعه، ولا يفتح عينيه إلّا بعد سبعة أيام من تخلقه، فإذا مضت عليه بعد ذلك ستة أشهر، كلّف الاكتساب لنفسه بالتعليم والتدريب. قالوا: وللأسد من الصبر على الجوع، وقلة الحاجة إلى الماء، ما ليس لغيره من السباع. ومن شرف نفسه: أنه لا يأكل من فريسة غيره، فإذا شبع من فريسته تركها، ولم يعد إليها، وإذا جاع ساءت أخلاقه، وإذا امتلأ من الطعام ارتاض، ولا يشرب من ماء ولغ فيه كلب: وقد أشار إلى ذلك الشاعر بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وأترك حبّها من غير بغض ... وذاك لكثرة الشركاء فيه إذا وقع الذباب على طعام ... رفعت يدي ونفسي تشتهيه وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب ولغن فيه وقد ألغز بعضهم في القلم فقال «1» : وأرقش مرهوف الشباة مهفهف ... يشتّت شمل الخطب وهو جميع تدين له الآفاق شرقا ومغربا ... وتعنو له ملاكها وتطيع حمى الملك مفطوما كما كان تحتمي ... به الأسد في الآجام وهو رضيع وإذا أكل نهس من غير مضغ، وريقه قليل جدا، ولذلك يوصف بالبخر، ويوصف بالشجاعة والجبن، فمن جبنه أنه يفزع من صوت الديك، ونقر الطست، ومن السنور، ويتحير عند رؤية النار، وهو شديد البطش، ولا يألف شيئا من السباع لأنه لا يرى فيها ما يكافئه، ومتى وضع جلده على شيء من جلودها تساقطت شعورها، ولا يدنو من المرأة الحائض ولو بلغ الجهد، ولا يزال محموما، يعمّر كثيرا وعلامة كبره سقوط أسنانه؛ روى ابن سبع السبتي، في شفاء الصدور، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أنه خرج في بعض أسفاره، فبينما هو يسير إذ هو بقوم وقوف، فقال: ما لهؤلاء القوم؟ قالوا: أسد على الطريق قد أخافهم، فنزل عن دابته ثم مشى إليه حتى أخذ بأذنه، ونحاه عن الطريق، ثم قال له: ما كذب عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما سلطت على ابن آدم لمخافته غير الله، ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله تعالى لم تسلط عليه ولو لم يرج إلا الله تبارك وتعالى لما وكله إلى غيره. وفي سنن أبي داود، من حديث «2» عبد الرحمن بن آدم، وليس له عنده سواه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام إلى الأرض وكأن رأسه يقطر، ولم يصبه بلل، وأنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويفيض المال وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرعى الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات ولا يضر بعضهم بعضا؛ ثم يبقى في الأرض أربعين سنة، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. وفي الحلية لأبي نعيم، في ترجمة ثور بن يزيد، قال: بلغني أن الأسد لا يأكل إلّا من أتى محرّما. وقصة سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الأسد مشهورة، رواه البزار والطبراني وعبد الرزاق والحاكم وغيرهم. وذكر البخاري في تاريخه أنه بقي إلى زمن الحجاج، روى محمد بن المنكدر عنه أنه قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 «ركبت سفينة في البحر فانكسرت، فركبت لوحا فأخرجني إلى أجمة فيها أسد، فأقبل إلي فقلت: أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا تائه فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامني على الطريق، ثم همهم، فظننت أنه السلام» . وفي دلائل النبوة للبيهقي، عن ابن المنكدر أيضا، أن سفينة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخطأ الجيش بأرض الروم، وأسر في أرض الروم، فانطلق هاربا يلتمس الجيش، فإذا هو بالأسد فقال له: «يا أبا الحارث أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت، فأقبل الأسد يبصبص، حتى قام إلى جنبه، فلم يزال كذلك حتى بلغ الجيش، فرجع الأسد» . واختلف في اسم سفينة رضي الله عنه فقيل رومان وقيل مهران وقيل طعمان وقيل عمير. روى مسلم له حديثا واحدا والترمذي والنسائي وابن ماجه. ودعا النبي صلى الله عليه وسلم، على عتبة بن أبي لهب، فقال: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» فافترسه الأسد بالزرقاء من أرض الشأم. رواه الحاكم من حديث أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه وقال صحيح الإسناد. وروى الحافظ أبو نعيم بسنده إلى الأسود بن هبّار قال: تجهز أبو لهب وابنه عتبة نحو الشأم، فخرجت معهما فنزلنا الشراة قريبا من صومعة راهب، فقال الراهب: ما أنزلكم ههنا؟ هنا سباع فقال أبو لهب: أنتم عرفتم سني وحقي، قلنا: أجل. قال: إن محمدا دعا على ابني فاجمعوا متاعكم على هذه الصومعة، ثم افرشوا لابني عليه، وناموا حوله، ففعلنا ذلك وجمعنا المتاع حتى ارتفع، ودرنا حوله، وبات عتبة فوق المتاع، فجاء الأسد فشم وجوهنا ثم وثب فإذا هو فوق المتاع فقطع رأسه فقال: سيفي يا كلب ولم يقدر على غير ذلك وفي رواية فوثب الأسد فضربه بيده ضربة واحدة فخدشه فقال: قتلني فمات لساعته وطلبنا الأسد فلم نجده. وإنما سماه النبي صلى الله عليه وسلم كلبا لأنه يشبهه في رفع رجله عند البول. فائدة: روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «فر من المجذوم فرارك من الأسد» . وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم وقال «2» : «بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه وأدخلها معه الصّحفة» . قال الشافعي رحمه الله في عيوب الزوجين: إن الجذام والبرص يعدي وقال: إن ولد المجذوم قلما يسلم منه. قلت ومعنى قول الشافعي رضي الله عنه إنه يعدي، أي بتأثير الله تعالى لا بنفسه، لأن الله تعالى أجرى العادة بابتلاء السليم عند مخالطة المبتلي، وقد يوافق قدرا وقضاء، فيظن أنه عدوى. وقد قال «3» صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة» ، كما سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قوله في الولد: «قلما يسلم منه» فقد قال الصيدلاني: معناه أن الولد قد ينزعه عرق من الأب فيصير أجذم. وقد قال «1» صلى الله عليه وسلم لرجل قال له: إن امرأتي قد ولدت غلاما أسود «لعل عرقا نزعه» وبهذا الطريق يحصل الجمع بين هذه الأحاديث. وجاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم «2» : «لا يورد ذو عاهة على مصح» وإنه صلى الله عليه وسلم أتاه مجذوم ليبايعه، فلم يمد يده إليه بل قال «3» له: «أمسك يدك فقد بايعتك» . وفي مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تطيلوا النظر إلى المجذوم، وإذا كلمتموه فليكن بينكم وبينه قدر رمح» . وقد ذكر الشيخ صلاح الدين العراقي، في القواعد، أن الأم، إذا كان بها جذام أو برص، سقط حقها من الحضانة، لأنه يخشى على الولد من لبنها ومخالطتها، واستدل بقوله «4» : صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ذو عاهة على مصح» . والذي ذكره ظاهر وهو المختار. ويؤيد ما أفتى به ابن تيمية «5» صاحب المحرر، من الحنابلة رحمه الله وصرح به أئمة المالكية، أن المبتلي لو أراد مساكنة الأصحاء في رباط أو غيره، منع إلّا بإذنهم. ولو كان ساكنا وابتلي أزعج وأخرج. وأما أصحابنا فصرّحوا بأن الأمة إذا كان سيدها مجذوما وجب عليها تمكينه من الاستمتاع وهذا مع إشكاله قد أورد في الروضة في الزوجة المختارة للمقام مع الزوج المجذوم، وقد يفرق بينهما بقوة الملك. والله أعلم. وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لامرأة: «أكلك الاسد فأكلها» . وروى الطبراني وأبو منصور الديلي، والحافظ المنذري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما يقول الأسد في زئيره؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «إنه يقول: اللهم لا تسلطني على أحد من أهل المعروف» . فائدة أخرى: روى ابن السني، في عمل اليوم والليلة، من حديث داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أنه قال: «إذا كنت بواد تخاف فيه الأسد، فقل: أعوذ بدانيال وبالجب من شر الأسد اهـ. «6» أشار بذلك إلى ما رواه البيهقي في الشعب: أن دانيال عليه السلام طرح في جب وألقيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 عليه السباع، فجعلت السباع تلحسه وتبصبص إليه، فأتاه ملك فقال: يا دانيال فقال: من أنت؟ فقال: أنا رسول ربك أرسلني إليك بطعام. فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره. اهـ. وروى ابن أبي الدنيا أن بختنصر ضرّى أسدين، وألقاهما في جب، وأمر بدانيال فألقي عليهما، فمكث ما شاء الله، ثم إنه اشتهى الطعام والشراب، فأوحى الله تعالى إلى أرمياء، وهو بالشأم، أن يذهب إلى دانيال بطعام وشراب، وهو بأرض العراق، فذهب به إليه، حتى وقف على رأس الجب، وقال: دانيال دانيال، فقال: من هذا؟ فقال: إرميا فقال: ما جاء بك؟ قال: أرسلني إليك ربك فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله الذي من وثق به لا يكله إلى سواه، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحسانا، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة وغفرانا، والحمد لله الذي يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين يسوء ظننا بأعمالنا والحمد لله الذي هو رجاؤنا حين تنقطع الحيل منا. ثم روى ابن أبي الدنيا من وجه آخر أنّ الملك الذي كان دانيال في سلطانه، جاءه المنجمون وأصحاب العلم، فقالوا له: إنه يولد في ليلة كذا وكذا غلام يفسد ملكك، فأمر بقتل كل من يولد في تلك الليلة. فلما ولد دانيال ألقته أمه في أجمة أسد ولبوة، فبات الأسد ولبوته يلحسانه، فنجاه الله تعالى بذلك حتى بلغ ما بلغ، وكان من أمره ما قدره العزيز العليم. ثم روى بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه أنه قال: رأيت في يد أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه خاتما نقش فصّه أسدان، بينهما رجل، وهما يلحسان ذلك الرجل، فقال أبو بردة: هذا خاتم دانيال، أخذه أبو موسى حين وجده ودفنه فسأل أبو موسى علماء تلك البلدة عن ذلك، فقالوا: إن دانيال نقش صورته وصورة الأسدين، وهما يلحسانه، في فص خاتمه كما ترى لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك. اهـ. فلما ابتلي دانيال عليه السلام بالسباع، أوّلا وآخرا، جعل الله تعالى الإستعاذة به في ذلك تمنع شر السباع التي لا تستطاع. وفي المجالسة للدينوري، عن معاذ بن رفاعة، قال: مر يحيى بن زكريا عليهما السلام بقبر دانيال النبي عليه السلام فسمع صوتا من القبر يقول: سبحان من تعزز بالقدرة، وقهر العباد بالموت، فمضى فإذا هو بصوت من السماء أنا الذي تعززت بالقدرة، وقهرت العباد بالموت، من قالهن استغفرت له السموات السبع، والأرضون السبع، ومن فيهن. وكان دانيال عليه السلام، قد أتاه الله تعالى النبوة والحكمة، وكان في أيام بختنصر. قال أهل التاريخ: إن بختنصر أسر دانيال مع من أسر من بني إسرائيل، وحبسهم ثم رأى بختنصر رؤيا أفزعته وعجز الناس عن تعبيرها ففسرها دانيال فأعجبه وأكرمه، قالوا: وقبره بنهر السوس «1» ووجده أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فأخرجه وكفنه وصلّى، ثم قبره في نهر السوس وأجرى عليه الماء. وفي المجالسة أيضا، قال عبد الجبار بن كليب: كنا مع إبراهيم بن أدهم في سفر فعرض لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الأسد فقال إبراهيم: قولوا: اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واحفظنا بركنك الذي لا يرام وارحمنا بقدرتك علينا، لا نهلك وأنت رجاؤنا يا ألله يا ألله يا الله. قال فولى الأسد عنا هاربا. قال: فأنا أدعو به عند كل أمر مخوف فما رأيت إلا خيرا. فائدة: قال بعض العلماء المحققين: ومما جرب لإذهاب الخوف والهم والغم أن يكتب هاتين الآيتين، ويحملهما فإن الله تعالى يبارك له في جميع أحواله، وينصره على أعدائه، وهما ينفعان للأمراض الباطنة، وكل ألم يحدث في بدن الإنسان، وكل آية منهما تجمع الحروف المعجمة بأسرها، وتكتب في إناء نظيف وتمحى بدهن ورد، أو زيت طيب، أو شيرج يطلى به الألم كالدمل والطلوع والحرارة والريح والثآليل والنفخ والقروحات بأسرها فإنه يزول ويبرأ من يومه في الغالب كما جرب مرارا وهما من الأسرار المخزونة كذا قاله شيخنا اليافعي رحمه الله. الآية الأولى من سورة آل عمران قوله «1» تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً إلى قوله تعالى: عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* . الآية الثانية من سورة الفتح قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إلى آخر السورة انتهى. وذكر بعض أهل التاريخ، أن ملكا من الملوك خرج يدور في ملكه فوصل إلى قرية عظيمة فدخلها منفردا فأخذه العطش فوقف بباب دار من دور القرية، وطلب ماء فخرجت إليه امرأة جميلة بكوز فيه ماء، وناولته إياه فلما نظرها افتتن بها فراودها عن نفسها، وكانت المرأة عارفه به فعلمت أنها لا تقدر على الامتناع منه، فدخلت وأخرجت له كتابا وقالت انظر في هذا إلى أن أصلح من أمري ما يجب وأعود فأخذ الملك الكتاب ونظر فيه فإذا فيه الزجر عن الزنا، وما أعد الله تعالى لفاعله من العذاب الأليم، فاقشعر جلده، ونوى التوبة، وصاح بالمرأة، وأعطاها الكتاب، ومر ذاهبا وكان زوج المرأة غائبا فلما حضر زوجها أخبرته الخبر، فتحير الزوج في نفسه، وخاف أن يكون وقع غرض الملك فيها، فلم يتجاسر على وطئها بعد ذلك ومكث على ذلك مدة، فأعلمت المرأة أقاربها بحالها مع زوجها فرفعوه إلى الملك فلما مثل بين يدي الملك، قال أقارب المرأة: أعز الله مولانا الملك، إن هذا الرجل قد استأجر منا أرضا للزراعة، فزرعها مدة ثم عطلها فلا هو يزرعها ولا هو يتركها لنؤجرها لمن يزرعها، وقد حصل الضرر للأرض، ونخاف فسادها بسبب التعطيل لأن الأرض إذا لم تزرع فسدت، فقال الملك لزوج المرأة ما يمنعك من زرع أرضك؟ فقال: أعز الله مولانا الملك إنه قد بلغني أن الأسد دخل أرضي، وقد هبته، ولم أقدر على الدنو منها لعلمي بأن لا طاقة لي بالأسد ففهم الملك القصة فقال: يا هذا إن أرضك أرض طيبة صالحة للزرع فازرعها بارك الله لك فيها، فإن الأسد لن يعود إليها ثم أمر له ولزوجته بصلة حسنة وصرفه. وفي تاريخ ابن خلكان أنه لما دخل المازيار على المعتصم وكان قد اشتد غضبه عليه فقيل له يا أمير المؤمنين لا تعجل، فإن عنده أموالا جمة، فأنشد المعتصم بيت أبي تمام «2» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إنّ الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب «1» وقد أحسن خالد الكاتب «2» حيث قال: علم الغيث الندى حتى إذا ... ما وعاه علم البأس الأسد فإذا الغيث مقرّ بالندى ... وإذا الليث مقر بالجلد ومن شعره: ظفر الحب بقلب دنف ... بك والسقم بجسم ناحل «3» وبكى العاذل لي من رحمتي ... فبكائي لبكاء العاذل «4» وكان خالد شيخا كبيرا تأخذه السوداء أيام الباذنجان، وكان الصبيان يتبعونه ويصيحون به يا خالد يا بارد؛ فأسند ظهره يوما إلى قصر المعتصم وقال لهم: كيف أكون باردا وأنا الذي أقول: بكى عاذلي من رحمتي فرحمته ... وكم مسعد من مثله ومعين «5» ورقّت دموع العين حتى كأنها ... دموع دموعي لا دموع جفوني وفي روضة العلماء، أن نوحا عليه السلام، لما غرس الكرمة، جاءه إبليس فنفخ فيها فيبست، فاغتم نوح لذلك وجلس متفكرا في أمرها، فجاءه إبليس وسأله عن تفكيره؟ فأخبره فقال له يا نبي الله إن أردت أن تحضر الكرمة، فدعني أذبح عليها سبعة أشياء فقال: افعل، فذبح أسدا ودبا ونمرا وابن آوى وكلبا وثعلبا وديكا، وصب دماءهم في أصل الكرمة فاخضرت من ساعتها، وحملت سبعة ألوان من العنب، وكانت قبل ذلك تحمل لونا واحدا فمن أجل ذلك يصير شارب الخمر شجاعا كالأسد وقويا كالدب وغضبان كالنمر، ومحدثا كابن آوى، ومقاتلا كالكلب، ومتملّقا كالثعلب، ومصوتا كالديك، فحرمت الخمر على قوم نوح. ونوح اسمه عبد الجبار، وإنما سمي نوحا لنوحه على ذنوب أمته، وأخوه صابىء بن لامك وإليه ينسب دين الصابئين فيما ذكروا والله أعلم. (تذنيب) كان أبو مسلم «6» الخراساني واسمه عبد الرحمن بن مسلم بعد فراغه من أمر بني أمية ينشد كل وقت: أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشأم قد رقدوا حتى ضربتهمو بالسيف فانتبهوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد ومن رعى غنما في أرض مسبعة ... ونام عنها تولى رعيها الأسد قال «1» ابن خلكان في ترجمته: وكان أبو العباس السفاح شديد التعظيم لأبي مسلم، لما صنعه ودبره، فلما مات السفاح وولي أخوه المنصور، صدرت من أبي مسلم أشياء أوغرت صدر المنصور عليه وهم بقتله، وبقي حائرا بين الاستبداد برأيه في أمره، والاستشارة، فقال يوما لمسلم بن قتيبة: ما ترى في أمر أبي مسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «2» فقال: حسبك يا ابن قتيبة لقد أودعتها أذنا واعية ولم يزل المنصور يخدعه حتى أحضره إليه، والمنصور بالمدائن فأمر بإدخاله عليه، وكان المنصور قد رتب جماعة لقتله، وقال لهم: إذا رأيتموني قد مسحت بيدي وجهي فاضربوه، فلما أدخل عليه، أخذ المنصور يقرعه بما صدر منه ثم مسح وجهه، فبادروه فصاح استبقني لأعدائك يا أمير المؤمنين، فقال له المنصور وأي عدو أعدى منك يا عدو الله فلما قتل هاج أصحابه، فأمر المنصور بنثر الدراهم والدنانير عليهم فسكنوا! ورمى برأسه إليهم، ثم أدرج في بساط فدخل على المنصور جعفر بن حنظلة، فرأى أبا مسلم في البساط، فقال: يا أمير المؤمنين عد هذا اليوم أول خلافتك فأنشد المنصور متمثلا: فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر «3» ثم أقبل المنصور على من حضره وأبو مسلم طريح بين يديه وأنشد: زعمت أن الدين لا يقتضي ... فاستوف بالكيل أبا مجرم «4» اشرب بكأس كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم وكان يقال له أبو مجرم أيضا وفيه يقول أبو دلامة «5» : أبا مجرم ما غيّر الله نعمة ... على عبده حتى يغيرها العبد أفي دولة المنصور حاولت غدره ... ألا إن أهل الغدر آباؤك الكرد أبا مجرم خوفتني القتل فانتحي ... عليك بما خوفتني الأسد الورد ولما قتله المنصور، خطب الناس فذكر أن أبا مسلم أحسن أولا وأساء آخر. ثم قال في آخر خطبته: وما أحسن ما قال النابغة الذبياني «6» للنعمان بن المنذر «7» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 فمن أطاعك فانفعه لطاعته ... كما أطاعك وأدلله على الرّشد ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهي الظلوم ولا تقعد على ضمد «1» والضمد بفتح الضاد المعجمة والميم الحقد. وكان قتله في شعبان سنة ست أو سبع وثلاثين ومائة. قال ابن خلكان وغيره: وكان أبو مسلم قد سمع الحديث وروي عنه، وأنه خطب يوما فقام إليه رجل فقال ما هذا السواد الذي أراه عليك؟ فقال أبو مسلم: حدثني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح، وعلى رأسه عمامة سوداء، وهذه ثياب الهيبة وثياب الدولة. يا غلام اضرب عنقه. قلت: حديث جابر هذا في صحيح مسلم قال ابن الرفعة: وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، وعلى رأسه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه، وهو أيضا في صحيح مسلم «2» . قال ابن الرفعة: ومن ثم كان شعار بني العباس في الخطبة السواد اهـ. قيل: أحصي من قتله أبو مسلم صبرا وفي حروبه، فكانوا ستمائة ألف واختلف في نسبه فقيل من العرب، وقيل من العجم، وقيل من الأكراد، وروي «3» أنه قيل لعبد الله بن المبارك رحمه الله: أبو مسلم خير أم الحجاج؟ فقال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيرا من أحد ولكن كان الحجاج شرا منه اهـ. وكان أبو مسلم فصيحا عالما بالأمور ولم يرقط مازحا ولم يظهر عليه سرور ولا غضب، ولا يأتي النساء إلّا مرّة في السنة، وكان يقول: الجماع جنون ويكفي الإنسان أن يجن في السنة مرة واحدة، وروي أنه قيل لأبي مسلم: ما كان سبب خروج الدولة عن بني أمية؟ قال: لأنهم أبعدوا أولياءهم ثقة بهم، وادنوا أعداءهم تألفا لهم، فلم يصر العدو صديقا بالدنو، وصار الصديق عدوا بالإبعاد. وكان أبو مسلم مميت دولة بني أمية، ومحيي دولة بني العباس. وذكر ابن الأثير وغيره أن أبا جعفر المنصور لما حاصر ابن هبيرة قال: إن ابن هبيرة يخندق على نفسه مثل النساء. فبلغ ذلك ابن هبيرة، فأرسل إليه أنت القائل كذا وكذا فابرز إلي لترى. فأرسل إليه المنصور: ما أجد لي ولك مثلا في ذلك إلا كأسد لقي خنزيرا فقال له الخنزير: بارزني فقال له الأسد: ما أنت لي بكفء فإن نالني منك سوء كان ذلك عارا علي وإن قتلتك قتلت خنزيرا فلم أحصل على حمد، ولا في قتلي لك فخر. فقال له الخنزير: إن لم تبارزني لأعرفن السباع، إنك جبنت عني. فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر من تلطخ راحتي بدمك. (الحكم) : قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود والجمهور: يحرم أكل الأسد لما روى «4» مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل ذي ناب من السباع فأكله حرام» . قال أصحابنا: المراد بذي الناب ما يتقوى بنابه ويصطاد. وفي الحاوي للماوردي قال: الشافعي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 إنه ما قويت أنيابه فعدا بها على الحيوان طالبا غير مطلوب، فكان عدوه بأنيابه علة تحريمه. وقال أبو إسحاق المروزي: هو ما كان عيشه بأنيابه فإن ذلك علة تحريمه. وقال أبو حنيفة: هو ما افترس بأنيابه وإن لم يبتدىء بالعدو، وإن عاش بغير أنيابه فهذه ثلاث علل: أعمها علة أبي حنيفة، وأوسطها علة الشافعي، وأخصها علة المروزي، فعلى العلتين الأوليين، يحل الضبع لأنه يتناوم حتى يصطاد، وتحل السنانير على قول الشافعي لأنها لم تتقو بأنيابها، وتكون مطلوبة لضعفها، لكن قد صحح الأصحاب تحريمها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، في باب السين المهملة. ويحل ابن آوى على ما علله الإمام الشافعي لأنه لا يبتدىء بالعدو، ويحرم على ما علله المروزي لأنه يعيش بنابه، وهذا هو الأصح كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى. وقال مالك: يكره أكل كل ذي ناب من السباع ولا يحرم، واحتج بقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ الآية «1» . واحتج أصحابنا بالحديث المذكور، قالوا: والآية ليس فيها إلّا الإخبار بأنه لم يجد في ذلك الوقت محرما إلا المذكورات في الآية، ثم أوحي إليه بتحريم كل ذي ناب من السباع فوجب قبوله والعمل به. قال الشافعي رضي الله عنه: ولأن العرب لم تأكل أسدا ولا ذئبا ولا كلبا ولا نمرا ولا دبا، ولا كانت تأكل الفأر ولا العقارب ولا الحيات ولا الحدأ ولا الغربان ولا الرخم ولا البغاث ولا الصقور ولا الصوائد من الطير ولا الحشرات. وأما بيع الأسد فلا يصح لأنه لا ينتفع به وحرم الله أكل فريسته. (الأمثال) : إنما كانت العرب أكثر أمثالها مضروبة بالبهائم، فلا يكادون يذمون ولا يمدحون إلّا بذلك لأنهم جعلوا مساكنهم بين السباع والأحناش والحشرات، فاستعملوا التمثيل بها لذلك. روى الإمام أحمد بإسناد حسن والحسن بن عبد الله العسكري، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل، فلذلك ذكر العسكري في كتابه الأمثال ألف حديث مشتملة على ألف مثل من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فما يخص الأسد من ذلك أنهم قالوا: «أكرم من الأسد» «2» «وأبخر من الأسد» «3» وأكبر من الأسد و «أشجع من الأسد» «4» و «أجرأ من الأسد» «5» . وضربوا المثل بالخوف من الأسد. قال مجنون ليلى «6» واسمه عامر بن قيس على خلاف فيه: يقولون لي يوما وقد جئت حيهم ... وفي باطني نار يشب لهيبها «7» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أما تختشي من أسدنا فأجبتهم ... هوى كل نفس أين حل حبيبها وضربوا المثل أيضا بأسد الشرى وهو طريق بسلمى كثيرة الأسد، قال الفرزدق «1» : وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يشتبيلها «2» قيل: معنى يشتبيلها: يأخذ أولادها وينسب إلى الفرزدق مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك، في أيام أبيه، طاف بالبيت، وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه فلم يقدر على ذلك، لكثرة الزحام، فنصب له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس، ومعه جماعة من أعيان أهل الشأم، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم، وكان من أجمل الناس وجها، وأطيبهم أرجا فطاف بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر تنحى له الناس حتى استلم الحجر، فقال رجل من أهل الشام لهشام: من هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه، مخافة أن يرغب فيه أهل الشأم، وكان الفرزدق حاضرا فقال أنا أعرفه: فقال الشامي من هو يا أبا الفوارس؟ فقال «3» الفرزدق: هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقيّ الطاهر العلم هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم ينمى إلى ذروة العز التي قصرت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم في كفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم ينشق نور الهدى من نور غرّته ... كالشمس ينجاب عن إشراقها القتم مشتقة من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشّيم هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله ... بجدّه أنبياء الله قد ختموا الله شرّفه قدما وعظّمه ... جرى بذاك له في لوحه القلم وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم كلتا يديه غياث عمّ نفعهما ... يستوكفان ولا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره ... يزينه اثنان حسن الخلق والشيم حمال أثقال أقوام إذا اقترحوا ... حلوا الشمائل يحلو عنده نعم ما قال لاقط إلا في تشهده ... لولا التشهد كانت لاؤه نعم عم البرية بالإحسان فانقشعت ... عنها الغيابة والإملاق والعدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 من معشر حبهم دين وبغضهمو ... كفر وقربهمو منجى ومعتصم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل همو لا يستطيع جواد بعد غايتهم ... ولا يدانيهمو قوم وإن كرموا هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت ... والأسد أسد الشرى والبأس محتدم لا ينقص العسر بسطا من أكفهم ... سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا مقدم بعد ذكر الله ذكرهمو ... في كل بدء ومختوم به الكلم أي الخلائق ليست في رقابهم ... لأولية هذا أوله نعم من يعرف الله يعرف أولية ذا ... فالدين من بيت هذا ناله الأمم فغضب هشام على الفرزدق، وأمر بحبسه، فأنفذ له زين العابدين اثني عشر ألف درهم فردّهاد وقال: مدحته لله تعالى لا للعطاء؛ فأرسل إليه زين العابدين وقال له: إنا أهل بيت إذا وهبنا شيئا لا نستعيده، والله عزّ وجلّ يعلم نيتك ويثيبك عليها فشكر الله لك سعيك، فلما بلغته الرسالة قبلها. والفرزدق، اسمه همام بن غالب، والفرزدق لقب غلب عليه، والفرزدق قطع العجين، الواحدة فرزدقة وإنما لقب به لأنه أصابه جدري وبرىء منه فبقي وجهه جهما محمرا منتفخا، وقيل لقب به لغلظه وقصره. وقال ابن خلكان ومحمد بن سفيان: أحد أجداد الفرزدق هو أحد الثلاثة الذي سموا بمحمد في الجاهلية، فإنه لا يعرف أحد سمي بهذا الإسم قبله صلى الله عليه وسلم إلّا ثلاثة كان آباؤهم قد وفدوا على بعض الملوك، وكان عنده علم من الكتاب الأول فأخبرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وباسمه، وكان كل منهم قد خلف زوجته حاملا، فنذر كل منهم إن ولد له ذكر، أن يسميه محمدا، ففعلوا ذلك. وهم محمد بن سفيان بن مجاشع جد الفرزدق، والآخر محمد بن أحيحة بن الجلاح أخو عبد المطلب لأمه، والآخر محمد بن حمران بن ربيعة وأما أحمد فلم يتسم به أحد قبله صلى الله عليه وسلم. فائدة: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث قال: حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «1» : «لما حمل نوح عليه السلام، في السفينة، من كل زوجين اثنين، قال له أصحابه: وكيف نطمئن أو تطمئن مواشينا ومعنا الأسد؟. فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض، فهو لا يزال محموما. ثم شكوا الفأرة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا وشرابنا ومتاعنا، فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه، فتخبأت الفأرة منها» . وهذا مرسل. وفي الحلية لأبي نعيم في ترجمة وهب بن منبه أنه قال لما أمر نوح عليه السلام، أن يحمل من كل زوجين اثنين قال يا رب كيف أصنع بالأسد والبقر؟ وكيف أصنع بالعناق «2» والذئب؟ وكيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 أصنع بالحمام والثعلب؟ فأوحى الله تعالى إليه: «من ألقى بينهم العداوة؟ فقال: أنت يا رب. قال عزّ وجلّ فإني أؤلف بينهم فلا يتضررون» . الخواص: قال عبد الملك بن زهير، صاحب الخواص المجربة: من لطخ بشحم الأسد جميع بدنه، هربت منه السباع، ولم ينله منها مكروه، وصوته يقتل التماسيح إذا سمعته ومرارة الذكر منه تحل المعقود عن النساء، إذا سقي منها في بيضة في مستهل الشهر، ومن علق عليه قطعة من جلده بشعرها أبرأته من الصرع، قبل البلوغ، فإن كان الصرع قد أصابه بعده، لم تنفعه. وإذا أحرق من شعره في مكان، هربت منه سائر السباع، ولحمه ينفع من الفالج وإذا وضعت قطعة من جلده، في صندوق مع ثياب، لم يصبها السوس ولا الأرضة، وسنه إذا استصحبها إنسان معه، أمن من وجع الأسنان، وشحمه إذا طلي به اليدان والرجلان، أمنت من مضرة البرد وإذا طلي به البدن لم يقر به القمل وذنبه إذا استصحبه إنسان لا تؤثر فيه حيلة محتال، وقال هرمس: الجلوس على جلد الأسد يذهب البواسير والنقرس. قال: ومن أخذ من شحم جبهته وذوبه بدهن ورد، ومسح به وجهه، هابه الملوك وجميع الناس. وقال الطبري: الاكتحال بمرارة الأسد يحد البصر. قال: ومرارة الأسد إذا سقي منها وزن دانق لليرقان، بماء برز قطونا ونعنع نفع نفعا بينا وخصيته إذا ملحت ببورق أحمر ومصطكى، وجفّفت وسحقت، وخلطت بسويق وشربت، نفعت من جميع الأوجاع التي في الجوف مثل المغص والقولنج والبواسير والزحير ووجع الأرحام، وتشرب بماء حار على الريق. ودماغ الأسد يداف بزيت عتيق، ويدهن به الاختلاج والارتعاش، يذهبهما ومن دهن وجهه، وجميع بدنه بشحم الأسد، ذهب عنه الكسل والكلف وكل عيب يكون في الوجه. وزبله إذا جفف وخلط به الدلوك الذي يتدلك به، نفع من البهق الظاهر، وهو نافع لذلك جدا. وإن سقي منه أي من زبله إنسان لا يصبر عن الخمر ولا يعلم به وزن دانق، ابغضه حتى لا يشربه ولا يشتهي أن يراه ومرارته تداف بالعسل، ويجعل منها على الخنازير تزول. وشحمه إذا دق بالثوم وطلى به إنسان جسده لم تقربه السباع والله أعلم. التعبير: الأسد في المنام سلطان شديد البطش والبأس، ظالم غاشم مجاهر، متسلط بجرأته، لا يأمنه صديق ولا عدو، ويعبر أيضا بعدو مسلط، وربما دل على الموت، لأنه يقبض الأرواح، وربما دلت رؤيته على عافية المريض، فمن رأى أسدا من حيث لا يراه وهرب منه الرائي، فإنه ينجو مما يخاف، وينال حكما وعلما، لقوله «1» : فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ . فإن كان قد استقبله وهرب منه، نال هما من ذي سلطان، ثم ينجو من الهلاك والمرض. ومن رأى أن أسدا صرعه ولم يقتله، فإنه يحم حمى دائمة لأن الأسد لا تفارقه الحمى كما تقدم أو يسجن، لأن الحمى سجن المؤمن، وربما دلت مصارعته على المرض. ومن رأى أنه أخذ شيئا من شعره أو عظمه أو لحمه، نال مالا من سلطان، أو من عدوّ. ومن رأى أنه ركب أسدا وهو يخافه، فإنه يقع في بلية، فإن كان لا يخافه قهر عدوّا فإن ضاجعه وهو لا يخافه أمن من عدوّه. ومن رأى أسدا يثب على الناس، فإن السلطان يظلم رعيته. ومن رأى أنه أكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 رأس أسد، نال ملكا ومن رأى أنه يرعى أسدا فإنه يؤاخي ملكا ظالما. ومن رأى أنه أخذ جرو أسد في حجره، فإن امرأته تضع غلاما، إن كانت حاملا، وإلّا فإنه يحمل ولد أمير في حجره، كما عبره ابن سيرين رحمه الله. ومن رأى أن أسدا قد زاره فإنه يمرض. ومن رأى أن الأسد قد قتله، فإن كان عبدا فإنه يعتق، وإلّا حصل له خوف من سلطان. وصوت الأسد يدل على تهدد من سلطان. ومن رأى أن أسدا يتملق له، جرى على يديه أمور عجيبة وربما دل على قهر عدوّ والله أعلم. تتمة: قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: لو يعلم الناس، ما في علم الكلام، من الأهواء لفروا منه، فرارهم من الأسد. قال في الإحياء: فإن قلت تعلم الجدال والكلام مذموم كتعلم النجوم، أو هو مباح أو مندوب إليه، فاعلم أن للناس في هذا غلوا وإسرافا، فمن قائل إنه بدعة وحرام، وإن العبد إن لقي الله تعالى بكل ذنب سوى الشرك، خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل إنه واجب وفرض: إما على الكفاية، أو فرض عين وإنه من أفضل الأعمال، وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد، ونضال عن دين الله تعالى. وممن ذهب إلى التحريم الشافعي ومالك والإمام أحمد وسفيان وأهل الحديث قاطبة، قال ابن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يوم ناظر حفصا الفرد، وكان من متكلمي المعتزلة يقول: لأن يلقى الله تبارك وتعالى العبد، بكل ذنب، ما خلا الشرك، خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام. وقال أيضا: قد اطلعت لأهل الكلام، على شيء ما ظننته قط، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه، ما عدا الشرك، خير له من أن ينظر في الكلام. وحكى الكرابيسي أن الشافعي سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال: يسأل عن هذا حفص الفرد وأصحابه أخزاهم الله. ولما مرض الشافعي رضي الله عنه دخل عليه حفص الفرد، فقال له من أنا؟ فقال: أنت حفص الفرد لا حفظك الله ولا رعاك، حتى تتوب مما أنت فيه. وقال أيضا: إذا سمعت الرجل يقول: الإسم هو المسمى، أو غير المسمى، فأشهد أنه من أهل الكلام ولا دين له، وقال أيضا حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في العشائر، والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام. وقال الإمام أحمد رحمه الله: لا يفلح صاحب الكلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا ينظر في الكلام إلا وفي قلبه مرض وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبي، مع زهده وورعه، لتصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس، بتصنيفك على مطالعة كلام أهل البدعة، والتفكير فيه، فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟ وقال أحمد أيضا: علماء الكلام زنادقة. وقال مالك: لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء. قال بعض أصحابه في تأويل ذلك: إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام، على أي مذهب كانوا. وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق. وقد اتفق أهل الحديث من السّلف على هذا، ولا يحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه. وأما الفرقة الأخرى، فاحتجوا بأن المحظور من الكلام، إن كان هو لفظ الجوهر والعرض، وهذه الاصطلاحات الغريبة، التي لم يعهدها الصحابة رضي الله عنهم فالأمر في ذلك قريب، إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 ما من علم، إلا وقد أحدث فيه اصطلاحات، لأجل التفهيم، كالحديث والتفسير، وتصنيف الفقه، من موضع الصور النادرة التي لا تتفق، إلا على الندور إما إدخارا ليوم وقوعها. وإن كان نادرا أو تشحيذا للخاطر فنحن أيضا نرتب طريق المحاجة لتوقع الحاجة بثوران شبهة، أو هيجان مبتدع، أو لتشحيذ الخاطر، أو لإدخار الحجة، حتى لا يعجز عنها عند الحاجة إليها على البديهة والارتجال، كمن يعد السلاح قبل القتال ليوم القتال. قال: فإن قلت فما المختار فيه عندك؟ فاعلم أن الحق فيه: أن إطلاق القول بذمه في كل حال، أو بمدحه في كل حال خطأ، بل لا بد فيه من التفصيل: فاعلم أوّلا أن الشيء قد يحرم لذاته، كالخمر والميتة وأعني بقولي لذاته أن علة تحريمه وصف في ذاته وهو الإسكار والموت، وهذا إذا سئلنا عنه، أطلقنا القول بأنه حرام، ولا يلتفت إلى إباحة الميتة عند الاضطرار وإباحة تجرع الخمر لإساغة ما يغص به الإنسان من الطعام، إذا لم يجد ما يسيغه به سوى الخمر وقد يحرم لغيره كالبيع على بيع أخيك المسلم، في وقت الخيار، والبيع وقت النداء، وكآكل الطين، فإنه يحرم لما فيه من الأضرار. وهذا ينقسم إلى ما يضر قليله وكثيره، فيطلق القول عليه بأنه حرام كالسم الذي يقتل قليله وكثيره، وإلى ما يضر عند الكثرة، فيطلق القول عليه بالإباحة، كالعسل فإن كثرته تضر بالمحرور، وكآكل الطين، وكان إطلاق التحريم على الخمر، والتحليل على العسل، التفات إلى أغلب الأحوال، فإن تصدى لشيء تقابلت فيه الأحوال، فالأولى أن نفصل فنرجع إلى علم الكلام، ونقول: إن فيه منفعة، وفيه مضرة، فهو باعتبار منفعته، في وقت الانتفاع حلال، أو مندوب إليه، أو واجب كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته، في وقت الإضرار، حرام. فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل في حالة الابتداء ورجوعها بالدليل مشكوك فيه وتختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد، وله ضرر أيضا في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دعاويهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر، يحصل بواسطة التعصب، الذي يثور من الجدل. وأما منفعته، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق، ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات هيهات، بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة على العوام، وحفظها عن تشويشات المبتدعة، بأنواع الجدل إذ العامي ضعيف، يستفزه جدل المبتدع، والناس متعبدون بصحة العقيدة، التي أجمع السلف عليها، والعلماء متعبدون بحفظ ذلك على العوام، من تلبيسات المبتدعة، وهو من فروض الكفاية، كالقيام بحراسة الأموال وسائر الحقوق: كالقضاء والولاية وغيرهما، وما لم تستعد العلماء لنشر ذلك، والتدريس فيه، والبحث عنه، لا يدوم ولو ترك بالكلية، لا ندرس. وليس في مجرد الطباع كفاية لحل شبه المبتدعة، ما لم يتعلم فينبغي أن يكون التدريس فيه أيضا، من فروض الكفاية، لكن ليس من الصواب تدريسه على العوام، كتدريس الفقه والتفسير، فإن هذا مثل الدواء، والفقه مثل الغذاء، وضرر الغذاء لا يحذر وضرر الدواء محذور، فإن قيل: قد جعل جماعة التوحيد عبارة عن صناعة الكلام، ومعرفة طريق المجادلة، والإحاطة بمناقضات الخصوم، والقدرة على التشدق فيها، بكثرة الأسئلة، وإثارة الشبهات، وتأليف الإلزامات، حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد. فاعلم أن التوحيد، عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 المتكلمين وإن فهموه، لم يتصفوا به، وهو أن ترى الأمور كلها، من الله رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، فلا ترى الخير والشر إلا منه تبارك وتعالى. وهذا مقام شريف، فالتوحيد جوهر نفيس، له قشران: أحدهما أبعد عن اللب من الآخر، وهو أن تقول بلسانك: لا إله إلا الله، وهذا يسمى توحيدا مناقضا للتثليث، الذي تصرح به النصارى. لكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره. وأما القشر الثاني فأن لا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك والتصديق به، وهذا توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن تشويش المبتدعة، فخصص الناس الاسم بهذين القشرين، وتركوا لبابهما وأهملوه بالكلية. واللباب هو التوحيد المحض، وهو أن ترى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، وأن تعبده عبادة تفرده بها فلا تعبد غيره واتباع الهوى يخرج عن هذا التوحيد؛ فكل متبع هواه، قد اتخذ هواه معبوده. قال «1» الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ . وقال «2» صلى الله عليه وسلم: «أبغض إله عبد في الأرض عند الله هو الهوى» . وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم إنما يعبد هواه، إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه، فيتبع ذلك الميل. وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى ويخرج عن هذا التوحيد السخط على الخلق والالتفات إليهم. فإن من يرى الكل، من الله تعالى، كيف يسخط على غيره، فالتوحيد عبارة عن هذا المقام، وهو من مقامات الصديقين. فانظر إلى ماذا حول وبأي قشر قنع فالموحّد هو الذي لا يرى إلّا الواحد، ولا يتوجّه وجهه إلا إليه، أي يكون قلبه متوجها إلى الله تعالى على الخصوص. اهـ. وقد تكلمت على هذا المقام في كتابنا الجوهر الفريد في علم التوحيد، بكلام يشفي النفس، ويزيل اللبس، وهو كلام طويل مشبع، جمعت فيه غالب أقوال الصحابة والعلماء، فليراجع وهو في الجزء الثامن، من الباب الخامس، من كتاب التوحيد فليراجع. واعلم أنه قد تقدم أن تعلم علم النجوم مذموم. فنقول قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا» . وقال «3» صلى الله عليه وسلم: «أخاف على أمتي بعدي ثلاثا: حيف الأئمة، والإيمان بالنجوم والتكذيب بالقدر» . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تعلموا من النجوم ما تهتدون به في البحر والبر ثم أمسكوا» وإنما زجر عنه من ثلاثة أوجه: أحدها أنه مضر بأكثر الخلق، فإنه إذا ألقي إليهم أن هذه الآثار تحدث عقب سير الكواكب، وقع في نفوسهم أن الكواكب هي المؤثرة، وأنها الآلهة المدبرة، لأنها جواهر شريفة سماوية يعظم وقعها في القلوب، فيبقى القلب ملتفتا إليها، ويرى الشر والخير محذورا من جهتها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ومرجوا منها، وينمحي ذكر الله تعالى من القلب، فإن الضعيف يقصر نظره على الوسائط، والعالم الراسخ هو الذي يطلع على أن الشمس، والقمر، والنجوم، مسخرات بأمره سبحانه وتعالى. الوجه الثاني: إن أحكام النجوم تخمين محض، وليس يدرك في حق آحاد الأشخاص، لا يقينا ولا ظنا فالحكم به حكم بجهل، فيكون ذمه على هذا من حيث إنه جهل، لا من حيث إنه علم. وقد كان ذلك علما لإدريس عليه السلام فيما يحكى، وقد اندرس ذلك العلم وانمحق وما يتفق من إصابة المنجم على ندور فهو اتفاق، لأنه قد يطلع على بعض الأسباب، ولا يحصل المسبب عقبها إلا بعد شروط كثيرة، ليس في قدرة البشر الاطلاع عليها. فإن اتفق أن قدر الله تعالى بقية الأسباب، وقعت الإصابة. وإن لم يقدر أخطأ. ويكون ذلك كتخمين الإنسان في أن السماء تمطر اليوم، مهما رأى الغيم يجتمع، وينبعث من الجبال، فيتحرك ظنه بذلك وربما يحمى النهار بالشمس، ويتبدد الغيم وربما يكون بخلافه، فإن مجرد الغيم ليس كافيا في مجيء المطر، وبقية الأسباب لا تدرى. وكذلك تخمين الملاح، أن السفينة تسلم، اعتمادا على ما ألفه من العادة في الرياح، ولتلك الرياح أسباب خفية، لا يطلع عليها الملاح، فتارة يصيب في تخمينه، وتارة يخطىء. ولهذه العلة يمنع القوم عن النجوم. الوجه الثالث أنه لا فائدة فيه، فأقل أحواله أنه خوض في فضول لا يعني، وتضييع للعمر الذي هو أنفس بضائع الإنسان بغير فائدة، وغايته الخسران، فقد مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل، والناس مجتمعون عليه، فقال: «ما هذا» ؟ قالوا: رجل علّامة فقال: بماذا؟ قالوا: بالشعر وأنساب العرب. فقال: «علم لا ينفع، وجهل لا يضر» وقال «1» صلى الله عليه وسلم: «إنما العلم آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة» فإذا الخوض في النجوم إنما يشبه اقتحام خطر وخوض جهالة من غير فائدة فإن ما قدر كائن، والاحتراز غير ممكن، بخلاف الطب، فإن الحاجة إليه ماسّة، وأكثر أدلته مما يطلع عليه، وبخلاف التعبير، وإن كان تخمينا لأنه جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، ولا خطر فيه. ولذلك أكثرنا في كتابنا هذا من النقل من هذين العلمين لضرورة الحاجة إليهما، ولقلة الخطأ فيهما لإمكان الاطلاع على أكثر أدلتهما، والله الموفق للصواب. الإبل : بكسر الباء الموحدة، وقد تسكن للتخفيف: الجمال وهو اسم واحد يقع على الجمع، وليس بجمع، ولا اسم جمع، إنما هو دال على الجنس، كذا قاله ابن سيده. وقال الجوهري: ليس لها واحد من لفظها وهي مؤنثة لأن أسماء الجموع، التي لا واحد لها من لفظها إذا كالنت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، وإذا صغرتها أدخلت عليها الهاء فقلت: أبيلة وغنيمة ونحو ذلك، وربما قالوا للإبل: إبل بإسكان الباء كما تقدم، والجمع آبال والنسبة إبلي بفتح الباء. روى ابن ماجه، عن عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «2» قال: «الإبل عز لأهلها، والغنم بركة، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة» وفي حديث وهب «تأبل آدم على ابنه المقتول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 كذا وكذا عاما لم يصب حوّاء أي امتنع من غشيانها أعواما، وتوحش عنها. ويقال للإبل بنات الليل، ويقال للذكر والأنثى منها بعير إذا أجذع ويجمع على: أبعرة وبعران والشارف: الناقة المسنة وجمعها شرف والعوامل: الإبل ذوات السنامين. والإبل من الحيوانات العجيبة وإن كان عجبها سقط من أعين الناس لكثرة رؤيتهم لها، وهو أنها حيوان عظيم الجسم، سريع الانقياد، ينهض بالحمل الثقيل، ويبرك به، وتأخذ زمامه فأرة فتذهب به إلى حيث شاءت، ويتخذ على ظهره بيت يقعد الإنسان فيه، مع مأكوله ومشروبه وملبوسه وظروفه ووسائده، كأنه في بيته ويتخذ للبيت سقف وهو يمشي بكل هذه. ولهذا قال «1» تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وقد جعلها الله تعالى طوال الأعناق لتثور بالأثقال، وعن بعض الحكماء، أنه حدث عن الإبل وعن بديع خلقها وكان قد نشأ بأرض لا إبل فيها، ففكر ساعة ثم قال: يوشك أن تكون طوال الأعناق، وحيث أراد الله تعالى بها أن تكون سفائن البر، صبرها على احتمال العطش، حتى إن ظمأها ليرتفع إلى العشر. وجعلها ترعى كل شيء نابت في البراري والمفاوز، مما يرعاه سائر البهائم. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: لقيت شريحا القاضي ذاهبا فقلت له: أين تريد؟ فقال: أريد الكناسة. فقلت: وما تصنع بالكناسة قال: انظر إلى الإبل كيف خلقت. وقال «2» تعالى: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ* قرنها بالفلك التي هي السفائن لأنها سفن البر قال ذو الرّمة «3» : سفينة بر تحت خدي زمامها. يريد صيدح التي يخاطبها بقوله: سمعت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا وصيدح اسم ناقته. وهذا البيت أنشده سيبويه «4» ورواه برفع الناس على الحكاية، أي: سمعت هذه الكلمة. ورواه غيره بالنصب، وكل له وجه. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الصيدح في باب الصاد المهملة. وربما تصبر الإبل عن الماء عشرة أيام وإنما جعل الله تعالى أعناقها طوالا، لتستعين بها على النهوض، بالحمل الثقيل، وفي الحديث: «لا تسبوا الإبل فإن فيها رقوء الدم، ومهر الكريمة» . أي أنها تعطى في الديات فتحقن بها الدماء وتمنع من أن يهراق دم القاتل. هذه عبارة الفصيح وفي الحديث لا تسبوا الإبل فإنها من نفس الله تعالى أي مما يوسع الله تعالى به على الناس حكاه ابن سيده. والذي نعرفه «لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن جل وعلا «5» » وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «1» قال: «تعاهدوا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها» . وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل القرآن مثل الإبل المعقلة إن تعاهدها صاحبها على عقلها أمسكها، وإن أغفلها ذهبت، إذا قام صاحب القرآن بقراءته بالليل والنهار، ذكره وإذا لم يقرأه نسيه» . «2» وفيهما عنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» . وسيأتي بيان معناه إن شاء الله تعالى في باب الراء المهملة في لفظ الراحلة. والإبل أنواع: الأرحبية منسوبة إلى بني أرحب من همدان. وقال ابن الصلاح: إنها من إبل اليمن والشذقية إبل منسوبة إلى شذقم، وهو فحل كريم كان للنعمان بن المنذر، والعيدية بكسر العين المهملة، إبل منسوبة إلى بني العيد وهم فخذ من بني مهرة، قاله صاحب الكفاية. والمجدية إبل باليمن منسوبة إلى المجد وهو الشر. والشدنية إبل منسوبة إلى فحل أو بلد قاله في الكفاية. والمهرية إبل منسوبة إلى مهرة بن حيدان وهو أبو قبيلة والجمع المهاري، قاله ابن الصلاح «4» . وما قاله الغزالي من أن المهرية هي الرديئة من الإبل، ليس كذلك ومنها إبل وحشية تسمى إبل الوحش، يقولون إنها بقايا إبل عاد وثمود. ومن لقب الإبل العيس وهي الشديدة الصلبة والشملال وهي الخفيفة واليعملة وهي التي تعمل والوجناء وهي الشديدة أيضا، والناجية وهي السريعة، والعوجاء وهي الضامرة، والشمردلة وهي الطويلة، والهجان وهي الإبل الكريمة، والكوماء بضم الكاف وهي الناقة العظيمة السنام والحرف وهي الناقة الضامرة قال كعب بن زهير «5» . حرف أبوها أخوها من مهجّنة ... وعمها خالها قوداء شمليل «6» والقوداء الطويلة العنق، والشمليل السريعة، وقوله: من مهجنة أي من إبل كرام هجان. وقوله: أبوها أخوها أي إنها من جنس واحد في الكرم، وقيل: إنها من فحل حمل على أمه فجاءت بهذه الناقة فهو أبوها وأخوها، وكانت الناقة التي هي أم هذه بنت أخرى من الفحل الأكبر فعمها خالها على هذا، وهو عندهم من أكرم النتاج. والقول الأول ذكره أبو علي القالي عن أبي سعيد ومما يستحسن ويستجاد من كلام كعب رضي الله عنه قوله «7» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبوء له القدر يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهم منتشر والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر قال أصحاب الكلام: في طبائع الحيوان ليس لشيء من الفحول، مثل ما للجمل عند هيجانه إذ يسوء خلقه، ويظهر زبده ورغاؤه فلو حمل عليه ثلاثة أضعاف عادته حمل ويقل أكله، ويخرج الشقشقة وهي الجلدة الحمراء التي يخرجها من جوفه، وينفخ فيها فتظهر من شدقه لا يعرف ما هي. قال الليث: ولا تكون إلا لعربي: وفيه نظر قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «إن الخطب من شقاشق الشيطان» . شبّه الفصيح المنطيق بالفحل الهادر، ولسانه بشقشقته. وروى الحاكم في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» لها: «أما معاوية فصعلوك، وأما أبو الجهم فإني أخاف عليك من شقاشقه» . والفحل لا ينزو إلا مرّة واحدة في السنة، ويطول فيها مكثه، وينزل فيها مرارا كثيرة، ولذلك يعقبه فتور ووهن والأنثى تلقح إذا مضى لها ثلاث سنين، ولذلك سميت حقة لأنها استحقت ذلك قالوا: والجمل أشد الحيوان حقدا، وفي طبعه الصبر والصولة. وذكر صاحب المنطق أنه لا ينزو على أمه. قال: وقد كان رجل في سالف الدهر ستر ناقة بثوب، ثم أرسل ولدها عليها، فلما عرف ذلك قطع ذكره، ثم حقد على الرجل حتى قتله. وآخر فعل مثل ذلك فلما عرف أنها أمه قتل نفسه. وكل الحيوان له مرارة إلا الإبل، ولذلك كثر صبرها وانقادت وكني الجمل بأبي أيوب. وإنما يوجد على كبدها شيء يشبه المرارة وهي جلدة فيها لعاب يكتحل به ينفع من العشاء العتيق. ومن طبعها أنها تستطيب الشجر الذي له شوك وتهضمه أمعاؤها، ولا تستطيع في غالب الأوقات أن تهضم الشعير. ومن عجيب ما ذهبت إليه العرب أنها إذا أصاب إبلها العرّ كووا السليم ليشفى العليل. وفي هذا المعنى قال «2» النابغة: وحملتني ذنب امرىء وتركته ... كذا العر يكوي غيره وهو راتع وأخذ منه غيره فقال: غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم وأنكر أبو عبيد القاسم بن سلام ذلك. وروى الجماعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «جاء رجل من بني فزارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل» ؟ قال: نعم فما ألوانها؟ قال: حمر. قال صلى الله عليه وسلم: «هل فيها من أورق» ؟ قال: إن فيها لورقا. قال: هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ذاك. قال: فأنى أتاها ذلك قال «1» صلى الله عليه وسلم «عسى أن يكون نزعه عرق» . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا الحديث في الكلام على لفظ الأسد وإنما قال صلى الله عليه وسلم: «عسى أن يكون نزعه عرق» ولم يرخص له النبي صلى الله عليه وسلم في الانتفاء عنه. والرجل المذكور في هذا الحديث: ضمضم بن قتادة العجلي، ولم يذكره أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب وليس له سوى هذا الحديث، وهو مسمى في بعض المسندات. وذكره عبد الغني في الحديث بزيادة حسنة فقال «2» فقال: «كانت المرأة من بني عجل، فقدم المدينة عجائز من بني عجل، فسئلن عن المرأة التي ولدت الغلام الأسود فقلن: كان في آبائها رجل أسود» . قال: والرجل اسمه ضمضم بن قتادة العجلي. وقال الخطيب أبو بكر: قلن: كان للمرأة جدة سوداء. والحكم: يحل أكل الإبل بالنص والإجماع. قال «3» الله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وأما تحريم إسرائيل، وهو يعقوب عليه السلام على نفسه أكل لحوم الإبل، وشرب ألبانها، فكان ذلك باجتهاد منه على الصحيح. والسبب في ذلك أنه كان يسكن البدو فاشتكى عرق النساء، فلم يجد شيئا يؤلمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمهما. وإسرائيل لفظة عبرانية. وقد اختلف العلماء في انتقاض الوضوء بأكل لحومها: فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينتقض الوضوء بأكل لحومها، وذهب الباقون إلى أنه ينتقض الوضوء به. فمن ذهب إلى الأول: الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبو الدرداء وأبو طلحة الأنصاري وأبو أمامة الباهلي وعامر بن ربيعة رضي الله عنهم، وجماهير التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم رحمهم الله. وممن ذهب إلى انتقاض الوضوء به: أحمد وإسحق بن راهويه ويحيى بن يحيى وابن المنذر وابن خزيمة واختاره البيهقي من أصحاب الشافعي، وهو قول الشافعي القديم، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر دليله في باب الجيم في الجزور. وعن أحمد في أكل سنامها روايتان، ولأصحابه في شرب ألبانها وجهان. وتكره الصلاة في أعطانها وهي الأمكنة التي تأوي إليها بعد الشرب. روى أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: «توضأوا منها» » وسئل عن لحوم الغنم؟ فقال: «لا تتوضؤا منها «5» » . وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال «6» : «لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها مأوى الشياطين» وسئل عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: «صلوا فيها فإنها مباركة «1» » وروى النسائي وابن حبان من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإبل خلقت من الشياطين «2» » . وأما زكاتها فالواجب في كل خمس منها سائمة شاة، وفي عشر شاتان وفي خمسة عشر ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، ثم في خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، وفي ست وأربعين حقة، وفي إحدى وستين جذعة، وفي ست وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان، وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، ثم في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وبنت المخاض لها سنة، وبنت اللبون لها سنتان، والحقة لها ثلاث سنين، والجذعة لها أربع سنين، والشاة الواجبة لها جذعة ضأن وهي ما لها سنة، أو ثنية معز وهي ما لها سنتان، وبقية أحكام الزكاة معروفة. تتمة: قال المتولي إذا أوصي لشخص بإبل، جاز أن يعطى ذكرا أو أنثى، فإن أعطي فصيلا أو ابن مخاض لم يلزمه قبوله لأنه لا يسمى إبلا. الأمثال: روى مسلم والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الناس كإبل مائة، ليس فيها راحلة «3» » يعني أن المرضى من الناس قليل وسيأتي معناه إن شاء الله تعالى في باب الراء المهملة في الراحلة. وقال الأزهري: معناه أن الزاهد في الدنيا الكامل في الزهد فيها والرغبة في الآخرة قليل، كقلة الراحلة في الإبل. وقالوا: أشبعهم سبا وراحوا بالإبل قيل: أول من قاله كعب بن زهير بن أبي سلمى يضرب لمن لم يكن عنده إلا الكلام وقالوا: «ما هكذا يا سعد تورد الإبل» يضرب لمن تكلف أمرا لا يحسنه. وتمثل بذلك علي رضي الله عنه في حديث رواه البيهقي وغيره. وقالوا «يا إبل عودي إلى مباركك «4» » . يضرب لمن يفر من الشيء الذي لا بد منه. الخواص: قال ابن زهير وغيره: إذا وقع بصر الجمل على سهيل مات لوقته. ولحوم الإبل والكباش الحولية الجبلية رديئة كلها، وإذا أحرق وبر الإبل وذر على الدم السائل قطعه. وقراده يربط في كم العاشق فيزول عشقه وإذا شرب السكران من بول الجمل أفاق من ساعته، ولحمه يزيد في الباه والأنعاظ بعد الجماع. وبول الإبل ينفع من ورم الكبد ويزيد في الباه، ومخ ساق الجمل إذا تحملت به المرأة في قطنة أو صوفة بعد الطهر ثلاثة أيام وجومعت فإنها تحمل وإن كانت عاقرا. وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا في الكلام على لفظ الإنسان قاعدة ذكرها حذاق الأطباء تعرف بها العاقر من النساء. التعبير: قال أهل التعبير من رأى أنه ملك منها هجمة في منامه فإنه يدل على أنه يحكم على جماعة ذوي أقدار ويملك مالا طائلا. وكذلك إذا رأى أنه نال ثلة أو ثاغية أو راغية والهجمة مائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 من الإبل والثلة قطيع من الغنم والثاغية الشاة والراغية الإبل. قالوا: ومن رأى أنه ملك إبلا في منامه، نال عقبى حسنة وسلامة في دينه ومعتقده لقوله «1» تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ فإن قال: رأيت جمالا فربما دل على الأعمال السيئة لقوله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ولقوله «2» تعالى: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وإن قال: رأيت انعاما وأنا أسرحها في المنام، فإنه يدل على تذلل الأمور الصعاب وظهور النعمة عليه لقوله «3» تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ، إلى قوله تسرحون. ومن رأى أنه يرعى إبلا عرابا ولي على قوم من الأعراب ومن رأى إبلا كثيرة في بلد فإنها تدل على أمراض وحروب. وقال الجيلي «4» : من رأى أنه يملك إبلا نال مقدرة وسطوة. وقال أرطاميدوس: من أكل لحم الإبل في منامه مرض. وقال محمد بن سيرين إمام المعبرين: ومن أعلام التابعين لا بأس بأكل لحم الإبل لقوله «5» تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وستأتي بقيته إن شاء الله تعالى في باب الجيم في لفظ الجمل والله أعلم. الأبابيل : واحدته ابالة وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: لا واحد لها من لفظها. وقيل: واحدها أبول كعجول وقيل: إبيل كسكّيت. وقيل: إيبال كدينار، ودنانير، وذكر الفارسي أنه سمع في واحده ابالة بالتشديد. وحكى الفرّاء إبالة بالتخفيف. واختلفوا في قوله «6» تعالى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ فقال سعيد بن جبير: هي طير تعشش بين السماء والأرض وتفرخ، ولها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب وعن عكرمة أنها طيور خضر خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال ابن عباس رضي الله عنهما بعث الله الطير على أصحاب الفيل كالبلسان وقيل: كانت كالوطاويط. وقال عبادة بن الصامت: أظنا الزرازير. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها، هي أشبه شيء بالخطاطيف. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين أنها السنونو الذي يأوي الآن في المسجد الحرام الواحدة سنونة، والأبيل راهب النصارى وكانوا يسمون عيسى بن مريم عليهما السلام أبيل الأبيليين قال الشاعر: أما ودماء مائرات تخالها ... على قنة العزى وبالنّسر عندما وما سبح الرهبان في كل بيعة ... أبيل الأبيليين عيسى بن مريما لقد ذاق منا عامر يوم لعلع ... حساما إذا ما هزّ بالكف صمما والإبالة بالكسر الحزمة من الحطب. وفي المثل: «ضغث على إبالة «7» أي بلية على أخرى كانت قبلها والله الموفق. الأتان: بفتح الهمزة وبالتاء المثناة فوق الحمارة، ولا تقل أتانة، ويقال ثلاث آتن مثل عناق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وأعنق، والكثير أتن وأتن. واستأتن الرجل أي اشترى أتانا، واتخذها لنفسه. قال محمد بن سلام: حدثني رجل من قريش قال: خرج خالد بن عبد الله القسري «1» يوما يتصيد، وهو أمير العراق فانفرد عن أصحابه فإذا هو بأعرابي على أتان له هزيل ومعه عجوز فقال له خالد ممن الرجل فقال من أهل المآثر والحسب والمفاخر قال: فأنت إذن من مضر فمن أيها أنت؟ قال من الطاعنين على الخيول، المعانقين عند النزول. قال: فأنت إذن من عامر، فمن أيها أنت؟ قال: من أهل الرفادة، والكرم والسيادة، قال فأنت إذن من جعفر، فمن أيها أنت؟ قال: من بدورها وشموسها وليوثها، في خميسها قال: فأنت إذن من الخواص. فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: تتابع السنين وقلة رفد الرافدين. قال فمن أردت بها؟ قال: أميركم هذا الذي رفعته أمرته وحطته أسرته. قال: فما أردت منه؟ قال: كثرة ماله لا كرم آبائه. قال: ما أراك إلا قد قلت فيه شعرا فقال لامرأته: أنشديه، فقال: كم تجشمنا مدح اللئيم ... ة اليوم إن مدح الئيم ذل قال: أنشديه فأنشدته: إليك ابن عبد الله بالجد أرقلت ... بنا البيدعيس كالقسي سواهم عليها كرام من ذؤابة عامر ... أضربهم جدب السنين العوارم يردن امرءا يعطي على الحمد ماله ... وهانت عليه في الثناء الدراهم فإن تعط ما تهوى فهذا ثناؤنا ... وإن تكن الأخرى فما ثمّ لا ثم فقال له خالد: يا عبد الله، ما أعجبك وشعرك، جئت على أتان هزيل، وتزعم إنك جئت على عيس؛ وقد ذكرت الرجل في شعرك، بخلاف ما ذكرت في كلامك. فقال: يا ابن أخي ما تجشمنا من مدح اللئيم، كان أشد من الكذب في شعرنا فقال له خالد: أتعرف خالدا؟ قال: لا قال: فأنا هو خالد. قال: أسألك بالله هو أنت خالد؟ قال إي والذي سألتني به أنا خالد، وأنا معطيك غير مكافئك، فقال: يا أم جحش اصرفي وجه أتانك فقال لها خالد: لا تفعلي وأقيمي أنت وزوجك فقال الرجل: لا والله لا رزأت امرءا درهما بعد أن أسمعته ما يكره، وصرف وجه أتانه ومضى. فقال خالد: بمثل هذا الفعل نال هذا وآباؤه ما نالوا. وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الصوف، وحلب الشاة، وركب الأتن، فليس في جوفه من الكبر شيء» . وهو كذلك في الكامل في ترجمة عبد الرحمن بن عمار بن سعد. وعن جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «براءة من الكبر لباس الصوف ومجالسة فقراء المؤمنين وركوب الحمار واعتقال العنز وأكل أحدكم مع عياله» . وفي الاستيعاب وغيره أن زرارة بن عمرو النخعي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في النصف من رجب سنة تسع «فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 يا رسول الله إني رأيت في طريقي رؤيا هالتني! قال: وما هي؟ قال: رأيت أتانا خلفتها في أهلي، قد ولدت جديا أسفع أحوى، ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي، يقال له عمرو، وهي تقول لظى لظى بصير وأعمى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أخلفت في أهلك أمة مسرة حملا؟ قال: نعم قال صلى الله عليه وسلم: فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك قال: فأنى له أسفع أحوى؟ قال: ادن مني، فدنا منه، فقال: أبك برص تكتمه؟ قال: والذي بعثك بالحق نبيا ما علمه أحد قبلك. قال: فهو ذاك وأما النار فإنها فتنة تكون بعدي. قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: يقتل الناس إمامهم، ويشتجرون اشتجار أطباق الرأس، وخالف بين أصابعه، دم المؤمن عند المؤمن، أحلى من الماء، يحسب المسيء، أنه محسن، إن مت أدركت ابنك، وإن مات ابنك أدركتك. قال فادع الله لي أن لا تدركني فدعا له» . «1» وقد قال العلماء: إن هذه الفتنة هي التي قتل فيها عثمان رضي الله تعالى عنه. والأسفع الأحوى الأبلق. الأمثال: قالوا: «كان حمارا فاستأتن «2» » يضرب لمن يهون بعد العز. التعبير: الحمارة امرأة معينة على المعيشة، كثيرة الخير، ذات ربح متواتر ونسل. ولفظ الأتان من الإتيان. الأخطب: كالأحمر يقال إنه الصرد وأنشد: ولا أنثني من طيرة عن مريرة ... إذا الأخطب الداعي على الدوح صرصرا والأخطب حمار يعلو ظهره خضرة، وقال الفراء: الخطباء الأتان التي لها خط أسود في ظهرها، والذكر أخطب. الأخيضر : ذباب أخضر على قدر الذباب الأسود قاله ابن سيده. الأخيل : طائر أخضر فيه على أجنحته لمع تخالف لونه وسمي بذلك لخيلان فيه. وقيل: الأخيل الشقراق الآتي في باب الشين المعجمة، وهو مشؤوم. ولفظه ينصرف في النكرة لا إذا سميت به ومنهم من لا يصرفه في معرفة ولا نكرة ويجعله في الأصل صفة من التخيل ويحتج بقول الشاعر: ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي ... فما طائري فيها عليك بأخيلا الأربد: ضرب من الحيات، يعض فيربد منه الوجه، ومنه ما حكاه عبد الملك بن عمير قال: رأيت زيادا «3» واقفا على قبر المغيرة بن شعبة «4» رضي الله عنه وهو يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 إن تحت الأحجار حزما وعزما ... وخصيما ألد ذا معلاق حيّة في الوجار أربد لا ين ... فع منه السليم نفث الراقي ثم قال: أما والله لقد كنت شديد العداوة لمن عاديت، شديد الأخوة لمن آخيت، والمعلاق بالعين، المهملة قال الجوهري: يقال رجل ذو معلاق أي شديد الخصومة. ثم أنشد قول الشاعر وهو مهلهل «1» : إن تحت الأحجار حزما وجودا ... وخصيما ألد ذا معلاق الأرخ: قال ابن درستويه «2» هي الأنثى الثنية من البقر التي لم ينز عليها الفحل وجمعها أروخ وأراخ. قال: وأنشدني أعرابي من مزينة في طريق مكة لنفسه فقال: أيام عهدي مي فيك كأنها ... أرخ يرود بروضة مثقال وقال الجوهري: الأرخ وحش البقر وقال صاحب المغرب: الأرخ ولد البقرة الوحشية. الأرضة: بفتح الهمزة والراء والضاد المعجمة دويبة صغيرة كنصف العدسة، تأكل الخشب، وهي التي يقال لها السرفة، بالسين والراء المهملة والفاء. وهي دابة الأرض التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وستأتي إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة. ولما كان فعلها في الأرض أضيفت إليها. قال القزويني في الأشكال: إذا أتى على الأرضة سنة، تنبت لها جناحان طويلان، تطير بهما. وهي دابة الأرض التي دلت الجن على موت سليمان عليه السلام، والنمل عدوّها، وهو أصفر منها فيأتيها من خلفها فيحملها ويمشي بها إلى جحره، وإذا أتاها مستقبلا، لا يغلبها لأنها تقاومه، انتهى. ومن شأنها أنها تبني لنفسها بيتا حسنا، من عيدان تجمعها مثل غزل العنكبوت، متخرطا من أسفله إلى أعلاه وله في إحدى جهاته باب مربع، وبيتها ناووس ومنها تعلم الأوائل بناء النواويس على موتاهم. وفي الصحيحين وغيرهما «أن قريشا، لما بلغهم إكرام النجاشي لجعفر وأصحابه، كبر ذلك عليهم وغضبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكتبوا كتابا على بني هاشم أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يخالطوهم. وكان الذي كتب الصحيفة بغيض بن عامر فشلّت يده، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وحصروا بني هاشم في شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من مبعثه صلى الله عليه وسلم، وانحاز إليهم بنو عبد المطلب، وقطعت عنهم قريش الميرة والمادة فكانوا لا يخرجون إلا من موسم إلى موسم، حتى بلغوا الجهد، وأقاموا على ذلك ثلاث سنين، ثم أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على أمر الصحيفة، وأن الأرضة قد أكلت ما كان فيها من ظلم وجور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وبقي ما كان فيها من ذكر الله تعالى فأخبرهم أبو طالب بذلك، فارتقوا إلى الصحيفة، فوجدوها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجوهم من الشعب» . وروى ابن سعد وابن ماجه في سننه، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى جذع، فاتخذ له المنبر، فحن ذلك الجذع إليه حنين العشار، حتى مسحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده «1» فسكن» . فلما هدم المسجد وغير، أخذ ذلك الجذع أبي بن كعب فكان عنده في داره حتى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا. وسيأتي إن شاء الله تعالى للأرضة ذكر في باب الدال المهملة في لفظ الدابة وفي دود الفاكهة. الحكم: يحرم أكلها لاستقذارها، وإذا استخرجت من الأرض ترابها قال القاضي حسين: إن استخرجته من مدر جاز التيمم به، ولا يضر اختلاطه بلعابها، فإنه طاهر فصار كتراب عجن بخل، أو ماء ورد، وإن استخرجت شيئا من الخشب أو الكتب لم يجز لعدم التراب. الأمثال: قالوا «2» «أكل من أرضة» و «أصنع من أرضة «3» » . التعبير: هي في الرؤيا تدل على منازعة في العلم وطلب الجدال. الأرقم: الحية التي فيها بياض وسواد، كأنه رقم أي نقش. روى أصحاب الغريب أن رجلا، كسر منه عظم فجاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطلب منه القود، فأبى أن يقيده، فقال الرجل: هو إذن كالأرقم إن يقتل ينقم، وإن يترك يلقم، أي إن تركته أكلك، وإن قتلته قتلت به. وقال ابن الأثير في النهاية: كانوا في الجاهلية يزعمون أن الجن تطلب بثار الجان، وهي الحية الدقيقة، فربما، مات قاتلها وربما أصابه خبل، وهذا مثل لمن يجتمع عليه شران لا يدري كيف يصنع فيهما. يعني أنه اجتمع عليه كسر العظم وعدم القود وقيل: الأرقم الحية التي فيها حمرة وسواد قال مهذب الملك في ذلك مشبها: كانون أذهب برده كانوننا ... ما بين سادات كرام حذق بأراقم حمر البطون ظهورها ... سود تلغلغ باللسان الأزرق الأرنب: واحدة الأرانب، وهو حيوان يشبه العناق، قصير اليدين طويل الرجلين، عكس الزرافة، يطأ الأرض على مؤخر قوائمه. وهو اسم جنس يطلق على الذكر والأنثى وقال الجاحظ: فإذا قلت أرنب، فليس إلا الأنثى كما أن العقاب لا يكون إلا للأنثى؛ فتقول: هذه العقاب وهذه الأرنب. وقال المبرد في الكامل: إن العقاب يقع على الذكر والأنثى وإنما يميز باسم الإشارة كالأرنب، وذكر الأرنب يقال له الخزز بالخاء المعجمة المضمومة وبعدها زايان وجمعه خزان كصرد وصردان. ويقال للأنثى عكرشة والخرنق ولد الأرنب، فهو أولا خرنق ثم سخلة ثم أرنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وقضيب الذكر من هذا النوع كذكر الثعلب: أحد شطريه عظم والآخر عصب، وربما ركبت الأنثى الذكر عند السفاد، لما فيها من الشبق وتسافدو هي حبلى، وتكون عاما ذكرا، وعاما أنثى فسبحان القادر على كل شيء. غريبة : ذكر ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة ثلاث وعشرين وستمائة، أن صديقا له اصطاد أرنبا، له أنثيان وذكر وفرج أنثى. فلما شقّوا بطنه، رأوا فيه ما يدل على ذلك. قال: وأعجب من ذلك، أنه كان لنا جار له بنت اسمها صفية، بقيت كذلك نحو خمس عشرة سنة، ثم طلع لها ذكر، ونبت لها لحية، وصار لها فرج رجل وفرج امرأة. وسيأتي إن شاء الله في الضبع نظير ذلك. والأرنب تنام مفتوحة العين، فربما جاءها القناص، فوجدها كذلك، فيظنها مستيقظة. ويقال إنها إذا رأت البحر ماتت، ولذا لا توجد في السواحل. وهذا لا يصح عندي. وتزعم العرب، في أكاذيبها، أن الجن تهرب منها لموضع حيضها: قال الشاعر: وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الحرب يوم اللقا فائدة: الذي يحيض من الحيوان أربعة: المرأة والضبع والخفاش والأرنب. ويقال: إن الكلبة أيضا كذلك. روى أبو داود في سننه من حديث جابر بن الحويرث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأرنب: «إنها تحيض» . وجابر بن الحويرث، قال ابن معين: لا أعرفه وذكره ابن حبان في الثقات ولا يعرف له إلا هذا الحديث. وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم جيء له بأرنب فلم يأكلها ولم ينه عنها» . وزعم أنها تحيض وهي تأكل اللحم وغيره، وتجتر وتبعر، وفي باطن أشداقها شعر، وكذلك تحت رجليها. الحكم: يحل أكل الأرنب عند العلماء كافة، إلا ما حكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن أبي ليلى رضي الله عنهم، أنهما كرها أكلها، وحجتنا ما روى الجماعة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أنفجنا أرنبا بمر الظهران، فسعى القوم عليها فغلبوا فأدركتها فأخذتها وأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله «1» » . وفي البخاري في كتاب الهبة «2» : «أن النبي صلى الله عليه وسلم قبله وأكل منه» . ولفظ أبي داود: «كنت غلاما خرورا فصدت أرنبا فشويتها فبعث معي أبو طلحة رضي الله عنه، بعجزها إلى النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والحزور بالتشديد والتخفيف: المراهق وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: هي حلال» . وروى أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان، عن محمد بن صفوان، «أنه صاد أرنبين فذبحهما بمروتين وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره بأكلهما» . وهو في معجم ابن قانع، عن محمد ابن صفوان أو صفوان بن محمد. واحتج ابن أبي ليلى ومن وافقه بما روى الترمذي عن حبان بن جزء، عن أخيه خزيمة رضي الله عنه قال: «قلت يا رسول الله ما تقول في الأرنب؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا آكله ولا أحرمه، قال: فقلت: ولم يا رسول الله؟ قال: إني أحسب أنها تدمي. قال: فقلت: يا رسول الله ما تقول في الضبع؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن يأكل الضبيع» ؟ قال الترمذي: إسناده ليس بالقوي. ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة وذكر فيه الثعلب والضب أيضا وفي بعض الروايات: «وسألته عن الذئب فقال: لا يأكل الذئب أحد فيه خير» . «1» وليس في شيء من الأحاديث وإن ضعفت ما يدل على تحريم الأرنب وغاية ما في هذين الخبرين استقذارها مع جواز أكلها. الأمثال: قالت العرب: «أقطف من «2» أرنب» «وأطعم أخاك من كلية الأرنب» . وهو كقولهم «3» «أطعم أخاك من عقنقل الضب» . يضربان للمواساة. ومن أمثالهم المشهورة في ذلك قولهم «4» : «في بيته يؤتى الحكم» . وهو مما زعمته العرب على ألسنة البهائم. قالوا: إن الأرنب التقطت تمرة فاختلسها الثعلب فأكلها فانطلقا يختصمان إلى الضب فقالت الأرنب: يا أبا حسل قال: سميعا دعوت، قالت: أتيناك لنختصم إليك، قال: عادلا حكيما، قالت فأخرج إلينا، قال في «بيته يؤتى الحكم» قالت: إني وجدت تمرة، قال: حلوة فكليها، قالت: فاختلسها الثعلب، قال لنفسه: بغى الخير، قالت: فلطمته، قال: بحقك أخذت، قالت: فلطمني، قال «5» «حر انتصر لنفسه» قالت: فاقض بيننا، قال: قد قضيت. فذهبت أقواله كلها أمثالا. ومثل هذا أن عدي «6» بن أرطاة أتى شريحا» القاضي في مجلس حكمه فقال له: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط، قال فاسمع مني. قال: للاستماع جلست، قال: إني تزوّجت امرأة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 قال: بالرفاه والبنين، قال: وشرط أهلها أن لا أخرجها من بيتهم، قال: أوف لهم بالشرط، قال: فأنا أريد الخروج، قال: في حفظ الله، قال: فاقض بيننا، قال: قد فعلت. قال فعلى من حكمت؟ قال: على ابن أمك. قال بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالك. وشريح هذا هو ابن الحارث بن قيس الكندي استقضاه عمر رضي الله تعالى عنه على الكوفة، وأقام قاضيا بها خمسا وسبعين سنة، لم يبطل إلا ثلاث سنين، امتنع فيها من القضاء، وذلك أيام فتنة ابن الزبير رضي الله عنهما، فاستعفى الحجاج من القضاء فأعفاه، فلم يقض بين اثنين حتى مات رحمة الله عليه. وكان شريح من سادات التابعين وأعلامهم، وكان من أعلم الناس بالقضاء، وكان أحد السادات الطلس، وهم أربعة: عبد الله بن الزبير «1» ، وقيس «2» بن سعد بن عبادة، والأحنف بن «3» قيس، الذي يضرب بحلمه المثل، ورابعهم شريح هذا والله أعلم. والأطلس الذي لا شعر بوجهه وروي أن شريحا مرض له ولد، فجزع عليه جزعا شديدا فلما مات لم يجزع. فقيل له في ذلك فقال: إنما كان جزعي رحمة له وإشفاقا عليه، فلما وقع القضاء رضيت بالتسليم. قاله «4» ابن خلكان وغيره. قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي «5» رحمه الله تعالى: كتب زياد بن أبيه إلى معاوية: يا أمير المؤمنين قد ضبطت لك العراق بشمالي وفرغت يميني لطاعتك فولّني الحجاز. فبلغ ذلك عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهو بمكة، فقال: اللهم اشغل عنا يمين زياد بما شئت فأصابه الطاعون في يمينه فأجمع رأي الأطباء على قطعها، فاستشار شريحا فيما رآه الأطباء، فأشار عليه بعدم القطع، وقال له: لك رزق مقسوم، وأجل معلوم، وإني أكره، إن كانت لك مدة، أن تعيش في الدنيا بلا يمين، وإن كان قد دنا أجلك أن تلقى الله مقطوع اليد، فإذا سألك لم قطعتها؟ قلت: فرارا من قضائك وبغضا في لقائك. قال: فمات زياد من يومه. فلام الناس شريحا على منعه من القطع لبغضهم له، فقال: إنه استشارني، ولولا أن المستشار مؤتمن، لوددت أنه قطع يوما يده ويوما رجله وسائر أعضائه يوما يوما. اهـ. وفي هذا المعنى قال أبو الفتح البستي من قصيدة طويلة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 لا تستشر غير ندب حازم فطن ... قد استوت منه أسرار وإعلان فللتدابير فرسان إذا ركضوا ... فيها أبروا كما للحرب فرسان وسيأتي، إن شاء الله تعالى، ذكر هذه القصيدة في باب الثاء المثلثة في الثعبان، وفي تاريخ ابن خلكان في ترجمة شريح، أنه سئل عن الحجاج أكان مؤمنا؟ قال: نعم بالطاغوت، كافرا بالله تعالى. توفي شريح سنة تسع وسبعين وقيل ثمانين من الهجرة، وهو ابن مائة وعشرين سنة رحمه الله تعالى. الخواص: قال الجاحظ «1» : كانت العرب في الجاهلية تقول: من علق عليه كعب أرنب، لم تصبه عين ولا سحر وذلك لأن الجن تهرب منها لمكان حيضها وإذا شوي الأرنب البري وأكل دماغه، نفع من الارتعاش العارض من المرض، وإذا شرب من دماغه، وزن حبتين في أوقيتين من لبن البقر، لم يشب شاربه أبدا. ومن أعجب ما في أنفحته أنك إذا طليت بها داء السرطان رأيت العجب. وإذا شربت المرأة أنفحة الأرنب الذكر ولدت ذكرا، وإذا شربت أنفحة الأنثى ولدت أنثى. وإذا علق زبله على المرأة لم تحمل ما دام عليها. قال أبقراط: لحم الأرنب حار يابس، يغسل البطن ويدر البول، وأجوده صيد الكلاب. وهو ينفع من بهظة السمن، لكنه يحدث أرقا ويولد السوداء، والأبازير الرطبة تدفع ضرره، ويوافق أصحاب الأمزجة الباردة، ودماغه يؤكل مشويا بالفلفل ينفع من الرعشة، وإنما صار يابسا لرعيه الغياض لأن كل ما يرعى الغياض فهو أيبس مما يرعى في البيوت. اهـ. وإن سقي إنسان من دماغ الأرنب دانقا مدافا، بعد أن يلقى عليه وزن حبتي كافور، لم يلقه أحد إلا أحبه ولم تنظر إليه امرأة إلا شغفت به وطلبت معاشرته. ودم الأرنب إذا شربت منه المرأة لم تحبل أبدا، وإذا طلي به البهق والكلف أزالهما. ودماغه إذا أكلت منه المرأة، وتحملت منه، وباشرها زوجها، فإنها تحبل بإذن الله تعالى. وإذا مزج به مواضع أسنان الصبي، أسرع نباتها ودم الأرنب إذا اكتحل به منع من نبات الشعر في العين قاله القزويني في عجائب المخلوقات. وقال مهرارس: مرارة الأرنب إذا عجنت بسمن، وديفت بلبن المرأة، واكتحل به أزال البياض من العين، وأبرأ القروح وإذا طلي بدمها البهق الأسود أزاله ولحم الأرنب إذا أطعم من يبول في فراشه نفعه إذا أدامه. وقال أرسطو: إذا شربت أنفحة الأرنب بالخل نفعت من سم الأفاعي. وإذا شرب منها قدر باقلاة أذهب حمى الربع المتناهية. وإذا شرب منها وزن درهم أسقط الأجنة وسهل الولادة، وإن خلطت أنفحة الأرنب بخطمي، ووضعت على النصل، أخرجته وتخرج الشوكة من البدن، بإذن الله تعالى بسهولة. وزبل الأرنب إذا بخر به في الحمام، وقع الضراط على من شمه ولم يتمالك أسفله. وإذا طلي به القوابي والنمش أذهبهما. وخصية الأرنب تبرىء من السم القاتل إذا طلي موضع اللسعة بها، وشحمه إذا وضع تحت وسادة امرأة، تكلمت في نومها بفعلها. وضرس الأرنب إذا علق على من يشتكي ضرسه سكن وجعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 التعبير: الأرنب في المنام امرأة حسناء، لكنها غير آلفة، فإن ذبحها فإنها زوجة ليست بباقية. وممن رأى أنه يأكل لحم أرنب مطبوخا فإنه يأتيه رزق من حيث لا يحتسب، ومن صار أرنبا أو أهديت إليه أو ابتاعها، حصل له رزق أو تزوج إن كان عزبا، أو رزق ولدا أو ظفر بغريم. الأرنب البحري: قال القزويني «1» : هو حيوان رأسه كرأس الأرنب، وبدنه كبدن السمك. وقال الرئيس ابن سينا «2» : إنه حيوان صغير صدفي وهو من ذوات السموم إذا شرب منه قتل. الحكم: يحرم أكله لسميته، ويستثنى هذا من قولهم: ما أكل شبهه في البر، أكل شبهه في البحر، لأنه ليس يشبهه في الشكل، وإنما هو موافق له في الإسم. الأروية : بضم الهمزة وإسكان الراء وكسر الواو وتشديد الياء: الأنثى من الوعول. والجمع أراوي وبها سميت المرأة، وهي أفعولة في الأصل إلا أنهم قلبوا الواو الثانية ياء وأدغموها في التي بعدها وكسروا الأولى لتسلم الياء، وثلاث أراوي على أفاعيل. فإذا كثرت فهي الأروي بفتح الهمزة على أفعل بغير قياس وقيل الأروي غنم الجبل. وفي الحديث «أنه صلى الله عليه وسلم، أهدي له أروي وهو محرم» ، وفيه أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، لما كان يوم أحد قال: كنت أتوقل كما تتوقل الأروية فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في نفر من أصحابه، وهو يوحى إليه: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «3» وفي جامع الترمذي في الإيمان، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه عن جده رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين ليأرز إلى المدينة، كما تأرز الحية إلى حجرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل، إن الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا، فطوبى للغرباء، الذي يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي «4» » . قوله: «ليعقلن أي ليمتنعن كما تمتنع الأروية من رؤوس الجبال. وفي تفسير ابن أبي حاتم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: «طرح يونس بن متى عليه السلام بالعراء، فأنبت الله تعالى عليه اليقطينة، وهيأله أروية وحشية ترعى في البرية، وتأتيه فتنفشخ عليه، فترويه من لبنها كل بكرة وعشية، حتى نبت لحمه» . وقال ابن عطية أنعشه الله تعالى في ظل اليقطينة، بأروية تراوحه وتغاديه، وقيل: بل كان يتغذى من اليقطينة ويجد منها ألوان الطعام، وأنواع شهواته وهذا من لطف الله تعالى به ونعمته عليه وإحسانه إليه وحكى ابن الجوزي عن الحسن في قوله تعالى: وفديناه بذبح عظيم أنه ذكر من الأروي، أهبط عليه من ثبير. وفي حديث عوف أنه سمع رجلا تكلم فأسقط، فقال: «جمع بين الأروى والنعام» . يريد أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 جمع بين كلمتين متناقضتين لأن الأروى تسكن شعف الجبال، والنعام يسكن في السهولة من الأرض، وفي طبعها الحنوّ على أولادها، فإذا صيد منها شيء تبعته، ورضيت أن تكون معه في الشرك وفي طبعه البر بأبويه وذلك أنه يختلف إليهما بما يأكلانه، فإن عجزا عن الأكل مضغ لهما وأطعمهما ويقال: إن في قرنيه ثقبين يتنفس منهما فمتى سدا هلك سريعا. وحكمها: الحل كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الوعل. الأمثال: قالوا «1» : «إنما فلان كبارح الأروى» . وذلك أن مأواها الجبال، فلا يكاد الناس يرونها سانحة ولا بارحة إلا في الدهر مرة، يضرب لمن يرى منه الاحسان في بعض الأحايين. وقالو: «تكلم فلان فجمع بين الأروى والنعام» ، كما تقدم. وقالوا: «ما يجمع بين الأروى والنعام» ، يضرب في الشيئين المختلفين جدا أي كيف يتألف الخير والشر. تنبيه: روى مسلم أن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، رضي الله عنهم، خاصمته أروى بنت أويس إلى مروان بن الحكم وهو والي المدينة في أرض في الحيرة، وقالت: إنه قد أخذ حقي واقتطع قطعة من أرضي. فقال سعيد رضي الله عنه: كيف أظلمها وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «2» يقول: «من اقتطع شبرا من أرض ظلما، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» . ثم ترك لها الأرض. وقال: دعوها وإياها اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في بئرها. فعميت أروى، وجاء سيل فأظهر حدود أرضها. ثم لما أعمى الله تعالى أروى، فكانت تلتمس الجدران، وتقول أصابتني دعوة سعيد «3» بن زيد. فبينما هي تمشي إذ وقعت في البئر فماتت. وروي أنها سألت سعيدا أن يدعو لها، فقال: لا أرد على الله شيئا اعطانيه قال: وكان أهل المدينة إذا دعا بعضهم على بعض، يقولون: أعماه الله كما أعمى أروى، يريدونها. ثم صار أهل الجهل يقولون أعماه الله كما أعمى الأروى يريدون الأروى التي بالجبل يظنونها شديدة العمى والصواب الأوّل. الخواص: إذا أخذ قرنه وظلفه وخلطا في دهن، ومسح به الساعي الذي يمشي كثيرا بدنه وساقيه أزال عنه ضرر التعب حتى كأنه لم يمش شيئا. الأساريع : بفتح الهمزة، دود أحمر يكون في البقل ينسلخ فيصير فراشا قال ابن مالك قال ابن السكيت: والأصل يسروع بالفتح إلا أنه ليس في الكلام يفعول. وقال قوم: الأساريع دود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 حمر الرؤوس، بيض الأجساد، تكون في الرمل يشبه بها أصابع النساء. اهـ. وبعض الناس يقول: الأساريع شحمة الأرض. والصواب أنها غيرها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة. قال في الكفاية الأساريع دود تكون في الرمل بيض طوال، يشبه بها أصابع النساء. ويقال لها بنات النقا، وذكر في أدب الكاتب نحوه وقال الأساريع دود في الرمل بيض ملس يشبه بها أصابع النساء واحدها أسروع. وذكر ابن مالك في شرحه المنتظم الموجز فيما يهمز وما لا يهمز، أن اليسروع والأسروع دود يكون في البقل ينسلخ فيصير فراشا، قال: وهذا قول ابن السكيت. وقال غيره: الأساريع واليساريع دود حمر الرؤوس، بيض الأجساد، تكون في الرمل يشبه بها أصابع النساء. اهـ. وما ذكره عن ابن السكيت ليس كذلك، فقد ذكر ابن السكيت في إصلاح المنطق أنها تكون في الرمل تنسلخ فتصير فراشة ولعله تصحف عليه الرمل بالبقل. الحكم: يحرم أكلها لأنها من الحشرات. الخواص: إذا سحق هذا الدود وضع على العصب المقطوع نفعه من ساعته منفعة عظيمة. وقال الرازي «1» في الحاوي: إذا غسلت الأساريع، وجففت وسحقت ناعما، ونقعت في دهن السمسم، وطلي بها الذكر فإنه يغلظ. التعبير: اليسروع في المنام يعبر برجل لص يسرق قليلا قليلا، ويتزيا بالورع، ولا يخفى حاله ونفاقه، قال أهل التعبير: وهو دود أخضر يكون في المقاثي والكروم. الأسفع: الصقر، والصقور كلها سفع. والسفعة بالضم سواد مشرب بحمرة وهي في الوجه سواد في خدي المرأة. وفي الصحيح «2» : «فقامت امرأة سفعاء الخدين» . ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة. الاسقنقور: قال ابن بختيشوع «3» : إنه التمساح البري: لحمه حار في الدرجة الثانية. إذا ملح وشرب منه مثقال زاد في الباه، وهيج الشهوة، وسخن الكلى الباردة، ونفع من وجعها. وقال ابن زهر: هي دابة بمصر شكلها كالوزغة على عظم خلقته إذا علقت عينه على من يفزع بالليل أبرأته إذا لم يكن من خلط. وقال أرسطاطاليس، في كتاب الحيوان الكبير: إن شربه يهيج الباه، ويزيد في الإنعاظ في سائر البلاد إلا بمصر. وهو أنفس ما يهدى منها الملوك الهند، فإنهم يذبحونه بسكين من الذهب، ويحشونه من ملح مصر، ويحملونه كذلك إلى أرضهم فإذا وضعوا مثقالا من ذلك الملح على بيض أو لحم وأكل نفع في ذلك نفعا بليغا. وسيأتي إن شاء الله تعالى في التمساح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 أنه يبيض في البر فما وقع من ذلك في الماء صار تمساحا، وما بقي في البر صار اسقنقورا. وسيأتي إن شاء الله في باب السين المهملة حكمه وحكم السقنقور الهندي. الأسود السالخ: هو نوع من الأفعوان شديد السواد، سمي بذلك لأنه يسلخ جلده كل عام، يقال أسود سالخ، ولا يقال للأنثى سالخة. وأسودان سالخ، ولا تثنى الصفة في قول الأصمعي وأبي زيد وحكى ابن زيد تثنيتها والأول أعرف. وأساود سالخة وسوالخ قاله ابن سيده. روى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما «1» قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل، قال: يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحيّة والعقرب، ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد» . ساكن البلد الجن، وقيل الوالد وما ولد إبليس والشياطين. وفي الصحيحين «2» : «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الأسودين في الصلاة الحية والعقرب» . وأنشد ابن هشام في كتاب التيجان: ما بال عينك لا تنام كأنما ... كحلت أماقيها بسم الأسود حنقا على سبطين حلا يثربا ... أولى لهم بعقاب يوم أسود وللإمام الشافعي رضي الله عنه من أبيات: والشاعر المنطيق أسود سالخ ... والشّعر منه لعابه ومجاجه «3» وعداوة الشعراء داء معضل ... ولقد يهون على الكريم علاجه روى «4» البيهقي في الشعب عن عبد الحميد بن محمود، قال: كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما، فأتاه رجل فقال: أقبلنا حجاجا حتى إذا كنا في الصفاح توفي صاحب لنا، فحفرنا له فإذا أسود سالخ قد أخذ اللحد كله قال: فحفرنا له قبرا آخر فإذا أسود سالخ قد أخذ اللحد كله قال: فحفرنا له ثالثا فإذا أسود سالخ قد أخذ اللحد كله، قال: فتركناه وأتيناك نسألك ماذا تأمرنا به؟ قال: ذاك عمله الذي كان يعمله، اذهبوا فادفنوه في بعضها فوالله لو حفرتم له الأرض كلها لوجدتم ذلك قال: فألقيناه في قبر منها. فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألناها عنه، فقالت: كان يبيع الطعام، فيأخذ قوت أهله كل يوم، ثم يخلط فيه مثله من قصب الشعير، ثم يبيعه فعذب بذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وروى الطبراني في معجمه الأوسط، والبيهقي أيضا في كتاب الدعوات الكبير، من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الحاجة أبعد، فذهب يوما فقعد تحت شجرة فنزع خفيه، قال: ولبس أحدهما فجاء طائر فأخذ الخف الآخر فحلق به في السماء فانسل منه أسود سالخ فقال «1» صلى الله عليه وسلم: «هذه كرامة أكرمني الله بها، اللهم إني أعوذ بك من شر من يمشي على بطنه، ومن شر من يمشي على رجلين، ومن شر من يمشي على أربع» وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة في الغراب حديث نظير هذا وهو صحيح الإسناد. وروى أحمد في كتاب الزهد، عن سالم بن أبي الجعد قال: كان رجل من قوم صالح عليه السلام قد آذاهم فقالوا: يا نبي الله ادع الله عليه، فقال: اذهبوا فقد كفيتموه. قال: وكان يخرج كل يوم يحتطب، قال: فخرج يوما ومعه رغيفان فأكل أحدهما، وتصدق بالآخر، قال: فاحتطب ثم جاء بحطبه سالما يصيبه شيء. فجاؤوا إلى صالح عليه السلام، وقالوا: قد جاء بحطبه سالما لم يصبه شيء. فدعاه صالح وقال: أي شيء صنعت اليوم؟ قال: خرجت ومعي قرصان فتصدقت بأحدهما وأكلت الآخر، فقال صالح: حل حطبك، فحل فإذا فيه أسود سالخ مثل الجذع، عاض على جزل من الحطب، فقال: بهذا دفع عنك يعني بالصدقة. وسيأتي إن شاء الله تعالى نظير هذا في الذئب في باب الذال المعجمة. وروى الطبراني في معجمه الكبير، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن نفرا مروا على عيسى بن مريم عليه السلام فقال عيسى بن مريم: يموت أحد هؤلاء اليوم إن شاء الله تعالى، فمضوا ثم رجعوا عليه بالعشي ومعهم حزم الحطب، فقال: ضعوا، وقال للذي قال إنه يموت اليوم حل حطبك فحله، فإذا فيه حية سوداء. فقال: ما عملت اليوم؟ قال: ما عملت شيئا. قال: انظر ما عملت، قال: ما عملت شيئا إلا أنه كان معي في يدي فلقة من خبز مر بي مسكين فسألني فأعطيته بعضها فقال: بها دفع عنك» . الأصرمان: الذئب والغراب. قال ابن السكيت: لأنهما انصرما من الناس، أي انقطعا والأصرمان الليل والنهار، لأن كل واحد منهما ينصرم من الآخر. روى أحمد بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: حدثوني عن رجل دخل الجنة ولم يصل قط؟ فإذا لم يعرفه الناس سألوه من هو؟ فيقول أصيرم بن عبد الأشهل. قال عامر بن ثابت بن قيس فقلت لمحمود بن لبيد كيف كان شأن الأصيرم؟ قال: كان يأبى الإسلام على قومه فلما كان يوم أحد، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد بدا له الإسلام فأسلم، وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لمن أهل الجنة» رضي الله عنه. الأصلة: بفتح الهمزة والصاد واللام، حية كبيرة الرأس قصيرة الجسم، تثب على الفارس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فتقتله. قاله ابن الأنباري. وقيل حية خبيثة لها رجل واحدة تقوم عليها ثم تدور ثم تثب والجمع أصل. وأنشد الأصمعي رحمه الله تعالى: يا رب إن كان يزيد قد أكل ... لحم الصديق عللا بعد نهل فاقدر له أصلة من الأصل ... كيساء كالقرصة أو خف الجمل وقال الجاحظ: الأعراب تقول: إنها لا تمر بشيء إلا احترق وكأنها سميت بذلك لاستهلاكها واستئصالها وفي الحديث «1» في صفة الدجال «كأن رأسه أصلة» . وقيل: وجه الأصلة كوجه الإنسان وهو عظيم جدا. ويقال إنها تصير كذلك إذا مر عليها ألف سنة من العمر ومن خواصها أنها تقتل بالنظر إليها وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة ذكر شيء من ذلك. الأطلس: الذئب الذي في لونه غبرة إلى السواد وكل ما كان على لونه فهو أطلس. قال الكميت «2» يمدح محمد بن سليمان الهاشمي «3» : تلقى الأمان على حياض محمد ... ثولاء مخرفة وذئب أطلس لا ذي تخاف ولا لهذا جرأة ... تهدي الرعية ما استقام الريس استشهد به الجوهري على أن الرئيس يقال فيه ريس مثل قيّم. الأطوم: كالأنوق السلحفاة البحرية قاله الجوهري وقيل هي سمكة غليظة الجلد تشبه جلد البعير يتخذ منه الخفاف للجمالين. وقيل الأطوم القنفذ وقيل البقرة قيل إنما سميت بذلك على التشبيه بالسمكة لغلظ جلدها قاله ابن سيده. الأطيش: طائر قاله ابن سيده، والطيش خفة العقل. قال إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى: ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه. وأشهب المذكور هو ابن عبد العزيز بن داود الفقيه المالكي المصري، ولد في السنة التي ولد فيها الشافعي وهي سنة خمسين ومائة وتوفي بعد الشافعي بثمانية عشر يوما قال ابن عبد الحكم: سمعت أشهب يدعو على الشافعي بالموت فذكر ذلك للشافعي فقال «4» : تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيه بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد قال: فمات الشافعي، فاشترى أشهب من تركته عبدا فاشتريته من تركته بعد ثلاثين يوما. وفي مصابيح الظلم قال ابن عبد الحكم: لما حملت أم الشافعي به، رأت كأن المشتري خرج من فرجها، حتى انقض بمصر ووقع في كل بلدة منه شظية، فأوله أصحاب الرؤيا أنه يخرج منها عالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 يختص علمه بأهل مصر، ثم يتفرق في سائر البلدان. واتفق العلماء قاطبة على ثقته وورعه وأمانته وزهده، وهو أول من تكلم في أصول الفقه وهو الذي استنبطه، وكان يؤتى بالرطب، فيقول مخاطبا له: ما أطيبك وأحلاك والعلم أطيب منك وأحلى، ولا يناله. واشترى جارية، فلما كان الليل أقبل على الدرس، والجارية تنتظر اجتماعه معها، فلم يلتفت إليها، فصارت إلى النخاس وقالت: حبستموني مع مجنون، فبلغ ذلك الشافعي فقال: المجنون من عرف قدر العلم وضيعه أو توانى فيه حتى فاته. وكان الشافعي جوادا كريما مفضالا، لا يبقي على شيء ولا يدخر شيئا وكان شجاعا، ومناقبة أكثر من أن تحصى. ولد بغزة في سنة خمسين ومائة كما تقدم، وقيل إنها التي توفي فيها أبو حنيفة. وفي تهذيب الأسماء واللغات، قيل توفي سنة إحدى وخمسين وقيل في سنة ثلاث وخمسين. وقال غيره: توفي في اليوم الذي ولد فيه الشافعي لا في السنة. وقيل: ولد الشافعي بعسقلان، وقيل باليمن. قال ابن خلكان: والأصح الأول. وحمل من غزة إلى مكة وهو ابن ست سنين، ووصل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة وقيل سنة إحدى ومائتين، وأقام بها إلى أن مات سنة أربع ومائتين وقبره بقرافة مصر مشهور وعاش أربعا وخمسين سنة رحمة الله عليه ورضوانه. الأغثر: طائر ملتبس الريش طويل العنق وهو من طير الماء قاله ابن سيده. الأفال والأفائل: صغار الإبل من بنات المخاض ونحوها، واحدهما أفيل والأنثى أفيلة، وسيأتي ذكره إن تكون أقوى الناس فتوكل على الله وإن أردت أن يوسع الله عليك الرزق طموما كالمطر فلازم الدوام على الطهارة الكاملة وإن أردت أن تكون آمنا من سخط الله فلا تغضب على أحد من خلق الله وإن أردت أن يستجاب دعاؤك فاجتنب الحرام وأكل الربا وأكل السحت وإن أردت أن لا يفضحك الله على رؤوس الخلائق فاحفظ فرجك ولسانك وإن أردت أن يستر الله تعالى عليك عيبك فاستر على عيوب الناس فإن الله تعالى ستار ويحب من عباده الستارين وإن أردت أن تمحي خطاياك فأكثر من الاستغفار والخشوع والخضوع والحسنات في الخلوات وإن أردت الحسنات العظام فعليك بحسن الخلق والتواضع والصبر على البلية وإن أردت السلامة من السيئات العظام فاجتنب سوء الخلق والشح المطاع وإن أردت أن يسكن عنك غضب الجبار فعليك بإخفاء الصدقة وصلة الرحم وإن أردت أن يقضي الله عنك الدين فقل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله وقال عليه الصلاة والسلام له لو كان عليك مثل الجبال دينا أداه الله عنك قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك وفي الحديث لو كان على أحدكم جبل من ذهب دينا فدعا بذلك لقضاه الله عنه وهو اللهم فارج الكرب اللهم كاشف الهم اللهم مجيب دعوة المضطرين رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما أسألك أن ترحمني فارحمني رحمة تغنيني بها عمن سواك وإن أردت أن تنجو إذا وقعت في هلكة فالزم ما في الحديث إذا وقعت في ورطة فقل بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإن الله تعالى يصرف عنك ما شاء من أنواع البلاء والورطة بفتح الواو وإسكان الراء الهلاك وإن أردت أن تأمن من قوم خفت شرهم فقل ما ورد في الحديث اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم ومنه اللهم اكفناهم بما شئت إنك على كل شيء قدير وإن أردت أن تأمن إن خفت من سلطان فقل ما ورد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الحديث لا إله إلا الله الحليم الكريم رب السموات السبع ورب العرش العظيم لا إله إلا أنت عز جارك وجل ثناؤك لا إله إلا أنت ويستحب أن يقول ما تقدم اللهم إنا نجعلك في نحورهم إلى آخره وفي الحديث إذا أتيت سلطانا مهابا تخاف أن يسطو عليك فقل الله أكبر الله أكبر الله أعز من خلقه جميعا الله أعز مما أخاف واحذر والحمد لله رب العالمين وإن أردت ثبات القلب على الدين فقد أسند مرفوعا أنه كان من دعائه صلى الله عليه وسلم اللهم ثبت قلبي على دينك وفي رواية يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك. فائدة: مجربة لمن دخل على سلطان يخاف شره فليقرأ الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم وإن أردت كثرة الخير والرزق فداوم على قراءة ألم نشرح وسورة الكافرون وإن أردت الستر من الناس فداوم على قول اللهم استرني بسترك الجميل الذي سترت به نفسك فلا عين تراك وإن أردت عدم الجوع والعطش فداوم على قراءة لإيلاف قريش إيلافهم وقد جرب ذلك مرارا وصح وإن خفت على تجارتك أو مالك فاكتب سورة الشعراء وعلقها في موضع تجارتك يكثر فيه البيع والشراء ومن كتب سورة القصص وعلقها على من يخاف عليه التلف فإنها أمان له من ذلك وهو سر لطيف مجرب. فائدة: عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يتول قبض روحه إلا الله تعالى وعن أبي نعيم قال سمعت معروفا الكرخي يقول لما اجتمعت اليهود على قتل عيسى عليه السلام اهبط الله تعالى جبريل عليه السلام مكتوبا في باطن جناحه اللهم إني أعوذ باسمك الأحد الأعز وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعال الذي ملأ الأركان كلها إن تكشف عني ضر ما أمسيت وأصبحت فيه فقال ذلك عيسى فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبريل عليه السلام إن ارفع عبدي إلي. فائدة: مما جرب للصداع فصح ما روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال وجد في بعض دور بني أمية درج من فضة وعليه قفل من ذهب مكتوب على ظهره شفاء من كل داء وفي داخله مكتوب هذه الكلمات بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: ولأن يعادي عاقلا خير له ... من أن يكون له صديق أحمق فاربأ بنفسك أن تصادق أحمقا ... إنّ الصديق على الصديق مصدق وزن الكلام إذا نطقت فإنما ... يبدي عقول ذوي العقول المنطق ومن الرجال إذا استوت أخلاقهم ... من يستشار إذا استشير فيطرق حتى يحل بكل واد قلبه ... فيرى ويعرف ما يقول فينطق لا ألفينّك ثاويا في غربة ... إن الغريب بكل سهم يرشق ما الناس إلّا عاملان فعامل ... قد مات من عطش وآخر يغرق والناس في طلب المعاش وإنما ... بالجد يرزق منهم من يرزق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 لو يرزقون الناس حسب عقولهم ... ألقيت أكثر من ترى يتصدق لكنه فضل المليك عليهم ... هذا عليه موسع ومضيق وإذا الجنازة والعروس تلاقيا ... ورأيت دمع نوائح يترقرق سكت الذي تبع العروس مبهتا ... ورأيت من تبع الجنازة ينطق وإذا امرؤ لسعته أفعى مرة ... تركته حين يجر حبل يفرق بقي الذين إذا يقولوا يكذبوا ... ومضى الذين إذا يقولوا يصدقوا ومن محاسن شعره قوله «1» : ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه «2» إذا ارعوى عاد إلى جهله ... كذا الضنى عاد إلى نكسه وإنّ من أدبته في الصبا ... كالعود يسقى الماء في غرسه حتى تراه مورقا ناضرا ... بعد الذي أبصرت من يبسه قوله: والشيخ لا يترك أخلاقه، البيت والذي يليه، هما كانا سبب قتله وذلك أنّ المهدي اتهمه بالزندقة وأمر بإحضاره، فلما خاطبه أعجبه كلامه، فخلى عنه، فلما ولّى رده، وقال له: ألست القائل والشيخ لا يترك أخلاقه؟ البيتين المتقدمين، قال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: فأنت لا تترك أخلاقك، فأمر به فقتل وصلب على الجسر، وذلك سنة سبع وتسعين ومائة ومن محاسن شعره أيضا قوله «3» : إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وهو كقول ابن دريد: من لم يقف عند انتهاء قدره ... تقاصرت عنه فسيحات الخطا وصالح هذا هو صاحب الفلسفة قتله المهدي على الزندقة. كان يعظ ويقص بالبصرة وحديثه يسير، وليس بثقة. قيل: إنه رؤي في المنام، فقال إني وردت على رب لا تخفى عليه خافية، فاستقبلني برحمته وقال: قد علمت لراءتك مما قذفت به. وقد أحسن بعض الشعراء في وصف القنديل حيث قال مشبها: وقنديل كأنّ الضوء منه ... محيا من هويت إذا تجلّى أشار إلى الدجا بلسان أفعى ... فشمر ذيله فرقا وولّى والأفعوان هو الشجاع الأسود يواثب الإنسان وكنيته أبو حيان وأبو يحيى لأنه يعيش ألف سنة وما أحسن قول بعضهم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 صرمت حبالك بعد وصلك زينب ... والدهر فيه تغير وتقلّب نشرت ذوائبها التي تزهو بها ... سودا ورأسك كالثّغامة أشيب «1» واستنفرت لّما رأتك وطالما ... كانت تحن إلى لقاك وترغب وكذاك وصل الغانيات فإنه ... آل ببلقعة وبرق خلّب «2» فدع الصبا فلقد عداك زمانه ... وازهد فعمرك مر منه الأطيب ذهب الشباب فما له من عودة ... وأتى المشيب فأين منه المهرب دع عنك ما قد كان في زمن الصبا ... واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب واذكر مناقشة الحساب فإنه ... لا بد يحصي ما جنيت ويكتب لم ينسه الملكان حين نسيته ... بل أثبتاه وأنت لاه تلعب والروح فيك وديعة أودعتها ... ستردها بالرغم منك وتسلب وغرور دنياك التي تسعى لها ... دار حقيقتها متاع يذهب والليل فاعلم والنهار كلاهما ... أنفاسنا فيها تعد وتحسب وجميع ما خلفته وجمعته ... حقا يقينا بعد موتك ينهب تبا لدار لا يدوم نعيمها ... ومشيدها عما قليل يخرب فاسمع هديت نصيحة أولاكها ... برّ نصوح للأمور مجرب صحب الزمان وأهله مستبصرا ... ورأى الأمور بما تؤوب وتعقب لا تأمن الدهر الخؤون فإنه ... ما زال قدما للرجال يؤدب وعواقب الأيام في غصاتها ... مضض يذل له الأعز الأنجب فعليك تقوى الله فالزمها تفز ... إن التقي هو البهي الأهيب واعمل بطاعته تنل منه الرضا ... إن المطيع له لديه مقرب واقنع ففي بعض القناعة راحة ... واليأس مما فات فهو المطلب فإذا طمعت كسيت ثوب مذلة ... فلقد كسي ثوب المذلة أشعب وتوق من غدر النساء خيانة ... فجميعهن مكايد لك تنصب لا تأمن الأنثى حياتك إنها ... كالأفعوان يراع منه الأنيب «3» لا تأمن الأنثى زمانك كله ... يوما ولو حلفت يمينا تكذب تغري بلين حديثها وكلامها ... وإذا سطت فهي الصقيل الأشطب «4» وابدأ عدوّك بالتحية ولتكن ... منه زمانك خائفا تترقب واحذره إن لاقيته متبسما ... فالليث يبدو نابه إذ يغضب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إن العدوّ وإن تقادم عهده ... فالحقد باق في الصدور مغيب وإذا الصديق لقيته متملقا ... فهو العدو وحقه يتجنب لا خير في ود امرىء متملق ... حلو اللسان وقلبه يتلهب يلقاك يحلف أنه بك واثق ... وإذا توارى عنك فهو العقرب يعطيك من طرف اللسان حلاوة ... ويروغ منك كما يروغ الثعلب وصل الكرام وإن رموك بجفوة ... فالصفح عنهم بالتجاوز أصوب واختر قرينك واصطفيه تفاخرا ... إن القرين إلى المقارن ينسب إن الغني من الرجال مكرم ... وتراه يرجى ما لديه ويرهب ويبش بالترحيب عند قدومه ... ويقام عند سلامه ويقرب والفقر شين للرجال فإنه ... حقا يهون به الشريف الأنسب «1» واخفض جناحك للأقارب كلهم ... بتذلل واسمح لهم إن أذنبوا ودع الكذوب فلا يكن لك صاحبا ... إن الكذوب يشين حرا يصحب وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن ... ثرثارة في كل ناد تخطب واحفظ لسانك واحترز من لفظه ... فالمرء يسلم باللبان ويعطب «2» والسر فاكتمه ولا تنطق به ... إن الزجاجة كسرها لا يشعب وكذاك سر المرء إن لم يطوه ... نشرته ألسنة تزيد وتكذب لا تحرصن فالحرص ليس بزائد ... في الرزق بل يشقي الحريص ويتعب ويظل ملهوفا يروم تحيلا ... والرزق ليس بحيلة يستجلب كم عاجز في الناس يأتي رزقه ... رغدا ويحرم كيس ويخيب وارع الأمانة والخيانة فاجتنب ... واعدل ولا تظلم يطب لك مكسب وإذا أصابك نكبة فاصبر لها ... من ذا رأيت مسلما لا ينكب وإذا رميت من الزمان بريبة ... أو نالك الأمر الأشق الأصعب فاضرع لربك إنه أدنى لمن ... يدعوه من حبل الوريد وأقرب كن ما استطعت عن الأنام بمعزل ... إن الكثير من الورى لا يصحب واحذر مصاحبة اللئيم فإنه ... يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب واحذر من المظلوم سهما صائبا ... واعلم بأن دعاءه لا يحجب وإذا رأيت الرزق عز ببلدة ... وخشيت فيها أن يضيق المذهب فارحل فأرض الله واسعة الفضا ... طولا وعرضا شرقها والمغرب فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... فالنصح أغلى ما يباع ويوهب تتمة: ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي، في الأذكياء، وغيره، قال: لما حضرت نزار بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 معد «1» الوفاة، قسم ماله بين بنيه، وهم أربعة: مضر وربيعة وأياد وأنمار، وقال يا بني هذه القبة وهي من أدم حمراء وما أشبهها من المال المضر، وهذا الخباء الأسود وما أشبهه من المال لربيعة، وهذه الخادم وما أشبهها من المال لإياد، وهذه البدرة «2» والمجلس لأنمار يجلس فيه. ثم قال لهم: إن أشكل عليكم الأمر في ذلك واختلفتم في القسمة، فعليكم بالأفعى بن الأفعى الجرهمي. وإنه لما مات نزار توجهوا إلى الأفعى، وكان ملك نجران فبينما هم يسيرون إذ رأى مضر كلا قد رعي، فقال: إن البعير الذي رعى هذا أعور، فقال ربيعة: وهو أزور، وقال أياد: وهو أبتر، وقال أنمار: وهو شرود فلم يسيروا إلا قليلا حتى لقيهم رجل، فسألهم عن البعير، فقال مضر: أهو أعور؟ قال: نعم، قال ربيعة: أهو أزور؟ قال نعم. قال إياد: أهو أبتر: قال: نعم. قال أنمار: أهو شرود؟ قال: نعم، هذه صفة بعيري دلوني عليه فحلفوا له أنهم ما رأوه، فلزمهم وقال: كيف أصدقكم وأنتم تصفون بعيري بصفته؟! ثم سار معهم، حتى قدموا نجران ونزلوا بالأفعى الجرهمي. فنادى الشيخ صاحب البعير: هؤلاء أصابوا بعيري فإنهم وصفوا لي صفته، ثم قالوا: لم نره أيها الملك، فقال الأفعى: كيف وصفتموه ولم تروه؟ فقال مضر: رأيته رعى جانبا وترك جانبا، فعلمت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة الأثر، فعرفت أنه أفسدها بشدة وطئه لازوراره. وقال إياد: رأيت بعره مجتمعا، فعلمت أنه أبتر، ولو كان ذيالا لمصع به. وقال أنمار: رأيته رعى الملتف نبته، ثم جاوزه إلى مكان آخر أرق منه، فعلمت أنه شرود. فقال الأفعى للشيخ: ليسوا بأصحاب بعيرك، فاطلبه. ثم سألهم من هم؟ فأخبروه، فرحب بهم. ثم قال أتحتاجون إلي وأنتم كما أرى؟ فدعا لهم بطعام وشراب فأكلوا وشربوا، فقال مضر: لم أر كاليوم خمرا أجود لولا أنها على مقبرة. وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحما أجود لولا أنه ربي بلبن كلبة! وقال إياد: لم أر كاليوم رجلا أثرى منه لولا أنه ليس بابن أبيه الذي يدعى إليه! وقال أنمار لم أر كاليوم خبزا أجود لولا أن التي عجنته حائض! وكان الأفعى قد وكل بهم من يستمع كلامهم، فأعلمه بما سمع منهم فطلب صاحب شرابه، وقال له: الخمرة التي جئت بها ما قصتها؟ قال هي من كرمة غرستها على قبر أبيك، لم يكن عندنا شراب أطيب من شرابها. وقال للراعي اللحم ما أمره؟ قال: من لحم شاة أرضعناها بلبن كلبة، ولم يكن في الغنم أسمن منها فدخل داره، وسأل الأمة التي عجنت العجين؟ فأخبرته أنها حائض. ثم أتى أمه وسأل منها عن أبيه؟ فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك، فأمكنت رجلا نزل بهم من نفسها فوطئها، فأتت به. فعجب من أمرهم، ودس عليهم من سألهم عما قالوا؟ فقال مضر: إنما علمت أنها من كرمة غرست على قبر، لأن الخمر إذا شربت أزالت الهم، وهذه بخلاف ذلك، لأنا لما شربناها دخل علينا الغم. وقال ربيعة: إنما علمت أن اللحم لحم شاة رضعت من لبن كلبة، لأن لحم الضأن وسائر اللحوم، شحمها فوق اللحم إلا الكلاب، فإنها عكس ذلك، فرأيته موافقا له فعلمت أنه لحم شاة رضعت من كلبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فاكتسب اللحم منها هذه الخاصية. وقال إياد: إنما علمت أن الملك ليس بابن أبيه الذي يدعى إليه لأنه صنع لنا طعاما ولم يأكل معنا، فعرفت ذلك من طباعه، لأن أباه لم يكن كذلك وقال أنمار: إنما علمت أن الخبز عجنته حائض، لأن الخبز إذا فت انتفش في الطعام، وهو بخلاف ذلك فعلمت أنه عجين حائض. فأخبر الرجل الأفعى بذلك، فقال: ما هؤلاء إلا شياطين، ثم أتاهم فقال لهم: قصوا قصتكم، فقصوا عليه ما أوصاهم به أبوهم، وما كان من اختلافهم. فقال: ما أشبه القبة الحمراء من مال فهو ملضر، فصارت له الدنانير والإبل وهي حمر فسميت مضر الحمراء. ثم قال وما أشبه الخباء الأسود من دابة ومال، فهو لربيعة فصارت له الخيل وهي دهم فسميت ربيعة الفرس. ثم قال: وما أشبه الخادم، وكانت شمطاء، من مال، فهو لإياد، فصارت له الماشية البلق «1» من الخيل وغيرها وقضى لأنمار بالدراهم والأرض. فساروا من عنده على ذلك. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الكاف في الكلام على الكلب، ما نقله السهيلي من أن ربيعة ومضر كانا مؤمنين. وفي وفيات الأعيان في ترجمة ابن التلميذ «2» شيخ النصارى والأطباء، أنه كان بينه وبين أوحد الزمان «3» هبة الله الحكيم المشهور تنافس، وكان يهوديا فأسلم في آخر عمره، وأصابه الجذام، فعالج نفسه بتسليط الأفاعي على جسده بعد أن جوّعها، فبالغت في نهشه، فبرىء من الجذام وعمي فعمل «4» فيه ابن التلميذ شعرا: لنا صديق يهودي حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه وكان ابن التلميذ متواضعا وأوحد الزمان متكبرا، فعمل فيهما البديع «5» الاسطرلابي شعرا: أبو الحسن الطبيب ومقتفيه ... أبو البركات في طرفي نقيض فهذا بالتواضع في الثريا ... وهذا بالتكبر في الحضيض وقد ألغز أبو الحسن بن التلميذ في الميزان وأجاد «6» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ما واحد مختلف الأسماء ... يعدل في الأرض وفي السماء يحكم بالقسط بلا رياء ... أعمى يرى الإرشاد كل راء أخرس لا من علة وداء ... يغني عن التصريح بالإيماء يجيب إن ناداه ذو امتراء ... بالرفع والخفض عن النداء يفصح إن علق في الهواء وقوله مختلف الأسماء يعني ميزان الشمس للأسطرلاب، وسائر آلات الرصد، وهو معنى قوله يعدل في الأرض وفي السماء. وميزان الكلام النحو، وميزان الشعر العروض، وميزان المعاني المنطق، وهذه الميزان وغير ذلك. والأسطرلاب بفتح الهمزة وإسكان السين وضم الطاء ومعناه ميزان الشمس. لأن أسطر اسم للميزان، ولاب اسم للشمس بلسان اليونان، وأول من وضعه بطليموس بفتح الباء واللام وإسكان الطاء والياء وضم الميم وله في وضعه قصة عجيبة، تركناها لطولها. وكان ابن التلميذ قد جمع أنواعا من العلوم، حتى كان يتعجب من أمره كيف حرم الإسلام، مع كمال فهمه وغزارة عقله وعلمه، وهذا سر قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ «1» نسأل الله الوفاة على التوحيد آمين. توفي ابن التلميذ في صفر سنة ستين وخمسمائة. الخواص: دمها يكتحل به يجلو البصر، وقلبها يجفف ويشد على الإنسان، فلا يؤثر فيه السحر وإذا علق ضرس الأفعى الأيسر، على من يشتكي ضرسه، نفعه وإن علق على فخذ امرأة لم تحبل ما دام عليها. وقال القزويني، وابن زهر، وابن بختيشوع: إن قلب الأفعى، إذا علق على من به حمى الربع أبرأه. وشحمها ينفع من لسع سائر الهوام دلكا. وإن نتف الشعر من مكان، وطلي ذلك المكان بشحمها، منعه من النبات وإذا أمسك إنسان نوشادرا في فمه، حتى يذوب ثم بصق في فم الحية والأفعى ماتا من وقتهما. وسلخ الأفعى إذا طبخ بالخل، وتمضمض به نفع من وجع الأسنان والأضراس. وإذا سحق بالتراب، واكتحل به نفع من ظلمة البصر. وشحمها ينفع البواسير وبياض العين طلاء وكحلا. ومرارتها سم ساعة. وقال أبقراط: من أكل لحم الأفعى، أمن من الأمراض الصعبة. حكي: عن عمرو بن يحيى العلوي أنه قال: كنا في طريق مكة فأصاب رجلا منا استسقاء، فاتفق أن العرب سرقوا قطارا منا فيه ذلك الرجل العليل، فلما رجعنا إلى الكوفة، وجدناه معافى، فسألناه عن حاله فقال: إن الأعراب لما انتهوا بي إلى مساكنهم، وهي على فراسخ، طرحوني في أواخر بيوتهم، فكنت أتمنى الموت، إلى أن رأيتهم يوما قد أخرجوا أفاعي اصطادوها، فقطعوا رؤوسها وأذنابها وشووها فقلت في نفسي: هؤلاء اعتادوا أكلها فلا تضرهم فلعلي إن أنا أكلت منها مت واسترحت، فاستطعمتهم فرمى إلي رجل منهم واحدة، فأكلتها فنمت نوما ثقيلا ثم استيقظت وقد عرقت عرقا شديدا واندفعت طبيعتي أكثر من مائة مرة، فلما أصبحت، وجدت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بطني قد ضمر فطلبت منهم مأكولا فأكلت، وأقمت عندهم إلى أن وثقت من نفسي بالشفاء ثم أخذت الطريق مع بعضهم وأتيت الكوفة. الأقهبان: الفيل والجاموس قال رؤبة «1» يصف نفسه بالشدة: ليث يدق الأسد الهموسا ... والأقهبين الفيل والجاموسا «2» الأملول: دويبة فتكون في الرمل تشبه القطاة قاله ابن سيده. الإنس: البشر الواحد انسي وأنسي أيضا بالتحريك، والجمع أناسي، وإن شئت جعلته إنسانا، ثم جمعته على أناسي فتكون الياء عوضا عن النون. قال «3» تعالى: وَأَناسِيَّ كَثِيراً وكذلك الأناسية مثل الصيارفة والصياقلة، ويقال للمرأة أيضا إنسان ولا يقال إنسانة والعامة تقوله قال الجوهري وأنشدوا على ذلك: إنسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل الإنسان: نوع العالم، والجمع: الناس. قال الجوهري وتقدير إنسان على فعلان، وإنما زيد في تصغيره ياء. وقيل أنيسيان كما زيد في تصغير رجل، فقيل: رويجل. وقال قوم: أصله إنسيان على وزن افعلان، فحذفت الياء تخفيفا لكثرة ما يجري على الألسنة، وإذا صغروها ردوها لأن التصغير لا يكبر واستدلوا عليه بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه إنما سمي إنسانا لأنه عهد إليه فنسي والأناس لغة في الناس، وهو الأصل فخفف، قال «4» تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، وهو اعتداله، وتسوية أعضائه، لأنه خلق كل شيء منكبا على وجهه، وخلقه سويا وله لسان ذلق، ينطق به ويد وأصابع يقبض بها، مزينا بالعقل مؤدبا بالأمر، مهذبا بالتمييز، يتناول مأكوله ومشروبه بيده. وروى الطبراني في معجمه الأوسط، بإسناد صحيح، عن أبي مزينة الدارمي، وكانت له صحبة، قال: كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا التقيا لم يفترقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «5» . فائدة: قال ابن عطية: من الدليل على أن القرآن غير مخلوق، أن الله تعالى ذكر القرآن في كتابه العزيز في أربعة وخمسين موضعا، ما فيها موضع صرح فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسان على الثلث من ذلك في ثمانية عشر موضعا، كلها نصّت على خلقه، وقد افترق ذكرهما على هذا النحو، في قوله «6» تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ . قال القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 أبو بكر بن العربي المالكي الإمام العلامة: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله تعالى خلقه حيا عالما قادرا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما، وهذه صفات الرب جل وعلا وعنها وقع البيان بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته يعني «1» على صفاته، التي قدمنا ذكرها. قلت: وهنا مجال رحب لأصحاب الكلام في أصول الدين أضربنا عنه، إذ ليس هو من غرضنا في هذا الكتاب. وروى أبو بكر المتقدم ذكره، بإسناده أن موسى بن عيسى «2» الهاشمي، كان يحب زوجته حبا شديدا فقال لها يوما: أنت طالق ثلاثا، إن لم تكوني أحسن من القمر، فاحتجبت عنه، وقالت: طلقت. فبات بليلة عظيمة، فلما أصبح أتى المنصور وأخبره بذلك، فاستحضر الفقهاء، وسألهم عن ذلك؟ فأجاب كل منهم بالطلاق، إلا واحدا منهم، فقال: لا تطلق لقوله تعالى «3» : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . فقال المنصور: الأمر كما ذكرت، ثم أرسل إلى زوجته بذلك. وهذا الجواب ينقل عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعندي في قوله: موسى بن عيسى نظر، والذي أظنه أنه عيسى بن موسى فإنه كان ولي عهد المنصور، ثم خلعه من ولاية العهد لولده المهدي، وقد تقدم أن الشافعي رضي الله تعالى عنه، ولد في سنة خمسين ومائة، والمنصور كانت وفاته على ما ذكره ابن خلكان وغيره في سنة ثمان وخمسين ومائة، فكيف يتصور أن يكون الشافعي المفتي في هذه الواقعة؟ فليتأمل ذلك. قلت: وقد أذكرتني هذه الحكاية، ما ذكره الزمخشري، عند قوله «4» تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أن عمران بن حطان «5» الخارجي كان شديد السواد، وكانت امرأته من أجمل النساء، فأطالت نظرها في وجهه يوما وقالت: الحمد لله فقال: ما لك؟ فقالت: حمدت الله تعالى على أني وإياك في الجنة. قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت وقد وعد الله عباده الصابرين والشاكرين الجنة. وذكر «6» ابن الجوزي في الأذكياء وغيره أن عمران بن حطان هذا كان أحد الخوارج، وهو القائل يمدح عبد الرحمن بن ملجم لعنهما الله على قتل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: يا ضربة من تقى ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 أكرم بقوم بطون الأرض أقبرهم ... لم يخلطوا دينهم بغيا وعدوانا فبلغت القاضي أبا الطيب الطبري «1» هذه الأبيات فقال مجيبا له: إني لأبرأ مما أنت قائله ... في ابن ملجم الملعون بهتانا إني لأذكره يوما فألعنه ... دينا وألعن عمران بن حطانا عليك ثم عليه الدهر متصلا ... لعائن الله إسرارا وإعلانا فأنتم من كلاب النار جاء لنا ... نص الشريعة برها وتبيانا «2» أشار أبو الطيب إلى قوله صلى الله عليه وسلم «الخوارج كلاب «3» النار» . عجيبة: رأيت في ذيل تاريخ بغداد لابن النجار، في ترجمة علي بن نصر الفقيه ابن أحمد المالكي، والد القاضي عبد الوهاب، وكان ثقة عدلا قال: زوجت أيام عضد الدولة ابن بويه، بعض غلمانه الأتراك صبية في جوارنا، وكان لها ولوالدتها أنس بدارنا، وكانت من الموصوفات بالستر والعفاف، ومضى على ذلك سنتان فحضر إلي الغلام التركي، وقال: يا سيدي هذه المرأة التي زوجتني بها قد ولدت مني إبنا، ولا أشكو شيئا من أمرها، ولا أنكره، غير أنها ما أرتني ولدي منذ ولدته وكلما طالبتها به دافعتني عنه، وأريد أن تستدعيها وتسألها عن ذلك، قال: فاستدعيت والدتها فحضرت وخاطبتها من وراء الستر، على ما قاله زوج ابنتها فأسرّت إلي وقالت: يا سيدي صدق فيما حكاه، وإنما دافعناه عن هذا لأنا قد بلينا ببلية قبيحة، وذلك أن زوجته ولدت منه ولدا أبلق من رأسه إلى سرته أبيض، وبقية بدنه أسود! قال فسمع التركي قولها أبلق فصاح ابني ابني! وهكذا كان جدي ببلاد الترك وقد رضيت ففرحت المرأة بقوله وانصرفت وأظهرت له الولد. وافتتح ابن بختيشوع ومعناه عبد المسيح كتابه في الحيوان، بالإنسان وقال: إنه أعدل الحيوان مزاجا، وأكمله أفعالا وألطفه حسا، وأنفذه رأيا، فهو كالملك الملط القاهر لسائر الخليقة، والآمر لها، وذلك بما وهبه الله تعالى له من العقل، الذي به يتميز على كل الحيوان البهيمي، فهو بالحقيقة ملك العالم ولذلك سماه قوم من الأقدمين العالم الأصغر. فائدة: نقل الشيخ شهاب الدين أحمد البوني رحمه الله في كتابه المسمى بسر الأسرار عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: من كانت له حاجة فليصم الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا كان يوم الجمعة تطهر وراح إلى الجمعة وقال: اللهم إني أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم، الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم، وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم الذي ملأت عظمته السموات والأرض، وأسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم الذي لا إله إلا هو عنت له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الوجوه، وخشعت له الأبصار، ووجلت القلوب من خشيته، أن تصلي على محمد وعلى آل محمد وأن تعطيني مسألتي وتقضي حاجتي وتسميها برحمتك، يا أرحم الراحمين. وهو سر لطيف مجرب. وقال: من كتب: محمد رسول الله، أحمد رسول الله خمسا وثلاثين مرة يوم الجمعة، بعد صلاة الجمعة، على طهارة كاملة وحملها معه، رزقه الله تعالى القوة على الطاعة، ومعونة على البركة، وكفاه همزات الشياطين. وإن هو استدام النظر إلى تلك البطاقة كل يوم عند طلوع الشمس، وهو يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم، كثرت رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم. وهو سر لطيف مجرب. وروى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه، أنه رأى رب العزة في المنام تسعا وتسعين مرة، فقال: إن رأيته تمام المائة لأسألنه، فرآه تمام المائة فسأله وقال: يا رب بماذا ينجو العباد يوم القيامة؟ فقال له: من قال كل يوم، بكرة وعشيا، ثلاث مرات سبحان الأبدي الأبد، سبحان الواحد الأحد، سبحان الفرد الصمد، سبحان من رفع السماء بغير عمد، سبحان من بسط الأرض على ماء جمد، سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، سبحانه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وقال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، من قال كل يوم، بين صلاة الفجر والصبح، أربعين مرة يا حي يا قيوم، يا بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا ألله لا إله إلا أنت، أسألك أن تحيي قلبي بنور معرفتك، يا أرحم الراحمين. أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب. فائدة أخرى : في كتاب البستان عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يحفظ الله عليه الإيمان، حتى يلقاه يوم القيامة، فليصل كلّ ليلة بعد سنّة المغرب، قيل أن يتكلم، ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وقل أعوذ برب الفلق مرة وقل أعوذ برب الناس مرة، ويسلم منهما، فإن الله تعالى يحفظ عليه الإيمان، حتى يوافي ربه يوم القيامة» . قال الراوي وهذه فائدة عظيمة غنيمة. وذكر النسفي هذا الحديث بسند طويل وزاد فيه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» قبل الإخلاص، ويسبح خمس عشرة مرة بعد السلام، ويقول عقب التسبيح: اللهم أنت العالم ما أردت بهاتين الركعتين، اللهم اجعلهما لي ذخرا يوم لقائك، اللهم احفظ بهما ديني، في حياتي وعند مماتي، وبعد وفاتي، آمنه الله سلب الإيمان. وهذه فائدة عظيمة من أعظم المهمات. وسئل بعض الحكماء وذوي الفصاحة من العلماء، أي الخصال من الإنسان خير؟ قال: الدين قال: فإذا كانت اثنتين؟ قال: الدين والمال. قال فإذا كانت ثلاثا؟ قال: الدين والمال والحياء. قال: فإذا كانت أربعا؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق. قال: فإذا كانت خمسا؟ قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق والسخاء. فمن اجتمع فيه هذه الخصال الخمس فهو تقي نقي لله ولي، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الشيطان بري وقال: المؤمن شريف ظريف، لطيف لا لعان ولا نمام، ولا مغتاب ولا قتات، ولا حسود ولا حقود، ولا بخيل ولا مختال، يطلب من الخيرات أعلاها، ومن الأخلاق أسناها، إن سلك مع أهل الآخرة، كان أورعهم، غضيض الطرف سخي الكف، لا يرد سائلا ولا يبخل بنائل، متواصل الأحزان، مترادف الإحسان، يزن كلامه ويحرس لسانه، ويحسن عمله، ويكثر في الحق أمله، متأسف على ما فاته من تضييع أوقاته، كأنه ناظر إلى ربّه مراقب لما خلق له لا يرد الحق على عدوّه، ويبطل الباطل من صديقه، كثير المعونة قليل المؤونة، يعطف على أخيه عند عسرته لما مضى من قديم صحبته فهذه صفات المؤمنين، الخالصين الموحدين لرب العالمين. وكان رجل من عباد الله الصالحين الموحدين يصحب إبراهيم «1» بن أدهم رضي الله تعالى عنه، فقال له: علمني اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى فقال: قل هذه الكلمات صباحا ومساء فإنه ما دعا بهن خائف، إلا أمن ولا سائل إلا أعطاه الله مسألته وهي هذه الكلمات: يا من له وجه لا يبلى ونور لا يطفى، واسم لا ينسى، وباب لا يغلق، وستر لا يهتك، وملك لا يفنى، أسألك وأتوسل إليك بجاه محمد صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي وتعطيني مسألتي. وقال بعض العلماء: اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى هو لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الأحد، اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنّان المنّان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم. وسئل الإمام النووي رحمه الله تعالى، عن اسم الله الأعظم ما هو، وفي أي سورة هو؟ فأجاب رضي الله تعالى عنه: فيه أحاديث كثيرة ففي سنن ابن ماجه، وغيره عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «في ثلاث سور في البقرة وآل عمران وطه» . قال بعض الأئمة المتقدمين: هو الحي القيوم، لأنه في البقرة، في آية الكرسي، وفي أول آل عمران، وفي طه في قوله «2» تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ . وهذا استنباط حسن والله أعلم. وقد ثبت في صحيح مسلم رضي الله عنه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «3» قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: «يقول قد دعوت فلم يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» . فائدة: فيمن يستجاب دعاؤهم قطعا: المضطر، والمظلوم مطلقا، ولو كان فاجرا أو كافرا، أو الوالد على ولده، والإمام العادل، والرجل الصالح، والولد البار بوالديه، والمسافر حتى يرجع، والصائم حتى يفطر، والمسلم للمسلم ما لم يدع بظلم، أو قطيعة رحم، أو يقل دعوت فلم أجب. ومن الفوائد المجربة: العظيمة البركة، الكثيرة الخير، لقضاء الحوائج، وتفريج الهم والغم، وهي من الأسرار المخزونة المكنونة، كما قاله شيخنا اليافعي: أن تقرأ بعد صلاة العشاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 على طهارة كاملة، في جلسة واحدة، اسمه تعالى «لطيف» ست عشرة ألف مرة وستمائة مرة وإحدى وأربعين مرة، والحذر ثم الحذر من الزيادة والنقص فإنه يبطل السر. والحيلة في معرفة ضبط ذلك أن تأخذ سبحة عدتها 129 فتقرأ الاسم عليها 129، فيحصل المقصود، وهذه أقرب الطرق المستقيمة لمعرفتها فإن عدة حروفه أربعة وهي ل ط ي ف جملتها 129 فاضربها في مثلها، فتكون جملتها ستة عشر ألفا وستمائة وإحدى وأربعين وتسمي حاجتك فإنها تقضى إن شاء الله تعالى لا محالة وفي كل مائة وتسع وعشرين مرة تقول: لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهذه للدعاء على الظالم ومنها لجلب الخير والرزق والبركة، تقول عقب كل صلاة مائة ثم تقول: الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز. ومنها لدفع كيد الظلمة لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. والدعاء بعد تمام قراءة الاسم المبارك: اللهم وسع علي رزقي، اللهم عطف علي خلقك كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن ذل السؤال لغيرك، برحمتك يا أرحم الراحمين. قال سيدنا الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى: كن متمسكا بهذه الصفات الحميدة تفز بسعادة الدارين، لا تتخذ من الكافرين وليا ولا من المؤمنين عدوا، وارتحل بزادك من التقوى في الدنيا، وعد نفسك من الموتى، واشهد لله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة، وحسبك عمل صالح وإن قل، وقل آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فمن كان متمسكا بهذه الصفات الحميدة، ضمن الله عزّ وجلّ له أربعة في الدنيا: الصدق في القول والإخلاص في العمل والرزق كالمطر والوقاية من الشر وأربعة في الآخرة المغفرة العظمى، والقربة الزلفى، ودخول جنة المأوى، واللحوق بالدرجة العليا. وإن أردت الصدق في القول، فداوم على قراءة إنا أنزلناه في ليلة القدر، وإن أردت الرزق كالمطر، فداوم على قراءة قل أعوذ برب الفلق، وإن أردت السلامة من شر الناس فداوم على قراءة قل أعوذ برب الناس، وإن أردت جلب الخير والرزق والبركة، فداوم على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم الملك الحق المبين هو نعم المولى ونعم النصير، وقراءة سورة الواقعة وسورة يس فإنه يأتيك الرزق كالمطر وإن أردت أن يجعل الله لك من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ويرزقك من حيث لا تحتسب، فالزم الاستغفار وإن أردت أن تأمن مما يروعك ويفزعك، فقل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه، وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وإن يحضرون. وإن أردت أن تعرف أي وقت تفتح فيه أبواب السماء، ويستجاب الدعاء فاشهد وقت نداء المنادي فأجبه ففي الحديث «1» «من نزل به كرب أو شدة فليجب المنادي» ، والمنادي هو المؤذن. وإن أردت أن تسلم من أمر يكربك، فقل: توكلت على الحي الذي لا يموت أبدا، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا. ففي الحديث «2» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 «مما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل، فقال يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت أبدا وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبّره تكبيرا» . وإن أردت أن تنجو من هم أو غم أو خوف يصيبك، فقل: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضائك، أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا، من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي فيذهب عنك همك وغمك وحزنك. وإن أردت أن يداويك الله من تسعة وتسعين داء، أيسرها اللمم، فقل ما ورد في الحديث «1» : «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» فإنها دواء مما ذكر. وإن أردت أن تؤجر بما يصيبك من مصيبة، فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك احتسبت مصيبتي فأجرني فيها وأبدلني خيرا منها. ومنه: حسبنا الله ونعم الوكيل، توكلنا على الله، وعلى الله توكلنا. وإن أردت أن يذهب همّك، ويقضى دينك، فقل، إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدّين، وقهر الرجال. وإن أردت أن توفق للخشوع، فاترك فضول النظر. وإن أردت أن توفق للحكمة، فاترك فضول الكلام. وإن أردت أن توفق لحلاوة العبادة، فاترك فضول الطعام، وعليك بالصوم، وقيام الليل والتهجد فيه. وإن أردت أن توفق للهيبة فاترك المزح والضحك، فإنهما يسقطان الهيبة. وإن أردت أن توفق للمحبة، فاترك فضول الرغبة في الدنيا. وإن أردت أن توفق لإصلاح عيب نفسك، فاترك التجسس عن عيوب الناس، فإن التجسس من شعب النفاق، كما أن حسن الظن من شعب الإيمان. وإن أردت أن توفق للخشية فاترك التوهم في كيفية ذات الله تعالى تسلم من الشك والنفاق. وأن أردت أن توفق للسلامة من كل سوء، فاترك الظن السيء بكل الناس. وإن أردت العزلة، فاترك الاعتقاد في الناس وتوكل على الله وإن أردت أن لا يموت قلبك، فقل كل يوم أربعين مرة: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت. وإن أردت أن ترى النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، فأكثر من قراءة: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت. وإن أردت أن ينور وجهك، فداوم على قيام الليل. وإن أردت السلامة من عطش يوم القيامة، فلازم الصوم. وإن أردت أن تسلم من عذاب القبر، فاحترز من النجاسات، واترك أكل المحرمات، وارفض الشهوات. وإن أردت أن تكون غنيا فلازم القناعة وإن أردت أن تكون خير الناس، فكن نافعا للناس. وإن أردت أن تكون أعبد الناس، فكن متمسكا بقوله «2» صلى الله عليه وسلم: «من يأخذ عني هذه الكلمات فيعمل بهن، أو يعلّم من يعمل بهن؟ قال أبو هريرة: قلت أنا يا رسول الله فأخذ بيدي، وعد خمسا، قال: اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك، تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب لناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وإن أردت أن تكون من المحسنين الخالصين، فاعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وإن أردت أن يكمل إيمانك، فحسن خلقك. وإن أردت أن يحبك الله فاقض حوائج إخوانك المسلمين. ففي الحديث «إذا أحب الله عبدا صير حوائج الناس إليه» . وإن أردت أن تكون من المطيعين، فأد ما فرض الله عليك، وإن أردت أن تلقى الله تعالى نقيا من الذنوب، فاغتسل من الجنابة، ولازم غسل الجمعة، تلق الله تعالى يوم القيامة، وما عليك من ذنب. وإن أردت أن تحشر يوم القيامة في النور الهادي، وتسلم من الظلمات، لا تظلم أحدا من خلق الله تعالى. وإن أردت أن تقل ذنوبك، فالزم دوام الاستغفار. وإن أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله. وإن أردت أن يوسع الله عليك الرزق طموما كالمطر، فلازم الدوام على الطهارة الكاملة. وإن أردت أن تكون آمنا من سخط الله، فلا تغضب على أحد من خلق الله. وإن أردت أن يستجاب دعاؤك، فاجتنب الحرام، وأكل الربا، وأكل السحت. وإن أردت أن لا يفضحك الله على رؤوس الخلائق، فاحفظ فرجك ولسانك. وإن أردت أن يستر الله تعالى عليك عيبك، فاستر على عيوب الناس فإن الله تعالى ستار ويحب من عباده الستارين. وإن أردت أن تمحي خطاياك، فأكثر من الاستغفار، والخشوع، والخضوع، والحسنات في الخلوات. وإن أردت الحسنات العظام، فعليك بحسن الخلق، والتواضع، والصبر على البلية. وإن أردت السلامة من السيئات العظام، فاجتنب سوء الخلق والشح المطاع. وإن أردت أن يسكن عنك غضب الجبار، فعليك بإخفاء الصدقة، وصلة الرحم. وإن أردت أن يقضي الله عنك الدين، فقل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله، وقال «1» عليه الصلاة والسلام له: «لو كان عليك مثل الجبال دينا، أداه الله عنك، قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك» . وفي الحديث: «لو كان على أحدكم جبل من ذهب دينا فدعا بذلك لقضاه الله عنه وهو اللهم فارج الكرب اللهم كاشف الهم اللهم مجيب دعوة المضطرين رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، أسألك أن ترحمني رحمة تغنيني بها عمن سواك» . وإن أردت أن تنجو إذا وقعت في هلكة فالزم ما في الحديث «2» ، إذا وقعت في ورطة فقل «بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» . فإن الله تعالى يصرف عنك ما شاء من أنواع البلاء والورطة. بفتح الواو وإسكان الراء الهلاك. وإن أردت أن تأمن من قوم خفت شرهم فقل ما ورد في الحديث «3» : «اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم» . ومنه اللهم اكفناهم بما شئت إنك على كل شيء قدير. وإن أردت أن تأمن، إن خفت من سلطان، فقل ما ورد في الحديث «4» : «لا إله إلا الله الحليم الكريم رب السموات السبع ورب العرش العظيم لا إله إلا أنت عزّ جارك وجل ثناؤك لا إله إلا أنت» ويستحب أن يقول ما تقدم اللهم إنا نجعلك في نحورهم إلى آخره. وفي الحديث: «إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 أتيت سلطانا مهابا تخاف أن يسطو عليك، فقل الله أكبر الله أكبر الله أعز من خلقه جميعا الله أعز مما أخاف واحذر، والحمد لله رب العالمين» . وإن أردت ثبات القلب على الدين، فقد أسند مرفوعا أنه كان من دعائه «1» صلى الله عليه وسلم: «اللهم ثبت قلبي على دينك» وفي رواية «2» : «يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك» . فائدة: مجربة لمن دخل على سلطان يخاف شره، فليقرأ: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ «3» الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ «4» . وإن أردت كثرة الخير والرزق، فداوم على قراءة ألم نشرح وسورة الكافرون. وإن أردت الستر من الناس فداوم على قول اللهم استرني بسترك الجميل، الذي سترت به نفسك، فلا عين تراك. وإن أردت عدم الجوع والعطش، فداوم على قراءة لإيلاف قريش إيلافهم، وقد جرب ذلك مرارا وصح. وإن خفت على تجارتك أو مالك فاكتب سورة الشعراء وعلقها في موضع تجارتك يكثر فيه البيع والشراء. ومن كتب سورة القصص، وعلقها على من يخاف عليه التلف، فإنها أمان له من ذلك وهو سر لطيف مجرب. فائدة: عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة مكتوبة لم يتول قبض روحه إلا الله تعالى» . وعن أبي نعيم قال: سمعت معروفا الكرخي يقول لما «اجتمعت اليهود على قتل عيسى عليه السلام، اهبط الله تعالى جبريل عليه السلام مكتوبا في باطن جناحه اللهم إني أعوذ باسمك الأحد الأعز وأدعوك اللهم باسمك الكبير المتعال، الذي ملأ الأركان كلها أن تكشف عني ضر ما أمسيت وأصبحت فيه. فقال ذلك عيسى فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبريل عليه السلام أن ارفع عبدي إلي» . فائدة: مما جرب للصداع فصح ما روي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه قال: وجد في بعض دور بني أمية درج من فضة وعليه قفل من ذهب، مكتوب على ظهره: شفاء من كل داء، وفي داخله مكتوب هذه الكلمات: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اسكن أيها الوجع سكنتك بالذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اسكن أيها الوجع سكنتك بالذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: فما احتجت معه إلى طبيب قط بإذن الله تعالى فإنه هو الشافي. ومما جرب للصداع أيضا أن يكتب على ورقة بيضاء، وتلصق على المحل الذي فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الصداع، فإنه يزول بإذن الله تعالى وهو صحيح مجرب دم 5 م ل 5. ووجد أيضا في ذخائر بني أمية ترس مربع من ذهب، وعليه أزرار من الزمرد الأخضر مملوء بالمسك والكافور والعنبر الخام، وكان من جعله على رأسه، أزال عنه الصداع البتة في الوقت والساعة ففتقوا الترس فوجدوا في باطن أزراره بطاقة مكتوبا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ «1» بسم الله الرحمن الرحيم: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً «2» ، بسم الله الرحمن الرحيم: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «3» بسم الله الرحمن الرحيم: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً «4» . بسم الله الرحمن الرحيم: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «5» .. ومما جرب للصداع أيضا أن تكتب هذه الأحرف على لوح خشب أو مكان طاهر، وتدق في الحرف الأول مسمارا وتقرأ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا، وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم، وتدق دقا خفيفا فإن سكن الصداع فبالغ، عليه بالدق إلى قرصه، وإن لم يسكن فانقل المسمار من حرف إلى حرف إلى أن يسكن الصداع فلا بد أن يسكن في حرف منها كما جرب ذلك مرارا وهي هذه اح اك ك ح ع ح ام ح والسواد موضع وضع المسمار ويجمعهما قولك: إني حملت إليك كل كريمة ... حوراء عن حظ المتيم ما حنت فأوائل الكلمات منها مقصدي ... لصداع رأس يا فتى قد جربت ثم قال أي ابن بختيشوع: ومما ذكر من الخواص، وشهدت به التجربة، ما قاله الحكيم جالينوس: إذا أخذت شعر ابن آدم وأحرقته، وخلطته بماء الورد، ووضعته المرأة على رأسها، عند الطلق تسهل عليها الولادة. وإن طليت البرص والبهق بمني ابن آدم أبرأه. وإذا حططته في البيت، اجتمعت عليه البراغيث. وبصاق ابن آدم سم الحيات فإنك إن بصقت في فم الحية ثلاث مرات تموت من ساعتها. وإذا أوقدت سراجا من دهن ابن آدم، في ليلة ذات رياح، سكنت الرياح. وشعر المرأة بطوله، إذا طرح في ماء البحر بحيث لا يخرج منه، صار حية مائية. وإذا اكتحل الإنسان بلبن النساء مع سكر طبرزذ ينفع لبياض العين. والطفل الأزرق العينين إذا رضع من لبن الجارية الحبشية أربعين يوما اسودت عيناه. وإذا أخذت بول الصبي وخلط برماد حطب الكرم، وحط على القرحة نفعها. وإذا علقت المرأة عليها سن الطفل الذي وقع في أول سنة لا تحبل. قال جالينوس «6» ويحيى «7» بن ماويشه: مرارة ابن آدم سم قاتل، ومن اكتحل بمرارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ابن آدم نفعته من بياض العين. وقال ابن ماويشه: سرة الطفل أول ما تقطع إذا علقتها المرأة على يدها، وبها ألم سكن. وإذا أخذ عظم ابن آدم وأحرق وسحق وخلط معه صبر ونفخ في الأنف الذي فيه البسور أبرأه بإذن الله تعالى. وإذا أخذت الحيات التي تخرج من بطن ابن آدم وجففت وسحقت ناعما، واكتحل بها من في عينه بياض ذهب. وإذا أخذ رجيع ابن آدم يابسا وسحق ونخل وعجن بالخل وعسل النحل وطلي به على الأكلة برئت بإذن الله تعالى. وكذلك إذا طليت به الخوانيق التي في الحلق برئت وشعر ابن آدم إذا علق على من يشتكي الشقيقة سكنت. وإذا بل الشعر بالخل ووضع على عضة الكلب برئت. ودم ابن آدم إذا أخذ وعجن بدقيق الحلبة وبماء السذاب وطلي به كل قرحة تتكون في البدن برئت لوقتها البتة لا سيما التي تكون في الساقين، والقروح الرطبة التي يسيل منها الدم والقيح. وإذا أخذ دم الحيض من جارية بكر أو ثيب، وخلط معه خمر عتيق واكتحل به من في عينه بياض أبرأه. وخرقة الحيض إذا علقت على مؤخر السفينة، لا يدخلها ريح ولا زوبعة. وإذا أصاب المرأة وجع السرة، تأخذ خرقة الحيض، فتحرقها حتى تصير رمادا، ثم تأخذ من ذلك الرماد جزءا ومن الكزبرة جزءا ويدق الجميع بماء فاتر ويطلى به ما حول السرة تبرأ بإذن الله تعالى. وكذلك إذا أصابها عند النفاس، فإنه يسكن بذلك بإذن الله تعالى. ورجيع الطفل عند الولادة يجفف ويسحق ويكتحل به من في عينه بياض فإنه يذهب بإذن الله تعالى. وإذا أخذت قلفة الصبيان، وهي طهارتهم، وجففت وسحقت وخلط معها شيء من المسك وماء الورد وسقي من ذلك صاحب البرص والجذام، وقف عنه بإذن الله تعالى. وإذا أحرقت وسحقت وسقيت لمن غلب عليه البرص ذهب عنه بإذن الله تعالى. ويؤخذ من رجيع ابن آدم مقدار حمصة ويسحق ويذاب بماء فاتر ويسقى لصاحب القولنج يبرأ بإذن الله تعالى. وإذا سحق وديف بالخل كان أبلغ وإذا أخذ رجيع ابن آدم، أول ما يخرج وهو حار ويخلط بخمر عتيق، ويسقى للدابة المريضة تبرأ بإذن الله تعالى. وإذا غسلت وسخ رجلي ابن آدم ويديه بالماء، وأسقيته لمن شئت فإنه يحبك محبة شديدة، ولا يكاد يطيق فراقك، وهو سر عجيب مجرب. ومثله إذا أردت أن يحبك إنسان حبا شديدا فاغسل جيب قميصك واسقه ماءه، وهو لا يعلم، فإنه يحبك حبا شديدا. وإن أردت أن تجمع الحمام في البرج فخذ رأس ابن آدم، وهو ميت قد مضى عليه من السنين مدة، وادفنه في ذلك البرج، فإن الحمام يعمره ويجتمع إليه من كل مكان حتى يضيق به. وإذا أصاب إنسانا اللقوة والفالج يسعط بلبن جارية سوداء أو حبشية، مع شيء من دهن الزنبق فإنه يبرأ بإذن الله تعالى. ومقدار السعوط منه وزن قيراط للرجل الكامل، وللطفل والصبي وزن حبة، ويخلط معه في بعض الأوقات أنزروت أبيض، ويقطر في العين المحمرة تبرأ. وإذا أخذ الكاشم ودق ناعما وديف ببول صبي لم يبلغ الحلم وسقي للدابة المغولة برئت بإذن الله تعالى وإذا أردت أن لا يقرب المرأة أحدا غيرك، فخذ ما تستخرجه من شعرها من تسريح أو غيره، واحرقه حتى يصير رمادا، ثم اجعل منه على رأس احليلك عند الجماع معها، فلا أحد يجامعها بعد ذلك مثلك، ولا تقبل أحدا غيرك، وهو سر عجيب مجرب، ويؤخذ من مني الرجل جزء ومن الزئبق جزء ويخلط الجميع ويسعط منه صاحب اللقوة ثلاثة أيام متوالية يبرأ بإذن الله تعالى. وإذا أخذ رجيع إنسان، وأحرق وسحق ناعما وخلط معه ملح اندراني وشيء من حزنبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وخلط الجميع ونفخ في عين الدابة التي فيها البياض برئت، وإذا أخذ بول صبي قبل أن يبلغ الحلم، وجعل في وعاء وترك على النار حتى حمي وغمست صوفة في ذلك البول، وطلي به على العين التي بها ورم أو حمرة برئت. وإذا أخذ مني ابن آدم وهو حار وطلي به البرص غير لونه بقدرة الله تعالى. وإذا أخذ شيء من أبوال، وجعل في قدر نحاس، وطبخ حتى انعقد، ثم جفف وخلط معه ملح الطعام وسحق وعجن بماء الزعفران، وجعل في بودقة وأوقد عليه حتى يدور كما تدور الفضة، فاجعله سبيكة وحكه على المسن بالماء والمسك، وكحل به العين التي غلب عليها البياض، تبرأ بإذن الله تعالى البتة وهو سر لطيف مجرب وكان الحكماء المتقدمون يسمونه الجوهر النفيس ويؤخذ لبن جارية سوداء فيذاب فيه شيء من الزعفران وشيء من لعاب السفرجل ويقطر في العين التي بها الوجع والضربان والنقطة، فإنها تبرأ بإذن الله تعالى. وإذا أردت أن تكون نهود الجارية قائمة لا تنكسر، فخذ دم حيض الجارية من أول حيضها، واطل به رؤوس النهدين، فإنهما لا ينكسران ولا يزالان قائمين، وهذا سر عجيب مجرب. وإذا أخذ دم الحيض وهو حار طري ولطخ به العين يزول ما بها من الحمرة والنقطة والورم. وإن أردت أن تسمن المرأة فخذ شحم وزة أنثى، يدق ويخلط معه بورق وكمون كرماني ودقيق الحلبة يمزج الجميع، ويجعل مثل البنادق، ويبلغ ذلك لدجاجة سوداء سبعة أيام متوالية، ثم تذبح وتصلق «1» ، فكل من أكل من تلك الدجاجة، أو من مرقتها يسمن، حتى يكاد يغلب عليه الشحم، من ذكر كان أو أنثى. وإن أردت أبلغ من ذلك، فخذ مرارة آدمي وخذ ما تيسر من القمح، وضع تلك المرارة عليه، مع قليل من الماء واصبر على القمح حتى ينتفخ، وبلعه لدجاجة سوداء وافعل ما تقدم ذكره فمن أكل من تلك الدجاجة، رأى العجب العجاب من السمن والشحم حتى لا يستطيع القيام، ذكرا كان أو أنثى، وهو سر لطيف مجرب. وإذا أردت أن تقطع لبن المرأة، فخذ حلبة واسحقها واعجنها بالماء، واطل بها ثدي المرأة ينقطع اللبن البتة بإذن الله تعالى. وإذا أردت أن يدر اللبن، فخذ حنظلة ودقها واعجنها بالزيت، وخذ صوفة زرقاء ولفها على عود واغمسها في الزيت والحنظلة، واطل بها رأس الثدي يدر اللبن بقدرة الله تعالى. وكلاهما صحيح مجرب. ومتى صور صورة صبي حسن الوجه، ونصب قبالة المرأة بحيث تراه وقت الجماع خرج الولد يشبه تلك الصورة في أكثر الأعضاء البتة. قال: وضرس الميت إذا علق على من به وجع الضرس، سكن وجعه. وإذا أخذ ضرس إنسان، وعظم جناح الهدهد الأيمن، وجعلا تحت رأس النائم لم يزل كذلك حتى يؤخذا من تحت رأسه. وبصاق الإنسان ينفع من لدغ الهوام والقوباء والثآليل إذا طلي عليها قبل أن يأكل الإنسان شيئا. ولبن النساء إذا شرب مع عسل، فتت الحصا من المثانة. وبول الإنسان إذا وضع على عضة الكلب الكلب نفعها نفعا بينا. وقال قوم: إن المكلوب، إذا شرب من دم إنسان شريف، برىء من ساعته وأنشدوا على ذلك قول الشاعر: أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تبري من الكلب وقلامة ظفر الإنسان، إذا أحرقت وسقيت لإنسان آخر، أحبه ذلك الإنسان حبا شديدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وشرب بول الإنسان ينفع من لسع جميع ذوات السموم، وإن طلي به بعد أن يغلى، رجل صاحب النقرس سكن الوجع والضربان، وينفع من جميع القروح الحادثة في أصابع القدم والقروح التي فيها دود خصوصا البول العتيق. وينفع من عضة الإنسان والقرد وجميع الحيوان السمي وإذا بال رجل على الجرح حين يجرح قطع الدم لساعته وأبرأه. وهو صحيح مجرب. وعرق الإنسان إذا أخذ منه وعجن بغبار الرحا، ووضع على الثدي الوارم نفعه وينفع من جمود اللبن في الضرع والثدي، وتعقده بعد الولادة ومني الإنسان إذا أخذ وهو يابس ومعه سذاب «1» مدقوق، وذر على الأكلة أبرأها البتة وإن عجن بعسل وطلي به الحلق من خارج نفع الخناق. وإذا أخذ نجو صبي حين يولد وو جفف وسحق وكحل به بياض العين نفع، وينفع من الغشاوة نفعا جيدا. وإذا أخذ من نجو إنسان قدر حمصة وديف «2» بخل خمر وسقي لصاحب القولنج وعسر البول نفعهما. وهو إذا كان حارا نفع الفرس الحمراء، وينفع من عضة الإنسان من ساعته ولعاب الصائم إذا قطر في الأذن أخرج الدود منها. وإن خلط مع الرازوند ووضع على البواسير أبرأها. وسرة الصبي عندما تقطع إذا أخذ منها شيء، ووضع تحت فص خاتم، فإنه ينفع لابسه من القولنج. وقال ابن زهر: سن الصبي الذكر أول ولد من المرأة إن جعل تحت فص خاتم ذهب أو فضة بحيث يكون فصه منه لم يصب من لبسه من الرجال القولنج البتة. وإن بخرت المرأة بشعر إنسان، نفعها من جميع أوجاع الرحم وإذا طلت المرأة بدنها بدم النفاس من أول ولدها منعها الحبل ما عاشت وإن جعل سن الصبي، أول ما يسقط، قبل أن يصل الأرض تحت فص خاتم وعلق على امرأة منعها الحبل. وعرق النساء يطلى به الجرب يبرأ وبول الصبي الذي لم يبلع عشرين سنة إذا شربه صاحب البرص برىء. وبول الإنسان مع رماد الكرم يوضع على موضع نزف الدم يقف. ورماد العيشوم ورماد الشونيز «3» مع الزيت العتيق ينبت اللحية. ودم الحيض إذا طلي به عضة الكب الكلب تبرأ. وكذلك البهق والبرص. وقال القزويني في عجائب المخلوقات: إذا رعف الإنسان فليكتب اسمه بدمه على خرقة وتجعل نصب عينيه فإنه ينقطع رعافه ونطفة الإنسان إذا طلي بها البهق والبرص والقوباء أبرأتها، وإذا خلط بها زهر الغبيراء وجفف واسقاه إنسان لامرأة عشقته. ودم البكارة حين افتضاضها، إذا طلي به الثدي لا يكبر. قاعدة: قال الأطباء: إذا أردت أن تعلم هل المرأة عقيم أم لا؟ فمرها أن تتحمل بثومة في قطنة وتمكث سبع ساعات فإن فاح من فمها رائحة الثوم فعالجها بالأدوية، فإنها تحمل بإذن الله تعالى. وإلا فلا قال الرازي: وهي مجربة لذلك والله أعلم. التعبير: الإنسان في المنام كل شخص يعرف فهو ذاك بعينه، ذكرا كان أو أنثى، أو سميه أو نظيره. والشاب المجهول عدوّ. والشيخ جد وسعادة، وربما عبر بالصديق فمن رأى شيخا ضعيفا أو صغير الصورة، فذاك نقص في جد الإنسان وسعده. والكهل إذا لم ينق البياض أقوى لجد الإنسان وسعده. والصبي هم إذا كان طفلا يحمل لقوله «4» تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 والبالغ قوة وبشارة لقوله «1» تعالى: يا بُشْرى هذا غُلامٌ والصبي الحسن الصورة، إذا دخل مدينة محاصرة، أو كان بها طاعون أو قحط، فرج عنهم وكذلك إذا نزل من السماء أو خرج من الأرض فهو بشارة لكل ذي هم. ويعبر أيضا بملك من الملائكة، مثال ذلك أن يرى المريض أو يرى له كأن صبيا أمرد أخذه أو ضرب عنقه، فإنه ملك الموت والشاب الأشقر عدو شحيح. والشاب التركي عدو لا أمان له. والشاب الضعيف عدو ضعيف. والشاب الأسمر عدو غني والشاب الأبيض عدو دين. والمرأة في المنام دنيا، والمجهولة أقوى من المعروفة، وحسنها أحسن شيء، وقبحها أقبح شيء. والزانية زيادة في الخير والصلاح، لقول «2» النبي صلى الله عليه وسلم: «عرضت على الدنيا ليلة أسري بي في صورة امرأة حاسرة الذراعين، فقال لها: طلقتك ثلاثا» . أراد بها الدنيا. والمرأة السوداء تعبر بليلة مظلمة، والبيضاء بالنهار فمن رأى امرأة سوداء غابت عنه، وظهرت له امرأة بيضاء، فإن ذلك دليل الصباح وزوال الظلام. والمرأة التي تكون للسلطان أو هي سلطانة فإنه تعبر بملك ظالم معجب. أو تكون بمنزلة العروس لأهله ومال حرام لغير ذلك. والشابة إذا رأتها المرأة فهي عدو لها، إذا كانت مجهولة. والعجوز المجهولة لها جد وتعبر المرأة بالسنة فإن كانت سمينة فهي خصب، وإن كانت هزيلة فهي جدب. وإنما شبهت المرأة بالسنة لأنها كالأرض. قال «3» الله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ولأنها ذات نتاج وكذلك الأرض. والمرأة المتنقبة عسر لمن رآها. والمكشوفة الوجه دنيا ليس فيها تعب. والنساء زينة الدنيا، فمن أقبلن عليه، أقبلت عليه الدنيا، ومن أدبرن عنه أدبرت عنه الدنيا. والإنسان القبيح الصورة أمر مكروه، والأسود سوء والخصي المجهول يعبر بملك من الملائكة لانتزاع الشهوة منه. فمن رأى أنه خصي أو كأنه خصي ناله ذل وخضوع. وقالت النصارى: من رأى نفسه خصيا، نال منزلة في العبادة وعفة الفرج. ومن رأى بيده رأس إنسان فإنه ينال ألف دينار أو ألف درهم أو مائة درهم والرؤوس المقطعة في المنام رؤساء الناس، فمن أخذ شيئا من لحمها أو شعرها، نال مالا من قوم رؤساء. ومن رأى رأسه كبيرا حسنا نال رئاسة. ومن قطع رأسه، وكان مملوكا عتق. أو مهموما فرج الله همه. أو مريضا شفي. فإن كان ممن يخدم فارق خدمه. ومن رأى رأسه يرضخ بحجر، فإنه قد نام عن صلاة العشاء. ومن رأى رأسه رأس كلب أو فرس أو جمل أو حمار أو بغل أو غير ذلك من البهائم التي تنالها مشقة التعب والعمل نال تعبا، لأن هذه الحيوانات خلقت للكلف والتعب. وإن رأى رأسه رأس طير، كثر سفره. ومن رأى رأسه بيده، وكان له رأس آخر، فإن ذلك يدل على تدبير الأمور الرديئة وإصلاحها وأكل الرأس من الحيوان مال، لم يكن يرجوه، وطول حياة إذا كان غير نيء. والرأس يعبر بالرئيس، والسيد والأب. ويعبر أيضا برأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الممال فما رؤي فيه من زيادة أو نقص أو وجع، فهو عائد إلى ما ذكرناه، ومن رأى رأسه تحوّل رأس أسد، فإنه ينال ملكا إن كان من أهله أو رياسة أو ولاية أو وجاهة. ومن رأى أنه يأكل لحم إنسان فإنه يغتابه. ومن أكل لحم نفسه فإنه يغتاب. وقيل: أكل اللحم النيء خسارة في المال. واللحوم في الرؤيا أموال إذا كانت مطبوخة ناضجة، وإذا أكلت المرأة لحم امرأة فإنها تساحقها. وإن أكلت لحم نفسها فإنها تزني. وأكل لحم البقر الهزيل مرض. وانسب كل لحم إلى حيوانه فلحم الحية مال من عدو فإن كان نيئا فهو غيبة. ولحم السبع مال من سلطان. وكذلك لحوم السباع الضواري وجوارح الطير ولحم الخنزير مال حرام والله تعالى أعلم. إنسان الماء: يشبه الإنسان، إلا أن له ذنبا. قال القزويني: وقد جاء شخص بواحد منها في زماننا، مقدر كما ذكرنا. وقيل: إن في بحر الشأم، في بعض الأوقات من شكله، شكل إنسان وله لحية بيضاء، يسمونه شيخ البحر، فإذا رآه الناس استبشروا بالخصب. وحكي أن بعض المملوك، حمل إليه إنسان ماء، فأراد الملك أن يعرف حاله فزوجه امرأة، فأتاه منها ولد يفهم كلام أبويه، فقال للولد: ما يقول أبوك؟ قال: يقول أذناب الحيوان كلها في أسفلها، فما بال هؤلاء أذنابهم في وجوههم؟ وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الباء الموحدة في بنات الماء قريب من هذا. الكم: سئل الليث «1» بن سعد رضي الله عنه عن أكله فقال: لا يؤكل على شيء من الحالات والله تعالى أعلم. الأنقد: بالنون الساكنة وفتح القاف وبالدال المهملة القنفذ. الأمثال: يقال: «بات فلان بليل انقد» ، «2» لأنه لا ينام الليل كله. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف في القنفذ. قال الميداني: أنقد معرفة لا تدخله الألف واللام، يضرب لمن سهر ليله أجمع. قال: وقيل الأنقد الذي يشتكي سنه من النقد، وهو فساد في الأضراس يحركها وصاحبه لا ينام. فائدة: ومما جرب لوجع الضرس أن يكتب ويحمل قوله تعالى: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ «3» محوصه سمه ولها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، جهكر طكفوم طسم طس طسم حم حم حم حم حم حم حم. أسكن أيها الوجع بالذي سكن له ما في الليل والنهار، وهو السميع العليم، اليقس تقس قسا مسقس أن البهر بهر هرا وراب. ويكتب لوجع الضرس أيضا، على جدار هذه الأحرف وهي ح ب ر ص لا وع م لا وتأمر الموجوع أن يضع اصبعه على الضرس الضارب ويكون ذلك في حال ضربانه، وتضع مسمارا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أول حرف من الحروف المتقدمة، وتدق عليه دقا خفيفا، وأنت تقرأ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «1» في حالتي الدق والكتابة، فإذا علق رأس المسمار يسيرا سله هل سكن الوجع فإن قال نعم فبلغ المسمار بالدق إلى قرصه وإن قال لا، فانقل المسمار إلى الحرف الثاني وافعل ما تقدم ذكره، ولا تزال تنقله حرفا حرفا إلى آخر الحروف ففي أي حرف سكن الوجع، فبلغ المسمار فيه بالدق إلى قرصه فإنه لا بد أن يسكن في حرف منها كما جرب مرارا وما دام المسمار مدقوقا، دام الوجع ساكنا، فإذا قلع المسمار عاد الوجع والنقط الحمر في الحروف موضع وضع المسمار وهو سر عجيب مجرب صحيح. وقد نظم ذلك بعض الفضلاء في أبيات وهي: وللضرس فاكتب في الجدار مفرقا ... بما جمعه حبر صلاء وعملا ومره على الموجوع يجعل اصبعا ... وضع أنت مسمارا على الحرف أولا ودق خفيفا ثم سله ترى به ... سكونا نعم إن قال بلغه موصلا وإن قال لا فانقله ثاني حروفه ... وفي كل حرف مثل ما قلت فافعلا وفي سورة الفرقان تقرأ ساكنا ... كذا آية الإنعام فاتل مرتّلا وتترك ذا المسمار في الحيط مثبتا ... مدى الدهر فالأسقام تذهب والبلا فخذها أخي كنزا لديك مجربا ... ذخيرة أهل الفضل من خيرة الملا وقد أحسن الأمير أسامة بن منقذ «2» حيث قال «3» ملغزا في ضرسه وقد قلعه: وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد لم ألقه مذ تصاحبنا فمذ وقعت ... عيني عليه افترقنا فرقة الأبد «4» وله «5» أيضا في الصبر: اصبر إذا ناب خطب وانتظر فرجا ... يأتي به الله بعد الريب والياس إن اصطبار ابنة العنقود إذ حبست ... في ظلمة القار أداها إلى الكاس وله أيضا فيه: من يرزق الصبر نال بغيته ... ولا حظته السعود في الفلك إن اصطبار الزجاج حين بدا ... للسبك أدناه من فم الملك «6» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الإنكليس: بفتح الهمزة واللام وكسرهما معا سمك شبيه بالحيات، رديء الغذاء وهو الذي يسمى الجري الآتي في باب الجيم إن شاء الله تعالى، ويسمى المارماهي، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الصاد، في لفظ الصيد، فإن البخاري ذكره في صحيحه. وفي حديث علي رضي الله تعالى عنه أنه بعث عمار إلى السوق فقال: لا تأكلوا الأنكليس من السمك، وإنما كرهه لما تقدم، لا لأنه حرام. وفيه لغتان الأنكليس والأنقليس بفتح الهمزة واللام ومنهم من يكسرهما. قال الزمخشري: وقيل إنه الشلق. وقال ابن سيده: هو على هيئة السمك صغير له رجلان عند ذنبه كرجلي الضفدع، ولا يد له يكون في أنهار البصرة وليس لفظه عربيا. الأنن: بضم الهمزة وبالنونين طائر يضرب إلى السواد وله طوق كطوق الدبسي أحمر الرجلين والمنقار مثل الحمامة إلا أنه أسود وصوته أنين أوه أوه حكاه في المحكم. الأنيس: وتسميه الرماة الأنيسة طائر حاد البصر، يشبه صوته صوت الجمل، ومأواه قرب الأنهار والأماكن الكثيرة المياه، الملتفة الأشجار، وله لون حسن وتدبير في معاشه. قال ارسطو: إنه يتولد من الشرقراق «1» والغراب، وذلك بين في لونه. وهو طائر يحب الأنس ويقبل الأدب والتربية وفي صفيره وقرقرته أعاجيب: وذلك أنه ربما أفصح بالأصوات كالقمري، وربما ابهم كحمحمة الفرس. وغذاؤه الفاكهة واللحم وغير ذلك ويألف الغياض. الحكم: يحمل أكله لأنه من الطيبات، وينبغي أن يخرج فيه وجه بالحرمة لأكله اللحم ولسبب تولده من الغراب والشرقراق. الأنوق: على فعول الرخمة أو طائر أسود له شيء كالعرف أو أصلع الرأس أصفر المنقار قيل: إن في أخلاقها أربع خصال: تحضن بيضها، وتحمي فرخها، وتألف ولدها، ولا تمكن من نفسها غير زوجها. وفي المثل: «أعز من بيض الأنوق «2» » و «أبعد «3» من بيض الأنوق» . فلا يكاد يظفر به، لأن أوكارها في رؤوس الجبال والأماكن الصعبة وهي تحمق مع ذلك قال الشاعر: وذات اسمين والألوان شتى ... وتحمق وهي كيسة الحويل «4» وقال غيره: وكنت إذا استودعت سرا كتمته ... كبيض أنوق لا ينال لها وكر وقال رجل لمعاوية: زوجني هندا، يعني أمه، فقال: إنها قعدت عن الولد فلا حاجة لها إلى الزواج. قال فولى ناحية كذا. فأنشد معاوية رضي الله تعالى عنه: طلب الأبلق العقوق فلما ... أعجزته أراد بيض الأنوق «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ومعناه أنه طلب ما لا يكون، فلما لم يجده، طلب ما يطمع في الوصول إليه، وهو مع ذلك بعيد. كذا قاله جماعة ممن تكلم على الأمثال. وهو غلط لأن أم معاوية ماتت في المحرم سنة أربع عشرة. في اليوم الذي مات فيه أبو قحافة والد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما والصواب الذي في نهاية ابن الأثير وغيرها أن رجلا قال لمعاوية رضي الله تعالى عنه: افرض لي قال: نعم قال: ولولدي: قال: لا، قال: ولعشيرتي، قال: لا. ثم تمثل معاوية رضي الله تعالى عنه بقول الشاعر طلب الأبلق العقوق إلى آخره. والعقوق الخامل من الفوق والأبلق من صفات الذكور، والذكر لا يحمل. فكأنه قال طلب الذكر الحامل وبيض الأنوق، مثل يضرب للذي يطلب المحال الممتنع. وقال السهيلي في أوائل الروض: الأنوق الأنثى من الرخم يقال في المثل أراد بيض الأنوق إذا طلب ما لا يوجد لأنها تبيض حيث لا يدرك بيضها في شواهق الجبال. وهذا قول المبرد «1» في الكامل ولم يوافق عليه. فقد قال الخليل «2» : الأنوق الذكر نت الرخم. وهذا أشبه بالمعنى لأن الذكر لا يبيض، فمن أراد بيض الأنوق فقد أراد المحال، كمن أراد الأبلق العقوق. وقال القالي في الأمالي: الأنوق يقع على الذكر والأنثى من الرخم. وحكم الأنوق يأتي إن شاء الله تعالى في باب الراء في الرخمة. تتمة: السهيلي اسمه عبد الرحمن بن محمد السهيلي الخثعمي الإمام المشهور قال أبو الخطاب «3» بن دحية: أنشدني السهيلي أبياتا وقال ما سأل الله تعالى بها أحد حاجة إلا قضاها، وفي رواية إلا أعطاه الله إياها وكذلك من استعمل إنشادها وهي «4» : يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعدّ لكل ما يتوقع يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع يا من خزائن رزقه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع حاشا لجودك أن تقنط عاصيا ... فالفضل أجزل والمواهب أوسع وكان السهيلي مكفوف البصر توفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة رحمه الله تعالى والله الموفق للصواب. الإوز: بكسر الهمزة وفتح الواو البط واحدته إوزة وجمعوا بالواو والنون فقالوا: اوزون. وقد أجاد في وصفها أبو نواس «5» حيث قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 كأنما يصفرن من ملاعق ... صرصرة لأقلام في المهارق «1» وأبو نواس شاعر ماهر، وهو من شعراء الدولة العباسية وله أخبار عجيبة، ونكت غريبة، وخمريات أبدع فيها، واسمه الحسن بن هانىء بن عبد الأول. قال ابن خلكان في ترجمة أبي نواس قال المأمون: لو وصفت الدنيا نفسها لما وصفت بمثل قول «2» أبي نواس: ألا كلّ حي هالك وابن هالك ... وذو نسب في الهالكين عريق إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق قال «3» ومن أحسن ما أتى به من المغاني وأغربها ويدل على حسن ظنه بالله تعالى قوله: تكثر ما استطعت من الخطايا ... فإنك بالغ ربا غفورا ستبصر إن وردت عليه عفوا ... وتلقى سيدا ملكا كبيرا تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة النار الشرورا قال محمد بن نافع: رأيت أبا نواس في المنام بعد موته فقلت: يا أبا نواس، فقال: لات حين كنية، فقلت: الحسن بن هانىء قال: نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها في علتي قبل موتي وهي تحت الوسادة، قال: فأتيت أهله فقلت: هل قال أخي شعرا قبل موته؟ قالوا: لا نعلم، إلا إنه دعا بدواة وقرطاس وكتب شيئا لا ندري ما هو قال: فدخلت ورفعت وسادته فإذا أنا برقعة مكتوب فيها «4» : يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو ويرجو المجرم «5» أدعوك رب كما أمرت تضرعا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل عفوك ثم إني مسلم قال: وسئل أبو نواس عن نسبه فقال: أغناني أدبي عن نسبي. وتوفي سنة أربع وتسعين ومائة. والأوز يحب السباحة، وفرخه يخرج من البيضة فيسبح في الحال، وإذا حضنت الأنثى قام الذكر يحرسها لا يفارقها طرفة عين، وتخرج أفراخها في أواخر الشهر. روى الإمام أحمد في المناقب، عن الحسين بن كثير، عن أبيه وكان قد أدرك عليا رضي الله تعالى عنه، قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، إلى صلاة الفجر فإذا إوز يصحن في وجهه، فطردوهن فقال: دعوهن، فإنهن نوائح، فضربه ابن ملجم، فقلت: يا أمير المؤمنين خل بيننا وبين مراد فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 تقوم لهم ثاغية ولا راغية أبدا، فقال: لا ولكن احبسوا الرجل، فإن أنا مت فاقتلوه، وإن أعش فالجروح قصاص. انتهى. وسبب ذلك، على ما ذكره ابن خلكان وغيره، أنه اجتمع قوم من الخوارج فتذاكروا أصحاب النهروان، وترحموا عليهم، وقالوا ما نصنع بالبقاء بعدهم؟ فتحالف عبد الرحمن بن ملجم، والبرك بن عبد الله، وعمرو بن بكر التميمي على أن يأتي كل واحد منهم واحدا من علي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم، فقال ابن ملجم وهو أشقى الآخرين: أنا أكفيكم علي بن أبي طالب، وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية، وقال ابن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص. ثم سموا سيوفهم وتواعدوا لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان. فدخل ابن ملجم الكوفة فرأى امرأة حسناء، يقال لها قطام، كان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قد قتل أباها وأخاها يوم النهروان، فخطبها فقالت لا أتزوجك حتى أشترط، قال: وما شرطك؟ قالت: ثلاثة آلاف وعبد ووصيفة وقتل علي فقال لها: وكيف لي بقتل علي؟ فقالت: تروم ذلك غيلة فإن سلمت أرحت الناس من شره، وأقمت مع أهلك، وإن أصبت خرجت إلى الجنة ونعيم لا يزول فأنعم لها، وقال: ما جئت إلا لقتله. ثم أقبل ابن ملجم حتى جلس مقابل السدة التي يخرج منها علي رضي الله تعالى عنه: فزت ورب الكعبة، شأنكم بالرجل فخذوه، فحمل ابن ملجم علي رضي الله تعالى عنه: فزت ورب الكعبة، شأنكم بالرجل فخذوه، فحمل ابن ملجم على الناس بسيفه، فأفرجوا له، وتلقاه المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بقطيفة فرمى بها عليه واحتمله، فضرب به الأرض وجلس على صدره. قالوا: وأقام علي رضي الله عنه يومين ومات. وقتل الحسن بن علي عبد الرحمن بن ملجم، فاجتمع الناس وأحرقوا جثته. وأما البرك فإنه ضرب معاوية رضي الله عنه، فأصاب أوراكه، وكان معاوية عظيم الأوراك، فقطع منه عرق النكاح، فلم يولد له بعد ذلك. فلما أخذ قال: الأمان والبشارة، فقد قتل علي في هذه الليلة، فاستبقاه حتى جاءه الخبر بذلك، فقطع معاوية يده ورجله وأطلقه. فرحل إلى البصرة، وأقام بها حتى بلغ زياد ابن أبيه أنه ولد له، فقال: أيولد له وأمير المؤمنين لا يولد له؟ فقتله قالوا: وأمر معاوية رضي الله عنه باتخاذ المقصورة من ذلك الوقت، وأما ابن بكر فإنه رصد عمرو ابن العاص رضي الله تعالى عنه، فاشتكى عمرو بطنه، فلم يخرج للصلاة، فصلى بالناس رجل من بني سهم يقال له خارجة فضربه ابن بكر فقتله فأخذ ابن بكر فلما أدخل على عمرو رضي الله تعالى عنه، ورآهم يخاطبونه بالإمارة قال: أو ما قتلت عمرا قال له: لا وإنما قتلت خارجة. قال: أردت عمرا وأراد الله خارجة. فقتله عمرو رضي الله تعالى عنه وقيل: إن عليا رضي الله عنه، كان إذا رأى ابن ملجم يتمثل ببيت عمرو «1» بن معد يكرب بن قيس بن مكشوح المرادي وهو قوله «2» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد فقيل لعلي رضي الله تعالى عنه: كأنك عرفته وعرفت ما يريد أفلا تقتله؟ قال: كيف أقتل قاتلي؟ ولما انتهى إلى عائشة رضي الله تعالى عنها قتل علي رضي الله تعالى عنه قالت «1» : فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر وعلي رضي الله تعالى عنه، أول إمام خفي قبره. قيل: إن عليا رضي الله عنه أوصى أن يخفى قبره لعمله أن الأمر يصير إلى بني أمية فلم يأمن أن يمثلوا بقبره. وقد اختلف في قبره فقيل: في زاوية الجامع بالكوفة وقيل في قصر الإمارة بها، وقيل بالبقيع وهو بعيد، وقيل: إنه بالنجف في المشهد الذي يزار اليوم وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره ابن خلكان في ذلك في باب الفاء في لفظ الفهد والله الموفق. فائدة أجنبية: ولما كان الحديث ذا شجون، وإفادة العلم تحقق للطالبين ما يرجون، وتجدد لهم ما ينسى الخليع أيام المجون، أحببت أن أذكر ههنا فائدة غريبة ذكرها المؤرخون، وهو أن كل سادس قائم بأمر الأمة مخلوع، وها أنا أذكر ما ذكروه، وأزيد عليه قدرا يسيرا من سيرة كل واحد منهم، وأيامه وسبب موته ومدة خلافته وعمره، لتكمل بذلك الفائدة، وتحل الجدوى والعائدة. قال المؤرخون: إن أول قائم بأمر الأمة النبي صلى الله عليه وسلم، بعثه الله تعالى على فترة من الرسل، رحمة للعالمين، فبلغ الرسالة وجاهد في الله حق جهاده، ونصح الأمة وعبد ربه حتى أتاه اليقين، فهو أفضل الخلق وأشرف الرسل، نبي الرحمة وإمام المتقين، وحامل لواء الحمد وصاحب الشفاعة، والمقام المحمود، والحوض المورود. آدم فمن دونه يوم القيامة تحت لوائه، فهو خير الأنبياء، وأمته خير الأمم، وأصحابه أفضل الناس بعد الأنبياء، وملته أشرف الملل له المعجزات الباهرة، والخلق العظيم والعقل الكامل الجسيم، والنسب الأشرف والجمال المطلق، والكرم الأوفر والشجاعة التامة، والحلم الزائد، والعلم النافع، والعمل الأرفع والخوف الأكمل، والتقوى الباهرة، فهو أفصح الخلق وأكملهم في كل صفات الكمال وأبعد الخلق عن الدناآت والنقائص وفيه قال الشاعر: لم يخلق الرحمن مثل محمد ... أبدا وعلمي أنه لا يخلق قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان في بيته في مهنة أهله، أي في خدمتهم، وكان يفلي ثوبه ويرقعه، ويخصف نعله ويخدم نفسه، ويعلق ناضحه، ويقم البيت أي يكنسه، ويعقل البعير ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته من السوق، وكان عليه الصلاة والسلام متواصل الأحزان، دائم الفكر، ليست له راحة. وقد قال علي رضي الله تعالى عنه: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سنته، فقال: «المعرفة رأس مالي والحب أساسي والشوق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 مركبي، وذكر الله أنيسي والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي وقرة عيني في الصلاة. وأما حلمه صلى الله عليه وسلم، وجوده وشجاعته، وحياؤه وحسن عشرته، وشفقته ورأفته، ورحمته وبره، وعدله ووقاره، وصبره وهيبته، وثقته وبقية خصاله الحميدة، التي لا تكاد تحصر فكثيرة جدا فقد صنف العلماء رضي الله تعالى عنهم في سيرته وأيامه، ومبعثه وغزواته، وأخلاقه ومعجزاته، ومحاسنه وشمائله، كتبا جمة، ولو أردنا ذكر قدر يسير منها لجاء في مجلدات كثيرة، ولسنا بصدد ذلك في هذا الكتاب، قالوا: وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الله تعالى لنا ديننا وأتم علينا نعمته في وسط يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول سنة أحدى عشرة، وله صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وتولى غسله علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ودفن صلى الله عليه وسلم في حجرته التي بناها لأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها. خلافة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ثم قام بالأمر بعده صلى الله عليه وسلم، خليفته على الصلاة أيام مرضه، وابن عمه الأعلى ونسيبه وصهره ومؤنسه في الغار، ووزيره وصديقه الأكبر، وخير الخلق بعده أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. بويع له بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بسقيفة بني ساعدة، ولذلك قصة تركناها لطولها واشتهارها، فقام بالأمر أتم قيام، وفتح في دولته اليسيرة اليمامة وأطراف العراق وبعض مدن الشام. وكان رضي الله عنه كبير الشأن زاهدا خاشعا، إماما حليما، وقورا شجاعا، صابرا رؤوفا، عديم النظير في الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، ومنعت الزكاة، فلما استخلف الصديق جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وشاورهم في القتال، فاختلفوا عليه وقال له عمر رضي الله تعالى عنه كيف نقاتل الناس وقد قال «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؟ فمن قالها فقد عصم مني دمه وماله إلا بحقه وحسابه على الله عزّ وجلّ؟ فقال الصديق رضي الله عنه: «والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها «2» » . قال عمر رضي الله عنه: «فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق» . «3» وفي رواية قال عمر رضي الله عنه: فقلت تألف الناس وارفق بهم فقال لي: «أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام يا عمر؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين أينقص وأنا حي» . ثم خرج لقتالهم. وذكر جماعة من المؤرخين وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان قد وجه أسامة بن زيد رضي الله عنهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 في سبعمائة بطل إلى الشام فلما نزل بذي خشب، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتدت العرب فاجتمعت الصحابة رضي الله عنهم وقالوا للصديق رضي الله عنه: رد هؤلاء أي أسامة ومن معه، فقال: والله الذي لا إله إلا هو، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ما رددت جيشا جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللت عقد لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده ما رددتته. وأمر أسامة «1» رضي الله عنه أن يمضي لوجهه وقال له: إن رأيت أن تأذن لعمر رضي الله عنه بالمقام عندي أستأنس به وأستعين برأيه، فقال له أسامة رضي الله عنه: قد فعلت. وسار أسامة رضي الله تعالى عنه، فجعل لا يمر بقبيلة تريد الارتداد، إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هذا الجيش من عندهم، فلقوا الروم فقاتلوهم وهزموهم ورجعوا سالمين. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج أبي يوم الردة شاهرا سيفه، راكبا راحلته، فجاء علي رضي الله تعالى عنه حتى أخذ بزمام راحلته، وقال: أقول لك ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «شم سيفك لا تفجعنا بنفسك فو الله لئن أصبنا بك، لا يكون للإسلام بعدك نظام أبدا» ومعنى شم اغمد. وقال ابن قتيبة: ارتدت العرب إلا القليل منهم فجاهدهم الصديق حتى استقاموا وفتح اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب بها والأسود العنسي الكذاب بصنعاء. وبعث الجيوش إلى الشأم والعراق وقال أبو رجاء العطاردي: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلا يقبل رأس رجل ويقول: أنا فداؤك، والله لولا أنت لهلكنا. فقلت: من المقبل والمقبل؟ فقالوا: عمر يقبل رأس أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، من أجل قتال أهل الردة. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأب «2» النفاق، ونزل بأبي ما لو نزل على الجبال الراسيات لهاضها، وقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: والله الذي لا إله إلا هو لو لم يستخلف أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ما عبد الله تعالى. ثم قال الثانية ثم قال الثالثة. قالوا: وكان من اللين والتواضع على جانب عظيم. ولما مرض ترك التطبيب تسليما لأمر الله تعالى فعاده الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقالوا ألا ندعو لك طبيبا ينظر إليك؟ فقال: نظر إلي قالوا وما قال لك؟ قال: قال لي إني فعال لما أريد. توفي رضي الله عنه ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وله رضي الله عنه ثلاث وستون سنة وكان سبب موته كمدا لحقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يذيبه. والكمد الحزن المكتوم ودفن في حجرة عائشة أم المؤمنين مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت خلافته رضي الله عنه سنتين وثلاثة أشهر وثمانية أيام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 خلافة عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه ثم قام بالأمر بعده أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. بويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوبكر رضي الله تعالى عنه، بوصية من أبي بكر إليه رضي الله تعالى عنهما. فقام بعده بمثل سيرته وجهاده وثباته، وصبره على العيش الخشن، وخبز الشعير، والثوب الخام المرقع، والقناعة باليسير، وفتح الفتوحات الكبار، والأقاليم الشاسعة. وهو أول من سمي بأمير المؤمنين، وهو من المهاجرين الأولين صلى إلى القبلتين وشهد بدرا وبيعة الرضوان، وجميع المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما أسلم رضي الله تعالى عنه أعزّ الله به الإسلام وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عنه راض، وبشره بالجنة. ومناقبه رضي الله عنه كثيرة جدا وحسبك أنه كان وزير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعاش حميدا وتوفي فقيرا سعيدا شهيدا. فما يبغضه إلا زنديق أو حمار مفرط الجهل، وهو أول من عس في عمله رضي الله تعالى عنه، أي كان يمشي ليلا لحفظ الدين والناس، وهابه الناس هيبة عظيمة حتى تركوا الجلوس بالأفنية فلما بلغه رضي الله تعالى عنه هيبة الناس له، جمعهم ثم قام على المنبر حيث كان أبو بكر رضي الله تعالى عنه يضع قدميه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، وصلّى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: بلغني أن الناس قد هابوا شدتي، وخافوا غلظتي وقالوا: قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ثم اشتد علينا وأبو بكر رضي الله تعالى عنه والينا دونه، فكيف الآن وقد صارت الأمور إليه؟ ولعمري من قال ذلك صدق كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكنت عبده وخادمه حتى قبضه الله عزّ وجلّ وهو عني راض، والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك. ثم ولي أمر الناس أبو بكر رضي الله تعالى عنه فكنت خادمه وعونه أخلط شدّتي بلينه، فأكون سيفا مسلولا حتى يغمدني أو يدعني فما زلت معه كذلك حتى قبضه الله تعالى وهو عني راض، والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك. ثم إني وليت أموركم اعلموا أن تلك الشدّة قد تضاعفت، ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين، وأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم لبعض، ولست أدع أحدا يظلم أحدا ويتعدى عليه، حتى أضع خده على الأرض، وأضع قدمي على الخد الآخر حتى يذعن بالحق. ولكم علي أيها الناس أن لا أخبأ عنكم شيئا من خراجكم وإذا وقع عندي، أن لا يخرج إلا بحقه ولكم علي أن لا ألقيكم في المهالك وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. قال سعيد بن المسيب: وفى والله عمر وزاد في الشدة في مواضعها، واللين في مواضعه، وكان رضي الله تعالى عنه أبا العيال، حتى كان يمشي إلى المغيبات أي التي غاب عنهن أزواجهن، ويقول: ألكن حاجة حتى أشتري لكن؟ فإني أكره أن تخدعن في البيع والشراء، فيرسلن بجواريهن معه فيدخل في السوق، ووراءه من جواري النساء غلمانهن ما لا يحصى، فيشتري لهن حوائجهن. ومن كان ليس عندها شيء، اشترى لها من عنده رضي الله تعالى عنه. وروي أن طلحة، رضي الله تعالى عنه، خرج فرأى عمر رضي الله تعالى عنه، قد دخل بيتا ثم خرج، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها طلحة: ما بال هذا الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 يأتيك؟ فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج عني الأذى. تعني القذر. ولما رجع رضي الله تعالى عنه من الشام إلى المدينة، انفرد عن الناس، ليتعرف أخبار رعيته، فمر بعجوز في خبائها فقصدها فقالت: يا هذا ما فعل عمر؟ قال: قد أقبل من الشام سالما فقالت: لا جزاه الله عني خيرا قال: ولم قالت: لأنه والله ما نالني من عطائه منذ ولي أمر المؤمنين دينار ولا درهم. فقال: وما يدري عمر بحالك وأنت في هذا الموضع؟ فقالت: سبحان الله والله ما ظننت أن أحدا يلي على الناس، ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها! فبكى عمر رضي الله تعالى عنه، وقال: واعمراه كل أحد أفقه منك حتى العجائز يا عمر. ثم قال يا أمة الله بكم تبيعيني ظلامتك من عمر، فإني أرحمه من النار، فقالت: لا تهزأ بنا يرحمك الله! فقال: لست بهزاء فلم يزال بها حتى اشترى منها ظلامتها بخمسة وعشرين دينارا، فبينما هو كذلك، إذ أقبل علي بن أبي طالب، وابن مسعود، فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فوضعت العجوز يدها على رأسها، وقالت: وا سوأتاه شتمت أمير المؤمنين في وجهه، فقال لها عمر رضي الله تعالى عنه: لا بأس عليك رحمك الله. ثم طلب رقعة، يكتب فيها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا، بخمسة وعشرين دينارا فما تدعي عند وقوفه في المحشر بين يدي الله تعالى فعمر منه بريء شهد على ذلك علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما، ثم دفع الكتاب إلى ولده، وقال إذا أنا مت فاجعله في كفني، ألقى به ربي وأخباره رضي الله تعالى عنه في مثل هذا كثيرة جدا. وذكر الفضائلي أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، وهو بالقادسية بأن يوجه نضلة الأنصاري رضي الله تعالى عنه، إلى حلوان العراق ليغير على ضواحيها، فبعث سعد نضلة في ثلاثمائة فارس، فساروا حتى أتوا حلوان العراق، فأغاروا على ضواحيها فأصابوا غنيمة وسبيا، فأقبلوا بذلك حتى أرهقهم العصر، وكادت الشمس تغرب، فألجأ نضلة السبي والغنيمة إلى سفح جبل، ثم قام فأذن فقال الله أكبر الله أكبر فأجابه مجيب من الجبل: كبرت كبيرا يا نضلة، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال: كلمة الإخلاص يا نضلة، ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله فقال: هو الذي بشرنا به عيسى بن مريم عليه السلام، وعلى رأس أمته تقوم الساعة، ثم قال: حي على الصلاة فقال: طوبى لمن سعى إليها وواظب عليها، ثم قال: حي على الفلاح، فقال: قد أفلح من أجاب داعي الله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، قال: أخلصت الإخلاص كله يا نضلة، حرم الله بها جسدك على النار. فلما فرغ من أذانه قام فقال: من أنت يرحمك الله أملك أنت أم من الجن، أم طائف من عباد الله قد أسمعتنا صوتك فأرنا شخصك فإن الوفد وفد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووفد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فانفلق الجبل عن هامة كالرحا، أبيض الرأس واللحية، عليه طمران من صوف فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقالوا: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، من أنت يرحمك الله؟ قال: أبا رزين بن برثملا وصي العبد الصالح عيسى بن مريم عليه السلام، أسكنني في هذا الجبل، ودعا لي بطول البقاء إلى حين نزوله من السماء فاقرؤوا عمر مني السلام وقولوا له: يا عمر سدد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وقارب فقد دنا الأمر، وأخبروه بهذه الخصال التي أخبركم بها: يا عمر إذا ظهرت هذه الخصال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالهرب الهرب إذا استغنى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وانتسبوا إلى غير مناسبهم، وإنتموا إلى غير مواليهم، ولم يرحم كبيرهم صغيرهم، ولم يوقر صغيرهم كبيرهم، وترك الأمر بالمعروف، فلم يؤمر به وترك النهي عن المنكر فلم ينه عنه، وتعلم عالمهم العلم ليجلب به الدنيا، وكان المطر قيظا والولد غيظا، وطولوا المنارات وفضضوا المصاحف، وزخرفوا المساجد وأظهروا الرشا وشيدوا البناء، واتبعوا الهوى وباعوا الدين بالدنيا، وقطعت الأرحام ومنعت الأحكام، وأكلوا الرباء وحاز الغني عزا، والفقير ذلا، وخرج الرجل من بيته، فقام إليه من هو خير منه فسلم عليه، وركبت الفروج السروج. ثم غاب عنهم فلم يروه. فكتب نضلة إلى سعد بذلك، فكتب سعد بذلك إلى عمر، رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه: سر أنت بنفسك ومن معك، من المهاجرين والأنصار، حتى تنزلوا بهذا الجبل، فإن لقيته فاقرئه مني السلام، فخرج سعد رضي الله تعالى عنه، في أربعة آلاف فارس من المهاجرين والأنصار وأبنائهم، حتى نزلوا بذلك الجبل، ومكث سعد رضي الله تعالى عنه أربعين يوما ينادي بالصلاة، فلا يجد جوابا ولا يسمع خطابا فكتب بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه. وعمر رضي الله تعالى عنه أول من أرخ التاريخ وذلك في سنة ست عشرة، وفيها كان فتح بيت المقدس صلحا. وفيها نزل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه الكوفة ومصرّها، وهو أول من دون الدواوين ومصر الأمصار وحقق كلمته في إعلاء كلمة الله تعالى، ففتح الله تعالى على يديه مواضع عديدة ففتح رضي الله تعالى عنه دمشق ثم الروم ثم القادسية، ثم انتهى الفتح إلى حمص وحلوان والرقة والرها وحران ورأس العين وخابور ونصيبين وعسقلان وطرابلس، وما يليها من الساحل وبيت المقدس وبيسان واليرموك والأهواز وقيسارية ومصر وتستر ونهاوند والري وما يليها، وأصبهان وبلاد فارس واصطخر وهمذان والنوبة والبرلس والبربر وغير ذلك وكانت درته أهيب من سيف الحجاج، وهابه ملوك فارس والروم وغيرهم، ومع ذلك كله بقي على حاله كما كان قبل الولاية في لبسه وزيه وأفعاله وتواضعه يسير منفردا في حضره وسفره من غير حرس ولا حجاب لم تغيره الإمرة، ولم يستطل على مسلم بلسانه، ولا حابى أحدا في الحق، وكان لا يطمع الشريف في حيفه، ولا ييأس الضعيف من عدله، ولا يخاف في الله لومة لائم. ونزّل نفسه رضي الله تعالى عنه، من مال الله تعالى منزلة رجل من المسلمين، وجعل فرضه كفرض رجل من المهاجرين، وكان يقول: أنا في مالكم كولي مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف أراد بذلك أنه يأكل ما تقوم به بنيته ولا يتعداه، وقال مجاهدا: تذاكر الناس في مجلس ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فأخذوا في فضل أبي بكر ثم في فضل عمر رضي الله تعالى عنهما، فلما سمع ابن عباس ذكر عمر رضي الله تعالى عنه، بكى بكاء شديدا حتى أغمي عليه، ثم قال: رحم الله عمر قرأ القرآن وعمل بما فيه فأقام حدود الله كما أمر لا تأخذه في الله لومة لائم لقد رأيت عمر رضي الله تعالى عنه، وقد أقام الحد على ولده فقتله فيه. وستأتي الإشارة إلى ذلك في باب الدال المهملة في لفظ الديك، وقتل رضي الله عنه في سنة ثلاث وعشرين، قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، واسمه فيروز، وكان المغيرة رضي الله تعالى عنه، يستغله كل يوم أربعة دراهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 لأنه كان يصنع الأرحاء، فلقي عمر يوما فقال: يا أمير المؤمنين إن المغيرة قد أثقل على غلتي فكلمه لي ليخفف عني، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه اتق الله وأحسن إلى مولاك. فغضب أبو لؤلؤة وقال: يا عجباه قد وسع الناس عدله غيري، وأضمر على قتله واصطنع له خنجرا له رأسان، وسمه وتحين به عمر رضي الله تعالى عنه، فجاء عمر إلى صلاة الغداة، قال عمرو بن ميمون: إني لقائم في الصلاة، وما بيني وبين عمر إلا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني الكلب، حين طعنه، وطار العلج «1» بسكين كان ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا أو شمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا، مات سبعة، وقيل تسعة. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا، فلما علم أنه مأخوذ نحر نفسه. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: قاتله الله لقد أمرت به معروفا. ثم قال الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام. وكان أبو لؤلؤة مجوسيا ويقال كان نصرانيا توفي في ذي الحجة لأربع عشرة ليلة مضت منه في السنة المذكورة بعد طعنه بيوم وليلة عن ثلاث وستين سنة، ودفن مع صاحبه في الحجرة النبوية. ولما توفي عمر رضي الله تعالى عنه، أظلمت الأرض فجعل الصبي يقول: يا أماه أقامت القيامة؟ فتقول لا يا بني، ولكن قتل عمر رضي الله تعالى عنه. وسيأتي طرف من هذا، وذكر الشورى في لفظ الديك أيضا قال ابن إسحاق: وكانت خلافته رضي الله تعالى عنه عشر سنين وستة أشهر وخمس ليال وقال غيره وثلاثة عشر يوما والله أعلم. خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ثم قام بعده بالأمر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. اشتور أهل الحل والعقد بعد دفن عمر بثلاثة أيام واتفقوا على مبايعته. وهو ابن عم المصطفى صلى الله عليه وسلم الأعلى، بويع له بالخلافة في أول يوم من سنة أربع وعشرين، قال أهل التاريخ إنه لم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام عثمان ويكنى أبا عمرو وأبا عبد الله، والأول أشهر، وينسب إلى أمية بن عبد شمس، فيقال: الأموي، يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، ويدعى بذي النورين، قيل لأنه تزوج بابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقية وأم كلثوم رضي الله تعالى عنهما، ولم يعلم أحد تزوج بابنتي نبي غيره رضي الله تعالى عنه، وقيل لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين، وقيل لأنه يختم القرآن في الوتر، والقرآن نور وقيام الليل نور، وقيل غير ذلك. وهو رضي الله تعالى عنه، من السابقين وصلّى إلى القبلتين وهاجر الهجرتين، وهو أول من هاجر إلى الحبشة فارا بدينه، ومعه زوجته رقية رضي الله تعالى عنهما. وعد من البدريين، ومن أهل بيعة الرضوان، ولم يحضرهما، وكان سبب غيبته عن بدر أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تحته وهي مريضة، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلوس عندها ليمرضها، وقال له: لك أجر رجل ممن شهد بدرا، وسهمه. وأما غيبته عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعزّ منه ببطن مكة، لبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بيده اليمنى هذه يد عثمان. وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وهو عنه راض، وبشره بالجنة ودعا له بالخصوصية، غير مرة فأثرى وكثر ماله، وكانت له شفقة ورأفة، فلما ولي زاد تواضعه وشفقته ورأفته برعيته، وكان يطعم الناس طعام الإمارة ويأكل الخل والزيت، وجهز جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيرا بأحلاسها وأقتابها «1» ، وأتم الألف بخمسين فرسا، وقال قتادة: حمل عثمان رضي الله تعالى عنه على ألف بعير، وسبعين فرسا، وقال الزهري: حمل على تسعمائة وأربعين بعيرا وستين فرسا. وعن حذيفة بن اليمان، قال «2» : «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان رضي الله تعالى عنه في تجهيز جيش العسرة، فبعث إليه عثمان بعشرة آلاف دينار، فصبت بين يديه فجعل صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده، ويقول غفر الله لك يا عثمان، ما أسررت وما أعلنت، وما هو كائن إلى يوم القيامة» . وفي رواية: «ما يضر عثمان ما فعل بعد اليوم واشترى بئر رومة بخمسة وثلاثين ألفا وسبلها» . وله رضي الله تعالى عنه من الخيرات وأفعال البر ما يطول ذكره. قال ابن قتيبة وافتتح في أيامه الإسكندرية وسابور وإفريقية، وقبرس وسواحل الروم، واصطخر الأخرى وفارس الأولى وخوزستان، وفارس الأخرى وطبرستان، وكرمان وسجستان، والأساورة وإفريقية، من حصون قبرص وساحل الأردن ومرو. ولما عمرت المدينة وصارت وافرة الأنام وقبة الإسلام، وكثرت فيها الخيرات والأموال وجبى إليها الخراج، من الممالك وبطرت الرعية من كثرة الأموال والخيل، والنعم، وفتحوا أقاليم الدنيا واطمأنوا وتفرغوا، أخذوا ينقمون على خليفتهم عثمان رضي الله تعالى عنه، لأنه كان له أموال عظيمة، وكان له ألف مملوك ولكونه يعطي المال لأقاربه ويوليهم الولايات الجليلة، فتكلموا فيه إلى أن قالوا: هذا لا يصلح للخلافة وهموا بعزله وثاروا لمحاصرته وجرت أمور يطول ذكرها فحاصروه في داره أياما وكانوا أهل جفاء، ورؤوس شر، فوثب عليه ثلاثة فذبحوه في بيته، والمصحف بين يديه، وهو شيخ كبير، وكان ذلك أول وهن وبلاء على هذه الأمة بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم فإنا لله وإنا إليه راجعون. قتلوه قاتلهم الله، يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة الحرام سنة خمس وثلاثين. ومناقبه رضي الله تعالى عنه كثيرة جدا. شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وقال: ألا أستحيي ممن تستحيي منه الملائكة وأخبر صلى الله عليه وسلم، بأنه شهيد وأنه يبتلى، وتفرقت الكلمة بعد قتله رضي الله تعالى عنه، وماج الناس واقتتلوا للأخذ بثاره حتى قتل من المسلمين تسعون ألفا، وقال ابن خلكان وغيره: لما بويع عثمان رضي الله تعالى عنه، نفى أباذر الغفاري «3» رضي الله تعالى عنه إلى الربذة «4» لأنه كان يزهد الناس في الدنيا ورد الحكم بن أبي العاص «5» وكان قد نفاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربذة ولم يرده أبو بكر ولا عمر فرده عثمان رضي الله تعالى عنهم. قيل: إنما رده بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم، قاله غير واحد. ولى مصر عبد الله بن أبي «1» سرح، وأعطى أقاربه الأموال فكان ذلك مما نقم عليه الناس، فلما كانت سنة خمس وثلاثين، قدم المدينة مالك الأشتر «2» النخعي في مائتي رجل من أهل الكوفة، ومائة وخمسين من أهل البصرة وستمائة من أهل مصر، كلهم مجمعون على خلع عثمان رضي الله تعالى عنه من الخلافة، فلما اجتمعوا في المدينة سير إليهم عثمان رضي الله تعالى عنه المغيرة بن شعبة «3» وعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردوهما أقبح رد، ولم يسمعوا كلامهما. فبعث إليهم عليا رضي الله تعالى عنه فردهم إلى ذلك، وضمن لهم ما يعدهم به عثمان رضي الله تعالى عنه، وكتبوا على عثمان كتابا بإزاحة عللهم، والسير فيهم بكتاب الله عزّ وجلّ، وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه عهدا بذلك، وأشهدوا على علي رضي الله تعالى عنه أنه ضمن ذلك، واقترح المصريون على عثمان رضي الله تعالى عنه عزل عبد الله بن أبي سرح، وتولية محمد بن أبي بكر فأجابهم إلى ذلك وولاه وافترق الجمع كل إلى بلده، فلما وصل المصريون إلى إيلة وجدوا رجلا على نجيب لعثمان رضي الله تعالى عنه ومعه كتاب مختوم بخاتم عثمان، مصطنع على لسانه، وعنوانه من عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح وفيه إذا قدم محمد بن أبي بكر ومعه فلان وفلان فاقطع أيديهم وأرجلهم وارفعهم على جذوع النخل، فرجع المصريون ورجع البصريون والكوفيون لما بلغهم ذلك وأخبروه الخبر فحلف عثمان رضي الله تعالى عنه أنه ما فعل ذلك، ولا أمر به، فقالوا: هذا أشد عليك يؤخذ خاتمك ونجيب من إبلك وأنت لا تعلم. ما أنت إلا مغلوب على أمرك! ثم سألوه أن يعتزل فأبى، فأجمعوا على حصاره فحاصروه في داره، وكان من أكبر المؤلبين عليه محمد بن أبي بكر. وكان الحصار في سلخ شوال، واشتد الحصار، ومنع من أن يصل إليه الماء قال أبو أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه: كنا مع عثمان وهو محصور في الدار، فقال: «وبم يقتلوني؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «4» لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير حق فيقتل بها، فو الله ما أحببت بديني بدلا، منذ هداني الله تعالى، ولا زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا قتلت نفسا بغير حق فبم يقتلوني» ؟ رواه الإمام أحمد. وعن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه أنه قال «لما اشتد الحصار بعثمان رضي الله تعالى عنه، يوم الدار رأيت عليا رضي الله تعالى عنه خارجا من منزله معتما بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، متقلدا بسيفه وأمامه ابنه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 عنهم، فحملوا على الناس وفرقوهم، ثم دخلوا على عثمان رضي الله تعالى عنه، فقال له علي رضي الله تعالى عنه: السلام عليك يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل المدبر، وإني والله لا أرى القوم إلا قاتليك فمرنا فلنقاتل، فقال عثمان: أنشد الله رجلا رأى لله عزّ وجلّ عليه حقا، وأقرأن لي عليه حقا، أن يهريق بسببي ملء محجمة من دم، أو يهريق دمه في. فأعاد علي عليه القول، فأجابه بمثل ما أجابه، قال فرأيت عليا رضي الله تعالى عنه خارجا من الباب، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا قد بذلنا المجهود. ثم دخل المسجد فاقتحموا على عثمان رضي الله تعالى عنه الدار، والمصحف بين يديه، فأخذ محمد بن أبي بكر بلحيته، فقال له عثمان رضي الله تعالى عنه: أرسل لحيتي يا بن أخي فو الله لو رأى أبوك مقامك هذا لساءه. فأرسل لحيته وولى، فضربه بتار بن عياض وسودان بن حمران بسيفيهما فنضح الدم على قوله «1» تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وجلس عمرو بن الحمق على صدره، وضربه حتى مات. ووطىء عمير بن صابي على بطنه، فكسر له ضلعين من أضلاعه. وروى الإمام أحمد عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه، قال: «ذكر «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة وعظمها وقربها، ثم مر رجل مقنع في ملحفة، فقال: هذا يومئذ على الحق فإذا هو عثمان رضي الله تعالى عنه» . وروى «3» الترمذي معناه فقال: «هذا يومئذ على الهدى» . وقال إنه حديث حسن صحيح. وكان لأمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه شيئان ليسا لأبي بكر ولا لعمر رضي الله تعالى عنهما، صبره على نفسه حتى قتل مظلوما، وجمعه الناس على المصحف. قاله ابن مهدي وغيره. وقال المدائني: قتل رضي الله تعالى عنه يوم الأربعاء بعد العصر، ودفن يوم السبت قبل الظهر. وقيل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. وقال المهدوي: قتل في وسط أيام التشريق وأقام ثلاثة أيام، لم يدفن ولم يصل عليه وقيل صلّى عليه رضي الله تعالى عنه جبير بن مطعم. ودفن رضي الله تعالى عنه ليلا. واختلف في مدة الحصار فقيل: أكثر من عشرين يوما، وقيل تسعة وأربعون يوما، قاله الواقدي، وقال الزبير بن بكار وغيره: ثمانون يوما. وكانت خلافته رضي الله تعالى عنه اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما، وقتل رضي الله تعالى عنه وهو ابن ثمانين سنة، قاله ابن إسحاق. وقال غيره كانت خلافته إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا وأربعة عشر يوما وقتل رضي الله تعالى عنه وعمره ثمان وثمانون سنة. وقيل كانت خلافته اثنتي عشرة سنة وقتل وهو ابن اثنتين وثمانين سنة وقيل ابن ثلاث وثمانين سنة وقيل تسعين وقيل غير ذلك والله أعلم. خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ثم قام بعده بالامر أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه. بويع له بالخلافة يوم قتل عثمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 رضي الله تعالى عنه كما سيأتي أن شاء الله تعالى. وهو رضي الله تعالى عنه يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد المطلب، الجد الأدنى ينسب إلى هاشم فيقال القرشي الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبويه. ولم يزل إسمه في الجاهلية والإسلام عليا، ويكنى أبا الحسن وأبا تراب، كناه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أحب الكنى إليه. أسلم رضي الله تعالى عنه وهو ابن سبع، وقيل ابن تسع وابن عشر، وقيل خمس عشرة وقيل غير ذلك. وشهد رضي الله تعالى عنه المشاهد كلها إلا تبوك فإنه صلى الله عليه وسلم، خلفه في أهله. وكان رضي الله تعالى عنه غزير العلم، ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقام بعده ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الودائع ثم لحق به. ويقال إنه رضي الله تعالى عنه أول من أسلم، وأول من صلى، وزوجه صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها، وبعث معها خميلة ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحيين وسقاء وجرتين. وشهد له بالجنة صلى الله عليه وسلم. ومناقبه رضي الله تعالى عنه كثيرة جدا ويكفي منها قوله صلى الله عليه وسلم «أنا مدينة العلم وعلي «1» بابها» . فائدة لطيفة: قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: سادات الأنبياء خمسة «2» نوح وإبراهيم الخليل وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أجمعين. ذكر أسماء من ولد من الأنبياء مختونا: عن كعب الأحبار رضي الله تعالى عنه أنه قال: هم ثلاثة عشر: آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحي وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وقال محمد بن حبيب الهاشمي: هم أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان نبي أصحاب الرس، ومحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. ذكر أسماء من كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب، وهو أول من كتب له وزيد بن ثابت الأنصاري ومعاوية بن أبي سفيان، وحنظلة بن الربيع الأسدي، وخالد بن سعيد بن العاص. وكان المداوم له على الكتابة زيدا ومعاوية. ذكر من جمع القرآن حفظا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو يزيد الأنصاري وأبو الدرداء وزيد بن ثابت، وعثمان بن عفان وتميم الداري وعبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري. ذكر من كان يضرب الأعناق بين يديه صلى الله عليه وسلم: علي والزبير ومحمد بن مسلمة والمقداد وعاصم بن أبي الأفلح. ذكر من كان يحرسه صلى الله عليه وسلم: سعد بن أبي وقاص، وسعد بن معاذ، وعباد بن بشر، وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أيوب الأنصاري ومحمد بن مسلمة الأنصاري. فلما نزل قوله «1» تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ترك الحراسة. ذكر من كان يفتي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعمار بن ياسر، وحذيفة وزيد بن ثابت وسلمان وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري. ذكر من انتهت الفتوى إليهم من التابعين بالمدينة: سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وقاسم وعبيد الله وعروة وسليمان وخارجة. ذكر من تكلم في المهد: وهم أربعة: صاحب جريج ببراءته من الزنا، وشاهد يوسف ببراءته من زليخا، وابن الماشطة التي لبنت فرعون حذرها من الكفر، وعيسى بن مريم ببراءة أمه عليهما السلام. وتكلم بعد الموت أربعة: يحي بن زكريا حين ذبح، وحبيب النجار حيث قال يا ليت قومي يعلمون، وجعفر الطيار حيث قال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ «2» اللَّهِ إلخ، والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما حيث قال: سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ «3» . ذكر من حملته أمه أكثر من مدة الحمل: سفيان بن حبان ولد لاربع سنين خلون في بطن أمه، ومحمد بن عبد الله بن حسن الضحاك بن مزاحم، ولد وهو ابن ستة عشر شهرا خلون في بطن أمه، ويحي بن علي بن جابر البغوي كذلك، وسلمان الضحاك ولد ابن سنتين خلتا في بطن أمه. ذكر النماردة: وهم ستة فالأول نمرود بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، وهو أحد ملوك الأرض الذين ملكوا الدنيا بأجمعها، وقد كان في أيام إبراهيم عليه السلام، الثاني نمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، وهو صاحب النسور وقصته مشهورة. الثالث نمرود بن ماش بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام. الرابع نمرود بن سنجار بن نمرود ابن كوش بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام. الخامس نمرود بن ساروع بن أرغو بن مالخ السادس نمرود بن كنعان بن المصاص بن نقطا. ذكر الفراعنة: وهم ثلاثة: فأولهم سنان الأشعل بن علوان بن العميد بن عمليق، وهو فرعون إبراهيم عليه السلام. الثاني الريان بن الوليد، وهو فرعون يوسف عليه السلام. الثالث الوليد بن مصعب، وهو فرعون موسى عليه السلام. ذكر أصحاب المذاهب المتبعة، ووفاتهم من كتاب علوم الحديث للنووي رحمه الله: سفيان الثوري مات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة، ومولده سنة سبع وعشرين. مالك بن أنس مات بالمدينة سنة تسع وسبعين ومائة، وولد سنة تسعين. وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، مات في بغداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 سنة خمسين ومائة وهو ابن سبعين سنة. وأبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، مات بمصر آخر رجب سنة أربع ومائتين، وولد سنة خمسين ومائة. وأبو عبد الله أحمد بن حنبل، مات في بغداد في شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائة، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. ذكر أصحاب الأحاديث المعتمدة: أبو عبد الله البخاري، ولد يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائة، ومات ليلة الفطر سنة ست وخمسين ومائتين. ومسلم مات بنيسابور لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين، وهو ابن خمس وخمسين. وأبو داود مات بالبصرة في شوال سنة خمس وسبعين ومائتين. وأبو عيسى الترمذي مات بترمذ لثلاث عشر مضت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. وأبو عبد الرحمن النسائي، مات سنة ثلاث وثلاثمائة. وأبو الحسن الدارقطني، مات في بغداد في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وولد في سنة ست وثلاثمائة رحمة الله عليهم أجمعين. قال أهل التاريخ: ولما قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، أتى الناس عليا وضربوا عليه الباب ودخلوا فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نعلم أحدا أحق بها منك، فردهم عن ذلك فأبوا، فقال: إن أبيتم إلا بيعتي فإن بيعتي لا تكون سرا فأتوا المسجد فحضر طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص والأعيان، وأول من بايعه طلحة، ثم بايعه الناس. واجتمع على بيعته المهاجرون والأنصار، وتخلف عن بيعته نفر فلم يكرههم. وقال قوم قعدوا عن الحق ولم يقوموا مع الباطل. وتخلف عن بيعته أيضا معاوية ومن معه بالشام، إلى أن كان منهم ما كان في صفين. ثم خرج عليه الخوارج فكفروه وكل من معه وأجمعوا على قتاله قاتلهم الله. وشقوا العصا يعني عصا المسلمين، ونصبوا راية الخلاف، وسفكوا الدماء، وقطعوا السبيل، فخرج إليهم بمن معه، ورام رجوعهم، فأبوا إلا القتال، فقاتلهم بالنهروان فقتلهم واستأصل جمهورهم، ولم ينج منهم إلا القليل. وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قد قال حين طعن: أن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق المستقيم، يعني عليا وكان كما قال سلك بهم والله الطريق المستقيم. وكان له رضي الله عنه شفقة على رعيته متواضعا ورعا ذا قوة في الدين. وكان قوته رضي الله تعالى عنه، من دقيق الشعير يأخذ منه قبضة فيضعها في القدح ثم يصب عليها ماء فيشربه. وكان قد تفرق عليه الخوارج، واعتقد بعض الناس فيه الإلهية فأحرقهم بالنار، وسأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما، أكان علي رضي الله تعالى عنه يباشر القتال بنفسه يوم صفين؟ فقال: والله ما رأيت رجلا أطرح لنفسه في متلفة، مثل علي رضي الله تعالى عنه، ولقد كنت أراه يخرج حاسرا على رأسه، بيده السيف، إلى الرجل الدارع فيقتله. قال في درة الغواص: ومما يؤثر من شجاعة علي رضي الله تعالى عنه، أنه إذا اعتلى قد، وإذا اعترض قط. فالقد قطع الشيء طولا والقط قطعه عرضا. وقد تقدم ذكر قتله رضي الله تعالى عنه ومن قتله، وكان طعن ابن ملجم له في ليلة الجمعة السابعة عشرة من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة. وثب عليه فضربه بخنجر على دماغه فمات بعد يومين. وأخذوا ابن ملجم، فعذبوه وقطعوه إربا إربا بعد موت علي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وكان أفضل من بقي من الصحابة رضي الله تعالى عنه، ومناقبه كثيرة جدا جمعها الحافظ أبو عبد الله الذهبي في مجلد. وذكر غير واحد أنه رضي الله تعالى عنه، لما ضربه ابن ملجم، قاتله الله أوصى الحسن والحسين وصية طويلة، وفي آخرها يا بني عبد المطلب، لا تخوضوا دماء المسلمين خوضا تقولون: قتل أمير المؤمنين ألا لا يقتلن بي غير قاتلي، اضربوه ضربة بضربة ولا تمثلوا به، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول «1» : «إياكم والمثلة» . ولما مات علي رضي الله تعالى عنه، قتل الحسن رضي الله تعالى عنه، عبد الرحمن بن ملجم، فقطع يديه ورجليه وكحل عينيه بمسمار محمى في النار، كل ذلك ولم يتأوه ولم يجزع فلما أرادوا قطع لسانه، تأوه وجزع، فسئل عن ذلك. فقال: والله ما اتأوه فزعا ولا جزعا من الموت، وإنما أتأوه لأن تمر عليّ ساعة من ساعات الدنيا لا أذكر الله تعالى فيها فقطعوا لسانه فمات بعد ذلك وفي الحديث: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله تعالى عنه: يا علي أتدري من أشقى الأولين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال عاقر ناقة صالح، ثم قال: أتدري من أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: الذي يضربك على هذا فيبل منها هذه، وأخذ بلحيته» وكان علي رضي الله تعالى عنه يقول: والله لوددت لو انبعث أشقاها فضربه ابن ملجم الخارجي قاتله الله كما تقدم. وكانت وفاته رضي الله تعالى عنه في سن سبع وقبل ثمان وخمسين وقيل ثلاث وقيل ثمان وستين. وقال ابن جرير الطبري: مات علي رضي الله تعالى عنه، وعمره خمس وستون سنة. وقال غيره: ثلاث وستون سنة وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر ويوما واحدا وكانت مدة إقامته رضي الله تعالى عنه بالمدينة أربعة أشهر ثم سار إلى العراق، وقتل بالكوفة كما تقدم، وللناس خلاف في مدة عمره وفي قدر خلافته رضي الله تعالى عنه والله أعلم. خلافة أمير المؤمنين الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه وهو السادس فخلع كما سيأتي. قالوا: ثم قام بالأمر بعده أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. وكنيته أبو محمد ولقبه الزكي، وأمه فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنهما. بويع له بالخلافة بعد وفاة والده ثم سار إلى المدائن، واستقربها وبينما هو بالمدائن إذ نادى مناد: إن قيسا قد قتل، فانفروا وكان الحسن رضي الله تعالى عنه قد جعله على مقدمة الجيش، وهو قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما، فلما خرج الحسن رضي الله تعالى عنه، عدا عليه الجراح الأسدي قاتله الله، وهو يسير معه فوجأه بالخنجر في فخذه ليقتله، فقال الحسن رضي الله تعالى عنه: قتلتم أبي بالأمس ووثبتم علي اليوم تريدون قتلي زهدا في العادلين، ورغبة في القاسطين، والله لتعلمن نبأه بعد حين، ثم كتب إلى معاوية رضي الله تعالى عنهما بتسليم الأمر إليه واشترط عليه شروطا، فأجابه معاوية رضي الله تعالى عنه، إلى ما التمسه منه وصير له ما اشترط عليه، فسلم الأمر إلى معاوية وبايع له لخمس بقين من شهر ربيع الأول، وذلك لأنه رأى المصلحة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 جمع الكلمة وترك القتال. وظهرت المعجزة في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد وسيصلح «1» الله به» . وفي رواية «ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . ويقال أنه أخذ منه يعني من معاوية ألف ألف درهم. وقالت فرقة أنه صالحه بأذرح في جمادى الأولى وأخذ منه مائة ألف دينار، ويقال أربعمائة ألف درهم، ويقال إنه شرط عليه أن يمكنه من بيت المال يأخذ منه حاجته، وأن يكون ولي العهد من بعده ففرح معاوية بذلك، وأجاب فخلع الحسن رضي الله تعالى عنه نفسه وسلم الأمر إلى معاوية وصالحه. ودخل هو وإياه الكوفة فسمي عام الجماعة لاجتماع الأمة بعد الفرقة على خليفة واحد. قال الشعبي: شهدت خطبة الحسن رضي الله تعالى عنه حين صالح معاوية، وخلع نفسه من الخلافة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور، وإن هذا الأمر الذي اختلفت أنا ومعاوية فيه، إن كان له فهو أحق مني به وإن كان لي فقد تركته له إرادة لإصلاح الأمة وحقن دماء المسلمين، وأنا أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين. ثم رجع إلى المدينة، وأقام بها، فعوتب على ذلك فقال رضي الله تعالى عنه: اخترت ثلاثا على ثلاث: الجماعة على الفرقة، وحقن الدماء على سفكها، والعار على النار. وفي الحديث الصحيح عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن وإلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة زعليه أخرى، ويقول إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين «2» » . ويروى عن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني لأستحيي من ربي عز وجل، أن ألقاه ولم أمش إلى بيته، فمشى عشرين مرة على رجليه من المدينة إلى مكة وإن النجائب لتقاد معه. وخرج رضي الله تعالى عنه من ماله مرتين، وقاسم الله عز وجل ماله ثلاث مرات، حتى إنه يعطي نعلا ويمسك أخرى. قال ابن خلكان: لما مرض الحسن رضي الله تعالى عنه، كتب مروان بن الحكم إلى معاوية بذلك، فكتب إليه معاوية أن أقبل المطي إلي بخبر الحسن، فلما بلغ معاوية موته سمع تكبيرة من الخضراء، فكبر أهل الشام لذلك التكبير، فقالت فاختة بنت قريظة لمعاوية: أقر الله عينك ما الذي كبرت لأجله؟ فقال: مات الحسن، فقالت أعلى موت ابن فاطمة تكبر؟ فقال: والله ما كبرت شماتة بموته، ولكن استراح قلبي ودخل عليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال له: يا ابن عباس هل تدري ما حدث في أهل بيتك؟ فقال: لا أدري ما حدث. إلا أني أراك مستبشرا وقد بلغني تكبيرك، فقال: مات الحسن فقال ابن عباس يرحم الله أبا محمد ثلاثا، والله يا معاوية لا تسد حفرته حفرتك، ولا يزيد عمره في عمرك، ولئن كنا قد أصبنا بالحسن، فلقد أصبنا بإمام المتقين وخاتم النبيين، فجبر الله تلك الصدعة، وسكن تلك العبرة، وكان الله الخلف علينا من بعده. وكان الحسن رضي الله تعالى عنه قد سم، سمته إمرأته جعدة بنت الأشعث، فمكث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 شهرين يرفع من تحته في اليوم كذا وكذا مرة طست من دم، وكان رضي الله تعالى عنه يقول: سقيت السم مرارا ما أصابني فيها ما أصابني في هذه المرة. وكان قد أوصى لأخيه الحسين رضي الله تعالى عنهما. وقال إذا أنا مت فادفني مع جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن وجدت إلى ذلك سبيلا، وإن منعوك فأدفني ببقيع الغرقد. فلما مات رضي الله تعالى عنه، لبس الحسين ومواليه السلاح وخرجوا ليدفنوه مع جده، فخرج مروان بن الحكم في موالي بني أمية، وهو يومئذ عامل على المدينة، فمنع الحسين رضي الله تعالى عنه من ذلك وكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين، وقيل سنة خمسين وصلى عليه سعيد بن العاص، ودفن مع أمه فاطمة رضي الله تعالى عنهما، وقيل دفن بالبقيع في قبر في قبة العباس، ودفن في هذا القبر أيضا علي زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن ابنه جعفر بن محمد الصادق فهم أربعة في قبر واحد فأكرم به قبرا. وكانت خلافته ستة أشهر وخمسة أيام وقيل ستة أشهر إلا أياما وهي تكملة ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، من مدة الخلافة «ثم يكون ملكا عضوضا، ثم يكون جبروتا وفسادا في الأرض «1» » وكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومات الحسن رضي الله تعالى عنه وعمره سبع وأربعون سنة. خلافة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه قالوا: ولما خلع الحسن رضي الله تعالى عنه من الخلافة، تم الأمر لمعاوية رضي الله تعالى عنه واستقام له الملك وصفت له الخلافة، وكان قد بويع له بالخلافة يوم التحكيم بايعه أهل الشام واختلف عليه أهل العراق إلى أن صالحه الحسن رضي الله تعالى عنه، فأجمع الناس على بيعته ومولده رضي الله تعالى عنه بالخيف من منى. أسلم قبل أبيه أبي سفيان، وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب له، وكان في عسكر أخيه يزيد بن أبي سفيان. وكان عاملا لعمر رضي الله تعالى عنه استعمله على إمرة دمشق فلما احتضر استخلف أخاه عليها، فأقره عمر رضي الله تعالى عنه على ذلك في سنة عشرين، فلم يزل متوليا على الشام عشرين سنة، وذلك بقية خلافة عمر رضي الله تعالى عنه، وخلافة عثمان رضي الله تعالى عنه، وفي خلافة علي رضي الله تعالى عنه متغلبا عليها إلى أن سلم إليه الحسن رضي الله تعالى عنه الخلافة، فاجتمع له الأمر وبعث نوّابه إلى البلاد، وذلك في سنة إحدى وأربعين، فسمي عام الجماعة لأن الأمة اجتمعت فيه بعد الفرقة، على إمام واحد. وكانت امرأة استشارت النبي صلى الله عليه وسلم في أن تتزوج به فقال «2» : «إنه صعلوك لا مال له» . ثم بعد هذا القول بإحدى عشرة سنة صار نائب دمشق، ثم بعد الأربعين صار ملك الدنيا. وكان مليح الشكل عظيم الهيبة، وافر الحشمة، يلبس الثياب الفاخرة، والعدة الكاملة، ويركب الخيل المسومة، وكان كثير البذل والعطاء، محسنا إلى رعيته كبير الشأن يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 مناف بن قصي، وينسب إلى أمية بن عبد شمس، فيقال: الأموي. وخرج عليه مرة بن نوفل الأشجعي الحروري وورد الكوفة، وهو أول الخوارج، فكتب معاوية إلى أهل الكوفة ألا لا ذمة لكم عندي حتى تكفوني أمره فقاتلوه وقتلوه. وهو أول من اتخذ المقاصير وأقام الحرسي والحجاب. وأول من مشى بين يديه صاحب الشرطة بالحربة، وأول من تنعم في مأكله وملبسه ومشربه. وكان رضي الله عنه حليما، وله في الحلم أخبار كثيرة، ولما حضرته الوفاة جمع أهله فقال: ألتسم أهلي؟ قلوا بلى فداك الله بنا. فقال: وعليكم حزني ولكم كدي وكسبي، قالوا: بلى، فداك الله بنا، قال فهذه نفسي قد خرجت من قدمي، فردوها علي إن استطعتم، فبكوا وقالوا ما لنا إلى هذا من سبيل. فرفع صوته بالبكاء، ثم قال: فمن تغره الدنيا بعدي؟ وذكر غير واحد أنه لما ثقل في الضعف وتحدث الناس أنه الموت، قال لأهله: احشوا عيني اثمدا واسبغوا رأسي دهنا ففعلوا، وبرقوا وجهه بالدهن ثم مهدوا له مجلسا وأسندوه، وأذنوا للناس فدخلوا وسلموا عليه قياما، فلما خرجوا من عنده أنشد قائلا: وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع «1» فسمعه رجل من العلويين فأجابه: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع «2» ثم أنه أوصى أن تدق قلامة أظفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجعل من منافذ وجهه، وأن يكفن بثوب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتوفي في دمشق في نصف رجب وقيل في مستهل رجب سنة ستين. وصلى عليه الضحاك الفهري لغيبة ابنه يزيد ببيت المقدس. واخلف في عمره فقيل ثمانون وقيل خمس وسبعون سنة وقيل خمس وثمانون سنة وقيل ثمان وثمانون سنة وقيل تسعون. وكانت خلافتة منذ خلص له الأمر تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام. وكان أميرا وخليفة أربعين سنة. منها أربع سنين في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم. خلافة يزيد بن معاوية ثو قام بالأمر بعده إبنه يزيد. بويع له بالخلافة يوم مات أبوه، وذلك أن أباه كان قد جعله ولي العهد من بعده وكان بحمص، فقدم منها وبادر إلى قبر أبيه، ثم دخل دمشق إلى الخضراء، وكانت دار السلطنة فخطب الناس بها وبايعوه بالخلافة. وكتب إلى الأقاليم بذلك فبايعوه، ولم يبايعه الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما ولا عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه، واختفيا من عامله، الوليد بن عقبة بن أبي سفيان. وأقاما مصرين على الامتناع إلى أن قتل الحسين رضي الله تعالى عنه بكربلاء، وكان الذي باشر قتله الشمر بن ذي الجوشن، وقيل سنان بن أنس النخعي وقيل أن الشمر ضربه على وجهه، وأدركه سنان فطعنه فألقاه عن فرسه، ونزل خولي بن يزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 الأصبحي ليحز رأسه، فارتعدت يداه، فنزل أخوه شبل بن يزيد فاحتز رأسه، ودفعه إلى أخيه خولي وكان أمير الجيش عبيد الله بن زياد ابن أبيه، من قبل يزيد بن معاوية. قالوا: ثم إن عبيد الله بن زياد جهز علي بن الحسين، ومن كان مع الحسين من حرمه، بعد أن اعتمدوا ما اعتمدوه، من سبي الحريم وقتل الزراري مما تقشعر من ذكره الأبدان، وترتعد منه الفرائص إلى البغيض يزيد بن معاوية، وهو يومئذ بدمشق مع الشمر بن ذي الجوشن في جماعة من أصحابه فساروا إلى أن وصلوا إلى دير في الطريق، فنزلوا ليلقوا به فوجدوا مكتوبا على بعض جدرانه: أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب فسألوا الراهب عن السطر ومن كتبه؟ فقال إنه مكتوب هنا من قبل أن يبعث نبيكم بخمسمائة عام. وقيل إن الجدار انشق فظهر منه كف مكتوب فيه بالدم هذا السطر. ثم ساروا حتى قدموا دمشق، ودخلوا على يزيد بن معاوية، ومعهم رأس الحسين رضي الله تعالى عنه، فرمي به بين يدي يزيد، ثم تكلم شمر بن ذي الجوشن، فقال: يا أمير المؤمنين ورد علينا هذا يعني الحسين في ثمانية عشر رجلا من أهل بيته، وستين رجلا من شيعته، فسرنا إليهم وسألناهم النزول على حكم أميرنا عبيد الله بن زياد أو القتال فاختاروا القتال، فغدونا عليهم عند شروق الشمس وأحطنا بهم من كل جانب، فلما أخذت السيوف مأخذها جعلوا يلوذون لوذان الحمام من الصقور، فما كان إلا مقدار جزر جزور أو نومة قائل، حتى أتينا على آخرهم فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مزملة وخدودهم معفرة، تسفي عليهم الرياح، زوّارهم العقبان ووفودهم الرخم. فلما سمع يزيد بذلك، دمعت عيناه، وقال: ويحكم قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن مرجانة أما والله لو كنت صاحبه لعفوت عنه ثم قال: يرحم الله أبا عبد الله ثم تمثل بقول «1» الشاعر: يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما ثم أمر بالذرية فأدخلوا دار نسائه، وكان يزيد إذا حضر غداؤه، دعا علي بن الحسين وأخاه عمر بن الحسين، فأكلا معه ثم وجه الذرية صحبة علي بن الحسين، إلى المدينة ووجه معه رجلا في ثلاثين فارسا، يسير أمامهم حتى انتهوا إلى المدينة، وكان بين وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين اليوم الذي قتل فيه الحسين رضي الله تعالى عنه خمسون عاما. وقيل: إن الحسين رضي الله عنه لما وصل إلى كربلاء سأل عن اسم المكان؟ فقيل له: كربلاء فقال ذات كرب وبلاء، لقد مر أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين، وأنا معه، فوقف وسأل عنه فأخبروه بإسمه، فقال: «ههنا محط رحالهم وههنا مهراق «2» دمائهم» . فسئل عن ذلك فقال نفر من آل محمد ينزلون ههنا، ثم أمر باثقاله فحطت في ذلك المكان. وكان قتله رضي الله تعالى عنه يوم عاشوراء في سنة ستين. ذكره أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، في الأخبار الطوال. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الكاف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 لفظ الكلب، ما ذكره ابن عبد البر في بهجة المجالس وأنس المجالس: أنه قيل لجعفر الصادق: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال خمسين سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كأن كلبا أبقع ولغ في دمه، فأوله بأن رجلا يقتل الحسين ابن بنته. فكان الشمر بن ذي الجوشن الكلب، قاتل الحسين رضي الله تعالى عنه، وكان أبرص فتأخرت الرؤيا بعده صلى الله عليه وسلم خمسين سنة. وفي هذه السنة أي سنة ستين، دعا ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما، إلى نفسه بالخلافة بمكة وعاب يزيد بشرب الخمر، واللعب بالكلاب، والتهاون بالدين، وأظهر ثلبه وتنقصه، فبايعه أهل تهامة والحجاز، فلما بلغ يزيد ذلك ندب له الحصين بن نمير السكوني، وروح بن زنباع الجذامي، وضم إلى كل واحد جيشا، واستعمل على الجميع مسلم بن عقبة المري، وجعله أمير الأمراء، ولما ودعهم قال: يا مسلم لا نردن أهل الشام عن شيء يريدونه بعدوهم، واجعل طريقك على المدينة فإن حاربوك، فحاربهم فإن ظفرت بهم فأبحها ثلاثا فسار مسلم بن عقبة حتى نزل الحرة، وخرج أهل المدينة فعسكروا بها، وأميرهم عبد الله بن حنظلة الراهب، وهو غسيل الملائكة، فدعاهم مسلم ثلاثا فلم يجيبوه، فقاتلهم فغلب أهل الشام وقتلوا أمير المدينة عبد الله بن حنظلة وسبعمائة من المهاجرين والأنصار، ودخل مسلم المدينة وأباحها ثلاثة أيام وقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أباح حرمي فقد حلّ عليه غضبي» ثم شخص بالجيش إلى مكة وكتب إلى يزيد بما صنع بالمدينة. فلما بلغ مسلم هرشى اعتل ومات، فتولى أمر الجيش الحصين بن نمير السكوني فسار حتى وافى مكة، فتحصن منه ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما في المسجد الحرام، بجميع من كان معه، فنصب الحصين المنجنيق على أبي قبيس، ورمى به الكعبة المعظمة، فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر إلى الحصين بموت يزيد بن معاوية، فأرسل إلى ابن الزبير يسأله الموادعة، فأجابه إلى ذلك وفتح الأبواب واختلط العسكران يطوفون بالبيت، فبينما الحصين يطوف ليلة بعد العشاء، إذ استقبله ابن الزبير فأخذ الحصين بيده، وقال له سرا: هل لك في الخروج معي إلى الشام، فأدعو الناس إلى بيعتك؟ فإن أمرهم قد مرج، ولا أرى أحدا أحق بها اليوم منك، ولست أعصى هناك. فاجتذب ابن الزبير يده من يده، وقال وهو يجهر بقوله: دون أن أقتل بكل واحد من أهل الحجاز عشرة من أهل الشام؟ فقال الحصين: لقد كذب الذي يزعم إنك من دهاة العرب، أكلمك سرا فتكلمني علانية، وأدعوك إلى الخلافة وتدعوني إلى الحرب. ثم انصرف بمن معه إلى الشام وتوفي يزيد بن معاوية في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين وله تسع وثلاثون سنة ودفن بمقبرة باب الصغير. وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، وقد وقع للغزالي والكيا الهراسي فيه كلام وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفهد. خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثم قام بالأمر بعده ابنه معاوية، وكان خيرا من أبيه، فيه دين وعقل، بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، فأقام فيها أربعين يوما، وقيل أقام فيها خمسة أشهر وأياما. وخلع نفسه وذكر غير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 واحد، أن معاوية بن يزيد لما خلع نفسه صعد المنبر فجلس طويلا، ثم حمد الله وأثنى عليه بأبلغ ما يكون من الحمد والثناء، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، بأحسن ما يذكر به، ثم قال: يا أيها الناس، ما أنا بالراغب في الإئتمار عليكم، لعظيم ما أكرهه منكم، وإني لأعلم أنكم تكرهوننا أيضا لأنا بلينا بكم وبليتم بنا، إلا أن جدي معاوية رضي الله تعالى عنه، قد نازع في هذا الأمر من كان أولى به منه، ومن غيره لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعظم فضله وسابقته، أعظم المهاجرين قدرا، وأشجعهم قلبا، وأكثرهم علما وأولهم إيمانا، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صحبة، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصهره وأخوه. زوجه صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة، وجعله لها بعلا باختياره لها، وجعلها له زوجة باختيارها له، أبو سبطيه سيدي شباب أهل الجنة وأفضل هذه الأمة تربية الرسول وابني فاطمة البتول، من الشجرة الطيبة الطاهرة الزكية، فركب جدي معه ما تعلمون، وركبتم معه ما لا تجهلون، حتى انتظمت لجدي الأمور، فلما جاءه القدر المحتوم، واخترمته أيدي المنون، بقي مرتهنا بعمله، فريدا في قبره، ووجد ما قدمت يداه، ورأى ما ارتكبه واعتداه، ثم انتقلت الخلافة إلى يزيد أبي فتقلد أمركم لهوى كان أبوه فيه، ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فركب هواه واستحسن خطاه، وأقدم على ما أقدم من جراءته على الله، وبغيه على من استحل حرمته، من أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت مدته وانقطع أثره، وضاجع عمله، وصار حليف حفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته، وحصل على ما قدم وندم حيث لا ينفعه الندم، وشغلنا الحزن له، عن الحزن عليه، فليت شعري ماذا قال وماذا قيل له هل عوقب بإساءته؟ وجوزي بعمله وذلك ظني ثم اختنقته العبرة، فبكى طويلا وعلا نحيبه، ثم قال: وصرت أنا ثالث القوم والساخط علي أكثر من الراضي، وما كنت لأتحمل آثامكم ولا يراني الله جلّت قدرته متقلدا أوزاركم، وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم أمركم فخذوه، ومن رضيتم به عليكم فولوه، فلقد خلعت بيعتي من أعناقكم والسلام. فقال له مروان بن الحكم، وكان تحت المنبر: أسنة عمرية يا أبا ليلى؟ فقال أغد عني أعن ديني تخدعني؟ فو الله ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرع مرارتها، ائتني برجال مثل رجال عمر رضي الله تعالى عنه، على أنه ما كان من حين جعلها شورى، وصرفها عمن لا يشك في عدالته ظلوما، والله لئن كانت الخلافة مغنما، لقد نال أبي منها مغرما ومأثما، ولئن كانت سوءا فحسبه منهاما أصابه. ثم نزل فدخل عليه أقاربه وأمه فوجدوه يبكي، فقالت له أمه: ليتك كنت حيضة، ولم أسمع بخبرك. فقال: وددت والله ذلك، ثم قال ويلي إن لم يرحمني ربي. ثم إن بني أمية قالوا لمؤدبه عمر المقصوص: أنت علمته هذا ولقنته إياه، وصددته عن الخلافة، وزينت له حب علي وأولاده، وحملته على ما وسمنا به من الظلم، وحسّنت له البدع، حتى نطق بما نطق، وقال ما قال. فقال: والله ما فعلته، ولكنه مجبول ومطبوع على حب علي. فلم يقبلوا منه ذلك، وأخذوه ودفنوه حيا حتى مات. وتوفي معاوية بن يزيد رحمه الله بعد خلعه نفسه، بأربعين ليلة وقيل بسبعين ليلة، وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة، وقيل إحدى وعشرين سنة وقيل ثماني عشرة ولم يعقب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 خلافة مروان بن الحكم ثم قام بالأمر بعده مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. بويع له بالخلافة بالجابية، ثم دخل الشام فأذعن أهلها له بالطاعة، ثم دخل مصر بعد حروب كثيرة فبايعه أهلها. وكان يقال له ابن الطريد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان قد طرد أباه إلى الطائف، فرده عثمان رضي الله تعالى عنه حين ولي كما تقدم قريبا. وتوفي مروان سنة خمس وستين، وثبت عليه زوجته، لكونه شتمها فوضعت على وجهه مخدة كبيرة، وهو نائم، وقعدت هي وجواريها فوقها حتى مات. وكان قد لحق النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي وولي نيابة المدينة مرات، وهو قاتل طلحة أحد العشرة رضي الله تعالى عنهم. وكان كاتب السر لعثمان رضي الله تعالى عنه، وبسببه جرى عليه ما جرى. وكانت خلافته عشرة أشهر وكان عمره ثلاثا وثمانين سنة. روى الحاكم في كتاب الفتن والملاحم من المستدرك، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه. قال: «كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدعو له فأدخل عليه مروان بن الحكم، فقال «1» : «هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون» . ثم قال صحيح الإسناد. ثم روي أيضا عن عمرو بن مرة الجهني، وكانت له صحبة، أن الحكم بن أبي العاص، استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته فقال «2» : «ائذنوا له عليه وعلى من يخرج من صلبه لعنة الله إلا المؤمن منهم وقليل ما هم يترفهون في الدنيا، ويضيعون في الآخرة ذوو مكر وخديعة يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق» . وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في باب الواو في لفظ الوزغ. خلافة عبد الملك بن مروان ثم قام بالأمر بعده ابنه عبد الملك. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه مروان، وهو أول من سمي بعبد الملك في الإسلام، وأوّل من ضرب الدراهم والدنانير بسكة الإسلام. وكان على الدنانير نقش بالرومية، وعلى الدراهم نقش بالفارسية. قلت: ولهذا سبب وهو أني رأيت في كتاب المحاسن والمساوي، للإمام أبراهيم بن محمد البيهقي ما نصه قال الكسائي: دخلت على الرشيد ذات يوم، وهو في ديوانه، وبين يديه مال كثير، قد شق عنه البدر شقا. وأمر بتفريقه في خدمه الخاصة، وبيده درهم تلوح كتابته، وهو يتأمله وكان كثيرا ما يحدثني، فقال: هل علمت أول من سن هذه الكتابة في الذهب والفضة؟ قلت: يا سيدي هو عبد الملك بن مروان. قال: فما كان السبب في ذلك؟ قلت: لا علم لي، غير أنه أوّل من أحدث هذه الكتابة. فقال: سأخبرك كانت القراطيس للروم وكان أكثر من بمصر نصرانيا على دين ملك الروم، وكانت تطرز بالرومية، وكان طرازها أبا وابنا وروحا، فلم يزل ذلك كذلك صدر الإسلام كله، يمضي على ما كان عليه، إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أن ملك عبد الملك بن مروان فتنبه له، وكان فطنا فبينما هو ذات يوم، إذ مر به قرطاس، فنظر إلى طرازه، فأمر أن يترجم بالعربية، ففعل ذلك فأنكره، وقال: ما أغلظ هذا في أمر الدين والإسلام، أن يكون طراز القراطيس، وهي تحمل في الأواني والثياب، وهما يعملان بمصر وغير ذلك مما يطرز من ستور وغيرها من عمل هذا البلد، على سعته وكثرة ماله، والبلد يخرج منه هذه القراطيس تدور في الآفاق والبلاد، وقد طرزت بسطر مثبت عليها، فأمر بالكتاب إلى عبد العزيز ابن مروان، وكان عامله بمصر، بإبطال ذلك الطراز على ما كان يطرز به من ثوب وقرطاس وستر وغير ذلك، وأن يأمر صناع القراطيس، أن يطرزوها بصورة التوحيد: شهد الله أن لا إله إلا هو، وهذا طراز القراطيس خاصة، إلى هذا الوقت، لم ينقص ولم يزد ولم يتغير، وكتب إلى عمال الآفاق جميعا بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده بعد هذا النهي شيء منها بالضرب الوجيع، والحبس الطويل. فلما ثبتت القراطيس بالطراز المحدث بالتوحيد، وحمل إلى بلاد الروم منها انتشر خبرها ووصل إلى ملكهم وترجم له ذلك الطراز، فأنكره وغلظ عليه واستشاط غيظا، فكتب إلى عبد الملك: أن عمل القراطيس بمصر وسائر ما يطرز هناك للروم، ولم يزل يطرز بطراز الروم، إلى أن أبطلته فإن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطؤا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه، في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق، حاجة أشكرك عليها، وتأمر بقبض الهدية، وكانت عظيمة القدر. فلام قرأ عبد الملك كتابه، رد الرسول وأعلمه أنه لا جواب له، ورد الهدية فانصرف بها إلى صاحبه، فلما وافاه أضعف الهدية ررد الرسول إلى عبد الملك، وقال: إني ظننتك استقللت الهدية فلم تقبلها ولم تجبني عن كتابي، فأضعفت الهدية وإني أرغب إليك إلى مثل ما رغبت فيه، من رد الطراز إلى ما كان عليه أولا. فقرأ عبد الملك الكتاب، ولم يجبه ورد الهدية فكتب إليه ملك الروم يقتضي أجوبة كتبه ويقول: إنك قد استخففت بجوابي وهديتي ولم تسعفني بحاجتي، فتوهمتك استقللت الهدية، فأضعفتها فجريت على سبيلك الأول، وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح، لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه، أو لأمرن بنقش الدنانير والدراهم، فإنك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلا ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام، فينقش عليها شتم نبيك فإذا قرأته أرفض جبينك عرقا فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها، ونبقى على الحال بيني وبينك. فلما قرأ عبد الملك الكتاب، صعب عليه الأمر وغلظ، وضاقت به الأرض، وقال: أحسبني أشأم مولود ولد في الإسلام، لأني جنيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من شتم هذا الكافر ما يبقى غابر الدهر، ولا يمكن محوه من جميع مملكة العرب، إذا كانت المعاملات تدور بين الناس بدنانير الروم ودراهمهم، فجمع أهل الإسلام واستشارهم، فلم يجد عند أحد منهم رأيا يعمل به، فقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 روح «1» بن زنباع: إنك لتعلم المخرج من هذا الأمر ولكنك تتعمد تركه، فقال: ويحك من؟ فقال: عليك بالباقر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم! قال: صدقت، ولكنه ارتج علي الرأي فيه فكتب إلى عامله بالمدينة أن أشخص إلى محمد بن علي بن الحسين مكرما ومتعه بمائة ألف درهم لجهازه، وبثلاثمائة ألف لنفقته، وارح عليه في جهازه وجهاز من يخرج معه، من أصحابه، وحبس الرسول قبله إلى موافاة محمد بن علي فلما وافاه، أخبره الخبر، فقال له محمد رحمه الله تعالى: لا يعظم هذا عليك، فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله عز وجل، لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم، في رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخرى وجود الحيلة فيه. قال: وما هي؟ قال: تدعو في هذه الساعة بصناع، فيضربون بين يديك سككا للدراهم والدنانير، وتجعل النقش عليها صورة التوحيد، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحدهما في وجه الدرهم والدينار، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه، والسنة التي يضرب فيها تلك الدراهم والدنانير، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهما عددا من الأصناف الثلاثة، التي العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعا إحدى وعشرين مثقالا، فتجزئها من الثلاثين، فتصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل. وكانت الدراهم، في ذلك الوقت، إنما هي الكسروية «2» ، التي يقال لها اليوم البغلية، لأن رأس البغل ضربها لعمر رضي الله تعالى عنه، بسكة كسروية في الإسلام مكتوب عليها صورة الملك وتحت الكرسي مكتوب بالفارسية «نوش خور» أي كل هنيئا. وكان وزن الدرهم منها، قبل الإسلام، مثقالا والدراهم التي كان وزن العشرة منها وزن ستة مثاقيل، والعشرة وزن خمسة مثاقيل، هي السمرية والخفاف والثقال، ونقشها نقش فارس ففعل ذلك عبد الملك، وأمره محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام، وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها. وأن يتهدد بقتل من يتعامل بغير هذه السكة من الدراهم والدنانير وغيرها، وأن تبطل وترد إلى مواضع العمل، حتى تعاد إلى السكك الإسلامية ففعل عبد الملك ذلك. ورد رسول ملك الروم إليه بذلك بقوله: إن الله عز وجل مانعك مما قد أردت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار البلاد بكذا وكذا، وبإبطال السكك والطروز الرومية. فقيل لملك الروم إفعل ما كنت تهددت به ملك العرب، فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت إليه لأني كنت قادرا عليه، والمال وغيره برسوم الروم، فأما الأن فلا أفعل، لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام، وامتنع من الذي قال. وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه إلى اليوم. ثم رمى، يعني الرشيد، بالدرهم إلى بعض الخدم، وتمكن عبد الله بن الزبير، فبايعه أهل الحرمين واليمن والعراق، واستناب على العراق وما يليه أخاه مصعب بن الزبير، وتفرقت الكلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 فبقي في الوقت خليفتان: أكبرهما ابن الزبير رضي الله تعالى عنه، ثم لم يزل عبد الملك إلى أن ظفر به وقتله بعد حروب عظيمة. وذلك أنه سار من دمشق إلى العراق، فبرز إليه نائبها مصعب بن الزبير، وكان عبد الملك قد كاتب جيشه بأمور، فخذلوه وتسللوا عنه، فصار مصعب في نفر يسير، والتحم بينهما القتال، فظهرت من مصعب شجاعة عظيمة، ولم يزل كذلك حتى قتل، فاستولى عبد الملك حينئذ على العراق وخراسان، واستناب عليها أخاه بشر بن مروان، وكر راجعا إلى دمشق، ثم جهز الحجاج بن يوسف الثقفي في جيش لحرب ابن الزبير، فحاصروه وضايقوه ونصبوا المنجنيق على جبل أبي قبيس، فكان يضرب بشجاعته المثل. كان رضي الله تعالى عنه، يحمل عليهم وحده فيهزمهم ويخرجهم، من أبواب المسجد واستمر يقاتلهم أربعة أشهر، ففي آخرها حمل عليهم فسقطت على رأسه شرافة من شراريف المسجد، فخر منها، فبادروا إليه واحتزوا رأسه، رضي الله تعالى عنه. فأمر اللعين الحجاج، أخزاه الله وقبحه، بصلب جسده. وكان عبد الملك، قبل الخلافة متعبدا ناسكا عالما فقيها واسع العلم، وكان طويل العنق رقيق الوجه مشدود الأسنان بالذهب، حازما لا يكل أمره إلى سواه شديد البخل، يلقب برشح الحجر لبخله، ويلقب أيضا بأبي ذباب لبخره محبا للفخر، ومقداما على سفك الدماء، وكذلك كان عماله: الحجاج بالعراق، والمهلب بن أبي صفرة بخراسان، وهشام بن إسماعيل وعبد الله ابنه بمصر، وموسى بن نصير بالمغرب، ومحمد بن يوسف أخو الحجاج باليمن، ومحمد بن مروان بالجزيرة. وكل من هؤلاء ظلوم غشوم جبار. قاله ابن خلكان. ومن غريب ما سمع، فيما حكاه ابن خلكان، أن علي بن عبد الله بن عباس ومحمد ابنه، دخلا على عبد الملك بن مروان، وعنده قائف «1» فأجلسهما، ثم قال للقائف: أتعرف هذا؟ قال: لا ولكن أعرف من أمره، إن هذا الفتى الذي معه ابنه، وأنه يخرج من عقبه فراعنة يملكون الأرض، لا يناويهم مناو إلا وقتلوه. فتغير لون عبد الملك. ثم قال: زعم راهب إيليا، وكان قد رآه عنده، أنه يخرج من صلبه ثلاثة عشر ملكا، ووصفهم بصفاتهم. وذكر أبو حنيفة في الأخبار الطوال أن عبد الملك بن مروان، أوصى ابنه الوليد، لما ثقل في مرضه، فقال: يا وليد لا ألفينك إذا وضعتني في حفرتي، تعصر عينيك كالأمة الولهاء، بل اتزر وشمر والبس جلد النمر، وادع الناس إلى البيعة فمن قال برأسه كذا أي لا، فقل بالسيف كذا أي أضرب عنقه. وكان عبد الملك يلقب بحمامة المسجد، لقبه به ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وجاءته الخلافة وهو يقرأ في المصحف، فطبقه وقال: سلام عليك، هذا فراق بيني وبينك. وقيل إنه قيل لابن عمر رضي الله تعالى عنه: أرأيت لو نفاني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فمن نسأل بعدهم؟ فقال: سلوا هذا الفتى، يعني عبد الملك، توفي عبد الملك بن مروان في شوال سنة ست وثمانين، وله ثلاث وستون سنة، وقيل ستون. وخلف سبعة عشر ولدا ولي الخلافة منهم أربعة. وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة عشر يوما، منها ثمان سنين مزاحما لابن الزبير. ثم انفرد بمملكة الدنيا إلى أن مات رحمة الله عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 خلافة عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما وهو السادس فخلع وقتل كما سيأتي قد تقدم، أن معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، خلع نفسه من الخلافة، فكيف يكون ابن الزبير رضي الله عنهما سادسا؟ وسبق قبل ذلك أن الحسن رضى الله عنه خلع من الخلافة أيضا. فعلى هذا الحال لا يستقيم أن يكون ابن الزبير رضي الله عنهما سادسا، وبويع له يعني ابن الزبير رضي الله عنهما، بالخلافة بمكة لسبع بقين من رجب سنة أربع وستين في أيام يزيد بن معاوية كما تقدم، وبايعه أهل العراق وأهل مصر وبعض أهل الشام، إلى أن بايعوا المروان بعد حروب، واستمر له العراق إلى سنة إحدى وسبعين، وهي التي قتل فيها عبد الملك بن مروان أخاه مصعب بن الزبير، وهدم قصر الإمارة بالكوفة. سبب هدمه أنه جلس ووضع رأس مصعب بين يديه، فقال له عبد الملك بن عمير: يا أمير المؤمنين، جلست أنا وعبيد الله بن زياد في هذا المجلس، ورأس الحسين بين يديه، ثم جلست أنا والمختار بن أبي عبيد فإذا رأس عبيد الله بن زياد بيت يديه، ثم جلست أنا ومصعب هذا فإذا رأس المختار بين يديه، ثم جلست مع أمير المؤمنين فإذا رأس مصعب بين يديه. وإني أعيذ أمير المؤمنين بالله من شر هذا المجلس، فارتعد عبد الملك، وقام من فوره، وأمر بهدم القصر. وكان مصعب شجاعا جوادا حسن الوجه، كالقمر ليلة البدر، رحمه الله تعالى. ولما قتل مصعب انهزم أصحابه، فاستدعى بهم عبد الملك بن مروان، فبايعوه وسار إلى الكوفة ودخلها، واستقر له الأمر بالعراق والشام ومصر. ثم جهز الحجاج سنة ثلاث وسبعين، إلى عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، فحصره بمكة ورمى البيت بالمنجنيق، ثم ظفر به فقتله، واحتز الحجاج رأسه وصلبه منكسا. ثم أنزله ودفنه في مقابر اليهود، وقيل إن الحجاج قال: لا أنزله حتى تتشفع فيه أمه أسماء، فتم على تلك الحال مدة، فمرت به أمه يوما فقالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل! فبلغ الحجاج ذلك، فأمر بإنزاله، وأن يعطى لأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، فاخذته ودفنته. وسيأتي ذكر قتله أيضا في باب الشين المعجمة في لفظ الشاة. وكانت خلافته رضي الله تعالى عنه بالحجاز والعراق تسع سنين واثنين وعشرين يوما قتل رضي الله تعالى عنه وله من العمر ثلاث وسبعون سنة وقيل اثنتان وسبعون سنة. خلافة الوليد بن عبد الملك ثم قام بالأمر بعد عبد الملك بن مروان ابنه الوليد. فإنه كان ولي عهده، وكان دميما سائل الأنف، يختال في مشيته، قليل العلم. وكان يختم القرآن في ثلاث ليال، قال إبراهيم بن أبي عبلة: كان يختم في رمضان سبع عشرة مرة، وكان يعطيني أكياس الدراهم، أقسمها في الصالحين وعن الوليد قال: لولا أن الله عزّ وجلّ ذكر اللواط في كتابه ما ظننت أن أحدا يفعله. بويع له بالخلافة يوم توفي والده، ولم يدخل المنزل، حتى صعد المنبر فقال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بأمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 قال الحافظ ابن عساكر: كان الوليد عند أهل الشام من أفضل خلفائهم، بنى المساجد بدمشق وأعطى الناس، وفرض للمجذومين، وقال: لا تسألوا الناس. وأعطى كل مقعد خادما، وكل أعمى قائدا وكان يبرّ حملة القرآن، ويقضي عنهم ديونهم، وبنى الجامع الأموي، وهدم كنيسة مريوحنا، وزادها فيه، وذلك في ذي القعدة سنة ست وثمانين. وذكر أنه كان في الجامع وهو يبنى إثنا عشر ألف مرخم. وتوفي الوليد، ولم يتم بناؤه فأتمه سليمان أخوه، فكان جملة ما أنفق على بنائه: أربعمائة صندوق، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار، وكان فيه ستمائة سلسلة ذهب للقناديل، وما زالت إلى أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، فجعلها في بيت المال، واتخذ عوضها صفرا وحديدا. وبنى قبة الصخرة ببيت المقدس وبنى المسجد النبوي ووسعه، حتى دخلت الحجرة النبوية فيه. وله آثار حسنة كثيرة جدا ومع ذلك فقد روي أن عمر بن عبد العزيز قال: لما الحدت الوليد ارتكض في اكفانه، وغلت يداه إلى عنقه. نسأل الله العافية والسلامة. وفتح في أيام خلافته الفتوحات العظام، مثل السند والهند والأندلس وغير ذلك من الأماكن المشتهرة. وكان يركب المركوب الحسن الجيد، ويتقي الركوب والسفر والحرب، في هذه الأيام الآتي ذكرها، وينهي عن ذلك، وهي فائدة جليلة عظيمة القدر. روى علقمة بن صفوان، عن أحمد بن يحي مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توقوا إثنا عشر يوما في السنة، فإنها تذهب بالأموال، وتهتك الأستار. فقلنا: ما هي يا رسول الله؟ قال: ثاني عشر المحرم وعاشر صفر ورابع ربيع الأول وثامن عشر ربيع الثاني وثامن عشر جماد الأولى وثاني عشر جمادى الثانية وثاني عشر رجب وسادس عشر شعبان ورابع عشر رمضان وثاني شوّال وثامن عشر ذي القعدة وثامن ذي الحجة» . وقوله أن الوليد بنى قبة الصخرة فيه نظر. وإنما بنى قبة الصخرة عبد الملك بن مروان في أيام فتنة ابن الزبير لما منع عبد الملك أهل الشأم من الحج، خوفا من أن يأخذ منهم ابن الزبير البيعة له، فكان الناس يقفون يوم عرفة بقبة الصخرة إلى أن قتل ابن الزبير رضي تعالى عنهما. كما سيأتي إنشاء الله تعالى عن ابن خلكان وغيره. ولعلها تشعثت فهدمها الوليد وبناها، والله تعالى أعلم. وتوفي الوليد بن عبد الملك في خامس عشر جمادى الآخرة سنة ست وتسعين بدير مروان، عن ست وأربعين سنة، وقيل ثمان وأربعين وقيل خمسين سنة وترك أربعة عشر ولدا. وحمل على أعناق الرجال، ودفن في مقابر باب الصغير وتولى دفنه عمر بن عبد العزيز. وكانت خلافته تسع سنين وثمانية أشهر وقيل عشر سنين والله أعلم. خلافة سليمان بن عبد الملك ثم قام بالأمر بعده أخوه سليمان، وذلك لأن أباهما عقد لهما جميعا بالأمر من بعده. بويع له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 بالخلافة يوم موت أخيه الوليد. وكان سليمان بالرملة، فلما جاءته الخلافة عزم على الإقامة بها، ثم توجه إلى دمشق وكمل عمارة الجامع الأموي كما تقدم، وجهز أخاه مسلمة بن عبد الملك في سنة سبع وتسعين إلى غزو الروم، فانتهى إلى القسطنطينية فنازلها. وستأتي الأشارة إلى شيء من ذلك في باب الجيم في لفظ الجراد. ومما يحكى من محاسنه رحمة الله تعالى أن رجلا دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين أنشدك الله والآذان. فقال له سليمان: أما أنشدك الله فقد عرفناه، فما الآذان؟ قال: قوله «1» تعالى فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فقال له سليمان: ما ظلامتك؟ قال ضيعتي الفلانية غلبني عليها عاملك فلان، فنزل سليمان رحمه الله عن سريره ورفع البساط ووضع خده بالأرض، وقال: والله لا رفعت خدي من الأرض، حتى يكتب له برد ضيعته، فكتب الكتاب وهو واضع خده، رحمه الله لما سمع كلام ربه، الذي خلقه وخوله في نعمه، خشي على نفسه من لعنة الله تعالى وطرده. قيل أنه أطلق من سجن الحجاج ثلاثمائة ألف ما بين رجل وامرأة، وصادر آل الحجاج، واتخذ ابن عمه عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وزيرا ومشيرا، وإنه أراد أن يستكتب يزيد بن أبي مسلم وزير الحجاج، فقال له عمر بن عبد العزيز: سألتك بالله يا أمير المؤمنين لا تحيي ذكر الحجاج باستكتابك يزيد! فقال له: يا عمر إني لم أجد عنده خيانة في درهم ولا دينار، فقال له: إن إبليس أعف منه في الدرهم والدينار، وقد أغوى الخلق كلهم جميعا فأضرب سليمان عما عزم عليه. وفي كامل المبرد وغيره أن يزيد هذا دخل على سليمان بن عبد الملك، وكان يزيد دميما قبيحا، فقال له سليمان: قبح الله رجلا أجرك رسنه «2» ، واشركك في أمانته فقال: يا أمير المؤمنين لا تقل هذا. قال: ولم؟ قال: لأنك رأيتني والأمر عني مدبر ولو رأيتني والأمر علي مقبل لاستحسنت ما استقبحت مني، ولاستعظمت ما استصغرت مني. فقال له سليمان: ويحك أو قد استقر الحجاج في قعر جهنم بعد أم لا؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا تقل ذلك في الحجاج قال: ولم؟ قال: لأن الحجاج وطأ لكم المنابر، وأذل لكم الجبابر، وإنه يأتي يوم القيامة عن يمين أبيك، ويسار أخيك، فحيثما كانا كان. وكان سليمان رحمه الله، فصيحا أديبا بليغا، مؤثرا للعدل، محبا للغزو، محسنا لعلم العربية. ويرجع إلى دين وخير واتباع القرآن، واظهار شعائر الإسلام، مترفعا عن سفك الدماء. وكان شرها نكاحا قال ابن خلكان في ترجمته: إنه كان يأكل في كل يوم نحو مائة رطل شامي، وكان به عرج. ولما ولي، رد الصلاة إلى ميقاتها الأول، وكان من قبله من خلفاء بني أمية يؤخرونها إلى آخر وقتها، ولذلك قال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: إن سليمان افتتح خلافته بخير واختتمها بخير، افتتحها بإقامة الصلاة لميقاتها الأول، وختمها باستخلافه لعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 عنه. وذكر المفضل وغيره، أن سليمان بن عبد الملك، خرج من الحمام في يوم الجمعة، فلبس حلة خضراء، واعتم بعمامة خضراء، وجلس على فراش أخضر، وبسط ما حوله بالخضرة، ثم نظر في المرآة وكان جميلا، فأعجبه جماله، فشمر عن ذراعيه وقال: كان فينا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه صديقا، وكان عمر رضي الله تعالى عنه فاروقا، وكان عثمان رضي الله تعالى عنه حييا، وكان علي رضي الله تعالى عنه شجاعا، وكان معاوية رضي الله تعالى عنه حليما، وكان يزيد صبورا، وكان عبد الملك سائسا، وكان الوليد جبارا، وأنا الملك الشاب. ثم خرج لصلاة الجمعة فوجد حظية له في صحن الدار فانشدته هذه الأبيات: أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان ليس فيما بدا لنا منك عيب ... عابه الناس غير أنك فاني فلما فرغ من الصلاة، ودخل داره، قال لتلك الحظية: ما قلت لي في صحن الدار وأنا خارج؟ قالت: ما قلت لك شيئا، ولا رأيتك، وأني لي بالخروج، إلى صحن الدار؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، نعيت إلي نفسي، فما دارت عليه جمعة أخرى حتى مات. وقيل: إنه صعد المنبر وخطب، وإن صوته ليسمع في أقصى المسجد، فأخذته الحمى فما زال صوته يخفى، حتى لم يسمعه من تحته، ثم دخل داره يسحب رجليه بين رجلين، فما دارت عليه جمعة أخرى حتى مات. وقال ابن خلكان: إنه حم ومات في ليلته، وقيل: إنه مات بذات الجنب، وتوفي في صفر في عاشره سنة ثمان وتسعين وقيل سنة تسع وتسعين، بمرج دابق من أرض قنسرين، وله تسع وثلاثون سنة وقيل خمس وأربعون سنة وكانت خلافته سنتين وثمانية شهور رحمة الله تعالى عليه. خلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ثم قام بالأمر بعده الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. بويع له بالخلافة يوم مات سليمان بن عبد الملك، بعهد له منه بذلك، وكان يقال له: إنه أشج «1» بني أمية، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما فعمر رضي الله تعالى جده من قبل أمه، وهو تابعي جليل، روى عن أنس بن مالك، والسائب بن يزيد رضي الله تعالى عنهما. وروى عنه جماعة. ومولده رضي الله تعالى عنه، بمصر سنة إحدى وستين. قال الإمام أحمد: ليس أحد من التابعين قوله حجة إلا عمر بن عبد العزيز، وفي طبقات ابن سعد عن عمر بن قيس، أنه قال لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، سمع صوت لا يدري قائله: من الآن قد طابت وقر قرارها ... على عمر المهدي قام عمودها وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، عفيفا زاهدا ناسكا عابدا مؤمنا تقيا صادقا. وهو أول من اتخذ دار الضيافة من الخلفاء، وأول من فرض لأبناء السبيل، وأزال ما كانت بنو أمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 تذكر به عليا على المنابر، وجعل مكان ذلك قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية وقال «1» فيه كثير عزة: ولّيت ولم تسبب عليا ولم تخف ... مريبا ولم تقبل مقالة مجرم «2» وصدّقت القول الفعال مع الذي ... أتيت فأمسى راضيا كلّ مسلم» فما بين شرق الأرض والغرب كلها ... مناد ينادي من فصيح وأعجم يقول أمير المؤمنين ظلمتني ... بأخذك ديناري وأخذك درهمي «4» فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأكرم بها من بيعة ثم أكرم «5» وكتب إلى عماله أن لا يقيدوا مسجونا بقيد، فإنه يمنع من الصلاة. وكتب إلى عامله بالبصرة عدي بن ارطاة: عليك بأربع ليال من السنة، فإن الله تبارك وتعالى يفرغ فيها الرحمة إفراغا وهي أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلتا العيدين. وكتب إلى عماله: إذا دعتكم قدرتكم على الناس إلى ظلمهم، فاذكروا قدرة الله تعالى عليكم، ونفاد ما تأتون إليه وبقاء ما يأتي إليكم، من العذاب بسببهم. وذكر غير واحد عن محمد المرزوي قال: أخبرت أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، لما دفن سليمان بن عبد الملك، وخرج من قبره سمع للأرض هدة أورجة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة قربت إليك يا أمير المؤمنين لتركبها! فقال: ما لي ولها نحّوها عني وقربوا إلي دابتي! فقربت إليه فركبها، فجاء صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة، جريا على عادة الخلفاء قبله، فقال له: تنح عني، ما لي ولك إنما أنا رجل من المسلمين، ثم سار مختلطا بين الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر فاجتمع الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أيها الناس إني ابتليت بهذا الأمر من غير رأي مني فيه، ولا طلبة ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم غيري. فصاح المسلمون صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضيناك أميرنا باليمن والبركة. فلما سكتوا، حمد الله تعالى، وأثنى عليه، وصل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله تعالى خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاهه الله أمر دنيه وآخرته، وأصلحوا سرائركم يصلح الله علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، واحسنوا له الإستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هاذم اللذات، وإني والله لا أعطي أحدا باطلا، ولا أمنع أحدا حقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 يا أيها الناس، من أطاع الله، وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم. ثم نزل ودخل دار الخلافة، فأمر بالستور فهتكت، وبالبسط فرفعت، وأمر ببيع ذلك، وادخال أثمانه في بيت المسلمين، ثم ذهب يتبوأ مقيلا، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: ما تريد أن تصنع يا أبتاه؟ قال: إي بني أقيل: قال: تقيل ولا ترد المظالم، قال: إي بني إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر، رددت المظالم. فقال: يا أمير المؤمنين، من أين لك أن تعيش إلى الظهر؟ فقال: أدن مني يا بني، فدنا منه فقبله بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من ظهري من يعينني على ديني. فخرج ولم يقل، وأمر مناديه أن ينادي: ألا كل من كانت له مظلمة فليرفعها، فتقدم إليه ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال: وما ذاك؟ قال: إن العباس «1» بن الوليد اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال عمر: ما تقول يا عباس؟ قال: إن أمير المؤمنين الوليد أقطعني إياها، وهذا كتابه. فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى. فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، اردد إليه أرضه يا عباس. فردها إليه ثم جعل لا يدع شيئا، مما كان في يد أهل بيته، من المظالم إلا رده مظلمة مظلمة. فلما بلغ الخوارج سيرته، وما رد من المظالم اجتمعوا وقال: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل، ولما بلغ عمر «2» بن الوليد رد الضيعة على الذمي، كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء، وعبت عليهم، وسرت بغير سيرتهم، بغضا لهم وشينا لمن بعدهم من أولادهم، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل، إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم، فأدخلتها بيت المال جورا وعدوانا، ولن تترك على هذا الحال والسلام. فلما قرأ كتابه، كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد السلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. أما بعد فقد بلغني كتابك، أما أوّل شأنك يا ابن الوليد، فأمك بنانة أمة السكون، كانت تطوف في سوق حمص، وتدخل في حوانيتها، ثم الله أعلم بها. ثم اشتراها ذبيان، من بيت مال المسلمين، فأهداها لأبيك، فحملت بك فبئس المولود. ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا، تزعم أني من الظالمين، إذ حرمتك وأهل بيتك، مال الله، الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل، وأنّ أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين، تحكم فيهم برأيك، ولم يكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده، فويل لأبيك ما أكثر خصماءه يوم القيامة. وكيف ينجو أبوك من خصمائه؟ وإن أظلم مني وأترك لعهد الله، من استعمل الحجاج يسفك الدم ويأخذ المال الحرام، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله، من استعمل قرة أعرابيا جافيا، على مصر وأذن له في المعازف واللهو والشرب، وإن أظلم مني وأترك لعهد الله، من جعل لغالية البربرية في خمس العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 نصيبا فرويدا يا ابن بنانة فلو التقت حلقتا البطان، ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك، ولأهل بيتك فوضعتهم على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وأخذتم في الباطل، ومن وراء ذلك ما أرجو أن أكون رأيته من بيع رقبتك، وقسم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل، فإن لكل فيك حقا. والسلام على من اتبع الهدى، ولا ينال سلام الله القوم الظالمين. وروي أنه وقع في زمانه غلاء عظيم، فقدم عليه وفد من العرب، فاختاروا رجلا منهم لخطابه فتقدم إليه وقال: يا أمير المؤمنين إنا وفدنا إليك من ضرورة عظيمة، وراحتنا في بيت المال، وماله لا يخلو من أن يكون لله أو لعباده أو لك، فإن كان لله فالله غني عنه، وإن كان لعباده فآتهم إياه، وإن كان لك فتصدق به علينا، إن الله يجزي المتصدقين. فتغرغرت عينا عمر رضي الله تعالى عنه بالدموع، وقال: هو كما ذكرت، وأمر بحوائجهم فقضيت فهم الأعرابي بالإنصراف، فقال عمر: أيها الرجل كما أوصلت حوائج عباد الله إليّ، فأوصل حاجتي وأرفع فاقتي إلى الله. فقال الأعرابي: إلهي اصنع بعمر بن عبد العزيز، كصنيعه في عبادك فما استتم كلامه حتى ارتفع غيم عظيم، وأمطرت السماء مطرا كثيرا فجاء في المطر بردة كبيرة، فوقعت على جرة فانكسرت، فخرج منها كاغد مكتوب فيه: هذه براءة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار. قال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، من أعظم الناس، وأجملهم في مشيته ولبسه، فلما استخلف قومت ثيابه وعمامته، وقميصه وقباؤه، وخفاه ورداؤه، فإذا هن يعدلن إثني عشر درهما. وذكر ابن عساكر وغيره، أن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، كان قد شدد على أقاربه، وانتزع كثيرا مما في أيديهم، فتبرموا به وسموه، ويروى أنه دعا بخادمه الذي سمه، فقال له: ويحك ما حملك على أن سقيتني السم؟ قال: ألف دينار أعطيتها. قال: هاتها فجاء بها فأمر بطرحها في بيت مال المسلمين، وقال لخادمه: أخرج بحيث لا يراك أحد. وعن فاطمة بنت عبد الملك، زوج عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، أنها قالت: والله ما اغتسل عمر من حلم ولا من جنابة منذ ولي هذا الأمر، وكان نهاره في أشغال الناس، ورد المظالم وليله في عبادة ربه تعالى. قال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، أعوده في مرضه الذي مات فيه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة بنت عبد الملك: يا فاطمة اغسلي قميص أمير المؤمنين، فقالت نفعل إن شاء الله تعالى، ثم عدت فإذا القميص على حاله، فقلت: يا فاطمة ألم آمرك أن تغسلي قميص أمير المؤمنين؟ فإن الناس يعودونه. فقالت: والله ماله قميص غيره. وكان عمر رضي الله تعالى عنه كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات: نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم يغرك ما يفنى وتفرح بالمنى ... كما غر بالذات في النوم حالم وشغلك فيما تكره غبة ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 واعلم أن مناقب عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، كثيرة جدا. فمن أراد معرفة ذلك فعليه بسيرة العمرين والحلية، وغيرهما. وكان مرضه رضي الله تعالى عنه، بدير سمعان من أرض حمص، ولما احتضر قال: اجلسوني فاجلسوه فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله. وتوفي رضي الله تعالى عنه، لخمس وقيل لست مضين وقيل لعشر بقين من رجب الفرد سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وقيل وهو ابن أربعين سنة. وكان رضي الله تعالى عنه، أبيض مليحا جميلا مهيبا، نحيف الجسم حسن اللحية، بجبهته شجة من حافر فرس ضربه وهو صغير وكان إليه المنتهى، في العلم والفضل، والشرف والورع، والتألف ونشر العدل. جدّد الله تعالى به للأمة دينها وسار فيها بسيرة جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكانت دولته في طول مدة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وقبره رضي الله تعالى عنه، بدير سمعان ظاهر يزار. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: الخلفاء الراشدون خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وذكر الحافظ ابن عساكر أنه لما وضع في قبره بدير سمعان هبت ريح شديدة فسقطت منها صحيفة مكتوبة بأحسن خط: بسم الله الرّحمن الرحيم براءة من الله العزيز الجبار لعمر بن عبد العزيز من النار. فأخذوها ووضعوها في أكفانه وكانت خلافته رضي الله تعالى عنه سنتين وخمسة أشهر. خلافة يزيد بن عبد الملك ثم قام بالأمر بعده يزيد بن عبد الملك بن مروان. بويع له بالخلافة يوم مات ابن عمه عمر بن عبد العزيز، بعهد له من أخيه سليمان في ذلك. ولما ولي قال: خذوا بسيرة عمر بن عبد العزيز، فساروا بسيرته أربعين يوما، فدخل عليه أربعون رجلا من مشايخ دمشق، وحلفوا له أنه ليس على الخلفاء حساب ولا عقاب في الآخرة، وخدعوه بذلك، فانخدع لهم. وكان طائفة من جهال الشاميين يعتقدون ذلك. وكان أبيض جسيما مليح الوجه، وقال بعض المؤرخون: إن يزيد هذا هو المعروف بالفاسق وهو غلط وإنما الفاسق ولده الوليد كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وذكر الحافظ ابن عساكر رحمه الله وغيره، أن يزيد بن عبد الملك كان قد اشترى في أيام أخيه سليمان جارية من عثمان بن سهيل بن حنيف بأربعة آلاف دينار، وكان إسمها حبّابة بتشديد الباء الموحدة، وأحبها حبا شديدا، فبلغ أخاه سليمان ذلك، فقال: هممت أحجر على يزيد، فبلغ ذلك يزيد فباعها خوفا من أخيه سليمان. فلما أفضت الخلافة إليه قالت له زوجته: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال: نعم. قالت: وما هو؟ قال: حبابة. فاشترتها له، وهو لا يعلم، وزينتها وأجلستها من وراء ستر لها، ثم قالت: يا أمير المؤمنين هل بقي في نفسك من الدنيا شيء؟ قال: أو ما أعلمتك إنها حبابة. فرفعت الستر، وقالت: ها أنت وحبابة، وتركته وإياها، فحظيت عنده، وغلبت على عقله، ولم ينتفع به في الخلافة وإنه قال يوما: إن بعض الناس يقولون أنه لن يصفو لأحد من الملوك يوم كامل من الدهر، وإني أريد أن أكذبهم في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ثم أقبل على لذاته واختلى مع حبابة، وأمر أن يحجب عن سمعه وبصره كل ما يكره، فبينما هو على تلك الحالة في صفو عيشه وزيادة فرحه وسروره، إذ تناولت حبابة حبة رمان، وهي تضحك، فغصت بها فماتت، فاختل عقل يزيد، وتكدر عيشه وذهب سروره، ووجد عليها وجدا شديدا وتركها أياما، لم يدفنها بل يقبلها ويرتشفها، حتى أنتنت وجافت، فأمر بدفنها ثم نبشها من قبرها ولم يعش بعدها إلا خمسة عشر يوما وكان مرضه بالسل وقال «1» فيها: فإن تسل عنك النفس أو تدع الهوى ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد وكلّ خليل زارني فهو قائل ... من أجلك هذا هالك اليوم أو غد «2» وسيأتي إن شاء الله تعالى قريب من هذا في باب الدال المهملة في الدابة، عن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وتوفي يزيد بن عبد الملك بإربل من أرض البلقاء وقيل بالجولان، وحمل على أعناق الرجال إلى دمشق، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير وذلك لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة وله تسع وعشرون وقيل ثمان وثلاثون سنة وشهر وكانت خلافته أربع سنين وشهرا. خلافة هشام بن عبد الملك ثم قام بالأمر بعده أخوه هشام بن عبد الملك بن مروان. بويع له بالخلافة يوم مات أخوه يزيد بعهد منه إليه. ولما أتته الخلافة، كان بالرصافة فسجد وسجد أصحابه، لما بشر بها وسار إلى دمشق، قال مصعب الزبيري: زعموا أن عبد الملك بن مروان رأى في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات، فدس من سأل سعيد بن المسيب، وكان يعبر الرؤيا، فقال: يملك من صلبه أربعة. فكان آخرهم هشاما انتهى. وكان هشام حازما عاقلا، صاحب سياسة حسنة، أبيض جميلا، سمينا أحول، يخضب بالسواد. وكان ذا رأي ودهاء وحزم وفيه حلم وقلة شره. وقام بالخلافة أتم قيام وكان يجمع الأموال، ويوصف بالبخل والحرص، يقال: إنه جمع من الأموال مالا ما جمعه خليفة قبله. فلما مات احتاط الوليد بن يزيد على تركته فما غسل وكفن، إلا بالقرض والعارية وكان به حول. وتوفي بالرّصافة في شهر ربيع الآخر بدمشق سنة خمس وعشرين ومائة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وقيل أربع وخمسين سنة. وكانت خلافته تسع عشرة سنة وتسعة أشهر وقيل عشرين عاما. خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك وهو السادس فخلع كما سيأتي ثم قام بالأمر بعده ابن أخيه الوليد بن يزيد الفاسق. كان أبوه حين احتضر عهد بالأمر إلى هشام أخيه بأن يكون العهد، من بعده لولده الوليد بن يزيد. فلما مات هشام بويع له بالخلافة يوم موت عمه هشام وهو إذ ذاك بالبريّة فارا من عمه هشام لأنه كان بينه وبين عمه منافسة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 لأجل استخفافه بالدين وشربه الخمر، واشتهاره بالفسق. فهم هشام بقتله ففر منه وصار لا يقيم بأرض خوفا من هشام، فلما كانت الليلة التي قدم عليه البريد في صبيحتها بالخلافة، قلق تلك الليلة قلقا شديدا فقال لبعض أصحابه: ويحك إنه قد أخذني الليلة قلق فاركب بنا حتى ننبسط، فسارا مقدار ميلين وهما يتحدثان في أمر هشام وما يتعلق به من كتبه إليه بالتهديد والوعيد، ثم نظرا فرأيا من بعد رهجا وصوتا، ثم انكشف ذلك عن برد يطلبونه، فقال لصاحبه: ويحك إن هذه رسل هشام، اللهم اعطنا غيرهم، فلما قرب البرد منهما وأثبتوا الوليد معرفة، ترجلوا وجاؤوا فسلموا عليه بالخلافة فبهت، وقال: ويحكم أمات هشام؟ قالوا: نعم، ثم أعطوه الكتب فقرأها وسار من فوره إلى دمشق، فأقام في الخلافة سنة واحدة، ثم أجمع أهل دمشق على خلعه وقتله، لاشتهاره بالمنكرات وتظاهره بالكفر والزندقة. قال الحافظ ابن عساكر وغيره: انهمك وليد في شربه الخمر ولذاته، ورفض الآخرة وراء ظهره، وأقبل على القصف واللهو والتلذذ مع الندماء والمغنين، وكان يضرب بالعود ويوقع بالطبل ويمشي بالدف وكان قد انتهك محارم الله تعالى، حتى قيل له الفاسق. وكان أكمل بني أمية أدبا، وفصاحة، وظرفا، وأعرفهم بالنحو واللغة والحديث، وكان جوادا مفضالا. ومع ذلك لم يكن في بني أمية أكثر إدمانا للشراب والسماع، ولا أشد مجونا وتهتكا واستخفافا بأمر الأمة من الوليد بن يزيد. يقال: إنه واقع جارية له وهو سكران، وجاءه المأذنون يؤذنونه بالصلاة، فحلف أن لا يصلي بالناس إلا هي، فلبست ثيابه وتنكرت وصلت بالمسلمين وهي جنب سكرى. ويقال: إنه اصطنع بركة من خمر وكان إذا طرب ألقى نفسه فيها وشرب منها حتى يبين النقص في أطرافها. وحكى الماوردي، في كتاب أدب الدين والدنيا، عنه أنه تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله «1» تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ فمزق المصحف وأنشأ يقول: أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب مزقني الوليد فلم يلبث إلا أياما يسيرة، حتى قتل شر قتلة وصلب رأسه على قصره، ثم على أعلى سور بلده. اه-. وسيأتي هذا أيضا إن شاء الله تعالى في باب الطاء المهملة في الكلام على الطيرة في لفظ الطير وأخباره في مثل هذا كثيرة مشهورة في كتب التواريخ، فلا نطيل بذكرها. وقد جاء في الحديث: «ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد، هو شر من فرعون» . فتأوله العلماء الوليد ابن يزيد هذا. ولما خلعه أهل دمشق بايعوا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فقال: من أحضر رأس الوليد فله مائة ألف درهم. وكان الوليد بالبحرة فحصره أصحاب يزيد، فهم أصحاب الوليد بالقتال، فنهاهم عن ذلك فانفلوا من حوله، ثم دخلوا عليه في قصره، فقال: يوم كيوم عثمان؟ فقيل له: ولا سواء. فقطع رأسه، وطيف به في دمشق ونصب على قصره، ثم على أعلى سور دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ولما قتل الوليد اضطربت البلاد واستنصر على بني أمية أعداؤهم ولم تقم لهم قائمة بعده. وقتل في جمادى الأولى سنة ست وعشرين ومائة. وكانت خلافته سنة واحدة وقيل سنة وشهرين. وكان من أجمل الناس وأحسنهم وأقواهم وأجودهم شعرا وكان فاسقا مشتهرا منهمكا متهتكا فقاموا عليه لفسقه وارتكابه القبائح فخرج عليه تدينا ابن عمه يزيد بن الوليد بن عبد الملك، الملقب بالناقص، وتغلب على دمشق وكان الوليد بناحية تدمر في الصيد فجهز يزيد عسكرا فحاربه إلى أن أحاطوا به بحصن البحرة من أرض تدمر، ثم تسوروا عليه وذبحوه وأتوا برأسه على رمح ثم نصبوه على سور دمشق. خلافة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان ثم قام بالأمر بعده يزيد بن الوليد بن عبد الملك. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه الوليد بن يزيد، وهو أول خليفة كانت أمه أمة، وكان بنو أمية يتحرزون ذلك تعظيما للخلافة، ولما سقط إليهم أن ملكهم يزول على يد خليفة كانت أمه أمة، وكانوا يتخوفون من ذلك، إلى أن ولي الخلافة الوليد بن يزيد فعلموا أن ملكهم قد انقضى. وكان يزيد يسمى الناقص وإنما سمي بذلك لأنه نقص أعطيات الناس، وردهم إلى ما كانوا عليه أيام هشام، وقيل النقصان كان في أصابع رجليه، وأول من سماه بهذا مروان بن محمد. وأقام يزيد في الخلافة والأمور مضطربة عليه، وكان مظهرا للنسك، وقراءة القرآن، وأخلاق عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، وكان ذا دين وورع، إلا أنه لم يمتع وبغتته المنية. وتوفي في ثامن عشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة وهو ابن أربعين سنة وقيل ست وأربعين وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ولي يزيد بن عبد الملك فدعا الناس إلى القدر وحملهم عليه. وكانت خلافته خمسة أشهر ونصفا وقيل ستة أشهر والله أعلم. خلافة ابراهيم بن الوليد ولما مات يزيد بويع أخوه إبراهيم بن الوليد، بعهد من أخيه يزيد بن الوليد، ولم يثبت له أمر فكان جمعة يسلم عليه بالخلافة وجمعة بالأمارة وجمعة لا يسلم عليه لا بالخلافة ولا بالإمارة، وما زالت الأمور مضطربة عليه. إلى أن قتله مروان بن محمد وصلبه. وكانت ولايته شهرين وعشرة أيام. وفي هذا نظر لأن مروان بن محمد بن مروان الحمار، لما سمع بمبايعته، وكان نائبا على أذربيجان وتلك النواحي، وصاحب الفتوحات سار لحينه، ودعا إلى نفسه وقدم الشام فجهز له إبراهيم بن الوليد أخويه بشرا ومسرورا، فالتقوا وانتصر عليهم مروان فزحف حتى نزل مرج عذراء فبرز إليه سليمان بن هشام بن عبد الملك، فانكسر فبرز إليه الخليفة إبراهيم بن الوليد وعسكر بظاهر دمشق، فخذله جنده وخامروا عليه بعد أن أنفق عليهم الخزائن فاختفى أمرهم. فبايع الناس مروان واستوثق له الأمر فظهر إبراهيم ودخل عليه ونزل له عن الخلافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 خلافة مروان بن محمد ولما قتل إبراهيم بن الوليد، بويع لمروان بن محمد المنبوز بالحمار، بالخلافة. وفي أيامه ظهر أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة وظهر السفاح بالكوفة، وبويع له بالخلافة، وجهز عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم، لقتال مروان بن محمد فالتقى الجمعان بالزاب، زاب الموصل، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم مروان، وقتل من عسكره وغرق ما لا يحصى. وتبعه عبد الله إلى أن وصل إلى نهر الأردن فلقي جماعة من بني أمية، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، فقتلهم عن آخرهم ثم أمر عبد الله بسحبهم فسحبوا، وبسط عليهم بساطا وجلس هو وأصحابه فوقهم واستدعى بالطعام فأكلوا وهم يسمعون أنينهم من تحتهم، فقال عبد الله: يوم كيوم الحسين ولا سواء. ثم جهز السفاح عمه صالح بن علي على طريق السماوة، فلحق بأخيه عبد الله، وقد نازل دمشق ففتحها عنوة وأباحها ثلاثة أيام، ونقض عبد الله سورها حجرا حجرا، وهرب مروان إلى مصر فتبعه صالح وقتل مروان بأبي صير، قرية من قرى الصعيد كما سيأتي في باب الهاء في لفظ الهر، وكان قد عزم على الدخول إلى الحبشة فبيتوه، فقال حين قتل: انقرضت دولتنا. وكان بطلا شديدا شجاعا مهابا ذا هيئة أبيض ربعة أشهل ضخما، كث اللحية وكان حازما سائسا. وتمزقت بموته دولة بني أمية. وكان قتل مروان الجعدي في سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وهو ابن ست وخمسين سنة، وكانت خلافته خمس سنين قيل وشهرين وعشرة أيام. وهو آخر خلفاء بني أمية وهم أربعة عشر خليفة: أولهم معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وآخرهم مروان الجعدي المنبوز بالحمار وكانت مدة خلافتهم نيفا وثماني وثمانين سنة، وهي ألف شهر ولما انقضت دولتهم على ما قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما لما قيل له: تركت الخلافة لمعاوية؟ فقال: ليلة القدر خير من ألف شهر. وبدولة مروان اختل النظام في أن كل سادس يخلع، لأن العدة لم تكتمل، لأن الوليد بن يزيد المخلوع لم يل بعده من بني أمية، سوى ثلاثة يزيد بن الوليد بن عبد الملك ثم أخوه إبراهيم ثم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم وبه انقرضت دولة بني أمية، وجاءت الدولة العباسية ثبتها الله تعالى إلى قيام الساعة. الدولة العباسية خلافة أبي العباس السفاح قال المؤرخون: ولما أتى الله تعالى بالدولة العباسية، كان أولهم السفاح، وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي، بويع له بالخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة يوم الجمعة ثالث عشر شهر ربيع الأول واستوزر أبا سلمة حفصا الخلالي، وهو أول من لقب بالوزير واستمر اللقب لمن بعده إلى زمن الصاحب ابن عباد. وإنما سمي بالصاحب، لأنه صحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ابن العميد واستمر على هذا الوزراء من بعده، إلى زمننا قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي وغيره: أن السفاح خطب يوما فسقطت العصا من يده، فتطير بذلك، فقام شخص من أصحابه ومسح العصا وناوله إياها وأنشد «1» : فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر فسرّي عنه، وذكر ابن خلكان في ترجمته «2» ، أنه نظر يوما في المرآة، وكان من أجمل الناس وجها فقال: اللهم إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك، ولكني أقول: اللهم عمرني طويلا في طاعتك، متمتعا بالعافية، قال: فما استتم كلامه، حتى سمع غلاما يقول لغلام آخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام، فتطير من كلامه. وقال: حسبي الله ولا حول ولا قوة إلا بالله عليه توكلت وبه استعنت فما مضت الأيام المذكورة حتى أخذته الحمى فمرض ومات، بعد شهرين وخمسة أيام بالجدري، بالأنبار بمدينته التي بناها وسماها الهاشمية. وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة ونصف سنة وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر. وكان أبيض مليحا جميلا حسن اللحية والهيئة. خلافة أبي جعفر المنصور ثم قام بالأمر بعده أخوه أبو جعفر، عبد الله بن محمد المنصور. بويع له بالخلافة يوم وفاة أخيه، بعهد منه. وكان السفاح قد ولاه إمرة الحج فأتته الخلافة بمكان يعرف بالصافية، فقال: صفا أمرنا إن شاء الله تعالى. فبايعه الناس وحج بهم فلما رجع ودخل الهاشمية بايعه الناس البيعة العامة. وإنه حج ثانيا فلما قرب من مكة رأى على جدار سطرين مكتوبين وهما «3» : أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك وأمر الله لا بد واقع أبا جعفر هل كاهن أو منجم ... لك اليوم من ريب المنية دافع فلما قرأهما تيقن انقضاء أجله فمات بعد ثلاثة أيام وكان قد رأى في نومه قبل موته قائلا يقول «4» : كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وعّري منه أهله ومنازله وصار رئيس القوم من بعد بهجة ... إلى جدث تبنى عليه جنادله وكانت وفاته في سنة ثمان وخمسين ومائة، ببئر ميمونة على أميال من مكة، وهو محرم بالحج وهو ابن ثلاث وستين سنة. وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وأربعة عشر يوما. وأمه بربرية، وكان طويلا أسمر نحيفا، خفيف اللحية رحب الجبهة، كأن عينيه لسانان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 ناطقا صارما مهيبا ذا جبروت وسطوة وحزم ورأي وشجاعة، وكمال عقل ودهاء، وعلم وفقه وخبرة بالأمور، تقبله النفوس وتهابه الرجال. وكان يخلط أبهة الملك بزي النسك وكان بخيلا بالمال إلا عند النوائب. خلافة محمد المهدي ثم قام بالأمر بعده ابنه أبو عبد الله محمد المهدي بالله. بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه المنصور، بعهد منه وهو يومئذ ببغداد ثم بويع له بها لإحدى عشرة من ذي الحجة البيعة العامة. وتوفي بقرية من قرى ماسبذان ساق خلف صيد، فدخل خربة فدق ظهره باب الخربة، من قوة سوق الفرس فتلف لوقته، وقيل: بل سمته جاريته، قيل: إنها جعلت السم في طعام لضرتها، فدخل ومديده فأكل، فما جسرت أن تقول له هو مسموم. وكانت وفاته لثمان بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة، ولم يوجد له نعش يحمل عليه، فحمل على باب ودفن تحت شجرة جوز، وله إثنتان وأربعون سنة ونصف، وقيل ثلاث وأربعون سنة وكانت خلافته عشر سنين وشهرا وكان جوادا ممدوحا محببا إلى رعيته حسن الخلق والخلق يقال: إن أباه خلف في الخزائن مائة ألف ألف درهم وستين ألف ألف درهم ففرقها ويقال أنه أجاز شاعرا بمائة ألف درهم. خلافة موسى الهادي ثم قام بالأمر بعده ابنه موسى الهادي بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، وكان مقيما بجرجان يحارب أهل طبرستان بويع له بماسبذان ثم أخذ له أخوه الرشيد البيعة ببغداد، وبعث إليه يعزيه بوالده ويهنيه بالخلافة، فقدم بغداد على خيل البريد، فتلقاه الناس وبايعوه ثم عزم على خلع أخيه الرشيد من ولاية العهد فعاجله القضاء، وحال بينه وبين مراده. وكانت وفاة الهادي ببغداد رابع عشر شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة وله أربع وعشرون سنة وقيل نحو خمس وعشرين سنة، بقرحة أصابته. وكانت خلافته سنة واحدة وخمسة وأربعين يوما، وقيل سنة وشهرين وكان طويلا مليحا جسيما ذا ظلم وجبروت سامحه الله تعالى. خلافة هارون الرشيد ثم قام بالأمر بعده أخوه هارون الرشيد بن محمد المهدي. وكان أبوهما قد أخذلهما ولاية العهد معا. بويع له بالخلافة في الليلة التي توفي فيها أخوه، وولد له في تلك الليلة المأمون، وكانت ليلة عجيبة لم ير مثلها في بني العباس مات فيها خليفة وولد فيها خليفة. ولما بويع الرشيد قلد يحي بن خالد بن برمك وزارته. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في لفظ العقاب ايقاع الرشيد بالبرامكة، وقتله جعفر بن يحي بن خالد بن برمك، وتخليد يحي وولده في السجن إلى أن ماتا وسبب ذلك مبينا إن شاء الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ومن غريب ما اتفق لهارون الرشيد، إن أخاه موسى الهادي، لما ولي الخلافة، سأل عن خاتم عظيم القدر كان لأبيه المهدي فبلغه أن الرشيد أخذه، فطلبه منه فامتنع من إعطائه، فألح عليه فيه، فحنق عليه الرشيد ومر على جسر بغداد فرماه في الدجلة. فلما مات الهادي وولي الرشيد الخلافة أتى ذلك المكان بعينه، ومعه خاتم رصاص، فرماه في ذلك المكان، وأمر الغطاسين أن يلتمسوه، ففعلوا فاستخرجوا الخاتم الأول. فعد ذلك من سعادة الرشيد وإبقاء ملكه. ونظير هذا ما حكاه ابن الأثير في حوادث سنة ستين وخمسمائة، قال: لما فتح السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، قلعة بانياس وأخذها من الفرنج، ملأها ذخائر وعدة ورجالا، ثم عاد إلى دمشق، وفي يده خاتم بفص ياقوت، قيمته ألف ومائة دينار، فسقط من يده في شجرة بانياس، وهي كثيرة الأشجار ملتفة الأغصان فلما بعد عن المكان الذي ضاع فيه الخاتم، علم به فأعاد بعض أصحابه في طلبه ودلهم على مكانه، وقال: أظنه هناك سقط فرجعوا إليه فوجدوه. انتهى. وكان الرشيد، مع عظم ملكه، يعتريه خوف الله تعالى، فمن ذلك ما ذكره الإمام العلامة محمد بن ظفر وغيره أن خارجيا خرج عليه فقتل أبطاله، وانتهب أمواله مرارا، ثم إنه جهز إليه مرة جيشا كثيفا، فقاتلوه فغلبوه، بعد جهد وأمسكوه وأتوا به الرشيد فجلس مجلسا عاما، وأمر بإدخاله عليه فلما مثل بين يديه قال له: يا هذا ما تريد أن أصنع بك؟ قال: ما تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه، فعفا عنه وأمر بإطلاقه. فلما خرج قال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين رجل قتل أبطالك وانتهب أموالك تطلقه بكلمة واحدة تأمل هذا الأمر، فأنه مما يجرىء عليك أهل الشر. فقال الرشيد: ردوه فعلم الرجل أنه قد تكلم في أمره، فقال: يا أمير المؤمنين لا تطعهم، فلو أطاع الله فيك الناس ما ولاك طرفة عين. قال: صدقت. ثم أمر له بصلة وصرفه. وسيأتي إن شاء الله تعالى، ما اتفق له مع الفضيل بن عياض، وسفيان الثوري في باب الباء الموحدة والفاء. وتوفي الرشيد في سنة ثلاث وتسعين ومائة بطوس ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة وهو ابن سبع وأربعين سنة وقيل خمس وأربعين. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وشهرا وقيل ثلاثا وعشرين فقط. وولد بالرى وكان جوادا ممدوحا غازيا مجاهدا شجاعا مهيبا مليحا أبيض طويلا عبل «1» الجسم، قد وخطه الشيب يقال إنه منذ استخلف كان يصلي كل يوم وليلة مائة ركعة ويتصدق من خالص ماله بألف درهم وكان له معرفة جيدة بالعلوم. خلافة محمد الأمين وهو السادس فخلع وقتل كما سيأتي ثم قام بالأمر بعده ابنه محمد الأمين. بويع له بالخلافة يوم توفي والده بطوس واستناب أخاه المأمون على ممالك خراسان، وهو إذ ذاك ببغداد فورد بها عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب، ثم بويع له بها البيعة العامة وفي سائر الآفاق. وكان الرشيد قد جدد البيعة بطوس بولاية العهد لابنه المأمون بعد الأمين، وأشهد على نفسه أن جميع ما معه من مال وسلاح وغير ذلك، للمأمون وأوصى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 يكون ما معه من الجيوش مضمومين إليه بخراسان. فلما مات الرشيد، نادى الفضل «1» بن الربيع في عسكر الرشيد بالرحيل إلى بغداد، وخالف وصية الرشيد فعظم ذلك على المأمون، وكتب إلى الفضل يذكره العهود التي أخذها عليه الرشيد، ويحذره البغي ويسأله الوفاء. فلم يلتفت الفضل إليه فكان هذا الأمر سبب ابتداء الوحشة بين والمأمون. وذكر أبو حنيفة في الأخبار الطوال وغيره عن الكسائي أنه قال: إن الرشيد ولاني تأديب الأمين والمأمون فكنت أشدد عليهما في الأدب، وآخذهما به أخذا شديدا وخاصة الأمين، فأتتني حاجتي ذات يوم خالصة، جارية زبيدة وقالت: يا كسائي إن السيدة تقرأ عليك السلام، وتقول لك: حاجتي إليك أن ترفق بابني محمد فإنه قرة عيني وثمرة فؤادي وأنا أرقّ عليه رقة شديدة. فقلت لخالصه: إن محمدا مرشح للخلافة بعد أبيه، ولا يجوز التقصير في أمره. فقالت خالصة: إن لرقة هذه السيدة سببا أنا أخبرك إياه، إنها في الليلة التي ولدته فيها رأت في منامها كأنّ أربع نسوة أقبلن إليه، فاكتنفنه عن يمينه وشماله وأمامه وورائه، فقالت التي بين يديه: ملك قليل العمر عظيم الكبر ضيق الصدر واهي الأمر كبير الوزر شديد الغدر. وقالت التي من ورائه: ملك قصاف مبذر متلاف، قليل الإنصاف كثير الإسراف. وقالت التي عن يمينه.: ملك عظيم الطخم، قليل الحلم، كثير الإثم قطوع للرحم. وقالت التي عن يساره: ملك غدار كثير العثار، سريع الدمار. ثم بكت خالصة وقالت: يا كسائي وهل ينفع الحذر من القدر؟ ثم إن المأمون خلع الأمين من الخلافة، وجهز لقتاله طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين فسارا إليه وحاصراه ببغداد بعد حروب كثيرة ببغداد وتراموا بالمجانيق وجرت بينهم وقائع في أيام متعددة، وعظم الأمر واشتد البلاء، حتى خرب بسبب ذلك منازل المدينة ووثب العيارون على أموال الناس، فانتهبوها وأقام الحصار مدة سنة فتضايق الأمر على الأمين، وفارقه أكثر أصحابه وكتب طاهر إلى وجوه أهل بغداد سرا يعدهم إن أعانوه، ويتوعدهم إن لم يدخلوا في طاعته، فأجابوه وصرحوا بخلع الأمين. وتفرّق عنه أكثر من معه فالتجأ إلى مدينة أبي جعفر، فحاصره طاهر بها ومنعه من كل شيء حتى كاد هو وأصحابه يموتون جوعا وعطشا، فلما عاين الأمين ذلك كاتب هرثمة بن أعين، وطلب منه أن يؤمنه حتى يأتيه، فأجابه إلى ذلك. فبلغ ذلك طاهرا فشق عليه، كراهية أن يظهر الفتح لهرثمة دونه، فلما كان يوم الخميس لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة خرج الأمين إلى هرثمة فلقيه هرثمة في حراقة فركب الأمين معه، وكان طاهر قد أكمن للأمين فلما صار الأمين في الحراقة خرج عليه كمين طاهر، ورموا الحراقة بالحجارة فغرق من فيها فشق الأمين ثيابه، وسبح إلى بستان فأدركوه وأخذوه، وحملوه على برذون، وأتوا به طاهرا، فبعث إليه جماعة وأمرهم بقتله، فهجموا عليه وبأيديهم السيوف، فركبوا عليه وذبحوه من قفاه، وأخذوا رأسه وأتوا به طاهرا، فأمر بنصبه. فلما رآه الناس، سكنت الفتنة ثم جهزه طاهر إلى المأمون وصحبته خاتم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الخلافة، وبردة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضيبه، فلما وضع الرأس بين يديه خرّ ساجدا شكرا لله تعالى على ما رزقه من الظفر. وأمر للرسول بألف ألف درهم. وذكر عن الأصمعي أنه قال: دخلت على الرشيد وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولا، فسلمت عليه بالخلافة فأومأ إلى بالجلوس قريبا منه فجلست قليلا ثم نهضت، فأومأ إلي أن اجلس فجلست، حتى خف الناس ثم قال لي: يا أصمعي ألا تحب أن ترى محمدا وعبد الله بني؟ قلت: بلى يا أمير المؤمنين إني لأحب ذلك، وما أردت القصد إلا إليهما لأسلم عليهما، فقال: يكفي ذلك ثم قال: علي بمحمد وعبد الله، فانطلق الرسول إليهما وقال أجيبا أمير المؤمنين فأقبلا كأنهما قمرا أفق، قد قاربا خطاهما ورميا ببصرهما الأرض، حتى وقفا على أبيهما، فسلما عليه بالخلافة، فأومأ إليهما بالجلوس، فجلس محمد عن يمينه وعبد الله عن يساره، ثم أمرني بمطارحتهما الأدب فكنت لا ألقي عليهما شيئا من فنون الأدب إلا أجابا فيه، وأصابا فقال: كيف ترى أدبهما؟ قلت: يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما وجودة فهمهما وذهنهما، فأطال الله تعالى بقاءهما، ورزق الأمة من رأفتهما ومعطفتهما فضمهما إلى صدره وسبقته عبرته فبكى حتى تحدرت دموعه على لحيته، ثم أذن لهما في القيام فنهضا حتى إذا خرجا قال لي: يا أصمعي كيف بهما إذا ظهر تعاديهما، وبدا تباغضهما ووقع بأسهما بينهما، حتى تسفك الدماء. ويود كثير من الأحياء أنهم كانوا موتى؟ قلت: يا أمير المؤمنين هذا شيء قضى به المنجمون عند مولدهما، أو شيء أثرته العلماء في أمرهما؟ قال: لا بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما. وكان المأمون يقول في خلافته: كان الرشيد سمع جميع ما يجري بيننا من موسى بن جعفر، ولذلك قال ما قال. وذكر صاحب عيون التواريخ وغيره، أن المأمون مرّ يوما على زبيدة أم الأمين، فرآها تحرك شفتيها بشيء لا يفهمه، فقال لها: يا أماه أتدعين علي لكوني قتلت ابنك وسلبته ملكه؟ فقالت: لا والله يا أمير المؤمنين. قال فما الذي قلته؟ قالت: يعفيني أمير المؤمنين، فألح عليها وقال لا بد أن تقوليه، قالت: قلت قبح الله الملاححة. قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأني لعبت يوما مع أمير المؤمنين الرشيد بالشطرنج على الحكم والرضا، فغلبني فأمرني أن أتجرد من أثوابي وأطوف القصر عريانة، فاستعفيته فلم يعفني، فتجردت من أثوابي وطفت القصر عريانة، وأنا حنقة عليه ثم عاودنا اللعب فغلبته، فأمرته أن يذهب إلى المطبخ، فيطأ أقبح جارية وأوشهها خلقة فيه فاستعفاني من ذلك فلم أعفه، فبذل إلى خراج مصر والعراق فأبيت، وقلت: والله لتفعلن ذلك فأبى، فألححت عليه، وأخذت بيده وجئت به للمطبخ، فلم أر جارية أقبح ولا أقذر ولا أشوه خلقة من أمك مراجل، فأمرته أن يطأها فوطئها، فعلقت منه بك فكنت سببا لقتل ولدي وسلبه ملكه. فولى المأمون وهو يقول: لعن الله الملاححة أي التي ألح عليها حتى أخبرته بهذا الخبر. وقتل الأمين وهو ابن ثمان وعشرين سنة وقيل سبع وعشرين وكان طويلا أبيض بديع الحسن. وكانت خلافة أربع سنين وثمان شهور وقيل ثلاثة أعوام وأياما لأنه خلع في رجب سنة ست. ومن حسب له موته فخلافته خمس سنين خلا أشهرا وكان مبذرا للأموال لعابا لا يصلح للخلافة وكان مشتغلا باللهو والقصف والإقبال على اللذات فقال فيه بعضهم من أبيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 إذا غدا ملك باللهو مشتغلا ... فاحكم على ملكه بالويل والحرب أما ترى الشمس في الميزان هابطة ... لما غدا وهو برج اللهو والطرب خلافة عبد الله المأمون ثم قام بالأمر بعده أخوه عبد الله المأمون. بويع له بالخلافة، البيعة العامة، صبيحة الليلة التي قتل فيها الأمين بإجماع من الأمة على ذلك، خلا ما كان من أمير الأندلس فإنه كان والأمراء قبله وبعده لم يتقيدوا بطاعة العباسيين لبعد الديار. قال في الأخبار الطوال: كان المأمون شهما بعيد الهمة أبي النفس، وكان نجم بني العباس في العلم والحكمة، وكان قد أخذ من العلوم بقسط، وضرب فيها بسهم، وهو الذي استخرج كتاب إقليدس، وأمر بترجمته وتفصيله، وعقد المجالس في خلافته للمناظرة في الأديان والمقالات، وكان أستاذه فيها أبا الهذيل محمد بن الهذيل البصري المعتزلي، الذي يقال له العلاف، وستأتي الإشارة إليه في باب الباء الموحدة في لفظ البرذون وفي أيامه ظهر القول بخلق القرآن. وقال غيره: إن القول بخلق القرآن ظهر في أيام الرشيد، وكان الناس فيه بين أخذ وترك، إلى زمن المأمون، فحمل الناس على القول بخلق القرآن، وكل من لم يقل بخلق القرآن عاقبه أشد عقوبة. وكان الإمام أحمد «1» رضي الله تعالى عنه إمام أهل السنة من الممتنعين من القول بخلق القرآن، فحمل إلى المأمون مقيدا، فمات المأمون قبل وصوله إليه. وسيأتي ذكر محنته في خلافة المعتصم. وقالوا: دخل المأمون بلاد الجزيرة والشام، وقام بها مدة طويلة، ثم غزا الروم وفتح فتوحات كثيرة وأبلى بلاء حسنا. وتوفي بنهر بردى لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، وقيل لثمان مضين منه سنة ثمان عشرة ومائتين، وهو ابن تسع وأربعين سنة وقيل تسع وثلاثين والأول أصح وقيل ثمان وأربعين، وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر ودفن بطرسوس. قال ابن خلكان: كان المأمون عظيم العفو جوادا بالمال، عارفا بالنجوم والنحو، وغيرهما من أنواع العلوم، خصوصا علم النجوم، وكان يقول: لو يعلم الناس ما أجد في العفو من اللذة لتقربوا إلي بالذنوب. وقال غيره: إنه لم يكن في بني العباس أعلم من المأمون وكان يشتغل بعلم النجوم كثيرا وفي ذلك يقول الشاعر: هل علوم النجوم أغنت عن المأ ... مون شيئا أو ملكه المأنوس خلفوه بساحتي طرسوس ... مثلما خلفوا أباه بطوس وكان أبيض مليح الوجه، مربوعا طويل اللحية، دينا عارفا بالعلم، فيه دهاء وسياسة. خلافة أبي إسحق ابراهيم المعتصم ثم قام بالأمر بعده أخوه أبو إسحق إبراهيم المعتصم بن هارون الرشيد. بويع له بالخلافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يوم موت أخيه بعهد منه فأمر بهدم ما بنوا من طوانة وغزا عمورية وأناخ عليها وحاصرها حصارا شديدا. ولم يكن في بني العباس مثله في القوة والشجاعة والإقدام قيل إنه أصبح ذات يوم برد عظيم وثلج فلم يقدر أحد على إخراج يده ولا امساك قوسه فأوتر المعتصم في ذلك اليوم أربعة آلاف قوس، ولم يزل يحاصرها حتى فتحها عنوة واحتوى على ما فيها من الأموال وغيرها، وأخذ أهلها أسرى. ولما ولي طلب الإمام أحمد، وكان في سجن المأمون كما تقدم، وامتحنه بخلق القرآن كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وتلخيص ما كان من أمره أن هارون الرشيد لم يقل بخلق القرآن مدة خلافته، ولهذا السبب كان الفضيل بن عياض يتمنى طول عمر الرشيد، لأنه والله أعلم، كان قد كشف له بأن فتنة تحدث بعد موت الرشيد، ولم تحدث في أيام خلافته فتنة، ولكن كان الأمر في زمن ولايته بين أخذ وترك، كما قدمنا قريبا إلى أن ولي ابنه المأمون، فقال بخلق القرآن، وبقي يقدم رجلا ويؤخر أخرى في دعواه الناس إلى ذلك، إلى أن قوي عزمه في السنة التي مات فيها، فمل الناس على القول بخلق القرآن. وكل من لم يقل بخلقه عاقبه أشد عقوبة. وإنه طلب الإمام أحمد بن حنبل، وجماعة فحمل إليه الإمام أحمد فلما كان ببعض الطريق، توفي المأمون وعهد إلى أخيه المعتصم بالخلافة وأوصاه بأن يحمل الناس على القول بخلق القرآن، واستمر الإمام أحمد محبوسا إلى أن بويع المعتصم، فأحضر الإمام أحمد إلى بغداد، وعقد له مجلسا للمناظرة وفيه عبد الرحمن بن إسحاق، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، وغيرهما فناظروه ثلاثة أيام، ولم يزل معهم في جدال، إلى اليوم الرابع، فأمر بضربه، فضرب بالسياط ولم يزل عن الصراط، إلى أن أغمي عليه، ونخسه عجيف بالسيف، ورمي عليه بارية وديس عليه، ثم حمل وصار إلى منزله وكانت مدة مكثه في السجن ثمانية وعشرين شهرا، ولم يزل بعد ذلك يحضر الجمعة والجماعات ويفتي ويحدث إلى أن مات المعتصم وولي الواثق، فأظهر ما أظهره المأمون والمعتصم من المحنة، وقال للإمام أحمدا: لا تجمعن إليك أحدا ولا تساكني في بلد أنا فيه، فأقام الإمام أحمد مختفيا، لا يخرج إلى صلاة ولا غيرها، حتى مات الواثق وولي المتوكل، فرفع المحنة وأمر بإحضار الإمام أحمد، وإكرامه وإعزازه وأطلق له مالا كثيرا فلم يقبله، وفرقه على الفقراء والمساكين. وأجرى المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف درهم، فلم يرضى الإمام أحمد بذلك رحمه الله تعالى وذكر العراقي في مجمع الأخبار وغيره أنه نوظر في الأيام الثلاثة، وأن المعتصم كان يخلو به ويقول له: ويحك يا أحمد أنا والله عليك شفيق، وإني لا شفق عليك مثل شفقتي على ابني هارون يعني الواثق فأجبني فو الله لئن أجبتني لاطلقن غلك بيدي، ولا طأن عتبتك، ولأركبن إليك بجندي. فيقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا طال به المجلس، ضجر وقام ورد أحمد في الموضع الذي كان فيه. وتتردد إليه رسل المعتصم يقولون: يا أحمد، أمير المؤمنين يقول لك: ما تقول في القرآن؟ فيرد عليهم كما رد أولا. فلما كان في اليوم الثالث، طلب للمناظرة فأدخل على المعتصم، وعنده محمد بن عبد الملك الزيات، والقاضي أحمد بن أبي دؤاد، فقال المعتصم: كلموه وناظروه فلم يزالوا في جدال إلى أن قالوا: يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في أعناقنا. فرفع المعتصم يده ولطم بها وجه الإمام أحمد، فخر مغشيا عليه، فتمعرت وجوه قواد خراسان، وكان عم أحمد فيهم، فخاف الخليفة منهم على نفسه فدعا بماء ورش على وجهه، فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أفاق من غشيته، رفع رأسه إلى عمه وقال: يا عم لعل هذا الماء الذي رش على وجهي غصب عليه صاحبه، فقال المعتصم: ويحكم أما ترون ما يتهجم به علي هذا وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا رفعت السوط عنه حتى يقول القرآن مخلوق. ثم التفت إلى أحمد وأعاد عليه القول، فرد أحمد كالأول. فلم يزل كذلك حتى ضجر وطال المجلس فعند ذلك قال: عليك لعنة الله، لقد كنت طمعت فيك قبل هذا، خذوه اخلعوه اسحبوه فأخذ وسحب ثم خلع. ثم قال المعتصم: السياط. قال الإمام أحمد: وكان عندي شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم، قد صررتها في كم قميصي فجاء بعض القوم إلى قميصي ليحرقه فقال له المعتصم: لا تحرقوه وانزعوه عنه وإنما درىء عن القميص الحرق ببركة شعر النبي صلى الله عليه وسلم. وشدوا يديه فتخلعت. ولم يزل أحمد يتوجع منها حتى مات. ثم قال المعتصم للجلادين: تقدموا ونظر إلى السياط، فقال: ائتوا بغيرها ثم قال لأحدهم: أذمه «1» وأوجع قطع الله يدك: فتقدم وضربه سوطين، ثم تنحى. ثم قال لآخر: أذمه وشد قطع الله يدك، فتقدم وضربه سوطين، ثم تنحى. ولم يزل يدعو رجلا رجلا فيضربه كل واحد سوطين ويتنحى. ثم قال المعتصم وجاءه، وهم محدقون به، وقال: يا أحمد تقتل نفسك: أجبني حتى أطلق غلك بيدي وجعل بعضهم يقول له: يا أحمد إمامك على رأسك قائم فاجبه، وعجيف ينخسه بالسيف، ويقول أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم، وبعضهم يقول: يا أمير المؤمنين اجعل دمه في عنقي، فرجع المعتصم إلى الكرسي، ثم قال للجلاد: أذمه قطع الله يدك ثم جاء المعتصم إليه ثانيا، وقال: يا أحمد أجبني: فقال كالأول. فرجع المعتصم وجلس على الكرسي، ثم قال للجلاد: شد عليه قطع الله يدك. قال أحمد: فذهب عقلي فما عقلت إلا وأنا في حجرة مطلق عني. وكل ذلك وهو صائم لم يفطر رضي الله تعالى عنه. وضرب ثمانية عشر سوطا، فلما كان في أثناء الضرب، انحلت وزرته فهمهم بشفتيه، فخرجت يدان فربطتاها. فسئل عن ذلك بعد اطلاقه. فقال: قلت أللهم إن كنت على الحق فلا تفضحني. ثم وجه المعتصم رجلا ينظر الضرب والجراحات ويعالجه، فنظر إليه وقال: والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط، فما رأيت ضربا أشد من هذا. ثم عالجه وبقي أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه. وقال صالح: سمعت أبي يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولوددت أني أنجو من هذا الأمر كفافا لا علي ولا لي. وحكي أن الشافعي رضي الله تعالى عنه، لما كان بمصر، رأى في المنام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهو يقول له: بشر أحمد بن حنبل بالجنة، على بلوى تصيبه فإنه يدعى إلى القول بخلق القرآن فلا يجب إلى ذلك، بل يقول هو منزل غير مخلوق. فلما أصبح الشافعي رضي الله تعالى عنه، كتب صورة ما رآه في منامه، وأرسله مع الربيع إلى بغداد إلى أحمد فلما وصل بغداد، قصد منزل أحمد واستأذن عليه فأذن له، فلما دخل عليه قال له: هذا كتاب أخيك الشافعي، فقال له: هل تعلم ما فيه؟ قال: لا ففتحه وقرأه وبكى. وقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله. ثم أخبره بما فيه، فقال: الجائزة، وكان عليه قميصان أحدهما على جسده، والآخر فوقه. فنزع الذي على جسده ودفعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 إليه. فأخذه ورجع إلى الشافعي. فقال له الشافعي: ما أجازك؟ قال: أعطاني القميص الذي على جسده. فقال: أما أنا فلا أفجعك فيه، ولكن أغسله وائتني بمائة، فغسله وأتاه بالماء، فأفاضه على سائر جسده. وقال إبراهيم الحربي: جعل الإمام أحمد بن حنبل جميع من ضربه أو حضره أو ساعد عليه في حل، إلا ابن أبي دؤاد. وقال: لولا أنه ذو بدعة لأحللته، ولو تاب من بدعته لأحللته، وقال أحمد بن سنان: بلغنا أحمد بن حنبل جعل المعتصم في حل، يوم فتح بابل أو فتح عمورية. وقال: هو في حل من ضربي. قال عبد الله بن الورد: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، في المنام، فقلت له: يا رسول الله ما شأن أحمد بن حنبل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: سيأتيك موسى بن عمران، فاسأله فإذا أنا بموسى بن عمران صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا كليم الله ما شأن أحمد بن حنبل، فقال: أحمد بن حنبل بلي في السراء والضراء، فوجد صابرا صادقا، فألحق بالصديقين. والحكمة في إحالة النبي صلى الله عليه وسلم على موسى عليه السلام أمور: منها بيان فضيلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم، حتى إن موسى عليه السلام يبين ذلك ويقرره. ومنها بيان فضل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه وما جعل له من الثواب العظيم في المحنة لما جرى عليه، حتى إنه شهد بعظيم فضله وعلو منزلته نبي كريم. ومنها أن محنة الإمام أحمد في كون القرآن مخلوقا، وهو كلام الله تعالى، وموسى بن عمران عليه السلام كليم الله تعالى، كلمه الله تكليما، وهو يعلم أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق. فناسب الإحالة ليعرف الناس ذلك، ليزداد يقينهم بأنه منزل غير مخلوق. وذكر ابن خلكان في ترجمته «1» أنه ولد في سنة أربع وستين ومائة وتوفي في سنة إحدى وأربعين ومائتين. وحزر من حضر جنازته من الرجال، فكانوا ثمانمائة ألف، ومن النساء ستين ألفا، وأسلم يوم موته عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس انتهى. وقال الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات: إن المتوكل أمر أن يقاس الموضع، الذي وقف الناس فيه للصلاة على الإمام أحمد، فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف ووقع المأتم في أربعة أصناف: في المسلمين واليهود والنصارى والمجوس انتهى. قال محمد بن خزيمة: لما بلغني موت الإمام أحمد بن حنبل اغتممت غما شديدا، فرأيت من ليلتي في المنام، وهو يتبختر في مشيته، فقلت: يا أبا عبد الله ما هذه المشية؟ فقال: مشية الخدام في دار السلام. فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال يا أحمد هذا بقولك القرآن كلامي غير مخلوق، ثم قال تبارك وتعالى: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان «2» التي كنت تدعو بهن في دار الدنيا. قال: فقلت يا رب كل شيء أسألك بقدرتك على كل شيء، لا تسألني عن شيء، واغفر لي كل شيء. فقال جل وعلا: يا أحمد هذه الجنة قم فادخلها فدخلتها فإذا أنا بسفيان الثوري له جناحان أخضران، يطير بهما من نخلة إلى نخلة، وهو يقول: الحمد الله الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 صدقنا وعده، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين. قال: قلت ما فعل الله بعبد الوهاب الوراق «1» ؟ قال: تركته في بحر من نور، في زورق من نور، يزور ربه الملك الغفور. فقلت: فما فعل ببشر «2» بن الحارث فقال لي: بخ بخ، ومن مثل بشر؟ تركته بين يدي الله جل جلاله، وبين يديه مائدة من الطعام، والجليل جل جلاله مقبل عليه، وهو يقول: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم ينعم. وفي سنة سبع وعشرين ومائتين احتجم المعتصم بسر من رأى، فحم ومات، وذلك لإثنتي عشرة ليلة من شهر ربيع الأول وهو ابن ثمان أو سبع وأربعين سنة. وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية شهور وثمانية أيام، وهو الثامن من خلفاء بني العباسي. وخلف من الذهب ثمانية آلاف دينار، ومن الدراهم ثمانية عشر ألف درهم، ومن الخيل ثمانية آلاف فرس، ومثلها من الجمال والبغال، ومن المماليك ثمانية آلاف مملوك، وثمانية آلاف جارية، وكان يقال له الثماني لأجل ذلك. وكان أميا وذلك إنه كان له مملوك صغير، يذهب معه إلى الكتاب فمات فقال له الرشيد: مات مملوكك يا إبراهيم، فقال: استراح من الكتاب يا أمير المؤمنين، فقال: أو بلغ الكتاب منك إلى هذا الحد؟ اتركوا ولدي لا تعلموه. فكان أميا لذلك وكان أبيض أصهب اللحية، مربوعا وكان شجاعا مهيبا، قوي البدن إلى الغاية فتح الفتوحات الكبار مثل عمورية من أقصى بلاد الروم ودانت له الأمم، وكان فيه ظلم وعنف وبذلك أرهب الأعداد سامحه الله تعالى. خلافة هارون الواثق بالله ثم قام بالأمر بعده ابنه هارون الواثق بالله بويع له بالخلافة بسر من رأى يوم موت أبيه، ونفذت البيعة إلى بغداد، واستقر له الأمر ببغداد وغيرها. ولما ولي قتل أحمد بن نصر «3» الخزاعي، على القول بخلق القرآن ونصب رأسه إلى الشرق، فدار إلى القبلة فأجلس رجلا معه رمح أو قصبة، فكان كلما دار الرأس إلى القبلة أداره إلى الشرق. وروي أنه رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ورحمني إلا أني كنت مهموما منذ ثلاث. قيل: ولم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر علي مرتين فأعرض بوجهه الكريم عني، فغمني ذلك، فلما مر علي صلى الله عليه وسلم الثالثة، قلت له: يا رسول الله ألست على الحق وهم على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فما بالك تعرض عني بوجهك الكريم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حياء منك إذ قتلك رجل من أهل بيتي. وقد رأيت حكاية تدل على أن الواثق رجع عن هذا الاعتقاد والامتحان، وذلك فيما ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه في ترجمته قال: سمعت طاهر بن خلف يقول: سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 فبينما نحن ذات يوم عنده إذ أتي بشيخ مصفود مقيد، فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله يعني ابن أبي دؤاد وأصحابه، وأدخل الشيخ في مصلاه، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال له: لا سلم الله عليك. فقال: يا أمير المؤمنين، بئسما أدبك مؤدبك قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها «1» والله ما حييتني بها، ولا بأحسن منها، فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين الرجل متكلم، فقال: كلمه فقال: يا شيخ ما تقول في القرآن؟ قال: انصفني في السؤال؟ فقال له: سل. فقال الشيخ: ما تقول أنت في القرآن؟ قال: مخلوق. فقال الشيخ: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، والخلفاء الراشدون، أم شيء لم يعلموه؟ فقال: شيء لم يعلموه فقال: سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون تعلمه أنت؟ فخجل وقال: أقلني فقال: قد فعلت. والمسألة بحالها قال: نعم قال: فما تقول في القرآن. قال: مخلوق. قال: هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون أم لم يعلموا. قال: علموه ولم يدعوا الناس إليه. فقال أفلا وسعك ما وسعهم؟ قال: ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول: هذا شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون، تعلمه أنت! سبحان الله شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم؟ ثم دعا عمارا الحاجب فأمره أن يرفع القيود عنه، ويعطيه أربعمائة دينار، يأذن له في الرجوع وسقط من عينه ابن أبي دؤاد. ولم يمتحن بعد ذلك أحدا، رحمه الله تعالى عليه. كذا وقع في هذه الرواية، أن المهتدي بالله بن الواثق إسمه محمد وبذلك سماه الحافظ أبو عبد الله الذهبي، في كتاب دول الإسلام، وذكر المؤلف بعد في ترجمته: أن إسمه جعفر، وقد جاء في رواية غير هذه ما يدل على أن إسمه أحمد، وفيها زيادة ونقص ومغايرة في بعض الألفاظ، والمعنى، وذلك فيما ذكره الحافظ أبو نعيم في حليته، قال: قال الحافظ أبو بكر الآجري بلغني عن المهتدي رحمه الله تعالى، أنه قال ما قطع أبي يعني الواثق إلا شيخ جيء به من المصيصة «2» فمكث في السجن مدة، ثم إن أبي ذكره يوما، فقال: علي بالشيخ فأتي به مقيدا فلما وقف بين يديه، سلم عليه فلم يرد عليه السلام، فقال له الشيخ يا أمير المؤمنين ما استعملت معي أدب الله عز وجل، ولا أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم برد السلام، فقال له أبي: وعليك السلام، ثم قال لابن أبي دؤاد: سله فقال: يا أمير المؤمنين أنا محبوس مقيد أصلي في الحبس وأتيمم للصلاة، فمر لي بحل القيد وبالوضوء، فأمر بحله وأمر بماء فتوضأ وصلى، ثم قال لابن أبي دؤاد: سله، فقال الشيخ: المسألة لي فمره أن يجيبني، فقال سل: فأقبل الشيخ على ابن أبي دؤاد، فقال: أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه أبو بكر رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 عنه بعده؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعدهما؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بعدهم؟ قال: لا قال: فشيء دعا إليه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بعدهم؟ قال لا. قال الشيخ: فشيء لم يدع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله تعالى عنهم، تدعو أنت الناس إليه؟ ليس يخلو أن تقول علموه أو جهلوه فإن قلت: علموه وسكتوا عنه، وسعني وإياك من السكوت، ما وسع القوم. وإن قلت: جهلوه وعلمته أنت! فيالكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم شيئا وتعلمه أنت وأصحابك؟ قال المهتدي: فرأيت أبي وثب قائما ودخل الحجرة، وجعل ثوبه في فيه وهو يضحك، ثم جعل يقول: صدق ليس يخلو من أن يقول علموه أو جهلوه فإن قلنا علموه وسكتوا عنه وسعنا من السكوت ما وسع القوم، وإن قلنا جهلوه وعلمته أنت، فيالكع بن لكع يجهل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا وأصحابه وتعلمه أنت وأصحابك؟ ثم قال: يا أحمد فقلت: لبيك قال: لست أعنيك إنما أعني المهتدي كان إسمه أحمد لقوله: لست أعنيك لأنه ربما قال قائل: إنما كان استجابة المهتدي لأبيه على طريق الأدب، فقوله إنما أعني ابن أبي دؤاد يبطل، لأن اسمه أحمد وسيأتي إن شاء الله تعالى في ترجمة المهتدي هذه الحكاية بطريقة أخرى، بسياق غير هذا. وهذا الذي قاله الشيخ إلزام صحيح وبحث لازم للمعتزلة. وكان الواثق مؤثرا لكثرة الجماع، فقال لطبيبه: اصنع لي دواء للباه، فقال له الطبيب: يا أمير المؤمنين لا تهدم بدنك بالجماع، واثق الله في نفسك فقال: لا بد من ذلك، فأمره الطبيب أن يأخذ لحم سبع فيغلي عليه سبع غليات بخل خمر، ويتناول منه إذا شرب وزن ثلاثة دراهم ولا يجاوز هذا القدر، فأمر بذبح سبع فذبح وطبخ له من لحمه، وصار يتنقل منه على شرابه فلم يكن إلا قليلا حتى استسقى فأجمع رأي الأطباء على أن لا دواء له إلا أن يبزل بطنه، ثم يترك في تنور قد سجر بحطب زيتون، حتى يصير جمرا، ثم يجلس فيه ففعل ذلك ومنع الماء ثلاث ساعات، فجعل يستغيث ويطلب الماء، فلم يسقوه فصار في جسده نفاطات مثل البطيخ ثم أخرجوه فجعل يقول ردوني في التنور وإلا مت فردوه، فسكن صياحه، ثم انفجرت تلك النفاطات وقطر منها ماء، فأخرج من التنور وقد أسود جسده، ومات بعد ساعة ولما احتضر جعل يقول: الموت فيه جميع الناس تشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا ملك ما ضر أهل قليل في مقابرهم ... وليس يغني عن الملاك ما ملكوا ثم أمر بالبسط فطويت، وألصق خده بالأرض، وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، إرحم من قد زال ملكه. ولما مات سجي بثوب. واشتغل الناس بالبيعة للمتوكل، فجاء جرذون من البستان، فاستل عينيه وذهب بهما ولم يعلموا به حتى غسلوه وهذا من أغرب ما سمع. حكي أن ذلك له سبب، وهو أن الواثقي قال: كنت أمرض الواثق إذ لحقته غشية، فما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 شككت أنه قد مات فقال بعضنا لبعض: تقدموا فما جسر أحد منا، فتقدمت أنا، فلما أردت أن أضع إصبعي على أنفه، فتح عينيه فكدت أن أموت فزعا، وتأخرت إلى خلفي، فتعلقت قبيعة «1» السيف بالعتبة، وعثرت فاندق السيف فكاد أن يدخل في لحمي، فخرجت وطلبت سيفا غيره، ثم رجعت فوقفت عنده، فوجدته مات بلا شك. فشددت لحييه، وغمضته وسجيته، وأخذ الفراشون تلك الفرش الثمينة، ليردوها إلى الخزانة، وترك وحده في البيت، فقال لي أحمد بن أبي دؤاد القاضي: إنا نشتغل بعقد البيعة، فاحفظه حتى يدفن، فرجعت وجلست عند الباب، فسمعت بعد ساعة حركة أفزعتني، فدخلت فإذا بجرذون قد جاء فاستل عينيه فأكلهما. فقلت: لا إله إلا الله هذه العين التي فتحها من ساعة، فعثرت واندق سيفي هيبة لها. وتوفي الواثق بسر من رأى في رجب سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وهو ابن ست وثلاثين سنة وأشهر وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وكان أبيض مليحا، يعلوه اصفرار، حسن اللحية، في عينيه نكتة، عالما أديبا جيد الشعر، شجاعا مهابا حازما، فيه جبروت كأبيه سامحهما الله تعالى. خلافة جعفر المتوكل ثم قام بالأمر بعده أخوه جعفر المتوكل. بويع له بالخلافة بسر من رأى، يوم موت أخيه الواثق، بعهد منه في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فرفع المحنة بخلق القرآن، وأظهر السنة، وأمر بنشر الآثار النبوية، وذكر «2» ابن خلكان في ترجمته أنه قال: ركبت إلى دار الواثق، في مرضه الذي مات فيه لأعوده، فجلست في الدهليز أنتظر الإذن، فبينما أنا جالس إذ سمعت النياحة عليه، وإذا ايداخ ومحمد بن عبد الملك الزيات «3» يأتمران في أمري، فقال محمد: نقتله في التنور، وقال إيداخ «4» . بل ندعه في الماء البارد حتى يموت، ولا يرى عليه أثر القتل، فبينما هما على ذلك، إذا جاء أحمد بن أبي دؤاد القاضي، فدخل وحدثهما كلاما لا أعقله، لما داخلني من الخوف، وشغل القلب بإعمال الحيلة في الهرب. فبينما أنا كذلك، وإذا بالغلمان يتعادون ويقولون: انهض يا مولانا، فلم أشك أني داخل لأبايع ولد الواثق ثم ينفذ في ما قدر، فلما دخلت بايعوني فسألت عن الحال فأعلمت أن ابن أبي دؤاد كان سبب ذلك. ثم إن المتوكل قتل إيداخ بالماء البارد وابن الزيات في التنور. قال: وهذا من أغرب الاتفاق وعجيب الظفر، ومن العجب أيضا، أن محمد بن عبد الملك الزيات، هو الذي صنع التنور ليعذب فيه الناس، فعذبه الله فيه. وكان التنور من حديد داخله مسامير غير مثنية، وكان يسجر بحطب الزيتون، حتى يصير كالجمر، ثم يدخل الإنسان فيه. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 ولما ولي المتوكل أحيى السنة، وأمات البدعة، وكتب للآفاق برفع المحنة واظهار السنة. وتكلم في مجلسه بالسنة وأعز أهلها، وأخمد المعتزلة، وكانوا في قوة ونماء إلى أيام المتوكل فخمدوا. ولم يكن في هذه الملة الإسلامية أهل بدعة أشر منهم، نعوذ بالله من شر مقالتهم، ونسأل الله السلامة من الزيغ والردى. وكان المتوكل يبغض عليا رضي الله تعالى عنه، ويتنقصه، فذكر عليا رضي الله عنه يوما وغض منه فتمعر وجه ابنه المنتصر لذلك فشتمه المتوكل وأنشد مواجها له: غضب الفتى لابن عمه ... رأس الفتى في حرامه فحقد عليه، وأغراه ذلك على قتله، لما كان يغلو في بغض علي رضي الله تعالى عنه، ويكثر الوقيعة فيه والاستخفاف به. فبينما المتوكل في قصره، يشرب مع ندمائه، وقد سكر إذا دخل بغا الصغير، وأمر الندماء بالانصراف فانصرفوا، ولم يبق عنده إلا الفتح بن خاقان، فإذا الغلمان الذين عينهم المنتصر لقتل المتوكل قد دخلوا بايديهم السيوف مصلتة، فهجموا عليه فقال الفتح بن خاقان: ويلكم أمير المؤمنين ثم رمى نفسه عليه، فقتلوهما جميعا ثم خرجوا إلى المنتصر، فسلموا عليه بالخلافة. وكان قتل المتوكل في شوال سنة سبع وأربعين ومائتين وعمره أربعون سنة. وكانت خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وقيل خمس عشرة سنة. وكان أسمر رقيقا، ملج العينين، خفيف اللحية، ليس بالطويل، فيه قصف وانهماك على اللهو والمكاره، لكنه أحيى السنة، وأمات بدعة القول بخلق القرآن، وله كرم زائد وكان قد عزم على خلع ولده المنتصر من ولاية العهد، وتقديم ابنه المعتز عليه، لفرط محبته لأمه، وأخذ يؤذيه ويتهدده إن لم يخلع نفسه، واتفق مصادرته لوصيف «1» وبغا، فعملوا على قتله، فدخل عليه خمسة نصف الليل وهو في مجلس لهو ففتكوا به وضربوه بسيوفهم وقتلوا معه وزيره الفتح بن خاقان كما تقدم. خلافة محمد المنتصر بالله ثم قام بالأمر بعده ابنه محمد المنتصر بالله. بويع له بالخلافة في الليلة التي قتل فيها أبوه، وبويع له من الغد البيعة العامة، فلم تطل دولته، ولم يمتع بالملك. روى إنه بسط بين يديه بساطا، فرأى عليه شيئا مكتوبا فلم يعلم ما هو، فأمر بإحضار من قرأه، فإذا كتابته بقلم اليونان، وإذا عليه مكتوب: عمل هذا البساط للملك قباذ بن كسرى قاتل أبيه، وفرش قدامه، فلم يلبث غير ستة أشهر ومات. فتطير المنتصر واغتم لذلك وأمر برفع البساط ومات في آخر الستة أشهر. وكانت خلافته ستة أشهر وأياما وعمره ست وعشرون سنة وأمه رومية، وكان مربوعا سمينا أعين أقنى الأنف، مليحا مهيبا، كامل العقل يحب الخير. قيل إن أمراء الترك خافوه، فلما حم دسوا إلى الطبيب بكيس فيه ألف دينار، ففصده بريشة مسمومة وقيل بل سم في طعامه، فقال لأمه: ذهبت عني الدنيا والآخرة عاجلت أبي فعوجلت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 خلافة أحمد المستعين بالله وهو السادس فخلع وقتل ثم قام بالأمر بعده ابن عمه أحمد المستعين بالله بن محمد المعتصم. بويع له بالخلافة ليلة الإثنين لست خلون من شهر ربيع الآخر، وعمره إذ ذاك ثمان وعشرون سنة، وكان كثير الجماع، مغرما يحب النساء وكان له ابنة عم بديعة الحسن والجمال، فطلبها من أبيها فامتنع فأحضر الأصمعي «1» والرقاشي «2» وأبا نواس «3» ، وقال: كل من أنشد لي بطبق مرادي في ابنة عمي أعطيته الجائزة العظمى فانشد أبو نواس: ما روض ريحانكم الزاهر ... وما شذا نشركم العاطر وحق وجدي والهوى قاهر ... مذغبتمو لم يبق لي ناظر والقلب لا سال ولا صابر ... قالت: ألا لا تلجن دارنا وكابد الأشواق من أجلنا ... واصبر على مر الجفا والضنا ولا تمرن على بيتنا ... إن أبانا رجل غائر فقلت: إني طالب غرة ... يحظى بها القلب ولو مرة قالت: بعيد ذاك مت حسرة ... قلت سأقضي غرتي جهرة منك وسيفي صارم باتر ... قالت: فإن البحر من بيننا فابرح ولا تأت إلى حينا ... واشرب بكأس الموت من هجرنا قلت ولو كان كثير العنا ... يكفيك إني سابح ماهر قالت: فإن القصر عالي البنا ... قلت: ولو كان عظيم السنا «4» أو كان بالجو بلغت المنى ... قالت: منيع في الورى» قصرنا قلت وإني فوقه طائر ... قالت فعندي لبوة والد فقلت إني أسد شارد ... غشمشم مقتنص صائد قالت: لها شبل بها لا بد ... قلت: وإني لبثها الكاسر قالت فعندي إخوة سبعة ... جمعا إذا ما التقوا عصبة قلت ولي يوم اللقا وثبة ... قالت: لهم يوم الوغى سطوة قلت: إني قاتل قاهر ... قالت: فإن الله من فوقنا يعلم ما نبديه من شوقنا ... نمضي إلى الحق غدا كلنا ونختشي النقمة من ربنا ... قلت: وربي ساتر غافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 قالت فكم أعييتنا حجة ... تجي بها كاملة بهجة فيا لها بين الورى خجلة ... إن كنت ما تمهلنا ساعة فائت إذا ما هجّع الساهر ... واسقط علينا كسقوط الندى إياك أن تظهر حرف الندا ... يستيقظ الواشي ويأتي الردى وكن كضيف الطيف مسترصدا ... ساعة لا ناه ولا آمر حاججتها عشرا وصافحتها ... على دنان الخمر صافيتها «1» رامت مواثيقا فوافيتها ... ملتحفا سيفي ولاقيتها آخر ليلى والدجى عاكر ... يا ليلة قضيتها خلوة مرتشفا من ريقها قهوة ... تكر من قد يبتغي سكرة ظننتها من طيبها لحظة ... يا ليت لا كان لها آخر فلما أنشد ذلك أبو نواس بحضرة الخليفة، أعجبه ذلك وأمر له بالجائزة العظمى، ووفى بما عهد. ثم إن المستعين أشهد على نفسه أنه قد خلعها من الخلافة، وأنه قد أحل الناس من بيعته بشروط، وخطب للمعتز بن المتوكل. فنقل المستعين إلى قصر الحسن بن وهب فاعتقل به تسعة أشهر، ووكل به من يحفظه ثم أحضر به إلى واسط ودس عليه المعتز، سعيدا الحاجب فقتله صبرا في أوّل شهر رمضان سنة إثنتين وخمسين ومائتين وجيء برأسه إلى المعتز، وهو يلعب الشطرنج، فقيل له: هذا رأس المخلوع، فقال: دعوه هناك حتى أفرغ من اللعب. فلما فرغ أحضره ونظره، ثم أمر بدفنه. وكانت خلافته سنتين وتسعة أشهر، وعمره إحدى وثلاثون سنة وكان مربوعا مليح الوجه به أثر جدري، وكان ألثغ يجعل السين ثاء وكان كريما مبذرا للأموال رحمه الله تعالى. خلافة أبي عبد الله محمد المعتز بالله بن المتوكل ثم قام بالأمر بعده ابن عمه محمد المعتز بن المتوكل. بويع له بالخلافة لما خلع المستعين نفسه، في أوّل سنة إثنتين وخمسين ومائتين، ثم دبر عليه صالح بن وصيف حاجبه، فجاء إليه ومعه جماعة، وبعثوا إليه أن أخرج، فاعتذر بأنه تناول دواء، فأمر صالح أن يدخل إليه بعضهم، فدخلوا وجروا برجله إلى باب الحجرة، فأقيم في الشمس الحارة، فصار يرفع قدما ويضع أخرى، وهم يلطمونه ويقولون له: اخلعها وهو يتقي بيديه ويأبى، ثم أجابهم وخلع نفسه. فتسلمه صالح بن وصيف، ومنعه من الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أنزله إلى سرداب مجصص وأطبقه عليه حتى مات. ثم أخرجه وأشهد عليه أنه لا أثر به. وقيل: إنه بعد خلعه بخمسة أيام أدخله الحمام، ومنعه الماء حتى عاين التلف، ثم أتوه بماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 مالح فشربه فسقط ميتا. وذلك في رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وكان عمره ثلاثا وعشرين سنة وخلافته أربع سنين وستة أشهر وكان بديع الحسن رحمه الله تعالى. خلافة جعفر المهتدي بالله بن هارون ثم قام بالأمر بعده ابن عمه، جعفر بن هارون المعتصم. ورأيت في غير هذا الموضع أن المهتدي إسمه محمد بأبي إسحاق. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه المعتز بالله ولما ولي أخرج الملاهي وحرم سماع الغناء والشراب، وأمر بنفي المغنيات وطرد الكلاب، والسباع وألزم نفسه الإشراف على الدواوين، والجلوس للناس، وإزالة المظالم، وتغيير المنكرات. وقال: إني أستحيى من الله أن لا يكون في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية. فتبرم به بابك التركي، وكان ظلوما غشوما، فأمر المهتدي بقتله، ولما قتل هاجت الأتراك، ووقعت الحرب بينهم وبين المغاربة، فقتل من الفريقين أربعة آلاف، وخرج المهتدي والمصحف في عنقه، وهو يدعو الناس إلى نصرته، والمغاربة معه وبعض العامة، فحمل عليهم طيبغا أخو بابك فهزمهم. ومضى المهتدي مهزما، والسيف في يده، وقد جرح جرحين، حتى دخل دار محمد «1» بن يزداد، فتجمعت الأتراك وهجموا عليه وأخذوه أسيرا. وحمله أحمد بن خاقان على دابة وأردف خلفه سائسا بيده خنجر، فأدخل إلى دار أحمد بن خاقان، وجعلوا يصفعونه ويقولون اخلعها، فأبى عليهم فسلم إلى رجل، فوطىء مذاكيره حتى قتله، وذلك في رجب سنة ست وخمسين ومائتين، وهو ابن سبع وثلاثين سنة، وكانت خلافته أحد عشر شهرا، رحمة الله تعالى عليه، وقيل سنة. وكان أسمر مليح الصورة دينا ورعا عابدا عاد لا حازما شجاعا خليقا للإمارة، لكنه لم يجد ناصرا. يقال: إنه كان يسرد الصوم، وربما كان فطوره في بعض الليالي، على خبز وخل وزيت، وقد كان سد باب اللهو والطرب والغناء، وحسم الأمراء عن الظلم وكان يجلس لحساب الدواوين بنفسه. ومما يحكى: من محاسنه، ما ذكره الحافظ أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي، في كتابه قال: إن أبا الفضل صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي، وكان من وجوه بني هاشم، وأهل الخلافة والسبق منهم، قال: حضرت المهتدي بالله أمير المؤمنين، وقد جلس ينظر في أمور الناس، في دار العامة، فنظرت إلى قصص الناس تقرأ عليه، من أوّلها إلى آخرها، فيأمر بالتوقيع فيها، وإنشاء الكتب لأصحابها، فتختم وتدفع إلى أصحابها بين يديه. فسرني ذلك وجعلت أنظر إليه، ففطن لي ونظر إلي، فغضضت عنه حتى كان ذلك مني ومنه مرارا إذا نظر إلي غضضت، وإذا اشتغل عني نظرت. فقال: يا صالح قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، وقمت قائما فقال: أفي نفسك مني شيء تحب أن تقوله؟ فقلت: نعم يا سيدي. فقال لي: عد إلى موضعك، فعدت وعاد في النظر حتى قام وقال للحاجب: لا يبرح صالح فانصرف الناس. ثم أذن لي وقد أهمتني نفسي، فقمت فدخلت ودعوت له، فقال لي: اجلس فجلست، فقال: يا صالح تقول ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 دار في نفسك، أو أقول أنا ما دار في نفسي. أنه دار في نفسك. فقلت: يا أمير المؤمنين، ما تعزم عليه وتأمر به، أطال الله بقاءك، فقال: كأني بك، وقد استحسنت ما رأيت منا فقلت: أي خليفة خليفتنا، إن لم يكن يقل القرآن مخلوق؟ فورد على قلبي أمر عظيم وأهمتني نفسي، ثم قلت: يا نفس هل تموتين إلا مرة؟ وهل تموتين قبل أجلك؟ وهل يجوز الكذب في جدّ أو هزل؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما دار في نفسي إلا ما قلت. ثم أطرق مليا وقال: ويحك اسمع مني ما أقول: فو الله لتسمعن الحق فسرّي عني. فقلت: يا سيدي من أولى بقول الحق منك، وأنت أمير المؤمنين، وخليفة رب العالمين، وابن عم سيد المرسلين، من الأوّلين والآخرين؟ فقال لي: ما زلت أقول القرآن مخلوق صدرا من خلافة الواثق حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دؤاد شيخا من أهل الشام، من أهل أذنة، فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا، وهو جميل الوجه، تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورق له، فما زال يدنيه ويقربه حتى قرب منه، فسلم الشيخ بأحسن السلام، ودعا بأبلغ الدعاء، وأوجز. فقال له الواثق: اجلس ثم قال له: يا شيخ ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ابن أبي دؤاد يقل ويصغر ويضعف عن المناظرة، فغضب الواثق، وعاد مكان الرقة له غضبا، فقال: أبو عبد الله بن أبي دؤاد يقل ويصغر ويضعف عن مناظرتك أنت؟ فقال الشيخ: هون عليك يا أمير المؤمنين ما بك، وائذن لي في مناظرته، فقال الواثق: ما دعوتك إلا للمناظرة، فقال الشيخ: يا أحمد بن أبي دؤاد «1» إلام دعوت الناس ودعوتني إليه؟ فقال: إلى أن تقول القرآن مخلوق لأن كل شيء من دون الله مخلوق. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إني رأيت أن تحفظ علي وعليه ما نقول. قال: افعل. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم. قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله عز وجل هل ستر شيئا مما أمره الله به في دينه؟ قال: لا قال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى مقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ له: تكلم، فسكت. فالتفت الشيخ إلى الواثق، وقال: يا أمير المؤمنين واحدة. فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن آخر ما أنزل الله من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «2» فقال الشيخ: أكان الله تبارك وتعالى الصادق في اكمال دينه؟ أم أنت الصادق في نقصانه فلا يكون الدين كاملا، حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: أجب يا أحمد. فلم يجب فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان. فقال الواثق. اثنتان فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم جهلها؟ فقال ابن أبي دؤاد: علمها. فقال الشيخ: أدعا الناس إليها فسكت ابن أبي دؤاد. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث. فقال الواثق: ثلاث. فقال الشيخ: يا أحمد فاتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما زعمت، فلم يطالب أمته بها؟ قال: نعم فقال الشيخ: واتسع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 عنهم؟ قال ابن أبي دؤاد: نعم. فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق فقال: يا أمير المؤمنين قد قدمت القول: إن أحمد يقل ويصغر ويضعف عن المناظرة، يا أمير المؤمنين إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، فلا وسع الله على من لم يتسع له ما اتسع لهم من ذلك. فقال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم فلا وسع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ، فلما قطعوا قيده ضرب الشيخ بيده إلى القيد ليأخذه، فجذبه الحداد إليه فقال الواثق: دع الشيخ ليأخذه فأخذه الشيخ فوضعه في كمه، فقيل للشيخ: لم جاذبت عليه؟ فقال الشيخ: لأني نوبت أن أتقدم إلى من أوصي إليه، إذا أنا مت، أن يجعله بيني وبين كفني، حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، وأقول: يا رب سل عبدك هذا لم قيدني وروع أهلي وولدي وإخوتي بلا حق أوجب ذلك علي؟ وبكى الشيخ، وبكى الواثق، وبكيت. ثم سأله الواثق أن يجعله في حل وسعة مما ناله منه، فقال الشيخ، والله يا أمير المؤمنين قد جعلتك في حل وسعة من أول يوم إكراما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كنت رجلا من أهله. فقال الواثق: لي إليك حاجة. فقال الشيخ: إن كانت ممكنة فعلت. فقال الواثق: تقيم قبلنا فتنفع بك فتياننا. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين إن ردك إياي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم، أنفع لك من مقامي عندك. وأخبرك لم ذلك: أصير إلى أهلي وولدي، فأكف دعاءهم عليك، فقد خلفتهم على ذلك. فقال له الواثق أفتقبل منا صلة تستعين بها على دهرك؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين لا تحل لي، أنا عنها غني وذو ثروة. فقال له: أتسأل حاجة؟ قال: أو تقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: تخلي سبيلي إلى السفر الساعة، وتأذن لي. قال: قد أذنت لك. فسلم عليه الشيخ وخرج. قال صالح: فقال المهتدي بالله: فرجعت عن هذه المقالة منذ ذلك اليوم، وأظن أن الواثق بالله، كان رجع عنها من ذلك الوقت، ولي فيها طرق أخرى، وفيها بعض المغايرة فلهذه وقد سبق في ترجمة الواثق ما يدل على رجوعه والله تعالى أعلم. خلافة أبي القاسم أحمد المعتمد على الله بن المتوكل ثم قام بالأمر بعده ابن عمه أحمد، المعتمد على الله بن المتوكل على الله بن المعتصم بالله. بويع له بالخلافة يوم قتل ابن عمه المهتدي بالله بسر من رأى، وكان له إسم الخلافة ولأخيه الموفق بن المتوكل تدبير الملك ولما مات الموفق، قام بتدبير الملك بعده، ابنه أحمد المعتضد بن الموفق وغلب على عمه المعتمد كما كان أبوه غالبا عليه، فكان المعتمد يطلب الشيء الحقير فلا يناله ولم يكن له سوى الإسم فقال في ذلك: أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه وتؤخذ بإسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شيء في يديه قيل: إنه شرب يوما على الشط شرابا كثيرا فتغشى ومات. وقيل: إنه اغتم ومات وهو نائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 في بساط. وقيل: إنه سم في لحم وذلك في شوال سنة تسع وسبعين ومائتين وله خمسون سنة. وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وتوفي ببغداد. وكان أسمر ربعة، رقيقا مدوّر الوجه مليح العينين، صغير اللحية أسرع إليه الشيب منهمكا على اللهو واللذات يسكر ويعض يده. خلافة أبي العباس أحمد المعتضد بالله بن الموفق بويع له بالخلافة يوم مات عمه المعتمد، فاستقل بالأمر وكان شجاعا عادلا ذا هيبة عظيمة مع سطوة وجبروت وحزم ورأي، وذكاء مفرط في أحكامه، وسيأتي ذكر شيء من ذلك. وكان كثير الجماع فاعتراه فساد مزاج وكان ذلك سبب وفاته. وكان محيا للعدل موثرا له، وله فيه حكايات نادرة توفي سنة تسعين ومائتين، لسبع بقين من شهر ربيع الآخر وهو ابن ست وأربعين سنة، وقيل أربعين سنة. وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر وقيل عشر سنين وكان أسمر مهيبا معتدل الشكل. خلافة أبي محمد علي المكتفي بالله بن المعتضد ثم قام بالأمر بعده ابنه علي أبو محمد المكتفي بالله بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بويع له بالخلافة يوم توفي أبوه المعتضد. وتوفي ببغداد سنة ثلاث وتسعين ومائتين وهو ابن أربع وثلاثين سنة، وقيل ثلاثين. وخلافته سنتان وثمانية أشهر. هكذا ذكروا وفاته، وعمره وخلافته والذي رأيته في كتب الذهبي «1» أنه كانت وفاته في ذي القعدة سنة تسع وتسعين ومائتين عن إحدى وثلاثين سنة. وكانت خلافته ست سنين ونصفا. وكان وسيما جميلا بديع الحسن، دري اللون معتدل الطول، أسود الشعر، وكان حسن العقيدة، كارها لسفك الدماء. ووطأ له أبوه المعتضد الأمر، وكان المكتفي مائلا إلى حب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، بارا بأولاده يحكى أن يحيى بن علي «2» الشاعر، أنشده بالرقة قصيدة يذكر فيها فضل أولاد العباس على أولاد علي، فقطع المكتفي عليه إنشاده وقال: يا يحيى كأنهم ليسوا بني عم. ما أحب أن يخاطب أهلنا بشيء من ذلك وإن كانوا خلفاء. ولم يسمع القصيدة ولا أجازه عليها رحمة الله عليه. خلافة أبي الفضل جعفر المقتدر بالله وهو السادس فخلع مرتين كما سيأتي ثم قام بالأمر بعده، أخوه أبو الفضل جعفر المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة ببغداد يوم وفاة أخيه، وهو ابن ثلاث عشرة سنة وأربعين يوما، ولم يل الخلافة بعده. قيل: ولا قبله أصغر منه وضعف دست الخلافة في أيامه، وذكر صاحب النشوان وغيره، عن صافي مولى المعتضد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 أنه قال: مشيت يوما بين يدي المعتضد وهو يريد دار الحرم، فلما بلغ باب دار المقتدر، وقف وتسمع وتطلع من خلل في الستر، فإذا هو بالمقتدر، وله إذ ذاك خمس سنين أو نحوها، وهو جالس وحوله قدر عشر وصائف، من أترابه في قدر سنه، وبين يديه طبق فضة وفيه عنقود عنب، في وقت فيه العنب عزيز جدا، والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة على الدور حتى إذا بلغ الدور إليه، أكل واحدة مثل ما أكلوا، حتى فني العنقود، والمعتضد يتمزق غيظا، ثم رجع ولم يدخل الدار. فرأيته مهموما، فقلت: يا مولاي ما سبب فعلته؟ فقال: يا صافي والله لولا العار والنار لقتلت هذا الغلام اليوم! يعني المقتدر، فإن في قتله صلاحا للأمة. فقلت: يا مولاي ما شأنه وأي شيء عمل؟ أعيذك بالله يا مولاي من هذا. فقال: ويحك أنا أبصر بما أقوله، أنا رجل قد سست الأمور، وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد، ولا بد من موتي، وأنا أعلم أن الناس بعدي لا يختارون أحدا على ولدي، وإنهم سيجلسون ابني عليا يعني المكتفي وما أظن أن عمره يطول، للعلة التي به، يعني الخنازير التي كانت في حلقه، فيتلف عن قريب ولا يرى الناس اخراجها عن ولدي، ولا يجدون بعده أمثل من جعفر يعني المقتدر وهو صبي وله من الطبع والسخاء هذا الذي قد رأيته من أنه أطعم الوصائف مثلما أكل، وساوى بينه وبينهم في شيء عزيز في العالم، والشح على مثله في طباع الصبيان غالب، فتحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن فيقسم ما جمعته من الأموال كما قسم العنب، ويبدد ارتفاع الدنيا فتضيع الثغور، وتعظم الأمور، وتخرج الخوارج، وتحدث الأسباب التي يكون فيها زوال الملك عن بني العباس رأسا. فقلت: يا مولاي يبقيك الله، حتى ينشأ في حياة منك، ويصير كهلا في أيامك ويتأدب بآدابك، ويتخلق بأخلاقك، ولا يكون هذا الذي ظننت. فقال: ويحك احفظ عني ما أقول لك: فإنه كما قلت: قال: ومكث يومه مغموما مهموما. وضرب الدهر ضرباته، ومات المعتضد وولي المكتفي فلم يطل عمره ومات. وولي المقتدر فكانت الصورة كما قال مولاي المعتضد بعينها، فكنت كلما ذكرت قوله أعجب منه، فو الله لقد وقفت يوما على رأس المقتدر وهو في مجلس لهوه، فدعا بالأموال فأخرجت إليه ووضعت البدر «1» بين يديه، فجعل يفرقها على الجواري والنساء، ويلعب بها ويمحقها أو يهبها. فذكرت قول مولاي المعتضد ثم إن الجند وثبوا على العباس وزيره فقتلوه، وأحضروا عبد الله بن المعتز وبايعوه وخلعوا المقتدر. خلافة عبد الله بن المعتز المرتضي بالله بويع بالخلافة بعد خلع المقتدر. بعد أن شرط عليهم أن لا يكون في ذلك حرب ولا سفك دم. فلما بويع له كتب إلى المقتدر، يأمره بلزوم دار ابن طاهر «2» بوالدته وجواريه، وأمر الحسن بن حمدان وابن عمرويه، صاحب الشرطة، أن يصير إلى دار المقتدر، فمضيا فخرج إليهما الغلمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 ورموهما بالحجارة، وجرى بينهم حرب شديد، آخره أن أصحاب المقتدر ظهروا عليهما فانهزما وانهزم المرتضي بالله، وتفرق أصحابه واستتر عند ابن الجصاص، ولم يتم له أمر غير يوم وليلة، ولذلك يعد المؤرخون خلافته في هذه المدة. ثم عاد المقتدر إلى ما كان عليه، ثم ظفر بالمرتضي بالله فقتله خنقا، وأظهر أنه مات حتف أنفه، وأخرج وهو ميت من دار الخلافة، فدفنوه في خرابة بازاء داره، وكان عمره خمسين سنة. قال «1» ابن خلكان في ترجمته كان شاعرا ماهرا، فصيحا مجيدا مخالطا للعلماء والأدباء، وهو صاحب التشبيهات التي أبدع فيها ولم يتقدمه من شق غباره، وكان قد اتفق معه جماعة وخلعوا المقتدر وبايعوه ولقبوه بالمرتضي بالله فأقام يوما وليلة، ثم إن اصحاب المقتدر تحزبوا وحاربوا أعوان ابن المعتز وشتتوهم، فاستخفى ابن المعتز ثم أخذ ليلا، فلما ادخل على المقتدر أمر به فطرح على الثلج عريانا، وحشي سراويله ثلجا. فلم يزل كذلك والمقتدر يشرب، إلى أن مات، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين رحمه الله. ليس هو بمعدود في الخلفاء لأنه لم يثبت له أمر. واستمر للمقتدر الأمر إلى أن بلغ مؤنسا الخادم أن المقتدر قد عزم على اغتياله، وكان مؤنس مقدم جيش المقتدر فبلغ المقتدر ما نقل إلى مؤنس فحلف على بطلان ذلك. وأسرها مؤنس في نفسه، ثم جرى بين العامة وبين بعض مماليكه حرب، فظن أن ذلك بأمر المقتدر فوافى مؤنس دار الخلافة في اثني عشر ألف فارس، فدخل إلى المقتدر وقبض عليه وعلى والدته السيدة، وحملهما إلى قصره ونهب الجند دار الخلافة وخلع المقتدر نفسه، من الخلافة وكتب بذلك إلى الآفاق فلما كان ثاني يوم خلعه، شغب الجند وقتلوا صاحب الشرطة، وهرب ابن مقلة الوزير، وهرب الحجاب وجاء المقتدر فجلس، وأحضر أخاه القاهر وأجلسه بين يديه، وقبل ما بين عينيه، وقال: يا أخي لا ذنب لك فجعل القاهر يقول: الله الله في نفسي يا أمير المؤمنين، فقال المقتدر: والله وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم لا جرى عليك مني سوء أبدا وعاد ابن مقلة الوزير وكتب إلى الآفاق بخلافة المقتدر، ثم جرى بين المقتدر وبين مؤنس الخادم حرب فاقتحم المقتدر نهر السكران «2» فأحاط به جماعة من البربر فقتله رجل منهم، وأخذوا رأسه وسلبه وثيابه، ومضوا إلى مؤنس الخادم، فمر بالمقتدر رجل من الاكراد فستر عورته بحشيش ودفنه، وأخفى أثره. وكان قتله يوم الأربعاء لثلاث بقين من شوال سنة ست عشرة وثلاثمائة وهو ابن ثمان وثلاثين سنة وشهر. وكانت خلافته أربعا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا خلع فيها مرتين ثم قتل كما تقدم. وحكى الذهبي أن خلافته كانت خمسا وعشرين سنة وانه عاش ثمانيا وثلاثين سنة، وإنه كان مسرفا مبذرا للمال ناقص الرأي أعطى جارية له الدرة اليتيمة وكان وزنها ثلاثة مثاقيل، وما كانت تقوم وقيل: إنه محق من الذهب ثمانين ألف ألف دينار في أيامه وإنه خلف من الأولاد عدة منهم الرضي بالله المقتفي بالله وإسحاق والمطيع لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 خلافة محمد القاهر بالله ثم قام بالأمر بعده، أخوه أبو منصور محمد بن المعتضد بالله. بويع له بالخلافة ببغداد لليلتين بقيتا من شوال ولما ولي قبض على ابن أخيه المكتفي، وأمر به فأقيم في بيت وسد عليه بالآجر والجص حتى مات غما. وقبض على السيدة أم المقتدر، وطالبها بمال لم تقدر عليه، فتهددها وضربها بيده، وعذبها بأنواع العذاب، وعلقها منكسة حتى كان يجري بولها على وجهها، وهي تقول له: ألست أمك في كتاب الله؟ وخلصتك من ابني في المرة الأولى؟ وأنت تعاقبني بهذه العقوبة! ولم يبق عندي مال. ثم إنها ماتت عقب ذلك. ثم إن الجند شغبوا عليه، وجاؤوا إلى داره، وهجموا عليه من سائر الأبواب، فهرب إلى سطح حمام واستتر فيه، فأتو إليه وقبضوا عليه وحبسوه وخلعوه من الخلافة، وسملوا عينيه. وذلك في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. قال ابن البطريق في تاريخه: كان القاهر قد ارتكب أمورا قبيحة لم يسمع بمثلها في الإسلام، وذكر منها طرفا طويلا. حكي أن رجلا قال: صليت في جامع المنصور ببغداد فإذا أنا بانسان عليه جبة عنابية، وقد ذهب وجهها وبقي بعض قطن بطانتها، وهو يقول: أيها الناس تصدقوا علي، بالأمس كنت أمير المؤمنين وأنا اليوم من فقراء المسلمين. فسألت عنه فقيل لي إنه القاهر بالله في هذه الحكاية أعظم عبرة. نعوذ بالله من سخطه وزوال نعمه. وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وسبعة أيام، وكان أهوج طائشا سفاكا للدماء يدمن السكر، وكان له حربة يأخذها بيده، فلا يضعها حتى يقتل إنسانا ولولا وجود الحاجب سلامة لأهلك الناس. خلافة أبي العباس أحمد الراضي بالله بن المقتدر ثم قام بالأمر بعده أخوه، أبو العباس أحمد الراضي بالله بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم خلع عمه القاهر. واستوزر أبا علي بن مقلة، وأطلق كل من كان في حبس القاهر، ثم استدعى بالأمير محمد بن رائق، وكان بواسط متغلبا عليها، لأن الضرورة ألجأته إلى ذلك، لاضطراب الأمور عليه، ولضعف من يلي الوزارة عن القيام بها. فقدم ابن رائق بغداد فجعله الراضي أمير الأمراء وفوض إليه تدبير المملكة، وخلع عليه وأعطاه اللواء. ومن ذلك اليوم بطل أمر الوزارة ببغداد، ولم يبق إلا إسمها والحكم للأمراء والملوك المتغلبين. وكان قدومه لخمس بقين من ذي الحجة سنة أربع وعشرين وثلاثمائة ثم دخلت سنة خمس والدنيا في أيدي المتغلبين، وهم ملوك الأرض، وكل من حصل في يده بلد ملكه ومانع عنه، فالبصرة وواسط والأهواز في يد عبد الله البريدي وأخويه، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، والموصل وديار بكر وديار ربيعة وديار مضر في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيد بن طغج، والمغرب وافريقية في يد المهدي، والأندلس في يد بني أمية، وخراسان وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والاها في يد نصر بن أحمد الساماني، واليمامة وهجر والبحرين في يد أبي طاهر القرمطي، وطبرستان وجرجان في يد الديلم. ولم يبق في يد الراضي وابن رائق سوى بغداد وما والاها فبطلت دواوين المملكة، ونقص قدر الخلافة وضعف ملكها. وعم الخراب لذلك. وتوفي الراضي ليلة السبت خامس عشر ربيع الأول، سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بعلة الاستسقاء والتنحنح. وكان أكبر أسباب علته من كثرة الجماع، وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر، وخلافته ست سنين وعشرة أشهر. وكان سمحا جوادا، واسع الصدر أديبا شاعرا، حسن البيان. وقيل: إن عمره كان اثنتين وثلاثين سنة وخلافته ست سنين وعشرة أيام كان قصيرا أسمر نحيفا، وله شعر جيد مدون. وخطب بالناس في سامرا فأبلغ وأجاد، ومرض أياما ثم قاء دما كثيرا ومات. خلافة ابراهيم المتقي بالله ثم قام بالأمر بعده، أخوه أبو العباس إبراهيم المتقي بالله بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم موت أخيه الراضي، فصلى ركعتين وصعد على السرير. وكان ذا دين وورع، ولهذا لقبوه المتقي بالله، فكان تدبير المملكة إلى الأمير حكم التركي وليس للمتقي إلا الإسم. ثم إن نوروز استولى على بغداد وخلع المتقي بالله وسلمه لابن عمه المستكفي بالله، فأخرجه إلى جزيرة بقرب السندية، وأكحله بعد أن أشهد على نفسه بالخلع. وذلك يوم السبت لعشر بقين من صفر، سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. وكانت خلافته ثلاث سنين وأحد عشر شهرا، وقيل: كانت أربع سنين وتوفي سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. وكان مولده في سنة سبع وتسعين ومائتين فأبوه أكبر بخمس عشرة سنة. وكان كثير الصوم والتهجد يدمن التلاوة في المصحف ولا يشرب مسكرا وعاش بعد خلعه أربعا وعشرين سنة. خلافة عبد الله المستكفي بالله بن المكتفي ثم قام بالأمر بعده، ابن عمه أبو العباس عبد الله المستكفي بالله بن المكتفي بن المعتضد. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن عمه المتقي بالله، ولما ولي الخلافة خلع على نوروز وفوض إليه تدبير المملكة. وفي أيامه قدم معز الدولة ابن بويه بغداد، فخلع عليه وفوض إليه ما وراء بابه، وضرب السكة بإسمه، وأمر أن يخطب له على المنابر، ولقبه بمعز الدولة، ولقب أخاء أبا الحسن عليا بعماد الدولة، وهو أكبر بني بوية، له خبر عجيب سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة، في لفظ الحية. ولقب أخاهم أبا الفتح بركن الدولة، وهو أوسطهم. وله خبر عجيب أيضا يأتي إن شاء الله تعالى في باب الدال المهملة في لفظ الدابة. وكان قدوم معز الدولة في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وفيها كان خلع المستكفي بالله، وسبب ذلك أن معز الدولة بلغه أن المستكفي قد دبر على هلاكه، فدخل على المستكفي وقبل الأرض ثم قبل يديه، فطرح له كرسي فجلس عليه، ثم تقدم لديه جلان من الديلم ومدا أيديهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 إلى المستكفي، فظن أنهما يريدان تقبيل يده، فمدها إليهما، فجذباه من على السرير وجعلا عمامته في عنقه، ثم سحب إلى معز الدولة واعتقل ثم خلع، وسملت عيناه، وانتهبت دار الخلافة حتى لم يبق فيها شيء. وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وتوفي في دار معز الدولة في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وهو ابن ست وأربعين سنة وكانت خلافته سنة وأربعة شهور. خلافة أبي الفضل المطيع لله ابن المقتدر وهو السادس فخلع ثم قام بالأمر بعده، ابن عمه أبو الفضل المطيع لله ابن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة وله يومئذ أربع وثلاثون سنة، يوم خلع ابن عمه المستكفي بالله، وتدبير المملكة إلى معز الدولة بن بويه، وفي أيامه توفي معز الدولة ببغداد في سنة ست وخمسين وثلاثمائة. وكانت مدة ملكه بالعراق إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرا. كان ملكا شجاعا مقداما قوي القلب، إلا أنه كان في أخلاقه شراسة، فما زالت التجارب تحنكه والسعادة تخدمه وترفعه، إلى أن بلغ الغاية التي لم يبلغها قبله أحد في الإسلام، إلا الخلفاء. ولما توفي قام ولده عز الدولة بختيار بتدبير المملكة، وقلده المطيع لله موضع والده، وخلع عليه واستقل بالأمور. وفي أيامه أيضا توفي كافور الاخشيدي صاحب مصر، في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة، وفيها قدم جوهر القائد، غلام المعز لدين الله صاحب القيروان، مصر. فأقام الدعوة بها للمعز لدين الله وبايعه بها الناس على ذلك. وانقطعت الخطبة بمصر عن بني العباس، وشرع جوهر القائد في بناء القاهرة لإسكان الجند بها، ثم دخل المعز لدين الله مصر لثمان مضين من شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثمائة. وهو أول الخلفا الفاطميين، بمصر. ولما تغلب سبكتكين التركي على بغداد، وكان أكبر حجاب معز الدولة، ولم تزل منزلته ترتفع عند معز الدولة، حتى عظم أمره ونفذت كلمته، وخاف المطيع لله منه على نفسه، وانضاف إلى ذلك أنه لازمه مرض، فخلع نفسه من الخلافة طائعا، وسلمها لولده عبد الكريم وقيل أبي بكر وقيل إنها كنيته، وسماه الطائع لله وذلك لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلاثمائة ثم توفي بدير العاقول «1» ، سنة أربع وستين وثلاثمائة وكان بين خلعه وموته شهران. وكان عمره ثلاثا وستين سنة وكان وطيء الجانب كثير الصدقات، غير أنه كان مغلوبا على أمره وليس له من الخلافة إلا الإسم وكانت خلافته تسعا وعشرين سنة وأربعة شهور رحمة الله تعالى عليه. خلافة أبي بكر عبد الكريم الطائع لله ثم قام بالأمر بعده، ولده عبد الكريم أبو بكر الطائع لله، بويع له بالخلافة يوم خلع أبوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 نفسه، من الخلافة وعمره سبع وأربعون سنة، ولم يل الخلافة من بني العباس من هو أكبر سنا. قال صاحب رأس مال النديم: إنه لم يتقلد الخلافة من أبوه حي، سوء الطائع لله والصدّيق رضي الله تعالى عنه، وكلاهما إسمه أبو بكر. وهو السادس، فخلع كما سيأتي إن شاء الله تعالى وذلك إذا لم يعد ابن المعتز وإن عد فالمطيع هو السادس، وقد خلع نفسه لما حصل له من الفالج، ولما ولي، أعني الطائع خلع على سبكتكين التركي، وولاه ما وراء بابه. وفي أيام الطائع استولى الملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه، على بغداد وملكها، فخلع عليه الطائع لله الخلع السلطانية، وتوجه وطوقه وسوره. وعقد له لواءين، وولاه ما وراء بابه. وتسلم عضد الدولة الوزير أبا طاهر بن بقية «1» وزير عز الدولة وصلبه، فرثاه أبو الحسن بن الأنباري «2» بمرثيه لم يسمع في مصلوب مثلها فلنأت بها وهي هذه «3» : علو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات كأن الناس حولك إذ أقاموا ... وفود نداك أيام الصّلات «4» كانك قائم فيهم خطيبا ... وكلهم قيام للصلاة مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدكها إليهم بالهبات «5» ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الممات أصاروا الجو قبرك واسعاضوا ... عن الأكفان ثوب السافيات لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحراس وحفاظ ثقات «6» وتوقد حولك النيران قدما ... كذلك كنت أيام الحياة «7» ركبت مطية من قبل زيد ... علاها في السنين الماضيات وتلك قضية فيها تأس ... تباعد عنك تعيير العداة «8» ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات أسأت إلى النوائب فاشتثارت ... فأنت قتيل ثأر النائبات وكنت تجيرنا من صرف دهر ... فعاد مطالبا لك بالترات «9» وصير دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات وكنت لمعشر سعدا فلما ... مضيت تفرقوا بالمنحسات غليل باطن لك في فؤادي ... حقيق بالدموع الجاريات «10» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ولو أني قدرت على قيام ... بفرضك والحقوق الواجبات ملأت الأرض من نظم القوافي ... ونحت بها خلاف النائحات ولكني أصبر عنك نفسي ... مخافة أن أعد من الجناة ومالك تربة فأقول تسقى ... لأنك نصب هطل الهاطلات عليك تحية الرحمن تترى ... برحمات غواد رائحات وتوفي الملك عضد الدولة بن بويه في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وهو ابن تسع وأربعين سنة وأحد عشر شهرا أو كان له ملك العراق وكرمان وعمان وخوزستان والموصل وديار بكر وحران ومنيج. وكانت مدة ملكه ببغداد خمس سنين. وكان ملكا فاضلا، جليلا عظيما، مهيبا صارما، كريما شجاعا بطلا ذكيا، وله في الذكاء أخبار عجيبة ونكت غريبة، ليس هذا موضع ذكره. وهو أول من تسمى بملك في الإسلام. ولما احتضر جعل يقول: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ «1» ويرددها حتى مات، ولما مات كتم موته ودفن بدار المملكة ببغداد. ثم ظهر موته وأخرج من قبره، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فدفن به. وكان عضد الدولة قد بنى المشهد قبل موته، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفهد. ومما يحكى أن عضد «2» الدولة خرج يوما إلى بستان له متنزها فقال: ما أطيب يومنا هذا لو ساعدنا فيه الغيث فجاء المطر في الوقت فقال «3» : ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السّجر ناعمات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر «4» مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر «5» سهل الله له بغيته ... في ملوك الأرض ما دار القمر وأراه الخير في أولاده ... ليساس الملك منهم بالغرر فلم يفلح بعد هذه الأبيات وعوجل بقوله غلاب القدر، ولما مات عضد الدولة قام بتدبير المملكة بعده ولده بهاء الدولة فخلع عليه الطائع لله وقلده ما كان بيد أبيه. ثم إن بهاء الدولة أمسك الطائع لله واعتقله، ونهب دار الخلافة ثم أشهد على الطائع بخلع نفسه من الخلافة. وذلك في شهر شعبان سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وأقام مخلوعا معتقلا إلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 توفي في ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وكانت خلافته سبع عشرة سنة وتسعة أشهر. وعمره ثمان وسبعون سنة وكان مربوعا أشقر كبير الأنف شديد القوة في خلقه حدة، كريما شجاعا بطلا جوادا سمحا إلا أن يده كانت قصيرة مع ملوك بني بويه رحمة الله تعالى عليه. خلافة أبي العباس أحمد القادر بالله بن إسحاق ثم قام بالأمر بعده، أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بن المعتضد. بويع له بالخلافة ليلة خلع الطائع لله وعمره يومئذ أربع وأربعون سنة. وكان كثير البرّ والصدقات، مريدا للفقراء مؤثرا للتبرك بهم، لكنه كان مقهورا على أمره. وتوفي في ذي القعدة، ويقال في ليلة الأضحى، ويقال ليلة الحادي عشر من ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين واربعمائة، وهو ابن ست وثمانين سنة وكانت خلافته إحدى وأربعين سنة وشهورا قيل: هي ثلاثة، وقيل إنه كان ابن سبع وثمانين سنة. وكان أبيض طويل اللحية. كبيرها يخضبها لشيبه. وكان دائم التهجد كثير الصدقات من الديانة على عفة اشتهرت عليه. له مصنف في السنة وذم المعتزلة والروافض. وكان يقرإ القرآن في كل جمعة مرة ويحضره الناس. خلافة أبي جعفر عبد الله القائم بأمر الله بن القادر بالله ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو جعفر عبد الله القائم بأمر الله بن القادر. بويع له بالخلافة يوم موت والده. وفي أيامه كان ابتداء دولة السلاطين السلجوقية، وانقراض دولة بني بويه، وكانت مدة ملكهم مائة وسبعا وعشرين سنة، وذلك في سنة ثلاثين وأربعمائة. ذكر ذلك ابن البطريق في تاريخه في حوادث سنة ست وأربعين. وكان القائم بأمر الله أبيض اللون مليح الوجه مشربا بحمرة، ورعا زاهدا عابدا، مريدا لقضاء حوائج المسلمين موقرا لأهل العلم، معتقدا في الفقراء والصالحين، حسن الطوية. ولم يقم أحد في الخلافة قدر إقامته، وكان كثير الصدقة، له فضل وعلم، من خيار الخلفاء لا سيما بعد عوده للخلافة، في نوبة البساسيري فإنه صار يكثر الصيام والتهجد. وما كان ينام إلا على سجادة وما تجرد من ثيابه لنوم قط. وتوفي القائم بأمر الله في سنة سبع وتسعين وأربعمائة لعشر ليال مضت من شعبان، وكانت خلافته أربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر وقيل تسعة أشهر وقيل خمسا وأربعين سنة وأمه أرمنية رحمه الله تعالى. خلافة أبي القاسم المقتدي بأمر الله بن محمد بن القائم ثم قام بالأمر بعده ولد ولده أبو القاسم عبد الله المقتدي بأمر الله بن محمد بن القائم بأمر الله. بويع له بالخلافة يوم وفاة جده القائم بأمر الله، في ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. وذلك أن جده كان لما مرض افتصد، فانفجر فصاده، وخرج منه دم عظيم، فخارت قوته وعجر. فطلب ابن ابنه وعهد إليه بالأمر ولقبه المقتدي بأمر الله بمحضر من الأئمة والعلماء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وكان ولد بعد موت أبيه ذخيرة الدين، بستة أشهر وعمرت بغداد في أيامه، وخطب له بالحجاز واليمن والشام. حكي: أن المقتدي قدم إليه يوما طعام، فتناول منه وغسل يديه، وهو على أكمل حال وأحسن هيئة في نفسه وجسمه، وبين يديه قهرمانته شمس، فقال لها: ما هذه الأشخاص الذين دخلوا بغير إذن؟ فالتفتت فلم تر أحدا، ثم نظرت إليه فرأته قد تغير وجهه، واسترخت يداه وانحلت قواه وسقط إلى الأرض، فظنت أنه قد غشي عليه، فإذا هو قد مات. فأمسكت نفسها عن البكاء، واستدعت الخادم فاستدعى الوزير أبا منصور، فبكيا وأحضرا أبا العباس أحمد المستظهر بن المقتدي وكان قد عهد إليه أبوه فعزياه وهنآه. وكان عمره ثلاثا وثلاثين سنة. وكانت خلافته تسع عشرة سنة وأشهرا قيل: هي ثلاثة وقيل: إن عمره كان تسعا وثلاثين سنة وكان موته في المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة ويقال: إن جاريته سمته، وقد كان السلطان صمم على إخراجه من بغداد إلى البصرة وكانت حرمته وافرة بخلاف من كان قبله من الخلفاء رحمه الله تعالى. خلافة المستظهر بالله أبي العباس أحمد ثم قام بالأمر بعده، ابنه المستظهر بالله أبو العباس أحمد. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه بعهد منه. وكان مولده في سنة سبعين وأربعمائة، وكان المستظهر كريم الأخلاق سخي النفس محبا للعلماء، حافظا للقرآن منكرا للظلم. وكان لين الجانب محبا للخير، جيد الأدب والفضيلة، قوي الكتابة مسارعا في أعمال البر. توفي لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وخمسمائة. وله إحدى وأربعون سنة. وقيل اثنتان وأربعون أو ثلاث بعلة التراقي وهي الخوانيق وخلف أولادا عدة، وتوفيت جدته أرجوان بعده بيسير في خلافة ابنه المسترشد وهي سرية محمد الذخيرة. وكانت خلافته أربعا وقيل خمسا وعشرين سنة وثلاثة أشهر رحمه الله تعالى. خلافة أبي منصور الفضل المسترشد بالله بن المستظهر ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو منصور الفضل المسترشد بالله بن المستظهر بالله، بويع له بالخلافة يوم موت والده بعهد من أبيه، وسنه يومئذ سبع وعشرون سنة. وروي أنه ورد إليه رسل، فجلس لهم في جماعة من أهل بيته، فلما أحضروهم بين يديه، هجم عليهم الفداوية بالسكاكين فقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه. يقال إن مسعودا أخا السلطان محمود جهز عليه الفداوية. وذلك في سابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وكانت خلافته سبع عشرة سنة وثمانية شهور وقيل سبعة أو ستة أشهر وعاش أربعا وأربعين سنة، وقيل خمسا وأربعين ولم يل الخلافة بعد المعتضد بالله أشهم منه. وكان بطلا شجاعا مقداما شديد الهيبة ذا رأي وفطنة وهمة عالية ضبط الأمور وأحيا مجد بني العباس وجاهد غير مرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 خلافة أبي منصور جعفر الراشد بالله هو السادس، فخلع كما سيأتي هذا إذا لم يعد ابن المعتز، وإلا فالسادس المسترشد، وقد هجم عليه قاعدته أي الباطنة، أرسلهم إليه السلطان سنجر الملقب ذا القرنين، فقتلوه ثم قام بالأمر بعده، يعني المسترشد، ابنه أبو منصور جعفر الراشد بالله بن المسترشد بن المستظهر. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه بعهد منه، فمكث ما شاء الله ثم وقع بينه وبين السلطان مسعود. فاستخدم الراشد أجنادا كثيرة وتهيأ للقائه، فكاتب السلطان مسعود أتابك زنكي واستماله، وكذلك فعل بأرتقش فأشارا على الراشد بالتوقف، وأقبل السلطان مسعود بجيوشه، فدخل بغداد في ذي القعدة، وقيل في ذي الحجة سنة ثلاثين وخمسمائة. فنهب دور الجند، ومنع من نهب البلد. واستمال الرعية وأحضر القضاة والشهود فقدحوا في الراشد بأنه صدرت منه سيرة قبيحة من سفك الدماء المحرمة، وارتكاب المنكرات، وفعل ما لا يجوز فعله، وشهدوا عليه بذلك فحكم قاضي قضاة الممالك وهو ابن الكرخي، والعلم عند الله تعالى بخلعه، فخلعوه لأربع عشرة من ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة. وكان الراشد قد هرب هو وأتابك زنكي، إلى الموصل فطلبه السلطان مسعود، فهرب إلى فارس ثم دخل أصبهان، فحاصرها وتمرض هناك، فوثب عليه جماعة من الفداوية فقتلوه. وله إحدى وعشرون سنة وقيل ثلاثون سنة. وكانت خلافته إلى أن خلع منها سنة إلا أياما، وكان قتله في سنة اثتنين وثلاثين وخمسمائة وهو صائم، في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان، وقيل: إنه كان قد سقي أيضا، ودفن في جامع حيي. وخلف بضعا وعشرين ولدا ذكرا، وخطب له بولاية العهد أكثر أيام أبيه، وكان شابا أبيض مليحا تام الشكل شديد البطش، شجاع النفس حسن السيرة شاعرا فصيحا جوادا كريما لم تطل دولته رحمة الله تعالى. خلافة أبي عبد الله محمد المقتفي لأمر الله ثم قام بالأمر بعده، عمه أبو عبد الله محمد بن المستظهر بن المقتدي. بويع له بالخلافة يوم خلع ابن أخيه. ولقب بالمقتفي لأمر الله، وسبب لقبه بهذا أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، قبل خلافته بستة أشهر، وقيل بسنة، وهو يقول له: إنه سيصل إليك هذا الأمر فاقتف بي، وكان آدم اللون بوجهه أثر جدري، مليح الشيبة عظيم الهيبة، سيدا عالما فاضلا، دينا حليما شجاعا، فصيحا مهيبا خليقا للإمارة، كامل السودد عظيم المملكة بيده أزمة الأمور كان لا يجري في خلافته أمر، وإن صغر إلا بتوقيعه. وكانت أمه حبشية، كتب في أيام خلافته ثلاث ربعات. وكانت وفاته بالخوانيق، في شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وهو ابن ست وستين سنة، وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وقيل: خمسا وعشرين سنة وقد جدد باب الكعبة، وعمل لنفسه من العقيق تابوتا دفن فيه. وقد رأيت فيما نقلته من خط صاحبنا الحافظ صلاح الدين خليل بن محمد الآقفهسي، فيما نقله من خط الصدر عبد الكريم، العلامة ابن العلامة علاء الدين القونوي أن القائم بالأمر بعد المقتفي المستظهر. كذا ذكره ولا أعلم من هذا المستظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فليحرر ذلك وقد ذكر الخلفاء كما هنا الذهبي على هذا الترتيب. خلافة أبي المظفر يوسف المستنجد بالله بن المقتفي ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو المظفر يوسف المستنجد بالله بن المقتفي، وكان أبوه ولاه العهد في سنة سبع وأربعين وخمسمائة. بويع له بالخلافة بعد موت أبيه بيوم وقيل بل يوم مات أبوه، قال ابن خلكان في ترجمته: وهنا نكتة لطيفة وهي أن المستنجد رأى في منامه، في حياة والده المقتفي أن ملكا نزل من السماء، فكتب في كفه أربع خاآت، فطلب معبرا وقص عليه ما رآه، فقال له: تلي الخلافة سنة خمس وخمسين وخمسمائة فكان كذلك. وتوفي في سنة ست وسبعين وخمسمائة في ثامن شهر ربيع الثاني وحبس في حمام، وهو ابن ثمان وأربعين سنة وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وكان موصوفا بالعدل والديانة وأبطل المكوس وقام كل القيام على المفسدين وله شعر وسط وأمه طاوس الكوفية أدركت دولته. خلافة المستضيء بنور الله بن المستنجد ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو الحسن علي المستضيء بنور الله بن المستنجد. بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه، وخطب له بالديار المصرية واليمن، وكانت الدولة العباسية منقطعة منهما، من زمن المطيع، وكان جوادا كريما مؤثرا للخير كثير الصدقات معظما للعلم وأهله. وتوفي في سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وعاش تسعا وثلاثين. وكان سمحا جوادا محبا للسنة، أمنت البلاد في زمنه، وأبطل مظالم كثيرة، واحتجب عن أكثر الناس ولم يكن يركب إلا مع مماليكه ولم يكن يدخل عليه غير الأمير قيماز «1» . خلافة أبي العباس أحمد الناصر لدين الله ثم قام بالأمر بعده، ابنه أبو العباس أحمد الناصر لدين الله بن المستضيء. بويع له بالخلافة في بغداد يوم وفاة أبيه، في أول ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وعمره ثلاث وعشرون سنة فبسط العدل وأمر باراقة الخمور وكسر الملاهي وإزالة المكوس والضرائب. فعمرت البلاد، وكثرت الأرزاق، وقصد الناس بغداد، وتبركوا به. توفي سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وهو ابن خمسين سنة وذلك في سلخ شهر رمضان، وحمل على أعناق الرجال إلى البدرية ودفن بها رحمة الله تعالى عليه. وكانت خلافته سبعا وعشرين سنة، وكان أبيض تركي الوجه، أقنى الانف مليحا خفيف العارضين، أشقر اللحية رقيق المحاسن، فيه شهامة وإقدام وله عقل وكان فيه دهاء وفطنة، وتيقظ ونهضة بأعباء الخلافة. وكان في أكثر الليل يشق الدروب والأسواق. وكان الناس يتهيبون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 لقاءه، وكان مستقلا بالأمور في العراق، متمكنا من الخلافة، يتولى الأمور بنفسه. وما زال في عز وجلالة، واستظهار وسعادة، أظهر القسي والبندق والحمام في أيامه وهو أطول بني العباس خلافة وكان له عيون على كل سلطان، يأتونه بالأخبار. ويحكى أن بعض الكبار كان يعتقد فيه أن له كشفا، وإطلاعا على المغيبات وفي آخر أيامه أصابه الفالج بقي معه سنتين وذهب عنه وكان فيه عسف للرعية. خلافة الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله ثم قام بالأمر بعده، ابنه محمد الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله. بويع له بالخلافة يوم موت أبيه، فعمل عزاءه ثلاثة أيام وأحسن إلى الناس وأبطل المكوس وأزال المظالم، وأرسل الخلع إلى أولاد الملك العادل أبي بكر بن أيوب، ثم إن حاجبه قرايغدي بلغه أنه يريد قتله، فهجم عليه وامسكه وأشهد عليه بالخلع، وقتله فعمل له العزاء في البلاد كلها لأجل إحسانه إليهم. وكان ذلك في سنة أربعين وستمائة، وهو ابن ثلاثين سنة. وكانت خلافته ثماني عشرة سنة. هكذا لقيت هذه الترجمة في النسخة التي نقلت منها وفيها تخليط لأنها تحتوي على بعض ترجمة الظاهر بأمر الله وبعض ترجمة المستنصر بالله وأظن أن ذلك من الناسخ. وهذه ترجمة كل واحد منهما على حدته والله الموفق. فالظاهر بأمر الله، هو أبو النصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بنور الله حسن بن أبي الحسن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد العباسي. كان أبوه قد خطب له بولاية العهد، فلما توفي تسلم الخلافة، وبايعه الكبار في يوم موته. وكان مولد في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ووفاته في ثالث عشر رجب سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وله اثنتان أو ثلاث وخمسون سنة، وكانت خلافته تسعة أشهر، وقيل نصفا. وكان جميل الصورة أبيض مشربا بحمرة، حلو الشمائل شديد القوى، فيه دين وعقل ووقار، وخير وعدل، حتى بالغ فيه ابن الأثير فقال: لقد أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين. قيل له: ألا تتفسح وتتنزه؟ فقال لقد يبس الزرع. فقيل له يبارك الله في عمرك. فقال: من فتح دكانه بعد العصرايش يكسب؟ ثم قال: إنه أحسن إلى الرعبة، وبذل الأموال وأزال المظالم، وأبطل المكوس، وكان يقول: الجمع شغل التجار، أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال، اتركوني أفعل الخير فيكم ما بقيت أعيش. وقد فرق ليلة العيد مائة ألف دينار على العلماء والصالحين. والمستنصر بالله هو أبو جعفر، منصور بن الظاهر بأمر الله بن الناصر لدين الله العباسي، أمه تركية. ولد في سنة ثمان وثمانين وخمسمائة. وبويع له بالخلافة بعد موت أبيه، بايعه إخوته، وكان أكبرهم، وبنو عمه، وهو إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة. مات في بكرة يوم الجمعة عاشر جمادى الثانية، سنة أربعين وستمائة. وكان مليح الشكل كأبيه، وكان أشقر ضخما قصيرا، وخطه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 الشيب فخضب بالحناء ثم ترك قال ابن الساعي «1» : حضرت بيعته فلما رفعت الستارة وشاهدته وقد كمل الله صورته، ومعناه كان أبيض مشربا بحمرة أزج «2» الحاجبين، أدعج «3» العينين سهل الخدين، أقنى الأنف رحب الصدر، عليه ثوب أبيض، وقباء أبيض، وطرحة قصب بيضاء، فجلس إلى الظهر. وبلغني أن عدة الخلع التي خلعها بلغت ثلاثة آلاف خلعة وخمسمائة خلعة وسبعين خلعة. وكانت خلافته وافرة الحشمة، وفيه عدل ودين وقمع للمتمردين، ونهضة بأعباء الخلافة، ووقف المدارس والمساجد وبذل الأموال ودانت له الملوك، وكان جده الناصر يحبه ويسميه القاضي لعقله ومحبته للحق. وأنشأ المدرسة التي لا نظير لها في الدنيا، واستخدم عسكرا عظيما إلى الغاية حتى إن جريدة جيشه، بلغت نحو مائة ألف فارس استعدادا لحرب التتار، وقد خطب له بالأندلس وبعض بلاد المغرب. وكانت خلافته سبع عشرة سنة، فالله يتغمده برحمته ومغفرته فلم يخلع هو ولا أبوه. وبهذا انقضت القاعدة إلا أن التتار كان أمرهم قد عظم في أيامهما، فأخذوا جملة مستكثرة من بلاد الإسلام، وفقد جلال الدين خوارزم شاه في أيام المستنصر في وقعة كانت بينه وبين التتار، وهذا أعظم وأطم من الخلع. ثم لم ينتظم لبني العباس في العراق أمر بحيث إن من ولي بعد هؤلاء لم يكملوا العدة المشروطة، فإن الذي جاء بعدهم واحد وهو المستعصم بالله بن المستنصر وهو الذي قتله التتار. وانقرضت الدولة العباسية من العراق سنة ست وخمسين وستمائة، فإن المستعصم قتل في الثامن والعشرين من المحرم كما ستراه في ترجمته إن شاء الله تعالى. خلافة المستعصم بالله ثم قام بالأمر بعده، المستعصم بالله وهو أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر العباسي، آخر الخلفاء العراقيين، وكانت دولتهم خمسمائة سنة وأربعا وعشرين سنة. وكان مولد أبي أحمد في خلافة جد أبيه، قال المؤلف رحمه الله تعالى: بويع له بالخلافة يوم قتل الظاهر البيعة العامة وذلك في جمادى الأولى سنة أربعين وستمائة فظهر بهذه العبارة أن المؤلف جعل الترجمة السابقة للظاهر، ولم يجعل للمستنصر ترجمة وإن الناسخ نقل ذلك كما وجده. فالإعتماد على ما ذكرته من ترجمتهما، وهو السادس فخلع وقتل، في أيام هولاكو، لما أخذ بغداد، سنة خمس وخمسين وستمائة وكان ذلك بمواطأة وزيره ابن العلقمي، وسوء تدبير المستعصم، واشتغاله بلعب الحمام، وبما لا يليق به. وكان قد خرج إلى هولاكو ومعه الفقهاء والصوفية فقتلوا عن آخرهم. وأخذ المستعصم فخلع ووضع في جوالق وضرب بالمرازب وقيل بمداق الجص إلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 مات. ولم ينتظم لبني العباس بعده أمر، وذلك في الثامن والعشرين من المحرم سنة ست وخمسين وستمائة. وكان السبب في قتله أن الطاغية هولاكو بن قبلاي خان بن جنكز خان المغلي، لما كان في أوائل سنة ست وخمسين وستمائة قصد بغداد بجيش عرمرم، فخرج إليه الدويدار بالعسكر فالتقوا بطلائع هولاكو، وعليهم تايجو فانكسروا لقلتهم ثم أقبل تايجو فنزل غربي بغداد، ونزل هولاكو على شرقيها فأشار الوزير على الخليفة أن يخرج إلى هولاكو في تقرير الصلح، فخرج الكلب وتوثق لنفسه، ثم رجع فقال: إن هولاكو رغب في أن يزوج ابنته بابنك، وأن تكون الطاعة له كالملوك السلجوقية، ويرحل عنك فخرج الخليفة في أكابر الوقت، وأعيان دولته ليحضروا العقد، فضربوا رقاب الجميع، وقتل الخليفة. وكان حليما كريما سليم الباطن، قليل الرأي حسن الديانة، مبغضا للبدعة وبالجملة ختم له بخير. فإن الكافر هولاكو أمر به وبولده أبي بكر فرفسا حتى ماتا. وذلك في حدود آخر المحرم، وكان الأمر أشغل من أن يوجد مؤرخ لموته أو لمواراة جسده. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وبقي الوقت بلا خليفة ثلاث سنين فلما كان في شهر رجب سنة تسع وخمسين وستمائة بايع المصريون بمصر المستنصر بالله. خلافة المستنصر بالله أحمد بن الخليفة الظاهر بالله هو أحمد بن الخليفة الظاهر بالله بن محمد بن الناصر العباسي الأسود. كانت أمه حبشية وكان بطلا شجاعا، قدم مصر فعرفوه، وهو عم المستعصم المقتول. نهض بإقامة دولته ومبايعته السلطان الملك الظاهر «1» ففوض أمر الأمة إليه. ثم خرجا إلى الشام ثم إن الخليفة فارقه من ثم، وسار بعسكر نحو ألف ليملك بغداد فكان القتال بينه وبين التتار في آخر السنة فعدم في الوقعة، وكان في خدمته الحاكم أبو العباس أحمد فانهزم إلى الشام. خلافة الحاكم بأمر الله فلما كان في ثامن المحرم، سنة إحدى وستين وستمائة، عقد مجلس عظيم لعقد البيعة للخليفة، فأحضروا أبا العباس أحمد ابن الأمير أبي علي بن أبي بكر بن المسترشد بالله بن المستظهر بالله العباسي، فأثبت نسبه فعند ذلك مد السلطان الملك الظاهر يده وبايعه بالخلافة، ثم بايعه القضاة والأمراء. ولقب بالحاكم بأمر الله فلما كان من الغد خطب خطبة أولها: الحمد لله الذي أقام لبني العباس ركنا وظهرا، ثم كتب بدعوته وإمامته إلى الأقطار وبقي في الخلافة أربعين سنة وأشهرا وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة ودفن عند السيدة نفيسة رحمة الله تعالى عليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 خلافة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله عهد إليه بالأمر أبوه الحاكم بأمر الله، وقرىء تقليده بعد عزائه بوالده، وخطب له على المنابر في جمادى الأولى سنة إحدى وسبعمائة واستمر في الخلافة تسعا وثلاثين سنة. ومات بقوص في شعبان سنة أربعين وسبعمائة، وهو ابن بضع وخمسين سنة رحمة الله تعالى عليه. خلافة الحاكم بأمر الله أحمد بن المستكفي بالله كانت خلافته في المحرم سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة بويع للحاكم بأمر الله أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله العباسي. وكان ولي عهد أبيه. هكذا ذكره الحسيني في ذيله على العبر، وذكر الذهبي في آخر ذيله عليه في سنة أربعين وسبعمائة أن المستكفي، لما مات بويع لأخيه إبراهيم بغير عهد واستمر الحاكم في الخلافة إلى أن أتاه حمامه وهو بالقاهرة في سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة. خلافة المعتضد بالله بويع له بالخلافة، بعهد من أخيه الحاكم بأمر الله، ولقب بالمعتضد بالله وهو أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن أبي علي بن المسترشد بالله العباسي، فكانت خلافته نحوا من عشرين سنة ومات في رابع جمادي الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة بالقاهرة. خلافة المتوكل على الله بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه بعهد منه، في سابع جمادى الثانية سنة ثلاث وستين وسبعمائة. وكان مولده في سنة نيف وأربعين وسبعمائة أو قريب منها. وهو أبو عبد الله محمد وقيل حمزة المتوكل على الله بن المعتضد بالله العباسي، فاستقر في الخلافة إلى أن مات في شعبان سنة ثمان وثمانمائة غير أنه تخلل فيها أعوام خلع فيها، وبويع لقريبه زكريا بن إبراهيم في ثالث عشر صفر، سنة تسع وسبعين وسبعمائة ثم أعيد بعد شهر واستمر إلى شهر رجب سنة خمس وثمانين، فخلع وحبس وبويع لعمر بن المعتضد ولقب بالواثق ثم مات، فبويع لأخيه زكريا ولقب بالمستعصم واستمر المتوكل محبوسا إلى صفر سنة إحدى وتسعين، فأفرج عنه ثم ضيق عليه، ومنع الناس من الدخول إليه فلما كان في سابع عشر شهر ربيع الأول أفرج عنه، فلما كان اليوم الأول من جمادى الأولى بويع ونزل إلى داره وفي خدمته الأمراء القضاء وكان يوما مشهودا واستمر إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه. خلافة المستعين بالله هو أبو الفضل العباس بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 سليمان بن أحمد العباسي، عهد إليه أبوه بالخلافة، وكان قد عهد قبله لولده الآخر المعتمد على الله أحمد، ثم خلعه وولى هذا واستمر أحمد مخلوعا إلى أن مات، فلما مات المتوكل، بويع ابنه العباس، في شهر رجب سنة ثمان وثمانمائة واستمر في الخلافة إلى أن حوصر الملك الناصر فرج» بن برقوق بدمشق، وقيل: بويع له بالسلطنة مضافة إلى الخلافة في يوم السبت خامس عشر المحرم، سنة خمس عشرة وثمانمائة، اجتمع أهل الحل والعقد والقضاة والأمراء ومن حضر، فسألوه في ذلك فامتنع واشتد امتناعه وصمم، ثم إنه أجابهم إلى ذلك بعد أن توثق منهم بالأيمان، ولم يغير لقبه. وضربت سكة الذهب والفضة بإسمه وتصرف بالولاية والعزل وفي الحقيقة إنما كانت إليه العلامة والخطبة فلما توجه العسكر إلى مصر كانت الأمراء كلهم في خدمته على هيئة السلطنة ولكن الحل والعقد للأمير شيخ «2» . فلما كان اليوم الثامن من شهر ربيع الثاني دخل مصر، فشقها والأمراء بين يديه، وكان يوما مشهودا فاستمر إلى القلعة فنزلها ونزل شيخ في الإصطبل بباب السلسلة فلما كان في اليوم الثامن. () «3» دخل شيخ والأمراء إلى القصر، وجلس الخليفة على تخت المملكة، وخلع على شيخ خلعة عظيمة بطراز لم يعهد مثله، وفوض إليه أمر المملكة، ولقبه بنظام الملك. فكان يدعى لهما على المنابر في الحرمين وغيرهما. وصار الأمراء إذا فرغوا من الخدمة في القصر، نزلوا إلى خدمة شيخ في الإصطبل، فأعيدت الخدمة عنده ووقع الإبرام والنقض، ثم يتوجه دويداره إلى الخليفة، فيعلم على المناشير والتواقيع، واستمر الأمر على ذلك مدة، وكان شيخ يظن أن الخليفة يتوجه إلى بيته ويستعفي من السلطنة، فلما لم يفعل أعرض عنه، ولم يبق عنده إلا من يخدمه من حاشيته، فلما كان في يوم الإثنين مستهل شعبان أحضر شيخ أهل الحل والعقد والقضاة والأمراء والمباشرين، فبايعوه بالسلطنة ولقبوه بالملك المؤيد أبي النصر ثم إنه صعد القصر وجلس على تخت المملكة فقبل الأمراء الأرض بين يديه وصافحه القضاة وأهل الوظائف، وأرسل إلى الخليفة يسأله أن يشهد عليه بتفويض السلطنة له على عادة من تقدمه، فأجابه بشرط أن يذهب إلى بيته، فلم يوافقه على ذلك أياما ثم إنه نقله من القصر، وأنزله في دار من دور القلعة، ومعه أهله ووكل به من يمنع الناس من الدخول إليه، فلما كان في ذي القعدة قطع الدعاء للخليفة على المنابر. وكان قبل أن يلي السلطنة يدعى له مع السلطان واستمر في الخلافة إلى أن خلع في سنة ست عشرة فلما خرج المؤيد إلى نيروز «4» أرسله إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الإسكندرية فعقل بها، ولم يزل بها إلى أن استقرططر «1» في المملكة، فأرسل في إطلاقه وأذن له في المجيء إلى القاهرة فاختار الإقامة في الاسكندرية، لأنها لاقت بحاله، واستطابها وحصل له بها مال جزيل، من التجارة فاستمر إلى أن مات فيها شهيدا بالطاعون سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة. فصل: فيما يجب على من يصحب الخلفاء الراشدين، وأمراء المؤمنين، والملوك والسلاطين. قال الشعبي: قال لي عبد الله بن عباس، قال لي العباس: اي بني إني أرى هذا الرجل، يعني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، يقدمك على كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أوصيك بكلمات أربع لا تفشين لهم سرا، ولا تحدثنهم كذبا، ولا تطرين عندهم نصيحة، ولا تغتابن لديهم أحدا. قال الشعبي: فقلت لابن عباس: كل واحدة منهن خير من ألف، قال: إي والله، ومن عشرة آلاف. قال بعض الحكماء: إذا زادك السلطان إكراما، فزده إعظاما وإذا جعلك ولدا فاجعله سيدا، وإذا جعلك أخا فاجعله والدا، ولا تديمن النظر إليه، ولا تكاسر من الدعاء له، ولا تتغير منه إذا سخط، ولا تغتر به إذا رضي ولا تلح في مسألته وقد قيل في المعنى: قرب الملوك يا أخا البدر السني ... حظ جزيل بين شدقي ضيغم قال الفضل بن الربيع «2» : من كلم الملوك في حاجة في غير وقتها، جهل مقامه وضاع كلامه، وما أشبه ذلك إلا بأوقات الصلاة، التي لا تقبل إلا في وقتها. قال خالد بن صفوان «3» : من صحب السلطان بالنصيحة والأمانة، كان أكبر عدو له، ممن صحبه بالفسق والخيانة، لأنه يجتمع على الناصح عدو السلطان وصديقه، بالعداوة والحسد، فعدو السلطان يبغضه لنصيحته، وصديقه ينافسه في مرتبته. قال أفلاطون «4» الحكيم: إذا خدمت ملكا، فلا تطعه في معصية ربك، فإن إحسانه إليك أفضل من إحسانه إليك، وإيقاعه بك أغلظ من إيقاعه بك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تواضع لغني لأجل غناه، ذهب ثلثا دينه» . رواه البيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود وأنس بلفظ: «من أصبح حزينا على الدنيا، أصبح ساخطا على ربه، ومن أصبح يشكو مصيبته فإنما يشكو ربه، ومن دخل لغني فتضعضع له، ذهب ثلث دينه» . وأخرج الديلمي، من حديث أبي ذر: «لعن الله فقيرا يتواضع لغني من أجل ماله. من فعل ذلك فقد ذهب ثلثا دينه» . وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه» . وروى «5» أحمد عن بعض الصحابة مرفوعا «إنك لا تدع شيئا اتقاء الله إلا أعطاك الله خيرا منه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وقال افلاطون الحكيم: من لم يعتبر بالتجارب، أوقعه الله في المهالك. وقال: كفى بالتجارب تأديبا وبتقلب الأيام عظة. وقال: الملك كالنهر الأعظم تستمد منه الأنهار الصغار، فإن كان عذبا عذبت، وإن كان مالحا ملحت. وسئل عن الرجل العاقل فقال: من اجتمعت فيه خصال الأدب، ولا يقهره الغضب، لأن العقل أصله التثبت في الأمور، وثمرته السلامة. وقال: السلطان كالسوق ما راج فيه حمل إليه، وصاحب الملك كراكب الأسد تهابه الناس، وهو لمركوبه أهيب. وقال: من عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل. ومن أطلق بصره، طال أسفه، ومن طال أمله ساء عمله. ومن أطلق لسانه، قيد نفسه. ومن أصلح فاسده أرغم حاسده. ومن قاسى الأمور، فهم المستور. ومن أحب المكارم اجتنب المحارم. ومن حسنت به الظنون، رمقته الرجال بالعيون. وقال الأدب ينوب عن الحسب. العفو يفسد اللئيم، بقدر ما يصلح الكريم. من شاور ذوي الألباب، دل على الصواب. من أمل إنسانا هابه، ومن قصر عن شيء عابه. من بالغ في الخصومة أثم، ومن قصر عنها ظلم. ولا يستطيع أن يتقي الله من خاصم. من فرط في الأمانة ضدها عمل. من عرض نفسه لما قصر عنه فعله، فقد نقص في عين غيره. من جاد ساد، ومن ساد قاد، ومن قاد بلغ المراد. ظلم الأيامى واليتامى مفتاح العقر. لا يصلح للصدر إلا من يكون واسع الصدر. ما تاه إلا وضيع، ولا فاخر إلا لقيط، ولا تعصب إلا بخيل، ولا أنصف إلا كريم. الحاجة إلى الأخ المعين، كالحاجة إلى الماء المعين. الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا لوطف. أقرب الناس إلى الله، أكثرهم عفوا عند القدرة. وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه. من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ. من رضي بالقضاء، صبر على البلاء. من عمر دنياه ضيع ماله. ومن عمر آخرته بلغ آماله. القناعة عز المعسر، والصدقة كنز الموسر. من سره فساده ساء معاده. الشقي من جمع لغيره، وبخل على نفسه. الخير أجل بضاعة، والإحسان أفضل صناعة. من استغنى عن الناس، أمن من عوارض الإفلاس. من رفع حاجة إلى الله، استظهر في أمره. ومن رفعها إلى الناس وضع من قدره. من أبدى سر أخيه أبدى الله أسرار مساويه. أعص الجاهل تسلم، وأطع العاقل تغنم. ازدياد الأدب عند الأحمق، كازدياد الماء العذب في أصول الحنظلة، لا يزيدها إلا مرارة. مكتوب في الإنجيل: كما تدين تدان، بالكيل الذي تكيل تكال. وكان بعض الخلفاء يتلطف في ادخال السرور على إخوانه، فيضع عندهم الصرة فيها ألف درهم، ويقول لبعضهم: امسكها حتى أعود إليك، ثم يرسل إليه بعض غلمانه فيقول له: أنت في حل من ذلك. وقال بعض الحكماء: أحزم الناس: من وقي نفسه بماله، ووفي دينه بنفسه، وأجود الناس: من عاش الناس في فضله. وأفضل اللذات التفضل على الإخوان. وقال: المعروف ذخيرة الأدب، والبر غنيمة الحازم، والخير عطر الأخيار من بذل ماله، استعبد أمثاله. ومن أذل فلسه، أعز نفسه. وإن صاحب المعروف لا يقع وإن وقع وجد متكأ. وقال: إمام عادل خير من مطر وإبل. وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم. وقال: فضل الملوك في الإعطاء، وشرفهم في العفو، وعزهم في العدل. والعدل هو نظام العالم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وقال «1» صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل» . فبدأ بالعدل، وقال عليه الصلاة والسلام: «عدل السلطان يوما يعدل عبادة سبعين سنة» . وقال عليه الصلاة والسلام: «عدل ساعة في الحكومة خير من عبادة ستين سنة» . وقال صلى الله عليه وسلم: «السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار كان عليه الإثم وعلى الرعية الصبر» . خلافة المعتضد بالله أبي الفتح داود بويع له بالخلافة في سابع عشر ذي الحجة سنة ست عشرة وثمانمائة، عوضا عن أخيه المستعين بالله، لما خلعه الملك السلطان المؤيد، فاستدعاه وأجلسه بينه وبين القاضي الشافعي صالح البلقيني وقرره في الخلافة فاستمر فيها إلى أن مات يوم الأحد الرابع من شهر ربيع الأول سنة خمس وأربعين وثمانمائة وقد قارب السبعين بعد مرض طويل رحمة الله تعالى عليه. خلافة المستكفي بالله هو سليمان أبو الربيع بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن سليمان بن أحمد العباسي. بويع له بالخلافة يوم مات أخيه شقيقه المعتضد بالله بعهد منه في العشر الأول من شهر ربيع الأول من سنة خمس وأربعين وثمانمائة. قال الشيخ صلاح الدين الصفدي «2» في شرح لامية العجم. قلت: وكذلك العبيديون الذين تسموا بالفاطميين، خلفاء مصر، فأول من ملك منهم بالمغرب المهدي، ثم القائم ثم إبنه المنصور ثم المعز وهو أول من ملك مصر منهم كما تقدم، ثم العزيز ثم كان السادس الحاكم فقتلته أخته. وسيأتي له ذكر ان شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة في لفظ الحمار. ثم قال: وإنها لما قتلته ولت ابنه الظاهر، ثم كان المستنصر ثم المستعلي ثم الآمر ثم الحافظ، ثم كان السادس الظافر، فخلع وقتل، ثم ولي ابنه الفائز، ثم العاضد وهو آخرهم. قال: وكذلك بنو أيوب في ملك مصر، فأولهم صلاح الدين الملك الناصر، ثم ابنه العزيز ثم أخوه الأفضل بن صلاح الدين ثم العادل الكبير أخو صلاح الدين، ثم الكامل ولده، ثم كان السادس العادل الصغير، فقبض عليه أرباب دولته وخلعوه، وولوا الملك الصالح نجم الدين أيوب، ثم ولده المعظم تورانشاه، وهو آخرهم. قال: وكذلك دولة الاتراك، فأولهم: المعز عز الدين أيبك الصالحي، ثم ابنه المنصور، ثم المظفر قطز ثم الظاهر بيبرس، ثم ابنه السعيد محمد، ثم كان السادس العادل سلامش بن الظاهر بيبرس، فخلع. ثم ملك السلطان المنصور قلاوون الألفي انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى دولة العبيديين، وغيرهم من ملوك مصر، على الإجمال مختصرا. وها أنا أذكرهم مفصلا مبينا، وذلك أن الحسين بن محمد بن أحمد بن عبد الله القداح، وذلك أنه كان يعالج العيون، ويقدحها ابن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، قدم إلى سلمية، قبل وفاته، وكان له بها ودائع وأموال، من ودائع جدّه عبد الله القداح، فاتفق أنه جرى بحضرته ذكر النساء، فوصفوا له امرأة يهودي حداد، مات عنها زوجها، وهي في غاية الحسن والجمال، وله منها ولد يماثلها في الجمال، فتزوجها وأحبها وحسن موضعها منه، وأحب ولدها فعلمه فتعلم العلم، وصارت له نفس عظيمة وهمة كبيرة، وكان الحسين يدّعي أنه الوصي، وصاحب الأمر، والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه، ولم يكن له ولد، فعهد إلى ابن اليهودي الحداد، وهو عبيد الله المهدي أول من ملك من العبيديين. ونسبهم إليه، وعرفه أسرار الدعوة من قول وفعل وأمر الدعاة، وأعطاه الأموال والعلامات، وأمر أصحابه بطاعته وخدمته، وقال: إنه الإمام والوصي، وزوجه بابنة عمه، فوضع حينئذ المهدي لنفسه نسبا: وهو عبيد الله بن الحسين بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. بعض الناس يقول: إنه من ولد القداح، فلما توفي الحسين، وقام بعده المهدي، انتشرت دعوته، وأرسل إليه داعية بالمغرب يخبره بما فتح الله عليه من البلاد، وإنهم ينتظرونه فشاع خبره عند الناس، أيام المكتفي، فطلب فهرب هو وولده أبو القاسم نزار الملقب بالقائم، وهو يومئذ غلام ومعهما خاصتهما ومواليهما يريدان المغرب. فلما وصلا إلى افريقية أحضر الأموال منها، واستصحبها معه فوصل إلى رقادة في العشر الأخير من شهر ربيع الآخر، سنة سبع وتسعين ومائتين ونزل في قصر من قصورها، وأمر أن يدعى له في الخطبة يوم الجمعة في جميع تلك البلاد ويلقب بأمير المؤمنين المهدي وجلس للدعاء في يوم الجمعة. فأحضر الناس بالعنف، ودعاهم إلى مذهبه، فمن أجاب أحسن إليه ومن أبي حبسه. فابتداء دولتهم سنة سبع وتسعين ومائتين، فأولهم المهدي عبيد الله ثم ابنه القائم نزار، ثم ابنه المنصور اسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من ملك مصر من العبيديين، وكان ذلك في سابع عشر شعبان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. ودعي له فيها يوم الجمعة العشرين من شعبان على المنابر، وانقطعت خطبة بني العباس من الديار المصرية من يومئذ، وكان الخليفة العباسي إذ ذاك المطيع لله الفضل بن جعفر، وفي يوم الثلاثاء سادس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، دخل المعز مصر بعد مضي ساعة من اليوم المذكور، وكل هذا جاء بطريق الاستطراد. فإن المقصود خلافه، ثم العزيز بن المعز، ثم ابنه الحاكم أبو العباس أحمد، وهو السادس من العبيديين، فقتل لأنه خرج عشية يوم الإثنين، سابع عشر شوال سنة احدى عشرة وأربعمائة، وطاف على عادته في البلد، ثم توجه إلى شرقي حلوان، ومعه ركابيان، فردهما، وانتظره الناس إلى ثالث ذي القعدة، ثم خرجوا في طلبه، فبلغوا ذيل القصر، وأمعنوا في الطلب فشاهدوا حماره على ذروة الجبل مضروب اليدين بالسيف، فتتبعوا الأثر فانتهوا إلى بركة هناك، ونزل شخص فيها فوجد سبع حبات مزررة، وفيها أثر السكاكين، فلم يشكوا حينئذ في قتله، ثم ابنه الظاهر أبو الحسن علي ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ابنه المستنصر، ثم ابنه المستعلي، ثم ابنه الآمر، ثم الحافظ عبد المجيد بن أبي القاسم محمد بن المستنصر، ثم ابنه الظافر وهو السادس، فقتل، ولم يل الخلافة بعده منهم إلا اثنان: ابنه الفائز، ثم العاضد عبد الله بن يوسف بن الحافظ. وانقرضت دولة العبيديين في سنة سبع وستين وخمسمائة، وذلك في أيام المستضيء بنور الله أبي محمد الحسن بن المستنجد العباسي. وخلفهم بمصر السلطان السعيد الشهيد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، ثم ابنه الملك العزيز عثمان، ثم أخوه الأفضل، ثم الملك العادل الكبير أبو بكر بن أيوب، ثم ابنه الملك الكامل محمد، ثم ابنه الملك العادل الصغير وهو السادس فخلع، ثم الملك الصالح أيوب بن الكامل، ثم ابنه الملك المعظم تورانشاه، ثم أخوه الأشرف يوسف وهو ابن شجرة الدر، ثم المعز أيبك، ثم ابنه المنصور، علي، ثم المظفر قطز وهو السادس فقتل. ثم الظاهر بيبرس، ثم ابنه السعيد محمد بن بركة خان، ثم أخوه العادل سلامش، ثم المنصور قلاون، ثم ابنه الأشرف خليل، ثم القاهر بيدر وهو السادس أقام نصف يوم وقتل، ثم الناصر بن المنصور فخلع مرة بالعادل كتبغا، وخلع نفسه مرة أخرى فتسلطن مملوك أبيه المظفر بيبرس، ثم العادل كتبغا، ثم المنصور لاجين، ثم المظفر بيبرس، ثم المنصور أبو بكر بن الناصر بن المنصور، ثم أخوه الأشرف كجك فخلع ثم قتل وهو السادس، ثم أخوهم الناصر أحمد، ثم أخوهم الصالح إسماعيل، ثم أخوهم الكامل شعبان، ثم أخوهم المظفر حاجي، ثم أخوهم الملك الناصر حسن، ثم أخوهم الملك الصالح صالح وهو السادس فخلع وسجن، وأعيد الملك لمن كان قبله، وهو الملك الناصر حسن، ثم المنصور علي بن الصالح، ثم الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر، ثم المنصور علي بن الأشرف شعبان بن حسين بن الناصر، ثم أخوه الصالح حاجي بن الأشرف، ثم الظاهر برقوق، ثم أعيد حاجي ولقّب بالمنصور، ثم أعيد برقوق، ثم ولده الناصر فرج، ثم أخوه العزيز، ثم أعيد فرج فخلع وقتل. ثم الخليفة المستعين بالله العباسي، ثم الملك المؤيد أبو النصر شيخ، ثم ابنه الملك المظفر أحمد فخلع، ثم الملك الظاهر ططر، ثم ولده الملك الصالح محمد فخلع، ثم الملك الأشرف برسباي، ثم ابنه الملك العزيز يوسف فخلع، ثم الملك الظاهر جقمق، ثم ولده الملك المنصور عثمان فخلع، ثم الملك الأشرف أينال، ثم ولده الملك المؤيد أحمد فخلع، ثم الملك الظاهر خشقدم، ثم الملك الظاهر بلباي فخلع، ثم الملك الظاهر تمريغا فخلع، ثم الملك الظاهر خايربك فخلع من ليلته، ثم الملك الأشرف قايتباي، ثم ولده الملك الناصر محمد فقتل، ثم الملك الظاهر قانصوه خال الملك الناصر محمد فخلع، ثم الملك الأشرف جانبلاط فخلع وقتل، ثم الملك العادل طومان باي فخلع وقتل، ثم الملك الأشرف قانصوه الغوري، ثم السلطان سليم بن محمد بن بايزيد بن عثمان، ثم ولده السلطان سليمان، ثم ولده السلطان سليم، ثم ولده السلطان مراد، نصره الله نصرا عزيزا، وفتح له فتحا مبينا، بمحمد وآله صلى الله عليه وسلم والحمد لله وحده، وقد أطلنا الكلام في ذلك ولكن لا يخلو من فائدة أو فوائد. ولنرجع إلى ما قصدنا من الكتاب، والله تعالى الموفق للصواب، فنقول: وهو أي الأوز يحب السباحة في الماء، وفرخة يخرج من البيض، فيسبح في الحال، وإذا حصنت الأنثى، قام الذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 يحرسها لا يفارقها طرفة عين وتخرج فراخها في أواخر الشهر. وفي المجالسة للدينوري والأذكياء «1» لأبي الفرج بن الجوزي عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء رجل إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فقال: يا نبي الله إن لي جيرانا يسرقون أوزي، فنادى: الصلاة جامعة، ثم خطبهم فقال في خطبته: وأحدكم يسرق أوز جاره، ثم يدخل المسجد والريش على رأسه، فمسح رجل رأسه بيده، فقال سليمان: خذوه فإنه صاحبكم. وحكمه: حل الأكل بالإجماع. الخواص: لحم الأوز والبط كثير الحرارة والرطوبة، وبقراط «2» الحكيم يقول: إنه أرطب الطير الحضري، وأجودها المخاليف، وهو يخصب الأبدان، لكنه يملؤها فضولا ودفع ضررها نفخ البورق «3» في حلوقها، قبل الذبح، وهو يولد خلطا بلغميا، ويوافق أصحاب الأمزجة الحارة، ويختار أن يطلى لحمها قبل الشي بالزيت، لتذهب زهومته، وفي طبخه أن يكثر من الأبازير الحارة ليزول غلظه وزهومته، لأنه كثير الفضول غير موافق للمعدة لعسر انهضامه، وهو لتكثيره الفضول يسرع إلى توليد الحميات. قال القزويني: إذا شويت خصية الأوز وأكلها الرجل وجامع زوجته من وقته فإنها تعلق بإذن الله تعالى. وفي جوفه حصاة تمنع من الاستطلاق، إذا شربها المبطلون نفعته. ودهنه ينفع من ذات الجنب وداء الثعلب، إذا طليا به. وأكل لسانه ينفع من تقطير البول، إذا ديم عليه وغذاؤه جيد إلا أنه بطيء الهضم. وأما بيضه فمعتدل الحرارة، لكنه غليظ وأنفعه النيمبرشت لكنه يضر بأصحاب القولنج «4» ، والرياح والدوار، وأكله بالصعتر والملح يدفع ضرره، وهو يولد دما منتنا، ويوافق أصحاب الأمزجة الحارة. وهو وبيض النعام غليظان بطيآ الانهضام. فمن أحب أكلهما فليقنع بصفرتهما ويجب أن يعلم أن الصفرة، من كل بيض، ألطف من البياض، والبياض أرطب من الصفرة، وأغذى البيض وألطفه ذو الصفرة، وأقله غذاء ما كان من دجاج لا ديك لها، وهذا النوع لا يتولد منه حيوان ولا مما يباض في نقصان القمر على الأكثر، لأن البيض من الاستهلال إلى الإبدار يمتلىء، ويرطب فيصلح للكون، وبالضد من الابدار إلى المحاق وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر بيض الحجل والدجاج في أماكنها. الإلفة: السعلاة، وقيل الذئبة، وسيأتيان إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة والذال المعجمة. الإلق: بالكسر الذئب والأنثى القة وجمعهما الق. وربما قالوا للقردة الالقة ولا يقال للذكر الق ولكن قرد ورباح. الأودع: اليربوع. قاله الجوهري: وسيأتي إن شاء الله في باب الياء آخر الحروف. الأورق : من الإبل الذي لونه بياض إلى سواد. قاله الجوهري وهو أطيب الإبل لحما وليس بمحمود عندهم في عمله وسيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 الأوس: الذئب وبه سمي الرجل. وأويس إسم للذئب جاء مصغرا مثل الكميت واللجين. قال الهذلي: يا ليت شعري عنك والأمر أمم ... ما فعل اليوم أويس بالغنم وقال الكميت «1» : كما خامرت في حضنها أم عامر ... لذي الحبل حتى عال أوس عيالها لأن الضبع، إذا صيدت ولها ولد من الذئب، لم يزل الذئب يطعم ولدها إلى أن يكبر. قاله الجوهري. قال وقوله: لذي الحبل، أي للصائد الذي يعلق الحبل في عرقوبها. وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في العسبار أيضا. روى الحافظ أبو نعيم بسنده إلى حمزة بن أسد الحارثي، قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار إلى بقيع الغرقد، فإذا ذئب مفترش ذراعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أويس فافرضوا له فلم يفعلوا» انتهى. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الذال المعجمة في لفظ الذئب قصة وافد الذئاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبهذا سمي أويس بن عامر القرني أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وسكن الكوفة وهو من أكبر تابعيها. روى مسلم عن أسيد بن جابر عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير التابعين رجل يقال له أويس القرني، يأتي عليكم في أمداد أهل اليمن لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل «2» » . فلما قدم على عمر رضي الله تعالى عنه سأله أن يستغفر له فاستغفر له الحديث بطوله. وقتل أويس يوم صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. وروى «3» أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه في الزهد عن الحسن البصري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر» . قال الحسن: هو أويس القرني، وهو منسوب إلى قرن بفتح الراء، قبيلة من مراد. وللجوهري رحمه الله في ذلك غلط مشهور. وخرج ابن السماك عن يحيى بن جعفر، قال: حدثنا شبابة بن سوار قال: حدثنا جرير بن عثمان عن عبد الله بن ميسرة وحبيب بن عبيد الرحبي، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل أحد الحيين ربيعة ومضر. قيل: يا رسول الله وما ربيعة من مضر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما أقول ما أقول «4» » . قال فكان المشيخة يرون أن ذلك الرجل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه. وذكر القاضي عياض في الشفاء عن كعب أن لكل رجل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الصحابة شفاعة. وذكر ابن المبارك. قال: أخبرنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يكون في أمتي رجل يقال له صلة بن أشيم يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا» . ايلس: قال القزويني «1» إنه نوع من السمك عظيم جدا وحيوانات البحر كلها تصاد سواه. ومن خواصه إنه إذا شوي وأكل منه شخصان معا بينهما عداوة وخصومة تبدلت ألفة. الأيم والأين : الحية وقال الأزرقي في تاريخ مكة الأيم الحية الذكر ثم روى بإسناده عن طلق بن حبيب قال: كنا جلوسا مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما في الحجر إذ قلص الظل وقامت المجالس، وإذا نحن ببريق أيم طالع من باب بني شيبة، فأشرأبت له أعين الناس، فطاف بالبيت سبعا وصلى ركعتين وراء المقام. فقمنا إليه وقلنا له: أيها المعتمر قد قضى الله نسكك وإن بأرضنا عبيدا وسفهاء، وإنا نخشى عليك منهم، فمر ذاهبا نحو السماء فلم نره. وفي الحديث «2» : «إنه أمر بقتل الأيم» . قال ابن السكيت أصله أيم فخفف مثل لين ولين وهين وهين والجمع أيوم وسيأتي إن شاء الله تعالى في الكعيب ما ذكره الأزرقي عقب هذا مما يشابهه. الأيّل: بتشديد الياء المكسورة ذكر الأوعال والأيل لغة فية ويقال هو الذي سمي بالفارسية كوزن. وأكثر أحواله شبيه ببقر الوحش وهو إذا خاف من الصياد يرمي نفسه من رأس الجبل ولا يتضرر بذلك وعدد سني عمره عدد العقد التي في قرنه وإذا لسعته الحية أكل السرطان. ويصادق السمك فهو يمشي إلى الساحل ليرى السمك. والسمك يقرب من البر ليراه والصيادون يعرفون هذا، فيلبسون جلده ليقصدهم السمك فيصيدوا منه. وهو مولع بأكل الحيات، يطلبها حيث وجدها وربما لسعته فتسيل دموعه إلى نقرتين تحت محاجر عينيه، يدخل الإصبع فيهما فتجمد تلك الدموع، وتصير كالشمس، فيتخذ درياقا «3» لسم الحيات، وهو الباد زهر الحيواني. وأجوده الأصفر وأماكنه بلاد الهند والسند وفارس. وإذا وضع على لسع الحيات والعقارب نفعها، وإن أمسكه شارب السم في فيه نفعه، وله في دفع السموم خاصية عجيبة. وهذا الحيوان لا تنبت له قرون إلا بعد مضي سنتين عن عمره، فإذا نبتت قرناه، نبتا مستقيمين كالوتدين وفي الثالثة يتشعبان ولا يزال التشعب في زيادة إلى تمام ست سنين، فحينئذ يكونان كالشجرتين في رأسه ثم بعد ذلك يلقي قرنيه في كل سنة مرة، ثم ينبتان فإذا نبتا تعرض بهما للشمس ليصلبا، وقال ارسطو: إن هذا النوع يصاد بالصفير والغناء، ولا ينام ما دام يسمع ذلك، فالصيادون يشغلونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 بذلك ويأتونه من ورائه، فإذا رأوه قد استرخت أذناه أخذوه. وذكره من عصب لا لحم ولا عظم، وقرنه مصمت لا تجويف فيه. وهو في نفسه جبان دائم الرعب، وهو يأكل الحيات أكلا ذريعا وإذا أكل الحية بدأ بأكل ذنبها إلى رأسها. وهو يلقي قرونه في كل سنة، وذلك الهام من الله تعالى، لما للناس فيها من المنفعة، لأن الناس يطردون بقرنه كل دابة سوء وييسر عسر الولادة وينفع الحوامل، ويخرج الدود من البطن إذا أحرق منه جزء ولعق بالعسل، قاله في النعوت، ويسمن هذا الحيوان سمنا كثيرا فإذا اتفق له ذلك هرب خوفا من أن يصاد. تتمة: قال الزجاجي سئل ابن دريد «1» عن معنى قول الشاعر: هجرتك لا قلى مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود كهجر الحائمات الورد لما ... رأت أن المنية في الورود تغيظ نفوسها ظمأ وتخشى ... حماما فهي تنظر من بعيد تصد بوجه ذي البغضاء عنه ... وترمقه بالحاظ الودود فقال: الحائم الذي يدور حول الماء ولا يصل إليه. ومعنى الشعر أن الأيايل تأكل الأفاعي في الصيف، فتحمى وتلتهب لحرارتها فتطلب الماء، فإذا رأته امتنعت من شربه، وحامت عليه تتنسمه، لأنها لو شربته في تلك الحالة فصادف الماء السم الذي في أجوافها هلكت، فلا تزال تمتنع من شرب الماء، حتى يطول بها الزمان فيذهب ثوران السم ثم تشربه فلا يضرها. فيقول هذا الشاعر: أنا في تركي وصالك مع شدة حاجتي إليه بمثابة الحائمات التي تدع شرب الماء مع شدة حاجتها إليه، إبقاء على حياتها. والزجاجي هو عبد الرحمن بن إسحاق أبو القاسم الزجاجي، إمام النحو صحب أبا إسحاق الزجاج، فعرف به ونسب إليه. وصنف كتاب الجمل وطوله بكثرة الأمثلة ولم يشتغل به أحد إلا انتفع به، لأنه صنفه بمكة المشرفة وكان إذا فرغ من باب طاف أسبوعا وسأل الله تعالى أن يغفر له وأن ينفع به قارئه. ومن كلامه ما حرم الله شيئا إلا وأحل بازائه خيرا منه: حرم الميتة وأباح المذكي، وحرم الخمر وأباح النبيذ، وحرم السفاح وأباح النكاح، وحرم الربا وأباح البيع. توفي سنة سبع أو تسع وثلاثين وثلاثمائة بدمشق، وقيل بطبرية وما أحسن قول أبي منصور موهوب الجواليقي «2» اللغوي: ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت حول الورد وقفة حائم حيران أطلب غفلة من وارد ... والورد لا يزداد غير تزاحم وكان الجواليقي إماما في فنون الأدب، وله تصانيف مفيدة وكان إماما للخليفة المقتفي يصلي به الصلوات الخمس. ولما دخل عليه أول دخلة، قال السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وبركاته، فقال له الطبيب هبة الله بن صاعد بن التلميذ النصراني «1» : ما هكذا يسلم على أمير المؤمنين يا شيخ! فلم يلتفت إليه الجواليقي، وقال للمقتفي: يا أمير المؤمنين سلامي هو ما جاءت به السنة النبوية. وروى له خبرا في صورة السلام. ثم قال: يا أمير المؤمنين لو حلف حالف أن نصرانيا أو يهوديا لم يصل إلى قلبه نوع من أنواع العلم على الوجه المعتبر، لما لزمته كفارة الحنث، لأن الله تعالى ختم على قلوبهم، ولن يفك ختمه إلا الإيمان. فقال: صدقت وأحسنت. قال: فكأنما ألقم ابن التلميذ بحجر مع فضله وغزارة أدبه. ووجدت البيتين لابن الخشاب «2» من أبيات. توفي الجواليقي في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة ببغداد. الحكم: يحل أكله لأنه مستطاب كالوعل. ولم يذكره الرافعي في باب الأطعمة وإنما ذكره في باب الربا. فقال: وفي لحم الظباء مع الأيل تردد للشيخ أبي محمد، واستقر جوابه على إنهما كالضأن مع المعز، أي فلا يباع أحدهما بالآخر إلا مثلا بمثل. انتهى. وحكى المتولي في ذلك وجهين من غير ترجيح. الخواص: إذا بخر بقرنه طرد الهوام وكل ذي سم، وإذا أحرق قرنه وسحق واستيك به قطع الصفرة والحفر من الأسنان، وشد أصولها، ومن علق عليه شيء من أجزائه لم ينم ما دام عليه وإذا جفف قضيبه وسقي هيج الباه. وإذا شرب دمه فتت الحصاة التي في المثانة والله تعالى أعلم. ابن آوى: جمعه بنات آوى وكذلك ابن عرس وابن المخاض وابن اللبون تقول بنات عرس وبنات مخاض وبنات لبون وبنات آوى ولا ينصر قال الشاعر «3» : ان ابن آوى لشديد المقتنص ... وهو إذا ما صيد ريح في قفص وكنيته أبو أيوب وأبو ذئيب وأبو كعب وأبو رائل وسمي ابن آوى لأنه يأوي إلى عواء أبناء الشجرة كقاضيان ويقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد صقور، ولفظه مشتق من البزوان وهو طويل المخالب والأظفار يعدو على غيره، ويأكل مما يصيد من الطيور وغيرها. وخوف الدجاج منه أشد من خوفها من الثعلب، لأنه إذا مر تحتها وهي على الشجرة أو الجدار تساقطت وإن كانت عددا كثيرا. الحكم: الأصح تحريم أكله، لأنه يعدو بنابه ولو قيل إن نابه ضعيف فيكون كالضبع والثعلب لكان مذهبا. وملخص ما فيه عندنا وجهان: الأصح في المحرر والمنهاج والشرح والحاوي الصغيرين التحريم. والثاني وهو اختيار الشيخ أبي حامد الحل. وسئل الإمام أحمد عنه؟ فقال كل ما نهش بأنيابه فهو من السباع. وبحظره قال أبو حنيفة وصاحباه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الخواص: إذا ترك لسانه في بيت وقعت الخصومة بين أهله. ولحمه ينفع من الجنون والصرع العارض في أواخر الشهر، وإذا علقت عينه اليمنى على من يخاف العين أمن ولم تضره عين عائن. وقلبه إذا علق على شخص أمن من سائر السباع بإذن الله تعالى والله تعالى أعلم. باب الباء الموحدة البابوس: الصغير من أولاد الناس وغيرهم. قال ابن أحمر «1» : حنّت قلوصي إلى بابوسها طربا ... وما حنينك بل ما أنت والذّكر البازي: أفصح لغاته بازى مخففة الياء، والثانية باز، والثالثة بازي بتشديد الياء، حكاهما ابن سيده، وهو مذكر لا اختلاف فيه. ويقال في التثنية بازيان، وفي الجمع بزاة كقاضيان وقضاة. وقضاة. ويقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد صقور، ولفظه مشتق من البزوان وهو الوثب. وكنيته أبو الأشعث وأبو البهلول وأبو لاحق، وهو من أشد الحيوانات تكبرا وأضيقها خلقا. قال القزويني في عجائب المخلوقات: قالوا إنه لا يكون إلا أنثى وذكرها من نوع آخر كالحدا والشواهين، ولهذا اختلفت أشكالها روينا عن عبد الله بن المبارك إنه كان يتجر ويقول: لولا خمسة «2» ما اتجرت السفيانان وفضيل وابن السماك وابن علية أي ليصلهم فقدم سنة فقيل له: قد ولي ابن علية القضاء فلم يأته ولم يصله بشيء، فأتي إليه ابن علية فلم يرفع رأسه إليه، ثم كتب إليه ابن المبارك يقول «3» : يا جاعل العلم له بازيا ... يصطاد أموال المساكين احتلت للدنيا ولذاتها ... بحيلة تذهب بالدين فصرت مجنونا بها بعدما ... كنت دواء للمجانين أين رواياتك في سردها ... لترك أبواب السلاطين أين رواياتك فيما مضى ... عن ابن عوف وابن سيرين «4» إن قلت أكرهت فذا باطل ... زل حمار العلم في الطين فلما وقف إسماعيل بن علية على الأبيات، ذهب إلى الرشيد ولم يزل به إلى أن استعفاه من القضاء فأعفاه. وعبد الله بن المبارك إمام جليل زاهد عابد جمع بين العلم والعمل. ذكر ابن خلكان في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ترجمته قال: عطس رجل عند عبد الله بن المبارك فلم يحمد الله عز وجل، فقال له ابن المبارك: أي شيء يقول العاطس إذا عطس؟ قال الحمد لله. فقال ابن المبارك: يرحمك الله. فجعب الحاضرون من حسن أدبه، وقال أيضا: قدم هارون الرشيد الرقة، فانحفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغيرة، فأشرفت أم ولد الرشيد من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت: من هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان، يقال له عبد الله بن المبارك. فقالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان. وذكر غيره أن عبد الله بن المبارك استعار قلما من الشام، فعرض له سفر فسافر إلى انطاكية، وكان قد نسي القلم معه فتذكره هناك فرجع من انطاكية إلى الشام ماشيا حتى رد القلم إلى صاحبه وعاد. وروي أن عند ذكره تنزل الرحمة توفي رحمه الله تعالى سنة إحدى وثمانين ومائة رحمة الله تعالى عليه. ومن أخبار الرشيد، أنه خرج يوما إلى الصيد فأرسل بازيا أشهب فلم يزل يحلق حتى غاب في الهواء ثم رجع بعد اليأس منه، ومعه سمكة فأحضر الرشيد العلماء وسألهم عن ذلك فقال مقاتل: يا أمير المؤمنين روينا عن جدك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الهواء معمور بأمم مختلفة الخلق سكان، فيه دواب بيض تفرخ فيه شيئا على هيئة السمك لها أجنحة ليست بذوات ريش فأجاز مقاتلا على ذلك وأكرمه. وهو خمسة أصناف البازي والزرق والباشق والبيدق والصقر. والبازي أحرها مزاجا لأنه قليل الصبر على العطش، ومأواه مساقط الشجر العادية الملتفة والظل الظليل وهو خفيف الجناح، سريع الطيران وإناثه أجرأ على عظام الطير من ذكوره، وهذا الصنف تصيبه الأمراض وانحطاط اللحم والهزال. وأحسن أنواعه ما قل ريشه واحمرت عيناه مع حدة فيهما كما قال الناشىء «1» : لو استضاء المرء في ادلاجه ... بعينه كفته عن سراجه ودونه الأزرق الأحمر العينين والأصفر دونهما ومن صفاته المحمودة: أن يكون طويل العنق، عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين، شديد الانخراط إلى ذنبه، وأن تكون فخذاه طويلتين مسرولتين بريش، وذراعاه غليظتين قصيرتين. وفرخ البازي يسمى غطريفا ويضرب بالبازي المثل في نهاية الشرف كما قال الشاعر: إذا ما اعتز ذو علم بعلم ... فعلم الفقه أولى باعتزاز وكم طيب يفوح ولا كمسك ... وكم طير يطير ولا كباز قال الشيخ الزاهد أبو العباس القسطلاني: سمعت الشيخ أبا شجاع زاهر بن رستم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الأصبهاني إمام مقام إبراهيم بمكة يقول: سمعت الشيخ أحمد خادم الشيخ حماد يقول: دخل الشيخ عبد القادر على الشيخ حماد الدباس يزوره فنظر إليه الشيخ، وكان قد رأى أنه قد اصطاد بازيا فأثرت نظرة الشيخ فيه، فخرج من عنده وتجرد عن أسبابه وكان من أكابر أصحابه انتهى. ولهذا كان الشيخ عبد القادر يقول: أنا بلبل الأفراح أملأ دوحها ... طربا وفي العلياء باز أشهب قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقاته: كان ابن شريح يقال له الباز الأشهب. وقال الوعيظي في أول قصيدته: ليس المقام بدار الذل من شيمي ... ولا معاشرة الأنذال من هممي ولا مجاورة الأوباش تجمل بي ... كذلك الباز لا يأوي مع الرخم وأما الباشق بفتح الشين وكسرها فأعجمي معرب، وكنيته أبو الآخذ وهو أيضا حار المزاج، يغلب عليه القلق والزعارة، يأنس وقتا ويستوحش وقتا وهو قوي النفس، فإذا أنس منه الصغير، بلغ صاحبه من صيده المراد وهو خفيف المحمل، ظريف الشمائل، يليق بالملوك أن تخدمه، لأنه يصيد أفخر ما يصيده البازي وهو الدراج والحمام والورشان، وهو كثير الشبق وإذا قوي عليه صيده لا يتركه إلا أن يتلف أحدهما. وأحمد صفاته أن يكون صغيرا في المنظر ثقيلا في الميزان، طويل الساقين قصير الفخذين. وأما البيدق فلا يصيد إلا العصافير، وهو قليل الغناء قريب في الطبع من العقصي قال أبو الفتح كشاجم «1» في المعنى: حسبي من البزاة والبيادق ... ببيدق يصيد صيد الباشق مؤدب مدرب الخلائق ... أصيد من معشوقة لعاشق يسبق في السرعة كل سابق ... ليس له في صيده من عائق ربيته وكنت غير واثق ... أن الفرازين من البيادق وأما العقصي فهو أصغر الجوارح نفسا، وأضعفها حيلة، وأشدها ذعرا، وأيبسها مزاجا، يصيد العصفور في بعض الأحايين، وربما هرب منه. وهو يشبه الباشق في الشكل إلا أنه أصغر منه. الحكم: يحرم أكله بجميع أنواعه «لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطيور» . رواه «2» مسلم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما، وبهذا قال أكثر أهل العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقال مالك والليث والاوزاعي ويحيى بن سعيد لا يحرم من الطير شيء واحتجوا بعموم الآيات المبيحة، ولم يثبت عند مالك حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، فكان على الإباحة. قال الأبهري «1» : ليس في ذي المخلب عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي صحيح. وقال غيره: لم يثبت حديث النهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير لأن ميمون بن مهران رواه عن ابن عباس وسقط بينهما سعيد بن جبير، فصار هذا علة تحطه عن رتبة الصحيح. وقال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه: يكره للمحرم استصحاب البازي، وكل صائد من كلب وغيره لأنه ينفر الصيد وربما انفلت فقتل صيدا، فإن حمله فأرسله على صيد فلم يقتله ولم يؤذه فلا جزاء عليه، لكن يأثم كما لو رماه بسهم فأخطأه فإنه يأثم بالرمي لقصده الحرام. ولا ضمان لعدم الإتلاف قال: وما فيه مضرة ومنفعة لا يستحب قتله لما فيه من المنفعة ولا يكره لعدوانه على الناس كالبازي والفهد والصقر والعقاب، ونحوها. ويصح بيع البازي وإجارته بلا خلاف لأنه طاهر منتفع به روى الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال «2» : «ما أمسك عليك فكل» . الأمثال : قالت «3» العرب: «وهل ينهض البازي بغير جناح» . يضرب في الحث على التعاون والوفاق قال الشاعر «4» : أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح وان ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح ومن ملح أمثال أبي أيوب سليمان بن أبي مجالد قال خالد بن يزيد الأرقط: بينما أبو أيوب في أمره ونهيه إذ طلبه المنصور فاصفر وارتعد، فلما خرج من عنده تراجع لونه وكان ذلك دأبه، كلما طلبه، فقيل له: إنا نراك مع كثرة دخولك إلى أمير المؤمنين وأنسه بك تتغير إذا دخلت عليه؟ فضرب لذلك مثلا فقال: زعموا أن بازيا وديكا تناظرا فقال البازي للديك: ما أعرف أقل وفاء منك! فقال: وكيف؟ قال: لأنك تؤخذ بيضة فيحضنك أهلك، وتخرج على أيديهم فيطعمونك بأكفهم، حتى إذا كبرت صرت لا يدنو منك أحد إلا طرت ههنا وههنا وصحت، وإن علوت حائط دار، كنت فيها سنين طرت وتركتها وصرت إلى غيرها، وأنا أؤخذ من الجبال، وقد كبر سني فأطعم الشيء القليل، وأونس يوما أو يومين ثم أطلق، على الصيد فأطير وحدي، فآخذه وأجيء به إلى صاحبي، فقال له الديك: ذهبت عنك الحجة، أما لو رأيت بازيين في سفود ما عدت إليهم أبدا، وأنا كل يوم ووقت أرى السفافيد مملوأة ديوكا، وأقيم معهم فأنا أو في منك لو كنت مثلك، وأنتم لو عرفتم من المنصور ما أعرف، لكنتم أسوأ حالا مني عند طلبه إياكم، ثم إنه قتله في سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 أربع وخمسين ومائة، بعد أن عذبه وأخذ أمواله وكان قد تمكن من المنصور، غاية التمكن لاحسان فعله مع المنصور قبل خلافته ثم أبغضه، وهم أن يوقع به وتطاول ذلك، وكان كلما دخل عليه ظن أنه سيوقع به ثم يخرج سالما. قيل: إنه كان معه شيء من الدهن قد عمل فيه سحرا فكان يدهن حاجبيه إذا دخل على المنصور، فصار مثلا في العامة يقولون: دهن أبي أيوب قال في الجواهر الزواهر. وكان المنصور يوده كثيرا ويتبسم إليه وأنشد على ذلك لناصح الدين سعيد بن الدهان «1» سيبويه عصره في النحو قوله: «2» لا تجعل الهزل دأبا فهو منقصة ... والجد تعلو به بين الورى القيم «3» ولا يغرنك من ملك تبسمه ... ما سحت السحب إلا حين تبتسم ومن محاسن شعره قوله «4» : بادر إلى العيش والأيام راقدة ... ولا تكن لصروف الدهر تنتظر فالعمر كالكأس يبدو في أوائله ... صفو وآخره في قعره كدر وله أيضا «5» ويقال إنه لابن طباطبا الطالبي: تأمل نحولي والهلال إذا بدا ... لليلته في أفقه أينا أضنى على أنه يزداد في كل ليلة ... نموّا وجسمي بالضنى دائما يفنى وله أيضا: والله لولا أن يقال تغيرا ... وصبا وإن كان التصابي أجدرا لا عدت تفاح الخدود بنفسجا ... لثما وكافور الترائب عنبرا وكانت وفاته سنة تسع وستين وخمسمائة قال الغزنوي: الترائب جمع تريبة وهو موضع القلادة من الصدر، وزاد الكواشي وقيل: الصدر وقيل: النحر وقيل: أطراف الرجل. الخواص: مرارته من اكتحل بها أمن من نزول الماء في عينيه. وإن شربت امرأة من زرق البازي مدافا بماء أعان على الحبل، وإن كانت عاقرا. وأما الباشق فدماغه ينفع من الخفيقان العارض من السوداء، إذا سقي منه وزن درهم بماء ورد، ومرارته تنفع من ظلمة العين اكتحالا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 التعبير: البازي في المنام يدل على سلطان لمن هو من أهل الإمارة، فإن ذهب من يديه وبقي منه ساقه، ذهب ملكه وبقي ذكره. وإن بقي في يده شيء من الريش، بقي في يده شيء من المال. وذبح البازي ظفر بلص، وذبح البزاة يدل على موت الملوك، الذين يأخذون الأموال جهارا، ولحوم البزاة أموال السلاطين، والبزاة للرجل السوقي رياسة وشرف. والباشق في المنام لص وقيل ولد ذكر. البازل: البعير الذي فطر نابه أي انشق، ذكرا كان أو أنثى، وذلك في السنة الثامنة. والجمع: بزل وبزل وبوازل. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، «أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض بكرا فرد بازلا وقال: خيركم أحسنكم «1» قضاء» وروى الخطابي عن ابن خزيمة قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: سئل ابن عيينة عن معنى قول «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من استجمر فليوتر» . فسكت ابن عيينة فقيل: أترضى بما قاله مالك؟ قال: وما قال مالك؟ قال: قال: الاستجمار الاستطابة بالأحجار. قال فقال ابن عيينة إنما مثلي ومثل مالك كما قال الأوّل: وابن اللبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس الباقعة: الداهية يقال رجل باقعة، إذا كان ذا دهاء. ونقل الهروي عن أبي عمرو أنه طائر حذر إذا شرب الماء يطير يمنة ويسرة. وفي حديث القبائل أن عليا قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنهما: لقد عثرت من الأعراب على باقعة وفي حديث آخر ففاتحته فإذا هو باقعة. بالام: روى البخاري ومسلم عن أبي الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده، كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر، نزلا لأهل الجنة «3» » . قال: فأتى رجل من اليهود، فقال: بارك الرحمن فيك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى. قال: تكون الأرض خبزة واحدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال: بلى. قال: بالام ونون. قال: وما هما؟ قال: ثور ونون يأكل من زيادة كبدهما سبعون ألفا» . هكذا عند البخاري سبعون بتقديم السين. وفي صحيح مسلم في كتاب الظهار من حديث ثوبان. قال: «كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة، كاد يصدع منها فقال لم تدفعني؟ فقلت لم لا تقول رسول الله فقال اليهودي: إنا ندعوه بإسمه الذي سماه به أهله. فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إسمي محمد الذي سماني به أهلي. فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينفعك شيء إن حدثتك؟ فقال: أسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه وقال: سل. فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم في «ظلمة دون «1» الحشر» . فقال: فمن أول الناس إجازة يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «فقراء المهاجريين» . قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: «زيادة كبد النون» . قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» . قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «من عين فيها تسمى سلسبيلا» . قال: صدقت. وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: «أينفعك إن حدثتك؟ قال: اسمع بأذني. قال: سل. قال: أسألك عن الولد؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة، كان ذكرا بإذن الله تعالى، وإذا علا مني المرأة مني الرجل، كان أنثى بإذن الله تعالى «2» » . قال: صدقت إنك لنبي، ثم انصرف. فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه، حتى أتاني الله عزّ وجلّ» . وفي صحيح البخاري من حديث أنس قريب من هذا، وأن اليهودي هو عبد الله بن «3» سلام رضي الله عنه هكذا جاء الحديث مفسرا. أما النون فهو الحوت وبه سمي يونس عليه السلام ذا النون. وأما بالام، فقد تكلفوا له شرحا غير مرضي، ولعل اللفظة عبرانية. كذا قال في النهاية، وقال الخطابي: لعل اليهودي أراد التعمية فقطع الهجاء، وقدّم أحد الحرفين على الآخر وهي لام ألف وياء، يريد لأي بوزن لعي، وهو الثور الوحشي فصحف الراوي الياء بالباء، قال: وهذا أقرب ما يقع لي فيه. اهـ والصحيح أنها لفظة عبرانية. وأما زيادة كبد الحوت، فهي القطعة المنفردة المتعلقة بها، وهي أطيبها وهؤلاء السبعون ألفا يحتمل أنهم الذين يدخلون الجنة بغير حساب، ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفا عن العدد الكثير من غير إرادة حصر ورواه النسائي في عشرة النساء أيضا. البال: سمكة تكون في البحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعا يقال لها العنبر، وليست بعربية قال الجواليقي: كأنها عربت. وقال في الصحاح: البال الحوت العظيم، من حيتان البحر ليس بعربي. وقال القزويني: البال سمكة طولها خمسمائة ذراع أو أكثر، تظهر في بعض الأوقات، طرف جناحها كالشراع العظيم وأهل المراكب يخافون منها أعظم خوف، فإذا أحسوا بها ضربوا بالطبول لتنفر عنهم، فإذا بغت على حيوان البحر بعث الله سمكة نحو الذراع تلصق بأذنها، فلا خلاص للبال منها، فتطلب قعر البحر وتضرب الأرض برأسها حتى تموت، وتطفو على الماء كالجبل العظيم. ولها أناس من الزنج يرصدونها، فإذا وجدوها طرحوا فيها الكلاليب وجذبوها إلى الساحل، وشقوا بطنها واستخرجوا العنبر منها وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة ذكر هذا الحيوان وما يتعلق بالعنبر من الأحكام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الببر: بباءين موحدتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة ضرب من السباع يعادي الأسد من العدو لا من العدوان. ويقال له: البريد، ويقال له الفرانق بضم الفاء وكسر النون. وهو هندي معرب شبيه بابن آوى، ويقال إنه متولد من الزبرقان واللبوة ومن طبعه أن الأنثى منه تلقح من الريح، ولهذا كان عدوه كالريح ولا يقدر أحد على صيده، وإنما تسرق جراؤه فتجعل في مثل القوارير من زجاج، ويركض بها على الخيول السابقة، فإذا أدركهم أبوها ألقوا إليه قارورة منها فيشتغل بالنظر إليها، والحيلة في إخراج ولده منها فيفوته بقيتها فيربى حينئذ، ويألف الصبيان ويأنس بالأنس، وهو بألف شجرة الكافور كثيرا فإذا كان عندها لم يستطع أحد أن يأخذ منها شيئا لكنه يفارقها في زمن معلوم، فإذا علم أهل تلك النواحي بذلك أتوا إلى الشجرة وأخذوا منها الكافور. الحكم: يحرم أكله لأنه يتقوى بنابه. الخواص: من أصابه سرسام أو برسام، يطلي رأسه بمرارة الببر مضروبة بالماء، ينفعه نفعا بينا. وإذا تحملتها المرأة لا تحمل أبدا وإذا كانت حاملا أسقطت، وكعبه يشد على الزند فلا يتعب حامله أبدا، ولو سار كل يوم عشرين فرسخا. وجلده يجلس عليه من به حب القرع يزول عنه. وذكر في ربيع الأبرار أن الببر على صورة الأسد الكبير وهو أبيض يلمع بصفرة وخطوط سود وقال ارسطو: الببر سبع مهيب يكون بأرض الحبشة خاصة لا بغيرها. الببغاء : بثلاث باآت موحدات أولاهنّ وثالثتهنّ مفتوحتان والثانية ساكنة وبالغين المعجمة وهي هذا الطائر الأخضر المسمي بالدرة، بدال مهملة مضمومة، قاله في العباب وضبطها ابن السمعاني «1» في الأنساب بباءين بفتح الأولى وبإسكان الثانية. وقال: لقب بها أبو الفرج «2» الشاعر لفصاحته، وقال القضاعي: للثغة كانت في لسانه، وهي في قدر الحمام يتخذها الناس للانتفاع بصوتها، كما يتخذون الطاووس للانتفاع بصوته ولونه. ومن الببغاء، نوع أبيض وقد أهدي لمعز «3» الدولة بن بويه درة بيضاء اللون، سوداء المنقار والرجلين على رأسها ذؤابة فستقية، وجميع أنواعها معدوم سوى الأخضر فهو الموجود الآن. وهو حيوان دمث الخلق، ثاقب الفهم، له قوة على حكاية الأصوات وقبول التلقين، يتخذه الملوك والأكابر لينم بما يسمع من الأخبار، ويتناول مأكوله برجله، كما يتناول الإنسان الشيء بيده. والناس يحتالون في تعليمه بطرق عدة: قال أرسطاطاليس: إذا أردت تعليم الببغاء الكلام، فخذ مرآة واجعلها أمامها، فترى صورتها أي صورة نفسها، ثم تكلم من ظاهر المرآة وتعاودها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فإنها تعيد الكلام. وقال ابن الفقيه «1» : رأيت بجزيرة رانج حيوانات غريبة الأشكال ورأيت فيها صنفا من الببغاء أحمر وأبيض وأصفر، يعيد الكلام بأي لغة كانت قال أبو إسحاق الصابي «2» في وصفها: أنعتها صبيحة مليحة ... ناطقة باللغة الفصيحة عدت من الأطيار واللسان ... يوهمني بأنها إنسان تنهي إلى صاحبها الاخبارا ... وتكشف الاسرار والاستارا بكماء إلا أنها سميعه ... تعيد ما تسمعه طبيعة زارتك من بلادها البعيدة ... واستوطنت عندك كالقعيدة ضيف قراه الجوز والارز ... والضيف في اتيانه يعز تراه في منقارها الخلوقي ... كلؤلؤ يلقط بالعقيق تنظر من عينين كالفصين ... في النور والظلمة بصاصين تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء خريدة خدورها الأقفاص ... ليس لها من حبسها خلاص نحبسها وما لها من ذنب ... وإنما ذاك لفرط الحب تلك التي قلبي بها مشغوف ... كنيت عنها واسمها معروف يشرك فيها شاعر الزمان ... الكاتب المعروف بالبيان ذلك عبد الواحد بن نصر ... تقيه نفسي حادثات الدهر فأجابه أبو الفرج بقوله: من منصفي من محكم الكتاب ... شمس العلوم قمر الآداب أمسى لأصناف العلوم محرزا ... وسام أن يلحق لما برزا وهل يجارى السابق المقصر ... أو هل يبارى المدرك المغرر إلى أن قال في وصفها: ذات شغا تحسبه ياقوتا ... لا ترتضي غير الأرزقوتا كأنما الحبة في منقارها ... حبابة تطفو على عقارها وقال «3» القاضي ابن خلكان في ترجمة الفضل بن الربيع: إن أحمد بن يوسف الكاتب كتب إلى بعض إخوانه وقد ماتت له ببغاء، وله أخ كثير التخلف يسمى عبد الحميد: أنت تبقى ونحن طرا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 فلقد جل خطب دهر أتاكا ... بمقادير أتلفت ببغاكا عجبا للمنون كيف أتتها ... وتخطت عبد الحميد أخاكا كان عبد الحميد أجمل للمو ... ت من الببغا وأولى بذاكا «1» شملتنا المصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا قال الزمخشري: إن الببغاء تقول: ويل لمن كانت الدنيا همه. الحكم: يحرم أكلها على الأصح في الرافعي، ونقله في البحر عن الصيمري «2» ، وأقره وعلل ذلك بخبث لحمها، وقيل: حلال لأنها تأكل من الطيبات، وليست من ذوات السموم ولا من ذوات المخلب، ولا أمر بقتلها ولا نهي عنه. وقطع المتولي بجواز استئجارها للأنس بصوتها. وحكى البغوي في ذلك وجهين. وكذا كل ما يستأنس بصوته كالعندليب وغيره. الخواص: من أكل لسان الببغاء، صار فصيحا جريئا في الكلام. ومرارتها تثقل اللسان أكلا. ودمها يجفف ويسحق وينثر بين الصديقين، تظهر بينهما العداوة. وذرقها بخلط بماء الحصرم، ينفع من الظلمة والرمد اكتحالا. التعبير: الببغاء في المنام رجل نحس كذاب. وقيل رجل فيلسوف، وفرخه ولد فيلسوف وقيل: وهي جارية أو غلام يتيم. البج: من طير الماء وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الجنس أجمع في باب الطاء المهملة. البجع: الحوصل. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء وقد أحسن الشاعر حيث قال فيه ملغزا: ما طائر في قلبه ... يلوح للناس عجب منقاره في بطنه ... والعين منه في الذنب قال التميمي «3» في منافع القرآن: من كتب على جلد حوصلة البجع بماء ورد أو بماء مطر قوله «4» تعالى: وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ ثم جعل ذلك على صدر النائم من رجل أو امرأة فإنه يخبر بكل ما عمل. البخزج: بالباء الموحدة والزاي والجيم ولد البقرة الوحشية. البجاق: كغراب الذئب الذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 البخت: من الإبل معرب. وبعضهم يقول: هو عربي الواحد الذكر بختي، والأنثى بختية، وجمعه بخاتي، غير مصروف لأنه بزنة جمع الجمع، ولك أن تخفف الياء فتقول البخاتي. وكذا كل ما أشبهها مما واحده مشدد يجوز في جمعه التشديد والتخفيف: كالعواري والسواري والعلالي والأواني والأثافي والكراسي والمهاري وشبهها. وممن ذكر هذه القاعدة ابن السكيت «1» في إصلاحه والجوهري «2» في صحاحه، قال ابن السكيت: والأثفية بثاء مثلثة مفرد الأثافي وهي الأعمدة الثلاثة تتخذ لوضع القدر عليها حال الطبخ ومن كلام العرب رماه الله بثالثة الأثافي يعني الجبل لأن الإنسان إذا لم يجد إلا إثنتين جعل الثالثة الجبل، فعبروا بثالثة الأثافي عن الجبل. والبخاتي جمال طوال الأعناق. روى أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد من حديث جنادة بن أبي أمية قال: كنا مع بسر بن أرطاة في البحر فأتي بسارق قد سرق بختية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «3» : «لا تقطع الأيدي في السفر ولولا ذلك لقطعته» . وفي صحيح مسلم من حديث زهير عن جرير بن سهل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «4» في صفة النساء، اللائي يأتين في آخر الزمان: «رؤوسهن كأسنمة البخت لا يجدن ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام» . وفي المستدرك، من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون في آخر هذه الأمة رجال يركبون على المياثر» ، حتى يأتوا أبواب مساجدهم نساؤهم كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العجاف، العنوهن فإنهن ملعونات» . وفي الكامل في ترجمة فضل بن مختار البصري عن عبيد الله بن موهب عن عصمة بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة طيرا أمثال البخاتي» . قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إنها لناعمة يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنعم منها من يأكلها وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر «6» » . البدنة: جمعها. بدن بضم الدال وإسكانها جاء القرآن وممن ذكر الضم الجوهري رحمه الله. وهو ما أشعر من ناقة أو بقرة. سميت بذلك لأنها تبدن أي تسمن. وقال النووي: هي البعير ذكرا كان أو أنثى وشرطها أن تكون في سن الأضحية عند الفقهاء وعند اللغويين، أو أكثرهم، تطلق على الإبل والبقر. وقال الأزهري: تكون في الإبل والبقر والغنم، سميت بذلك لعظم أبدانها ويشهد لاختصاصها بالإبل، ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قال «1» : «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة» . وفي مسند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، «في الساعة الرابعة بطة، وفي الخامسة دجاجة، وفي السادسة بيضة» . ووصف الكبش بالقرن لأنه أكمل وأحسن صورة وجمع البدنة بدن. قال تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «2» أي من أعلام دين الله، لكم فيها خير. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي نفع في الدنيا وأجر في الآخرة. حج صفوان بن سليم وليس معه إلا سبعة دنانير، فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال: إني سمعت الله تعالى يقول: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ وأول من أهدى البدن إلى البيت الحرام الياس بن مضر، وهو أول من وضع مقام إبراهيم عليه السلام للناس بعد غرق البيت وانهدامه، زمن نوح عليه السلام. فكان الياس أوّل من ظفر به فوضعه في زاوية البيت ولم تزل العرب تعظم الياس بن مضر إلى أن مات. ولما مات أسفت عليه زوجته خندف أسفا شديدا وحرمت الرجال، والطيب ونذرت أن لا تقيم ببلدة مات فيها ولا يأويها بيت، فلم تزل سائحة حتى هلكت حزنا. وكانت وفاته يوم الخميس، فنذرت أن تبكيه كلما طلعت شمس يوم الخميس حتى تغيب الشمس. قال السهيلي: ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تسبوا الياس فإنه كان مؤمنا» . وذكر أن الياس كان يسمع من صلبه تلبية النبي صلى الله عليه وسلم بالحج. وروى مسلم عن موسى بن سلمة الهذلي قال: انطلقت أنا وسنان بن سلمة معتمرين، قال وانطلق سنان ومعه بدنة يسوقها فأرجفت عليه بالطريق فغمني شأنها إذ هي أبدعت أي كلّت، فأتينا إلى ابن عباس نسأله فقال: على الخبير سقطت بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بست عشرة بدنة، مع رجل وأمره فيها فقال: يا رسول الله وما أصنع بما أبدع على منها قال «3» صلى الله عليه وسلم: «انحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ثم اجعله على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك» . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء الكلام على الهدى. وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له «4» : «اركبها قال: يا رسول الله إنها بدنة قال: اركبها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 قال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة وفي رواية ويلك اركبها ويلك اركبها» . وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إذا أردت أن تنحر البدنة فأقمها، ثم قل الله أكبر أللهم منك وإليك ثم سم وانحرها وكذلك في الأضحية. وفي الصحيحين «1» عن زياد بن جبير قال رأيت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال: ابعثها قائمة مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن قرظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القرو قرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بدنات أو ست ينحرهن فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها» . وفي ركوب البدنة مذاهب للعلماء: فذهب الشافعي إلى أنه يركبها إذا احتاج ولا يركبها من غير حاجة وإنما يركبها بالمعروف من غير اضرار بها. وبهذا قال ابن المبارك وابن المنذر وجماعة. وقال مالك وأحمد: له ركوبها من غير حاجة. وبه قال عروة بن الزبير وإسحاق بن راهويه. وقال أبو حنيفة: لا يركبها إلا أن لا يجد منه بدا. وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه يجب ركوبها لظاهر الأمر ودليل الجمهور أن النبي صلى الله عليه وسلم «أهدي ولم يركب هديه، ولم يأمر الناس بركوب الهدايا» . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ويلك» هذه الكلمة أصلها لمن وقع في هلكة فقال له ذلك لأنه كان محتاجا قد وقع في جهد وتعب وقيل: هذه الكلمة تجري على اللسان وتستعمل من غير قصد إلى ما وضعت له أولا وهي كقولهم لا أم له، لا أب له، تربت يداه، قاتله الله عقري حلقي وما أشبه ذلك. البذج: بالذال المعجمة من أولاد الضأن بمنزلة العتود من أولاد المعز وجمعه بدجان قال الشاعر: قد هلكت جارتنا من الهمج ... وإن تجع تأكل عتودا أو بذج قال الجوهري ومراده بالهمج، سوء التدبير في المعاش. وفي الحديث «يخرج رجل من النار كأنه بذج ترعد أوصاله» وروى ابن المبارك عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن وقتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «3» : قال: «يجاء برجل يوم القيامة كأنه بذج من الذل، فيوقف بين يدي الله تعالى، فيقول له: أعطيتك وخوّلتك وأنعمت عليك، فماذا صنعت؟ فيقول: رب جمعته ونميته وتركته أكثر ما كان فارجعني آتك به، فيقول الله تعالى: أرني ما قدمت فإذا هو عبد لم يقدم خيرا فيمضي به إلى النار» . خرجه ابن العربي المالكي في سراج المريدين. وقال: حديث صحيح من مراسيل الحسن. قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، رواه الترمذي عن إسماعيل بن مسلم المكي، وهو رواه عن الحسن، والبذج بباء موحدة مفتوحة وذال معجمة ساكنة ثم جيم من أولاد الضأن شبه به هذا لما يأتي به من الذل والحقارة انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وفي مسند أبي يعلى الموصلي، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بابن آدم يوم القيامة، كأنه بذج من الذل فيقول الله تعالى: أنا خير قسيم يا ابن آدم انظر إلى عملك الذي عملت لي فأنا أجزيك به، وانظر إلى عملك الذي عملت لغيري فإن جزاءك على الذي عملت له» . ورواه «1» الحافظ أبو نعيم في ترجمة الربيع بن صبيح مرفوعا. والبذج كلمة فارسية تكلمت بها العرب وعن بعض الأعراب أنه وجد متعلقا باستار الكعبة وهو يقول أللهم أمتني ميتة أبي خارجة فقيل له: وكيف مات أبو خارجة؟ قال: أكل بذجا وشرب مشعلا ونام شامسا فلقي الله تعالى شبعان ريان دفآن. المشعل أناء ينبذ فيه. الأمثال: قالوا «2» : «فلان أذل من بذج» لأنه أضعف ما يكون من الحملان. البراق: الدابة التي ركبها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء وركبها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. مشتقة من البرق الذي يلمع في الغيم. كما روي في حديث «3» المرور على الصراط. «فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح العاصف، ومنهم من يمر كالفرس الجواد» . وفي الصحيح أنه دابة دون البغل وفوق الحمار، أبيض يضع خطوه عند أقصى طرفه، ويؤخذ من هذا أنه أخذ من الأرض إلى السماء في خطوة وإلى السموات السبع في سبع خطوات. وبه يرد على من استبعد من المتكلمين احضار عرش بلقيس في لحظة واحدة، وقال: إنه أعدم ثم أوجد وعلله بأن المسافة البعيدة لا يمكن قطعها في هذه اللحظة، وهذا أوضح دليل في الرد عليه. قال السهيلي: ومما يسأل عنه شماس البراق حين ركبه صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل عليه السلام: أما تستحي يا براق فما ركبك عبد قبل محمد أكرم على الله منه؟ قال ابن بطال: إنما كان ذلك لبعد عهده بالأنبياء، وطول الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ونقل النووي عن الزبيدي في مختصر العين وعن صاحب التحرير، أنها دابة كان الأنبياء عليهم السلام يركبونها. ثم قال: وهذا الذي قالاه من اشتراك جميع الأنبياء فيها يحتاج إلى نقل صحيح. وقال صاحب المقتفي: والحكمة في كونه على هيئة بغل ولم يكن على هيئة فرس، التنبيه على أن الركوب كان في سلم وأمن لا في حرب وخوف، أو لإظهار الآية في الإسراع العجيب في دابة لا يوصف شكلها بالإسراع فإن قيل: ركب صلى الله عليه وسلم البغلة في الحرب، فالجواب أن ذلك كان لتحقيق نبوّته وشجاعته صلى الله عليه وسلم. قال: وكان البراق أبيض وكانت بغلته شهباء، وهي التي أكثرها بياض إشارة إلى تخصيصه بأشرف الألوان قال: واختلف الناس هل ركب جبريل عليه السلام معه صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: نعم، كان رديفه صلى الله عليه وسلم. قال: والظاهر عندي أنه لم يركب معه لأنه صلى الله عليه وسلم هو المخصوص بشرف الإسراء، لكن روي أن إبراهيم عليه السلام كان يزور ولده إسماعيل على البراق وأنه ركبه هو وإسماعيل وهاجر، حين أتى بهما البيت الحرام. وفي أواخر المستدرك عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 «أتيت بالبراق فركبت خلف جبريل «1» » . إلى أن قال: تفرد به أبو حمزة ميمون الأعور، وقد اختلفوا فيه، وفيه في ذكر مناقب فاطمة الزهراء رضي الله عنها عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تبعث الأنبياء عليهم السلام يوم القيامة على الدواب ليوافوا بالمؤمنين من قومهم المحشر، ويبعث صالح على ناقته، وأبعث على البراق خطوها عند أقصى طرفها، وتبعث فاطمة أمامي» وقال أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصفهاني، في كتاب الحجة إلى بيان المحجة: إن قيل لم عرج البراق به صلى الله عليه وسلم إلى السماء ولم ينزل عند منصرفه عليه؟ فالجواب أنه عرج به عليه إظهارا لكرامته، ولم ينزل عليه إظهارا لقدرة الله تعالى. وقيل: دل بالصعود على النزول به عليه كقوله «2» تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ يعني: والبرد وكقوله: بيده الخير أي والشر. وقال حذيفة: ما زايل ظهر البراق حتى رجع. ثم إن البراق يوم القيامة يركبه النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الأنبياء يدل لذلك ما رواه الحاكم قريبا وما رواه أبو الربيع بن سبع السبتي في شفاء الصدور عن سويد بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حوضي أشرب منه يوم القيامة أنا ومن استسقاني من الأنبياء عليهم السلام، ويبعث الله تعالى لصالح ناقته يحلبها ويشرب هو والذين آمنوا معه، ثم يركبها حتى يوافي بها الموقف ولها رغاء» فقال له رجل يا رسول الله وأنت يومئذ على العضباء؟ قال صلى الله عليه وسلم: «تلك تحشر عليها ابنتي فاطمة، وأنا أحشر على البراق، أخص به دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» . واختلف الناس في تاريخ الإسراء، فقال ابن الاثير: الصحيح عندي إنه كان ليلة الإثنين لسبع وعشرين من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وبهذا جزم شيخ الإسلام محي الدين النووي في شرح مسلم وجزم في فتاويه في كتاب الصلاة بأنه كان في شهر ربيع الآخر. وفي سير الروضة أنه كان في رجب وإنما كان ليلا لتظهر الخصوصية بين جليس الملك نهار أو جليسه ليلا. قال أهل التاريخ: ولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأقام في بني سعد خمس سنين ثم توفيت أمه بالأبواء، وهو ابن ست سنين، وكفله جده عبد المطلب. ثم توفي وهو ابن ثمان سنين فكفله عمه أبو طالب، وخرج معه إلى الشام وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ثم خرج صلى الله عليه وسلم في تجارة لخديجة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وتزوجها في تلك السنة وبنت قريش الكعبة، ورضيت بحكمه فيها وهو ابن خمس وثلاثين سنة وبعث صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة. وتوفي أبو طالب وهو ابن تسع وأربعين سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما. وتوفيت خديجة رضي الله تعالى عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام، ثم خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ومعه زيد بن حارثة رضي الله عنه بعد ثلاثة أشهر من موت خديجة رضي الله عنها، فأقام به شهرا ثم رجع إلى مكة في جوار المطعم بن عدي. فلما أتت له خمسون سنة قدم عليه جن نصيبين «3» فأسلموا. فلما أتت له إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر أسرى به صلى الله عليه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وهاجر إلى المدينة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة وهي السنة الثالثة عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم، وقيل هاجر في الرابعة عشرة من بعثته صلى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر الصديق ومولاه عامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن أريقط. وهذه السنة عليها مبني التاريخ الإسلامي وهي سنة أحد. وفيها آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصحابة رضي الله عنهم واتخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخا. وفيها أتمت صلاة الحضر، وقصرت صلاة السفر، وفيها تزوج علي فاطمة رضي الله تعالى عنهما وفي سنة اثنتين كانت غزوة ودان وهو إسم مكان، وغزوة بواط وهي من ناحية رضوى، وغزوة العشيرة، وغزوة بدر الأولى وكانت في جمادى الآخرة، وغزوة بدر الكبرى وهي التي قتل فيها صناديد قريش، وأعز الله تعالى بها الدين، وكانت يوم الجمعة ثالث عشر رمضان، وغزوة بني سليم، وكانت في ذي الحجة، خرج صلى الله عليه وسلم يريد أبا سفيان فلم يلفه، وفي سنة ثلاث كانت غزوة بني غطفان وغزوة نجران، وغزوة قينقاع وغزوة أحد وغزوة حمراء الأسد. وفي سنة أربع كانت غزوة بني النضير وغزوة ذات الرقاع وفي سنة خمس كانت غزوة دومة الجندل وغزوة الخندق وغزوة بني قريظة، وفي سنة ست كانت غزوة بني لحيان وغزوة بني المصطلق، وفي سنة سبع اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وغزا غزوة خبيبر، وفيها كانت قصة فدك وهي مشهورة وكانت فدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة. وفي سنة ثمان كانت غزوة مؤتة وفتح مكة المشرفة، وغزوة حنين وغزوة الطائف، وقسمة أموال هوازن. وفي سنة تسع كانت غزوة تبوك، وفي سنة عشر كانت حجة الوداع، ونحر فيها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين بدنة، وأعتق ثلاثا وستين رقبة هي عدد سني عمره. وفي سنة إحدى عشرة كانت وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان ابتداء الوجع في مستهل شهر ربيع الأول وتوفي في الثاني عشر منه. وعاش صلى الله عليه وسلم ثلاثا وستين سنة وكانت مدة مقامه في المدينة عشر سنين، وقد تقدم ذكر ذلك في باب الهمزة في الكلام على الاوز. وكان أولاده صلى الله عليه وسلم كلهم من خديجة رضي الله تعالى عنها، إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية وهم: الطيب والطاهر والقاسم وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم وإبراهيم سلام الله ورضوانه عليهم أجمعين. فأما الذكور فماتوا كلهم أطفالا. ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم في حياة خديجة غيرها، فلما ماتت تزوج سودة بنت زمعة رضي الله عنها وعائشة رضي الله تعالى عنها. ولم يتزوج صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها وماتت رضي الله تعالى عنها في أيام معاوية رضي الله تعالى عنه، سنة ثمان وخمسين عن سبع وستين سنة. وتزوج صلى الله عليه وسلم حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما سنة ثلاث وتوفيت في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه. وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة وتوفيت في حياته صلى الله عليه وسلم لم يمت عنده من نسائه غيرها، وغير خديجة رضي الله تعالى عنهما. وتزوج صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله تعالى عنها سنة أربع، وأمها عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفيت سنة تسع وخمسين في أيام معاوية أيضا رضي الله تعالى عنده، وقيل توفيت سنة إحدى وستين في يوم عاشوراء، وهو اليوم الذي قتل فيه الحسين رضي الله تعالى عنه. وتزوج صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش في سنة خمس وتوفيت في سنة عشرين في أيام عمر رضي الله عنهما، وهي أول أزواجه صلى الله عليه وسلم لحوقا به. وتزوج أم حبيبة وإسمها رملة بنت أبي سفيان وتوفيت سنة أربع وأربعين في أيام أخيها معاوية رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 عنهما. وتزوج جويرية بنت الحارث المصطلقية، وتوفيت سنة ست وخمسين في أيام معاوية. وتزوج ميمونة بنت الحارث في سنة سبع، وتوفيت سنة أربعين ومات عليه الصلاة والسلام عن تسع. البرذون: بكسر الباء وبالذال المعجمة، والجمع براذين والأنثى برذونة وكنيته أبو الأخطل. كني به لخطل أذنيه وهو استرخاؤهما، بخلاف أذن الفرس العربي، وهو الذي أبو أعجميان، والأعجمي من الناس الذي لا يفصح الكلام عجميا كان أو عربيا ألا تراهم قالوا زياد «1» الأعجم، لعجمة كانت في لسانه، وهو عربي قال صلى الله عليه وسلم: «صلاة النهار عجماء لإخفاء القراءة فيها» . لكن قال النووي إنه حديث باطل ويطلق العجمي والأعجمي على من ليس من أهل الكلام، قال صلى الله عليه وسلم: «العجماء جرحها جبار» وهي «2» الدابة المنفلتة. وإلا فالإجماع على تضمين السائق والقائد. وقال صاحب منطق الطيران: البرذون يقول كل يوم: أللهم إني أسألك قوت يوم بيوم. وروى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «كأني بالترك وقد أتتكم على براذين مجدّعة الآذان حتى تربطها بشط الفرات» . وروي أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه مر بمروان وهو يبني في داره بالمدينة، قال: فجلست إليه، والعمال يعملون فقلت ابنوا مشيدا وأملوا بعيدا وموتوا قريبا. فقال مروان إن أبا هريرة يحدث العمال فماذا تقول لهم يا أبا هريرة؟ قال: قلت ابنوا مشيدا وأملوا بعيدا وموتوا قريبا، يا معشر قريش ثلاث مرات اذكروا كيف كنتم أمس، وكيف أصبحتم اليوم تخدمون، أرقاؤكم فارس والروم، كلوا خبز السميذ واللحم السمين، لا يأكل بعضهم بعضا، ولا تكادموا تكادم البراذين، وكونوا اليوم صغارا تكونوا غدا كبارا، والله لا يرتفع رجل منكم في الدنيا درجة إلا وضعه الله يوم القيامة درجة وانشد السراج الوراق في مناهج الفكر في أوصاف الخيل المذمومة: لصاحب الأحباس برذونة ... بعيدة العهد عن القرط إذا رأت خيلا على مربط ... تقول سبحانك يا معطي تمشي إلى خلف إذا ما مشت ... كأنما تكتب بالقبطي قال الجاحظ: سألت بعض الأعراب أي الدواب آكل؟ قال: برذونة رغوث. وفي أواخر الجزء الخامس من الغيلانيات، وفي المستدرك في كتاب اللباس عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أتي رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على برذون وعليه عمامة وقد أرخى طرفها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 بين كتفيه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه؟ فقال: «هل رأيته» ؟ قلت نعم. قال «1» : «ذاك جبريل أمرني أن أمضي إلى بني قريظة» . وقال في الكامل، في حوادث سنة خمس عشرة. لما افتتح عمر رضي الله تعالى عنه بيت المقدس، وقدم إلى الشام أربع مرات: الأولى على فرس، والثانية على بعير، والثالثة رجع لأجل الطاعون، والرابعة على حمار، وكتب إلى امراء الأجناد أن يوافوه بالجابية «2» ، فركب فرسه فرأى به عرجا فنزل عنه، وأتى ببزدون فركبه، فجعل يتجلجل به أي يزهو في مشيته، فنزل عنه وصرف عنه وجهه، وقال: لا علّم الله من علّمك هذه الخيلاء. ثم ركب ناقته ولم يركب برذونا بعده ولا قبله أبدا. وكان عمر رضي الله تعالى عنه لما أراد الخروج إلى الشام، استخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فقال له علي: أنت تخرج بنفسك إلى هذا العدوّ الكلب؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أبادر بالجهاد قبل موت العباس رضي الله تعالى عنه، إنكم إذا فقدتم العباس رضي الله تعالى عنه انتقض بكم الشر، كما ينتقض الحبل، فمات العباس رضي الله تعالى عنه لست سنين من خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه وانتقض بالناس الشر كما قال عمر رضي الله تعالى عنه. وفي وفيات الأعيان في ترجمة «3» أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف البصري شيخ البصريين في الاعتزال، قال: خرجت من البصرة على برذون أريد المأمون ببغداد، فسرت إلى دير هرقل، فإذا رجل مشدود في حائط الدير، فسلمت عليه فرد علي السلام، وحملق إلي وقال: أمعتزلي أنت؟ قلت: نعم. قال: وأمامي أنت؟ قلت: نعم. قال: أنت إذن أبو الهذيل العلاف! قلت: أنا ذاك. قال: فهل للنوم لذة؟ قلت: نعم. قال: ومتى يجدها صاحبها؟ فقلت لقلبي: إن قلت مع النوم أخطأت، فإنه ذاهب العقل، وإن قلت قبل النوم أخطأت أيضا، لأنك أحلت على عدم، وإن قلت بعد النوم غلطت، لأنه شيء قد انقضى، قال: فتحير فهمي، وجال في الخاطر وهمي، وقلت له: قل أنت حتى أسمع منك وأنقل عنك؟ فقال: بشرط أن تسأل امرأة صاحب هذا الدير أن لا تضر بني يومي هذا. فسألتها فاجابت. فقال: إعلم أن النعاس داء يحل بالبدن ودواؤه النوم. فاستحسنت ذلك منه، وهممت بالإنصراف، فقال: يا أبا الهذيل قف وإسمع مسألة عظمى، قال: ما تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم أمين هو في السماء والأرض؟ قلت: نعم. قال: أتحب أن يكون الخلاف في أمته أم الوفاق؟ قلت: بل الوفاق والاتفاق: فقال: قال تعالى «4» : وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فما باله صلى الله عليه وسلم حين مرض مرض موته ما قال: هذا خليفتكم من بعدي؟ وقد نص صلى الله عليه وسلم على الوصية وحث عليها وحرض. قال أبو الهذيل: فلم أحر جوابا. وسألته الجواب فتنكرت حاله، فقتلت عنان برنوني وانصرفت عنه. فوصلت إلى المأمون فاستخبرني عن طريقي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 فأخبرته بما جرى، فأمر بإحضاره على حالته التي هو عليها، فأحضر فقال له المأمون، أعد السؤال الذي سألت عنه أبا الهذيل؟ فاعاده، وكان في المجلس جماعة من العلماء الأفاضل فما منهم من أجاب، فقال له المأمون: ما الجواب؟ فقال: سبحان الله أكون سائلا ومجيبا في حالة واحدة؟ فقال المأمون: وما عليك أن تفيدنا؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إعلم أن الله عز وجل حكم في سالف أزله، وقضى وقدر في سابق علمه، وأطلع نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك على حكمه، فلم يكن له أن يتعداه ولا أن يتخطاه، فترك الأمر على ما قدره الله تعالى وقضاه إذ لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، فاستحسن المأمون ذلك، وعرض له شغل فقام داخلا إلى داره فقال له المجنون: يا ابن اللخناء أخذت منفوعنا وفررت منا! فعاد المأمون وقال له: ما تشتهي؟ فقال: ألف دينار. وقال: وما تصنع بها؟ قال: آكل بها كسبا وتمرا، فأمر له بها وحمله إلى أهله وهو على حاله، وتوفي أبو الهذيل العلاف سنة سبع وعشرين ومائتين وذكروا أن السّنة في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب، وهو غشية ثقيلة تقع على القلب، تمنعه المعرفة بالأشياء. وقد نفى الله ذلك عن نفسه، بقوله «1» تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لأنه آفة، وهو سبحانه وتعالى منزه عن الآفات. ولأنه تغير ولا يجوز عليه تبارك وتعالى. وذكر «2» الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الأذكياء، عن خالد بن صفوان التيمي، أنه دخل على أبي العباس السفاح، وليس عنده أحد فقال: يا أمير المؤمنين إني والله ما زلت منذ قلدك الله الخلافة، أطلب أن أصير إلى مثل هذا الموقف في الخلوة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإمساك الباب، حتى أفرغ فليفعل فأمر الحاجب بذلك، فقال: يا أمير المؤمنين إني فكرت في أمرك، وأجلت الفكر فيك، فلم أر أحدا له قدرة واتساع على الاستمتاع بالنساء مثلك، ولا أضيق فيهن عيشا منك، إنك ملكت نفسك امرأة من نساء العالمين، فاقتصرت عليها، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وإن عركت عركت، وحرمت نفسك يا أمير المؤمنين التلذذ باستطراق الجواري، ومعرفة اختلاف أحوالهن، والتلذذ بما يشتهى منهنّ، فإن منهنّ الطويلة التي تشتهى لجسمها، والبيضاء التي تحب لرؤيتها، والسمراء اللعساء، والصفراء الذهبية، ومولدات المدينة، والطائف واليمامة، ذوات الألسن العذبة والجواب الحاضر، وبنات سائر الملوك، وما يشتهى من نضارتهنّ ونظافتهنّ. وتخلل خالد بلسانه فأطنب في صفات ضروب الجواري وشوقه إليهن، فلما فرغ من كلامه قال له السفاح: ويحك ملأت مسامعي بما شغل خاطري، والله ما سلك مسامعي كلام أحسن من هذا، فأعد علي كلامك فقد وقع مني موقعا فأعاد إليه خالد كلامه بأحسن مما ابتدأه، ثم قال له انصرف فانصرف. وبقي أبو العباس مفكرا فدخلت عليه أم سلمة زوجته، وكان قد حلف لها أن لا يتخذ عليها زوجة ولا سرية، ووفى لها بذلك، فلما رأته على تلك الحالة قالت له: إني لأنكرك يا أمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المؤمنين، فهل حدث شيء تكرهه؟ أو أتاك خبرا رتعت له؟ قال لا فلم تزل حتى أخبرها بمقالة خالد، فقالت: وما قلت لابن الفاعلة؟ فقال لها: أينصحني وتشتمينه؟ فخرجت إلى مواليها وأمرتهم بضرب خالد. قال خالد: فخرجت من الدار مسرورا بما ألقيت إلى أمير المؤمنين، ولم أشك في الصلة، فبينما أنا واقف، إذ أقبلوا يسألون عني فحققت أنه أمر لي بالجائزة، فقلت لهم: ها أناذا، فاستبق إلي أحدهم بخشبة فغمزت برذوني، فلحقني وضرب كفل البرذون، فركضت ففتهم، واستخفيت في منزلي أياما ووقع في قلبي أني أتيت من أم سلمة. فبينما أنا ذات يوم جالس في المجلس، فلم أشعر إلا بقوم قد هموا علي وقالوا: أجب أمير المؤمنين، فسبق إلى قلبي أنه الموت، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لم أر دم شيخ أضيع من دمي، فركبت إلى دار أمير المؤمنين فأصبته جالسا، ولحظت في المجلس بيتا عليه ستور رقاق، وسمعت حسا من خلف الستر فأجلسني، ثم قال: ويحك يا خالد وصفت لأمير المؤمنين صفة فأعدها فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمتك أن العرب إنما اشتقت إسم الضرتين من الضرر، وإن أحدا يكون عنده من النساء أكثر من واحدة إلا كان في ضر وتنغيص! فقال السفاح: لم يكن هذا كلامك أولا. قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الثلاث من النساء يدخلن على الرجل البؤوس، ويشبن الرؤوس! فقال السفاح: برئت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كنت سمعت هذا منك أو مر في حديثك. قلت: بلى يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الأربع من النساء شر مجموع لصاحبهن، يشيبنه ويهرمنه. قال: والله ما سمعت هذا منك أولا. قلت: بلى والله. قال: أتكذبني؟ قلت: أفتقتلني؟ نعم والله يا أمير المؤمنين إن أبكار الإماء رجال، إلا أنهن ليس لهن خصى، قال خالد: فسمعت ضحكا من خلف الستر ثم قلت: والله وأخبرتك أن عندك ريحانة قريش، وأنت تطمح بعينيك إلى النساء والجواري؟ فقيل لي من وراء الستر: صدقت والله يا عماه، بهذا حدثته، ولكنه غير حديثك، ونطق بما في خاطره عن لسانك، فقال له السفاح: قاتلك الله. قال خالد: فانسللت وخرجت. فبعثت إلي أم سلمة بعشرة آلاف درهم وبرذون وتخت ثياب. الحكم : هو كعموم الخيل. الخواص: إذا شربت امرأة دم برذون لم تحمل أبدا وزبله يخرج المشيمة والجنين الميت لخاصية فيه. وإذا جفف، وذر منه في الأنف حبس الرعاف. وإذا ذر على الجراحات حبس الدم. التعبير: البرذون في المنام خصومة، وقيل غلام، ويعبر أيضا برجل عجمي. والبراذين رجال أعاجم، ويعبر أيضا بامرأة فمن سرق برذونه طلق زوجته وضياعه فجور المرأة والله أعلم. البرغش: بفتح الباء والغين المعجمة نوع من البعوض. وأنشد الحافظ زكي الدين عبد العظيم لشيخه الحافظ أبي الحسن المقدسي شيخ والد الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ووفاته في مستهل شعبان سنة إحدى وعشرين وستمائة بالقاهرة: ثلاث باآت بلينا بها ... البق والبرغوث والبرغش «1» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ثلاثة أوحش ما في الورى ... يا ليت شعري أيها أوحش «1» البرغن: بفتح الباء والغين المعجمة وضمهما ولد البقرة الوحشية. البرغوث: بالثاء المثلثة واحد البراغيث. وضم بائه أشهر من كسرها وقولهم: أكلوني البراغيث لغة طيىء، وهي لغة ثابتة خرجوا عليها قوله «2» تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا على أحد المذاهب وقوله «3» عز وجل خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ ومثل: يتعاقبون فيكم ملائكة، وقوله في صحيح مسلم وغيره: «حتى احمرتا عيناه» واشباهه كثيرة معروفة. وقال سيبويه: لغة أكلوني البراغيث ليست في القرآن قال والضمير في وأسروا النجوى فاعل والذين بدل منه. وكنية البرغوث أبو طافر وأبو عدي وأبو الوثاب، ويقال له طامر بن طامر. وهو من الحيوان الذي له الوثب الشديد ومن لطف الله تعالى به، أنه يثب إلى ورائه ليرى من يصيده، لأنه لو وثب إلى أمامه، لكان ذلك أسرع إلى حمامه. وحكى الجاحظ «4» عن يحيى «5» البرمكي، أن البرغوث من الخلق الذي يعرض له الطيران، كما يعرض للنمل. وهو يطيل السفاد، ويبيض ويفرخ بعد أن يتولد، وهو ينشأ أولا من التراب، لا سيما في الأماكن المظلمة، وسلطانه في أواخر فصل الشتاء وأول فصل الربيع، وهو أحدب نزاء. ويقال: إنه على صورة الفيل له أنياب يعض بها وخرطوم يمص به. وحكمه: تحريم الأكل واستحباب قتله للحلال والمحرم، ولا يسب لما روى الإمام أحمد والبزار والبخاري في الأدب والطبراني في الدعوات عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يسب برغوثا. فقال: لا تسبه فإنه أيقظ نبيا لصلاة الفجر. وفي معجم الطبراني عن أنس رضي الله تعالى عنه. قال: ذكرت البراغيث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنها توقظ للصلاة أي لصلاة الفجر» . وفيه عن علي رضي الله تعالى عنه قال: نزلنا منزلا فآذتنا البراغيث فسببناها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ «لا تسبوها فنعمت الدابة فإنها أيقظتكم لذكر الله تعالى» . ويعفى عن قليل دمها في الثوب والبدن لعموم البلوى به وعسر الاحتراز. وقال أبو عمر بن عبد البر: أجمع العلماء على التجاوز والعفو عن دم البراغيث، ما لم يتفاحش. قال أصحابنا: ولا خلاف في العفو عن قليله إلا إذا حصل بفعله كما إذا قتله في ثوبه أو بدنه ففي العفو عنه وجهان: أصحهما العفو أيضا. وكذلك كل ما ليس له نفس سائلة كالبق والبعوض وشبههما. وسئل شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام عن ثوب فيه دم البراغيث هل يجوز للإنسان أن يلبسه رطبا ثم يصلي فيه؟ وإذا عرق فيه هل يصلي فيه؟ وهل يتنجس بذلك بدنه أو يعفي عنه؟ وهل يندب له غسله قبل وقته المعتاد؟ فأجاب نعم ينجس الثوب والبدن بذلك ولا يؤمر بغسله إلا في الأوقات المعتادة وغسله في غير ذلك ورع خارج عما كان السلف عليه. وكانوا أحرص على حفظ أديانهم من غيرهم. وأما الكثير من دم البراغيث فالأصح عند المحققين، كما قاله النووي، العفو عنه مطلقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 سواء انتشر بعرق أم لا. فائدة: مجربة صحيحة، للبراغيث وهو أن تأخذ قصبة فارسية، وتلطخها بلبن حمارة وشحم تيس وتغرسها في وسط الدار ثم تقول 25 مرة: أقسمت عليكم أيها البراغيث، إنكم جند من جنود الله من عهد عاد وثمود، وأقسمت عليكم بخالق الوجود، الفرد الصمد المعبود، أن تجتمعوا إلى هذا العود، ولكم علي المواثيق والعهود، إن لا أقتل منكم والدا ولا مولود، فإنها تجتمع فإذا اجتمعت إلى العود فخذها وارمها إلى مكان آخر ولا تقتل منها أحدا يبطل السر ثم تكنس البيت وتقول عليه 40 مرة وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ «1» فإن فعل ذلك، لم يدخل البيت برغوث أبدا وهو سر لطيف مجرب. فائدة: سئل مالك رحمة الله عليه، عن البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها؟ فأطرق مليا، ثم قال ألها نفس؟ قالوا: نعم. قال: ملك الموت يقبض أرواحها. ثم قرأ قوله «2» تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الآية. ويدل له ما يأتي في البعوض. الأمثال: قالوا «3» : «أطمر من برغوث» . «وأطير من برغوث» . وخاصيته: اللسع والأذى. قال بعض «4» الأعراب يصف البراغيث وقد سكن مصر: تطاول في الفسطاط ليلي ولم يكن ... بأرض الفضا ليل عليّ يطول ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... وليس لبرغوث عليّ سبيل وقد أجاد مجد الدين أبو الميمون الكناني حيث قال ملغزافي البراغيث: ومعشر يستحل الناس قتلهم ... كما استحلوا دم الحجاج في الحرم إذا سفكت دما منهم فما سفكت ... يداي من دمه المسفوك غير دمي وقال أبو الحسن بن سكرة الهاشمي في مليح يعرف بابن برغوث: بليت ولا أقول بمن لاني ... متى ما قلت من هو يعشقوه حبيب قد نفى عني رقادي ... فإن أغمضت أيقظني أبوه ومن محاسن شعره: كأن خالا لاح في خده ... للعين في سلسلة من عذار أسود يستخدم في جنة ... قيده مولاه خوف الفرار وله «5» أيضا: وما عشقي له وحشا لأني ... كرهت الحسن واخترت القبيحا ولكن غرت أن أهوى مليحا ... وكل الناس يهوون المليحا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وله «1» أيضا: تحمّل عظيم الذنب ممن تحبه ... وإن كنت مظلوما فقل أنا ظالم فإنك إن لم تغفر الذنب في الهوى ... يفارقك من تهوى وأنفك راغم وقيل: إن هذين البيتين للعباس بن الأحنف. توفي ابن سكرة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. فائدة: روى ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل إن عامل افريقية كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يشكو إليه الهوام والعقارب. فكتب إليه وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ الآية. قال: زرعة عبد الله أحد رواته. وينفع من البراغيث وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء آية أخرى نظير هذه، ذكرها في فردوس الحكمة. وفي كتاب الدعوات للمستغفري عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، وشرح المقامات للمسعودي عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا آذاك البرغوث، فخذ قدحا من ماء، واقرأ عليه سبع مرات وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ «2» الآية. ثم تقول إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا، ثم ترشه حول فراشك، فإنك تبيت آمنا من شرها. وقال حسين بن إسحاق: والحيلة في طرد البراغيث أن يؤخذ شيء من الكبريت والرواند، فيدخن بهما في البيت، فإنهن يهربن أو يمتن، أو يحفر في البيت حفيرة، ويلقي فيها ورق الدفلى، فإنهن يأوين إليها كلهن فيقعن فيها. وقال الرازي: يرش البيت بطبيخ الشونيز فإنه يقتل براغيثه. وقال غيره: إذا نقع السذاب في ماء ورش في بيت ماتت براغيثه. وإذا بخر البيت بمشاق الكتان القديم وقشور النارنج لا تعود البراغيث إليه أبدا. وإذا دخل البرغوث في أذن الإنسان اليمنى، فليمسك بيده اليمنى خصية نفسه اليسرى، وإذا دخل في أذنه اليسرى فليسمك بيده اليسرى خصية نفسه اليمنى، فإنه يخرج سريعا. التعبير: البراغيث في المنام اعداء ضعاف طعانون، وتعبر أيضا بأوباش الناس، وقال جاماسب: من قرصه برغوث نال مالا. البرا: بضم الباء طائر يسمى السمويل وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة. البرقانة: الجرادة المتلونة وجمعها برقان قاله ابن سيده. البرقش: بكسر الباء الموحدة ثم راء مهملة فقاف فشين معجمة، طائر صغير مثل العصفور، ويسميه أهل الحجاز الشرشور وأما أبو براقش، فسيأتي في آخر الباب إن شاء الله تعالى. وبراقش إسم كلبة ضرب بها المثل فقالوا «على أهلها دلت براقش» . لأنها سمعت وقع حوافر الدواب، فنبحت فاستدلوا بنباحها على القبيلة فاستباحوهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 البركة: بالضم طائر من طيور الماء والجمع برك. قال زهير «1» يصف قطاة فرت من صقر إلى ماء جار على وجه الأرض: حتى استغاثت بماء لا رشاء له ... بين الأباطح في حافاته البرك قال ابن سيده: البركة من طير المساء، والجمع برك وأبراك وبركان. وعندي إن ابراكا وبركانا جمع الجمع، والبركة أيضا الضفدع، وقد فسر به بعضهم قول زهير في حافاته البرك انتهى كلامه. قال: والبرك: جماعة الإبل الباركة الواحد بارك والأنثى باركة قاله في العباب. البشر: الإنسان الواحد والجمع والمذكر والمؤنث في ذلك سواء. وقد يثنى وفي التنزيل أنؤمن لبشرين مثلنا والجمع أبشر. البط: طائر الماء الواحدة بطة، وليست الهاء للتأنيث وإنما هي للواحد من الجنس يقال: هذه بطة للذكر والأنثى جميعا مثل حمامة ودجاجة وليس بعربي محض والبط عند العرب صغاره وكباره أوز وحكمه، وخواصه كالاوز. وفي مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن رويس، قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في يوم نحر فقرب إلينا خزيرة، فقلنا: أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط. يعنون الأوز فإن الله تعالى قد أكثر الخير. فقال: يا ابن رويس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «2» : «لا يحل لخليفة من مال الله تعالى إلا قصعتان: قصعة يأكلها، وقصعة يضعها بين أيدي الناس» . وفي كامل ابن عدي في ترجمة علي بن زيد بن جدعان قال سفيان بن عيينة: سمعت علي بن زيد بن جدعان سنة سبع وستين يقول: مثل النساء إذا اجتمعن بمنزلة البط إذا صاحت واحدة صحن جميعا. فرع: قال الماوردي: البط الذي لا يطير من الاوز لا جزاء فيه إذا قتله المحرم، لأنه ليس بصيد، وقال غيره: الطيور المائية التي تغوص في الماء، وتخرج منه محرمة على المحرم، ومثلوه بالبط. أما الذي لا يعيش إلا في الماء كالسمك فلا يحرم صيده. ولا جزاء فيه والجراد من صيد البريجب الجزاء بقتله على الصحيح. ومن الأمثال الساشرة بين العامة: «أو للبط تهددين بالشط» قلت: وقد أذكرني هذا ما حكاه القاضي أحمد بن خلكان رحمه الله في ترجمة «3» السلطان نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سنان بن سليمان بن محمد الملقب براشد الدين صاحب القلاع الاسماعيلية مكاتبات، فكتب السلطان إليه كتابا يهدده فيه فكتب سنان جوابه أبياتا ورسالة وهما: يا للرجال لأمر هال مفظعه ... ما مر قط على سمعي توقعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 يا ذا الذي بقراع السيف هدّدنا ... لا قام قائم جنبي حين تصرعه «1» قام الحمام إلى البازي يهدده ... واستيقظت لأسود الغاب اضبعه «2» أضحى يسد فم الأفعى بإصبعه ... يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه وقفنا على تفصيله وجمله، وعلمنا ما تهددنا به من قوله وعمله، فيالله العجب من ذبابة تطن في إذن فيل، وبعوضه تعد في التماثيل، ولقد قالها قبلك آخرون، فدمرنا عليهم وما كان لهم ناصرون، أو للحق تدحضون، وللباطل تنصرون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأما ما صدرت به من قولك من قطع راسي وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض. كم بين قوي وضعيف، ودني وشريف؟ وإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات، وعدلنا عن البواطن والمعقولات، قلنا اسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «3» «ما أوذي نبي ما أوذيت» . وقد علمتم ما جرى على عترته، وأهل بيته وشيعته، والحال ما حال والأمر ما زال، ولله الحمد في الآخرة والأولى، إذ نحن مظلومون لا ظالمون، ومغصوبون لا غاصبون. وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، وقد علمتم ظاهر حالنا، وكيف قتال رجالنا، وما يتمنونه من الفوت، ويتقربون به إلى حياض الموت، قال: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ «4» . وفي أمثال العامة السائرة: «أو للبط تهددين بالشط» . فهي للبلايا جلبابا، وتدرع للرزايا أثوابا، فلأظهرن عليك منك، ولأفنينهم فيك عنك، ولا تكونن كالباحث عن حتفه بظلفه، والجادع مارن أنفه بكفه، وإذا وقفت على كتابنا فكن لأمرنا بالمرصاد، ومن حالك على اقتصاد، واقرأ أوّل النحل وآخر صاد، ثم اختتمها بهذين البيتين «5» . بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت ... بيوتك فيه واستقرّ عمودها فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى ... مغارسها قد ما وفينا جديدها ويشبه هذا ما حكاه أيضا في ترجمة يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب بلاد المغرب، وكان بينه وبين الأدفونش صاحب طليطلة، مكاتبات قال: بعث الأدفونش رسولا إلى الأمير يعقوب يتوعده ويتهدده، ويطلب منه بعض الحصون، وكتب إليه رسالة من إنشاء وزيره ابن النجار وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 بإسمك أللهم فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح. أما بعد: فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب، ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية، كما أني أمير الملة النصرانية، وقد عملت الآن ما عليه رؤساء الأندلس من التخاذل، والتواكل والتكاسل، واهمالهم أمر الرعية، واخلادهم إلى الراحة والأمنية، وأنا أسوسهم بحكم القهر وجلاء الديار، وأسبي الذراري وامثل بالرجال، وأذيقهم عذاب الهون وشديد النكال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرتهم إذا أمكنتك يد القدرة، وساعدك من عساكرك وجنودك ذو رأي وخبرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى قد فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، والآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا رحمة منه ومنا، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعا، ولا تملكون امتناعا، وقد حدثنا عنك إنك أخذت في الاحتفال، وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك سنة بعد أخرى، وتقدم رجلا وتؤخر أخرى، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك، أم التكذيب بوعد ربك؟ ثم قيل لي: إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلا، ولعله لا يسوغ لك التقحم فيه سبيلا، وها أنا أقول لك، ما فيه الراحة لك، واعتذر عنك ولك، على أن تفي بالعهود والمواثيق، والاستكثار من الرهان، وترسل إلي جملة من عبيدك بالمراكب والشواني، والطرائد والمسطحات، وإلا جزت بجملتي إليك، فأقاتلك في أعز الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك، وهدية عظيمة مثلت بين يديك وإن كانت لي كانت لي اليد العليا عليك، واستحقيت إمارة الملتين، والحكم على البرين، والله يوفق للسعادة، ويسهل الإرادة لا رب غيره، ولا خير إلا خيره. فمزق يعقوب الكتاب وكتب على قطعة منه ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها، وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ «1» الجواب ما ترى لا ما تسمع واستشهد ببيت المتنبي: ولا كتب إلا المشرفيّة عنده ... ولا رسله إلا الخميس العرموم «2» ثم أمر بكتب الاستنفار، واستدعى الجيوش من الأمصار، وضربت السرادقات من يومه بظاهر البلد، وسار إلى البحر المعروف بزقاق سبته فعبر فيه إلى الأندلس، ودخل بلاد الفرنج فكسرهم كسرة شنيعة، وعاد بغنائمهم. وكان الأمير يعقوب متمسكا بالشرع يأمر بالمعروف، ويقيم الحدود في أهل بيته، كما يقيمها في الناس أجمعين وأمر برفض فروع الفقه، وأن الفقهاء لا يفتون إلا بالكتاب العزيز والسنة النبوية، ولا يقلدون أحدا، وأن تكون أحكامهم بما يؤدّي إليه اجتهادهم، من استنباطهم القضايا من الكتاب والحديث، والإجماع والقياس. وقد وصل إلينا من المغرب جماعة على تلك الطريقة منهم: أبو عمرو وأبو الخطاب ابنا دحية ومحيي الدين بن عربي الصوفي، «صاحب الفصوص» . «والفتوحات المكية» . «وعنقاء مغرب» . وغيرهم. وتوفي الأمير يعقوب في سنة تسع أو عشر وستمائة رحمة الله تعالى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ولنعد إلى ذكر السلطان محمود، قال ابن الأثير: بلغ من عدل نور الدين الشهيد، أنه أوّل من بنى دارا لكشف الظلامات، وسماها دار العدل، وسببه أنه لما أقام بدمشق بأمرائه وفيهم أسد الدين «1» شيركوه، تعدى كل منهم على من جاوره، فكثرت الشكاوى إلى القاضي كمال الدين السّهروردي «2» ، فأنصف بعضهم من بعض، ولم يقدر على الإنصاف من شيركوه، لأنه كان أكبر الأمراء فبلغ ذلك نور الدين الشهيد، فأمر ببناء دار العدل، فلما سمع شيركوه قال لنوّابه: ما بنى نور الدين هذه الدار إلا بسببي، وإلا فمن يمتنع على القاضي كمال الدين؟ والله لئن أحضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه! فامضوا إلى كل من كان بينكم وبينه شيء فافصلوا الحال معه، وأرضوه، ولو أتى على جميع ما بيدي. قال: فظلم رجل بعد موت نور الدين الشهيد فشق ثوبه واستغاث: يا نور الدين فاتصل خبره بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فأزال ظلامته فبكى الرجل أشد من الأول، فسئل عن ذلك فقال: أبكي على سلطان عدل فينا بعد موته. وتوفي نور الدين الشهيد في شوّال سنة تسع وستين وخمسمائة بقلعة دمشق بعلة الخوانيق، وكان الأطباء قد أشاروا عليه بالفصد فامتنع، وكان مهيبا فما روجع ودفن بالقلعة. ثم نقل إلى تربته بمدرسته التي أنشأها عند باب سوق الخوّاصين. والدعاء عند قبره مستجاب وقد جرب، وكان رحمه الله، ملكا عادلا عابدا ورعا متمسكا بالشريعة، مائلا إلى أهل الخير مجاهدا، كثير الصدقات بنى المدارس بجميع بلاد الشأم، والمارستان بدمشق، ودار الحديث بها وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري، وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي، وبني الرباطات للصوفية والفنادق في المنازل، وأثر في الإسلام آثارا حسنة لم يسبق إليها وانتزع من أيدي الكفار نيفا وخمسين مدينة، ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى. وتوفي السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة بها، قال «3» ابن خلكان: ولما مات كتب القاضي الفاضل «4» ساعة موته بطاقة إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب، مضمونها: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت إلى مولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه، وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودّعت أباك مخدومي وداعا لا تلاقي بعده وقبلت عني وعنك خده وأسلمته إلى الله عز وجل مغلوب الحيلة، ضعيف القوّة راضيا عن الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله، وبالباب من الأجناد المجندة والأسلحة والأعمدة ما لا يردّ البلاء، ولا يملك دفع القضاء وتدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا عليك لمحزونون يا يوسف، وأما الوصايا فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يحتاج إليها، والآراء فقد شغلتني المصائب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع الاتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم. وإن كان غيره فالمصائب المستقبلة أهونها موته، وهو البلاء العظيم، والسلام. وكان رحمه الله مع سعة ملكه كثير التواضع، قريبا من الناس، رحيم القلب، كثير الاحتمال والمداراة يميل لأهل الفضل ويستحسن الأشعار الجيدة ويرددها في مجلسه وكان كثيرا ما ينشد قول محمد بن الحسين الحميري «1» : وزارني طيف من أهوى على حذر ... من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا «2» فكدت أوقظ من حولي به فرحا ... وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا ثم انتبهت وآمالي تخيل لي ... نيل المتى فاستحالت غبطتي أسفا وكان رحمه الله كثيرا ما يتمثل بهذين البيتين وهما «3» : عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى ... وللمشتري دنياه بالدين أعجب وأعجب من هذين من باع دينه ... بدنيا سواه فهو من ذين أخيب وعمر رحمه الله ستا وخمسين سنة وشهورا. البطس: أنواع من السمك لها مرارات يكتب بها الكتب فإذا جففت قرئت في الظلام كما نقرأ بالنهار في ضوء الشمس ذكر ذلك صاحب المعطار. البعوض: دويبة. قال الجوهري: إنه البق الواحدة بعوضة وهو وهم والحق أنه صنفان، وهو يشبه القراد لكن أرجله خفيفة، ورطوبته ظاهرة ويسمى بالعراق والشأم الجرجس. قال الجوهري: وهو لغة في القرقس، وهو البعوض الصغار، والبعوض على خلقة الفيل إلا أنه أكثر أعضاء من الفيل فإن للفيل أربع أرجل وخرطوما وذنبا. وله مع هذه الأعضاء رجلان زائدتان، وأربعة أجنحة وخرطوم الفيل مصمت، وخرطومه مجوّف نافذ للجوف، فإذا طعن به جسد الإنسان استقى الدم وقذف به إلى جوفه فهو له كالبلعوم والحلقوم، ولذلك اشتد عضها وقويت على خرق الجلود الغلاظ قال الراجز: مثل السّفاة دائما طنينها ... ركّب في خرطومها سكينها «4» ومما ألهمه الله تعالى إنه إذا جلس على عضو من أعضاء الإنسان، لا يزال يتوخى بخرطومه المسام التي يخرج منها العرق، لأنها أرق بشرة من جلدة الإنسان فإذا وجدها وضع خرطومه فيها، وفيه من الشره أن يمص الدم إلى أن ينشق ويموت أو إلى أن يعجز عن الطيران، فيكون ذلك سبب هلاكه. ومن عجيب أمره أنه ربما قتل البعير وغيره، من ذوات الأربع، فيبقى طريحا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الصحراء، فتجتمع السباع حوله والطير التي تأكل الجيف فمن أكل منها شيئا مات لوقته. وكان بعض الجبابرة من الملوك بالعراق يعذب بالبعوض، فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجردا إلى بعض الآجام التي بالبطائح ويتركه فيها مكتوفا، فيقتل في أسرع وقت، وأقرب زمان وما أحسن قول أبي الفتح البستي «1» في هذا المعنى: لا تستخفن الفتى بعداوة ... أبدا وإن كان العدو ضئيلا إن القذى يؤذي العيون قليله ... ولربما جرح البعوض الفيلا وما ألطف ما قال بعضهم: لا تحقرن صغيرا في عداوته ... إن البعوضة تدمي مقلة الأسد ونحوه قول أبي نصر السعدي «2» : ولا تحقرن عدوا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر فإن الحسام يحز الرقاب ... ويعجز عما تنال الإبر وله أيضا وقيل إنه لجمال الدين بن مطروح «3» : يا من لبست عليه أثواب الضنا ... صفرا موشحة بحمر الأدمع «4» أدرك بقية مهجة لو لم تذب ... أسفا عليك رميتها عن أضلعي ومن محاسن شعره أيضا قوله «5» : لما وقفنا للوداع وصارما ... كنا نظن من النوى تحقيقا نثروا على ورق الشقائق لؤلؤا ... ونثرت من ورق البهار عقيقا «6» ونحوه قول إبراهيم علي القيرواني صاحب «7» زهر الأدب وغيره وكان كلفا بالمعذرين: ومعذرين كأن نبت خدودهم ... أقلام مسك تستمد خلوقا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 نظموا البنفسج بالشقيق ونضدوا ... تحت الزبرجد لؤلؤا وعقيقا «1» وروى «2» الترمذي، وقال حديث حسن صحيح عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها كافرا شربة ماء» . وكذلك رواه الحاكم وصححه. وقال الشاعر في ذلك: إذا كان شيء لا يساوي جميعه ... جناح بعوض عند من كنت عبده وأشغل جزء منه كلك ما الذي ... يكون على ذا الحال قدرك عنده ومعنى هوان الدنيا على الله تعالى أنه سبحانه لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقا موصلة إلى ما هو المقصود بنفسه. وإنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء إنما جعلها دار محنة وبلاء وإنه ملكها في الغالب الجهلة والكفرة، وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال. وحسبك بها هوانا على الله أنه سبحانه وتعالى، صغرها وحقرها وأبغضها، وأبغض أهلها ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها، إلا بالتزود منها، والتأهب للإرتحال عنها. ويكفي في ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه أو عالم أو متعلم» . وهو «3» حديث حسن غريب. ولا يفهم من هذا اباحة لعن الدنيا وسبها مطلقا. لما روى أبو موسى الأشعري، رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر، إن العبد إذا قال: لعن الله الدنيا قالت الدنيا لعن الله أعصانا لربه» . خرجه الشريف أبو القاسم زيد بن عبد الله بن مسعود الهاشمي وهذا يقتضي المنع من سب الدنيا ولعنها. ووجه الجمع بينهما أن المباح لعنه من الدنيا ما كان منها مبعدا عن ذكر الله وشاغلا عنه، كما قال بعض السلف كل ما يشغلك عن ذكر الله من مال وولد فهو مشؤوم عليك، وهو الذي نبه عليه الله تعالى بقوله «4» : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وأما ما كان من الدنيا، يقرب من الله ويعين على عبادته، فهو المحمود بكل لسان المحبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب، بل يرغب فيه ويحب، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال: إلا ذكر الله وما والاه أو عالم أو متعلم، وهو المصرح به في قوله «نعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر» ، وبهذا يرتفع التعارض بين الحديثين وفي الإحياء للغزالي في الباب السادس من أبواب العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «5» : «إن العبد لينشر له من الثناء ما بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المشرق والمغرب ولا يزن عند الله جناح بعوضة» . وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «1» : «ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرؤوا إن شئتم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» . رواه البخاري في التفسير، ومثله في التوبة. قال العلماء: معنى هذا الحديث أنهم لا ثواب لهم وأعمالهم مقابلة بالعذاب فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار. وقال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن عند الله شيئا، وقيل: المراد المجاز والاستعارة كأنه قال لا قدر لهم عندنا يوم القيامة وفيه من الفقه ذم السمن لمن تكلفه لما في ذلك من تكلف المطاعم الزائدة على قدر الكفاية وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الرجال إلى الله الحبر السمين» . قال وهب بن منبه لما أرسل الله تعالى البعوض على النمروذ، اجتمع منه في عسكره ما لا يحصى عددا، فلما عاين النمروذ ذلك، انفرد عن جيشه ودخل بيته وأغلق الأبواب وأرخى الستور ونام على قفاه مفكرا، فدخلت بعوضة في أنفه وصعدت إلى دماغه فعذب بها أربعين يوما حتى إنه كان يضرب برأسه الأرض وكان أعز الناس عنده من يضرب رأسه ثم سقطت منه كالفرخ وهي تقول كذلك يسلط الله رسله على من يشاء من عباده ثم هلك حينئذ. وقال محمد بن العباس «2» الخوارزمي الطبرخزي في الوزير أبي القاسم المزني لما قبض عليه: لا تعجبوا من صيد صعوبازيا ... إن الأسود تصاد بالخرفان قد غرقت أملاك حمير فأرة ... وبعوضة قتلت بني كنعان وروى جعفر «3» الصادق بن محمد الباقر، عن أبيه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عليه السلام، عند رأس رجل من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ارفق بصاحبي فإنه مؤمن» . قال: «إني بكل مؤمن رفيق وما من أهل بيت إلا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات ولو أني أردت قبض روح بعوضة ما قدرت حتى يكون من الله تعالى الأمر بقبضها» . قال جعفر بن محمد بلغني أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلاة انتهى. ومن هذا وما تقدم عن مالك في البراغيث، يعلم أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح والبعوضة على صغر جرمها قد أودع الله تعالى في دماغها قوة الحفظ وفي وسطه قوة الفكر وفي مؤخره قوة الذكر. وخلق لها حاسة البصر وحاسة اللمس وحاسة الشم، وخلق لها منفذا اللغذاء ومخرجا للفضلة، وخلق لها جوفا وأمعاء وعظاما. فسبحان من قدر فهدى ولم يخلق شيئا من المخلوقات سدى وأنشد الزمخشري «4» في تفسير سورة البقرة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل «1» امنن علي بتوبة تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول «2» ونقل ابن خلكان عن بعض الفضلاء، أن الزمخشري أوصى أن تكتب هذه الأبيات على قبره. ويروي عوض امنن علي بتوبة كما قال بعضهم: اغفر لعبد تاب من فرطاته ... ما كان منه في الزمان الأول وفي تاريخ «3» ابن خلكان وغيره أن الزمخشري كان يعتقد الاعتزال ويتظاهر به، وكان إذا استأذن على صاحب له بالدخول، يقول: أبو القاسم المعتزلي بالباب. وأول ما صنف من الكتب الكشاف فكتب في أول خطبته: الحمد لله الذي خلق القرآن فقيل له: إن تركته على هذه الهيئة، هجره الناس فغيره، وقال: الحمد لله الذي جعل القرآن وجعل عندهم بمعنى خلق. ويوجد في كثير من النسخ الحمد لله الذي أنزل القرآن وهو من إصلاح الناس لا من إصلاح المصنف فافهم. توفي الزمخشري ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وقد تكلم في الإحياء في باب المحبة على خلق البعوضة وصفتها وما أودعه الله تعالى فيها من الأسرار. فائدة: رأيت في كتاب الدعاء للشيخ الإمام العلامة أبي بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي «4» ، ويعرف بابن أبي رنده بالراء المهملة المفتوحة وتسكين النون، وهو إمام ورع أديب متقلل، وفاته بالأسكندرية سنة اثنتين وخمسمائة، عن مطرف بن عبد الله بن أبي مصعب المدني أنه قال: دخلت على المنصور فوجدته مغموما حزينا قد امتنع من الكلام، لفقد بعض أحبته فقال لي: يا مطرف طرقني من الهم ما لا يكشفه إلا الله الذي بلا به، فهل من دعاء أدعو به عسى يكشفه الله عني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني محمد بن ثابت عن عمر بن ثابت البصري قال: دخلت في أذن رجل من أهل البصرة بعوضة حتى وصلت إلى صماخه فأنصبته وأسهرته ليله ونهاره، فقال له رجل من أصحاب الحسن البصري: يا هذا ادع بدعاء العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعا به في المفازة وفي البحر فخلصه الله تعالى. فقال له الرجل: وما هو رحمك الله؟ فقال قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: بعث العلاء بن الحضرمي في جيش، كنت فيهم، إلى البحرين فسلكنا مفازة فعطشنا عطشا شديدا حتى خفنا الهلاك، فنزل العلاء وصلى ركعتين ثم قال: يا حليم يا عليم يا علي يا عظيم اسقنا، فجاءت سحابة كأنها جناح طائر، فقعقعت علينا وأمطرتنا حتى ملأنا الانية، وسقينا الركاب ثم انطلقنا حتى أتينا على خليج من البحر، ما خيض قبل ذلك اليوم، ولا خيض بعده، فلم نجد سفنا فصلى العلاء ركعتين، ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قال: يا حليم يا عليم يا علي يا عظيم أجرنا، ثم أخذ بعنان فرسه ثم قال بسم الله جوزوا. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فمشينا على الماء فو الله ما ابتل لنا قدم ولا خف ولا حافر. وكان الجيش أربعة آلاف. قال فدعا الرجل بها فو الله ما برحنا حتى خرجت من أذنه لها طنين، حتى صكت الحائط وبرأ الرجل. قال: فاستقبل المنصور القبلة ودعا بهذا الدعاء ساعة ثم أقبل بوجهه إلي وقال: يا مطرف قد كشف الله عني ما كنت أجده من الهم، ودعا بالطعام فأجلسني فأكلت معه. ويقرب من هذا ما حكاه ابن خلكان في ترجمة موسى «1» الكاظم بن جعفر الصادق أن هارون الرشيد حبسه في بغداد ثم دعا صاحب شرطته ذات يوم فقال له: رأيت في منامي حبشيا أتاني، ومعه حربة، وقال: إن لم تخل عن موسى بن جعفر وإلا نحرتك بهذه الحربة فإذهب فخلّ عنه وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له إن أحببت المقام عندنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فامض. قال صاحب الشرطة: ففعلت ذلك وقلت له: لقد رأيت من أمرك عجبا فقال: أنا أخبرك بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا موسى حبست مظلوما، فقل هذه الكلمات فإنك لا تبيت هذه الليلة في السجن، قل: يا سامع كل صوت ويا سابق كل فوت ويا كاسي العظام لحما ومنشرها بعد الموت، أسألك بأسمائك العظام وبإسمك الأعظم الأكبر المخزون المكنون الذي لم يطلع عليه أحد من المخلوقين يا حليما ذا أناة لا يقدر على اناته يا ذا المعروف الذي لا ينقطع معروفه أبدا، ولا نحصي له عددا، فرّج عني. فكان ما ترى. وتوفي موسى الكاظم في رجب سنة ثلاث وقيل سنة سبع وثمانين ومائة ببغداد مسموما، وقيل إنه توفي في الحبس وكان الشافعي يقول قبر موسى الكاظم الترياق المجرب، وقد أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه الخطيب أبو بكر في تاريخه وابن خلكان أيضا في ترجمة يعقوب «2» بن داود أن المهدي حبسه في بئر وبنى عليها قبة فمكث فيها خمس عشرة سنة وكان يدلي له فيها كل يوم رغيف خبز وكوز ماء، ويؤذن بأوقات الصلاة قال فلما كان في رأس ثلاث عشرة سنة أتاني آت في منامي فقال: قد حن يوسف إلى رب فأخرجه ... من قعر جب وبيت حوله غمم «3» قال: فحمدت الله تعالى وقلت: أتاني الفرج، فمكثت حولا لا أرى شيئا، ففي رأس الحول أتاني ذلك الآتي فأنشدني: عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم خليقته أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قال: ثم أقمت حولا آخر لا أرى شيئا، ثم أتاني ذلك الآتي في رأس الحول فأنشدني: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله النائي الغريب قال: فلما أصبحت نوديت فظننت أني أوذن بالصلاة فأدلي لي حبل، فربطت نفسي به ونشلت من البئر فانطلق بي، فأدخلت على الرشيد فقيل لي: سلم على أمير المؤمنين، فقلت السلام عليك يا أمير المؤمنين المهدي فقال لي: لست به. فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين الهادي. فقال لي: لست به. فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: الرشيد، فقلت الرشيد. فقال: يا يعقوب، ما شفع فيه إلى أحد غير أني حملت الليلة صبية لي على عنقي فذكرت حملك إياي على عنقك، فرثيت لك وأخرجتك. وكان يعقوب يحمل الرشيد على عنقه وهو صغير يلاعبه ثم أمر له بجائزه وصرفه. الحكم: يحرم أكلها لاستقذارها. فائدة: روى البخاري في الأدب والترمذي في مناقب الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، من حديث عبد الرحمن بن أبي نعيم قال: كنت عند ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فسأله رجل عن دم البعوض فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق. فقال ابن عمر رضي الله عنهما أنظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول «1» : «هما ريحانتاي من الدنيا» . قال: ولم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، من الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وروى ابن حبان والترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه، قال: «كان الحسن أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الصدر والرأس والحسين أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك «2» » . فائدة أخرى: ذكر في الروض الزاهر عن الشعبي، قال: لما بلغ الحجاج أن يحيى بن يعمر يقول: إن الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحيى «3» بن يعمر بخراسان. فكتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم والي خراسان أن ابعث إلي يحيى بن يعمر، فبعث به إليه قال الشعبي: وكنت عند الحجاج حين أتي به إليه، فقال له الحجاج: بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: أجل يا حجاج. قال الشعبي: فعجبت من جراءته بقوله يا حجاج! فقال له الحجاج: والله إن لم تخرج منها، وتأتني بها مبينة واضحة من كتاب الله تعالى، لألقين الأكثر منك شعرا. ولا تأتني بهذه الآية نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ «4» قال: فإن خرجت من ذلك، وأتيتك بها واضحة مبينة من كتاب الله تعالى، فهو أماني؟ قال: نعم. فقال: قال الله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ «1» ثم قال يحيى بن يعمر: فمن كان أبا عيسى وقد ألحقه الله بذرية إبراهيم؟ وما بين عيسى وإبراهيم أكثر مما بين الحسن والحسين. ومحمد صلوات الله عليه وسلامه. فقال له الحجاج: ما أراك إلا قد خرجت، وأتيت بها مبينة واضحة، والله لقد قرأتها وما علمت بها قط، وهذا من الاستنباطات البديعة. ثم قال له الحجاج: أخبرني عني هل ألحن؟ فسكت. فقال: أقسمت عليك. فقال: أما إذ أقسمت علي أيها الأمير، فإنك ترفع ما يخفض وتخفض ما يرفع. فقال: ذاك والله اللحن السيء. ثم كتب إلى قتيبة بن مسلم: إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمر على قضائك والسلام. وقيل: إن الحجاج قال ليحيى: أسمعتني ألحن؟ قال: في حرف واحد. قال: في أي؟ قال: في القرآن. قال: ذلك أشنع ما هو! قال: تقول قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ «2» إلى قوله: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ فتقرأها بالرفع. فقال له الحجاج: لا جرم تسمع لي لحنا. وألحقه بخراسان. قال الشعبي: كان الحجاج لما طال عليه الكلام نسي ما ابتدأ به. وذكره ابن خلكان في ترجمة يحيى بن يعمر «3» ، وفيه بعض مخالفة. قلت: في كلام يحيى تصريح بأن الضمير في ومن ذريته، يعود على إبراهيم والذي في الكواشي والبغوي وغيرهما أن الضمير يعود إلى نوح، لأن الله تعالى ذكر من جملتهم يونس ولوطا فقال: وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ «4» ويونس ولوط من ذرية نوح لا من ذرية إبراهيم، لكن استدلاله صحيح على القول الثاني أيضا. قال ابن خلكان: كان يحيى بن يعمر تابعيا عالما بالقرآن والنحو، وكان شيعيا من الشيعة الأول، يتشيع تشيعا حسنا، يقول بتفضيل أهل البيت من غير تنقيص لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. قال ابن خلكان: خطب أمير بالبصرة فقال: اتقوا الله فإنه من يتق الله فلا هوارة عليه. فلم يدروا ما قال الأمير فسألوا أبا سعيد يحيى بن يعمر العدواني، فقال: الهوارة الضياع، كأنه قال من اتقى الله فلا ضياع عليه. والهورات المهالك واحدها هورة. وحدث الأصمعي بهذا الحديث، فقال: إن الغريب لواسع، لم أسمع بهذا قط. وتوفي يحيى بن يعمر سنة تسع وعشرين ومائة ويعمر بفتح الياء والميم بينهما عين مهملة ساكنة وقيل بضم الميم والأول أصح انتهى. تتمة: قال نصر الله بن يحيى، وكان من الثقات وأهل السنة: رأيت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في المنام، فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ثم يتم على ولدك الحسين ما تم فقال لي: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا. فقال: إسمعها منه. ثم انتبهت فبادرت إلى حيص بيص، فذكرت له الرؤيا فشهق وبكى وحلف بالله لم تخرج من فمه ولا خطه إلى أحد وما نظمها إلا في ليلته ثم أنشدني قوله «5» : ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وحللتمو قتل الأسارى وطالما ... عدونا على الأسرى فنعفو ونصفح «1» وحسبكمو هذا التفاوت بيننا ... وكل إناء بالذي فيه ينضح «2» وإسم الحيص بيص سعد بن محمد أبو الفوارس التميمي شاعر مشهور، ويعرف بابن الصيفي ولقب بالحيص بيص لأنه رأى الناس يوما في حركة مزعجة وأمر شديد، فقال: ما للناس في حيص بيص؟ فبقي عليه هذا اللقب. ومعنى هاتين الكلمتين الشدة والاختلاط، وتفقه على مذهب الإمام الشافعي وغلب عليه الأدب ونظم الشعر وكان مجيدا فيه وكان إذا سئل عن عمره يقول: أنا أعيش في الدنيا مجازفة لأنه كان لا يحفظ مولده وتوفي سنة أربع وسبعين وخمسمائة. ومن محاسن شعره: يا طالب الرزق في الآفاق مجتهدا ... أقصر عناك فإن الرزق مقسوم الرزق يسعى إلى من ليس يطلبه ... وطالب الرزق يسعى وهو محروم وله أيضا: يا طالب الطب من داء أصيب به ... إن الطبيب الذي أبلاك بالداء هو الطبيب الذي يرجى لعافية ... لا من يذيب لك الترياق في الماء وله أيضا: إله عما استأثر الله به ... أيها القلب ودع عنك الحرق فقضاء الله لا يدفعه ... حول محتال إذا الأمر سبق وله أيضا: أنفق ولا تخش إقلالا فقد قسمت ... على العباد من الرحمن ارزاق لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الإقبال إنفاق الأمثال: قالوا «3» : «أعز من مخ البعوض» وقالوا «4» : «كلفتني مخ البعوض» ، يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة. «وأضعف من بعوضة «5» » . فائدة: قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها «6» . قال الحسن وغيره: سبب نزولها أن الكفار أنكروا ضرب الأمثال، في غير هذه السورة بالذباب والعنكبوت، وقيل لما ضرب الله تعالى المثلين، في أول السورة للمنافقين، يعني قوله «7» تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً وقوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «8» قالوا: والله أجل وأعلى من أن يضرب الأمثال. فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال الكسائي وأبو عبيدة وغيرهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 المعنى فما فوقها في الصغر. وقال قتادة وابن جريج وغيرهما: المعنى في الكبر. قال ابن عطية: الكل محتمل والله أعلم. البعير: سمي بعيرا لأنه يبعر، يقال: بعر البعير بفتح العين فيهما بعرا بإسكان العين كذبح يذبح ذبحا، قاله ابن السكيت وهو إسم على الذكر والأنثى وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، فالجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة، والقعود بمنزلة الفتى، والقلوص بمنزلة الجارية، وحكي عن بعض العرب: صرعتني بعيري، أي ناقتي، وشربت من لبن بعيري. وإنما يقال له بعيرا إذا أجذع، والجمع أبعرة وأباعر وبعران. قال مجاهد في قوله «1» تعالى: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أراد بالبعير الحمار، لأن بعض العرب يقول للحمارا بعير، وهذا شاذ، ولو أوصى ببعير تناول الناقة على الأصح. وهو كالخلاف في تناول الشاة الذكر، وإن كان عكسه في الصورة. والوجه الثاني عدم التناول. وهو المحكي عن النص، والمعروف في كلام الناس خلاف كلام العرب تنزيلا للبعير منزلة الجمل. قال الرافعي: وربما أفهمك كلامهم توسطا بين تنزيل النص، على ما إذا عم العرف باستعمال البعير بمعنى الجمل، والعمل بما تقتضيه اللغة إذا لم يعم لا جرم. قال الشيخ الإمام السبكي: إن تصحيح خلاف النص في مثل هذه المسائل بعيد، لأن الشافعي رضي الله عنه اعرف باللغة، فلا يخرج عنها إلا لعرف مطرد، فإن صح عرف بخلاف قوله اتبع، وإلا فالأولى اتباع قوله. فرع: لو وقع بعيران في بئر، أحدهما فوق الآخر، فطعن الأعلى ومات الأسفل بثقله، حرم الأسفل لأن الطعنة لم تصبه، فإن أصابتها حلا جميعا. فإذا شك هل مات بالثقل أم بالطعنة النافذة، وقد علم أنها اصابته قبل مفارقة الروح حل. وإن شك هل أصابته قبل مفارقة الروح أم بعدها؟ قال البغوي في الفتاوى: يحتمل وجهين، بناء على أن العبد الغائب المنقطع خبره هل يجزىء اعتاقه عن الكفارة أم لا؟ ومن ذلك ما لو رمى غير مقدور عليه، فصار مقدورا عليه، ثم أصاب غير مذبحه لم يحل. ولو رمى مقدورا عليه فصار غير مقدور عليه، فأصاب غير مذبحه لم يحل. فإن أصاب مذبحه حل. وفي سنن أبي داود النسائي وابن ماجه، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى جارية أو غلاما أو دابة، فليأخذ بناصيتها وليقل: أللهم إني أسألك خيره وخير ما جبل عليه، وأعوذ بك من شره وشر ما جبل عليه. وإذا اشترى بعيرا فليأخذ بذروة سنامه وليدع بالبركة وليقل مثل «2» ذلك» . فائدة: قال ابن الأثير: «خرج خلاد بن رافع وأخوه رضي الله عنهما إلى بدر على بعير أعجف، فلما انتهيا إلى قرب الروحاء، برك البعير. قال فقلنا: أللهم لك علينا، إن انتهينا إلى بدر، أن ننحره فرآنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بالكما» . فأخبرناه، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم بزق في وضوئه ثم أمرهما ففتحا فم البعير فصب في جوفه، ثم على رأسه، ثم على عنقه، ثم على غاربه، ثم على سنامه، ثم على عجزه، ثم على ذنبه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أللهم احمل رفاعة وخلادا» . فقمنا نرحل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 فأدركنا أول الركب فلما انتهينا إلى بدر برك فنحرناه وتصدقنا بلحمه. فائدة أخرى: روى أبو القاسم الطبراني، في كتاب الدعوات، عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، قال: غزونا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا في مجمع طرق المدينة، فبصرنا بأعرابي أخذ بخطام بعير حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن حوله فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، وقال: «كيف أصبحت» ؟ فجاء رجل كأنه حرسي فقال: يا رسول الله هذا الأعرابي سرق بعيري هذا، فرغا البعير وحن ساعة، فأنصت له النبي صلى الله عليه وسلم يسمع رغاءه وحنينه، فلما هدأ البعير أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الحرسي وقال: «انصرف عنه، فإن البعير يشهد عليك أنك كاذب» . فانصرف الحرسي وأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على الأعرابي، وقال: «أي شيء قلت حين جئتني» ؟ فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قلت: اللهم صلّ على محمد حتى لا تبقى صلاة، اللهم وبارك على محمد حتى لا تبقى بركة، اللهم وسلم على محمد حتى لا يبقى سلام، اللهم وارحم محمدا حتى لا تبقى رحمة. فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى أبداها لي، والبعير ينطق بقدرته، وإن الملائكة قد سدوا أفق السماء» . وفيه أيضا عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «جاؤوا برجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشهدوا عليه أنه سرق ناقة لهم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع، فولى الرجل وهو يقول: اللهم صلّ على محمد حتى لا يبقى من صلواتك شيء، وبارك على محمد حتى لا يبقى من بركاتك شيء، وسلم على محمد حتى لا يبقى من سلامك شيء. فتكلم البعير وقال يا محمد إنه بريء من سرقتي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يأتي بالرجل فابتدر إليه سبعون من أهل بدر، فجاؤوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا هذا ما قلت آنفا؟ فأخبره بما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأجل ذلك رأيت الملائكة يخترقون سكك المدينة، حتى كادوا يحولون بيني وبينك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لتردن على الصراط ووجهك أضوأ من القمر ليلة البدر» . اه-. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في الناقة حديث رواه الحاكم في هذا المعنى. وروى «1» ابن ماجه عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه قال: «كنا جلوسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل علينا بعير يعدو حتى وقف على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها البعير اسكن فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، مع أن الله قد أمن عائذنا، وليس بخائب لائذنا» . فقلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا بعير قد هم أهله بنحره وأكل لحمه، فهرب منهم واستغاث بنبيكم» . فبينما نحن كذلك، إذ أقبل أصحابه يتعادون فلما نظر إليهم البعير، عاد إلى هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله هذا بعيرنا هرب منذ ثلاثة أيام فلم نلقه إلا بين يديك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنه يشكو إلي ويبث الشكاية» فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟ قال: يقول: «إنه ربي في أمنكم أحوالا، وكنتم تحملون عليه في الصيف إلى موضع الكلأ فإذا كان الشتاء، حملتم عليه إلى موضع الدفء فلما كبر استفحلتموه، فرزقكم الله تعالى منه إبلا سائمة، فلما أدركته هذه السنة الخصبة هممتم بنحره وأكل لحمه» . فقالوا: يا رسول الله قد والله كان ذلك: فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 عليه الصلاة والسلام: «ما هذا جزاء المملوك الصالح من مواليه» . فقالوا: يا رسول الله فإنا لا نبيعه ولا ننحره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذبتم فقد استغاث بكم فلم تغيثوه، وأنا أولى بالرحمة منكم، فإن الله تعالى قد نزع الرحمة من قلوب المنافقين، وأسكنها في قلوب المؤمنين» فاشتراه عليه الصلاة والسلام منهم بمائة درهم، وقال: «أيها البعير انطلق فأنت حر لوجه الله تعالى» . قال: فرغا البعير على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام. «آمين» ، ثم رغا الثانية فقال: «آمين» ثم رغا الثالثة فقال: «آمين» ثم رغا الرابعة فبكى عليه الصلاة والسلام. فقلنا: يا رسول الله ما يقول هذا البعير؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قال جزاك الله أيها النبي عن الإسلام والقرآن خيرا فقلت: آمين. ثم قال: سكن الله رعب أمتك إلى يوم القيامة كما سكنت رعبي، فقلت: آمين. ثم قال: حقن الله دماء أمتك من أعدائها كما حقنت دمي. فقلت: آمين. ثم قال: لا جعل الله بأسها بينها، فبكيت. فإن هذه الخصال سألتها ربي فأعطانيها، ومنعني هذه وأخبرني جبريل عليه السلام، عن الله عزّ وجلّ، أن فناء أمتي بالسيف جرى القلم بما هو كائن» . تتمة: قال الطرطوشي في سراج الملوك، وابن بلبان «1» ، والمقدسي في شرح الأسماء الحسنى، وغيرهم عن الفضل بن الربيع قال: حج الرشيد، فبينما أنا نائم ذات ليلة إذ سمعت قرع الباب فقلت: من هذا؟ قيل: أجب أمير المؤمنين: فخرجت مسرعا فوجدت الرشيد، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فقال: ويحك قد حاك في نفسي أمر لا يخرجه إلا عالم، فانظر لي رجلا اسأله عنه. فقلت: يا أمير المؤمنين، ههنا سفيان بن عيينة، قال: فامض بنا إليه، فأتيناه فقرعنا عليه الباب فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعا وقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. قال: جد لما جئنا له، فحادثه ساعة، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم. قال: يا عباس اقض دينه. ثم انصرفنا فقال: ما أغنى عني صاحبك هذا شيئا. فانظر لي رجلا أسأله. قال: فقلت: ههنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه. فأتيناه فإذا هو قائم يصلي، يتلو آية من كتاب الله عزّ وجلّ ويرددها فقرعت الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أما تجب عليك طاعته؟ فقال: أو ليس قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس لمؤمن أن يذل نفسه «2» » . وفتح الباب ثم ارتقى إلى أعلى الغرفة مسرعا، فأطفأ السراج والتجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف الرشيد إليه فقال: أواه ما ألينها من يد، إن نجت غدا من عذاب الله! فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي، فقال: جد لما جئنا له، قال: وفيم جئت حملت على نفسك، وجميع من معك حملوا عليك، حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم، أن يحملوا عنك شقصا من ذنب ما فعلوا، ولكان أشدهم حبا لك، أشدهم هربا منك. ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز، لما ولي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الخلافة، دعا سالم «1» بن عبد الله بن عمرو محمد بن كعب القرظي «2» ورجاء بن «3» حيوة، وقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا علي؟ فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله، فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك فيها على الموت. وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين لك أبا، وأوسطهم لك أخا، وأصغرهم لك ولدا، فبر أباك، وارحم أخاك، وتحنن على ولدك. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدا، من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم متى شئت مت، وإني لأقول لك هذا، وإني لأخاف عليك أشد الخوف، يوم تزل الاقدام، فهل معك، يرحمك الله، مثل هؤلاء القوم، من يأمرك بمثل هذا؟ قال: فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا حتى غشي عليه. فقلت: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه السهر، فكتب إليه عمر يقول: يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار، وخلود الآباد فيها، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائما ويقظان، وإياك أن تزل قدمك عن هذا السبيل، فيكون آخر العهد بك، ومنقطع الرجاء منك، والسلام. فلما قرأ كتابه طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال له عمر: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك، لا وليت لك ولاية أبدا حتى ألقى الله سبحانه وتعالى. فبكى هارون بكاء شديدا، ثم قال: زدني يرحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين، إن جدك العباس رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم جاءه، فقال: يا رسول الله أمرني على إمارة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة تحصيها إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل «4» » . فبكى هارون بكاء شديدا. ثم قال: زدني يرحمك الله، فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عزّ وجلّ يوم القيامة عن هذا الخلق، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة «5» » . فبكى هارون بكاء شديدا ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن لم يلهمني حجتي. فقال: هارون إنما أعني دين العباد. فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا، وإنما أمرني أن أصدق وعده، وأطيع أمره، فقال «6» تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ فقال له الرشيد: هذه ألف دينار، خذها فأنفقها على عيالك، وتقو بها على عبادة ربك. فقال فضيل: سبحان الله أنا أدلك على النجاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وتكافئني بمثل هذا سلمك الله! ثم صمت فلم يكلمنا، فخرجنا من عنده، فقال لي الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلّني على مثل هذا فإن هذا سيد المؤمنين اليوم. ويروى أن امرأة من نسائه دخلت عليه فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت هذا المال لانفرجنا به. فقال: إن مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير، يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه وأكلوا لحمه. موتوا يا أهلي جوعا ولا تنحروا فضيلا. فلما سمع الرشيد ذلك، قال: ادخل بنا فعسى أن يقبل المال. قال: فدخلنا فلما علم بنا الفضيل خرج فجلس على السطح، فوق التراب. فجاء هارون الرشيد فجلس إلى جنبه، فكلمه فلم يرد عليه، فبينما نحن كذلك، إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد أذيت الشيخ منذ أتيته، فانصرف يرحمك الله راشدا. فانصرفنا. وقال القاضي ابن خلكان في ترجمة «1» الفضيل رحمه الله: فبلغ ذلك سفيان الثوري، فجاء إليه وقال له: يا أبا علي قد أخطأت في ردك البدرة ألا أخذتها وصرفتها في وجوه البر. فأخذ بلحيته وقال: يا أبا محمد أنت فقيه بالبلد والمنظور إليه وتغلط مثل هذا الغلط! لو طابت لأولئك لطابت لي. اهـ. ولعل المذكور إنما كان سفيان بن عيينة لا سفيان الثوري والله أعلم. وقال الرشيد لفضيل بن عياض: يرحمك الله ما أزهدك! فقال: أنت أزهد مني لأني أزهد في الدنيا وأنت تزهد في الآخرة والدنيا فانية والآخرة باقية! وقيل إن الفضيل، كانت له ابنة صغيرة، فوجع كفها فسألها يوما وقال: يا بنية ما حال كفك؟ فقالت: يا أبت بخير والله لئن كان الله تعالى ابتلى مني قليلا، فلقد عافى مني كثيرا ابتلى كفي وعافى سائر بدني فله الحمد على ذلك. فقال: يا بنية أريني كفك فأرته فقبّله، فقالت: يا أبت أناشدك الله هل تحبني؟ قال: اللهم نعم. فقالت: سوأة لك من الله، والله ما ظننت أنك تحب مع الله سواه. فصاح الفضيل وقال: يا سيدي صبية صغيرة، تعاتبني في حبي لغيرك. وعزتك وجلالك لا أحببت معك سواك. وشكا رجل إلى الفضيل بن عياض حاله فقال له: يا أخي هل من مدبر غير الله تعالى؟ فقال: لا. قال: فارض به مدبرا. وقال: إني لأعصى الله تعالى، فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي. وقال: إذا أحب الله تعالى عبدا أكثر غمه. وإذا أبغضه وسع عليه دنياه. وقال النووي في أذكاره: قال السيد الجليل فضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما. وسئل الفضيل بن عياض رضي الله تعالى عنه عن المحبة فقال: هي أن تؤثر الله عزّ وجلّ على ما سواه وقال رضي الله تعالى عنه: لو كان لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا للإمام لأن الله تعالى إذا أصلح الإمام، أمن البلاد والعباد. وقال رضي الله تعالى عنه: لأن يلاطف الرجل أهل مجلسه، ويحسن خلقه معهم، خير له من قيام ليله وصيام نهاره. وقال رضي الله تعالى عنه: ربما قال الرجل: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، فأخشى عليه النار. فقيل له: كيف ذلك؟ قال: يغتاب بين يديه أحد فيعجبه ذلك، فيقول: لا إله إلا الله، أو سبحان الله، وليس هذا موضعهما، وإنما هو موضع أن ينصح له في نفسه، ويقول: اتق الله. وبلغه رضي الله تعالى عنه أن ابنه عليا قال: وددت أن أكون بمكان أرى فيه الناس ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 يروني. فقال: ويح علي لو أتمها فقال: بمكان لا أرى فيه الناس، ولا يروني. وكان رضي الله تعالى عنه، قد جاور بمكة وأقام بها وتوفي في المحرم سنة سبع وثمانين ومائة. وفي تاريخ ابن خلكان أن سفيان الثوري بلغه مقدم الأوزاعي، فخرج إلى ملتقاه فلقيه بذي طوى، فحل سفيان خطام بعيره من القطار ووضعه على رقبته، فكان إذا مر بجماعة قال: الطريق للشيخ. والأوزاعي اسمه عبد الرحمن بن عمرو بن بحمد أبو عمرو الأوزاعي، إمام أهل الشأم. قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة. وكان يسكن بيروت وبحمد بضم الباء الموحدة وسكون الحاء المهملة. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: بضم الياء المثنات تحت وكسر الميم. والأوزاعي من تابع التابعين. قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: رأيت رب العزة في المنام، فقال لي: يا عبد الرحمن أنت الذي تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. قلت: بفضلك يا رب. ثم قلت: يا رب أمتني على الإسلام. فقال عزّ وجلّ: وعلى السنة أيضا. وتوفي رحمه الله، في شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائة، وكان سبب موته أنه دخل حمام بيروت، وكان لصاحب الحمام شغل، فأغلق الباب عليه، وذهب ثم جاء وفتح الباب، فوجده ميتا قد وضع يده اليمنى تحت خده، وهو مستقبل القبلة. وقيل: إن امرأته فعلت ذلك به ولم تكن عامدة لذلك. والأوزاع قرية بدمشق، ولم يكن أبو عمرو منهم، وإنما نزل فيهم، فنسب إليهم. وهو من سبي اليمن. وقال النووي: إنه ولد ببعلبك سنة ثمان وثمانين، وهو مدفون في قبلة مسجد قرية حنتوس، وهي على باب بيروت. وأهل القرية لا يعرفونه، بل يقولون: ههنا قبر رجل صالح ينزل عليه النور، ولا يعرفه إلا الخواص من الناس رحمة الله عليه. الحكم: البعير تقدم حكمه في الإبل. ويستحب عند ركوب الإبل، أن يذكر اسم الله تعالى عليها، لما روى أحمد والطبراني عن أبي لاس الخزاعي قال: حملنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبل من الصدقة ضعاف للحج، فقلنا: يا رسول الله ما نرى أن تحملنا هذه! فقال «1» : «ما من بعير إلا وفي ذروته شيطان، فإذا ركبتموها، فاذكروا اسم الله عليها كما أمركم الله، ثم امتهنوها لأنفسكم، فإنما يحمل الله عزّ وجلّ» . وقد أشار البخاري، في صحيحه في أبواب الزكاة، إلى بعض هذا الحديث ولم يذكره بتمامه. الأمثال: قالوا «2» : «أخف حلما من بعير» . وقالوا «3» : «هما كركبتي بعير» إشارة إلى الاستواء. كما قالوا «4» : «هما كفرسي رهان» . والمثل لهرم بن قطية الفزاري، وقد أطال فيه الميداني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وغيره. وقالوا «1» «كالحادي وليس له بعير» . يضرب للمتشبع بما لم يعط، وأحسن من هذا وأوجز قوله «2» صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» . وقال بعض المعمرين: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إذ نفرا والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا من بعد ما قوة أصيب بها ... أصبحت شيخا أعالج الكبرا تذنيب: قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي، في الأذكياء «3» وغيره، روي أن الحسن بن هانىء، الشهير بأبي نواس، قال استقبلتني امرأة في هودج على بعير، ولم تكن تعرفني، فأسفرت عن وجهها، فإذا هو في غاية الحسن والجمال، فقالت: ما اسمك؟ فقلت: وجهك. فقالت: الحسن إذن. ومما يشبه هذا الذكاء، ما نقل أن المأمون غضب على عبد الله بن طاهر، وشاور أصحابه في الإيقاع به، وكان قد حضر ذلك المجلس صديق له، فكتب له كتابا فيه «بسم الله الرحمن الرحيم يا موسى» ، فلما فضه ووجد ذلك فعجب وبقي يطيل النظر إليه ولا يفهم معناه، وكانت له جارية واقفة على رأسه، فقالت له: يا سيدي إني أفهم معنى هذا. فقال: وما هو؟ فقالت: إنه أراد قوله «4» تعالى: يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ وكان قد عزم على الحضور إلى المأمون، فثنى العزم عن ذلك واعتذر للمأمون في عدم الحضور. فكان ذلك سبب سلامته. وأحسن من هذا ما ذكره ابن خلكان فقال: إن بعض الملوك غضب على بعض عماله، فأمر وزيره أن يكتب إليه كتابا يشخصه به، وكان للوزير بالعامل عناية فكتب إليه كتابا، وكتب في آخره إن شاء الله تعالى، وجعل في صدر النون شدة، فتعجب العامل كيف وقعت هذه الحركة من الوزير، إذ من عادة الكتاب أن لا يشكلوا كتبهم، ففكر في ذلك فظهر له أنه أراد إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ ، فكشط الشدة وجعل مكانها ألفا، وختم الكتاب وأعاده للوزير. فلما وقف عليه الوزير سر بذلك وفهم أنه أراد: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا «5» فِيها والله تعالى أعلم. البغاث: بفتح الباء الموحدة وكسرها وضمها ثلاث لغات، وبالغين المعجمة، طائر أغبر دون الرخمة بطيء الطيران، وهو من شرار الطير، ومما لا يصيد منها، وقال يونس: من جعل البغاث واحدا فجمعه بغثان مثل غزال وغزلان. ومن قال للذكر والأنثى بغاثة فالجمع بغاث مثل نعامة ونعام. وبغاث الطير شرارها وما لا يصيد منها. قال الشيخ أبو إسحق في المهذب في باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الحجر: لا يسافر الولي بمال المحجور عليه، لما روي أن المسافر وماله لعلي. قلت أي هلاك. ومنه قول العباس بن مرداس السّلمي «1» : بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزور وقوله مقلات بكسر الميم، والمقلات من النساء التي لا يعيش لها ولد، ومن النوق من تلد ولدا واحدا ولا تلد بعده. وقيل: المقلات التي تعمل وكرها في المهالك. والنزور بفتح النون القليلة الأولاد والنزر القليل. الحكم: تحريم الأكل لخبثه. الأمثال: قالت العرب: «البغاث بأرضنا يستنسر «2» » أي من جاورنا عز بنا. وقيل: معناه إن الضعيف يستضعفنا، ويظهر قوته علينا. البغل: معروف، وكنيته أبو الأشحج وأبو الحرون وأبو الصقر وأبو قضاعة وأبو قموص وأبو كعب وأبو مختار وأبو ملعون. ويقال له ابن ناهق وهو مركب من الفرس والحمار، ولذلك صار له صلابة الحمار وعظم آلات الخيل. وكذلك شحيجه أي صوته مولد من صهيل الفرس ونهيق الحمار، وهو عقيم لا يولد له، لكن في تاريخ ابن البطريق، في حوادث سنة أربع وأربعين وأربعمائة، أن بغلة بنابلس ولدت في بطن حجرة سوداء بغلا أبيض. قال: وهذا أعجب ما سمع. اهـ. وشر الطباع ما تجاذبته الأعراق المتضادة، والأخلاق المتباينة، والعناصر المتباعدة، وإذا كان الذكر حمارا، يكون شديد الشبه بالفرس، وإذا كان الذكر فرسا، يكون شديد الشبه بالحمار. ومن العجب أن كل عضو فرضته منه يكون بين الفرس والحمار، وكذلك أخلاقه ليس له ذكاء الفرس ولا بلادة الحمار. ويقال: إن أول من أنتجها قارون وله صبر الحمار وقوة الفرس، ويوصف برداءة الأخلاق والتلون لأجل التركيب وينشد في ذلك قوله: خلق جديد كل يو ... م مثل أخلاق البغال لكنه، مع ذلك، يوصف بالهداية في كل طريق يسلكه مرة واحدة، وهو مع ذلك مركب الملوك في أسفارها، وقعيدة الصعاليك «3» في قضاء أوطارها، مع احتماله للأثقال، وصبره على طول الإيغال، وفي ذلك يقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 مركب قاض وإمام عدل ... وعالم وسيد وكهل يصلح للرحل وغير الرحل. وفي الكامل لأبي العباس المبرد، قال العباس بن الفرج: نظر إلى عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه وهو على بغلة قد شمط وجهها هرما، فقيل له: أتركب هذه وأنت على أكرم باحرة بمصر؟ فقال: إنه لا ملل عندي لدابتي ما حملت رجلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري. إن الملل من كواذب الأخلاق وفيه أيضا أن رجلا من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت رجلا راكبا على بغلة، لم أر أحسن وجها ولا سمتا ولا دابة منه، فمال قلبي إليه، فسألت عنه فقيل لي: هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، فأتيته، وقد امتلأ قلبي له بغضا، فقلت له: أنت ابن أبي طالب؟ فقال لي بل أنا ابن ابنه. فقلت: بك وبأبيك أسب عليا، فلما انقضى كلامي، قال: أحسبك غريبا قلت: أجل قال: فمل بنا إلى الدار فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال واسيناك، أو إلى حاجة عاوناك على قضائها، فانصرفت من عنده وما على وجه الأرض أحب إلي منه. اهـ. قلت: وكان علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما، يلقب بزين العابدين، وأمه سلامة، وكان له أخ أكبر منه يسمى عليا أيضا، قتل مع أبيه بكر بلاء، روى الحديث عن أبيه وعن عمه الحسن وجابر وابن عباس والمسور بن مخرمة وأبي هريرة وصفية وعائشة وأم سلمة، أمهات المؤمنين رضي الله عنهم. قال ابن خلكان: كانت أمه سلامة بنت يزدجرد آخر ملوك الفرس، وذكر الزمخشري في ربيع الأبرار، أن يزدجرد كان له ثلاث بنات، سبين في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فحصلت واحدة منهن لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، فأولدها سالما. والأخرى لمحمد بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، فأولدها قاسما. والأخرى للحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما فأولدها عليا زين العابدين رضي الله تعالى عنهم، فكلهم بنو خالة. وكان زين العابدين مع أبيه بكر بلاء فاستبقي لصغر سنه، لأنهم قتلوا كل من أنبت، كما يفعل بالكفار قاتل الله فاعل ذلك وأخزاه ولعنه، وكان قد هم عبيد الله بن زياد بقتله ثم صرفه الله تعالى عنه. وأشار بعض الفجرة، على يزيد بن معاوية بقتله أيضا، فحماه الله منه. ثم إن يزيد بن معاوية صار يكرمه ويعظمه ويجلسه معه، ولا يأكل إلا وهو معه ثم بعثه إلى المدينة، فكان بها محترما معظما. قال ابن عساكر ومسجده بدمشق معروف، وهو الذي يقال له مشهد علي بجامع دمشق. قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه. وقال محمد بن سعد: كان زين العابدين ثقة مؤمونا، كثير الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عالما، ولم يكن في أهل البيت مثله. وقال الأصمعي: لم يكن للحسين رضي الله عنه عقب إلا من ابنه زين العابدين، ولم يكن لزين العابدين نسل إلا من ابنة عمه الحسن رضي الله تعالى عنه، فجميع الحسينيين من نسله. وكان إذا توضأ يصفر لونه فإذا قام إلى الصلاة أرعد من الفرق أي الخوف، فقيل له في ذلك فقال: أتدرون بين يدي من أقوم ولم أناجي؟ ويروى أنه احترق البيت الذي هو فيه، وهو قائم يصلي، فلما انصرف، قيل له: ما بالك لم تنصرف حين وقعت النار؟ فقال: إني اشتغلت عن هذه النار بالنار الأخرى ويروى أنه لما حج، وأراد أن يلبي أرعد واصفر وخر مغشيا عليه، فلما أفاق، سئل عن ذلك فقال: إني لأخشى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أقول لبيك اللهم لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك، فشجعوه قالوا: لا بد من التلبية، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن راحلته. وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، وكان كثير الصدقات، وكان أكثر صدقته بالليل، وكان يقول: «صدقة الليل تطفىء غضب الرب» وكان كثير البكاء، فقيل له في ذلك فقال: إن يعقوب عليه السلام بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يتحقق موته، فكيف لا أبكي وقد رأيت بضعة عشر رجلا يذبحون من أهلي في غداة واحدة؟ وكان إذا خرج من منزله قال: اللهم إني أتصدق اليوم أو أهب عرضي اليوم لمن يغتابني. ومات لرجل ولد مسرف على نفسه، فجزع عليه، فقال له علي بن الحسين إن من وراء ولدك خلالا ثلاثة: شهادة أن لا إله إلا الله، وشفاعة رسول الله، ورحمة الله. واختلف أهل التاريخ في السنة التي توفي فيها زين العابدين والمشهور عند الجمهور أنه توفي سنة أربع وتسعين في أولها. وقال ابن الفلاس: وفيها مات سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن. وقال بعضهم: توفي في سنة اثنتين أو ثلاث وتسعين. وأغرب المدائني في قوله إنه توفي سنة مائة وقيل توفي في سنة تسع وتسعين. وكان عمره ثمانيا وخمسين سنة، ودفن في قبر عمه الحسن رضي الله عنهما، وعن آبائهم الكرام، وعن أصحاب رسول الله أجمعين. وفي وفيات الأعيان في ترجمة جلال الدولة ملك شاه أن المقتدي بأمر الله، جهز الشيخ أبا إسحاق الشيرازي الفيروز أبادي، صاحب التنبيه والمهذب وغيرهما، إلى نيسابور سفيرا له، في خطبة ابنة الملك جلال الدولة فنجز الشغل، وناظر إمام الحرمين هناك، فلما أراد الانصراف من نيسابور، خرج إمام الحرمين إلى وداعه، وأخذ بركابه حتى ركب أبو إسحاق بغلته، وظهر له في خراسان منزلة عظيمة، وكانوا يأخذون التراب الذي وطئته بغلته فيتبركون به. وكان رحمه الله إماما عالما عاملا ورعا زاهدا عابدا. توفي في سنة ست وسبعين وأربعمائة، وتوفي إمام الحرمين في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة وغلقت الأسواق يوم موته، وكسر منبره بالجامع، وكانت تلامذته قريبا من أربعمائة نفر، فكسروا محابرهم وأقلامهم وأقاموا على ذلك عاما كاملا. وفي تاريخ بغداد ووفيات الأعيان أن أبا حنيفة كان له جار اسكافي يعمل نهاره فإذا رجع إلى منزله ليلا تعشى ثم شرب فإذا دب الشراب فيه أنشد يغني ويقول: «1» أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر ولا يزال يشرب ويردد هذا البيت، حتى يأخذه النوم وأبو حنيفة يسمع جلبته كل ليلة. وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله ففقد أبو حنيفة صوته، فسأل عنه فقيل له: أخذه العسس منذ ليال، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى دار الأمير، فاستأذن عليه فقال: ائذنوا له وأقبلوا به راكبا ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط، ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ فشفع في جاره. فقال الأمير: اطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا فأطلقوهم أيضا فذهبوا فركب أبو حنيفة بغلته، وخرج والإسكافي معه يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيرا عن حرمة الجوار. ثم تاب الرجل ولم يعد إلى ما كان يفعل. واسم أبي حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ماه، وكان عالما عاملا. قال الشافعي: قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم رأيت رجلا لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهبا، لقام بحجته! وكان الشافعي يقول: الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه، وعلى زهير بن أبي سلمى «1» في الشعر، وعلى محمد بن إسحاق «2» في المغازي، وعلى الكسائي «3» في النحو، وعلى مقاتل بن سليمان «4» في التفسير. وكان أبو حنيفة إماما في القياس، وداوم على صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة. وكان عامة ليلة يقرأ القرآن في ركعة واحدة، وكان يبكي في الليل حتى يرحمه جيرانه. وختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف مرة. ولم يفطر منذ ثلاثين سنة، ولم يكن يعاب بشيء سوى قلة العربية. حكي أن أبا عمرو بن العلاء، سأله عن القتل بالمثقل، هل يوجب القود؟ قال: لا، على قاعدة مذهبه خلافا للشافعي. فقال له أبو عمرو: لو قتله بحجر المنجنيق؟ فقال: ولو قتله بأبا قبيس: يعني الجبل المطل على مكة. وقد اعتذر عن أبي حنيفة بأنه قال ذلك على لغة من يعرب الأسماء الستة بالألف في الأحوال الثلاثة وأنشدوا على ذلك: إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها وهي لغة الكوفيين، وأبو حنيفة من أهل الكوفة. وتوفي أبو حنيفة في السجن ببغداد سنة خمسين ومائة، وقيل غير ذلك، وقيل لم يمت في السجن، وقيل مات في اليوم الذي ولد فيه الشافعي، وقيل في العام لا في اليوم كما تقدم. وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: توفي في سنة إحدى وقيل ثلاث وخمسين ومائة والله أعلم قلت: البيت المذكور في حكاية الإسكافي المتقدمة، للعرجي عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهم. وقد استشهد به النضر بن شميل على المأمون، قال ابن خلكان: دخل النضر «5» بن شميل على المأمون ليلة، فتفاوضا الحديث فروى المأمون عن هشيم بسنده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: قال «6» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيه سداد من عوز» بفتح السين. فقال النضر: يا أمير المؤمنين صدق هشيم حدثنا فلان عن فلان إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: قال «7» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، فهو سداد من عوز» بكسر السين. قال: وكان المأمون متكئا، فاستوى جالسا وقال: كيف قلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 سداد؟ قال: قلت لأن السداد ههنا لحن. فقال المأمون: أتلحنني قلت إنما لحن هشيم، فتبع أمير المؤمنين لفظه. فقال ما الفرق بينهما؟ قلت: السّداد بالفتح القصد في الدين والسبيل والسّداد بالكسر البلغة وكل ما سددت به شيئا فهو سداد. فقال المأمون: أو تعرف العرب ذلك؟ قال: قلت: نعم هذا العرجي يقول: «1» : أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر فأخذ المأمون القرطاسي وكتب فيه، ثم قال لخادمه: ابلغ معه إلى الفضل «2» بن سهل فلما قرأ الفضل الرقعة قال: يا نضر قد أمر لك أمير المؤمنين بخمسين ألف درهم، فما كان السبب؟ فأخبرته فأمر لي بثلاثين ألف درهم أخرى. فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف واحد استفيد مني. وتوفي النضر بن شمبل في سنة أربع ومائتين بمرو رحمه الله تعالى. وفي تاريخ بغداد عن أبي يوسف «3» صاحب أبي حنيفة واسمه يعقوب أنه قال: أويت ذات ليلة إلى فراشي وإذا بالباب يدق دقا عنيفا، فخرجت فإذا هرثمة بن أعين «4» فقال: أجب أمير المؤمنين. فركبن بغلتي ومضيت خائفا، إلى أن وصلت دار أمير المؤمنين، فإذا أنا بمسرور فسألته من عند أمير المؤمنين؟ فقال: عيسى بن «5» جعفر فدخلت فإذا هو جالس وعن يمينه عيسى بن جعفر فسلمت عليه، وجلست فقال الرشيد: أظن أننا روّعناك؟ فقلت: أي والله ومن خلفي كذلك. فسكت ساعة ثم قال: أتدري يا يعقوب لم دعوتك؟ قلت: لا، قال: دعوتك لأشهدك على هذا، أن عنده جارية، وقد سألته أن يهبها لي، فأبي وو الله لئن لم يفعل لأقتله! قال: فالتفت إلى عيسى وقلت له ما بلغ من قدر الجارية حتى إنك تمنعها من أمير المؤمنين، وتنزل نفسك هذه المنزلة من أجلها؟ ثم هي ذاهبة من يدك على كل حال؟ فقال: عجلت علي بالتوبيخ من قبل أن تعرف ما عندي، قلت: وما هو؟ قال: إن علي يمينا بالطلاق والعتاق، وصدقة ما أملكه لا أبيع هذه الجارية ولا أهبها. فالتفت إليّ الرشيد وقال: هل لك في هذه من مخرج؟ قلت: نعم: وما هو؟ قلت: يهبك نصفها ويبيعك نصفها، فيكون لم يهبها ولم يبعها قال عيسى أو يجوز ذلك؟ قلت: نعم. قال فاشهد، أني وهبته نصفها، وبعته نصفها الباقي بمائة ألف دينار. فقال الرشيد: قد قبلت الهبة، واشتريت النصف بمائة ألف دينار. ثم قال: علي بالجارية والمال فأتي بالجارية والمال. فقال: خذها يا أمير المؤمنين، بارك الله لك فيها. فقال الرشيد: يا يعقوب بقيت واحدة؟ فقلت: وما هي؟ قال: إنها مملوكة ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 بد أن تستبرأ وو الله لئن لم أبت معها ليلتي هذه، أظن أن نفسي تخرج! فقلت: يا أمير المؤمنين تعتقها وتتزوّجها، فإن الحرة لا تستبرأ. قال: فإني قد أعتقتها. فمن يزوّجنيها؟ قلت له: أنا. فدعا بمسرور وحسين، فخطبت وحمدت الله تعالى، وزوّجته بها على عشرين ألف دينار، ثم قال: علي بالمال، فجيء به فدفعه إليها ثم قال لي: يا يعقوب انصرف، وقال لمسرور: احمل إلى يعقوب مائتي ألف درهم، وعشرين تختا من الثياب فحمل ذلك إليه. اهـ. وكان أبو يوسف يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب فمضى يوما ليسمع المغازي، وأخل بمجلس أبي حنيفة اياما فلما أتاه قال له: يا أبا يوسف من كان صاحب راية جالوت؟ فقال له أبو يوسف: إنك إمام، وإن لم تمسك عن هذا سألتك على رؤوس الناس، أيما كان أول وقعة بدر أو أحد؟ فإنك لا تدري ذلك، وهي أهون مسائل التاريخ، فأمسك عنه. قيل: كان يجلس إلى أبي يوسف رجل فيطيل الصمت ولا يتكلم فقال له أبو يوسف يوما: ألا تتكلم؟ فقال: بلى. متى يفطر الصائم؟ قال: إذا غابت الشمس. قال: فإن لم تغب إلى نصف الليل كيف يصنع؟ فضحك أبو يوسف وقال له: أصبت في صمتك، وأخطأت أنا في استدعائي نطقك وأنشد «1» : عجبت لإزراء الغبي بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما وفي الصمت ستر للغبي وإنما ... صحيفة لب المرء أن يتكلما وروي أن رجلا كان يجلس إلى بعض العلماء ولا يتكلم، فقيل له يوما: ألا تتكلم؟ قال: نعم أخبرني لأي شيء يستحب صيام الأيام البيض من كل شهر؟ فقال: لا أدري: فقال الرجل: لكني أدري. قال: وما هو؟ قال لأن القمر لا ينكسف إلا فيهن، فأحب الله تعالى أن لا يحدث في السماء آية، إلا حدث في الأرض مثلها. وهذا أحسن ما قيل فيه. وذكر «2» ابن خلكان أن رجلا كان يجالس الشعبي ويطيل الصمت فقال له الشعبي يوما ألا تتكلم؟ فقال: أصمت فأسلم، وأسمع فأعلم، إن حظ المرء في أذنه له، وفي لسانه لغيره. وتكلم شاب يوما عند الشعبي بكلام، فقال الشعبي: ما سمعنا بهذا. فقال الشاب: أكل العلم سمعت؟ قال: لا. قال فشطره؟ قال: نعم. قال: فاجعل هذا في الشطر الذي لم تسمعه. فأفحم الشعبي. وأبو يوسف هو أول من دعي بقاضي القضاة، وأول من غير لباس العلماء إلى هذه الهيئة التي هم عليها إلى هذا الزمان، وكان ملبوس الناس قبل ذلك، شيئا واحدا لا يتميز أحد عن أحد بلباسه وحكي أن عبد الرحمن بن مسهر، كان قاضيا على بليدة، بين بغداد وواسط، يقال لها المبارك، فبلغه خروج الرشيد إلى البصرة، ومعه أبو يوسف القاضي في الحراقة. فقال عبد الرحمن لأهل المبارك: اثنوا علي عندهما، فأبوا عليه. فلبس ثيابه وتلقاهما، وقال نعم القاضي قاضينا، ثم مضى إلى موضع آخر وأعاد عليهما هذا القول فالتفت الرشيد إلى أبي يوسف وقال: يا يعقوب قاض في موضع لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 يثني عليه إلا رجل واحد بئس القاضي. فقال أبو يوسف: والعجب يا أمير المؤمنين أنه هو القاضي، وهو يثني على نفسه. فضحك الرشيد وقال: هذا أظرف الناس هذا لا يعزل أبدا توفي أبو يوسف في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائة، وقيل غير ذلك. وأنشد أبو السعادات «1» المبارك بن الأثير لصاحب الموصل وقد زلت به بغلته: إن زلت البغلة من تحته ... فإنّ في زلتها عذرا حملها من علمه شاهقا ... ومن ندى راحتيه بحرا وروى الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخ دمشق، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن البغال كانت تتناسل، وكانت من أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم، خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام، فدعا عليها فقطع الله نسلها. فائدة غريبة: روي عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، قال: كان عندنا طحان رافضي، له بغلان، سمي أحدهما أبا بكر والآخر عمر، فرمحه أحدهما فقتله. فأخبر جدي أبو حنيفة بذلك، فقال: انظروا الذي رمحه فإنه الذي سماه عمر فنظروا فوجدوه كذلك. وفي كامل ابن عدي في ترجمة خالد بن يزيد العمري المكي، عن سفيان بن أبان، عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب بغلة فحادت به، فحبسها» وأمر «2» رجلا أن يقرأ عليها قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «3» فسكنت وسيأتي، إن شاء الله تعالى، هذا في الدابة. وفيه عنه أيضا أنه روى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ولد له ثلاثة ولم يسم أحدهم محمدا فهو من الجفاء، وإذا سميتموه محمدا فلا تسبوه ولا تعيبوه ولا تضربوه وشرفوه وكرموه وعظموه وبروا قسمه» . فائدة: روى أبو داود والنسائي، عن عبد الله بن زرير الغافقي المصري، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: «أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة، فركبها فقالوا: لو حملنا الحمير على الخيل لكان لنا مثل هذه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون «4» » قال ابن حبان: معناه الذين لا يعلمون النهي عنه وقال الخطابي: يشبه أن يكون المعنى في ذلك، والله أعلم، أن الحمير، إذا حملت على الخيل، تعطلت منافع الخيل وقل عددها، وانقطع نماؤها، والخيل يحتاج إليها للركوب والعدو والركض والطلب، وعليها يجاهد العدوّ، وبها تحرز الغنائم. ولحمها مأكول، ويسهم للفرس كما يسهم للرجل. وليس للبغل شيء من هذه الفضائل، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم، أن ينمو عدد الخيل ويكثر نسلها، لما فيها من النفع والصلاح، فإذا كانت الفحول خيلا، والأمهات حميرا فيحتمل أن لا يكون داخلا في النهي إلا أن يتأوّل متأوّل أن المراد بالحديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 صيانة الخيل عن مزاوجة الحمير، وكراهة اختلاط مائها بمائها لئلا يكون منها الحيوان المركب من نوعين مختلفين. فإن أكثر الحيوانات المركبة من نوعين من الحيوان أخبث طبعا من أصولها التي تتولد منها، وأشد شراسة كالسّمع والعسبار ونحوهما. ثم إن البغل حيوان عقيم ليس له نسل ولا نماء ولا يذكى ولا يزكى ثم قال: ولا أرى لهذا الرأي طائلا، فإن الله تعالى قال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً . «1» فذكر البغال وامتن علينا بها، كامتنانه بالخيل والحمير، وأفرد ذكرها بالاسم الخاص الموضوع لها، ونبه على ما فيها من الأرب والمنفعة. والمكروه من الأشياء مذموم، لا يستحق المدح ولا يقع الامتنان به، وقد استعمل صلى الله عليه وسلم البغل واقتناه وركبه حضرا وسفرا، ولو كان مكروها لم يقتنه ولم يستعمله، انتهى. وروى مسلم عن يزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار، على بغلة، ونحن معه، إذ حادت به فكادت أن تلقيه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر» فقال رجل: أنا فقال: «متى مات هؤلاء» ؟ قال: ماتوا على الإشراك. فقال صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله عزّ وجلّ أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه» . ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم علينا بوجهه الكريم، فقال: «تعوّذوا بالله من عذاب القبر» . فقالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. فقال: «تعوّذوا بالله من عذاب النار» . فقالوا: نعوذ بالله من عذاب النار. فقال: «تعوّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن» . فقالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن. فقال: «تعوّذوا بالله من فتنة الدجال» . «2» فقالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال. فائدة أخرى : كانت بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الدلدل، التي يركبها في الأسفار، أنثى كما أجاب به ابن الصلاح وغيره. وعاشت بعده حتى كبرت وزالت أضراسها، فكان يحش لها الشعير إلى أن ماتت بالبقيع، في زمن معاوية رضي الله تعالى عنه، وكانت شهباء، ونقل الحافظ قطب الدين في شرح السيرة، عن شرح الجامع الكبير، أنه لو حلف لا يركب بغلا فركب ذكرا أو أنثى يحنث، لأنه اسم جنس. وكذلك البغلة والهاء فيها للإفراد، وهاء الإفراد تقع على الذكر والأنثى، كالجرادة والتمرة. وكذا لو حلف لا يركب بغلة فركب ذكرا أو أنثى حنث أيضا. ثم قال: وأجمع أهل الحديث على أن بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ذكرا لا أنثى ثم عد للنبي صلى الله عليه وسلم، خمس بغال. وقال السهيلي: ومما ذكر في غزوة حنين، أن النبي صلى الله عليه وسلم، «أخذ وهو على بغلته حفنة من البطحاء، فرمى بها في وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه فانهزموا» . وكانت البغلة ضربت ببطنها الأرض، حتى أخذ الحفنة، ثم قامت. قال: وتلك البغلة هي التي تسمى البيضاء. وهي التي أهداها له فروة بن نعامة وفي معجم الطبراني الأوسط، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، قال: لما انهزم المسلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 يوم حنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، على بغلته الشهباء، التي يقال لها الدلدل، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دلدل أسدى فألصقت بطنها بالأرض حتى أخذ النبي صلى الله عليه وسلم حفنة من تراب، فرمى بها وجوههم وقال: حم* «1» لا ينصرون قال: فانهزم القوم وما رميناهم بسهم، ولا طعناهم برمح، ولا ضربناهم بسيف» . وفيه من حديث شيبة بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين لعمه العباس: «ناولني من البطحاء» ، فأفقه الله تعالى البغلة كلامه فانخفضت به حتى كاد بطنها يمس الأرض، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحصباء، فنفخ في وجوههم، وقال: «شاهت الوجوه حم لا ينصرون» . تتمة: روى الطبراني وأبو نعيم من طرق صحيحه عن خزيمة بن أوس، قال: هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقدمت عليه عند منصرفه من تبوك فأسلمت، فسمعته يقول «2» : «هذه الحيرة قد رفعت لي وإنكم ستفتحونها، وهذه الشيماء بنت نفيل الأزدية، على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود» . فقلت: يا رسول الله إن نحن دخلنا الحيرة، فوجدناها على هذه الصفة، فهي لي. قال عليه الصلاة والسلام: «هي لك» فأقبلنا مع خالد بن الوليد نريد الحيرة، فلما دخلناها كان أول من تلقانا الشيماء بنت نفيل، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود» فتعلقت بها، وقلت هذه وهبها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطلب مني خالد عليها البينة فأتيته بها، فسلمها لي، ونزل إلينا أخوها عبد المسيح فقال لي: أتبيعينها؟ فقلت: نعم، فقال: احتكم ما شئت فقلت: والله لا أنقصها عن ألف درهم. فدفع لي ألف درهم. فقيل لي: لو قلت مائة ألف درهم لدفعها إليك فقلت: لا أحسب مالا أكثر من ألف درهم. قال الطبراني: وبلغني أن الشاهدين كانا محمد ابن مسلمة وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم. الحكم: يحرم أكل المتولد منها بين الحمار الأهلي والفرس، لما روى جابر قال: «ذبحنا يوم حنين البغال والحمير والخيل فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمير والبغال، ولم ينهنا عن الخيل ولأنه متولد بين ما يحل وما يحرم» «3» . فغلب جانب التحريم، فإن تولد بين حمار وحشي وفرس حل. وأما الحديث الذي رواه البزار، بإسناد صحيح، عن أبي واقد «أن قوما لهم بغل، ولم يكن لهم شيء غيره، فجاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، «فرخص لهم فيه» فهذا محمول على أنهم كانوا مضطرين، يحل لهم أكل الميتة. فرع: وإذا أوصى لزيد ببغلة، لا تتناول الذكر على الأصح. كما لا تتناول البقرة الثور والثاني تتناوله والهاء للوحدة كبقرة وزبيبة. الأمثال: «قيل للبغل: من أبوك؟ قال الفرس خالي «4» » . يضرب للمخلط في أمره. وقالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 «أعقر من بغل وأعقم من «1» بغلة» . وقالوا: «أعيب من بغلة أبي دلامة» ، واسمه زند بن الجون كوفي أسود، كان مولى لبني أسد، وكان صاحب نوادر: فمنها أنه مرض له ولد، فاستدعى طبيبا ليداويه وشرط له جعلا معلوما، فلما برىء ولده، قال له: والله ما عندنا شيء نعطيك إياه، ولكن إدّع على فلان اليهودي بمقدار الجعل، وكان ذا مال كثير، وأنا وولدي نشهد لك بذلك. فمضى الطبيب إلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وحمل إليه اليهودي وادعى عليه بذلك المبلغ، فأنكر. فقيل: ألك بينة؟ قال: نعم، قال: أحضرها، فدخل أبو دلامة وهو ينشد والقاضي يسمع شعره «2» : إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث وإن نبئوا بئري نبئت بئارهم ... ليعلم قوم كيف تلك النبائث فلما شهدا عند القاضي، قال لهما: شهادتكما مقبولة وكلامكما مسموع. ثم غرم المبلغ من عنده وجمع بين المصلحتين. ومنها أنه خاصم رجلا إلى عافية بن يزيد القاضي فقال: لقد خاصمتني غواة الرجال ... وخاصمتهم سنة وافية فما أدحض الله لي حجة ... وما خيّب الله لي قافية فمن كنت من جوره خائفا ... فلست أخافك يا عافية فقال له عافية: لأشكونك لأمير المؤمنين، قال ولم؟ قال: لأنك هجوتني. قال: أبو دلامة إن شكوتني ليعزلنك قال: ولم؟ قال: لأنك لا تعرف الهجاء من المدح. ومنها ما قاله الإمام أبو الفرج ابن الجوزي: روي أن أبا دلامة دخل على المهدي، فأنشده قصيدة فقال له: سلني حاجتك، فقال: يا أمير المؤمنين هب لي كلبا، فغضب المهدي وقال: أقول لك سلني حاجتك، فتقول: هب ليي كلبا!. فقال: يا أمير المؤمنين الحاجة لي أم لك؟ قال: بل لك قال: فإني أسألك أن تهب لي كلب صيد، فأمر له بكلب. فقال: يا أمير المؤمنين هبني خرجت إلى الصيد، أفأعدو على رجلي؟ فأمر له بدابة. فقال: يا أمير المؤمنين فمن يقوم عليها؟ فأمر له بغلام. فقال يا أمير المؤمنين هبني صدت صيدا فأتيت به المنزل فمن يطبخه لي؟ فأمر له بجارية. فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أين يبيتون؟ فأمر له بدار. فقال: يا أمير المؤمنين قد صار في عنقي جماعة من العيال، فمن أين لي ما يقوت هؤلاء؟ قال: فإن أمير المؤمنين قد أقطعك ألف جريب عامرا وألف جريب غامرا. فقال: أما العامر فقد عرفت. فما الغامر؟ قال: الخراب الذي لا شيء فيه. فقال: أنا أقطع أمير المؤمنين مائة ألف جريب غامرة بالبدو، ولكني أسأل أمير المؤمنين من ألف جريب جريبا واحدا عامرا. قال: من أين؟ قال: من بيت المال. فقال المهدي حوّلوا المال وأعطوه جريبا. فقال: يا أمير المؤمنين إذا حوّلوا منه المال صار غامرا فضحك المهدي منه وأرضاه. قلت: وقد أذكرتني هذه الحكاية ما ذكره أبو الفرج بن الجوزي في الأذكياء، بسنده عن محمد بن إسحاق السراج، قال: أنبأنا داود بن رشيد قال: قلت للهيثم بن عدي: بأي شيء استحق سعيد بن عبد الرحمن أن ولاه المهدي القضاء وأنزله منه تلك المنزلة الرفيعة؟ قال: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 خبره لظريف، فإن أحببت شرحته لك؟ قلت: قد والله أحببت ذلك. قال: اعلم أنه وافى الربيع «1» الحاجب حين أفضت الخلافة إلى المهدي، فقال: استأذن لي علي أمير المؤمنين فقال له الربيع: من أنت؟ وما حاجتك؟ قال: أنا رجل قد رأيت لأمير المؤمنين رؤيا صالحة، وقد أحببت أن تذكرني له. فقال له الربيع: يا هذا إن القوم لا يصدقون ما يرونه لأنفسهم، فكيف ما يراه لهم غيرهم؟ فاحتل بحيلة غير هذه، تكون أدر عليك من هذه. فقال: إن لم تخبره بمكاني وإلا سألت من يوصلني إليه وأخبره إني سألتك الإذن عليه فلم تفعل. فدخل الربيع على المهدي وقال له: يا أمير المؤمنين إنكم قد أطمعتم الناس في أنفسكم وقد احتالوا لكم بكل ضرب. فقال له المهدي: هكذا صنع الملوك فماذا؟ قال: رجل بالباب يزعم أنه رأى لأمير المؤمنين رؤيا صالحة، وقد أحب أن يقصها على أمير المؤمنين، فقال له المهدي: ويحك يا ربيع إني والله قد أرى الرؤيا لنفسي فلا تصح لي، فكيف إذا ادعاها لي من لعله افتعلها؟ قال: قد قلت له والله مثل هذا فلم يقبل: قال فهات الرجل. فأدخل عليه سعيد بن عبد الرحمن، وكان له رواء وجمال وثروة ظاهرة ولحية عظيمة ولسان طلق، فقال له المهدي: هات بارك الله عليك ما رأيت قال: يا أمير المؤمنين، رأيت كأن آتيا أتاني في منامي، فقال لي أخبر أمير المؤمنين أنه يعيش ثلاثين سنة في الخلافة، وآية ذلك أن يرى في ليلته هذه في منامه، كأنه يقلب ياقوتا فيعده فيجده ثلاثين ياقوتة، كأنها قد وهبت له. فقال له المهدي: ما أحسن ما رأيت! ونحن نمتحن رؤياك في ليلتنا المقبلة، على ما أخبرتنا به، فإن كان الأمر كما ذكرته أعطيناك ما تريد، وإن كان الأمر بخلاف ذلك لم نعاقبك لعلمنا أن الرؤيا ربما صدقت وربما اختلقت. فقال له سعيد: يا أمير المؤمنين فماذا أصنع أنا الساعة إذا صرت إلى منزلي وعيالي، وأخبرتهم أني كنت عند أمير المؤمنين ثم رجعت صفر اليدين. فقال له المهدي: فكيف نصنع؟ فقال: تعجل لي يا أمير المؤمنين ما أحب، وأحلف لك بالطلاق أني صادق في رؤياي فأمر له بعشرة آلاف درهم، وأمر أن يؤخذ منه كفيل فمد عينيه فرأى خادما واقفا على رأس المهدي، حسن الوجه والزي، فقال: هذا يكفلني. فقال له المهدي: أتتكفل به؟ فاحمر وجهه وخجل، وقال: نعم أتكفله. وانصرف سعيد بالمال. فلما كان في تلك الليلة رأى المهدي ما ذكره له سعيد حرفا بحرف. وأصبح سعيد فوافى الباب قائما واستأذن فأذن له، فلما وقعت عين المهدي عليه، قال له: أين مصداق ما قلت؟ فقال له سعيد: أو ما رأى أمير المؤمنين شيئا؟ فتلجلج في جوابه فقال له سعيد امرأته طالق أن لم تكن رأيت شيئا، فقال له المهدي: ويحك ما أجرأك على الحلف بالطلاق، قال لأني أحلف على صدق. فقال المهدي: قد والله رأيت ذلك بينا. فقال سعيد: الله أكبر أنجز لي يا أمير المؤمنين ما وعدتني. فقال له: حبا وكرامة ثم أمر له بثلاثة آلاف دينار، وعشرة تخوت ثياب، وثلاثة مراكب من أنفس دوابه. وقال غيره: ثلاث بغال شهب. فأخذ ذلك وانصرف، فلحقه الخادم الذي كان تكفل به، وقال له: سألتك بالله الذي لا إله إلا هو هل كان لتلك الرؤيا التي ذكرت حقيقة؟ فقال له سعيد: لا والله. فقال له: وكيف ذلك وقد رأى أمير المؤمنين ما ذكرته؟ فقال: هذه من المخاريق الكبار التي لا يأبه لها أمثالكم، وذلك أني لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ألقيت إليه هذا الكلام، خطر بباله وحدث به نفسه واشرأب به قلبه، واشتغل به فكره، فساعة ما نام خيل له ما كان في قلبه، مما شغل به فكره، فرآه في منامه. فقال له الخادم: فقد حلفت بالطلاق قال: طلقت واحدة وبقيت معي على اثنتين فأزيد في المهر عشرة دراهم وأحصل على عشرة آلاف درهم وثلاثة آلاف دينار وعشرة تخوت من أصناف الثياب وثلاثة مراكب. فبهت الخادم في وجهه وتعجب من أمره فقال له سعيد: قد والله صدقتك، وجعلت صدقي لك مكافأتك على كفالتك لي، فاستر ذلك علي ففعل. ثم إن المهدي طلبه لمنادمته، فجعل ينادمه وحظي عنده وقلده القضاء على عسكره، فلم يزل كذلك حتى مات المهدي ثم قال ابن الجوزي: هكذا رويت لنا هذه الحكاية وإني لمرتاب من صحتها وما أبعد هذا أن يحكى عن قاض من القضاة. قلت: وقد سئل الإمام أحمد عن سعيد بن عبد الرحمن هذا فقال: ليس به بأس. وقال يحيى بن معين: هو ثقة، وإنما اتهم بهذا الهيثم بن عدي، فقد قال يحيى بن معين: الهيثم ليس بثقة، كان يكذب. وقال علي بن المديني: لا أرضاه في شيء. وقال أبو داود العجلي: الهيثم كذاب. وقال إبراهيم بن يعقوب الجرجاني: الهيثم ساقط قد كشف قناعه. وقال أبو زرعة: ليس بشيء. وفي كتاب الفرج بعد الشدة، عن رجل من الجند قال: خرجت من بعض بلدان الشأم، أريد قرية من قراها، فلما صرت في بعض الطريق، وقد سرت عدة فراسخ، لحقني التعب وكان معي بغلة عليها خرجي وقماشي، وكان قد قرب المساء، فإذا بدير عظيم، وفيه راهب في صومعة، فنزل إلي واستقبلني وسألني المبيت عنده، وأن يضيفني ففعلت فلما دخلت الدير لم أجد فيه غيره، فأخذ بغلتي وطرح لها شعيرا، وعزل رحلي في بيت، وجاءني بماء حار، وكان الزمان شديد البرد والثلج يسقط، وأوقد بين يدي نارا عظيمة، وجاء بطعام طيب فأكلت ومضت قطعة من الليل، فأردت النوم، فسألته عن طريق المستراح، فدلني عليه، وكنا في غرفة، فنزلت ومشيت، فلما صرت على باب المستراح، إذا بارية عظيمة، فلما صارت رجلاي عليها، سقطت فإذا أنا بالصحراء، وإذا البارية كانت مطروحة على غير سقف، وكان الثلج يسقط سقوطا عظيما، فصحت بالراهب، فلم يكلمني. فقمت وقد تجرح بدني إلا أني سالم، فجئت فاستظللت بطق باب الدير من الثلج. فإذا حجارة قد أتتني لو تمكنت من دماغي لطحنته. فخرجت أعدو وأصيح فشتمني. فعلمت أني أتيت من جانبه، وأنه طمع في رحلي فلما خرجت من ظل الدير، وقع الثلج عليّ وبل ثيابي، فنظرت فإذا أنا تالف من البرد والثلج، فولد لي الفكر أن أخذت حجرا قريبا من الثلاثين رطلا، فوضعته على عاتقي وجعلت أعدو به في الصحراء شوطا طويلا، حتى يأخذني التعب، فإذا تعبت وحميت وعرقت طرحت الحجر، وجلست أستريح، فإذا سكنت وأخذني البرد تناولت الحجر وعدوت به فلم أزل على تلك الحالة إلى الصبح. فلما كان قبل طلوع الشمس، وأنا خلف الدير، إذ سمعت حس باب الدير وقد فتح وإذا بالراهب قد خرج وجاء إلى الموضع الذي سقطت منه فلم يرني، فقال: يا قوم ما فعل؟ وأنا أسمعه، ثم مشى فخالفته إلى باب الدير، ودخلت الدير وهو دائر يطلبني حول الدير، ووقفت خلف الباب، وكان في وسطي خنجر لم يشعر به الراهب، فطاف حول الدير فلما لم يقف لي على علم ولا خبر، ولا عرف لي أثرا، عاد ودخل الدير وأغلق الباب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 فجئت عليه ووجأته بالخنجر، فصرعته وذبحته، وأغلقت باب الدير وصعدت إلى الغرفة، واصطليت بنار كانت موقودة هناك، وطرحت عليّ من رحلي ثيابا كثيرة، وأخذت كساء الراهب فنمت فيه، فما أفقت إلا قرب العصر، فلما انتبهت طفت الدير حتى وقفت على طعام فأكلت منه، وسكنت نفسي. ووقعت بمفاتيح بيوت الدير، فوقفت أفتح بيتا بيتا، فإذا أموال عظيمة، من عين وورق، وأمتعة وثياب، وآلات ورحال قوم، وأخراجهم وحمولاتهم، وإذا الراهب كان من عادته ذلك، مع كل من يجتاز به وحيدا ويتمكن منه. قال: فتحيرت في نفسي ولم أدر كيف أعمل في نقل المال فلبست من ثياب الراهب شيئا، وأقمت في صومعته أياما، أتراءى لمن يجتاز بي من بعيد لئلا يشكوا أني أنا هو فإذا قربوا مني لم أبرز إليهم وجهي إلى أن خفي أثري، فنزعت ثياب الراهب، وأخذت جوالقين كانا في الدير من تلك الأمتعة، وجعلتهما على ظهر البغلة وذهبت إلى قرية قريبة من الدير فاكتريت بها منزلا ولم أزل أنقل إليه على البغلة حتى أخذت الصامت كله مما خف حمله وكثرت قيمته ولم أدع فيه إلا الأمتعة الثقيلة، فاكتريت عدة دواب ورجال، وجئت بهم دفعة واحدة، وحملت كل ما قدرت عليه، وسرت في قافلة عظيمة بغنيمة هائلة حتى قدمت على بلدي، وقد حصلت على مال عظيم. وقد ذكر هذه الحكاية الحافظ ابن شاكر في تاريخه عن أبي محمد البطال وفيها بعض مخالفة. الخواص: إذا جفف قلب البغل ونحت وسقي من نحاتته امرأة لم تحبل أبدا. وكذلك وسخ أذنه إذا تحملت به المرأة لم تحبل أبدا. وإن علقته في جلد بغل عليها لم تحبل أبدا ما دام عليها. ورماد حافره إذا سحق وعجن بدهن الآس، وجعل على رأس الأقرع أو الموضع الذي لا ينبت فيه شعر، نبت الشعر. وإذا دفن حافر البغلة السوداء، أو دمها تحت عتبة باب لم يقربه فار. وإذا بخر البيت بحافر بغلة ذكر هرب منه الفأر وسائر الهوام. ونقل ابن زهر عن سقراطيس أن من كان عاشقا وأحب أن يزول عشقه، فليتمرغ في مراغة بغل ذكر إن كان عشقه من ذكر، وإن كان عشقه من أنثى ففي مراغة بغل أنثى. وزبله إذا شمه المزكوم وتفل عليه ورماه على الطريق، فمن تخطاه انتقل الزكام إليه وبرىء التافل عليه. وقال هرمس: إذا أخذ وسخ أذن البغل في بندقة من فضة، وعلق على الحبالى منعهن الولادة ما دام عليهن. وإذا سقي منه إنسان في نبيذ، سكر من وقته. وإن شربت امرأة من بول بغل مقدار ثلاثين درهما لم تحبل أبدا. وإن سقيت المرأة الحامل من دماغ بغل شيئا جاء ولدها مجنونا. وقال ابن بختيشوع: عرق البغلة إذا تحملت به امرأة في قطنة لم تحبل أبدا. التعبير: البغل في المنام يدل على السفر براكبه، وعلى طول العمر، ويعبر أيضا بولد زنا لا أصل له. فمن ركب بغلا ولم يكن من المسافرين، فإنه يقهر رجلا شديدا. والبغلة مرتبة. وقيل امرأة عاقر فالسوداء ذات مال والبيضاء ذات حسب. وقيل: البغلة سفر، فمن نزل عن بغلته نزول مفارقة نزل عن مرتبته أو فارق زوجته التي هي مركبه أو يطول سفره والله أعلم. البغيبغ: تيس الظباء السمين. وسيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه في الظبي في حرف الظاء. البقر الأهلي: اسم جنس يقع على الذكر والأنثى وإنما دخلته الهاء للوحدة والجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 بقرات. قال «1» الله تعالى: سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ* قال المبرد في الكامل: إذا أردت التمييز قلت: هذا بقرة للذكر وهذه بقرة للأنثى كما تقول: هذا بطة للذكر وهذه بطة للأنثى. والبقير والبقران والباقر جماعة البقر. مع رعاتها. والبيقور الجماعة. قال «2» الشاعر: أجاعل أنت بيقورا مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر وأهل اليمن يسمون البقرة باقورة. كتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كتاب الصدقة: «في كل ثلاثين باقورة بقرة «3» » واشتق هذا الإسم من بقر إذا شق لأنها تشق الأرض بالحراثة ومنه قيل لمحمد بن علي زين العابدين بن الحسين الباقر، لأنه بقر العلم أي شقه ودخل فيه مدخلا بليغا. وفي الحديث «أنه عليه الصلاة والسلام ذكر فتنة كوجوه «4» البقر» . أي يشبه بعضها بعضا ذهبوا إلى قوله «5» تعالى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وفيه أيضا «رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس «6» » . وروى الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «7» : «إن طابت بك حياة يوشك أن ترى قوما يغدون في سخط الله، ويروحون في لعنته في أيديهم مثل أذناب البقر» . وفيه أيضا «بينما رجل يسوق بقرة، إذ تكلمت فقالوا سبحان الله بقرة تتكلم! قال: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر» . وفي سنن أبي داود الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة «8» » . قال الترمذي: حديث حسن وهو الذي يتشدق في الكلام ويفخم به لسانه، ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفا. وفي سنن أبي داود من حديث عطاء الخراساني، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم «9» » . وفي نهاية الغريب في باب السين المهملة في الحديث: «ما دخلت السكة دار قوم إلا ذلوا» . والسكة هي التي يحرث بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الأرض أي إن المسلمين إذا أقبلوا على الزراعة شغلوا عن الغزو، فيأخذهم السلطان بالمطالبات والجبايات. وقريب من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «العزفي نواصي الخيل والذل في أذناب البقر «1» » . والبقر حيوان شديد القوة كثير المنفعة، خلقه الله ذلولا ولم يخلق له سلاحا شديدا كما للسباع، لأنه في رعاية الإنسان، فالإنسان يدفع عنه ضرر عدوه فلو كان له سلاح لصعب على الإنسان ضبطه. والبقر الأجم يعلم أن سلاحه في رأسه فيستعمله في محل القرن كما يرى في العجاجيل قبل نبات قرونها، تنطح برؤوسها تفعل ذلك طبعا وهي أجناس: فمنها الجواميس وهي أكثرها ألبانا وأعظمها أجساما، قال الجاحظ: الجواميس ضأن البقر وهذا يقتضي أنها أطيب وأفضل من العراب، حتى إنها تكون مقدمة عليها في الأضحية، كما يقدم الضأن فيها على المعز وقال الزمخشري في ربيع الأبرار: أشراف السباع ثلاثة: الأسد والنمر والببر وأشراف البهائم ثلاثة: الفيل والكركدن والجاموس. ومنها العراب وهي جرد ملس الألوان. ومنها نوع آخر يقال له الدربانة بدال مهملة ثم راء ثم باء موحدة ثم نون وهي التي تنقل عليها الأحمال، وربما كانت لها أسمنة. والبقر ينزو ذكورها على إناثها، إذا تم لها سنة من عمرها في الغالب. وهي كثيرة المني. وكل الحيوان إناثه أرق صوتا من ذكوره إلا البقر، فإن الأنثى أفخم وأجهر، وهي تقلق إذا ضربها الذكر وتتلوى تحته لا سيما إذا أخطأ المجرى لصلابة ذكره، وهي إذا اشتاقت للذكر، نفرت وأتبعت الرعاة. وبأرض مصر بقر يقال لها بقر الخيس، طوال الرقاب قرونها كالأهلة، وهي كثيرة اللبن. وقال المسعودي: رأيت بالري بقرا تبرك كما تبرك الإبل، وتثور بحملها كما تثور. وليس لجنس البقر ثنايا عليا فهي تقطع الحشيش بالسفلى. فائدة: في آخر كتاب المجالسة لأحمد بن مروان المالكي «2» الدينوري بإسناده إلى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «مر عيسى عليه السلام ببقرة قد اعترض ولدها في بطنها، فقالت: يا كلمة الله ادع الله أن يخلصني، فقال: يا خالق النفس من النفس ويا مخرج النفس من النفس خلصها فألقت ما في بطنها» قال: فإذا عسر على المرأة ولدها فليكتب لها هذا. وأسند عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا عسر على المرأة ولدها فليكتب لها بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون. قلت: وهذا بعض حديث رواه الطبراني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم «3» قال: «إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم، لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب السموات والأرض ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها، اللهم إني أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرّجته، ولا حاجة هي لك رضا إلى قضيتها، برحمتك يا أرحم الراحمين» . ومما جرب لعسر الولادة، أن يكتب ويسقى للمطلقة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد إلى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها. بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخرها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ «1» اللهم يا مخلص النفس من النفس، ويا مخرج النفس من النفس، يا عليم يا قدير، خلص فلانة مما في بطنها من ولدها، خلاصا في عافية إنك أرحم الراحمين. فائدة أخرى: روى صاحب «2» الترغيب والترهيب والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ملكا من الملوك خرج من بلده يسير في مملكته وهو مستخف من الناس، فنزل على رجل له بقرة، فراحت عليه تلك الليلة البقرة، فحلبت مقدار ثلاثين بقرة، فعجب الملك من ذلك، وحدث نفسه بأخذها، فلما كان من الغد غدت البقرة إلى مرعاها، ثم راحت فحلبت نصف ذلك، فدعا الملك صاحبها وقال له: أخبرني عن بقرتك هذه لم نقص حلابها؟ ألم يكن مرعاها اليوم مرعاها بالأمس؟ قال: بلى، ولكن أرى الملك أضمر لبعض رعيته سوءا فنقص لبنها فإن الملك إذا ظلم أو همّ بظلم ذهبت البركة قال: فعاهد الملك ربه أن لا يأخذها ولا يظلم أحدا. قال: فغدت فرعت ثم راحت فحلبت حلابها في اليوم الأول فاعتبر الملك بذلك وعدل، وقال: إن الملك إذا ظلم أو هم بظلم ذهبت البركة. لا جرم لأعدلن ولأكونن على أفضل الحالات. وذكرها ابن الجوزي في كتاب مواعظ الملوك والسلاطين، على غير هذا الوجه، فقال: خرج كسرى في بعض الأيام للصيد فانقطع عن أصحابه وأظلته سحابة فأمطرت مطرا شديدا، حال بينه وبين جنده فمضى لا يدري أين يذهب، فانتهى إلى كوخ فيه عجوز، فنزل عندها وأدخلت العجوز فرسه، فأقبلت ابنتها ببقرة قد رعتها فاحتلبتها، ورأى كسرى لبنها كثيرا فقال: ينبغي أن نجعل على كل بقرة خراجا فهذا حلاب كثير، ثم قامت البنت في آخر الليل لتحلبها، فوجدتها لا لبن فيها، فنادت: يا أماه قد أضمر الملك لرعيته سوءا. قالت أمها: وكيف ذلك؟ قالت: إن البقرة ما تبز بقطرة من لبن، فقالت لها أمها: اسكتي فإن عليك ليلا فأضمر كسرى في نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 العدل والرجوع عن ذلك العزم. فلما كان آخر الليل، قالت لها أمها: قومي احلبي، فقامت فوجدت البقرة حافلا، فقالت: يا أماه قد والله ذهب ما في نفس الملك من السوء. فلما ارتفع النهار، جاء أصحاب كسرى فركب وأمر بحمل العجوز وابنتها إليه، فأحسن إليهما، وقال: كيف علمتما ذلك؟ فقالت العجوز: أنا بهذا المكان منذ كذا وكذا ما عمل فينا بعدل إلا أخصبت أرضنا، واتسع عيشنا، وما عمل فينا بجور إلا ضاق عيشنا، وانقطعت مواد النفع عنا. وذكر الإمام الطرطوشي، في سراج الملوك، أنه كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرادب تمرا ولم يكن في ذلك الزمان نخلة تحمل نصف ذلك فغصبها السلطان، فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة. قال الطرطوشي: وقال لي شيخ من أشياخ الصعيد: أعرف هذه النخلة في الغربية تجني عشرة أرادب ستين ويبة، وكان صاحبها يبيع في سني الغلاء كل ويبة بدينار. وذكر ابن خلكان، في ترجمة جلال «1» الدولة ملك شاه السلجوقي، أن واعظا دخل عليه، فكان من جملة ما وعظه به أن بعض الأكاسرة اجتاز منفردا عن عسكره، على باب بستان، فتقدّم إلى الباب وطلب ماء يشربه، فخرجت له صبية بإناء، فيه ماء قصب السكر والثلج، فشربه فاستطابه فقال لها: هذا كيف يعمل؟ فقالت: إن القصب يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء. فقال: ارجعي واعصري شيئا آخر، وكانت الصبية غير عارفة به، فلما ولت قال في نفسه: الصواب أن أعوضهم غير هذا المكان واصطفيه لنفسي، فما كان بأسرع من خروجها باكية وقالت: إن نية سلطاننا قد تغيرت: قال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: كنت آخذ من هذا ما أريد بغير تعب، والآن قد اجتهدت في عصره فلم أستطع، فرجع عن تلك النية، ثم قال لها: ارجعي الآن فإنك تبلغين الغرض، وعقد في نفسه، أن لا يفعل ما نواه. فذهبت ثم جاءت ومعها ما شاءت من ماء القصب، وهي مستبشرة. قال: وكان ملك شاه من أحسن الملوك سيرة، حتى لقب بالملك العادل، وكان قد أبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد فكثر الأمن في زمانه، وكان قد ملك ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام. وكان لهجا بالصيد، قيل إنه ضبط ما اصطاده بيده فكان عشرة آلاف، فتصدق بعشرة آلاف دينار وقال: إني خائف من الله تعالى من إزهاق الأرواح لغير مأكله، وكان كلما اصطاد صيدا يتصدق بدينار. وقيل إنه خرج مرة من الكوفة، فاصطاد في طريقه وحشا كثيرا فبنى هناك منارة من حوافر حمر الوحش وقرون الظباء التي صادها في تلك الطريق. قال: يعني ابن خلكان والمنارة باقية إلى الآن تعرف بمنارة القرون. وكانت وفاته ببغداد سادس عشر شوّال سنة خمس وثمانين وأربعمائة. ومن عجيب الإتفاق أنه المقتدي بالله كان قد بايع لولده المستظهر بولاية العهد من بعده، فلما دخل ملك شاه بغداد المرة الثالثة ألزم المقتدي أن يعزل ولده المستظهر ويجعل ولده جعفر، الذي رزقه من ابنته ولي العهد ويخرج المقتدي إلى البصرة. فشق ذلك على المقتدي، وبالغ في استنزال ملك شاه عن هذا الرأي فلم يفعل، فسأله المهلة عشرة أيام ليتجهز، فأمهله فجعل المقتدي يصوم ويطوى، وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 أفطر جلس على الرماد للإفطار، وهو يدعو على السلطان، ملك شاه فمرض ملك شاه ومات في تلك الأيام، ولم تشهد له جنازة، ولا صلّى عليه أحد في الصورة الظاهرة، وحمل في تابوته إلى أصبهان ودفن بها. أما البقرة التي أمر الله تعالى بني إسرائيل بذبحها، فقصتها مشهورة وستأتي الإشارة إلى شيء منها في باب العين في لفظ العجل إن شاء الله تعالى، فسبحان من فاوت بين الخلق. قيل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: اذبح ولدك، فتله للجبين. وقيل لبني إسرائيل: اذبحوا بقرة فَذَبَحُوها، وَما كادُوا يَفْعَلُونَ «1» . وخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه من جميع ماله. وبخل ثعلبة بن حاطب بالزكاة، وجاد حاتم في حضرة وأسفاره. وبخل الحباحب بضوء ناره، وكذلك فاوت بين الفهوم، فسبحان أنطق متكلم، وباقل أعجز من أخرس. وفاوت بين الأماكن فزرود تشكو العطش، والبطائح تشكو الغرق. غريبة : كانت العرب إذا أرادت الاستسقاء في السنة الأزمة جعلت النيران في أذناب البقر وأطلقوها فتمطر السماء لأن الله تعالى يرحمها بسبب ذلك قال «2» الشاعر في ذلك: أجاعل أنت بيقورا مسلّعة ... ذريعة لك بين الله والمطر وقال أمية بن أبي الصلت «3» الثقفي يذكر ذلك: سنة أزمة تخيل بالنا ... من ترى للعضاه فيها صريرا «4» لا على كوكب ينوء ولا ري ... ح جنوب ولا ترى طخرورا «5» ويسوقون باقرا لسهل للطو ... دمها زيل خشية أن تبورا «6» عاقدين النيران في هلب الأذ ... ناب منها لكي تهيج البحورا «7» سلع مّا ومثله عشر ما ... عائل ما وعالت البيقورا «8» وحكى في الإحياء أن شخصا كانت له بقرة يحلبها ويخلط في لبنها الماء ويبيعه، فجاء سيل فغرق البقرة فقال له بعض أولاده: إن تلك المياه المتفرقة التي صببناها في اللبن اجتمعت دفعة واحدة وأخذت البقرة. وروى الخلال، في المجلس التاسع من مجالسه، عن جابر بن عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 رضي الله تعالى عنهما أن بقرة انفلتت على خمر، فشربت منه فذبحوها. ثم أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: «كلوها أولا بأس بها» . الحكم: يحل أكلها وشرب ألبانها إجماعا. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سمن البقر وألبانها شفاء ولحمها داء» . ورواه «1» ابن عدي في ترجمة محمد بن زياد الطحان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بمعناه. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «ضحى عن نسائه بالبقر» . وروى «2» الطبراني عن زهير قال: حدثتني امرأة من أهلي، عن مليكة بنت عمرو الزيدية من ولد زيد بن عبد الله بن سعد، قالت: اشتكيت وجعافي حلقي فأتيتها تعني مليكة بنت عمرو فوصفت لي سمن بقر، وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألبانها شفاء وسمنها دواء ولحمها داء» . والمرأة التابعية لم تسم وبقية رجاله ثقات. وفي المستدرك من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» «عليكم بألبان البقر وأسمانها، وإياكم ولحومها، فإن ألبانها وأسمانها دواء ولحومها داء» . ثم قال: صحيح الإسناد. وروى الحاكم أيضا وابن حبان عن ابن مسعود أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «4» : «ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء، جهله من جهله، وعلمه من علمه، وفي ألبان البقر شفاء من كل داء، فعليكم بألبان البقر، فإنها ترم من كل الشجر؟ أي تأكل وفي رواية ترتم، وهي بمعناها. ورواه ابن ماجه عن أبي موسى خلا ذكر ألبان البقر ورواه بتمامه البزار وفيه محمد بن جابر بن سيار وهو صدوق عند الأكثرين، وضعيف عند غيرهم وبقية رجاله ثقات. ورواه الحاكم أيضا في تاريخ نيسابور من حديث عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة، عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، عن عبد الله بن مسعود. وفي كتاب ابن السني عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: لم يستشف الناس بشيء أفضل من السمن وإذا أوصى ببقرة لم يتناول الثور على الأصح. لأن لفظها موضوع للأنثى، والثاني يتناوله والهاء للوحدة. قال الرافعي: وقياس تكميل البقر بالجواميس في الزكاة، دخولها هنا وفي العمدة والكفاية لا تدخل إلا إذا قال من بقري وليس له إلا الجواميس ولو لم يكن إلا بقرات وحش فوجهان كما ذكرنا في الظباء والإيل. وأما زكاتها ففي كل ثلاثين منها سائمة تبيع ابن سنة وفي كل أربعين مسنة لها سنتان. لما روى مالك عن طاوس، أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أخذها كذلك وأتى بما دون ذلك، فلم يأخذ منها شيئا وسمي تبيعا لأنه يتبع أمه في المسرح وقيل لأن قرنه يتبع أذنه ولو أخرج تبيعة أجزأته، بل هي أولى للأنوثة، وسميت مسنة لتكامل سنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 فلو أخرج عن أربعين تبيعين أجزأه على الصحيح. وقال البغوي: لا، لأن العدد لا يقوم مقام السن. فائدة: في الحلية، ترجمة عكرمة، قال: كانت القضاة في بني إسرائيل، ثلاثة: فمات أحدهم، فولّى غيره مكانه، ثم قضوا ما شاء الله أن يقضوا، ثم بعث الله لهم ملكا يمتحنهم فوجد رجلا يسقي بقرة على ماء، وخلفها عجلة فدعاها الملك وهو راكب فرسا، فتبعتها العجلة فتخاصما فجاء إلى القاضي الأوّل فدفع إليه الملك درة كانت معه، وقال له: احكم بأن العجلة لي، قال: بماذا أحكم؟ قال ارسل الفرس والبقرة والعجلة فإن تبعت الفرس فهي لي فأرسلها فتبعت الفرس فحكم له بها. وأتيا القاضي الثاني فحكم كذلك. وأخذ درة وأما القاضي الثالث فدفع له الملك درة وقال: احكم بيننا قال: إني حائض. قال الملك سبحان الله أيحيض الذكر؟ قال: سبحان الله أتلد الفرس بقرة؟ وحكم بها لصاحبها. قلت: هؤلاء كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «قاضيان في النار وقاض في الجنة «1» » . الأمثال: قالوا: «تركت زيدا بملاحس البقر أولادها «2» » أي بحيث تلحس البقر أولادها، يعنون المكان القفر. وقالوا: «الكلاب على البقر «3» » . وسيأتي معناه في باب الكاف إن شاء الله تعالى. الخواص: شحم البقر إذا بخر به البيت مع زرنيخ أحمر طرد العقارب والحيات وسائر الهوام. وإذا طلي به إناء اجتمعت إليه البراغيث. وقرنه إذا سحق وجعل في طعام صاحب حمى الربع زالت عنه. وإذا شرب زاد في الإنعاظ. ودمه يحبس الدم السائل وإذا طلي بمرارتها مع ماء الكراث البواسير نفعها وسكنها وأزال وجعها. وإذا طلي به الآثار السود من البدن قلعها وأزالها. وإذا خلطت مع العسل واكتحل بها أزالت الظلمة. وإذا طلي بها مع النطرون والعسل وشحم الحنظل المقعد نفعه. وقال أرسطو: مرارة البقر السوداء إذا اكتحل بها أحدّت البصر وقال كيماس: إذا فقئت عين البقرة، أو قلعت وكتب بمائها على كاغد لم تبن بالنهار وتقرأ بالليل. وشعورها إذا أحرقت وشربت نفعت من وجع الأسنان. وإذا شربت بالسكنجبين، أزالت الطحال. وإن شربت بالعسل أخرجت حب القرع من البطن. وقال يونس: إذا طليت التواكيل بخثى البقر تناثرت وبرئت من وقتها. وإذا طليت به الأورام الصلبة لينها وإن بخربه قرية النمل، قبل ظهورها لم تظهر. وإن وضع على النقرس نفع صاحبه. وإن بخر به الحامل سهل الولادة، وأخرج الجنين حيا وميتا والمشيمة وإن أحرق في بيت طرد هوامه. وإن سحق المحرق منه ونفخ في الأنف حبس الرعاف. وإن طلي به على البدن مرارا وترك حتى يجف أخرج السهم والشوكة منه. وإن طلي به مع الكبريت، على خرقة كتان، وبسطت على جميع البطن نشف الماء الأصفر. وقال هرمس: إذا طليت منخر البقرة بدهن ورد دهشت وشردت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 التعبير: البقر في المنام يعبر بالسنين، كما عبرها يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم، فالسمان خصب، والضعاف جدب، هذا إذا كانت بيضا أو سودا. وإذا كانت صفرا أو حمرا وهي تنطح الشجر بقرونها فتقلعها أو الأبنية فتسقطها، فإنها فتن تحل بذلك المكان الذي دخلته لقوله «1» عليه الصلاة والسلام: «إن الفتن تكون في آخر الزمان كصياصي البقر وكعيون البقر» والبقرة الصفراء سنة فيها سرور. والغبرة في البقر شدة في أوّل السنة والبلقة في أعجازها شدة في آخر السنة. والنصف من البقرة مصيبة في أخت أو بنت. وكذلك كل سهم ينسب إلى من يرثه كالربع والثمن. ومن حلب بقرة غيره فإنه يخون رجلا في امرأته. ومهما رأى الإنسان ببقرته فذلك عائد إلى زوجته أو بنته. وحليب البقرة مال حلال جزيل وأصواتها تدل على ناس معروفين بالأدب. وخدشها مرض. ومن وثب عليه بقرة أو ثور ولم يفلته فإنه يموت في تلك السنة، والبقرة في المنام للفلاحين خير وانسب البقر في ألوانها إلى ما تنسب إليه الخيل. ويأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في باب الخاء المعجمة. ومن رأى بقرة دخلت داره ونطحته فإنه يرى خسرانا في ماله. وقالت النصارى: من أكل لحم بقر في نومه تقدم إلى حاكم. والشحم مال لمن حواه خالص لا يغادره منه شيء وهو بلا تعب. وأما شواء البقر فهو أمن للخائف. ومن كانت له زوجة وهي حامل بشر بولد ذكر. والشواء بشارة في معيشته فإن كان غير ناضج فهو هم من قبل امرأة. وقيل لحم البقر رزق وخصب لمن أكله مطبوخا أو مشويا. ومن الرؤيا المعبرة قول عائشة رضي الله تعالى عنها: رأيت كأني على تل وحولي بقر ينحر، فقصصتها على مسروق، فقال: إن صدقت رؤياك فإنه يكون حولك ملحمة قتال. فكان كذلك يوم الجمل. ومن رأى بقرة تمص لبن عجلها فإن امرأته تقود على ابنتها. ومن رأى عبدا يحلب بقرة مولاه فإنه يتزوّج امرأة المولى والله تعالى أعلم. البقر الوحشي هذا النوع أربعة أصناف: المها والأيل واليحمور والثيتل. وكلها تشرب الماء في الصيف إذا وجدته، وإذا عدمته صبرت عنه، وقنعت باستنشاق الريح، وفي هذا الوصف يشاركها الذئب والثعلب وابن آوى والحمر الوحشية والغزلان والأرانب. فأما الأيل فتقدم ذكره واليحمور وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الياء آخر الحروف. والكلام الآن في المها فمن طبعه الشبق والشهوة، فلذلك إذا جملت الأنثى هربت من الذكر خوفا من عبثه بها وهي حامل. ولفرط شهوته يركب الذكر ذكرا آخر، وإذا ركب واحد منها شم الباقي منه رائحة الماء فيثبن عليه. وقرون البقر الوحشي مصمتة بخلاف قرون سائر الحيوانات فإنها مجوّفة كما تقدم والبقر الوحشي أشبه شيء بالمعز الأهلية وقرونها صلاب جدا تمنع بها عن نفسها وأولادها كلاب الصيد والسباع التي تطيف بها. فائدة : لما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة الجندل، وهو أكيدر «2» بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 عبد الملك رجل من كندة، كان ملكا عليها، وكان نصرانيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: «إنك تجده يصيد بقر الوحش «1» » . فلما وصل إليه كان في ليلة مقمرة، فأذن الله تعالى للبقر الوحشية أن تأتيه من كل جانب، تحك قصره بقرونها، فأشرف عليها وقال: ما رأيت أكثر منها الليلة ولقد كنت أكمن لها اليومين والثلاثة ولا أجدها. ولكن قدر الله وما شاء فعله. ثم أمر بفرسه فأسرج وركب هو وأخوه حسان، وعليه قباء من الديباج المخوص بالذهب. فلما نزل وافته خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته أسيرا وأرسلوه بقبائه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتعجب منه بعض أصحابه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المناديل سعد في الجنة خير من هذا ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم عرض عليه الإسلام فأبى، فأقره بالجزية في أرضه في شهر رجب سنة تسع من الهجرة. وأشار إلى هذه البق رات الوحشية بجير بن بجرة الطائي بقوله: تبارك سائق البقرات إني ... رأيت الله يهدي كل هادي فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنا قد أمرنا بالجهاد وسيأتي مزيد كلام في المها في باب الميم إن شاء الله تعالى. الحكم: يحل أكلها بجميع أنواعها بالإجماع لأنها من الطيبات. الأمثال: قالت العرب: «تتابعي «2» بقر» . زعموا أن بشر بن الحارث الأسدي خرج في سنة جهد فيها قومه، فمروا ببقر فنفرت منهم، فقام على رأس جبل فرماها بقوسه، فجعلت تلقي نفسها وهو يقول: «تتابعي بقر» حتى تكسرت ثم رجع إلى قومه، فدعاهم لأكلها. يضرب عند تتابع الأمر وسرعته. الخواص: مخه يطعم لصاحب الفالج، ينفعه نفعا شديدا. ومن استصحب معه شعبة من قرونه نفرت منه السباع وإذا دخن بقرنه أو جلده أو ظلفه في بيت نفرت منه الحيات. ورماده يذر على السن المتأكلة المتألمة يسكن وجعها. وشعره يبخر به البيت يهرب منه الفأر والخنافس. وقرنه يحرق ويجعل في طعام صاحب حمى الربع تزول عنه. ويشرب في شيء من الأشربة يزيد في الباه ويقوي العصب ويزيد في الإنعاظ. وينفخ في أنف الراعف يقطع دمه ويحرق قرناه حتى يصيرا رمادا. ويداف في الخل، ويطلى به موضع البرص مستقبلا به الشمس، فإنه يزول ويسف منه مقدار مثقال فإنه لا يخاصم أحدا إلا غلبه. بقر الماء : قال القزويني: زعموا أن بقرا يطلع من الماء يرعى الزرع وروثها العنبر، والله أعلم بصحة ذلك، فإن الناس ذكروا أن العنبر نبت بقعر البحر فإن صح ما قالوه فروث هذا الحيوان ينفع الدماغ والحواس والقلب والله أعلم. بقرة بني إسرائيل: هي التي يقال لها أم قيس وأم عويف وهي دابة صغيرة لها قرنان تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 في الرمل فإذا أردت أن تخرجها فاطرح في موضعها قملة فتخرج فتأخذها فإذا صارت في يدك فشق ظهرها، وأدخل فيه ميلا واكحل به من بعينيه بياض ثلاث مرات، فإنه يذهب وإذا دلك بهذه الدابة موضع القرع نبت فيه الشعر. البق: قال الجوهري: البقة البعوضة والجمع البق. وأنشد في باب العين والياء واللام لزفر بن الحارث «1» الكلابي: ألا إنما قيس بن عيلان بقة ... إذا وجدت ريح العصير تغنت والبق المعروف هو الفسافس الآتي في باب الفاء إن شاء الله تعالى. يقال إنه يتولد من النفس الحار، ولشدة رغبته في الإنسان، لا يتمالك إذا شم رائحته إلا رمى نفسه عليه، وهو كثير بمصر وما شاكلها من البلاد. وحكمه : تحريم الأكل لاستقذاره كالبعوض. وهو من الحيوان الذي لا نفس له سائلة أصلا، كما قاله الرافعي رحمه الله في الدم. والدم الذي فيه يمتصه من بني آدم، كما يمتصه القمل والبرغوث. ووقع في كلام الرافعي والنووي وغيرهما تمثيل ما لا نفس له سائلة، بالبعوض والبق. قال الشيخ: وفي ذكر البق المعروف في بلادنا فيما لا نفس له سائلة نظر. وقد رأيت بعض الناس يذكر أنه في كثير من البلاد اسم للبعوض فلعل من أطلقه أراد به البعوض. الخواص: قال القزويني في عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات: إذا بخر البيت بالقلقند والشونيز «2» لم يدخله البق بالكلية، وكذلك إذا بخر بنشارة الصنوبر طرده أيضا. وقال حنين «3» بن إسحاق: إذا بخر البيت بحب المحلب هرب منه البق أجمع. وكذلك إذا بخر بالعلق أو العاج أو بجلد جاموس أو بأغصان شجر السرو. وقال غيره. إذا نقع ورق الحرمل في خل ونضح به البيت هرب منه، وإذا وضع الحرمل «4» عند رأس الإنسان أو رجليه لم يقرب منه البق. وإذا نقع السداب «5» في خل ونضح به البيت هرب منه. وإذا أخذ كندر وكبريت ودقا وديفا بماء وطلي بذلك قضيب قنب ووضعه إنسان عند رأسه حيث ينام لم يقربه بق البتة. وقال ابن جميع في الإرشاد: دخان الكمون والآس اليابس والترمس يطرد البق والبعوض. ومما جرب فوجد نافعا لطرد البق أن يكتب على أربع ورقات ويلصق في الحيطان الأربع ما صورته 2 1 2 1 1 1. تذنيب: قد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم البق في حديث رواه الطبراني، بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أذناي هاتان وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بكفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 جميعا حسنا أو حسينا وقدماه على قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «حزقة حزقة، ترق عين بقة» فيرقى الغلام فيضع قدميه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «افتح فاك» ثم قبله ثم قال: «اللهم من أحبه فإني أحبه «1» » ورواه البزار ببعض هذا اللفظ. والحزقة الضعيف المتقارب الخطو ذكر ذلك له على سبيل المداعبة والتأنيس. وترق معناه اصعد وعين بقة كناية عن صغر العين مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف. وفي كامل ابن عدي وتاريخ ابن النجار في ترجمة محمد بن علي بن الحسين بن محمد عن الأصبغ بن نباتة الحنظلي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول في خطبته: ابن آدم وما ابن آدم تؤلمه بقه، وتنتنه عرقه، وتقتله شرقه. والأصبغ بن نباتة الحنظلي المذكور يروي عن علي رضي الله تعالى عنه أشياء لم يتابعه عليها أحد فاستحق من أجلها الترك روى له ابن ماجه حديثا واحدا: «نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بحجامة الأخدعين والكاهل «2» » . الحكم: يحرم أكل البق لاستقذاره كالبعوض. الأمثال: قالوا: «أضعف من بقة «3» » . التعبير : البق في المنام أعداء ضعاف طعانون، وهم جندلا وفاء لهم ولا جلد. ويدل أيضا على الهم والحزن لأن البق يمنع النوم والهم والحزن يمنعان النوم والله أعلم. البكر : الفتى من الإبل والأنثى بكرة. والجمع بكار مثل فرخ وفراخ وقد يجمع في القلة على ابكر. قال أبو عبيدة: البكر من الإبل بمنزلة الفتى من الناس، والبكرة بمنزلة الفتاة والقلوص بمنزلة الجارية، والبعير بمنزلة الإنسان، والجمل بمنزلة الرجل، والناقة بمنزلة المرأة. روى مسلم عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم استلف من رجل بكر، فلما جاءت إبل الصدقة أمرني أن أقضي الرجل بكرا فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا، فقال «4» صلى الله عليه وسلم: «أعطه فإن خياركم أحسنكم قضاء» . وفي رواية بازلا بدل رباعيا. وروى الحاكم عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: بعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرا فجئت أتقاضاه فقلت: يا رسول الله اقضني ثمن بكري. قال: «نعم ثم قضاني فأحسن قضائي» . ثم جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله اقضني بكري فقضاه بعيرا مسنا، فقال يا رسول الله هذا أفضل من بكري! فقال صلى الله عليه وسلم: «هو لك إن خير القوم خيرهم «5» قضاء» . ثم قال صحيح الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 وروى الحافظ أبو يعلى بإسناده إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أتى وادي عسفان قال: «يا أبا بكر أي واد هذا» ؟ قال وادي عسفان. قال صلى الله عليه وسلم: «لقد مرّ بهذا الوادي نوح وهود وإبراهيم على بكرات لهم حمر خطمهم الليف وأزرهم العباء وأرديتهم النمار يحجون البيت العتيق «1» » . وروى مسلم عن سيرين بن معبد الجهني رضي الله تعالى عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة قال: «فأذن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتعة» . فانطلقت أنا ورجل إلى امرأة من بني عامر كأنها بكرة عيطاء أي شابة طويلة العنق في اعتدال فعرضنا عليها أنفسنا فقالت ما تعطيني؟ فقلت: ردائي. وقال صاحبي ردائي. وكان رداء صاحبي أجود من ردائي وكنت أشب منه، فكانت إذا نظرت إلى رداء صاحبي أعجبها، وإذا نظرت إلي أعجبتها، ثم قالت: أنت ورداؤك تكفيني. فمكثت معها ثلاثا ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع بهن فليخل سبيلها» «2» . وفي رواية فلم أخرج عنها حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة، فعوّضه منها ست بكرات فتسخطها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن فلانا أهدى إلي ناقة فعوضته منها ست بكرات، فظل ساخطا لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي «3» » . وفي حديث علي رضي الله تعالى عنه «صدقني سن بكره» . وهو مثل تضربه العرب للصادق في خبره. ويقوله الإنسان على نفسه وإن كان ضارا له وأصله أن رجلا ساوم رجلا في بكر يشتريه، فسأل صاحبه عن سنه فأخبره بالحق، فقال المشتري: «صدقني سن بكره» . وفي مسند الشافعي عن مولى لعثمان قال: بينما أنا مع عثمان رضي الله تعالى عنه في يوم صائف إذ رأى رجلا يسوق بكرين، وعلى الأرض مثل الفراش من الحر، فقال: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد ثم يروح. فدنا الرجل فقال: انظر فنظرت، فإذا هو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. فقلت: هذا أمير المؤمنين، فقام عثمان رضي الله تعالى عنه فأخرج رأسه من الباب فآذاه نفح السموم، فأعاد رأسه حتى إذا حاذاه قال: ما أخرجك في هذه الساعة؟ قال: بكران من إبل الصدقة تخلفا، وقد مضى بإبل الصدقة فأردت أن ألحقهما بالحمى خشية أن يضيعا فيسألني الله عنهما فقال عثمان: هلم إلى الماء والظل فقال: عد إلى ظلك، فقال: عندنا من يكفيك فقال: عد إلى ظلك ثم مضى. فقال عثمان: من أحب أن ينظر إلى القوي الأمين فلينظر إلى هذا. الأمثال: في الحديث «4» : «جاءت هوازن على بكرة أبيها» وقالوا «5» : «جاؤوا على بكرة أبيهم» يصفونهم بالقلة أي جاؤوا بحيث تحملهم بكرة أبيهم قلت: وأصله أن قوما قتلوا وحملوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 على بكرة أبيهم، فقيل فيهم ذلك، ثم صار مثلا لقوم جاؤوا مجتمعين. وقال أبو عبيدة: معناه جاؤوا جميعا لم يتخلف منهم أحد، وليس هناك بكرة في الحقيقة. وقال بعضهم: البكرة ههنا هي التي يستقى عليها أي جاؤوا بعضهم في إثر بعض كدوران البكرة على نسق واحد. وقال قوم أراد بالبكرة الطريقة، أراد أنهم جاؤوا على طريقة أبيهم أي يقتفون أثره وقيل: هو ذم ووصف بالقلة والذلة أي يكفيهم للركوب بكرة واحدة وذكر الأب احتقار وتصغير لهم. وحكمه وخواصه وتعبيره كالإبل. البلبل: من أنواع العصافير. ويقال له الكعيت والجميل مصغرات، وهو النغر وسيأتي في بابه وقد أحسن من ألعز فيه بقوله: وما طائر نصفه كله ... له في ذرا الدوح سير ولبث رأينا ثلاثة أرباعه ... إذا صحفوها غدت وهي ثلث وقد أجاد علي بن المظفر أبو الفضل الآمدي «1» قاضي واسط حيث قال: وأهاله ذكر الحمى فتأوّها ... ودعا به داعي الصبا فتوّلها هاجت بلابله البلابل فانثلت ... أشجانه تثني عن الحلم النهى «2» فشكا جوا وبكى أسى وتنبه ال ... وجد القديم ولم يزل متنبها لا تكرهوه على السلو فطالما ... حمل الغرام فكيف يسلو مكرها «3» لا عبت يا سعدى عليك فسامحي ... وصلي فقد بلغ السقام المنتهى «4» وما أحسن قول يوسف «5» بن لؤلؤ حيث يقول: باكر إلى الروضة تستجلها ... فثغرها في الصبح بسام والنرجس الغض اعتراه الحيا ... فغض طرفا فيه أسقام وبلبل الدوح فصيح ... على الأيكة والشحرور تمتام ونسمة الصبح على ضعفها ... لها بنا مرّ وإلمام فعاطني الصهباء، مشمولة ... عذراء فالواشون نوّام واكتم أحاديث الهوى بيننا ... ففي خلال الروض نمّام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ومن محاسن شعره أيضا قوله: سقى الله أرضا نور وجهك شمسها ... وأحيا بلادا أنت في افقها بدر وروّى بقاعا جود كفك غيثها ... ففي كل قطر من نداك بها قطر وله أيضا: تسلسل دمعي وهو لا شك مطلق ... وصح حقيقا حين قالوا: تكسرا وفي قلب مائي للقلوب مسرة ... وقالوا سيجزى بالهنا وكذا جرى وله أيضا: بعيني رأيت الماء ألقى بنفسه ... على رأسه من شاهق فتكسرا وقام على إثر التكسر جاريا ... ألا فاعجبوا ممن تكسر قد جرى وله أيضا: أنفقت كنز مدائحي في ثغره ... وجمعت فيه كل معنى شارد وطلبت منه جزاء ذلك قبلة ... فأبى وراح تغزلي في البارد والعرب تقول: البلبل يعندل، أي يصوّت وروى الحافظ أبو نعيم وصاحب الترغيب والترهيب من حديث مالك بن دينار أن سليمان بن داود صلى الله عليهما وسلم، مر على بلبل فوق شجرة يصفر ويحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء. وهو بالمد أي على الدنيا الدروس، وذهاب الأثر. وقيل: العفاء التراب. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين في لفظ العقعق. عن الزمخشري أنه ذكر في تفسير قوله «1» تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها عن بعضهم أن البلبل يحتكر القوت. حكى البويطي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه كان في مجلس مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وهو غلام، فجاء رجل إلى مالك فاستفتاه، فقال: إني حلفت بالطلاق الثلاث إن هذا البلبل لا يهدأ من الصياح. فقال له مالك: قد حنثت. فمضى الرجل، فالتفت الشافعي رضي الله تعالى عنه إلى بعض أصحاب مالك فقال: إن هذه الفتيا خطأ فأخبر مالك بذلك، وكان مالك رضي الله تعالى عنه مهيب المجلس لا يجسر أحد أن يراده، وربما جاء صاحب الشرطة فوقف على رأسه إذا جلس في مجلسه، فقالوا لمالك: إن هذا الغلام يزعم أن هذه الفتيا إغفال وخطأ! فقال له مالك: من أين قلت هذا؟ فقال له الشافعي أليس أنت الذي رويت لنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها، أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم أن «أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاقته، وأما معاوية فصعلوك لا مال له «2» » . فهل كانت عصا أبي جهم دائما على عاتقه؟ وإنما أراد من ذلك الأغلب. فعرف مالك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 محل الشافعي ومقداره. قال الشافعي: فلما أردت أن أخرج من المدينة جئت إلى مالك فودّعته، فقال لي مالك حين فارقته: يا غلام اتق الله تعالى ولا تطفىء هذا النور الذي أعطاكه الله بالمعاصي يعني بالنور: العلم، وهو قوله «1» تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ هكذا جاء في هذه الرواية: البلبل. وجاء في رواية أخرى: القمري. وسيأتي إن شاء الله تعالى. التعبير : هو في الرؤيا رجل موسر، وقيل امرأة موسرة وقيل ولد قارىء لكتاب الله لا يلحق. البلح: بضم الباء وفتح اللام قال ابن سيده: إنه طائر أغبر اللون أعظم من النسر محترق الريش لا تقع ريشة منه وسط ريش طائر آخر إلا أحرقته وقيل: هو النسر القديم الهرم والجمع بلحان. البلشون: هو مالك الحزين. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم. البلّصوص: بضم الباء واللام المشددة طائر وجمعه البلنصي على غير قياس. وقال سيبويه النون زائدة لأنك تقول للواحد البلصوص. والعامة تسمية أبو لصيص. قال البطليوسي في الشرح: وقد اختلف اللغويون في هذين الإسمين أيهما الواحد وأيهما الجمع. فقال قوم: البلصوص هو الواحد والبلنصي هو الجمع وعكس ذلك آخرون وقال قوم: البلصوص الذكر والبلنصي الأنثى ذكره ابن ولاد «2» وأنشد: والبلصوص يتبع البلنصي. قال: وقياس جمع البلصوص بلا صيص. ولم أدر ما حكم هذا الطائر. بنات الماء: قال ابن أبي الأشعث: هي سمك ببحر الروم، شبيهة بالنساء ذوات شعر سبط، ألوانهن إلى السمرة، ذوات فروج عظام وثدي، وكلام لا يكاد يفهم، ويضحكن ويقهقهن. وربما وقعن في أيدي بعض أهل المراكب، فينكحونهن ثم يعيدونهن إلى البحر. وحكي عن الروياني صاحب البحر، أنه كان إذا أتاه صياد بسمكة على هيئة المرأة، حلفه أنه لم يطأها. وذكر القزويني أنه صيد لبعض الملوك رجل إذا تكلم، لا يفهم ما يقول، فزوجه بامرأة فرزق منها ولدا فصار يتكلم بلغة أبيه ولغة أمه. وقد تقدم هذا في باب الهمزة في إنسان الماء. بنات وردان: يأتي ذكرها في آخر باب الواو إن شاء الله تعالى. البهار : بضم الباء حوت أبيض طيب من حيتان البحر، قال الجوهري: والبهار بالضم شيء يوزن به، وهو ثلاثمائة رطل وقال عمرو بن العاص: إن ابن الصعبة يعني طلحة بن عبيد الله ترك مائة بهار في كل بهار ثلاثة قناطير ذهب فجعله وعاء. قال أبو عبيد القاسم بن سلام والبهار في كلامهم ثلاثمائة رطل وأحسبها غير عربية وأراها قبطية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 البهثة : بالضم، البقرة الوحشية وقد تقدم ذكرها. البهرمان: ضرب من العصفور قاله ابن سيده. البهمة: بفتح الباء، الصغير من أولاد الغنم والبقر والوحش وغيرها. الذكر والأنثى فيه سواء والجمع بهم وبهم وبهام وبها مات. قال الأزهري في شرح ألفاظ المختصر: أما أسنان الغنم فساعة تضعها أمها من الضأن والمعز، ذكرا كان أو أنثى سخلة، وجمعها سخال، ثم هي بهمة فإذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها، فما كان من أولاد المعز فهو جفار واحدها جفر. فإذا رعى وقوي فهو عريض وعتود وجمعها عرضان وعتدان. وهو في كل ذلك جدي، والأنثى عناق ما لم يأت عليها الحول، وجمعها عنق والذكر تيس إذا أتى عليه الحول والأنثى عنز ثم نجذع في السنة الثانية فالذكر جذع والأنثى جذعة فعلم منه أن ما نقله النووي رحمه الله، عنه في عناق فيه نوع خلل، والله أعلم. وروى الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وأصحاب السنن الأربعة، من حديث لقيط بن صبرة، واللفظ لأبي داود، قال: كنت وافد بني المنتفق، أو في وفد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا عليه لم نجده في منزله، فصادفنا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فأمرت لنا بحريرة، أو قال بعصيدة، فصنعت لنا وأتينا بقناع، والقناع طبق فيه تمر ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «1» : «هل أصبتم شيئا أو آمر لكم بشيء: قلنا: نعم يا رسول الله. قال: فبينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ دفع الراعي غنمه إلى المراح، ومعه سخلة تبعر، فقال صلى الله عليه وسلم: ما ولدت يا غلام» ؟ قال بهمة قال: فاذبح لنا مكانها شاة» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحسبن أنا من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة ما نريد أن تزيد فإذا ولدت لنا بهمة ذبحنا مكانها شاة» . قلت: يا رسول الله إن لي امرأة وإن في لسانها شيئا يعني البذاءة. قال: فطلقها إذن» . قلت: يا رسول الله إن لها صحبة وإن لي منها ولدا. قال: «فعظها فإن يك فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظعينتك ضربك لأمتك» . قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء، قال: أسبغ الوضوء وخلل الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» . وفي سنن أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى جدار اتخذه قبلة ونحن خلفه، فجاءت بهمة تمر بين يديه، فما زال صلى الله عليه وسلم «يدرؤها حتى لصق بطنه بالجدار، فمرت من ورائه» . وسيأتي في الجدي نحو ذلك. وفي صحيح «2» مسلم وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث يزيد بن الأصم عن ميمونة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى بين يديه، حتى لو أن بهمة أرادت أن تمر بين يديه مرت» . البهيمة: كل ذات أربع من دواب البر والبحر. قاله ابن سيده. والجمع بهائم. قال «3» صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش» . سميت بهيمة لإبهامها، من جهة نقص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 نطقها وفهمها، وعدم تمييزها وعقلها. ومنه باب مبهم أي مغلق، وليل بهيم. قال «1» الله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ فأضاف الجنس إلى ما هو أخص منه، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج وما أضيف إليها من سائر الحيوان. يقال له أنعام مجموعة معها وكأن المفترس كالأسد وكل ذي ناب خارج عن حد الأنعام فبهيمة الأنعام هي الراعي من ذوات الأربع. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: بهيمة الأنعام الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأمهات، فهي تؤكل من غير ذكاة. ونقل عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما أيضا، وفيه بعد: لأن الله تعالى قال «2» : إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ* وليس في الأجنة ما يستثنى. وحل بهيمة الأنعام من حكم الله تعالى، إذ لولا الليل ما عرف قدر النهار، ولولا المرض لم يتنعم الأصحاء بالصحة، ولولا النار ما عرف أهل الجنة قدر النعمة. كما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائم، وتسليطهم على ذبحها ليس بظلم، بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل. وكذلك تفخيم النعم على سكان الجنان، بتعظيم العقوبة على أهل النيران، فداء لأهل الإيمان بأهل الكفر هو عين العدل. وما لم يخلق الناقص لم يعرف الكامل، فلولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنسان. روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه دخل دار الحكم بن أيوب، فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها، فقال أنس: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم وهو أن يمسك من ذوات الروح شيء حي ثم يرمي بشيء حتى يموت» . وفي الصحيحين «3» وغيرهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعل ذلك» . ولأنه تعذيب للحيوان، وإتلاف لنفسه، وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته، إن كان يذكى. وفي الحديث «4» أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن المجثمة» وهي كل حيوان ينصب ويرمى ليقتل. إلا أنها تكثر في الطير والأرانب ونحو ذلك مما يجثم في الأرض أي يلزمها ويلتصق بها. وجثم الطائر جثوما، وهو بمنزلة البروك للإبل. وروى أبو داود والترمذي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن التحريش بين البهائم «5» » . وفي شفاء الصدور، لابن سبع، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أجل البهائم وخشاش الأرض والقمل والبراغيث والجراد والخيل والبغال والدواب والبقر وما سوى ذلك في التسبيح، فإذا انقضى تسبيحها قبض الله عزّ وجلّ أرواحها» . فائدة : قال ابن دحية، في كتاب الآيات البينات: اختلف الناس في حشر البهائم، وفي جريان القصاص بينها فقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: لا يجري القصاص بين البهائم لأنها غير مكلفة وما ورد في ذلك من الأخبار نحو قوله صلى الله عليه وسلم: «يقتص للجماء من القرناء ويسأل العود لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 خدش العود «1» » فعلى سبيل المثل والإخبار عن شدة التقصي في الحساب. وأنه لا بد من أن يقتص للمظلوم من الظالم وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني: يجري القصاص بينها، ويحتمل أنها كانت تعقل هذا القدر في دار الدنيا. قال ابن دحية وهذا جار على مقتضى العقل والنقل لأن البهيمة تعرف النفع والضر، فتنفر من العصا وتقبل للعلف، وينزجر الكلب إذا انزجر وإذا أشلى استشلى. والطير والوحش تفر من الجوارح، استدفاعا لشرها. فإن قيل: القصاص انتقام والبهائم ليست بمكلفة فالجواب أنها غير مكلفة، إلا أن الله يفعل في ملكه، ما أراد كما سلط عليها في الدنيا التسخير لبني آدم، والذبح لما يؤكل منها فلا اعتراض عليه سبحانه وتعالى. وأيضا فإن البهائم إنما يقتص منها لبعضها من بعض إلا أنها لا تطالب بارتكاب نهي ولا بمخالفة أمر لأن هذا مما خص الله به العقلاء، ولما كثر التنازع رجعنا لما أمرنا به ربنا بقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ «2» ووجدنا القرآن العظيم يدل على الإعادة في الجملة: قال «3» الله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ إلى قوله: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وقال «4» وقال تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ والحشر في اللغة الجمع. وفي الصحيحين. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين، وراهبين، وإثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا. فهذا يدل على حشر الإبل مع الناس. وروى الإمام أحمد بسند صحيح إلى أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقتص للخلق بعضهم من بعض، حتى للجماء من القرناء، حتى للذرة من «5» الذرة» فإذا كانت البهائم والذر يقتص منها فكيف يغفل من هو مكلف مأمور؟ ونسأل الله السلامة من شرور أنفسنا وسيآت أعمالنا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أيضا أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «لتؤدين الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» . وفيه أيضا وفي غيره: «ما من صاحب إبل لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر. ثم يؤتى بها أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيل واحد تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها» . الحديث «6» بطوله. وفي صحيح البخاري: «ليأتين أحدكم يوم القيامة بشاة، يحملها على رقبته لها ثغاء، فيقول: يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغت» . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه قال «7» : «ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقا من قيام الساعة إلا الجن والإنس» . وإصاختها بإلهام الله إياها في ذلك اليوم، محمول على ما جبلها الله تعالى عليه من توقيها لما يضرها، وانقيادها إلى ما ينفعها جبلة لا عقلا وإحساسا حيوانيا، لا إدراكا فهميا. وإذا جبل الله النملة على حمل قوتها وإدّخاره لزمن الشتاء فجبله البهيمة على الإصاخة محاذرة يوم القيامة أولى. ومن استقرى أحوال الحيوانات، رأى حكمة الله فيها لما سلبها العقل جعل لها حسا تفرق به بين الضار لها والنافع، وجبلها على أشاء وألهمها إياها لا توجد في الإنسان إلا بعد التعلم وتدقيق النظر فمنها النحلة المحكمة لتسديس مخزن قوتها، حين يتعجب منه أهل الهندسة. والعنكبوت المتقنة لخيوط بيوتها وتناسب دوائرها. وكذلك السرفة في إحكام بيتها مربعا من عيدان وقد ظهرت من البهائم الصنائع العجيبة، والأفاعيل الغريبة، ولم يسلبها رب العالمين سوى العبارة عن ذلك، والنطق به ولو شاء أنطقها كما أنطق النملة في عهد سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. والبهيم من الخيل الذي لا شية فيه الذكر والأنثى فيه سواء. والبهم من النعاج السود التي لا بياض فيها وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث «1» : «يحشر الناس يوم القيامة بهما» فمعناه أنه ليس بهم شيء مما كان في الدنيا نحو البرص والعرج والعمى والعور وغير ذلك. وإنما هي أجساد مصححة لخلود الأبد في الجنة أو النار. وقيل: بل عراة ليس عليهم من متاع الدنيا شيء وهذا يخالف الأول من حيث المعنى ومن شعر مسعر بن «2» كدام أحد الأعلام: نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم وتتعب فيما سوف تكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم فرع: اختلف أصحابنا في نقض الوضوء بمس فرج البهيمة على وجهين: أحدهما ينقض لعموم النقض بمس الفرج. والأصح أنه لا ينقض، إذ لا حرمة لها ولا تعبد عليها. وأما دبرها فلا ينقض قطعا، قال الدارمي: ولا فرق في الخلاف بين البهائم والطير. الأمثال: قالوا: «ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة» يضرب في مدح القدرة على الكلام. البوم والبومة : بضم الباء طائر يقع على الذكر والأنثى حتى تقول: صدى أو فياد فيختص بالذكر وكنية الأنثى أم الخراب وأم الصبيان ويقال لها أيضا غراب الليل. قال «3» الجاحظ: وأنواعها الهامة والصدى والضوع والخفاش وغراب الليل والبومة. وهذه الأسماء كلها مشتركة أي تقع على كل طائر من طير الليل يخرج من بيته ليلا قال وبعض هذه الطيور يصيد الفأر وسام أبرص والعصافير وصغار الحشرات وبعضها يصيد البعوض. ومن طبعها أن تدخل على كل طائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 في وكره وتخرجه منه وتأكل فراخه وبيضه. وهي قوية السلطان بالليل لا يحتملها شيء من الطير ولا تنام بالليل، فإذا رآها الطير بالنهار قتلنها ونتفن ريشها، للعداوة التي بينهن، وبينها ومن أجل ذلك صار الصيادون يجعلونها تحت شباكهم ليقع لهم الطير. ونقل المسعودي عن الجاحظ أن البومة لا تظهر بالنهار، خوفا من أن تصاب بالعين لحسنها وجمالها ولما تصور في نفسها أنها أحسن الحيوان لم تظهر إلا بالليل. وتزعم العرب في أكاذيبهم أن الإنسان إذا مات أو قتل، تتصور نفسه في صورة طائر، تصرخ على قبره، مستوحشة لجسدها، والطائر ذكر البوم وهو الصدى. وفي ذلك يقول توبة الحميري «1» أحد عشاق العرب: ولو أن ليلى الأخيلية سلمت ... علي ودوني جندل وصفائح لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح فيقال: إنها مرت بقبره فأنشدت ذلك فارتفع شيء من القبر كالطائر، نفرت منه ناقتها فسقطت ميتة ودفنت إلى جانبه. والبوم أصناف وكلها تحب الخلوة بأنفسها والتفرد وفي أصل طبعها عداوة الغربان. وفي تاريخ ابن النجار أن كسرى قال لعامل له: صد لي شر الطير، واشوه بشر الوقود، وأطعمه شر الناس، فصاد بومة وشواها بحطب الدفلى وأطعمها ساعيا. وفي سراج الملوك للإمام أبي بكر الطرطوشي، في الباب السابع والأربعين أن عبد الملك بن مروان، أرق ليلة فاستدعى سميرا له يحدثه، فكان فيما حدثه به أن قال: يا أمير المؤمنين كان بالموصل بومة وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها، فقالت بومة البصرة: لا أفعل إلا أن تجعلي لي صداقها مائة ضيعة خراب. فقالت بومة الموصل: لا أقدر على ذلك الآن ولكن إن دام والينا، سلمه الله علينا، سنة واحدة فعلت لك ذلك. قال: فاستيقظ لها عبد الملك، وجلس للمظالم وأنصف الناس بعضهم من بعض، وتفقد أمور الولاة. ورأيت في بعض المجاميع، بخط بعض العلماء الأكابر، أن المأمون أشرف يوما من قصره فرأى رجلا قائما وبيده فحمة وهو يكتب بها على حائط قصره، فقال المأمون لبعض خدمه: اذهب إلى ذلك الرجل، وانظر ما يكتب وائتني به. فبادر الخادم إلى الرجل مسرعا وقبض عليه وتأمل ما كتبه فإذا هو: يا قصر جمع فيك الشوم واللوم ... متى يعشش في أركانك البوم يوم يعشش فيك البوم من فرحي ... يكون أول من ينعيك مرغوم ثم إن الخادم قال له: أجب أمير المؤمنين: فقال له الرجل: سألتك بالله لا تذهب بي إليه. فقال الخادم: لا بد من ذلك. ثم ذهب به فلما مثل بين يدي المأمون، أعلمه الخادم بما كتب. فقال المأمون: ويلك ما حملك على هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين إنه لن يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلى والحلل والطعام والشراب والفراش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك، مما يقصر عنه وصفي ويعجز عنه فهمي، وإني يا أمير المؤمنين قد مررت الآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 عليه وأنا في غاية من الجوع والفاقة، فوقفت مفكرا في أمري، وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عال، وأنا جائع ولا فائدة لي فيه، فلو كان خرابا ومررت به لم أعدم منه رخامة أو خشبة أو مسمارا أبيعه، وأتقوت بثمنه أو ما علم أمير المؤمنين ما قال الشاعر؟ قال: وما قال الشاعر؟ قال: إذا لم يكن للمرء في دولة امرىء ... نصيب ولا حظ تمنى زوالها وما ذاك من بغض لها غير أنه ... يرجي سواها فهو يهوى انتقالها فقال المأمون: اعطه يا غلام ألف دينار. ثم قال له: هي لك في كل سنة ما دام قصرنا عامرا بأهله وأنشدوا في معنى ذلك: إذا كنت في أمر فكن فيه محسنا ... فعما قليل أنت ماض وتاركه فكم دحت الأيام أرباب دولة ... وقد ملكوا أضعاف ما أنت مالكه الحكم: يحرم أكل جميع أنواعها. قال الرافعي: ذكر أبو عاصم العبادي أن البوم حرام كالرخم، وكذلك الضوع. وعن الشافعي رحمه الله قول إنه حلال، وهذا يقتضي أن الضوع غير البوم. لكن في الصحاح أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام. وقال المفضل: إنه ذكر البوم فعلى هذا إذا كان في الضوع قول، لزم إجراؤه في البوم لأن الأنثى والذكر من الجنس الواحد لا يختلفان في الحل والحرمة اهـ. وقال في الروضة: الأشهر أن الضوع من جنس الهام فنحكم بتحريمه. فائدة: روى ابن السني عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان «1» » . وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يفعله. واختلف في أم الصبيان فقيل البومة كما تقدم، وقيل: التابعة من الجن. الخواص: إذا ذبح البوم بقيت إحدى عينيه مفتوحة والأخرى مضمومة، فالمفتوحة إذا جعلت تحت فص خاتم، من لبسه سهر ما دام عليه، والأخرى بالعكس. قال الطبري: فإذا اشتبه عليك المنومة من المسهرة فاجعلهما في الماء فالتي ترتفع على الماء هي المسهرة، والتي ترسب هي المنومة. وقال هرمس: إذا أخذ قلب بومة وجعل على اليد اليسرى من المرأة في حال نومها تكلمت بكل ما فعلته في يومها. والاكتحال بمرارتها ينفع من ظلمة البصر. وقلب البومة الكبيرة إذا قلع وشد في جلد ذئب وعلق على العضد أمن حامل ذلك من اللصوص وسائر الهوام ولم يخف أحدا من الناس. وإن اكتحل بمذاب شحمها فأي مكان دخله بالليل رآه ميضأ. وهي تبيض بيضتين إحداهما تخلق والأخرى لا تخلق، فإن أردت معرفة التي تخلق من التي لا تخلق فأدخل فيها ريشة فالتي تخلق تبين لك تخلقها الريشة. التعبير : البوم في المنام لص مكار، وقيل ملك مهيب تشق مرائر الرعية هيبته. ويدل على البطالة وذهاب الخوف لأنه من طيور الليل والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 البوّة: بضم الباء وتشديد الواو طائر يشبه البوم إلا أنه أصغر منه والأنثى بوهة ويشبه بها الرجل الأحمق قال امرؤ القيس: أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا «1» الأحسب من الناس الذي في شعره شقرة وصفه باللؤم والشح، يقول كأنه لم تخلق عقيقته في صغره حتى شاخ. وقيل: إنه الرجل الضعيف الطائش. والبوهة ما أطارته الريح والبوه ذكر البوم وقيل البوه الكبير من اليوم قال «2» رؤبة يذكر كبره: كالبوة تحت الظلمة المرشوش. وقيل: البوه طائر يشبه البوم وقيل: الأحسب الذي ابيض جلده من داء ففسدت شعرته فصار أحمر وأبيض ويكون ذلك في الناس والإبل. وقيل الأحسب الأبرص. وحكمه وخواصه وتعبيره كالبوم في جميع ما تقدم. بوقير : قال القزويني: إنه طائر أبيض تجيء منه طائفة كل سنة، في وقت معلوم، إلى جبل يقال له جبل الطير بصعيد مصر بقرب انصنا بلدة مارية أم إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فتتعلق على هذا الجبل، وفيه كوة يأتي كل واحد منها ويدخل رأسه فيها ثم يخرجه ويلقي نفسه في النيل ثم يخرج ويذهب من حيث جاء. ولم تزل هكذا حتى يدخل واحد منها رأسه فيها فيقبض عليه شيء من تلك الكوة فيضطرب ويبقى معلقا حتى يتلف ثم يسقط بعد مدة فإذا تعلق ذلك الطائر انصرف الباقون في الحال فلا يرى شيء من ذلك الطير في ذلك الجبل إلى مثل ذلك الزمان من العام المقبل. قال أبو بكر الصولي «3» : سمعت من أعيان تلك البلاد أنه إذا كان العام مخصبا قبضت تلك الكوة على طائرين وإن كان متوسطا قبضت على طائر واحد وإن كان مجدبا لم تقبض على شيء. البينيب: على وزن فيعيل سمك بحري معروف عند أهل البحر. البياح: بكسر الباء مخففا ضرب من السمك وربما فتح وشدد قاله الجوهري. أبو برا قش: طائر كالعصفور يتلون ألوانا قال الشاعر: كأبي براقش كل يو ... م لونه يتخيل يضرب به المثل في التنقل والتحول. وقال القزويني: إنه طائر حسن الصوت، طويل الرقبة والرجلين، أحمر المنقار في حجم اللقلق، يتلون في كل ساعة يكون أحمر وأزرق وأخضر وأصفر. قال: ولم يحضرني شيء من خواصه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 أبو برا: طائر يسمى السموأل وسيأتي في باب السين المهملة إن شاء الله تعالى. أبو بريص: بفتح الباء هو الوزغ الذي يسمى سام أبرص. وسيأتي الكلام عليه في باب السين والواو في لفظ الوزغ وسام أبرص إن شاء الله تعالى. باب التاء المثناة التالب: الوعل والأنثى تالبة حكاه ابن سيده. وسيأتي الكلام عليه في باب الواو وفي لفظ الوعل إن شاء الله تعالى. التبيع: ولد البقرة أول سنة. وبقرة تبيع معها ولدها والأنثى تبيعة والجمع تباع وتبائع مثل أفيل وافال وأفائل. وقد تقدم في باب الهمزة روى الإمام مالك في الموطأ وأبو داود الترمذي والنسائي وآخرون عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه، قال: «بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة بقرة، ومن كل ثلاثين مسنة تبيعا أو تبيعة «1» » . قال الترمذي: حديث حسن، وروي مرسلا وهو أصح. والمسنة: ما استكملت سنتين ودخلت في الثالثة. والتبيع هو الذي يتبع أمه، وإن كان له دون سنة. قال الرافعي: وحكى جماعة أن التبيع الذي له ستة أشهر والمسنة التي لها سنة وهذا غلط ليس معدودا من المذهب. التبشر : في أدب الكاتب لابن قتيبة أنه بفتح التاء المثناة من فوق وبالباء الموحدة ثم بالشين المعجمة وقيل بضم التاء وفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة طائر يقال له الصفارية، والتاء فيه زائدة وسيأتي الكلام عليه في باب الصاد المهملة إن شاء الله تعالى. التثفل: بضم التاء أوله وسكون الثاء المثلثة كقنفذ ولد الثعلب والتاء فيه زائدة. التدرج : كحبرج طائر كالدراج، يغرد في البساتين بأصوات طيبة، يسمن عند صفاء الهواء وهبوب الشمال، ويهزل عند، كدورته وهبوب الجنوب. يتخذ داره في التراب اللين ويضع البيض فيها لئلا يتعرض للآفات. وقال ابن زهر هو طائر مليح يكون بأرض خراسان وغيرها من بلاد فارس. وحكمه : الحل لعدم استخباثه، وإن كان نوعا من الدراج وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. الخواص : لحمه من أفضل لحوم الطير يزيد في الفهم والباه. وإذا أخذت مرارته وسعط بها من به خبل أو وسواس نفعه وإن شوي لحمه وأطعم منه وهو حار ثلاثة أيام أبرأه. التخس: كصرد الدلفين وسيأتي في باب الدال المهملة إن شاء الله تعالى. التفلق: كزبرج طائر من طير الماء قاله في العباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 التفه : ويسمى عناق الأرض، والغنجل: نوع من السباع نحو الكلب الصغير على شكل الفهد، وصيده في غاية الجودة والملاحة، وربما واثب الإنسان فيعقره ولا يطعم غير اللحوم. وربما صاد الكركي وما قاربه من الطير، فيفعل به فعلا حسنا. وقد وصفه الناشيء «1» في أبيات منها: حلو الشمائل في أجفانه وطف ... صافي الأديم هضيم الكشح ممسود «2» فيه من البدر أشباه توافقه ... منها له سفع في وجهه سود كوجه ذا وجه هذا في تدوره ... كأنه منه في الأجفان معدود له من الليث ناباه ومخلبه ... ومن غرير الظباء النحر والجيد «3» إذا رأى الصيد أخفى شخصه أدبا ... وقلبه باقتناص الطير مزؤود «4» الحكم: يحرم أكله لعموم النهي عن أكل كل ذي ناب ومخلب من السباع. وقال بعض أصحابنا: إنه السنور البري وإنه قريب من الثعلب وإنه على شكل السنور الأهلي وفي حكمه وجهان: أصحهما التحريم لأنه يأكل الفأر. الأمثال: قالت «5» العرب: «أغنى من التفه عن الرفه» . والرفه التبن. والأصل فيهما رفهة وتفهة قال حمزة: وجمعهما تفات ورفات قال الشاعر: غنينا عن حديثكم قديما ... كما غنى التفات عن الرفات ويقال «6» أيضا: «استغنت التفه عن الرفه» . وذلك أن التفه سبع لا يقتات الرفه أصلا، وإنما يغتذي باللحم فهو يستغني عن التبن، والمعروف في التفه والرفه تخفيف الفاء وقال الأستاذ أبو بكر: هما مشددتان. وقد أوردهما الجوهري في باب الهاء فقال: التفه والرفه، وفي الجامع مثله، إلا أنه قال: ويخففان. وأما الأزهري «7» فإنه أورد الرفه في باب الرفت، بمعنى الكسر. وقال ثعلب عن ابن الأعرابي: الرفت التبن: وفي المثل: «أغنى من التفه عن الرفت» قال الأزهري: والتفه تكتب بالهاء، والرفت بالتاء قال الميداني: وهذا من أصح الأقوال لأن التبن مرفوت أي مكسور. التم: طائر نحو الإوز في منقاره طول وعنقه أطول من عنق الأوز. وحكمه : الحل لأنه من الطيبات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 التمساح: اسم مشترك بين الحيوان المعروف والرجل الكذاب، قال القزويني: وهذا الحيوان على صورة الضب وهو من أعجب حيوان الماء، له فم واسع وستون نابا في فكه الأعلى وأربعون في فكه الأسفل، وبين كل نابين سن صغيرة مربعة ويدخل بعضها في بعض عند الانطباق. وله لسان طويل، وظهر كظهر السلحفاة لا يعمل الحديد فيه، وله أربع أرجل وذنب طويل، وهذا الحيوان لا يكون إلا في نيل مصر خاصة. وزعم قوم أنه في بحر السند أيضا، وهو شديد البطش في الماء لا يقتل إلا من إبطيه، ويعظم حتى يكون طوله عشرة أذرع في عرض ذراعين وأكثر. ويفترس الفرس. وإذا أراد ألسفاد خرج هو والأنثى إلى البر فيلقي الأنثى على ظهرها ويستبطها فإذا فرغ قلبها لأنها لا تتمكن من الإنقلاب لقصر يديها ورجليها ويبس ظهرها. وهو إذا تركها على تلك الحال، لم تزل كذلك حتى تقلب. وتبيض في البر، فما وقع من ذلك في الماء صار تمساحا وما بقي صار سقنقورا. ومن عجائب أمره أنه ليس له مخرج فإذا امتلأ جوفه بالطعام خرج إلى البر وفتح فاه، فيجيء طائر يقال له القطقاط فيلقط ذلك من فيه. وهو طائر أرقط صغير يأتي لطلب المطعم، فيكون في ذلك غذاء له وراحة للتمساح، ولهذا الطائر في رأسه شوكة، فإذا أغلق التمساح فمه عليه نخسه بها فيفتحه. وسيأتي ذكر هذا الطائر إن شاء الله تعالى. وزعم بعض الباحثين عن طبائع الحيوان، أن للتمساح ستين سنا وستين عرقا. ويسفد ستين مرة، وتبيض الأنثى ستين بيضة ويعيش ستين سنة. وقال أبو حامد الأندلسي: إن له ثمانين نابا أربعون نابا في الفك الأعلى وأربعون في الفك الأسفل وهو أبدا يحرك فكه الأعلى وفكه الأسفل. عظمه متصل بصدره وليس له دبر وله فرج ينسل منه. وهو شر من كل سبع في الماء. ومن شأنه أنه يغيب في باطن الماء أربعة أشهر، مدة الشتاء كله ولا يظهر. والكلب البحري عدوه فإذا نام فتح فاه فيطرح كلب الماء نفسه في الطين ويتجفف ثم يأتيه مفاجأة فيدخل فاه ويأكل أمعاءه ويخرج من مراق بطنه بعد أن يقتله وكذلك يفعل معه ابن عرس أيضا. وحكمه : تحريم الأكل للعدو بنابه كذا علله جماعة من الأصحاب. وقال الشيخ محب الدين الطبري، في شرح التنبيه: القرش حلال. ثم قال: فإن قلت أليس هو مما يتقوى بنابه؟ فهو كالتمساح. والصحيح تحريم التمساح. قلت لا نسلم أن ما يتقوى بنابه من حيوان البحر حرام. وإنما حرم التمساح كما قال الرافعي في الشرح للخبث والضرر نعم كلام التنبيه يقتضي أن تحريمه لكونه مما يتقوى بنابه ولا ينبغي تعليل تحريمه بذلك فإن في البحر حيوانا كثيرا يفترس بنابه كالقرش وغيره وهو حلال ولا ريب في أن البحري مخالف للبري. اهـ وهو الظاهر والله أعلم. الأمثال: قالوا «1» «أظلم من تمساح» و «كافأه مكافأة التمساح» . الخواص: عينه تشد على صاحب الرمد، يسكن وجعه في الحال، اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى. وإذا عجن شحمه بشمع وجعل فتيلة وأسرج في نهر لم تصح ضفادعه. وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 قطر شحمه في الأذن الوجعة شفاها. وإذا أدمن تقطيره في الأذن نفع الصمم. ومرارته يكتحل بها للبياض الذي في العين فيذهب. وإذا علق شيء من أسنانه التي في الجانب الأيمن على الرجل، زاد جماعه. وقال القزويني، في عجائب المخلوقات: أول سن من الجانب الأيسر يشد على صاحب القشعريرة يذهبها. وكبده يبخر به صاحب الصرع يزول صرعه. وقطعة من جلده تشد على جبهة الكبش يغلب الكباش. وزبله الذي يوجد في بطنه يزيل البياض الحادث والقديم اكتحالا، ورائحته كرائحة المسك وتقول القبط إنه المسك إلا أنه فيه سهوكة. التعبير: التمساح في المنام عدوّ مسلط وهو نظير الأسد وقيل: التمساح لص مكابر ذو مكر وغدر وخديعة. التميلة: دويبة بالحجاز على قدر الهرة والجمع تملان قاله ابن سيده. التنوّط: في الكفاية لابن الرفعة أنه بضم التاء وكسر الواو ويجوز فتح التاء المشددة وفتح النون وضم الواو المشددة. وقال غيره: هو طائر يجوز في واوه الضم والفتح قال الأصمعي: إنما سمي بذلك لأنه يدلي خيطا من شجرة يفرخ فيها الواحدة تنوطة. ومن شأن هذا الطائر أنه إذا أقبل عليه الليل يتنقل في زوايا بيته ويدور فيها ولا يأخذه قرار إلى الصبح خوفا على نفسه وهذا الطائر هو الصفا. وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. وحكمه: الحل لأنه من نوع العصافير. الخواص: قال القزويني في عجائب المخلوقات: يذبح التنوط بسكين ويسقى دمه لمن يعربد في سكره فلا يعود إلى ذلك أبدا ومرارته تطبخ بالسكر وتسقى لصبي فيحسن خلقه. وعظمه يعلق على الصبي وقت زيادة القمر فيبقى محبوبا إلى الناس ولو كان كريه اللقاء. التنين: ضرب من الحيات كأكبر ما يكون منها وكنيته أبو مرداس وهو أيضا نوع من السمك. وقال القزويني في عجائب المخلوقات: إنه شر من الكوسج، في فمه أنياب مثل أسنة الرماح. وهو طويل كالنخلة السحوق، أحمر العينين مثل الدم، واسع الفم والجوف، براق العينين يبتلع كثيرا من الحيوان، يخافه حيوان البر والبحر، إذا تحرك يموج البحر لشدة قوته وأول أمره يكون حية متمردة تأكل من دواب البر ما ترى، فإذا كثر فسادها، احتملها ملك وألقاها في البحر، فتفعل بدواب البحر ما كانت تفعله بدواب البر، فيعظم بدنها فيبعث الله إليها ملكا يحملها ويلقيها إلى يأجوج ومأجوج. روي عن بعضهم أنه رأى تنينا طوله نحو من فرسخين، ولونه مثل لون النمر مفلسا مثل فلوس السمك بجناحين عظيمين، على هيئة جناحي السمك، ورأسه كرأس الإنسان لكنه كالتل العظيم، وأذناه طويلتان وعيناه مدورتان كبيرتان جدا. روى ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يسلط الله على الكافر في قبره تسعة وتسعين تنينا تنهشه وتلدغه، حتى تقوم الساعة لو أن تنينا منها نفخ على الأرض ما نبتت خضرا» . ورواه «1» الترمذي عنه مطولا. قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مصلاه، فرأى ناسا كأنهم يكشرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 فقال: أما أنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى، أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود والهوام. فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبا وأهلا، أما إن كنت لمن أحب من يمشي على ظهري إلي فمذ وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك قال: فيتسع له قبره مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة وإذا دفن العبد الكافر أو الفاجر، يقول له القبر: لا مرحبا ولا أهلا أما إن كنت لمن أبغض من يمشي على ظهري إلي فمذ وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك، فيلتئم عليه حتى يلتقي وتختلف أضلاعه. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بأصابع يديه هكذا وشبكها. ثم يقيض له تسعون تنينا أو تسعة وتسعون تنينا لو أن واحدا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئا ما بقيت الدنيا فتنهشه وتخدشه حتى يبعث إلى الحساب «1» » . قال: وقال «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» . وروى الأئمة أن موسى عليه الصلاة والسلام لما قال لشعيب عليه الصلاة والسلام: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ «3» الآية. أمره لما جن الليل أن يدخل بيتا عينه له، ويأخذ منه عصا من العصي التي فيه دخل موسى البيت، وأخذ العصا التي أخرجها آدم معه من الجنة، وكانت من آس الجنة، فتوارثها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حتى صارت إلى شعيب عليه السلام، فأمره أن يلقيها في البيت ويدخل ويأخذ عصا أخرى فدخل وأخرجها، كذلك سبع مرات فعلم شعيب أن لموسى شأنا، فلما أصبح قال له سق الأغنام إلى مفرق الطريق، ثم خذ عن يمينك، وليس بها عشب كثير، ولا تأخذ عن يسارك فإنها وإن كان بها عشب كثير، ففيها تنين كبير يقتل المواشي فساق موسى الأغنام إلى مفرق الطريق، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ردها فسرحها في الكلأ، ثم نام فخرج التنين فحاربته العصا حتى قتلته فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم والتنين مقتولا، فعاد إلى شعيب فأخبره الخبر فسر بذلك، وقال: كل ما ولدت هذه المواشي ذا لونين في هذه السنة فهو لك. فقدر الله تعالى أن ولدت كلها في تلك السنة ذا لونين. فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة، فأقام عنده ثمانيا وعشرين سنة إلى أن تمت له أربعون سنة ثم خرج عنه بأهله. وأما حكمه : فعلى ما قال القزويني أكله حرام لكونه من جنس الحيات وعلى أنه سمك يؤذي بنابه فالظاهر التحريم أيضا كالتمساح. الخواص: زعموا أن أكل لحمه يورث الشجاعة ودمه إذا طلي به على الذكر وجامع امرأته حصل لها لذة عظيمة. التعبير: التنين في المنام ملك فإن كان له رأسان أو ثلاثة فهو أشد لشره. والمريض إذا رأى تنينا دل على موته. ومن الرؤيا المعبرة أن امرأة رأت في منامها كأنها وضعت تنينا فولدت ولدا زمنا وذلك لأن التنين يجر نفسه إذا مشى وكذلك الزمن يجر نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 التورم: القطقاط: قال ابن بختيشوع: هو على شكل الحمامة، ويقال له طير التمساح قال: وفي جناحه شوكتان هما سلاحه إذا أطبق عليه التمساح فمه تخسه، فيفتح فاه فيخرج كما تقدم قال: ومن خواصه إذا أخذتا يعني الشوكتين أو إحداهما وصيرتا في موضع قد بال فيه إنسان مرض ذلك الإنسان، ولم يزل مريضا حتى تنزع الشوكة من ذلك المكان الذي بال فيه، وإذا علق قلبه على من به وجع المعدة أبرأه الله تعالى. التولب: الجحش قالوا «1» «أطوع من تولب» . قال سيبويه: هو مصروف لأنه فوعل. ويقال للأتان أم تولب وسيأتي حكمه في باب الحاء المهملة إن شاء الله تعالى. التيس: الذكر من المعز والوعول والجمع تيوس وأتياس قال الهذلي: من فوقه أنسر سود وأغربة ... وتحته أعنز كلف وأتياس والتياس الذي يمسكه، ويقال: في فلان تيسية وناس يقولون تيوسية. قال الجوهري: ولا أعرف صحتها. ويقال للذكر من الضباء أيضا تيس ويقال نب التيس ينب نبيبا إذا صاح وهاج وقد مثل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال «2» : «أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قصير أشعث، ذي عضلات عليه إزار قد زنى فرده مرتين ثم أمر به فرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدكم ينب نبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة إن الله لا يمكنني من أحد منهم إلا جعلته نكالا أو نكلته» . وفي كامل ابن عدي في ترجمة إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه بقطيع من غنم يقسمها بين أصحابه فبقي منها تيس فضحى به. وفيه في ترجمة أبي صالح كاتب الليث بن سعد واسمه عبد الله بن صالح عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بالتيس المستعار هو المحلل» . ثم قال: «لعن الله المحلل والمحلل له» . «3» والحديث المذكور رواه الدارقطني وابن ماجه عن كاتب الليث بن سعد عن مشرح بن هاعان المصري عن عقبة بن عامر بإسناد حسن. وكذلك رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. قيل: إنما لعنه النبي صلى الله عليه وسلم مع حصول التحليل لأن التماس ذلك هتك للمروءة والملتمس ذلك هو المحلل له، وإعارة التيس للوطء. لغرض الغير أيضا رذيلة. ولذلك شبهه بالتيس المستعار وإنما يكون كالتيس المستعار إذا سبق التماس من المطلق، والعرب تعير بإعارة التيس قال الشاعر: وشر منيحة تيس معار. وفي آخر شفاء الصدور لابن سبع السبتي عن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 عنهم قال: كنت مع أبي بعد ما كف بصره وهو بمكة فمررنا على قوم من أهل الشام في صفة زمزم، فسبوا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقال لسعيد بن جبير وهو يقوده: ردني إليهم فرده فقال: أيكم الساب لله ولرسوله فقالوا: سبحان الله ما فينا أحد سب الله ورسوله. فقال: أيكم الساب لعلي؟ قالوا: أما هذا فقد كان. فقال ابن عباس إني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «1» : «من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ومن سب الله كبه الله تعالى على منخريه في النار» . ثم ولى عنهم فقال: يا بني ما رأيتهم صنعوا فقلت يا أبت: نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر التيوس إلى شفار الجازر فقال زدني يا بني فقلت: شزر العيون منكسي أذقانهم ... نظر الذليل إلى العزيز القاهر اه- وفي تهذيب الكمال، في ترجمة عبد العزيز بن منيب القرشي، وكان طويل اللحية أن علي بن حجر السعدي نظر إليه وقال: ليس بطول اللحى ... تستوجبون القضا إن كان هذا كذا ... فالتيس عدل رضا قال: ومكتوب في التوراة لا يغرنك طول اللحى فإن التيس له لحية. وسيأتي في المعز بيان حكمه. وفي تاريخ الإسلام للعلامة الذهبي أن في سنة تسع وتسعين ومائتين وردت هدايا مصر على المقتدر فيها خمسمائة ألف دينار وتيس له ضرع يحلب لبنا وضلع إنسان عرض شبر في طول أربعة عشر شبرا، وفي كتاب الترغيب والترهيب في باب ذم الحاسد من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على أمتي زمان يحسد فيه الفقهاء بعضهم بعضا ويغار بعضهم على بعض كتغاير التيوس بعضها على بعض» وفي الحلية عن مالك بن دينار أنه قال: تجوز شهادة القراء في كل شيء إلا شهادة بعضهم على بعض فإنهم أشد تحاسدا من التيوس في الزرب. اهـ. قال الجوهري: الزرب والزربية حظيرة الغنم من خشب. وفي مروج الذهب للمسعودي وشرح السيرة للحافظ قطب الدين وغيرهما أن أم الحجاج بن يوسف، وهي الفارعة بنت همام، كانت تحث الحارث بن كلدة الثقفي «2» ، حكيم العرب، فدخل عليها ليلة في السحر فوجدها، تتخلل فطلقها، فسألته عن سبب ذلك؟ فقال: دخلت عليك في السحر فوجدتك تتخللين، فإن كنت بادرت الغداء فأنت شرهة، وإن كنت بت والطعام بين أسنانك فأنت قذرة. فقالت: كل ذلك لم يكن، لكني تخللت من شظايا السواك. فتزوجها بعده يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، فأولدها الحجاج وكان الحجاج مشوها لا دبر له فثقب دبره وأبى أن يقبل ثدي أمه وغيرها فأعياهم أمره فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة فقال: ما خبركم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فقالوا: لنا ولد ليوسف من الفارعة، وقد أبى أن يقبل ثدي أمه. فقال: اذبحوا له تيسا أسود وألعقوه دمه. ثم ذبحوا له أسود سالحا وأولغوه من دمه، وأطلوا به وجهه ثلاثة أيام فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع. ففعلوا به كذلك فقبل الثدي. وكان لا يصبر عن سفك الدماء وكان يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء. وارتكب أمورا لا يقدر عليها غيره. وفي تاريخ «1» ابن خلكان أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج كتابا يتهدده في آخره بهذه الأبيات: إذا أنت لم تترك أمورا كرهتها ... وتطلب رضاي بالذي أنا طالبه «2» وتخش الذي يخشاه مثلك هاربا ... إليّ فها قد ضيع الدر جالبه فإن ترمني غفلة قرشية ... فيا ربما قد غصّ بالماء شاربه وإن ترمني وثبة أموية ... فهذا وهذا كله أنا صاحبه فلا تأمنني والحوادث جمة ... فإنك تجزي بالذي أنت كاسبه «3» فأجابه الحجاج وقال في آخر جوابه: وأما ما أتاني من أمريك فألينهما غرة، وأصعبهما محنة، وقد عبأت للغرة الجلد وللمحنة الصبر، فلما قرأ عبد الملك كتابه قال: خاف أبو محمد صولتي ولن أعود إلى ما يكره. وكان الحجاج كثيرا ما يسأل القراء، فدخل عليه يوما رجل فقال له الحجاج: ما قبل قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ «4» ؟ فقال له الآخر: قوله تعالى «5» قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ فما سأل أحدا بعدها. وقال الحجاج لرجل من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث «6» : والله إني لأبغضك. فقال الرجل: أدخل الله أشدنا بغضا لصاحبه الجنة. وكان أول ما ظهر من كفاءة الحجاج أنه كان في شرطة روح بن زنباع «7» وزير عبد الملك بن مروان، وكان عسكر عبد الملك لا يرحل برحيله ولا ينزل بنزوله. فشكا عبد الملك ذلك لروح بن زنباع فقال له: يا أمير المؤمنين في شرطتي رجل يقال له الحجاج بن يوسف، لو ولاه أمير المؤمنين أمر العسكر، لأرحل الناس برحيل أمير المؤمنين وأنزلهم بنزوله. فولاه عبد الملك أمر العسكر فأرحل الناس برحيل عبد الملك وأنزلهم بنزوله. فرحل يوما عبد الملك ورحل الناس، وتأخر أصحاب روح بن زنباع عن الرحيل، فمرّ عليهم الحجاج وهم يأكلون، فقال لهم: ما بالكم لن ترحلوا مع العسكر؟ فقالوا له: انزل وتغد ودع عنك هذا الكلام يا ابن اللخناء. فقال: هيهات ذهب ما هناك ثم أمر بهم فضربت أعناقهم، وبخيل روح فعرقبت، وبالفساطيط فأحرقت فبلغ ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 روحا، فدخل على عبد الملك وقال: يا أمير المؤمنين انظر ماذا جرى علي اليوم من الحجاج! فقال: وما ذاك؟ قال: قتل غلماني وعرقب خيلي وأحرق فساطيطي فأمر بإحضار الحجاج، فلما حضر قال له عبد الملك: ويلك ماذا فعلت اليوم مع سيدك روح بن زنباع؟ فقال له: يا أمير المؤمنين إن يدي يدك وسوطي سوطك وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الغلام غلامين، والفرس فرسين، والفسطاط فسطاطين، ولا يسكرني في العسكر. فقال له: افعل، فتم للحجاج ما يريد وقوي من ذلك اليوم أمره، وعظم شره. وكان هذا أول ما عرف من كفاءته. وللحجاج أخبار كثيرة وخطب بليغة: قال المبرد في الكامل: حدثني التوزي بإسناده عن عبد الملك بن عمير الليثي قال: بينما أنا في المسجد الجامع بالكوفة، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حالة حسنة، يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ قيل: قدم الحجاج أميرا على العراق، فنظرت فإذا به قد دخل المسجد معتما بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه، متقلدا سيفا متنكبا قوسا، يؤم المنبر فمال الناس نحوه، فصعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلم فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق! فقال عمير بن ضابىء البرجمي «1» : ألا أحصبه لكم؟ فقيل: أمهل حتى ننظر. فلما رأى الحجاج أعين الناس ترمقه، حسر اللثام عن وجهه ونهض قائما ثم حمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال «2» : أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني ثم قال يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى. هذا أوان الشر فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم «3» ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم ثم قال: قد لفها الليل بعصلبي ... أروع خراج من الدوي «4» مهاجر ليس بأعرابي ... معاود للطعن بالخطّي «5» ثم قال أيضا: قد شمرت عن ساقها فشدوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا والقوس فيها وترعردّ ... مثل ذراع البكر أو أشد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 إني والله يا أهل العراق، مما يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التنين، ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وإن أمير المؤمنين نثل كنانته، فعجم عيدانها عودا عودا فوجدني أمرها عودا، وأصلبها مكسرا، وأبعدها مرمى، فرماكم بي، لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضلال، والله لأحزمنكم حزم السلمة، ولأضربنكم ضرب غرابيب الإبل، فإنكم لكأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وإني والله ما أقول إلا وفيت، ولا أهم إلا أمضيت، ولا أحلف إلا بريت وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوّكم مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أن أخذ عطائه ثلاثة أيام، إلا ضربت عنقه. يا غلام اقرأ كتاب أمير المؤمنين فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين سلام عليكم فلم يقل أحد شيئا فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس، فقال: أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردّوا سلامه؟ هذا أدب ابن سمية، أما والله لأودّبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمن. اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين فلما بلغ إلى قوله سلام عليكم لم يبق في المسجد أحد إلا قال وعلى أمير المؤمنين السلام. ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم فجعلوا يأخذون، حتى أتاه شيخ يرعش كبرا فقال: أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي ابن هو أقوى مني على الأسفار أفتقبله مني بدلا فقال له الحجاج: نفعل أيها الشيخ. فلما ولى، قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابىء البرجمي الذي يقول «1» أبوه: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله ودخل هذا الشيخ على عثمان رضي الله تعالى عنه، يوم الدار وهو مقتول، فوطىء بطنه وكسر ضلعين من أضلاعه، فقال: ردّوه، فلما ردّ قال له الحجاج: أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان بديلا يوم الدار. إن في قتلك إصلاحا للمسلمين: يا حرسي اضرب عنقه. تفسير ما في خطبة الحجاج من الكلام: قوله: أنا ابن جلا إنما أراد المنكشف الأمر، ولم يصرف جلا لأنه أراد الفعل فحكى. والفعل إذا كان فيه فاعله مضمرا أو مظهرا لم يكن إلا حكاية. كقولك قرأت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «2» لأنك حكيت وكذلك الابتداء والخبر تقول قرأت: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3» * قال الشاعر: والله ما زيد بنام صاحبه. وهذه الكلمة لسحيم بن وثيل الرياحي، وإنما قالها الحجاج متمثلا وقوله طلاع الثنايا جمع ثنية والثنية الطريق في الجبل والطريق في الرمل، يقال لها: الجلد وإنما أراد جلد يطلع الثنايا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ارتفاعها وصعوبتها. كما قال دريد «1» بن الصمة يرثي أخاه عبد الله: كميش الإزار خارج نصف ساقه ... بعيد من السوآت طلاع أنجد «2» والنجد ما ارتفع من الأرض وقوله: إني لأرى رؤوسا، قد أينعت، يريد أدركت يقال أينعت الثمرة إيناعا وينعت ينعا وينعا ويقرأ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه وينعه، وكلاهما جائز قال أبو عبيدة وهذا الشعر مختلف فيه فبعضهم ينسبه إلى الأحوص «3» وبعضهم إلى يزيد بن معاوية «4» وهو: ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا حرقة حتى إذا ارتفعت ... سكنت من جلق نبعا في قباب عند دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا وقوله: هذا أوان الشر فاشتدي زيم، يعني فرسا أو ناقة، والشعر للحطيم القيسي. وقوله: قد لفها الليل بسواق حطم. الحطم الذي لا يبقي من الخبز شيئا، يقال: رجل حطم إذا كان يأتي على الزاد لشدة أكله. ويقال للنار التي لا تبقي على شيء حطمة. وقوله: على ظهر وضم الوضم كل ما قطع عليه اللحم قال الشاعر: وفتيان صدق حسان الوجوه ... لا يجدون لشيء ألم من آل المغيرة لا يشهدو ... ن عند المجازر لحم الوضم وقوله قد لفها الليل بعصلبي: أي شديد أروع أي ذكي. وقوله خراج من الدوي: يقول خراج عن كل غماء وشدة، ويقال للصحراء دوية وهي التي تنسب للدو، والدو صحراء ملساء لا علم بها ولا إمارة قال الحطيئة «5» : وأني اهتدت والدو بيني وبينها ... وما خلت ساري الدو بالليل يهتدي «6» والداوية الفلاة المتسعة التي يسمع لها دوي بالليل، وإنما ذلك الدوي من أخفاف الإبل تنفسخ أصواتها فيها وجهلة الأعراب تقول: إن ذلك عزيف الجن. وقوله: والقوس فيها وترعردّ أي شديد ويقال عرند. وقوله: إني والله ما يقعقع لي بالشنان واحدها شن. وهي الجلد اليابس فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 قعقع به نفرت الإبل منه فضرب ذلك مثلا لنفسه، قال النابغة الذبياني «1» : كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع بين رجليه بشن وقوله: ولقد فررت عن ذكاء يعني عن تمام سن. والذكاء على ضربين: أحدهما تمام السن والآخر حدّة القلب، فما جاء في تمام السن قول قيس «2» بن زهير العبسي جرى المذكيات غلاب وقول زهير «3» : يفضله إذا اجتهدا عليه ... تمام السن منه والذكاء وقوله: فعجم عيدانها عودا عودا: أي مضغها لينظر أيها أصلب. يقال: عجمت العود إذا مضغته وعضضته والمصدر العجم. يقال: عجمه عجما، ويقال لنوى كل شيء عجم بفتح الجيم ومن سكن فقد أخطأ قال الأعشى: وجذعانها كلقيط العجم وقوله: طالما أوضعتم في الفتنة: الإيضاع ضرب من السير وله أخبار كثيرة تركناها كراهية التطويل. قال ابن خلكان: ولما حضرته الوفاة أحضر منجما وقال: هل ترى في علمك أن ملكا يموت؟ قال: نعم، ولست هو. قال وكيف ذلك؟ قال: لأن الملك الذي يموت اسمه كليب. فقال الحجاج: أنا هو والله بذلك الاسم سمتني أمي فأوصى عند ذلك وكان ينشد في مرضه: يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... أيمانهم أنني من ساكني النار أيحلفون على عمياء ويحهم ... ما ظنهم بعظيم العفو غفار «4» وتوفي الحجاج سنة خمس وتسعين في خلافة الوليد بواسط، ودفن بها، وعفا قبره وأجري عليه الماء ولما مات لم يعلم بموته، حتى خرجت جارية من قصره وهي تقول: اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ... واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا فعلم بموته. وقال الحافظ الذهبي وابن خلكان وغيرهما: أحصي من قتله الحجاج صبرا، سوى من قتل في حروبه، فبلغ مائة ألف وعشرين ألفا. وكذا رواه الترمذي في جامعه. ومات في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، منهن ستة عشر ألفا مجردات. وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد. وعرضت سجونه بعده، فوجد فيها ثلاثة وثلاثون ألفا لم يجب على أحد منهم لا قطع ولا صلب. وقال الحافظ ابن عساكر: إن سليمان بن عبد الملك، أخرج من كان في سجن الحجاج من المظلومين. ويقال: إنه أخرج في يوم واحد ثمانين ألفا. ويقال: إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أخرج من سجونه ثلاثمائة ألف. وقال ابن خلكان: ولم يكن لحبسه سقف يستر الناس من الشمس في الصيف، ولا من المطر في الشتاء، بل كان حوشا مبنيا بالرخام. وكان له غير ذلك من أنواع العذاب. وقيل: إنه سأل كاتبه يوما فقال: كم عدة من قتلنا في التهمة؟ فقال ثمانون ألفا. وكانت مدة ولايته على العراق عشرين سنة، ومات وله ثلاث وخمسون سنة. روي أنه ركب يوم جمعة، فسمع ضجة، فقال: ما هذا؟ فقيل: المحبوسون يضجون ويشكون مما هم فيه، من الجوع والعذاب. فالتفت إلى ناحيتهم وقال: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «1» . فما صلى جمعة بعدها. ورأيت على حاشية تاريخ ابن خلكان بخط بعض المشايخ أن بعض العلماء كفره بهذا الكلام وغيره مما وقع منه. وفي الكامل للمبرد: ومما كفر به الفقهاء الحجاج أنه رأى الناس يطوفون حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما تطوفون بأعواد ورمة. قلت: وإنما كفروه بهذا لأن في هذا الكلام تكذيبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله من اعتقاد ذلك. فإنه صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله عزّ وجلّ حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» أخرجه «2» أبو داود وذكر أبو جعفر الداودي هذا الحديث بزيادة ذكر الشهداء والعلماء والمؤذنين. وهي زيادة غريبة. قال السهيلي: الداودي من أهل الفقه والعلم. ولكن روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أنه رأى الحجاج في المنام بعد موته وهو جيفة منتنة، فقال له: ما فعل الله بك قال: قتلني بكل قتيل قتلته قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير «3» فإنه قتلني به سبعين قتلة. فقال له: ما أنت منتظر؟ فقال ما ينتظره الموحدون فهذا مما ينفي عنه الكفر. ويثبت أنه مات على التوحيد وعند الله علم حاله وهو أعلم بحقيقة أمره. تنبيه: فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى قتل الحجاج بكل قتيل قتله قتلة واحدة إلا سعيد بن جبير رحمه الله تعالى؟ وهو قد قتل عبد الله بن الزبير «4» رضي الله تعالى عنهما، وهو صحابي وسعيد بن جبير تابعي؟ والصحابي أفضل من التابعيّ فالجواب أن الحكمة في ذلك، أن الحجاج لما قتل عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما كان له نظراء في العلم كثيرون كابن عمر وأنس بن مالك وغيرهما من الصحابة، ولما قتل سعيد بن جبير لم يكن له نظير في العلم في وقته. وذكر غير واحد من المصنفين أن الحسن البصري رحمه الله لما بلغه قتل سعيد بن جبير، قال: والله لقد مات سعيد بن جبير يوم مات وأهل الأرض من مشرقها إلى مغربها محتاجون لعلمه. فمن هذا المعنى ضوعف العذاب على الحجاج بقتله. والله أعلم. وسيأتي حديث قتل سعيد بن جبير في باب اللام في اللبوة. وقتل عبد الله بن الزبير تقدم في باب الهمزة في الأوز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الأمثال: قالوا «1» : «أغلم من تيس بني حمان» بكسر الحاء المهملة، وذلك أن بني حمان تزعم أن تيسهم سفد سبعين عنزا بعد ما فريت أوداجه، ففخروا بذلك والله أعلم. ويقال للتيس قفط وسفد. وفي الأذكياء «2» لابن الجوزي أن مزينة أسرت أبا حسان الأنصاري، وقالوا لا نأخذ فداءه إلا تيسا، فغضب قومه، وقالوا: لا نفعل هذا فأرسل إليهم: أعطوهم ما طلبوا فلما جاؤوا بالتيس، قال أعطوهم أخاهم وخذوا أخاكم فسموا مزينة التيس، وصار لهم لقبا وعيبا. الخواص: جميع بدنه منتن كالإبط، ولحيته تشد على صاحب حمى الربع، وعلى من به صداع فيزولان. وطحاله يقطعه صاحب الطحال بيده، ويعلقه في بيت هو فيه، فإذا جف الطحال زال ألم المطحول. ورطوبة كبده حال شقها تقطر في الأذن الوجيعة يزول وجعها. وكعبه إذا سحق وشرب هيج الباه وبوله يغلى حتى يغلظ ويخلط بمثله سكرا ويطلى به الجرب في الحمام فإنه يذهب. وبعره إذا وضع تحت رأس صبي يبكي كثيرا يزول عنه. وسيأتي له منافع أخرى في خواص المعز والله أعلم. باب الثاء المثلثة الثاغية: النعجة قالوا: ما له ثاغية ولا راغية، أي لا نعجة ولا ناقة أي ما له شيء ومثله ما له دقيقة ولا جليلة فالدقيقة الشاة والجليلة الناقة. الثرملة: بالضم أنثى الثعالب وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في الثعلب في هذا الباب. الثعبان: الكبير من الحيات ذكرا كان أو أنثى. والجمع الثعابين والثعبة ضرب من الوزغ وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الواو. وقال الجاحظ، في كتاب الأمصار: وتفاضل البلدان والثعابين بمصر وليست هي في بلد غيرها، وإليها حول الله عصا موسى صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «3» * يعني أنه حولها ثعبانا عظيما ومما يتعلق بخبر الثعبان: أن عبد الله بن جدعان «4» ، كان في ابتداء أمره صعلوكا ترب اليدين، وكان مع ذلك شريرا فاتكا لا يزال يجني الجنايات، فيعقل عنه أبوه وقومه حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه وحلف لا يؤويه أبدا. فخرج في شعاب مكة حائرا ثائرا، يتمنى الموت أن ينزل به، فرأى شقا في جبل، فظن أن فيه حية فتعرض للشق يريد أن يكون فيه ما يقتله فيستريح، فلم ير شيئا فدخل فيه فإذا فيه ثعبان عظيم له عينان تقدان كالسراجين، فحمل عليه الثعبان. فأفرج له فانساب عنه مستديرا بدارة عند بيت ثم خطا خطوة أخرى، فصفر به الثعبان، فأقبل إليه كالسهم فأفرج له فانساب عنه، فوقف ينظر إليه يفكر في أمره، فوقع في نفسه أنه مصنوع فأمسكه بيديه فإذا هو مصنوع من ذهب، وعيناه ياقوتتان فكسره وأخذ عينيه ودخل البيت، فإذا جثث طوال على سرر لم ير مثلهم طولا وعظما، وعند رؤوسهم لوح من فضة فيه تاريخهم، وإذا هم رجال من ملوك جرهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وآخرهم موتا الحارث بن «1» مضاض صاحب العذبة الطويلة، وإذا عليهم ثياب من وشي لا يمس منها شيء إلا انتثر كالهباء من طول الزمان مكتوب في اللوح عظات. قال ابن هشام: كان اللوح من رخام وكان فيه أنا نفيلة «2» بن عبد المدان بن خشرم بن عبديا ليل بن جرهم بن قحطان ابن نبي الله هود عليه السلام عشت من العمر خمسمائة عام وقطعت غور الأرض ظاهرها وباطنها في طلب الثروة والمجد والملك فلم يكن ذلك ينجيني من الموت وتحته مكتوب: قد قطعت البلاد في طلب الثر ... وة والمجد قالص الأثواب وسريت البلاد قفر القفر ... بقناة وقوة واكتساب فأصاب الردى بنات فؤادي ... بسهام من المنايا صياب فانقضت مدتي وأقصر جهلي ... واستراحت عواذلي من عتابي ودفعت السفاه بالحلم لما ... نزل الشيب في محل الشباب صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في الحلاب وإذا في وسط البيت كوم عظيم من الياقوت واللؤلؤ والذهب والفضة والزبرجد فأخذ منه ما أخذ، ثم علم على الشق بعلامة. وأغلق بابه بالحجارة، وأرسل إلى أبيه بالمال الذي خرج به منه يسترضيه ويستعطفه، ووصل عشيرته كلهم فسادهم وجعل ينفق من ذلك الكنز، ويطعم الناس ويفعل المعروف وكانت جفنته، يأكل منها الراكب على البعير وسقط فيها صبي فغرق ومات وفي غريب الحديث لابن قتيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كنت أستظل بظل جفنة عبد الله بن جدعان صكة عمي» . يعني في الهاجرة. وسميت الهاجرة صكة عمي لخبر ذكره أبو حنيفة في الأنوار، وهو أن عميا رجل من عدوان، وقيل: من إياد وكان فقيه العرب في الجاهلية فقدم في قومه، معتمرا أو حاجا، فلما كان على مرحلتين من مكة، قال لقومه، وهم في وسط الظهيرة: من أتى مكة غدا في مثل هذا الوقت كان له أجر عمرتين! فصكوا الإبل صكة شديدة حتى أتوا مكة من الغداة. وعمي تصير أعمى على الترخيم فسميت الظهيرة صكة عمي. وعبد الله بن جدعان تيمي يكنى أبا زهير، وهو ابن عم عائشة رضي الله تعالى عنها. ولذلك قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان يطعم العطام ويقري الضيف ويفعل المعروف فهل ينفعه ذلك يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لا إنه لم يقل يوما رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين «3» » . كذا قاله السهيلي في الروض الأنف. وفي كتاب ري العاطش وأنس الواحش، لأحمد بن عمار «4» أن ابن جدعان ممن حرم الخمر في الجاهلية، بعد أن كان بها مغرى، وذلك أنه سكر ليلة فصار يمد يديه ويقبض على ضوء القمر ليأخذه فضحك منه جلساؤه، فأخبر بذلك حين صحا. فحلف أن لا يشربها أبدا. فلما كبر وهرم، أراد بنو تيم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 يمنعون من تبذير ماله، ولاموه في العطاء، فكان يدعو الرجل، فإذا دنا منه، لطمه لطمة خفيفة، ثم يقول له: قم فانشد لطمتك واطلب ديتها، فإذا فعل ذلك أعطته بنو تيم من مال ابن جدعان. ولقد أجاد أبو الفتح علي بن محمد البستي، صاحب النظم والنثر، في هذه القصيدة، وهي قصيدة طويلة طنانة تشتمل على مواعظ وحكم فلنأت بها بتمامها وبما ذيل عليها أهل الفضل. ويقال: إنها لأمير المؤمنين الراضي «1» بالله وهي هذه: زيادة المرء في دنياه نقصان ... وربحه غير محض الخير خسران وكل وجدان حظ لاثبات له ... فإن معناه في التحقيق فقدان يا عامرا لخراب الدهر مجتهدا ... بالله هل لخراب العمر عمران ويا حريصا على الأموال يجمعها ... أنسيت أن سرور المال أحزان زع الفؤاد عن الدنيا وزخرفها ... فصفوها كدر والوصل هجران وأوع سمعك أمثالا أفصلها ... كما يفصل ياقوت ومرجان أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسان، إحسان وكن على الدهر معوانا لذي أمل ... يرجو نداك فإن الحر معوان من جاد بالمال مال الناس قاطبة ... إليه والمال للإنسان فتان من كان للخير منّاعا فليس له ... عند الحقيقة إخوان وأخدان «2» لا تخدشن بمطل وجه عارفة ... فالبر يخدشه مطل وليان يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته ... أتطلب الربح مما فيه خسران أقبل على النفس فاستكمل فضائلها ... فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان من يتق الله يحمد في عواقبه ... ويكفه شر من عزوا ومن هانوا حسب الفتى عقله خلا يعاشر ... إذا تحاماه إخوان وخلان لا تستشر غير ندب حازم فطن ... قد استوى منه إسرار وإعلان فللتدابير فرسان إذا ركضوا ... فيها أبروا كما للحرب فرسان وللأمور مواقيت مقدرة ... وكل أمر له حد وميزان من رافق الرفق في كل الأمور فلم ... يندم عليه ولم يذممه إنسان ولا تكن عجلا في الأمر تطلبه ... فليس يحمد قبل النضج بحران وذو القناعة راض في معيشته ... وصاحب الحرص ان أثرى فغضبان كفى من العيش ما قد سد من رمق ... ففيه للحران حققت غنيان هما رضيعا لبان حكمة وتقى ... وساكنا وطن مال وطغيان من مد طرفا بفرط الجهل نحو هوى ... أغضى عن الحق يوما وهو خزيان من استشار صروف الدهر قام له ... على حقيقة طبع الدهر برهان من عاشر الناس لاقى منهم نصبا ... لأن طبعهم بغي وعدوان «3» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ومن يفتش على الإخوان مجتهدا ... فجل إخوان هذا الدهر خوان من يزرع الشر يحصد في عواقبه ... ندامة ولحصد الزرع إبان من استنام إلى الأشرار نام وفي ... قميصه منهم صل وثعبان من سالم الناس يسلم من غوائلهم ... وعاش وهو قرير العين جذلان من كان للعقل سلطان عليه غدا ... وما على نفسه للحرص سلطان وإن أساء مسيء فليكن لك في ... عروض زلته صفح وغفران إذا نبا بكريم موطن فله ... وراءه في بسيط الأرض أوطان لا تحسبن سرورا دائما أبدا ... من سره زمن ساءته أزمان يا ظالما فرحا بالعز ساعده ... إن كنت في سنة فالدهر يقظان يا أيها العالم المرضي سيرته ... أبشر فأنت بغير الماء ريان ويا أخا الجهل لو أصبحت في لجج ... فأنت ما بينها لا شك ظمآن دع التكاسل في الخيرات تطلبها ... فليس يسعد بالخيرات كسلان صن حر وجهك لا تهتك غلالته ... فكل حر لحر الوجه صوان لا تحسب الناس طبعا واحدا فلهم ... غرائز لست تحصيها وألوان ما كل ماء كصداء لوارده ... نعم ولا كل نبت فهو سعدان من استعان بغير الله في طلب ... فإن ناصره عجز وخذلان واشدد يديك بحبل الله معتصما ... فإنه الركن إن خانتك أركان لا ظل للمرء يغني عن تقى ورضا ... وإن أظلته أوراق وأفنان سحبان من غير مال باقل حصر ... وباقل في ثراء المال سحبان «1» والناس إخوان من والته دولته ... وهم عليه إذا عادته أعوان يا رافلا في الشباب الرحب منتشيا ... من كأسه هل أصاب الرشد نشوان لا تغترر بشباب ناعم خضل ... فكم تقدم قبل الشيب شبان ويا أخا الشيب لو ناصحت نفسك لم ... يكن لمثلك في الإسراف إمعان هب الشبيبة تبدي عذر صاحبها ... ما بال شيبك يستهويه شيطان كل الذنوب فإن الله يغفرها ... إن شيع المرء إخلاص وإيمان وكل كسر فإن الله يجبره ... وما لكسر قناة الدين جبران أحسن إذا كان إمكان ومقدرة ... فلا يدوم على الإنسان إمكان فالروض يزدان بالأنوار فاغمة ... والحر بالعدل والإحسان يزدان خذها سرائر أمثال مهذبة ... فيها لمن يبتغي التبيان تبيان ماضر حسابها والطبع صائغها ... إن لم يصغها قريع الشعر حسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ومن هنا ذيل من ذيل عليها فقال: وكن لسنة خير الخلق متبعا ... فإنها لنجاة العبد عنوان فهو الذي شملت للخلق أنعمه ... وعمهم منه في الدارين إحسان جبينه قمر قد زانه خفر ... وثغره درر غر ومرجان والبدر يخجل من أنوار طلعته ... والشمس من حسنه الوضاح تزدان به توسلنا في محو زلتنا ... لربنا أنه ذو الجود منان ومذ أتى أبصرت عمى القلوب به ... سبل الهدى ووعت للحق آذان يا رب صل عليه ما همي مطر ... فأينعت منه أوراق وأغصان وابعث إليه سلاما زاكيا عطرا ... والآل والصحب لا تفنيه أزمان ومن نثرة، يعني أبا القاسم البستي: من أصلح فاسده، أرغم حاسده. ومن أطاع غضبه، أضاع أدبه عادات السادات سادات العادات. من سعادة جدك، وقوفك عند حدك. الرشوة رشاء الحاجات. أجهل الناس من كان للإخوان مذلا، وعلى السلطان مدلا. الفهم شعاع العقل. المنية تضحك من الأمنية. حد العفاف الرضا بالكفاف. توفي البستي رحمه الله سنة أربعمائة. ثعالة: كنخالة وزبالة وفضالة ثلاثة أخوة يشبه بعضهم بعضا: اسم للثعلب وهو معرفة وأرض مثعلة بالفتح، أي كثيرة الثعالب كما قالوا: معقرة للأرض من الكثيرة العقارب. الأمثال: قالوا «1» : «أروغ من ثعالة» . قال الشاعر: فاحتلت حين صرمتني ... والمرء يعجز لا محاله والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغ من ثعاله والمرء يكسب ماله ... والشيخ يورثه الفساله والعبد يقرع بالعصا ... والحر تكفيه المقاله وقالوا: «أعطش من ثعالة» . «2» واختلفوا في تفسيره، فزعم محمد بن حبيب أنه الثعلب، وخالفه ابن الأعرابي فزعم أن ثعالة رجل من بني مجاشع شرب بول رفيق له في مفازة فمات عطشا. الثعبة : ضرب من الوزغ قاله الجوهري. الثعلب: معروف، والأنثى ثعلبة، والجمع ثعالب وأثعل. روى ابن قانع في معجمه عن وابصة بن معبد، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «شر السباع هذه الأثعل» . يعني الثعالب. وكنية الثعلب أبو الحصين وأبو النجم وأبو نوفل وأبو الوثاب وأبو الحنبص. والأنثى أم عويل والذكر ثعلبان. وأنشد الكسائي عليه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 أرب «1» يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب هكذا أنشده جماعة، وهو وهم. فقد رواه أبو حاتم الرازي: الثعلبان، بالفتح على أنه تثنية ثعلب، وذكر أن بني ثعلب كان لهم صنم يعبدونه، فبينما هم ذات يوم إذ أقبل ثعلبان يشتدان فرفع كل منهما رجله وبال على الصنم، وكان للصنم سادن يقال غاوي بن ظالم. فقال البيت المتقدم، ثم كسر الصنم، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك قال: غاوي بن ظالم. قال: لا، بل أنت راشد بن عبد ربه» . وفي نهاية الغريب أنه كان لرجل صنم، وكان يأتي بالخبز والزبد، فيضعه عند رأسه، ويقول له: أطعم فجاء ثعلبان فأكل الخبز والزبد، ثم عصل على رأس الصنم، أي بال. والثعلبان ذكر الثعالب. وفي كتاب الهروي: فجاء ثعلبان فأكلا الخبز والزبد،. أراد تثنية ثعلب. قال الحافظ بن ناصر: أخطأ الهروي في تفسيره، وصحف في روايته. وإنما الحديث فجاء ثعلبان، وهو الذكر من الثعالب، اسم له معروف لا مثنى، فأكل الخبز والزبد ثم عصل، بالعين والصاد، على رأس الصنم. فقام الرجل فضرب الصنم فكسره ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك وقال فيه شعرا وهو: لقد خاب قوم أملوك لشدة ... أرادوا نزالا أن تكون تحارب فلا أنت تغني عن أمور تواترت ... ولا أنت دفاع إذا حل نائب أربّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب والحديث مذكور في معجم البغوي وابن شاهين وغيرهما. والرجل المذكور راشد بن عبد ربه. وحديثه مشروح في كتاب دلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني. وأهل اللغة يستشهدون بهذا البيت في أسماء الحيوان والفرق في ذلك بين الذكر والأنثى كما قالوا لأفعوان ذكر الأفاعي والعقربان ذكر العقارب والثعلب سبع جبان مستضعف ذو مكر وخديعة، لكنه لفرط الخبث والخديعة، يجري مع كبار السباع. ومن حيلته في طلب الرزق أنه يتماوت وينفخ بطنه، ويرفع قوائمه حتى يظن أنه مات، فإذا قرب منه حيوان وثب عليه وصاده. وحيلته هذه لا تتم على كلب الصيد. قيل للثعلب: ما لك تعدو أكثر من الكلب؟ فقال: لأني أعدو ولنفسي والكلب يعدو لغيره. قال الجاحظ: ومن أشد سلاح الثعلب عندهم الروغان والتماوت وسلاحه سلحه، فإن سلاحه أنتن وألزج وأكثر من سلاح الحبارى. قالت العرب: أدهى وأنتن من سلاح الثعلب. والجاحظ اسمه عمرو بن بحر الكناني الليثي وقيل له الجاحظ، لأن عينيه كانتا جاحظتين، ويقال له الحدقي أيضا، لذلك أصابه الفالج في آخر عمره، فكان يطلي نصفه بالصندل والكافور لشدة حرارته، والنصف الآخر لو قرض بالمقاريض لما أحس به من خدره وشدة برده. وكان يقول: أنا من جانبي الأيمن مفلوج، فلو قرض بالمقاريض ما علمت. ومن جانبي الأيسر منقرس، فلو مر به الذباب تألمت. وقال: اصطلحت على جسدي الأضداد فإن أكلت باردا أخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 برجلي، وإن أكلت حارا أخذ برأسي وكان ينشد: أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب وله التصانيف في كل فن وهو من رؤوس المعتزلة، وإليه تنسب الطائفة الجاحظية من المعتزلة. ومن أحسن تصانيفه كتاب الحيوان. توفي سنة خمس وخمسين ومائتين بالبصرة. قال: ومن العجب في قسمة الأرزاق أن الذئب يصيد الثعلب فيأكله، والثعلب يصيد القنفذ فيأكله، والقنفذ يصيد الأفعى فيأكلها، والأفعى تصيد العصفور فتأكله، والعصفور يصيد الجراد فيأكله، والجراد يلتمس فراخ الزنابير فيأكلها، والزنبور يصيد النحلة فيأكلها، والنحلة تصيد الذبابة فتأكلها، والذبابة تصيد البعوضة فتأكلها. روى صاحب الغيلانيات، في الجزء الأول، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، قال: جاء رجل إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه فقال: رأيت كأني أجري مع الثعلب أحسن جري. فقال: أجريت ما لا يجري، أنت رجل في لسانك كذب فاتق الله عزّ وجلّ! ومن شأن الثعلب، إذا دخل برج حمام، وكان شبعان، قتلها ورمى بها لعلمه أنه إذا جاع عاد إليها وأكلها. وهو من الحيوان الذي سلاحه سلاحه، وهو أنتن من سلاح الحبارى كما تقدم. فإذا تعرض للقنفذ ولقيه كالكرة وتحصن بشوكه سلح عليه فينبسط، فعندها يقبض على مراق بطنه. ومن ظريف ما يحكى عنه، أن البراغيث، إذا كثرت في صوفه، تناول صوفة منه بفيه، ثم يدخل النهر قليلا قليلا، والبراغيث تصعد فرارا من الماء حتى تجتمع في الصوفة التي في فيه، فيلقيها في الماء ثم يهرب. والذئب يطلب أولاد الثعلب فإذا ولد له ولد، وضع أوراق العنصل على باب وجاره، ليهرب الذئب منها. وفروه أفضل الفراء ومنه: الأبيض والأسود والخلنجي وقال القزويني في عجائب المخلوقات: إنه أهدي إلى نوح بن منصور الساماني «1» ثعلب له جناحان من ريش إذا قرب الإنسان منه نشرهما، وإذا بعد عنه ألصقهما بجانبيه. ثم قال: وكانت الثعالب تطير في الزمن الأول. وفي آخر «2» كتاب الأذكياء لأبي الفرج بن الجوزي عن المعافى بن زكريا قال زعموا أن أسدا وثعلبا وذئبا اصطحبوا، فخرجوا يتصيدون فصادوا حمارا وظبيا وأرنبا، فقال الأسد للذئب: اقسم بيننا صيدنا، فقال: الأمر أبين من ذلك الحمار لك، والأرنب لأبي معاوية يعني الثعلب، والظبي لي. فخبطه الأسد فأطاح رأسه. ثم أقبل على الثعلب، وقال: قاتله الله ما أجهله بالقسمة! هات أنت يا أبا معاوية. فقال الثعلب: يا أبا الحارث، الأمر أوضح من ذلك الحمار لغدائك، والظبي لعشائك، والأرنب فيما بين ذلك. فقال له الأسد: قاتلك الله ما أقضاك! من علمك هذه الأقضية؟ قال: رأس الذئب الطائح عن جثته، وفي رواية عن الشعبي فقال له الأسد: قاتلك الله ما أبصرك بالقضاء والقسمة؟ من أين تعلمت هذا؟ قال: مما رأيت من أمر الذئب. ومما يروى من حيل الثعلب ما ذكره الشافعي قال: كنا في سفر في أرض اليمن، فوضعنا سفرتنا لنتعشى، وحضرت صلاة المغرب، فقمنا نصلي ثم نتعشى، فتركنا السفرة كما هي، وقمنا إلى الصلاة، وكان فيها دجاجتان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فجاء الثعلب فأخذ إحدى الدجاجتين فلما قضينا الصلاة، أسفنا عليها، وقلنا حرمنا طعامنا فبينما نحن كذلك، إذ جاء الثعلب وفي فمه شيء كأنه الدجاجة فوضعه، فبادرنا إليه لنأخذه ونحن نحسبه الدجاجة. قد ردها، فلما قمنا جاء إلى الأخرى وأخذها من السفرة وأصبنا الذي قمنا إليه لنأخذه فإذا هو ليف قد هيأه مثل الدجاجة. ومما وقع من فطنة البهائم مما يقارب هذا ما يحكى عن القاسم بن أبي طالب التنوخي الأنباري قال: كنت ماضيا إلى انبار في رفقة فيها بازدارية السلطان قد خرجوا يروضونها فأطلقوا بازيا على دراج، فطار الدراج إلى غيضة فدخل فيها، وألقى نفسه بين شوك كان فيها، فأخذ من ذلك الشوك أصلين كبيرين في رجليه، ونام على قفاه ورفع رجليه، فاستتر بذلك من الباز، فلما قرب منه البازداري طار فصاده البازي. فقالوا: ما رأينا قط دراجا أحذق من هذا! وقد أورد هذه الحكاية القاضي أبو علي الحسن بن على التنوخي أيضا في كتاب أخبار المذاكرة ونشوان المحاضرة بألفاظ مخالفة لما سيق هنا فقال وحدثني أبو القاسم بن أبي طالب التنوخي الأنباري قال: كنت ماضيا إلى الأنبار مع رفقة بازدارية للسلطان، فأطلقوا بازيا على دراج لاح لهم، فطار الدراج ولحقه الباز فأخذوا يهللون ويكبرون ويعجبون، فلحقتهم وسألتهم فإذا بالدراج قد دخل غيضة فألقى نفسه بين شوك كان فيها، وأخذ من ذلك الشوك أصلين كبيرين بين رجليه، ونام على قفاه وشال رجليه وفيهما الشوك، ليختفي به عن الباز، والباز قد طلبه طويلا فلم يره، وقد خفي عليه أمره بذلك الشوك الذي شاله في رجليه حتى ستربه نفسه، إلى أن جاء البازدارية فرأوا الدراج فقصدوه، وقربوا منه فطار، وأحس به الباز فاصطاده، فسمعتهم يقولون: ما رأينا قط دراجا أمكر من هذا، ولا أحذق منه بالتوقي ولا سمعنا بمثل هذا وأسرفوا في التعجب منه. وهذه أخبار تقارب ما تقدم في فطنة الطير وذكائه وقال القاضي أبو علي التنوخي حدثني أبو الفتح البصروي قال: حدثني بعض أهل الموصل ممن كان مغرى بالصيد، وطلب الجوارح، أن صيادا من أهل أرمينية وتلك النواحي حدثه قال: خرجت إلى الصحراء يوما، فنصبت شبكتي وجعلت فيها طائرا مستأنسا، ودخلت في كوخ تحت الأرض يسترني، وجعلت أنظر إلى الشبكة حتى إذا وقع فيها شيء من البزأة أو الصقورة أو الشواهين أو غير ذلك من الجوارح، أخذته فلما كان قريبا من الظهر، وإذا بزمجة لطيفة قد طارت على الشبكة، فلما رأتها نفرت وترجلت قريبا منها، فجلست على الأرض ساعة، فإذا بعقاب جائر فلما رآها ترجل معها وجلسا جميعا، وإذا بطائر يطير في الجو فنهضت الزمجة قبل العقاب وطارت خلف الطائر، فلم تزايله إلى أن صادته وجاءت به فنسرته وصار لحما، وأقبلت تأكل فجاء العقاب وأكل معها، فلما فني اللحم زاف العقاب عليها فضربت وجهه بجناحها، فزاف ثانية فضربته أشد من الأولى، فزاف الثالثة فضربته أشد من ذلك، ولم تزل تضربه بمنسرها إلى أن قتلته وطارت، فتعجبت من نفورها من الشبكة وقلت هي كرزة ويجوز أن تعرف الشبكة بالعادة، ومما سوى ذلك من مناهضتها للطائر قبل العقاب حتى صادته. ثم إنها منعت العقاب من سفادها وأنها أطعمته من صيدها ثم لم ترض بذلك حتى قتلته لما ألح عليها، وطمعت في أن أصيدها لأصيد بها ما لا قيمة له فبت ليلتي في ذلك الكوخ، فلما كان من الغد فإذا هي قد ترجلت قريبا من الشبكة في مثل ذلك الوقت فنزل إليها عقاب فجلس معها وعن لهما صيد فجرت صورتها مع العقاب الثاني كما جرت مع العقاب الأول سواء بلا اختلاف البتة. وطارت فزاد تعجبي وحرصي عليها. وبت ليلتي الثانية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الكوخ، فلما كان في اليوم الثالث فإذا بها قد ترجلت على الصورة والرسم وإذا بعد ساعة بعقاب لطيف وحشي الريش، قد ترجل فما مضت ساعة حتى عن لهما صيد، فهمت الزمجة بالنهوض فضربها العقاب بجناحه ضربة كاد يقتلها ونهض مسرعا إلى الطيران حتى اصطاد الطائر وجاء به فنسره وطرحه بين يديها، ولم يذق منه شيئا حتى أكلت الزمجة واستوفت، ثم أكل هو بعدها لحم الطائر الباقي وفني. فزاف عليها فزافت له، ولم تمنعه فزاف الثانية فركبها فمكنته حتى سفدها ثم طارا معا. وحكى: القاضي أبو علي التنوخي أيضا قال: حدثني فارس بن مشغف أحد الجند القدماء المولدين وقد صار بوّابا لأبي محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد قال: كنت أصحب قائدا من قواد السلطان يعرف بأبي إسحاق بن أبي مسعود الأزدي، وكانت إليه إمارة المدائن اسبانين والمدينة العتيقة، وكانت إذ ذاك عامرة آهلة والسلاطين ينزلون بها، وكنت مقيما فيها معه، وكان لهجا بالصيد، فخرج ذات يوم وأنا معه، إلى المدينة المعروفة بالرومية، المقابلة للمدينة العتيقة، وهي إذ ذاك خراب، ومعه صقارته وآلة صيده وجنده حتى مل وسلك الطريق راجعا، وكان معه صقر له فاره وقد شبع مما أطعمه من صيده، فمسح الصقار صدره وحمله على يده وهو يسير إذ اضطرب الصقر اضطرابا شديدا فقال له ابن أبي مسعود: قد شاهد الصقر طريدة، وهذا الاضطراب لأجلها فأرسله، فقال: يا سيدي هو صقر شره واضطرابه ليس لهذا، وقد شبع ولا آمن أن أرسله على طريدة وهو شبعان فيتيه. فزاد اضطراب الصقر فقال: أرسله وليس عليك منه شيء فأرسله فطار وتراكضنا خلفه حتى جاء إلى أجمة صغيرة تستره، ونحن نراه فرفرف عليها وإذا بشيء قد صعد منها مثل النشاب في مقدار زج النشابة فقط فحاص عنه الصقر ثم انحط في الأجمة فدخلنا خلفه فإذا هو قد ترجل على حبارى واصطادها، وإذا هو طلع على يد الصقار. ومن عادة الحبارى أن تذرق على الجارح الذي يصيدها لتجرح جناحه وتعقره بذرقها لحماه وحدته وينسلخ جلده والصقر عارف بذلك، فاحتال عليها الصقر فرفرف عليها كأنه يريد صيدها، فذرقت الحبارى إلى فوق حتى صعدت ذرقتها فلما أخطأت الصقر انحط عليها في الحال فاصطادها، وكان الصقارون، ومن حضر من الجند والمتصيدين المدنيين يعجبون من ذلك، ويعدونه من غرائب ما شاهدوه من أفعال الجوارح. وذكر القاضي التنوخي عن فارس هذا قال: كنت مع هارن بن غريب الحبال، من جملة عسكره ورجاله، ونحن قيام بين يدي حلوان، والجند سائرون وهو يتصيد في طريقه، إذ عن له غزال فأرسل عليه صقرا كان بحضرته، ولم يكن الكلابون بالقرب منه، فيرسلون معه كلبا لأن العادة أن الصقر لا يصيد غزالا إلا إذا كان معه كلب، وذلك أن الصقر يطير فيقع على رأسه فيعقره ويضرب بجناحيه بين عينيه، فيمنعه من شدة العدو فيلحقه الكلب فيصيده. هكذا جرت العادة في صيد الغزلان بالصقور، إلا أن ابن الحبال، لما لاح له الغزال، أطلق الصقر لئلا يفوته الغزال، وغرر به لحوق الكلاب في الحال، وقد رأى أن يشغله الصقر عن العدو، فتلحقه خيلنا ورماحنا فطار الصقر، وتراكضنا خلفه، وأنا ممن ركض، وجرى الغزال فوافى إلى منحدر في الصحراء، فانحدر فيه، فلما حصل منحدرا سقط الصقر على خده وعنقه، فأنشب مخلبيه فيهما وحمله الغزال. فرأينا الصقر قد سدل أحد مخلبيه حتى إنه يخط في الأرض، حتى إذا وصل إلى وضع من الصحراء فيه شوك فعلق بأصل شوك عظيم، ثم جذب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 عنق الغزال بالمخلب الآخر الذي كان أمسكه به في خده وأصل عنقه. وإذا به قد دق عنقه وصرعه، فلحقناه وذكيناه ووقعت البشارة فقال ابن الحبال ومن معه: ما رأينا قط صقرا أفره من هذا وخلع على الصقار خلعة حسنة. وحكى: القاضي أبو علي التنوخي، قال: أخبرني أبو القاسم البصري قال: أخبرني بعض الجمدارية من الجند أنه كان مع قائد من قوادهم في الصيد ومعه عقاب يتصيد به وقد اصطاد واستكفى، إذ اضطرب العقاب، على يد العقاب اضطرابا شديدا فخاف على نفسه، لأن العقاب ربما أتلف عقابه، إذا منعه من إرادته وليس يجري مجرى غيره من الجوارح فأرسله العقاب فطار، وطرد وراءه فإذا به قد سقط على شيخ ضعيف، كان يجر شوكا، وهو يمشي على أربعة فنسره ودق عنقه وأتلفه، وولغ في دمه وأكل من لحمه. وإذا بالعقاب قد جاء إلى القائد فقال له: ما الخبر؟ فقال له: يا سيدي اصطاد العقاب شيخا وحشيا بريا، وكان يسمعنا نقول اصطد لنا وحشيا وسنورا بريا فقد رأن شيخا بريا وحشيا مثله، ولم يفكر أن العقاب أتلف رجلا مسلما. فقال القائد: ويحك ما تقول؟ وحرك فحركنا وراءه فوجدنا الشيخ فاغتم لذلك غما شديدا وعجبنا من أمر العقاب. وحكى: القاضي التنوخي في كتابه أيضا، قال: حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان ابن فهد قال: حدثني بعض المتصيدين. وقد تجارينا عجائب ما يجري فيه، فقال: من أحسن وأظرف ما رأينا منه أن بازيا كان لفلان، وسماه أرسله فاصطاد دراجا، وقبض عليه بإحدى يديه، وترجل كما جرت به العادة وأمسكه ينتظر البازداري فيذبحه ويطعمه منه، كما جرت العادة في مثل ذلك. وهو على جانبه إذ أبصر دراجا آخر يطير، فطار والدراج الأول في إحدى يديه حتى قبض على الدراج الآخر فاصطاده وترجل، وقد أمسكهما بيديه جميعا، فاجتمعنا وشاهدناه على هذه الحالة، فاستظرفناه ثم أخذناهما من يديه. وذكر «1» ابن الجوزي في آخر كتاب الأذكياء، والحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء، عن الشعبي، أنه قال: مرض الأسد فعاده جميع السباع ما خلا الثعلب، فنم عليه الذئب، فقال الأسد: إذا حضر فأعلمني. فلما حضر أعلمه فعاتبه في ذلك فقال: كنت في طلب الدواء لك. قال: فأي شيء أصبت؟ قال: خرزة في ساق الذئب ينبغي أن تخرج! فضرب الأسد بمخالبه في ساق الذئب، وانسل الثعلب. فمر به الذئب بعد ذلك، ودمه يسيل، فقال له الثعلب: يا صاحب الخف الأحمر إذا قعدت عند الملوك فانظر ماذا يخرج من رأسك. قال الحافظ أبو نعيم: لم يقصد الشعبي، من هذا سوى ضرب المثل وتعليم العقلاء وتنبيه الناس، وتأكيد الوصية في حفظ اللسان، وتهذيب الأخلاق والتأدب بكل طريق. وفي مثل ذلك قيل: احفظ لسانك لا تقول فتبتلي ... إن البلاء موكل بالمنطق وروى الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه «2» قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة عن ثلاثة نقرة كنقرة الديك، وإقعاء كإقعاء الكلب، والتفات كالتفات الثعلب» . وقيل للشعبي: يقال: في المثل إن «شريحا أدهى من الثعلب وأحيل» : فما هذا؟ فقال: خرج شريح أيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الطاعون إلى النجف، فكان إذا قام يصلي يجيء ثعلب، فيقف تجاهه ويحاكيه، ويخيل بين يديه، ويشغله عن صلاته، فلما طال ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة، وأخرج كميه وجعل قلنسوته عليها. فأقبل الثعلب فوقف بين يديه على عادته فأتاه شريح من خلفه وأخذه بغتة فلذلك يقال: «سريح أدهى من الثعلب وأحيل» . ويقال: ضغا الثعلب والسنو يضغو ضغوا وضغاء، أي صاح وكذلك صوت كل ذليل مقهور. ويقال للإمام العلامة أبي منصور عبد الملك «1» بن محمد النيسابوري، رأس المؤلفين، وإمام المصنفين صاحب التصانيف الفائقة، والآداب الرائقة، كثمار القلوب، وفقه اللغة، ويتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، وغير ذلك من التصانيف، الثعالبي منسوب إلى خياطة جلود الثعالب لأنه كان فراء، ويتيمة الدهر أكبر كتبه وأحسنها، وفيها يقول أبو الفتح نصر الله بن قلاقس الإسكندراني «2» : أبيات أشعار اليتيمة ... أبكار أفكار قديمة ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سميت اليتيمة ومن شعر أبي منصور الثعالبي: يا سيدا بالمكرمات ارتدى ... وانتعل العيوق والفرقدا مالك لا تجري على مقتضى ... مودة طال عليها المدى إن غبت لم أطلب وهذا سليم ... ان بن داود نبي الهدى تفقد الطير على شغله ... فقال ما لي لا أرى الهدهدا وله في غلام مسافر: فديت مسافرا ركب الفيافي ... فأثر في محاسنه السفار فمسك ورد خديه السواقي ... وغبر مسك صدغيه الغبار توفي سنة تسع وعشرين وقيل سنة ثلاثين وأربعمائة. الحكم: نص إمامنا الشافعي رحمه الله، على حل أكله. وقال ابن الصلاح: ليس في حله حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي تحريمه حديثان في إسنادهما ضعف واعتمد الشافعي في ذلك على عادة العرب في أكله فيندرج في عموم قوله «3» تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وبحله قال طاوس وعطاء وغيره ونقل في فوائد رحلته عن أبي سعيد الدارمي، الإمام في الحديث والفقه تلميذ البويطي رحمه الله أن الثعلب حرام. وكره أبو حنيفة ومالك أكله وأكثر الروايات عن أحمد تحريمه لأنه سبع. الأمثال: قالوا «4» «أروغ من ثعلب» «5» . قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 كل خليل كنت خاللته ... لا ترك الله له واضحه كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة وفي المجالسة للدينوري، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قال: وهو على المنبر: إن الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا ولم يروغوا روغان الثعالب. وفي رواية الثعلب وفي شعب البيهقي وأمثال العسكري عن الحسن بن سمرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل الذي يفر من الموت كالثعلب تطلبه الأرض بدين فجعل يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل حجره فقالت له الأرض: يا ثعلب ديني ديني، فخرج فلم يزل كذلك حتى انقطعت عنقه فمات» . وقالوا: «أذل ممن بالت عليه الثعالب» . يضرب لمن يستذل كما تقدم. «وأدهى من ثعلب» . «وأعطش من ثعالة «1» . قال حميد بن ثور «2» : ألم تر ما بيني وبين ابن عامر ... من الود قد بالت عليه الثعالب وأصبح صافي الود بيني وبينه ... كأن لم يكن والدهر فيه عجائب الخواص: رأسه إذا ترك في برج حمام هربت كلها. ونابه يشد على الصبي الذي به ريح الصبيان يذهب عنه، ولا يفزع في نومه، وتحسن أخلاقه. ومرارته إذا نفخت في أنف المصروع لا يصرع أبدا. ولحمه ينفع من اللقوة والجذام. وشحمه يذاب ويطلى به من به النقرس يزول وجعه في الحال. وخصيته تشد على الصبي فتنبت أسنانه بغير ألم. وفروه أنفع شيء للمرطوبين بخورا ولبسا. ودمه إذا طلي به رأس صبي نبت شعره، وإن كان أقرع. وإذا استصحب دمه إنسان، لا تؤثر فيه حيلة محتال. ورئته إذا سحقت وشربت، نفعت من الريح. وأنيابه إذا علقت على المصروع برىء. وطحاله له إذا شد على ذي الطحال الوجع أبرأه. وقال هرمس: من أمسك كليتي الثعلب بيده لم يخف الكلاب ولم تنبح عليه. وأذنه إذا علقت على الخنازير، التي في العنق أبرأتها. وشحمه إذا أذيب وقطر في الأذن الوجعة سكن وجعها. وذكره ينفع من الصداع إذا علق على الرأس. ومرارته إذا طلي بها الذهب يصير لونه لون النحاس. وخصيته تنفع من الورم الكائن عند الأذنين إذا دلك بها. وكبده إذا سقي منه وزن مثقال بشراب، من به وجع الطحال، أبرأه من ساعته. وشحمه إذا طلي به أطراف اليدين والرجلين أمنت مضرة البرد ودماغه إذا خلط بورس وطلي به الرأس أذهب القرع والحزاز والبثور وسقوط الشعر. وقضيبه إذا علق على الصبي الذي يبكي بالليل ويفزع يذهب ذلك عنه. وكذلك يفعل الناب. وشحمه تجتمع عليه البراغيث حيث كان. وخصيته إذا جففت، وسقي منها رجل وزن درهم زاد في الجماع والإنعاظ. وزبله يسحق بدهن ورد ويطلى به الإحليل وقت الجماع يزيد فيه ما شاء. وفي كتاب الإبدال: إن طلبت شحم الثعلب فلم تجده فبدله شحم الذئب. التعبير: الثعلب في المنام امرأة فمن رأى أنه يلاعب ثعلبا فإن له امرأة يحبها وتحبه. وقيل الثعلب رجل ذو مكر وخديعة، فمن نازعه فإنه ينازع غريما كذلك وأكل لحمه يدل على وجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 يصيب الآكل من الرياح ويبرأ وقيل إنه عدو من قبل سلطان وقالت اليهود إنه يدل على الطبيب أو المنجم. وقالت النصارى: من قبل ثعلبا فإنه يصيب امرأة غزيرة. وقيل: من قتل ثعلبا قتل ولد رجل شريف، ومن شرب لبن ثعلب شفي من مرض. وقيل: من نازع ثعلبا في نومه، خاصم بعض أهله أو أصدقائه. والله تعالى أعلم. الثفا: بالثاء المثلثة وبالفاء والألف في آخره: السنور البري وهو قريب من الثعلب على شكل السنور الأهلي وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. الثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض وقيل: لشرفهما، وكل شريف يقال له ثقيل وقيل لأنهما مثقلان بالذنوب. الثلج: فرخ العقاب قاله ابن سيده. الثني : الذي يلقي ثنيته ويكون ذلك في ذوات الظلف والحافر في السنة الثالثة وفي ذي الخف في السنة السادسة والجمع ثنيان وثنايا والأنثى ثنية والجمع ثنيات. الثور: الذكر من البقر. وكنيته أبو عجل. والأنثى ثورة والجمع ثورة وثيران وثيرة. قال سيبويه: قلبوا الواو ياء حيث كانت بعد كسرة، قال: وليس هذا بمطرد. وقال المبرد: إنما قلبوا ثيرة ليفرقوا بينه وبين ثورة الإقط وبنوه على فعلة ثم حركوه. وسمي الثور ثورا لأنه يثير الأرض، كما سميت البقرة بقرة لأنها تبقرها، قال في الإحياء: نظر أبو الدرداء إلى ثورين يحرثان في قرن فوقف أحدهما يحك جسمه، فوقف له الآخر فبكى أبو الدرداء رضي الله عنه. وقال: هكذا الإخوان في الله عزّ وجلّ يعملان لله تعالى، فإذا وقف أحدهما وافقه الآخر، وبالموافقة يتم الإخلاص. ومن لم يكن مخلصا في إخائه فهو منافق. والإخلاص استواء الغيب والشهادة والقلب واللسان. فائدة: قال وهب بن منبه: كانت الأرض كالسفينة تذهب وتجيء، فخلق الله تعالى ملكا في غاية العظم والقوة، وأمره أن يدخل تحتها، ويجعلها على منكبيه ففعل، وأخرج يدا من المشرق ويدا من المغرب، وقبض على أطراف الأرض وأمسكها. ثم لم يكن لقدميه قرار فخلق الله تعالى صخرة من ياقوتة حمراء في وسطها سبعة آلاف ثقبة يخرج من كل ثقبة بحر لا يعلم عظمه إلا الله عزّ وجلّ. ثم أمر الصخرة فدخلت تحت قدمي الملك، ثم لم يكن للصخرة قرار، فخلق الله عزّ وجلّ ثورا عظيما له أربعة آلاف عين، ومثلها آذان ومثلها أنوف وأفواه وألسنة وقوائم، ما بين كل اثنتين منها مسيرة خمسمائة عام. وأمر الله تعالى هذا الثور فدخل تحت الصخرة فحملها على ظهره وقرنه. واسم هذا الثور كيوثا، ثم لم يكن للثور قرار. فخلق الله تعالى حوتا عظيما لا يقدر أحد أن ينظر إليه لعظمه وبريق عينيه وكبرهما، حتى إنه لو وضعت البحار كلها في إحدى مناخره لكانت كخردلة في فلاة، فأمر الله تعالى ذلك الحوت أن يكون قرارا لقوائم هذا الثور، واسم هذا الحوت يهموت. ثم جعل قراره الماء، وتحت الماء هواء، وتحت الهواء ماء، وتحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 الماء ظلمات. ثم انقطع علم الخلائق عما تحت الظلمات. هكذا نقله القاضي شهاب الدين بن فضل، في كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأبصار في الجزء الثالث والعشرين منه. فائدة أخرى: روى مسلم في كتاب الظهار والنسائي في عشرة النساء، عن ثوبان: «إن أهل الجنة، حين يدخلونها، ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، ويأكلون من زيادة كبد الحوت «1» » وروى هناد بن السري وابن إسحاق بإسناد حسن: «إن الشهداء حين يدخلون الجنة يخرج عليهم حوت وثور من الجنة لغدائهم فيلعبان حتى إذا كثر عجبهم منهما طعن الثور الحوت بقرنه فبقره لهم كما يذبحون، ثم يروحان عليهم أيضا لعشائهم فيلعبان فيضرب الحوت الثور بذنبه فيبقره كما يذبحون» . قال السهيلي: وفي هذا الحديث من باب التفكر والاعتبار، أن الحوت لما كان عليه قرار هذه الأرض وهو حيوان سابح استشعر أهل هذه الدار أنهم في منزل قلعة وبوار، وليست بدار قرار. فإذا نحر لهم قبل أن يدخلوا الجنة فأكلوا من كبده كان في ذلك أشعار لهم بالراحة من دار الزوال وإنهم قد صاروا إلى دار القرار كما يذبح لهم الكبش الأملح على الصراط، ليعلموا أنه لا موت ولا فناء. وأما الثور فهو آلة الحرث وأهل الدنيا لا يخلون من أحد هذين الحرثين: حرث لدنياهم وحرث لأخراهم. ففي نحر الثور هنالك إشعار براحتهم من الكدين وترفيههم من نصب الحرثين. فائدة أخرى: روى «2» البخاري في بدء الخلق عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشمس والقمر يكوران يوم القيامة» . انفرد به البخاري وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار بأبسط من هذا السياق فقال: حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن زمن خالد بن عبد الله القسري، في هذا المسجد، مسجد الكوفة، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس والقمر ثوران في النار يوم القيامة» . فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول وما ذنبهما؟! ثم قال البزار: ولا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه. ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث. وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي من طريق درست بن زياد، عن يزيد الرقاشي، وهما ضعيفان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» . وقال كعب الأحبار: «3» : يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم ليراهما من عبدهما. كما قال «4» تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الآية. وخرج أبو داود الطيالسي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشمس والقمر ثوران عقيران في النار» . وفي نهاية الغريب، قيل لما وصفهما الله تعالى بالسباحة في قوله «5» تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ثم أخبر سبحانه وتعالى على بجعلهما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 النار يهذب بهما أهلها بحيث لا يبرحان بها صار كأنهما ثوران عقيران لا يبرحان. كذلك ذكر ذلك أبو موسى وهو كما تراه. وقيل: إنما يجمعان في جهنم لأنهما عبدا من دون الله عزّ وجلّ ولا يكون لهما عذاب لأنهما جماد وإنما يفعل ذلك بهما زيادة على تبكيت الكافرين وخزيهم. وردّ ابن عباس قول كعب الأحبار، وقال: الله أجلّ وأكرم من أن يعذب الشمس والقمر، وإنما يخلقهما يوم القيامة أسودين مكوّرين، فإذا كانا حيال العرش خرّا ساجدين لله تعالى، ويقولان: إلهنا قد علمت طاعتنا لك وسرعتنا في المضي في أمرك أيام الدنيا، فلا تعذبنا في عبادة الكافرين إيانا. فيقول الرب تعالى: صدقتما إني قضيت على نفسي أن أبدىء وأعيد وأني أعيد كما إلى ما بدأتكما منه، وإني خلقتكما من نور عرشي فارجعا إليه فيختلطان بنور العرش. فذلك معنى قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ «1» . وروى أبو نعيم في ترجمة سعيد بن جبير أنه قال: أهبط الله تعالى إلى آدم ثورا أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه وهو الذي قال الله تعالى فيه: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى «2» فكان ذلك شقاءه وكان عليه السلام يقول لحواء: أنت عملت بي هذا فليس أحد من ولد آدم يعمل على ثور إلّا قال: حو دخلت عليه من قبل آدم. وكانت العرب إذا أوردوا البقر فلم تشرب إما لكدر الماء، أو لقلة العطش، ضربوا الثور فيقتحم الماء لأن البقرة تتبعه. وقال في ذلك أنس بن مدركة «3» في قتله سليك ابن سلكة «4» : إني وقتلي سليكا ثم أعقله ... كالثور يضرب لما عافت البقر «5» الأمثال: قالوا «6» : «الثور يحمي أنفه بروقه» والروق القرن. يضرب في الحث على حفظ الحريم. وفي سنن النسائي وسيرة ابن هشام، أما الصديق رضي الله تعالى عنه، لما قدم المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذته الحمى وعامر بن فهيرة وبلالا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: فدخلت عليهم، وهم في بيت واحد، فقلت: كيف أصبحت يا أبت؟ فقال: كل امرء مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله فقلت إنّا لله وإنا إليه راجعون إن أبي ليهذي ثم قلت لعامر كيف تجدك؟ فقال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... والمرء يأتي حتفه من فوقه كل امرء مجاهد بطوقه ... كالثور يحمي أنفه بروقه فقلت: والله هذا ما يدري ما يقول. ثم قلت لبلال: كيف أصبحت؟ فقال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفخ وحولي أذخر وجليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وهل أردن يوما مياه مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل قالت: ثم إني دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته، فقال: «اللهم حبّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، اللهم انقل حماها إلى مهيعة» «1» قول عامر: بطوقه الطوق الطاقة. وقول بلال بفخ هو واد بمكة، ومجنة سوق بأسفل مكة وشامة وطفيل جبلان مشرفان على مجنة. وقوله صلى الله عليه وسلم مهيعة الجحفة وقالت العرب: «أرعى من ثور» . وقالوا: «إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض» «2» . روي عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إنما مثلي ومثل عثمان، كمثل ثلاثة أثوار كانت في أجمة: أبيض وأسود وأحمر، ومعها فيها أسد فكان لا يقدر منها على شيء لاجتماعها عليه، فقال الأسد للثور الأسود وللثور الأحمر إنه لا يدل علينا في أجمتنا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور ولوني على لونكما فلو تركتماني آكله خلت لكما الأجمة وصفت! فقالا: دونك وإياه فكله. فأكله ومضت مدة على ذلك، ثم إن الأسد قال للثور الأحمر: لوني على لونك فدعني آكل الثور الأسود! فقال له: شأنك به. فأكله. ثم بعد أيام قال للثور الأحمر: إني آكلك لا محال فقال: دعني أنادي ثلاثة أصوات، فقال: إفعل فنادى: «إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض» . قالها ثلاثا، ثم قال علي كرّم الله وجهه: إنما هنت يوم قتل عثمان رضي الله عنه يرفع بها صوته. ومن خواصه: إنه إذا نزل الثور على البقرة، ثم بال بعد نزوله فمن أخذ من ذلك الطين، وطلى به إحليله هيج الباه وانعظ. ومثانته إذا أخذت وجففت وسحقت وسقيت لمن يبول في فراشه بخل وماء بارد نفعه وأبرأه. وإذا وقف الثور عن السير فاربط خصيتيه فإنه يسير بنشاط وينساق سريعا. وإذا طرح في أذن الثور زئبق مات مكانه. وإن طلي منخره بدهن ورد صرع. وإن كتب ببوله على الحديد أثر فيه حتى يقرأ. وقد تقدم له خواص في باب الباء الموحدة في البقرة. وأما تعبيره: فإنه يدل على سيد شديد البأس، كثير النفع والعون، موافق مطواع، وربما دل على الشباب الجميل لأنه من أسمائه. وتدل رؤيته أيضا على ثوران الفتنة، أو العون على ما يذلل الأمور الصعاب، خصوصا لأرباب الحرف والزراعة والإنشاء. وربما دلت رؤيته على البلادة والذهول. ورؤية الثور الأبلق فرح وسرور والأسود سؤدد أو شفاء للمريض وربما دل الثور على الجنون لأنه من أسمائه. الثول: بفتح الثاء وسكون الواو ذكر النحل وقيل جماعة النحل وعلى هذا قال الأصمعي: لا واحد له من لفظه. والثول بالتحريك جنون يصيب الشاة فلا تتبع الغنم وتستدبر مرتعها وشاة ثولاء وتيس أثول. الثيتل: الذكر المسن من الأوعال. وفي حديث النخعي: «في الثيتل بقرة» . يعني إذا صاده المحرم أو في الحرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 باب الجيم الجأب: الأسد والحمار الوحشي الغليظ والجمع جؤب. الجارف: ولد الحية. الجارحة: ما تعلم الاصطياد من كلب أو فهد أو باز أو نحو ذلك. والجمع الجوارح. قال الله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ «1» سمي جارحة لأنه يكسب لصاحبه والجوارح الكواسب قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أي ما كسبتم «2» . الجاموس: واحد الجواميس، فارسي معرب، وهو حيوان عنده شجاعة وشدة بأس، وهو مع ذلك أجزع خلق الله يفرق من عض بعوضة ويهرب منها إلى الماء والأسد يخافه وهو مع شدته وغلظه ذكي ينادي راعيه الإناث: يا فلانة يا فلانة فتأتي إليه المناداة ومن طبعه كثرة الحنين إلى وطنه ويقال: إنه لا ينام أصلا لكثرة حراسته لنفسه وأولاده. وإذا اجتمع ضرب دائرة وتجعل رؤوسها خارج الدائرة وأذنابها إلى داخلها، والرعاة وأولادها من داخل، فتكون الدائرة كأنها مدينة مسورة من صياصيها، والذكر منها يناطح ذكر آخر، فإذا غلب أحدهما، دخل أجمة فيقيم فيها حتى يعلم أنه قوي، فيخرج ويطلب ذلك الفحل الذي غلبه فيناطحه حتى يغلبه ويطرده. وهو ينغمس في الماء غالبا إلى خرطومه. حكمه وخواصه: كالبقر، لكن إذا بخر البيت بجلد الجاموس طرد منه البق وأكل لحمه يورث القمل وشحمه إذا خلط بملح أندراني وطلي به الكلف والجرب والبرص أزالها وأبرأها. وقال ابن زهر، نقلا عن ارسطاطاليس: في دماغ الجاموس دود من أخذ منه شيئا وعلقه عليه أو على غيره لم ينم مادام عليه. التعبير: الجاموس في المنام رجل شجاع جلد لا يخاف أحدا يحتمل أذى الناس فوق طاقته، فإن رأت امرأة أن لها قرن جاموس، فإنها تتزوج ملكا وإلا كان ذلك قوة ومنعة لقيمها والله أعلم. الجان: حية بيضاء، وقيل: الحية الصغيرة قال الله تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً* «3» وقال تعالى في آية أخرى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى إلى قوله: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى «4» وقال تعالى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: صارت حية صفراء، لها عرف كعرف الفرس، وصارت تتورم حتى صارت ثعبانا، وهو أعظم ما يكون من الحيات. قال تعالى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* «5» . فلما ألقى موسى العصا، صارت جانا في الابتداء، ثم صارت ثعبانا في الانتهاء. ويقال: وصف الله تعالى العصا بثلاثة أوصاف: بالحية والجان والثعبان، لأنها كانت كالحية لعدوها، وكالثعبان لابتلاعها، وكالجان لتحركها. قال فرقد السنجي: كان بين لحييها أربعون ذراعا. قال ابن عباس والسدي: إنه لما ألقى العصا، صارت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 حية عظيمة صفراء شقراء فاغرة فاها، بين لحييها ثمانون ذراعا، وارتفعت من الأرض بقدر ميل، وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض، والأعلى على سور القصر، وتوجهت نحو فرعون لتأخذه. وروي أنها أخذت قبة فرعون بين نابيها، فوثب فرعون من سريره هاربا، وأخذته قبل أخذه البطن في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا، ومات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا. ويقال: كانت العصا حية لموسى، وثعبانا لفرعون، وجانا للسحرة. وأما قوله: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى «1» فكان يحمل عليها زاده وسقاءه وكانت تماشيه وتحادثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج منها ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء، فإذا رفعها ذهب الماء، وكان يرد بها غنمه، وكانت تقيه الهوام بإذن الله تعالى، وإذا ظهر له عدو حاربته وناضلت عنه، وإذا أراد الاستقاء من البئر، صارت شعبتاها كالدلو يستقي به. وكان يظهر على شعبتيها نور كالشمعتين تضيء له ويهتدي بها، وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصن أغصان تلك الشجرة، وتورق ورقها وتثمر ثمرها. قاله ابن عباس. والله أعلم، وقد تقدم في باب التاء المثناة أن العصا كانت من آس الجنة أهبطت مع آدم إلى الأرض. الجبهة: الخيل وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث «2» الزكاة: «ليس في الجبهة ولا في النخة ولا في الكسعة صدقة» . وقيل للخيل ذلك لأنها خيار البهائم كما يقال. وجه السلعة لخيارها، ووجه القوم وجبهتهم سيدهم. والنخة البقر العوامل، مأخوذ من النخ، وهو السوق الشديد، والكسعة الحمير، مأخوذ من الكسع وهو ضرب الادبار. قاله الزمخشري وغيره والله تعالى أعلم. الجثلة: النملة السوداء وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون في لفظ النملة ما فيه. الجحل: بتقديم الجيم على الحاء الحبارى. وستأتي إن شاء الله تعالى وقيل: هو الحرباء، وقيل: هو الجعل، وقيل هو الضب الكبير المسن. وقيل: هو اليعسوب العظيم كالجراد إذا سقط لا يضم جناحه. والجمع جحول وجحلان. الجحمرش: الأرنب المرضع والعجوز الكبيرة، والمرأة الثقيلة السمجة. والجمع جحامر والتصغير جحيمر. الجحش: ولد الحمار الوحشي والأهلي قيل: وإنما يسمى بذلك قبل أن يعظم، والجمع جحاش وجحشان. والأنثى جحشة. وربما سمي المهر جحشا تشبيها بولد الحمار، والجحش ولد الظبية في لغة هذيل. ويقال للرجل، إذا كان مستبدا برأيه: «جحيش وحده» «3» ، كما قالوا: «عيير وحده» «4» يشبهونه في ذلك بالجحش والعير، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان عمر أجودنا «نسيج وحده» «5» وقد أعد للأمور أقرانها. وروى الدارقطني أن زينب بنت جحش أم المؤمنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 رضي الله عنها، كان اسم أبيها برة، وقيل كان اسمه برة بالضم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لو كان أبوك مؤمنا لسميته باسم رجل منا أهل البيت، ولكني قد سميته جحشا» والجحش أكبر من البرة. الجخدب: بضم الجيم وبالخاء المعجمة وفتح الدال المهملة وجمعه جخادب. ضرب من الجنادب وهو الأخضر الطويل الرجلين وقيل: هو دويبة نحو من العظاءة ويقال له أبو جخادب. الجدجد: بالضم صرار الليل، قاله الجوهري، وهو قفاز وفيه شبه بالجراد، والجمع الجداجد وقال الميداني: الجدجد ضرب من الخنافس، يصوت في الصحارى من أول الليل إلى الصبح فإذا طلبه طالب لم يره، ولذلك قالوا: «أكمن من جدجد» «1» . وفي حديث عطاء في الجدجد: يموت في الوضوء قال: لا بأس به. والوضوء بفتح الواو اسم للماء الذي يتوضأ به. وبالضم اسم للفعل. وسيأتي ذكر الجدجد في باب الصاد المهملة في الكلام على الصرار. الجداية: بكسر الجيم وفتحها الذكر والأنثى من أولاد الظباء إذا بلغ ستة أشهر أو سبعة، وخص بعضهم به الذكر منها. قال الأصمعي: الجداية بمنزلة العناق من الغنم. وفي سنن أبي داود الترمذي عن كلدة بن حنبل الغساني، وليس له في الكتب الستة سواه، قال: بعثني صفوان بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم فقال «2» : «ارجع وقل السلام عليكم» . وذلك بعد ما أسلم صفوان، الضغابيس صغار القثاء، والجداية الصغير من الظباء ذكرا كان أو أنثى. الجدي: الذكر من أولاد المعز، وثلاثة أجد، فإذا كثرت فهي الجداء. روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فذهب جدي يمرّ بين يديه فجعل يتقيه «3» » وروى الطبراني والبزار بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان جدي في غنم كثيرة ترضعه أمه فترويه، فانفلت يوما فرضع الغنم كلها ثم لم يشبع فقيل: إن مثل هذا، مثل قوم يأتون من بعدكم فيعطى الرجل منهم ما يكفي القبيلة أو الأمة ثم لم يشبع «4» » . وفي صفة الصفوة وغيرها عن مجاهد، قال كان عمر رضي الله عنه يقول: «لو مات جدي بطف الفرات لخشيت أن يطالب الله به عمر» . الطف اسم موضع بناحية الكوفة، وأضيف إلى الفرات لقربه منه. الأمثال: قالوا تغد بالجدي قبل أن يتعشى بك يضرب للأخذ بالحزم. الخواص: لحم الجدي أقل حرارة ورطوبة من الخروف وأسرع المعز هضما وأجوده الجدي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الأحمر والأزرق ولحمه سريع الانهضام، لكنه يضر بأصحاب القولنج، والعسل يذهب مضرته وهو جيد الغذاء ويكره السمين من ذكورها وإناثها لعسر انهضامها، ورداءة غذائها. ولحوم المعز بالجملة نافعة لمن به الدماميل والبثور، ولحومها في الشتاء رديئة وفي الصيف جيدة وفي باقي الفصول متوسطة. التعبير: الجدي في المنام ولد فمن رأى جديا مذبوحا فهو موت ولد. وأكل الجدي المشوي يدل على موت ولد ذكر، فإن أكل منه ذراعه نجا من الهلكة، وإن أكل منه الجنب اليسار، فإنه يدل على هم وحزن. والنصف مما يلي الرأس إلى السرة يعبر بالمرأة والبنات والنصف مما يلي السرة إلى الرجلين يعبر بالبنين. والذراع المشوي في المنام إذا كان ناضجا فهو رزق من امرأة يمكر بها. وإذا كان غير ناضج فهو غيبة ونميمة ويأتي القول فيه في باب الخروف فإنه مثله. الأجدل: الصقر صفة غالبة عليه، وأصله من الجدل الذي هو الشدة. وهي الأجادل كسروه تكسير الأسماء، لغلبة الصفة، ولذلك جعله سيبويه مما يكون صفة في بعض الكلام، واسما في بعض اللغات. وقد يقال للأجدل أجدلي، ونظيره أعجم وأعجمي. وهو ممنوع من الصرف كأخيل عند قليل، والأكثر أنهما مصروفان. الأمثال : قالوا «1» : «بيض القطا يحضنه الأجدل» يضرب للشريف يأوي إليه الوضيع. الجذع: بفتح الجيم والذال المعجمة، وهو من الضأن ما له سنة تامة، هذا هو الأصح عند أصحابنا، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم وقيل: ما له ستة أشهر. وقيل: ما له سبعة وقيل ثمانية وقيل عشرة حكاه القاضي عياض. وهو غريب وقيل: إن كان متولدا بين شابين فستة أشهر، وإن كان بين هرمين، فثمانية أشهر. قال بعض أهل البادية: الأجذاع هو أن تكون الصوفة على الظهر قائمة. وإذا أجذع نامت، والجذع من المعز ما له سنتان على الأصح، وقيل سنة قال: الجوهري: الجذع قبل الثني، والجمع جذعان وجذاع، والأنثى جذعة والجمع جذعات. تقول لولد الشاة في السنة الثانية ولولد المعز والحافر في السنة الثالثة وللإبل في السنة الخامسة أجذع. والجذع اسم له في زمن وليس لسن تنبت ولا تسقط. روى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وقد نفرا من المشركين فقالا: «يا غلام هل عندك من لبن تسقينا فقلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما» فقال «2» النبي صلى الله عليه وسلم: «هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل» . قلت: نعم قال: فائتني بها. قال: فأتيتهما بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح الضرع ودعا، فجعل الضرع يحفل، ثم أتاه أبو بكر بصخرة منقعرة فاحتلب فيها وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشرب أبو بكر ثم شربت. ثم قال صلى الله عليه وسلم للضرع: «أقلص» فقلص أي اجتمع. قال: فأتيته بعد ذلك فقلت: علمني من هذا القول قال: إنك عليم معلم. قال: فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد. وفي حديث المبعث أن ورقة بن نوفل قال: يا ليتني فيها جذعا. الضمير في فيها للنبوّة. أي ليتني كنت شابا عند ظهورها، حتى أبالغ في نصرتها وحمايتها وجذعا منصوب على الحال من الضمير في فيها تقديره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ليتني مستقر فيها جذعا أي شابا وقيل: هو منصوب بإضمار كان وضعف ذلك لأن كان الناقصة لا تضمر إلا إذا كان في الكلام لفظ ظاهر يقتضيها كقولهم: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر أي إن كان خيرا فخير وروى الحافظ الدمياطي عن علي بن صالح، قال: كان ولد عبد المطلب عشرة، كل منهم يأكل جذعة. وروى أبو عمر بن عبد البر، في التمهيد، من طريق صحيح، أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شجرة طوبى، فقال له: «هل أتيت الشأم؟ فإن فيها شجرة يقال لها الجوزة» . ثم وصفها. ثم إن الأعرابي سأل عن عظم أصلها فقال له لو ركبت جذعة من ابل أهلك، ثم طفت بها أو قال درت بها، حتى تندق ترقوتها هرما ما قطعتها» «1» وذكر السهيلي في التعريف والاعلام أن أصلها في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم تنقسم فروعها على منازل أهل الجنة كما انتشر منه العلم والإيمان على جميع أهل الدنيا وهذه الشجرة من شجرة الجوز. الجراد: معروف الواحدة جرادة الذكر والأنثى فيه سواء. يقال: هذا جرادة ذكر وهذه جرادة أنثى كنملة وحمامة. قال أهل اللغة: وهو مشتق من الجرد. قال: والاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدا. يقال ثوب جرد أي أملس. وثوب جرد إذا ذهب زئيره. وهو بري وبحري. والكلام الآن في البري. قال «2» الله تعالى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ، كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ أي في كل مكان. وقيل: وجه التشبيه أنهم حيارى فزعون لا يهتدون ولا جهة لأحد منهم يقصدها. والجراد لا جهة له فيكون أبدا بعضه على بعض. وقد شبههم في آية أخرى بالفراش المبثوث. وفيهم من كل هذا شبه، وقيل: إنهم أولا كالفراش حين يموج بعضهم في بعض ثم كالجراد إذا توجهوا نحو المحشر والداعي. والجرادة تكنى بأم عوف قال أبو عطاء السندي «3» : وما صفراء تكنى أم عوف ... كأن رجيلتيها منجلان والجراد أصناف مختلفة: فبعضه كبير الجثة، وبعضه صغيرها، وبعضه أحمر وبعضه أصفر وبعضه أبيض. وكان مسلمة بن عبد الملك بن مروان يلقب بالجرادة الصفراء، وكان موصوفا بالشجاعة والاقدام والرأي والدهاء. ولي أرمينية وأذربيجان غير مرة، وإمرة العراقين وسار في مائة وعشرين ألفا وغزا القسطنطينية في خلافة سليمان أخيه. وروى عن عمر بن عبد العزيز، وهو مذكور في سنن أبي داود وكانت وفاته سنة احدى وعشرين ومائة. ومن الفوائد عنه أنه لما حضر عمورية حصل له صداع فلم يركب في الحرب فقال أهل عمورية للمسلمين: ما بال أميركم لم يركب اليوم فقالوا: حصل له صداع، فأخرجوا لهم برنسا وقالوا ألبسوه إياه ليزول عنه ما يجد. فلبسه مسلمة فشفي، ففتقوه فلم يجدوا فيه شيئا ثم فتقوا أزراره فإذا فيه بطاقة مكتوب فيها هذه الآيات: بسم الله الرحمن الرحيم ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ «4» بسم الله الرحمن الرحيم الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً «5» بسم الله الرحمن الرحيم يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً «6» بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 حم عسق «1» بسم الله الرحمن الرحيم وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ «2» بسم الله الرحمن الرحيم أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً «3» بسم الله الرحمن الرحيم وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «4» فقال المسلمون: من أين لكم هذا وإنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: وجدناه منقوشا في حجر في كنيسة قبل أن يبعث نبيكم بسبعمائة عام. قال الحافظ ابن عساكر: ويكتب للصداع أيضا بسم الله الرحمن الرحيم كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا «5» أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً «6» كهيعص «7» حم عسق «8» كم لله من نعمة على كل عبد شاكر وغير شاكر. وكم لله من نعمة في كل قلب خاشع وغير خاشع وكم لله من نعمة في كل عرق ساكن وغير ساكن اذهب أيها الصداع بعز عز الله وبنور وجه الله وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «9» ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. قال: يكتب ويجعل على الرأس فإنه نافع. قلت: وهو عجيب مجرب. قال: ومما جرب أيضا للصداع أن تكتب هذه الأحرف الآتية على دف خشب وتدق فيه مسمارا على حرف بعد حرف إلى أن يكن الصداع، وتقرأ وأنت تدق وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً «10» وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «11» وهي هذه الأحرف: اح اك ك ح ع ح ام ح. وذكر لها خبرا اتفق لهارون الرشيد مع بعض ملوك الروم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في السوس شيء يتعلق بهذا. والجراد إذا خرج من بيضه يقال له الدبى، فإذا طلعت أجنحته وكبرت فهو الغوغاء الواحدة غوغاة وذلك حين يموج بعضه في بعض، فإذا بدت فيه الألوان واصفرت الذكور واسودت الإناث سمي جرادا حينئذ وهو إذا أراد أن يبيض، التمس لبيضه المواضع الصلدة والصخور الصلبة التي لا تعمل فيها المعاول، فيضربها بذنبه فتفرج له فيلقي بيضه في ذلك الصدع، فيكون له كالأفحوص ويكون حاضنا له ومربيا. وللجرادة ست أرجل: يدان في صدرها، وقائمتان في وسطها، ورجلان في مؤخرها، وطرفا رجليها منشاران. وهو من الحيوان الذي ينقاد لرئيسه فيجتمع كالعسكر إذا ظعن أوله تتابع جميعه ظاعنا وإذا نزل أوله نزل جميعه. ولعابه سم ناقع للنبات، لا يقع على شيء إلا أهلكه. وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال «12» : «بينما أيوب عليه الصلاة والسلام يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه الله تعالى: يا أيوب ألم أكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 أغنيك عما ترى؟ قال: بلى يا رب ولكن لا غنى لي عن بركتك» قال الشافعي: في هذا الحديث نعم المال الصالح مع العبد الصالح. وروى الطبراني والبيهقي عن شعبة عن أبي زهير النميري قال «1» : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم» . قلت هذا، وإن صح، أراد به ما لم يتعرض لإفساد الزرع وغيره، فإن تعرض لذلك، جاز دفعه بالقتل وغيره. والجند العسكر والجمع أجناد وجنود. وفي الحديث: «الأرواح جنود مجندة» أي مجموعة، كما يقال ألوف مؤلفة، وقناطير مقنطرة. ثم أسند عن ابن عمر: أن جرادة وقعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا مكتوب على جناحيها بالعبرانية: نحن جند الله الأكبر ولنا تسع وتسعون بيضة ولو تمت المائة لأكلنا الدنيا بما فيها فقال «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أهلك الجراد اقتل كبارها، وأمت صغارها، وأفسد بيضها، وسد أفواهها عن مزارع المسلمين ومعايشهم، إنك سميع الدعاء. فجاءه جبريل عليه السلام وقال: إنه قد استجيب لك في بعضه» . وكذلك أسنده الحاكم في تاريخ نيسابور أيضا ثم أسند الطبراني أيضا عن الحسن بن علي قال: كنا على مائدة نأكل أنا وأخي محمد بن الحنفية وبنو عمي عبد الله وقثم والفضل أولاد العباس، فوقعت جرادة على المائدة فأخذها عبد الله وقال لي: ما مكتوب على هذه فقلت سألت أبي أمير المؤمنين عن ذلك؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال لي: «مكتوب عليها: أنا الله لا إله إلا أنا رب الجراد ورازقها إن شئت بعثتها رزقا لقوم، وإن شئت بعثتها بلاء على قوم» . فقال عبد الله: هذا من العلم المكنون. ثم أسند أيضا هو وأبو يعلى الموصلي عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة من سني خلافته فقد الجراد فاهتم لذلك هما شديدا فبعث إلى اليمن راكبا، وإلى الشام راكبا وإلى العراق راكبا، كل يسأل هل رأوا الجراد؟ فأتاه الراكب الذي سار إلى اليمن بقبضة منه فنثرها بين يديه فلما رأى عمر الجراد، كبر وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؛ «إن الله عز وجل خلق ألف أمة ستمائة منها في البحر، وأربعمائة في البر. وإن أوّل هلاك هذه الأمم الجراد، فإذا هلك الجراد، تتابعت الأمم مثل النظام إذا قطع سلكه «3» » . ورواه ابن عدي في ترجمة محمد بن عيسى العبدي وذكره الحكيم الترمذي في نوادره وقال: إنما صار الجراد أول هذه الأمم هلاكا، لأنه خلق من الطينة التي فضلت من خلق آدم عليه الصلاة والسلام. وإنما تهلك الأمم بهلاك الآدميين لأنها سخرت لهم وهو في الكامل والميزان في ترجمة محمد بن عيسى بن كيسان. وفي الحلية في ترجمة حسان بن عطية. قال الأوزاعي حدثني حسان قال: «إنما مثل الشياطين في كثرتهم كمثل رجل دخل زرعا فيه جراد كثير، فكلما وضع رجله تطاير الجراد يمينا وشمالا ولولا أن الله عز وجل غض البصر عنهم، ما رؤي شيء إلا وعليه شيطان» . وفيها في ترجمة يزيد بن ميسرة قال: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام الجراد وقلوب الشجر، وكان يقول: من أنعم منك يا يحيى وطعامك الجراد وقلوب الشجر: وفي الجراد خلقة عشرة من جبابرة الحيوان مع ضعفه وجه فرس وعينا فيل وعنق ثور وقرنا أيل وصدر أسد وبطن عقرب وجناحا نسر وفخذا جمل ورجلا نعامة وذنب حية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وقد أحسن القاضي محيي الدين الشهرزوري «1» في وصف الجراد بذلك في قوله: لها فخذا بكر وساقا نعامة ... وقادمتا نسر وجؤجؤ ضيغم «2» حبتها أفاعي الأرض بطنا وأنعمت ... عليها جياد الخيل بالرأس والفم وما يستحسن ويستجاد من شعره قوله يصف نزول الثلج من الغيم: ولما شاب رأس الدهر غيظا ... لما قاساه من فقد الكرام أقام يميط عنه الشيب غيظا ... وينثر ما أماط على الأنام «3» توفي الشهرزوري في سنة ست وثمانين وخمسمائة وليس في الحيوان أكثر افسادا لما يقتاته الانسان من الجراد. قال الأصمعي: أتيت البادية، فإذا أعرابي زرع برا له، فلما قام على سوقه وجاد سنبله أتاه رجل جراد فجعل الرجل ينظر إليه ولا يدري كيف الحيلة فيه فأنشأ يقول: مر الجراد على زرعي فقلت له ... لا تأكلنّ ولا تشغل بإفساد فقام منهم خطيب فوق سنبلة ... أنا على سفر لا بد من زاد وقيل لأعرابي: ألك زرع؟ فقال: نعم. ولكن أتانا رجل من جراد، بمثل مناجل الحصاد، فسبحان من يهلك القوي الأكول بالضعيف المأكول. فائدة: تكتب هذه الكلمات وتجعل في أنبوبة قصب وتدمن في الزرع أو في الكرم فإنه لا يؤذيه الجراد بإذن الله تعالى وهي بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلي على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد وسلم، اللهم أهلك صغارهم، واقتل كبارهم، وأفسد بيضهم، وخذ بأفواههم عن معايشنا وأرزاقنا، إنك سميع الدعاء إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم. اللهم صلي على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد وسلم، واستجب منا يا أرحم الراحمين. وهو عجيب مجرب. ومما يفعل لطرد الجراد أيضا، وقد جرب وفعل، فصرفه الله به وأخبرني به الشيخ يحيى بن عبد الله القرشي، وأنه فعل ذلك غير مرة، فصرفه الله سبحانه وتعالى عن البلاد التي هو فيها، وكفاهم شره وأن بعض العلماء أفاده ذلك، وقد سماه لي وذهب عني اسمه الآن، انه إذا وقع الجراد بأرض وأردت أن الله سبحانه وتعالى يصرفه، فخذ منه أربع جرادات، واكتب على أجنحتها أربع آيات من كتاب الله تعالى، في جناح كل جرادة آية، ثم توجه بها إلى أي بلد تسميها وتقول لهم: انصرفوا إليها. على الأولى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «4» وعلى الثانية وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ «5» وعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الثالثة ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» وعلى الرابعة فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «2» . الحكم: أجمع المسلمون على إباحة أكله وقد قال عبد الله بن أبي أوفى: «غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد» «3» رواه أبو داود والبخاري والحافظ أبو نعيم. وفيه ويأكله رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا. وروى ابن ماجه عن أنس قال: «كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد في الأطباق «4» » . وفي الموطأ من حديث ابن عمر سئل عن الجراد فقال: وددت أن عندي قفة آكل منها. وروى البيهقي عن أبي امامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مريم بنت عمران عليها السلام سألت ربها أن يطعمها لحما لا دم له فأطعمها الجراد فقالت: الله أعشه بغير رضاع وتابع بينه بغير شياع» قلت: يا أبا الفضل ما الشياع؟ قال: الصوت. وتقدم أن يحيى بن زكريا كان يأكل الجراد وقلوب الشجر، يعني الذي ينبت في وسطها غضا طريا قبل أن يقوى ويصلب، واحدها قلب بالضم للفرق. وكذلك قلب النخلة. وقالت الأئمة الأربعة: يحل أكله سواء مات حتف أنفه، أو بذكاة أو باصطياد مجوسي أو مسلم قطع منه شيء أم لا. وعن أحمد رحمه الله أنه إذا قتله البرد لم يؤكل، وملخص مذهب مالك أنه إن قطع رأسه حل، وإلا فلا. والدليل على عموم حله، قوله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان: الكبد والطحال والسمك والجراد» «5» رواه الإمام الشافعي والإمام أحمد والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا. قال البيهقي. وروي عن ابن عمر موقوفا وهو الأصح واختلف أصحابنا وغيرهم في الجراد هل هو صيد بري أو بحري فقيل: بحري لما روى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الجراد فقال: «اللهم أهلك كباره، وأفسد صغاره، واقطع دابره، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء «6» » . فقال رجل: يا رسول الله كيف تدعو على جند من أجناد الله تعالى بقطع دابره؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الجراد نثرة الحوت من البحر «7» » . أي عطسته والمراد أن الجراد من صيد البحر يحل للمحرم أن يصيده. وفيه عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل جراد، فجعلنا نضربهن بنعالنا وأسواطنا. فقال صلى الله عليه وسلم: «كلوه فإنه صيد البحر «8» » . والصحيح أنه بري لأن المحرم يجب عليه فيه الجزاء إذا أتلفه عندنا وبه قال عمر وعثمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وابن عمر وابن عباس وعطاء. قال العبدري: وهو قول أهل العلم كافة إلا أبا سعيد الخدري فإنه قال: لا جزاء فيه وحكاه ابن المنذر عن كعب الأحبار، وعروة بن الزبير فإنهم قالوا: هو من صيد البحر لا جزاء فيه. واحتج لهم بحديث أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أصبنا رجلا من جراد فكان الرجل منا يضربه بسوطه، وهو محرم، فقيل: ان هذا لا يصلح. فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنما هو من صيد البحر» رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، واتفقوا على ضعفه لضعف، أبي المهزم وهو بضم الميم وكسر الزاي وفتح الهاء بينهما. واسمه يزيد ابن سفيان وسيأتي ذكره في حكم النعامة. واحتج الجمهور بما رواه الإمام الشافعي بإسناده الصحيح أو الحسن، عند عبد الله بن أبي عمار، أنه قال: أقبلت مع معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وكعب الأحبار في أناس محرمين من بيت المقدس بعمرة، حتى إذا كنا ببعض الطريق، وكعب على نار يصطلي «فمرت به رجل من جراد، فأخذ جرادتين فقتلهما، وكان قد نسي إحرامه ثم ذكر إحرامه، فألقاهما» . فلما قدمنا المدينة دخل القوم على عمر رضي الله عنه ودخلت معهم فقص كعب قصة الجرادتين على عمر، فقال: «ما جعلت على نفسك يا كعب؟ فقال: درهمين فقال: بخ بخ درهمان خير من مائة جرادة اجعل ما جعلت على نفسك» «1» وبإسناد الشافعي والبيهقي الصحيح عن القاسم بن محمد قال: كنت جالسا عند ابن عباس فسأله رجل عن جرادة قتلها، وهو محرم فقال ابن عباس: فيها قبضة من طعام ولتأخذن بقبضة جرادات. قال الإمام الشافعي رحمه الله: أشار بذلك إلى أن فيها القيمة فالجراد وبيضه مضمونان بالقيمة على المحرم، وفي الحرم فلو وطئه عامدا أو جاهلا ضمن، ولو عم الجراد المسالك ولم يجد بدا من وطئه فالأظهر أنه لا ضمان. وقيل: لا ضمان قطعا. ويجوز السلم في الجراد والسمك حيا وميتا عند عموم وجودهما. ويوصف كل جنس بما يليق به وحكى الرافعي في باب الربا ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس من جنس اللحوم، قال في الروضة وهو الأصح. والثاني أنه من اللحوم البريات. والثالث أنه من اللحوم البحريات. ويظهر أثر الخلاف في جواز بيعه بلحم بحري أو بري وفيما لو حلف لا يأكل لحما. وحكى الموفق بن طاهر قولا غريبا أنه من صيد البحر لأنه يتولد من روث السمك وهو شاذ. الأمثال: قالت العرب: «تمرة خير من جرادة وأطيب من جرادة» . «وجاء القوم كالجراد المنتشر «2» » . أي متفرقين. «وأجرد من الجراد «3» » . «وأغوى من غوغاء «4» الجراد» . وقالوا: «كالجراد لا يبقي ولا يذر» «5» . يضرب في اشتداد الأمر واستئصال القوم. وقالوا: «أحمى من مجير الجراد «6» » . وهو مدلج بن سويد الطائي، وكان من حديثه فيما ذكر ابن الأعرابي، عن الكلبي أنه خلا ذات يوم في خيمته فإذا هو بقوم من طيء، ومعهم أوعيتهم، فقال: ما خطبكم؟ قالوا: جراد وقع بفنائك فجئنا لنأخذه. فركب فرسه وأخذ رمحه وقال: والله لا يتعرض له أحد منكم إلا قتلته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 أيكون في جواري ثم تريدون أخذه! ولم يزل يحرسه حتى حميت عليه الشمس فطار. فقال: شأنكم الآن به فقد تحول عن جواري. الخواص: إذا تبخر الإنسان بالجراد البري نفعه من عسر البول. وقال ابن سينا: إذا أخذ منه اثنتا عشرة جرادة، ونزعت رؤوسها وأطرافها، وجعل معها قليل من الآس اليابس، وشربه صاحب الاستسقاء نفعه. والجراد الطويل العنق، إذا علق على من به حمى الربع نفعه. وإذا طلي ببيضه وجوفه الكلف أبرأه. التعبير: الجراد في الرؤيا جند الله لأنه من آيات موسى عليه الصلاة والسلام. وهو عذاب، والدبى منه ناس سيئة أخلاقهم قبيحة سيرتهم. وإذا وقع في موضع يؤخذ ويؤكل فإنه خير ونعمة وإذا رأى أنه جعله في جرة أو قدر فإنه ينال دراهم ودنانير. وروي أن رجلا جاء إلى ابن سيرين رحمه الله فقال: رأيت كأني أخذت جرادا فجعلته في جرة فقال ابن سيرين: دراهم توصلها إلى امرأة فكان كذلك ومن رأى أنه يمطر عليه جراد من ذهب عوضه الله ما ذهب منه لقصة أيوب عليه السلام. الجراد البحري: قال الشريف: هو حيوان له رأس مربع، وله مما يلي رأسه صدف خزفي، ونصفه الثاني لا خزف عليه، وله في كلا الجانبين عشرة أيد طوال شبيهة بأيدي العناكب، إلا أنها كبار جدا منها ما هو قدر الرغيف، ومنها ما هو دون ذلك. وهو كثير بساحل البحر ببلاد الغرب، ويأكلونه كثيرا مشويا ومطبوخا. وله قرنان دقيقان أحمران، وعينان بارزتان متدليتان من رأسه، وهذا الجراد حار يابس وأجود ما يؤكل منه مشويا في الفرن وهو داخل في عموم أنواع الصدف وخاصية لحمه النفع من الجذام. الجرارة: نوع من العقارب إذا مشى على الأرض جر ذنبه. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين. وهي عقارب صغار صفر على مقدار ورق الانجذان. وتكون بعسكر مكرم. وأكثر ما توجد في كهارات السكر وفي الطين الذي هو قوالب السكر. قاله في كامل الصناعة. وقال موسى بن عبد الله الاسرائيلي القرطبي: الجرارة نوع من العقارب صغير الجسم لا يقوم ذنبه على جسمه كما تفعل العقارب بل يجره على الأرض وكذلك توجد ببلاد المشرق قال الجاحظ: وهي تكون بعسكر مكرم وجنديسابور إذا لسعت أحدا قتلته. وربما تناثر لحمه، وربما يعفن وينتن، حتى لا يدنو منه أحد إلا وهو محمر الوجه مخافة أعدائه. وهذا النوع يألف الحشوش والمواضع النادية وسمها حار محرق. وقال ابن جميع، في كتابه الارشاد: والجرارة نوع من العقارب، وسمها حار يابس يعرض للبدن منه التهاب وكرب، وليس يجد لموضع لسعها ألما قال: ومن الأشربة النافعة لها ماء الشعير وماء الجبن وسويق التفاح بالماء البارد. اهـ وقال القزويني والجاحظ: وهذا النوع يقتل غالبا اهـ. الجرذ: بضم الجيم وفتح الراء المهملة وبالذال المعجمة ذكر الفيران وقيل: هو ضرب من الفأر أعظم من اليربوع أكدر في ذنبه سواد حكاه ابن سيده قال الجاحظ: والفرق بين الجرذ والفأر كالفرق بين الجواميس والبقر والبخاتي والعراب، قال: وجرذان انطاكية لا تقوى عليها السنانير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 لعظمها إلا للواحد بعد الواحد. قال: وهي ببلاد خراسان قوية جدا وربما عضت النائم فقطعت أذنه وأنا رأيت جرذا قاتل سنورا ففقأ عين السنور وهرب منه. وقال الزمخشري في ربيع الأبرار: الجرذ إذا خصي أكل جميع الفأر. والجرذ لا يقوم له شيء منها. قال: وزعموا أن الخصي من كل جنس أضعف من الفحل إلا الجرذان فإن الخصاء يحدث فيه شجاعة وجراءة والجمع جرذان، كصرد وصردان. وأرض جرذة أي ذات جرذان. وكنيته أبو جوال وأبو راشد وأبو العدرج وسيأتي في باب الفاء إن شاء الله تعالى. وروى أبو داود وابن ماجه وغيرهما عن ضباعة بنت الزبير زوج المقداد بن الأسود «1» قالت: ذهب المقداد بن الأسود لحاجة ببقيع الخبخبة وهو بفتح الخاءين المعجمتين وسكون الباء الأولى، موضع بنواحي المدينة، فدخل خربة فإذا الجرذ يخرج من حجر دينارا دينارا، حتى أخرج سبعة عشر دينارا، ثم أخرج طرف خرقة خضراء، قال المقداد: فقمت فمددت طرف الخرقة، فوجدت فيها دينارا فكانت ثمانية عشر دينارا. قالت: فذهب بها المقداد فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه أخبره بذلك، وقال: خذ صدقتها يا رسول الله فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل أهويت بيدك إلى الحجر؟» قال المقداد لا والذي بعثك بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك للمقداد «خذها بارك الله لك فيها» وفي رواية: «هذا رزق ساقه الله إليك «2» » . وفي صحيح مسلم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: إن ناسا من عبد القيس قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا حي من ربيعة فذكر الحديث إلى أن قالوا يا رسول الله فيم نشرب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «في أسقية الأدم» فقالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان ولا نبقى فيها أسقية الأدم. فقال «3» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وإن أكلتها الجرذان وإن أكلتها الجرذان» . وحكي: أن امرأة جاءت إلى قيس بن سعد «4» بن عبادة بن دليم، وكان حليما جوادا، فقالت له: مشت جرذان بيتي على العصا قال: لادعهن يثبن وثب الأسود ثم ملأ بيتها طعاما وودكا وإداما. وروي إنه كان له ديون كثيرة فمرض فاستبطأ عوّاده فقيل له: إنهم يستحيون من أجل دينك عليهم. فأمر مناديا ينادي من كان لقيس بن سعد عليه دين فهو بريء منه! فأتى الناس حتى هدموا درجة كان يصعد عليها إليه. قال عروة وكان قيس بن سعد يقول: اللهم ارزقني مالا فإنه لا تصلح الفعال إلا بالمال. قال: وكان أبوه سعد بن عبادة يقول: اللهم هب لي حمدا وهب لي مجدا فإنه لا مجد إلا بفعال، ولا فعال إلا بمال، اللهم إن القليل لا يصلحني ولا أصلح عليه. وقال يحيى بن أبي كثير: كان قيس بن سعد، إذا انصرف من صلاة مكتوبة، قال: اللهم ارزقني مالا استعين به على الفعال، فإنه لا تصلح الفعال إلا بالمال. قال الجوهري: الفعل بالفتح مصدر فعل يفعل. وقرأ بعضهم وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ «5» والفعل بالكسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 الاسم، والجمع الفعال، مثل قدح وقداح وبئر وبئار والفعال بالفتح الكرم قال هدبة «1» : ضروبا بلحييه على عظم زوره ... إذا القوم هشّوا للفعال تقنّعا انتهى. وقال ابن سيده: الفعال بالفتح اسم للفعل الحسن انتهى توفي قيس بن سعد سنة ستين وقيل سنة تسع وخمسين للهجرة النبوية. وحكمه وخواصه : كالفأر وسيأتي في باب الفاء إن شاء الله تعالى. التعبير: الجرذ في المنام تدل رؤيته على الفسق والأذى والاجتماع، وربما دلت رؤيته على الذل والمقت، وربما دلت على نساء جفاة. ومن أكل لحمه في المنام نال رزقا من حرام. وقال بعض أهل التعبير يدل على النقلة من أخذه أو دخل إلى منزله لقوله «2» تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ . وكان سببه الجرذ فوقعت النقلة من تلك الأرض وأكل لحمه يدل على غيبة رجل فاسق والله أعلم. الجرجس: لغة في القرقس وهو البعوض الصغار وسيأتي في باب القاف إن شاء الله تعالى. الجوارس: النحل وجرست النحل العرفط تجرس جرسا إذا أكلته والجرس في الأصل الصوت الخفي. والعرفط بالضم شجرة الطلح وله صمغ كريه الرائحة. فإذا أكلته النحلة حصل في عسلها شيء من ريحه. الجرو: بكسر الجيم وفتحها وضمها ثلاث لغات مشهورات الصغير من أولاد الكلب وسائر السباع وفي المثل لا تقتن من كلب سوء جروا قال الشاعر: ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلاب وقال ابن سيده: الجرو الصغير من كل شيء حتى من الحنظل والبطيخ والقثاء والرمان. روى مسلم في صحيحه عن ميمونة رضي الله تعالى عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح يوما واجما، فقالت ميمونة: يا رسول الله إني قد استنكرت هيئتك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن جبريل وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني أما والله ما أخلفني قط قالت: فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك الحال، ثم وقع في نفسه أن جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج ثم أخذ صلى الله عليه وسلم بيده ماء فنضح مكانه. فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له صلى الله عليه وسلم: قد كنت وعدتني أن تلقاني البارحة فقال: أجل ولكنا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فأمر بقتل الكلاب حتى إنه أمر بقتل كلب الحائط الصغير وبترك كلب الحائط الكبير «3» » . ورواه الطبراني عن خولة خادم النبي صلى الله عليه وسلم بزيادة على ذلك، ولفظها إن جروا دخل البيت، ودخل تحت السرير ومات. «فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما لا ينزل عليه الوحي، فقال: «يا خولة ما حدث في بيت رسول الله فإن جبريل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 لا يأتيني؟ فهل حدث في بيت رسول الله حدث؟» ثم خرج إلى المسجد قالت: فقمت فكنست البيت فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا شيء تحت المكنسة ثقيل فلم أزل حتى أخرجته، فإذا هو جرو كلب ميت فأخذته بيدي وألقيته خلف الدار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا أتاه الوحي أخذته الرعدة فقال: يا خولة دثريني فأنزل الله عز وجل وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «1» قال ابن عبد البر: وليس إسناد حديثها هذا مما يحتج به. والصحيح أن هذه السورة، نزلت في أول ما نزل من القرآن، لما انقطع عنه الوحي فقال المشركون إن محمدا قد ودّعه ربه أي هجره فأنزل الله هذه السورة. وروى البيهقي في أواخر الباب السابع والأربعين من الشعب عن معاذ بن جبل قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم لا يولد له، وكان يخرج فإذا رأى غلاما من غلمان بني إسرائيل عليه حلى يخدعه، حتى يدخله بيته، فيقتله ويلقيه في مطمورة له، فبينما هو كذلك إذ لقى غلامين أخوين عليهما حلى فأدخلهما بيته وقتلهما وطرحهما في مطمورته. وكانت له امرأة مسلمة تنهاه عن ذلك، وتقول له إني أحذرك النقمة من الله عز وجل. فيقول: لو أن الله يأخذني على شيء لأخذني يوم فعلت كذا وكذا فتقول له المرأة: إن صاعك لم يمتلىء ولو امتلأ صاعك لأخذت فلما قتل الغلامين، خرج أبوهما في طلبهما فلم يجد أحدا يخبره عنهما، فأتى نبيا من أنبياء اسرائيل، وذكر ذلك له فقال له ذلك النبي: هل كان معهما لعبة يلعبان بها؟ فقال أبوهما: نعم كان لهما جرو. قال فائتني به فأتاه به فوضع النبي خاتمه بين عينيه ثم خلى سبيله، ثم قال: أول دار يدخلها من دور بني إسرائيل فيها بيان ذلك. فأقبل الجرو يتخلل الدور حتى دخل دار من دور بني إسرائيل، فدخلوا خلفه فوجدوا الغلامين مقتولين مع غلمان كثيرة قد قتلهم وطرحهم في المطمورة. فانطلقوا به إلى ذلك النبي عليه السلام فأمر به أن يصلب، فلما رفع إلى الخشبة أتته امرأته وقالت: قد كنت أحذرك هذا اليوم، وأخبرك أن الله غير تاركك، وأنت تقول: لو أن الله يأخذني على شيء لأخذني يوم فعلت كذا وكذا. فأخبرك أن صاعك لم يمتلىء بعد. ألا وإن صاعك قد امتلأ. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الكاف في لفظ الكلب الحديث الذي في مسند الإمام أحمد الطبراني والبزار في الكلبة التي عوى جروها في بطنها. وروى الحاكم في المناقب من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقترب الزمان كثر لبس الطيالسة وكثرت التجارة وكثر المال وعظم رب المال بماله وكثرت الفاحشة وكثرت النساء، وكانت امارة الصبيان، وجار السلطان وطفق في المكيال الميزان، ويربي الرجل جرو كلب خير له من أن يربي ولدا. ولا يوقر كبير ولا يرحم صغير، ويكثر الزنا حتى إن الرجل ليغشى المرأة على قارعة الطريق فيقول أمثلهم في ذلك الزمان: لو اعتزلتم عن الطريق. ويلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أمثلهم في ذلك الزمان المداهن» «2» وكذلك رواه الطبراني في معجمه الأوسط وفيه سيف ابن مسكين وهو ضعيف. الجريث: بكسر الجيم بالراء المهملة والثاء المثلثة، وهو هذا السمك الذي يشبه الثعبان. وجمعه جراثي. ويقال له أيضا الجريء بالكسر والتشديد وهو نوع من السمك يشبه الحية ويسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بالفارسية مارماهي وقد تقدم في باب الهمزة أنه الأنكليس. قال الجاحظ: إنه يأكل الجرذان وهو حية الماء. وحكمه: الحل قال البغوي عند قوله «1» تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ إن الجريث حلال بالاتفاق، وهو قول أبي بكر وعمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم وبه قال شريح والحسن وعطاء، وهو مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي. والمراد هذه الثعابين التي لا تعيش إلا في الماء. وأما الحيات التي تعيش في البر والبحر، فتلك من ذوات السموم، وأكلها حرام. وسئل ابن عباس عن الجري فقال: هو شيء حرمته اليهود ونحن لا نحرمه. الخواص: مرارته يسعط بها الفرس المجنون يذهب جنونه. ولحمه يجوّد الصوت. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الصاد المهملة في لفظ الصيد ما ذكره البخاري في صحيحه في الجري. الجزور: من الإبل يقع على الذكر والأنثى، وهو مؤنث، والجمع جزر. وكذا قاله الجوهري، وقال ابن سيده: الجزور الناقة التي تجزر والجمع جزائر وجزر وجزرات جمع الجمع كطرق وطرقات. قالت خرنق بنت هفان «2» : لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر النازلون بكل معترك ... والطيبين معاقد الأزر وبها سميت المجزرة وهي الموضع الذي يذبح فيه. وفي كتاب العين الجزور من الضأن والمعز خاصة مأخوذ من الجزر، وهو القطع. وفي صحيح مسلم، من حديث عبد الرحمن بن شماسة أن عمرو بن العاص قال عند موته: إذا دفنتموني فسنوا عليّ التراب سنائم، أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي. قلت: وإنما ضرب المثل بنحر الجزور وتقسيم لحمها، لأنه كان في أول أمره جزارا بمكة، فألف نحر الجزائر، وضرب به المثل، وكونه كان جزارا جزم به ابن قتيبة في المعارف، ونقله ابن دريد في كتاب الوشاح وكذلك ابن الجوزي في التلقيح، وأضاف إليه الزبير بن العوام بن كرير فقال: هؤلاء كانوا جزارين وذكر التوحيدي في كتاب «بصائر القدماء وسرائر الحكماء» صناعة كل من علمت صناعته من قريش فقال: كان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بزازا، وكذلك عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهم، وكان عمر رضي الله تعالى عنه دلالا يسعى بين البائع والمشتري، وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل. وكان الوليد بن المغيرة «3» حدادا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وكذلك أبو العاص «1» أخو أبي جهل «2» وكان عقبة «3» بن أبي معيط خمارا، وكان أبو سفيان «4» بن حزب يبيع الزيت والأدم، وكان عبد الله بن جدعان نخاسا يبيع الجواري، وكان النضر «5» بن الحارث عوادا يضرب بالعود، وكان الحكم بن أبي العاص «6» خصاء يخصي الغنم. وكذلك حريث ابن عمرو والضحاك بن قيس الفهري «7» وابن سيرين «8» . وكان العاص «9» بن وائل السهمي بيطارا يعالج الخيل، وكان ابنه عمرو بن العاص جزارا. وكذلك أبو حنيفة صاحب الرأي والقياس وكان الزبير بن العوام خياطا، وكذلك عثمان بن طلحة الذي دفع له النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، وقيس «10» بن مخرمة وكان مالك بن دينار «11» وراقا، وكان المهلب «12» بن أبي صفرة بستانيا، وكان قتيبة بن مسلم «13» الذي فتح بلاد العجم إلى ما وراء النهر جمالا، وكان سفيان «14» بن عيينة معلما، وكذلك الضحاك «15» بن مزاحم، وعطاء «16» بن أبي رباح، والكميت الشاعر «17» ، والحجاج ابن يوسف الثقفي، وعبد الحميد «18» بن يحيى صاحب الرسائل، وأبو عبيد الله القاسم بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 سلام «1» والكسائي «2» هذه صناعة الأشراف. قال وأما أديان العرب فإن النصرانية كانت في ربيعة وغسان وبعض قضاعة واليهودية كانت في حمير وكنانة وكندة وبني الحارث بن كعب والمجوسية في تميم ومنهم الحاجب «3» بن زرارة الذي رهن قوسه عند كسرى، ووفى به حتى ضرب المثل به فقالوا: «أوفى من قوس حاجب» وفكت أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وأهديت إليه والزندقة كانت في قريش انتهى. وما ذكره من كون الزبير بن العوام كان خياطا، فيه نظر، والصواب أنه كان جزارا. ذكره ابن الجوزي وغيره كما تقدم. ولأن عمرو بن العاص يومئذ كان كبير مصر وعظيم أهلها، فأشبه الجزور بالنسبة إلى غيرها، من بهيمة الأنعام ونحرها موته، وتفرقة لحمها قسمة أمواله بعد موته. وكان من جملة تركته تسعة أرادب ذهبا. وأما الوضوء من أكل لحم الجزور فقد تقدم في باب الهمزة في لفظ الإبل ذكر من ذهب إليه من الأئمة وأنه المختار المنصور من جهة الدليل ففي صحيح مسلم وغيره عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم فقال: «إن شئت توضأ وإن شئت فلا تتوضأ» فقال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم توضأ من لحوم الإبل» «4» . وروى أحمد وأبو داود وغيرهما عن البراء بن عازب قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: «توضؤا منها» . وسئل عن لحوم الغنم فقال: «لا تتوضؤا منها» «5» . قال النووي رحمه الله هذان حديثان صحيحان ليس عنهما جواب شاف وقد اختاره جماعة من محققي أصحابنا المحدثين اهـ. وروى البخاري ومسلم وأبو داود النسائي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم ساجد إذ جاءه عقبة بن أبي معيط بسلى جزور فقذفه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرجع رأسه حتى جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها فأخذته من على ظهره، ودعت على من صنع ذلك. فقال «6» النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم عليك بالملأ من قريش اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف أو أبي بن خلف» . قال: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر فألقوا في بئر، غير أمية أو أبي فإنه كان ضخما فلما جروه تقطعت أوصاله قبل أن يلقى في البئر. الجساسة: بفتح الجيم وتشديد السين المهملة الأولى. قال ابن سيده: هي دابة في جزائر البحر تجس الأخبار وتأتي بها الدجال. وكذا قال أبو داود السجستاني: سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال. وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص انها دابة الأرض المذكورة في القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وهي بجزيرة ببحر القلزم. وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن فاطمة بنت قيس، قالت: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام خطيبا فقال: «إني لم أجمعكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن لحديث حدثنيه تميم الداري، حدثني أنه ركب سفينة بحرية في ثلاثين رجلا من لخم وجذام فألجأهم ريح عاصف إلى جزيرة، فإذا هم بدابة فقالوا لها: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة. قالوا: أخبرينا الخبر. قالت: إن أردتم الخبر فعليكم بهذا الدير، فإن فيه رجلا بالأشواق إليكم» «1» . قال: فأتيناه فذكر الحديث. وتميم الداري هذا هو تميم بن أوس بن خارجة بن سويد أبو رقبة أسلم سنة تسع من الهجرة وروي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر حديثا. روى مسلم منها حديث «2» «الدين النصيحة» ومن مناقبه العظيمة التي لا يشاركه فيها غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه قصة الجساسة. وروى عنه جماعة من الصحابة كابن عباس وأنس وأبي هريرة وجماعة من التابعين. وكان بالمدينة ثم انتقل إلى بيت المقدس، بعد قتل عثمان. وكان كثير التهجد وهو أول من قص على الناس، وأول من أسرج المسجد. قال الحافظ أبو نعيم. وكذلك رواه أبو داود الطيالسي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه. قال: أول من أسرج المسجد تميم الداري وتوفي سنة أربعين وأما تميم الداري المذكور في صحيح البخاري في قصة الجام فذاك نصراني من أهل دارين قاله مقاتل بن حيان وغيره. جعار: الضبع وفي المثل «أعيث من جعار» «3» . أي أفسد والعيث الفساد. قال الشاعر: فقلت لها عيثي جعار وجرري ... بلحم امرىء لم يشهد النوم ناظره الجعدة: الشاة وستأتي في كنى الذئب إن شاء الله تعالى في باب الذال المعجمة. الجعل: كصرد ورطب جمعه جعلان بكسر الجيم والعين ساكنة. والناس يسمونه أبا جعران لأنه يجمع الجعر اليابس ويدخره في بيته. وهو دويبة معروفة يسمى الزعقوق، تعض البهائم في فروجها فتهرب، وهو أكبر من الخنفساء شديد السواد، في بطنه لون حمرة، للذكر قرنان، يوجد كثيرا في مراح البقر والجواميس ومواضع الروث، ويتولد غالبا من أخثاء البقر، ومن شأنه جمع النجاسة وادخارها كما تقدم. ومن عجيب أمره أنه يموت من ريح الورد وريح الطيب، فإذا أعيد إلى الروث عاش. قال أبو الطيب يصفه في شعره: كما تضر رياح الورد بالجعل. وله جناحان لا يكادان يريان إلا إذا طار وله ستة أرجل وسنام مرتفع جدا، وهو يمشي القهقرى أي يمشي إلى خلف وهو مع هذه المشية يهتدي إلى بيته، ويسمى الكبرتل وإذا أراد الطيران تنفش فيظهر جناحاه فيطير. ومن عادته أن يحرس النيام فمن قام لقضاء حاجته تبعه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وذلك من شهوته للغائط لأنه قوته. روى الطبراني وابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات، والبيهقي في شعب الايمان، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إن ذنوب بني آدم لتقتل الجعل في حجره. وروى الحاكم عن أبي الأحوص عن ابن مسعود أنه قرأ وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «1» ثم قال: كاد الجعل يعذب في حجره بذنب بني آدم. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال مجاهد في قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ «2» إنهم دواب الأرض: الخنافس والجعلان، يمنعون القطر بخطاياهم. وروى أبو داود والترمذي وحسنه وهو آخر حديث في جامعه، قبل العلل، وابن حيان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ان الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء إما مؤمن تقي أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليسد عن رجال فخرهم بأقوام ما هم إلا فحم من فحم جهنم، أو ليكونن على الله أهون من الجعل الذي يدفع بأنفه النتن» «3» وفي رواية: أهون على الله من الجعل يدفع الخراء بأنفه» «4» وفي مسند أبي داود الطيالسي، وشعب الايمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تفخروا بآبائكم الذين ماتوا في الجاهلية فو الذي نفسي بيده لما يدحرج الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية» » . وروى البزار في مسنده عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم بنو آدم وآدم من تراب، لينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان» «6» . وكان عامر بن مسعود الجمحي الصحابي رضي الله تعالى عنه يلقب دحروجة الجعل لقصره وهو راوي حديث الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة وروى الرياشي عن الأصمعي قال: مر بنا أعرابي ينشد ابنا له فقلنا له: صفه لنا فقال: كأنه دنينير. فقلنا له لم نره فذهب فلم نلبث أن جاء بصغير أسود كأنه جعل قد حمله على عنقه، فقلت له: لو سألتنا عن هذا لأرشدناك. فإنه لم يزل عامة يومه بين أيدينا ثم أنشد الأصمعي: زينها الله في الفؤاد كما ... زين في عين والد ولده الحكم: يحرم أكله لاستقذاره. الأمثال: قالوا «7» : «ألصق من جعل» لأنه يتبع الإنسان إلى الغائط كما تقدم. قال الشاعر: إذا أتيت سليمى شب لي جعل ... إن الشقي الذي يغري به الجعل وهو يضرب للرجل يلصق به من يكرهه فلا يزال يهرب منه. الخواص: إذا أخذ الجعل غير مطبوخ، ولا مملوح وجفف وشرب، من غير إضافة إلى غيره، نفع من لسع العقرب نفعا عظيما. التعبير: الجعل في المنام عدو بغيض ثقيل، وربما دل على رجل مسافر، ينقل الأموال من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 بلد إلى بلد، وماله حرام أو فيه شبهة. والله أعلم. الجعول: ولد النعامة لغة يمانية. قاله ابن سيده. وسيأتي لفظ النعامة في باب النون. الجفرة: بفتح الجيم ما بلغت أربعة أشهر من أولاد المعز وفصلت عن أمها والذكر جفر سمي بذلك لأنه جفر جنباه أي عظما. والجمع أجفار وجفار. فائدة: قال ابن قتيبة، في كتابه أدب الكاتب، وكتاب الجفر جلد جفر كتب فيه الإمام جعفر بن محمد الصادق لآل البيت كل ما يحتاجون إلى علمه وكل ما يكون إلى يوم القيامة وإلى هذا الجفر أشار أبو العلاء المعري «1» بقوله: لقد عجبوا لأهل البيت لما ... أتاهم علمهم في مسك جفر ومرآة المنجم وهي صغرى ... أرته كل عامرة وقفر والمسك الجلد وقيل: إن ابن تومرت «2» المعروف بالمهدي ظفر بكتاب الجفر فرأى فيه ما يكون على يد عبد «3» المؤمن صاحب المغرب، وقصته وحليته واسمه. فأقام ابن تومرت مدة يتطلبه حتى وجده وصحبه، وكان يكرمه ويقدمه على سائر أصحابه وينشد «4» إذا أبصره: تكاملت فيك أوصاف خصصت بها ... فكلنا بك مسرور ومغتبط السن ضاحكة والكف مانحة ... والنفس واسعة والوجه منبسط ولم يصح أن ابن تومرت استخلف عبد المؤمن عند موته، وإنما راعى أصحابه إشارته في تقديمه وإكرامه فتم له الأمر. وعبد المؤمن هو الذي حمل الناس في المغرب حين تم له الأمر على مذهب مالك رحمه الله في الفروع وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه الله في الأصول. وكان عبد المؤمن ملكا حازما عاقلا سفاكا للدماء يقتل على الذنب الصغير. توفي في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ومدة ولايته ثلاث وثلاثون سنة وأشهر. وحكمها: الحل يفدى بها اليربوع إذا قتله المحرم. وخواصها: وتعبيرها كالمعز والله أعلم. جلكى: كمرطى نوع متولد بين الحية والسمك إذا ذبح لا يخرج منه دم وعظمه رخو يؤكل مع لحمه يسمن النساء إذا أكل وهو نعم العلاج لذلك والله أعلم. الجلالة: من الحيوان الذي يأكل الجلة والعذرة. والجلة البعر يوضع موضع العذرة يقال: جلت الدابة الجلة واجتلتها فهي جالة وجلالة إذا التقطتها. روى أبو داود وغيره من حديث نافع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 عن ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب الجلالة «1» » . وروى الحاكم، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحم الجلالة» ، وشرب لبنها وأن لا يحمل عليها ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» وروى البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن الشرب من في السقاء عن ركوب الجلالة وعن المجثمة» «2» وهي كل حيوان ينصب ويرمى ليقتل إلا أنها تكثر في الطيور والأرانب وأشباه ذلك مما يجثم بالأرض أي يلزمها ويلتصق بها وجثم الطائر جثوما وهو بمنزلة البروك للابل وسيأتي الكلام على الجلالة في فرع في الكلام على السخلة. الجلم: اليؤيؤ وهو نوع من الصقور وسيأتي ذكره فيها إن شاء الله تعالى وفي باب الياء أيضا. الجمل: الذكر من الإبل قال الفراء هو زوج الناقة. وكذا قال ابن مسعود لما سئل عن الجمل كأنه استجهل من سأله عما يعرفه الناس جميعا وجمع الجمل جمال وأجمال وجمائل وجمالات. قال الله تعالى: كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ «3» قال أكثر المفسرين: هي جمع جمال على تصحيح البناء، كرجال ورجالات وقال ابن عباس وابن جبير لجمالات قلوس السفن وهي حبالها العظام إذا جمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام وقال ابن عباس أيضا: الجمالات قطع النحاس العظام وإنما يسمى البعير جملا إذا أربع. فائدة: كان اسم الجمل الذي ركبته عائشة رضي الله تعالى عنها يوم وقعته عسكر اشتراه لها يعلى بن أمية بأربعمائة درهم، وقيل بمائتي درهم، وهو الصحيح. قال ابن الأثير: مر مالك بن الحارث المعروف بالأشتر النخعي، وكان من الأبطال المشهورة، وكان من أصحاب علي يوم الجمل، بعبد الله بن الزبير، وكان مع عائشة رضي الله تعالى عنها وكان من الأبطال فتماسكا فصار كل واحد منهما إذا قوي على صاحبه، جعله تحته وركب على صدره فعلا ذلك مرارا، وابن الزبير يصيح «4» بأعلى صوته: اقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي يريد بذلك الاشتر النخعي قال ابن الزبير: أمسيت يوم الجمل وفيّ سبع وثلاثون جراحة ما بين طعنة رمح وضربة سيف ورمية سهم قال: ولا ينهزم من الفريقين أحد وما أخذ أحد بخطام الجمل إلا قتل فأخذت الخطام فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: من أنت؟ قلت: ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الزبير. فقالت: واثكل أسماء ومر بي الأشتر فعرفته فاقتتلنا فو الله ما ضربته ضربة إلا ضربني بها ستا أو سبعا فجعلت أنادي: اقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي وضاع الخطام مني ثم أخذ مالك برجلي فرماني في الخندق، وقال: لولا قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبدا. وفي رواية فجاء أناس منا ومنهم، وتقاتلوا حتى تحاجزنا، وضاع مني الخطام وسمعت عليا رضي الله عنه يقول: اعقروا الجمل، فإنه إن عقر تفرقوا فضربه رجل فسقط. فما سمعت قط أشد من عجيج الجمل، ثم أمر علي بحمل الهودج من بين القتلى، فاحتمله محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر، فأدخل محمد بن أبي بكر يده في الهودج. فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: من هذا الذي يتعرض لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أحرقه الله بالنار! فقال: يا أختاه قولي بنار الدنيا فقالت: بنار الدنيا. وقتل طلحة رضي الله تعالى عنه في الوقعة، وكان من حزب عائشة. ورجع الزبير فقتله عمرو بن جرموز بوادي السباع وهو نائم، وعاد بسيفه إلى علي، فلما رآه قال: إنه لسيف طالما جلا الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحيط بعائشة ودخل علي البصرة فبايعه أهلها، وأطلق عثمان بن حنيف وجهز عائشة وأخرج أخاها محمدا معها وشيعها علي بنفسه أميالا وسرح بنيه معها يوما وقيل: إن عدة المقتولين من أصحاب الجمل ثمانية آلاف وقيل سبعة عشر ألفا. ومن أصحاب علي نحو ألف وقطع علي خطام الجمل يومئذ نحو ثمانين كفا معظمهم من بني ضبة كلما قطعت يد رجل أخذ الخطام آخر وفي ذلك يقول الضبي «1» : نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... ننازل الموت إذا الموت نزل والموت أحلى عندنا من العسل «2» وكانوا قد ألبسوه الأدراع إلى أن عقر. ونصب نبي، عند النحويين على المدح والتخصيص، وكانت وقعة الجمل يوم الخميس العاشر من جمادى الأولى أو الآخرة وقيل في خامس عشرة سنة ست وثلاثين من ارتفاع الشمس إلى قريب العصر. ويروى أن عائشة أعطت الذي بشرها بسلامة ابن الزبير لما لاقى الأشتر عشرة آلاف درهم. وذكر: ابن خلكان وغيره أن الأشتر دخل على عائشة رضي الله تعالى عنها، بعد وقعة الجمل، فقالت له: يا أشتر أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الجمل؟ فأنشدها: أعائش لولا أنني كنت طاويا ... ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا غداة ينادي والرماح تنوشه ... بآخر صوت اقتلوني ومالكا فنجاه مني أكله وشبابه ... وخلوة جوف لم يكن متماسكا ونقل أنه كان في رأس ابن الزبير رضي الله عنه ضربة عظيمة من الأشتر لو صب فيها قارورة دهن لاستقر. وروى الحاكم من حديث قيس بن أبي حازم وابن أبي شيبة، من حديث ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: «أيتكن صاحبة الجمل الأديب تسير، أو تخرج حتى ينبحها كلاب الحوأب؟» والحوأب نهر بقرب البصرة والأديب الأزب وهو الكثير شعر الوجه. قال ابن دحية والعجب من ابن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتاب الغوامض والعواصم له! وذكر أنه لا يوجد له أصل وهو أشهر من فلق الصبح. وروي أن عائشة لما خرجت، مرت بماء يقال له الحوأب فنبحتها الكلاب، فقالت: ردوني ردوني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب» «1» . وهذا الحديث مما أنكر على قيس بن أبي حازم. وأما قول الشاعر: شكا إلى جملي طول السرى ... يا جملي ليس إلى المشتكى صبرا جميلا فكلانا مبتلى فمعلوم أن الجمل لا ينطق، وإنما أراد التجوز ومقابلة الكلام بمثله كقوله «2» تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وكقول عمرو بن كلثوم «3» : ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكقول الآخر: ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج فمن رام تقويمي فإني مقوم ... ومن رام تعويجي فإني معوج يريد: أكافىء الجاهل والمعوج لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج. وأما قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «4» فأراد به الحيوان المعروف لأنه أعظم الحيوانات المتداولة للإنسان جثة فلا يلج إلا في باب واسع كأنه قال لا يدخلون الجنة أبدا قال الشاعر: لقد عظم البعير بغير لب ... فلم يستغن بالعظم البعير وقرأ ابن عباس ومجاهد الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وفسر بحبل السفينة الغليظ. وسم الخياط هو بخش الإبرة أي ثقبها وقد ألغز فيها الشاعر فقال: سعت ذات سم في قميصي فغادرت ... به أثرا والله يشفي من السم كست قيصرا ثوب الجمال وتبعا ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم وكنية الجمل أبو أيوب وأبو صفوان. وفي حديث أم زرع زوجي «لحم جمل غث على رأس جبل وعر» . وفي سنن أبي داود عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «أهدى عام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 الحديبية في هداياه جملا كان لأبي جهل بن هشام في أنفه برة من فضة يغيظ بذلك المشركين» «1» . قال الخطابي وفيه من الفقه أن الذكران في الهدي جائزة. وقد روي عن ابن عمر أنه كان يكره ذلك في الإبل ويرى أن تهدى الإناث منها. وفيه دليل أيضا على جواز استعمال اليسير من الفضة في لجم المراكب من الخيل وغيرها وقوله: يغيظ بذلك المشركين، معناه أن هذا الجمل كان معروفا لأبي جهل، فحازه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يغيظهم أن يروه في يده صلى الله عليه وسلم، وصاحبه قتيل سليب. وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا: يا رسول الله هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «قد تركتكم على بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، واياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد» «2» . والأنف الجمل المخزوم الأنف الذي لا يمتنع على قائده. وقيل: الأنف الذلول ويروى كالجمل الآنف بالمد وهو بمعناه: وفيه أن قيد انقاد وإن أنيخ على صخرة استناخ» والنواجذ بالذال المعجمة الأشهر أنها أقصى الأسنان أي تمسكوا بها كما يتمسك العاض بجميع أضراسه. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم «ضحك حتى بدت نواجده» «3» . والمراد ههنا الضواحك وهي التي تبدو عند الضحك لأنه صلى الله عليه وسلم كان ضحكه تبسما. وروى الإمام أحمد أبو داود النسائي عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «4» : «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك الجمل، وليضع يديه ثم ركبتيه» . قال الخطابي: حديث وائل بن حجر أثبت من هذا وهو ما رواه الأربعة عنه أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه. وروى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على جمل فأعيا، فنخسه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له وقال: اركب فركب فكان أمام القوم قال فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: كيف ترى بعيرك؟ فقلت: قد أصابته بركتك قال: أفتبيعنيه؟ فاستحييت ولم يكن لي ناضح غيره، فقلت: نعم. فما زال صلى الله عليه وسلم يزيدني ويقول: والله يغفر لك حتى بعته بأوقية من ذهب، على أن لي ركوبه حتى أبلغ المدينة. فلما بلغتها، قال صلى الله عليه وسلم لبلال: اعطه الثمن وزده. ثم رد صلى الله عليه وسلم علي الجمل» «5» . وفي كتاب ابن حيان من حديث حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: «استغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلة البعير، خمسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وعشرين مرة» «1» . وبهذا استدل على جواز بيع وشرط. والخلاف فيه مقرر في كتب الفقه، قال السهيلي: والحكمة في شرائه الجمل، ورده عليه وإعطائه الثمن بزيادة، أنه عليه الصلاة والسلام كان أخبره بأن الله تعالى أحيا أباه ورد عليه روحه. فاشترى الجمل منه. وهو مطيته كما اشترى الله أنفس الشهداء، بثمن هو الجنة. ونفس الإنسان مطيته ثم زادهم فقال «2» لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وزيادة ثم رد عليهم أنفسهم التي اشترى منهم فقال «3» وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ الآية. فأشار صلى الله عليه وسلم بالشراء ورد الثمن والزيادة ثم رد الجمل إليه إلى تأكيد الخبر الذي أخبر به عن الله عز وجل فتشاكل الفعل والخبر. وفي مسند الإمام أحمد والحاكم، عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «دخل حائطا لبعض الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم سنامه، وفي رواية فمسح ذفرييه، فسكن. ثم قال صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا لي أنك تجيعه وتدئبه» . «4» وروى الطبراني عن جابر رضي الله عنه، قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، حتى إذا كنا بحرة واقم، إذ أقبل جمل يرقل حتى دنا من النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يرغو على هامته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الجمل يستعديني على صاحبه، يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين، حتى إذا أعجزه وأعجفه وكبر سنه، أراد نحره، إذهب يا جابر إلى صاحبه فائت به. قلت: ما أعرفه. فقال: إنه سيدلك عليه، قال فخرج الجمل بين يدي معنقا حتى وقف بي في مجلس بني خطمة. فقلت أين رب هذا الجمل؟ فقالوا: هذا لفلان بن فلان، فجئته فقلت له: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معي حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن جملك يزعم أنك حرثت عليه زمانا حتى إذا أعجزته وأعجفته وكبر سنه أردت أن تنحره، فقال: والذي بعثك بالحق إن ذلك لكذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هكذا جزاء المملوك الصالح. ثم قال صلى الله عليه وسلم: تبيعه؟ قال: نعم فابتاعه منه ثم أرسله صلى الله عليه وسلم في الشجر حتى نصب سنامه» . فكان إذا اعتل على بعض المهاجرين والأنصار من نواضحهم شيء أعطاه إياه، فمكث كذلك زمانا. وحكى: القشيري في رسالته وابن الجوزي في مثير الغرام الساكن عن أحمد بن عطاء الروذباري، أنه قال: كنت راكبا جملا فغاصت رجلا الجمل في الرمل فقلت: جل الله، فقال الجمل: جل الله. وحكى: القشيري عنه أيضا في باب كرامات الأولياء، قال: كلمني رجل في طريق مكة، فقال: إني رأيت جمالا والمحامل عليها وقد مدت أعناقها في الليل، فقلت سبحان الله سبحان من يحمل عنها ما هي فيه، فالتفت إلي جمل، وقال: قل جل الله. فقلت: جل الله. غريبة: رأيت بخط بعض العلماء المتقدمين المبرزين، أنه كان بخراسان رجل عائن، فجلس يوما إلى جماعة فمر بهم قطار جمال فقال العائن: من أي جمل تريدون أن أطعمكم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 لحمه؟ فأشاروا إلى جمل من أحسنها، فنظر إليه العائن فوقع الجمل لساعته. وكان صاحب الجمل حكيما، فقال: من ربط جملي فليحله، وليقل: بسم الله عظيم الشان شديد البرهان ما شاء الله، كان حبس حابس من حجر يابس وشهاب قابس، اللهم إني رددت عين العائن عليه، وفي أحب الناس إليه وفي كبده وكليتيه لحم رقيق، وعظم دقيق فيما له يليق فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «1» . فوقف الجمل لساعته كأن لم يكن به بأس وندرت عين العائن. فائدة: العائن إذا اعترف أنه قتل غيره بالعين فلا قود عليه، ولا دية ولا كفارة، وإن كانت العين حقا، لأنه لا يفضي إلى القتل غالبا، ويندب للعائن أن يدعو له بالبركة فيقول اللهم بارك فيه ولا تضره وأن يقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وذكر القاضي حسين أن نبيا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام استكثر قومه ذات يوم فأمات الله تعالى منهم مائة ألف في ليلة واحدة، فلما أصبح شكا إلى الله من ذلك، فقال الله تعالى له: إنك لما استكثرتهم عنتهم فهلا حصنتهم! فقال: يا رب فكيف أحصنهم؟ قال: تقول حصنتكم بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا، ودفعت عنكم السوء بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال القاضي: وهكذا السنة في الرجل إذا رأى نفسه سليمة وأحواله معتدلة، يقول في نفسه ذلك. وكان القاضي يحصن تلامذته بذلك إذا استكثرهم. وذكر الإمام فخر الدين الرازي في بعض كتبه أن العين لا تؤثر ممن له نفس شريفة لأنها استعظام للشيء وما ذكره القاضي حسين يرد ذلك. وحكى القشيري في رسالته عن محمد بن سعيد البصري أنه قال: بينما أنا أمشي في بعض طرق البصرة إذ رأيت أعرابيا يسوق جملا، ثم التفت فإذا الجمل قد وقع ميتا، ووقع الرجل والقتب، فمشيت قليلا ثم التفت، فإذا الأعرابي يقول يا مسبب كل سبب يا مؤمل كل من طلب رد على ما ذهب، يحمل الرجل والقتب، فقام الجمل وعليه الرجل والقتب. واحياء الموتى كرامة فهو وإن كان عظيما إلا أنه جائز على القول الصحيح المختار، عند المحققين المعتمدين من أئمة الأصول، إذ ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، بشرط أن لا يدعي التحدي كالنبوة. وإحياء الموتى كرامة للأولياء كثير لا ينحصر وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر طرف من ذلك في أماكنه من هذا الكتاب. فائدة: قال شيخنا اليافعي رحمه الله: لا يلزم أن يكون من له كرامة من الأولياء أفضل ممن ليس له كرامة منهم، بل قد يكون بعض من ليس له كرامة منهم أفضل من بعض، من له كرامة، لأن الكرامة قد تكون لتقوية يقين صاحبها، وكمال المعرفة بالله. ولهذا قال قطب العلوم وتاج العارفين وقرة أعين الصديقين أبو القاسم الجنيد «2» قدس الله سره: قد مشى رجال باليقين على الماء، ومات بالعطش رجال أفضل منهم. وقال أيضا: اليقين ارتفاع الريب في مشهد الغيب وقال أيضا: اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير وقال: (يعني اليافعي) ، قلت: ولأن الكرامة قد تقع لكثير من المحبين والزهاد، ولا تقع لكثير من العارفين، والمعرفة أفضل من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 المحبة عند الأكثرين، وأفضل من الزهد عند الكل. اهـ قلت: وهذا هو المختار عند المحققين والله أعلم. وفي كتاب خبر البشر بخير البشر، للإمام العلامة محمد بن ظفر «1» أنه كان على باب من أبواب الاسكندرية، صورة جمل من نحاس، عليه راكب من نحاس، في هيئة العرب متزر مرتد، وعليه عمامة وفي رجليه نعلان، كل ذلك من نحاس. وكانوا إذا تظالموا يقول المظلوم للظالم: أعطني حقي قبل أن يخرج هذا فيأخذ بحقي منك شئت أو أبيت! ولم يزل الصنم على ذلك حتى افتتح عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أرض مصر، فغيبوا الصنم وفي ذلك إشارة إلى البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم. وحكمه وخواصه: تقدما في الإبل. الأمثال: قالوا: «الجمل من جوفه يجتر» «2» . يضرب لمن يأكل من كسبه، أو ينتفع بشيء يعود عليه منه ضرر. وقالوا «3» : أخلف من بول الجمل» . وهو من الخلف لا من الخلاف، لأنه يبول إلى خلف. وقالوا: «وقع القوم في سلى جمل» «4» . يضرب لمن بلغ في الشدة منتهى غاياتها. كما قالوا: «بلغ السكين العظم» «5» وذلك أن الجمل لا يكون له سلى فأرادوا أنهم وقعوا في أمر صعب. والسلى الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي إن نزعت عن وجه الفصيل ساعة ما يولد إلا قتلته. وهذا كقولهم: «أعز من الأبلق العقوق» «6» وقالوا: «الثمر في البئر وعلى ظهر الجمل» «7» . وأصله أن مناديا، كان في الجاهلية، يقف على أطم من آطام المدينة حين يدرك الثمر، ينادي بذلك. أي من سقى ماء البئر على ظهر الجمل بالسانية وجد عاقبة سقيه في ثمره. وهذا قريب من قولهم: «عند الصباح يحمد القوم السرى» «8» . وقريب من قول الشاعر: إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا ... ندمت على التفريط في زمن الزرع وقول الآخر: تسألني أم الوليد جملا ... يمشي رويدا ويكون أولا يضرب في طلب ما لا يكون، هذا إذا ذكر البيت كله. وأما قولهم: «يمشي رويدا ويكون أولا» «9» فيضرب للرجل يدرك حاجته في تؤدة ودعة. وأما قولهم «10» : «لا ناقتي فيها ولا جملي» ، فسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون في الكلام على الناقة. التعبير: الجمل في المنام حج لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والجمل الأعرابي يدل على الحج» لقوله «11» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ الآية. والجمل البختي رجل أعجمي. ومن رأى جملا يصول عليه فإنه يخاصم سفيها. ومن قاد جملا بخاطمه، فإنه يهدي رجلا ضالا ومن أكل رأس جمل، اغتاب رجلا رئيسا. ومن رأى جمالا عربا، ولي على قوم من الأعراب. ومن رأى جملين يقتتلان، فإنهما ملكان. ومن رأى أنه يجر جملا فإنه يقهر عدوا. وقال ارطاميدورس: رؤية الجمل تدل على مجاديف السفينة وعلى سرعة سيرها والجمال تدل على أقوام جهال، لا معرفة لهم ولا رأي. والغالب عليهم الذلة ومن رأى أنه سقط من ظهر جمل خشي عليه الفقر. ومن رأى أنه رمحه جمل مرض. والقطار من الجمال إذا كان يتلو بعضها بعضا أمطار لأن المطر يتلو بعضه بعضا، وهي تحمل الأثقال كما تحمل السحب الأمطار. وإذا ذبحت الجمال ولم يكن في ذلك المكان رجل فتاك فإنها دعوة لكرام. ومن رأى كأنه صار جملا فإنه يحمل أثقالا من تبعات الناس. والبخت سفر بعيد لراكبها بلا عناء. وربما دل الجمل على المسكن، وعلى السفينة، لأنه من سفن البر. وربما دل على الموت، لأنه يظعن بالأحباب إلى الأمكنة البعيدة. وربما دل على الزوجة ويدل الجمل على الحقد وأخذ الثأر ولو بعد حين. وربما دل على الرجل الصبور. وربما دل على البطء في الأحوال لمن يريد الاستعجال. وربما دل الجمل على الجمال، لأنه مشتق من لفظها. وللآية وتدل رؤيا الجمال على الجان، لأنها خلقت من أعين الجان. وتدل الجمال على الأرزاق والفوائد لامتهانها وملكها قال ابن المقري: ورؤية الجمال البخت تدل على الأجلاء من الناس وأرباب الأسفار كالتجار في البر والبحر. وربما دلت على الأعجام والغرباء. وربما تدل رؤيتها على الهموم والأنكاد والسبي وسلب المال. والله سبحانه وتعالى أعلم. جمل البحر : سمكة طولها ثلاثون ذراعا كذا قاله ابن سيده. وللعجاج «1» فيه رجز حسن، قاله الجاحظ في كتاب البيان والتبيين. وفي حديث أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه أنه أذن في أكل جمل البحر، وهو سمك شبيه بالجمل. جمل الماء: البجع وهو الحوصل وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة. جمل اليهود: الحرباء وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الحاء المهملة. الجمعليلة: بفتح الجيم والميم الضبع وسيأتي إن شاء الله في باب الضاد المعجمة. جميل وجميل: طائر جاء مصغرا والجمع جملان مثل كعيب وكعبان قال سيبويه: وهو البلبل. الجنبر: كمقعد فرخ الحبارى مثل به سيبويه وفسره السيرافي كذا قاله ابن سيده. الجندب: ضرب من الجراد، وقيل: ذكر الجراد مثلث الدال. والجمع جنادب. قال سيبويه: نونه زائدة. وقال الجاحظ: إنه يحفر بذراعيه ويغوص في الطين وفي الأرض إذا اشتد الحر وربما يطير في شدة الحر أيضا. وفي الحديث «2» «إن مثل ما بعثني الله تعالى به كمثل رجل أوقد نارا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 فجعل الجنادب يقعن فيها» الحديث رواه مسلم والترمذي كلاهما عن قتيبة بن سعيد، عن المغيرة ابن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الاعراج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث ابن مسعود «كان يصلي الظهر والجنادب ينفرن من الرمضاء» أي تثب من شدة حرارة الأرض. الجندع: كقنفذ جندب أسود له قرنان طويلان، وهو أثخن الجنادب ولا يؤكل قاله ابن سيده. وقال أبو حنيفة الجندع جندب صغير. الجن: أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، لها عقول وأفهام وقدرة على الأعمال الشاقة. وهم خلاف الإنس. الواحد جني ويقال: إنما سميت بذلك لأنها تتقى ولا ترى وجن الرجل جنونا، وأجنه الله فهو مجنون، ولا تقل مجن وقولهم في المجنون: ما أجنه شاذ لا يقاس عليه، لأنه لا يقال في المضروب: ما أضربه، ولا في المشكوك ما أشكه. روى الطبراني بإسناد حسن، عن أبي ثعلبة الخشني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «الجن ثلاثة أصناف، فصنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وصنف يحلون ويظعنون» . وكذلك رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الخاء المعجمة في الكلام على الخشاش، حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف كبني آدم عليهم الحساب والعقاب، وخلق الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم قال الله عز وجل إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا «3» وقال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «4» وصنف أجسادهم كأجساد بني آدم، وأرواحهم كأرواح الشياطين. وصنف في ظل الله عز وجل يوم لا ظل إلا ظله» . قال ابن حبان رواه يزيد بن سفيان الرهاوي، عن أبي المنيب عن يحيى بن كثير، عن أبي سلمة عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ويزيد بن سفيان ضعفه يحيى بن معين والامام أحمد بن حنبل وابن المديني. الحكم: أجمع المسلمون قاطبة على أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجن كما هو مبعوث إلى الإنس قال الله تعالى وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ «5» ومن بلغ، والجن بلغهم القرآن. وقال تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ «6» الآية. وقال «7» تبارك وتعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً وقال عز وجل وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «8» وقال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «9» قال الجوهري: الناس قد تكون من الإنس والجن، وقال تعالى خطابا للفريقين: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 تُكَذِّبانِ* «1» والثقلان: الإنس والجن، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض وقيل: لأنهما مثقلان بالذنوب. وقال «2» تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ولذلك قيل: إن من الجن مقربين وأبرارا، كما أن من الإنس كذلك. وبهذه الآية استدل الجمهور، على أن الجن المؤمنين، يدخلون الجنة ويثابون، كما يثاب الإنس. وخالف أبو حنيفة والليث في ذلك، فقالا ثواب المؤمنين منهم أن يجاروا من النار. وخالفهما الأكثرون حتى أبو يوسف ومحمد وليس لأبي حنيفة والليث حجة سوى قوله «3» تعالى: وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وقوله «4» تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً قالا: فلم يذكر في الآيتين ثوابا سوى النجاة من العذاب. والجواب من وجهين أحدهما أن الثواب مسكوت عنه، والثاني أن ذلك من قول الجن ويجوز أن يكونوا لم يطلعوا إلا على ذلك، وخفي عليهم ما أعد الله لهم من الثواب وقيل: إنهم إذا دخلوا الجنة لا يكونون مع الإنس، بل يكونون في ربضها. وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «الخلق كلهم أربعة أصناف: فخلق في الجنة كلهم وهم الملائكة، وخلق كلهم في النار وهم الشياطين وخلق في الجنة والنار وهم الجن، والإنس لهم الثواب وعليهم العقاب» . وهو موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه شيء وهو أن الملائكة لا يثابون بنعيم الجنة. ومن المستغربات، ما رواه أحمد بن مروان المالكي الدينوري في أوائل الجزء التاسع من المجالسة عن مجاهد، أنه سئل عن الجن المؤمنين أيدخلون الجنة؟ فقال: يدخلونها ولكن لا يأكلون فيها ولا يشربون بل يلهمون التسبيح والتقديس، فيجدون فيهما ما يجد أهل الجنة من لذيذ الطعام والشراب، ويدل لعموم بعثته صلى الله عليه وسلم من السنة أحاديث منها ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «5» : أعطيت جوامع الكلم، وأرسلت إلى الناس كافة» وفيه من حديث جابر رضي الله عنه «وبعثت إلى كل أحمر وأسود» «6» وفي كتاب «خير البشر بخير البشر» للامام العلامة محمد بن ظفر، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وهو بمكة: «من أحب منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فلينطلق معي فانطلقت معه، حتى إذا كنا بأعلى مكة خط إلي خطا، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فغشيه اسودة كثيرة وحالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته ثم انطلقوا يتقطعون كما يتقطع السحاب ذاهبين حتى بقي منهم رهط، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل الرهط؟ قلت: هم أولئك يا رسول الله. قال: فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياه ونهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث» «7» وفي اسناده ضعف، وفيه أيضا عن بلال بن الحارث رضي الله عنه، قال: نزلنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره بالعرج، فتوجهت نحوه فلما قاربته سمعت لغطا وخصومة رجال، لم أسمع لغة أحد من ألسنتهم، فوقفت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 فقال: «اختصم إلي الجن المسلمون والجن المشركون، وسألوني أن أسكنهم فأسكنت المسلمين الجلس، وأسكنت المشركين الغور» . وكل مرتفع من الأرض جلس ونجد وكل منخفض غور. وفيه أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه، عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وخبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم قالوا حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فالتقى الذين أخذوا نحو تهامة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، «وهو صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن أنصتوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، ورجعوا إلى قومهم فقالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً «1» الآيتين «2» . وهذا الذي ذكره ابن عباس رضي الله عنهما أول ما كان من أمر الجن مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم إذ ذاك، إنما أوحيي إليه بما كان منهم. وفيه أيضا، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه، في الأودية والشعاب، فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا: يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم! فقال «3» صلى الله عليه وسلم: «أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال: فانطلق بنا فأرانا آثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه، تأخذونه فيقع في أيديكم أوفر ما كان لحما، وكل بعر علف لدوابكم» . ثم قال «4» صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» . وروى الطبراني بإسناد حسن، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الصبح، في مسجد المدينة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة» فسكت القوم ولم يتكلم منهم أحد. قال ذلك ثلاثا، فمر بي يمشي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى تباعدت عنا جبال المدينة كلها، وأفضينا إلى أرض براز وإذا رجال طوال كأنهم الرماح متدثري ثيابهم من بين أرجلهم فلما رأيتهم، غشيتني رعدة شديدة، حتى ما تمسكني رجلاي، من الفرق، فلما دنونا منهم خط لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بابهام رجله في الأرض خطا وقال لي «اقعد في وسطه» فلما جلست ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينهم فتلا قرآنا رفيعا، حتى طلع الفجر، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم حتى مر بي فقال: «الحق بي» فجعلت أمشي معه فمضينا غير بعيد، فقال صلى الله عليه وسلم لي: «التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد؟» فالتفت فقلت: يا رسول الله سوادا كثيرا فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى الأرض فنظر عظما وروثة «فرمى بهما إليهم» ثم قال «5» صلى الله عليه وسلم: «هؤلاء وفد جن نصيبين سألوني الزاد فجعلت لهم كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 عظم وروثة» . قال الزبير رضي الله عنه: فلا يحل لأحد أن يستنجي بعظم ولا روثة. وروي أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: استتبعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: «إن نفرا من الجن خمسة عشر، بنو اخوة وبنو عم، يأتون الليلة فأقرأ عليهم القرآن» . فانطلقت معه إلى المكان الذي أراد فجعل لي خطا ثم أجلسني فيه، وقال: «لا تخرج من هذا» فبت فيه حتى أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع السحر، وفي يده عظم حائل وروثة وخمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتيت الخلاء فلا تستنج بشيء من هذا» قال: فلما أصبحت قلت: لأعلمن حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت فرأيت موضع سبعين بعيرا. وروى الشافعي والبيهقي أن رجلا من الأنصار رضي الله عنهم، خرج يصلي العشاء فسبته الجن وفقد أعواما، وتزوجت زوجته. ثم أتى المدينة فسأله عمر رضي الله عنه، عن ذلك، فقال: اختطفتني الجن، فلبثت فيهم زمانا طويلا، فغزاهم جن مؤمنون وقاتلوهم، فأظفرهم الله عليهم، وسبوا منهم سبايا وسبوني معهم، فقالوا: تراك رجلا مسلما، ولا يحل لنا سباؤك، فخيروني بين المقام عندهم والقفول إلى أهلي؟ فاخترت أهلي فأتوا بي إلى المدينة فقال له عمر رضي الله عنه: ما كان طعامعهم؟ قال: الفول وكل ما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فما كان شرابهم؟ قال: الجدف. وهو الرغوة، لأنها تجدف عن الماء، وقيل: نبات يقطع ويؤكل، وقيل كل إناء كشف عنه غطاؤه. وأما الاجماع فنقل ابن عطية وغيره الاتفاق على أن الجن متعبدون بهذه الشريعة على الخصوص، وأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين، فإن قيل: لو كانت الأحكام بجملتها لازمة لهم لكانوا يترددون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يتعلموها، ولم ينقل أنهم أتوه إلا مرتين بمكة، وقد تجدد بعد ذلك أكثر الشريعة قلنا: لا يلزم من عدم النقل عدم اجتماعهم به، وحضوره مجلسه وسماعهم كلامه، من غير أن يراهم المؤمنون، ويكون هو صلى الله عليه وسلم يراهم، ولا يراهم أصحابه، فإنه تعالى يقول «1» عن رأس الجن: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ فقد يراهم صلى الله عليه وسلم بقوة يعطيها الله له زائدة على قوة أصحابه، وقد يراهم بعض الصحابة في بعض الأحوال كما رأى أبو هريرة رضي الله عنه الشيطان الذي أتاه ليسرق من زكاة رمضان. كما رواه البخاري فإن قيل: ما تقول فيما حكي عن بعض المعتزلة انه ينكر وجود الجن؟ قلنا عجيب أن يثبت ذلك عمن يصدق بالقرآن، وهو ناطق بوجودهم. وروى البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «ان عفريتا من الجن تفلت عليّ البارحة، يريد أن يقطع عليّ صلاتي فذعته، بالذال المعجمة والعين المهملة، أي خنقته، وأردت أن أربطه في سارية من سواري المسجد، فذكرت قول أخي سليمان، وقال «3» صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا وقال: لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» . وروى مسلم عن سالم بن عبد الله بن أبي الجعد وليس له في الكتب الستة سواه عن ابن مسعود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: واياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» «1» . روي فأسلم بفتح الميم وضمها وصحح الخطابي الرفع ورجح القاضي عياض والنووي الفتح وهو المختار. وأجمعت الأمة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان، وإنما المراد تحذير غيره من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه، فأعلمنا أنه معنا لنحترز منه، بحسب الإمكان. وأما عصمته صلى الله عليه وسلم من الكبائر، فمجتمع عليها وكذلك سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وفي الصغائر خلاف ليس هذا موضع ذكره. والصحيح أنهم صلى الله عليهم وسلم معصومون من الكبائر والصغائر. وكذلك الملائكة عليهم السلام كما قاله القاضي وغيره من المحققين. فإذا علم هذا فاعلم أن الأحاديث في وجود الجن والشياطين لا تحصى وكذلك أشعار العرب وأخبارها، فالنزاع في ذلك مكابرة فيما هو معلوم بالتواتر ثم إنه أمر لا يحيله العقل، ولا يكذبه الحس ولذلك جرت التكاليف عليهم. ومما اشتهر أن سعد بن عبادة رضي الله عنه لما لم يبايعه الناس وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه، سار إلى الشأم فنزل حوران وأقام بها إلى أن مات في سنة خمس عشرة ولم يختلف أنه وجد ميتا في مغتسله بحوران وأنهم لم يشعروا بموته بالمدينة حتى سمعوا قائلا يقول في بئر: قد قتلنا سيد الخز ... رج سعد بن عبادة فرميناه بسهمي ... ن ولم نخط فؤاده فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه. ووقع في صحيح مسلم أن سعدا شهد بدرا. وقال الحافظ فتح الدين بن سيد الناس: والصحيح أنه لم يشهد بدرا. كذا رواه الطبراني من حديث محمد بن سيرين وقتادة وكلاهما أدرك سعد أو روى عن حجاج بن علاط السلمي وهو والد نصر بن حجاج الذي قيل «2» فيه: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج انه قدم مكة في ركب فأجنهم الليل بواد مخيف موحش، فقال له أهل الركب: قم فخذ لنفسك أمانا ولأصحابك فجعل يطوف بالركب ويقول: أعيذ نفسي وأعيذ صحبي ... من كل جني بهذا النقب حتى أعود سالما وركبي فسمع قائلا يقول: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «3» الآية فلما قدم مكة أخبر كفار قريش بما سمع، فقالوا: صبأت يا أبا كلاب. إن هذا الذي قلته يزعم محمد أنه أنزل عليه، فقال: والله لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي. ثم أسلم وحسن إسلامه، وهاجر إلى المدينة، وابتنى بها مسجدا يعرف به. وعند ابن سعد والطبراني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 والحافظ أبي موسى وغيرهم عمرو بن جابر الجني في الصحابة فرووا بأسانيدهم عن صفوان بن المعطل السلمي أنه قال خرجنا حجاجا فلما كنا بالعرج، إذا نحن بحية تضطرب فلم نلبث أن ماتت، فأخرج لها رجل منا خرقة فلفها فيها ثم حفر لها في الأرض. ثم قدمنا مكة فأتينا المسجد الحرام فوقف علينا رجل فقال: أيكم صاحب عمرو بن جابر؟ قلنا: ما نعرفه. قال: أيكم صاحب الجان «1» ؟ قالوا: هذا. قال: جزاك الله عنا خيرا. أما انه كان آخر التسعة من الجن الذين سمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك في ترجمة صفوان بن المعطل وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم إنها ماتت فدفنها فأتى من الليل فسلم عليه وشكر، وأخبر أن تلك الحية كان رجلا صالحا من جن نصيبين، اسمه زوبعة، قال: وبلغنا من فضائل عمر بن عبد العزيز الأموي أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه أنه كان يمشي بأرض فلاة فإذا بحية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها فإذا قائل يقول: يا سرق اشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: ستموت بأرض فلاة فيكفنك ويدفنك رجل صالح فقال: ومن أنت يرحمك الله؟ فقال: من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق منهم، إلا أنا وسرق هذا الذي قد مات. وفي كتاب خير البشر بخير البشر، عن عبيد المكتب، عن ابراهيم، قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، وأنا معهم يريدون الحج حتى إذا كانوا ببعض الطريق، رأوا حية بيضاء تتثنى على الطريق، يفوح منها ريح المسك قال: فقلت لأصحابي امضوا فلست ببارح حتى أنظر ماذا يصير إليه أمرها فما لبثت أن ماتت، فظننت بها الخير لمكان الرائحة الطيبة فكفنتها في خرقة ثم نحيتها عن الطريق ودفنتها. وأدركت أصحابي في المتعشى قال فو الله انا لقعود، إذا أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقال واحدة منهن: أيكم دفن عمرا؟ فقلنا من عمر؟ فقالت: أيكم دفن الحية؟ قال: فقلت: أنا. قالت أما والله لقد دفنت صوّاما قوّاما يؤمن بما أنزل الله عز وجل، ولقد آمن بنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وسمع صفته في السماء قبل أن يبعث بأربعمائة سنة. قال: فحمدت الله تعالى ثم قضينا حجنا ثم مررت بعمر رضي الله تعالى عنه فأخبرته خبر الحية والمرأة، فقال: صدقت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه هذا. وفيه أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عند أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، إذ جاءه رجل فقال: ألا أحدثك بعجيب يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى قال: بينا أنا بفلاة من الأرض لقيت عصابتين قد التفتا ثم افترقتا، قال: فجئت معتركهما فإذا من الحيات شيء ما رأيت مثله قط، وإذا ريح المسك أجده من حية منها صفراء دقيقة، فظننت أن تلك الرائحة لخير فيها فأخذتها، ولففتها في عمامتي ثم دفنتها. فبينما أنا أمشي إذ أنا بمناد ينادي هداك الله ان هذين حيان من الجن كان بينهما قتال فاستشهد الحية التي دفنتها وهو من الذين استعموا الوحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيه أيضا أن فاطمة بنت النعمان النجارية قالت: قد كان لي تابع من الجن فكان إذا جاء اقتحم البيت الذي أنا فيه اقتحاما، فجاءني يوما فوقف على الجدار ولم يصنع كما كان يصنع، فقلت له، ما بالك لم تصنع ما كنت تصنع صنيعك قبل؟ فقال: انه قد بعث اليوم نبي يحرم الزنا. وروى البيهقي في دلائله عن الحسن أن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قاتلت مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 رسول الله صلى الله عليه وسلم الجن والإنس فسئل عن قتال الجن، فقال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر أستقي منها، فرأيت الشيطان في صورته فصارعني فصرعته، ثم جعلت أدمي أنفه بفهر كان معي أو حجر. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه إن عمارا لقي الشيطان عند البئر فقاتله، فلما رجعت سألني فأخبرته الأمر فكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: إن عمار بن ياسر أجاره الله من الشيطان على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أشار إليه البخاري، فيما رواه، عن ابراهيم النخعي قال: «ذهب علقمة إلى الشأم، فلما دخل المسجد، قال: اللهم يسر لي جليسا صالحا فجلس إلى أبي الدرداء فقال أبو الدرداء: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة. قال: أو ليس فيكم أو منكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة، قلت: بلى. قال: أو ليس فيكم أو منكم الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ يعني عمارا، قلت: بلى. قال: أو ليس فيكم أو منكم صاحب السواك والوساد؟ قلت: بلى. قال: كيف كان عبد الله يقرأ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى «1» قلت: والذكر والأنثى» وذكر الحديث «2» . وروى أبو بكر في رباعياته، والقاضي أبو يعلى عن عبد الله بن حسين المصيصي، قال: دخلت طرسوس، فقيل لي: ههنا امرأة يقال لها نهوس رأت الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتها فإذا هي امرأة مستلقية على قفاها فقلت: أرأيت أحدا من الجن الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: نعم حدثني سمحج وسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله قال: قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل خلق السموات والأرض؟ قال على حوت من نور يتلجلج في النور قالت: قال: تعني سمحج. وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من مريض يقرأ عنده سورة يس إلا مات ريان ودخل قبره ريان وحشر يوم القيام ريان» . وأغرب من هذا ما في أسد الغابة تبعا لأبي موسى باسنادهما عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا من جبال مكة، إذ أقبل شيخ يتوكأ على عكازه فقال النبي صلى الله عليه وسلم مشية جني ونغمته، قال: أجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أي الجن؟ قال أنا هامة بن الهيم أو ابن هيم بن لاقيس بن ابليس. فقال: لا أرى بينك وبينه إلا أبوين قال: أجل. قال كم أتى عليك؟ قال أكلت الدنيا إلا أقلها، كنت ليالي قتل قابيل هابيل غلاما ابن أعوام، فكنت أتشوف على الآكام وأورش بين الأنام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس العمل؟ فقال يا رسول الله دعني من العتب فإني ممن آمن بنوح وتبت على يديه وإني عاتبته في دعوته فبكى وأبكاني وقال: إني والله لمن النادمين وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ولقيت هودا وآمنت به، ولقيت ابراهيم وكنت معه في النار إذ ألقي فيها، وكنت مع يوسف إذ ألقي في الجب، فسبقته إلى قعره ولقيت شعيبا وموسى، ولقيت عيسى بن مريم، فقال لي: إن لقيت محمدا فاقرئه مني السلام وقد بلغت رسالته، وآمنت بك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على عيسى وعليك السلام، ما حاجتك يا هامة قال: إن موسى علمني التوراة، وعيسى علمني الإنجيل، فعلمني القرآن. فعلمه» . وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم علمه عشر سور من القرآن وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينعه إلينا فلا نراه، والله أعلم، إلا حيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وفيه أيضا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه قال ذات يوم لابن عباس: حدثني بحديث تعجبني به، قال: حدثني أبو خزيم بن فاتك الأسدي أنه خرج يوما في الجاهلية في طلب إبل له قد ضلت فأصابها في ابرق العزاف. وسمي بذلك لأنه يسمع فيه عزيف الجن. قال: فعقلتها وتوسدت ذراع بكر منها ثم قلت: أعوذ بعظيم هذا المكان. وفي رواية بكبير هذا الوادي وإذا بهاتف يهتف بي ويقول: ويحك عذ بالله ذي الجلال ... منزل الحرام والحلال ووحد الله ولا تبال ... ما هول ذا الجني من الأهوال فقلت: يا أيها الداعي فما تخيل ... أرشد عندك أم تضليل فقال: هذا رسول الله ذو الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات وسور بعد مفصلات ... يدعو إلى الجنة والنجاة يأمر بالصوم والصلاة ... ويزجر الناس عند الهنات قال: فقلت: من أنت أيها الهاتف يرحمك الله؟ قال: أنا مالك بن مالك بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جن أهل نجد. قال: فقلت: لو كان لي من يكفيني إبلي هذه لأتيته حتى أؤمن به فقال: إن أردت الأسلام فأنا أكفيكها حتى أردها إلى أهلك سالمة إن شاء الله تعالى. قال: فامتطيت راحلتي وقصدت المدينة فقدمتها في يوم جمعة فأتيت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فأنخت راحلتي بباب المسجد وقلت ألبث حتى يفرغ من خطبته، فإذا أبو ذر قد خرج فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسلني إليك وهو يقول لك: مرحبا بك قد بلغني إسلامك فادخل فصل مع الناس. قال: فتطهرت ودخلت فصليت. ثم دعاني. قال: ما فعل الشيخ الذي ضمن أن يرد إبلك إلى أهلك؟. أما إنه قد ردها إلى أهلك سالمة؟ فقلت: جزاه الله خيرا ورحمه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل رحمه الله، فأسلم وحسن إسلامه. وفي مسند الدارمي عن الشعبي، قال: قال: عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه لقي رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجلا من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني أراك ضئيلا شخيتا، كأن ذراعيك ذراعا كلب فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم كذلك؟ قال: «لا والله إنني من بينهم لضليع ولكن علودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئا ينفعك. قال: نعم فعاوده فصرعه. فقال له: أتقرأ الله لا إله إلا هو الحي القيوم؟ قال: نعم. قال: فإنك لا تقرؤها في بيت إلا خرج منه الشيطان له حجج كحجج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح» «1» قال الدارمي: الضئيل الدقيق. والشخيت المهزول، والضليع جيد الأضلاع. والحجج الريح. وقال أبو عبيدة الحجج الضراط وسيأتي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 باب الغين المعجمة في لفظ الغول حديث أبي هريرة وحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنهما في ذلك إن شاء الله تعالى. مسألة: يصح انعقاد الجمعة بأربعين مكلفا سواء كانوا من الجن أو من الإنس أو منهما قاله القمولي. لكن نقل الشيخ أبو الحسن محمد بن الحسين الآبري في مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه التي ألفها عن الربيع أنه قال: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: من زعم، من أهل العدالة، أنه يرى الجن، ردت شهادته وعزر، لمخالفته لقوله «1» تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إلا أن يكون الزاعم نبيا ونظير هذا قول الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في الفتاوى: من منع التفضيل بين الأنبياء يعزر لمخالفته القرآن. ويحمل قول الشافعي رحمه الله على من ادعى رؤيتهم على ما خلقوا عليه ويحمل كلام القمولي على ما إذا تصوروا في صورة بني آدم، كما تقدم قريبا. واعلم أن المشهور أن جميع الجن من ذرية ابليس، وبذلك يستدل على أنه ليس من الملائكة لأن الملائكة لا يتناسلون، لأنهم ليس فيهم إناث. وقيل: الجن جنس، وابليس واحد منهم ولا شك أن الجن ذريته، بنص القرآن، ومن كفر من الجن يقال له شيطان. وفي الحديث: «لما أراد الله أن يخلق لأبليس نسلا وزوجة ألقى عليه الغضب، فطارت منه شظية من نار فخلق منها امرأته» . ونقل ابن خلكان في تاريخه في ترجمة الشعبي واسمه عامر أنه قال: إني لقاعد يوما إذ أقبل حمال ومعه دن، فوضعه ثم جاءني فقال: أنت الشعبي؟ فقلت: نعم. قال: أخبرني هل لأبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك العرس ما شهدته! قال: ثم ذكرت قوله «2» تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي فقلت: إنه لا تكون ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم. فأخذ دنه وانطلق، قال: فرأيت أنه مجتاز بي وروى أن الله تعالى قال لأبليس: لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها، فليس من ولد آدم أحد إلا وله شيطان قد قرن به، وقيل: إن الشياطين فيهم الذكور والإناث، فيتوالدون من ذلك، وأما ابليس فإن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، وذكر مجاهد أن من ذرية إبليس لا قيس وولهان، وهو صاحب الطهارة والصلاة والهفاف. وهو صاحب الصحارى ومرة وبه يكنى وزلنبور، وهو صاحب الأسواق يزين اللغو والحلف الكاذب، ومدح السلعة، وبثر وهو صاحب المصائب، يزين خمش الوجوه ولطم الخدود ودوشق الجيوب، والأبيض وهو الذي يوسوس للأنبياء عليهم السلام، والأعور وهو صاحب الزنا ينفخ في احليل الرجل وعجز المرأة، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله تعالى دخل معه ووسوس له فألقى الشر بينه وبين أهله، فإن أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه، فإذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله تعالى ورأى شيئا يكرهه وخاصم أهله فليقل داسم داسم أعوذ بالله منه، ومطوس وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس، ولا يكون لها أصل ولا حقيقة، والاقنص وأمهم طرطبة، وقال النقاش: بل هي حاضنتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ويقال: إنمه باض ثلاثين بيضة عشر في المغرب وعشر في المشرق وعشر في وسط الأرض وانه خرج من كل بيضة جنس من الشياطين كالغيلان والعقارب والقطارب والجان وأسماء أخرى مختلفة. ثم كلهم عدو لبني آدم لقوله «1» تعالى أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وهم لكم عدوّ إلا من آمن منهم قال النووي رحمه الله: ابليس كنيته أبو مرة واختلف العلماء في أنه هل هو من الملائكة من طائفة يقال لهم الجن؟ أم ليس من الملائكة وفي اسمه هل هو اسم أعجمي أم عربي؟ قال ابن عباس وابن مسعود وابن المسيب وقتادة وابن جرير والزجاج وابن الأنباري: كان ابليس من الملائكة من طائفة يقال لهم الجن وكان اسمه بالعبرانية عزازيل وبالعربية الحارث وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة سماء الدنيا وسلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفا عظيما وعظمة فذاك الذي دعاه إلى الكبر فعصى وكفر فمسخه الله شيطانا رجيما ملعونا نعوذ بالله من خذلانه ومقته ونسأله العافية والسلامة في الدين والدنيا والآخرة. ولذلك قيل: إذا كانت خطيئة الإنسان في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه. قالوا: وقوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِ أي من طائفة من الملائكة، يقال لهم: الجن، وقال سعيد بن جبير والحسن البصري: لم يكن ابليس من الملائكة طرفة عين، وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس. وقال عبد الرحمن بن زيد وشهر ابن حوشب ما كان من الملائكة قط. والاستثناء منقطع زاد شهر بن حوشب، وإنما كان من الجن الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعضهم وذهب به إلى السماء. وقال أكثر أهل اللغة والتفسير: إنما سمي ابليس لأنه أبلس من رحمة الله. والصحيح كما قاله الإمام النووي وغيره من الأئمة الأعلام أنه من الملائكة وأن اسمه أعجمي وأن الاستثناء متصل لأنه لم ينقل أن غيرهم أمر بالسجود والأصل في الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه، وقال القاضي عياض: الأكثر على أنه أبو الجن كما أن آدم أبو البشر. والاستثناء من غير الجنس شائع في كلام العرب. قال الله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ «2» والصحيح المختار ما سبق عن النووي ومن وافقه وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال: الجن مؤمنون والشياطين كفار وأصلهم واحد. وسئل وهب بن منبه عن الجن ما هم وهل يأكلون ويشربون ويتناكحون؟ فقال: هم أجناس فأما الصميم الخالص من الجن فإنهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون في الدنيا ولا يتوالدون. ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتناكحون وهم السعالي والغيلان، والقطارب وأشباه ذلك وستأتي في أبوابها إن شاء الله. فائدة: قال القرافي: اتفق الناس على تكفير ابليس بقصته مع آدم عليه الصلاة والسلام، وليس مدرك الكفر فيها الامتناع من السجود وإلا لكان كل من أمر بالسجود فامتنع منه كافرا، وليس كذلك ولا كان كفره لكونه حسد آدم على منزلته من الله تعالى، وإلا لكان كل حاسد كافرا، وليس كذلك، ولا كان كفره لعصيانه وفسوقه وإلا لكان كل عاص وفاسق كافرا. وقد أشكل ذلك على جماعة من متأخري الفقهاء فضلا عن غيرهم، وينبغي أن يعلم أنه إنما كفر لنسبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الحق جل جلاله إلى الجور، والتصرف الذي ليس بمرضي، وظهر ذلك فحوى قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ* «1» ومراده على ما قاله الأئمة المحققون، من المفسرين وغيرهم، أن الزام العظيم الجليل بالسجود للحقير من الجور والظلم فهذا وجه كفره لعنه الله. وقد أجمع المسلمون قاطبة على أن من نسب ذلك للحق تعالى كان كافرا. واختلف هل كان قبل ابليس كافر أو لا فقيل: لا وإنه أول من كفر. وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن الذين كانوا في الأرض إنتهى وقد اختلف أيضا في كفر ابليس، هل كان جهلا أو عنادا؟ على قولين لأهل السنة والجماعة ولا خلاف، أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره فمن قال: انه كفر جهلا، قال: انه سلب العلم الذي كان عنده عند كفره ومن قال: إنه ك فر ع نادا قال: إنه كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر مع بقاء العلم مستبعد إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذلان الله تعالى لمن يشاء وروى البيهقي في شرح الأسماء الحسنى في آخر باب قوله تعالى: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «2» عن عمر بن ذر قال: سمعت عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يقول لو أراد الله أن لا يعصى لم يخلق ابليس. وقد بين ذلك في آية من كتابه وفصلها، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وهي قوله «3» تعالى: ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ ثم روى من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: يا أبا بكر لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق ابليس إنتهى وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد أينام ابليس؟ فقال: لو نام لوجدنا راحة فلا خلاص للمؤمن منه إلا بتقوى الله تعالى. وقال في الإحياء قبيل بيان دواء الصبر: من غفل عن ذكر الله تعالى، ولو في لحظة فليس له في تلك اللحظة قرين إلا الشيطان. قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «4» وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى يبغض الشاب الفارغ» لأن الشاب إذا لم يشغل ظاهره بمباح يستعين به على دينه عشش الشيطان في قلبه وباض وفرخ، ثم تزدوج أفراخه أيضا ويبيض ويفرخ مرة أخرى وهكذا يتوالد نسل الشيطان توالدا أسرع من توالد سائر الحيوانات لأن طبعه من النار والنار، إذا وجدت الحلفاء اليابسة، كثر توالدها فلا تزال تتوالد النار من النار ولا تنقطع البتة، فالشهوة في نفس الشاب للشيطان كالحلفاء اليابسة للنار ولذلك قال الحسين الحلاج: هي نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل. فائدة: ذكر بعض العلماء العاملين أن الله تعالى افترض على خلقه فريضتين في آية واحدة، والخلق عنها غافلون فقيل له: وما هي؟ فقال: قال الجليل جل جلاله إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا «5» فهذا أمر منه سبحانه لنا بأن نتخذه عدوا فقيل له: كيف نتخذه عدوا ونتخلص منه؟ فقال: اعلم ان الله تعالى جعل لكل مؤمن سبعة حصون. فالحصن الأول من ذهب، وهو معرفة الله تعالى، وحوله حصن من فضة وهو الايمان به تعالى وحوله حصن من حديد وهو التوكل عليه جل وعلا، وحوله حصن من حجارة، وهو الشكر والرضا عنه عز شأنه، وحوله حصن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 فخار وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بهما، وحوله حصن من زمرذ، وهو الصدق والاخلاص له تعالى، وحوله حصن من لؤلؤ رطب، وهو أدب النفس. فالمؤمن من داخل هذه الحصون، وابليس من ورائها ينبح كما ينبح الكلب، والمؤمن لا يبالي به لأنه قد تحصن بهذه الحصون. فينبغي للمؤمن أن لا يترك أدب النفس في جميع أحواله ويتهاون به في كل ما يأتي، فإن من ترك أدب النفس وتهاون به، فإنه يأتيه الخذلان لتركه حسن الأدب مع الله تعالى، ولا يزال ابليس يعالجه، ويطمع فيه ويأتيه حتى يأخذ منه جميع الحصون، ويرده إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك. انتهى وما ذكره من الفريضتين في الآية قد يشكل، فيقال: ليس فيها إلا فريضة واحدة، وهي قوله تعالى: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا «1» إذ الأمر يقتضي الوجوب عند عدم قرينة تدل على خلافه. وقد سألت شيخنا الإمام اليافعي رحمه الله عن الفريضة الثانية، أين هي من الآية؟ فأجاب قدّس الله روحه، بأن فيها فريضة علمية وفريضة عملية، فالأولى العلم بكونه عدوّا والثانية العمل في اتخاذ العداوة له انتهى وأما ما تقدم من ذكر الحصون فهو في نهاية الحسن والتحقيق، لكن قد يستولي الشيطان على بعض الحصون المذكورة دون بعض فيرد العبد إلى الفسق دون الكفر، فيستحق النار من غير تخليد، وقد لا يرده إلى الفسق، ولكن يردّه إلى ضعف الايمان، فلا يستحق النار ولكن يستحق النزول عن رتبة أهل الايمان الكامل، وكل هذا التفاوت بسبب تفاوت الحصون المذكورة، إذ ليس أخذ حصن المعرفة والإيمان كأخذ بقية الحصون المذكورة، وبقية الحصون تتفاوت أيضا، فليس أخذ حصن الصدق والإخلاص، كأخذ حصن الأمر والنهي وكذلك سائر الحصون، والكلام في ذلك يطول ولكن مهما بقي حصن الايمان وحصن التوكل كاملين للعبد لم يقدر عليه الشيطان، لقوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ «2» وهؤلاء المتصفون بالعبودية الكاملة لقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ* «3» وهم المؤمنون حقا لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ «4» ثم قال في آخر وصفهم: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا* «5» وقد يكون أخذ حصن واحد مؤدّيا إلى الكفر، وموجبا للتخليد في النار، كحصن الإيمان بالله. ونعوذ بالله من ذلك، ولكن لا يقدر على أخذ حصن الايمان، حتى يأخذ الحصون التي حوله نسأل الله الكريم الهدى والسلامة من الزيغ والردى. واعلم أن أوّل الواجبات المعرفة، وقال الاستاذ: النظر وقال ابن فورك وإمام الحرمين: القصد إلى النظر وقد بسطنا الكلام على ذلك، في كتابنا الجوهر الفريد في علم التوحيد، وما قاله في ذلك علماء الشريعة ومشايخ الصوفية رحمهم الله تعالى. فليراجع ذلك في الجزء السابع من الكتاب المذكور، وبالله التوفيق. واختلفوا هل بعث الله تعالى من الجن إليهم رسلا قبل بعثه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال الضحاك: كان منهم رسل لظاهر قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ «6» وقال المحققون: لم يرسل إليهم منهم رسول ولم يكن ذلك في الجن قط وإنما الرسل من الإنس خاصة، وهذا هو الصحيح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 المشهور. وأما الجن ففيهم النذر. وأما الآية فمعناها من أحد الفريقين، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» وإنما يخرجان من الملح دون العذب. وقال منذر بن سعيد البلوطي: قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: إن الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم من الجن، كانوا رسلا إلى قومهم، وقال مجاهد: النذر من الجن، والرسل من الإنس ولا شك أن الجن مكلفون في الأمم الماضية كما هم مكلفون في هذه الأمة لقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ «2» وقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «3» وقيل المراد: مؤمنوا الفريقين. فما خلق أهل الطاعة منهم إلا لعبادته، وما خلق الأشقياء إلا للشقاوة، ولا مانع من اطلاق العام وإرادة الخاص. وقيل: معناه إلا لآمرهم بعبادتي وأدعوهم إليها وقيل: إلا ليوحدون، فإن قيل: لم اقتصر على الفريقين ولم يذكر الملائكة؟ فالجواب أن ذلك لكثرة من كفر من الفريقين، بخلاف الملائكة فإن الله قد عصمهم كما تقدم، فإن قيل: لم قدّم الجن على الإنس في هذه الآية؟ فالجواب أن لفظ الإنس أخف لمكان النون الخفيفة والسين المهموسة، فكان الأثقل أولى بأوّل الكلام من الأخف لنشاط المتكلم وراحته. فرع: كان الشيخ عماد الدين بن يونس رحمه الله، يجعل من موانع النكاح اختلاف الجنس، ويقول: لا يجوز للإنسي أن يتزوج جنية لقوله «4» تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وقال «5» تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فالمودة الجماع والرحمة الولد. ونص على منعه جماعة من أئمة الحنابلة. وفي الفتاوى السراجية: لا يجوز ذلك لاختلاف الجنس. وفي القنية سئل الحسن البصري عنه؟ فقال: يجوز بحضرة شاهدين. وفي مسائل ابن حرب، عن الحسن وقتادة أنهما كرها ذلك. ثم روي بسند فيه ابن لهيعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن نكاح الجن» . وعن زيد العمى، أنه كان يقول: اللهم ارزقني جنية أتزوج بها تصاحبني حيثما كنت. وروى ابن عدي في ترجمة نعيم بن سالم بن قنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن الطحاوي قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قدم علينا نعيم بن سالم مصر فسمعته يقول: تزوجت امرأة من الجن. فلم أرجع إليه. وروى في ترجمة سعيد بن بشير، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحد أبوي بلقيس كان جنيا» . وقال الشيخ نجم الدين القمولي: وفي المنع من التزوج نظر، لأن التكليف يعم الفريقين، قال: وقد رأيت شيخا كبيرا صالحا أخبرني أنه تزوج جنية. انتهى قلت: وقد رأيت أنا رجلا من أهل القرآن والعلم، أخبرني أنه تزوج أربعا من الجن، واحدة بعد واحدة. لكن يبقى النظر في حكم طلاقها، ولعانها، والإيلاء منها، وعدتها، ونفقتها، وكسوتها، والجمع بينها وبين أربع سواها، وما يتعلق بذلك. وكل هذا فيه نظر لا يخفى. قال شيخ الإسلام شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى: رأيت بخط الشيخ فتح الدين اليعمري، وحدثني عنه عثمان المقاتلي قال: سمعت الشيخ أبا الفتح القشيري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 يقول: سمعت الشيخ عز الدين بن عبد السلام يقول: وقد سئل عن ابن عربي فقال: شيخ سوء كذاب. فقيل له: وكذاب أيضا؟ قال: نعم. تذاكرنا يوما نكاح الجن، فقال: الجن روح لطيف والإنس جسم كثيف فكيف يجتمعان؟ ثم غاب عنا مدة وجاء في رأسه شجة، فقيل له في ذلك، فقال: تزوجت امرأة من الجن فحصل بيني وبينها شيء فشجتني هذه الشجة! قال الشيخ الذهبي بعد ذلك: وما أظن ابن عربي تعمد هذه الكذبة وإنما هي من خرافات الرياضة. فرع: روى أبو عبيدة في كتاب الأموال والبيهقي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه «نهى عن ذبائح الجن» . قال: وذبائح الجن أن يشتري الرجل الدار، أو يستخرج العين أو ما أشبه ذلك، فيذبح لها ذبيحة للطيرة. وكانوا في الجاهلية يقولون إذا فعل ذلك: لم يضر أهلها الجن فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك ونهى عنه. تتمة: في كتاب مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني «1» قدس الله سره، أنه جاءه بعض أهل بغداد، وذكر أن له بنتا اختطفت من سطح داره، وهي بكر. فقال له الشيخ: اذهب هذه الليلة إلى خراب الكرخ، واجلس عند التل الخامس وخط عليك دائرة في الأرض، وقل وأنت تخطها: بسم الله على نية عبد القادر، فإذا كانت فحمة العشاء، مرت بك طوائف من الجن، على صور شتى، فلا يروعك منظرهم، فإذا كان السحر مر بك ملكهم في محفل منهم، فيسألك عن حاجتك فقل: قد بعثني إليك عبد القادر واذكر له شأن ابنتك. قال: فذهبت وفعلت ما أمرني به الشيخ فمر بي صور مزعجة المنظر ولم يقدر أحد منهم على الدنو من الدائرة التي أنا فيها، وما زالوا يمرون زمرا زمرا إلى أن جاء ملكهم، راكبا فرسا، وبين يديه أمم منهم، فوقف بازاء الدائرة وقال: يا انسي ما حاجتك؟ قلت: قد بعثني إليك الشيخ عبد القادر، فنزل عن فرسه وقبل الأرض وجلس خارج الدائرة، وجلس من معه ثم قال لي: ما شأنك؟ فذكرت له قصة ابنتي، فقال لمن حوله: علي بمن فعل هذا فأتى بمارد ومعه ابنتي. فقيل له: إن هذا مارد من مردة الصين، فقال له: ما حملك على أن اختطفت من تحت ركاب القطب؟ فقال: إنها وقعت في نفسي، فأمر به فضربت عنقه، وأعطاني ابنتي فقلت: ما رأيت كالليلة في امتثالك أمر الشيخ عبد القادر! قال: نعم. إنه لينظر من داره إلى مردة الجن وهم بأقصى الأرض فينفرون من هيبته وأن الله تعالى إذا أقام قطبا مكنه من الجن والإنس. وروي عن أبي القاسم الجنيد أنه قال: سمعت سريا السقطي رحمه الله، يقول: كنت يوما مارا في البادية، فآواني الليل إلى جبل لا أنيس فيه، فبينا أنا في جوف الليل ناداني مناد فقال: لا تدور القلوب في الغيوب حتى تذوب النفوس من مخافة فوت المحبوب. فعجبت وقلت: أجني ينادي أم إنسي؟ فقال: بل جني مؤمن بالله سبحانه، ومع إخواني، فقلت: وهل عندهم ما عندك؟ قال: نعم وزيادة. قال فناداني الثاني منهم، فقال: لا تذهب من البدن الفترة إلا بدوام الفكرة. قال: فقلت في نفسي: ما أنفع كلام هؤلاء؟ فناداني الثالث فقال: من أنس به في الظلام نشرت له غدا الأعلام. قال فصعقت. فلما أفقت إذا أنا بنرجسة على صدري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 فشممتها فذهب عني ما كان بي من الوحشة، واعتراني الأنس. فقلت: وصية رحمكم الله، فقالوا: أبى الله أن يحيا بذكره ويأنس به إلا قلوب المتقين، فمن طمع في غير ذلك فقد طمع في غير مطمع، وفقنا الله وإياك. ثم ودعوني ومضوا وقد أتى علي حين، وأنا أرى برد كلامهم في خاطري. وفي كفاية المعتقد ونكاية المنتقد، لشيخنا اليافعي عن السري أيضا أنه قال: كنت أطلب رجلا صديقا مدة من الأوقات، فمررت يوما في بعض الجبال، فإذا أنا بجماعة زمنى وعميان ومرضى، فسألت عن حالهم فقالوا: ههنا رجل يخرج في السنة مرة فيدعو لهم فيجدون الشفاء، قال: فمكثت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء فقفوت أثره فأدركته، وتعلقت به، وقلت له: بي علة باطنة فما دواؤها؟ فقال يا سري خل عني. فإنه غيور وإياك أن يراك تأنس إلى غيره، فتسقط من عينه، ثم تركني وذهب. وفي كتاب التوحيد للإمام محمد بن أبي بكر الرازي، عن الجنيد أنه قال: كنت أسمع السري يقول يبلغ العبد من الهيبة والانس إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به. قال: وكان في نفسي منه شيء حتى بان لي أن الأمر كذلك. انتهى قلت: وذلك لأن الهيبة والأنس فوق القبض والبسط، والقبض والبسط فوق الخوف والرجاء، فالهيبة مقتضاها الغيبة والدهش، فكل هائب غائب حتى لو قطع قطعا لم يحضر من غيبته، إلا بزوال الهيبة عنه. والأنس مقتضاه الصحو والإفاقة، ثم إنهم يتفاوتون في الهيبة والأنس، فأدنى مرتبة في الأنس أنه لو ألقي في لظى ما تكدر أنسه، لأنه لا يشهد إلا هو، ولا يعرف إلا هو، ألا ترى إلى قول السري رحمه الله: يبلغ العبد من الهيبة والأنس إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر به! وذلك لأن الأنس يتولد من السرور بالله، ومن صح له الأنس بالله، استوحش مما سواه، فهو باق بالله فان عن السوى لم ير غيره. ولم يشهد لسواه فعلا فلم ير في الكونين إلا إياه فلا يقع نظره إلا عليه، ولا بصره إلا على فعله، وخلقه لأن العارف عرف الصنعة بالصانع، ولم يعرف الصانع بالصنعة، فلم ير إلا فعله وخلقه. ولذلك قال الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. وهذا هو المقام الشريف من التوحيد. واعلم أن العبد لا يذوق حلاوة الأنس بالله تعالى، إلا إذا قطع العلائق، ورفض الخلائق، وغاص في الدقائق، مطلعا على الحقائق. ولا ينبئك مثل خبير. واعلم أن حالتي الهيبة والأنس، وإن جلتا، فأهل الحقيقة يعدونهما نقصا لتضمنهما تغير العبد، فإن أهل التوحيد المتمكنين سمت أحوالهم عن التغير، فلهم كمال في المحو، ووجود في العين ولا هيبة لهم ولا أنس ولا علم ولا حس، وارتقاؤهم عن هذا المقام بالجود والفيض الإلهي. فسبحان من خص برحمته من شاء من عباده. وقال السري رحمه الله: صحبت رجلا يقال له الوالد سنة لم أسأله عن مسألة، فقلت له يوما: ما المعرفة التي ليس فوقها معرفة؟ فقال: أن تجد الله أقرب إليك من كل شيء، وأن ينمحي عن سرائرك وظواهرك كل شيء غيره. فقلت له: بأي شيء أصل إلى هذا؟ فقال: بزهدك فيك ورغبتك فيه سبحانه وتعالى. قال: فكان كلامه سبب انتفاعي بهذا الأمر. توفي السري لست خلون من رمضان، سنة ثلاث وخمسين ومائتين. وقيل غير ذلك والله أعلم بالصواب. الخواص: لا تدخل الجن بيتا فيه الأترج «1» . روينا عن الإمام أبي الحسن، علي بن الحسن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 بن الحسن، بن محمد الخلعي، نسبة إلى بيع الخلع، وهو من أصحاب الشافعي، وقبره معروف بالقرافة، والدعاء عنده مستجاب. وكان يقال له قاضي الجن أنه أخبر أنهم كانوا يأتون إليه، ويقرؤون عليه، وأنهم أبطؤا عنه جمعة ثم أتوه فسألهم عن ذلك فقالوا: كان في بيتك شيء من الأترج وإنا لا ندخل بيتا هو فيه. قال الحافظ أبو طاهر السلفي: وكان الخلعي إذا سمع عليه الحديث يختم مجلسه بهذا الدعاء: اللهم ما مننت به فتممه، وما أنعمت به فلا تسلبه، وما سترته فلا تهتكه، وما علمته فاغفره. توفي في شوال سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. قلت: ولهذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل للمؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، لأن الشيطان يهرب عن قلب المؤمن القارىء للقرآن، كما يهرب عن مكان فيه الأترج، فناسب ضرب المثل به، بخلاف سائر الفواكه. وفي المستدرك في تراجم الصحابة من حديث أحمد بن حنبل عن عبد القدوس بن بكير بإسناده إلى مسلم بن صبيح، قال «1» : دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وعندها رجل مكفوف، وهي تقطع له الأترج وتطعمه إياه بالعسل، فقالت: إن هذا ابن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه نبيه صلى الله عليه وسلم، مازال هذا له من آل محمد. قلت: وفي تخصيصه بالأترج والعسل ما لا يخفى على متأمل. وفي معجم الطبراني، عن حبيب بن عبد الله عن أبي كبشة عن أبيه عن جده، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه النظر إلى الحمام الأحمر والأترج. وسيأتي في باب الفاء حديث سليمان بن موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الجن لا يدخلون دارا فيها فرس عتيق. التعبير: الجن في المنام دهاة الناس أصحاب، مكر وحيل، لما كانوا يصنعون لسليمان عليه الصلاة والسلام من المحاريب والتماثيل، فمن عالج أحدا من الجن في المنام، فإنه ينازع قوما أصحاب مكر وحيل، ومن رأى أنه يعلم الجن القرآن فإنه ينال رياسة وولاية لقوله «2» تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ والجن في الرؤيا بمنزلة اللصوص، فمن دخلت الجن داره فليحذر اللصوص، والجنون في المنام على وجوه: فمن رأى أنه قد جن فإنه ينال غنى كما قال الشاعر: جن له الدهر فنال الغنى ... يا ويحه إن عقل الدهر وقيل: الجنون دال على أكل الربا لقوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ «3» وربما دل على دخول الجنة لقوله عليه الصلاة والسلام: «اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله والمجانين» فانسب الجنون إلى الرائي بما يليق به، وإن رأت امرأة أنها قد جنت وعولجت بالرقى، فإنها تحمل بولد يكون له دهاء فيكون الجنون جنينا تحمل به والله تعالى أعلم. جنان البيوت: بجيم مكسورة ونون مفتوحة مشددة، وهي الحيات جمع جان وهي الحية الصغيرة وقيل الدقيقة الصغيرة، وقيل الدقيقة البيضاء. روى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي لبابة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل الجنان التي في البيوت إلا الابتر وذا الطفيتين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 فإنهما اللذان يخطفان البصر ويطرحان أولاد النساء» «1» . والطفيتان بضم الطاء الخطان الأبيضان على ظهر الحية والأبتر قصير الذنب. وقال النضر بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها وفي كتاب الحشرات قال ابن خالويه: سمعت ابن عرفة يقول: الجنان حيات إذا مشت رفعت رأسها عند المشي وأنشد يقول «2» : رفعن بالليل إذا ما أسدفا ... أعناق جنان وهاما رجفا الجندبادستر: حيوان كهيئة الكلب ليس ككلب الماء ويسمي القندر، وسيأتي في باب القاف، ولا يوجد إلا ببلاد القفجاق وما يليها، ويسمى السمور أيضا، وهو على هيئة الثعلب، أحمر اللون ليس له يدان، وله رجلان وذنب طويل ورأس كرأس الإنسان ووجه مدوّر وهو يمسي متكفيا على صدره كأنه يمشي على أربع، وله أربع خصيات: اثنتان ظاهرتان، واثنتان باطنتان. ومن شأنه أنه إذا رأى الصيادين له لأخذ الجندبادستر وهو الموجود في خصيتيه البارزتين، هرب فإذا جدوا في طلبه قطعهما بفيه، ورمى بهما إليهم إذ لا حاجة لهم إلا بهما. فإذا لم يبصرهما الصيادون وداموا في طلبه استلقى على ظهره حتى يريهم الدم فيعلمون أنه قطعهما فينصرفون عنه وهو إذا قطع الظاهرتين أبرز الباطنتين عوضا عنهما. وفي باطن الخصية شبه الدم أو العمل زهم الرائحة، سريع التفرك إذا جف. وهذا الحيوان يهرب إلى الماء ويمكث فيه زمانا حابسا نفسه، ثم يخرج وهو حيوان يصلح أن يحيا في الماء وخارج الماء، وأكثر أوقاته في الماء ويغتذي فيه بالسمك والسرطان، وخصاه تنفع من نهش الهوام وتصلح لأشياء كثيرة، وهو دواء محمود يسخن الأعضاء الباردة ويجفف الرطبة، وليس له مضرة أصلا في شيء من الأعضاء وله خاصية في جميع العلل الباردة الرطبة التي تحدث في الرئة، وفي الدماغ، وينفع من الصمم البارد، ولا شيء أنفع للريح في الأذن منه. وينفع من لدغ العقرب إذا طلي به موضعها، وإذا طلي به الرأس مدرفا «3» بأحد الأدهان نفع المصروعين، وينفع من الفالج واسترخاء الأعضاء والنقرس البارد منفعة عظيمة وإذا شرب كان ترياقا للسموم الباردة كلها، حيوانية ونباتية، لا سيما الأفيون وهو يلطف الأخلاط، ويذهب البلغم حيث كان، وينفع الخفقان المتولد من أسباب باردة، وجلده غليظ الشعر، يصلح لبسه للمشايخ والمبرودين، ولحمه نافع للمفلوجين وأصحاب الرطوبات، وإذا شرب الإنسان من الجندبادستر الأسود وزن درهم هلك بعد يوم. الجنين: هو ما يوجد في بطن البهيمة بعد ذبحها، فإن وجد ميتا بعد ذبحها فهو حلال بإجماع الصحابة، كما نقله الماوردي في الحاوي، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري، وأبو سيف، ومحمد، واسحق والإمام أحمد، وتفرد أبو حنيفة بتحريم أكله محتجا بقوله «4» تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وبقوله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال» «1» . وهذه ميتة ثالثة لم تذكر. ودليل الجمهور أحلت لكم بهيمة الأنعام قال ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم: بهيمة الأنعام أجنتها توجد ميتة في بطن الأم يحل أكلها بذكاة الأمهات. وهو من أحكام هذه السورة وفيه بعد لأن الله تعالى قال: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ* «2» وليس في الأجنة ما يستثنى وقد تقدم ذلك في باب الباء الموحدة. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» . فجعل إحدى الذكاتين نائبة عن الأخرى، وقائمة مقامها. فإن قيل: إنما أراد التشبيه دون النيابة، فيكون المعنى ذكاة الجنين كذكاة أمه، لأنه قدم الجنين على الأم فصار تشبيها بالأم، ولو أراد النيابة لقدم الأم على الجنين إنما يطلق عليه ما دام مستجنا في بطن أمه، فأما إذا انفصل، فإن الاسم يزول عنه ويسمى ولدا قال الله تعالى: وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «3» وهو في بطن الأم لا يقدر عليه، فوجب حمله على النيابة دون التشبيه. الثاني أنه لو أراد التشبيه دون النيابة، لساوى الأم غيرها، ولم يكن لخصوصية التشبيه بالأم فائدة. الثالث أنه لو أراد التشبيه لنصب ذكاة الأم بحذف كاف التشبيه والروايتان إنما هما برفع ذكاة أمه فثبت أنه أراد النيابة دون التشبيه، فإن قيل: فقد روي ذكاة أمه بالنصب ومعناها كذكاة أمه، فالجواب أن هذه الرواية غير صحيحة ولو سلمت كانت محمولة على نصبها بحذف الياء الموحدة دون الكاف. ويكون معناه ذكاة الجنين بذكاة أمه، ولو احتمل الأمرين لكانتا مستعملتين فتستعمل الرواية المرفوعة في النيابة، إذا خرج ميتا، والرواية المنصوبة في التشبيه إذا خرج حيا فيكون أولى من استعمال إحدى الروايتين وترك الأخرى. ويدل عليه أيضا نص لا يحتمل التأويل، وهو ما رواه أبو سعيد الخدري قال: قلت: يا رسول الله إنا ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة وفي بطونها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «كلوه إن شئتم فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه» «4» . واستدل الشيخ أبو محمد كما قال الرافعي بأنه لو لم يحل الجنين بذكاة الأم، لما جاز ذبح الأم مع ظهور الحمل. كما لا تقتل الحامل قصاصا ولا حدا. فألزم عليه ذبح رمكة في بطنها بغلة، فمنع ذبحها. والرمكة أنثى الخيل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهي مأكولة، والبغل لا يؤكل، إذا ثبت هذا فاعلم أن للجنين ثلاثة أحوال ذكرها الماوردي: أحدها أن يكون كاملا كما سبق، ثانيها أن يكون علقة فهذا غير مأكول، لأن العلقة دم، ثالثها أن يكون مضغة، قد انعقد لحمه ولم تبن صورته، ولم تتشكل أعضاؤه، ففي إباحة أكله وجهان: من اختلاف قوليه في وجوب الغرة كونها أم ولد، قال الماوردي، وقال بعض أصحابنا: إذا نفخ فيه الروح لم يؤكل، وإلا أكل، وهذا مما لا سبيل إلى إدراكه ولو خرج الجنين وبه حياة مستقرة، اشترط ذبحه أو غير مستقرة حل بغير ذكاة. ولو خرج رأسه ثم ذكيت الأم قال القاضي والبغوي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 لم يحل إلا بذكاة لأنه مقدور عليه. وقال القفال: يحل لأن خروج بعض الولد كعدم خروجه في العدة وغيرها، قال في الروضة قول القفال أصح. والله أعلم. وذكر ابن خلكان في تاريخه ان الامام صائن الدين أبا بكر القرطبي «1» كان كثيرا ما ينشد هذين البيتين متمثلا: جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين هما لأبي الخير الكاتب الواسطي رحمة الله عليه. جهبر: كجعفر أنثى الدب، وهي إذا أرادت الولادة، استقبلت بنات نعش الصغرى، فتسهل ولادتها. وإذا ولدت يكون ولدها قطعة لحم تخاف عليه من النمل، فتنقله من موضع إلى موضع خوفا من النمل، وربما تركت أولادها وأرضعت ولد الضبع. ولهذا قالت العرب «أحمق من جهبر» . الجواد: الفرس الجيد العدو سمي بذلك لأنه يجود بجريه والأنثى جواد أيضا قال الشاعر: نمته جواد لا يباع جنينها والجمع جود وجياد كثوب وكثياب. وأجياد جبل بمكة، سمي بذلك لموضع خيل تبع. ويسمى قعيقعان لموضع سلاحه، وروى جعفر الفريابي، في كتابه فضل الذكر، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن أصلي الصبح ثم أجلس في مجلسي فأذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، أحب إليّ من شد على جياد الخيل في سبيل الله عز وجل» . وروى النسائي والحاكم وابن السني والبخاري في تاريخه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، قال: ان رجلا جاء إلى الصلاة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فقال، حين انتهى إلى الصف الأول: اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «من المتكلم آنفا؟ قال: أنا يا رسول الله. قال: إذن يعقر جوادك وتستشهد في سبيل الله تعالى» . وفي سنن ابن ماجه من حديث عمرو بن عبسة رضي الله تعالى عنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أي الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من أهريق دمه وعقر جواده» «2» . وفي كتاب النصائح لابن ظفر، أن أمة لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، اسمها زائدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يا زائدة انك لموفقة» . فأتته يوما فقالت: يا رسول الله إني عجنت عجينا لأهلي ثم ذهبت أحتطب، فاحتطبت وأكثرت، فرأيت فارسا على جواد لم أرقط أحسن منه وجها وملبسا وجوادا، ولا أطيب منه ريحا، فأتاني وسلم علي وقال: كيف أنت يا زائدة؟ قلت: بخير والحمد لله. قال: وكيف محمد؟ قلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 بخير، وينذر الناس بأمر الله. قال: إذا أتيت محمد فأقرئيه مني السلام، وقولي له رضوان خازن الجنة يقرئك السلام، ويقول لك: ما فرح أحد بمبعثك ما فرحت به، فإن الله جعل أمتك ثلاث فرق: فرقة يدخلون الجنة بغير حساب، وفرقة يحاسبون حسابا يسيرا ويدخلون الجنة وفرقة تشفع لهم فتشفع فيهم فيدخلون الجنة. قلت: نعم. ثم ولى عني فأخذت في رفع حطبي فثقل عليّ فالتفت إلي وقال: يا زائدة أثقل عليك حطبك؟ قلت: نعم بأبي وأمي. فعطف عليّ وغمز الحزمة بقضيب أحمر في يده فرفعها، ونظر فإذا هو بصخرة عظيمة فوضع الحزمة بالقضيب عليها، وقال: اذهبي يا صخرة بالحطب معها، فجعلت الصخرة تدهده بين يدي بالحطب، حتى أتيت «فسجد النبي صلى الله عليه وسلم شكرا وحمدا لله تعالى على بشرى رضوان. ثم قال لأصحابه: قوموا لننظر فقاموا وانطلقوا إلى الصخرة فرأوها وعاينوا آثارها» . ويقرب من هذه البشرى ما روي عن عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: إن رجلا من أهل اليمن جاء إلى كعب الأحبار فقال له: إن فلانا الحبر اليهودي أرسلني إليك برسالة فقال له كعب: هاتها فقال له الرجل: إنه يقول لك: ألم تكن فينا سيدا شريفا مطاعا فما الذي أخرجك من دينك إلى أمة محمد؟ فقال له كعب: أتراك راجعا إليه؟ قال: نعم. قال: فإن رجعت إليه فخذ بطرف ثوبه لئلا يفر منك، وقل له: يقول لك كعب: أسألك بالله الذي فلق البحر لموسى، وأسألك بالله الذي ألقى الألواح إلى موسى بن عمران فيها علم كل شيء، ألست تجد في كلمات الله تعالى، أن أمة محمد ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يدخلون الجنة بشفاعة أحمد، فإنه سيقول لك: نعم. فقل له: يقول لك كعب: اجعلني في أي هذه الأثلاث شئت. وفي كتاب خير البشر بخير البشر لمحمد بن ظفر أيضا، قال: روي أن مرثد بن عبد كلال قفل من غزاة غزاها بغنائم عظيمة فوفد عليه زعماء العرب، وشعراؤها وخطباؤها، يهنؤنه، فرفع الحجاب عن الوافدين، وأوسعهم عطاء، واشتد سروره بهم، فبينما هو على ذلك، إذ نام يوما فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وأهالته في حال منامه، فلما انتبه أنسيها حتى لم يذكر منها شيئا، وثبت ارتياعه في نفسه بها فانقلب سروره حزنا واحتجب عن الوفود حتى أساء به الوفود الظن، ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن ثم يقول له اخبرني عما أريد أن أسألك عنه، فيجيبه الكاهن بأن لا علم عندي، حتى لم يدع كاهنا علمه إلا كان إليه منه ذلك. فتضاعف قلقه، وطال أرقه، وكانت أمه قد تكهنت، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك، إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه لأن أتباع الكواهن من الجان، ألطف وأظرف من أتباع الكهان! فأمر بحشر الكواهن إليه، وسألهن كما سأل الكهان فلم يجد عند واحدة منهن علما مما أراد علمه. ولما يئس من طلبته، سلا عنها. ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد فأوغل في طلب الصيد، وانفرد عن أصحابه فرفعت له أبيات في ذرى جبل وكان قد لفحه الهجير، فعدل إلى الأبيات وقصد بيتا منها، كان منفردا عنها فبرزت إليه منه عجوز، فقالت له انزل بالرحب والسعة والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة، والعلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس، وخفقت عليه الأرواح نام، فلم يستيقظ حتى تصرم الهجير، فجلس يمسح عينيه، فإذا بين يديه فتاة، لم ير مثلها قواما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 ولا جمالا، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك الهمام، هل لك في الطعام؟ فاشتد اشفاقه وخاف على نفسه، لما رأى أنها عرفته وتصامم عن كلمتها، فقالت له: لا حذر فداك البشر، فجدك الأكبر، وحظنا بك الأوفر، ثم قربت إليه ثريدا وقديدا وحيسا. وقامت تذب عنه، حتى انتهى أكله. ثم سقته لبنا صريفا وضريبا. فشرب ما شاء وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة، فملأت عينيه حسنا وقلبه هوى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عفيراء. فقال لها: يا عفيراء من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، حاشر الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان. فقال: يا عفيراء أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام. قال الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس صادع، هلموا إلى المشارع، فروي جارع، وغرق كارع. فقال الملك: أجل هذه رؤياي. فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: الأعاصير الزوابع ملوك تبايع، والنهر علم واسع، والداعي نبي شافع، والجارع ولي تابع، والكارع عدوّ منازع. فقال الملك: يا عفيراء أسلم هذا النبي أم حرب؟ فقالت: أقسم برافع السماء، ومنزل الماء من العماء، إنه لمطل الدماء، ومنطق العقائل نطق الإماء. فقال الملك: الام يدعو يا عفيراء؟ قالت إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام. فقال الملك: يا عفيراء من قومه؟ قالت مضر بن نزار، ولهم منه نقع مثار، ينجلي عن ذبح وآثار. فقال الملك: يا عفيراء إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يغزيهم فيغزون، ويدمث بهم الحزون «1» وإلى نصره يعتزون. فأطرق الملك يؤامر نفسه في خطبتها، فقالت: أبيت اللعن أيها الملك، إن تابعي غيور، ولأمري صبور، وناكحي مثبور، والكلف بي ثبور، فنهض الملك وجال في صهوة جواده، وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء. قال محمد بن ظفر: أوغل في طلب الصيد أي بالغ في ذلك وأمعن، والوغول الدخول في الشيء بقوة. وذرجبل بفتح الذال المعجمة الكن والمدعدعة هي التي ملئت بقوة ثم حركت حتى تراص ما فيها ثم ملئت بعد ذلك. والعلبة بضم العين المهملة واسكان اللام اناء من جلد. والأرواح هي الرياح. وصريفا اللبن المحض بحدثان الحلاب يصرف عن الضرع إلى الشارب وضريبا اللبن الرائب. وبعد عنها الجان أي جبنوا عنها ولم يطيقوها. وأعاصير زوابع هي من الرياح ما يثير التراب فيعليه في الجوّ، ويديره وساطع أي مرتفع. ودعاء ذي جرس صادع. الجرس الصوت والمشارع المداخل إلى النهر. وجارع أي من شرب جرعا أمن وكارع أي من أمعن غرق. وتبايع جمع تبع، وهذا لقب لملوك اليمن، وهو من الأتباع لأن بعضهم كان يتبع في الملك بعضا. والعماء هو الغيم والغمام، ومنطق العقائل هن الكرائم من النساء، أي يسبيهن فيشددن النطق على أوساطهن، كالإماء للمهنة والخدمة. ونقع مثار: النقع الغبار يثيره المتحاربون. والأعضاد الأنصار. والغطاريف السادة والتغطرف التكبر. ويدمث أي يسهل ويؤامر نفسه يراد به تعارض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الرأيين المتضادين في النفس وجال في صهوة جواده: جال أي وثب، والصهوة مقعد الفارس من ظهر فرسه. والكوماء الناقة العظيمة السنام. ونظير هذا من الرؤيا المنسية، وليست من أخبار الكهان، وإنما هو خبر نبوي، رؤيا بختنصر، وذلك أن بختنصر، لما غزا بيت المقدس، اختار من سبي بني اسرائل مائة ألف صبي، فكان منهم دانيال عليه السلام، فرأى بختنصر رؤيا ارتاع لها، وحدث له في المنام ما أنساه الرؤيا، فسأل الكهان والسحرة والمنجمين عن ذلك، فقالوا له: إن أخبرتنا عن رؤياك أخبرناك عن تأويلها، فقال: إني قد أنسيتها، ولئن لم تخبروني بها لأنزعن أكتافكم. فخرجوا من عنده مذعورين ثم رجع إليه أحدهم فقال له: أيها الملك، إن لم يكن أحد عنده علم بالرؤيا، فهو دانيال الغلام الإسرائيلي، فأحضره وسأله فقال له دانيال: إن لي ربا عنده علم ذلك، فأجلني فأجله ثلاثا، فخرج دانيال فأقبل على الصلاة والدعاء، فأوحى الله إليه بالرؤيا وبتأويلها، فأتى إلى بختنصر وقال له: إنك رأيت صنما قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، وعنقه ورأسه من حديد. قال: صدقت: قال دانيال: فبينما أنت تنظر إليه وتتعجب منه، إذ أرسل الله عليه صخرة من السماء فهشمته، فصار رفاتا، ثم عظمت تلك الصخرة، حتى ملأت الدنيا، فهي التي أنستك الرؤيا. قال: صدقت. فما تأويلها؟ قال دانيال: أما الصنم فهو مثل لملوك الدنيا، وكان بعضهم ألين ملكا من بعض، فكان أول الملك الفخار وهو أضعفه، ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوقه الفضة وهي أفضل وأحسن، ثم كان فوقه الذهب وهو أفضل منها وأحسن من ذلك كله، ثم كان الحديد من فوقه وهو أشد منه، وهو ملكك فهو أشد ملك، وأعز مما كان قبله. وأما الصخرة التي أرسلها الله من السماء، فنبي يبعثه الله في آخر الزمان، فيدق ذلك كله أجمع، وتمتلىء الدنيا بدينه، ويصير الأمر إليه ويقيم له ملكا لا يزول أبدا ما بقي الدهر. فعجب بختنصر مما سمع، وأحسن إلى دانيال وقربه وأعلى منزلته. وذكر ابن خلكان في ترجمة ابن القرية «1» واسمه أيوب بن زيد بن القرية، بكسر القاف وتشديد الراء المهملة وكسرها بالياء المثناة تحت. وكان أعرابيا مقربا عند الحجاج، أن الحجاج بعثه إلى عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي لما خرج على عبد الملك بن مروان، وخلعه ودعا إلى نفسه، فقال ابن الأشعث: لتقومن خطيبا، ولتخلعن ابن مروان، ولتسبن الحجاج، أو لأضربن عنقك. ففعل ابن القرية ذلك وأقام عند ابن الأشعث، فلما قتل ابن الأشعث بدير الجماجم، في الوقعة التي كانت بينه وبين الحجاج، جىء بابن القرية إلى الحجاج فسأله عن أشياء، فمن كلامه في جواب الحجاج ملخصا: أهل العراق أعلم الناس بحق وباطل. أهل الحجاز أسرع الناس إلى فتنة وأعجزهم فيها. أهل الشأم أطوع الناس لخلفائهم. أهل مصر عبيد من غلب. أهل اليمن أهل طاعة ولزوم جماعة. أرض الهند بحرها در وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر. اليمن أصل العرب وأصل البيوتان والحسب. مكة رجالها علماء حفاة، ونساءها كساة عراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 المدينة رسخ العلم فيها وظهر منها. البصرة شتاؤها جليد، وحرها شديد، وماؤها ملح، وحربها صلح. الكوفة ارتفعت عن حر البحر، وسفلت عن برد الشأم. واسط جنة بين حمأة وكنة. قال وما حمأتها وكنتها؟ قال: البصرة والكوفة يحسدانها وما يضرها، ودجلة والفرات يتجاريان بإضافة الخير عليها. الشأم عروس بين نسوة جلوس. ثم قال في أثناء كلامه «لكل جواد كبوة» «1» ، «ولكل صام نبوة» «2» ، «ولكل حليم هفوة» «3» . فقال الحجاج: إن العرب تزعم أن لكل شيء آفة. قال: صدقت العرب، أصلح الله الأمير، آفة الحلم الغضب، وآفة العقل العجب، وآفة العلم النسيان، وآفة السخاء المن عند البذل، وآفة العبادة الفترة، وآفة الكرم مجاورة اللئام، وآفة الشجاعة البغي، وآفة الماء سوء التدبير، وآفة الكامل من الرجال العدم. قال: فما آفة الحجاج؟ قال: لا آفة لمن كرم حسبه، وطاب نسبه، وزكا فرعه. فقال الحجاج: امتلأت شقاقا، وأظهرت نفاقا. اضربوا عنقه. فلما رآه قتيلا ندم على قتله. وكان قتله في سنة أربع وثمانين وقد ذكرت هذه الحكاية بطولها في كتاب «غاية الارب في كلام حكماء العرب» . وهو في ثلاثة مجلدات. ومن أمثال العرب المشهورة «ان الجواد عينه «4» فراره» . أي يغنيك شخصه ومنظره، عن أن تخبره وأن تفر أسنانه. وحكى صاحب ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار، أنه عرض على أبي مسلم الخراساني، صاحب الدعوة جواد لم ير مثله، فقال لقواده: لماذا يصلح هذا الجواد؟ قالوا: للغزو في سبيل الله. قال: لا. قالوا: فيطلب عليه العدوّ. قال: لا. قالوا: فلماذا يصلح أصلح الله الأمير؟ قال: ليركبه الرجل، ويفر به من المرأة السوء، والجار السوء. ومن أحسن أوصاف الخيل الصافنات قال الله تعالى: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ «5» قال أهل التفسير: إنها كانت ألف فرس لسليمان عليه الصلاة والسلام، وإنما عقرها لأنها كانت سببا في فوت الصلاة. قال بعض العلماء: لما ترك الخيل لله، عوضه الله عنها، ما هو خير له منها، وهو الريح التي كان غدوها شهرا ورواحها شهرا. وروى الإمام أحمد قال: حدثنا اسماعيل قال: حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال، عن أبي قتادة وأبي الدهماء، وكانا يكثران السفر نحو هذا البيت قالا: أتينا على رجل من أهل البادية، فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل، فكان من كلامه: «إنك لا تدع شيئا اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيرا منه» . وأخرجه «6» النسائي من حديث ابن المبارك عن سليمان بن الحسين. وأبو الدهماء اسمه قرفة بن بهيس، وقيل بن بيهس. روى له الجماعة إلا البخاري. وقال الثعلبي: كانت بالناس مجاعة، ولحوم الخيل لهم حلال، وإنما عقرها لتؤكل، على وجه القربة بها، كالهدي عندنا، ونظير هذا ما فعله أبو طلحة الأنصاري بحائطه، إذ تصدق به لما دخل عليه الدبسي، وهو في الصلاة فشغله. والصافن الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد يفعل ذلك برجله، وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 علامة الفراسة كما قال في حقه العجّاج «1» : ألف الصفون فلا يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كسير وقال بعضهم: الخير في الآية الخيل. والعرب تسمي الخيل خيرا. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لزيد الخيل: «أنت زيد الخير» . وكان رضي الله عنه، إذا ركب الخيل، خطت رجلاه الأرض واسمه زيد بن مهلهل بن زيد الطائي، وكان كثير الخيل، لم يكن لأحد من قومه، ولا لكثير من العرب إلا الفرس أو الفرسان، وكان له الخيل الكثيرة منها الهطال والكميت والورد والكامل ولاحق ودموك قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد طيء سنة تسع فأسلم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته بدون تلك الصفة إلا أنت، فإنك فوق ما قيل لي إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الأناة والحلم» . وفي رواية الحياء والحلم. فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله. مات بعد رجوعه من عند النبي صلى الله عليه وسلم محموما عند قومه. وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه نعم الفتى إن لم تدركه أم مبدم» . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «يا زيد الخير تقتلك أم كلبة» يعني الحمى. فلما رجع إلى أهله حم ومات، رضي الله تعالى عنه. وقال ابن عباس والزهري: مسح سليمان صلى الله عليه وسلم بالسوق والأعناق، لم يكن بالسيف بل بيده تكريما لها ومحبة. ورجحه الطبري وقال بعضهم: بل غسلها بالماء وذكر الثعلبي أن هذا المسح إنما كان وسما بالتحبيس في سبيل الله تعالى. وجمهور المفسرين على أنها كانت خيلا موروثة. وقال بعضهم: قتلها حتى لم يبق منها أكثر من مائة فرس. فمن نسل تلك المائة كل ما يوجد من الخيل، وهذا بعيد. وقال بعضهم: كانت عشرين فرسا أخرجها الشيطان له من البحر، وكانت ذوات أجنحة. وأما قوله «2» وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال الجمهور أراد أن يفرده من بين البشر ليكون خاصة له وكرامة وهذا هو الظاهر من خبر العفريت الذي ظهر للنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته فأخذه وأراد أن يوثقه بسارية من سواري المسجد كما تقدم. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة أيضا. وروى النسائي وابن ماجه، عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام، لما فرغ من بنيان بيت المقدس سأل الله تعالى حكما يصادف حكمه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وأن لا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه، إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الاثنتان، فقد أعطيهما، وأنا أرجو أن يكون قد أعطي الثالثة؟؟. انتهى فقد دعا نبي ورجا نبي. وأما صفة كرسيه عليه الصلاة والسلام، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: كان يوضع لسليمان ستمائة كرسي ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتقلهم، وتسير مسيرة شهر غدوا ورواحا، وذلك أن سليمان عليه الصلاة والسلام لما ملك بعد أبيه، أمر باتخاذ كرسي، يجلس عليه للقضاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وأمر بأن يعمل عملا بديعا مهولا بحيث إذا رآه مبطل أو شاهد زور، ارتدع وبهت، فأمر أن يجعل من أنياب الفيلة مرصعا بالدر والياقوت والزبرجد، وأن يحف بأربع نخلات من ذهب شماريخها «1» الياقوت منهما عمود من الزبرجد الأخضر. على رأس نختلتين منها طاووسان من ذهب، وعلى رأس نخلتين نسران من ذهب، بعضها يقابل بعضا. وجعل بجانب الكرسي أسدين من ذهب، وعلى رأس كل واحد منهما عمود من الزبرجد الأخضر. وقد عقد على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر وعناقيدها من الياقوت الأحمر، بحيث تظل عروش الكروم والنخل الكرسي. وكان سليمان إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسي كله بما فيه دوران الرحا المسرعة وتنشر تلك الطيور والنسور أجنحتها، ويبسط الأسدان أيديهما، ويضربان الأرض بأذنابهما، فإذا استوى على أعلاه أخذ النسران، اللذان في النخلتين، تاج سليمان فوضعاه على رأسه، ثم يستدير الكرسي بما فيه فيدور معه النسران والطاووسان والأسدان مائلات برؤوسها إلى سليمان، وينضحن عليه من أجوافهن المسك والعنبر، ثم تناوله حمامة من ذهب، قائمة على عمود، من أعمدة الجواهر، فوق الكرسي، التوراة فيفتحها سليمان ويقرؤها على الناس ويدعوهم إلى فصل القضاء. ويجلس عظماء بني اسرائيل على كراسي الذهب المرصعة بالجوهر، وهي ألف كرسي عن يمينه، ويجلس عظماء الجن على كراسي الفضة عن يساره، وهي ألف كرسي، ثم تحف بهم الطيور فتظلهم. ويتقدم الناس لفصل الخصومات، فإذا تقدمت الشهود لأداء الشهادات، دار الكرسي بما فيه وعليه، دوران الرحا المسرعة، ويبسط الأسدان أيديهما، ويضربان الأرض بأذنابهما، وينشر النسران والطاووسان أجنحتها، فيفزع الشهود فلا يشهدون إلا بالحق. فلما توفي سليمان عليه الصلاة والسلام، وغزا بختنصر بيت المقدس، حمل الكرسي إلى انطاكية وأراد أن يصعد عليه فلم يقدر، وضرب الأسدان رجله فكسراها. ثم لما هلك بختنصر حمل الكرسي إلى بيت المقدس، فلم يستطع ملك قط أن يجلس عليه. ولم يدر أحد ما آل إليه عاقبة أمره، ولعله رفع. وإنما ذكرت صفته هنا لأنه من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده. وزعم الطبري أن بختنصر، ليس من الملوك الأربعة الذين ملكوا الأقاليم كلها، كما قاله العتبي ومن تقدمه إلى هذا القول. قال: ولكنه كان عاملا على العراق للملك المالك للأقاليم في ذلك الحين وهو كيلهراسب. والصحيح ما قاله العتبي وغيره. وذكر أهل التاريخ وأصحاب السير أن رجلا من بني إسرائيل إسمه إسحاق في زمن عيسى بن مريم عليهما السلام، كان له ابنة عم من أجمل أهل زمانها وكان مغرما بها، فماتت فلزم قبرها ومكث زمانا لا يفتر عن زيارته، فمرّ به عيسى يوما وهو على قبرها يبكي، فقال له عيسى عليه السلام: ما يبكيك يا إسحق؟ فقال له: يا روح الله كانت لي ابنة عم وهي زوجتي، وكنت أحبها حبا شديدا وإنها قد توفيت، وهذا قبرها وإني لا أستطيع الصبر عنها وقد قتلني فراقها، فقال له عيسى: أتحب أن أحييها لك بإذن الله؟ قال: نعم يا روح الله فوقف عيسى على القبر، وقال: قم يا صاحب هذا القبر بإذن الله: فانشق القبر وخرج منه عبدا أسود، والنار خارجة من مناخره وعينيه، ومنافذ وجهه، وهو يقول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 لا إله إلّا الله عيسى روح الله وكلمته وعبده ورسوله، فقال إسحاق: يا روح الله: وكلمته ما هذا القبر الذي فيه زوجتي، وإنما هو هذا وأشار إلى قبر آخر، فقال عيسى للأسود: ارجع إلى ما كنت فيه فسقط ميتا فواراه في قبره. ثم وقف على القبر الآخر وقال: قم يا ساكن هذا القبر بإذن الله، فقامت المرأة وهي تنثر التراب عن وجهها، فقال عيسى: هذه زوجتك؟ قال: نعم يا روح الله. قال: خذ بيدها وانصرف. فأخذها ومضى فأدركه النوم فقال لها: إنه قد قتلني السهر على قبرك، وأريد أن آخذ لي راحة. قالت: افعل فوضع رأسه على فخذها ونام. فبينما هو نائم إذ مر عليها ابن الملك، وكان ذا حسن وجمال وهيئة عظيمة، راكبا على جواد حسن، فلما رأته هويته، وقامت إليه مسرعة، فلما نظرها وقعت في قلبه، فأتت إليه وقالت: خذني. فأردفها على جواده وسار فاستيقظ زوجها ونظر فلم يرها فقام يطلبها، وقص أثر الجواد فأدركهما، وقال لابن الملك: اعطني زوجتي وابنة عمي، فأنكرته وقالت: أنا جارية ابن الملك فقال: بل أنت زوجتي وابنة عمي. فقالت: ما أعرفك! وما أنا إلا جارية ابن الملك! فقال له ابن الملك: أفتريد أن تفسد جاريتي؟ فقال: والله إنها لزوجتي وإن عيسى بن مريم أحياها لي بإذن الله، بعد أن كانت ميتة، فبينما هم في المنازعة إذ مر عيسى صلى الله عليه وسلم فقال إسحاق: يا روح الله أما هذه زوجتي التي أحييتها لي بإذن الله؟ قال: نعم. فقالت: يا روح الله إنه يكذب وإني جارية ابن الملك. وقال ابن الملك: هذه جاريتي. قال عيسى: ألست التي أحييتك بإذن الله؟ قالت: لا والله يا روح الله. قال: فردي علينا ما أعطيناك. فسقطت ميتة. فقال عيسى: من أراد أن ينظر إلى رجل أماته الله كافرا ثم أحياه وأماته مسلما، فلينظر إلى ذلك الأسود. ومن أراد أن ينظر إلى امرأة أماتها الله مؤمنة، ثم أحياها وأماتها كافرة، فلينظر إلى هذه. وإن إسحاق الإسرائيلي، عاهد الله تعالى أن لا يتزوج أبدا، وهام على وجهه في البراري باكيا. وفي هذه الحكاية أعظم عبرة لأولي الألباب وهي من أعجب ما يسمع في التوفيق والخذلان، نسأل الله تعالى السلامة، وحسن الخاتمة، بجاه سيدنا محمد وآله. وقد أحببت أن أذكر هنا ما أخبرني به بعض العلماء العارفين وهو أن عيسى صلى الله عليه وسلم اجتاز في بعض الأيام بجبل، فرأى فيه صومعة فدنا منها فرأى فيها متعبدا قد انحنى ظهره، ونحل جسمه، وبلغ به الاجتهاد أقصى غاياته، فسلم عليه وقال له: منذ كم أنت في هذه الصومعة؟ فقال: منذ سبعين سنة أسأله حاجة واحدة وما قضاها لي بعد! فعساك يا روح الله أن تكون شفيعا لي فيها فعساها تقضى! فقال له عيسى: وما حاجتك؟ قال: أن يذيقني مثقال ذرة من خالص محبته. فقال عيسى: ها أنا أدعو الله لك في ذلك فدعا له عيسى في تلك الليلة فأوحى الله إليه إني قد قبلت شفاعتك، وأجبت دعوتك. فعاد عيسى بعد أيام إلى ذلك الموضع فرأى الصومعة قد وقعت والأرض التي تحتها قد شقت، فنزل عيسى ذلك الشق إلى منتهاه فرأى العابد في مغارة تحت ذلك الجبل، واقفا شاخصا مثقال ذرة من خالص محبتنا فعلمنا أنه لا يطيق ذلك، فوهبناه جزءا من سبعين ألف جزء من ذرة، فهو فيها حائر كما ترى فكيف لو وهبناه أكثر من ذلك؟! اهـ قلت: فمحبة الخواص من هذه المعادن رشحت، وبهذه الأوصاف عرفت، واعلم أن المحبة هي أوّل أودية الفناء، والعقبة التي تنحدر منها إلى منازل المحو. وقد اختلفت إشارات أهل التحقيق في العبارة عنها، فكل نطق بحسب ذوقه، وافصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 بمقدار شوقه. ليس هذا موضع حكاية أقوالهم، واختلاف عباراتهم فيها، وقد بسطنا الكلام في ذلك في كتابنا الجوهر الفريد في أواخر الجزء الثامن، ولنذكر لمعة يستأنس بها الناظر، في هذا الكتاب. فاعلم أن المحبة على الإجمال موافقة المحبوب فيما شاء سواء فيما حزن أو سر، نفع أو ضر، وقد أشار بعضهم إلى ذلك بقوله «1» : وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم فأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن يكرم «2» واعلم أن الغيرة من أوصاف المحبة، والغيرة تأبى الستر والإخفاء، فكل من بسط لسانه في العبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها ذوق، وإنما حركه وجدان الرائحة، ولو ذاق منها شيئا لغاب عن الشرح والوصف. فالمحبة الصادقة لا تظهر على المحب بلفظه، وإنما تظهر بشمائله ولحظه، ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب، لموضع امتزاج الأسرار من القلوب، وقد قيل في ذلك: تشير فأدري ما تقول بطرفها ... وأطرق طرفي عند ذاك فتفهم تكلم منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم وأما محبة العوام، فهي محبة تنبت من مطالعة المنة، وتثبت باتباع السنة، وتنمو على الإجابة للغاية، وهي محبة تقطع الوساوس، وتلذذ الخدمة، وتسلي عن المصائب، وهي في طريق العوام عمدة الإيمان فعند القوم كل ما كان من العبد، فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته. وإنما عين الحقيقة أن يكون العبد قائما بإقامة الحق له، محبا بمحبته له نظارا بنظره إليه من غير أن تبقى فيه بقية تقف على رسم، أو تناط باسم، أو تتعلق بأثر، أو توصف بنعت، أو تنسب إلى وقت، صم بكم عمي لدينا محضرون. وروي: عن إبراهيم الخواص، رحمة الله عليه، أنه قال: عطشت، في بعض سياحاتي، عطشا شديدا، حتى سقطت من شدة العطش، فإذا أنا بماء قد سقط على وجهي، فأحسست ببرده على فؤادي، ففتحت عيني فإذا أنا برجل ما رأيت أحسن منه على جواد أشهب، عليه ثياب خضر وعمامة صفراء، وبيده قدح، فسقاني منه شربة، وقال لي: ارتدف خلفي فارتدفت، فلم يبرح حتى قال لي: ما ترى؟ قلت: المدينة. قال: انزل واقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له: رضوان خازن الجنة يقرأ عليه السلام. وهذه كرامة عظيمة، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. قال شيخنا اليافعي: من رأيتموه يزدري بالأولياء، أو ينكر مواهب الأصفياء، فاعلموا أنه محارب لله مبعد من رحمته مطرود عن حقيقة قربه به والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الجواف: بالضم والتخفيف ضرب من السمك وليس من جيده ومنه قول مالك بن دينار: أكلت رغيفا ورأس جوافه، فعلى الدنيا العفاء. أي الدروس، وذهاب الأثر وقيل العفاء التراب. الجوذر : بفتح الذال المعجمة وضمها، والجؤذر بالهمزة أيضا مع الواو: ولد البقرة الوحشية قال الشاعر: أن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جآذرا وظباء «1» ؟ ولقد أجاد علي بن إسحاق الزاهي حيث يقول «2» : وبيض بالحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفا واستللن خناجرا تصدين لي يوما بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا سفرن بدورا وانتقبن أهلة ... ومسن غصونا والتفتن جآذرا واطلعن في الأجياد بالدر أنجما ... جعلن لحبات القلوب ضرائرا ومما يستجاد من شعره: الريح تعصف والأغصان تعتنق ... والمزن باكية والزهر مغتبق كأنما الليل جفن والبروق له ... عين من الشمس تبدو ثم تنطبق وله أيضا وأجاد «3» : تبدت فهذا البدر من خجل بها ... وحقك مثلي في دجى الليل حائر «4» وماست فشق الغصن غيظا جيوبه ... ألست ترى أوراقه تتناثر فأجيز على ذلك: وفاحت فألقى العود في النار جسمه ... كذا نقلت عنه الحديث المجامر «5» وقالت فغار الدر واصفر لونه ... كذلك ما زالت تغار الضرائر وله أيضا وقيل لغيره: بادر إذا حاجة في وقتها عرضت ... فللحوائج أوقات وساعات إن أمكنت فرصة فانهض لها عجلا ... ولا تأخر فللتأخير آفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وله وأحسن: أما ترى الغيث كلما ضحكت ... كمائم الزهر في الرياض بكى كالحب يبكي لديه عاشقه ... وكلما فاض دمعه ضحكا وله أيضا: لحى الله أمرءا أولا لسرا ... فبحت به وفض الله فاه لأنك بالذي استودعت منه ... أنم من الزجاج بما وعاه وقد قيل في المعنى وأجاد قائله: ينم بسر مستوعبه سرا ... كما نم الظلام بسر نار أتم من النصول على مشيب ... ومن صافي الزجاج على عقار توفي الزاهي سنة ستين وثلاثمائة وهو شاعر ماهر رحمه الله تعالى. الجوزل: بفتح الجيم، فرخ الحمام والقطا وأنواعهما. وسيأتي ذكره في لفظ القطا والجمع جوازل قال الشاعر: يا ابنة عمي لا أحب الجوزلا ... ولا أحب قرصك المفلفلا وإنما أحب ظبيا أعبلا ... وربما سمي الشاب جوزلا جيال: كجبال، اسم للضبع على فعال، وهي معرفة بلا ألف ولام. وحكمها يأتي في باب الضاد المعجمة. الأمثال: قالوا: «أنبش من جيال» «1» لأنها تنبش القبور، وتخرج جيف الموتى من باطن الأرض إلى ظاهرها. أبو جرادة: هو الطائر الذي يسميه أهل العراق الباذنجان، ويسميه أهل الشأم البصير، يؤخذ لحمه فيذوب ويتمسح به من كانت البواسير به ظاهرة ينفعه نفعا بينا والله أعلم. باب الحاء المهملة حائم: هو الغراب الأسود لأنه يحوم عندهم بالفراق قال المرقش «2» : ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحائم «3» فإذا الأشائم كالايا ... من والأيامن كالأشائم وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 وستأتي، إن شاء الله تعالى، هذه الأبيات في أول باب الواو. ويسمى غراب البين وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة. الحارية: نوع من الأفعى وقد تقدم في باب الهمزة. الحباب: الحية قال الجوهري: وإنما قيل لها ذلك لأن الحبائب اسم شيطان، والحية يقال لها شيطان. روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: «بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسم رجل من الأنصار، كان اسمه الحباب. وقال: «الحباب اسم شيطان» . وقال أبو داود في باب تغيير الاسم القبيح. وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة وشيطان و الحكم وغراب وهشاب وحباب. والرجل الذي غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه هو عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول. كان اسمه الحباب «فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله» . وأبوه كان يكنى أبا الحباب. الحبتر: الثعلب وقد تقدم ذكره في باب الثاء المثلثة. الحبث: حية بتراء ذات سم قاتل. وسيأتي إن شاء الله تعالى لفظ الحية في آخر هذا الباب. حباحب: كهداهد حيوان له جناحان كالذباب يضيء بالليل كأنه نار وقد ضربت العرب به المثل فقالوا: «أضعف من نار الحباحب» «1» وقيل: الحباحب اسم رجل من محارب بن خصفة، مشهور بالبخل، كانت له نار ضعيفة يوقدها مخافة الضيفان، فضربوا به المثل لذلك. قال الجوهري: وربما قيل نار أبي الحباحب، وهو ذباب. وقال في المرصع: يقال للنار القليلة التي لا ينتفع بها، وللذباب الطائر في الليل أبو حباحب. غير مصروف قلت: وهذا الطائر يسمى القطرب ذكره ابن البيطار وغيره وقال في الصحاح: القطرب طائر. وحكمه: تحريم الأكل لأنه من الحشرات. الحبارى: بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة: طائر معروف وهو اسم جنس يقع على الذكر والأنثى. واحده وجمعه سواء، وإن شئت قلت في الجمع: حباريات. قال الجوهري: وألف حبارى ليست للتأنيث ولا للإلحاق وإنما بني الاسم عليها، فصارت كأنها من نفس الكلمة، لا تنصرف في معرفة ولا نكرة، أي لا تنون. قلت: وهذا سهو منه بل ألفها للتأنيث كسماني ولو لم تكن له لانصرفت. وأهل مصر يسمون الحبارى الحبرج. وهي من أشد الطير طيرانا، وأبعدها شوطا، وذلك أنها تصاد بالبصرة، وفيوجد في حواصلها الحبة الخضراء، التي شجرها البطم، ومنابتها تخوم بلاد الشأم. ولذلك قالوا في المثل «أطلب من الحبارى» . وإذا نتف ريشها أو تحسر وأبطأ نباته ماتت كمدا. والكمد الحزن المكتوم. وهو طائر طويل العنق رمادي اللون في منقاره بعض طول وقال الجاحظ: الحبارى لها خزانة في دبرها وأمعائها لها أبدا فيها سلح رقيق. فمتى ألح عليها الصقر سلحت عليه فينتف ريشه كله، وفي ذلك هلاكه. وقد جعل الله تعالى سلحها سلاحا لها قال الشاعر «2» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وهم يتركوك أسلح من حبارى ... رأت صقرا وأشرد من نعام ومن شأنها أنها تصاد ولا تصيد. روى البيهقي في الشعب من حديث يحيى بن أبي كثير عن سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال أبو هريرة: كذب والذي نفسي بيده إن الحبارى لتموت هزالا من خطايا بني آدم، وهو كذلك في تفسير الثعلبي في آخر سورة فاطر يعني إذا كثرت الخطايا، منع الله القطر عن أهل الأرض. وإنما يصيب الطير من الحب والثمرة على قدر المطر قال الشاعر: يسقط الطير حيث يلتقط ... الحب وتغشى منازل الكرماء «1» وهي من أكثر الطير حيلة في تحصيل الرزق، ومع ذلك تموت جوعا لهذا السبب فسبحان القادر على ما يشاء وولدها يقال له نهار، وفرخ الكروان يقال له ليل ولذلك قال الشاعر: ونهارا رأيت منتصف اللي ... ل وليلا رأيت وسط النهار الحكم: يحل أكلها لأنها من الطيبات. روى أبو داود والترمذي عن يزيد بن عمر بن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أبيه عن جده أنه قال: «أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حبارى» . «2» قال الترمذي غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. الأمثال: قالوا: «أنكد من الحبارى» كما تقدم. وقال عثمان: «كل شيء يحب ولده حتى الحبارى» . «3» وإنما خصها بالذكر لأنها يضرب بها المثل في الحمق، فهي، على حمقها، تحب ولدها فتطعمه وتعلمه الطيران كغيرها من الحيوان. وقالوا: «أسلح من الحبارى» «4» حالة الخوف «وأسلح من الدجاج» «5» حالة الأمن. وقالوا: «الحبارى خالة الكروان» «6» وقالوا: «7» «أقصر من إبهام الحبارى» و «من إبهام القطاة» . الخواص: لحم الحبارى بين لحم الدجاج ولحم البط في الغلظ، وهو أخف من لحم البط لأنه بري وهو حار ورطب جدا. وأجوده المخاليف المكدودة قبل الذبح وهو نافع لتسكين الرياح، لكنه يضر بالمفاصل والقولنج. ويدفع ضرره الدارصيني والزيت والخل، ويتولد منه دم بلغمي ويوافق أصحاب الأمزجة الباردة من الشبان، لا سيما إذا أكل في الشتاء وفي البلاد الباردة. وقال صاحب تقويم الصحة: يكره لحم الحبارى لغلظه وعسر انهضامه وأجوده ما طبخ بعد أن يمضي عليه يومان ثم يغرز في صدره وأفخاذه الثوم الكثير والفلفل، ويعمل بالأبازير وهو إذا انهضم ولد غذاء كثيرا. وما كان منه مخلفا خير مما كان عتيقا، ويجب أن يتناول بعده حلواء العسل انتهى. وقال القزويني: يوجد في حوصلته حجر إذا علق على الإنسان لا يحتلم ما دام عليه وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 كان به إسهال حبس بطنه. وإذا علق قلبه على من يكثر النوم قل نومه. وقال أرسطا طاليس في النعوت: بيض الحبارى ما كان منه ذكرا يسود الشعر، ويبقى صبغه سنة لا ينصل وما كان منه أنثى لا يسود الشعر، ويعرف ما يسود بأن يؤخذ خيط فيدخل في إبرة ويدخل في بيضة فإذا اسود الخيط صبغ بها وإلا فلا. التعبير: الحبارى في المنام رجل سخي صاحب دخل وخرج بلا منفعة كثير الأكل والتعب لا يفتر ليلا ولا نهارا. الحبرج: ذكر الحبارى واليحبور ولدها وقيل اليحبور من طير الماء. الحبركى: القراد قالت «1» الخنساء: فلست بمرضع ثديي حبركى ... أبوه من بني جشم بن بكر والأنثى حبركاة وقال أبو عمرو الجرمي: قد جعل بعضهم الألف في حبركى للتأنيث، فلم يصرفه. وربما شبه به الرجل الغليظ الطويل الظهر القصير اليدين. حبلق: كعملس غنم صغار لا تكبر وقيل قصار الغنم ودقاقها. حبيش: قال الجوهري هو طائر جاء مصغرا كالكميت والكعيب انتهى. والكعيب البلبل كما تقدم. الحجر: الأنثى من الخيل لم يدخلوا فيه الهاء لأنه اسم لا يشركها فيه الذكر. والجمع أحجار وحجور وقيل: أحجار الخيل ما يتخذ منها للنسل، وليس بقوي. وفي كامل ابن عدي في ترجمة محمد بن عبد الله العرزمي، عن عمر بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «ليس في حجرة ولا بغلة زكاة» وهذا يدل على أنه يقال لها حجرة بالهاء. لكن في المستدرك، من حديث أبي حيان التيمي عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي الأنثى من الخيل فرسا. وحكمها: وخواصها كالخيل وسيأتي ذكر ذلك في باب الخاء المعجمة والفاء. التعبير: الحجرة في المنام امرأة شريفة مباركة لقوله صلى الله عليه وسلم: «ظهورها عز وبطونها كنز» . «3» فمن ركب حجرة في منامه بآلة الركوب، فإنه ينكح امرأة شريفة مباركة في عقد صحيح. ومن ركب حجرة بلا سرج ولا لجام، فإنه ينكح امرأة في غير عصمه، أو يركب أمرا لا يثبت عليه. وربما دلت الحجرة البيضاء على امرأة ذات حسب ونسب والحمراء على امرأة ذات زينة. والصفراء على امرأة ذات مرض. والسوداء على امرأة ذات ملك وسودد والدهماء كذلك. وربما دلت الحجرة على السنة فالسمينة خصب، والضعيفة جدب. وقد تكون ضعف الجاه والقوى والحيل والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الحجروف: دويبة طويلة القوائم أعظم من النمل حكاه ابن سيده. الحجل: بالفتح الذكر من القبج الواحدة حجلة واسم جمعه حجلى. ولم يأتي جمع على فعلى بكسر الفاء. الاحرفان حجلى وظربي جمع ظربان وهو دويبة منتنة الريح وستأتي في باب الظاء المشالة إن شاء الله تعالى. والحجل طائر على قدر الحمام، كالقطا أحمر المنقار والرجلين ويسمى دجاج البر، وهو صنفان: نجدي وتهامي، فالنجدي أخضر اللون أحمر الرجلين، والتهامي فيه بياض وخضرة. وفراخ هذا الطائر تخرج كاسية، ومن شأنها إذا لم تلقح أن تتمرغ في التراب، وتصبه على أصول ريشها فتلقح. ويقال إنها تبيض من سماع صوت الذكر أو بريح تهب من قبله، وإذا باضت ميز الذكر الذكور منها، فحضنها وهي تحضن الإناث وهما كذلك في التربية. قال التوحيدي: ويعيش الحجل عشر سنين ويصنع عشين يجلس الذكر على واحد، والأنثى على واحد، ومن طبع الحجل أنه يأتي أعشاش نظرائه، فيأخذ بيضها ويحضنه. فإذا طارت الفراخ لحقت بأمهاتها التي باضتها وفي تركيبه قوّة الطيران حتى إن الإنسان، إذا لم يره يظنه حجرا خرج من مقلاع. والذكر شديد الغيرة على الأنثى، فلذلك إذا اجتمع ذكران اقتتلا على الأنثى فأيهما غلب ذل الآخر. وتبعت الأنثى الغالب منهما. وفي طبع الذكر أن يخدع أمثاله بقرقرته، ولهذا يتخذه الصيادون في أشراكهم ليكثر القرقرة فيجتمع إليه أبناء جنسه فيقعن معه. وهو يفعل ذلك كالحاسد لها والمنتقم منها والأنثى إذا أصيب بيضها قصدت عش غيرها، وغلبتها على بيضها أو تسرقه وتحضنه. فائدة: ذكر في كتاب النشوان، وتاريخ ابن النجار عن أبي نصر محمد بن مروان الجعدي، أنه أكل بعض مقدمي الأكراد على سماط فيه حجلتان مشويتان، فأخذ الكردي بيده واحدة وضحك، فسأله عن ذلك فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر، فلما أردت قتله تضرع إلي فلم أقبل تضرعه، ولم أفلته فلما رأى الجد مني، التفت إلى حجلتين كانتا في جبل وقال اشهدا لي عليه إنه قاتلي ظلما فقتلته. فلما رأيت هاتين الحجلتين، تذكرت حمقه في استشهادهما علي. فقال ابن مروان لما سمع ذلك منه قد شهدتا والله عليك عند من يفيدك عند من يقيدك بالرجل ثم أمر بضرب عنقه. الحكم: أكلها حلال اتفاقا. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في النحام، في باب النون عن كامل ابن عدي أن الطير المشوي الذي أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم، كان حجلا. وقيل: كان نحاما. وصح أنه صلى الله عليه وسلم كان بين كتفيه خاتم مثل زر الحجلة. قال الترمذي: المراد بالحجلة هذا الطائر وزرها بيضها قلت: والصواب إنها حجلة السرير واحدة الحجال، وزرها الذي يدخل في عروتها. وروى البيهقي في دلائل النبوّة عن الواقدي عن شيوخه أنهم قالوا: لما شك في موت النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه، ثم قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد رفع الخاتم من بين كتفيه. فكان هذا هو الذي عرف به موته صلى الله عليه وسلم. وأسماء بنت عميس كانت زوجة جعفر بن أبي طالب ثم تزوّجها الصديق، فأولدها محمدا ثم تزوّجها علي بن أبي طالب، بعد وفاة الصديق. وكان محمد بن أبي بكر صغيرا فرباه علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 فهو ربيب علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين. فائدة أخرى: في المستدرك، عن وهب بن منبه، أنه قال: «لم يبعث الله نبيا إلا وقد كان عليه شامة النبوة في يده اليمنى، إلا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه» . «1» وقال علي رضي الله تعالى عنه: لأهل العراق يا أشباه الرجال ولا رجال، يا عقول ربات الحجال! وقال كثير عزة: وأنت الذي حببت كل قصيرة ... إلي فلا تدرك نداك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطاشر النساء البحاتر «2» وسيأتي الكلام على خاتم النبوة في باب الكاف في لفظ الكركي. الأمثال: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بالحجل فقال «3» : «اللهم إني أدعو قريشا وقد جعلوا طعامي طعام الحجل» . يريد أنه يأكل الحبة بعد الحبة لا يجد في الأكل. وقال الأزهري: أراد إنهم غير جادين في إجابتي فلا يدخل منهم في دين الله إلا النادر القليل. وروى الحافظ أبو القاسم الأصبهاني في كتاب الترغيب والترهيب، عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «4» «أول ما يحاسب العبد عليه يوم القيامة صلاته فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله» . قال وكان يقول: «حاذوا المناكب في الصلاة فإن الشيطان يتخلل الصفوف كما يتخلل الحجل والصف الأيمن خير من الصف الأيسر» قال قوله: حاذوا من الحذاء وهو أن يجعل المنكب بجنب المنكب. الخواص: لحمها معتدل جيد سريع الهضم إذا ابتلع من كبدها وهي حارة قدر نصف مثقال نفع من الفزع، ومرارتها تنفع الغشاوة المظلمة في العين اكتحالا. وإذا سعط بمرارتها إنسان في كل شهر مرة احتد ذهنه، وقل نسيانه، وقوي بصره. وقال المختار بن عبدون: بيض الحجل ألطف من بيض الدجاج، وهو نافع للمترفهين وضار بأصحاب الكد، ويولد غذاء معتدلا، ويوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة، وهو أجود هضما من بيض الدجاج، وأجود ما يعمل أن يلقى في الماء وهو يغلي وفيه ملح أو خل، ويكون الماء متساويا عليه. وكذلك كل بيض، وأما المطجن من كل بيض فرديء جدا يولد حجارة في المثانة، ويحدث غما وقولنجا. والمغلي في الماء أهضم منه وأنفع ومن المقلي في الأدهان أيضا انتهى. وقال غيره: بيض الحجل إذا طبخ في الماء المغلي في الكمون والملح أو بخل اعنصل وأكل نفع من المغص وسائر أوجاع البطن. وأما رؤيته في المنام: فالحجلة تدل على امرأة غير الفة وربما تدل رؤيتها على محبة الأولاد. الحدأة: بكسر الحاء المهملة، أخس الطير، كنيته أبو الخطاف، وأبو الصلت، ولا تقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 حدأة بفتح الحاء، لأنها الفاس التي لها رأسان وقد جاء في الحديث الحديا على وزن الثريا، كذا قيده الأصيلي. وقد جاء الحدياة بغير همز وفي بعض الروايات الحديثة بالهمزة كأنه تصغير. ذكره الصاغاني قال: وصواب تصغيره الحديثة بالهمز وإن ألقيت حركة الهمزة على الياء شددتها، وقلت: الحدية على مثال عليه. وفي الحديث لا بأس بقتل الحدو والإفعو، قال الأزهري: هي لغة فيهما. وقال ابن السراج: بل هي على مذهب الوقف لا على هذه اللغة قلب الألف واوا على لغة من قال حدا وكذا أفعى انتهى. وقال الأصمعي: جمع الحدأة حدأ كلبا وزاد ابن قتيبة وحدآن. قال الجوهري: هي مثل عنبة وعنب وقد قال في ع ن ب الحبسة من العنب عنبة وهو بناء نادر لأن الأغلب على هذا البناء الجمع نحو قرد وقردة وفيل وفيلة وثور وثورة. إلا أنه قد جاء للواحد، وهو قليل نحو العنبة والتولة والطيبة والخيرة والطيرة ولا أعرف غيره انتهى. وهو قد ذكر ذلك في حدأة كما تقدم والطيبة المغنم الهنيء والتولة ما تحبب به المرأة لزوجها، والخيرة والطيرة معروفتان. قلت: وقد يرد عليه ثومة جمعه ثوم وذبحة وهو وجع في الحلق ومنة وهو العنكبوت، ورمخة وهي البلحة وضمخة وهي السمينة وهننة وهي نوع من القنافذ وتيمة وهي شجرة بوادي إبراهيم بالحجاز، والحدأة تبيض بيضتين، وربما باضت ثلاثا، وخرج منها ثلاثة أفراخ، وتحضن عشرين يوما، ومن ألوانها السود والرمد وهي لا تصيد وإنما تخطف. ومن طبعها أنها تقف في الطيران، وليس ذلك لغيرها من الكواسر. وزعم ابن وحشية وابن زهر أن العقاب والحدأة يتبدلان فيصير العقاب حدأة والحدأة عقابا. وفي نسخة الغراب بدل العقاب فسبحان القادر على ما يشاء. ويقال: إنها أحسن الطير مجاورة لما جاورها من الطير، فلو ماتت جوعا لا تعدو على فراخ جارها وتزعم رواة الأخبار ونفلة الآثار أنها كانت من جوارح سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وإنما امتنعت من أن تؤلف أو تملك لأنها من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده. والسبب في صياحها عند سفادها أن زوجها قد جحد ولدها منه، فقالت: يا نبي الله قد سفدني حتى إذا حضنت بيضي وخرج منه ولدي جحدني. فقال سليمان عليه السلام للذكر: ما تقول؟ فقال: يا نبي الله إنها تحوم البراري ولا تمتنع من الطير فلا أدري أهو مني أو من غيري! قال: فأمر سليمان عليه السلام بإحضار الولد فوجده شبه والده فألحقه به. ثم قال لها سليمان عليه السلام: لا تمكنه أبدا حتى تشهدي عليه ذلك الطير لئلا يجحد بعدها. فصارت إذا سفدها صاحت وقالت: يا طيور اشهدوا فإنه سفدني اهـ-. وتقول في صياحها كل شيء هالك إلا وجهه وهي طرشاء ولو كانت مما يصاد بها لما كان من الكواسر أحسن صيدا منها، ولا أجل ثمنا. ومن طبعها أنها لا تخطف إلا من يمين من تخطف منه، دون شماله، حتى إن بعض الناس يقول: إنها عسراء لأنها لا تأخذ من شمال إنسان شيئا. وقال القزويني: إنها سنة ذكر وسنة أنثى. وفي صحيح البخاري وغيره أن أعرابية كانت تخدم نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت كثيرا ما تتمثل بهذا البيت «1» . ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ... على أنه من ظلمة الكفر نجاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 فقالت لها عائشة رضي الله تعالى عنها: ما هذا البيت الذي أسمعه منك: فقالت شهدت عروسا لنا تجلى، إذ دخلت مغتسلا لنا وعليها وشاح، فوضعته فجاءت الحديا فأبصرت حمرته فأخذته، ففقدوا الوشاح فاتهموني به ففتشوني حتى قبلي فدعوت الله أن يبرئني «فجاءت الحديا بالوشاح حتى ألقته بينهم» «1» . كذا قيده الأصيلي الحديا على وزن الثريا. وروي من طريق الصاغاني وغيره: الحدياة بغير همزة والحديئة بالهمز. وفي رواية فرفعت رأسي وقلت يا غياث المستغيثين فما أتممتهن، حتى جاء غراب فرمى الوشاح، أو قالت فألقى الوشاح بيننا فلو رأيتني يا أم المؤمنين وهن حولي يقلن: اجعلينا في حل، فنظمت ذلك في بيت، فأنا أنشده لئلا أنسى النعمة فأترك شكرها. وروى الحافظ النسفي في كتاب فضائل الأعمال بإسناده إلى حماد بن سلمة، أن عاصم بن أبي النجود، شيخ القراء، في زمانه قال: أصابتني خصاصة «2» فجئت إلى بعض إخواني فأخبرته بأمري فرأيت في وجهه الكراهة، فخرجت من منزله إلى الجبانة فصليت ما شاء الله، ثم وضعت وجهي على الأرض، وقلت: يا مسبب الأسباب، يا مفتح الأبواب، يا سامع الأصوات، يا مجيب الدعوات، يا قاضي الحاجات اكفني بحلالك عن حرامك، وأغنني بفضلك عمن سواك. قال: فو الله ما رفعت رأسي حتى سمعت وقعة بقربي فرفعت رأسي فإذا حدأة طرحت كيسا أحمر فأخذت الكيس فإذا فيه ثمانون دينارا جوهرة ملفوفة في قطنة مندوفة. قال: فبعت الجوهرة بمال عظيم وفضلت الدنانير فاشتريت بها عقارا وحمدت الله على ذلك انتهى. وحكى القشيري في الرسالة، في آخر باب كرامات الأولياء، عن شبل المروزي أنه اشترى لحما بنصف درهم فاستلبته منه حدأة فدخل شبل مسجدا يصلي فيه، فلما رجع إلى منزله قدمت له زوجته لحما، فقال لها من أين لكم هذا؟ فقالت: تنازع حدأتان فسقط هذا منهما! فقال شبل: الحمد لله الذي لم ينس شبلا، وإن كان شبل ينساه. وفي كتاب المجالسة للدينوري، في الجزء الثالث، عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، قال: كان سعد بن أبي وقاص بين يديه لحم، فجاءت حدأة فأخذته فدعا عليها سعد فاعترض عظم في حلقها فوقعت ميتة انتهى. وروينا بالسند الصحيح أن الشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه، جلس يوما يعظ الناس، وكانت الريح عاصفة، فمرت على مجلسه حدأة طائرة، فصاحت فشوشت على الحاضرين ما هم فيه، فقال الشيخ: يا ريح خذي رأس هذه الحدأة فوقعت لوقتها في ناحية ورأسها في ناحية فنزل الشيخ عن الكرسي وأخذها بيده، وأمر يده الأخرى عليها. وقال: بسم الله الرحمن الرحيم فحييت وطارت والناس يشاهدون ذلك. الحكم: يحرم أكلها لأنها من الفواسق الخمس المأمور بقتلها. قال الخطابي: المراد بفسقها تحريم أكلها. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفأر بيان ذلك. وفي الصحيحين من حديث ابن عمر وعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «خمس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فواسق يقتلن في الحل والحرم» . وفي رواية «ليس على المحرم في قتلهن جناح الحدأة والغراب الأبقع والعقرب والفأرة والكلب والعقور» . نبه صلى الله عليه وسلم بذكر هذه الخمسة على جواز قتل كل مضر فيجوز له أن يقتل الفهد والنمر والذئب والصقر والشاهين والباشق والزنبور والبرغوث والبق والبعوض والوزغ والذباب والنمل إذا آذاه. قال الرافعي: وفي معنى هذه الخمسة: الفحية والذئب والأسد والنمر والنسر والعقاب، فهذه الأنواع يستحب قتلها للمحرم وغيره. وقال في باب الأطعمة ما يخالف ذلك وهو أن قتلها على سبيل الوجوب وسيأتي بيان هذا إن شاء الله تعالى، في باب الصاد في الكلام على الصيد. الأمثال: قالوا «1» : «حدأة حدأة وراءك بندقة» قال أبو عبيدة: يراد بذلك هذه الحدأة التي تطير، والبندقة ما يرمي به يضرب للتحذير. الخواص: مرارتها تجفف في الظل وتنقع في إناء زجاج، فمن لسعه شيء من الهوام، قطر منه في الموضع الذي لسع فيه، واكتحل مخالفا إن لسع في الجانب الأيمن، اكتحل في العين اليسرى، وإن لسع في الجانب الأيسر اكتحل في العين اليمنى ثلاثة أميال، فإنه ينجيه. وإن سحقت وطرحت في سلة الحاوي، ماتت الحيات كلها. ودمها إذا خلط بقليل مسك وماء ورد شرب على الريق نفع من ضيق النفس. وإن علقت وهي حية في بيت لم يدخله حية ولا عقرب. التعبير: الحدأة تدل رؤيتها على الحرب والقتال، لما قيل «حدأة حدأة وراءك بندقة» قال بعض أهل اللغة: إن حدأة وبندقة كانتا قبيلتين من سعد العشيرة، فأغارت حدأة وتغلبت، وكانت تنزل بالكوفة على بندقة، وكانت تنزل باليمن، فنالت منهم، ثم كسرت بندقة حدأة وتغلبت عليهم. وقيل: هي الطائر المعروف، وبندقة الرامي كما تقدم. وربما دلت على الرجل المتجرم أو المرأة الزانية. وجماعة الحدأ تدل على قطاع الطريق، وربما دلت رؤيتها على من يحل قتاله لكفره وشركه، فإن قتلهم مباح في الحل والحرم، وكذلك الحدأة قاله ابن الدقاق. وقال غيره: الحدأة في المنام ملك خامل الذكر ظالم، وذلك لقوة سلاحه وقربه من الأرض. ومن أصاب حدأة ولد له غلام وينال قبل البلوغ ملكا، فإن طارت منه مات الولد. وقال أراطيمدورس: الحدأة في المنام تدل على اللصوص والخطافين وتدل على النساء والله أعلم. الحذف: بفتح الحاء والذال المعجمة غنم سود صغار من غنم الحجاز، الواحد حذفة وفي حديث الصلاة «لا يتخللكم الشياطين كأنها حذف» . وفي رواية «2» كأولاد الحذف قيل: «يا رسول الله وما أولاد الحذف؟ قال: ضأن سود جرد صغار تكون باليمن» . الحر: الفرس العتيق وفرخ الحمامة وقيل الذكر منها وولد الظبية وولد الحية والصقر البازي وقال ابن سيده: الحر طائر صغير أنمر أصقع قصير الذنب عظيم المنكبين والرأس. وقيل إنه يضرب إلى الخضرة وهو يصيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الحرباء: كنيته أبو خجادب وأبو الزنديق وأبو الشقيق وأبو قادم. ويقال له جمل اليهود كما تقدم. قال الإمام القزويني في كتاب عجائب المخلوقات: لما كان الحرباء خلقا بطيء النهضة وكان لا بد له من القوت خلقه الله على صورة عجيبة فخلق عينيه تدور إلى كل جهة من الجهات، حتى يدرك صيده من غير حركة في يديه، ولا قصد إليه، ويبقى كأنه جامد، أو كأنه ليس من الحيوان. ثم أعطي مع السكون خاصية أخرى، وهو أنه يتشكل بلون الشجرة التي يكون عليها، حتى يكاد يختلط لونه بلونها، ثم إذا قرب منه ما يصطاده من ذباب وغيره، أخرج لسانه ويخطف ذلك بسرعة، كلحوق البرق، ثم يعود إلى حاله كأنه جزء من الشجرة، وخلق الله لسانه بخلاف المعتاد ليلحق ما بعد عنه بثلاثة أشبار ونحوها، يصطاد به على هذه المسافة، وإذا رأى ما يروعه ويخوفه تشكل وتكوّن على هيئة وشكل، يفر منه كل من يريد من الجوارح ويكرهه بسبب ذلك التلون. انتهى. والحرباء أكبر من العظاية، وهي تستقبل الشمس وتدور معها كيفما دارت، وتتلون بحر الشمس كما قال الإمام الغزالي ألوانا مختلفة، فتتلون إلى حمرة وصفرة وخضرة وما شاءت. وهو ذكر أم حبين والجمع الحرابي والأنثى حرباءة. قال رجل: خاصمت ابن أخي إلى معاوية فجعلت أحجه، فقال: أنت كما قال الشاعر «1» : إني أتيح له حرباء تنضبة ... لا يرسل السماق إلا ممسكا ساقا أراد بالساق هنا الغصن من أغصان الشجرة. والمعنى: أنه لا تنقضي له حجة حتى يتمسك بأخرى، تشبيه بالحرباء. قال الجوهري: ويقال حرباء تنضب كما يقال ذئب غضى. والتنضب شجر يتخذ منه السهام والتاء زائدة لأنه ليس في الكلام فعلل، وفي الكلام تفعل مثل تقتل وتخرج، والواحدة تنضبة، ويقال لها أيضا حرباء الظهيرة. وهي دويبة غبراء ما دامت فرخا، ثم تصفو وهي أبدا تطلب الشمس، فحين تبدو تنحرف بوجهها إليها حتى إذا استوت الشمس، علت رأس شجرة وما يجري مجراها، فإذا صار قرص الشمس فوق رأسها، بحيث لا تراها أصابها مثل الجنون، فلا تزال طالبة لها، ولا تفتر إلى أن تتصوّب إلى جهة المغرب، فترجع بوجهها إليها مستقبلة لها، ولا تنحرف عنها إلى أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس، طلب هذا الحيوان معاشه ليله كله إلى أن يصبح. حتى إن طائفة من المتكلمين على طبائع الحيوان، يقولون: إنه مجوسي ولسانه طويل جدا مقدار ذراع كما تقدم، وذلك دليل على أنه يكون مطويا في حلقه، وهو يبلغ به ما بعد عنه من الذباب والأنثى من هذا النوع تسمى أم حبين. وستأتي في آخر الباب. وقد سمي أبو النجم في بعض شعره الحرباء بالشقي، وليس الشقي باسم للحرباء، وإنما سماه به لاستقباله الشمس، كذا ذكره في المحكم في العين والنون والباء. وهذا الحيوان يوصف بالحزم لأنه، مع تقلبه مع الشمس، لا يرسل يده من غصن حتى يمسك غيره، وهو يشبه رأس العجل وعلى هيئة السمكة الصغيرة، وله أربعة أرجل كسام أبرص. وذكر الشيخ جمال الدين بن هشام، في شرح بانت سعاد، أن للحرباء سناما كسنام البعير وإنه يتلون ألوانا، ويكنى أبا قرة، وهي تتلون بلون الشجرة، التي تكون عليها، حتى تكاد تختلط بلونها، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 قرب منها الذباب ونحوه اختطفته بلسانها، وقد تقدم عن القزويني نظير ذلك. الحكم: قال في الروضة إنها نوع من الوزغ غير مأكولة لكن مقتضى ما قاله الجاحظ والجوهري من أنها ذكر أم حبين، أنها تؤكل، لأن أم حبين مأكولة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. لكن قالوا: إن الحرباء من ذوات السموم، فيكون هذا علة تحريمها إلا إنها نوع من الوزغ. الأمثال: قالوا: «فلان يتلون تلون الحرباء» ، يضرب لمن لا يثبت على حالة، وقالوا: «أجود من عين الحرباء» «وأحزم من الحرباء» لما «1» تقدم. والحزم الاحتراس والنظر في الأمر قبل الإقدام عليه. الخواص: دمها إذا نتف الشعر النابت في أجفان العين وجعل في أصوله لم ينبت أبدا ومرارتها إذا اكتحل بها أزالت غشاوة البصر. وشحمها إذا جعل على حديدة وأحرق بالنار وخلط بالدم، مع شيء يسير من الماء وجدد عليه الدم والشحم، وطلي به قروح الرأس والأبثار، فإنه يبرئها من أول طلية. التعبير: الحرباء في المنام وزير ملك أو خليفته، لا يكاد يفارقه لأنها تدور أبدا مع الشمس، ولا تفارقها كما تقدم. وربما دلت على الخدمة للسلطان، أو الفتنة في الدين أو المرأة المجوسية وربما دلت على الحرب والندب وعلى الميت والله أعلم. الحرذون: بكسر الحاء وبالذال المعجمة دويبة شبيهة بالضب، وقيل: هو ذكر الضب لأن له ذكرين مثله وهو من ذوات السموم يوجد في العمران المهجورة كثيرا له كف ككف الإنسان مقسومة الأصابع إلى الأنامل، وجلده لا برص فيه، بخلاف سام أبرص، والحق أنه غير الورل خلافا لعبد اللطيف البغدادي. وحكمه : تحريم الأكل لأنه من ذوات السموم. الخواص: قال أرسطو: من اطّلى بشحم الحرذون، وألقى نفسه على التمساح لم يضره التمساح، وإذا شم رائحته خدر وانقلب على ظهره. وإن أحرق جلده واطلى به إنسان لم يحس بألم الضرب والقطع، ولو فرق بين رأسه وجسده، والعيارون يفعلون ذلك، فيظهر منهم الثبات على الضرب وغيره، والحرذون يقتل العقرب وإذا علق شحمه على صاحب حمى الربع في خرقة سوداء أبرأه وأزالها، وقال مهراريس: إنما يعلق قلبه على الوصف الذي تقدم. ورؤيته في المنام: تدل على الطمع والشره في الكسب واختلاف المزاج والذهول والنسيان والله تعالى أعلم. الحرشاف أو الحرشوف: الجراد المهزول الكثير الأكل الواحدة حرشافة. وفي حديث خولة بنت ثعلبة زوج أوس بن الصامت رضي الله عنهما، لما قال لها: أنت كظهر أمي، وجاءت تستفتي له رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشتكي إلى الله، فأنزل الله عزّ وعلا فيها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ «1» إلى آخر الآيات. قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «مريه أن يعتق رقبة «2» . قالت: والله ما يجد رقبة وماله خادم غيري. قال: مريه فليصم شهرين متتابعين. قالت: والله يا رسول الله ما يقدر على ذلك، إنه ليشرب في اليوم كذا كذا مرة قد ذهب بصره مع ضعف بدنه، وإنما هو كالحرشافة» شبهته بالجراد المهزول الكثير الأكل. الحرقوص: بضم الحاء المهملة وبالقاف المضمومة وبالصاد المهملة في آخره وبالسين في لغة عوض الصاد دويبة كالبرغوث صغير أرقط بحمرة أو صفرة، ولونه الغالب عليه السواد. وربما نبت له جناحان فطار قال الراجز: ما لقى البيض من الحرقوص ... يدخل تحت الحلق المرصوص من مارد لص من اللصوص ... بمهر لا غال ولا رخيص أراد بلا مهر أصلا. وقيل هي دويبة مثل القراد وأنشدوا: مثل الحراقيص على حمار وفي ربيع الأبرار للزمخشري: أنها دويبة أكبر من البرغوث، وعضها أشد من عضه، وهي مولعة بفروج النساء تولع النمل بالمذاكير، وينبت لها جناحان كما ينبت للنملة، وقيل الحرقوص البرغوث بعينه، واحتج له بقول الطرماح: «3» ولو أن حرقوصا على ظهر قملة ... يكر على صفي تميم لولت «4» ويقال له النهيك وقالت أعرابية: يا أيها الحرقوص مهلا مهلا ... أإبلا أعطيتني أم نحلا أم أنت شيء لا تبالي الجهلا وقال ابن سيده: الحرقوص دويبة محزمة لها حمة كحمة الزنبور تلدغ بها كأطراف السياط، ولذلك يقال لمن ضرب بأطراف السياط أخذته الحراقيص. فائدة: الحرقوص السعدي رجل من الصحابة وهو ذو الخويصرة التميمي، الذي بال في المسجد وهو القائل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقسم: اعدل. فقال: «ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل» قد «خبت وخسرت إن لم أعدل» «5» . وهو الذي خاصم الزبير في شراج الحرة، وقال أن كان ابن عمتك «فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير باستيفاء حقه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وقال ابن الأثير، في أسد الغابة: الحرقوص بن زهير السعدي من الصحابة ذكره الطبري وقال: إن الهرمز أن الفارسي، كفر ومنع ما قبله واستعان بالأكراد وكثر جمعه فكتب عتبة بن غروان إلى عمر رضي الله عنه بذلك، فكتب إليه عمر يأمره بقصده وأمد المسلمين بحرقوص بن زهير. وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بالقتال فاقتتل المسلمون والهرمزان، فانهزم الهرمزان. وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها. وله أثر كبير في قتال الهرمزان. وبقي حرقوص إلى أيام علي رضي الله تعالى عنه وشهد معه صفين ثم صار مع الخوارج ومن أشدهم على علي. وكان مع الخوارج لما قاتلهم علي فقتل حرقوص يومئذ سنة سبع وثلاثين. وحكمه : تحريم الأكل لأنه من الحشرات. الحريش: نوع من الحيات أرقط. كذا قاله الجوهري بعد هذا: الحريش دابة لها مخالب كمخالب الأسد، ولها قرن واحد في هامتها ويسميها الناس بالكركدن. وقال أبو حيان التوحيدي: هي دابة صغيرة في جرم الجدي ساكنة جدا. غير أن لها من قوّة الجسم وسرعة الحركة ما يعجز القناص ولها في وسط رأسها قرن واحد مصمت مستقيم، تناطح به جميع الحيوان، فلا يغلبها شيء ويحتال لصيدها بأن تتعرض لها فتاة عذراء أو صبية فإذا رأتها وثبت إلى حجرها كأنها تريد الرضاع، وهذه محبة فيها طبيعية ثابتة فإذا هي صارت في حجرة الفتاة، أرضعتها من ثديها على غير حضور اللبن فيها، حتى تصير كالنشوان من الخمر، فيأتيها القناص على تلك الحالة، فيشدها وثاقا على سكون منها، بهذه الحيلة. وقال القزويني في الأشكال: الحريش حيوان في حجم الجدي ذو عدو شديد، وعلى رأسه قرن واحد كقرن الكركدن، وأكثر عدوه على رجليه لا يلحقه شيء في عدوه، ويوجد في غياض بلغار وسجستان انتهى. وحكمه: التحريم سواء كان من نوع الحيات أو الحيوان الموصوف لعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع. الخواص: دمه يشربه من به خناق ينفتح في الحال، ولحمه يبرىء صاحب القولنج أكلا. وكعبه يجعل على العرق المدمي يسكن ألمه. الحسبان: الجراد واحده حسبانة وكذلك النملة الصغيرة. الحساس: جنس من السمك صغار وهو الهف. الحسل: ولد الضب. والجمع أحسال وحسول وحسلان وحسلة. يقال ذلك لولد الضب حين يخرج من بيضته وكنية الضب أبو حسل. وحكمه : كأبيه. الأمثال: قالوا «1» : «لا آتيك سن الحسل» . أي أبدا لأن سنها لا تسقط حتى تموت وأنشد العجاج يقول» : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 إنك لو عمرت عمر الحسل ... أو عمر نوح زمن الفطحل «1» والصخر مبتل كطين الوحل ... كنت رهين هرم وقتل «2» الفطحل على وزن الهزبرز من لم يخلق فيه الناس وكانت الحجارة فيه رطبة. الحسيل: ولد البقرة الأهلية لا واحد له من لفظه. والأنثى حسيلة. كذا قاله الجوهري وهو وهم والصواب الحسيل أولاد البقر واحده حسيلة لأنه سمع له واحد من لفظه. وفي كفاية المتحفظ: الحسيلة البقرة وجمعها حسائل. حسون: عصفور ذو ألوان، بحمرة وصفرة وبياض وسواد وزرقة وخضرة، يسميه أهل الأندلس أبا الحسن، والمصريون أبا زقاية وربما أبدلوا الزاي سينا، وهو يقبل التعليم فيعلم أخذ الشيء من يد الإنسان المتباعد ويأتي به إلى مالكه. وهو داخل في عموم العصافير. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة. الحشرات: صغار دواب الأرض وصغار هوامها. الواحدة حشرة بالتحريك. وابن أبي الأشعث يسمي جميع هذا الحيوان الأرضي، لأنه لا يفارقها إلى الهواء، ولا إلى الماء وهو يأوي في حجرته، ويركز في بطنها ولا يحتاج إلى شرب الماء، ولا إلى شم النسيم. وهو قرين الأفاعي والحيات والجرذان الأهلية والبربة، واليربوع والضب والحرذون والقنفذ والعقرب والخنفساء والوزغ والنمل والحلم، وأنواع أخرى، سيأتي منها ما لم يتقدم له ذكر. فائدة: قوله «3» تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ قال مجاهد: اللاعنون الحشرات والبهائم، يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين، فيلعنونهم. رواه ابن ماجه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: كيف جمع ما لا يعقل جمع من يعقل؟ فالجواب أنه أسند إليهم فعل من يعقل كما قال: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «4» . ولم يقل ساجدات. وكقوله «5» تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. اللاعنون كل المخلوقات ما عدا الجن والإنس. وقيل ما عدا الملائكة فقط. الحكم: يحرم أكل الحشرات، ولا يصح بيعها لعدم النفع بها. وبه قال الإمام أحمد وأبو حنيفة وداود. وقال مالك: إنها حلال لقوله «6» تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً الآية. ولحديث التلب بن ثعلبة بن ربيعة التميمي قال: «صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما» . رواه أبو داود والتلب بتاء مثناة من فوق مفتوحة ثم لام مكسورة ثم باء ثالثة الحروف. وقال شعبة الثلب بثاء مثلثة وفي سنن أبي داود، في كتاب العتاق، عن أحمد أنه قال: كان شعبة ألثغ لم يبين التاء من الثاء. وكذلك قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر، ثم قال: وكان التلب يكنى أبا الملقام، روى عنه ابنه ملقام أنه أتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «استغفر لي يا رسول الله، فقال: اللهم اغفر للتلب وارحمه» . ثلاثا. واحتج الشافعي والأصحاب بقوله «1» تعالى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وهو ما تستخبثه العرب. وبقوله «2» صلى الله عليه وسلم: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» . رواه البخاري ومسلم من رواية عائشة وحفصة وابن عمر رضي الله عنهم وعن أم شريك أنه صلى الله عليه وسلم «أمر بقتل الأوزاغ» . رواه «3» الشيخان. وأما قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً «4» الآية: فقد قال الشافعي وغيره من العلماء: معناه مما كنتم تأكلونه وتستطيبونه. وقال الغزالي، في الوسيط: لا يؤكل من الحشرات إلا الضب. وقد استدرك عليه اليربوع وابن عرس وأم حبين والقنفذ والدلدل. وسيأتي الكلام عليهن في أماكنهن إن شاء الله تعالى. الحشو والحاشية: صغار الإبل التي لا كبار فيها وكذلك من الناس. الحصان: بكسر الحاء المهملة الذكر من الخيل. قيل: إنما سمي حصانا لأنه حصن ماء فلم ينز إلا على كريمة. روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط، فغشيته سحابة فجعلت تدنو وتدنو فجعل فرسه ينفر، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «تلك السكينة تنزلت للقرآن» «5» . والرجل المذكور أسيد بن حضير. وفي الخبر أن فرعون هاب دخول البحر، وكان على حصان أدهم، ولم يكن في خيل فرعون أنثى، فجاءه جبريل على فرس وديق أي تشتهي الفحل على صورة هامان، وقال له: تقدم فخاض للبحر، فتبعها حصان فرعون وميكائيل يسوقهم لا يشرد منهم أحد، فلما صار آخرهم في البحر، وهم أولهم أن يخرج انطبق عليهم فأغرقهم أجمعين. وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كان أصحاب موسى ستمائة ألف وسبعين ألفا. وقال عمرو بن ميمون: كانوا ستمائة ألف. وقيل: خرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يعدون ابن العشرين لصغره، ولا ابن الستين لكبره. وكانوا يوم دخول مصر مع يعقوب اثنين وسبعين ألفا، ما بين رجل وامرأة. فلما أراد المسير، ضرب الله عليهم التيه، فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 بني إسرائيل، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: إن يوسف عليه الصلاة والسلام، لما حضره الموت أخذ على إخوته عهدا أن لا يخرجوا من مصرحتى يخرجوه معهم، فلذلك أنسد علينا الطريق. فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا فقام موسى ينادي أنشد الله كل من يعلم أين قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمت أذنه عن قولي، فكان يمر بين الرجلين وهو ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز من بني إسرائيل فقالت: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كل ما سألتك؟ فأبى عليها، وقال: حتى أسأل ربي عزّ وجلّ. فأمره الله أن يعطيها سؤالها. فقالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل غرفة في الجنة إلا نزلتها معك. قال: نعم. قالت: إنه في جوف الماء في النيل، فادع الله حتى يحسر عنه الماء. فدعا الله تعالى فحسر عنه الماء. ودعا الله تعالى أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف، فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه في صندوق مرمر، وحمله معه حتى دفنه بالشام. ففتح لهم الطريق فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم. ونذر بهم فرعون فجمع قومه، وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل، حتى تصيح الديكة. قال عمرو بن ميمون: فو الله ما صاح ديك تلك الليلة. فخرج فرعون في طلب بني إسرائيل، وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وكان فيهم سبعون ألفا من دهم الخيل، سوى سائر الشيات. وقال شيخ التفسير محمد بن جرير الطبري: كان في عسكر فرعون مائة ألف حصان أدهم، وكان فرعون في سبعة آلاف وكان في الدهم، وكان بين يديه مائة ألف ناشب، ومائة ألف أصحاب حراب، ومائة ألف أصحاب أعمدة. وكان الماء في غاية زيادته، وكان قد أشرف على بني إسرائيل حين أشرقت الشمس، فتحير أصحاب موسى فأوحى الله تعالى إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فلم يطعه فأوحى الله تعالى إليه أن كنه فضربه وقال انفلق أبا خالد بإذن الله تعالى فانفلق، فكان كل فرق كالطود العظيم، وظهر فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق، وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل. وأرسل الله تعالى الريح والشمس على قعر البحر حتى صار يبسا فحاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق، وعن جانبهم الماء كالجبل الضخم فصار لا يرى بعضهم بعضا فخافوا. وقال كل سبط قد قتل إخواننا فأوحى الله تعالى إلى الماء أن يشبك فصار الماء شبكات كالطاقات يرى بعضهم بعضا ويسمع بعضهم كلام بعض، حتى عبروا البحر سالمين. فذلك قوله «1» تعالى: فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وذلك أن فرعون، لما وصل إلى البحر، ورآه متقطعا قال لقومه: انظروا إلى البحر كيف انفلق من هيبتي، حتى أدرك عبيدي الذين أبقوا! ادخلوا البحر، فهاب قومه أن يدخلوه، وقالوا له: إن كنت ربا فادخل البحر كما دخل. يعني موسى. وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون فرس أنثى، فجاء جبريل عليه السلام على فرس أنثى وديق، فتقدمهم وخاض البحر، فلما شم أدهم فرعون ريحها، اقتحم البحر في أثرها، ولم يملك فرعون من أمره شيئا، وهو لا يرى فرس جبريل عليه السلام، فاقتحمت الخيول خلفه البحر، وجاء ميكائيل عليه السلام على فرس، خلف القوم يسوقهم، حتى لم يبق رجل، وهو يقول لهم: الحقوا بأصحابكم، حتى إذا خاضوا كلهم البحر، وخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 جبريل عليه السلام من البحر، وهم أولهم بالخروج، أمر الله عزّ وجلّ، البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم أجمعين. وكان بين طرفي البحر أربعة فراسخ. وذلك بمرأى من بني إسرائيل. وذلك قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ* أي إلى مصارعهم. وقيل: إلى هلاكهم. والبحر هو القلزم طرف من بحر فارس انتهى. وقال قتادة: هو بحر وراء مصر، يقال له أساف. ولا خلاف أن فرعون مات كافرا، ولا التفات إلى قول من قال خلاف ذلك، ولا تعريج عليه. والنزاع في أنه مات مسلما مكابرة وخرق للإجماع، والله أعلم. وذكر «1» ابن خلكان أن عبد الملك بن مروان، لما عزم على الخروج لمحاربة مصعب بن الزبير ناشدته زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، أن لا يخرج بنفسه، وأن يستنيب غيره، وألحت عليه في المسألة، فلما لم يسمع منها بكت وبكى من حولها من حشمها. فقال عبد الملك: قاتل الله كثيرا كأنه رأى موقفنا هذا حين قال: إذا ما أراد الغزو لم يثن همّه ... حصان عليها نظم دريزينها «2» نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها ثم عزم عليها أن تقصر، وخرج. ويضاهي هذه الحكاية في طرفة اتفاقها وملحة مساقها ما حكي أن المأمون حين بنى على بوران بنت الحسن بن سهل، فرش له حصير منسوج بالذهب، ثم نثر على قدميه لآلىء كثيرة، فلما رأى المأمون تساقط اللآلىء المختلفة، على الحصير المنسوج بالذهب، قال: قاتل الله أبا نواس كأنه شاهد هذه الحال حين شبه حباب كأسه بقول «3» : كأن كبرى وصغرى من فواقعها ... حصباء در على أرض من الذهب وقد عيب ذلك على أبي نواس وقد اعتذر عنه بأنه جعل من في البيت زائدة على ما أجازه أبو الحسن الأخفش من زيادتها في الكلام الموجب، وأول عليه قوله «4» تعالى: مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ وقيل: تقديره فيها برد والله أعلم. الحصور: الناقة الضيقة الإحليل والحصور من الرجال الذي لا يقرب النساء. فائدة أجنبية: ذكرها الصاغاني في العباب قال: سألني والدي تغمده الله تعالى برحمته، وأسكنه بحبوحة جنته بعزته، قبل سنة تسعين وخمسمائة وأنا إذ ذاك أسحب مطارف الشباب، في رغد العيش اللباب، وهو يفيدني غرر الفوائد ويزقني درر الفرائد. وكان رحمه الله ريان من الفضائل، ظعانا عن الرذائل، عن معنى قولهم: قد أثر حصير الحصير في حصير الحصير، فلم أدر ما أقول فقال: الحصير الأول البارية، والثاني السجن، والثالث الجنب، والرابع الملك. انتهى. حضاجر: اسم للذكر والأنثى من الضباع سميت بذلك لسعة بطنها وعظمه وهو معرفة. قال الحطيئة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 هلا غضبت لرحل جا ... رك إذ تنبذه حضاجر «1» كذا أنشده ابن سيده وأنشده الجوهري: هلا غضبت لجار بيتك قال السيرافي: وإنما جعل اسما لها على لفظ الجمع إرادة للمبالغة وقال سيبويه: سمعنا العرب تقول: وطب حضجر، وأوطب حضاجر. ولذلك لا ينصرف في معرفة ولا نكرة لأنه اسم لواحد على بنية الجمع. وقال ابن الحاجب في كافيته: وحضاجر اسم علم للضبع غير منصرف لأنه منقول عن الجمع. قلت وهو الأوجه والله أعلم. الحضب: الذكر الضخم من الحيات. وقيل حية دقيقة وقيل الأبيض من الحيات. الحفان: فراخ النعام واحدها حفانة، الذكر والأنثى فيه سواء وربما سموا صغار الإبل حفانا. الحفص: ولد الأسد وبه سمي الرجل حفصا. الحقم: ضرب من الطير يشبه الحمام ويقال إنه الحمام نفسه. الحلزون: دود في جوف أنبوبة حجرية يوجد في سواحل البحار وشطوط الأنهار. وهذه الدودة تخرج بنصف بدنها من جوف تلك الأنبوبة الصدفية، وتمشي يمنة ويسرة تطلب مادة تغتذي بها فإذا أحست بلين ورطوبة انبسطت إليها، وإذا أحست بخشونة أو صلابة انقبضت وغاصت في جوف الأنبوية الصدفية، حذرا من المؤذي لجسمها، وإذا انسابت جرت بيتها معها. وحكمه: التحريم لاستخباثه. وقد قال الرافعي في السرطان أنه يحرم لما فيه من الضرر ولأنه داخل في عموم تحريم الصدف. وسيأتي الكلام عليه في باب السين المهملة. وأما المحار الذي يسمى الدنيلس فسيأتي الكلام عليه في باب الدال المهملة. الخواص: قال ابن سينا: طلي الجبهة بالحلزون يمنع انصباب المواد إلى العين والله أعلم. الحلكة والحلكاء والحلكاء والحلكي: بفتح الحاء المهملة وضمها وكسرها دويبة شبيهة بالعظاية تغوص في الرمل. الحلم: القراد العظيم، الواحدة حلمة. وقال الجوهري: هو مثل القمل وسيأتي أنه القراد المهزول. قال: والحلم أيضا دود يقع في جلد الشاة الأعلى وجلدها الأسفل. فإذا دبغ لم يزل ذلك الموضع رقيقا يقال: حلم الأديم بكسر اللام يحلم بفتحها حلما إذا أكله قال الشاعر وهو الوليد بن عقبة بن أبي معيط: فإنك والكتاب إلى على ... كدابغة وقد حلم الأديم قال ابن السكيت: وهذه الدويبة هي التي تأكل الكتب وتمزق الأوراق. وفي الحديث أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، كان ينهى أن تنزع الحلمة من أذن دابته وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه يوما «فنزع نعليه، ووضعهما على يساره» ، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم فلما انقضت الصلاة، قال: «مالكم خلعتم نعالكم» ؟ قالوا: يا نبي الله رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا. فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما نزعتهما لأن جبريل أخبرني أن فيهما دم حلمة» . انتهى «1» قلت والمراد به الدم اليسير المعفو عنه. وإنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم تنزها عن النجاسة، وإن كان معفوا عنها، وقد أطلق أصحابنا العفو عن اليسير من سائر الدماء إلا المتولي فإنه استثنى من ذلك دم الكلب والخنزير واحتج بغلظ نجاستهما. وأما الدم الباقي على اللحم وعظامه، فإنه مما تعم به البلوى، وقيل من أصحابنا من تعرض له. وقد ذكر أبو إسحاق الثعلبي المفسر من أئمة أصحابنا، عن جماعة كثيرة من التابعين، أنه لا بأس به. ونقله عن جماعة من أصحابنا لمشقة الاحتراز. وصرح الإمام أحمد وأصحابه بأن ما يبقى من الدم في اللحم معفو عنه، ولو غلبت حمرة الدم في القدر لعسر الاحتراز عنه، وحكوه عن عائشة وعكرمة والثوري. وبه قال إسحاق لقوله «2» تعالى: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً فلم ينه عن كل دم بل نهى عن المسفوح خاصة. وهو السائل والله تعالى أعلم قال الأصمعي ويقال للقراد: أول ما يكون صغيرا قمقامة، ثم يصير حمنانة، ثم يصير قرادا، ثم يصير حلما. وأنشد أبو علي الفارسي «3» : وما ذكر فإن يكبر فأنثى ... شديدا لازم ليس له ضروس والأكثر أن يجمع ضرس على أضراس. والأسنان كلها إناث إلا الأضراس والأنياب. وحكمه: تحريم الأكل لاستخباثه. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في باب القاف في لفظ القراد. الأمثال: قالت العرب: «القردان فما بال الحلم «4» » وهو قريب من قولهم: «استنت الفصال حتى القرعى» . وسيأتي «5» في بابه. الحمار الأهلي: الحمار جمعه حمير وحمر وأحمرة. وربما قالوا للأتان: حمارة وتصغيره حمير، ومنه توبة «6» بن الحميّر صاحب ليلى الأخيلية «7» . الذي تقدم ذكره. وكنية الحمار أبو صابر وأبو زياد قال الشاعر: زياد لست أدري من أبوه ... ولكن الحمار أبو زياد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ويقال للحمارة: أم محمود وأم تولب وأم جحش وأم نافع وأم وهب. وليس في الحيوان ما ينزو على غير جنسه ويلقح إلا الحمار والفرس. وهو ينزو إذا تم له ثلاثون شهرا ومنه نوع يصلح لحمل الأثقال ونوع لين الأعطاف سريع العدو، ويسبق براذين الخيل. ومن عجيب أمره أنه إذا شم رائحة الأسد رمى نفسه عليه من شدة الخوف يريد بذلك الفرار منه. قال حبيب بن أوس الطائي «1» ، يخاطب عبد الصمد «2» بن المعذل وقد هجاه: أقدمت ويحك من هجوي على خطر ... والعير يقدم من خوف على الأسد «3» ويوصف بالهداية إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها، ولو مرة واحدة، وبحدة السمع وللناس في مدحه وذمه أقوال متباينة، بحسب الأغراض. فمن ذلك أن خالد بن صفوان «4» والفضل بن عيسى «5» الرقاشي كانا يختاران ركوب الحمير على ركوب البراذين، فأما خالد فلقيه بعض الأشراف بالبصرة على حمار، فقال: ما هذا يا ابن صفوان؟ فقال: عير من نسل الكداد، يحمل الرحلة، ويبلغني العقبة، ويقل داؤه، ويخف دواؤه، ويمنعني من أن أكون جبارا في الأرض، وأن أكون من المفسدين. وأما الفضل فإنه سئل عن ركوبه الحمار؟ فقال: إنه من أقل الدواب مؤنة، وأكثرها معونة، وأخفضها مهوى، وأقربها مرتقى. فسمع أعرابي كلامه، فعارضه بقوله: الحمار شنار، والعير عار، منكر الصوت لا ترقأ به، ولا تمهر به النساء، وصوته أنكر الأصوات. قال الزمخشري: الحمار مثل في الذم الشنيع والشتيمة، ومن استحياشهم لذكر اسمه أنهم يكنون عنه، ويرغبون عن التصريح به، فيقولون: الطويل الأذنين، كما يكنون عن الشيء المستقذر. وقد عد من مساوي الآداب، أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم ذوي مروأة، ومن العرب من لا يركب الحمار استنكافا، وإن بلغت به الرحلة الجهد. انتهى. والمروأة بالهمز وتركه، قال الجوهري: هي الإنسانية. وقال ابن فارس هي الرجولية وقيل: إن ذا المروأة من يصون نفسه عن الإدناس، ولا يشينها عند الناس. وقيل: من يسير بسيرة أمثاله، في زمانه ومكانه. قال الدارمي قيل المروأة في الحرفة. وقيل في آداب الدين، كالأكل والصياح في الجم الغفير وانتهار السائل، وقلة فعل الخير مع القدرة عليه. وكثرة الاستهزاء والضحك، ونحو ذلك انتهى. وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله صورته صورة حمار أو يحول رأسه رأس حمار» «6» . ومعنى ذلك، والله أعلم، أن يمسخ صورته كلها فيجعل رأسه رأس حمار، وبدنه بدن حمار، وفيه دليل على جواز وقوع المسخ أعاذنا الله منه. وهو لا يكون إلا من شدة الغضب. قال الله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ «1» الآية. وهذا الحديث صريح في تحريم مسابقة الإمام بالركوع والسجود، وغيرهما من أركان الصلاة. وبه صرح البغوي والمتولي وصححه النووي، في شرح المهذب. وهو ظاهرا يراد الكفاية. وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذ بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا، وإذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا» » . وسيأتي في باب الدال المهملة إن شاء الله تعالى. غريبة: رأيت في كتاب النصائح لابن ظفر قال: دخلت ثغرا من ثغور الأندلس فألفيت به شابا متفقها من أهل قرطبة فآنسني بحديثه وذاكرني طرفا من العلم ثم إني دعوت فقلت: يا من قال واسألوا الله من فضله. فقال: ألا أحدثك عن هذه الآية بعجب؟ قلت: بلى. فحدثني عن بعض سلفه أنه قال: قدم علينا من طليطلة راهبان، كانا عظيمي القدر بها، وكانا يعرفان اللسان العربي، فأظهرا الإسلام وتعلما القرآن والفقه، فظن الناس بهما الظنون. قال: فضممتهما إلى وقمت بأمرهما، وتجسست عليهما فإذا هما على بصيرة من أمرهما، وكانا شيخين فقلما لبث أحدهما حتى توفي. وأقام الآخر أعواما ثم مرض، فقلت له يوما: ما سبب إسلامكما؟ فكره مسألتي فرفقت به فقال: إن أسيرا من أهل القرآن، كان يخدم كنيسة نحن في صومعة منها، فاختصصنا به لخدمتنا، وطالت صحبته لنا، حتى فقهنا اللسان العربي، وحفظنا آيات كثيرة من القرآن، لكثرة تلاوته له، فقرأ يوما: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «3» فقلت لصاحبي، وكان أشد مني رأيا وأحسن فهما: أما تسمع دعاوى هذه الآية؟ فزجرني. ثم إن الأسير قرأ يوما: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «4» فقلت لصاحبي: هذه أشد من تلك. فقال: ما أحسب الأمر إلا على ما يقولون. وما بشر عيسى إلا بصاحبهم. قال: واتفق يوما أني غصصت بلقمة، والأسير قائم علينا، يسقينا الخمر على طعامنا، فأخذت الكأس منه فلم أنتفع بها فقلت في نفسي: يا رب إن محمدا قال عنك إنك قلت: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ «5» وإنك قلت: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فإن كان صادقا فاسقني فإذا صخرة يتفجر منها الماء فبادرت فشربت منه، فلما قضيت حاجتي انقطع وورائي ذلك الأسير فشك في الإسلام ورغبت أنا فيه وأطلعت صاحبي على أمري، فأسلمنا معا. وغدا علينا الأسير يرغب في أن نعمده وننصره فانتهرناه وصرفناه عن خدمتنا. ثم إنه فارق دينه وتنصر فحرنا في أمرنا، ولم نهتد لوجه الخلاص. فقال صاحبي: وكان أشد مني رأيا: لم لا ندعو بتلك الدعوة؟ فدعونا بها في التماس الفرج، ونمنا القائلة، فأريت في المنام أن ثلاثة أشخاص نورانية، دخلوا معبدنا، فأشاروا إلى صور فيه فانمحت، وأتوا بكرسي فنصبوه، ثم أتى جماعة مثلهم في النور والبهجة، وبينهم رجل ما رأيت أحسن خلقا منه، فجلس على الكرسي، فقمت إليه فقلت له: أنت السيد المسيح؟ فقال: لا بل أنا أخوه أحمد، أسلم فأسلمت، ثم قلت: يا رسول الله كيف لنا بالخروج إلى بلاد أمتك؟ فقال لشخص قائم بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 يديه: إذهب إلى ملكهم، وقل له يحملهما مكرمين، إلى حيث أحبا من بلاد المسلمين، وأن يحضر الأسير فلانا، ويعرض عليه العود إلى دينه، فإن فعل يخلى سبيله، وإن لم يفعل فليقتله، قال: فاستيقظت من منامي وأيقظت صاحبي، وأخبرته بما رأيت، وقلت له: ما الحيلة؟ فقال: قد فرج الله أما ترى الصور ممحوّة؟ فنظرت فوجدتها ممحوّة. فازددت يقينا. ثم قال لي صاحبي: قم بنا إلى الملك. فأتيناه فجرى في تعظيمنا، على عادته، وأنكر قصدنا له. فقال له صاحبي: افعل ما أمرت به في أمرنا وفي أمر فلان الأسير فانتقع لونه وأرعد، ثم دعا بالأسير وقال له: أنت مسلم أو نصراني؟ فقال: بل نصراني. فقال له: ارجع إلى دينك، فلا حاجة لنا فيمن لا يحفظ دينه. فقال: لا أرجع إليه أبدا. فاخترط الملك سيفه وقتله بيده. ثم قال لنا سرا: إن الذي جاء إلى واليكما شيطان، ولكن ما الذي تريدان؟ قلنا: الخروج إلى بلاد المسلمين. قال: أنا أفعل ما تريدان، لكن أظهرا أنكما تريدان بيت المقدس. فقلنا له: نفعل. فجهزنا وأخرجنا مكرمين انتهى. وروى النسائي والحاكم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمير في الليل فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم فإنها ترى ما لا ترون، وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل، فإن الله يبث في الليل من خلقه ما شاء» «1» . ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم. وفي سنن أبي داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة» . «2» وفي تاريخ نيسابور وكامل ابن عدي من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شر الحمير الأسود القصير» وقال الجوهري تعشير الحمار نهيقه عشرة أصوات في طلق واحد قال الشاعر «3» : لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهاق حمارا نبي لجزوع وذلك أنهم، إذا خافوا من وباء بلد، عشروا كتعشير الحمار، قبل أن يدخلوها. وكانوا يزعمون أن ذلك ينفعهم. غريبة أخرى: قال مسروق: كان رجل بالبادية له حمار وكلب وديك، وكان الديك يوقظهم للصلاة، والكلب يحرسهم، والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خيامهم. فجاء الثعلب فأخذ الديك فحزنوا له، وكان الرجل صالحا، فقال: عسى أن يكون خيرا. ثم جاء ذئب فحرق بطن الحمار فقتله. فقال الرجل: عسى أن يكون خيرا. ثم أصيب الكلب بعد ذلك. فقال: عسى أن يكون خيرا. ثم أصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من كان حولهم وبقوا سالمين. وإنما أخذوا أولئك بما كان عندهم من أصوات الكلاب والحمير والديكة. فكانت الخيرة في هلاك ما كان عندهم من ذلك كما قدر الله سبحانه وتعالى. فمن عرف خفي لطف الله رضي بفعله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 فائدة: روى البيهقي، في دلائل النبوة، بسنده إلى أبي سبرة النخعي، قال: أقبل رجل من اليمن، فلما كان في أثناء الطريق نفق حماره فقام فتوضأ. ثم صلّى ركعتين، ثم قال: اللهم إني جئت مجاهدا في سبيلك ابتغاء مرضاتك، وأنا أشهد أنك تحيي الموتى وتبعث من في القبور، لا تجعل لأحد علي اليوم منة. أسألك أن تبعث لي حماري، فقام الحمار ينفض أذنيه. قال البيهقي: هذا إسناد صحيح. ومثل هذا يكون معجزة لصاحب الشريعة، حيث يكون في أمته من يحيي الله له الموتى كما سبق. ويأتي والرجل المذكور اسمه نباتة بن يزيد النخعي. قال الشعبي: أنا رأيت ذلك الحمار يباع بعد ذلك في السوق، فقيل للرجل: أتبيع حمارا قد أحياه الله لك؟ قال: فكيف أصنع؟ فقال رجل من رهطه ثلاثة أبيات حفظت منها هذا البيت: ومنا الذي أحيا الإله حماره ... وقد مات منه كل عضو ومفصل فائدة أخرى: قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «1» قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والضحاك وابن جريج رحمهم الله تعالى: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، أنه مر على دابة ميتة، قال ابن جريح: كانت جيفة حمار بساحل البحر قال عطاء: بحيرة طبرية، قالوا: فرآها وقد توزعتها دواب البحر والبر، وكان البحر إذا مد جاءت الحيتان ودواب البحر، فأكلت منها فما وقع منها يصير في البحر، وإذا جزر جاءت السباع فأكلت منها فما وقع منها يصير ترابا، فإذا ذهبت السباع جاءت الطير فأكلت منها، فما سقط منها قطعته الرياح في الهواء. فلما رأى إبراهيم ذلك تعجب منها، وقال: يا رب قد علمت لتجمعها من بطون السباع، وحواصل الطير، وأجواف دواب البحر، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك فازداد يقينا، فعاتبه الله على ذلك، فقال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى يا رب قد علمت وآمنت وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «2» أي يسكن إلى المعاينة والمشاهدة فإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يعلم يقينا أن الله يحيي الموتى، ولكنه أراد أن يصير له علم اليقين، لأن الخبر ليس كالمعاينة وما أحسن قول بعضهم: لئن كلمت بالتفريق قلبي ... فأنت بخاطري أبدا مقيم ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم وقيل: كان سبب هذا السؤال من إبراهيم أنه لما احتج على نمروذ فقال: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ «3» فقال نمروذ أنا أحيي وأميت فقتل رجلا وأطلق آخر، فجعل ترك القتل إحياء. فقال إبراهيم: إن الله يقصد إلى جسد ميت فيحييه، فقال له نمروذ: أنت عاينته فلم يقدر أن يقول نعم. فانتقل إلى حجة أخرى، ثم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى. قال: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بقوة حجتي، وإذا قيل لي: أنت عاينته؟ أقول: نعم قد عاينته. وقال سعيد بن جبير: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربه أن يأذن له فيبشر إبراهيم بذلك، فأذن له فأتى إبراهيم فلم يكن في الدار، فدخل داره وكان إبراهيم من أغير الناس، إذا خرج أغلق بابه. فلما جاء وجد في داره رجلا فثار عليه إبراهيم ليأخذه، فقال له: من أنت؟ ومن أذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 لك أن تدخل داري بغير إذني؟ فقال: أذن لي رب هذه الدار. فقال له إبراهيم: صدقت. وعرف أنه ملك فقال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت، جئت أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلا، فحمد الله تعالى، ثم قال: ما علامة ذلك؟ قال: إجابة الله دعاءك وإحياء الموتى بسؤالك. فحينئذ قال إبراهيم: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» إنك قد اتخذتني خليلا وأجبتني إذا دعوتك وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «2» : «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي » ورحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد. ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» . وقد «3» أخرجه مسلم عن ابن وهب أيضا. وقوله: نحن أحق بالشك من إبراهيم قال المزني: لم يشك النبي، ولا إبراهيم صلى الله عليه وسلم في أن الله قادر على أن يحيي الموتى، وإنما شكا في أنه تعالى هل يجيبهما إلى ما سألاه أم لا. وقال الخطابي: ليس في قوله: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» اعتراف بالشك على نفسه، ولا على إبراهيم، لكن فيه نفي الشك عنهما. يقول: إذا لم أشك أنا في قدرة الله على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بأن لا يشك. وإنما قال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس. وكذلك قوله: «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي» وفيه إعلام أن المسألة من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبيل زيادة العلم بالعيان. فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال. وقيل: لما نزلت هذه الآية. قال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعا منه وتقديما لإبراهيم صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الكلام على تمام الآية، في باب الطاء المهملة في الكلام على لفظ الطير. فائدة أخرى: قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ «4» الآية. هذه الآية منسوقة على الآية التي قبلها تقديره ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه وإلى الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقيل: تقديره هل رأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه «وهل رأيت كالذي مر على قرية؟ قاله البغوي. وقد اختلف المفسرون وأهل السير، في ذلك المار. فقال وهب بن منبه: هو أرمياء بن حلقيا، وكان من سبط هارون وهو الخضر. وقال قتادة وعكرمة والضحاك: وهو عزير بن شرخيا، وهو الأصح. وقال مجاهد هو كافر شك في البعث واختلفوا في تلك القرية، فقال وهب وعكرمة وقتادة. هي بيت المقدس. وقال الضحاك: هي الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 المقدسة. وقال الكلبي: هي دير سابر آياد. وقال السدي: سلماياد. وقيل: دير هرقل. وقيل الأرض التي أهلك الله فيها الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوف. وقيل: هي قرية العنب، وهي على فرسخين من بيت المقدس، وهي خاوية ساقطة. يقال: خوي البيت بكسر الواو يخوي خوى، مقصورا، إذا سقط. وخوى البيت بالفتح يخوي خواء، ممدودا، إذا خلا. على عروشها سقوفها، واحدها عرش. وكل بناء عرش. وكان السبب في ذلك على ما ذكره محمد بن إسحاق صاحب السيرة. أن الله تعالى بعث أرمياء إلى ناشية بن أنوص، ملك بني إسرائيل، ليسدده ويأتيه بالخبر من الله وكان قوام أمر بني إسرائيل، بالاجتماع على الملوك وطاعة الملوك أنبياءهم. فكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي يقيم له أمره، ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من ربه عزّ وجلّ. فعظمت الأحداث في بني إسرائيل وركبوا المعاصي، فأوحى الله إلى أرمياء أن ذكر قومك نعمي، وعرفهم أحداثهم. فقام أرمياء فيهم ولم يدر ما يقول فألهمه في الوقت خطبة طويلة بليغة، بين لهم فيها ثواب الطاعة، وعقاب المعصية، وقال في آخرها عن الله عزّ وجلّ: وإني أحلف بعزتي لأقيضن لكم فتنة يتحير فيها الحكيم، ولأسلطن عليكم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة، وأنزع من قلبه الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم. ثم أوحى الله إلى أرمياء إني مهلك بني إسرائيل بيافث، ويافث أهل بابل، وهم ولد يافث بن نوح، فلما سمع أرمياء ذلك صاح وبكى ومزق ثيابه ونبذ التراب على رأسه. فأوحى الله إليه: يا أرمياء أشق عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم، يا رب أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به. فأوحى الله إليه: وعزتي لا أهلك بني إسرائيل حتى يكون الأمر في ذلك من قبلك ففرح بذلك أرمياء، وقال: لا والذي بعث موسى بالحق لا أرضى بهلاك بني إسرائيل أبدا، ثم أتى الملك فأخبره بذلك وكان ملكا صالحا فاستبشر وفرح، وقال: أن يعذبنا ربنا، فبذنوب كثيرة، وإن يعف عنا فبرحمته. ثم إنهم لبثوا بعد الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا وإلا معصية تماديا في الشر، وذلك حين اقترب هلاكهم. فقل الوحي ودعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما قصد سائرا أتى الخبر للملك فقال لإرمياء: أين ما زعمت أن الله عزّ وجلّ أوحى إليك؟ فقال أرمياء: إن الله لا يخلف الميعاد وأنا به واثق، فلما قرب الأجل بعث الله إلى أرمياء ملكا متمثلا في صورة رجل من بني إسرائيل فقال له أرمياء: من أنت؟ فقال أنا رجل من بني إسرائيل أتيتك أستفتيك في أهلي ورحمي وصلت أرحامهم ولم آت إليهم إلا حسنا ولم يزدهم إكرامي إياهم إلا سخطا، فأفتني فيهم فقال: أحسن فيما بينك وبين الله، وصلهم وابشر بخير فانصرف الملك فمكث أياما ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل فجلس بين يديه، فقال له ارمياء: من أنت؟ قال: أنا الذي أتيتك أستفتيك في أهلي ورحمي فقال له أرمياء: أما ظهرت أخلاقهم لك بعد؟ قال: يا نبي الله ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى رحمه إلا أتيتها إليهم وأفضل قاله له أرمياء: ارجع فأحسن إليهم اسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلحهم لك. فانصرف الملك ومكث أياما، ونزل بختنصر وجنوده حول بيت المقدس، أكثر من الجراد المنتشر. ففزع منهم بنو إسرائيل، وقال ملكهم لارمياء: أين ما وعدك ربك؟ فقال أرمياء: إني واثق بوعد ربي. ثم أقبل الملك على أرمياء، وهو جالس على جدار بيت المقدس يضحك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 ويستبشر بنصر ربه. فجلس بين يديه فقال له أرمياء: من أنت؟ قال: أنا الذي أتيتك مرتين أستفتيك في شأن أهلي ورحمي. فقال له أرمياء: ألم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال له الملك: يا نبي الله كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم، كنت أصبر عليه، واليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله تعالى. فقال أرمياء: على أي عمل رأيتهم؟ قال على عمل عظيم من سخط الله عزّ وجل، فغضبت لله، وأتيتك وأنا أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم ليهلكهم. فقال أرمياء: يا مالك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم وإن كانوا على عمل لا نرضاه فأهلكهم فلما خرجت الكلمة من فم أرمياء، أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابه، فلما رأى ذلك أرمياء صاح وشق ثيابه وقال: يا مالك السموات والأرض أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي أنه لم يصبهم ما أصابهم، إلا بفتياك ودعائك. فعلم أنها فتياه وإن ذلك السائل كان رسولا من الله إليه فطار أرمياء حتى خالط الوحوش ودخل بختنصر وجنوده بيت المقدس ووطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس. ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا فيقذفه في بيت المقدس ففعلوا حتى ملؤوه. ثم أمرهم أن يجمعوا من كان في بلدان بيت المقدس فاجتمع عنده كبيرهم وصغيرهم من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل واحد منهم أربعة أغلمة. وكان من أولئك الأغلمة دانيال وحنانيا. وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق: فثلثا قتلهم، وثلثا سباهم، وثلثا أقرهم بالشأم. فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله تعالى ببني إسرائيل يظلمهم. فلما ولي بختنصر راجعا عنهم إلى بابل، ومعه سبايا بني إسرائيل، أقبل أرمياء على حمار له، معه عصير عنب في ركوة وسلة تين، حتى غشي إيلياء فلما وقف عليها ورأى خرابها، قال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها «1» ثم ربط أرمياء حماره بحبل جديد، فألقى الله تعالى عليه النوم، فلما نام نزع الله منه الروح مائة عام، وأمات حماره وعصيره وتينه عنده، وأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد وذلك ضحى. ومنع الله السباع والطير عن أكل لحمه، فلما مضى من موته سبعون سنة، أرسل الله تعالى ملكا من ملوك فارس، يقال له نوشك إلى بيت المقدس ليعمره، فانتدب في ألف قهرمان مع كل قهرمان ثلاثمائة ألف عامل، وجعلوا يعمرونه. وأهلك الله بختنصر ببعوضة دخلت في دماغه، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل، ولم يمت أحد منهم ببابل، وردهم الله إلى بيت المقدس ونواحيه، وعمروه ثلاثين سنة وكثروا، حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه. فلما مضت المائة سنة أحيا الله تعالى من أرمياء عينيه، وسائر جسده ميت ثم أحيا جسده وهو ينظر، ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح، فسمع صوتا من السماء أيها العظام البالية إن الله تعالى يأمرك أن تجتمعي فاجتمع بعضها إلى بعض واتصل بعضها ببعض، ثم نودي إن الله عزّ وجلّ يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا فكان كذلك ثم نودي إن شاء الله عزّ وجلّ يأمرك أن تحيا، فقام بإذن الله عزّ وجلّ ونهق، وعمر الله تعالى أرمياء فهو الذي يرى في الفلوات فذلك قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ «1» الآية وقوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ «2» أي لم يتغير وكان التين كأنه قطف من ساعته، والعصير كأنه عصر من ساعته. نقله عن وهب بن منبه انتهى. وسيأتي الكلام على الخضر واختلاف العلماء في اسمه ونبوته في لفظ الحوت من هذا الباب. وقال قتادة وعكرمة والضحاك إن بختنصر لما خرب بيت المقدس، وأقدم سبي بني إسرائيل بابل، كان فيهم عزير ودانيال وسبعة آلاف من أهل بيت داود عليه الصلاة والسلام، فلما نجا عزير من بابل ارتحل على حماره حتى نزل بدير هرقل، على شط دجلة فطاف في القرية فلم يرفيها أحدا، ورأى عامة شجرها حاملا فأكل من الفاكهة، واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل الفاكهة في سلة، والعصير في زق. فلما رأى خراب القرية، قال: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها «3» قالها تعجبا لا شكا في البعث. وقال السدي: إن الله تعالى أحيا عزيرا ثم قال له: انظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، فبعث الله ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهب بها الطير والسباع فاجتمعت وركب بعضها في بعض. وهو ينظر فصار حمارا من عظم ليس فيه لحم ولا دم، ثم كسيت العظام لحما ودما فصار حمارا لا روح فيه، ثم أقبل ملك يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه، فقام الحمار ونهق بإذن الله تعالى. وقال قوم: أراد به عظام هذا الرجل، وذلك إن الله عزّ وجلّ لم يمت حماره فأحيا الله عينيه ورأسه وسائر جسده ميت، ثم قال: انظر إلى حمارك فنظر فإذا حماره قائم، كهيئته يوم ربطه حيا لم يطعم ولم يشرب مائة عام. وتقدير الآية: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ، وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها «4» هذا قول قتادة والضحاك وغيرهما. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما أحيا الله عزّ وجلّ عزيرا بعد ما أماته مائة سنة، ركب حماره وقصد بيت المقدس حتى أتى محلته، فأنكره الناس وأنكروا منزلته فانطلق على وهم حتى أتى منزله فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها من العمر مائة وعشرون سنة، كانت أمة لهم، وكان عزير قد خرج عنهم وهي ابنة عشرين سنة وكانت قد عرفته وعقلته، فقال لها عزير: يا هذه هذا منزل عزير؟ قالت: نعم. هذا منزل عزير، وبكت وقالت: ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا سنة يذكر عزيرا. قال: أماتني مائة سنة، ثم بعثني. قالت: فإن عزيرا كان مجاب الدعوة، يدعو للمريض وصاحب البلاء بالعافية. فادع الله تعالى أن يرد على بصري حتى أراك، فإن كنت عزيرا عرفتك. فدعا ربه سبحانه وتعالى، ومسح بيده على عينيها فأبصرت، ثم أخذ بيدها وقال: قومي بإذن الله تعالى. فأطلق الله رجليها، فقامت صحيحة فنظرت إليه وقالت: أشهد أنك عزير فانطلقت إلى بني إسرائيل، وهم في أنديتهم ومجالسهم، وفيهم ابن لعزير شيخ ابن مائة سنة وثماني عشرة سنة، وبنو بنيه شيوخ في المجلس، فنادت: هذا عزير قد أتاكم الله به، فكذبوها فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا لي عزير به فردّ علي بصري وأطلق رجلي وزعم أن الله سبحانه كان أماته مائة سنة، ثم بعثه. قال: فأقبل الناس إليه فقال ابنه: كان لأبي شامة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو كما قال انتهى. وقال السدّي والكلبي: لما رجع إلى قريته، وقد أحرق بختنصر التوراة، ولم يكن عهد بين الخلائق، بكى عزير على التوراة فأتاه ملك بإناء من الله تعالى، فيه ماء، فشرب منه، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل وقد علمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 التوراة، وبعثه نبيا فقال: أنا عزير فلم يصدقوه فقال: إني عزير بعثني الله تعالى إليكم لأجدد لكم توراتكم. قالوا: فأملها علينا فأملاها عليهم عن ظهر قلبه. فقالوا: ما جعل الله التوراة في قلب رجل بعد ما ذهبت، إلا أنه ابنه فقالوا عزير ابن الله. تعالى الله وتقدس عن الصاحبة والولد. وكان الله قد أمات عزيرا وهو ابن أربعين سنة، وبعثه وهو ابن مائة وأربعين سنة، وكان أولاده وأولاد أولاده شيوخا وعجائز، وهو شاب أسود الرأس واللحية فسبحان من هو على كل شيء قدير. فائدة أخرى: ذكر ابن خلكان وغيره من المؤرخين أن قيصر، ملك الروم، كتب إلى عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن رسلي أتتني من قبلك، فزعمت أن قبلكم شجرة تخرج مثل آذان الحمر، ثم تنشق عن مثل اللؤلؤ، ثم تخضر فتكون مثل الزمرذ والزبرجد الأخضر، ثم تحمر فتكون مثل الياقوت الأحمر، ثم تينع وتنضج فتكون كأطيب فالوذج، ثم تيبس فتكون عصمة المقيم وزاد المسافر، فإن تكن رسلي صدقتني فما أرى هذه الشجرة إلا من شجر الجنة. فكتب إليه عمر: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى قيصر ملك الروم: إن رسلك قد صدقتك هذه الشجرة عندنا، وهي الشجرة التي أنبتها الله تعالى على مريم حين نفست بعيسى ابنها، فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلها من دون الله. إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ «1» وذال الزمرذ معجمة ودال الزبرجد مهملة. وقيصر كلمة إفرنجية معناها شق عنه وسببه على ما قاله المؤرخون: إن أم قيصر ماتت في المخاض، فشق بطنها وأخرج فسمي قيصر وكان يفخر بذلك على الملوك. ويقول إنه لم يخرج من الرحم واسمه أغسطس، وفي زمن ملكه ولد المسيح عليه الصلاة والسلام. ثم وضع هذا اللقب لكل من ملك الروم كما لقبوا ملك الترك خاقان، وملك فارس كسرى، وملك الشام هرقل، وملك القبط فرعون، وملك اليمن تبعا وملك الحبشة النجاشي وملك فرغانة الأخشيد، وملك مصر في الإسلام سلطانا قال ابن خلكان: وهنا نكتة يسأل عنها وهي أن الروم يقال لهم بنو الأصفر فما السبب في تسميتهم بذلك؟ فيقال إن ملك الروم كان قد احترق في الزمن الأوّل فبقيت منه امرأة فتنافسوا في الملك حتى وقع بينهم، ثم اصطلحوا على أن يملكوا أول من يشرف عليهم فجلسوا مجلسا لذلك، فأقبل رجل من اليمن، ومعه عبد له حبشي، يريد الروم فأبق العبد منه، فأشرف عليهم فقالوا: انظروا في أي شيء وقعتم فزوّجوه تلك المرأة وملكوه عليهم، فولدت منه غلاما فسموه الأصفر لصفرة لونه لكونه تولد بين الحبشي والمرأة البيضاء. ونسب الروم إليه. ثم إن سيد العبد خاصمهم فيه، فقال العبد: صدق أنا عبده فارضوه فأعطوه حتى أرضوه وبقي هذا النسب على الروم. وفي كتاب النصائح لابن ظفر أنه لما اشتد مرض الرشيد بطوس، أحضر طبيبا طوسيا فارسيا، وأمر أن يعرض عليه ماؤه، هو مع مياه كثيرة لمرضى وأصحاء فجعل يستعرض القوارير حتى رأى قارورة الرشيدة فقال: قولوا لصاحب هذا الماء يوصي فإنه قد انحلت قواه وتداعت بنيته. فأقيم وأمر بالذهاب فذهب ويئس الرشيد من نفسه وتمثل قائلا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 إن الطبيب بطبه ودوائه ... لا يستطيع دفاع نحب قد أتى ما للطبيب يموت بالداء الذي ... قد كان يبرىء مثله فيما مضى وبلغه أن الناس قد أرجفوا بموته، فاستدعى بحمار وأمر فحمل عليه، فاسترخت فخذاه فقال: أنزلوني صدق المرجفون. ثم استدعى بأكفان فتخير منها ما أعجبه، وأمر فشق له قبر أمام فراشه، ثم اطلع فيه فقال: ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ «1» فتوفي في يومه رحمه الله تعالى. وفي تاريخ ابن خلكان أن بعض أصحاب الحلاج «2» ادّعى أنه رؤي يوم قتله وهو راكب على حمار في طريق النهروان وأنه قال لهم: لعلكم تظنون أني المضروب والمقتول؟ وكان سبب قتله أنه جرى منه كلام في مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر بالله فأفتى القضاة والعلماء بإباحة دمه فرسم المقتدر بتسليمه إلى محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة فتسلمه بعد العشاء خوفا من العامة أن تنزعه من يده، ثم أخرجه يوم الثلاثاء لست بقين من ذي القعدة سنة تسع وثلاثمائة عند باب الطاق واجتمع عليه خلق كثير. وأمر به فضربه الجلاد ألف سوط، فما استعفى ولا تأوّه ثم قطع أطرافه الأربعة، وهو ساكن لا يضطرب، ثم حز رأسه وأحرقت جثته وألقي رمادها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، ثم حمل وطيف به في النواحي والبلاد وجعل أصحابه يعدون أنفسهم برجوعه بعد أربعين يوما. واتفق إن زادت دجلة تلك السنة زيادة وافرة، فادعى أصحابه أن ذلك بسبب إلقاء رماده فيها. وادعى بعض أصحابه أنه لم يقتل وإنما ألقي شبهه عند قتله على عدوّ له ولما أخرج ليقتل أنشد قائلا «3» : طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرّا أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرّا ويحكى أن الحلاج أنشد عند قتله: لم أسلم النفس للأسقام تتلفها ... إلا لعلمي بأن الموت يشفيها ونظرة منك يا سؤلي ويا أملي ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها نفس المحب على الآلام صابرة ... لعل متلفها يوما يداويها وكان الحلاج قد صحب الجنيد ووقع بينه وبين الشبلي وغيره من مشايخ الصوفية رحمة الله تعالى عليهم أجمعين انتهى. وذكر الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام المقدسي في مفاتيح الكنوز أنه لما أتي به ليصلب ورأى الخشب والمسامير ضحك ضحكا كثيرا ثم نظر في الجماعة فرأى الشبلي فقال: يا أبا بكر أما معك سجادة قال: بلى. قال: افرشها لي ففرشها فتقدم وصلى ركعتين فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب، وبعدها: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ «4» الآية ثم قرأ في الثانية فاتحة الكتاب وبعدها: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ* الآية «5» ثم ذكر كلاما مطوّلا ثم تقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 أبو الحارث السياف، ولطمه لطمة هشم وجهه وأنفه فصاح الشبلي ومزق ثيابه وغشي على أبي الحسن الواسطي وعلى جماعة من المشايخ المشهورين. وكان الحلاج يقول: اعلموا أن الله قد أباح لكم دمي، فاقتلوني ليس للمسلمين اليوم شغل أهم من قتلي. وقال: إن قتلي قيام بالحدود ووقوف مع الشريعة ومن تجاوز الحدود أقيمت عليه الحدود. قلت: وقد اضطرب الناس في أمره اضطرابا كبيرا متباينا فمنهم من يعظمه ومنهم من يكفره. وقد ذكر الإمام قطب الوجود حجة الإسلام في كتاب مشكاة الأنوار ومصفاة الأسرار فصلا مطوّلا في أمره واعتذر عن إطلاقاته كقوله: أنا الحق وما في الجبة إلا الله وحملها كلها على محامل حسنة، وقال: هذا من فرط المحبة وشدة الوجد وهو مثل قول القائل «1» : أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... فإذا أبصرته أبصرتنا وحسبك هذا مدحة وتزكية وكان ابن شريح إذا سئل عنه يقول: هذا رجل قد خفي على حاله وما أقول فيه. وهذا شبيه بكلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى وقد سئل عن علي ومعاوية رضي الله تعالى عنهما فقال: دماء طهر الله منها سيوفنا، أفلا نطهر من الخوض فيهم ألسنتنا؟ وهكذا ينبغي لمن يخاف الله أن لا يكفر أحدا من أهل القبلة بكلام يصدر عنه يحتمل التأويل على الحق والباطل. فإن الإخراج من الإسلام عظيم ولا يسارع به إلا جاهل. ويحكى عن شيخ العارفين قطب الزمان عبد القادر الجيلاني قدس الله سره أنه قال: عثر الحلاج ولم يكن له من يأخذ بيده ولو أدركت زمانه لأخذت بيده وهذا وما سبق عن الإمام الغزالي في أمره كاف لمن له أدنى فهم وبصيرة وسمي الحلاج لأنه جلس يوما على حانوت حلاج واستقضاه حاجة فقال له الحلاج أنا مشتغل بالحلج. فقال له: امض في حاجتي حتى أحلج عنك فمضى الحلاج في حاجته، فلما عاد وجد قطنه كله محلوجا، وكان لا يحلجه عشرة رجال في أيام متعددة. فمن ثم قيل له الحلاج. وقيل إنه كان يتكلم على الأسرار ويخبر عنها، فسمي حلاج الأسرار وكان من أهل البيضاء بليدة بفارس واسمه الحسين بن منصور والله أعلم. وذكر ابن خلكان وغيره أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ولي محمد بن أبي بكر الصديق مصر، فدخلها سنة سبع وثلاثين وقام بها إلى أن بعث معاوية بن أبي سفيان عمرو بن العاص في جيوش أهل الشام، ومعهم معاوية بن حديج، بحاء مهملة مضمومة ودال مهملة مفتوحة وبالجيم في آخره كذا ضبطه ابن السمعاني في الأنساب وابن عبد البر وابن قتيبة وغيرهم. ووقع في كثير من نسخ تاريخ ابن خلكان معاوية بن خديج بخاء معجمة ودال مكسورة وآخره جيم وهو غلط. والصواب ما تقدم وأصحابه أي أصحاب معاوية بن خديج فاقتتلوا فانهزم محمد بن أبي بكر واختبأ في بيت مجنونة فمر أصحاب معاوية بن خديج بالمجنونة وهي قاعدة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 الطريق، وكان لها أخ في الحبس فقالت: أتريد قتل أخي قال: لا ما أقتله. قالت: فهذا محمد بن أبي بكر داخل بيتي، فأمر معاوية أصحابه فدخلوا إليه وربطوه بالحبال وجروه على الأرض وأتوا به معاوية، فقال له محمد: احفظني لأبي بكر فقال له: قتلت من قومي في قضية عثمان ثمانين رجلا، وأتركك وأنت صاحبه لا والله. فقتله في صفر سنة ثمان وثلاثين. وأمره معاوية أن يجر في الطريق ويمر به على دار عمرو بن العاص لما يعلم من كراهته لقتله، وأمر به أن يحرق بالنار في جيفة حمار. وقال غيره: بل وضعه حيا في جيفة حمار وأحرقه بالنار، وكان سبب ذلك دعوة أخته عائشة عليه لما أدخل يده في هودجها يوم وقعة الجمل، وهي لا تعرفه فظنته أجنبيا فقالت من هذا الذي يتعرض لحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقه الله بالنار! فقال: يا أختاه قولي بنار الدنيا فقالت: بنار الدنيا. وقد تقدم هذا في باب الجيم في الكلام على لفظ الجمل ودفن في الموضع الذي قتل فيه. فلما كان بعد سنة من دفنه، أتى غلامه وحفر قبره فلم يجد فيه سوى الرأس فأخرجه ودفنه في المسجد تحت المنارة. ويقال إن الرأس في القبلة. قال: وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها قد أنفذت أخاها عبد الرحمن إلى عمرو بن العاص في شأن محمد فاعتذر بأن الأمر لمعاوية بن خديج. ولما قتل ووصل خبره إلى المدينة مع مولاه مسالم، ومعه قميصه، ودخل به داره اجتمع رجال ونساء فأمرت أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم بكبش فشوي وبعثت به إلى عائشة، وقالت: هكذا قد شوي أخوك فلم تأكل عائشة بعد ذلك شواء حتى ماتت. وقالت هند بنت شمر الحضرمية: رأيت نائلة امرأة عثمان بن عفان تقبل رجل معاوية بن خديج وتقول: بك أدركت ثأري ولما سمعت أمه أسماء بنت عميس بقتله كظمت الغيظ حتى شخبت ثدياها دما. ووجد عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجدا عظيما وقال كان لي ربيبا وكنت أعده ولدا ولبني أخا. وذلك لأن عليا كان قد تزوج أمه أسماء بنت عميس بعد وفاة الصديق ورباه كما تقدم. وذكر الإمام العلامة أقضى القضاة الماوردي وغيره أن سفيان بن سعيد الثوري أكل ليلة زائدا على عادته فقال: إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله، ثم قام حتى أصبح. قال: وكان فتى يجالس الثوري ولا يتكلم فأحب أن يعرف نطقه فقال: يا فتى إن من كان قبلنا مروا على خيول سابقة وبقينا بعدهم على حمر دبرة فقال الفتى: يا أبا عبد الله إن كنا على الطريق فما أسرع لحوقنا بهم. وقال سفيان بن عيينة: دعانا سفيان الثوري ليلة فقدم لنا تمرا ولبنا خائرا فلما توسط الأكل قال: قوموا فلنصل ركعتين شكرا لله تعالى فقال ابن وكيع، وكان حاضرا: لو قدم لنا شيئا من اللوزينج، لقال: قوموا فلنصل التراويح فتبسم سفيان. وقال سفيان الثوري ما استودعت قلبي شيئا قط فخانني. وقال له رجل: أوصني فقال: اعمل للدنيا بقدر مقامك فيها، وللآخرة بقدر مقامك فيها، والسلام. وقال له رجل: إني أريد الحج، فقال: لا تصحب من يتكرم عليك فإنك إن ساويته في النفقة أضرّ بك، وإن تفضّل عليك استذلك. ودخل الثوري على المهدي يوما فسلم عليه تسليم العامة، ولم يسلم بالخلافة، فأقبل عليه المهدي بوجه طلق، وقال: يا سفيان تفر منا ههنا وههنا وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك؟ وقد قدرنا عليك الآن! أما تخشى أن نحكم فيك الآن بهوانا؟ فقال سفيان: أن تحكم في بحكم الآن، يحكم فيك ملك عادل قادر يفرق بين الحق والباطل. فقال الربيع: يا أمير المؤمنين ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا؟ ائذن لي أن اضرب عنقه. فقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 المهدي: اسكت ويلك وهل يريد هذا وأمثاله إلا أن تقتلهم فنشقى بهم ويسعدوا بنا اكتبوا عهده على قضاء الكوفة بحيث أن لا يعترض عليه في حكم. فكتب عهده ودفع إليه فأخذه وخرج ورمى به في دجلة وهرب، فطلب في كل بلد فلم يوجد وتوفي بالبصرة متواريا سنة إحدى وستين ومائة رحمه الله تعالى. وهو أحد الأئمة المجتهدين، اجمع الناس على دينه وورعه وثقته. ويروى أن أبا القاسم الجنيد «1» رحمه الله كان يفتي على مذهبه، وهو غلط والصواب أن الجنيد كان شافعيا وقد عده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي في الأصحاب وكذلك عده غيره. وكان سفيان الثوري كوفيا فإنه سئل عن عثمان وعن علي رضي الله تعالى عنهما أيهما أفضل؟ فقال: أهل البصرة يقولون بتفضيل عثمان وأهل الكوفة يقولون بتفضيل علي. فقيل له: فما تقول أنت؟ قال أنا رجل كوفي. يعني أنه يقول بتفضيل علي. وفي كتاب ابتلاء الأخيار أن عيسى عليه الصلاة والسلام لقي إبليس وهو يسوق خمسة أحمرة عليها أحمال، فسأله عن الأحمال فقال: تجارة أطلب لها مشترين. قال: وما هي التجارة؟ قال: أحدها الجور. قال: ومن يشتريه؟ قال السلاطين. والثاني الكبر. قال: ومن يشتريه؟ قال: الدهاقين: والثالث الحسد. قال: ومن يشتريه؟ قال: العلماء. والرابع الخيانة. قال: ومن يشتريها؟ قال: عمال التجار. والخامس الكيد. قال: ومن يشتريه؟ قال: النساء. ومما يحكى: من كيد النساء ومكرهن ما روي في بعض التفاسير، عن جعفر الصادق بن محمد الباقر، أنه قال: كان في بني إسرائيل رجل، وكان له مع الله معاملة حسنة، وكان له زوجة وكان ضنينا بها، وكانت من أجمل أهل زمانها مفرطة في الجمال والحسن، وكان يقفل عليها الباب، فنظرت يوما شابا فهويته وهويها، فعمل له مفتاحا على باب دارها، وكان يدخل ويخرج ليلا ونهارا متى شاء، وزوجها لم يشعر بذلك فبقيا على ذلك زمانا طويلا. فقال لها زوجها يوما، وكان أعبد بني إسرائيل وأزهدهم إنك قد تغيرت علي ولم أعلم ما سببه، وقد توسوس قلبي وقد كان أخذها بكرا، ثم قال لها: واشتهي منك أن تحلفي لي أنك لم تعرفي رجلا غيري، وكان لبني إسرائيل جبل يقسمون به ويتحاكمون عنده، وكان الجبل خارج المدينة، وكان عنده نهر يجري، وكان لا يحلف أحد عنده كاذبا إلا هلك. فقالت له: ويطيب قلبك إذا حلفت لك عند الجبل؟ قال: نعم، قالت متى شئت فعلت. فلما خرج العابد لقضاء حاجته، دخل عليها الشاب، فأخبرته بما جرى لها مع زوجها، وأنها تريد أن تحلف له عند الجبل، وقالت: ما يمكنني أن أحلف كاذبة، ولا أقول لزوجي ما أحلف فبهت الشاب وتحير، وقال: فما تصنعين؟ فقالت له: بكر غدا، وألبس ثوب مكار وخذ حمارا واجلس على باب المدينة، فإذا خرجنا فأنا آمره يكتري منك الحمار، فإذا اكتراه منك بادر واحملني وارفعني فوق الحمار، حتى أحلف له وأنا صادقة أني ما مسني أحد غيرك وغير هذا المكاري. فقال: حبا وكرامة. فلما جاء زوجها قال قومي بنا إلى الجبل لتحلفي به. فقالت ما لي طاقة بالمشي فقال: اخرجي فإن وجدت مكاريا اكتريت لك. فقامت ولم تلبس لباسها، فلما خرج العابد وزوجته، رأت الشاب ينتظرها فصاحت به يا مكاري أتكري حمارك إلى الجبل بنصف درهم؟ قال: نعم، ثم تقدم ورفعها على الحمار فساروا حتى وصلوا إلى الجبل. فقالت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 للشاب: انزلني عن الحمار حتى أصعد على الجبل، فلما تقدم الشاب إليها ألقت بنفسها إلى الأرض، فانكشفت عورتها فشتمت الشاب، فقال: والله ما لي ذنب، ثم مدت يدها إلى الجبل فأمسكته وحلفت له أنه لم يمسسها أحد، ولا نظر إنسان مثل نظرك إلي، مذ عرفتك، غيرك وغير هذا المكاري. فاضطرب الجبل اضطرابا شديدا وزال عن مكانه، وأنكرت بنو إسرائيل ذلك. فذلك قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ «1» ويقرب من هذا ما روي عن وهب بن منبه أنه كان في زمن بني إسرائيل في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، رجل اسمه شمشون، وكان من أهل قرية من قرى الروم، كان قد هداه الله لرشده وصار من الحواريين، وكان أهله أصحاب أوثان يعبدونها وكان منزله من القرية على أميال، وكان يغزوهم وحده، ويجاهدهم في الله حق جهاده فيقتل ويسبي ويصيب المال، وكان ربما لقيهم بغير زاد فإذا قاتلهم وعطش انفجر له من الحجر الذي في القرية ماء فيشرب منه حتى يروى، وكان قد أعطي قوة في البطش وكان لا يوثقه حديد ولا غيره، وكانوا لا يقدرون منه على شيء، فتآمروا فيه فقال بعضهم لبعض: إنكم لن تقدروا على أذاه إلا من قبل زوجته، فدخلوا عليها وجعلوا لها جعلا إن أوثقته، فقالت: نعم أنا أوثقه لكم، فأعطوها حبلا وثيقا وقالوا لها: إذا نام فأوثقي يديه إلى عنقه ثم ذهبوا فجاء شمشون ونام، فقامت إليه فأوثقته كتافا فجعلت يديه إلى عنقه، فلما هب من نومه، جذب يديه فوقع الحبل من عنقه، فقال لها لم فعلت هذا؟ قالت لأجرب قوتك ما رأيت مثلك قط. ثم أرسلت إليهم إني قد ربطته بالحبل فلم يغن شيئا فأرسلوا إليها بجامعة من حديد، وقالوا لها إذا نام فاجعليها في عنقه، فلما نام جعلتها في عنقه، فلما هب من نومه جذبها فتقطعت، فقال لها: لم فعلت هذا؟ قالت لأجرب قوتك ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمشون! أما في الأرض شيء يغلبك؟ قال: الله عزّ وجلّ يغلبني. ثم شيء واحد. قالت: ما هو؟ قال: ما أنا بمخبرك به. فلم تزل تخدعه وتمكر به وتتلطف له في السؤال، وكان ذا شعر كثير جدا فقال: ويحك إن أمي كانت جعلتني نذيرا فلا يغلبني شيء أبدا ولا يوثقني إلا شعري. فتركته حتى نام، ثم قامت إليه فأوثقت يديه إلى عنقه بشعره فأوثقه ذلك. وبعثت إلى القوم فجاؤوا وأخذوه فجدعوا أنفه، وفقؤوا عينيه وأوقفوه للناس، بين ظهراني المدينة، وكانت المدينة ذات أساطين، وأشرف الملك لينظر ماذا يفعل به، فدعا الله شمشون، حين مثلوا به وأوقفوه، أن يسلطه عليهم، فرد الله عليه بصره، وما أصابوا من جسده، وأمره أن يأخذ بعمود من عمد المدينة الذي عليه الملك والناس ففعل، فوقعت المدينة وهلك من فيها وأرسل الله على زوجته صاعقة فأحرقتها، ونجى الله تعالى شمشون بمنه وفضله انتهى. وحكاياتهن في المكر والكيد لا تحصى وحسبك أن الله تعالى استضعف كيد الشيطان فقال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً «2» واستعظم كيد النساء فقال: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ «3» . وفي كتاب نزهة الأبصار في أخبار ملوك الأمصار، وهو كتاب عظيم المقدار، ولا أعلم مصنفه أن بعض الملوك، مر بغلام وهو يسوق حمارا غير منبعث، وقد عنف عليه في السوق، فقال: يا غلام ارفق به فقال الغلام: أيها الملك في الرفق به مضرة عليه، قال: وكيف ذلك؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 يطول طريقه ويشتد جوعه، وفي العنف به إحسان إليه. قال: وكيف ذلك؟ قال: يخف حمله ويطول أكله فأعجب الملك بكلامه، وقال: قد أمرت لك بألف درهم. فقال: رزق مقدور وواهب مشكور. قال الملك: وقد أمرت بإثبات اسمك في حشمي قال: كفيت مؤونة ورزقت معونة. فقال له الملك: عظني فإني أراك حكيما. فقال: أيها الملك إذا استوت بك السلامة فجدد ذكر العطب، وإذا هنأتك العافية، فحدث نفسك بالبلاء، وإذا اطمأن بك الأمن فاستشعر الخوف، وإذا بلغت نهاية العمل فاذكر الموت، وإذا أحببت نفسك فلا تجعلن لها في الإساءة نصيبا. فأعجب الملك بكلامه، وقال: لولا أنك حديث السن لاستوزرتك. فقال: لن يعدم الفضل من رزق العقل. قال: فهل تصلح لذلك؟ قال: إنما يكون المدح والذم بعد التجربة ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها. فاستوزره فوجده ذا رأي صائب، وفهم ثاقب، ومشورة تقع موقع التوفيق. وفي هذا الكتاب دعابات فمنها أن الرشيد خرج إلى الصيد، فانفرد عن عسكره والفضل بن الربيع خلفه، فإذا هو بشيخ كبير راكب على حمار، فنظر إليه، فإذا هو رطب العينين فغمز الفضل عليه، فقال له الفضل: أين تريد؟ قال: حائطا لي. قال: هل لك أن أدلك على شيء تداوي به عينيك فتذهب تلك الرطوبة؟ فقال: ما أحوجني إلى ذلك فقال له: خذ عيدان الهواء وغبار الماء وورق الكماة، فصره في قشرة جوزة، واكتحل به فإنه يذهب رطوبة عينيك. فاتكأ الشيخ على قربوس «1» سرجه، وضرط ضرطة طويلة، ثم قال: هذه أجرة لوصفك، وإن نفعنا الكحل زدناك. فضحك الرشيد حتى كاد يسقط عن دابته. ومنها أنه حضر خياط لبعض الأمراء ليفصل له قباء، فأخذ يفصل والأمير ينظر إليه، فلم يتهيأ له أن يسرق شيئا فضرط فضحك الأمير حتى استلقى فأخرج الخياط من القباء ما أراد فجلس الأمير وقال: يا خياط ضرطة أخرى، فقال الخياط لا لئلا يضيق القباء. وفي كتاب نشوان المحاضرة قال ذو النون بن موسى: كنت غلاما، والمعتضد إذ ذاك بكور الأهواز، فخرجت يوما من قرية يقال لها سانطف أريد عسكر مكرم «2» . ومعي حماران واحد راكبه والآخر عليه حمل البطيخ، فمررت بعسكر المعتضد، وأنا لا أعلم من هو، فأسرع إلي جماعة منهم فأخذ واحد منهم من الحمل ثلاث بطيخات أو أربع، فخفت أن ينقص عن عدده فأتهم به، فبكيت وصحت، والحمار يسير على المحجة، والعسكر مجتاز وإذا بكبكبة عظيمة يقدمها رجل منفرد، فوقف وقال: يا مالك يا غلام تبكي وتصيح؟ فعرفته الخبر، فوقف ثم التفت إلى القوم وقال: أيه علي بالرجل الساعة. قال: فجيء به في أسرع من طبق البصر، حتى كأنه كان وراء ظهره، فقال: هو هذا يا غلام؟ قلت: نعم فأمر به فضرب بالمقارع، وهو واقف وأنا راكب على حماري، والعسكر واقف وجعل يقول له: وهو يضرب يا كلب أما كان معك ثمن هذا البطيخ؟ أما قدرت أن تمنع نفسك منه؟ أهو مالك أو مال أبيك؟ أليس صاحبه أتعب نفسه وأجهد في زرعه وسقيه وأداء خراجه؟ والمقارع تأخذه حتى ضرب مائة مقرعة. ثم أمر لي بأربعة دنانير وسار. وأخذ الجيش يشتموني ويقولون: ضرب القائد الفلاني بسبب هذا مائة مقرعة فسألت بعضهم فقال: هذا أمير المؤمنين المعتضد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وفي كتاب الأذكياء لابن الجوزي، عن الجاحظ أنه قال: قال ثمامة بن أشرس «1» : دخلت على صديق لي أعوده، وتركت حماري على الباب، ولم يكن معي غلام يحفظه، فلما خرجت إذا فوقه صبي يحفظه، فقلت: أركبت حماري بغير أذني؟ فقال: خفت أن يذهب فحفظته لك. لو ذهب لكان أعجب إلي من بقائه! فقال: إن كان هذا رأيك في الحمار فقدر أنه ذهب وهبه لي واربح شكري! فلم أدر ما أقول. وأحسن من هذا الذكاء ما رواه ابن الجوزي أيضا، قال: ركب المعتصم إلى خاقان يعوده، والفتح بن خاقان صبي يومئذ، فقال له المعتصم: أيهما أحسن غار أمير المؤمنين أم دار أبيك؟ قال: إذا كان أمير المؤمنين في دار أبي فدار أبي أحسن. فأراه المعتصم، فصافى يده، وقال: يا فتح هل رأيت أحسن من هذا القص؟ قال: نعم اليد التي هو فيها. ويقرب من هذا وهو من الجواب المسكت، ما ذكره الإمام ابن الجوزي قال: دخل شاب على المنصور، فسأله عن وفاة أبيه، فقال: مات، رحمه الله، يوم كذا وكذا، وكان مرضه، رحمه الله، يوم كذا، خلف، رحمه الله، كذا. فانتهره الربيع وقال أما تستحي بين يدي أمير المؤمنين تقول هذا؟ فقال الشاب: لا ألومك على انتهاري لأنك لم تعرف حلاوة الآباء! وكان الربيع لقيطا فما أعلم المنصور ضحك كضحكه يومئذ انتهى. وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة الحاكم العبيدي «2» ، أن الحاكم بأمر الله كان له حمار أشهب يدعى بقمر يركبه، وكان يحب الانفراد والركوب وحده، فخرج راكبا حماره ليلة الإثنين سابع عشر شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة إلى ظاهر مصر، وطاف ليلته كلها وأصبح متوجها إلى شرقي حلوان ومعه راكبان، فأعاد أحدهما ثم أعاد الآخر وبقي الناس يخرجون يلتمسون رجوعه ومعهم دواب الموكب إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور. ثم خرج ثاني القعدة جماعة من الموالي والأتراك فأمعنوا في طلبه وفي الدخول في الجبل فرأوا حماره الأشهب الذي كان راكبا عليه، وهو على قرنة الجبل وقد ضربت يداه ورجلاه بسيف، وعليه سرجه ولجامه فتبعوا الأثر فإذا أثر حمار وأثر راجل خلفه وراجل قدامه، فقصوا الأثر إلى البركة التي في شرقي حلوان، فنزل فيها رجل فوجد فيها ثيابه وهي سبع جباب ووجدت مزرورة لم تحل أزرارها، وفيها آثار السكاكين فحملت إلى القصر، ولم يشكوا في قتله. غير أن جماعة من المتغالين في حبهم له السخيفي العقل يدعون حياته وأنه سيظهر ويحلفون بغيبة الحاكم. ويقال إن أخته دست عليه من قتله وكان الحاكم جوادا بالمال سفاكا للدماء. وكانت سيرته عجبا يخترع كل يوم حكما يحمل الناس عليه فمن ذلك أنه أمر الناس سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بكتب سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم في حيطان المساجد والقياسر والشوارع، وكتب إلى سائر الديار المصرية يأمرهم بالسب ثم أمر بقطع ذلك سنة سبع وتسعين. وأمر بضرب من يسب الصحابة وتأديبه وأمر بقتل الكلاب فلم ير كلب في الأسواق والأزقة إلا قتل ونهى عن بيع الفقاع والملوخيا، ثم نهى عن بيع الزبيب قليله وكثيره، وجمع جملة كثيرة وأحرقت وأنفقوا على إحراقها خمسمائة دينار، ثم نهى عن بيع العنب أصلا وألزم اليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 والنصارى أن يتميزوا في لباسهم عن المسلمين في الحمامات، وخارجها، ثم أفرد حماما لليهود وحماما للنصارى وألزمهم أن لا يركبوا شيئا من المراكب المحلاة، وأن تكون ركبهم من الخشب وأن لا يستخدموا أحدا من المسلمين ولا يركبوا حمار المكاري المسلم ولا سفينة نواتيها مسلمون. وأمر بهدم القمامة في سنة ثمان وأربعمائة وجميع الكنائس بالديار المصرية. ووهب جميع ما فيها من الآلات وجميع ما لها من الأحباس لجماعة من المسلمين وأمر أن لا يتكلم أحد في صناعة النجوم، وأن ينفى المنجمون من البلاد، وكذلك أصحاب الغناء ومنع النساء من الخروج إلى الطرقات ليلا ونهارا، ومنع الأساكفة من عمل الأخفاف للنساء، ولم تزل النساء ممنوعات من الخروج إلى أيام ولده الظاهر مدة سبع سنين. ثم أمر ببناء ما كان هدم من الكنائس، ورد ما كان قد أخذ من أحباسها. وحلوان مدينة كثيرة النزه فوق مصر بخمسة أميال كان يسكنها عبد العزيز بن مروان، وبها توفي وبها ولد ولده عمر بن عبد العزيز انتهى. قلت: وفي قوله ليلة الإثنين سابع عشر، وقوله إلى يوم الخميس سلخ الشهر المذكور نظر ظاهر والله أعلم. وفي رسالة القشيري، في باب كرامات الأولياء، سمعت أبا حاتم السجستاني يقول سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت الحسين بن أحمد الرازي يقول: سمعت أبا سليمان الخواص يقول: كنت راكبا حمارا يوما، وكان الذاب يؤذيه فيطأطىء رأسه، وكنت أضرب رأسه بخشبة في يدي، فرفع الحمار رأسه إليّ وقال: اضرب فإنك هكذا على رأسك تضرب. قال الحسين: فقلت لأبي سليمان لك وقع هذا قال: نعم، كما تسمعني. تذنيب: روى البيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبون الحمر، ويلبسون الصوف، ويحلبون الشاة، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم حمار اسمه عفير بضم العين المهملة، وضبطه القاضي عياض بالغين المعجمة. وقد اتفقوا على تغليطه، أهداه له المقوقس «1» وكان فروة بن عمرو الجذامي «2» أهدى له حمارا يقال له يعفور، مأخوذان من العفرة وهو لون التراب، فنفق يعفور في منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع. وذكر السهيلي أن يعفور طرح نفسه في بئر يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر ابن عساكر في تاريخه بسنده إلى أبي منصور قال: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر أصاب حمارا أسود، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمار فقال له: ما اسمك؟ قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نسل جدي ستين حمارا لا يركبها إلا نبي وقد كنت أتوقعك لتركبني ولم يبق من نسل جدي غيري ولا من الأنبياء غيرك، وقد كنت قبلك عند رجل يهودي وكنت أتعثر به عمدا، كان يجيع بطني ويركب ظهري. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فأنت يعفور يا يعفور تشتهي الإناث. قال: لا، فكان صلى الله عليه وسلم يركبه في حاجته، وكان يبعثه خلف من شاء من أصحابه، فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ إليه فيعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إليه، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم فلما قبض رسول الله جاء إلى بئر كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 لأبي الهيثم بن التيهان فتردى فيها جزعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكانت قبره. قال الإمام الحافظ أبو موسى: هذا حديث منكر جدا إسنادا ومتنا لا يحل لأجد أن يرويه إلا مع كلامي عليه. وقد ذكره السهيلي في التعريف والأعلام في الكلام على قوله «1» تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وفي كامل ابن عدي، في ترجمة أحمد بن بشير، وفي شعب الإيمان للبيهقي، عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعبد رجل في صومعة فأمطرت السماء وأعشبت الأرض فرأى حمارا له يرعى، فقال: يا رب لو كان لك حمار لرعيته مع حماري، فبلغ ذلك نبيا من أنبياء بني إسرائيل، فأراد أن يدعو عليه، فأوحى الله إليه إنما أجازي عبادي على قدر عقولهم» ! «2» . وهو كذلك في الحلية لأبي نعيم في ترجمة زيد بن أسلم. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه والإمام أحمد في الزهد، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت قال: قيل لعيسى بن مريم عليهما السلام: يا رسول الله لو اتخذت لك حمارا تركبه لحاجتك؟ فقال: أنا أكرم على الله من أن يجعل لي شيئا يشغلني عنه. الحكم: يحرم أكله عند أكثر أهل العلم، وإنما رويت الرخصة فيه عن ابن عباس رواه عنه أبو داود في سننه وقال الإمام أحمد: كره أكله خمسة عشر رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وادعى ابن عبد البر الإجماع الآن على تحريمه. قال: وقد روي عن غالب بن أبجر، قال: أصابتنا سنة فشكونا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم يكن عندي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية «فقال: اطعم أهلك من سمن حمرك، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية» . ولم «3» يرو عن غالب بن أبجر سوى هذا الحديث. ولنا ما روى جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل» . متفق «4» عليه. وحديث غالب رواه أبو داود واتفق الحفاظ على تضعيفه، ولو بلغ ابن عباس أحاديث النهي الصحيحة الصريحة في تحريمه لم يصر إلى غيره. ولو صح حديث غالب لحمل على الأكل منها، حال الاضطرار وأيضا هي قضية عين لا عموم لها ولا حجة فيها. واختلف أصحابنا في علة تحريمها، هل هو لاستخباث العرب لها؟ أو للنص على وجهين! حكاهما الروياني وغيره وأفاد الحافظ المنذري أن تحريم لحوم الحمر نسخ مرتين، ونسخت القبلة مرتين، ونسخ نكاح المتعة مرتين. واختلف السلف في لبنها فحرمه أكثر العلماء، ورخص فيه عطاء وطاوس والزهري، والأول أصح لأن حكم اللحم ويحرم ضربه وضرب غيره من الحيوانات المحترمة بالإجماع. روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بحمار قد وسم وجهه، فقال: «لعن الله من فعل هذا» «5» وفي رواية «لعن الله الذي وسم هذا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 الأمثال: قالوا: «عشر تعشير الحمار» ، «1» قال الجوهري: تعشير الحمار نهيقه عشرة أصوات في طلق واحد قال الشاعر «2» : لعمري لئن عشرت من خيفة الردى ... نهاق حمار أنني لجزوع «3» وذلك أنهم كانوا إذا خافوا وباء بلد عشروا كتعشير الحمار قبل أن يدخلوه، وكانوا يزعمون أن ذلك ينفعهم. وقوله «4» تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً أي يثقله حملها ولا ينفعه علمها وكل من يعلم ولم يعمل بعلمه فهذا مثله. وفي الحديث «5» «يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور كما يدور الحمار في الرحا فيطيف به أهل النار، فيقولون: ما لك؟ فيقول: كنت آمر بالخير ولا آتيه، وأنهى عن الشر وآتيه» والإقتاب الأمعاء واحدها قتب بالكسر. وقالت العرب: هم يتهارجون تهارج الحمر. أي يتسافدون. والهرج كثرة النكاح. يقال: بات يهرجها ليله جميعا. وروى الحافظ أبو نعيم عن أبي الزاهرية، عن كعب الأحبار قال: يمكث الناس بعد يأجوج ومأجوج في الرخاء والخصب والدعة عشر سنين حتى إن الرجلين ليحملان الرمانة الواحدة بينهما، ويحملان العنقود الواحد من العنب، فيمكثون على ذلك عشر سنين، ثم يبعث الله ريحا طيبة فلا تدع مؤمنة ولا مؤمنا إلا قبضت روحه، ثم يبقى الناس بعد ذلك يتهارجون تهارج الحمر في المروج، حتى يأتي أمر الله والساعة، وهم على ذلك. وقالوا «بال الحمار فاستبال أحمرة» . أي «6» حملهن على البول، يضرب في تعاون القوم على ما يكره. وقالوا «7» : «اتخذ فلان حمار الحاجات» . يضرب للذي يمتهن في الأمور. وقالوا: «تركته جوف حمار» «8» أي لا خير فيه. وقالوا: «أصبر من حمار» . «9» وقالوا: «شر المال مالا يذكى ولا يزكى» «10» أشاروا بذلك إليه. وقالوا «ما بقي منه إلا قدر ظمء حمار» «11» . لأنه أقصر الحيوان ظمأ. الجوهري في مادة عشا قال الشاعر: غدونا غدوة سحرا بليل ... عشاء بعد ما انتصف النهار قصدناها حمارا ذا قرون ... أكلنا اللحم وانفلت الحمار وفي معنى هذا البيت وجهان أحدهما أنّا أتعبناه حتى أكلنا لحمه لشدة الإضرار به من العدو ثم انفلت. والثاني إنا ذبحناه فأكلناه أكلا لم يبق منه شيء فكأنه انفلت. وقوله: ذا قرون أي مسنا قد أتت عليه قرون من الدهر. وقالوا «12» : «أذل من حمار مقيد» . قال الشاعر: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وما يقيم بدار الذل يعرفها ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثي له أحد الخواص: من سقي من وسخ أذنه في شراب أو غيره سبت ونام، ولم يعقل أصلا. ومن نزع شعرة من ذنبه عند نزوه وربطها على فخذه أنعظ وهيج الباه. وإذا ربط حجر في ذنبه لم ينهق. وكذا إذا طليت استه بدهن. وقال الإمام الفخر الرازي وصاحب الحاوي: إذا طبخ لحم الحمار الأهلي وقعد في مائه من به كزاز نفعه. وإذا اتخذ من حافره خاتم، ولبسه المصروع لم يصرع. وسرجينه وسرجين الخيل، إذا أحرقا أو لم يحرقا وخلطا بخل قطعا سيلان الدم. وإذا علق جلد جبهته على الصبيان منعهم من الفزع وإذا رش على زبله خل وشم قطع الرعاف. وقال صاحب الفلاحة: إذا ركب الملسوع بالعقرب حمارا، وجعل وجهه إلى ذنبه صار الوجع إلى الحمار، وبرىء الراكب. وكذلك إن تقدّم الملدوغ إلى أذن الحمار وقال: إني لدغت بعقرب في المكان الفلاني ذهب الوجع. وإن ركبه مقلوبا كما تقدم كان أقوى فعلا. ومخه إذا طلي به الرأس مع الزيت، طول الشعر. وكبده إذا أكلت مشوية على الريق، منقوعة في الخل، نفعت من الصرع وأمن آكلها من الصرع. ولبن الحمارة إذا صمد به الذكر أنعظ. ونهيق الحمار يضر بالكلب حتى إنه ربما عوى من كثرة ما يؤلمه. التعبير: الحمار في المنام جد الإنسان وسعده، وربما دل على غلام أو ولد أو خير، وربما دل على السفر أو العلم، لقوله «1» تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وربما على المعيشة لقوله «2» تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وربما دل الحمار على العالم المحصل. أو اليهود، لقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها «3» الآية وربما دلّ الحمار على ما يوطأ فيه كالوطاء والزربول وما أشبه ذلك. وظهور حمار عزير في المنام ظهور آية. وربما دلت رؤيته على الخلاص من الشدائد، وعلى الرجوع إلى المناصب السنية، أو المنازعة في الدين. والحمير والبغال ملكها في المنام، أو ركوبها دليل على الزينة بالمال أو الولد، لقوله «4» تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وربما دل ركوب الحمار على النجاة من الهم. وموت الحمار وهزاله فقر صاحبه. وقيل موته موت صاحبه. والنزول عن ظهره بلا نية نزول فقر وبيعه فقر أيضا، ومن ذبح حماره ليأكل لحمه نال سعة في رزقه، وإن ذبحه لغير الأكل فإنه يفسد معاشه بالولد والعز، فمن رأى أنه لا يحسن ركوب حماره، فإنه يتحلى بما ليس من أهله، والمهازيل والضعاف من الحمر، مال في زيادة، والسمان منها مال قد انتهى. والحمار المصري وكيل وهو نعم الوكيل. والحمارة امرأة معينة على المعيشة كثيرة الخير ذات نسل وربح متواتر، فمن ركب حمارة في منامه، وخلفها جحش فإنه يتزوج امرأة لها ولد. ومن رأى حمارة لا تمشي إلا بالصوت فإنه لا يطعم إلا بالدعاء. ولفظ الأتان من الإتيان. وربما دل صياحها على الشر والإنكاد، لقوله «5» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أو ظهور عارض من الجان، فإن نهيق الحمار يدل على رؤية الشيطان لأن السنة وردت بالتعوذ من الشيطان الرجيم عند سماع صوته، وقيل سماع صوته دعاء على الظلمة. ومن رأى حمارا موقورا دخل منزله، فإنه خير يسوقه الله إليه على قدر جوهر ذلك الحمل. ولبن الحمارة خصب في تلك السنة وربما دل الشرب منه على مرض شاربه ثم ينجو منه. ولحم الحمار مال لمن أكله. وحمار المرأة زوجها فإن مات طلقها أو مات زوجها. ومن صارع حمارا مات بعض أقاربه ومن رأى حماره صار فرسا نال خيرا من السلطان، وإن صار بغلا نال خيرا من سفر. ومن حمل حماره في المنام نال خيرا وقوّة في السعادة، حتى يتعجب منه. ومن رأى له حافرا فذلك قوة في المال والتصرف وكذلك الخف ومن سمع صوت الحوافر من غير أن يرى شيئا من البهائم. فإنها أمطار ويعبر الحمار برجل جاهل. وربما دلت رؤيته على الولد من الزنا. ومن رأى حمارا نزل من السماء فدس ذكره في دبره نال مالا عظيما يستغني به. لا سيما إذا كان الرائي ملكا، والحمار أسود أو أدهم والله أعلم. الحمار الوحشي: ويسمى الفراء ويقال حمار وحش وحمار وحشي، وهو العير وربما أطلق العير على الأهلي أيضا والحمار الوحشي شديد الغيرة، فلذلك يحمي عانته الدهر كله ومن عجيب أمره أن الأنثى من هذا النوع إذا ولدت ذكرا كدم الفحل خصيتيه، فالأنثى تعمل الحيلة في الهرب منه حتى يسلم. وربما كسرت رجل التولب كي لا يسعى ولا تزال ترضعه إلى أن يكبر فيسلم من أبيه وأشار إلى ذلك الحريري بقوله في المقامة الثالثة عشرة: يا رازق النعاب في عشه ... وجابر العظم الكثير المهيض أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس الذم نقى رحيض وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في باب النون في النعاب ويقال: إن الحمار الوحشي يعمر مائتي سنة وأكثر. وذكر ابن خلكان في ترجمة «1» يزيد بن زياد أن بعض الجند حدث أنهم نزلوا على جرود، فاصطادوا من حمر الوحش شيئا كثيرا، وذبحوا منها حمارا وطبخوا لحمه الطبخ المعتاد، فلم ينضج فزيد في الإيقاد عليه يوما كاملا فلم ينضج، فقام بعض الجند وأخذ رأسه، وجعل يقلبه فرأى على أنذه وسما، فقرأه فإذا هو بهرام جور وموضع الوسم ظاهر أبيض، وهو بالقلم الكوفي. قال ابن خلكان: وأحضروا الأذن عندي فوجدت الاسم ظاهرا وبهرام جور كان من ملوك الفرس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل، وكان من عادته إذا أخذ الصيد وسمه وأطلقه، والله تعالى يعلم كم كان عمر الحمار قبل الوسم. وهذا الحمار لعله عاش أكثر من مائتي سنة. وجرود قرية من قرى دمشق، وبأرضها من حمر الوحش شيء كثير، يجاوز الحصر وفي أرض جرود الجبل المدخن وإنما سمي هذا الجبل بالمدخن لأنه لا يزال عليه مثل الدخان من الضباب وقيل: إن الحمار يعيش أكثر من ثمانمائة سنة وألوان حمر الوحش مختلفة، والأخدرية أطولها عمرا وأحسنها شكلا. وهي منسوبة إلى أخدر، فحل كان لكسرى أردشير فتوحش، واجتمع بعانات فضرب فيها فالمتولد منها يقال له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 أخدري. وقال «1» الجاحظ: أعمار حمر الوحش تزيد على أعمار الحمر الأهلية، ولا نعرف حمارا أهليا عاش أكثر من حمار أبي سيارة، وهو عميلة بن خالد العدواني، كان له حمار أسود أجاز الناس عليه من المزدلفة إلى منى أربعين سنة وكان يقول: لا هم مالي في الحمار الأسود ... أصبحت بين العالمين أحسد هلا يكاد ذو الحمار الجلعد ... فق أبا سيارة المحسد من شر كل حاسد إذا حسد ... ومن أذاة النافثات في العقد اللهم حبب بين نسائنا ... وبغض بين رعائنا واجعل المال في سمحائنا وفيه يقول الشاعر: خلوا الطريق عن أبي سيارة ... وعن مواليه بني فزاره حتى يجيز سالما حماره ... مستقبل يدعو جاره فقد أجار الله من أجاره ولذلك قيل «2» : «أصح من حمار أبي سيارة» وروى ابن أبي شيبة وابن عبد البر من طريقه، من حديث أبي فاطمة الليثي، ويقال الأزدي، ويقال الدوسي، أنه قال: كنا جالسين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من أحب أن يصح فلا يسقم؟ فابتدرناها فقلنا نحن يا رسول الله. فقال: أتحبون أن تكونوا كالحمر الصالة؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات فو الذي نفس أبي القاسم بيده أن الله ليبتلي المؤمن بالبلاء فما يبتليه إلا لكرامته عليه، لأن الله قد أنزل عبده منزلة لم يبلغها بشيء من عمله دون أن ينزل به من البلاء ما لا يبلغ تلك المنزلة إلا به» . وكذا رواه البيهقي أيضا في الشعب وقال: سألت عنه بعض أهل الأدب، فزعم أنه أراد به حمر الوحش. وقال ابن الأثير في نهاية الغريب: قوله: أتحبون أن تكونوا كالحمر الصالة» قال أبو أحمد العسكري: هو بالصاد غير المعجمة ورواه أيضا بالضاد المعجمة. وهو خطأ يقال للحمار الوحشي الحاد الصوت: صال وصلصال كأنه يريد الصحيحة الأجساد والشديدة الأصوات، لقوّتها ونشاطها. الحكم: يحل أكله بالإجماع، وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «3» قال: «إنا لم نرده عليك إلا إننا حرم» . قال الشافعي: ولو توحش الحمار الأهلي حرم أكله. ولو استأهل الوحشي لم يحرم. ولا نعلم في حل الوحشي خلافا إلا ما روي عن مطرف أنه قال: إذا أنس واعتلف صار كالأهلي. وأهل العلم قاطبة على خلاف قوله ولا يحل الحمار المتولد بين الأهلي والوحشي، لأن الولد يتبع خير الأبوين في الأطعمة حتى يقرض أحدهما غير مأكول. كما يتبع أخسهما في النجاسة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 حتى يجب الغسل من ولوغه وسائر أجزائه سبعا إذا تولد بين كلب وذئب. وكما يتبع الأخس في الأنكحة حتى إذا تولد بين كتابي ووثني لم تحل مناكحته، وقد خالفوا هذا الأصل في باب الجزية، فقالوا: يعقد للمتولد بين كتابي ووثني، وفي الديات ألحقوه بأكثرهما دية، وهو الأصح المنصوص. وقيل: يتبع أقلهما دية. وقيل يعتبر بالأب. وهذه الأقوال حكاها الرافعي في باب الغرة وفي الحج جعلوه تابعا للأغلظ تكليفا، حتى لو قتل متولدا بين ظبي وشاة وجب عليه الجزاء، وعكسوا ذلك في الزكاة، فلم يوجبوها في المتولد بين الأهلي والوحشي، وفي إيجابها في المتولد بين انسيين كبقرة وجاموس نظر. وجعلوه تابعا لأشرفهما دينا، حتى لو كان أحد الأبوين مسلما عند العلوق، أو أسلم قبل بلوغه حكم بإسلام الصغير تبعا وجعلوه تابعا للأم في الرق والحرية، أعني ما دام حملا، إلا في المستولدة والمغرور بحريتها. وجعلوه تابعا للأب في النسب مطلقا، لأن النسب يعتبر بالآباء دون الأمهات. واستثنوا من ذلك أولاد بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم ينسبون إليه، دون أولاد بنات غيره، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم. وجعلوا ولد الزنا مقطوع النسب عن أبيه. والمنفي ليس كذلك لأنه لو استحلفه لحقه ولم يتعرضوا للتبعية في بابي الأضحية والعقيقة والاحتياط اعتبار أكثر السنين فيه، حتى لو تولد بين ضأن ومعز اشترط لإجزائه في الأضحية طعنه في السنة الثالثة اعتبارا بأكثر الأبوين سنا، وهو المعز ولم يتعرضوا أيضا له في الربويات وفائدته أنه هل يجعل جنسا برأسه، حتى يباع لحمه بلحم أي الأبوين كان مفاضلة، أو يجعل كالجنس الواحد احتياطا فيحرم التفاضل؟ وهذا هو الأقرب اعتبار الضيق باب الربا. ولم يتعرضوا له أيضا في السلم والقرض حتى لو أقرضه حيوانا متولدا بين حيوانين، أو أسلم إليه في لحمه أو لحم ضأن أو معز، فأتاه بلحم متولد بين ضأن ومعز فالمتجه عدم جواز قبوله، لأنه نوع آخر والاستبدال عن النوع، بنوع آخر لا يجوز على الصحيح. ولم يتعرضوا له أيضا في الشركة والوكالة والقراض، كل ذلك لندوره والمتجه المنع في الجميع لأن هذه العقود إنما تصح فيما يعم وجوده ولو أوصى لرجل بشاة فأعطاه الوارث متولدا بين ضأن ومعز لم يجبر على القبول، لأن الوصية إنما تحمل على المتعارف والله تعالى أعلم. الأمثال: قالوا: «فلان أكفر من حمار» «1» وهو رجل من عاد كان يقال له حمار بن مويلع، وقيل هو حمار بن مالك بن نصر الأزدي كان مسلما، وكان له واد طوله مسيرة يوم في عرض أربعة فراسخ، لم يكن ببلاد العرب أخصب منه، وفيه من كل الثمار فخرج بنوه يوما يتصيدون، فأصابتهم صاعقة فهلكوا فكفر وقال: لا أعبد من فعل هذا ببني. ودعا قومه إلى الكفر، فمن عصاه قتله، فأهلكه الله وأخرب واديه فضربت العرب به المثل في الكفر. قال الشاعر: ألم تر أن حارثة بن بدر ... يصلي وهو أكفر من حمار الخواص: قال ابن وحشية وابن السويدي وغيرهما: النظر إلى أعين الحمر الوحشية يديم صحة العين، ويمنع نزول الماء إليها بخاصة عجيبة أودعها الله فيها، والاكتحال بمرارتها يحد البصر ويزيل ظلمته ويمنع من ابتداء نزول الماء في العين. وأكل سمين لحمها ينفع من مرض المفاصل ويزيله، ولحمها أيضا ينفع من النقرس نفعا بينا وشحمها إذا طلي به الكلف أزاله ومرارتها تنفع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 من داء الثعلب طلاء، وتنفع من البول على الفراش أكلا ومخها يسخن بدهن الزنبق ويدهن به البهق يزول بإذن الله تعالى. التعبير: الحمار الوحشي في المنام يدل على الزوجة أو الولد من ذي الجفاء والقسوة أو من أرباب البوادي، فاعتبر ذلك واعط الرائي حقه. ومن رأى أنه ركب حمارا وحشيا فإنه يدل على معصية، ومن رأى أنه ركبه وسقط عنه فليحذر من درك يناله في معصية. ومن شرب من لبن حمارة وحش نال نسكا في دينه. ومن رأى أنه حوى شيئا من لحوم حمر الوحش أو ملكها نال عزا وغنيمة ومالا والحمار الأهلي إذا استوحش في المنام فهو ضر وشر. والحمار الوحشي في المنام إذا أنس فهو نفع وخير. حمار قبان: قال النووي في التحرير: هو فعلان من قب لأنه لا ينصرف في معرفة ولا نكرة. وقال الجوهري: هي دويبة وقبان فعلان من قب لأن العرب لا تصرفه وهو معرفة عندهم ولو كان فعالا لصرفته تقول رأيت قطيعا من حمر قبان غير منصرف قال الشاعر: يا عجبا لقد رأيت عجبا ... حمار قبان يسوق أرنبا خاطبها يمنعها أن تذهبا ... فقالت: أردفني فقال مرحبا وقد ذكر ابن مالك وغيره من الصرفيين، أن كل اسم يكون في آخره نون بعد ألف بينها وبين فاء الكلمة مشدد، فهو محتمل لأصالة النونات وزيادة أحد المثلين وبالعكس ومثلوا ذلك بحسان ودكان وتبان وريان ونحوها فقالوا: حسان إن أخذ من الحسن فنونه أصلية وإحدى السينين زائدة، وإن أخذ من الحسن فنونه زائدة مع الألف ووزنه على الأوّل فعال وعلى الثاني لزيادة الألف والنون دون الأوّل وتبان إن أخذ من التبن فنونه أصلية، وإن أخذ من التب، وهو الخسران، فنونه زائدة مع الألف فيمنع الصرف إذا عرف هذا فقبان يجوز أن يكون مأخوذا من القب وهو الضمور والأقب ضامر البطن كما قال الجوهري. والخيل القب الضوامر وقد أنشد الجاحظ يصف نسوة: يمشين مشي قطا البطاح تأوّدا ... قب البطون رواجح الأكفال «1» فحما رقبان يجوز أن يكون مأخوذا من هذا الضمور بطنه، فإنه دويبة مستديرة، بقدر الدينار، ضامرة البطن متولدة من الأماكن الندية على ظهرها شبه المجن مرتفعة الظهر، كأن ظهرها قبة إذا مشت لا يرى منها سوى أطراف رجليها، ورأسها لا يرى عند المشي، إلا أن تقلب على ظهرها، لأن أمام وجهها حاجزا مستديرا، وهي أقل سوادا من الخنفساء، وأصغر منها ولها ستة أرجل، تألف المواضع السبخة في الغالب، ومواضع الزبل ويجوز أن يكون لفظ قبان مأخوذا من قبن في الأرض قبونا إذا ذهب، قال صاحب المفردات: وهذه الدابة هي التي تسمى هدبة وهي كثيرة الأرجل، تستدير عند ما تلمس. ومن حمار قبان نوع ضامر البطن غير مستدير، والناس يسمونه أبا شحيمة، يألف المواضع الندية، والظاهر أنه صغار حمار قبان وأنه بعد يأخذ في الكبر. وأهل اليمن يطلقونه على دويبة فوق الجرادة من نوع الفراش. والاشتقاق لا يساعده ويجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 اشتقاقه من قبن المتاع إذا وزنه فعلى هذا ينصرف لأصالة النون. والقبان الذي يوزن به قال الشعبي: معناه العدل بالرومية، والاشتقاق الأول أظهر. فذلك التزمت العرب منعه من الصرف. الحكم: يحرم أكلها لاستخباثها. الأمثال: قالوا «1» : «أذل من حمار قبان» . الخواص: إذا شرب حمار قبان مع شراب نفع من عسر البول، ومن اليرقان. وقال بعضهم: إذا لف حمار قبان في خرقة وعلق على من به حمى مثلثة قلعها أصلا. التعبير : رؤية حمار قبان في النوم تدل على حقارة الهمة ومخالطة السفل ومكاثرتهم والله أعلم. الحمام: قال الجوهري: هو عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت والقمارى وساق حر والقطا والوراشين، وأشباه ذلك. يقع على الذكر والأنثى لأن الهاء إنما دخلته على أنه واحد من جنس لا للتأنيث. وعند العامة إنها الدواجن فقط الواحدة حمامة وقال حميد بن ثور الهلالي من أبيات: وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حربرهة فترنما «2» والحمامة هنا القمرية وقال الأصمعي في قول النابغة «3» : واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع، وارد الثمد «4» قالت: «ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا أو نصفه فقد» فحسّبوه فألفوه كما زعمت ... تسعا وتسعين لم ينقص ولم يزد هذه زرقاء اليمامة، نظرت إلى قطا وارد في مضيق الجبل، فقالت: يا ليت هذا القطا لنا، ومثل نصفه معه إلى قطاة أهلنا فيكمل لنا مائة قطاة فاتبعت وعدت على الما. فإذا هي ست وستون. قال أبو عبيدة رأته من مسيرة ثلاثة أيام وأرادت بالحمام القطا فقالت ذلك انتهى. وقال الأموي: الدواجن التي تستفرخ في البيوت تسمى حماما أيضا وأنشد للعجاج: إني وربّ البلد المحرم ... والقاطنات البيت عند زمزم قواطنا مكة من ورق الحم يريد الحمام. وجمع الحمامة حمام وحمائم وحمامات. وربما قالوا حمام للمفرد. قال جران العود «5» : وذكرني الصبا بعد التنائي ... حمامة أيكة تدعو حماما وحكى أبو حاتم عن الأصمعي في كتاب الطير الكبير أن اليمام هو الحمام البري. الواحدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 يمامة، وهو ضروب. والفرق بين الحمام الذي عندنا واليمام، أن أسفل ذنب الحمامة، مما يلي ظهرها فيه بياض، وأسفل ذنب اليمامة لا بياض فيه انتهى. ونقل النووي في التحرير عن الأصمعي أن كل ذات طوق فهي حمام. والمراد بالطوق الحمرة أو الخضرة أو السواد المحيط بعنق الحمامة في طوقها. وكان الكسائي يقول: الحمام هو البري، واليمام الذي يألف البيوت والصواب ما قاله الأصمعي. ونقل الأزهري عن الشافعي أن الحمام كل ما عب وهدر، وإن تفرقت أسماؤه والعب بالعين المهملة شدة جرع الماء من غير تنفس. قال ابن سيده: يقال في الطائر عبّ ولا يقال شرب. والهدير ترجيع الصوت ومواصلته من غير تقطيع له. قال الرافعي والأشبه أن ما عب هدر. قال: فلو اقتصروا في تفسير الحمام على العب لكفاهم، ويدل عليه أن الإمام الشافعي قال في عيون المسائل: وما عب من الماء عبا فهو حمام وما شرب قطرة قطرة كالدجاج فليس بحمام اهـ. وفيما قاله الرافعي نظر لأنه لا يلزم من العب الهدير قال الشاعر: على جو يضي نغر مكب ... إذا افترت فترة يعب وحمرات شربهن غب وصف النغر بالعب، مع أنه لا يهدر، وإلا كان حماما والنغر نوع من العصفور، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب النون، إذا علمت ذلك انتظم لك كلام الشافعي، وأهل اللغة أن الحمام يقع على الذي يألف البيوت ويستفرخ فيها، وعلى اليمام والقمري وساق حر وهو ذكر القمري، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين. والفواخت والدبسي والقطار والوارشين واليعاقب والشفنين والزاغ والورداني والطوراني. وسيأتي بيان ذلك كل واحد في بابه إن شاء الله تعالى. والكلام الآن في الحمام الذي يألف البيوت، وهو قسمان: أحدهما البري وهو الذي يلازم البروج وما أشبه ذلك، وهو كثير النفور، وسمي بريا لذلك والثاني الأهلي وهو أنواع مختلفة وأشكال متباينة، منها الرواعب والمراعيش والعداد والسداد والمضرب والقلاب والمنسوب. وهو بالنسبة إلى ما تقدم كالعتاق من الخيل وتلك البراذين، قال الجاحظ: الفقيع من الحمام، كالصقلاب من الناس، وهو الأبيض. روى أبو داود الطبراني وابن ماجه وابن حبان بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتبع حمامة، فقال: «شيطان يتبع شيطانة» «1» وفي رواية «شيطان يتبعه شيطان» قال البيهقي: وحمله بعض أهل العلم على إدمان صاحب الحمام على إطارته والاشتغال به، وارتقاء الأسطحة التي يشرف منها على بيوت الجيران وحرمهم لأجله. وسيأتي الكلام عليه في الأحكام. وروى البيهقي عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما، قال: شهدت عمر بن عبد العزيز رحمه الله يأمر بالحمام الطيار، فتذبح وتترك المقصصات. وروى ابن قانع والطبراني عن حبيب بن عبد الله بن أبي كبشة، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يعجبه النظر إلى الأترج والحمام الأحمر» . وروى الحاكم، في تاريخ نيسابور، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه النظر إلى الخضرة وإلى الأترج وإلى الحمام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 الأحمر» قال ابن قانع والحافظ أبو موسى: قال هلال بن العلاء: الحمام الأحمر التفاح. قال أبو موسى وهذا التفسير لم أره لغيره. وكان في منزله صلى الله عليه وسلم حمام أحمر يقال له وردان. وفي عمل اليوم والليلة لابن السني عن خالد بن معدان عن معاذ بن جبل «أن عليا رضي الله تعالى عنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فأمره أن يتخذ زوج حمام، وأن يذكر الله عند هديره» . ورواه الحافظ ابن عساكر وقال: إنه غريب جدا وسنده ضعيف. وروى ابن عدي، في كامله، في ترجمة ميمون بن موسى، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال له: «اتخذ زوجا من حمام تؤنسك وتصيب من فراخها وتوقظك للصلاة بتغريدها» أو «اتخذ ديكا يؤنسك ويوقظك للصلاة» . وروى أيضا في ترجمة محمد بن زياد الطحان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذوا الحمام المقاصيص في بيوتكم فإنها تلهي الجن عن صبيانكم» «1» . وقال عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، شكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال له: «إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ زوجا من حمام» رواه الطبراني، وفيه الصلت الجراح لا يعرف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وفي كامل ابن عدي في ترجمة سهل بن فرير، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شكت «2» الكعبة إلى الله تعالى قلة زوارها، فأوحى الله إليها لأبعثن إليك أقواما يحنون إليك كما تحن الحمامة إلى فراخها. وفي سنن أبي داود والنسائي، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة» «3» . ومن طبعه أنه يطلب وكره ولو أرسل من ألف فرسخ. ويحمل الأخبار ويأتي بها من البلاد البعيدة في المدة القريبة، وفيه ما يقطع ثلاثة آلاف فرسخ في يوم واحد. وربما اصطيد وغاب عن وطنه عشر حجج فأكثر ثم هو على ثبات عقله، وقوة حفظه، ونزوعه إلى وطنه، حتى يجد فرصة فيطير إليه. وسباع الطير يطلبه أشد الطلب وخوفه من الشاهين أشد من خوفه من غيره، وهو أطير منه، ومن سائر الطير كله لكنه يذعر منه، ويعتريه ما يعتري الحمار إذا رأى الأسد والشاة إذا رأت الذئب، والفأر إذ رأى الهر ومن عجيب الطبيعة فيه، ما حكاه ابن قتيبة في عيون الأخبار عن المثنى بن زهير أنه قال: لم أر شيئا قط من رجل وامرأة إلا وقد رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها، وذكرا لا يريد إلا أنثاه إلا أن يهلك أحدهما أو يفقد. ورأيت حمامة تتزين للذكر ساعة يريدها، ورأيت حمامة لها زوج وهي تمكن آخر ما تعدوه. ورأيت حمامة تقمط حمامة، ويقال: إنها تبيض من ذلك، ولكن لا يكون لذلك البيض فراخ. ورأيت ذكرا يقمط ذكرا، ورأيت ذكرا يقمط كل ما لقي. ولا يزاوج وأنثى يقمطها كل ما رآها من الذكور ولا تزاوج. وليس من الحيوان ما يستعمل التقبيل عند السفاد إلا الإنسان والحمام. وهو عفيف في السفاد، يجر ذنبه ليعفي أثر الأنثى، كأنه قد علم ما فعلت، فيجتهد في إخفائه. وقد يسفد لتمام ستة أشهر، والأنثى تحمل أربعة عشر يوما، وتبيض بيضتين: إحداهما ذكر والثانية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 أنثى، وبين الأولى والثانية يوم وليلة، والذكر يجلس على البيض ويسخنه جزءا من النهار، والأنثى بقية النهار، وكذلك في الليل. وإذا باضت الأنثى وأبت الدخول على بيضها لأمر ما ضربها الذكر، واضطرها للدخول. وإذا أراد الذكر أن يسفد الأنثى أخرج فراخه عن الوكر، وقد ألهم هذا النوع، إذا خرجت فراخه من البيض، بأن يمضغ الذكر ترابا مالحا، ويطعمها إياه، ليسهل به سبيل المطعم. فسبحان اللطيف الخبير الذي آتى كل نفس هداها. وزعم أرسطو أن الحمام يعيش ثمان سنين. وذكر الثعلبي وغيره، عن وهب بن منبه في قوله «1» تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ وقال اختار من النعم الضأن، ومن الطير الحمام. وذكر أهل التاريخ أن أمير المؤمنين المسترشد «2» بالله بن المستظهر بالله لما حبس رأى في منامه كأن على يده حمامة مطوقة، فأتاه آت فقال له: خلاصك في هذا، فلما أصبح حكى ذلك لابن سكينة الإمام، فقال له: ما أولته يا أمير المؤمنين؟ قال أولته ببيت أبي تمام: هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام «3» وخلاصي في حمامي فقتل بعد أيام يسيرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر وأياما. وروى البيهقي في الشعب، عن معمر قال: جاء رجل إلى ابن سيرين، رحمه الله تعالى فقال: رأيت في النوم، كأن حمامة التقمت لؤلؤة، فخرجت منها أعظم مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت منها أصغر مما دخلت، ورأيت حمامة أخرى التقمت لؤلؤة فخرجت منها كما دخلت سواء. فقال له ابن سيرين: أما التي خرجت أعظم مما دخلت، فذلك الحسن بن أبي الحسن البصري يسمع الحديث فيجوده بمنطقه ثم يصل فيه من مواعظه. وأما التي خرجت أصغر مما دخلت فذلك محمد بن سيرين يسمع الحديث فينقص منه. وأما التي خرجت كما دخلت سواء فهو قتادة وهو أحفظ الناس. وذكر ابن خلكان في ترجمته «4» يعني ابن سيرين، أن رجلا أتاه فقال له: رأيت كأني أخذت حمامة لجاري فكسرت جناحها، فتغير وجه ابن سيرين وقال: ثم ماذا؟ قال: ثم جاء غراب أسود فسقط على ظهر بيتي فنقبه، فقال له محمد بن سيرين: ما أسرع ما أدبك ربك! أنت رجل تخالف إلى امرأة جارك، وأسود يخالفك إلى امرأتك. قال: وكان ابن سيرين بزازا وكان من موالي أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم. وحبس بدين كان عليه. وكان يقول: إني لأعرف الذنب الذي حمل به على الدين. قيل له ما هو؟ وقال: قلت لرجل مفلس منذ أربعين سنة: يا مفلس. قال بعضهم: قلت ذنوبهم فعلموا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبنا فليس يدري من أين نؤتى. قال: وكان أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قد أوصى أن يغسله ويكفنه ويصلي عليه محمد بن سيرين، وكان محمد بن سيرين محبوسا لما مات أنس، فاستأذنوا له الأمير، فأذن له فخرج فغسله وكفنه وصلّى عليه، ثم رجع إلى السجن ولم يذهب إلى أهله. وكان ابن سيرين من أعلام التابعين وكانت له اليد الطولى في علم الرؤيا روي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 أن امرأة جاءته، وهو يتغدى، فقالت له: رأيت القمر دخل في الثريا، ونادى مناد من خلقي: ائتي ابن سيرين فقصي عليه، قال: فتغير لونه وقام. وهو آخذ على بطنه، فقالت له أخته: ما بالك؟ قال: زعمت هذه أني ميت بعد سبعة أيام. فمات بعد سبعة أيام، سنة عشر ومائة بعد الحسن البصري بمائة يوم رحمهما الله تعالى. وفي الشعب للبيهقي عن سفيان الثوري أنه قال: كان اللعب بالحمام من عمل قوم لوط. وقال إبراهيم النخعي: من لعب بالحمام الطيارة، لم يمت حتى يذوق ألم الفقر. وروى البزار في مسنده أن الله تعالى أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على فم الغار، وإن ذلك مما صد المشركين عنه صلى الله عليه وسلم، وإن حمام الحرم من نسل تينك الحمامتين. وروى ابن وهب «أن حمام مكة أظلت النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتحها فدعا لها بالبركة» . وروى الطبراني بإسناد صحيح عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية «1» : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ فجعل يعيدها علي حتى نعست عنه، ثم قال: «يا أبا ذر كيف تصنع إذا أخرجت من المدينة؟ قلت: إلى السعة والدعة أنطلق إلى مكة فأكون حمامة من حمام الحرم، فقال صلى الله عليه وسلم: فيكيف تصنع إذا أخرجت من مكة؟ قلت إلى السعة والدعة أنطلق إلى الشأم والأرض المقدسة. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت من الشأم؟ فقلت: والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي. قال صلى الله عليه وسلم: وخير من ذلك تسمع وتطيع وإن كان عبدا حبشيا» «2» وفي الصحيح طرف منه وفي ابن ماجه طرف من أوله. وذكر أن هارون الرشيد كان يعجبه الحمام واللعب به، فأهدي له حمام وعنده أبو البختري وهب القاضي، فروى له بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا سبق إلا في خف أو حافرا وجناح» . «3» . فراد أو جناح. وهي لفظة وضعها للرشيد، فأعطاه جائزة سنية، فلما خرج قال الرشيد: بالله لقد علمت أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمر بالحمام فذبح فقيل له: وما ذنب الحمام؟ قال: من أجله كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فترك العلماء حديث أبي البختري لذلك وغيره من موضوعاته. فلم يكتبوا حديثه. وكان أبو البختري المذكور قاضي مدينة النبي صلى الله عليه وسلم بعد بكار بن عبد الله الزبيري، ثم ولي قضاء بغداد، بعد أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، رحمه الله. وتوفي أبو البختري سنة مائتين في خلافة المأمون. والبختري مأخوذ من البخترة التي هي الخيلاء، وهو يتصحف على كثير من الناس بالبحتري الشاعر المشهور، والأول بالخاء المعجمة والثاني بالحاء المهملة. قال ابن أبي خيثمة: والشيخ تقي الدين القشيري، في الاقتراح واضع حديث الحمام غياث بن إبراهيم، وضعه للمهدي لا للرشيد. وقال ابن قتيبة: وأبو البختري هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وهب بن وهب بن وهب ثلاثة أسماء على نسق واحد، ومثله في ملوك الفرس بهرام بن بهرام بن بهرام، ومثله في الطالبين حسن بن حسن بن حسن، ومثله في غسان الحارث الأصغر بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر انتهى. قلت: ومثله في المتأخر بن الغزالي محمد بن محمد بن محمد أحد أصحاب الوجوه في المذهب. ومما حكي لنا واشتهر ورويناه بالسند الصحيح. عن الشيخ العارف بالله تعالى أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى، أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقد باهى موسى وعيسى صلّى الله عليهما وسلم بالإمام الغزالي فقال لهما: في أمتكما حبر كهذا؟ وأشار إلى الغزالي، فقالا: لا. وقال الشيخ الإمام العارف بالله الأستاذ ركن الشريعة والحقيقة أبو العباس المرسي، وقد ذكر الغزالي فشهد له بالصديقية العظمى. وحسبك من باهى به النبي صلى الله عليه وسلم موسى وعيسى وشهد له الصديقون بالصديقية العظمى. وقد ذكر له شيخنا جمال الدين الأسنوي في المهمات ترجمة حسنة، منها: هو قطب الوجود والبركة الشاملة لكل موجود، وورح خلاصة أهل الإيمان، والطريق الموصلة إلى رضا الرحمن، يتقرب إلى الله تعالى به كل صديق، ولا يبغضه إلا ملحد أو زنديق، قد انفرد في ذلك العصر عن أعلام الزمان، كما انفرد في هذا الباب فلا يترجم معه فيه إنسان. انتهى. وكان حجة الإسلام زين الدين محمد الغزالي قد ولي تدريس النظامية بمدينة بغداد، ثم تركها وسلك طريق الزهد وقصد الحج، فلما رجع توجه إلى الشأم، فأقام بدمشق بزاوية الجامع، وانتقل إلى القدس ثم قصد مصر، وأقام بالإسكندرية مدة، ثم عاد إلى وطنه بطوس، ثم ألزم بالعود إلى نيسابور والتدريس بها في النظامية، ثم تركها وعاد إلى وطنه واتخذ خانقاه للصوفية وصرف وقته إلى وظائف الخيرات، من تلاوة القرآن، ومجالسة الصالحين، وكثرة العبادة، والتخلي عن الدنيا، والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة، والتبحر في علوم الحقيقة. وكتبه نافعة مفيدة، لا سيما إحياء علوم الدين فإنه كتاب لا يستغنى عنه طالب الآخرة. توفي الإمام حجة الإسلام في جمادى الآخرة سنة خمس وخمسمائة بطوس رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه. وذكر ابن خلكان أن شرف الدين بن عنين حضر درس فخر الدين «1» الرازي بخوارزم، فسقطت بالقرب منه حمامة، وقد طردها بعض الجوارح فلما وقعت رجع عنها، ولم تقدر الحمامة على الطيران من خوفها وشدة البرد، فلما قام الإمام فخر الدين من الدرس وقف عليها ورق لها وأخذها بيده، فأنشده ابن عنين بديها أبياتا منها: من نبأ الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف ولو أنها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف «2» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وكان بين شرف الدين بن عنين «1» والملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق مؤانسة ومصاحبة، وكان يجري بينهما أمور تدل على حسن إدراك الملك المعظم منها أن ابن عنين حصل له توعك فكتب إليه: انظر إلي بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلاف قبل تلافي «2» أنا كالذي أحتاج ما يحتاجه ... فاغنم ثنائي والثواب الوافي «3» فجاء إليه بنفسه ومعه ثلاثمائة دينار، فقال: هذه الصلة وأنا العائد، وهذه لو وقعت من أكابر النحاة لاستعظمت منه، فضلا عن ملك. قوله هذه الصلة أنا العائد، لأن الذي اسم موصول يحتاج إلى صلة وعائد فالصلة ما وصله به من المال، والعائد يحتمل معنيين: أحدهما: وأنا العائد لك بالصلة مرة بعد أخرى فطب نفسا، والآخر من عاد يعود عيادة وهي عيادة المريض. وكان الملك المعظم فاضلا حازما شجاعا حنفي المذهب وكانت له رغبة في فن الأدب حتى إنه شرط لكل من حفظ مفصل الزمخشري مائة دينار وخلعة. فحفظه خلق كثير لهذا السبب. توفي سنة أربع وعشرين وستمائة وتوفي الإمام فخر الدين الرازي المتقدم ذكره يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة بهراة رحمهما الله تعالى. فائدة: قال بعض الحكماء: كل إنسان مع شكله كما أن كل طير مع جنسه، وكان مالك بن دينار يقول: لا يتفق إثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر، فإن أشكال الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان منه في طيران إلا لمناسبة بينهما، فرأى يوما حمامة مع غراب، فعجب من اتفاقهما وليسا من شكل واحد فلما مشيا إذا هما أعرجان، فقال: من ههنا اتفقا. وكل إنسان يأنس إلى شكله، كما أن كل طير يأنس إلى جنسه، فإذا اصطحب اثنان برهة من الزمان وليس بينهما مناسبة ما، فلا بد أن يتفرقا كما قال بعض الشعراء: وقائل كيف تفرقتما ... فقلت قولا فيه إنصاف لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وألاف وسيأتي عنه في الصعوة شيء من هذا. روى أحمد في الزهد عن يزيد بن ميسرة أن المسيح عليه الصلاة والسلام كان يقول لأصحابه: إن استطعتم أن تكونوا بلها في الله تعالى مثل الحمام فافعلوا قال: وكان يقال إنه ليس شيء أبله من الحمام وذلك أنك تأخذ فراخه من تحته فتذبحها، ثم يعود إلى مكانه ذلك فيفرخ فيه. الحكم: يحل أكله بالإجماع بجميع أنواعه لأنه من الطيبات، ولأن الشارع أوجب فيه على المحرم، إذا قتله، شاة. وفي مستند ذلك وجهان: أحدهما أن ذلك لما بينهما من الشبه، فإن كلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 منهما يألف البيوت ويأنس بالناس، والثاني: وهو الأصح، أن مستنده توقيف بلغهم فيه. ونقل الرافعي عن الشيخ أبي محمد الخلاف، فيما لو قتل طائرا أكبر من الحمام، أو مثله هلى ينبني على هذا؟ إن قلنا المستند التوقيف أوجبنا الشاة. وإن قلنا المستند المشابهة أوجبنا القيمة. وقد أسقط الإمام النووي. رحمه الله، هذه المسألة من الروضة، وكأنه ظن أن الخلاف فيها لفظي لا فائدة فيه. وبيض الحمام وكل طائر يحرم على المحرم، صيده حرام عليه فإن أتلفه ضمنه بقيمته، هذا مذهبنا وبه قال الإمام أحمد وآخرون. وقال المزني وبعض أصحاب داود: لا جزاء في البيض. وقال مالك: يضمنه بعشر ثمن أصله. قال ابن المنذر: واختلفوا في بيض الحمام، فقال علي وعطاء: في كل بيضتين درهم، وقال الزهري والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور: فيه قيمته وسيأتي في بيض النعام حكمه إن شاء الله تعالى. ومن أحكامه في الصيد أنه إذا اختلطت حمامة مملوكة أو حمامات بحمامات مباحة محصورة لم يجز الإصطياد منها. ولو اختلطت بحمام ناحية جاز الإصطياد في الناحية. ولو اختلط حمام أبراج مملوكة لا تكاد تحصر بحمام بلدة أخرى مباحة ففي جواز الاصطياد منها وجهان: أصحهما الجواز. وبيع الحمام في البرج على تفصيل بيع السمك في البركة. وسيأتي في باب السين المهملة إن شاء الله تعالى لو باعها وهي طائرة اعتمادا على عادة عودها فوجهان: أصحهما عند الإمام الجواز كالعبد المبعوث في شغل وعند الجمهور المنع إذ لا وثوق بعودها لعدم عقلها. ومن أحكامه في الربا أنه جنس واحد بجميع أنواعه. كذا قاله المراوزة «1» . وقال العراقيون: إن كل نوع منه جنس واحد بجميع جنس، والقماري جنس، والفواخت جنس. وأما اتخاذه للبيض والفارخ وللأنس وحمل الكتب فجائز بلا كراهة. وأما اللعب به والتطير والمسابعة، فقيل: يجوز لأنه لا يحتاج إليها في الحرب لنقل الأخبار والأصح كراهته، لما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، الذي قال فيه: «شيطان يتبع شيطانة» «2» . قال ابن حبان بعد رواية هذا الحديث: إنما قال له شيطان، لأن اللاعب بالحمام، لا يكاد يخلو من لغو وعصيان، والعاصي يقال له شيطان قال الله تعالى شياطين الإنس والجن، وأطلق على الحمامة شيطانة للمجاورة، ولا ترد الشهادة بمجرد اللعب بالحمام، خلافا لمالك وأبي حنيفة فإن انضم إليه قمار أو نحوه ردت به الشهادة. وروى أبو محمد الرامهرمزي في كتابه «المحدث الفاضل بين الراوي والواعي» عن مصعب الزبيري، قال: سمعت مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وقد قال لابني أخته أبي بكر محمد وإسماعيل ابني أبي أويس. أراكما تحبان هذا الشأن وتطلبانه، يعني الحديث، قالا: نعم. قال: فإن أحببتما أن تنتفعا، وينفع الله بكما فأقلا منه وفقها. ونزل ابن مالك من فوق سطح، ومعه حمام قد غطاه، فعلم مالك أنه قد فهمه الناس فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وروي عنه أيضا، أنه قال: كان يحيى بن مالك بن أنس، يدخل ويخرج ولا يجلس معنا عند أبيه، فكان إذا نظر إليه أبوه قال: هاه إن ما تطيب به نفسي أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 هذا الشأن لا يورّث، وإن أحدا لم يخلف أباه في مجلسه إلا عبد الرحمن ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان أفضل أهل زمانه، وكان أبوه أفضل أهل زمانه. وقال البخاري في المناسك، من صحيحه: حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، وكان أفضل أهل زمانه، أنه سمع أباه، وكان أفضل أهل زمانه، يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: «طببت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين» . الحديث «1» وأم عبد الرحمن قريبة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، واتفق الناس على جلالته وإمامته وثقته وورعه وكثرة علمه، ولد في حياة عائشة رضي الله تعالى عنها، وتوفي سنة ست وعشرين ومائة. روى له الجماعة. وروي أن المنصور أمير المؤمنين، قال له يوما: عظني بما رأيت، قال: مات عمر بن عبد العزيز وخلف أحد عشر ابنا، فبلغت تركته سبعة عشر دينارا، كفن منها بخمسة دنانير، واشتري له موضع القبر بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهما. ومات هشام بن عبد الملك، وخلف أحد عشر ابنا، فورث كل واحد منهم ألف ألف درهم، ثم إني رأيت رجلا من أولاد عمر بن عبد العزيز حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله تعالى. ورأيت رجلا من أولاد هشام يسأل أن يتصدق عليه انتهى. قلت: وهذا أمر غير عجيب فإن عمر وكلهم إلى ربه فكفاهم وأغناهم، وهشام وكلهم إلى دنياهم فأفقرهم مولاهم. وأما بيع زرق الحمام، وسرجين البهائم المأكولة وغيرها، فباطل وثمنه حرام، هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع السرجين لإتفاق أهل الأعصار، في جميع الأمصار، على بيعه من غير إنكار، ولأنه يجوز الانتفاع به فجاز بيعه كسائر الأشياء. واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى إذا حرم على قوم شيئا، حرم عليهم ثمنه» . وهو حديث صحيح، رواه أبو داود بإسناد صحيح. وهو عام إلا ما خرج بدليل، كالحمار وبأنه نجس العين فلم يجز بيعه. كالعذرة فإنهم وافقونا على بطلان بيعها، مع أنه ينتفع بها. وأما الجواب عما احتجوا به، فهو ما أجاب به الماوردي وغيره، أن بيعه إنما يفعله الجهلة والأراذل فلا يكون ذلك حجة في دين الإسلام. وأما قولهم: إنه ينتفع به فأشبه غيره، فالفرق أن هذا نجس بخلاف غيره. الأمثال: قالوا: «آمن من حمام الحرم، وآلف من حمام «2» مكة» . وقالوا: «تقلدها طوق الحمامة» «3» ، كناية عن الخصلة القبيحة، أي تقلدها كطوق الحمامة، لأنه لا يزايلها ولا يفارقها، كما لا يفارق الطوق الحمامة، ومثله قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «4» . أي إن عمله لازم له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم ذكر حسيبا؟ قلت: لأنه بمنزلة الشاهد والقاضي والأمين، لأن هذه الأمور الغالب أن يتولاها الرجال، فكأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 قيل له: كفى بنفسك رجلا حسيبا. وكان الحسن البصري إذا قرأها قال: يا ابن آدم أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك. وقيل في قوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» أي يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق. يقال: طوق فلان الحمامة، أي ألزم جزاء عمله. روى الإمام أحمد في الزهد عن مطرف أنه قال: إذا أنامت، فلا تحبسوني لكي يجتمع الناس، فأطوقهم طوق الحمامة. ومن هذا المعنى. قول عبد الله بن جحش لأبي سفيان: أبلغ أبا سفيان عن ... أمر عواقبه ندامه دار ابن عمك بعتها ... تقضي بها عنك الغرامه وحليفكم بالله رب الن ... اس مجتهد القسامه اذهب بها اذهب بها ... طوّقتها طوق الحمامه أي لزمه عارها. قال الإمام عبد الرحمن السهيلي: هذا المثل منتزع من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من غصب شبرا من الأرض، طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» «2» . وقوله: طوق الحمامة لأن طوقها لا يفارقها ولا تلقيه عن نفسها أبدا، كما يفعل من لبس طوقا من الآدميين. وفي هذا البيت، من حلاوة الإشارة، وملاحة الاستعارة مالا مزيد عليه. وفي قوله: طوق الحمامة ردّ على من تأوّل قوله صلى الله عليه وسلم: «طوّقه من سبع أرضين» أنه من الطاقة، لا من الطوق في العنق. وقاله الخطابي في أحد قوليه، مع أن البخاري قد قال في بعض رواياته: خسف به إلى سبع أرضين. وفي مصنف ابن أبي شيبة «من غصب شبرا من أرض جاء به اسطاما في عنقه» . والاسطام كالحلق من الحديد وقالوا: «أخرق من حمامة» «3» لأنها لا تحكم عشها وذلك لأنها ربما جاءت إلى الغصن من الشجرة فتبني عليه عشها في الموضع الذي تذهب به الريح فينكسر من بيضها أكثر مما يسلم قال عبيد بن الأبرص «4» : عيوا بأمرهم كما ... عييت بيضتها الحمامة «5» جعلت لها عودين من ... بشم وآخر من ثمامه «6» الخواص: إذا سكن المخدور بقربها أو في بيت يجاورها أو في بيت هي فيه برىء. وفي مجاورتها أمان من الخدر والفالج والسكتة والسبات. وهذه خاصية عظيمة بديعة ودمها إذا اكتحل به حارا نفع من الجراحات العارضة للعين والغشاوة. ودمها خاصة يقطع الرعاف الذي من حجب الدماغ، وإذا خلط بالزيت ابرأ من حرق النار وزبل الحمام حار، وأشده حرارة زبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 البري، الذي لا يأوي البيوت، وأعجب ما في زبله أنه إذا سخن في الماء وجلس فيه من به عسر البول، ابرأه ومما جرب لعسر البول: أن يكتب له في إناء نظيف، ثم يذاب بماء ويسقى لمن به ذلك فإنه يبول من وقته وساعته، قوله «1» تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «2» رمص نفح وشفوا بفضل الله عزّ وجلّ. وإذا طلي بالخل وضمد به من به وجع الاستسقاء، نفعه نفعا بينا. وزبل الحمام الأحمر إذا شرب منه قدر درهمين، مع ثلاثة دراهم دارصيني نفع من الحصاة. ولحم الحمام جيد للكلى ويزيد في المني والدم، وإذا شقت وهي حية ووضعت وهي حارة في موضع لسع العقرب نفعت نفعا بينا، وزبل الحمام إذا بخر به المطلقة أسرع بنزول الولد والمشيمة. التعبير: الحمام في المنام رسول أمين، أو صديق صدوق، أو حبيب أنيس، وربما دلت رؤية الحمام على النوح والتعديد. قال الشاعر: صب ينوح إذا الحمام ينوح وربما دلت الحمامة في الرؤيا على امرأة مباركة حسناء عربية لا تبتغي ببعلها بدلا. والحمام على رأس المريض هو حمام الموت قال الشاعر «3» : هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام وبروجها مجمع النساء، وفراخها بنون فمن رأى أنه يعلف الحمام، ويدعوهن إليه فإنه يقود. وإن حشر الحمام والغربان في مكان واحد، فإنه يقود أيضا، لأن الغربان فسّاق وكل شيء يحشر مع غير جنسه كالنعاج والكلاب وأشباه ذلك فإنه قيادة. وهدير الحمام كلام باطل، ومن سمع حمامة تهدر فإنه يدل على امرأة تعاتب زوجها. ومن رأى حمامة قدمت عليه وتلقاها فإنه يرد عليه كتاب. ومن نفرت منه حمامته ولم تعد إليه فإنه يطلق زوجته أو تموت. ومن رأى كأن له حماما، فإنه يشتري الجواري. ومن قص جناح حمامة في المنام، فقد حلف على زوجته أن لا تخرج من بيته، أو تلد أو تحمل، لأن النفاس والحمل يمنعان من الخروج، والحمام الذي يهدي إلى الطريق فإنه خبر يأتي الرائي من مكان بعيد. والحمام في المنام دليل خير لمن يصادق أو يشارك لاجتماع بعضه مع بعض في الطيران والمزاوجة. وقال جاماسب: من اصطاد الحمام في منامه، أكل مال أعدائه. ومن رأى بعين حمامته نقصا، فهو نقص في دين زوجته وخلقها. وقال ابن المقري: رؤية المنسوب من الحمام إلى من دونه شريف القدر أو النسب. ورؤيته دال على الإفراج والنصر على الأعداء، واللهو واللعب وربما دل الحمام على الأزواج الصينات، وذوات الحفظ للأسرار، والكد على العيال، وربما دل على الحمام الذي هو الموت، وربما دل المرأة ذات الأولاد، والرجل الكثير النسل، المنعكف على أهل بيته والله أعلم. الحمد: فرخ القطاة وفي المثل «4» «حمد قطاة يستمي الأرانب أن يصيدها» . يضرب للضعيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الذي يروم أن يكيد قويا. قال الميداني: ولم أر له ذكرا في الكتب. الحمر: بضم الحاء المهملة وتشديد الميم وبالراء: المها، ضرب من الطير كالعصفور، قال أبو المهوش الأسدي: قد كنت أحسبكم أسود حمية ... فإذا لصاف تبيض فيه الحمر لصاف اسم جبل والواحدة حمرة قال الراجز: وحمرات شربهن غبّ ... إذا غفلت غفلة تعبّ وقد تخفف، فيقال: حمرة وحمرات، وابن لسان الحمرة، كان من خطباء العرب وهو أحد بني تيم اللات بن ثعلبة، وكان من علماء زمانه، ضرب به المثل في الفصاحة وطول العمر، واسمه ورقاء بن الأشعر، ويكنى أبا كلاب، سأله معاوية يوما عن أشياء فأجابه عنها، فقال له بم نلت العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول، ثم قال: يا أمير المؤمنين إن للعلم آفة وإضاعة ونكدا واستجاعة: فآفته النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله، ونكده الكذب فيه، واستجاعته إن صاحبه منهوم لا يشبع أبدا. الحكم: حل الأكل بالإجماع لأنها من أنواع العصافير، وقال العبادي: منهم من حرم الحمر لأنه نهاش، وهذا قول شاذ مردود. روى أبو داود الطيالسي والحاكم وقال: صحيح الإسناد، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم «فدخل رجل غيضه، فأخرج منها بيض حمرة فجاءت الحمرة، ترف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه» «1» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أيكم فجع هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله أخذت بيضها» . وفي رواية الحاكم «أخذت فرخها» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رده رده رحمة لها» «2» . وفي الترمذي وابن ماجه عن عامر الدارمي أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخلوا غيضة فأخذوا فرخ طائر فجاء الطائر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرف فقال عليه الصلاة والسلام: «أيكم أخذ فرخ هذا؟ فقال رجل: أنا فأمره أن يرده فرده» . وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في الكلام على الفرخ الحديث الذي رواه أبو داود في أول كتاب الجنائز عن عامر الرامي. والحكمة في الأمر بالرد على أنه يحتمل أنهم كانوا محرمين أو لأنها لما استجارت به أجارها فكان الإرسال في هذه الحالة واجبا. الأمثال: قالوا: «أعمر من ابن لسان الحمرة» «3» وقالوا: «أنسب من ابن لسان الحمرة» «4» . وكان أنسب العرب وأعظمهم كبرا. وخواصه وتعبيره: ستأتي في باب العين المهملة في لفظ العصفور. الحمسة: بتحريك الحاء والميم والسين المهملة دابة من دواب البحر. وقيل هي السلحفاة والجمع حمس حكاه ابن سيده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الحماط: بكسر الحاء المهملة والحمطوط بالضم دويبة تتكون في العشب. الحمك: الصغار من كل شيء واحدته حمكة وقد غلب على القمل والحمك أيضا فراخ القطا والنعام والحمك أيضا أراذل الناس قال الراجز «1» : لا تعذليني برذالات الحمك الحمل: الخروف إذا بلغ ستة أشهر وقيل: هو ولد الضأن الجذع فما دونه، والجمع حملان وأحمال. روى ابن ماجه، من حديث أبي يزيد الأنصاري رضي الله عنه، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بدار من دور الأنصار فوجد ريح قتار فقال: «من هذا الذي ذبح» ؟ فخرج إليه رجل منا فقال: أنا يا رسول الله ذبحت قبل أن أصلي لأطعم أهلي فأمره صلى الله عليه وسلم أن يعيد، فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما عندي إلا حمل من الضأن، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذبحه ولن يجزىء عن أحد بعدك» «2» . وفي كتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي، في أوائل الفصل الخامس والعشرين، قال: حدثني بعض أخواني عن بعض أهل هذه الطائفة، قال: قدم علينا بعض الفقراء، فاشترينا من جار لنا حملا مشويا، ودعوناه في جماعة من أصحابنا، فلما مد يده ليأكل وأخذ لقمة وجعلها في فيه لفظها، ثم اعتزل وقال: كلوا أنتم فإنه قد عرض لي مانع منعني من الأكل، فقلنا له: لا نأكل ما لم تأكل معنا. فقال: أما أنا فغير آكل، ثم انصرف، فكرهنا أن نأكل دونه، فقلنا لو دعونا الشواء فسألناه عن أصل هذا الحمل فلعل له سببا مكروها، فدعوناه، وسألناه، ولم نزل به حتى أقر أنه كان ميتة، وأن نفسه شرهت إلى بيعه حرصا على ثمنه. قال: فأطعمناه الكلاب ثم لقينا الرجل فسألناه عن العارض الذي منعه عن الأكل، فقال: ما شرهت نفسي إلى الأكل منذ عشرين سنة، فلما قدمتم إلى هذا الحمل شرهت نفسي إليه شرها ما عهدته قبل ذلك، فعلمت أن في الطعام علة. فتركت أكله لأجل شره النفس. قال: فانظر كيف اتفقا في شره النفس عن قصد واحد، واختلفاه في التوفيق والخذلان، فعصم الله العالم بالورع والمحاسبة، وترك الجاهل مع شره النفس بالحرص وترك المراقبة. عجيبة: في معجم ابن قانع والطبراني في ترجمة كردم بن السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فآوانا الليل إلى راع فلما انتصف الليل، جاء الذئب فاحتمل حملا من الغنم، فوثب الراعي وقال: يا عامر الوادي أوذي جارك فنادى مناد: يا سرحان أرسله فجاء الحمل يشتد عدوا حتى دخل في الغنم. وأنزل الله تعالى على رسوله: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً «3» . وهو في الميزان في ترجمة إسحاق بن الحارث الكوفي، وهو ضعيف. وفي الشفاء، للقاضي عياض رحمه الله تعالى، يقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 إن سبب ابتلاء يعقوب بيوسف صلّى الله عليهما وسلّم أنه اجتمع يوما، هو وابنه يوسف على أكل حمل مشوي، وهما يضحكان وكان لهما جار يتيم، فشم رائحته واشتهاه وبكى وبكت جدة له عجوز لبكائه، وبينهما جدار، ولا علم عند يعقوب وابنه بذلك، فعوقب يعقوب بالبكاء أسفا على يوسف، إلى أن ابيضت عيناه من الحزن، فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر مناديا ينادي على سطحه ألا من كان مضطرا فليتغدّ عند آل يعقوب. وعوقب يوسف بالمحنة التي نصّ الله عليها انتهى. قلت: وهذا الكلام لا أعتقد له صحة وقد عجبت من القاضي عياض رحمه الله كيف ذكره في كتابه والذي يجب تنزيههما عن هذه الرذيلة وإنما ذكرته لأنبه على أنه لا يعتقد صحته، وإن كان الطبراني قد روى، في معجمه الأوسط والصغير، من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل، شيئا من ذلك، وأن يعقوب كان بعد ذلك إذا أراد الغداء أمر مناديا ينادي: ألا من أراد الغداء فليتغد مع يعقوب، وإذا كان صائما نادى مناد: ألا من كان صائما فليفطر مع يعقوب فإنما رواه الطبراني عن شيخه محمد بن أحمد الباهلي البصري. وهو ضعيف جدا. وكذا رواه البيهقي في الشعب في الباب الثاني والعشرين وذكر الواحدي في تفسير قوله تعالى: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ «1» أن ريح الصبا استأذنت ربها عزّ وجلّ أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير فأذن لها فلذلك يستروح كل محزون بريح الصبا وهي من ناحية المشرق فيرتاح إلى الأوطان والأحباب وأنشد: أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصّبا يسري إلي نسيمها «2» فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها حمنان: بفتح الحاء المهملة صغار القردان واحدته حمنانة وحمنة وهي من القراد دون الحلم. الحمولة: قال الجوهري: هي بالفتح الإبل التي تحمل وكذلك كل ما احتمل عليه الحي من حمار أو غيره سواء كانت عليه الأحمال أو لم تكن. وفعول تدخله الهاء إذا كان بمعنى مفعول بها. قال الله تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً «3» وسيأتي له ذكر في باب الفاء إن شاء الله تعالى. الحميمق: قال ابن سيده: إنه طائر يصيد القطا والجنادب ونحوهما وسمعت بعض أهل العلم يقول: إنه الباشق ويفسر به قول أبي الوليد الأزرقي في تاريخ مكة. وهو قال ابن جريج قلت لعطاء: إذا كنت محرما أفأقتل العقاب؟ قال: أقتل. قلت: والصقر والحميمق فإنهما يأخذان حمام المسلمين؟ قال: اقتل واقتل البعوض والذباب واقتل الذئب فإنه عدو ذكره في تعظيم الحرم. حميل حر: بالضم وقد يكسر طائر معروف. الحنش: بفتح الحاء المهملة والنون وبالشين المعجمة الحية. ويقال الأفعى والجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 أحناش. وقيل: الأحناش جميع دواب الأرض كالضب والقنفذ واليربوع وغيرها ثم خصت به الحية قال ذو الرمة «1» : وكم حنش ذعف اللعاب كأنه ... على الشرك العادي نصف عصام وبه سمي الرجل حنشا وقيل: الحنش حية بيضاء غليظة مثل الثعبان أو أعظم. وقيل: إنه أسود الحيات والحنش أيضا بالتحريك ما يصاد من الطير والهوام، وفي كتاب العين الحنش ما رؤوسهما رؤوس الحيات وسام أبرص ونحوها. وفي الحديث في قتل الدجال «وترتفع الشحناء والتباغض وتنزع حمة كل دابة حتى يدخل الوليد يده في فم الحنش فلا يضره» «2» . الحمة هي ما تلسع به الهوام. وفي سنن ابن ماجه وجامع الترمذي عن خزيمة بن جزء، أنه قال: يا رسول الله جئتك أسألك عن أحناش الأرض، ما تقول في الثعلب؟ قال: «ومن يأكل الثعلب؟» قلت: فما تقول في الذئب؟ قال: «أو يأكل الذئب أحد فيه خير» «3» . وذكر الترمذي الذئب والأرنب فكل هذه من أحناش الأرض. الحنظب: الذكر من الجراد. وقال الخليل: الحناظب الخنافس. الواحدة حنظب وحنظباء وقال حمزة الأصفهاني: من المركبات بين الثعلب والهرة الوحشية الحنظب. وأنشد «4» لحسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أبوك أبوك وأنت ابنه ... فبئس البني وبئس الأب وأمك سوداء نوبية ... كأن أناملها الحنظب يبيت أبوك لها سافدا ... كما سافد الهرة الثعلب قال الطمماحي يصف كلبا أسود: أعددت للذئب وليل الحارس ... مصدرا أتلع مثل الفارس يستقبل الريح بأنف خانس ... في مثل جلد الحنظباء اليابس الحوار: ولد الناقة ولا يزال حوارا حتى يفصل عن أمه، فإذا فصل عن أمه فهو فصيل وثلاثة أحورة والكثير حيران وحوران أيضا. قاله الجوهري وذكر ابن هشام وغيره في سرية عبد الله بن أنيس إلى خالد بن نبيح وكانت في المحرم في السنة الثالثة من الهجرة وكان ينزل عرنة أنه قال في ذلك: تركت ابن ثور كالحوار وحوله ... نوائح تفري كل جيب مقدد الأبيات الخمسة. وسيأتي ذكر القصة إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت. الأمثال: قال صاحب يسار الكواعب له: ما يسار كل لحم الحوار، واشرب لبن العشار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وإياك وبنات الأحرار. والقصة في ذلك مشهورة في ذلك يقول الشاعر: وإني لأخشى إن خطبت إليهم ... عليك الذي لاقى يسار الكواعب وقالوا: «أمسخ من لحم الحوار» «1» قال الشاعر: وقد علم الغثر والطارقون ... بأنك للضيف جوع وقرّ «2» مسيخ مليخ كلحم الحوار ... فلا أنت حلو ولا أنت مر المسيخ والمليخ الذي لا طعم له. وقالوا: «كسؤر العبد من لحم الحوار» «3» ويضرب للشيء الذي لا يدرك منه شيء، وأصله أن عبدا نحر حوارا وأكله، ولم يبق لمولاه منه شيئا فضرب به المثل لما يفقد البتة. الحوت: السمك والجمع أحوات وحوتة وحيتان. قال الله تعالى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ «4» الآية. وهذا يمكن أن يقع من الحيتان بإرسال من الله تعالى، كإرسال السحاب أو بوحي الهام كالوحي إلى النحل، أو بإشعار في ذلك اليوم، نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة، بأمر الساعة حسبما يقتضيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقا من قيام الساعة» «5» ويحتمل أن يكون ذلك من الحيتان شعورا بالسلامة في ذلك اليوم، على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة. قال أصحاب القصص: كان الحوت يقرب ويكثر حتى يمكن أخذه باليد، فإذا كان يوم الأحد، غاب بجملته، وقيل: يغيب أكثره ولا يبقى منه إلا القليل وستأتي القصة في ذلك في باب القاف في لفظ القرد. وروينا بالسند الصحيح عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض، لم يكن فيها غير النسر في البر، والحوت في البحر، وكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده، فلما رأى النسر آدم عليه السلام، أتى الحوت وقال: يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض من يمشي على رجليه ويبطش بيديه، فقال الحوت: لئن كنت صادقا فمالي منجى منه في البحر ومالك مخلص منه في البر. الأمثال: قال الشاعر: كالحوت لا يلهيه شيء يلهمه ... يصبح ظمآن وفي البحر فمه اللهم الابتلاع يضرب لمن عاش بخيلا شرها. روى الطبراني: في معجمه الأوسط عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «علماء هذه الأمة رجلان: رجل آتاه الله علما فبذله للناس ولم يأخذ عليه طعما، ولم يشتر به ثمنا قليلا، فلذلك يصلي عليه طير السماء، وحيتان الماء، ودواب الأرض، والكرام الكاتبون، يقدم على الله سيدا شريفا، حتى يرافق المرسلين. ورجل آتاه الله علما في الدنيا، فضن به على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 عباد الله وأخذ عليه طعما، واشترى به ثمنا قليلا، فذاك يأتي يوم القيامة ملجما بلجام من نار، وينادي مناد على رؤوس الأشهاد هذا فلان ابن فلان، آتاه الله علما في الدنيا فضن به على عباد الله، وأخذ عليه طعما واشترى به ثمنا قليلا، ثم يعذب حتى يفرغ من الحساب ويكفي الحوت شرفا أنه كان وعاء ومسكنا لنبي الله يونس عليه الصلاة والسلام، وذلك أن الله تعالى أوحى إليه إني لم أجعل لك يونس رزقا، وإنما جعلت بطنك له حرزا وسجنا، ثم استنقذه الله تعالى من بطنه، واختلف في مدة لبثه في بطن الحوت فقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام، وقال عطاء: سبعة أيام، وقال الضحاك: عشرين يوما، وقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما، وقال الشعبي التقمه ضحى ولفظه عشية. وأما قوله «1» تعالى: وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ فالمراد باليقطين هنا القرع على قول جميع المفسرين. فكل نبت يمتد وينبسط على وجه الأرض، ليس له ساق ولا يبقى على الشتاء نحو القرع والقثاء والبطيخ فهو يقطين. فائدة: سئل إمام الحرمين هل الباري تعالى في جهة؟ فقال: هو متعال عن ذلك. فقيل له: ما الدليل على ذلك؟ فقال: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى» . «2» فقيل له: ما وجه ذلك؟ فقال: لا أقول حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينه. فقام بها رجلان، فقال: إن يونس بن متى رمى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث ونادى أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «3» ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حين جلس على الرفرف الأخضر، وانتهى إلى أن سمع صريف الأقلام وناجاه ربه بما ناجاه، وأوحى إليه ما أوحى، بأقرب إلى الله تعالى من يونس بن متى في بطن الحوت في ظلمة البحر انتهى. وسيأتي في باب النون إن شاء الله تعالى جواب ابن عباس رضي الله عنهما عن رسالة ملك الروم، التي سأل فيها معاوية عن القبر الذي سار بصاحبه وروى الحاكم في المستدرك بإسناد فيه يزيد بن البلوي، عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فإذا في الوادي رجل يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، قال: فأشرفت عليه فإذا رجل طوله ثلاثمائة ذراع، فقال: من أنت؟ قلت: أنا أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وأين هو؟ قلت: هو ذا يسمع منك كلامك. قال: فأته واقرئه مني السلام، وقل له: أخوك الياس يقرئك السلام. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فجاء حتى عانقه وقعدا يتحدثان. فقال: يا رسول الله إني إنما آكل في السنة يوما واحدا، وهذا يوم فطري، فآكل أنا وأنت فنزلت عليهما مائدة من السماء عليها خبز وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني، وصليا العصر ثم ودعه ثم رأيته مر في السحاب نحو السماء. قال الحاكم صحيح الإسناد. قال شيخ الإسلام العلامة شمس الدين الذهبي رحمه الله في الميزان: أما استحيا الحاكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 من الله تعالى في تصحيح مثل هذا؟ وقال في تلخيص المستدرك، بعد قول الحاكم «هذا صحيح» قلت: بل هو موضوع قبح الله من وضعه، وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى تصحيح هذا اهـ. فائدة: قال القشيري: يقال: إن سليمان عليه الصلاة والسلام سأل ربه، سبحانه وتعالى، أن يأذن له أن يضيف يوما، جميع الحيوانات، فأذن الله تعالى له، فأذن الله تعالى له، فأخذ سليمان في جمع الطعام مدة طويلة، فأرسل الله تعالى له حوتا واحدا من البحر، فأكل كل ما جمعه سليمان، في تلك المدة الطويلة، ثم استزاده فقال سليمان: لم يبق عندي شيء، ثم قال له: وأنت تأكل كل يوم مثل هذا؟ فقال: رزقي كل يوم ثلاثة أضعاف هذا، ولكن الله لم يطعمني اليوم إلا ما أطعمتني أنت، فليتك لم تضيفني فإني بقيت اليوم جائعا حيث كنت ضيفك! انتهى. وفي هذا إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى، وعظيم سلطانه، وسعة خزائنه، إذ مثل سليمان مع سعة ملكه وقوة سلطانه الذي آتاه الله تعالى، عجز أن يشبع مخلوقا واحدا من مخلوقات الله تعالى. فسبحانه المتكفل بأرزاق خلقه. وهنا دقيقة يجب أن ينتبه لها: وهي أن الشبع والري ليس هو من فعل الطعام والماء، وإنما أجرى الله العادة بخلق الشبع عند أكل الطعام، وخلق الري عند شرب الماء، فالشبع والري خلق الله تعالى. هذا مذهب أهل الحق ولا التفات لمن قال غير ذلك. وحكمه وخواصه وتعبيره : كالسمك وسيأتي في باب السين المهملة إن شاء الله تعالى. حوت الحيض: قال ابن زهر: قال لي من رآه: إنه دابة عظيمة في البحر تمنع المراكب الكبار عن السير، فإذا أشرف أهل السفينة على العطب، رموا له بخرق الحيض فيهرب، ولا يقربهم فهي معدة معهم لذلك، وهذا الحوت اسمه الفاطوس. وسيأتي في باب الفاء إن شاء الله تعالى. قال: ومن عجيب أمر هذا الحيوان أنه لا يقرب مركبا فيه امرأة حائض. وحكمه : كعموم السمك ودم الحوت نجس كسائر الدماء، وقيل: طاهر لأنه إذا يبس ابيض بخلاف سائر الدماء، فإنها تسود. كذا نقله القرطبي عن بعض الحنفية. الخواص: قال الرازي وغيره: إذا سعط المصروع بوزن حبة من مرارته برىء من الصرع بإذن الله تعالى، وهو مجرب. وكبده إذا جففت وسحقت، وذر منها على الدم السائل قطعه أو على الجرح ألحمه وأبرأه، وإن كان عظيما. وهو أيضا مجرب ووسط لحم ظهره، إذ أخذ منه قطعة ولاكها إنسان هيجت الباه وأنعظت. تذنيب: الحيض في المنام نكاح حرام، فمن رأى أنه حائض فإنه يأتي محرما. والمرأة إذا رأت أنها حائض، اختلط عليها أمرها، فإن اغتسلت ذهب الهم عنها، وإن رأت امرأة أنها مستحاضة، وهي التي لم ينقطع الدم عنها، فإنها كثيرة الذنوب لا تثبت على توبة، لأن الإثم صار طبعا لها نسأل الله السلامة. وقيل: إن الرجل إذا رأى أنه حائض فإنه يكذب، وإن رأى امرأته حائضا نغلق عليه أمره والله تعالى أعلم. حوت موسى ويوشع عليهما الصلاة والسلام : قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة، من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه يوشع عليهما السلام، فأحيا الله نصفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 فاتخذ سبيله في البحر سربا، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع. وهي سمكة طولها أكثر من ذراع، وعرضها شبر واحد. في جانبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها، ولها عين ونصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها، وحسب إنها ميتة ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة قال ابن عطية: وأنا رأيتها كذلك قال: ومن غريب ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصص هذه الآية إن الحوت إنما حيي لأنه مسه ماء عين هنالك تدعى عين الحياة ما مست ميتا قط إلّا وحيي. وقال الكلبي توضأ يوشع بن نون من عين الحياة، فنضح على الحوت المالح وهو في المكتل من ذلك الماء فعاش الحوت، فجعل يضرب بذنبه ولا يضرب بذنبه شيئا من الماء وهو ذاهب إلا يبس. قال: ومن غريبه أيضا أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد طريقا يبسا، وإن موسى مشى عليه متبعا للحوت حتى أفضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر وفيها وجد الخضر. إشارة: كانت هذه القطرة مباركة فأحيا الله تعالى بها الميت، لأنها قطرة من وجه متوضىء وللعبادات تأثيرات، فحياة القلب من ميراث العمل. كان موسى ويوشع في تعب ومشقة فلما حيي الحوت وجدا السبيل إلى مطلبها. فكذا الجوارح والأعضاء في خوف وحيرة حتى تحيا القلوب بذكر الله تعالى، فإذا حيي القلب بالذكر أمنت الأعضاء وسكنت، واعلم أن موسى عليه السلام، جد في طلب الخضر حتى وجده. وكذلك يستحب لكل طالب فائدة دينية أو دنيوية أن يكون كرارا غير فرار. فإما الظفر والغنيمة، وإما القتل والشهادة، كما اتفق للحسين الحلاج وغيره، وقد تقدم ذكر قصته قريبا وروى أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «انجاب الماء عن مسلك الحوت فصار كوّة لم تلتئم فدخل موسى على أثر الحوت، فإذا هو بالخضر» . وقال قتادة: ما سلك الحوت طريقا إلا صار ماء جامدا طريقا يبسا. وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد لحقه الجوع فقال لفتاه، وهو يوشع: آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً «1» الآية. قال ابن عطية: وكان أبو الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى عليه السلام لمناجاة ربه تعالى أربعين يوما لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع. والإشارة في ذلك أنهما كانا متعلمين، وطالب العلم من حقه أن يحتمل كل مشقة، ولا يبالي بصيف ولا شتاء ولا جوع ولا ذل، إذ الذي يطلب لا يعرف قيمته إلا صاحبه، ومن عرف قدر ما يطلب هان عليه ما يبذل ومن طلب العظيم خاطر بالعظيم وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الصاد المهملة، في الصرد عن مقاتل طرف من ذلك مطول. وكانت حياة لحوت عند مجمع البحرين قال قتادة: مجمع البحرين هما بحر فارس وبحر الروم مما يلي الشرق وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم وقيل هما بحر بالمغرب وبحر بالزقاق. والحكمة في جمع موسى مع الخضر عليهما السلام بمجمع البحرين أنهما بحران في العلم أحدهما أعلم بالظاهر، وأعني بالظاهر علم الشرع وهو موسى والآخر أعلم بالباطن أعني بالباطن: علم الحقيقة وأسرار الملكوت وهو الخضر. فكان اجتماع البحرين بمجمع البحرين فحصلت المناسبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 إشارة: اعلم أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يجد من هو دونه وهو الخضر عليه السلام حتى تجرد عن كل ما سواه فكذلك العبد لا يجد قرب مولاه وحبه حتى يتجرد عن كل ما سواه. قال الشبلي: انفرد بالله حتى تكون مجردا عن الأغيار وتكون واحدا للواحد فردا للفرد، وقال الإمام تاج الدين عطاء الله السكندري: من تجرد في وقته لوقته فاته من وقته، ومن استقبل الوقت فاز بحظه وأنشد: لا كنت إن كنت أدري ... كيف الطريق إليكا أفنيتني عن جميعي ... فكنت سلم يديكا وقيل للجنيد: متى يكون العبد منفردا متحيزا؟ قال: إذا ألزم جوارحه الكف عن جميع المخالفات، وأفنى حركاته عن كل الإرادات، فكان شبحا بين يدي الحق لا يتميز وما أحسن قول بعضهم: وعن فنائي فني فنائي ... وفي فنائي وجدت أنتا في محو اسمي ووسم جسمي ... سألت عني فقلت أنتا أشار سري إليك حتى ... فني فنائي ودمت أنتا أنت حياتي وسر قلبي ... فحيث ما كنت كنت أنتا قال الشبلي: اضرب بالدنيا وجه عاشقيها، وبالآخرة وجه طالبيها، وسلم نفسك وقد وصلت، فإذا قلت: الله فهو الله، وإذا سكت فهو الله. وهذا هو المقام العظيم، واسم الخضر عليه السلام مضطرب فيه اضطرابا متباينا، فقيل: إنه بليا بن ملكان بن فالغ بن شالح بن ارفخشذ بن نوح عليه السلام، قاله وهب بن منبه. وقيل: إيليا بن عاميل شما لخسين بن أرما بن علقما بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام. وقيل: اسمه أرميا بن حلقيا من سبط هارون قاله الثعلبي قلت: والأصح الذي نقله أهل السير وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما قاله البغوي وغيره، إن اسمه بليا، بباء موحدة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة من تحت، وفي آخره ألفح ابن ملكان بفتح الميم، وبإسكان اللام وبالنون في آخره. وقيل: بليان، قيل: كان من بني إسرائيل، وقيل كان من أبناء الملوك وكنيته أبو العباس، قال السهيلي: كان أبوه ملكا وأمه اسمها ألها وإنها ولدته في مغارة، وأنه وجد هناك شاة ترضعه في كل يوم من غنم رجل من القرية، ولما وجده الرجل أخذه ورباه، فلما شب طلب أبوه كاتبا، وجمع أهل المعرفة والنبالة ليكتب الصحف التي أنزلت على إبراهيم وشيث، فكان فيمن أقدم عليه من الكتاب ابنه الخضر عليه السلام، وهو لا يعرفه فلما استحسن خطه ومعرفته بحث عن جلية أمره فعرف أنه ابنه فضمه لنفسه، وولاه أمر الناس. ثم إن الخضر فر من الملك لأسباب يطول ذكرها ولم يزل سائحا إلى أن وجد عين الحياة فشرب منها فهو حي إلى أن يخرج الدجال، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ويقطعه ثم يحييه الله تعالى. انتهى وسيأتي إن شاء الله تعالى عن صاحب ابتلاء الأخيار في باب السين المهملة في لفظ السعلاء أنه ابن خالة ذي القرنين. واختلف في سبب تلقيبه بالخضر فقال الأكثرون: لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من تحته خضراء، والفروة وجه الأرض. وقيل: لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، والصواب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الأول. واختلف في حياته فقال الإمام محيي الدين النووي وجمهور العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا قال: وهذا متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجواباته ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم على ذلك وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين انتهى. وقال الحسن: إنه مات وقال ابن المنادي لا يثبت حديث في بقائه. وقال الإمام أبو بكر بن العربي: مات قبل انقضاء المائة ويقرب من هذا جواب الإمام محمد بن إسماعيل البخاري: لما سئل عن الخضر والياس عليهما السلام هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون ذلك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو اليوم على ظهر الأرض واحد» . «1» والصحيح الصواب أنه حي وقال بعضهم إنه اجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعزى أهل بيته وهم مجتمعون لغسله. وقد روي ذلك من طرق صحاح. وفي التمهيد لابن عبد البر إمام أهل الحديث في وقته رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم حين غسل وكفن، سمعوا قائلا يقول: السلام عليكم أهل البيت إن في الله خلفا من كل هالك، وعوضا من كل تالف، وعزاء من كل مصيبة، فعليكم بالصبر واحتسبوا، ثم دعا لهم ولا يرون شخصه، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته رضي الله تعالى عنهم. قال السهيلي: وقد ذكر أن الخضر عليه السلام هو ارمياء ولم يصححه محمد بن جرير الطبري، وأبطله بما يطول ذكره من الحجج. وذكر أيضا أنه اليسع صاحب الياس عليهما السلام، وأعجب ما في ذلك قول من قال: إنه ابن فرعون صاحب موسى عليه السلام. ذكره النقاش. انتهى. واختلف في نبوته فقال القشيري وكثيرون: هو ولي. وقال بعضهم: هو نبي ورجحه النووي وحكى الماوردي في تفسيره ثلاثة أقوال: أحدها أنه نبي، والثاني أنه ولي، والثالث أنه من الملائكة. وهذا القول غريب باطل لما قدمناه. وقال المازري: اختلف العلماء في الخضر هل هو ولي أو نبي؟ فقال الأكثرون: هو نبي، واحتجوا بقول تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي «2» فدل على أنه نبي يوحى إليه وبأنه أعلم من موسى، ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، وأجاب الآخرون بأنه يجوز أن يكون الله تعالى قد أوحى إلى نبي الله ذلك الزمان بأن يأمر الخضر بذلك انتهى. ولم ينقل أنه كان مع موسى فكيف يتأتى هذا الجواب والخضر كان في عصر موسى؟ فإن نقل أنه كان معه نبي آخر قيل هذا الاحتمال في الجواب وإلا فلا. فإن قيل: إن يوشع بن نون كان نبيا في زمن موسى، قيل: هذه القضية كانت قبل نبوته، وأيضا فهو كان مصاحبا لموسى ومرافقه حين لقيا الخضر، وهو الذي أخبر موسى بانسياب الحوت في البحر. واختلف في كونه مرسلا فقال الثعلبي: الخضر نبي بعثه الله بعد شعيب، وهو معمر محجوب عن أبصار أكثر الناس. وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن. وقصته مع موسى في السفينة والغلام والقرية طويلة مشهورة، تركناها لطولها واشتهارها لكن قال السهيل: إن القرية برقة وقيل غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فائدة: لما حان لموسى والخضر أن يتفرقا قال له الخضر عليه السلام: لو صبرت لأتيت على ألف عجب كل عجب أعجب مما رأيت! فبكى موسى عليه السلام على فراقه ثم قال موسى للخضر عليهما السلام: أوصني يا نبي الله فقال له الخضر: يا موسى اجعل همك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تترك الخوف في أمنك، ولا تيأس من الأمن في خوفك، وتدبير الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له موسى: يا نبي الله، فقال له الخضر: يا موسى إياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير أحدا من الخطائين بخطاياهم بعد الندم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران. فقال له موسى عليه السلام: قد أبلغت في الوصية فأتم الله عليك نعمته، وعمرك في طاعته، وكلأك من عدوه. فقال الخضر عليه السلام: وأوصني أنت، فقال له موسى: إياك والغضب إلا في الله، ولا ترض عن أحد إلا في الله، ولا تحب الدنيا ولا تبغض لدنيا، فإن ذلك يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر، فقال له الخضر: لقد أبلغت في الوصية فأعانك الله على طاعته، وأراك السرور في أمرك، وحببك إلى خلقه، وأوسع عليك من فضله، فقال موسى عليه السلام: آمين. رواه السهيلي. وقال البغوي: روي أن موسى لما أراد أن يفارق الخضر عليه السلام، قال له: أوصني، قال له: يا موسى لا تطلب العلم لتحدث به، واطلبه لتعمل به. تتمة: في كتاب الهواتف، لأبي بكر بن أبي الدنيا أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، لقي الخضر عليه السلام وعلمه هذا الدعاء، وذكر فيه ثوابا عظيما ورحمة، لمن قاله في دبر كل صلاة وهو: يا من لا يشغله سمع عن سمع، ويا من لا تعطله المسائل، ويا من لا يبرمه إلحاح الملحين، أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك. وذكر في كتابه أيضا عن عمر رضي الله تعالى عنه، في هذا الدعاء بعينه، نحو ما ذكر عن علي رضي الله عنه في سماعه من الخضر عليه السلام. عجيبة: روى الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه المتفق والمفترق في ترجمة أسامة بن زيد التنوخي أنه ولي مصر للوليد بن عبد الملك بن مروان، ولأخيه سليمان، وهو الذي بنى مقياس النيل العتيق، الذي بجزيرة فسطاط مصر، ذكره ابن يونس في تاريخه. ثم روى الخطيب في ترجمة أسامة هذا أن صنما كان بالإسكندرية يقال له شراحيل، على حشفة من حشف البحر، مستقبلا بأصبع من أصابع كفه القسطنطينية لا يدري أكان مما عمله سليمان النبي عليه الصلاة والسلام أو الإسكندر، تصاد عنده الحيتان، وكانت الحيتان تدور حوله وحول الإسكندرية، وكان قدم الصنم طول قامة الرجل إذا انبطح، ومد يديه فكتب أسامة بن زيد، وهو عامل مصر للوليد بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين إن عندنا بالإسكندرية صنما يقال له شراحيل، وهو من نحاس، وقد غلت علينا الفلوس، فإن رأى أمير المؤمنين أن ننزله ونجعله فلوسا فعلنا، وإن رأى غير ذلك فليكتب إلينا بما نعتمده في أمره. فكتب إليه: لا تنزله حتى أبعث إليك أمناء يحضرونه. فبعث إليه رجالا أمناء، فأنزلوا الصنم عن الحشفة، فوجدت عيناه ياقوتتين حمراوين ليس لهما قيمة، فضربه أسامة بن زيد فلوسا فانطلقت الحيتان ولم ترجع إلى ذلك المكان أبدا بعد أن كانت لا تفارقه ليلا ولا نهارا وتصاد بالأيدي. الحوشي: النعم المتوحشة. ويقال: إن الإبل الحوشية منسوبة إلى الحوش وهي فحول جن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 تزعم العرب أنها ضربت في نعم بعضهم فنسبت إليها. الحوصل: طائر كبير له حصولة عظيمة يتخذ منها الفرو، وجمعه حواصل. قال ابن البيطار: وهذا الطائر يكون بمصر كثيرا ويعرف بالبجع، وجمل الماء والكي، بضم الكاف وسكون الياء المثناة من تحت. وهو صنفان: أبيض وأسود فالأسود منه كريه الرائحة، ولا يكاد يستعمل والأجود الأبيض وحرارته قليلة، ورطوبته كثيرة، وهو قليل البقاء، ولبسه يصلح للشباب وذوي الأمزجة الحارة ومن تغلب عليه الصفراء. انتهى والمعروف خلاف ما قال وأنه أشد حرارة من فرو الثعلب والحوصلة والحوصل من الطائر، والظليم بمنزلة المعدة للإنسان. وحكمه: الحل كما جزم به الرافعي وغيره عموما فإن قيل: لم لا أجري فيه الوجه الذي في طير الماء؟ فالجواب أن ذلك الوجه يجري في طير لا يفارق الماء، وهذا يألفه ثم يفارقه فهو كالأوز البلدي وقد رأيت منه بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم واحدا أقام بها أعواما يمشي في أزقتها لكن غالب اقتياته في البر اللحم وفي البحر السمك. الحلان: بحاء مضمومة بعدها لام ألف مشددة ثم نون هو الجدي يوجد في بطن أمه. وقال الأصمعي: الحلان والحلام بالنون وبالميم صغار الغنم. وقال ابن السكيت: الحلان الذي يصلح أن يذبح للنسك وفي الحديث أن عمر رضي الله تعالى عنه قضى في أم حبين يقتلها المحرم بحلان. وفي حديث آخر ذبح عثمان كما يذبح الحلان، أي إن دمه أطل دم الحلان. وحكمه سيأتي إن شاء الله تعالى. حيدرة: إسم من أسماء الأسد. روى البخاري ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه، قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يوم خيبر وهو أرمد، فقال: «لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله، قال: ويحب الله ورسوله» «1» فأتيت عليا وجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية. قال: فبرز مرحب وهو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلتهب قال: فبرز له علي رضي الله عنه وهو يقول «2» : أنا الذي سمّتني أمي حيدره ... كلّيث غابات كريه المنظره أكيلهم بالسيف كيل السندره وضرب مرحبا ففلق رأسه وقتله، وكان الفتح. قال السهيلي: ذكر قاسم بن ثابت في تسميته حيدرة ثلاثة أقوال: الأول أن اسمه في الكتب القديمة أسد والأسد هو حيدرة. والثاني أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 أمه فاطمة بنت أسد، حين ولدته. كان أبوه غائبا، فسمته باسم أبيها أسدا، فقدم أبوه فسماه عليا. والثالث أنه كان يلقب في صغره بحيدرة لأن الحيدرة الممتلىء لحما، العظيم البطن. وكذلك كان علي رضي الله تعالى عنه، ولذلك قال بعض اللصوص حين فر من سجنه الذي سماه نافعا وقيل يافعا بالياء: ولو اني مكثت لهم قليلا ... لجروني لحيدرة البطين وكان مرحب قد رأى في المنام كأن أسدا افترسه، فأراد علي رضي الله عنه أن يذكره أنه هو الأسد الذي يقتله، فكاشفه بذلك، فلما سمع مرحب قوله، تذكر المنام فأرعد فقتله علي رضي الله تعالى عنه، وبهذا يستدل على جواز المبارزة في الحرب بشرط أن لا يتضرر المسلمون بقتل المبارز. فإن طلبها كافر، استحب الخروج إليه. وروى أبو داود بإسناد صحيح عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه قال: لما كان يوم بدر تقدم عتبة بن ربيعة بنفسه وتبعه أخوه وابنه، فنادى من يبارز؟ فانتدب إليه شبان من الأنصار فقال: من أنتم؟ فأخبروه: فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث، فأقبل حمزة إلى عتبة بن ربيعة، وأقبلت أنا إلى أخيه شيبة، وأقبل عبيدة إلى الوليد بن عتبة فاختلف بين عتبة والوليد ضربتان، فأثخن كل منهما صاحبه، ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه، واحتملنا عبيدة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخ ساقه يسيل، فقال «1» : «أشهيد أنا يا رسول الله؟ قال: نعم» قال: وددت والله أن أبا طالب حيا ليعلم أننا أحق منه بقوله: ولا نسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل ثم أنشأ يقول: فإن تقطعوا رجلي فإني مسلم ... أرجّي بها عيشا من الله عاليا وألبسني الرحمن فضلا ومنة ... لباسا من الإسلام غطى المساويا قال الشافعي رضي الله عنه: وبارز يوم الخندق عمرو بن عبدود لأنه خرج ينادي من يبارز؟ فقام له علي رضي الله عنه، وهو مقنع بالحديد، فقال: أنا له يا نبي الله. فقال: «إنه عمرو إجلس» . فنادى عمرو ألا رجل يبارز؟ ثم جعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم يدخلها؟ أفلا يبرز إلي رجل منكم؟ فقام علي رضي الله عنه، وقال: أنا له يا رسول الله، فقال له: إنه عمرو اجلس. فنادى الثالثة وذكر شعرا فقام علي وقال: أنا له يا رسول الله. قال: إنه عمرو قال: وإن كان عمرا فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى إليه حتى أتاه، فقال له عمرو: من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: غيرك يا ابن أخي، أريد من أعمامك من هو أسن منك فإني أكره أن أهريق دمك. فقال علي رضي الله عنه: لكني والله لا أكره أن اهريق دمك! فغضب، ونزل عن فرسه وسل سيفه كأنه شعلة نار ثم أقبل نحو علي رضي الله عنه مغضبا فاستقبله علي بدرقته، فضربه عمرو في الدرقة فقدها، وأثبت فيها السيف وأصاب رأس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 علي فشجه، وضربه علي رضي الله عنه على حبل عاتقه فسقط قتيلا، وثار العجاج. وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير، فعرف صلى الله عليه وسلم أن عليا قد قتله. اهـ وجاء في بعض الروايات أن عليا رضي الله عنه لما بارز عمرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليوم برز الإيمان كله للشرك كله» وكان سيف علي رضي الله عنه يقال له ذو الفقار، لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، وكان لمنبه بن الحجاج، سلبه منه النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وأعطاه عليا رضي الله تعالى عنه وكان من حديدة وجدت عند الكعبة من دفن جرهم، أو غيرهم، وكانت صمصامة عمرو بن معد يكرب من تلك الحديدة أيضا. تتمة: ينبغي لمقدم العسكر أن يتشبه بصفات من صفات الحيوان فيكون في قوة القلب كالأسد لا يجبن ولا يفر، وفي الكبر كالنمر لا يتواضع للعدو، وفي الشجاعة كالدب يقاتل بجميع جوارحه، وفي الحملة كالخنزير لا يولي دبره إذا حمل، وفي الغارة كالذئب إذا يئس من وجه أغار من وجه، وفي حمل السلاح كالنملة تحمل أضعاف وزن بدنها، وفي الثبات كالحجر لا يزول عن مكانه، وفي الوفاء كالكلب لو دخل سيده النار يتبعه، وفي الصبر كالحمار، وفي التماس الفرصة كالديك، وفي الحراسة كالكركي وفي التعب كاليعر، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والمشقة. الحيرمة: البقرة والجمع حيرم قال ابن أحمر «1» : تبدل أدما من ظباء وحيرما كذا أنشده الجوهري. الحية: اسم يطلق على الذكر والأنثى، فإن أردت التمييز قلت: هذا حية ذكر، وهذا حية أنثى. قاله المبرد في الكامل، وإنما دخلته الهاء لأنه واحد من جنس. كبطة ودجاجة على أنه قد روي عن بعض العرب: رأيت حيا على حية أي ذكرا على أنثى، وفلان حية ذكر والنسبة إلى الحية حيوي. والحيوت: ذكر الحيات أنشد الأصمعي: ويأكل الحية والحيوتا ... ويخنق العجوز أو تموتا وذكر ابن خالويه لها مائتي اسم ونقل السهيلي عن المسعودي: إن الله تعالى لما أهبط الحية إلى الأرض، أنزلها بسجستان، فهي أكثر أرض الله حيات ولولا العربد يأكلها، ويفني كثيرا منها لخلت من أهلها لكثرة الحيات، وقال كعب الأحبار: أهبط الله تعالى الحية بأصبهان، وإبليس بجدة، وحوّاء بعرفة، وآدم بجبل سرنديب وهو بأرض الصين في بحر الهند، عال يراه البحريون من مسافة أيام، وفيه أثر قدم آدم عليه الصلاة والسلام مغموسة في الحجر. ويرى على هذا الأثر كل ليلة كهيئة البرق من غير سحاب، ولا بد له في كل يوم من مطر يغسل موضع قدم آدم عليه الصلاة والسلام. ويقال: إن الياقوت الأحمر يوجد على هذا الجبل فتحدره السيول والأمطار من ذروته إلى الحضيض. ويوجد به الماس أيضا وبه يوجد العود. كذا قاله القزويني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 قلت وهو قريب من جبل يقال له ساتيدما، بكسر المثناة من فوق بعدها مثناة من تحت، ودال مهملة وميم وألف، وهو متصل من بحر الروم إلى بحر الهند، ليس يأتي يوم من الدهر إلا ويسفك عليه دم، فسمي ساتيدما لذلك. وكان قيصر قد غزا كسرى، وأتى بلاده فاحتال له حتى انصرف عنه، فاتبعه كسرى في جنوده فأدركه بساتيدما، فانهزم أصحاب قيصر مرعوبين من غير قتال، فقتلهم كسرى قتل الكلاب ونجا قيصر ولم يدركه كذا حكاه البكري في معجمه. وذكره الجوهري نقلا عن سيبويه كذلك أنشدوا على ذلك: لما رأت ساتيدما استعبرت ... لله در اليوم من لامها «1» والحية أنواع: منها الرقشاء وهي التي فيها سود وبيض، ويقال لها الرقطاء أيضا وهي من أخبث الأفاعي قال «2» النابغة في وصف السليم: فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش، في أنيابها السّم ناقع «3» تبادرها الراقون من شر سمها ... فتطلقه يوما، ويوما تراجع «4» تسهّد من ليل التمام، سليمها ... كحلي نساء، في يديه، قعاقع «5» وقال غيره: هم أيقظوا رقط الأفاعي ونبهوا ... عقارب ليل نام عنها حواتها «6» وهم نقلوا عني الذي لم أفه به ... وما آفه الأخيار إلا رواتها وتزعم الأعراب أن الأفاعي صم، وكذلك النعام قال علي بن نصر الجهضمي: دخلت على المتوكل فإذا هو يمدح الرفق فأكثر فقلت: يا أمير المؤمنين أنشدني الأصمعي: لم أر مثل الرفق في لينه ... أخرج للعذراء من خدرها من يستعن بالرفق في أمره ... يستخرج الحية من جحرها فقال: يا غلام الدواة والقرطاس، فأتى بهما فكتبهما وأمر لي بجائزة سنية، وقال أبو بكر بن أبي دواد: كان المستعين بالله بعث إلى نصر بن علي، يشخصه للقضاء، فدعاه عبد الملك أمير البصرة وأمره بذلك فقال: ارجع فاستخير الله فرجع إلى بيته فصلى ركعتين، وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، ونام فنبهوه فإذا هو ميت. وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 ومائتين. ومن أنواعها الأزعر وهو غالب فيها ومنها ما هو أزب ذو شعر، ومنها ذوات القرون. وأرسطو ينكر ذلك قال الراجز: وذات قرنين طحون الضرس ... تنهس لو تمكنت من نهس تدير عينا كشهاب القبس ومنها الشجاع وسيأتي في باب الشين المعجمة. ومنها العربد وهي حية عظيمة، تأكل الحيات كما تقدم، ومنها الأصلة وهو عظيم جدا له وجه كوجه الإنسان، ويقال إنه يصير كذلك إذا مرت عليه ألوف من السنين. ومن خاصية هذا، أن يقتل بالنظر أيضا، ومنها الصل وتسمى المتكللة لأنها مكللة الرأس، وقيل: الصل الأول وهذه المكللة، وهي شديدة الفساد تحرق كل ما مرت عليه، ولا ينبت حول جحرها شيء من الزرع أصلا، وإذا حاذى مسكنها طائر سقط، ولا يمر حيوان بقربها إلا هلك. وتقتل بصفيرها على غلوة سهم، ومن وقع عليه بصرها ولو من بعد مات، ومن نهشته مات في الحال، وضربها فارس برمحه فمات هو وفرسه. وهي كثيرة ببلاد الترك ومنها ذو الطفيتين والأبتر. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «اقتلوهما فإنهما يلتمسان البصر ويسقطان الحبالى» . قال الزهري: ونرى ذلك من سمها. وسيأتي بيان هذا الحديث في باب الطاء إن شاء الله تعالى. ومنها الناظر متى وقع نظره على إنسان مات الإنسان من ساعته. ومنها نوع آخر إذا سمع الإنسان صوته مات. ومن أسماء الحية العيم والعين والصم والأزعر والأبتر والناشر والأين والأرقم والأصلة والجان والثعبان والشجاع والأزب والأفعى والأفعوان وهو الذكر من الأفاعي كما تقدم والأرقش والأرقط والصل وذو الطفيتين والعربد. قال ابن الأثير: ويقال للحية أبو البخترى وأبو الربيع وأبو عثمان وأبو العاصي وأبو مذعور وأبو وثاب وأبو يقظان وأم طبق وأم عافية وأم عثمان وأم الفتح وأم محبوب وبنات طبق والحية الصماء وهي الشديد الشر قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه: إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت الطّرف من غير حور «2» ألفيتني ألوي بعيد المستمر ... أحمل ما حملت من خير وشر كالحية الصّماء في أصل الشجر والصّمة الذكر من الحيات وجعه صمم، وبه سمي والد دريد بن الصمة. وزعم أهل الكلام في طبائع الحيوان، أن الحية تعيش ألف سنة، وهي في كل سنة تسلخ جلدها، وتبيض ثلاثين بيضة على عدد أضلاعها، فيجتمع عليها النمل فيفسد غالب بيضها، ولا يصلح منه إلا القليل، وإن لدغها العقرب ماتت. ومن أنواعها: الحريش وقد تقدم ذكره وشرها الأفاعي ومسكنها الرمال. وبيض الحيات مستطيل وهو كدر اللون وأخضر وأسود وأبيض وأرقط، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 بيضة نمش ولمع والسبب في اختلاف ذلك لا يعرف، وداخله شيء كالصديد، وهو في جوفها منضد طولا على خط واحد، وليس للحيات سفاد يعرف، وإنما هو التواء بعضها على بعض ولسانها مشقوق فيظن بعض الناس أن لها لسانين. وتوصف بالنهم والشره، لأنها تبتلع الفراخ من غير مضغ كما يفعل الأسد، ومن شأنها أنها إذا ابتلعت شيئا له عظم أتت شجرة أو نحوها، فتلتوي عليها التواء شديدا حتى يتكسر ذلك في جوفها. ومن عادتها أنها إذا نهشت انقلبت، فيتوهم بعض الناس أنها فعلت ذلك لتفرغ سمها، وليس كذلك. ومن شأنها أنها إذا لم تجد طعاما عاشت بالنسيم، وتقتات به الزمن الطويل، وتبلغ الجهد من الجوع فلا تأكل إلا لحم الشيء الحي وهي إذا كبرت، صغر جسمها واقتنعت بالنسيم، ولم تشته الطعام. ومن غريب أمرها، أنها لا تريد الماء ولا ترده إلا أنها لا تضبط نفسها عن الشرب، إذا شمته لما في طبعها من الشوق إليه فهي إذا وجدته شربت منه حتى تسكر. وربما كان السكر سبب هلاكها. والذكر لا يقيم بموضع واحد وإنما تقيم الأنثى على بيضها حتى تخرج فراخها، وتقوى على الكسب، ثم تخرج هي سائرة، فإن وجدت حجرا انسابت فيه، وعينها لا تدور في رأسها، بل كأنها مسمار مضروب في رأسها، وكذلك عين الجراد، وإذا قلعت عادت، وكذلك نابها إذا قلع عاد بعد ثلاثة أيام، وكذلك ذنبها إذا قطع نبت. ومن عجيب أمرها أنها تهرب من الرجل العريان وتفرح بالنار وتطلبها، وتتعجب من أمرها، وتحب اللبن حبا شديدا. وإذا ضربت بسوط مسه عرق الخيل، ماتت وتذبح فتبقى أياما لا تموت وقد تقدم أنها إذا عميت، أو خرجت من تحت الأرض، لا تبصر طلبت الرازيانج «1» الأخضر، فتحك به بصرها فتبصر، فسبحان من قدر فهدى، قدر عليها العمى وهداها إلى ما يزيله عنها، وليس شيء في الأرض مثل الحية إلا وجسم الحية أقوى منه، ولذلك إذا أدخلت صدرها في حجر أو صدع لم يستطع أقوى الناس إخراجها منه، وربما تقطعت ولا تخرج وليس لها قوائم، ولا أظفار تشبث بها وإنما قوي ظهرها، هذه القوة لكثرة أضلاعها، فإن لها ثلاثين ضلعا وإذا مشت مشت على بطنها، فتتدافع أجزاؤها وتسعى بذلك الدفع الشديد، والحيات في أصل الطبع مائية وتعيش في البحر، بعد أن كانت برية، وفي البر بعد أن كان بحرية. قال الجاحظ: الحيات ثلاثة أنواع: نوع منها لا ينفع للسعته ترياق، ولا غيره كالثعبان، والأفعى والحية الهندية، ونوع منها ينفع في لسعته الدرياق وما كان سواهما مما يقتل فإنما يقتل بواسطة الفزع، كما حكي أن شخصا نام تحت شجرة، فتدلت عليه حية فعضت رأسه، فانتبه محمر الوجه، وحك رأسه وتلفت فلم ير أحدا فلم يرتب بشيء، ووضع رأسه ونام، فلما كان بعد ذلك بمدة، قال له بعض من رآها: هل علمت مم كان انتباهك تحت الشجرة؟ قال: لا، والله ما علمت. قال: إنما كان من حية تدلت عليك فعضت رأسك فلما قمت فزعا تقلصت ففزع فزعة فاضت فيها نفسه. قال: فهم بزعمون أن الفزع هو الذي هيج السم وفتح مسام البدن، حتى مشى السم فيه انتهى. فائدة : في النصائح لابن ظفران خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، لما تحصن منه أهل الحيرة بالقصر الأبيض وغيره من حصونهم، نزل بالنجف وأرسل إليهم: إن ابعثوا إلي رجلا من عقلائكم، فأرسلوا إليه عبد المسيح بن عمرو بن قيس بن حيان بن نفيلة الغساني وكان من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 المعمرين، عمر أكثر من ثلاثمائة وخمسين سنة، فقاوله المقاولة المشهورة، وكان في يد عبد المسيح قارورة يقلبها، فقال له خالد: ما الذي في هذه القارورة؟ قال سم ساعة. قال: ما تصنع به؟ قال: إن وجدت عندك ما أحبه لقومي وأهل بلدي حمدت الله وقبلته، وإن لم أجد ذلك شربته وقتلت نفسي به. ولم أرجع إلى قومي بما يسوؤهم. فقال خالد رضي الله عنه: هاتها فناوله القارورة فأفرغها خالد في راحته وقال: بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله وبالله بسم الله رب الأرض والسماء بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم. ثم شربه، ويقال: إنه شرب عليه ماء، فضرب بذقنه على صدره، وغشيه عرق ثم سري عنه، فانصرف عبد المسيح إلى قومه، وكانوا نصارى نسطورية، إلا أنهم عرب، فقال لهم: جئتكم من عند رجل شرب سم ساعة فلم يضره فاعطوه ما سألكم، وأخرجوه من أرضكم راضيا، فهؤلاء قوم مصنوع لهم، وسيكون لهم شأن عظيم. فصالحوه على ثمانين ألف درهم فضة انتهى. وقال بعضهم: إن سم ساعة لا يكون إلا من الحية الهندية، ولا ينفع فيها درياق ولا غيره وفي الناصح أيضا: أن أمة لأبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، قالت له: من أي جنس أنت؟ قال: أنا آدمي مثلك. قالت: كيف تكون آدميا. وقد أطعمتك السم أربعين يوما فما ضرك؟ فقال لها: أما علمت أن الذاكرين الله تعالى لا يضرهم شيء وإني كنت أذكر الله باسمه الأعظم. قالت: وما هو؟ قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض وفي السماء وهو السميع العليم. ثم قال: ما الذي حملك على ذلك؟ قالت: بغضك. قال: أنت حرة لوجه الله تعالى وأنت في حل مما صنعت انتهى. عجيبة: ذكر القرطبي، في تفسير سورة غافر، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب الأحبار، أنه قال: لما خلق الله تعالى العرش، قال: لم يخلق الله تعالى خلقا أعظم مني واهتز تعاظما، فطوّقه الله تعالى بحية لها سبعون ألف جناح، في كل جناح سبعون ألف ريشة، في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان. يخرج من أفواهها كل يوم من التسبيح عدد قطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد الحصى والثرى، وعدد أيام الدنيا، وعدد الملائكة أجمعين، فالتوت الحية على العرش، فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية عليه، فتواضع عند ذلك انتهى. وروي أن الرشيد نام ليلة فسمع قائلا يقول: يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى ثقة الفتى من نفسه ... ثقة محللة العرا فاستيقظ فوجد المصابيح قد طفئت فأمر بالشموع فأوقدت، ونظر فإذا حية بقرب فراشه فقتلها. غريبة: ذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله تعالى، في الأذكياء عن بشر بن الفضل قال: خرجنا حجاجا فمررنا بماء من مياه العرب، فوصف لنا فيه ثلاث جوار أخوات بارعات في الجمال، وإنّهن يطببن ويعالجن، فأحببنا أن نراهن، فعمدنا إلى صاحب لنا، فحككنا ساقه بعود حتى أدميناه، ثم حملناه وأتينا به إليهن، فقلنا: هذا سليم فهل من راق؟ فخرجت إلينا الأخت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 الصغرى، فإذا جارية كالشمس الطالعة، فجاءت حتى وقفت عليه، ونظرته فقالت: ليس بسليم. قلنا: وكيف ذلك؟ قالت: إنه خدشه عود بالت عليه حية ذكر، والدليل على ذلك أنه إذا طلعت عليه الشمس مات قال: فلما طلعت الشمس مات. فعجبنا من ذلك وانصرفنا. وفيه أيضا في أواخره أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بحاو يطارد حية، فقالت له الحية: يا روح الله قل له لئن لم يلتفت عني لأضربنه ضربة أقطعه قطعا! فمر عيسى عليه الصلاة والسلام ثم عاد فإذا الحية في سلة الحاوي. فقال لها عيسى عليه السلام: ألست القائلة كذا وكذا؟ فكيف صرت معه؟ فقالت: يا روح الله إنه قد حلف لي والآن غدر بي، فسم غدره أضر عليه من سمّي. وفي عجائب المخلوقات للقزويني، أن الريحان الفارسي لم يكن قبل كسرى أنو شروان، وإنما وجد في زمانه وسببه أنه كان ذات يوم جالسا للمظالم، إذا أقبلت حية عظيمة تنساب تحت سريره، فهموا بقتلها فقال كسرى: كفوا عنها فإني أظنها مظلومة، فمرت تنساب فأتبعها كسرى بعض أساورته، فلم تزل سائرة، حتى استدارت على فوهة بئر، فنزلت فيها، ثم أقبلت تتطلع فنظر الرجل فإذا في قعر البئر حية مقتولة، وهي على متنها عقرب أسود، فأدلى رمحه إلى العقرب ونخسه به وأتى إلى الملك فأخبره بحال الحية، فلما كان في العام القابل أتت تلك الحية في اليوم الذي كان كسرى جالسا فيه للمظالم، وجعلت تنساب حتى وقفت بين يديه، ونفضت من فيها بزرا أسود فأمر به الملك أن يزرع فنبت منه الريحان. وكان الملك كثير الزكام وأوجاع الدماغ فاستعمل منه فنفعه جدا. فائدة أخرى: في حلية الأولياء للحافظ العلامة أبي نعيم رحمه الله تعالى، في ترجمة سفيان بن عيينة، عن يحيى بن عبد الحميد قال: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، وقد اجتمع عنده ألف إنسان أو يزيدون أو ينقصون، فالتفت في آخر مجلسه إلى رجل كان عن يمينه، وقال: قم حدث الناس بحديث الحية، فقال الرجل: اسندوني فأسندناه فشال جفونه عن عينه، ثم قال: ألا فاستمعوا وعوا حدثني أبي عن جدي أن رجلا كان يعرف بابن الحمير، وكان له ورع وكان يصوم النهار ويقوم الليل، وكان مبتلى بالقنص، فخرج يوما يتصيد، فبينما هو سائر إذ عرضت له حية، فقالت يا محمد بن حمير أجرني أجارك الله، فقال لها: ممن؟ قالت من عدو قد ظلمني. قال لها: وأين عدوك؟ قالت له: من ورائي. قال لها: من أي أمة أنت؟ قالت: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قال: ففتحت لها ردائي وقلت لها ادخلي فيه. قالت: يراني عدوي. قال: فبسطت لها طمري وقلت لها: ادخلي بين طمري وبطني. قالت: يراني عدوي. قلت لها: فما الذي أصنع بك؟ قالت: إن أردت اصطناع المعروف، فافتح لي فاك حتى أنساب فيه. قلت: أخشى أن تقتليني. فقالت: لا والله ما أقتلك، والله شاهد علي بذلك وملائكته وأنبياؤه وحملة عرشه وسكان سمواته أن لا أقلتك. قال: ففتحت لها فمي فانسابت فيه، ثم مضيت فعارضني رجل معه صمصامة فقال: يا محمد فقلت له: ما تشاء؟ قال: هل لقيت عدوي؟ قلت: ومن عدوك؟ قال: حية. قلت: اللهم لا. واستغفرت ربي مائة مرة من قولي لا، لعلمي أين هي. ثم مضيت قليلا، فإذا بها قد أخرجت رأسها من فمي وقالت: انظر هل مضى هذا العدو؟ فالتفت فلم أر أحدا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 فقلت: لم أر أحدا فإن أردت الخروج فاخرجي. فقالت: الآن يا محمد اختر لنفسك واحدة من اثنتين: إما أن افتت كبدك وإما أن أنفث في فؤادك فأدعك بلا روح! فقلت: يا سبحان الله أين العهد الذي عهدت إلي، واليمين الذي حلفت لي، ما أسرع ما نسيته وخنت؟ فقالت: يا محمد ما رأيت أحمق منك إذ نسيت العداوة التي كانت بيني وبين أبيك آدم، حيث أخرجته من الجنة، فليت شعري ما الذي حملك على اصطناع المعروف مع غير أهله؟ قال: فقلت لها: ولا بد لك من قتلي؟ قالت: لا بد من ذلك. قال: فقلت لها: أمهليني حتى أصير تحت هذا الجبل، فأمهد لنفسي موضعا. قالت: شأنك وما تريد. قال محمد: فمضيت أريد الجبل، وقد أيست من الحياة، فرفعت طرفي إلى السماء، وقلت: يا لطيف الطف بي بلطفك الخفي، يا لطيف يا قدير أسألك بالقدرة التي استويت بها على العرش، فلم يعلم العرش أين مستقرك منه، يا حليم يا عليم يا عظيم يا حي يا قيوم يا ألله ألا ما كفيتني شر هذه الحية. ثم مشيت فعارضني رجل صبيح الوجه طيب الرائحة تقي الثوب فقال لي: سلام عليك فقلت: وعليك السلام يا أخي. فقال: ما لي أراك قد تغير لونك واضطرب كونك؟ فقلت: من عدو قد ظلمني قال لي: وأين عدوك؟ قلت: في جوفي. قال: فافتح فاك، ففتحته فوضع فيه مثل ورقة زيتون خضراء، ثم قال: امضغ وابلع فمضغت وبلعت. قال محمد: فلم ألبث إلا قليلا حتى مغصني بطني ودارت الحية في بطني فرميت بها من أسفل قطعا قطعا، وذهب عني ما كنت أجده من الخوف، فتعلقت بالرجل، فقلت: يا أخي من أنت الذي منّ الله علي بك؟ فضحك ثم قال: أما تعرفني قلت: اللهم لا. قال: يا محمد بن حمير إنه لما كان بينك وبين هذه الحية ما كان، ودعوت الله بهذا الدعاء، ضجت ملائكة السموات السبع إلى الله عزّ وجلّ فقال الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي بعيني كل ما فعلت الحية بعبدي، وأمرني سبحانه وتعالى أن انطلق إلى الجنة، وخذ ورقة خضراء من شجرة طوبى والحق بها عبدي محمد بن حمير، وأنا يقال لي المعروف ومستقري في السماء الرابعة، ثم قال: يا محمد بن حمير عليك باصطناع المعروف فإنه يقي مصارع السوء، وإنه وإن ضيعه المصطنع إليه لم يضع عند الله تعالى. فائدة أخرى: روى الحاكم وصححه عن أبي اليسر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من الهدم والتردي، وأعوذ بك من الحرق والغرق، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت «1» لديغا» . قال الجاحظ: وتأويل هذا عند العلماء، أنه لا يتفق للإنسان أن يكون موته بهذا العدو إلا وهو من أعداء الله تعالى، بل من أشدهم عداوة، فكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ منه لذلك. فائدة أخرى: يقال: لسعته الحية والعقرب تلسعه لسعا فهو ملسوع. قال بعض العلماء المتقدمين: من قال في أول الليل وأول النهار: عقدت لسان الحية وزبان العقرب ويد السارق بقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، أمن من الحية والعقرب والسارق، ومن الفوائد المجربة النافعة، أن يسأل الراقي الملدوغ إلى أين انتهى الوجع في العضو؟ ثم يضع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 على أعلاه حديدة ويقرأ العزيمة ويكررها، وهو يجرد موضع الألم بالحديدة حتى ينتهي في جرد السم إلى أسفل الوجع، فإذا اجتمع في أسفله، جعل يمص ذلك الموضع حتى يذهب جميع الألم ولا اعتبار بفتور العضو بعد ذلك. وهي هذه: سلام على نوح في العالمين، وعلى محمد في المرسلين، من حاملات السم أجمعين، لا دابة بين السماء والأرض إلا وربي آخذ بناصيتها أجمعين، كذلك يجزي عباده المحسنين، إن ربي على صراط مستقيم نوح نوح نوح. قال لكم نوح: من ذكرني فلا تلدغوه إن ربي بكل شيء عليم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ورأيت بخط بعض المحققين، من العلماء، أن يوقف الملسوع أو رسوله، أو المكلوب أو شارب السم قائما ثم يخط دور قدميه، يبدأ بالخط من إبهام الرجل اليمنى حتى ترجع إليها ثم يخط بين قدميه خطا ويكون ذلك بسكين فولاذ، ثم يأخذ من تحت مشط رجله اليمنى، ومن تحت كعبه الأيسر ترابا، ويرميه في إناء نظيف، ويسكب عليه ماء، ثم يأخذ السكين ويوقفها في وسط إناء آخر، ويكون رأس السكين إلى فوق، ويسكب الماء الذي في الإناء على السكين التي في الإناء الثاني، ويرقي بهذه الرقية، ويكون فراغ الماء مع فراغ الرقية، ثم يجعل النصاب إلى فوق، ويسكب الماء كأول مرة، ثم يجعل رأسها إلى فوق أيضا، ويفعل كأول مرة. ثم يسقي الملسوع أو رسوله أو المكلوب أو شارب السم. وهي: سارا سارا في سارا عاتي نور نور نور أنا وأرميا فاه يا طورا كاطوا برملس أوزانا أو صنانيما كاما يوقا بانيا ساتيا كاطوط اصبأوتا ابريلس توتي تنا أوس. فإنه يبرأ بإذن الله تعالى كما جرب مرارا وما أحسن قول القائل: قالوا: حبيبك ملسوع فقلت لهم: ... من عقرب الصدغ أو من حية الشعر قالوا: بلى أفاعي الأرض قلت لهم: ... وكيف تسعى أفاعي الأرض للقمر ولجمال الملك بن أفلح: وقالوا يصير الشعر في الماء حية ... إذا الشمس حاذته فما خلته صدقا فلما التوى صدغاه في ماء وجهه ... وقد لسعا قلبي تيقنته حقا غريبة أخرى: ذكر المسعودي عن الزبير بن بكار أن أخوين في الجاهلية خرجا مسافرين، فنزلا في ظل شجرة بجنب صفاة، فلما دنا الرواح، خرجت لهما من تحت الصفاة حية تحمل دينارا فألقته إليهما فقالا: إن هذا لمن كنز هنا فأقاما ثلاثة أيام، وهي في كل يوم تخرج لهما دينارا فقال أحدهما للآخر: إلى متى ننتظر هذه الحية؟ ألا نقتلها ونحفر عن هذا الكنز فنأخذه؟ فنهاه أخوه وقال له: ما تدري لعلك تعطب ولا تدرك المال، فأبى عليه وأخذ فأسا ورصد الحية حين خرجت فضربها ضربة جرح رأسها ولم يقتلها، فبادرت إليه الحية فقتلته، ورجعت إلى جحرها فدفنه أخوه، وأقام حتى إذا كان الغد، خرجت الحية معصوبا رأسها وليس معها شيء فقال: يا هذه والله إني ما رضيت ما أصابك ولقد نهيت أخي عن ذلك فلم يقبل، فهل لك أن نجعل الله بيننا على أن لا تضريني ولا أضرك، وترجعين إلى ما كنت عليه أولا؟ فقالت الحية: لا. قال: ولم؟ قالت: لأني أعلم أن نفسك لا تطيب لي أبدا وأنت ترى قبر أخيك، ونفسي لا تطيب لك أبدا وأنا أذكر هذه الشجة. ثم أنشد أبيات النابغة الجعدي التي يقول فيها: وما لقيت ذات الصفا من حليفها ... وكانت تريه المال رعبا وظاهره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 غريبة أخرى: في رحلة ابن الصلاح، وتاريخ ابن النجار، في ترجمة يوسف بن علي بن محمد الزنجاني الفقيه الشافعي قال: حدثنا الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله، عن القاضي الإمام أبي الطيب أنه قال: كنا في حلقة النظر بجامع المنصور ببغداد فجاء شاب خراساني يسأل عن مسألة المصراة، ويطالب بالدليل فاحتج المستدل بحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، الثابت في الصحيحين وغيرهما، فقال الشاب، وكان حنفيا: أبو هريرة غير مقبول الحديث، قال القاضي: فما استتم كلامه حتى سقطت عليه حية عظيمة من سقف الجامع، فهرب الناس وتبعت الشاب دون غيره فقيل له: تب تب فقال: تبت فغابت الحية ولم يبق لها أثر. قال ابن الصلاح: هذا إسناد ثابت، فيه ثلاثة من صالحي أئمة المسلمين القاضي أبو الطيب الطبري، وتلميذه أبو إسحاق وتلميذه أبو القاسم الزنجاني. ويقرب من هذا ما رواه أبو اليمن الكندي، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن حمدان، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم النحوي، قال: أخبرنا الكريمي، قال: حدثنا يزيد بن قرة الدراع، يرفعه إلى عمر بن حبيب، قال: حضرت مجلس الرشيد فجرت مسألة المصراة فتنازع الخصوم فيها وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بالحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرد بعضهم الحديث، وقال: أبو هريرة متهم فيما يرويه، ونحا نحوه الرشيد ونصر قوله. فقلت: أما الحديث فصحيح وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه صحيح النقل فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس إلى منزلي فلم يستقر بي الجلوس حتى قيل: صاحب الشرطة بالباب. فدخل إلى فقال: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن. فقلت: اللهم إنك تعلم أني قد دافعت عن صاحب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه، فسلمني منه. قال فأدخلت على الرشيد فإذا هو جالس على كرسي من ذهب حاسر عن ذراعيه وبيده السيف، وبين يده النطع، فلما رآني قال: يا ابن حبيب ما تلقاني أحد بالرد ودفع قولي مثل ما تلقيتني به! فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي حاولت عليه فيه إزراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما جاء به. فقال: كيف ويحك؟ قلت: لأنه إذا كان أصحابه كذابين، فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام من الصلاة والصيام والحج والنكاح والطلاق والحدود، كلها مردودة غير مقبولة لأنهم رواتها، ولا تعرف إلا بواسطتهم، فرجع الرشيد إلى نفسه، وقال: الآن أحييتني يا ابن حبيب أحياك الله ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم. ويقرب من هذه القصة ما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف في الكلام على لفظ القرد في الرجل الذي رد على معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما وهو على المنبر. تتمة: قال طارق بن شهاب الزهري: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، قد قضى في ميراث الجد مع الإخوة في قضايا مختلفة، ثم إنه جمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأخذ كتفا ليكتب فيه، وهم يرون أنه يجعله أبا، فخرجت حية فتفرقوا، فقال: لو أراد الله تعالى أن يمضيه لأمضاه، ثم إنه أتى منزل زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه، فاستأذن عليه ورأسه في يد جارية له ترجله فنزع رأسه، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: دعها ترجلك. فقال زيد: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي جئتك؟ فقال عمر: إنما الحاجة لي إني جئتك في أمر الجد وأريد أن أجعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 أبا، فقال له زيد: لا أوافقك على أن تجعله أبا. فخرج عمر رضي الله تعالى عنه مغضبا، ثم أرسل إليه في وقت آخر، فكتب إليه زيد رضي الله تعالى عنه مذهبه فيه، في قطعة قتب وضرب له مثلا بشجرة نبتت على ساق واحد، فخرج منها غصن ثم خرج من الغصن غصن آخر، فالساق يسقي الغصن فإن قطع الغصن الأول رجع الماء إلى الغصن الثاني، وإن قطع الغصن الثاني رجع الماء إلى الغصن الأول. فلما أتى عمر رضي الله تعالى عنه كتاب زيد، خطب الناس ثم قرأ قطعة القتب عليهم، ثم قال: إن زيدا قد قال في الجد قولا وقد أمضيته. تذنيب: روى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر وغيره أن أبا خراش الهذلي الشاعر، واسمه خويلد بن مرة مات في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من نهش حية، وكان ممن يعدو على قدميه، فيسبق الخيل، وهو القائل: رقوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم وكان ممن أسلم وحسن إسلامه. وكان سبب موته أنه أتاه نفر من اليمن قدموا حجاجا فنزلوا به، وكان الماء بعيدا عنهم. فقال لهم: يا بني ما أمسى عندنا ماء، ولكن هذه برمة وقربة وشاة فردوا الماء وكلوا شاتكم ثم دعوا قربتنا وبرمتنا عند الماء حتى نأخذهما فقالوا: لا والله ما نحن بسارين ليلتنا هذه. فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء، تحت الليل، حتى استقى، ثم أقبل صادرا، فنهشته حية قبل أن يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال: اطبخوا شاتكم وكلوا، ولم يعلمهم بما أصابه، فباتوا يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبو خراش في الموت، فلم يبرحوا حتى دفنوه. فلما بلغ عمر رضي الله تعالى عنه خبره غضب غضبا شديدا وقال: لولا أن تكون سنة لأمرت أن لا يضاف يماني أبدا، ولكتبت بذلك إلى الآفاق. ثم كتب إلى عامله باليمن أن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش، فيغرمهم ديته ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة جزاء لفعلهم. غريبة أخرى: ذكر القاضي الإمام شمس الدين أحمد بن خلكان في وفيات الأعيان في ترجمة «1» عماد الدولة أبي الحسن علي بن بويه، وكان أبوه صيادا: ليست له معيشة إلا صيد السمك، وكان له ثلاثة أولاد: عماد الدولة أكبرهم، ثم ركن الدولة الحسن، ثم معز الدولة. والجميع ملكوا وكان عماد الدولة سبب سعادتهم وانتشار صيتهم فإنهم ملكوا العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أمور الرعية أحسن سياسة. قال: ومن عجيب ما اتفق لعماد الدولة، أنه لما ملك شيراز في أول ملكه، اجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال، ولم يكن عنده ما يرضيهم به، فأشرف أمره على الانحلال، فاغتم لذلك، فبينما هو مفكر وقد استلقى على ظهره في مجلس قد خلا فيه للتفكير والتدبير، إذ رأى حية خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس، ودخلت في موضع آخر منه فخاف أن تسقط عليه فدعا بالفراشين وأمرهم بإحضار سلم وأن يخرجوا الحية، فلما صعدوا وبحثوا عنها، وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين، فعرفوه بذلك فأمرهم بفتحها ففتحت، فإذا فيها صناديق فيها خمسمائة ألف دينار، فحمل ذلك بين يديه فقسمه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 رجاله، فثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانحلال والانخرام. ثم إنه جهز ثيابا وسأل عن خياط حاذق، فوصف له خياط كان لصاحب البلد قبله، فأمر بإحضاره وكان أطروشا، وكان عنده وديعة لصاحب البلد، فوقع في نفسه أنه سعى به إليه، وأنه طلب بسبب الوديعة، فلما خاطبه حلف أنه لم يكن عنده سوى أثني عشر صندوقا لا يدري ما فيها، فتعجب عماد الدولة من جوابه ووجه معه من يحمل الصناديق، فوجد فيها أموالا وثيابا تجمل كثيرة، فكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل سعادته، توفي عماد الدولة سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة ولم يعقب. الحكم: يحرم أكل الحيات لضررها. وكذا يحرم أكل الترياق المعمول من لحومها. وقال البيهقي: كره أكله ابن سيرين، قال أحمد: ولهذا كرهه الإمام الشافعي، فقال: لا يجوز أكل الترياق المعمول من لحم الحيات، إلا أن يكون بحال الضرورة، بحيث يجوز له أكل الميتة وأما السمك الذي في البحر على شكلها فحلال، كما تقدم. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الحيات أمر ندب. روى البخاري ومسلم والنسائي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بمنى، وقد أنزلت عليه والمرسلات عرفا، فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية فقال: اقتلوها فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا فقال صلى الله عليه وسلم: «وقاها الله شركم كما وقاكم شرها «1» . وعداوة الحية للإنسان معروفة قال الله تعالى: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ* «2» قال الجمهور الخطاب لآدم وحواء والحية وإبليس. وروى قتادة: رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما سالمناهن منذ عاديناهن» «3» . وقال ابن عمر رضي الله عنهما: من تركهن فليس منا. وقالت عائشة رضي الله عنها: من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وفي سنن البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحية فاسقة والعقرب فاسقة والفأرة فاسقة والغراب فاسق» «4» . وفي مسند الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من قتل حية فكأنما قتل رجلا مشركا بالله، ومن ترك حية مخافة عاقبتها فليس منا» «5» . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «إن الحيات مسخت كما مسخت القردة من بني إسرائيل» «6» . وكذا رواه الطبراني عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا رواه ابن حبان. وأما الحيات التي في البيوت، فلا تقتل حتى تنذر ثلاثة أيام، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة جناقد أسلموا فإذا رأيتم منها شيئا فآذنوه ثلاثة أيام» «7» . وحمل بعض العلماء ذلك على المدينة وحدها. والصحيح أنه عام في كل بلدة لا تقتل حتى تنذر. روى مسلم ومالك في أواخر الموطأ وغيرهما، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه قال: دخلت على أبي سعيد الخدري في بيته، فوجدته يصلي، فجلست أنتظر فراغه فسمعت حركة تحت سرير في ناحية البيت فالتفت، فإذا حية فوثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 لأقتلها فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ قلت: نعم قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند انتصاف النهار، ويرجع إلى أهله، فاستأذن يوما فقال صلى الله عليه وسلم: «خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك بني قريظة» . فأخذ الفتى سلاحه، ثم رجع إلى أهله فوجد امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به، وقد أصابته الغيرة، فقالت: أكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني منه، فدخل فإذا حية عظيمة مطوقة على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج به فركزه في الدار فاضطربت عليه، وخر الفتى ميتا. فما ندري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى؟ قال: فجئنا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه بذلك، وقلنا ادع الله أن يحييه، فقال: «استغفروا ربكم لصاحبكم» . ثم قال «1» : «إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهن شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإذا بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان» . وقد اختلف العلماء في الإنذار، هل هو ثلاثة أيام، أو ثلاث مرات. والأول هو الذي عليه الجمهور. وكيفيّته: أن يقول: أنشدكنّ بالعهد الذي أخذه عليكن نوح وسليمان عليهما الصلاة والسلام أن لا تبدوا لنا ولا تؤذونا. وفي أسد الغابة عن عبد الرحمن بن أبي يعلى أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ظهرت الحية في المسكن، فقولوا لها: إنا نسألك بعهد نوح وبعهد سليمان بن داود عليهم الصلاة والسلام لا تؤذينا فإن عادت فاقتلوها» «2» . وروى الحافظ أبو عمر بن عبد البر أن عقبة بن عامر بن عبد قيس الفهري، ولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن خالة عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، لما فتح إفريقية، وقف على موضع القيروان، وهو واد كثير الحيات، وقال: يا أهل الوادي إنا حالون، إن شاء الله تعالى، قاطنون، ثلاث مرات، قال: فما رأينا حجرا ولا شجرا إلا خرج من تحته حية حتى هبطن بطن الوادي ثم قال: انزلوا بسم الله. فعمروا القيروان. وكان عقبة مجاب الدعوة وعند الحنفية ينبغي أن لا تقتل الحية البيضاء لأنها من الجان وقال الطحاوي: لا بأس بقتل الجميع والأولى الإنذار. من الفوائد العجيبة المجربة ما أخبرني به بعض مشايخي، أنه يكتب على أربع ورقات، وتوضع كل ورقة في قرنة من قرن البيت فإن الحيات تهر بن منه ولا تدخله حية بإذن الله تعالى وهو هذا: 1 1 6 1 1 1 8 7 1 رح 5 5 7 1 1 5 1 1 وو 7 وو 1 5 ر و 1 1 م 1 1 ح 1 1 1 ح ط 5 هـ- 8 وفي الإحياء من كتاب آداب السفر يستحب لمن أراد لبس الخف، في حضر أو سفر، أن ينكس الخف، وينفض ما فيه، حذرا من حية أو عقرب أو شوكة، واستدل له بحديث أبي إمامة الباهلي رضي الله عنه الآتي في باب الغين المعجمة، في الكلام على لفظ الغراب، وفي فتاوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الإمام النووي: إذا اصطاد الحاوي حية وحبسها معه على عادتهم، فلسعته فمات هل يأثم؟ فأجاب. إن صادها ليرغب الناس، في اعتماد معرفته، وهو صادق في صنعته، ويسلم منها في ظنه، ولسعته فمات لم يأثم. وإن انفلتت وأتلفت شيئا لم يضمنه. وروى الإمام أحمد، في الزهد، أن حاويا معه حيات في خرج، نزل بقوم من أهل اليمن، فخرج بالليل بعض الحيات، فلسعت بعض أهل المنزل فقتلته. فكتب بذلك عامل اليمن إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فقال: لا شيء عليه لكن مره إذا نزل بقوم أن يخبرهم بما معه، وفي كتاب الأربعين على مذهب المحققين من الصوفية، للإمام الحافظ أبي مسعود سليمان بن إبراهيم بن محمد بن سليمان الأصبهاني، بإسناده إلى عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بعمامتي من ورائي، وقال: «يا عمران إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار فأنفق وأطعم، ولا تعسر فيعسر عليك الطلب، واعلم أن الله يحب البصير الناقد عند هجم الشبهات، والعقل الكامل عند نزول البليات، ويحب السماحة ولو على تمرات، ويحب الشجاعة ولو على قتل حية» . الأمثال: قالوا: «فلان أسمع من حية وأعدى من حية» «1» . وهو من العدو لأنها تسرع إلى جحرها إذ أراعها شيء. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة، كما تأرز الحية إلى جحرها» «2» . وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها» . أي مسجدي مكة والمدينة، ومعنى يأرز ينضم ويجتمع بضعه إلى بعض، ومعناه أن المؤمن إنما يسوقه إلى المدينة إيمانه ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون المراد بذلك: عصمة المدينة من الدجال والفتن، فيكون الإسلام فيها موقرا، ويحتمل أن يكون المراد بذلك رجوع الناس إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ظهرت ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن الدين يؤخذ من علمائها وأئمتها، وكذلك كان. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم، في لفظ المطية حديث الترمذي إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة» . وقالوا: «أبغض من ريح السذاب إلى الحيات» «3» ، وقالوا: «الحية من الحيية» . أي الأمر الكبير من الصغير، وربما قالوا: «الحيوت من الحية» وهذا كقولهم: «العصا من العصية» «4» . وقد جاء معنى المثلين في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً «5» . كذا ذكره ابن الجوزي وغيره. الخواص: قال عيسى بن علي: ناب الحية إذا قلع في حياتها وعلق على صاحب حمى الربع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 تزول عنه، وإن علق على من به وجع الأسنان نفعه وسكن وجعها. ولحمها يحفظ الحواس، ومرق لحمها يقوي البصر، ولحوم الحيات من حيث الجملة يسخن ويجفف وينقي البدن ويحلل منه أسقاما. وسلخها إذا وضع في ثياب لم تسوس، وإن أحرق وعجن بزيت طيب وحشي به الضرس المتآكل الوجع أبرأه. وإن سحق مع رأسها وجعل على داء الثعلب، أنبت الشعر. وقال يحيى بن ماسويه: يؤخذ سلخ حية مقلي وقشور أصل الكبر وزراوند طويل وبلادر، أجزاء متساوية، ويبخر به صاحب البواسير الظاهرة والباطنة المتعلقة، فإنها تسقط. وقال غيره: سلخ الحية ومقل أزرق يبخر بها البواسير الظاهرة والخفية فتبرأ. وبيض الحية يدق مع بورق وخل، ويطلى به البرص الجديد يقطعه. وسلخ الحية إذا عجن بثلاث تمرات وأطعم لمن به الثآليل ذهبت عنه، وإن أكله من ليس به ثآليل لم تخرج أبدا وقلبها يذهب حمى الربع تعليقا. فائدة: روى ابن أبي شيبة وغيره أن فريكا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئا فسأله صلى الله عليه وسلم ما أصابه؟ فقال: كنت أمرن جملا فوقفت على بيض حية، ولم أشعر فأصبت ببصري، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، فأبصر فكان يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين سنة، وإن عينيه مبيضتان. التعبير: الحية في المنام تعبر بأشياء كثيرة فهي عدو ودولة وحياة وسيل وولد وامرأة. فمن نازع حية، وهي تريد أن تنهسه فإنه ينازع عدوا له لقوله «1» تعالى: اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ* فإن رأى أنه أخذ حية ولم يخف منها، وصرفها حيث يشاء، فإنه ينال دولة ونصرة، لأن موسى عليه الصلاة والسلام، نال بها النصرة على فرعون. ومن رأى أن حية خرجت من فمه، وكان مريضا، فإنه يموت لأنها حياته وقد خرجت من فمه. ومن رأى حيات تمشي في خلاف الشجر أو الزرع، فإنها سيول لأنهم شبهوا جريان الماء بالحيات، هذا إذا كان جريها بلا نفخ ولا إحراق شيء. ومن قتل حية على فراشه ماتت امرأته. ومن رأى امرأته حاملا ووضعت حية، أتاه ولد عاق. ومن رأى حية ميتة فإنه عدو قد كفاه الله شره. ومن عضته حية فورم موضع العضة نال مالا لأن السم مال، والورم زيادة فيه. ومن أكل لحم حية مطبوخا، نال مال عدوه، ومن أكله نيأ اغتاب عدوه. ومن رأى حية نزلت من مكان فإن ذلك موت رئيس ذلك المكان. ومن رأى حية ابتلعته، فإنه ينال سلطانا ومن رأى كأنه يتخطى الحيات ولا تنهسه، فإنه يأمن أعداءه، وإن كان مسجونا خرج من سجنه. ورؤية الحيات الكثيرة في الطرق وهي تمنع الناس بنفخها ونهسها فإن ذلك ظلم من السلطان. ومن رأى كأن الحيات قد فقدن من مكان، فإن الوباء والموت يكثر في ذلك المكان لأن الحيات هي الحياة ومن رأى كأن حية تكلمه، فإنه ينال سرورا. ومن رأى كأنه ملك حية ملساء، وصرفها حيث شاء، فإنه ينال غنى وسعادة. والسود من الحيات أعداء لهم قوة، فمن ملك حية سوداء نال ملكا وولاية. والبيض أعداء ضعاف، والثعبان يدل على العداوة في الأهل والأزواج والأولاد. وربما كان جارا شريرا حسودا. والتنين يدل على سلطان جائر مهاب أو نار محرقة. والأصلة تدل على امرأة ذات نسل وأصل وعمر طويل. والشجاع يدل على امرأة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 باذلة أو ولد جسور. والأفاعي تدل على أقوام أغنياء، لكثرة سمها. والناشر يدل على الهم، أو على رجل محارب غيور. وحيات البيوت خسران. وحيات البوادي قطاع الطريق، وحيات الماء مال فمنشد وسطه بحية منها فإنه شده بهميان. وحيات البطن أعداء من الأهل والأقارب. فمن رمى حية فإنه يفارق شخصا من أقاربه خبيثا كان يواكله. والله أعلم. الحيوت: كسفّود ذكر الحيات. الحيدوان: الورشان. وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب الواو. الحيقطان: بضم القاف ذكر الدرّاجة. الحيوان: جنس الحي والحيوان: الحياة والحيوان ماء في الجنة قاله ابن سيده. والحيوان نهر في السماء الرابعة يدخله ملك كل يوم، فيغمس فيه ثم يخرج، فينتفض انتفاضة، يخرج منه سبعون ألف قطرة، يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا يؤمرون أن يطوفوا بالبيت المعمور، فيطوفون به ثم لا يعودون إليه أبدا، ثم يقفون بين السماء والأرض يسبحون الله تعالى إلى يوم القيامة. كذا رواه روح بن جناح مولى الوليد بن عبد الملك، الذي روى عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عالم واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» وحديثه «1» هذا في كتابي الترمذي وابن ماجه. وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ «2» أي ليس فيها إلا حياة دائمة مستمرة خالدة لا موت فيها، فكأنها في ذاتها حياة. والحيوان مصدر حيي، وقياسه حييان فقلبوا الياء الثانية واوا كما قالوا: حيوة في اسم رجل، وبه سمي ما فيه حياة حيوانا، وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة وهو ما في بناء فعلان من الحركات، ومعنى الاضطراب كالنزوان، وما أشبه ذلك. والحياة حركة كما أن الموت سكون، فمجيئه على ذلك مبالغة في معنى الحياة. وقال ابن عطية: الحيوان والحياة بمعنى واحد. وهو عند الخليل وسيبويه مصدر كالهيمان ونحوه. والمعنى لا موت فيها، قاله مجاهد وهو حسن. ويقال: الأصل حييان بياءين، فأبدلت إحداهما واوا لاجتماع المثلثين. وقال الجاحظ: الحيوان على أربعة أقسام شيء يمشي، وشيء يطير، وشيء يعود، وشيء ينساخ في الأرض. إلا أن كل شيء يطير يمشي، وليس كل شيء يمشي يطير. فأما النوع الذي يمشي، فهو على ثلاثة أقسام: ناس وبهائم وسباع، والطير كله سبع وبهيمة وهمج. والخشاش ما لطف جرمه وصغر جسمه، وكان عديم السلاح. والهمج ليس من الطيور، ولكنه يطير وهو فيما يطير كالحشرات فيما يمشي. والسبع من الطير ما أكل اللحم خالصا، والبهيمة ما أكل الحب خالصا والمشترك كالعصفور، فإنه ليس بذي مخلب ولا منسر، وهو يلتقط الحب، ومع ذلك يصيد النمل، ويصيد الجراد، ويأكل اللحم. ولا يزق فراخه كما يزق الحمام، فهو مشترك الطبيعة، وأشباه العصافير من المشترك كثيرة، وليس كل ما طار بجناحين من الطير. فقد يطير الجعلان والذباب والزنابير والجراد والنمل والفراش والبعوض والأرضة والنحل وغير ذلك، ولا تسمى طيورا، وكذلك الملائكة تطير ولها أجنحة، وليست من الطير، وكذلك جعفر بن أبي طالب ذو جناحين يطير بهما في الجنة، وليس من الطير انتهى. وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم» قال: «لعن الله من مثل بالحيوان» . وفي رواية «لعن الله من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا» «2» . وفي رواية «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم» «3» . قال العلماء تصبير البهائم هو أن تحبس وهي أحياء لتقتل بالرمي ونحوه، وهو معنى قوله: «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا» أي يرمى إليه كالغرض من الجلود وغيرها. وهذا النهي للتحريم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ولأنه تعذيب للحيوان وإتلاف لنفسه، وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته، إن كان مذكى، ولمنفعته إن لم يكن مذكى. تتمة: في كتاب التنوير في إسقاط التدبير، قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله الإسكندري وإنما خص الله تعالى الحيوان بالافتقار إلى التغذية، دون غيره من الموجودات، لأنه تعالى وهب للحيوان من صفاته ما لو تركه من غير فاقة لا دعى الربوبية، أو ادعى فيه ذلك فأراد الحق سبحانه، وهو الحكيم الخبير، أن يحوجه إلى مأكل ومشرب وملبس وغير ذلك، من أسباب الحاجة، ليكون تكرار أسباب الحاجة منه سببا لخمود الدعوى منه أو فيه. الحكم: يصح السلم في الحيوان، لأنه يثبت في الذمة ثمنا وصداقا، وفي إبل الدية. وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا ومنع أبو حنيفة رضي الله عنه ذلك. لأن ابن مسعود رضي الله عنه كرهه، ولأنه لا ينضبط بالصفة لنا ما روى أبو داود والحاكم على شرط مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه قال «4» : «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بعيرا ببعيرين إلى أجل» وروى البيهقي عن علي رضي الله عنه، أنه باع جملا له يدعى عصفور بعشرين بعيرا إلى أجل واشترى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما راحلة بأربعة أبعرة يوفيها صاحبها بالربذة. رواه مالك في الموطأ في البخاري بغير إسناد. الربذة بالذال المعجمة موضع على ثلاث مراحل من المدينة وأما الحديث الذي رواه الحسن عن سمرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان» «5» فرواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: إنه حسن صحيح، وسماع الحسن من سمرة صحيح. هكذا قال علي بن المديني وغيره. والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم في منع بيع الحيوان بالحيوان نسيئة وهو قول سفيان الثوري وأهل الكوفة، وبه قال أحمد. وقد رخص بعض أهل العلم من الصحابة وغيرهم، في بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وهو قول الشافعي وإسحاق وقال الخطابي: النهي في حديث سمرة محمول على ما إذا كان نسيئة من الطرفين، فيكون من باب الكالىء بالكالىء بدليل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المذكور وقال مالك: إذا اختلفت أجناس الحيوان جاز بيع بعضه ببعض نسيئة وإن تشابهت لم يجز وقال في الإحياء تكره التجارة في الحيوان لأن المشتري يكره قضاء الله فيه، وهو الموت الذي هو بصدده لا محالة. وقيل: بيع الحيوان واشتر الموتان. ويضمن سائر الحيوان إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 أتلف بالقيمة لما في الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق شركا له في عبد، فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد» . وإلا فقد عتق منه ما عتق فأوجب القيمة في العبد بالإتلاف بالعتق، ولأن إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن لاختلاف الجنس الواحد في القيمة، فكانت القيمة أقرب إلى إيفاء حقه، وتضمن أعضاء الحيوان بما نقص من قيمته. وأوجب أبو حنيفة في عين الإبل والبقر والخيل ربع القيمة وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في لفظ الفحل، أثر يشهد لذلك من حديث عروة البارقي وأوجب مالك رحمه الله في قطع ذنب حمار ذي الهيئة وذنب بغلته تمام القيمة ويأخذ المتلف العين. الخواص: الخصي من الحيوان أبرد من فحله، وإذا كان سمينا كان لذيذا مرطبا ملينا للطبيعة، بطيء الانحدار، وما كان مهزولا فبالضد إلا أنه سريع الإنحدار. أجوده حولي المعز ومنفعته سرعة الانهضام، ومضرته أنه يرخي المعدة، ودفع مضرته شرب مياه الفواكه القابضة. وهو يولد دما معتدلا يوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة من الشبان. ومن الأزمان زمان الربيع. ويجب أن يعلم أن أفضل لحوم الحيوان ما كان معتدلا في الهزال والسمن. وأجود اللحوم لحم الضأن المتناهي الشباب والبقر التي لم تبلغ سن الشباب والخصي من المعز وأجوده على الإطلاق الضأن. التعبير: من كلمه حيوان من الدواب أو الطير وفهم كلامه، فإنه كما قال. وربما دل على وقوع أمر منه يعجب الناس له، وإن لم يفهم ما قاله فليحذر على مال يذهب منه، لأن الحيوان مأكله، وقد تكون هذه الرؤيا باطلة، فلا ينبغي أن يفتش عنها، وجلود سائر الحيوان ميراث. وقيل: الجلود بيوت لمن ملكها لقوله «1» تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً وربما دلت جلود الحيوان كالسمور والسنجاب والوشق والقاقم والفنك والنمس والثعلب والأرنب والفهد للجلوس، وأشباه ذلك على النعمة الطائلة، والأموال والأرزاق، وعلو الشأن لمن لبسها في المنام أو رآها عنده، أو ملكها. وإذا رأى الأنسان كأن جلده سلخ، وكان مريضا، فإنه يموت وإلا افتقر وافتضح. وربما دلت الجلود على ما يعمل منها فجلود الإبل تدل على الطبول، وجلود الضأن على الكتابة والمعز على النطوع، وجلود البقر على الأوطئة والدلاء والسيور، وجلود الخيل والبغال والحمير على الأوعية والأسقية، وجلود الجاموس على الحصون. وأما الأصواف والأوبار والأشعار فكل ذلك دال على الفوائد والأرزاق والملابس، وأموال موروثة وغير موروثة أو مغتصبة. وأما القرون فتدل رؤيتها على الأعوام والسنين، أو السلاح أو ما يتجمل به من الأموال والأولاد والعز والجاه. وأما أنياب الفيل وعظمه، فإن ذلك دال على تركة من هلك من الملوك والزعماء. وأما أظلاف الحيوان فإنها تدل على الكد والسعي والاجتماع بين المرأة وزوجها، والوالدة وولدها. والظلف في الصورة هاء مشقوقة وأما الأخفاف فقوة سفر وربما دل الخف في استدارته على العدو أو السقم أو التمهيد للأمور والتوطئة الحسنة. وأما الأذناب فإنها دالة على ما دل الحيوان عليه، ومن يساعده في مصالحه، ويذب عنه ما يخشاه. وأما أصوات الحيوان، فنذكرها هنا مفصّلة: فأما ثغاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الشاة فلطافة من امرأة وصديق أو بر من رجل كريم. وأما ثغاء الجدي والكبش والحمل، فسرور وخصب. وأما صهيل الفرس، فهو هيبة من رجل شريف أو جندي شجاع. وأما نهيق الحمار، فسفه من رجل سفيه. وأما شحيج البغل، فصعوبة من رجل صعب المرام. وأما خوار العجل والثور والبقر فوقوع في فتنة. وأما رغاء الإبل، فسفر طويل في حج أو تجارة رابحة أو جهاد. وأما زئير الأسد، فخوف وهيبة لمن سمعه من ملك ظلوم. وأما ضغاء الهرة، فشهرة من خادم لص أو فاجر. وأما نهيز الفأرة، فضرب من رجل نقاب أو فاسق أو سرقة. وأما بغام الظبي، ففائدة من امرأة حسناء. وأما عواء الكلب، فخجل من سعى في الظلم. وأما عواء الذئب، فجور من لص غشوم. وأما صياح الثعلب، فكيد من رجل كذاب، أو امرأة كذابة. وأما وعوعة ابن آوى، فصراخ نساء أو ضجة المحبوسين اليائسين. وأما صياح الخنزير، فظفر بأعداء حمقى. وأما صوت الفهد، فتهدد من رجل مذبذب طامع ويظفر به من سمعه. وأما نقيق الضفدع، فدخول في عمل رجل عالم أو رئيس أو سلطان، وقيل: إنه كلام قبيح. وأما فحيح الحية فكلام من عدو كاتم للعداوة، ثم يظفر به من سمعه، ومن كلمته الحية بكلام لطيف فإنه عدو يخضع له ويتعجب الناس لذلك. أم حبين: بحاء مهملة مضمومة، وباء موحدة مفتوحة مخففة: دويبة مثل ابن عرس وابن آوى وسام أبرص وابن قترة، إلا أنه تعريف جنس وربما أدخل عليه الألف واللام ثم لا يكون بحذفهما منه نكرة، وإنما سميت بذلك من الحبن، تقول: فلان به حبن فهو أحبن أي مستسقي فشبهت بذلك لكبر بطنها. وهي على خلقة الحرباء غير الصدر وقيل هي أنثى الحرابي وهما أما حبين وهن أمهات حبين. وهي دابة على قدر الكف تشبه الضب غالبا، قاله أبو منصور الأزهري ما نقله من كونها أنثى الحرابي، هو الذي نقله صاحب الكفاية. فإنه قال: الحرباء ذكر أم حبين، وقال ابن السكيت: هي أعرض من العظاءة وفي رأسها عرض، وقال أبو زيد: إنها غبراء لها أربع قوائم على قدر الضفدعة التي ليس بضخمة، فإذا طردها الصيادون قالوا لها: أم حبين انشري برديك ... إن الأمير ناظر إليك وضارب بسوطه جنبيك فيطردونها حتى يدركها الإعياء، فتقف منتصبة على رجليها وتنشر جناحيها، وهما أغبران على مثل لونها، فإذا زاد في طردها نشرت أجنحة من تحت ذينك الجناحين، لم ير أحسن منهن ما بين أصفر وأحمر وأخضر وأبيض وهي طرائق بعضها فوق بعض، مثل أجنحة الفراش في الرقة، فإذا رآها الصيادون قد فعلت ذلك تركوها. وقال علي بن حمزة: الصحيح عندي إن هذه صفة أم عويف. وستأتي في باب العين المهملة إن شاء الله تعالى. وقال ابن قتيبة: أم حبين تستقبل الشمس، وتدور معها كيف دارت، وهذه صفة الحرباء. وقال في المرصع: اختلف في أم حبين، فقيل: هي ضرب من العظاء وقيل: هي أعرض منها وقيل: هي أنثى الحرابي، يتحاماها الأعراب فلا يأكلونها لنتنها. انتهى. وما ذكره ابن قتيبة من كون أم حبين ضربا من العظاء فيه نظر، فإن العظاء نوع من الوزغ، كما ذكره أهل اللغة، ويقال لها حبينة معرفة بلا ألف ولام، تقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 على الواحد والجمع وقد تجمع على أم حبينات، وأمهات حبين، وأمات حبين، ولم ترد إلا مصغرة. وفي حديث عقبة رحمه الله: «أتموا صلاتكم ولا تصلوا صلاة أم حبين» وفسروه بأنها إذا مشت تطأطىء رأسها كثيرا، وترفعه لعظم بطنها فهي تقع على رأسها وتقوم. فشبه بها صلاتهم في السجود. وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم رأى بلالا وقد خرج بطنه فقال: «أم حبين» . تشبيها له بها. وهذا من مزحه صلى الله عليه وسلم قال الجاحظ: قال أبو زيد النحوي: سمعت أعرابيا يقول لأم حبين: حبينة وحبينة اسمها. وحبين تصغير أحبن وهو الذي استلقى على ظهره ونفخ بطنه. الحكم: الحل لأنها من الطيبات ولأنها تفدى في الحرم والإحرام إذا قتلت بحلان كما تقدم. ومن قواعد الشافعي لا يفدى إلا المأكول البري. وحكى الماوردي فيها وجهين: وقال: إن الحل مقتضى قول الشافعي، ومقتضى ما قاله ابن الأثير في المرصع: إنها حرام. وفي التمهيد لابن عبد البر، عن جماعة من أهل الأخبار أن مدنيا سأل أعرابيا فقال: أتأكلون الضب؟ قال: نعم. قال: فاليربوع؟ قال: نعم. قال: فالقنفذ؟ قال: نعم. قال: فالورل؟ قال: نعم. قال: أفتأكلون أم حبين؟ قال: لا. قال: فليهنىء أم حبين العافية انتهى. والجواب أن هذا راجع لما اعتادوا أكله وترك أكله، خاصة لا أنها حرام على أنه لم يثبت ذلك. أم حسان: دويبة على قدر كف الإنسان. أم حسيس: بضم الحاء المهملة، دويبة سوداء من دواب الماء لها أرجل كثيرة. أم حفصة: الدجاجة الأهلية. أم حمارس: بفتح الحاء المهملة الغزالة قاله ابن الأثير والله الموفق للصواب. باب الخاء المعجمة الخازباز: والخزباز لغة فيه. قال الجوهري: إنه ذباب، وهما اسمان جعلا اسما واحدا وبنيا على الكسر لا يتغيران في الرفع والنصب والجر قال ابن أحمر: تفقأ فوقه القلع السواري ... وجن الخازباز به جنونا جوز فيه الجوهري أن يكون من جن الذباب إذا كثر صوته، وأن يكون من جن النبت جنونا إذا طال. واستعمله المتنبي كذلك في قوله «1» : كلما جادت الظنون بوعد ... عنك جادت يداك بالإنجاز ملك منشد القريض لديه ... يضع الثوب في يدي بزاز «2» ولنا القول وهو أدرى بفحوا ... وأهدى فيه إلى الإعجاز ومن الناس من تجوز عليه ... شعراء كأنها الخازباز «3» ويرى أنه البصير بهذا ... وهو في العمى ضائع العكاز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 وقال الأصمعي: الخازباز حكاية لصوت الذباب، فسماه به وقال ابن الأعرابي: إنه نبت. وأنشد ابن نصير تقوية لقول ابن الأعرابي: رعيتها أكرم عود عودا ... الصّل والصفصل واليعضيدا «1» والخازباز السنم النجودا ... بحيث يدعو وعامر مسعودا وعامر ومسعود راعيان. قال وهو في غير هذا داء يأخذ الإبل في حلوقها والناس قال الراجز: يا خازباز أرسل الهازما ... إني أخاف أن تكون لازما «2» وقيل وهو السنور. حكاه أبو سعيد. فإن كان ذبابا أو سنورا فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى. الأمثال: قالت العرب: «الخازباز أخصب» «3» قال الميداني: إنه ذباب يطير في الربيع يدل على خصب السنة والله أعلم. خاطف ظله: طائر من جنس العصافير. قال الكميت بن زيد: وريطة فتيان كخاطف ظله ... جعلت لهم منها خباء ممددا وقال ابن سلمة: هو طائر يقال له الرفراف، إذا رأى ظله في الماء أقبل عليه ليخطفه. وهذه صفة ملاعب ظله وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم. الخاطف: الذئب وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الذال المعجمة. الخبهقعي: بفتح الخاء والباء والعين مقصورة وتمد: ولد الكلب من الذئبة، وبه سمي أبو الخبهقعي أعرابي من بني تميم. الخثق: بفتح الخاء والثاء المثلثة قال ارسطا طاليس في النعوت: إنه طائر عظيم. يكون ببلاد الصين وبابل وأرض الترك ولم يره أحد حيا إذ لا يقدر عليه أحد في حال حياته، ومن شأنه أنه إذا شم رائحة السم خدر وعرق وذهب حسه. وقال غيزه: إن له في مشتاه ومصيفه سموما كثيرة في طريقه فإذا شم رائحة السم خدّر وسقط ميتا، فتؤخذ جثته، ويجعل منها أوان ونصب للسكاكين. فإذا شم العظم رائحة السم، رشح عرقا فيعرف به الطعام المسموم. ومخ عظام هذا الطائر سم لكل حيوان والحية تهرب من عظامه فلا تدرك. الخدارية: بضم الحاء وبالدال المهملة العقاب. سميت بذلك للونها وبعير خداري، أي شديد السواد ومنه لون خداري، وما أحسن قول الميداني في خطبة «4» كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 مجمع الأمثال: فإن أنفاس الناس لا يأتي عليها الحصر، ولا تنفد حتى ينفد العصر، وأنا أعتذر للناظر في هذا الكتاب من خلل يراه، أو لفظ لا يرضاه، فأنا كالمنكر لنفسه، المغلوب على حسه وحدسه، منذ حط البياض بعارضي رحالة، وحال الزمان على سوادهما فأحاله، وأطار من وكرها متي الخدارية، وأنحى على عود الشباب فمص ريّه، وملك يدا الضعف زمام قواي وأسلمني من كل يحطب في حبل هواي. فكأني المعني بقول الشاعر: وهت عزماتك عند المشيب ... وما كان من حقّها أن تهي وأنكرت نفسك لما كبرت ... فلا هي أنت ولا أنت هي وإن ذكرت شهوات النفوس ... فما تشتهي غير أن تشتهي الخدرنق: العنكبوت وفي دالة الإهمال والإعجام في درة الغواص. الخراطين: قيل: هي الأساريع، والصواب أنها شحمة الأرض وستأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة وقيل: إنها العلق الكبار الطوال التي تكون في المواضع الندية من الأرض وهي إذا قليت بالزيت، ثم سحقت ناعما وتحمل بها صاحب البواسير نفعته، وإذا أخذ منها شيء وجعل في زيت ودفن سبعة أيام ثم أخرج ورمي من الزيت حتى تذهب رائحته ووضع في قارورة ووضع فيها مقدار نصفها شقائق النعمان، ثم يدفن سبعة أيام ويخرج، فمن اختضب به أسود شعره ولم يشب سريعا. الخرب: بفتح الخاء المعجمة والراء المهملة وبالباء الموحدة: ذكر الحبارى، والجمع خراب وأخراب وخربان. ذكر أبو جعفر أحمد بن جعفر البلخي أن الرشيد جمع بين أبي الحسن الكسائي وأبي محمد اليزيدي ليتناظرا بين يديه فسأل اليزيدي والكسائي عن إعراب قول الشاعر: ما رأينا قط خربا ... نقرعنه البيض صقر لا يكون العير مهرا ... لا يكون المهر مهر؟ فقال الكسائي: يجب أن يكون المهر منصوبا على أنه خبر كان. ففي البيت على هذا اقواء. فقال اليزيدي: الشعر صواب لأن الكلام قد تم عند قوله لا يكون، ثم استأنف فقال: المهر مهر. ثم ضرب الأرض بقلنسوته وقال: أنا أبو محمد. فقال له يحيى بن خالد: أتكتني بحضرة أمير المؤمنين وتسفه على الشيخ؟ فقال له الرشيد: والله إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه، أحب إلي من صوابك مع قلة أدبك. فقال: يا أمير المؤمنين إن حلاوة الظفر أذهبت عني التحفظ فأمر بإخراجه. واجتمع الكسائي ومحمد بن الحسن الحنفي يوما في مجلس الرشيد فقال الكسائي: من تبحر في علم اهتدى لجميع العلوم. فقال له محمد: ما تقول فيمن سها في سجود السهو هل يسجد مرة أخرى؟ قال: لا. قال: لماذا؟ قال: لأن النحاة تقول: المصغر لا يصغر. قال: فما تقول في تعليق العتق بالملك؟ قال: لا يصح. قال: لم؟ قال: لأن السيل لا يسبق المطر. وتعلم النسائي النحو على كبر سنه وذلك أنه مشى يوما حتى أعيا فجلس، فقال: قد عييت، فقيل له: قد لحنت. قال: كيف؟ قيل: إن كنت أردت التعب فقل: أعييت، وإن كنت أردت انقطاع الحيلة، فقل: عييت! فأنف من قولهم لحنت، واشتغل بعلم النحو حتى مهر وصار إمام وقته فيه. وكان مؤدب الأمين والمأمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وكان له اليد العظمى والوجاهة التامة عند الرشيد وولديه. توفي الكسائي ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة في يوم واحد سنة تسع وثمانين ومائة ودفنا في مكان واحد. فقال الرشيد دفن ههنا العلم والأدب. الأمثال: قالوا: «ما رأينا صقرا يرصده خرب» . يضرب للشريف يقهره الوضيع. الخرشة: بالتحريك الذبابة قاله الجوهري ومنه سماك بن خرشة الإخباري، سميت أمه بإسم تلك الذبابة ومنه أبو خراشة السلمي في قول عباس بن مرداس «1» : أبا خراشة أما أنت ذا نقر ... فإن قومي لم تأكلهم الضبع «2» أي السنة المجدبة ومنه خرشة بن الحر الفزاري الكوفي. مات سنة أربع وسبعين كان يتيما في حجر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو الذي روي عنه أن رجلا شهد عند فقال له: إني لا أعرفك ولا يضرك أني لا أعرفك إلى آخر القصة ووقع في المهذب في ذلك غلظ وتصحيف. الخر شقلا: السمك البلطي. وفي الخبر: لولا الخرشقلا لوجدت أوراق الجنة في ماء النيل. الخرشنة: طائر أكبر من الحمام وسيأتي ذكره في باب الكاف إن شاء الله تعالى. الخرق: بضم الخاء وتشديد الراء المهملة وبالقاف في آخره نوع من العصافير ذكره الجاحظ. الخرنق: بكسر الخاء المعجمة ولد الأرنب وبه سمي الخرنق الشاعر الذي كان في زمن التابعين. وأرض مخرنقة أي ذات خرانق وقالوا: «ألين من خرنق «3» » . وكان للنبي صلى الله عليه وسلم درع يقال لها الخرنق للينها، ودرع أخرى يقال لها البتيراء لقصرها، وأخرى يقال لها ذات الفضول، سميت به لطولها، أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وهذه هي التي رهنها عند اليهودي، فافتكها منه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرى يقال لها ذات الوشاح وذات الحواشي، وأخرى يقال لها فضة والسغدية، بالسين المهملة والغين المعجمة. قال الحافظ الدمياطي: وكانت السغدية درع داود عليه الصلاة والسلام التي لبسها حين قتل جالوت وكانت عمله بيده. قال الكلبي وغيره في قوله تعالى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ «4» يعني صنعة الدروع وكان يصنعها ويبيعها، وكان عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده. وقيل: منطق الطير، وكلام البهائم، وقيل: هو الزبور. وقيل: الصوت الطيب والألحان، فلم يعط الله أحدا من خلقه مثل صوته. وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأ الزبور تدنو منه الوحوش، حتى يأخذ بأعناقها، وتظله الطير مصيخة له، ويركد الماء الجاري وتسكن الريح. روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: إن الله تعالى أعطاه سلسلة موصولة بالمجرّة، ورأسها عند صومعته، وقوتها قوة الحديد ولونها لون النار، وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر، مسورة بقضبان اللؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث، إلا صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث. ولا يمسها ذو عاهة إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 برأ وكان بنو إسرائيل يتحاكمون إليها بعد داود، فمن تعدى على صاحبه، أو أنكر له حقا أتى إلى السلسلة، فمن كان صادقا مد يده إلى السلسلة فنالها، ومن كان كاذبا لم ينلها، وكانت كذلك إلى إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة. فروي عن غير واحد أن ملكا من ملوك بني إسرائيل، أودع عند رجل جوهرة ثمينة ثم طلبها فأنكر الرجل، فتحاكما إلى السلسلة فعمد الرجل الذي عنده الجوهرة إلى عكازه فنقرها وضمنها الجوهرة واعتمد عليها. فلما حضر إلى السلسلة قال صاحب الجوهرة: رد علي وديعتي، فقال صاحبه: ما أعرف لك عندي من وديعة، فإن كنت صادقا فتناول السلسلة، فأتاها فتناولها بيده، فقيل للمنكر: قم أنت وتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكازتي هذه فاحفظها لي حتى أتناول السلسلة، ثم أتاها فتناولها بعد أن قال: أللهم إن كنت تعلم أن هذه الوديعة التي يدعيها علي قد وصلت إليه فقرب مني السلسلة، ثم مد يده فتناولها، فتعجب القوم وشكوا فيها فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة. قال الضحاك والكلبي: ملك داود بعد أن قتل جالوت سبعين سنة، ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود، وجمع الله لداود بين الملك والنبوة، ولم يجتمع ذلك لأحد من قبله، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط، وقبضه الله تعالى وهو ابن مائة سنة صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ الدمياطي: ودرعان أصابهما من بني قينقاع، فهذه تسع أدرع. وكان صلى الله عليه وسلم قد لبس يوم أحد فضة وذات الفضول، ويوم حنين ذات الفضول والسغدية والله أعلم. الخروف: معروف، وهو الحمل وربما سمي به المهر إذا بلغ ستة أشهر. حكاه الأصمعي. وفي الميزان للإمام الذهبي، في ترجمة عثمان بن صالح السهمي، أنه روي عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. قال: مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم نعجة فقال: «هذه التي بورك فيها وفي خروفها» . قال أبو حاتم: هذا حديث موضوع أي كذب. الأمثال : قالوا «1» : «كالخروف يتقلب على الصوف» . يضرب للرجل المكفي المؤنة. التعبير: الخروف في الرؤيا يدل على ولد ذكر طائع لوالديه، فمن وهب له خروف وله امرأة حامل أتاه ولد ذكر وجميع الصغار من الحيوان في الرؤيا هموم، لأنها تحتاج إلى كلفة في التربية هذا إذا لم ينسبوا إلى الأولاد. وقيل: الخروف دليل خير لمن أراد الموافقة في أمر يطلبه، لأن الخروف سريع الأنس إلى بني آدم، ومن ذبح خروفا لغير الأكل مات ولده، والخروف المشوي السمين مال كثير والهزيل مال قليل. ومن أكل شواء خروف فإنه يأكل من كد ولده والله أعلم. الخزز: بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي الأولى ذكر الأرانب الجمع خزان مثل صرد وصردان. الخشاش: بفتح الخاء المعجة هوام الأرض وحشراتها، وقيل: صغار الطير وحكى القاضي عياض فتح الخاء وضمها وكسرها. وحكى أبو علي الفارسي فيها الضم أيضا، وجعل الزبيدي ضمها من لحن العامة. والفتح هو المشهور وواحد الخشاش خشاشة، وقيل: الخشاش دابة تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 في جحر الأفاعي والحيات منقطة بياض وسواد. وقيل: الخشاش الثعبان العظيم وقيل: حية مثل الأرقم وقيل حية خفيفة صغيرة الرأس، وفي الحديث «1» الصحيح: «أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها فلم تطعمها شيئا ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض» . أي هوامها وحشراتها، وقال الحسن بن عبد الله بن سعد العسكري «2» في كتاب التحريف والتصحيف: الخشاش بالفتح النذل من كل شيء مثل الرخم من الطير وكل ما لا يصيد وأنشد «3» . خشاش الأرض أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزور والمعروف في البيت بغاث الطير أكثرها فراخا. روى ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان، من حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب، وخشاش الأرض وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليه الحساب والعقاب. وخلق الله الإنس ثلاثة أصناف صنف كالبهائم لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، وصنف أجسادهم أجساد بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف كالملائكة فهم في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله» . وقال وهيب ابن الورد، بلغنا أن إبليس تمثل ليحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام فقال له: أنصحك فقال له لا أريد ذلك، ولكن أخبرني عن بني آدم فقال: هم عندنا ثلاثة أصناف: صنف منهم هم أشد الأصناف عندنا نقبل على أحدهم حتى نفتنه عن دينه، ونتمكن منه فيفزع إلى الاستغفار والتوبة، فيفسد علينا كل شيء نصيبه منه، ثم نعود إليه فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا، فنحن معه في عناء، وصنف منهم في أيدينا كالكرة في أيدي صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا قد كفونا مؤنة أنفسهم، وصنف منهم مثلك هم معصومون لا نقدر منهم على شيء. الخشاف: لغة في الخفاش. الخشرم: الزنابير. قال الأصمعي لا واحد له من لفظه. الخشف: بضم الخاء وفتح الشين المعجمة الذباب الأخضر. والخشف بكسر الخاء وإسكان الشين المعجمة ولد الظبي بعد أن يكون جداية وقيل: هو خشف أوّل ما يولد والجمع خشفة. قال ابن سيده وروى جرير عن ليث قال: صحب رجل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام فقال: أكون معك يا نبي الله وأصحبك، فانطلقا حتى أتيا إلى شط نهر، فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين وبقي رغيف، فقام عيسى عليه الصلاة والسلام إلى النهر، فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: من أخذ الرغيف؟ فقال: لا أدري. قال: فانطلق ومعه صاحبه. فرأى ظبية ومعها خشفان لها، فدعا أحدهما فأتاه فذبحه وشوى من لحمه وأكل هو والرجل، ثم قال للخشف: قم بإذن الله فقام وذهب. فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟ فقال: لا أدري فسارا حتى انتهيا إلى نهر، فأخذ عيسى بيد الرجل ومشيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 على الماء، فلما جازا قال عيسى: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف؟ قال: لا أدري. فسارا حتى انتهيا إلى مفازة فجلسا، فأخذ عيسى ترابا ورملا وقال كن ذهبا بإذن الله فكان ذهبا، فقسمه عيسى ثلاثة أثلاث، ثم قال: ثلث لي وثلث لك وثلث للذي أخذ الرغيف. فقال الرجل: أنا أخذته قال عيسى: كله لك. ثم فارقه عيسى عليه السلام وذهب ومكث هو عند المال في المفازة، فانتهى إليه رجلان فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه، فقال: هو بيننا أثلاثا ثم قال: فابعثا أحدكما إلى القرية ليشتري لنا طعاما فقال الذي بعث: لأي شيء اقاسمهما المال؟ لأجعلن لهما في الطعام سما فاقتلهما ففعل. وقال صاحباه في غيبته: لأي شيء نقاسمه المال؟ إذا جاء قتلناه واقتسمنا المال نصفين. فلما جاء قاما إليه وقتلاه، ثم أكلا الطعام فماتا وبقي المال في المفازة وأولئك الثلاثة قتلى حوله فمر عيسى عليه الصلاة والسلام بهم. وهم على تلك الحالة، فقال لأصحابه: هكذا الدنيا تفعل بأهلها فاحذروها. الخضاري: طائر يسمى الأخيل قاله الجوهري. وقد تقدم في باب الهمزة. الخضرم: كعلبط ولد الضب. الخضيراء: طائر معروف عند العرب. الخطاف: بضم الخاء المعجمة جمعه خطاطيف ويسمى زوار الهند وهو من الطيور القواطع إلى الناس، تقطع البلاد البعيدة إليهم رغبة في القرب منهم ثم إنها تبني بيوتها في أبعد المواضع عن الوصول إليها، وهذا الطائر يعرف عند الناس بعصفور الجنة، لأنه زهد ما في أيديهم من الأقوات فأحبوه لأنه إنما يتقو بالذباب والبعوض. وفي الحديث الحسن، الذي رواه ابن ماجه وغيره، عن سهل بن سعد الساعدي، أنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس «1» » . فأما كون الزهد في الدنيا سببا لمحبة الله تعالى فلأنه تعالى يحب من أطاعه ويبغض من عصاه، وطاعة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا، وأما كونه سببا لمحبة الناس فلأنهم يتهافتون على محبة الدنيا، وهي جيفة منتنة وهم كلابها، فمن زاحمهم عليها أبغضوه، ومن زهد فيها أحبوه كما قال «2» الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: وما هي إلا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها وقد أحسن القائل في وصف الخطاف: كن زاهدا فيما حوته يد الورى ... تضحي إلى كل الأنام حبيبا؟ أو ما ترى الخطاف حرم زادهم ... أضحى مقيما في البيوت ربيبا سماه ربيبا لأنه يألف البيوت العامرة دون الخربة، وهو قريب من الناس ومن عجيب أمره أن عينه تقلع ثم ترجع ولا يزى واقفا على شيء يأكله أبدا ولا مجتمعا بأنثاه، والخفاش يعاديه فلذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 إذا فرخ يجعل في عشه قضبان الكرفس فلا يؤذيه إذا شم رائحته ولا يفرخ في عش عتيق حتى يطينه بطين جديد ويبني عشه بناء عجيبا. وذلك أنه يهيىء الطين مع التبن فإذا لم يجد طينا مهيئا ألقى نفسه في الماء ثم يتمرغ في التراب حتى يمتلىء جناحاه، ويصير شبيها بالطين، فإذا هيأ عشه جعله على القدر الذي يحتاج إليه هو وأفراخه ولا يلقي في عشه زبلا بل يلقيه إلى خارج، فإذا كبرت فراخه علمها ذلك. وأصحاب اليرقان يلطخون فراخ الخطاف بالزعفران فإذا رآها صفراء ظن أن اليرقان أصابها من شدة الحر فيذهب فيأتي بحجر اليرقان من أرض الهند، فيطرحه على فراخه، وهو حجر صغير فيه خطوط بين الحمرة والسواد يعرف بحجر السنونو فيأخذه المحتال فيعلقه عليه أو يحكه ويشرب من مائه يسيرا فإنه يبرأ بإذن الله تعالى. والخطاف متى سمع صوت الرعد يكاد أن يموت، وقال ارسطو في كتاب النعوت: الخطاطيف إذا عميت أكلت من شجرة يقال لها عين شمس فيرد بصرها لما في تلك الشجرة من المنفعة للعين وفي رسالة القشيري في آخر باب المحبة أن خطافا راود خطافة على قبة سليمان عليه الصلاة والسلام فامتنعت منه، فقال لها: أتمتنعين علي ولو شئت لقلبت القبة على سليمان، فسمعه سليمان فدعاه وقال له ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا نبي الله العشاق لا يؤاخذون بأقوالهم قال: صدقت. فائدة: ذكر الثعلبي وغيره في تفسير سورة النمل أن آدم عليه الصلاة والسلام، لما أخرج من الجنة اشتكى إلى الله تعالى الوحشة، فآنسه الله تعالى بالخطاف، وألزمها البيوت فهي لا تفارق بني آدم أنسالهم. قال: ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل وهي «1» لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً إلى آخر السورة، وتمد صوتها بقوله العزيز الحكيم. والخطاطيف أنواع: منها نوع يألف سواحل البحر يحفر بيته هناك، ويعشش فيه، وهو صغير الجثة دون عصفور الجنة، ولونه رمادي والناس يسمونه سنونو بضم السين المهملة ونونين. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين المهملة، ومنها نوع أخضر على ظهره بعض حمرة أصغر من الذرة يسميه أهل مصر الخضيري، لخضرته يقتات الفراش والذباب ونحو ذلك، ومنها نوع طويل الأجنحة رقيقها يألف الجبال، ويأكل النمل، وهذا النوع يقال له السمائم مفرده سمامه، ومنهم من يسمي هذا النوع السنونو الواحدة سنونوة، وهو كثير في المسجد الحرام يعشش في سقفه في باب إبراهيم وباب بني شيبة. وبعض الناس يزعم أن ذلك هو الطير الأبابيل الذي عذب الله تعالى به أصحاب الفيل. روى نعيم بن حماد عن الحسن رضي الله عنه، قال: دخلنا على ابن مسعود رضي الله عنه، وعنده غلمان كأنهم الدنانير، أو الأقمار حسنا فجعلنا نتعجب من حسنهم، فقال عبد الله كأنكم تغبطوني بهم؟! فقلنا: والله إن مثل هؤلاء يغبط بهم الرجل المسلم، فرفع رأسه إلى سقف بيت له قصير، قد عشش فيه الخطاف وباض، فقال: والذي نفسي بيده لأن أكون قد نفضت يدي من تراب قبورهم، أحب إلي من أن يخرج عش هذا الطائر فينكسر بيضه. قال ابن المبارك: إنما قال ذلك خوفا عليهم من العين. قال أبو إسحاق الصابي يصف الخطاف: وهندية الأوطان زنجية الخلق ... مسوّدة الألوان محمرة الحدق إذا صرصرت صرت بآخر صوتها ... حداد فأذرت من مدامعها العلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 كأن بها حزنا وقد لبست له ... كما صر ملوي العود بالوتر الحزق تصيف لدينا ثم تشتو بأرضها ... ففي كل عام نلتقي ثم نفترق الحكم: يحرم أكل لحم الخطاطيف لما روى أبو الحويرث عبد الرحمن بن معاوية وهو من التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل الخطاطيف وقال: «لا تقتلوا هذه العوذ إنها تعوذ بكم من غيركم» . ورواه البيهقي وقال: إنه منقطع. قال: ورواه إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبيه، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الخطاطيف عوذ البيوت» . ومن هذه الطريق رواه أبو داود في مراسيله، قال البيهقي: وهو منقطع أيضا. لكن صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه، أنه «1» قال: «لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح. ولا تقتلوا الخطاف فإنه لما خرب بيت المقدس، قال: يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم» . قال البيهقي: اسناده صحيح. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة في الحديث «2» «إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلالة والمجثمة والخطفة» . بإسكان الطاء وفيها تأويلان أحدهما أن الخطفة ما اختطفه السبع من الحيوانات فأكله حرام. قاله ابن قتيبة: الثاني إن النهي عما يختطف بسرعة ومنها سمي الخطاف لسرعة اختطافه. قاله ابن جرير الطبري ونقله عنه في الحاوي. فعلى هذا يحرم كل ما كان يتقوت بما يختطفه، ولأنه يتقوت من الخبائث قال الماوردي: كل ما كان مستخبثا كالخطاطيف والخفافيش فأكله حرام لخبث لحمه. وقال محمد بن الحسن رضي الله عنه: إنه حلال لأنه يتقوت بالحلال غالبا قال أبو عاصم العبادي: وهذا محتمل على أصلنا. وإليه مال أكثر أصحابنا. وحكاه في شرح المهذب قولا عن حكاية البندنيجي. الخواص: قال ارسطو: إن أخذت عين الخطاف وجعلت في خرقة، وشدت على سرير فمن صعد على ذلك السرير لم ينم. وإن أخذت وجففت وسحقت بدهن طيب، فأي امرأة شربت منه أحبت الساقي. وإن أخذت وسحقت بدهن زنبق ومسحت به سرة امرأة نفساء نفعتها. وقلبه إذا سحق بعد تجفيفه وشرب هيج الباه. ودمه إذا سقيت منه امرأة، وهي لا تعلم، سكن عنها شهوة الجماع. وإن ضمد به اليافوخ سكن الصداع الحادث من الأخلاط. وزبله يسحق ويطلى به على الدبيلة تبرأ. ومرارته تسود الشعر الأبيض شربا، وينبغي أن يملأ الشارب فمه حليبا لئلا تسود أسنانه. ولحمه يورث السهر لآكله وفي رأس الخطاف حصاة فيها منافع شتى، وكل خطاف يبلع تلك الحصاة فمن ظفر بها وحملها معه وقته السوء، وكانت له وسيلة إلى من يحب حتى لا يقدر على رده. قال الاسكندر: يوجد عند أول بطن من بطون الخطاطيف في أعشاشها، أول ما يبرزن ويظهرن في العش، حجران أبيضان أو أبيض وأحمر، إن وضع الأبيض على المصروع أفاق، وإن وضع على المعقود حله، والأحمر إن علق على من به عسر البول أبرأه، وربما وجد هذان الحجران مختلفي. الأحوال أحدهما طويل والآخر ململم إن جعلا في جلد عجل وعلقا على من به وسواس وتخيل أبرأه. ولا يوجدان إلا في العش الذي يكون في ناحية المشرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 دون غيره، وهو عجيب مجرب وقال ابن الدقاق: إن أخذ الطين من عشه، وأديف «1» بالماء وشرب أدر البول، مجرب نافع. التعبير: الخطاف في المنام يؤول برجل أو امرأة ومال وولد قارىء لكتاب الله تعالى، ويؤول بمال مغصوب. فمن رأى أنه أخذ خطافا اتخذ مالا حراما، وذلك لأن إسمه خطاف، وهو بمنزلة الخطف. ومن رأى أن بيته قد امتلأ خطاطيف، نال مالا حلالا لأنه نماء خطفه. وقيل: الخطاف رجل أديب أنيس ورع، فمن رأى كأنه استعاره من غيره فإنه يأنس إلى شخص، ومن أخذه فإنه يظلم امرأة. وقالت النصارى: من أكل لحم خطاف في المنام، فإنه يقع في خصومة. ومن رأى الخطاطيف تخرج من داره تفرق عنه اقرباؤه من جهة سفر، وربما دل الخطاف على الأشغال والأعمال لأنه يظهر في زمن البطالة، وصوت الخطاطيف تنبيه على عمل الخير لأنه كالتسبيح، وربما دل على امرأة صاحبة أمانة. وقال جاماسب: من صاد خطافا أدخلت اللصوص عليه والله تعالى أعلم. الخطّاف: بفتح الخاء وتشديد الطاء، سمكة ببحر سبتة لها جناحان على ظهرها أسودان، تخرج من الماء وتطير في الهواء ثم تعود إلى البحر قاله أبو حامد الأندلسي. الخفاش: بضم الخاء وتشديد الفاء واحد الخفافيش التي تطير في الليل، وهو غريب الشكل والوصف والخفش صغر العين وضيق البصر. فائدة: الأخفش صغير العين ضعيف البصر وقيل: وهو عكس الأعشى وقيل: هو من يبصر في الغيم دون الصحو. وقال الجوهري: هو نوعان والأعشى من يبصر نهارا لا ليلا والعمش ضعف الرؤية مع سيلان الدمع غالب الأوقات والعور معروف. تتمة: في كل عين نصف دية ولو عين أحول وأخفش وأعمش وأعور وأعشى وأجهر ونحوهم لأن المنفعة باقية في أعين هؤلاء ومقدار المنفعة لا ينظر إليه كما لا ينظر إلى قوة البطش والمشي وضعفهما. وكذا من بعينه بياض لا ينقص الضوء فإنه يكون كالثآليل في اليد سواء كان على بياض الحدقة أو سوادها وكذا لو كان على الناظر، إلا أنه رقيق لا يمنع الأبصار، ولا ينقص الضوء. هذا ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه، وجرى عليه الأئمة ولم يفرقوا بين حصول ذلك بأفة سماوية أو جناية، فإن نقص فبقسطه، إن أمكن ضبط ذلك النقصان بالصحيحة التي لا بياض بها، وإن لم يمكن ضبط النقص الحاصل بالجناية فالواجب فيه الحكومة وفارق الأعمش ونحوه فإن البياض نقص الضوء الخلقي وعين الأعمش لا ينقص ضوؤها عما كان في الأصل. وهذا الفرق يفهمك أن العمش لو تولد من آفة أو جناية لا يجب في العين كمال الدية فإن سلم قيد به ذلك الاطلاق السابق. فرع: ليس في عين الأعور السليمة! إلا نصف الدية عندنا. قال ابن المنذر: وروي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 عن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما أن فيها الدية، وبه قال عبد الملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث والإمام أحمد وإسحاق بن راهويه انتهى. قال البطليوسي: الخفاش له أربعة أسماء: خفاش وخشاف وخطاف ووطواط، وتسميته خفاشا يحتمل أن تكون مأخوذة من الخفش والأخفش في اللغة نوعان: ضعيف البصر خلقه، والثاني لعلة حدثت وهو الذي يبصر بالليل دون النهار وفي يوم الغيم دون يوم الصحو انتهى. وذكر الجاحظ أن إسم الخفاش يقع على سائر طير الليل، فكأنه راعي العموم، وكون الوطواط هو الخفاش هو الذي ذكره ابن قتيبة وأبو حاتم في كتاب الطير الكبير. وما ذكره البطليوسي من أن الخفاش هو الخطاف فيه نظر، والحق أنهما صنفان وهو الوطواط. وقال قوم: الخفاش الصغير والوطواط الكبير وهو لا يبصر في ضوء القمر ولا في ضوء النهار غير قوي البصر قليل شعاع العين كما قال الشاعر: مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا ويعمي أعين الخفاش ولما كان لا يبصر نهارا التمس الوقت الذي لا يكون فيه ظلمة ولا ضوء وهو قريب غروب الشمس لأنه وقت هيجان البعوض، فإن البعوض يخرج ذلك الوقت يطلب قوته، وهو دماء الحيوان، والخفاش يخرج طالبا للطعم فيقع طالب رزق على طالب رزق فسبحان الحكيم. والخفاش ليس هو من الطير في شيء فإنه ذو أذنين وأسنان وخصيتين ومنقار ويحيض ويطهر، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويبول كما تبول ذوات الأربع ويرضع ولده ولا ريش له. قال: بعض المفسرين: لما كان الخفاش هو الذي خلقه عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام بإذن الله تعالى كان مباينا لصنعة الخالق. ولهذا سائر الطيور تقهره وتبغضه فما كان منها يأكل اللحم أكله وما لا يأكل اللحم قتله، فلذلك لا يطير إلا ليلا. وقيل لم يخلق عيسى غيره لأنه أكمل الطير خلقا. وهو أبلغ في القدوة لأن له ثديا وآذانا وأسنانا ويحيض كما تحيض المرأة. قال وهب بن منبه: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل الخلق من فعل الخالق، وليعلم أن الكمال لله تعالى. وقيل: إنما طلبوا خلق الخفاش لأنه من أعجب الطير خلقية، إذ هو لحم ودم يطير بغير ريش وهو شديد الطيران سريع التقلب، يقتات البعوض والذباب، وبعض الفواكه وهو مع ذلك موصوف بطول العمر فيقال: إنه أطول عمرا من النسر ومن حمار الوحش، وتلد انثاه ما بين ثلاثة أفراخ وسبعة، وكثيرا ما يسفد وهو طائر في الهواء وليس في الحيوان ما يحمل ولده غيره والقرد والإنسان، ويحمله تحت جناحه وربما قبض عليه بفيه وذلك من حنوه وإشفاقه عليه، وربما أرضعت الأنثى ولدها وهي طائرة وفي طبعه إنه متى أصابه ورق الدلب خدر ولم يطر، ويوصف بالحمق، ومن ذلك أنه إذا قيل له: اطرق كرى، الصق بالأرض. الحكم: يحرم أكله لما رواه أبو الحويرث مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله، وقيل: إنه لما خرب بيت المقدس، قال: رب سلطني على البحر حتى أغرقهم، وسئل عنه الإمام أحمد فقال: ومن يأكله؟ قال النخعي: كل الطير حلال إلا الخفاش. قال الروياني: وقد حكينا في الحج خلاف هذا فيحتمل قولين، وعبارة الشرح والروضة يحرم الخفاش قطعا. وقد يجري فيه الخلاف مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 أنهما قد جزما في كتاب الحج بوجوب الجزاء فيه، إذا قتله المحرم، وإن الواجب فيه القيمة مع تصريحهما بأن ما لا يؤكل لا يفدى على أن الرافعي مسبوق بذلك، فأول من ذكره صاحب التقريب وأشعر كلامه بأن الشافعي رضي الله تعالى عنه ذكره. وذكر المحاملي أن اليربوع لا يحل أكله، ويجب فيه الجزاء في أصح القولين وهو غريب، ولم يزل الناس يستشكلون ما وقع في الرافعي من ذلك. وليس بمشكل فهو يتبين بمراجعة كلام الروياني فإنه قال: فرع: قال في الأم: الوطواط فوق العصفور ودون الهدهد، وفيه إن كان مأكولا قيمته. وذكر عن عطاء أنه قال: فيه ثلاثة دراهم انتهى. فاتضح إن المسألة منصوصة للشافعي رضي الله تعالى عنه، وأنه علق وجوب الجزاء على القول بحل أكله، تم تتبعت كلام عطاء المذكور فوجدت الأزهري قد نقل عنه أنه يجب فيه إذا قتله المحرم ثلثا درهم. قال أبو عبيد قال الأصمعي: الوطواط هو الخفاش. وقال أبو عبيدة: الأشبه عندي أنه الخطاف. قلت: وأيا كان فهو غير مأكول. الخواص: إذا وضع رأسه في حشو مخدة، فمن وضع رأسه عليها لم ينم، وإن طبخ رأسه في إناء نحاس أو حديد بدهن زنبق، ويغمز فيه مرارا حتى يتهرى ويصفى ذلك الدهن عنه، ويدهن به صاحب النقرس، والفالج القديم والارتعاش، والتورم في الجسد والربو، فإنه ينفعه ذلك ويبرئه وهو عجيب مجرب. وإن ذبح الخفاش في بيت وأخذ قلبه، وأحرق فيه لم يدخله حيات ولا عقارب، وإن علق قلبه وقت هيجانه على إنسان هيج الباه. وعنقه إذا علق على إنسان أمن من العقارب، ومن مسح بمرارته فرج امرأة قد عسرت ولادتها، ولدت لوقتها، ومن أخذت من النساء من شحمه لرفع الدم ارتفع عنها. وإن طبخ الخفاش ناعما حتى يتهرى، ومسح به الإحليل أمن من تقطير البول، وإن صب من مرق الخفاش وقعد فيه صاحب الفالج انحل ما به. وزبله إذا طلي به على القوابي قلعها، ومن نتف ابطه وطلاه بدمه مع لبن أجزاء متساوية لم ينبت فيه شعر وإذا طلي به عانات الصبيان قبل البلوغ منع من نبات الشعر فيها. التعبير: الخفاش في المنام رجل ناسك، وقال ارطيا ميدروس: إن رؤيته تدل على البطالة وذهاب الخوف لأنه من طيور الليل ولا يؤكل لحمه وهو دليل خير للحبلى بأنها تلد ولادة سهلة ولا تحمد رؤيته للمسافر برا وبحرا، وتدل رؤيته على خراب منزل من يدخل إليه وقيل: الخفاشة في المنام امرأة ساحرة والخفاش تدل رؤيته على رجل حيران ذي حرمان والله أعلم. الخنان: كرمان الوزغة، وفي حديث علي كرم الله وجهه أنه قضى قضاء، فاعترف «1» عليه بعض الحرورية فقال له: اسكت يا خنان ذكره الهروي وغيره. الخلنبوص: بفتح الخاء المعجمة واللام وإسكان النون وضم الباء الموحدة طائر أصغر من العصفور على لونه وشكله. الخلد: بضم الخاء ونقل في الكفاية عن الخليل بن أحمد فتح الخاء وكسرها قال الجاحظ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 هو دويبة عمياء صماء لا تعرف ما بين يديها إلا بالشم، فتخرج من جحرها، وهي تعلم أن لا سمع لها ولا بصر، فتنفخ فاها وتقف عند جحرها، فيأتي الذباب فيقع على شدقها، ويمر بين لحييها فتدخله جوفها بنفسها، فهي تتعرض لذلك في الساعات التي يكون فيها الذباب أكثر. وقال غيره: الخلد فأر أعمى لا يدرك إلا بالشم. قال ارسطو في كتاب النعوت: كل حيوان له عينان إلا الخلد، وإنما خلق كذلك لأنه ترابي جعل الله له الأرض كالماء للسمك، وغذاؤه من بطنها وليس له في ظهرها قوة ولا نشاط، ولما لم يكن له بصر، عوضه الله حدة حاسة السمع فيدرك الوطء الخفي من مسافة بعيدة، فإذا أحس بذلك جعل يحفر في الأرض، قال: والحيلة في صيده أن يجعل له في جحره قملة، فإذا أحس بها وشم رائحتها، خرج إليها ليأخذها وقيل: إن سمعه بمقدار بصر غيره. وفي طبعه الهرب من الرائحة الطيبة، ويهوى رائحة الكراث والبصل، وربما صيد بهما فإنه إذا شمهما خرج إليهما، وهو إذا جاع فتح فاه فيرسل الله تعالى له الذباب فيسقط عليه فيأكله، وذكر بعض المفسرين، أن الخلد هو الذي خرب سد مأرب، وذلك أن قوم سبأ كانت لهم جنتان، أي بستانان عن يمين من يأتيها وشماله. قال «1» الله تعالى لهم: كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ أي على ما أنعم به عليكم. وكانت بلدتهم طيبة لا يرى فيها بعوض ولا برغوث، ولا عقرب ولا حية، ولا ذباب، وكان الركب يأتون وفي ثيابهم القمل وغيره، فإذا وصلوا إلى بلادهم ماتت. وكان الإنسان يدخل البستان والمكتل على رأسه، فيخرج وقد امتلأ من أنواع الفواكه من غير أن يتناول منها شيئا بيده. فبعث الله لهم ثلاثة عشر نبيا فدعوهم إلى الله وذكروهم نعمه عليهم. وأنذروهم عقابه فأعرضوا وقالوا: ما نعرف لله علينا من نعمة وكان لهم سدّ بنته بلقيس، لما ملكتهم، وبنت دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجا على عدد أنهارهم، فكان الماء يقسم بينهم على ذلك. فلما كان من شأنها مع سليمان عليه الصلاة والسلام ما كان، مكثوا مدّة بعدها ثم طغوا وبغوا وكفروا فسلط الله عليهم جرذا أعمى، يقال له الخلد، فنقب السد من أسفله فهلكت أشجارهم وخربت أرضهم. وكانوا يزعمون في علمهم وكهانتهم أن سدهم ذلك تخربه فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة، فلما جاء الوقت الذي أراد الله تعالى، أقبلت فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرار، فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، ونقبت وحفرت، فلما جاء السيل وجد خللا، فدخل فيه حتى قلع السد، وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم بالرمل. وروي: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب غيرهما انهم قالوا: كان ذلك السد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء أوديتهم، فأمرت بواديهم فسد بالعرم، وهو بلغة حمير، فسدت بين الجبلين بالصخر والقار، وجعلت له أبوابا ثلاثة: بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة ضخمة وجعلت فيها إثني عشر مخرجا على عدد أنهارهم، يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء وإذا استغنوا عنه سدوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من الباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك والله أعلم. ونقل: الإمام أبو الفرج بن الجوزي عن الضحاك، أن الجرذ الذي خرب سد مأرب كان له مخاليب وأنياب من حديد، وأن أول من علم بذلك عمرو بن عامر الأزدي وكان سيدّهم وكان قد رأى في المنام، كأنه انبثق عليه الردم، فسال الوادي، فأصبح مكروبا فانطلق نحو الردم، فرأى الجرذ يحفر بمخاليب من حديد، ويقرض بأنياب من حديد، فانصرف إلى أهله فأخبر امرأته وأراها ذلك وأرسل بنيه فنظروا، فلما رجعوا قال: هل رأيتم ما رأيت قالوا نعم قال: فإن هذا الأمر ليس لنا إلى إذهابه من سبيل. وقد اضمحلت الحيلة فيه لأن الأمر من الله، وقد آذن الله بالهلاك ثم إنه عمد إلى هرة فأخذها، وأتى إلى الجرذ فصار الجرذ يحفر ولا يكترث بالهرة، فولت الهرة هاربة فقال عمر ولأولاده: احتالوا لأنفسكم فقالوا: يا أبت كيف نحتال؟ فقال: إني محتال لكم بحيلة قالوا: افعل فدعا أصغر بنيه وقال له: إذا جلست في المجلس، واجتمع الناس على العادة، وكان الناس يجتمعون إليه وينتهون برأيه، فإني آمرك بأمر فتغافل عنه، فإذا شتمتك فقم إلي والطمني. ثم قال لأولاده: فإذا فعل ذلك فلا تنكروا عليه، ولا يتكلم أحد منكم، فإذا رأى الجلساء فعلكم لم يجسر أحد منهم أن ينكر عليه، ولا يتكلم فأحلف أنا عند ذلك يمينا لا كفارة لها، أن لا أقيم بين أظهر قوم قام إليّ أصغر بني فلطمني فلم يغيروا. فقالوا: نفعل ذلك فلما جلس واجتمع الناس إليه أمر ابنه الصغير ببعض أمره، فلها عنه فشتمه، فقام إليه ولطم وجهه فعجب الجماعة من جراءة ابنه عليه، وظنوا أن أولاده يغيرون عليه فنكسوا رؤسهم! فلما لم يغر أحد منهم، قام الشيخ وقال: أيلطمني ولدي وأنتم سكوت! ثم حلف يمينا لا كفارة لها أن يتحول عنهم، ولا يقيم بين أظهر قوم لم يغيروا عليه، فقام القوم يعتذرون إليه وقالوا له: ما كنا نظن أن أولادك لا يغيرون، فذاك الذي منعنا. فقال: قد سبق مني ما ترون وليس إلي غير التحول من سبيل. ثم أنه عرض ضياعه للبيع، وكان الناس يتنافسون فيها، واحتمل بثقله وعياله وتحول عنهم، فلم يلبث القوم إلا يسيرا حتى أتى الجرذ على الردم، فاستأصله فبينما القوم ذات ليلة بعد ما هدأت العيون، إذا هم بالسيل فاحتمل أنعامهم وأموالهم وخرب ديارهم، فذلك قوله «1» تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وفي العرم أقوال: قيل: هو المسناة أي السد. قاله قتادة. وقيل: هو إسم الوادي، قال السهيلي. وقيل: إسم الخلد الذي خرق السد. وقيل هو السيل الذي لا يطاق. وأما مأرب فبسكون الهمزة إسم لقصر كان لهم. وقيل: هو إسم لكل ملك كان على سبأ، كما أن تبعا إسم لكل من ولي اليمن والشحر وحضر موت، قاله المسعودي. وقال السهيلي: وكان السد من بناء سبأ بن يشجب، وكان قد ساق إليه سبعين واديا ومات من قبل أن يتمه فاتمته ملوك حمير. وإسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان. قيل: إنه أول من سبي فسمي سبأ. وقيل: إنه أول من تتوج من ملوك اليمن، وقال المسعودي: بناه لقمان بن عاد وجعله فرسخا في فرسخ، وجعل له ثلاثين شعبا فأرسل الله عليه سيل العرم، وفرقوا ومزقوا حتى صاروا مثلا. فقالوا: «تفرقوا أيدي سبأ وأيادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 سبأ» . قال الشعبي: لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد، فأما غسان. فلحقوا بالشأم، والأزد إلى عمان، ومر خزاعة إلى تمامة وجذيمة إلى العراق، والأوس والخزرج إلى يثرب، وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج. روى: أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك القطيفي قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرني عن سبأ أكان رجلا أو امرأة أو أرضا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «كان رجلا من العرب، وله عشرة أولاد تيامن منهم ستة وتشاءم. أربعة، فأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير. فقال الرجل: وما أنمار؟ قال: الذين منهم خثعم وبجيلة. وأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان. ومن الفوائد المجربة: أن يكتب للخلد الذي يطلع في الدواب، ويعلق في أذن الدابة اليسرى: يا خلد سليمان بن داود ذكر عزرائيل على وسطك، وذكر جبرائيل على رأسك، وذكر اسرافيل على ظهرك، وذكر ميكائيل على بطنك لا تدب ولا تسعى ألا أيبس كما يبس لبن الدجاج وقرن الحمار بقدرة العزيز القهار. وهذا قول عزرائيل وجبرائيل واسرافيل وميكائيل، وملائكة الله المقربين، الذين لا يأكلون ولا يشربون، إلا بذكر الله هم يعيشون اصبا وتآال شداي ايبس أيها الخلد من دابة فلان ابن فلانة أو من هذه الدابة بقدرة من يرى ولا يرى. ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا فماتوا. كذلك يموت الخلد من دابة فلان ابن فلانة أو من هذه الدابة. 1 1 1 18 1 1 17 1 ل ط ط 1 7 1 1 3 5 1 3 اب ر ك امن الفوائد المجرية للخلد أيضا، أن يكتب في ورقة ويعلق في عنق الفرس المخلود: طلعوا ستة وستين ملكا إلى جبال القدس لقوا ثلاث شجرات الواحدة قطعت والثانية يبست والثالثة احترقت انقطع أيها الخلد ببركة سيهوم ديهوم دهوم بألف لا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم ج وج وج وارتفع ارتفع ارتفع اهـ اهـ اهـ ل ط اس ل ط اس ل ط اس ل ط اس ل ط اس الله الله الله الله الله الله الله الله الله الله الله حم حم حم حم حم حم حم حم حم حم حم توكلت ل اد هي ع ل اا على الله اللهم احفظ حامله ودابته بحرمة الرب العظيم والقرآن العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم انتهى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 الحكم: يحرم أكله لأنه نوع من الفأر وقال مالك: لا بأس بأكل الخلد والحيات إذا ذكى ذلك. وهذا أول مسألة في كتاب الذبائح من المدوّنة. الأمثال: قالوا: «اسمع من خلد وأفسد من خلد» . الخواص: دمه إذا اكتحل به أبرأ العين، والدم الذي في ذنبه إذا طلى به الخنازير أذهبها، وشفته العليا إذا علقت على من به حمى الربيع أذهبتها، وإن أكل لحمه قبل طلوع الشمس مشويا تعلم آكله كل شيء، ودماغه إن جعل في قارورة مع دهن ورد ودهن به الجرب، والقوابي «1» والكالف، والحزاز وكل شيء يظهر في الجسد أبرأه، قال الجاحظ: التراب الذي يخرجه الخلد من جحره يزعمون أنه يصلح لصاحب النقرس، إذا بل بالماء وطلي به ذلك المكان. وقال ارسطو: إذا غرق الخلد في ثلاثة أرطال ماء، ثم سقي منه إنسان تكلم بكل علم يسأل عنه، على سبيل الهذيان اثنين وأربعين يوما. وقال يحيى بن زكريا: إذا غرق الخلد في ثلاثة أرطال ماء، وترك فيه حتى ينتفخ ثم يصفى من ذلك الماء، ويرمى عظمه، ويطبخ في قدر نحاس ويلقى عليه أربعة دراهم لبان ذكر، ومثله أفيون، ومثله كبريت، ومثله نشادر، بعد أن تدق هذه الحوائج مع أربعة أرطال عسل ويطبخ حتى يصير مثل الطلاء، ويجعل في اناء زجاج ثم يلعق على الريق، والشمس في الحمل إلى أن تدخل الأسد، ولا يأكل مستعمله شيئا فيه زهومة، ويكون طاهرا صائما، فمن فعل ذلك علمه الله تعالى كل شيء بقدرته. التعبير: الخلد تدل رؤيته على العمى والنية والتبدد والحيرة والاختفاء وضيق الملك. وربما دلت رؤيته على حدة السمع لمن يشكو ضررا من سمعه. إن رؤي مع ميت فهو في النار لقوله «2» عز وجل: وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وربما كان في الجنة وسكن جنة الخلد والله تعالى أعلم. الخلفة: الناقة الحامل وجمعها خلفات. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان قلنا نعم قال فثلاث آيات يقرؤهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان «3» » . وروي أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن، ولا أحد قد بنى بنيانا ولم يرفع سقفها، ولا أحد قد اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها. قال: فغزا فدنا من القرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، واللهم احبسها علي فحبست عليه حتى فتح الله عليه» . الحديث «4» . وهذا النبي هو يوشع بن نون عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 فائدة: حبست الشمس مرتين لنبينا صلى الله عليه وسلم: إحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فردها الله تعالى عليه. كما رواه الطحاوي وغيره. والثانية صبيحة الإسراء حين انتظر العير التي أخبر بوصولها مع شروق الشمس وفي أواخر المستدرك من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أخذ سبع خلفات بشحومهن، فألقين في شفير جهنم ما انتهين إلى قعرها سبعين عاما» . قال شيخ الإسلام الإمام الذهبي: إسناده صالح. والحكمة في التمثيل بالسبع إن ذلك عدد أبواب جهنم. وروى الشافعي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «الا إن في قتيل الخطأ وقتيل السوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها» . وإسناده ضعيف ومنقطع. وقال أبو حاتم: رواية ارساله أشبه. قال شيخ الإسلام النووي في تهذيبه: وهذا مما يستشكل لأن الخلفة هي التي في بطنها ولدها فإن قيل: فما الحكمة في قوله صلى الله عليه وسلم: «في بطونها أولادها» ؟ فجوابه من أربعة أوجه: أحدها أنه توكيد وإيضاح، والثاني أنه تفسير لها لا قيد، والثالث أنه نفي لوهم من يتوهم أن يكفي في الخلفة أن تكون حملت في وقت ما ولا يشترط حملها حالة دفعها في الدية، والرابع أنه إيضاح لحكمها وأنه يشترط في نفس الأمر أن تكون حاملا ولا يكفي قول أهل الخبرة أنها خلفة إذا تبين إنه لم يكن في بطنها ولد. وذكر الرافعي أنه قيل: إن الخلفة تطلق أيضا على التي ولدت وولدها يتبعها. فائدة أخرى: الخطأ المحض هو أن لا يقصد ضربه، بل قصد شيئا آخر فأصابه فمات منه، فلا قصاص عليه، بل تجب دية مخففة على عاقلته، مؤجلة إلى ثلاث سنين. وتجب الكفارة في ماله في الأنواع كلها. وشبه العمد أن يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالبا بأن ضربه بعصا خفيفة أو حجر صغير ضربة أو ضربتين فمات، فلا قصاص فيه، بل تجب دية مغلظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين. والعمد المحض هو أن يقصد قتل إنسان، بما يقصد به القتل غالبا، كالسيف والسكين، وما أشبه ذلك ففيه القصاص عند وجود التكافؤ، أو دية مغلظة في مال القاتل حالة. وعند أبي حنيفة، قتل العمد لا يوجب الكفارة لأنه كبيرة كسائر الكبائر ودية الحر المسلم مائة من الإبل، فإذا كانت الدية في العمد المحض، أو شبه العمد، فهي مغلظة بالسن، فيجب ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. وهو قول عمرو بن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهما. وبه قال عطاء وإليه ذهب الشافعي للحديث المتقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما. وذهب قوم إلى أن الدية المغلظة أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. وهو قول الزهري وربيعة، وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة. وأما دية الخطأ فمخففة وهي أخماس بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها فذهب مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما إلى أنها عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. وبه قال عمر بن عبد العزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وسليمان بن يسار وربيعة. وجعل أبو حنيفة وأحمد عوض بني اللبون بني المخاض. ويروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. والدية في الخطأ وشبه العمد على العاقلة كما تقدم، وهو عصبات القاتل من الذكور، ولا يجب على الجاني منها شيء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبها على العاقلة. فإن عدمت الإبل فتجب قيمتها من الدراهم والدنانير في قول. وفي قول يجب بدل مقدر منها وهو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم. لما روي أن عمر رضي الله تعالى عنه فرض الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وبه قال مالك وعروة بن الزبير والحسن البصري. وقال أبو حنيفة: إنها مائة من الإبل أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم. وبه قال سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه. فرع: ودية المرأة نصف دية الرجل. ودية أهل الذمة والعهد ثلث دية المسلم إن كان كتابيا، وإن كان مجوسيا فخمس الثلث. وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. وبه قال ابن المسيب والحسن البصري رضي الله تعالى عنهما. وإليه ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دية المسلم، وهو قول ابن مسعود وسفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال عمر بن عبد العزيز: دية الذمي نصف دية المسلم، وهو قول مالك وأحمد. وأما دية الأطراف فمبسوطة في كتب الفقه. تذنيب: قوله «1» تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها الآية. قال أهل التفسير: إنها نزلت في مقيس بن سبابة، وذلك أنه لما قتل أخوه هشام بن صبابة في بني النجار، ولم يعلموا له قاتلا، وأعطوه ديته مائة من الإبل ثم انصرف هو والفهري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين نحو المدينة، فأتي الشيطان مقيسا ووسوس إليه فقال: تقبل دية أخيك فتكون عليك وصمة ومسبة، فاقتل الرجل الذي معك، فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية، فغفل الفهري عن نفسه، فرماه مقيس بصخرة فشدخه. ثم ركب بعيرا من إبل الدية وساق باقيها ورجع إلى مكة كافرا فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية. ومقيس هذا هو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ممن أمنه، فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة. وقد اختلف في حكم هذه الآية فروى البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قاتل المؤمن عمدا لا توبة له. وقال زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية التي في الفرقان وهي قوله «2» تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر، ثم نزلت الغليظة فنسخت الغليظة اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية وباللينة آية الفرقان. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: آية الفرقان مكية وآية النساء مدنية، لم ينسخها شيء والذي عليه جمهور المفسرين، وهو مذهب أهل السنة قاطبة، أن توبة قاتل المسلم عمدا مقبولة لقوله «3» تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ* وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل. كما روي عن سفيان بن عيينة رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن المؤمن إذا لم يقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 يقال له لا توبة لك، وإن قتل يقال له توبة. وروي مثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وليس في الآية مستند لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر لأن الآية نزلت في قاتل كافر هو مقيس بن صبابة. كما تقدم. وقيل: إنه وعيد لمن قتل مؤمنا مستحلا لقتله بسبب إيمانه. ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرا مخلدا في النار. وروي أن عمرو بن عبيد قال لأبي عمرو بن العلاء، هل يخلف الله وعده؟ فقال أبو عمرو: لا. فقال: أليس قال «1» الله عزّ وجلّ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها فقال له أبو عمرو: أمن العجم أنت يا أبا عثمان؟ ألم تعلم أن العرب لا تعد الاخلاف في الوعيد خلفا وذما، وإنما تعد اخلاف الوعد خلفا وذما وأنشد قائلا: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، وكان قد شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «2» ، وحوله أصحابه: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستر الله عليه، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه قال فبايعناه على ذلك» . وما روي أيضا في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة والله الموفق. الخمل: بالتحريك ضرب من السمك قاله ابن سيده. الخنتعة: كقنفذة الأنثى من الثعالب قاله الأزهري. الخندع: كجندب زنة ومعنى صغار الجنادب وقال في المحكم: إنه الخفاش في بعض اللغات. الخنزير البري: بكسر الخاء المعجمة جمعه خنازير وهو عند أكثر اللغوين رباعي وحكى ابن سيده عن بعضهم إنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر. فهو على هذا ثلاثي يقال تخازر الرجل إذا ضيق جفنه ليحدد النظر، كقولك: تعامى وتجاهل، قال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في يوم صفين: إذا تخازرت وما بي من خزر ... ثم كسرت الطرف من غير حور ألفيتي ألوي بعيد المستمر ... كالحية الصماء في أصل الشجر أحمل ما حملت من خير وشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 وكنية الخنزير أبو جهم وأبو زرعة وأبو دلف وأبو عتبة وأبو علية وأبو قادم، وهو يشترك بين البهيمية والسبعية، فالذي فيه من السبع الناب وأكل الجيف، والذي فيه من البهيمية الظلف وأكل العشب والعلف، وهذا النوع يوصف بالشبق، حتى إن الأنثى منه يركبها الذكر وهي ترتع، فربما قطعت أميالا وهو على ظهرها، ويرى أثر ستة أرجل، فمن لا يعرف ذلك يظن أن في الدواب ماله ستة أرجل. والذكر من هذا النوع يطرد الذكور عن الإناث، وربما قتل أحدهما صاحبه، وربما هلكا جميعا. وإذا كان زمن هيجان الخنازير، طأطأت رؤوسها، وحركت أذنابها، وتغيرت أصواتها. وتضع الخنزيرة عشرين خنوصا، وتحمل من نزوة واحدة، والذكر ينزو إذا تمت له ثمانية أشهر، والأنثى تضع إذا مضى لها ستة أشهر. وفي بعض البلاد ينزو الخنزير إذا تمت له أربعة أشهر، والأنثى تحمل جراءها وتربيها، إذا تمت لها ستة أشهر أو سبعة. وإذا بلغت الأنثى خمس عشرة سنة لا تلد. وهذا الجنس أنسل الحيوان، والذكر أقوى الفحول على السفاد وأطولها مكثا فيه، يقال: إنه ليس لشيء من ذوات الأنياب والأذناب، ما للخنزير من القوة في نابه، حتى إنه يضرب بنابه صاحب السيف والرمح، فيقطع كل ما لاقى من جسده من عظم وعصب، وربما طال ناباه فيلتقيان فيموت عند ذلك جوعا لأنهما يمنعانه من الأكل. وهو متى عض كلبا سقط شعر الكلب. وهو إذا كان وحشيا ثم تأهل، لا يقبل التأديب. ويأكل الحيات أكلا ذريعا، ولا يؤثر فيه سمومها، وهو أروغ من الثعلب، وإذا جاع ثلاثة أيام ثم أكل سمن في يومين، وهكذا تفعل النصارى بالخنازير في الروم يجيعونها ثلاثة أيام، ثم يطعمونها يومين لتسمن. وإذا مرض أكل السرطان فيزول مرضه. وإذا ربط على حمار ربطا محكما، ثم بال الحمار مات الخنزير. ومن عجيب أمره: أنه إذا قلعت إحدى عينيه مات سريعا، وفيه من الشبه بالإنسان أنه ليس له جلد يسلخ إلا أن يقطع بما تحته من اللحم وروى الخباري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» . وفي رواية «يهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال، ويمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفاه الله فيصلي عليه المسلمون» . وهذا الحديث رواه أبو داود في آخر سننه في كتاب الملاحم مطوّلا قال الخطابي: وفي قوله: «ويقتل الخنزير» دليل على وجوب قتل الخنازير، وبيان أن أعيانها نجسة، وذلك أن عيسى عليه السلام إنما ينزل في آخر الزمان وشريعة الإسلام باقية وقوله: «ويضع الجزية» معناه أنه يضعها عن النصارى واليهود وأهل الكتاب، ويحملهم على الإسلام فلا يقبل منهم غير دين الحق. فذلك معنى وضعها. وفي أواخر الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام لقي خنزيرا على الطريق، فقال له: إذهب بسلام، فقيل له: أتقول هذا الخنزير؟ فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: إني أخاف أن أعود لساني النطق بالسوء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 فائدة: ذكر أهل التفسير وأصحاب السير، أن عيسى عليه الصلا والسلام استقبل رهطا من اليهود، فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة، وقذفوه وأمه، فلما سمع ذلك عيسى دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله تعالى خنازير، فلما رأى ذلك يهوذا، وهو رأس اليهود وأميرهم، فزع من ذلك وخاف دعوته، فجمع اليهود واستشارهم في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فاجتمعت كلمة اليهود على قتله، فطرقوا عيسى عليه الصلاة والسلام في بعض الليل ونصبوا خشبة ليصلبوه عليها، فأظلمت الأرض، وأرسل الله تعالى ملائكة فحالت بينهم وبينه، فجمع عيسى عليه الصلاة والسلام الحواريين تلك الليلة، وأوصاهم ثم قال: ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة، ثم إن الحواريين خرجوا من عنده وتفرقوا. وكانت اليهود تطلبه فأتى إليهم أحد الحواريين، وقال لهم: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلو له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فلما دخل البيت، ألقى الله تعالى عليه شبه عيسى، ورفع الله عيسى إليه. فدخلوا فرأوه، فأخذوه. فقال لهم: أنا الذي دللتكم عليه، فلم يلتفتوا إلى قوله، وقتلوه وصلبوه وهم يظنون أنه عيسى. وقيل: إن الذي ألقي عليه شبهه كان من اليهود، وإسمه تطبانوس. وقيل: إن عيسى عليه الصلاة والسلام قال للحواريين؟ أيكم يقذف عليه شبهي فيقتل؟ فقال رجل منهم. أنا يا نبي الله. فقتل ذلك الرجل وصلب ورفع الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام إليه، وكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فهو عليه الصلاة والسلام طائر مع الملائكة المقربين حول العرش. وقال أهل التاريخ: حملت مريم بعيسى عليهما السلام ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت عيسى ببيت لحم، من أرض أروى شلم، لمضي خمس وستين سنة، من غلبة الاسكندر على أرض بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة من عمره، ورفع من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة. وماتت أمه مريم بعد رفعه عليه السلام بست سنين. وذكر ابن أبي الدنيا، عن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: قيل لأبي أسيد الفزاري: من أين تعيش فحمد الله تعالى وكبره وقال: يرزق الله الكلب والخنزير ولا يرزق أبا أسيد!؟ وروى ابن ماجه، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «طلب العلم فريضة على كل مسلم، وواضع العلم في غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والدر والذهب» . وفي اسناده كثير بن شنظير، وهو مختلف في توثيقه وتضعيفه. وقال في الإحياء: جاء رجل إلى ابن سيرين فقال: رأيت أن أقلد الدر أعناق الخنازير، فقال: أنت تعلم الحكم ة غير أهلها. وفيه أيضا في الباب السادس من أبواب العلم، روي أن رجلا كان يخدم موسى عليه الصلاة والسلام فجعل يقول: حدثني موسى صفي الله حدثني موسى نجي الله حدثني موسى كليم الله حتى أثرى وكثر ماله ففقده موسى عليه السلام وجعل يسأل عنه فلم يجد له أثر. حتى جاءه رجل ذات يوم وفي يده خنزير وفي عنقه حبل أسود فقال: يا موسى أتعرف فلانا؟ قال: نعم. قال: هو هذا الخنزير. فقال موسى عليه السلام: يا رب أسألك أن ترده إلى حاله الأول حتى أسأله بم أصابه ذلك؟ فأوحى الله تعالى إليه لو دعوتني بالذي دعا به آدم فمن دونه ما أجبتك فيه، ولكن أخبرك لم صنعت به هذا لأنه كان يطلب الدنيا بالدين. وكذلك رواه الإمام أبو طالب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 المكي في قوت القلوب. وفي المستدرك عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يبيت قوم من هذه الأمة على طعام وشراب ولهو فيصبحون وقد مسخوا خنازير، وليخسفن الله بقبائل منها ودور منها حتى يصبحوا، فيقولوا قد خسف لليلة بدار بني فلان، وليرسلن عليهم حجارة كما أرسلت على قوم لوط، وليرسلن عليهم الريح العقيم بشربهم الخمر وأكلهم الربا ولبسهم الحرير، واتخاذهم القينات وقطعهم الرحم» . ثم قال: صحيح الاسناد. الحكم: لا يجوز بيع الخنزير لما روى أبو داود من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل حرم الخمر وثمنها وحرم الميتة وثمنها وحرم الخنزير وثمنه» «1» . واختلفوا في جواز الانتفاع به فكرهت طائفة ذلك وممن منع منه ابن سيرين والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق ورخص فيه الحسن والأوزاعي وأصحاب الرأي. وهو نجس العين كالكلب يغسل ما نجس بملاقاة شيء من أجزائه سبعا إحداهن بالتراب. ويحرم اكله لقوله «2» تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ والرجس النجس. قال الإمام العلامة أقضى القضاة الماوردي: الضمير في قوله تعالى فَإِنَّهُ رِجْسٌ عائد على الخنزير لكونه أقرب مذكور ونظيره قوله «3» تعالى: وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ونازعه الشيخ أبو حبان وقال: إنه عائد على اللحم لأنه إذا كان في الكلام مضاف ومضاف إليه، عاد الضمير على المضاف دون المضاف إليه، لأن المضاف هو المحدث عنه، والمضاف إليه وقع ذكره بطريق العرض وهو تعريف المضاف وتخصيصه. وقال شيخنا الأسنوي رحمه الله تعالى: وما ذكره الماوردي أولى من حيث المعنى، وذلك أن تحريم اللحم قد استفيد من قوله تعالى، أو لحم خنزير فلو عاد الضمير لزم خلو الكلام من فائدة التأسيس، فوجب عوده إلى الخنزير ليفيد تحريم اللحم والكبد والطحال وسائر أجزائه، وقال القرطبي، في تفسير سورة البقرة، لا خلاف أن جملة الخنزير محرمة، إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به. ونقل ابن المنذر الإجماع على نجاسته. وفي دعواه الإجماع نظر، لأن مالكا يخالف فيه، نعم هو أسوأ حالا من الكلب فإنه يستحب قتله ولا يجوز الانتفاع به في حالة، بخلاف الكلب. وقال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: ليس لنا دليل على نجاسته بل مقتضى المذهب طهارته كالأسد والذئب والفأرة. وقد روي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخرازة بشعره فقال: «لا بأس بذلك» «4» رواه ابن خويز منداد. قال: ولأن الخزازة به كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، موجودة ظاهرة ولم يعلم أنه صلى الله عليه وسلم أنكرها، ولا أحد من الأئمة بعده. وقال الشيخ نصر المقدسي: لا يجوز المسح على خف خرز بشعره ولا الصلاة فيه وإن غسله سبعا إحداهن بالتراب، لأن التراب والماء لا يصلان إلى مواضيع الخرز المتنجسة قال الإمام النووي: وهذا الذي ذكره الشيخ أبو الفتح نصر هو المشهور. وقال القفال، في شرح التلخيص: سألت الشيخ أبا زيد عنه، فقال: الأمر إذا ضاق اتسع. ومراده أن بالناس ضرورة إليه، فتصح الصلاة فيه لذلك. وفي الشرح والروضة في أواخر كتاب الأطعمة قريب من ذلك. ولا يجوز اقتناء الخنزير سواء كان يعدو على الناس أو لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 يكن يعدو، فإذا كان يعدو وجب قتله قطعا وإلا فوجهان: أحدهما يجب قتله، والثاني يجوز قتله، ويجوز إرساله وهو ظاهر نص الشافعي. فالوجهان في وجوب قتله، وأما اقتناؤه فلا يجوز بحال كما صرح به في شرح المهذب وغيره. وفي سنن أبي داود من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أحسبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صلى أحدكم إلى غير سترة فإنه يقطع صلاته الكلب والحمار والخنزير واليهودي والمجوسي والمرأة الحائض، ويجزىء عنه إذا مروا بين يديه قذفه بحجر» . وفيه «1» أيضا من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «من باع الخمر فليشقص الخنازير» . قال الخطابي: معناه فليستحل أكلها. وقال في النهاية: معناه فليقطعها ويفصلها أعضاء كما تفصل الشاة إذا بيع لحمها. والمعنى: من استحل بيع الخمر فليستحل بيع الخنزير، فإنهما في التحريم سواء، وهذا لفظ أمر معناه النهي، تقديره من باع الخمر فليكن للخنازير قصابا. وجعله الزمخشري من كلام الشعبي. الأمثال: قالوا: «أطيش من عفر» . والعفر ولد الخنزير، والعفر أيضا الشيطان، والعفر أيضا العقرب، وقالوا: «أقبح من خنزير» . وقالوا: «أكرهه كراهة الخنازير الماء الموغر» . وأصله أن النصارى تغلي الماء للخنازير فتلقيها فيه لتنضج، فذلك هو الإيغار. قال أبو عبيد: ومنه قول الشاعر: ولقد رأيت مكانهم فكرهتهم ... ككراهة الخنزير للإيغار وقال ابن دريد: ألايغار أن يغلى الماء للخنازير فتسمط وهي حية. إشارة: ابن دريد هو محمد بن الحسن بن دريد أبو بكر الأزدي البصري إمام عصره في اللغة والأدب والشعر، ومن جيد شعره المقصورة التي مدح بها الشاه بن ميكال وولده إسماعيل وعارضه فيها جماعة كثيرة من الشعراء، واعتنى بمقصورته جماعة من العلماء، فشرحوها. ومن تصانيفه الجمهرة وهو من الكتب المعتبرة، قال بعض العلماء: ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء، وعرض له في أواخر عمره فالج، فكان إذا دخل عليه الداخل ضج وتألم لدخوله وإن لم يصل إليه وسقي الترياق فبرىء منه ورجع إلى أسماع تلامذته ثم عاوده الفالج بعد حول، لغذاء ضار تناوله فكان يحرك يديه حركة ضعيفة، وبطل من محزمه إلى قدميه. قال تلميذه أبو علي: كنت أقول في نفسي إن الله تعالى عاقبه بقوله في المقصورة حين ذكر الدهر بقوله «3» : مارست من لوهوت الأفلاك ... من جوانب الجوّ عليه ما شكا وعاش بهذه الحالة عامين وكان آخر كلامه «4» : فوا حزني إن لا حياة لذيذة ... ولا عمل يرضي به الله صالح ثم قبض. قال ابن دريد: سهرت ليلة فلما كان آخر الليل رأيت رجلا دخل علي في المنام فأخذ بعضادتي الباب وقال: أنشدني أحسن ما قلت في الخمر، فقلت: ما ترك أبو نواس لأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 شيئا فقال: أنا أشعر منه، قلت: من أنت؟ قال: أنا أبو ناجية من أهل الشام ثم أنشدني «1» : وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق حكت وجنة المعشوق صرفا فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق فقلت له: أسأت فقال: ولم؟ قلت لأنك قلت: وحمراء، فقدمت الحمرة ثم قلت: بين ثوبي نرجس وشقائق، فقدمت الصفرة فقال: ما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض؟ ويقال: إن ابن دريد أنشدهما لنفسه، وكان ابن دريد يشرب الخمر إلى أن جاوز تسعين سنة، وكان، حين أصابه الفالج، صحيح الذهن والعقل، يرد فيما يسأل عنه ردا صحيحا. وتوفي في شعبان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ببغداد، ودريد تصغير أدرد وهو الذي ليس في فيه سن قاله ابن خلكان وغيره. الخواص: كبده إذا أكلت أو سقيت لإنسان نفعت من نهش الهوام خصوصا الحيات، وإن جفت وسقيت لمن به ريح الفالج والقولنج، برىء من وقته، وإذا قطرت مرارته في أنف رجل مربوط في كل جانب من أنفه ثلاث قطرات انطلق وبرىء، وإذا أحرق عظمه وسحق وشربه من به البواسير، فإنها تهدأ وتبرأ، بإذن الله تعالى، وقيل: إن حشي به موضع الناسور، أبرأه وعظمه يعلق على من به حمى الربع تذهب عنه، وقال يوحنا إن مما جربته الحكماء القدماء، أن عظم الخنزير يعلق على من به حمى الربع في خرقة تعقد فيه يبرأ منها، وإن جففت مرارته ووضعت على البواسير قلعتها من ساعتها، وزبله إذا أمسكه من به فواق دائم أبرأه، وإن شرب فتت الحصا. وأجوده زبل البري، وإن عجن بخل وطلي به الرأس نفع من سائر الجراحات، والجروح التي تظهر به، وإذا لطخ به، أصل شجرة الرمان الحامض أبدله حلوا وعرقوبه إذا أحرق وسحق وعجن بعسل وسقي لمن به مغص ونفخ في معدته وأمعائه وزن مثقال، فإنه ينفع نفعا عظيما. التعبير: الخنزير تدل رؤيته على الشر والنكد والإفلاس، وعلى المال الحرام، وتدل رؤية إناثه على كثرة النسل، فإن حصل له منه ضرر في المنام ربما تنكد من نصراني، وقيل: الخنزير في المنام عدو قوي ملعون خدوع عند النوائب، غدّار فمن رأى أنه ركب خنزيرا نال مالا وقهر عدوا كما وصفت ومن أكل لحم الخنزير مطبوخا نال مالا وتجارة من غير حل. ومن رأى أنه تحول خنزيرا نال مالا مع ذلة ووهن في الدين ومن رأى أنه يمشي، كما يمشي الخنزير، نال سرورا وقرة عين. وأولاد الخنازير هموم لمن ملكها والخنزير الأهلي خصب لمن رأه بداره، وكل حيوان يتربى عاجلا ويألف فهو تمام قصد من رآه وقضاء حاجته. والبري يدل للمسافر على مطر أو برد. ومن رعى الخنازير في المنام فإنه يلي على قوم من اليهود والنصارى. ومن رأى كأن زوجته صارت خنزيرة، فإنه يطلقها لأنه حرمت عليه. ولحمه خير لجميع الناس لأن الخنزير لا ينفع إلا بعد موته وهو مال حرام لقوله «2» تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ* ففيه إشارة لذلك والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الخنزير البحري: سئل مالك عنه فقال: أنتم تسمونه خنزيرا يعني أن العرب لا تسميه بذلك لأنها لا تعرف في البحر خنزيرا والمشهور أنه الدلفين. وسيأتي إن شاء الله في باب الدال المهملة قال الربيع: سئل الشافعي رضي الله تعالى عنه عن خنزير الماء فقال: يؤكل. وروي أنه لما دخل العراق قال فيه: حرمه أبو حنيفة وأحله ابن أبي ليلى. وروي هذا القول عن عمرو عثمان وابن عباس وأبي أيوب الأنصاري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم، والحسن البصري والأوزاعي والليث وأبى مالك أن يقول فيه شيئا وأبقاه مرة أخرى على جهة الورع. وحكى ابن أبي هريرة عن ابن خيران أن اكارا صاد له خنزير ماء، وحمله إليه فأكله وقال: كان طعمه موافقا لطعم الحوت سواء. وقال ابن وهب: سألت الليث بن سعد عنه، فقال: إن سماه الناس خنزيرا لم يؤكل لأن الله حرم الخنزير. الخنفساء: معروفة، وكان من حقها أن تكتب قبل هذا لأن نونها زائدة وهي بفتح الفاء ممدودة الأنثى خنفساءة وقال ابن سيده: الخنفساء دويبة سوداء أصغر من الجعل منتنة الريح. والأنثى خنفسة وخنفساءة وضم الفاء في كل ذلك لغة. والخنفس إسم للكثير من الخنافس. وقال الأصمعي: لا يقال خنفساءة بالهاء وكنيتها أم القسور وأم الأسود، وأم مخرج وأم اللجاج، وأم التن، تتولد من عفونة الأرض وهي طويلة الظمأ وبينها وبين العقرب صداقة، ولهذا يسميها أهل المدينة الشريفة جارية العقرب. وهي أنواع منها الجعل وحمار قبان، وبنات وردان، والحنطب وهو ذكر الخنافس، والخنفساء مخصوصة بكثرة الفسو كالظربان ولذلك تقول العرب في أمثالها «1» : «إذا تحركت الخنفساء فست» . قال حنين بن إسحاق: طريق طرد الخنافس أن يطرح في أماكنها الكرفس فإنها تهرب من ذلك المكان. وروى ابن عدي في كامله في ترجمة أبي معشر وإسمه نجيح عن المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «ليدعن الناس فخرهم في الجاهلية، أو ليكونن أبغض إلى الله تعالى من الخنافس» . غريبة: حكى القزويني أن رجلا رأى خنفساء فقال: ماذا يريد الله تعالى من خلق هذه؟ ألحسن شكلها أو لطيب ريحها! فابتلاه الله تعالى بقرحة عجز عنها الأطباء حتى ترك علاجها، فسمع يوما صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب، فقال: هاتوه حتى ينظر في أمري، فقالوا: وما تصنع بطرقي وقد عجز عنك حذاق الأطباء! فقالى: لا بد لي منه، فلما أحضروه ورأى القرحة استدعى بخنفساء، فضحك الحاضرون منه، فتذكر العليل القول الذي سبق منه، فقال: احضروا له ما طلب فإن الرجل على بصيرة من أمره، فأحضروها له، فأحرقها وذر رمادها على قرحته فبرىء بإذن الله تعالى. فقال للحاضرين: إن الله تبارك وتعالى أراد أن يعرفني أن أخس المخلوقات أعز الأدوية. وحكى: «3» ابن خلكان في ترجمة جعفر بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 كان عنده أبو عبيدة الثقفي فقصدته خنفساء فأمر جعفر بإزالتها، فقال أبو عبيدة: دعوها عسى أن يأتين بقصدها إليّ خير، فإنهم يزعمون ذلك، فأمر له جعفر بألف دينار، فقال: تحقق زعمهم. فأمر بتنحيتها فقصدته ثانيا فأمر له بألف دينار أخرى. الحكم يحرم أكلها لاستخباثها. وقال الأصحاب: ما لا يظهر فيه ضر ولا نفع، كالخنافس والدود والجعلان والسرطان والبغاث والرخمة والعظاءة والسلحفاة والذباب وأشباهها، يكره قتلها للمحرم وغيره، هكذا قطع به الجمهور. وحكى إمام الحرمين وجها شاذا إنه لا يحرم قتل الطيور والحشرات. ودليل الكراهة أنه عبث بلا حاجة. وقد ثبت في صحيح مسلم عن شداد بن أوس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال «1» : إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة» . وليس من الإحسان قتلها عبثا. وروى البيهقي عن قطبة الصحابي رضي الله تعالى عنه أنه كان يكره أن يقتل الرجل ما لا يضره. الأمثال: يقال: «أفسى من الخنفساء «2» وقالوا: «الخنفساء إذا مست نتنت «3» » . أي جاءت بالنتن الكثير. يضرب لمن ينطوي على خبث معناه لا تفتشوا على ما عنده، فإنه يؤذيكم بنتن معايبه. وقال خلف الأحمر «4» النحوي يهجو العتبي «5» : لنا صاحب مولع بالخلاف ... كثير الخطاء قليل الصواب ألج لجاجا من الخنفساء ... وأدهى إذا ما مشى من غراب «6» الخواص: إذا أخذت رؤوس الخنافس وجعلت في برج حمام اجتمع الحمام إليه، والاكتحال بما في جوفها من الرطوبة يحد البصر، ويجلو غشاوة العين، ويزيل البياض، وينفع السبل نفعا عظيما بليغا. وإذا بخر المكان بورق الدلب، هرب منه الخنافس وإن أخذت خنفساء وطبخت بعصير السمسم وقطر في الأذن منه، فإنه نافع من جميع أوجاع الأذن وإن شدخت خنفساء وربطت على لسعة العقرب أبرأتها، وإن أحرقت وذر رمادها على القرحة أبرأتها، ومن أكل الخنفساء ولم يشعر بها حتى دخلت إلى جوفه، وهي حية قتلته من وقته. التعبير: الخنفساء في المنام تدل رؤيتها على موت النفساء، ورؤية الذكر تدل على رجل يخدم الأشرار. وربما دلت رؤيته على عدوّ قذر بغيض والله أعلم. الخنّوص: بكسر الخاء وتشديد النون ولد الخنزير، والجمع الخنانيص. قال الأخطل يخاطب بشر بن مروان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 أكلت الدجاج فأفنيتها ... فهل في الخنانيص من مغمرّ ويروي أكلت القطاة قاله ابن سيده. وحكمه وتعبيره: كالخنزير. الخواص: مرارته تحلل الأورام اليابسة، وإذا خلطت بعسل وطلي بها احليل الرجل هيج الباه بشهوة عظيمة. وشحمه المذاب إذا مسح به أصل شجر الرمان الحامض أبدله حلوا. الخيتعور: الذئب لأنه لا عهد له. وقيل: الخيتعور الغول، والياء فيه زائدة، وفي الحديث: «ذاك أزب العقبة يقال له الخيتعور» . يريد به شيطان العقبة فجعل الخيتعور إسما له. وقيل: الخيتعور كل شيء يضمحل ولا يدوم على حالة واحدة ولا يكون له حقيقة كالسراب قال الشاعر «1» : كل أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحب حبها خيتعور وقيل: الخيتعور دويبة تكون في وجه الماء لا تثبت في موضع إلا دبت. وقيل: الخيتعور الذي ينزل في الهواء، أبيض كالخيط أو كنسج العنكبوت. وقيل الخيتعور الدنيا الذاهبة والله أعلم. الخيدع: والخيطل السنور وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب السين. الأخيل: طائر أخضر على جناحيه لمع تخالف لونه سمي بذلك للخيلان. وقيل للأخيل الشقراق وهو مشؤوم. ولفظه ينصرف في النكرة إذا سميت به، ومنهم من لا يصرفه في معرفة ولا نكرة ويجعله في الأصل صفة من التخيل. ويحتج بقوله حسان رضي الله تعالى عنه: ذريني وعلمي بالأمور وشيمتي ... فما طائري فيها عليك بأخيلا «2» الخيل: جماعة الأفراس لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والنفر. وقيل: مفرده خائل، قاله أبو عبيدة وهي مؤنثة والجمع خيول وقال السجستاني: تصغيرها خييل. وسميت الخيل خيلا لاختيالها في المشية، فهو على هذا اسم للجمع عند سيبويه، وجمع عند أبي الحسن. ويكفي في شرف الخيل أن الله تعالى أقسم بها في كتابه فقال: وَالْعادِياتِ ضَبْحاً » وهي خيل الغزو التي تعدو فتضج أي تصوّت بأجوافها. وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوي ناصية فرسه بأصبعيه وهو يقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة «4» » . الأجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 والغنيمة. ومعنى عقد الخير بنواصيها أنه ملازم لها، كأنه معقود فيها والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة. قاله الخطابي وغيره قالوا: وكنى بالناصية عن جميع ذات الفرس، كما يقال: فلان مبارك الناصية، وميمون الغرة أي الذات. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أنا قد رأينا إخواننا «1» » . قالوا: أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بل أنتم أصحاب إخواننا الذي لم يأتوا بعد» . فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهراني خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: «فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض» «2» . وفي رواية البيهقي، «إن أمتي يأتون يوم القيامة، غرا من السجود، محجلين من الوضوء، ولا يكون ذلك لأحد من الأمم غيرهم» . وروى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يكره الشكال من الخيل» «3» والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض، وفي يده اليسرى بياض، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى، كذا وقع تفسيره في صحيح مسلم وهذا أحد الأقوال في الشكال. وقال أبو عبيدة وجمهور أهل اللغة: والغريب هو أن يكون منه ثلاث قوائم محجلة، وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل، فإنه يكون في ثلاث قوائم غالبا. وقال أبو عبيدة: وقد يكون الشكال ثلاث قوائم مطلقة وواحدة محجلة، قال: ولا تكون المطلقة أو المحجلة إلا في الرجل. وقال ابن دريد: هو أن يكون محجلا في شق واحد في يده ورجله، فإن كان مخالفا، قيل: شكال مخالف، وقيل: الشكال بياض اليدين، وقيل: بياض الرجلين. قال العلماء: إنما كرهه صلى الله عليه وسلم، لأنه على صورة المشكول وقيل: يحتمل أن يكون جرب ذلك الجنس، فلم يكن فيه نجابة. وقال بعض العلماء: فإذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبهه بالشكال. وقال ابن رشيق، في عمدته في باب منافع الشعر ومضاره: إن أبا الطيب المتنبي لما ذهب إلى بلاد فارس ومدح عضد «4» الدولة بن بويه الديلمي، وأجزل جائزته، رجع من عنده قاصدا بغداد، وكان معه جماعة، فخرج عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 قطاع الطريق، بالقرب من بغداد، فلما رأى الغلبة فر هاربا، فقال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبدا وأنت القائل «1» : الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والحرب والضرب والقرطاس والقلم فكر راجعا، وقاتل حتى قتل. فكان سبب قتله هذا البيت، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. وما أحسن قول أبي سليمان الخطابي في مدح العزلة والانفراد وإن لم يكن له تعلق بهذا المعنى: أنست بوحدتي ولزمت بيتي ... فدام الأنس لي ونما السرور وأدّبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور ولست بسائل ما دمت حيا ... أسار الخيل أم ركب الأمير فائدة : ذكر ابن خلكان في تاريخه أن شخصا سأل المتنبي عن قوله. بادر هواك صبرت أم لم تصبرا. كيف يثبت الألف في تصبرا مع وجود لم الجازمة! ومن حقه أن يقول لم تصبر؟ فقال أبو الطيب المتنبي: لو كان أبو الفتح بن جني ههنا لأجابك: هذه الألف هي بدل النون الساكنة لأنه كان في الأصل لم تصبرن، ونون التأكيد الخفيفة إذا وقف الإنسان عليها أبدل منها ألفا قال الأعشى «2» : وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا كان الأصل فاعبدن، فلما وقف عليها أتي بألف بدلا من النون ومراده بأبي الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي المشهور، وكان ابن جني قد قرأ على أبي علي الفارسي وفارقه وقعد للإقراء بالموصل، فمر به شيخه أبو علي يوما فرآه في حلقته، فقال له: زّببت وأنت حصرم، فترك حلقته وتبعه، ولم يزل ملازما له حتى مهر. وأبوه جني مملوك رومي، وله أشعار حسنة وكان أعوّر بعين واحدة وفي ذلك يقول «3» : صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نية فاسده فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحدة ولولا مخافة أن لا أراك ... لما كان في تركها فائدة وله تصانيف مفيدة وشرح ديوان المتنبي ولذلك أشار إليه المتنبي كما تقدم وكانت وفاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 ابن جني في صفر ببغداد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. وفي سنن النسائي، من حديث سلمة بن نفيل الكوني أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن إذالة الخيل» ، وهو امتهانها في الحمل عليها واستعمالها. وأنشد أبو عمر بن عبد البر، في التمهيد لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أحبوا الخيل واصطبروا عليها ... فإن العز فيها والجمالا إذا ما الخيل ضيعها أناس ... ربطناها فأشركنا العيالا نقاسمها المعيشة كل يوم ... ونكسوها البراقع والجلالا فائدة: رأيت في تاريخ نيسابور، للحاكم أبي عبد الله في ترجمة أبي جعفر الحسن بن محمد بن جعفر الزاهد العابد أنه روى بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق الخيل، قال لريح الجنوب: إني خالق منك خلقا، أجعله عزا لأوليائي ومذلة لأعدائي وجمالا لأهل طاعتي فقالت الريح: اخلق يا رب، فقبض منها قبضة فخلق منها فرسا، وقال جل وعلا: خلقتك عربيا وجعلت الخير معقودا بنواصيك، والغنائم محتازة على ظهرك، وبّوأتك سعة من الرزق وأيدتك على غيرك من الدواب، وعطفت عليك صاحبك، وجعلتك تطيرين بلا جناح، فأنت للطلب وأنت للهرب وإني سأجعل على ظهرك رجالا يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ما من تسبيحة وتهليلة وتكبيرة، يكبرها صاحبها قد فتسمعه الملائكة إلا تجيبه بمثلها. قال: فلما سمعت الملائكة بخلق الفرس، قالت: يا رب نحن ملائكتك نسبحك ونحمدك ونهلك ونكبرك، فماذا لنا؟ فخلق الله تعالى لها خيلا لها أعناق كأعناق البخت، يمد بها من شاء من أنبيائه ورسله، قال: فلما استوت قوائم الفرس في الأرض. قال الله تعالى له: إني أذل بصهيلك المشركين، وأملأ منه آذانهم، وأذل به أعناقهم، وأرعب به قلوبهم. قال: فلما أن عرض الله تعالى على آدم كل شيء مما خلق، قال له: اختر من خلقي ما شئت، فاختار الفرس. فقيل له: اخترت عزك وعز ولدك خالدا ما خلدوا وباقيا ما بقوا أبد الآبدين، ودهر الداهرين» . وهو في شفاء الصدور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، بغير هذا اللفظ. ولفظه إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لما أراد الله أن يخلق الخيل أوحى إلى ريح الجنوب: إني خالق منك خلقا فاجتمعي فاجتمعت، فأتى جبريل عليه السلام فقبض منها قبضة، ثم قال الله عز وجل له: هذه قبضتي ثم خلق منها فرسا كميتا. وقال الله عز وجل: خلقتك فرسا وجعلتك عربيا، وفضلتك على سائر ما خلقت من البهائم، بسعة الرزق والغنائم، تقاد على ظهرك، والخير معقود بناصيتك. ثم أرسله فصهل، فقال جل وعلا: «يا كميت بصهيلك أرهب المشركين وأملأ مسامعهم، وأزلزل أقدامهم، ثم وسمه بغرة وتحجيل فلما خلق الله تعالى آدم، قال: يا آدم اختر أي الدابتين أحببت: يعني الفرس أو البراق، وهو على صورة البغل لا ذكرو لا أنثى، فقال: يا جبريل اخترت أحسنهما وجها وهو الفرس، فقال الله تعالى: يا آدم اخترت عزك وعز أولادك باقيا ما بقوا، وخالدا ما خلدوا» . وفيه أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وكرم وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة، يخرج من أعلاها حلل، ومن أسفلها خيل بلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 من ذهب مسرجة ملجمة، بلجم من در وياقوت، لا تروث ولا تبول، لها أجنحة خطوتها مد بصرها، يركبها أهل الجنة فتطير بهم حيث شاؤوا، فيقول الذين أسفل منهم درجة: «يا ربنا بم بلغ عبادك هذه الكرامة كلها؟ فيقول بأنهم كانوا يقومون الليل، وكنتم تنامون، وكانوا يصومون النهار وكنتم تأكلون، وكانوا ينفقون وكنتم تبخلون، وكانوا يقاتلون وكنتم تجبنون. ثم يجعل الله في قلوبهم الرضا فيرضون وتقرّ أعينهم» . فائدة أخرى : أول من ركب الخيل إسماعيل عليه السلام، ولذلك سميت بالعراب، وكانت قبل ذلك وحشية كسائر الوحوش، فلما أذن الله تعالى لأبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع القواعد من البيت قال الله عز وجل: إني معطيكما كنزا دخرته لكما، ثم أوحى الله إلى إسماعيل: أن اخرج فإدع بذلك الكنز، فخرج إلى أجياد، وكان لا يدري ما الدعاء والكنز! فألهمه الله تعالى الدعاء، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا اجابته، فأمكنته من نواصيها وتذللت له، ولذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «اركبوا الخيل فإنها ميراث أبيكم إسماعيل» . وروى النسائي عن أحمد بن حفص عن أبيه عن إبراهيم بن طهارة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم «لم يكن شيء أحب إليه، بعد النساء، من الخيل» . إسناده «1» جيد. وروى الثعلبي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «2» : «ما من فرس إلا ويؤذن له عند كل فجر بدعوة يدعو بها: اللهم من خولتني من بني آدم وجعلتني له فاجعلني أحب أهله وماله إليه» . وقال «3» صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فما اتخذني في سبيل الله تعالى وقوتل عليه أعدؤه، وفرس الإنسان ما استطرق عليه، وفرس الشيطان ما روهن عليه» . وفي طبقات ابن سعد بسنده، عن عريب المليكي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله «4» تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من هم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم أصحاب الخيل. ثم قال «5» صلى الله عليه وسلم: «إن المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها، وأبوالها أرواثها يوم القيامة كذكي المسك» . وعريب بضم العين المهملة. وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي ضمرت وكان أمدها من الحفياء إلى ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فيمن أجرى. وروى شيخ الإسلام الحافظ الذهبي في آخر طبقات الحفاظ، عن شيخه الحافظ شرف الدين الدمياطي، بإسناده إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحضر الملائكة من اللهو شيئا إلا ثلاثة: لهو الرجل مع امرأته وإجراء الخيل، والنضال» . وروى الترمذي في صفة أهل الجنة بإسناد ضعيف عن واصل بن السائب عن أبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 سودة عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء إعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أحب الخيل فهل في الجنة خيل؟ فقال «1» صلى الله عليه وسلم: «إن دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوتة لها جناحان، فتحمل عليها فتطير بك في الجنة حيث شئت» . وفي معجم ابن قانع، إن هذا الإعرابي إسمه عبد الرحمن بن ساعدة الأنصاري. وكذلك ذكره الدينوري في أوائل المجالسة، وذكر ابن عدي بهذا الإسناد الضعيف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة يتزاورون على نجائب بيض كأنهن الياقوت وليس في الجنة من البهائم إلا الإبل والطير. فائدة أخرى : خيل السباق عشرة: ذكرها الرافعي وغيره وحذفها من الروضة وهي مجل ومصل وتال وبارع ومرتاح وحظي وعاطف ومؤمل والسكيت والفسكل وإلى ذلك أشرت في المنظومة بقولي: مهمة خيل السباق عشرة ... في الشرح دون الروضة المعتبرة وهي مجل ومصل تالي ... والبارع المرتاح بالتوالي ثم حظي عاطف مؤمل ... ثم السكيت والأخير الفسكل فائدة أخرى: قال السهيلي في التعريف والإعلام: وأما خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسماؤها: السكب، وهو من سكب الماء كأنه سيل، والسكب أيضا شقائق النعمان، والمرتجز سمي بذلك لحسن صهيله واللحيف كأنه يلحف الأرض لجريه، ويقال فيه اللخيف بالخاء المعجمة. وذكر البخاري في جامعه واللزاز ومعناه أنه ما سابق شيئا إلا لزه أي أثبته، وملاوح والضرس والورد وهبه لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فحمل عليه عمر في سبيل الله تعالى، وهو الذي وجده يبتاع برخص انتهى. فائدة أخرى: روى ابن السني وأبو القاسم الطبراني عن أبان بن أبي عياش والمستغفري أيضا عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف أن أنظر أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدن مجلسه، وأحسن جائزته وأكرمه. قال: فأتيته فقال لي: يا أبا حمزة إني أريد أن أعرض عليك خيلي فتعلمني أين هي من الخيل التي كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فعرضها فقلت: شتان ما بينهما! تلك كانت أروائها وأبوالها وأعلافها أجرا، وهذه هيئت للرياء والسمعة. فقال الحجاج: لولا كتاب أمير المؤمنين فيك لضربت الذي فيه عيناك! فقلت: ما تقدر على ذلك، قال: ولم؟ قلت: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أقوله لا أخاف معه من شيطان ولا سلطان ولا سبع. فقال: يا أبا حمزة علمه ابن أخيك يعني ابنه محمد بن الحجاج، فأبيت عليه. فقال لابنه: أئت عمك أنسا فتسأله أن يعلمك ذلك. قال أبان: فلما حضرته الوفاة دعاني فقال: يا أبا أحمد إن لك إلي انقطاعا، وقد وجبت حرمتك، وإني معلمك الدعاء الذي علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تعلمه من لا يخاف الله أو نحو ذلك، وهو ذلك الدعاء المبارك: الله أكبر الله أكبر بسم الله على نفسي وديني، بسم الله على أهلي ومالي، بسم الله على كل شيء أعطانيه ربي، بسم الله خير الأسماء، بسم الله الذي لا يضر مع إسمه داء، بسم الله الذي لا يضر إسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 شيء، في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، بسم الله افتتحت، وعلى الله توكلت، الله الله ربي لا أشرك به شيئا أسألك اللهم بخيرك من خيرك، الذي لا يعطيه أحد غيرك، عز جارك وجل ثناؤك، ولا إله غيرك، اجعلني في عبادك واحفظني من شر كل ذي شر خلقته، وأحترز بك من الشيطان الرجيم، اللهم إني احترس بك من شر كل ذي شر خلقته وأحترز بك منهم، وأقدم بين يدي بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» ومن خلفي مثل ذلك وعن يميني مثل ذلك وعن يساري مثل ذلك ومن فوقي مثل ذلك ومن تحتي مثل ذلك. مسألة: قال شيخ الإسلام تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى: ورد مثال كريم ممن هو حقيق بالتبجيل والتعظيم، يتضمن السؤال عن الخيل: هل كانت قبل آدم عليه السلام أو خلقت بعده؟ وهل خلق الذكور قبل الإناث أو الإناث قبل الذكور؟ وهل العربيات قبل البراذين أو البراذين قبل العربيات؟ وهل ورد في الحديث أو الأثر أو السير أو الأخبار ما يدل على ذلك؟ والجواب: أن نختار أن خلق الخيل كان قبل خلق آدم عليه السلام بيومين أو نحوهما، وأن خلق الذكور قبل الأناث وأن العربيات قبل البراذين، أما قولنا إن خلقها كان قبل خلق آدم فلآيات في القرآن سنذكرها آية آية وتذكر وجه الاستدلال والمعنى فيه، وهو أن الرجل الكبير يهيء له ما يحتاج إليه قبل قدومه وقال «2» تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فالأرض وكل ما فيها مخلوق لآدم وذريته إكراما لهم، ومن كمال إكرامهم وجودها قبلهم، فجميع ذلك مقدم على خلقه ثم كان خلق آدم بعد ذلك آخر الخلق، لأنه وذريته أشرف الخلق، ألا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من الجميع، ولذلك كان آخرا لأن به صلى الله عليه وسلم تم كمال الوجود، وما سوى آدم مما هيىء له حيوان وجماد. والحيوان أشرف من الجماد، والخيل من أشرف الحيوان، غير الآدمي فكيف يؤخر خلقها عنه فهذه الحكم ة تقتضي تقديم خلقها مع غيرها من المنافع. وإنما قلنا بيومين أو نحوهما، لحديث ورد فيه، يتضمن أن بث الدواب يوم الخميس، والحديث في الصحيح، لكن فيه كلام. ولا شك أن خلق آدم عليه السلام كان يوم الجمعة، والحديث المذكور يتضمن أنه بعد العصر، فلذلك قلنا إنه بيومين أو نحوهما على التقريب. وأما التقدم فلا يتردد فيه، والمعنى فيه قد ذكرناه. وأما الآيات التي تدل له، فمنها قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ووجه الاستدلال أن الآية الكريمة اقتضت خلق ما في الأرض جميعا قبل تسوية الرحمن السماء، ومن جملة ما في الأرض الخيل، فالخيل مخلوفة قبل تسوية السماء عملا بالآية ودلالة ثم على الترتيب، وتسوية السماء قبل خلق آدم عليه السلام، لأن تسوية السماء كانت في جملة الأيام الستة لقوله تعالى: رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها «3» إلى قوله جل وعلا وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «4» ودلالة الحديث الصحيح المجمع عليه على أن خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة بعد كمال المخلوقات أما آخر الأيام الستة إن قلنا إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ابتداء الخلق يوم الأحد، كما يقوله المؤرخون وأهل الكتاب، وهو المشهور عند أكثر الناس، وأما في اليوم السابع فهو خارج عن الأيام الستة كما يقتضيه الحديث، الذي أشرنا إليه فيما سبق الذي في صحيح مسلم، الذي صدره إن الله تعالى خلق التربة يوم السبت، وإن كان فيه كلام. وأما تأخر خلق آدم عليه السلام، فلا كلام فيه فثبت بهذا أن خلق الخيل قبل خلق آدم عليه السلام، وهي من جملة المخلوقات في الأيام الستة لا كما يقوله بعض الجهلة الكفرة. ويروي فيه أحاديث موضوعة لا تصدر إلا عن اسخف المجانين لا حاجة بنا إلى ذكرها. ومن الآيات قوله «1» تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وجه الاستدلال بهذه الآية أن الأسماء كلها إما أن يراد بها نفس الأسماء أو صفات المسميات، ومنافعها وعلى كلا التقديرين المسميات موجودة في ذلك الوقت للإشارة إليها بقوله: هؤلاء. ومن جملة المسميات الخيل، فلتكن موجودة حينئذ. والأسماء عام بالألف واللام مؤكدة بقوله تعالى: كُلَّها* فتقوى العموم فيه. والمسميات لا بد من إرادتها بقوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ وقوله تعالى: بِأَسْمائِهِمْ* فهذا دليل قاطع في ذلك. والعموم شامل للخيل فمن رأى دلالة العموم قطيعة، يقطع بدخولها ومن لا يرى ذلك يستدل به فيه كما يستدل بسائر الأدلة الشرعية. ومن الآيات قوله تعالى في سورة الم تَنْزِيلُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ* «2» وجه الاستدلال اقتضاؤها خلق ما بينهما في الستة، وقد قلنا إن خلق آدم عليه السلام خارج عن الأيام الستة بعدها أو حاصل في آخرها بعد خلق غيره كما سبق وفي الآيات قوله «3» تعالى في سورة ق وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ وجه الاستدلال بها ما قد مناه فيما قبلها، فهذه أربع آيات تدل على ذلك فيها كفاية. وقد جاء عن وهب بن منبه في الاسرائيليات، أن الخيل خلقت من ريح الجنوب وذلك لا ينافي ما قلناه، ولا تلتزم صحته، لأنا لا نصحح إلا ما صح لنا، عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الخيل، كانت وحوشا وأن الله تعالى ذللها لإسماعيل عليه الصلاة والسلام. وذلك لا ينافي ما قلناه، فقد تكون مخلوقة من قبل آدم عليه السلام، واستمرت على وحشيتها إلى عهد إسماعيل عليه السلام. أو كانت تركب في وقت، ثم توحشت ثم ذللت لإسماعيل عليه السلام. وليس في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة دليل، فالمعتمد ما قلناه من دلالة القرآن والذي قيل من أن إسماعيل عليه السلام أول من ركبها أمر مشهور ولكن اسناده ليس صحيحا حتى نلتزمه. وقد قلنا إنا لا نلتزم إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وفي تفسير القرطبي من رواية الترمذي الحكيم، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أذن الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام برفع القواعد، قال الله تبارك وتعالى إني معطيكما كنزا ادخرته لكما. ثم أوحى الله إلى إسماعيل عليه السلام، أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز، فخرج إلى أجياد ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 فألهمه الله تعالى الدعاء، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من ناصيتها وذللها الله تعالى له. ولو ذكرنا ما قال الناس في ذلك، وشرحناه بطوله لطال. فقد تكلم الناس في ذلك كثيرا وذكروا من خواص الخيل ومنافعها شيئا كثيرا، ليس ذلك كله مما نلتزم صحته، ومطالبة القاصد بسرعة الجواب، في أسرع وقت، تقتضي الاقتصار على ما قلناه، وفيه كفاية. وأما قولنا إن خلق الذكور قبل الإناث، فلأمرين: أحدهما شرف الذكر على الأنثى، والثاني حرارته وإن كان الإثنان من جنس واحد، من مزاج واحد، فأحدهما أكثر حرارة من الآخر، فقد جرت عادة القدرة الإلهية بتكوين أقواهما حرارة قبل الآخر، والذكر أقوى حرارة من الأنثى، فناسب أن يكون وجوده أسبق ولتحصل المنة به أكثر، ولذلك كان خلق آدم عليه السلام قبل خلق حوّاء، ولأن أعظم ما يقصد له الخيل الجهاد، والذكر في الجهاد خير من الأنثى، لأن الذكر أجرى وأجرأ، أعني أشد جريا وأقوى جراءة، ويقاتل مع راكبه والأنثى بخلاف ذلك، وقد تقطع بصاحبها أحوج ما يكون إليها، إذا كانت وديقا، ورأت فحلا، ولا يرد على ذلك ركوب جبريل عليه السلام أنثى، لما جاز البحر بموسى عليه السلام، لأن ذلك لركوب فرعون فحلا فقصد طلبه للأنثى وعجز فرعون عن إمساك رأسه. وأما قولنا إن العربيات قبل البراذين، فلما ذكر من حديث إسماعيل عليه السلام، ولأن العربيات أشرف وآصل. والبرذون إنما يكون بعارض أو علة إما فيه وإما في أبيه أو أمه، ولم تكن البراذين تذكر فيما خلا من الزمان ألا ترى إلى قصة إسماعيل عليه السلام، وقصة سليمان عليه السلام، وإنما البراذين ما انتحس من الخيل، حتى اختلف العلماء هل يسهم كما يسهم للفرس العربي أو لا؟ وفي حديث من مراسيل مكحول، في بعض ألفاظه «للفرس سهمان وللهجين سهم» . فهذه الرواية تقتضي أن الهجين لا يسمى فرسا، والهجين هو البرذون أو قريب منه. وبالجملة البراذين حثالة الخيل وما كان الله تعالى ليخلق من الجنس حثالة في الأول. وأما الأحاديث النبوية والآثار الصحيحة، فإن ما جاء منها في فضيلة الخيل وسباقها، وشياتها وفضيلة اتخاذها، وبركتها والنفقة عليها وخدمتها، ومسح نواصيها والتماس نسلها، وثمنها ونمائها، والنهي عن خصائها، وجز نواصيها وأذنابها وإزالتها، وفيما يقسم لصاحبها من الغنيمة واختلاف العلماء فيه، وهل يجب فيها زكاة أو لا؟ وغير ذلك أضرّ بنا للعجلة. وهذه نبذة يسيرة كتبتها على سبيل العجلة في ساعة من النهار، ولعجلة المطالب بها، وإن اخترتم كتبت فيها كتابا مستقلا إن شاء الله تعالى. الحكم: أكل لحوم الخيل يأتي إن شاء الله تعالى، في باب الفاء في لفظ الفرس. وذكر الصميري، في شرح الكفاية، أنه لا يجوز بيعها لأهل الحرب كالسلاح، ويكره أن تقلد الأوتار لما روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي بشير الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك قال الخطابي: «وأمره صلى الله عليه وسلم بقطع قلائد الخيل» . قال مالك: أراه من أجل العين. وقال غيره: إنما أمر بقطعها لأنهم كانوا يعلقون فيها الأجراس، وقال آخرون: لئلا تختنق بها عند شدة الركض، ويحتمل أن يكون أراد عين الوتر خاصة دون غيره من السيور والخيوط. وقيل: معناه لا تطلبوا عليها الأوتار والدخول ولا تركضوها في درك الثار، على ما كان من عادتهم في الجاهلية والسبق فيها معتبر بالأعناق، وفي الإبل بالأكتاف، لأن الإبل ترفع أعناقها في العدو، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فلا يمكن اعتبار مدها، والخيل تمدها. والمراد: إذا استوت أعناقها في الطول والقصر والإرتفاع لقوله «1» صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر بإذنه» . وفي المستدرك وسنن أبي داود وابن ماجة ومسند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «2» قال: «من أدخل فرسا بين فرسين، ولا يأمن أن يسبق فليس بقمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار» . والصحيح أن الذمي يمنع من ركوبها، لقوله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ فأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه، ولأن ظهورها عز، وهم ضربت عليهم الذلة. وفي وجه أنهم لا يمنعون وينسب لأبي حنيفة مثله. وقال الشيخ أبو محمد الجويني: يمنعون من الشريفة دون البراذين الخسيسة. وألحق الإمام والغزالي البغال النفيسة بالخيل، وجزم به الفوراني ولم يقيده بالنفيسة. ولا زكاة في الخيل عند الجمهور، لقوله «3» صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» . متفق عليه. وأوجبها أبو حنيفة في إناثها المنفردة أو المجتمعة مع الذكور فعند ذلك صاحبها بالخيار، وإن شاء أعطى عن كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأعطى من كل مائتي درهم خمسة دراهم، وإن كانت ذكورا منفردة فلا شيء فيها. الأمثال: قالوا «4» : «الخيل ميامين» . أي مباركات. قالوا: «الخيل أعلم بفرسانها» «5» . يضرب للرجل يظن أن عنده غناء ولا غناء عنده. ومن كلمات النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يسبق إليها قوله: «يا خيل الله اركبي» . قالها يوم حنين في حديث أخرجه مسلم وهو على حذف مضاف، أراد صلى الله عليه وسلم: «يا فرسان خيل الله اركبي» . وهو من أحسن المجازات، كقوله «6» تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال الجاحظ، في كتاب البيان والتبيين: عن يونس بن حبيب إنه قال: لم يبلغنا من بدائع الكلام ما بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغلط في هذا الحديث ونسب إلى التصحيف، وإنما قال القائل: ما بلغنا عن البتي، يريد عثمان البتي، فصحف الجاحظ. قالوا: والنبي صلى الله عليه وسلم أجل من أن يخلط مع غيره من الفصحاء حتى يقال: ما بلغنا عنه من الفصاحة أكثر من الذي بلغنا عن غيره، كلامه أجل من ذلك وأعلى صلى الله عليه وسلم. الخواص: الخيل إذا سقيت الزرنيخ الأحمر قتلها. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في باب الفاء في لفظ الفرس ويأتي طرف من خواصه. التعبير: الخيل في المنام قوّة وزينة وعز وهي أشرف ما ركب من الدواب، فمن رأى عنده منها شئيا نال قوّة وعزا. وربما دل ذلك على اتساع حاله، وادرار رزقه، وانتصاره على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 أعدائه، لقوله «1» تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ وربما ظفر بعدوّه لقوله «2» عز وجل: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ومن رأى خيلا تتطاير في الهواء فإنها فتنة. ولا خير في ركوب الخيل في غير محل الركوب كالسطح والحائط ونحوهما، وخيل البريد في الرؤيا قرب أجل من ركبها وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في باب الفاء في لفظ الفرس كما وعدنا والله أعلم. ومما جرب: لمغل الخيل والدواب أن يكتب على الحوافر الأربع: بسم الله الرحمن الرحيم فأصابها إعصار فيه نار، فاخترقت عجفون عجفون عجفون شاشيك شاشيك شاشيك وأيضا يكتب لحمر الخيل والدواب ويعلق عليها وقد جرب ولا طلهه هو هو هو رهت هر هر هر هر هر هر وهو هو هو هو هو هو هـ ه هـ ه هـ أمها هيالولوس درروبر حفرب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أم خنور: على وزن التنور والسفود الضبع وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الضاد المعجمة الكلام عليه والله الموفق للصواب. باب الدال المهملة الدابة: ما دب من الحيوان كله، وقد أخرج بعض الناس منها الطير لقوله» تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ورد بقوله «4» تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ قال الشيخ تاج الدين بن عطاء رحمه الله تعالى: وهذه الآية مصرحة بضمان الحق الرزق، وقطعت ورود الهواجس والخواطر عن قلوب المؤمنين، فإن وردت على قلوبهم كرت عليها جيوش الإيمان بالله تعالى، والثقة به فهزمتها بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فإذا هو زاهق ولأن الطير يدب على الأرض برجليه في بعض حالاته قال الأعشى «5» : بنات كغصن البان ترتج إن مشت ... دبيب قطا البطحاء في كل منهل وقال «6» تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وقال «7» عز وجل: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ قال ابن عطية: مقصود الآية أن يبيّن أن هذه الطائفة العاتية من الكفار هي شر الناس عند الله تعالى، وأنها في أخس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 المنازل لديه وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم، وليفضل الكلب والخنزير والفواسق الخمس، وغيرها عليهم. والدواب كل ما دب يجمع الحيوان بجملته. وفي الصحيحين: عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال «1» : «مستريح ومستراح منه» قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «العبد المؤمن مستريح من وصب الدنيا ونصبها إلى رحمة الله تعالى والعبد الفاجر تستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب» . وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن إبراهيم بن محمد عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «2» قال: «ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية أن تقوم الساعة» . يروي مصيخة ومسيخة بالصاد والسين والأصل الصاد ومعانهما منصتة مستمعة. وفي الحلية: في ترجمة أبي لبابة الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وهو من أهل الصفة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «إن يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى ما من ملك مقرب، ولا سماء ولا أرض، ولا جبال ولا رياح، ولا بحر إلا وهو مشفق من يوم الجمعة أن تقوم الساعة» . وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي وقال «4» : «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى المغرب» . وإعلم: أنه سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء بلا كلفة ونصب، ويختار ما يشاء بلا زلفة وسبب، يخلق ما يشاء بلا علاج، ويختار ما يشاء بلا احتياج، يخلق ما يشاء علما بربوبيته، ويختار ما يشاء دلالة على وحدانيته، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوّا كبيرا. وفي كامل ابن الأثير إن كسرى كان له خمسون ألف دابة وثلاثة آلاف امرأة. غريبة: في تاريخ ابن خلكان، في ترجمة ركن الدولة بن بويه، أنه حارب عدوا له وضاقت الميرة على الطائفتين، حتى ذبحوا دوابهم، ولو أمكن ركن الدولة الانهزام لفعل، فاستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في الهرب، فقال له: لا ملجأ لك إلا إلى الله تعالى، فانو للمسلمين خيرا، وصمم العزم على حسن السيرة والإحسان، فإن الحيل البشرية كلها تقطعت بنا، وإن انهزمنا تبعونا وقتلونا، وهم أكثر منا، فقال قد سبقتك إلى هذا يا أبا الفضل، قال أبو الفضل: ثم إن ركن الدولة استدعاني في تلك الليلة في الثلث الأخير، وقال: رأيت الساعة في منامي كأني على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 دابتي فيروز. وقد انهزم عدونا، وأنت تسير إلى جانبي وقد جاءنا الفرج من حيث لا نحتسب، فمددت عيني فرأيت على الأرض خاتما فأخذته فإذا فصه فيروزج، فجعلته في إصبعي وتبركت به فانتهيت، وقد أيقنت بالظفر فإن الفيروزج الفرج جاء ومعناه الظفر، ولذلك لقب الدابة فيروز. قال ابن العميد: فلم أبرح إذ أتانا الخبر والبشارة بأن العدو قد رحل وتركوا خيامهم، فما صدقنا حتى تواترت الأخبار فركبنا ولا نعرف سبب هزيمتهم وسرنا حذرين من كيدهم ومكرهم، وسرت إلى جانبه وهو على دابته فيروز، فصاح ركن الدولة بغلام بين يديه ناولني ذلك الخاتم فأخذ خاتما من الأرض فناوله إياه فإذا هو من فيروزج فجعله في اصبعه، وقال: هذا تأويل رؤياي، وهذا هو الخاتم الذي رأيته في منامي بعينه. قال: وهذا عن أعجب ما يحكى وإسم ركن الدولة الحسن أبو علي، وكان ملكا جليلا مهابا وكان قد ملك أصبهان والري وهمذان، وجميع عراق العجم وقد فتح أكثر البلاد وملكها وقرر قواعدها وضبطها. توفي في المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة وكان عمره تسعا وتسعين سنة وكانت مدة ملكه أربعا وأربعين سنة. وفي شفاء الصدور لابن سبع السبتي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «1» قال: «لا تضربوا وجوه الدواب فإن كل شيء يسبح بحمده» وقد تقدم عنه حديث في البهيمة قريب من هذا وفي كتاب الاحياء في باب كسر الشهوتين، حديث «لا يستدير الرغيف، ويوضع بين يديك حتى يعمل فيه ثلاثمائة وستون صانعا أو لهم ميكائيل الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجي سحابا، ثم الشمس والقمر والأفلاك، وملوك الهواء ودواب الأرض، وآخر ذلك الخباز وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «2» وروى الإمام أحمد والبيهقي في الشعب، عن محمد بن سيرين، قال: خرجت دابة تقتل الناس، فمن دنا منها قتلته فجاء رجل أعور فقال: دعوني وإياها فدنا منها فوضعت رأسها له حتى قتلها. فقالوا: حدثنا بأمرك، فقال: ما أصبت ذنبا قط إلا ذنبا واحدا بعيني هذه، فأخذت سهما وفقأتها به. قال الإمام أحمد: ولعل هذا كان جائزا في شريعة بني إسرائيل، أو في شريعة من كان قبلنا أما في شريعتنا فلا يجوز فقء العين، التي ينظر بها إلى ما لا يحل له. لكن يستغفر الله تعالى من ذلك ولا يعود إليه. وذكر «3» ابن خلكان في ترجمة الربيع الجيزي أنه مر يوما بسكة من سكك مصر، فطرحت عليه إجانة من رماد، فنزل عن دابته، ونفض ثيابه فقيل له ألا تزجرهم! فقال: من استحق النار فصولح على الرماد، لم يجز له أن يغضب. والربيع بن سلمان هذا صاحب الشافعي، وهو أحد رواة القول الجديد عن الشافعي. وتوفي سنة خمس ومائتين. والجيزي نسبة إلى الجيزة قبالة مصر، والأهرام في عملها بالقرب منها، وهي من عجائب أبنية الدنيا، والأهرام قبور لملوك عظام، أرادوا أن يتميزوا بها على سائر الملوك بعد مماتهم، كما تميزوا عليهم في حياتهم. قيل: إن المأمون لما وصل مصر أمر بنقب أحد الهرمين فنقب بعد جهد شديد، وغرامة نفقة عظيمة، فوجد داخله مراق ومها، ويعسر سلوكها، ووجد في أعلاها بيتا، مكعبا، طول كل ضلع من أضلاعه ثمانية أذرع، وفي وسطه حوض من صوّان مطبق فيه رمة بالية، قد أتت عليها العصور فكف عن نقب ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 سواه. ونقل أن هرمس الأول، وهو أخنوخ وهو ادريس استدل من أحوال الكواكب، على كون الطوفان فأمر ببنيان الأهرام، ويقال: إنه ابتناها في مدة ستة أشهر وكتب فيها: قل لمن يأتي بعدنا يهدمها في ستمائة عام، والهدم أيسر من البنيان وكسوناها الديباج فليكسها الحصر والحصر أيسر من الديباج. وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتاب سلوة الاحزان: ومن عجائب الهرمين، أن سمك كل واحد منهما أربعمائة ذراع من رخام ومرمر، وفيها مكتوب أنا بنيتها بملكي، فمن ادعى قوة فليهدمها فإن الهدم أيسر من البناء، قال ابن المنادي: بلغنا أنهم قدروا خراج الدنيا مرارا، فإذا هو لا يقوم بهدمها والله أعلم. وفي صحيح «1» مسلم وغيره عن صهيب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له وفي رواية ساحر فقال الساحر: إني قد كبرت وأخاف أن أموت فينقطع عنكم علمي ولا يكون فيكم من يعلمه فانظروا إلي غلاما فهيما أو قال فطنا لقنا فأعلمه علمي هذا، فنظروا له غلاما على ما وصف، وأمروه أن يحضر ذلك الساحر، وأن يختلف إليه، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة قال معمر: أحسب أن أصحاب الصوامع يومئذ كانوا مسلمين فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به، فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أنا عبد الله، فجعل الغلام يمكث عند الراهب. ويبطىء على الساحر، فأرسل إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني، فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر. فبينما الغلام على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة وقد حبست الناس، فقال: اليوم يبين أمر الراهب من أمر الساحر، فأخذ حجرا وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، ثم رمى بالحجر فقتلها. فقال الناس من قتلها؟ فقالوا: الغلام. ففزع الناس، وقالوا: لقد علم هذا الغلام علما لم يعلمه أحد. قال: فسمع به أعمى، كان جليسا للملك، فقال له: إن رددت بصري فلك كذا وكذا! فقال له: لا أريد منك شيئا ولكن أرأيت إن رجع إليك بصرك، أتؤمن بالذي رده لك؟ قال: نعم فدعا الله تعالى فرد عليه بصره، فأمن الأعمى، وإنه جاء إلى الملك بعد ما شفي، فجلس معه كما كان يجلس، فقال له: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي قال: وهل لك رب غيري؟ قال: الله ربي وربك. فأمر بالمنشار فوضع على رأسه حتى وقع شقاه» . وفي رواية الترمذي أن تلك الدابة كانت أسدا وأن الغلام لما قتلها أخبر الراهب فقال له إن لك شأنا وإنك تبتلى فلا تدل علي. وإن الملك بلغه أمرهم فبعث إليهم فأتي بهم إليه فقال: لاقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه، ثم أمر بالراهب وبالرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق كل واحد منهما فقتله، ثم قتل المقعد بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام، فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا، فألقوه من رأسه، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل، فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه، قال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فجعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردون منه حتى لم يبق منهم إلا الغلام. قال: فرجع الغلام يمشي حتى أتى الملك فقال له: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم ربي بما شاء، فأمر الملك أن ينطلقوا به إلى البحر، فيلقوه فيه، فانطلقوا به إلى البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 فأغرق الله عز وجل الذين كانوا معه، وأنجاه. فأقبل الغلام يمشي على وجه الماء حتى أتى الملك فتحير الملك في نفسه، فقال له الغلام: أتريد أن تقتلني؟ قال: نعم. قال: إنك لا تقدر على ذلك حتى تصلبني وترميني بسهم من كنانتي وتقول إذا رميتني: بسم الله رب هذا الغلام بعد أن تجمع الناس في صعيد واحد. قال: فجمع الملك الناس في صعيد واحد وأمر بالغلام أن يصلب فصلب، وأخذ الملك سهما من كناية الغلام وقال: بسم الله رب هذا الغلام ورماه فوقع السهم في صدغه فقتله ووضع الغلام يده على صدغه فقال الناس: آمنا برب هذا الغلام. فقيل للملك: إنك جزعت حين خالفك ثلاثة، فهذا العالم كلهم قد خالفوك فأمر بالأخدود، فخد أخدودا ثم ألقي فيه الحطب والنار ثم جمع الناس وقال لهم: من رجع عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار. فجعل يلقيهم في ذلك الأخدود. فذلك قوله «1» تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ زاد مسلم فأتى بامرأة لتلقى في النار ومعها صبي رضيع، فجزعت فقال لها: الغلام يا أماه لا تجزعي فإنك على الحق. وذكر ابن قتيبة أن الغلام الرضيع، كان عمره سبعة أشهر. قال الترمذي وإن الغلام أخرج في زمان عمر رضي الله تعالى عنه ويده على صدغه كما وضعها حين قتل. وذكر صاحب السيرة محمد بن إسحاق فيها أن إسمه عبد الله بن التامر. وأن رجلا من أهل نجران حفر خربة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه في بعض حاجته، فوجده تحت الردم قاعدا واضعا يده على ضربة في صدغه، وفي يده خاتم مكتوب عليه «ربي الله» فكتبوا بذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه فكتب إليهم أن أقروه على حاله ففعلوا. قال السهيلي. ويصدقه قوله «2» عز وجل وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» . خرجه «3» أبو داود وذكر أبو جعفر الداودي هذا الحديث بزيادة ذكر الشهداء والعلماء والمؤذنين، قال: وهي زيادة غريبة، لكن الداودي من أهل الثقة والعلم. انتهى قال ابن بشكوال وكان إسم ذلك الملك يوسف ذا نواس، وكان بنجران وكان ملك حمير وما حوله، وقيل إسمه زرعة ذو نواس، وكان على دين اليهودية قاله السمرقندي. والوقعة كانت قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة، وكان إسم ذلك الراهب قيتمون، قاله ابن بشكوال. وفي المثل السائر: «فلان أكذب من دبّ ودرج» «4» . قال الجوهري: معناه أكذب الأحياء والأموات، لأنهم يدرجون في الأكفان وروى الترمذي الحكيم، عن زيد بن أسلم أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر رضي الله تعالى عنهم في نفر منهم لما هاجروا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أرملوا من الزاد، فأرسلوا قاصدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، فلما انتهى إليه سمعه يقرأ «5» وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها فقال الرجل: ما الأشعريون بأهون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 على الله من الدواب، فرجع ولم يدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأتى أصحابه وقال لهم: أبشروا فقد جاءكم الغوث فظنوا أنه قد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بحالهم، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان معهما قصعة مملوأة خبزا ولحما فأكلوا ما شاء الله، ثم قال بعضهم لبعض: ردوا بقية هذا الطعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فردوه، ثم إنهم أتوه فقالوا: يا رسول الله لم نر طعاما أكثر ولا أطيب من طعام أرسلته إلينا! فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أرسلنا إليكم شيئا فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم إليه، فسأله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال «1» صلى الله عليه وسلم: «ذلكم شيء رزقكموه الله عزّ وجلّ» . قال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري: هذه آية مصرحة بضمان الحق الرزق، وقطعت ورود الهواجس والخواطر عن قلوب المؤمنين، فإن وردت على قلوبهم، كرت عليها جيوش الإيمان بالله والثقة به وبضمانه فهزمتها بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. وذكر: ابن السني عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: يا عباد الله احبسوا فإن الله عز وجل في الأرض حابسا يحبسها» . قال: الإمام النووي رحمه الله تعالى حكى لي بعض شيوخنا الكبار في العلم، أنه انفلتت له دابة، أظنها بغلة، وكان يعرف هذا الحديث، فقاله فحبسها الله تعالى عليه في الحال. قال: وكنت أنا مرة مع جماعة، فانفلتت منهم بهيمة، فعجزوا عنها فقلت هذا الحديث فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام. وروى ابن السني أيضا، عن الإمام السيد الجليل المجمع على جلالته وحفظه، وديانته وورعه ونزاهته، أبي عبد الله يونس بن عبيد بن دينار المصري التابعي، المشهور، رحمه الله تعالى، أنه قال: ليس رجل يكون على دابة صعبة، فيقول في أذنها: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ «3» إلا وقفت بإذن الله تعالى. وروى الطبراني، في معجمه الأوسط، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ساء خلقه من الرقيق والدواب والصبيان فاقرؤوا في أذنه أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ . وقد تقدم في باب الباء الموحدة في لفظ البلغة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب بغلة فحادت به فحبسها، وأمر رجلا أن يقرأ عليها قل أعوذ برب الفلق فسكنت. فرع: في كتب الحنابلة يجوز الانتفاع بالدابة في غير ما خلقت له كالبقر للحمل واللركوب، والإبل والحمير للحرث وقوله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يسوق بقرة إذ أراد أن يركبها فقالت: إنا لم نخلق لذلك» . متفق «4» عليه. المراد أنه معظم منافعها ولا يلزم منه منع غير ذلك. وقال الإمام أحمد من شتم دابة، قال الصالحون: لا تقبل شهادته لحديث المرأة التي لعنت الناقة. وفي صحيح «5» مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة» . فرع: يجب على مالك الدابة علفها ورعيها وسقيها لحرمة الروح كما في الصحيح عذبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 امرأة في هرة لأنها ذات روح فأشبهت العبد. فإن لم تكن ترعى لزمه أن يعلفها ويسقيها إلى أول شبعها وريها دون غايتهما، وإن كانت ترعى لزمه إرسالها لذلك حتى تشبع وتروى بشرط فقد السباع العادية ووجود الماء، فإن اكتفت بكل من الرعي أو العلف خير بينهما فإن لم تكتف إلا بهما الزماه، وإن احتاجت البهيمة إلى السقي ومعه ماء يحتاج إليه لطهارته سقاها وتيمم، فإن امتنع من العلف أجبر في مأكولة على بيع أو علف أو ذبح، وفي غيرها على بيع أو علف صيانة لها عن الهلاك فإن لم يفعل فعل الحاكم ما تقتضيه المصلحة، فإن كان له مال ظاهر بيع في النفقة، فإن تعذر جميع ذلك فمن بيت المال. فائدة: يستحب أن يقول عند ركوب الدابة ما رواه الحاكم والترمذي وصححاه عن علي بن ربيعة، قال: شهدت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقد أتى بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. ثم قال: الحمد لله ثلاث مرات، ثم قال: الله أكبر ثلاث مرات، ثم قال: سبحانك اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك. فقيل: يا أمير المؤمنين من أي شيء ضحكت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما فعلت، فقلت: يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال: «إن ربك تعالى يعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري» «1» . وروى أبو القاسم الطبراني، في كتاب الدعوات، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا ركب العبد الدابة ولم يذكر إسم الله تعالى، ردفه الشيطان، فقال: تغن فإن كان لا يحسن الغناء، قال له: تمن فلا يزال في أمنيته حتى ينزل» . وفيه عن أبي الدرداء رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم «2» قال: «من قال إذا ركب دابة: بسم الله الذي لا يضر مع إسمه شيء سبحانه ليس له سمي، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعليه السلام. قالت: الدابة: «بارك الله عليك من مؤمن خففت، عن ظهري وأطعت ربك، وأحسنت إلى نفسك بارك الله لك في سفرك وأنجح حاجتك» . وروى ابن أبي الدنيا عن محمد بن ادريس عن أبي النضر الدمشقي عن إسماعيل ابن عياش، عن عمرو بن قيس الملائي، أنه قال: إذا ركب الرجل الدابة، قالت: اللهم اجعله بي رفيقا رحيما، فإذا لعنها، قالت: على أعصانا لله لعنة الله. وفي كامل ابن عدي في ترجمة عباد، ابن كثير الثقفي، وكان شعبة، لا يستغفر له، أنه روى عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اضربوا الدواب على النفار ولا تضربوها على العثار» . فرع: يجوز الارداف على الدابة إذا كانت مطيقة، ولا يجوز إذا لم تطقه. ففي الصحيحين «3» عن اسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أردفه حين دفع من عرفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما، من مزدلفة إلى منى، وأنه صلى الله عليه وسلم أردف معاذا رضي الله تعالى عنه على الرحل، وأردفه على حمار يقال له عفير وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، أن يعتمر بأخته عائشة رضي الله تعالى عنها من التنعيم، فأدرفها وراءه على راحلته، وأردف صلى الله عليه وسلم صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وراءه، حين تزوجها بخيبر» وإذا أردف صاحب الدابة، فهو أحق بصدرها ويكون الرديف وراءه إلا أن يرضى صاحبها بتقديمه لجلالته أو غير ذلك. وأفاد الحافظ ابن منده أن الذين أردفهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون نفسا، ولم يذكر فيهم عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه، ولم يذكر أحد من علماء الحديث والسير أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه. وروى الطبراني عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى أن يركب ثلاثة على دابة «1» » . فرع: قال أصحابنا ما ليس مأكولا من الدواب والطيور، إن كان فيه مضرة متمحضة، استحب قتله للمحرم وغيره كالفواسق الخمس والذئب والأسد والنمر والنسر والحدأة والبرغوث والقمل والزنبور والبق والقراد وأشباهها. فإن كان فيه منفعة ومضرة كالفهد والكلب المعلم والعقاب والبازي والصقر ونحوها فلا يستحب قتله لما فيه من المنفعة، ولا يكره لما فيه من الضرر، وهو الصيال على حمام الناس. والعقر وإن لم يكن فيه نفع ولا ضرر كالخنافسس والدود والجعلان والسرطان والبغاث والرخمة والعظاءة واللجا والذباب وأشباهها، فيكره قتله ولا يحرم، على ما قطع به الجمهور وحكى الإمام وجها شاذا أنه يحرم قتل الطيور دون الحشرات لأنه عبث بلا حاجة. وأما دابة الأرض التي ذكرها الله تعالى في سورة سبأ. فهي الأرضة، وقيل سوسة الخشب قال الله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ «2» السبب في ذلك أن سليمان عليه السلام، كان قد أمر الجن ببناء صرح، فبنوه له، ودخله مختفيا ليصفو له يوم واحد من الدهر عن الكدر، فدخل عليه شاب فقال له: كيف دخلت من غير استئذان؟ فقال له إنما دخلت بإذن. قال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح! فعلم سليمان أنه ملك الموت، أتى ليقبض روحه. فقال: سبحان الله، هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفاء. فقال له: طلبت ما لم يخلق. فاستوثق من الاتكاء على العصا. وقد كانت بيت المقدس بقي من تمام بنائه سنة، فسأل الله تعالى تمامها على يد الإنس والجن. وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة فكانوا يقولون إنه يتحنث أي يعبد ربه، فقبض روحه، وكانت الجن تدعي علم الغيب، فلما قبض، بقيت الجن تعمل على عادتها، وقيل: إن ملك الموت أعلمه أنه بقي من عمره ساعة فدعا الجن فبنوا له الصرح، وقام يصلي متكئا على عصاه، فمات وهو متكىء عليها وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق، فمر واحد منهم فلم يسمع صوته، ثم رجع فسلم فلم يسمع له كلاما، فنظر فإذا هو قد خر ميتا، فعلمت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة. وكان عمره عليه السلام ثلاثا وخمسين سنة. والمنسأة العصا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وكانت من خروب، وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس فينبت له في محرابه كل سنة شجرة، فيسألها ما إسمك؟ فتقول الشجرة: إسمي كذا، فيقول لها: لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا فيأمر بها فتقلع، فإن كانت تنبت بغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو ذات يوم، إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما إسمك؟ قالت: أنا الخروبة خرجت لخراب ملكك. فعرف أنه قد حضر أجله، فاستعد واتخذ منها عصا، واستدعى بزاد سنة، والجن تتوهم أنه يأكل بالليل. وكان أمر الله قدرا مقدورا، وكان الذي ابتدأ في بناء بيت المقدس داود عليه السلام، فرفعه قامة رجل ثم مات، فلما استخلف ابنه سليمان عليه السلام، أحب اتمامه فجمع الجن والشياطين، وقسم عليهم الأعمال، فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح، وجعلها اثني عشر ربضا، وأنزل في كل ربض منها سبطا، فلما فرغ من بناء المدينة، ابتدأ في عمارة المسجد، فوجه الشياطين فرقا فرقا، يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها، والدر الصافي من البحر، وفرقا يقلعون الجواهر والرخام من أماكنها، وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر أنواع الطيب. فأتى من ذلك بشيء لا يحصيه إلا الله تعالى، ثم أحضر الصناع وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة، وتصييرها ألواحا، وثقب اليواقيت واللآلىء، واصلاح الجواهر، فبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي، وسقفه بالواح الجواهر الثمينة، ونضد سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت، وسائر الجواهر وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلماء كالقمر ليلة البدر، فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل، فأعلم أنه قد بناه لله عز وجل خالصا واتخذ ذلك اليوم عيدا. فائدة: قال بعض العلماء: سخر الله عز وجل الجن لسليمان عليه السلام، وأمرهم بطاعته، ووكل بهم ملكا بيده صوت من نار، فمن زاغ منهم عن أمره، ضربه الملك ضربة أحرقته. قال أهل التفسير: أجرى الله تعالى لسليمان عين النحاس ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وكان ذلك بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان من النحاس. وروى الحاكم عن إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان سليمان نبي الله، إذا قام في مصلاه، رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول: ما إسمك؟ فتقول: كذا. فيقول: لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا فإذا كانت لدواء كتبت، وإن كانت لغرس غرست، فبينما هو يصلي يوما إذ رأى شجرة، فقال: ما إسمك؟ قالت: الخروب. فقال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. فقال سليمان عند ذلك: اللهم عم على الجن موتي، حتى يعلم الإنس إن الجن لا تعلم الغيب، قال: فاتخذ منها عصا، وتوكأ عليها، فأكلتها الأرضة، فسقط، فوجدوه ميتا حولا، فتبينت الإنس أن الجن، لو كانوا يعلمون الغيب، ما لبثوا حولا في العذاب المهين «1» » . وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرؤها هكذا ما لبثوا حولا في العذاب المهين، فشكرت الجن الأرضة. وكانت تأتيها بالماء والتراب حيث كانت ثم قال: صحيح الإسناد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وأما الدابة التي هي أحد اشراط الساعة، فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ «1» قال: إذا لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر. قيل: إنها دابة طولها ستون ذراعا ذات قوائم ووبر، وقيل: هي مختلفة تشبه عدة من الحيوانات، يتصدع لها جبل الصفا فتخرج منه ليلة جمع، والناس سائرون إلى متى. وقيل: تخرج من الحجر وقيل: من أرض الطائف، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان عليهما السلام، لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب تضرب المؤمن بالعصا، وتكتب في وجهه مؤمن، وتطبع الكافر بالخاتم وتكتب في وجهه كافر. كذا رواه الحاكم في أواخر المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه عن أبي الطفيل عن أبي شريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «يكون للدابة ثلاث خرجات في الدهر: تخرج أول خرجة بأقصى اليمن، فيفشو ذكرها بالبادية، ولا يدخل ذكرها القرية، يعني مكة. ثم يكون زمان طويل ثم تخرج خرجة أخرى قريبا من مكة فيفشو ذكرها في البادية، ويدخل ذكرها القرية، يعني مكة، ثم يكون زمان فبينما الناس يوما في أعظم المساجد عند الله حرمة، وأحبها إلى الله تعالى، وأكرمها على الله عز وجل، يعني المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد بين الركن الأسود وباب بني مخزوم، فترفض الناس عنها شتى، وتثبت لها عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا الله هربا فتنفض عن رؤوسهم التراب، فتجلو عن وجوههم حتى تظل كأنها الكواكب الدرية، ثم تذهب في الأرض فلا يدركها طالب، ولا يعجزها هارب، حتى إن الرجل ليعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول: أي فلان الآن تصلي؟ فيلتفت إليها فتسمه في وجهه، ثم تذهب فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم، ويشتركون في أموالهم، يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن الكافر يقول: يا مؤمن اقضني، ويقول المؤمن: يا كافر اقضني. وروى السهيلي أن موسى عليه السلام سأل ربه عز وجل أن يريه الدابة التي تكلم الناس، فأخرجها الله له من الأرض، فرأى منظرا أفزعه وهاله، قال: أي رب ردها، فردها. قال: والدابة اسمها أقصد. كذا ذكره محمد بن الحسن المقري في تفسيره انتهى. روى أنها تخرج حين ينقطع الخير، ولا يؤمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يبقى منيب ولا تائب. وفي الحديث «2» : «أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب، من أول اشراط الساعة» . ولم يعين الأول منهما، وكذلك الدجال وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها، والظاهر إن الدابة التي تخرج واحدة، وروي أنه يخرج من كل بلد دابة، مما هو مبثوث نوعها في الأرض، وليست بواحدة، فعلى هذا يكون قوله تعالى دابة إسم جنس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنها الثعبان الذي كان في جوف الكعبة، واختطفه العقاب، حين أرادت قريش بناء البيت الحرام، وأن الطائر حين اختطفها، ألقاها بالحجون، فالتقمتها الأرض، فهي الدابة التي تخرج تكلم الناس، وتخرج عند الصفا. قاله محمد بن الحسن المقري، وهو غريب غير أن الرجل من أهل العلم، ولذلك حكينا قوله، وقال القرطبي: أنها فصيل ناقة صالح، لقوله في الحديث: «تخرج ولها رغاء» . والرغاء لا يكون إلا للإبل وهو غريب أيضا. وفي الميزان للذهبي، عن جابر الجعفي أنه كان يقول: دابة الأرض علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. قال: وكان جابرا الجعفي شيعيا يرى الرجعة أي أن عليا رضي الله تعالى عنه يرجع إلى الدنيا، وقال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: ما لقيت أحدا أكذب من جابر الجعفي، ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح. وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: أخبرني سفيان بن عيينة قال: كنا في منزل جابر الجعفي فتكلم بشيء، فخرجنا مخافة أن يقع علينا السقف، قلت: ومع ذلك روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، ووفاته سنة ست وستين ومائة. واختلف العلماء في كيفية خلق الدابة اختلافا كثيرا فقيل إنها على خلقة الآدميين وقيل: جمعت خلق كل حيوان. وهنا فائدة : وهي أن المفسرين اختلفوا في تفسير قوله «1» تعالى: أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ قيل: تكلمهم ببطلان الأديان، سوى دين الإسلام، قاله السدي. وقيل: كلامها أن تقول لواحد: هذا مؤمن، وتقول لآخر: هذا كافر. وقيل: كلامها ما قاله «2» الله عز وجل أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ ويكون كلامها بالعربية. وروي عن علي رضي الله تعالى عنه، إنه قال: ليست بدابة لها ذنب ولكن كالحية. كأنه يشير إلى أنها رجل والاكثرون على إنها دابة. وروى ابن جريج عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور، وعيناها عينا خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن ايل، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير، بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا. وروى الثعلبي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: تخرج الدابة من صدع في الصفا تجري كجري الفرس ثلاثة أيام وما خرج ثلثها. وروي أيضا عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدابة تخرج من أعظم المساجد حرمة عند الله تعالى، بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت، ومعه المسلمون، فتضطرب الأرض من تحتهم، وينشق الصفا مما يلي المسعى وتخرج الدابة من الصفا، أول ما يبدو منها رأسها، ملمعة ذات وبر وريش، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، تسم الناس مؤمنا وكافرا أما المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينه: مؤمن، وأما الكافر فتترك في وجهه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه: كافر. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرع الصفا بعصاه، وهو محرم، وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه. وعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: تخرج الدابة من شعب أبي قبيس رأسها في السحاب ورجلاها في الأرض. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 قال: «بئس الشعب شعب أجياد» مرتين أو ثلاثا، قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «لأنه تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات، يسمعها من بين الخافقين» . وقيل إن وجهها وجه رجل، وسائر خلقتها كخلقة الطير، فتكلم من رآها أن أهل مكة كانوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن لا يوقنون. فرع: أوصى لرجل بدابة حمل على فرس وبغل وحمار، لأنها في اللغة إسم لما دب على وجه الأرض، ثم قصرها العرف على ذوات الأربع والوصية تنزل على العرف، وإذا ثبت عرف في بلد عم جميع البلاد، كما لو حلف لا يركب دابة فركب كافرا لا يحنث، وإن كان الله تعالى قد سماه دابة وكما لو احلف لا يأكل خبزا حنث بأكل خبز الأرز في طبرستان على الأصح هذا هو المنصوص. وقال ابن سريج: إنما ذكر الشافعي هذا، على عرف أهل مصر، في ركوبها جميعا، واستعمال لفظ الدابة فيها. أما حيث لا يستعمل إلا في الفرس كالعراق، فإنه لا يعطي سواها، وقيل: إن قاله بمصر لم يعط إلا حمارا قاله في البحر ويدخل في لفظ الدابة الكبير والصغير، والذكر والأنثى والسليم والمعيب، وقال المتولي: إلا ما يمكن ركوبه. فرع: يكره دوام الوقوف على الدابة لغير حاجة، وترك النزول عنها للحاجة، لما في سنن أبي داود والبيهقي، من حديث أبي مريم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «1» قال: «إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله عزّ وجلّ إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم في الأرض مستقرا فاقضوا عليها حاجاتكم» . ويجوز الوقوف على ظهرها للحاجة، ريثما تقضى لما روى «2» مسلم وأبو داود والنسائي، عن أم الحصين الأحمسية رضي الله تعالى عنها، قالت: «حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا رضي الله تعالى عنهما، أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة» . وهكذا رواه أحمد والحاكم وابن حبان وصححاه. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام، في الفتاوى الموصلية: النهي عن ركوب الدواب، وهي واقفة محمول على ما إذا كان لغير غرض صحيح، وأما الركوب الطويل في الأغراض الصحيحة، فتارة يكون مندوبا، كالوقوف بعرفة، وتارة يكون واجبا، كوقوف الصفوف في قتال المشركين، وقتال كل من يجب قتاله، وكذلك الحراسة في الجهاد، إذا خيف هجمة العدو، وهذا لا خلاف فيه. وفي حديث أم الحصين رضي الله تعالى عنها دليل على أن للمحرم أن يستظل بالمظال، نازلا بالأرض وراكبا على ظهر الدابة، ورخص فيه أكثر أهل العلم إلا أن مالك بن أنس وأحمد رضي الله تعالى عنهما، كانا يكرهان للمحرم أن يستظل راكبا، لما روى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه رأى رجلا قد جعل على رحله عودا له شعبتان، وجعل عليه ثوبا يستظل به وهو محرم، فقال له ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: اضح للذي حرمت له أي ابرز للشمس، وأما قوله صلى الله عليه وسلم «لا تتخذوا ظهور الدواب منابر» فإنما أراد أن يستوطن ظهورها لغير أرب في ذلك، ولا حاجة. وقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 الرياشي: رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم شديد الحر، وقد ضحى للشمس، فقلت له: يا أبا الفضل إن هذا أمر قد اختلف فيه فلو أخذت بالتوسعة فأنشأ يقول: ضحيت له كي استظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا فوا أسفا إن كان سعيك باطلا ... ويا حسرتا إن كان حجك ناقصا وأحمد بن المعذل هذا بصري مالكي المذهب، يعد من زهاد البصرة وعلمائها وأخوه عبد الصمد بن المعذل شاعر ماهر. الداجن: الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم، وكذلك الناقة والحمام البيوتي. والأنثى داجنة، والجمع دواجن. وقال أهل اللغة: دواجن البيوت ما ألفها من الطير والشاة وغيرهما. وقد دجن في بيته إذا لزمه قال ابن السكيت: شاة داجن وراجن، إذا ألفت البيوت واستأنست. قال: ومن العرب من يقولها بالهاء. وكذلك غير الشاة ككلاب الصيد، وقد أنشد عليه الجوهري بيتا للبيد رضي الله تعالى عنه. قال: وأبو دجانة كنية سماك بن خرشة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في القنفذ. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن ميمونة اخبرته أن داجنة كانت لبعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم فماتت، فقال «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به» . وفيه وفي السنن الأربعة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشرا، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها» . وفي «2» حديثها أيضا: «كانت عندنا داجن فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندنا قم وثبت وإذا خرج صلى الله عليه وسلم جاء وذهب» . وفي الحديث «لعن الله من مثل بدواجنه «3» » . وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال: كانت العضباء داجنا لا تمنع من حوض ولا بيت، وهي ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث الإفك فتدخل الداجن فتأكل من عجينها. تتمة: دجين بن ثابت أبو اليربوعي البصري، روى عن أسلم مولى عمرو بن هشام بن عروة بن الزبير، قال ابن معين: حديثه ليس بشيء. وقال أبو حاتم وأبو زرعة: ضعيف. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الدارقطني وغيره: ليس بالقوي. وقال ابن عدي: روي لنا عن ابن معين إنه قال: دجين هو جحا. وقال البخاري: دجين بن ثابت هو أبو الغصن سمع مسلمة وابن مبارك، وروى عنه وكيع. قال عبد الرحمن بن مهدي قال لنا مرة دجين: وهو جحا، حدثني مولى لعمر بن عبد العزيز فقلنا له إن مولى لعمر بن عبد العزيز لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما هو أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قال: قلنا لعمر ما بالك لا تحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنما أخشى أن أزيد أو أنقص، وإني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «4» : «من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 كذب علي متعمدا فليتبوّأ مقعده من النار» . وقال حمزة والميداني في الأمثال: جحا رجل من فزارة، كنيته أبو الغصن وهو من أحمق الناس. فمن حمقه، أن موسى بن عيسى الهاشمي مر به يوما وهو يحفر بظهر الكوفة موضعا، فقال له: ما بالك يا أبا الغصن لأي شيء تحفر؟ فقال: إني دفنت في هذه الصحراء دراهم ولست أهتدي إلى مكانها. فقال له موسى: كان ينبغي أن تجعل عليها علامة، قال: لقد فعلت، قال: ماذا؟ قال: سحابة في السماء كانت تظلها، ولست أدري موضع العلامة الآن. ومن حمقه أيضا أنه خرج يوما بغلس، فعثر في دهليز منزله بقتيل، فالقاه في بئر هناك، فعلم به أبوه فأخرجه ودفنه، ثم خنق كبشا والقاه في البئر، ثم إن أهل القتيل طافوا في سكك الكوفة يبحثون عنه، فتلقاهم جحا وقال: في دارنا رجل مقتول فانظروا لعله صاحبكم، فغدوا إلى منزله، فأنزلوه في البئر، فلما رأى الكبش، ناداهم هل كان لصاحبكم قرون؟ فضحكوا منه وانصرفوا. ومن حمقه أيضا أن أبا مسلم الخراساني، صاحب الدعوة، لما ورد الكوفة، قال لمن حوله: أيكم يعرف جحا فيدعوه إلي؟ فقال يقطين: أنا. فخرج ودعاه، فلما دخل لم يجد في المجلس غير أبي مسلم ويقطين، فقال جحا: يا يقطين أيكما أبو مسلم؟! وجحا إسم لا ينصرف لأنه معدول من جاح مثل عمر من عامر يقال جحا يجحو جحوا إذا رمى. الدارم: القنفذ. قاله ابن سيده وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف. الدبى: بفتح الدال المهملة وتخفيف الباء الموحدة الجراد قبل أن يطير. الواحدة دباة قال الراجز: كأن خوف قرطها المعقوب ... على دباة أو على يعسوبّ وأرض مدبية أي كثيرة الدبى، وقالوا في أمثالهم «1» : «أكثر من الدبى» . وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يا رسول الله كيف الناس بعد ذلك؟ قال «2» صلى الله عليه وسلم: «دبى يأكل شداده ضعفاءه حتى تقوم الساعة» . وقد تقدم الكلام على عموم الجراد. الدب: من السباع معروف، والأنثى دبة وكنيته أبو جهينة وأبو الجلاح وأبو سلمة وأبو حميد وأبو قتادة وأبو اللماس: وأرض مدبة أي ذات أدباب. والدب يحب العزلة فإذا جاء الشتاء دخل وجاره الذي اتخذه في الغيران، ولا يخرج حتى يطيب الهواء، وإذا جاع يمتص يده ورجليه فيندفع عنه بذلك الجوع. ويخرج في الربيع كاسمن ما يكون. وهو مختلف الطباع، لأنه يأكل ما تأكله السباع، وما ترعاه البهائم، وما يأكله الناس ومن طبعه أنه إذا كان أوان السفاد، خلا كل ذكر بأنثاه، والذكر يسافد أنثاه مضطجعة على الأرض، وتضع الأنثى جروها قطعة لحم غير مميز الجوارح، فتهرب به من موضع إلى موضع، خوفا عليه من النمل، كما تقدم في جهير، وهي مع ذلك تلحسه حتى تتميز أعضاؤه ويتنفس. وفي ولادتها صعوبة وربما أشرفت على التلف حالة الوضع، وزعم بعضهم أنها تلد من فيها، وإنما تلده ناقص الخلق تشوقا للذكر وحرصا على السفاد، ولشدة شهوتها تدعو الآدمي إلى وطئها. ومن شأن هذا الجنس أن يسمن في الشتاء وتقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 فيه حركته وتضع الإناث حينئذ. وإذا جثم في مكان لا يتحرك منه إلى أن يمضي عليه أربعة عشر يوما، وبعد ذلك يتدرج في الحركة. والأنثى إذا انهزمت دفعت جراءها بين يديها، فإذا اشتد خوفها عليها صعدت بها الأشجار. وفي طبعه فطنة عجيبة لقبول التأديب، لكنه لا يطيع معلمه إلا بعنف وضرب شديد. وحكمه: تحريم الأكل لأنه سبع يتقوى بنابه. وقال الإمام أحمد: إن لم يكن له ناب فلا بأس به، لأن الأصل الإباحة، ولم يتحقق وجود المحرم. فائدة: قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في آخر الأذكياء «1» : هرب رجل من أسد، فوقع في بئر، فوقع الأسد خلفه، فإذا في البئر دب، فقال له الأسد: منذ كم لك ههنا؟ قال: منذ أيام، وقد قتلني الجوع. فقال: له الأسد: أنا وأنت نأكل هذا الإنسان وقد شبعنا، فقال له الدب فإذا عاودنا الجوع ما نصنع؟ وإنما الرأي أن نحلف له، أنا لا نؤذيه ليحتال في خلاصنا وخلاصه، فإنه على الحيلة أقدر منا فحلفا له فتشبث حتى وجد نقبا فوصل إليه، ثم إلى الفضاء فتخلص وخلصهما. ومعنى هذا أن العاقل لا يترك الحزم في كل أموره، ولا يتبع شهوته لا سيما إذا علم أن فيها هلاكه بل ينظر في عاقبة أمره ويأخذ بالحزم في ذلك. وحكى القزويني في عجائب المخلوقات أن أسدا قصد إنسانا فهرب والتجأ إلى شجرة، فإذا على بعض أغصانها دب يقطف ثمرتها، فلما رأى الأسد أنه فوق الشجرة، جاء وافترش تحتها ينتظر نزول الإنسان. قال: فنظرت إلى الدب، فإذا هو يشير بإصبعه إلى فيه، أن اسكت لئلا يعرف الأسد أني هنا. قال: فبقيت متحيرا بين الأسد والدب، وكان معي سكين صغير فأخرجته وقطعت بعض الغصن الذي عليه الدب حتى إذا لم يبق منه إلا اليسير سقط الدب بسبب ثقله فوثب الأسد عليه وتصارعا زمانا ثم غلبه الأسد فافترسه ورجع عني. الأمثال: تقدم أنهم قالوا: «أحمق من جهبر» . وهي أنثى الدب. وأما قولهم «2» : «ألوط من دب» . فهو رجل من العرب كان يتجاهر بعمل ذلك. وأما قولهم «3» : «ألوط من ثفر» ، فإنما قالوه لأن الثفر لا يفارق دبر الدابة، وقولهم «4» : «ألوط من راهب» . هذا من قول الشاعر: وألوط من راهب يدّعي ... بأن النساء عليه حرام الخواص: نابه يلقى في لبن المرضعة ويسقاه الصبي تنبت أسنانه بسهولة. وشحمه يزيل البرص طلاء، وإذا شدت عينه اليمنى في خرقة، وعلقت على عضد إنسان لم يخف السباع، وإن علقت على من به الحمى الدائمة ابرأته، ومرارته إذا اكتحل بها مع العسل وماء الرازيانج اذهبت ظلمة البصر، وإذا طلي بذلك موضع داء الثعلب، أنبت الشعر فيه، وإذا شرب من مرارته وزن دانقين بعسل وماء حار، نفع الرئة والبواسير وطرد الرياح. وإذا ربطت مرارته على فخذ الرجل اليمنى جامع ما شاء ولا يضره، ودمه إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 اكتحل به منع طلوع الشعر في اجفان العين. وإن اكتحل به بعد نتفه لم ينبت، وإذا دلك الولد بشحمه، كان له حرزا من كل سوء، وإذا جشي بشحمه موضع الناسور نفعه، وإذا طلي بشحمه كلب جن. وقطعة من جلده إذا علقت على الصبي الذي ساء خلقه يزول عنه ذلك، وعينه اليمنى إذا جففت وعلقت على الطفل لم يفزع في نومه. التعبير: الدب في المنام يدل على الشر والنكد والفتنة، وربما دلت رؤيته على المكر والخديعة، وعلى المرأة الثقيلة البدن الموحشة المنظر، ذات اللهو واللعب والطرب، وربما دلت رؤيته على الأسر والسجن وربما دلت رؤيته على عدو أحمق، لص محتال مخنث، فمن رأى أنه ركب دبا نال ولاية دنيئة، إن كان لها أهلا، وإلا ناله هم وخوف ثم ينجو وربما دل على سفر ثم يرجع إلى مكانه والله تعالى أعلم. الدبدب: حمار الوحش قاله في العباب. وقد تقدم الكلام عليه في باب الحاء المهملة. الدبر: بفتح الدال جماعة النحل. وقال السهيلي الدبر الزنابير، وأما الدبر بكسر الدال فصغار الجراد. قال الأصمعي لا واحد له من لفظه، ويقال إن واحده خشرمة، ويجمع الدبر على دبور قال الهذلي في وصف عسال: إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها. أي لم يخف لسعها به فسر قوله «1» تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ وقوله «2» تعالى: مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ أي من كان يخاف لقاءه. قال النحاس: أجمع أهل التفسير على أن الرجاء في الآيتين بمعنى الخوف. ويقال أيضا للزنابير دبر، كما قاله السهيلي. ومنه قيل لعاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه: حمى الدبر، وذلك أن المشركين لما قتلوه أرادوا أن يمثلوا به، فحماه الله تعالى بالدبر فارتدعوا عنه، حتى أخذه المسلمون فدفنوه. وكان رضي الله تعالى عنه، قد عاهد الله تعالى أن لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك، فحماه الله تعالى منهم بعد وفاته. وفي أوائل تاريخ نيسابور للحاكم عن ثمامة بن عبد الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو ممن روى له الجماعة أنه قال: خرجنا مرة من خراسان ومعنا رجل يشتم أو ينال من أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فنهيناه فأبى، فحضر غداؤنا ذات يوم ثم مضى إلى حاجته فأبطأ علينا فبعثنا في طلبه فرجع إلينا الرسول وقال: أدركوا صاحبكم، فذهبنا إليه فإذا هو قد قعد على حجر يقضي حاجته فخرج عليه عنق من الدبر، فنثرت مفاصله مفصلا مفصلا. قال: فجمعنا عظامه، وإنها لتقع علينا فما تؤذينا، وهي تبري مفاصله. وجاء في الحديث: «لتسلكن سنن من قبلكم ذراعا بذراع، حتى لو سلكوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 خشرم دبر لسلكتموه» «1» والخشرم مأوى النحل. وفي الفائق أن سكينة بنت الحسين رضي الله تعالى عنهما، جاءت إلى أمها الرباب وهي صغيرة تبكي، فقالت: ما بك؟ قالت: مرت بي دبيرة، فلسعتني بأبيرة أرادت تصغير دبرة وهي النحلة سميت بذلك لتدبيرها في عمل العسل. الدبسي: بفتح الدال المهملة وكسر السين المهملة، ويقال له أيضا الدبسي، بضم الدال طائر صغير منسوب إلى دبس الرطب لأنهم يغيرون في النسب كالدهري والسهلي والفامي بائع الفوم، والقياس فومي. والأدبس من الطير والخيل، الذي في لونه غبرة بين السواد والحمرة. وهذا النوع قسم من الحمام البري وهو أصناف مصري وحجازي وعراقي، وهي متقاربة لكن أفخرها المصري. ولونه الدكنة وقيل: هو ذكر اليمام. قال الجاحظ: قال صاحب منطق الطير: يقال في الحمام الوحشي من القماري والفواخت، وما أشبه ذلك: دباسي ويقال: هدل يهدل هديلا، إذا صاح فإذا طرب قيل: غرد يغرد تغريدا والتغريد يكون أيضا للإنسان، وأصله من الطير، وبعضهم يزعم أن الهديل من أسماء الحمامة الذكر قال الراجز «2» : كهداهد كسر الرماة جناحه ... يدعو بقارعة الطريق هديلا وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر الهديل في باب الهاء. روى الإمام أحمد والطبراني ورجال المسند رجال الصحيح عن يحيى بن عمارة عن جده حنش، قال: دخلت الأسواق، فأخذت دبسيتين وأمهما ترفرف عليهما، وأنا أريد أن أذبحهما قال: فدخل علي أبو حنش فأخذ متيخة فضربني بها وقال: ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتي المدينة. المتيخة أصل جريد النخل وأصل العرجون والأسواف، سيأتي إن شاء الله تعالى ذكره في النهاس أيضا في باب النون. وفي الموطأ عن عبد الله بن أبي بكر أن أبا طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه كان يصلي في حائط له، فطار دبسي فأعجبه، وهو طائر في الشجر يلتمس مخرجا، فأتبعه بصره ساعة وهو في صلاته، فلم يدركم صلى فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه من الفتنة. ثم قال: يا رسول الله هو صدقة فضعه حيث شئت، قال مالك: وعن عبد الله بن أبي بكر أن رجلا من الأنصار، كان يصلي في حائط له بالقف في زمن التمر والنخل، قد ذللت فهي مطوقة بثمرها فنظر إليها فأعجبه ما رأى من ثمرها، ثم رجع إلى صلاته فإذا هو لا يدري كم صلى. فقال لقد أصابتني في مالي هذا فتنة. فجاء عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهو يومئذ خليفة فذكر له ذلك وقال: هو صدقة فاجعله في سبيل الخير فباعه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بخمسين ألفا فسمى ذلك الحائط الخمسون والقف واد من أودية المدينة. وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا يعجبه شيء من ماله إلا خرج عنه لله تعالى، وكان رقيقه يعرفون منه ذلك فربما لزم أحدهم المسجد، فإذا رآه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، على تلك الحالة الحسنة عتقه، فيقول له أصحابه: إنهم يخدعونك فيقول: من خدعنا بالله تعالى، انخدعنا له. وطلب منه خادم بثلاثين ألفا، فقال: أخاف أن تفتني دراهم ابن عامر، وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 هو الطالب له، فقال للخادم إذهب فأنت حر لله تعالى. ولذلك قال أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: ما منا أحد إلا وقد مالت به الدنيا، الا ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ولم يمت إلى أن أعتق ألف نسمة أو أكثر من ذلك. ومناقبه وفضائله رضي الله تعالى عنه لا تحصى قال حجة الإسلام الغزالي: وكانوا يفعلون ذلك قطعا لمادة الفكرة، وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة وهذا هو الدواء القاطع لمادة العلة ولا يغني غيره. ومن طبع الدبسي إنه لا يرى ساقطا على وجه الأرض بل في الشتاء له مشتى وفي الصيف له مصيف ولا يعرف له وكره. وحكمه: الحل بالاتفاق. وفي سنن البيهقي عن ابن أبي ليلى، عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال في الخضري: والدبسي والقمري والقطا والحجل إذا قتله المحرم شاة شاة. الخواص: قال صاحب المنهاج في الطب: إنه أفضل الطير البري، وبعده الشحرور والسماني، ثم الحجل والدراج، وفراخ الحمام والورشان وهو حار يابس. والدباساء ممدودا الأنثى من الجراد. وهو في المنام كالسماني وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليهما في باب السين المهملة فلينظر هناك. الدجاج: مثلث الدال حكاه ابن معن الدمشقي وابن مالك وغيرهما، الواحدة دجاجة الذكر والأنثى فيه سواء والهاء فيه كبطة وحمامة، وقال ابن سيده: سميت الدجاجة دجاجة لإقبالها وادبارها يقال: دج القوم يدجون دجيجا إذا مشوا مشيا رويدا في تقارب خطو. وقيل هو أن يقبلوا ويدبروا. وقال الأصمعي: الدجاجة بالفتح الواحدة من الدجاج، وبالكسر الكبة من الغزل. وقال غيره: الكبة من الغزل دجاجة بفتح الدال أيضا. قاله الإمام ابن بيدار في شرح الفصيح. وكنية الدجاجة أم الوليد وأم حفصة وأم جعفر وأم عقبة وأم إحدى وعشرين وأم قوب وأم نافع. وإذا هرمت الدجاجة لم يكن لبيضها مح، وإذا كانت كذلك لم يخلق منها فرخ، ومن عجيب أمرها أنه يمر بها سائر السباع فلا تخشاها فإذا مر بها ابن آوى وهي على سطح أو جدار أو شجرة رمت بنفسها إليه. وتوصف الدجاجة بقلة النوم، وسرعة الانتباه. يقال إن نومها واستيقاظها إنما هو بمقدار خروج النفس ورجوعه، ويقال إنها تفعل ذلك من شدة الجبن، وأكثر ما عندها من الحيلة أنها لا تنام على الأرض، بل ترتفع على رف أو على جذع، أو جدار أو ما قارب ذلك، وإذا غربت الشمس فزعت إلى تلك العادة وبادرت إليها. والفرخ يخرج من البيضة كاسيا كاسيا، ظريفا مقبولا، سريع الحركة يدعى فيجيب، ثم هو كلما مرت عليه الأيام، حمق ونقص حسنه وكيسه وزاد قبحه، فلا يزال كذلك حتى ينسلخ من جميع ما كان فيه إلى أن يصير إلى حالة لا يصلح فيها إلا للذبح أو الصياح أو البيض. والدجاج مشترك الطبيعة يأكل اللحم والذباب، وذلك من طباع الجوارح، ويأكل الخبز ويلتقط الحب، وذلك من طباع البهائم والطير. ويعرف الديك من الدجاجة وهو في البيضة وذلك أن البيضة إذا كانت مستطيلة محدودة الأطراف فهي مخرج الإناث، وإذا كانت مستديرة عريضة الأطراف، فهي مخرج الذكور. والفرخ يخرج من البيضة تارة بالحضن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 وتارة بأن يدفن في الزبل ونحوه. ومن الدجاج ما يبيض مرتين في اليوم، والدجاجة تبيض في جميع السنة، إلا في شهرين منها شتويين، ويتم خلق البيض في عشرة أيام، وتكون البيضة عند خروجها لينة القشر، فإذا أصابها الهواء يبست، وهي تشتمل على بياض وصفرة، بينهما قشر رقيق، يسمى قميصا، ويعلوه قشر صلب. فالبياض رطوبة مختلطة لزجة متشابهة الأجزاء، وهي بمنزلة المني. والصفرة رطوبة سلسة ناعمة أشبه شيء بدم قد جمد، وهي للفرخ مادة يغتذي بها من سرته. والذي يتكون من الرطوبة البيضاء عين الفرخ ثم دماغه ثم رأسه ثم ينحاز البياض في لفافة واحدة هي جلدة الفرخ، وتنحاز الصفرة في غشاء واحد هي سرته، فيتغذى منها كتغذي الجنين من سرته من دم الحيض، وربما وجد في البيضة الواحدة محان أصفران، فإذا حضنت هذه البيضة خرج منها فرخان، وقد شوهد ذلك. وأغذى البيض وألطفه ذوات الصفرة، وأقله غذاء ما كان من دجاج لا ديك لها، وهذا النوع من البيض، لا يتولد منه حيوان، ولا مما يباض في نقصان القمر على الأكثر، لأن البيض من الاستهلال إلى الابدار يمتلىء ويرطب، فيصلح للكون وبالضد من الابدار إلى المحاق. ويعرف الفرخ الذكر من الأنثى، بعد عشرة أيام، بأن يعلق بمنقاره، فإن تحرك فذكر، وإن سكن فأنثى. وقد وصف الشعراء البيضة بأوصاف مختلفة منها قول أبي الفرج الأصبهاني من أبيات: فيها بدائع صنعة ولطائف ... ألفن بالتقدير والتعليق خلطان مائيان ما اختلطا على ... شكل ومختلف المزاج رقيق روى ابن ماجه «1» من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر الأغنياء باتخاذ الغنم، وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج» . وقال: «عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى» . وفي اسناده علي بن عروة الدمشقي، قال ابن حبان: كان يضع الحديث. قال عبد اللطيف البغدادي: إنما أمر الأغنياء باتخاذ الغنم والفقراء باتخاذ الدجاج لأنه أمر كل قوم بحسب مقدرتهم وما تصل إليه قوتهم والقصد من ذلك كله أن لا يقعد الناس عن الكسب، وإنماء المال وعمارة الدنيا، وأن لا يدعوا التسبب فإن ذلك يوجب التعفف والقناعة، وربما أدّى إلى الغنى والثروة. وترك الكسب والاعراض عنه يوجب الحاجة والمسألة للناس والتكفف منهم، وذلك مذموم شرعا وأما قوله: «عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى» . يعني أن الأغنياء إذا ضيقوا على الفقراء في مكاسبهم، وخالطوهم في معايشهم تعطل سببهم وهلكوا، وفي هلاك الفقراء بوار، وفي ذلك هلاك القرى وبوارها. وفي آخر البخاري «2» وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تلك الكلمة من الحق يختطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة» . وذكر الإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي، في الأذكياء «3» ، عن أحمد بن طولون، صاحب مصر، أنه جلس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 يوما في منتزه له يأكل مع ندمائه فرأى سائلا وعليه ثوب خلق، فوضع يده في رغيف ودجاجة وقطعة لحم وفالوذج وأمر بعض الغلمان بمناولته فأخذ ذلك الغلام وذهب به إلى السائل ورجع، فذكر أنه ما هش له ولا بش، فقال ابن طولون للغلام: ائتني به فأحضره بين يديه فاستنطقه فأحسن الجواب، ولم يضطرب من هيبته، فقال له أحضر لي الكتب التي معك، وأصدقني عمن بعث بك، فقد صح عندي أنك صاحب خبر، وأحضر السياط فاعترف له بذلك. فقال بعض من حضر هذا: والله السحر. فقال أحمد: ما هو بسحر ولكنه قياس صحيح وفراسة، وذلك أني لما رأيت سوء حاله وجهت إليه بطعام يشره إلى أكله الشبعان، فما هش ولا بش ولا مد يده إليه، فأحضرته وخاطبته فتلقاني بقوة جأش وجواب حاضر. فلما رأيت رثاثة حاله، وقوة جأشه، وسرعة جوابه، علمت أنه صاحب خبر انتهى. وقال ابن خلكان في ترجمته «1» : كان أبو العباس أحمد بن طولون صاحب الديار المصرية والشامية والثغور، ملكا عادلا شجاعا متواضعا، حسن السيرة، يحب أهل العلم، كريما له مائدة يحضرها الخاص والعام، كثير الصدقة. نقل أنه قال له وكيله يوما إن امرأة تأتيني وعليها الازار الرفيع، وفي يدها الخاتم الذهب، فتطلب مني أفأعطيها؟ فقال: من مد يده إليك فأعطه. وكان يحفظ القرآن، ورزق حسن الصوت فيه، وكان مع ذلك طائش السيف سفاك الدماء. قيل إنه أحصى من قتله صبرا ومن مات في حبسه فكان ثمانية عشر ألفا توفي سنة سبعين ومائتين بزلق الأمعاء. ويقال إن طولون تبناه ولم يكن ابنه. وروي أن رجلا كان يواظب القراءة على قبره، فرآه ذات ليلة في المنام، فقال: أحب منك أن لا تقرأ علي! قال: ولم؟ قال: لأنه لا تمر بي آية إلا قرعت بها، ويقال لي أما سمعت هذه أما مرت بك هذه؟ اهـ وروى الإمام الحافظ ابن عساكر في تاريخه أن سليمان بن عبد الملك رحمه الله تعالى، كان نهما في الأكل، وقد نقل عنه فيه أشياء غريبة، فمنها أنه اصطبح في بعض الأيام بأربعين دجاجة مشوية، وأربعين بيضة، وأربع وثمانين كلوة بشحمها، وثمانين جردقة، ثم أكل مع الناس على السماط العام. ومنها أنه دخل ذات يوم بستانا له، وكان قد أمر قيمه أن يجني ثماره ويستطيب له، وكان معه أصحابه، فأكل القوم حتى أكتفوا واستمر هو يأكل فأكل أكلا ذريعا، ثم استدعى بشاة مشوية فأكلها، ثم أقبل على الفاكهة فأكل أكلا ذريعا، ثم أتى بدجاحتين مشويتين فأكلهما، ثم مال إلى الفاكهة فأكل أكلا ذريعا، ثم أتى بقعب يقعد فيه الرجل مملوء سمنا وسويقا وسكرا فأكله أجمع، ثم سار إلى دار الخلافة، وأتى بالسماط فما نقص من أكله شيء. ومنها أنه حج فأتى الطائف فأكل سبعمائة رمانة وخروفا وست دجاجات، وأتى بمكوك زبيب طائفي فأكله أجمع. وقيل إنه كان له بستان فجاء رجل ليضمنه ودفع له قدرا من المال، فاستؤذن في ذلك فدخل البستان لينظره وجعل يأكل من ثماره، ثم أذن في ضمانه فلما قيل للضامن أحمل المال، قال: كان ذلك قبل ان يدخله أمير المؤمنين. قيل كان سبب مرضه أنه أكل أربعمائة بيضة، وثمانمائة حبة تين، وأربعمائة كلوة بشحمها، وعشرين دجاجة فحم، وفشت الحمى في عسكره، وكان موته بالتخمة رحمة الله تعالى عليه في مرج دابق. فائدة: ذكر بعض العلماء أن من أكل كثيرا وخاف على نفسه من التخمة، فليمسح على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 بطنه بيده، وليقل: الليلة ليلة عيدي يا كرشي ورضي الله عن سيدي أبي عبد الله القرشي. يفعل ذلك ثلاثا، فإنه لا يضره الأكل وهو عجيب مجرب. وقد روينا بأسانيد شتى من طرق مختلفة، أن امرأة جاءت بولدها إلى سيدي الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله روحه، وقالت: إني رأيت قلب ابني هذا شديد التعلق بك، وقد خرجت عن حقي فيه لله عز وجل ولك، فاقبله فقبله الشيخ، وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق، فدخلت عليه أمه يوما، فوجدته نحيلا مصفرا من آثار الجوع والسهر، ووجدته يأكل قرصا من الشعير، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناء فيه عظام دجاجة مسلوقة، قد أكلها فقالت: يا سيدي تأكل لحم الدجاج ويأكل ابني خبز الشعير، فوضع الشيخ يده على تلك العظام، وقال: قومي بإذن الله تعالى الذي يحيى العظام وهي رميم، فقامت دجاجة سوية وصاحت، فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء. وذكر ابن خلكان أيضا في ترجمة «1» الهيثم بن عدي أن رجلا من الأولين كان يأكل وبين يديه دجاجة مشوية، فجاءه سائل فرده خائبا، وكان الرجل مترفا فوقع بينه وبين امرأته فرقة، وذهب ماله وتزوجت امرأته، فبينما الزوج الثاني يأكل وبين يديه دجاجة مشوية إذ جاءه سائل، فقال لامرأته: ناوليه الدجاجة فناولته، ونظرت إليه فإذا هو زوجها الأول. فأخبرت زوجها الثاني بالقصة فقال الزوج الثاني: وأنا والله ذلك المسكين الأول، خولني الله نعمته وأهله لقلة شكره. وقال الهيثم: خرجت في سفر على ناقة، فأمسيت عند خيمة اعرابي، فنزلت. فقالت ربة الخباء: من أنت؟ فقلت: ضيف. قالت: وما يصنع الضيف عندنا إن الصحراء لواسعة؟ ثم قامت إلى بر فطحنته وعجنته وخبزته، ثم قعدت تأكل، فلم ألبث أن جاء زوجها ومعه لبن، فسلم ثم قال: من الرجل؟ قلت: ضيف. قال: أهلا وسهلا حياك الله، وملأ قعبا من لبن وسقاني. ثم قال: ما أراك أكلت شيئا! وما أراها أطعمتك! فقلت: لا والله. فدخل عليها مغضبا، وقال: ويلك أكلت وتركت الضيف؟ قالت: وما أصنع به أطعمه طعامي؟ وزاد بينهما الكلام، فضربها حتى شجها، ثم أخذ شفرة وخرج إلى ناقتي فنحرها، فقلت: ما صنعت عافاك الله؟ فقال: والله لا يبيت ضيفي جائعا، ثم جمع حطبا، وأجج نارا وأقبل يشوي ويطعمني، ويأكل ويلقي إليها، ويقول: كلي لا أطعمك الله! حتى إذا أصبح تركني ومضى، فقعدت مغموما، فلما تعالى النهار، أقبل ومعه بعير ما يسأم الناظر من النظر إليه، وقال: هذا مكان ناقتك ثم زودني من ذلك اللحم ومما حضره. وخرجت من عنده فضمني الليل إلى خيمة أعرابي، فسلمت فردت صاحبة الخباء علي السلام، وقالت: من الرجل؟ قلت: ضيف. فقالت: مرحبا بك حياك الله وعافاك، فنزلت ثم عمدت إلى بر فطحنته وعجنته وخبزته، ثم روت ذلك بالزبد واللبن ووضعته بين يدي، ومعه دجاجة مشوية، وقالت: كل واعذر، فلم البث إذ أقبل أعرابي كريه المنظر، فسلم فرددت عليه السلام، فقال: من الرجل؟ قلت: ضيف. قال: وما يصنع الضيف عندنا؟ ثم دخل إلى أهله وقال: أين طعامي؟ قالت: أطعمته للضيف. فقال: أتطعمين طعامي للأضياف؟ ثم تكالما فضربها فشجها، فجعلت أضحك فخرج إليّ وقال: ما يضحكك؟ فأخبرته بقصة الرجل والمرأة اللذين نزلت عندهما قبله، فاقبل علي وقال: إن هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 المرأة التي عندي أخت ذلك الرجل، وتلك المرأة التي عنده أختي. قال: فنمت ليلتي متعجبا فلما أن أصبحت انصرفت. الحكم: يحل أكل الدجاج لأنه من الطيبات، لما روى الشيخان والترمذي والنسائي عن زهدم بن مضرب الجرمي قال: كنا عند أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فدعا بمائدة عليها لحم دجاج فدخل رجل من بني تيم الله، أحمر شبيه بالموالي، فقال له: هلم فتلكأ، فقال: هلم فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منه وفي لفظ «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجة «1» » . وهذا الرجل إنما تلكأ لأنه رآه يأكل العذرة فقذره ويحتمل أن يكون تردد لالتباس الحكم عليه، أو لم يكن عنده دليل فتوقف حتى يعلم حكم الله تعالى وقد جاء النهي عن لبن الجلالة ولحمها وبيضها. وفي الكامل والميزان في ترجمة غالب بن عبيد الله الجذري وهو متروك عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياما ثم يأكلها بعد ذلك. وفي فتاوى القاضي حسين لو قال رجل لامرأته إن لم تبيعي هذه الدجاجات فأنت طالق فقتلت واحدة منهن طلقت لتعذر البيع، وإن جرحتها ثم باعتها فإن كانت بخبث لو ذبحت لم تحل لم يصح البيع ووقع الطلاق وإلا فتحل اليمين. فرع لا يجوز بيع دجاجة فيها بيض ببيض كما لا يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بلبن، ويحرم بيع الحنطة بدقيقها والسمسم بكسبه، وما أشبهه لأنه يحرم بيع مال الربا بأصله المشتمل عليه. فرع: البيضة التي في جوف الطائر الميت فيها ثلاثة أوجه حكاها الماوردي والروياني والشاشي أصحها، وهو قول ابن القطان وأبي الفياض، وبه قطع الجمهور إن تصلبت فطاهرة وإلا فنجسة. والثاني طاهرة مطلقا، وبه قال أبو حنيفة لتميزها عنه فصارت بالولد أشبه. والثالث نجسة مطلقا، وبه قال مالك لأنها قبل الإنفصال جزء من الطائر وحكاه المتولي عن نص الشافعي رضي الله تعالى عنه. وهو نقل غريب شاذ ضعيف، وقال صاحب الحاوي والبحر: فلو وضعت هذه البيضة تحت طائر فصارت فرخا، كان الفرخ طاهرا على الأوجه كلها كسائر الحيوان، ولا خلاف أن ظاهر البيضة نجس، وأما البيضة الخارجة في حال حياة الدجاجة فهل يحكم بنجاسة ظاهرها؟ فيه وجهان: حكاهما الماوردي والروياني والبغوي وغيرهم، بناء على الوجهين في نجاسة رطوبة فرج المرأة قال في المهذب: إن المنصوص نجاسة رطوبة فرج المرأة. وقال الماوردي: إن الشافعي رضي الله تعالى عنه قد نص في بعض كتبه على طهارتها. ثم حكى التنجيس عن ابن سريج. فملخص الخلاف فيها قولان لا وجهان. وقال الإمام النووي: رطوبة الفرج طاهرة مطلقا، سواء كان الفرج من بهيمة أو امرأة، وهو الأصح. وإذا فرعنا على نجاسة رطوبة الفرج فنقل النووي في شرح المهذب عن فتاوى ابن الصباغ، ولم يخالفه أن المولود لا يجب غسله إجماعا. وقال في آخر باب الآنية من الشرح المذكور: إن فيه وجهين حكاهما الماوردي والروياني، وقد حكاهما الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في فتاويه. ورأيت في الكافي للخوارزمي أن الماء لا ينجس بوقوعه فيه فيحتمل أن يكون الخلاف مفرعا على القول القديم بعدم وجوب الغسل، لكونه نجسا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 معفوا عنه، وأما إذا انفصل الولد حيا، بعد موتها، فعينه طاهرة بلا خلاف. ويجب غسل ظاهره بلا خلاف. وأما البلل الخارج مع الولد أو غيره فنجس، كما جزم به الرافعي في الشرح الصغير والنووي في شرح المهذب. وقال الإمام لا شك فيه. وأما الرطوبة الخارجة من باطن الفرج فإنها نجسة كما تقدم، وإنما قلنا بطهارة ذكر المجامع ونحوه، على ذلك القول لأنا لا نقطع بخروجها. قال في الكفاية: والفرق بين رطوبة فرج المرأة، ورطوبة باطن الذكر لأنها لزجة لا تنفصل بنفسها، ولا تمازج سائر رطوبات البدن، فلا حكم لها قلت: والرطوبة هي ماء أبيض متردد بين المذي والعرق. كما قاله في شرح المهذب وغيره. وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على الجلالة من الدجاج وغيره في باب السين المهملة في حكم السخلة والله الموفق. الأمثال «1» : قالوا: «أعطف من أم إحدى وعشرين» . وهي الدجاجة كما تقدم. الخواص: لحم الدجاج معتدل الحرارة جيد. وأكل لحم الفتي من الدجاج يزيد في العقل والمني ويصفي الصوت، لكنه يضر بالمعدة والمرتاضين. ودفع مضرته أن يتناول بعده شراب العسل. وهو يولد غذاء معتدلا يوافق من الأمزجة المعتدلة ومن الإنسان الفتيان، ومن الأزمان الربيع. وأعلم أن الدجاج المعتدلة الغذاء ليست حارة مستحيلة: إلى الصفراء، ولا باردة مولدة للبلغم، ولا أعلم من أين أجمعت العامة والأطباء الأغمار على مضرتها بالنقرس وتوليد هاله، والقائلون بذلك لعلهم معتقدون بالخاصية وحسب لا غير. وهي محسنة للون وأدمغتها تزيد في الأدمغة والعقل. وهي من أغذية المترفهين، لا سيما من قبل أن تبيض. وإما بيضها فحار مائل إلى الرطوبة واليبس وقال بياروق: بياضه بارد رطب، وصفرته حارة جيدة للكاد. والطري منفعته تزيد في الباه لكنه إذا أدمن أكله يولد كلفا. وهو بطيء الهضم ودفع ضرره بالاقتصار على صفرته هو يولد خلطا محمودا. وأعلم أن أجود البيض للإنسان بيض الدجاج، والدراج إذا كانا طريين معتدلي النضج، فإن الصلب إما أن يتخم، أو يورث حمى، وهو يلبث طويلا ويغذو إذا انهضم كثيرا، والنيمرشت يغذو غذاء كثيرا والمسلوق بخل يعقل البطن، والساذج ينفع من حرارة المعدة والمثانة ونفث الدم، ويصفي الصوت. وأنفع السليق ما ألقي على الماء وهو يغلي عد مائة ورفع. ومما ينفع لحل المعقود أن تكتب على جوانب السيف هذه الأحرف بكصم لا لا وم ما ما لا لا لا هـ ه هـ وتقطع به بيضة دجاجة سوداء نظيفة مناصفة، فتأكل المرأة النصف والرجل النصف، فإنه مجرب وهو يحل إثنين وسبعين بابا بإذن الله تعالى. ومما ينفع لحل المعقود أيضا أن يكتب ويعلق في عنق الرجل، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواج ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر. ومما جرب أيضا لحل المعقود أن تكتب وتعلق عليه الفاتحة والإخلاص والمعوّذتين، ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً «2» أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ «3» وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «1» فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً «2» مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ «3» فقلنا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «4» وهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً «5» وعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ «6» وقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً «7» ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «8» إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً «9» وتكتب إسم الرجل والمرأة في آخر الكتاب وتقول: أللهم إني أسألك أن تجمع بين فلان بن فلانة وبين فلانة بنت فلانة بحق هذه الأسماء والآيات إنك على كل شيء قدير. باهيا شراهيا أصبأوت آل شداي ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم في في في في تم وكمل. وقال ابن وحشية: دماغ الدجاجة إذا وضع على لسعة الحية خاصة أبرأتها. وقال القزويني: إذا طبخت الدجاجة مع عشر بصلات بيض وكف سمسم مقشور حتى تتهرى ويؤكل لحمها ويشرب مرقتها فإنه يزيد في الباه ويقوّي الشهوة. وقال غيره: المداومة على أكل لحم الدجاج تورث البواسير والنقرس. وهذا قول جاهل بالطب وهو قول أغمار الأطباء كما تقدم. قال القزويني: وفي قانصة الدجاجة حجر إذا شد على المصروع أبرأه، وإذا علق على إنسان زاد في قوّة الباه، ويدفع عنه عين السوء، وإذا ترك تحت رأس الصبي فإنه لا يفزع في نومه. وذرق الدجاجة السوداء إذا ألصق على باب قوم، وقع بينهم الخصومة والشر، وإذا طلي الذكر بمرارة الدجاجة السوداء وجامع من شاء لم ينله أحد بعده. وإذا دفنت رأس دجاجة سوداء في كوز جديد، تحت فراش رجل قد خاصم زوجته، صالحها من وقته. وإذا احتمل رجل من دهن الدجاجة السوداء قدر أربعة دارهم هيج الباه. وإذا أخذ عينا دجاجة سوداء شديدة السواد، وعينا سنبور أسود، وجففن وسحقن واكتحل بهن، رأى من يفعل ذلك الروحانيين، فإن سألهم أخبروه بما يريد والله أعلم. التعبير: الدجاج في المنام نساء ذليلات مهينات، فالرقادة ذات نشاط وأصالة وبدالة. والدبيبة امرأة دنيئة الأصل أو خائنة وفروخها أولاد زنا، وربما دلت الدجاجة على المرأة ذات الأولاد، ودخولها على المريض عافيته وآذان الدجاجة شر ونكد أو موت. وكذلك الفروخ ربما دل دخولها على السليم، على انذار بمرض يحتاج فيه إليها وربما دل دخولها على زوال الهموم والانكاد، وعلى الأفراح والتظاهر بالرفاهية والنعم، والفروج ولد أو ملبوس مفرح أو فرج لمن هو في شدة، وربما كانت الدجاجة في المنام تدل رؤيتها على امرأة رعناء حمقاء ذات جمال، أو سرية أو خادم. فمن رأى كأنه ذبح دجاجة افتض جارية. ومن صادها نال ولاية ومالا هنيأ من العجم. ومن رأى الدجاج أو الفراريج تساق من مكان إلى مكان فإنه سبي. ومن رأى الدجاج أو الطواويس تهدر في منزله، فإنه صاحب فجور. وريش الدجاج مال، والبيض في المنام يعبر بالنساء لقوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ «1» والبيضة الواحدة لمن رآها بيده، فإن كانت زوجته حاملا فإنها تضع له بنتا وإن كان أعزب تزوّج ومن رأى البيض يجرف من مكان إلى مكان، كما تجرف الزبالة، فإنه سبي نساء ذلك المكان. ومن رأى بيضا نيئا وهو يأكله، فإنه يأكل مالا حراما وللطبوخ رزق حلال بتعب. وإذا رأت الحامل كأنها أعطيت بيضة مقشرة فإنها تلد بنتا وفراريج الدجاج أولاد زنا. ومن قشر بيضة فأكل بياضها، ورمى صفارها، فإنه نباش للقبور، ويأخذ أكفان الموتى. لما روى عن ابن سيرين أنه أتاه رجل، فقال: إني رأيت كأني أقشر بيضة وأرمي صفارها وآكل بياضها. فقال ابن سيرين: هذا رجل نباش للقبور. فقيل له: من أين أخذت هذا؟ فقال: البيضة القبر، والصفار الجسد، والبياض الكفن. فيلقى الميت ويأكل ثمن الكفن، وهو البياض. وحكي أن امرأة أتت إلى ابن سيرين فقالت: رأيت كأني أضع البيض تحت الخشب، فتخرج فراريج. فقال ابن سيرين: ويلك اتقي الله، فإنك امرأة توفقين بين الرجال والنساء فيما لا يحبه الله عز وجل فقال له جلساؤه: قذفت المرأة يا محمد، من أين أخذت ذلك؟ فقال: من قوله تعالى في النساء يشبهن بالبيض كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ وقال جل وعلا، يشبه المنافقين بالخشب: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ «2» فالبيض هو النساء، والخشب هم المفسدون والفراريج هم أولاد الزنا والله أعلم. الدجاجة الحبشية: هي نوع مما تقدم. قال الشافعي: يحرم على المحرم الدجاجة الحبشية لأنها وحشية تمتنع بالطيران، وإن كانت ربما ألفت البيوت. قال القاضي حسين: الدجاجة الحبشية شبيهة بالدراج. قال: وتسمى بالعراق الدجاجة السندية، فإن أتلفها لزمه الجزاء. وقال مالك: لا جزاء في دجاج الحبش على المحرم لاستئناسه، وكذلك كل ما تأنس من الوحشي عند الشافعي فيه الجزاء، خلافا لمالك. والدجاج الحبشي هو الدجاج البري، وهو في الشكل واللون قريب من الدجاج يسكن في الغالب سواحل البحر، وهو كثير ببلاد المغرب، يأوي مواضع الطرفاء ويبيض فيها. قال الجاحظ: ويخرج فراخه وكذلك فراخ الطاووس والبط السندي كيسة كاسية تلتقط الحب من ساعتها كفراخ الدجاج الأهلي ويقال له الغرغر، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة. الدج: طائر صغير في حد اليمام من طير الماء سمين طيب اللحم وهو كثير بالاسكندرية وما يشابهها من بلاد السواحل قاله ابن سيده. الدحرج: بضم الدال المهملة دويبة قاله ابن سيده. الدخاس: كنحاس دويبة تغيب في التراب والجمع الدخاخيس. الدخس: بضم الدال المهملة وتشديد الخاء المعجمة ضرب من السمك وهو الدلفين. قاله ابن سيده أيضا وقال الجوهري: الدخس مثال الصرد دويبة في البحر تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين على السباحة وتسمى الدلفين وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى في هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 الدخل: بتشديد الخاء المعجمة أيضا طائر صغير والجمع الدخاخيل وهو أغبر يسقط على رؤوس الشجر والنخل. واحدته دخلة وفي أدب الكاتب لابن قتيبة الدخل ابن تمرة. بضم الدال وفتح الراء المهملتين كنيته أبو الحجاج وأبو خطار وأبو ضبة، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الضاد المعجمة الساقطة واحدته دراجة، هو طائر مبارك، كثير النتاج، مبشر بالربيع، وهو القائل: «بالشكر تدوم النعم» وصوته مقطع على هذه الكلمات، وتطيب نفسه على الهواء الصافي، وهبوب الشمال، ويسوء حاله بهبوب الجنوب، حتى إنه لا يقدر على الطيران، وهو طائر أسود باطن الجناحين، وظاهرهما أغبر على خلقة القطا إلا أنه الطف. والدراج إسم يطلق على الذكر والأنثى، حتى تقول الحيقطان: فيختص بالذكر، وأرض مدرجة أي ذات دراج. كذا قاله الجوهري. وقال سيبويه: واحدة الدراج درجوج، والديلم ذكر الدراج وقال ابن سيده: الدراج طائر شبيه بالحيقطان، وهو من طير العراق قال ابن دريد أحسبه مولدا وهو الدرجة مثل الرطبة. وأما الجاحظ فجعله من أقسام الحمام لأنه يجمع فراخه تحت جناحيه، كما يجمع الحمام من شأنه أنه لا يجعل بيضه في موضع واحد، بل ينقله لئلا يعرف أحد مكانه ولا يتسافد في البيوت وإنما يفعل ذلك في البساتين قال أبو الطيب المأموني يصف دراجة: قد بعثنا بذات حسن بديع ... كنبات الربيع بل هي أحسن في رداء من جلنار وآس ... وقيص من ياسمين وسوسن وسيأتي إن شاء الله تعالى في القبج زيادة في نعتها في باب القاف، قال الجاحظ: وهو من الخلق الذي لا يسمن بل يعظم وإذا عظم لم يحمل اللحم. وحكمه: الحل لأنه إما من الحمام أو من القطا وهما حلالان. الأمثال: قالوا «1» : «فلان يطلب الدراج من خيس الأسد» . يضرب لمن يطلب ما يتعذر وجوده. الخواص: يؤخذ شحمه فيذوب بدهن كادي ويقطر في الأذن الوجعة ثلاث قطرات، يسكن وجعها بإذن الله تعالى. قال ابن سينا: لحمه أفضل من لحم الفواخت، واعدل والطف. وأكله يزيد في الدماغ والفهم والمني. التعبير: الدراج في المنام مال، وقيل امرأة أو مملوك. فمن ملكه أو رآه عنده فإنه يملك مالا أو سرية أو مملوكا أو يتزوج والله أعلم. الدراج: بفتح الدال والراء المهملتين القنفذ، صفة غالبة عليه لأنه يدرج ليله كله. قاله ابن سيده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 فائدة أجنبية: استدراج الله تعالى العبد، أنه كلما جدد خطيئة. جدد الله له نعمة وأنساه الاستغفار وأن يأخذه قليلا قليلا ولا يباغته. روى: أحمد في الزهد عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «1» : «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد، من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» . ثم تلا قوله «2» تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ قال ابن عطية: روي عن بعض العلماء أنه قال: رحم الله امرءا تدبر هذه الآية حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ وقال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة وقال الحسن. والله ما أحد من الناس بسط الله تعالى له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها إلا كان قد نقص في عمله وعجز في رأيه ما أمسكها الله تعالى عن عبد، فلم يظن أنه خير له فيها، إلا كان قد نقص في عمله، وعجز في رأيه. وفي الخبر أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام، إذا رأيت الفقر مقبلا إليك فقل: مرحبا بشعار الصالحين. وإذا رأيت الغنى مقبلا إليك فقل: ذنب عجلت عقوبته. الدرباب: طائر مركب من الشقراق والغراب، وذلك بين في لونه، وهو كما قال أرسطاطاليس في النعوت: إنه طائر يحب الأنس، ويقبل التأديب والتربية، وفي صفيره وقرقرته أعاجيب، وذلك أنه ربما أفصح بالأصوات وقرقر كالقمري وربما حمحم كالفرس وربما صفر كالبلبل وغذاؤه من النبت والفاكهة واللحم وغير ذلك، ومألفه الغياض والأشجار الملتفة. انتهى قلت: وهذه صفة الطائر المسمى عند الناس بأبي زريق فإنه على هذا النعت الذي ذكره. ويقال له القيق أيضا وسيأتي إن شاء الله تعالى له مزيد بيان في باب القاف. الدرحرج: قال القزويني: إنها دويبة مبرقشة بحمرة وسواد يقال إنها سم، من أكلها تقرحت مثانته، وسد بوله وأظلم بصره، وتورم قضيبه وعانته، ويعرض له اختلاط في عقله. وحكمها: التحريم لضررها بالبدن والعقل. الدرص: بكسر الدال ولد القنفذ والأرنب واليربوع والفأرة والهرة والذئبة ونحوها والجمع ادراص ودرصة. قال السهيلي في التعريف والإعلام: العرب تقول للأحمق أبو دراص للعبه بالأدراص، وهو جمع درص، وهو ولد الكلبة وولد الهرة ونحو ذلك. وكنية اليربوع أم أدراص قاله الأصمعي. الأمثال: قالت العرب: «ضل دريص نفقه» «3» أي جحره يضرب لمن لا يعبأ بأمره قال طفيل «4» : فما أم أدراص بأرض مضلة ... بأغدر من قيس إذا الليل أظلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 الدرة: بضم الدال المهملة الببغاء المتقدمة في باب الموحدة. حكى الشيخ كمال الدين جعفر الأدفوي في كتابه الطالع السعيد في ترجمة محمد بن محمد النصيبي القوصي الفاضل المحدث الأديب، أنه أخبره أنه حضر مرة عند عز الدين بن البصراوي الحاجب بقوص، وكان له مجلس يجتمع فيه الرؤساء والفضلاء والأدباء، فحضر الشيخ علي الحريري، وحكى أنه رأى ذرة تقرأ سورة يس، فقال النصيبي: وكان غراب يقرأ سورة السجدة فإذا جاء إلى السجدة سجد ويقول سجد لك سوادي واطمأن بك فؤادي. الدساسة: بفتح الدال حية صماء تندس تحت التراب اندساسا أي تندفن وقيل: هي شحمة الأرض. وستأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة. الدعسوقة: بفتح الدال دويبة كالخنفساء وربما قيل ذلك للصبية والمرأة القصيرة تشبيها بها قاله في المحكم وفي مختصر العين للزبيدي أيضا إلا أنه ضبطه بالقلم بفتح الدال في نسخة صحيحة. الدعموص: بضم الدال دويبة تغوص في الماء، والجمع الدعاميص، كبرغوث وبراغيث، وقال السهيلي: الدعموص سمكة صغيرة كحية الماء، ودعيميص إسم رجل كان داهيا سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في الأمثال، ويقال: «هذا دعيميص هذا الأمر» «1» . أي عالم به انتهى. روى مسلم عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قد مات لي اثنان من الولد، فهل أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم. «صغاركم دعاميص الجنة» «2» . أي لا يمنعون من بيت، فيلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بيده أو بثوبه كما آخذ أنا ببعض ثوبك هذا فيقول: هذا فلان فلا يتناهى حتى يدخل هو وأبوه الجنة. وفي الحديث أن رجلا زنى فمسخه الله تعالى دعموصا. وبعضهم يقول الدعموص هو الآذن على الملك المتصرف بين يديه قال أمية بن أبي الصلت: دعموص أبواب الملو ... ك وحاجب للخلق فاتح قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، في الكلام على هذا الحديث: الدعاميص بفتح الدال جمع دعموص بضمها، وهي دويبة صغيرة يضرب لونها إلى سواد تكون في الغدران، شبه الطفل بها في الجنة لصغره وسرعة حركته. وقيل: هو إسم للرجل الزوار للملوك، الكثير الدخول عليهم. والخروج، لا يتوقف على أذن منهم، ولا يخاف أين يذهب من ديارهم، شبه طفل الجنة به لكثرة ذهابه في الجنة حيث شاء، لا يمتنع من بيت فيها ولا موضع، وهذا قول ظاهر انتهى. قال الجاحظ: إذا كبر الناموس صار دعاميص وهو يتولد من الماء الراكد، وإذا كبر صار فراشا، ولعل هذا هو عمدة من جعل الجراد بحريا. والدعموص من الخلق الذي لا يعيش في ابتداء أمره إلا في الماء، ثم بعد ذلك يستحيل بعوضا وناموسا. فائدة: في فتاوى القاضي حسين، أن دود الماء لو انشق أو ذاب، فخرج منه ماء، كان ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 الماء طهورا يجوز منه التوضؤ، وعلله بأن هذا الدود ليس بحيوان، بل هو منعقد من بخار يصعد من الماء، فيشبه الدود، وهذا منه صريح في جواز شرب الدعاميص مع الماء، لأنها ماء منعقد. ويحتمل أن يكون منه اختيار الأن دود الخل والفاكهة يعطى حكم ما يتولد منه حتى يجوز أكله منفردا. كما هو وجه في المذهب موجها بأنه يشبهه طعما وطبعا. والظاهر أن هذا لا يوافق عليه. والمشهور خلاف ما قاله تفسيرا وحكما. وإن الدعموص محرم الأكل لاستقذاره لأنه من الحشرات. الأمثال: قالوا «1» : «أهدى من دعيميص الرمل» . وهو عبد أسود كان داهية خريتا لم يكن يدخل في بلاد وبار غيره فقام في الموسم وقال: فمن يعطني تسعا وتسعين بكرة ... هجانا راد ما أهدها لوبار فقام رجل من مهرة وأعطاه ما سأل وتحمل معه بأهله وولده، فلما توسطوا الرمل طمست الجن عين دعيميص، فتحير وهلك هو ومن معه في تلك الرمال، وفي ذلك يقول الفرزدق. كهلاك ملتمس طريق وبار. الدغفل: كجعفر ولد الفيل، وذكر الثعالب أيضا. وكان دغفل بن حنظلة النسابة، أحد بني شيبان يسمى بذلك. روى عنه الحسن البصري شيئا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخولف فيه، ويقال: إن له صحبة ولم يصح، ولم يعرفه أحمد بن حنبل، وروى عنه الحسن أنه قال: «كان على النصارى صوم شهر رمضان فولي عليهم ملك، فمرض فنذر، إن شفاه الله أن يزيد الصوم عشرا، ثم كان عليهم ملك بعده، يأكل اللحم، فمرض فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل اللحم ويزيد الصوم ثمانية أيام، ثم كان ملك بعده فقال: ما ندع هذه الأيام إلا أن نتمها خمسين ونجعلها في الربيع فصارت خمسين يوما» . قال البخاري: لا يتابع دغفل على ذلك ولا يعرف للحسن سماع منه. وقال ابن سيرين: كان دغفل رجلا عالما، لكن اغتلمته النساء. أرسل إليه معاوية رضي الله تعالى عنه، يسأله عن أنساب العرب وعن النجوم وعن العربية وعن أنساب قريش فأخبره، فإذا هو رجل عالم فقال له من أين حفظت هذا يا دغفل؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول، فأمره أن يعلم ولده يزيد. الدغناش: طائر صغير من أنواع العصافير أصغر من الصرد مخطط الظهر بحمرة مطوق بالسواد والبياض، وهو شرير الطبع شديد المنقار. يوجد كثيرا بسواحل البحر الملح وغيره. وحكمه : الحل لأنه من أنواع العصافير. الدقيش: بضم الدال وفتح القاف، طائر صغير أصغر من الصرد وتسميه العامة الدقناس. وحكمه : كالذي قبله ولعله هو، ولكن تلاعبوا به فسموه تارة كذا وتارة كذا. وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الصحاح قيل لأبي الدقيش الشاعر ما الدقيش؟ فقال: لا أدري إنما هي أسماء نسمعها فنتسمى بها! الدلدل: عظيم القنافذ. والدلدال الاضطراب، وقد تدلدل السحاب أي تحرك متدليا، وبه سميت بغلة النبي صلى الله عليه وسلم التي أهداها له المقوقس. وفي حديث أبي مرثد الآتي إن شاء الله تعالى في باب العين، قالت «عناق البغي: يا أهل الخيام هذا الدلدل الذي يحمل أسراكم» «1» . وإنما شبهته بالقنفذ لأنه أكثر ما يظهر في الليل ولأنه يخفي رأسه في جسده ما استطاع. وقال الجاحظ: الفرق بين الدلدل والقنفذ، كالفرق بين البقر والجواميس والبخاتي والعراب والجرذ والفأر وهو كثير ببلاد الشام والعراق وبلاد المغرب في قدر الثعلب القلطي. وقال الإمام الرافعي: الدلدل على حد السخلة، ومن شأنه أن يسفد قائما وظهر الأنثى لاصق بظهر الرجل. والأنثى تبيض خمس بيضات وليس هو بيضا في الحقيقة، إنما هو على صورة البيض يشبه اللحم. ومن شأنه أن يجعل لجحره بابين: أحدهما في جهة الجنوب، والآخر في جهة الشمال. فإذا هبت ريح سد باب جهتها، وإذا رأى ما يكرهه القبض، فيخرج منه شوك كالمسال يجرح من أصابه، والشوك الذي على ظهره نحو الذراع، وزعم بعض المتكلمين على طبائع الحيوان، أن الشوك الذي على ظهره نحو الذراع شعر، وأنه لما غلظ البخار، واشتد غلظه، وغلب عليه اليبس، عند صعوده من المسام، صار شوكا الحكم: نص الشافعي على حله، رواه عنه ابن ماجة وغيره. وقال الرافعي: قطع الشيخ أبو محمد بتحريمه في الوسيط أنه كان يعده من الخبائث. وقال ابن الصلاح: هذا غير مرضي وكأنه لم يعرف ما الدلدل، واعتقد ما بلغنا عن الشيخ أبي أحمد الأشنهي أنه قال: الدلدل كبار السلاحف. وهذا غير مرضي، والمحفوظ أنه ذكر القنافذ وقطع بحله الماوردي والروياني وغيرهما وهو الصواب. الأمثال: «2» قالوا «أسمع من دلدل» . وخواصه وتعبيره: كالقنافذ وستأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف. الدلفين: الدخس وضبطه الجوهري في باب السين المهملة بضم الدال فقال: الدخس مثال الصرد دابة في البحر تنجي الغريق تمكنه من ظهرها ليستعين به على السباحة. ويسمى الدلفين وقال غيره: إنه خنزير البحر. وهو دابة تنجي الغريق وهو كثير بأواخر نيل مصر من جهة البحر الملح، لأنه يقذف به البحر إلى النيل وصفته كصفة الزق المنفوخ، وله رأس صغير جدا وليس في دواب البحر ماله رئة سواه فلذلك يسمع منه النفخ والنفس، وهو إذا ظفر بالغريق كان أقوى الأسباب في نجاته لأنه لا يزال يدفعه إلى البر حتى ينجيه، ولا يؤذي أحدا ولا يأكل إلا السمك. وربما ظهر على وجه الماء كأنه ميت وهو يلد ويرضع، وأولاده تتبعه حيث ذهب، ولا يلد إلا في الصيف، من طبعه الأنس بالناس وخاصة بالصبيان وإذا صيد جاءت دلافين كثيرة لقتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 صائده، وإذا لبث في العمق حينا حبس نفسه، وصعد بعد ذلك مسرعا مثل السهم لطلب النفس، فإن كانت بين يديه سفينة وثب وثبة ارتفع بها عن السفينة، ولا يرى منها ذكر إلا مع أنثى. الحكم: يحل أكله لعموم حل السمك إلا ما استثني منه، وليس هذا من المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى. الخواص: إذا غلي شحمه في حنظلة فارغة وقطر في الأذن نفع من الصمم، ولحمه بارد بطيء الهضم. وإذا علقت أسنانه على الصبيان يفزعوا. وأكل شحمه ينفع من أوجاع المفاصل. وشحم كلاه إذا أذيب بالنار، ودهن به مع دهن الزنبق وجه امرأة أحبها زوجها وطلب مرضاتها. وكفاه يعلقان على من يفزع فيذهب فزعه. وإذا وضع نابه الأيمن في دهن ورد سبعة أيام ومسح به وجه إنسان كان محبوبا عند عامة الناس ونابه الأيسر بالضد من ذلك. التعبير: الدلفين تدل رؤيته على ما دلت عليه رؤية التمساح، وربما دلت رؤيته على المكايد، والاختفاء بالأعمال، وعلى التلصص واستراق السمع، وربما دلت رؤيته على كثرة الدعاء والمطر، قاله ابن الدقاق. وقال المقدسي: من رآه في المنام، وكان خائفا، أمن ونجا لأنه ينجي الغرقى. وكل حيوان يرى مما يخشى منه في اليقظة كالتمساح ونحوه، إذا كان خارج الماء فهو عدو عاجز لا يقدر على مضرة من رآه في المنام، لأن قوته وبطشه في الماء فإذا خرج منه زالت قوّته والله اعلم. الدلق: بالتحريك فارسي معرب، وهو دويبة تقرب من السمور. قال عبد اللطيف البغدادي: إنه يفترس في بعض الأحايين ويكرع الدم. وذكر ابن فارس، في المجمل، إنه النمس، وفيه نظر. قال الرافعي: والدلق يسمى ابن مقرس وقال القزويني: إنه حيوان وحشي عدو الحمام إذا دخل البرج لا يترك فيه واحدا أو تنقطع الثعابين عند صوته، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في باب الميم على ابن مقرص وما وقع فيه للرافعي والنووي. وفي رحلة ابن الصلاح، عن كتاب لوامع الدلائل، في زوايا المسائل للكيا الهراسي أنه قال: يجوز أكل الفنك والسنجاب والدلق والقاقم، والحوصل والزرافة كالثعلب. ثم إن ابن الصلاح كتب بخطه: الدلق النمس. فاستفدنا من هذا حل النمس والزرافة. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيانهما في بابيهما. الخواص: عينه اليمنى تعلق على من به حمى الربع تزول عنه بالتدريج، وإذا علق اليسرى عليه عادت. وشحمه إذا بخر به برج الحمام هربت كلها. وهو يزيل الكلال الحاصل للإنسان من أكل الحامض. ودمه يقطر في أنف المصروع منه نصف دانق ينفعه، وجلده يجلس عليه صاحب القولنج والبواسير ينفعه. الدلم: نوع من القراد، قالت العرب في أمثالها: «فلان أشد من الدلم» «1» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الدلهاما: قال القزويني: هو شيء يوجد في جزائر البحار، على هيئة إنسان راكب على نعامة، يأكل لحوم الناس الذين يقذفهم البحر، وذكر بعضهم أنه عرض لمركب في البحر فحاربهم وحاربوه، فصاح بهم صيحة خروا على وجوههم فأخذهم. الدم: بكسر الدال السنور، حكاه في المحكم عن النضر في كتاب الوحوش. الدنة: بتشديد النون دويبة كالنملة قاله ابن سيده. الدنيلس: معروف وهو نوع من الصدف والحلزون، قال جبريل بن بختيشوع: إنه ينفع من رطوبة المعدة والاستسقاء. وحكمه: حل الأكل لأنه من طعام البحر، ولا يعيش إلا فيه. ولم يأت على تحريمه دليل. كذا أفتى به الشيخ شمس الدين بن عدلان وعلماء عصره وغيرهم. وما نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام من الافتاء بتحريم أكله لم يصح. فقد نص الشافعي على أن حيوان البحر الذي لا يعيش إلا فيه يؤكل لعموم الآية، ولقوله صلى الله عليه وسلم «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» «1» . ووراء ذلك وجهان، وقيل قولان أحدهما يحرم لأنه صلى الله عليه وسلم خص السمك بالحل، والثاني ما أكل شبهه في البر، كالبقر والشاء حلال. وما لا كخنزير الماء وكلبه حرام وعلى هذا لا يؤكل ما أشبه الحمار وإن كان في البر الحمار الوحشي حلالا. قال في كتاب التبيان: فيما يحل ويحرم من الحيوان للشيخ عمار الدين الاقفهسي، وقد نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه كان يفتي بتحريم الدنيلس، قال: وهذا مما لا يرتاب فيه سليم الطبع. قلت: وقد ذكر ارسطاطاليس، في كتابه نعوت الحيوان، أن السرطان لا يخلق بتولد ونتاج، وإنما يستحيل في الصدف أي يتخلق فيه ثم يخرج، ومنه ما يتولد ثم ينشق عنه الصدف ويخرج، كما أن البعوض يتولد من أوساخ المياه ونتنها. فقد استفدنا من كلام ارسطاطاليس أن ما في داخل الدنيلس وغيره، من الأصداف يستحيل سرطانات، وإذا كان الحيوان غير مأكول، فأصله كذلك إلا على القول الضعيف. وسمعت عن بعض الفقهاء أنه كان يفتي بحل الدنيلس، ويأخذه من كلام الأصحاب ما أكل مثله في البر، أكل مثله في البحر. وقال إن الدنيلس له نظير في البر، وهو الفستق، وهذه غباوة منه لأن مراد الأصحاب ما أكل في البر من حيوان أكل مثله في البحر. ثم هل يجب مع ذلك ذبحه أم لا؟ فيه وجهان: وليس مرادهم تشبيه حيوان بحري بحمار بري حتى يصح القياس. وبالجملة فهذا القائل، قد قاس الخبيث بالطيب، ويلزمه أن يقول بحل سائر المحار والأصداف لأن الدنيلس محار صغير، ثم يأخذ بعد ذلك في الكبر، والدليل على ذلك أنه يوجد منه صغير وكبير فإذا تكامل بقي محارا، فينبغي القطع بتحريم الدنيلس لأنه من أنواع الصدف، والصدف مستخبث كالسلحفاة والحلزون. قال الجاحظ: والملاحون يأكلون البلبل، وهو ما في جوف الصدفة، وهذا يدل على أنه غير مستطاب وإلا لما عده من خواص الملاحين. وأهل مصر يعيبون أهل الشام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 بأكلهم السرطان، وأهل الشام يعيبون أهل مصر بأكلهم الدنيلس ولم أجد لهم مثلا إلا قول الشاعر: ومن العجائب والعجائب جمة ... أن يلهج الأعمى بعيب الأعمش انتهى كلام الأقفهسي، وهو مخالف لما ذكره المؤلف والله أعلم. الدهانج: بضم الدال الجمل الضخم ذو السنامين. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء في الفالج. الدوبل: الحمار الصغير الذي لا يكبر وكان الأخطل يلقب به ومنه قول جرير «1» : بكى دوبل لا يرقىء الله دمعه ... ألا إنما يبكي من الذل دوبل «2» الدود: جمع دودة وجمع الدود ديدان، والتصغير دويد، وقياسه دويدة وداد الطعام يداد وأداد ودوّد. إذا وقع فيه السوس قال الراجز: قد أطعمتني دفلا حوليا ... مسوسا مدوّدا حجريا والدود أيضا صغار الدود. ودويد بن زيد عاش أربعمائة وخمسين سنة، وأدرك الإسلام وهو لا يعقل، وارتجز وهو محتضر: اليوم يبنى لدويد بيته ... لو كان للدهر بلى ابليته أو كان قرني واحدا كفيته ... يا رب نهب صالح حويته ورب غيل حسن لويته ... ومعصم مخضب ثنيته وفي تاريخ «3» ابن خلكان، إنه سعى بأبي الحسن الهادي، بن محمد الجواد، بن علي الرضا إلى المتوكل بأن في منزله سلاحا وكتبا من شيعته، وأنه يطلب الأمر لنفسه، فبعث المتوكل إليه جماعة فهجموا عليه في منزله فوجدوه على الأرض مستقبل القبلة يقرأ القرآن، فحملوه على حاله إلى المتوكل والمتوكل يشرب، فاعظمه وأجله وقال له: أنشدني فقال: إني قليل الرواية للشعر. فقال له المتوكل: لا بد فأنشده: باتوا على قلل الأجبال تحرسهم ... غلب الرجال فما أغنتهم القلل واستنزلوا بعد عز من معاقلهم ... وأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا ناداهم صارخ من بعد ما قبروا ... أين الأسرة والتيجان والحلل فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم ... تلك الوجوه عليها الدود يقتتل قد طالما أكلوا دهرا وما شربوا ... فأصبحوا بعد ذاك الأكل قد أكلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 فبكى المتوكل والحاضرون. ثم قال له المتوكل: يا أبا الحسن هل عليك دين؟ قال: نعم أربعة آلاف درهم، فأمر له بها وصرفه مكرما. فلما كثرت السعاية به عند المتوكل أحضره المدينة، وأقره بسر من رأى، وتدعى العسكر لأن المعتصم لما بناها انتقل إليها بعسكره، فقيل لها: العسكر، فأقام بها عشرين سنة وتسعة أشهر، ولهذا قيل له العسكري. وتوفي في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين، وهو أحد الأئمة الأثني عشر على مذهب الإمامية رضي الله تعالى عنه وعن آبائه الكرام. والدود أنواع كثيرة يدخل فيها الأساريع والحلم والأرضة ودود الخل والزبل، ودود الفاكهة ودود القز والدود الأخضر الذي يوجد في شجر الصنوبر، وهو في القوة والفعل كالذراريح، وكله معروف ومنه ما يتولد في جوف الإنسان. وروى ابن عدي بسند فيه عصمة بن محمد بن فضالة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا التمر على الريق فإنه يقتل الدود «1» » . وقالت الحكماء: شرب الوخشيرق يرمي الدود من البطن، وورق الخوخ إذا ضمدت السرة به قتل ديدان البطن. روى البيهقي في الشعب، عن صدقة بن يسار أنه قال: دخل داود عليه الصلاة والسلام في محرابه، فأبصر دودة صغيرة فتفكر في خلقها، وقال: ما يعبأ الله بخلق هذا الدودة، فأنطقها الله فقالت: يا داود أتعجبك نفسك؟ لأنا على قدر ما أتاني الله، أذكر لله وأشكر له منك، على ما آتاك الله. قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «2» وأما دود الفاكهة فذكر الزمخشري في تفسير قوله «3» تعالى: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ الآية أنها بعثت خمسمائة غلام، عليهم ثياب الجواري وحليهن، وخمسمائة جارية على زي الغلمان، كلهم على سروج الذهب والخيل المسومة، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت والمسك والعنبر، وحقا فيه درة يتيمة وخرزة مثقوبة معوجة الثقب، وبعثت برجلين من أشراف قومها المنذر بن عمرو وآخر ذي رأي وعقل. وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرة ثقبا مستويا، وسلك في الخرزة خيطا ثم قالت للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان، فهو ملك فلا يهولنك أمره، وإن رأيت شيئا لطيفا فهو نبي، فأعلم الله نبيه سليمان بذلك، فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة، وفرشت في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائطا، شرفة من ذهب وشرفة من فضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها، عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر بأولاد الجن، وهم خلق كثير، فاقيموا على اليمين واليسار، ثم قعد على كرسيه، والكراسي عن يمينه ويساره، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ، والجن صفوفا فراسخ، والإنس صفوفا فراسخ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك، فلما دنا القوم، نظروا فرأوا الدواب تروث على لبنات الذهب والفضة، فرموا بما معهم منها، فلما وقفوا بين يديه، نظر إليهم بوجه طلق، ثم قال: أين الحق الذي فيه كذا وكذا؟ فقدموه بين يديه فأمر الأرضة، فأخذت شعرة ونفدت فيها، فجعل رزقها في الشجر، وأخذت دودة بيضاء بفيها الخيط، ونفذت فيها فجعل رزقها في الفواكه، ودعا بالماء، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها، فتجعله في الأخرى، ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم ردا الهدية، وقال للمنذر: ارجع إليهم. فلما رجع وأخبرها الخبر قالت: هو نبي وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 لنا به طاقة فشخصت إليه في أثنى عشر ألف قيل تحت يد كل قبل ألوف. وأما دود القز فيقال لها الدودة الهندية، وهي من أعجب المخلوقات، وذلك إنه يكون أولا بزرا من قدر حب التين، ثم يخرج من الدود عند فصل الربيع، ويكون عند الخروج أصغر من الذر، وفي لونه ويخرج من الأماكن الدافئة من غير حضن، إذا كان مصرورا مجعولا في حق، وربما تأخر خروجه فتصره النساء وتجعله تحت ثديهن، وإذا خرج أطعم ورق التوت الأبيض، ولا يزال يكبر ويعظم إلى أن يصير في قدر الإصبع، وينتقل من السواد إلى البياض أولا فأولا، وذلك في مدة ستين يوما على الأكثر، ثم يأخذ في النسج على نفسه بما يخرجه من فيه إلى أن ينفد ما في جوفه منه. ويكمل عليه ما يبنيه إلى أن يصير كهيئة الجوزة، ويبقى فيه محبوسا قريبا من عشرة أيام، ثم ينقب عن نفسه تلك الجوزة، فيخرج منها فراش أبيض له جناحان، لا يسكنان من الاضطراب، وعند خروجه يهيج إلى السفاد، فيلصق الذكر ذنبه بذنب الأنثى ويلتحمان مدة، ثم يفترقان، وتبزر الأنثى البزر الذي تقدم ذكره على خرق بيض، تفرش له قصدا إلى أن ينفد ما فيها منه، ثم يموتان هذا إن أريد منهما البزر وإن أريد الحرير ترك في الشمس بعد فراغه من النسج، بعشرة أيام يوما بعض يوم فيموت. وفيه من أسرار الطبيعة أنه يهلك من صوت الرعد، وضرب الطست والهاون ومن شم الخل والدخان ومس الحائض والجنب. ويخشى عليه من الفأر والعصفور والنمل والوزغ وكثرة الحر والبرد وقد ألغز فيه بعض الشعراء فقال: وبيضة تحضن في يومين ... حتى إذا دبت على رجلين واستبدلت بلونها لونين ... حاكت لها خيسا بلا نيرين بلا سماء وبلا بابين ... ونقبته بعد ليلتين فخرجت مكحولة العينين ... قد صبغت بالنقش حاجبين قصيرة ضئيلة الجنبين ... كأنها قد قطعت نصفين لها جناح سابع النبردين ... ما نبتا إلا لقرب الحين إن الردى كحل لكل عين قال الإمام أبو طالب المكي «1» ، في كتابه قوت القلوب: وقد مثل بعض الحكماء ابن آدم بدود القز، لا يزال ينسج على نفسه، من جهله حتى لا يكون له مخلص، فيقتل نفسه ويصير القز لغيره، وربما قتلوه إذا فرغ من نسجه، لأن القز يلتف عليه فيروم الخروج عنه فيشمس، وربما غمز بالأيدي حتى يموت لئلا يقطع القز ليخرج القز صحيحا. فهذه صورة المكتسب الجاهل الذي أهلكه أهله وماله وتتنعم ورثته بما شقي هو به فإن أطاعوا به، كان أجره لهم، وحسابه عليه، وإن عصوا به كان شريكهم في المعصية لأنه أكسبهم إياها به، فلا يدري أي الحسرتين عليه أعظم إذهابه عمره لغيره، أو نظره إلى ماله في ميزان غيره؟ انتهى. وقد أشار إلى ذلك أبو الفتح البستي «2» بقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ألم تر أن المرء طول حياته ... معنى بأمر لا يزال يعالجه كدود كدود القز ينسج دائما ... ويهلك غما وسط ما هو ناسجه وله أيضا وأجاد: لا يغرنك أنني لين اللم ... س فعزمي إذا انتضيت حسام أنا كالورد فيه راحة قوم ... ثم فيه لآخرين زكام وقال آخر «1» في المعنى: يفنى الحريص بجمع المال مدته ... وللحوادث ما يبقى وما يدع «2» كدودة القز ما تبنيه يهلكها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع «3» لما أخذت دودة القز تنسج، أقبل العنكبوت يتشبه بها، وقال: لي نسج ولك نسج. فقالت دودة القز: إن نسجي ملابس الملوك ونسجك ملابس الذباب، وعند مس الحاجة يتبين الفرق ولذلك قيل: إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى تتمة: شجرة الصنوبر تثمر في كل ثلاثين سنة مرة، وشجرة الدبا تصعد في كل أسبوعين، فتقول لشجرة الصنوبر: إن الطريق التي قد قطعتها في ثلاثين سنة قطعتها في أسبوعين. ويقال: لك شجرة ولي شجرة، فتقول شجرة الصنوبر لها: مهلا إلى أن تهب رياح الخريف، فحينئذ يتبين لك اغترارك بالإسم. وقال المسعودي في ترجمة الراضي إن دودة بطبرستان، تكون من المثقال إلى ثلاثة مثاقيل، تضيء في الليل كما يضيء الشمع، وتطير بالنهار فترى لها أجنحة، وهي خضراء ملساء لا جناحين لها في الحقيقة، غذاؤها التراب، لم تشبع قط منه خوفا أن تفنى تراب الأرض فتهلك جوعا. قال: وفيها منافع كثيرة وخواص واسعة انتهى. وسيأتي عن الجاحظ قريب من هذا. الحكم: يحرم أكله بجميع أنواعه، لأنه مستخبث إلا ما تولد من مأكول فعندنا فيه ثلاثة أوجه: أصحها جواز أكله معه لا منفردا، والثاني يجب تمييزه ولا يؤكل أصلا، والثالث يؤكل معه ومنفردا. وعلى الأصح ظاهر اطلاقهم أنه لا فرق بين أن يسهل تمييزه أو يشق. ولا يجوز بيع الدود إلا القرمز الذي يصبغ به وهو دود أحمر يوجد في شجر البلوط في بعض البلاد صدفي يشبه الحلزون. تجمعه نساء تلك البلاد بأفواههن. وأما دود القز فيجوز بيعه، ويجب إطعامه ورق الفرصاد، وهو التوت الأبيض، ويجوز تشميسه، وإن هلك لتحصيل فائدته. ويجوز بيع الفيلج وفي باطنه الدود الميت لأن بقاءه فيه من مصلحته، فيجوز بيعه وزنا وجزفا، كما صرح به القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 حسين. وقال الإمام: إن باعه جزافا كما صرح به القاضي حسين وقال الإمام إن باعه جزافا جاز، وإن باعه وزنا لم يجز. قلت: وهذا هو الصحيح المعتمد، لأن الدود الذي فيه، يمنع معرفة مقدار ما فيه من المقصود. وهو القز وقد جزم به الشيخان، في آخر كتاب السلم. وجزم به ابن الرفعة وغيره. وفي روثه الخلاف في روث ما لا نفس له سائلة. وفي بزره الوجهان في بيض ما لا يؤكل والأصح الطهارة. وقال الفوراني والمتولي: إن قلنا دود القز طاهر، بعد الموت فبزره طاهر، وإن قلنا إنه نجس فالبزر كالبيض لأن له نماء مثله. وفي فتاوى القفال: إن بزر القز لا مثل له، ولا يجوز السلم فيه، لأن أهل الصنعة لا يعرفون أن هذا البزر يكون نسجه أحمر أو أبيض، فهو كالسلم في الجواهر. الأمثال: قالوا «1» : «أصنع من دود القز» . وربما قالوا: «أكثر من الدود وأضعف من الدود» . قال ابن رشد، في جامع البيان والتحصيل: سأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، عن البحر، فقال: خلق قوي يركبه خلق ضعيف، دود على عودان ضاعوا هلكوا، وإن بقوا فرقوا. فقال عمر: لا أحمل فيه أحدا أبدا. الخواص: إذا أخذ دود القز، وخلط بالزيت ولطخ به بدن إنسان نفع من نهش الهوام، وذوات السموم ودودة القز إن أخرجت منه وأكلها الدجاج حصل له سمن كثير، ودود الزبل الأصفر الذي يخلق منه، إذا طبخ في زيت عتيق حتى ينضج ويدهن بذلك الزيت داء الثعلب، فإنه يبرئه، وهو في ذلك عجيب مجرب إذا داوم عليه. التعبير: الدود في المنام عدو من الأهل، ودود القز زبون للتاجر، ورعية للسلطان، فمن أخذ منه شيئا نال منفعة منهم، وربما دلت رؤية الدود على مال حرام. ويعبر أيضا بالضر فمن زال عنه زال ذلك عنه، وربما عبر الدود بالأولاد القصيري الأعمار، وأصحاب التركات السنية، وربما دلت رؤيته على قرب الأجل ونهاية العمر، وربما دلت على الحاكة من الرجال والنساء، والمحاكين للصور والله أعلم. دؤالة: كنخالة من أسماء الثعلب، سمي بذلك لنشاطه وخفة مشيه والدألان مشية النشيط. الدودمس: ضرب من الحيات محرنفش الغلاصيم، ينفخ فيحرق ما أصاب والجمع دودمسات ودواميس قاله ابن سيده. الدوسر: الجمل الضخم والأنثى دوسرة. وجمل دوسري كأنه منسوب إليه. الديسم: بالفتح ولد الدب قال الجوهري: قلت لأبي الغوث: يقال إنه ولد الذئب من الكلبة! فقال: ما هو إلا ولد الدب. وقال في المحكم: إنه ولد الثعلب. وقال الجاحظ: إنه ولد الذئب من الكلبة. وهو أغبر اللون وغبرته ممتزجة بسواد. وحكمه: تحريم الأكل على كل تقدير. الديك: ذكر الدجاج وجمعه ديوك وديكة، وتصغيره دويك، وكنيته أبو حسان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 وأبو حماد وأبو سليمان، وأبو عقبة، وأبو مدلج، وأبو المنذر، وأبو نبهان وأبو يقظان، وأبو برائل والبرائل الذي يرتفع من ريش الطائر في عنقه، وينفشه الديك للقتال، وقيل: إن للديك خاصة. ويسمى الأنيس والمؤانس، ومن شأنه أنه لا يحنو على ولده، ولا يألف زوجة واحدة، وهو أبله الطبيعة، وذلك أنه إذا سقط من حائط لم يكن له هداية ترشده إلى دار أهله. وفيه من الخصال الحميدة أنه يسوي بين دجاجه، ولا يؤثر واحدة على واحدة إلا نادرا، وأعظم ما فيه من العجائب، معرفة الأوقات الليلية فيقسط أصواته عليها تقسيطا، لا يكاد يغادر منه شيئا سواء طال أو قصر. ويوالي صياحه قبل الفجر وبعده، فسبحان من هداه لذلك. ولهذا أفتى القاضي حسين والمتولي والرافعي بجواز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات. ومن غريب أمره، إذا كانت الديكة بمكان، ودخل عليها ديك غريب سفدته كلها، وقد أجاد أبو بكر الصنوبري في مدحه حيث قال «1» : مغرد الليل ما يألوك تغريدا ... مل الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا لما تطرب هز العطف من طرب ... ومد للصوت لما مده الجيدا كلابس مطرفا مرخ ذوائبه ... تضاحك البيض من اطرافه السودا حالى المقلد لو قيست قلائده ... بالورد قصر عنها الورد توريدا وفي تاريخ «2» ابن خلكان في ترجمة محمد بن معن بن محمد بن صمادح، المنعوت بالمعتصم، من قصيدة مدحه بها أبو القاسم الأسعد بن بليطة في صفة الديك: كأن أنو شروان أعطاه تاجه ... وناط عليه كفّ مارية القرطا «3» سبى حلة الطاووس حسن لباسه ... ولم يكفه حتى سبى المشية البطا قال «4» الجاحظ: ويدخل في الديك الهندي والجلاسي والنبطي والسندي والزنجي، وزعم أهل التجربة أن الديك الأبيض الأفرق من خواصه أن يحفظ الدار التي هو فيها، وزعموا أن الرجل إذا ذبح الديك الأبيض الأفرق، لم يزل ينكب في أهله وماله. وروى عبد الحق بن قانع بإسناده إلى جابر بن أثوب، بسكون الثاء المثلثة وفتح الواو، وهو أثوب بن عتبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الديك الأبيض خليلي» . وإسناده لا يثبت. ورواه غيره بلفظ: «الديك الأبيض صديقي وعدو الشيطان، يحرس صاحبه وسبع دور خلفه» . قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقتنيه في البيت والمسجد. وفي التهذيب في ترجمة البزي الراوي عن ابن كثير، وهو أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن نافع بن أبي بزة المكي، وهو ضعيف الحديث، عن الحسن عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الديك الأبيض الأفرق حبيبي وحبيب حبيبي جبريل يحرس بيته وستة عشر بيتا من جيرانه» . وروى الشيخ محب الدين الطبري «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له ديك أبيض وكان الصحابة رضي الله عنهم يسافرون بالديكة لتعرفهم أوقات الصلوات» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 وفي الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «1» قال: «إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا» . قال القاضي عياض: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء، واستغفارهم وشهادتهم له بالإخلاص والتضرع والابتهال. وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين والتبرك بهم وإنما أمرنا بالتعوذ من الشيطان عند نهيق الحمير، لأن الشيطان يخاف من شره عند حضوره فينبغي أن يتعوذ منه انتهى. وفي معجم الطبراني وتاريخ أصبهان، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن لله سبحانه ديكا أبيض جناحاه موشيان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ، جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء، يؤذن في كل سحر فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض، إلا الثقلين، الإنس والجن، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض فإذا دنا يوم القيامة يقول الله تعالى: ضم جناحيك، وغض صوتك. فيعلم أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت» . وروى الطبراني والبيهقي في الشعب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله ديكا رجلاه في التخوم، وعنقه تحت العرش منطوية، فإذا كان هنة من الليل، صاح: سبوح قدوس، فتصيح الديكة» . وهو في كامل ابن عدي في ترجمة علي بن أبي علي اللهبي. قال: وهو يروي أحاديث منكرة عن جابر رضي الله عنه. وفي كتاب فضل الذكر، للحافظ العلامة جعفر بن محمد بن الحسن الفريابي، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله عز وجل ديكا رجلاه في الأرض السفلى، وعنقه مثنية تحت العرش، وجناحاه في الهواء يخفق بهما في السحر كل ليلة، يقول: سبحان الملك القدوس ربنا الملك الرحمن لا إله غيره» . وروى الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى. صوت الديك، وصوت قارىء القرآن، وصوت المستغفرين بالأسحار» . وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة، عن زيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة» . إسناده «2» جيد وفي لفظ «فإنه يدعو إلى الصلاة» قال الإمام الحلمي في قوله صلى الله عليه وسلم «فإنه يدعو إلى الصلاة» . دليل على أن كل من استفيد منه خير، لا ينبغي أن يسب ويستهان به، بل حقه أن يكرم ويشكر ويتلقى بالإحسان، وليس معنى دعاء الديك إلى الصلاة أنه يقول بصراخه حقيقة: الصلاة أو قد حانت الصلاة، بل معناه أن العادة قد جرت بأنه يصرخ صرخات متتابعة، عند طلوع الفجر، وعند الزوال، فطرة فطره الله عليها فيتذكر الناس بصراخه الصلاة، ولا يجوز لهم أن يصلوا بصراخه، من غير دلالة سواه إلا من جرب منه ما لا يخلف فيصير ذلك له إشارة والله أعلم انتهى. وروى الحاكم في المستدرك في أوائل كتاب الإيمان والطبراني ورجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثنية تحت العرش، وهو يقول: سبحانك ما أعظم شأنك، قال: فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف بي كاذبا» . وروى الإمامان أبو طالب المكي وحجة الإسلام الغزالي، عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 ميمون بن مهران، أنه قال: بلغني أن تحت العرش ملكا في صورة ديك، براثنه من لؤلؤة وصيصته من زبرجد أخضر، فإذا مضى ثلث الليل الأول ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم القائمون، فإذا مضى نصف الليل ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم المصلون، فإذا طلع الفجر ضرب بجناحيه وزقا وقال: ليقم الغافلون وعليهم أوزارهم ومعنى زقا صاح. نكتة: كان سهل بن هارون بن راهويه، في خدمة المأمون، وكان حكيما فصيحا شاعرا فارسي الأصل شيعي المذهب، شديد التعصب على العرب، وله مصنفات عديدة في الأدب وغيره، وكان الجاحظ يصف براعته وحكمته وشجاعته في كتبه، وكان إليه النهاية في البخل وله فيه حكايات عجيبة: فمن ذلك قال دعبل: كنا عنده يوما فأطلنا القعود، حتى كاد يموت جوعا، ثم قال: ويحك يا غلام غدنا! فأتاه بقصعة فيها ديك مطبوخ، فتأمله ثم قال أين الرأس يا غلام؟ قال: رميت به. فقال: إني والله لأمقت من يرمي برجله، فكيف برأسه؟ ولو لم يكن فيما فعلت إلا الطيرة والفأل لكراهته، أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء، ومنه يصرخ الديك، ولولا صوته ما أريد، وفيه عرفه الذي يتبرك به، وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء، فيقال: «شراب كعين الديك» . ودماغه عجب لوجع الكليتين، ولم ير عظم أهش تحت الأسنان منه، وهب أنك ظننت أني لا آكله أو ليس العيال كانوا يأكلونه؟ فإن كان قد بلغ من نبلك أنك لا تأكله، فعندنا من يأكله، أو ما علمت أنه خير من طرف الجناح، ومن رأس العنق؟ انظر لي أين هو؟ فقال: والله ما أدري أين هو، ولا أين رميت به. فقال: رميته في بطنك قاتلك الله. الحكم : يحل أكله لما تقدم في الدجاج، ويكره سبه لما تقدم في حديث زيد بن خالد الجهني، ويجوز اعتماد الديك المجرب في أوقات الصلوات كما تقدم قريبا. قال أصبغ بن زيد الواسطي: كان لسعيد بن جبير ديك يقوم في الليل بصياحه، فلم يصح ليلة حتى أصبح فلم يصل سعيد تلك الليلة فشق ذلك عليه، فقال: ماله قطع الله صوته؟ فلم يسمع له صوت بعد ذلك. وفي مناقب إمامنا الشافعي رحمه الله تعالى، أن رجلا سأله عن رجل خصى ديكا له، فقال: عليه أرشه. وفي الكامل. في ترجمة عبد الله بن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن خصاء الديك والغنم والخيل. وقال «1» : «إنما النماء في الخيل» . وتحرم المنافرة بالديكة. وسيأتي ما ورد في ذلك من النهي في باب الكاف، في المناطحة بالكباش، في لفظ الكبش إن شاء الله تعالى. الأمثال: قالوا «2» : «أشجع من ديك» «وأسفد من ديك «3» » . فائدة: روى «4» مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه خطب الناس يوما فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: إني رأيت رؤيا لا أراه إلا لحضور أجلي وهي أن ديكا نقرني ثلاث نقرات، وفي لفظ رأيت كأن ديكا أحمر نقرني نقرة أو نقرتين. فحدثتها أسماء بنث عميس رضي الله عنها فحدثتني بأن يقتلني رجل من الأعاجم. وكان هذا القول منه يوم الجمعة فطعن يوم الأربعاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 رضي الله عنه. وروى الحاكم عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال على المنبر: رأيت في المنام كأن ديكا نقرني ثلاث نقرات فقلت: أعجمي يقتلني، وإني جعلت أمري إلى هؤلاء الستة، الذي توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض: عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص. فمن استخلف فهو الخليفة. وذكر ابن خلكان وغيره، أن عمر رضي الله عنه، لما طعن، اختار من الصحابة ستة نفر، وهم المتقدم ذكرهم. وكان سعد بن أبي وقاص غائبا، وجعل عبد الله ابنه مشيرا، وليس له من الأمر شيء وأقام المسور بن مخرمة، وثلاثين نفسا من الأنصار، وقال: إن اتفقوا على واحد إلى ثلاثة أيام، وإلا فاضربوا رقاب الكل فلا خير للمسلمين فيهم، وإن افترقوا فرقتين، فالفرقة التي فيها عبد الرحمن بن عوف. وأوصي أن يصلي صهيب بالناس ثلاثة أيام، فأخرج عبد الرحمن بن عوف نفسه من الشورى، واختار عثمان فبايعه الناس. ونقل أن العباس بن عبد المطلب قال لعلي: يا ابن أخي لا تدخل نفسك في الشورى مع القوم، فإني أخاف أن يخرجوك منها فتبقى وصمة فيك فلم يقبل منه. وكان عمر قد بويع له بالخلافة يوم مات الصديق بعهد منه له في ذلك كما سبق في باب الهمزة في لفظ الأوز. وضربه أبو لؤلؤة فيروز الفارسي غلام المغيرة بن شعبة، وكان مجوسيا، وقيل: كان نصرانيا، ثلاث ضربات أحداهن تحت سرته، فقال: قتلني الكلب. وخرج من المحراب ودخل عبد الرحمن بن عوف، فأتم الصلاة بالناس. ومر أبو لؤلؤة هاربا في يده خنجر يضرب به يمينا وشمالا فطرح عليه رجل من الأنصار رداءه، فلما علم أنه مأخوذ، نحر نفسه. وكان بعض الذين في المسجد لم يشعروا بذلك لشغلهم بالصلاة إلا أنهم فقدوا صوت عمر ولم يعلموا ما سببه. وإنه لما طعن، قيل له: ما أحب الأشربة إليك يا أمير المؤمنين؟ قال: النبيذ فسقوه نبيذا، فخرج من جرحه، فقال قوم: نبيذ وقال قوم: دم فسقوه لبنا فخرج من جرحه. فقيل له: أوص يا أمير المؤمنين، فأوصى بالشورى كما تقدم. وكان قتله في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وبقي ثلاثة أيام، وتوفي لأربع بقين من ذي الحجة. وقيل لليلتين وقد تقدم بعض ذلك في الأوز. ويقال إن عبيد الله بن عمر وثب على الهرمزان فقتله، وقتل معه رجلا نصرانيا، يعرف بحفنة من أهل نجران، كانا قد اتهما بإغراء أبي لؤلؤة بعمر رضي الله عنه. وقتل بنتا لأبي لؤلؤة طفلة. ووداهم عثمان رضي الله عنه. ولحق عبيد الله بمعاوية في خلافة علي رضي الله عنه. وكان في أيام عمر الفتوحات العظام، وهو الذي سمى الغزوات الشواتي والصوائف، وهو أول من أرخ التاريخ بعام الهجرة، وأول من دعي بأمير المؤمنين وأول من ختم الكتب، وكان في يده خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر. وأول من ضرب بالدرة وحملها. وأول من قال: أطال الله بقاءك، قالها لعلي رضي الله عنهما، وهو الذي أخر المقام إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت، وهو أول من جمع الناس على إمام واحد في التراويح. وحج بالناس عشر سنين متوالية آخرها سنة ثلاث وعشرين، ومعه نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهوادج ورجع إلى المدينة فرأى الرؤيا المتقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ذكرها، وتزوّج عمر أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه، وأصدقها أربعين ألف درهم، وكان أي عمر رضي الله عنه قد حد ابنه عبيد الله على الشراب، فقال له وهو يحده: قتلتني يا أبتاه. فقال له: يا بني إذا لقيت ربك فأخبره أن أباك يقيم الحدود. والذي في السير أن المحدود في الشراب ابنه الأوسط أبو شحمة، وإسمه عبد الرحمن، وأمه أم ولد يقال لها الهيبة. وقتل عبيد الله الرجلين مشكل وقتله الطفلة أشكل والله أعلم. وذكر غير واحد من الثقات، أنه كان لرقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، من عثمان، ولد يقال له عبد الله، وبه كان يكنى، بلغ سبع سنين نقره ديك في وجهه فمات بعد أمه في جمادى سنة أربع. ولم يولد له غيره من بنات النبي صلى الله عليه وسلم. ولما هاجرت رقية إلى الحبشة كان فتيان الحبشة يتعرضون لرؤيتها ويتعجبون من جمالها، فآذاها ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعا. وقالوا: «ما كلمته إلا كحسو الديك» «1» يريدون السرعة قال الشاعر: ويوما كحسو الديك قد بات صحبتي ... ينالونه فوق القلاص العياهل «2» يريد قتله وسرعته وضربوا المثل بصفاء عينه فقالوا: «أصفى من عين الديك» «3» . ومن المشهور في ذلك قصيدة عدي بن زيد العبادي التي يقول «4» فيها: بكر العاذلون في وضح الصب ... بح يقولون لي أما تستفيق ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موهوق «5» لست أدري إذا أكثروا العذل فيها ... أعدّو يلومني أم صديق ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق قدمته على عقار كعين ال ... ديك صفيّ سلافها الراووق «6» ولهذه الأبيات حكاية حسنة مشهورة مذكورة في درة الغواص. وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة حماد الراوية قال: كنت منقطعا إلى يزيد بن عبد الملك، وكان أخوه هشام يجفوني لذلك في أيامه، فلما مات يزيد، وأفضت الخلافة إلى هشام، خفتة فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به، من إخواني سرا، فلما لم أسمع أحدا ذكرني في السنة، أمنت فخرجت يوما، وصليت الجمعة بالرصافة، وإذا شرطيان قد وقفا عليّ وقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر، وكان واليا على العراق، فقلت في نفسي: من هذا كنت أخاف. ثم قلت للشرطين: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي، فاودعهم وداع من لا يرجع إليهم أبدا، ثم أسير معكما إليه؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل. فاستسلمت في أيديهما، ثم صرت إلى يوسف بن عمر، وهو في الايوان الأحمر، فسلمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 فرد علي السلام، ورم إلي كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر الثقفي، أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به، من غير ترويع، وادفع له خمسمائة دينار وجملا مهريا، يسير عليه لإثنتي عشرة ليلة إلى دمشق. قال: فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول فجعلت رحلي في الغرز وسرت إثنتي عشرة ليلة حتى وافيت دمشق، فنزلت على باب هشام، فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب من ذهب، وهشام جالس على طنفسة حمراء، وعليه ثياب حمر من الخز، وقد تضمخ بالمسك والعنبر، فسلمت عليه فرد علي السلام، واستدناني فدنوت إليه حتى قبلت رجله فإذا جاريتان لم أر مثلهما قط في أذن كل واحدة منهما حلقتان، فيهما لؤلؤتان تتقدان، فقال لي: كيف أنت يا حماد وكيف حالك؟ قلت: بخير يا أمير المؤمنين. فقال: أتدري فيم بعثت إليك؟ قلت: لا. قال: بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر قائله! قلت: وما هو؟ قال: ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها ابريق «1» فقلت: يقوله عدي بن زيد العبادي في قصيدة له فقال: أنشدنيها فانشدته: بكر العاذلون في وضح الصب ... ح يقولون لي أما تستفيق ويلومون فيك يا ابنة عبد الله ... والقلب عندكم موهوق لست أدري إذا أكثروا العذل فيها ... أعدوّ يلومني أم صديق قال حماد فانتهيت فيها إلى قوله: ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها ابريق «2» قدمته على عقار كعين ال ... ديك صفيّ سلافها الراووق مرة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذ طعمها من يذوق وطفا فوقها فقاقيع كاليا ... قوت حمر يزينها التصفيق ثم كان المزاج ماء سحاب ... لاصرى آجن ولا مطروق «3» قال: فطرب هشام، ثم قال لي: أحسنت يا حماد والله، يا جارية اسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي، فقال: أعده فاعدته فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه فسقتني، شربة ذهبت بثلث آخر من عقلي، ثم قال: سل حاجتك يا حماد. فقلت: كائنة ما كانت؟ قال: نعم. قلت: إحدى هاتين الجاريتين، فقال: هما لك بما عليهما، ثم قال للجارية الأولى: اسقيه فسقتني شربة، فسقطت منها فلم أعقل حتى أصبحت، والجاريتان عند رأسي، فإذا عشرة من الخدم، ومع كل واحد منهم بدرة فيها عشرة آلاف درهم. فقال أحدهم: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه وانتفع بها في سفرك فأخذتها والجاريتين وعدت إلى أهلي انتهى. هكذا ساقها الحريري في كتابه درة الغواص، وفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 اعترضان: أحدهما قوله: يا جارية اسقيه، فإن هشام لم يكن يشرب الخمر، اللهم إلا أن كان يشرب بحضرته. والثاني قوله: إن هشاما بعث إلى يوسف بن عمر الثقفي، فإنه في هذا التاريخ، لم يكن متوليا على العراق، وإنما كان واليا عليه في التاريخ المذكور خالد بن عبد الله القسري حسبما ذكره أهل التاريخ. الخواص: لحم الديوك حار يابس، باعتدال أجوده عند اعتدال أصواتها، وهو ينفع أصحاب القولنج، ويستحب كدها قبل ذبحها، وأكل لحمها يولد غذاء محمودا ويوافق من الأمزجة الباردة ومن الأسنان الشيوخ، ومن الزمان الشتاء. والديوك العتيقة تنحل منها قوة في الطبخ، ولحمها يطلق البطن، وينفع المفاصل، والرعشة والحمى العتيقة، ذات الأدوار، ولا سيما إذا عمل بملح كثير وماء كرنب، ولبان القرطم والإسفاناخ. وأما الفراخ فغذاؤها موافق لجميع الناس حين تبتدىء بالصياح. والدجاج قبل أن يبيض. وينبغي أن يواصل أكلها دائما. وأما خواص أجزائه فدم الديك أو دماغه إذا طلي به على لسع الهوام أبرأه، والاكتحال بدمه ينفع البياض في العين، وعرف الديك إذا أحرق وسقي منه من يبول في فراشه أزال عنه ذلك وأبرأه. وإذا طليت جبهة الديك وعرفه بدهن لم يصح. وإذا نتف الريش الطويل الذي في ذنبه، عند ركوبه على الدجاجة وهو يسفدها، وجعل في مجرى الحمام، فمن اغتسل من ذلك الماء أنعظ. وفي طرف جناحيه عظمتان، إذا علقت اليمنى على من به الحمى الدائمة أبرأته، وإذا علقت اليسرى على من به حمى الربع أبرأته. وهاتان العظمتان يمنعان الإعياء والنعاس إذا علقتا على بهيمة. وخصيته إذا شويت وأكلتها المرأة التي لا تحبل، في حيضها قبل الطهر بثلاثة أيام، وجامعها زوجها حبلت. وإذا أخذ هذا العضو من يريد الجماع الكثير، وصره في قرطاس وعلقه على عضده الأيسر، أنعظ انعاظا شديدا عجيبا، فإذا حله سكن ذلك عنه. وعرف الديك الأبيض أو الأحمر إذا بخر به المجنون نفعه نفعا عجيبا. ومرارة تخلط بمرق ضأن وتؤكل على الريق تذهب النسيان، وتذكر ما نسي. ودمه يخلط بعسل ويعرض على النار، ويطلى به الذكر يقوي الذكر والباه. وخصية الديك تعلق على الديك المهارش لا يغلبه ديك. التعبير: الديك تدل رؤيته على الخطيب والمؤذن، والقارىء المطرب، وربما دلت رؤيته على الرجل الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه، لأنه يذكر بالصلاة ولا يصلي، وربما دلت رؤيته على الرجل الكثير النكاح، أو السمار الكثير العياط، أو الزمار الذي يأوي إلى النساء، أو الحارس، وربما دلت رؤيته على الرجل الكريم المؤثر على نفسه بما يحتاج إليه، أو القانع بما يجد أو الناقص الحظ، والعائل أو الكثير الوقوع في الشدائد، وربما تدل رؤيته على رب الدار كما أن الدجاجة ربة البيت، ويعبر أيضا بمملوك، لأنه ضمن المدرج لنوح عليه الصلاة والسلام لما أنفذه، يكشف خبر الماء إن كان نقص فغدر ولم يأت، فبقي الديك رهينا كالمملوك من ذلك الزمان وامتنع من الطيران. وقيل: الديك في المنام رجل محارب من قبل المماليك. وقيل: الديك إذا كان أبيض أفرق فأنه مؤذن، فمن ذبحه في المنام، فإنه لا يجيب المؤذن، وقيل: رؤية الديك تدل على مصاحبة العلماء وأولي الحكمة. روي أن رجلا أتى ابن سيرين، فقال له: رأيت كأن ديكا دخل منزلي فلقط حبات شعير كانت فيه، فقال له ابن سيرين: إن سرق لك شيء فأعلمني. فما كان إلا أيام إذ أتى الرجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 إليه فقال: سرق لي بساط من سطح منزلي، فقال ابن سيرين: المؤذن أخذه، فكان كذلك. وقال آخر لابن سيرين: رأيت كأني أخنق ديكا، فقال ابن سيرين؟ هذا رجل ينكح يده. وقال له آخر: رأيت كأن ديكا يصيح بباب بيت إنسان وينشد: قد كان من رب هذا البيت ما كانا ... هيوا لصاحبه يا قوم أكفانا فقال يموت صاحب الدار بعد أربعة وثلاثين يوما، فكان كذلك. وهي عدد حروف الديك بالجمل، وجاءه آخر فقال: رأيت كأن ديكا يقول: الله الله الله فقال له: بقي من أجلك ثلاثة أيام فكان كذلك. ديك الجن: دويبة توجد في البساتين، إذا ألقيت في خمر عتيق حتى تموت، وتترك في محارة، وتسد رأسها وتدفن في وسط الدار، فإنه لا يرى فيها شيء من الأرضة أصلا قاله القزويني. وديك الجن لقب لأبي محمد بن عبد السلام الحمصي الشاعر المشهور من شعراء الدولة العباسية، كان يتشيع تشيعا حسنا وله مراث في الحسين رضي الله عنه، وكان ماجنا خليعا عاكفا على القصف واللهو متلافا لما ورثه. مولده سنة إحدى وستين ومائة وعاش بضعا وسبعين سنة، وتوفي في أيام المتوكل سنة خمس أو ست وثلاثين ومائتين. ولما اجتاز أبو نواس بحمص، قاصدا مصر لامتداح الخصيب، جاءه إلى بيته فاختفى منه، فقال لامته: قولي له: اخرج فقد فتنت أهل العراق بقولك «1» : موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها فلما سمع ذلك ديك الجن خرج إليه واجتمع به وأضافه. وفي تاريخ «2» ابن خلكان أن دعبلا الخزاعي «3» ، لما اجتاز يحمص سمع ديك الجن بوصوله فاختفى منه، خوفا أن يظهر لدعبل، لأنه كان قاصرا بالنسبة إليه، فقصده في داره، فطرق الباب واستأذن عليه، فقالت الجارية: ليس هو هنا، فعرف قصده، فقال لها: قولي له: اخرج فأنت أشعر الإنس والجن بقولك: فقام تكاد الكأس تحرق كفه ... من الشمس أو من وجنتيه استعارها موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها فلما بلغ ذلك ديك الجن خرج إليه وأضافه. الديلم: ذكر الدراج وحكمه وخواصه وأمثاله وتعبيره كالدراج. ابن دأية: الغراب الأبقع سمي بذلك لأنه إذا رأى دبرة في ظهر بعير، أو قرحة في عنقه نزل عليه ونقرها إلى الديات. فائدة: الدّيات بتشديد الدال وبالياء المثناة تحت والتاء المثناة فوق في آخره هي عظام الرقبة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وفقار الظهر. قال ابن الأعرابي في نوادره: فقار البعير ثمان عشرة فقرة، وأكثرها إحدى وعشرون فقرة، وفقار الإنسان سبع عشرة فقرة. وقال جالينوس: خرز الظهر من لدن منبت النخاع من الدماغ، إلى عظم العجز أربع وعشرون خرزة، سبع منها في العنق، وسبع عشرة في الظهر، ثنتا عشرة في الصلب، وخمس في البطن، وهو العجز. قال: والاضلاع أربع وعشرون: اثنتا عشرة في كل جانب، وجملة العظام التي في جسم الإنسان مائتان وثمانية وأربعون عظما، حاشا العظم الذي في القلب والعظام التي حشي بها خلل المفاصل، وتسمى السمسمية، وإنما سميت بالسمسمية لصغرها قال: وجميع الثقب التي في بدن الإنسان اثنتا عشرة: العينان والأذنان، والمنخران، والفم، والثديان، والفرجان، والسرة، حاشا الثقب الصغار التي تسمي المسام، وهي التي يخرج منها العرق فإنها لا تكاد تنحصر. روي: أن عتبة بن أبي سفيان، ولى رجلا من أهله على الطائف، فظلم رجلا من الأزد، فأتى الأزدي عتبة، فمثل بين يديه، فقال: أصلح الله الأمير إنك قد أمرت من كان مظلوما أن يأتيك، فقد أتاك مظلوم غريب الديار، ثم ذكر ظلامته بضجة وجفاء فقال له عتبة: أني أراك أعرابيا جافيا، والله ما أحسبك تدري كم فرض الله عليك من ركعة بين يوم وليلة! فقال الأزدي: أرأيتك إن أنبأتك بها أتجعل لي عليك مسألة؟ قال عتبة: نعم. قال «1» : إن الصلاة أربع وأربع ... ثم ثلاث بعدهن أربع ثم صلاة الفجر لا تضيّع. فقال عتبة: صدقت ما مسألتك؟ قال: كم فقار ظهرك؟ قال عتبة: لا أدري. فقال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟ فقال عتبة: أخرجوه عني، وردوا عليه غنيمته. والإبل تعرف من الغراب ذلك فهي تخافه وتحذره وهو الذي تسميه العرب الأعور وتتشاءم به. وسيأتي الكلام عليه، في باب الغين المعجمة إن شاء الله تعالى. الدئل: بضم الدال وكسر الهمزة دابة شبيهة بابن عرس، وكان من حقه أن يكتب في أول الباب، وإنما أخرناه لأنه يكتب في الرسم بالياء قال كعب «2» بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: جاؤوا بجيش لوقيس معرسه ... ما كان إلا كمعرس الدئل أراد موضع نزولهم ليلا كبيت ابن عرس. قال أحمد بن يحيى: ما نعلم إسما جاء على فعل غير هذا. قال الأخفش: وإليه ينسب أبو الأسود الدئلي، قاضي البصرة، إلا أنهم فتحوا الهمزة، على مذهبهم في النسبة، استثقالا لتوالي الكسرتين مع ياء النسب، كما نسبوا إلى نمرة نمري وإلى ملك ملكي. وإسم أبي الأسود ظالم بن عمرو بن سليمان بن عمرو وفي إسمه ونسبه اختلاف كثير، وكان من سادات التابعين وأعيانهم. يروي عن علي وأبي موسى وأبي ذر وعمران بن حصين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وصحب عليا رضي الله عنه، وشهد معه وقعة صفين، وهو بصري، وكان من أكمل الرجال رأيا، وأسدهم عقلا، ويعد من الشعراء والمحدثين والبخلاء والفرسان والبخر والعرج والمفاليج والنحويين. وهو أول من وضع النحو، فقيل: إن عليا رضي الله تعالى عنه، وضع له: الكلام كله ثلاثة أضرب: إسم وفعل وحرف، ثم دفعه إليه، وقال له: تمم على هذا وسمي النحو نحوا، لأن أبا الأسود قال: استأذنت على علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، في أن أضع نحو ما وضع، فسمي لذلك نحوا. وهو القائل لبنيه: لا تجاودوا الله عز وجل، فإنه أجود وأمجد، ولو شاء أن يوسع على الناس كلهم لفعل، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسعة على الناس فتهلكوا هزالا. وهو صاحب نوادر، فمنها: أنه سمع رجلا يقول: من يعشي الجائع؟ فدعاه وعشاه، فلما ذهب السائل ليخرج، قال له: هيهات إنما أطعمتك على أن لا تؤذي المسلمين الليلة. ثم وضع رجله في الأدهم حتى أصبح. والأدهم القيد. ومنها أنه قال له رجل: إنك ظرف علم، ووعاء حلم، غير أنك بخيل. فقال: لا خير في ظرف لا يمسك ما فيه. ومنها أنه اشترى حصانا بتسعة دنانير، واجتاز به على رجل أعور، فقال: بكم اشتريته؟ فقال: قومه. فقال: قيمته أربعة دنانير ونصف. فقال: معذور أنت لأنك نظرته بعين واحدة فقومته بنصف قيمته، ولو نظرته بالعين الأخرى، لو كانت صحيحة، لقومته ببقية القيمة. ومضى إلى داره ونام، فلما استيقظ سمعه يقضم، فقال: ما هذا؟ قالوا: الفرس يأكل شعيره، فقال: لا أترك في مالي من أنام وهو يمحقه ويتلفه، ولا أترك إلا ما يزيده وينميه فباعه واشترى بثمنه أرضا للزراعة. ومنها أن جيرانه بالبصرة، كانوا يخالفونه في الاعتقاد ويؤذونه ويرجمونه في الليل بالحجارة، ويقولون له: إنما يرجمك الله تعالى فيقول لهم: كذبتم لو رجمني الله لأصابني وأنتم ترجموني فلا يصيبني. ثم باع الدار. فقيل له: بعت دارك؟ فقال: بل بعت جاري فأرسلها مثلا. وهذا عكس ما جرى لأبي الجهم العدوي، فإنه باع داره بمائة ألف درهم، ثم قال: بكم تشترون جوار سعيد «1» بن العاص؟ فقالوا: وهل يشترى جوار قط؟ قال: ردوا علي داري، وخذوا دراهمكم، والله لا أدع جوار رجل إن فقدت سأل عني، وإن رآني رحّب بي، وإن غبت حفظني، وإن شهدت قربني، وإن سألته أعطاني، وإن لم أسأله ابتدأني، وإن نابتني جائحة فرج عني. فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه بمائة ألف درهم. ومنها أنه دخل على معاوية رضي الله تعالى عنه يوما فبينما هو يخاطبه إذا ضرط أبو الأسود، فضحك معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين لا تخبر بها أحدا، فلما خرج من عنده، دخل عمرو بن العاص، فأخبره معاوية بما كان من أبي الأسود، فلما رآه عمرو قال له: يا أبا الأسود ضرطت بين يدي أمير المؤمنين؟ فلما دخل على معاوية قال له: ألم أسألك أن لا تخبر بها أحدا؟ فقال له معاوية: ما علم بها إلا عمرو، فقال: اياه كنت أحذر، ولكن فأنت لا تصلح للخلافة! قال: كيف؟ قال: إذا لم تكن لك أمانة على ضرطة فكيف تؤمن على أموال المسلمين ودمائهم؟ فضحك معاوية ووصله. ومنها أنه قيل له: هل شهد معاوية بدرا؟ قال: نعم. لكن من ذلك الجانب. وكان أبو الأسود يعلم أولاد زياد ابن أبيه، والي العراقين فخاصمته امرأته إلى زياد في ولدها، وقالت: إنه يريد أن يغلبني على ولدي، وقد كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وحجري له وطاء. فقال: أبو الأسود: بهذا تريدين أن تغلبيني على ولدي وقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه. فقالت: ولا سواء إنك حملته خفا وحملته ثقلا، ووضعته شهوة ووضعته كرها. فقال له زياد: إني أرى امرأة عاقلة فادفع ابنها إليها فأخلق أن تحسن أدبه. توفي أبو الأسود بالبصرة في طاعون الجارف سنة تسع وستين، وعمره خمس وثمانون سنة، وهذا الطاعون كان بالبصرة مات فيه سراة الناس. قيل إنه مات فيه لانس بن مالك رضي الله تعالى عنه ثلاثون ولدا والله تعالى أعلم. باب الذال المعجمة ذؤالة : إسم للذئب كأسامة للأسد، وهو معرفة سمي بذلك لأنه يذأل في مشيته من الذألان، وهو المشي الخفيف، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية سوداء ترقص صبيا لها وتقول: ذؤال يا ابن القرم يا ذؤال. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقولي ذؤالة فإنه شر السباع» . وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد. الذباب: معروف واحدته ذبابة ولا تقل ذبانة. جمعه في القلة أذبة وفي الكثرة ذبان بكسر الذال وتشديد الباء الموحدة وبالنون في آخره كغراب وأغربة وغربان وقراد وأقردة وقردان قال النابغة: يا واهب الناس بعيرا صلبه ... ضرّابة بالمشفر الأذبّه ولا يقال ذبابات إلا في الديون قال الراجز: أو يقضى الله ذبابات الديون. وأرض مذبة بفتح الميم والذال أي ذات ذباب. وقال الفراء: أرض مذبوبة، كما يقال أرض موحوشة، أي ذات وحوش. وسمي ذبابا لكثرة حركته واضطرابه، وقيل لأنه كلم ذب آب، وكنيته أبو حفص وأبو حكيم وأبو الحدرس والذباب أجهل الخلق لأنه يلقي نفسه في الهلكة. قال الجوهري: يقال ليس شيء من الطيور يلغ إلا الذباب، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت قول افلاطون: إن الذباب أحرص الأشياء ولم يخلق للذباب أجفان لصغر أحداقها، ومن شأن الأجفان أن تصقل مرآة الحدقة من الغبار، فجعل الله لها عوضا من الأجفان يدين تصقل بهما مرآة حدقتها، فلهذا ترى الذباب أبدا يمسح بيديه عينيه، وهو أصناف كثيرة متولدة من العفونة. قال «1» الجاحظ: الذباب عند العرب يقع على الزنابير والنحل والبعوض بأنواعه، كالبق والبراغيث والقمل والصؤاب والناموس والفراش والنمل. والذباب المعروف عند الاطلاق العرفي وهو أصناف النعر والقمع والخازباز والشعراء وذباب الكلاب وذباب الرياض وذباب الكلا والذباب الذي يخالط الناس يخلق من الفساد، وقد يخلق من الأجساد، ويقال: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 الباقلا إذا عتق في موضع استحال كله ذبابا، وطار من الكوى التي في ذلك الموضع ولا يبقى فيه غير القشر انتهى. روى الحاكم عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه أنه قال، وهو على المنبر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إنه لم يبق من الدنيا إلا مثل الذباب تمور في جوها، فالله الله في اخوانكم من أهل القبور، فإن أعمالكم تعرض عليهم» . ومعنى تمور تذهب وتجيء، والجوّ ما بين السماء والأرض. وفي مسند أبي يعلى الموصلي، من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «عمر الذباب أربعون ليلة، والذباب كله في النار، إلا النحل «1» . وهو في الكامل في ترجمة عمرو بن شقيق عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذباب كله في النار إلا النحل. قيل كونه في النار ليس بعذاب له، وإنما ليعذب به أهل النار بوقوعه عليهم» «2» . وروى النسائي والحاكم عن أبي المليح عن أبيه أسامة بن عمير بن عامر الأقيش الهذلي البصري قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثر بعيرنا فقلت: تعس الشيطان. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقل تعس الشيطان فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي، ولكن قل بسم الله فإنه يصغر حتى يصير مثل الذبابة» «3» . ورواه أبو داود عن أبي المليح عن رجل قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثرت دابته فقلت: الخ ورواه ابن السني كما رواه النسائي والحاكم، وصرح فيه بأن أبا المليح رواه عن أبيه أسامة بن مالك. وكلتا الروايتين صحيحة فإن الرجل المجهول في رواية أبي داود صحابي والصحابة كلهم عدول، لا تضر الجهالة بأعيانهم. وقال الإمام العلامة الذهبي: الرجل المجهول المبهم أبو عزة. ورواه خالد الحذاء عن أبي تميمة الهجيمي عن أبيه خالد قال: كنت رديفا للنبي صلى الله عليه وسلم، فعثرت الناقة، فقال إلى آخره. كذا هو في أسد الغاية، في ذكر المنسوبين إلى القبائل. وأما قوله: تعس، فقيل: معناه هلك، وقيل: سقط وقيل: عثر، وقيل لزمه الشر. وتعس بفتح العين وكسرها والفتح أشهر، ولم يذكر الجوهري غير الفتح. وروى الطبراني وابن أبي الدنيا، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه، فمن ذلك سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، في اليوم الصائف ولو بدوا لكم لرأيتموهم على كل سهل وجبل كل باسط يديه فاغرفاه، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» . والعرب تجعل الذباب والفراش والنحل والدبر ونحوها كلها واحدا كما تقدم. وجالينوس يقول: إنه ألوان فللإبل ذباب، وللبقر ذباب. وأصله دود صغار يخرج من أبدانهن فيصير ذبابا وزنابير. وذباب الناس يتولد من الزبل ويكثر الذباب إذا هاجت ريح الجنوب ويخلق في تلك الساعة، وإذا هبت ريح الشمال خف وتلاشى. وهو من ذوات الخراطيم كالبعوض. انتهى. ومن عجيب أمره أنه يلقي رجيعه على الأبيض أسود، وعلى الأسود أبيض، ولا يقع على شجرة اليقطين. ولذلك أنبتها الله على نبيه يونس عليه الصلاة والسلام، لأنه حين اخرج من بطن الحوت لو وقعت عليه ذبابة لآلمته فمنع الله عنه الذباب بذلك، فلم يزل كذلك حتى تصلب جسمه. ولا يظهر كثيرا إلا في الأماكن العفنة، ومبدأ خلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 منها ثم من السفاد، وربما بقي الذكر على الأنثى عامة اليوم. وهو من الحيوانات الشمسية، لأنه يخفي شتاء ويظهر صيفا، وبقية أنواعه كالناموس والفراش والنعر والقمع وغيرها، ستذكر في أبوابها إن شاء الله تعالى وما أحسن قول أبي العلاء المعري، ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة: يا طالب الرزق الهنيّ بقوّة ... هيهات أنت بباطل مشغوف رعت الأسود بقوة جيف الفلا ... ورعى الذباب الشهد وهو ضعيف ولمحمد الأندلسي في المعنى: مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعا ... وإذا وليت عنه تبعك وفي المعنى «1» أيضا لأبي الخير الكاتب الواسطي: جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين وقد أجاد الأمير سيف الدين علي بن فليح الظاهري في التحذير من احتقار العدوّ بقوله: لا تحقرن عدوّا لأن جانبه ... وإن تراه ضعيف البطش والجلد فللذبابة في الجرح المديد يد ... تنال ما قصّرت عنه يد الأسد وفي تاريخ «2» ابن خلكان، في ترجمة الإمام يوسف بن زهرة الهمذاني الزاهد، صاحب المقامات والكرامات والأحوال الظاهرات، أنه جلس يوما للوعظ فاجتمع إليه العالم، فقام من بينهم فقيه يعرف بابن السقاء وآذاه، وسأله عن مسألة، فقال له الإمام يوسف: اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الإسلام! فقدم رسول ملك الروم إلى الخليفة فخرج ابن السقاء مع الرسول إلى القسطنطينية فتنصر ومات نصرانيا. وكان ابن السقاء قارئا للقرآن، محمودا في تلاوته. وحكى من رآه بالقسطنطينية قال: رأيته مريضا ملقى على دكة، وبيده مروحة يدفع بها الذباب عن وجهه، فقلت له: هل القرآن باق على حفظك؟ فقال: ما أذكر منه إلا آية واحدة وهي رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ «3» والباقي أنسته. اهـ نعوذ بالله من سخطه وخذلانه، ونسأله حسن الخاتمة. فانظر يا أخي كيف هلك هذا الرجل، وخذل بالانتقاد، وترك الاعتقاد. نسأل الله السلامة، فعليك يا أخي بالاعتقاد، وترك الانتقاد على المشايخ العارفين، والعلماء العاملين، والمؤمنين الصالحين، فإن حرابهم مسمومة. فقل من تعرض لهم وسلم، فسلم تسلم ولا تنتقد تندم، واقتد بإمام العارفين، ورأس الصديقين، وعلامة العلماء العاملين في وقته الشيخ محي الدين عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى، لما عزم على زيارة قطب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الغوث بمكة، وقال رفيقاه ما قالا فقال: أما أنا فذاهب على قدم الزيارة والتبرك، لا على قدم الإنكار والامتحان، فآل أمره إلى أن قال: قدمي هذا على رقبة كل ولي، وآل أمر أحد رفيقيه إلى الكفر، وترك الإيمان بالانتقاد، وترك الاعتقاد. كما اتفق في هذه الحكاية. وآل أمره الآخر إلى اشتغاله بالدنيا، وتركه خدمة المولى لقلة التوفيق. فنسأل الله التوفيق والهداية والأمانة على الإيمان به وبرسوله، والاعتقاد الحسن في أوليائه وأصفيائه، بمحمد وآله. حدث يحيى بن معاذ أن أبا جعفر المنصور كان جالسا، فألح على وجهه ذباب حتى أضجره، فقال: انظروا من بالباب، فقالوا: مقاتل بن سليمان فقال: علي به، فلما دخل عليه، قال له: هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ قال: نعم. ليذل به الجبابرة، فسكت المنصور. ومقاتل بن سليمان مشهور بتفسير كتاب الله العزيز، وأخذ الحديث عن جماعة، قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: الناس كلهم عيال على ثلاثة: على مقاتل بن سليمان في التفسير، وعلى زهير بن أبي سلمى في الشعر، وعلى أبي حنيفة في الفقه. قعد مقاتل بن سليمان يوما فقال: سلوني عما دون العرش. فقال له رجل: آدم عليه الصلاة والسلام لما حج أول حجة حجها من حلق رأسه، فقال ليس هذا من علمكم ولكني ابتليت لما اعجبتني نفسي. وقيل إنه قيل له الذرة أو النملة أمعاؤها في مقدمها أو مؤخرها؟ فلم يدر ما يقول فكانت عقوبة عوقب بها وأنشد أبو عمرو بن العلاء في هذا المعنى «1» : من تحلّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان والعلماء مختلفون فيه، فمنهم من وثقه ومنهم من كذبه، وترك حديثه. قيل: إنه كان يتكلم في الصفات بما لا تحل الرواية عنه. وقيل: إنه كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبها. قال ابن خلكان وغيره: وهذا لا أعتقد صحته. وتوفي مقاتل بن سليمان في سنة خمس وخمسين ومائة وفي مناقب الإمام الشافعي أن المأمون سأله فقال: لاي شيء خلق الله الذباب؟ فقال: مذلة للملوك. فضحك المأمون وقال: رأيته وقد وقع على جسدي فقال: نعم. ولقد سألتني عنه وما عندي جواب. فلما رأيته قد سقط منك بموضع لا يناله منك أحد فتح الله لي فيه بالجواب. فقال لله درك. وفي شفاء الصدور وتاريخ ابن النجار مسندا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقع على جسده ولا ثيابه ذباب أصلا. الحكم: كل أنواعه يحرم أكلها، وفيه وجه أنه يحل حكاه الرافعي. وقال الماوردي: ومن الفقهاء من أباح الذباب المتولد من مأكول كالفول ونحوه، ولعل قائل هذا القول هو الذي يقول بإباحة المتولد من الفواكه. فرع: قال في الأحياء في أول كتاب الحلال والحرام: لو وقعت ذبابة أو نملة في قدر طبيخ وتهرت أجزاؤها لم يحرم أكل ذلك الطبيخ، لأن تحريم أكل الذباب والنمل ونحوهما إنما كان للاستقذار ولا يعد هذا مستقذرا. قال: ولو وقع فيه جزء من لحم آدمي ميت، لم يحل أكل ذلك الطبيخ، حتى لو كان لحم الآدمي وزن دانق، حرم الطبيخ لا لنجاسته فإن الآدمي الميت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 طاهر على الصحيح، خلافا لأبي حنيفة، ولكن لأن أكل لحم الآدمي حرام لحرمته لا لاستقذاره، بخلاف الذباب. هذا كلام الغزالي رحمه الله تعالى. قال في شرح المهذب المختار أنه لا يحرم أكل الطبيخ في مسألة لحم الآدمي لأنه صار مستهلكا، فهو كالبول وغيره إذا وقع في قلتين من الماء فإنه يجوز استعمال جميعه لأن البول صار باستهلاكه كالعدم. وروى البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وإنه يتقى بجناحه الذي فيه الداء» . وفي رواية النسائي وابن ماجه «أن أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء فإذا وقع في الطعام فامقلوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء» . قال الخطابي: وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له، وقال: كيف يكون هذا وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي ذبابة؟ وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء، وما أداها إلى ذلك؟ قال: وهذا سؤال جاهل، أو متجاهل فإن الذي يجد نفسه، ونفس سائر الحيوانات، قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت ثم يرى أن الله قد ألف بينها وقهرها على الإجتماع وجعل منها قوى الحيوان التي منها بقاؤه وصلاحه لجدير أن لا ينكر إجتماع الداء والشفاء في جزأين من حيوان واحد. وإن الذي ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وتعسل فيه، وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه، هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحا وتؤخر جناحا لما أراده من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان، الذي هو مضمار التكليف، وله في كل شيء حكمة وعنوان، وما يذكر إلا أولو الألباب. انتهى. وقد تأملت الذباب فوجدته يتقي بجناحه الأيسر وهو مناسب للداء، كما أن الأيمن مناسب للدواء. وقد استفيد من الحديث أنه إذا وقع في المائع لا ينجسه لأنه ليس له نفس سائلة، هذا هو المشهور وفي قول ينجسه، كسائر الميتات النجسة، وفي ثالث مخرج أن ما يعم وقوعه كالذباب والبعوض لا ينجس، وما لا يعم كالخنافس والعقارب ينجس. وهو متجه لا محيد عنه ومحمل الخلاف في ميتة أجنبية أما الناشىء منه كدود الفواكه والجبن والخل، فلا ينجس ما مات فيه بلا خلاف. كذا قاله الشيخان وابن الرفعة وحكى الدارمي في المسألة ثلاثة أوجه، ثالثها الفرق بين الكثير والقليل ومحل ذلك ما لم يتغير به لكثرته فإن كثر وتغير به فالأصح أنه ينجسه، ومحله أيضا إذا وقع فيه بنفسه فإذا طرح فيه ضر. فرع: لو وقع الزنبور أو الفراش أو النحل وأشباه ذلك في الطعام، هل يؤمر بغمسه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم» . الحديث «2» ؟ وهذه الأنواع كلها يقع عليها إسم الذباب في اللغة كما تقدم نقله عن الجاحظ وغيره. وقد قال علي رضي الله تعالى عنه في العسل إنه مذقة ذبابة. وروي الذباب كله في النار إلا النحل كما سبق. فسمي الكل ذبابا وإذا كان كذلك فالظاهر وجوب حمل الأمر بالغمس على الجميع إلا النحل فإن الغمس قد يؤدي إلى قتله وهو حرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الأمثال: قال «1» الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ الآية. معنى ضرب أثبت وألزم، نحو ضربت عليه الذلة، وضربت عليهم الجزية، ويحتمل أن يكون من الضريب الذي هو المثل، وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله تعالى في تجهيل قريش واستركاك عقولهم، والشهادة على أن الشيطان خدعهم، حيث وصفوا بالآلهية التي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلها، والاحاطة بالمعلومات عن آخرها، صورا وتماثيل وأدل من ذلك على عجزهم، وانتفاء قدرتهم، أن هذا الخلق الأذل الأقل، لو اختطف منهم شيئا، فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه، لم يقدروا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأصنام كانت ثلاثمائة وستين صنما حول الكعبة، وكانوا يضمخونها بأنواع الطيب ويطلون رؤوسها بالعسل، وكان الذباب يذهب بذلك، وكانوا يتألمون من هذه الجهة. فجعلت مثلا. وقالوا: «أجرأ من ذبابة وأهون من ذبابة «2» » . «واطيش وأخطأ من الذباب» «3» لأنه يلقي نفسه في الشيء الحار، والشيء الذي يلتصق به ولا يمكنه التخلص وقالوا «4» : «أوغل من ذباب: قال الشاعر: أوغل في التطفيل من ذباب ... على طعام وعلى شراب لو أبصر الرغفان في السحاب ... لطار في الجو بلا حجاب قال أبو عبيد كان رجل من أهل الكوفة يقال له طفيل بن دلال من بني عبد الله بن غطفان، وكان يأتي الولائم من غير أن يدعى إليها، وكان يقال له طفيل الأعراس، وكان أول رجل لابس هذا العمل في الأمصار فصار مثلا ينسب إليه كل من يقتدي به. وقالوا «5» : «أزهى من ذبابة» . وقالوا: «أصابه ذباب لادغ» يضرب لمن نزل به شر عظيم يرق له من سمعه، وقالوا ما يساوي متك ذباب يضرب للشيء الحقير، والمتك العرق الذي في باطن الذكر، وهو كالخيط في باطنه على خلقة العجان. وفي كتاب النصائح لابن ظفر قال: رأيت في أخبار بعض الملوك أن وزيره أشار عليه بجمع الأموال وادخارها وقال: إن الرجال، وإن تفرقوا عنك اليوم، متى احتجتهم عرضت عليهم الأموال فتهافتوا عليك، فقال: هل لهذا من شاهد؟ قال: نعم. هل بحضرتنا الساعة ذباب؟ قال: لا. فأمر الوزير بجفنة فيها عسل، فأحضرت فتساقط عليهم الذباب، فاستشار الملك بعض خواص أصحابه، فنهاه عن ذلك، وقال: لا تغير قلوب الرجال، فليس كل وقت أردتهم يحضرون، فقال: فهل لذلك من دليل؟ قال: نعم. إذا أمسينا أخبرتك فلما أظلم الليل. قال للملك: أحضر جفنة العسل، فأحضرت فلم تحضر ذبابة، فرجع الملك عن رأيه الأول. الخواص: قال الجاحظ: إذا ضرب اللبن بالكندس ونضح به البيت لم يدخله ذباب، وإذا أخذت ذبابة وفصلت رأسها ودلكت بها قرصة الزنبور سكنت، وإذا أحرق الذباب وسحق وخلط بعسل وطلي به داء الثعلب فإنه ينبت فيه الشعر، وإذا ماتت الذبابة، فنثر عليها خبث الحديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 عاشت من وقتها، وإذا بخر البيت بورق القرع أو كندس أو سليخة ذهب منه الذباب، وإذا طبخ ورق القرع ورش به البيت أو الحيطان لم يقع فيه ذباب انتهى. صفة طلسم لمنع الذباب: يؤخذ كندس جديد وزرنيخ أصفر أجزاء متساوية، يسحقان ويعجنان بماء بصل الفار، ويدهن ويعمل منه تمثال ويوضع على المائدة، فلا يقربها ذباب ما دام عليها وإذا وضع على باب البيت باقة من الحشيشة التي يقال لها سادريون، فلا يدخل البيت ذباب ما دامت الباقة معلقة على الباب، وإذا أخذت الذباب الكبير فقطعت رؤوسهن، وحككت بجسدهن موضع الشعرة التي تنبت في الجفن، حكا شديدا فإنه يذهبها أصلا، وهو عجيب مجرب، وإذا أخذت ذبابة وجعلت في خرقة كتان وربطت بخيط ووسع الربط عليها وعلقت على من يشتكي عينه سكن ألمه، وتعلق في عنقه أو عضده. وإن شدخ الذباب وضمد به العين الوارمة أبرأها. وقال محمد بن زكريا القزويني: رأيت في كتب الطبيعيات الرومية إذا علقت ذبابة حية على من يشتكي ضرسه برىء. ومن عضه كلب فليستر وجهه عن الذباب، فإن ذلك مما يؤذيه والله أعلم. التعبير: الذباب في المنام خصم ألد وجيش ضعيف، وربما دل اجتماعه على الرزق الطيب، وربما دل على الداء والدواء للحديث المتقدم. وربما دلت رؤيته على الأعمال السيئة والوقوع فيما يوجب التقريع لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ إلى قوله: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ «1» . الذر: النمل الأحمر الصغير واحدته ذرة. قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «2» أي لا يبخس ولا ينقص أحدا من ثواب عمله مثقال ذرة، أي وزن ذرة. سئل ثعلب عنها فقال: إن مائة نملة وزن حبة. والذرة واحدة منها وقيل: إن الذرة ليس لها وزن. ويحكى أن رجلا وضع خبزا حتى علاه الذر وستره ثم وزنه فلم يزد شيئا. وقيل: الدر اجزاء الهباء في الكوة، وكل جزء منه ذرة ولا يكون لها وزن. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة: «ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» . صحفها «3» شعبة بن بسطام، وقال: مثقال ذرة بضم الذال وتخفيف الراء وقال العبدري: إنما قال درة بالدال المهملة وتشديد الراء واحدة الدر وهو تصحيف التصحيف. قال ابن بطة من الحنابلة في تفسير الآية: مثقال مفعال من الثقل، والذرة النملة الصغيرة الحمراء، وهي أصغر ما يكون إذا مر عليها حول لأنها تصغر وتحرى كما تفعل الأفعى. تقول العرب أفعى حارية وهي أشدها سما قال امرؤ القيس: من القاصرات الطّرف لو دبّ محول ... من الذّر فوق الأتب منها الأثّرا «4» المحول الذي أتى عليه حول والأتب ثوب تلقيه المرأة في عنقها بلا كم ولا جيب وقال حسان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 لو يدب الحولي من ولد الذ ... ر عليها لأندبتها الكلوم «1» أي لو دبت الحولية من الذر عليها لأثرت بها الكلوم. وقال السهيلي وغيره: أهلك الله تعالى جرهم بالذر والرف، حتى كان آخرهم موتا امرأة رؤيت تطوف بالبيت بعدهم بزمان، فتعجبوا من طولها وعظم خلقها، حتى قال لها قائل: أجنية أنت أم إنسية؟ فقالت: بل انسيه من جرهم، ثم اكترت من رجلين من جهينة بعيرا إلى أرض خيبر، فلما أنزلاها استخبراها عن الماء فأخبرتهما، فوليا فأتاها الذر فتعلق بها إلى أن انتهى إلى خياشيمها، ثم نزل إلى حلقها فهلكت. وعبر عن الذرة يزيد بن هارون بأنها دودة حمراء وهي عبارة فاسدة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الذرة رأس النملة. وقال بعض العلماء لأن تفضل حسناتي سيآتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا وما فيها قال «2» الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ انتهى. وهذه الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميها الجامعة الفاذة، أي المنفردة في معناها. وروى البيهقي في الشعب، من حديث صالح المري عن الحسن عن أنس أن سائلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاعطاه تمرة فقال السائل: سبحان الله نبي من أنبياء الله يتصدق بتمرة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو ما عملت أن فيها مثاقيل ذر كثير» . «ثم أتاه آخر فسأله فأعطاه تمرة فقال: تمرة من نبي من الأنبياء لا تفارقني هذه التمرة ما بقيت، ولا أزال أرجو بركتها أبدا فأمر له بمعروف. وفي رواية قال للجارية: إذهبي إلى أم سلمة فمريها فلتعطه الأربعين درهما التي عندها قال أنس: فما لبث الرجل أن استغنى» . وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد رجاله ثقات، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى الجماء من القرناء وحتى الذرة من الذرة» «3» . وأعطى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سائلا تمرتين، فقبض السائل يده فقال له سعد: يا هذا إن الله قد قبل منا مثاقيل الذرة. وفعلت عائشة رضي الله تعالى عنها هذا في حبة عنب. وسمع هذه الآية صعصعة بن عقال التميمي عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: حسبي لا أبالي أن لا أسمع آية غيرها. وسمعها رجل عند الحسن البصري فقال: انتهت الموعظة. فقال الحسن: فقه الرجل. وروى الحاكم في المستدرك عن أبي أسماء الرحبي، أن هذه السورة نزلت وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فترك أبو بكر الأكل وبكى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك» . فقال: يا رسول الله أو نسأل عن مثاقيل الذر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير إلى الآخرة» . قال: والذرة نملة صغيرة حمراء لا يرجح بها ميزان. وروى الإمام أحمد في الزهد عن أبي هريرة رضي الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالجبارين والمتكبرين يوم القيامة رجال على صور الذر يطؤهم الناس، من هوانهم على الله، حتى يقضي بين الناس، قال: ثم يذهب بهم إلى نار الأنيار. قيل: يا رسول الله وما نار الأنيار؟ قال عصارة أهل النار» . ورواه «4» صاحب الترغيب والترهيب. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم «5» قال: «يحشر المتكبرون يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 القيامة أمثال الذر في صور الناس، يغشاهم الصغار من كل مكان، ويساقون إلى سجن من النار يقال له بولس، تعلوهم نار الأنيار، ويسقون من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الأصمعي قال: مررت بأعرابية في البادية في كوخ فقلت لها يا اعرابية من يؤنسك ههنا؟ قالت: يؤنسني مؤنس الموتى في قبورهم. قلت: ومن أين تأكلين؟ قالت: يطعمني مطعم الذرة وهي أصغر مني. وفي المدهش للإمام العلامة أبي الفرج بن الجوزي أن رجلا من العجم طلب الأدب حينا فبينما هو في بعض الطريق سائر إذ مرّ بصخرة ملساء فتأملها فإذا ذر يدب عليها، وقد أثر عليها من كثرة دبيبه ففكر وقال: مع صلابة هذا الحجر، وخفة هذا الذر قد أثر فيه هذا الأثر، فأنا أحرى على أن أدوم على الطلب فلعلي أظفر ببغيتي. فراجع الإثبات على الأدب، فلم يلبث أن خرج مبرزا. وهكذا يجب أن يكون طالب فائدة دينية أو دنيوية، لا سيما طالب التوحيد والمعرفة، أن يكون كرارا غير فرار، فإما الظفر والغنيمة وإما القتل والشهادة. وسئل أبو زيد البسطامي رحمه الله تعالى، عن العارف؟ فقال: هو أن يكون وحداني التدبير، فرداني المعنى، صمداني الرؤية، رباني القوة، وحداني العيش، نوراني العلم خلداني العجائب، سماوي الحديث، وحشي الطلب ملكوتي السر، عنده مفاتح الغيب، وخزائن الحكم وجواهر القدس، وسرادقات الأبرار، فإذا جاوز الحد وارتفع إلى أعلى فهو غير مدرك وحاله غير موصوف. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» . فقال رجل: إن الرجل يجب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، فقال: «إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس» . ورواه «2» الترمذي، وقال: حسن غريب. وقيل: المراد بالكبر ههنا الكبر عن الإيمان فصاحبه لا يدخل الجنة أصلا إذا مات عليه. وقيل لا يكون في قلبه كبر حين دخول الجنة. كما قال «3» الله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ* الآية وهذان التأويلان فيهما بعد، فإن الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف، وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم، والظاهر فيه ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين، أنه لا يدخلها دون مجازاة، أو لا يدخلها مع أول الداخلين، وأما قوله، «فقال رجل» . فذلك الرجل هو مالك بن مرارة الرهاوي، قاله القاضي عياض، وأشار إليه ابن عبد البر. وحكى أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال في إسمه أقوالا: أحدها أنه أبو ريحانة، وإسمه شمعون، وقيل: ربيعة بن عامر، وقيل: سواد بالتخفيف بن عمرو، وقيل: معاذ بن جبل. ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع. وقيل: عبد الله بن عمرو بن العاص. ومعنى قوله إن الله جميل: أي إن كل أمره سبحانه حسن وجميل، فله الأسماء الحسنى، وصفات الجمال والكمال، وقيل جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع. وقال أبو القاسم القشيري: معناه جليل: وقيل معناه ذو النور والبهجة أي مالكهما وقيل: معناه جميل الأفعال بكم، والنظر إليكم يكلفكم اليسير ويعين عليه، ويثيب عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 الجزيل سبحانه ما أكرمه! قال شيخ الإسلام يحيى النووي رحمه الله تعالى: هذا الإسم ورد في الحديث الصحيح وورد في الأسماء الحسنى. وفي إسناده مقال والمختار جواز اطلاقه على الله تعالى، ومن العلماء ومن معه. وقال إمام الحرمين أبو المعالي: ما ورد به الشرع جوزنا إطلاقه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتجويز ولا منع، فإن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحريم أو تحليل لكنا مثبتين حكما بغير الشرع، ثم لا يشترط في جواز الاطلاق ورود ما نقطع به في الشرع، ولكن ما يقتضي العمل، وإن لم يوجب العمل فإنه كاف إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل، ولا يجوز التمسك بها في تسمية الله تعالى وصفته. قال النووي: وقد اختلف أهل السنة في تسميته تعالى ووصفه، من أوصاف الكمال والجلال والمدح، بما لم يرد به الشرع ولا منعه، فأجازه طائفة ومنعه آخرون، إلا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب، أو سنة متواترة، أو إجماع على اطلاقه، فإن ورد به خبر واحد فقد اختلفوا فيه، فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به والثناء من باب العمل. وذلك جائر بخبر الواحد، ومنعه آخرون لكونه راجعا إلى اعتقاده ما يجوز أن يستحيل على الله تعالى، وطريق هذا القطع، قال القاضي: والصواب جوازه لاشتماله على العمل، ولقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها «1» وهو كما قال. وأما قوله وغمط الناس كذا في نسخ صحيح مسلم، وكذلك ذكره أبو داود في مصنفه، وذكره الترمذي وغيره غمص بالصاد المهملة وهما بمعنى واحد وهو احتقارهم. وأما رؤيته في المنام، فإنها تعبر بالنسل لقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «2» والذر أيضا يعبر بالضعفاء من الناس. وقيل: الذر جند لأنه من النمل والله تعالى أعلم. الذراح: قال الجوهري: الذراح والذروح بالضم دويبة حمراء منقطة بسواد تطير وهي من السموم والجمع الذراريح. وقال سيبويه: واحد الذراريح ذرحرح، وليس عنده في الكلام فعول بواحدة. وكان يقول: سبوح قدوس بفتح أوائلهما. والذراح أنواع فمنه ما يتولد من الحنطة ومنه دود الصنوبر ومنه ما في أجنحته خطوط صفر ولونه مختلف وأجسامها كبار طوال ممتلئة قريبة الشبه من بنات وردان. الحكم: يحرم أكلها لاستخبائها. الخواص: الذراريح تنفع الجرب، والعلة التي ينقشر معها الجلد. ويخلط في الأدوية الموافقة للأورام، كالسرطان والقوابي الرديئة، قال الرازي: الاكتحال منها ينفع الطرفة في العين، وإذا طلي بها مسحوقة قتلت القمل، وإذا طبخت في زيت أبرأ ذلك الزيت داء الثعلب وزعم القدماء من الأطباء: أنه إذا جعل شيء منها من خرقة حمراء وعلقت على من به حمى أبرأته بخاصية عجيبة. الذرع: بالتحريك ولد البقرة الوحشية تقول منه أذرعت البقرة فهي مذرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 الذعلب: والذعلبة الناقة السريعة، وفي حديث سواد بن مطرف الذعلب الناقة الوجناء «1» . الذئب: يهمز ولا يهمز وأصله الهمزة والأنثى ذئبة، وجمع القلة أذؤب، وجمع الكثرة ذئاب وذؤبان. ويسمى الخاطف والسّيد والسرحان وذؤالة والعمّلس والسلق، والأنثى سلقة والسمسام، وكنيته أبو مذقة لأنه لونه كذلك قال الشاعر: حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط ومن كناه الشهيرة أبو جعدة. قال عبيد بن الأبرص «2» للمنذر بن ماء السماء ملك الحيرة حين أراد قتله: وقالوا: هي الخمر تكنى الطلا ... كما الذئب يكنى أبا جعدة ضربه مثلا أي تظهر لي الإكرام وأنت تريد قتلي. كما أن الخمرة، وإن سميت طلاء وحسن إسمها، فإن فعلها قبيح. وكذلك الذئب، وإن حسنت كنيته فإن فعله قبيح. والجعدة الشاة وقيل: نبت طيب الريح ينبت في الربيع ويجف سريعا وسئل ابن الزبير عن المتعة؟ فقال: الذئب يكني أبا جعدة. يعني أن المتعة حسنة الإسم قبيحة المعنى، كما أن الذئب حسن الكنية قبيح الفعل. ومن كناه أبو ثمامة وأبو جاعد وأبو رعلة وأبو سلعامة وأبو العطلس وأبو كاسب وأبو سبلة. ومن أصحابه الشهيرة أو يس مصغرا، ككميت ولحيف. قال الشاعر الهذلي: يا ليت شعري عنك والأمر عمم ... ما فعل اليوم أويس بالغنم ومن أوصافه الغبش، وهو لون كلون الرماد يقال: ذئب أغبش وذئبة غبشاء. وروى الإمام أحمد وأبو يعلي الموصلي وعبد الباقي بن قانع أن الأعشى الشاعر المازني الحرمازي، وإسمه عبد الله بن الأعور، كانت عنده امرأة يقال لها معاذة، فخرج في شهر رجب يمير أهله من هجر، فهربت امرأته ناشزة عليه، فعاذت برجل منهم يقال له مطرف بن بهصل بن كعب بن قميع بن دلف بن أهصم بن عبد الله بن الحرماز، فجعلها خلف ظهره، فلما قدم لم يجدها في بيته فأخبر بخبرها فطلبها منه، فلم يدفعها إليه وكان مطرف أعز منه في قومه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فعاذ به وأنشأ يقول: يا سيد الناس ودّيان العرب ... أشكو إليك ذرية من الذرب كالذئبة الغبشاء في ظلّ السّرب ... خرجت أبغيها الطعام في رجب فخالفتني بنزاع وهرب ... وقذفتني بين عيص مؤتشب «3» أخلفت العهد ولطّت بالذنب ... وهن شر غالب لمن غلب فقال «4» النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك: «وهن شر غالب لمن غلب» . كنى عن فسادها وخيانتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 بالذربة، وأصله ومن ذرب المعدة وهو فسادها. وقيل: أراد سلاطة لسانها وفساد منطقها مأخوذة من قولهم: ذرب لسانه، إذا كان حاد اللسان لا يبالي بما يقول، والعيص بالعين والصاد المهملتين أصل الشجر والمؤتشب الملتف وقوله لطت بالذنب، وهو بالطاء المهملة، أراد به أنها منعته بضعها من لطت الناقة بذنبها، إذا سدت فرجها به، إذا أرادها الفحل. وقيل: أراد توارت وأخفت شخصها عنه، كما تخفي الناقة فرجها بذنبها، وكان الأعشى المذكور شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إمرأته وما صنعت، وأنها عند رجل منهم يقال له مطرف بن بهصل، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مطرف: «انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه» . فأتاه «1» بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه عليه، فقال لها: يا معاذة هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيك وأنا دافعك إليه. فقالت: خذ لي العهد والميثاق وذمة النبي صلى الله عليه وسلم، أن لا يعاقبني فيما صنعت، فأخذ لها ذلك ودفعها مطرف إليه فأنشأ يقول: لعمرك ما حبي معاذة بالذي ... يغيره الواشي ولا قدم العهد ولا سوء ما جاءت به إذ أزلها ... غواة رجال اذينا جونها بعدي وقال الزمخشري في تفسيره قوله «2» تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ استعظم كيد النساء على كيد الشيطان، لأنه، وإن كان في الرجال كيد، إلا أن النساء ألطف كيدا، وأنفذ حيلة، ولهن في ذلك رفق وبذلك يغلبن الرجل. ومنه قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ «3» والنفاثات من بينهن اللاتي لهن ما ليس لغيرهن من البوائق. وعن بعض العلماء أنه قال: أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان، لأن الله تعالى يقول «4» : إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً وقال «5» في النساء: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وفي تاريخ «6» ابن خلكان، في ترجمة عمر بن أبي ربيعة، قال: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت، إذ رأى امرأة تطوف بالبيت، فأعجبته فسأل عنها فإذا هي من البصرة، فكلمها مرارا، فلم تلتفت إليه وقالت: إليك عني فإنك في حرم الله في موضع عظيم الحرمة، فلما ألح عليها ومنعها من الطواف، أتت محرما لها، وقالت له تعالى معي أرني المناسك، فحضر معها فلما رآها عمر بن أبي ربيعة عدل عنها، فتمثلت بشعر الزبرقان «7» بن بدر السعدي: تعدو الذئاب على من لا كلاب له ... وتتقي مربض المستأسد الضاري «8» فبلغ المنصور خبرهما، فقال: وددت أن لم تبق فتاة في خدرها إلا سمعته. وكانت ولادة عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي قتل فيها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فكان الحسن البصري يقول، إذا جرى ذكر ولادته: أي حق رفع وأي باطل وضع، وغزا في البحر فأحرقوا السفينة فاحترق، وذلك في سنة ثلاث وثمانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 وللأسد والذئب في الصبر على الجوع ما ليس لغيرهما من الحيوان، لكن الأسد شديد النهم حريص رغيب شره، وهو مع ذلك يحتمل أن يبقى أياما لا يأكل شيئا والذئب وإن كان أقفر منزلا، وأقل خصبا وأكثر كدا، إذا لم يجد شيئا اكتفى بالنسيم، فيقتات به وجوفه يذيب العظم المصمت، ولا يذيب نوى التمر، ولا يوجد الالتحام عند السفاد إلا في الكلب والذئب. ومتى التحم الذئب والذئبة، وهجم عليهما هاجم قتلهما كيف شاء، إلا أنهما لا يكادان يوجدان كذلك، لأنهما إذا أرادا السفاد توخيا موضعا لا يطؤه الإنس، خوفا على أنفسهما ويسفد مضطجعا على الأرض، وهو موصوف بالانفراد والوحدة، وإذا أراد العدو فإنما هو الوثب والقفز، ولا يعود إلى فريسة شبع منها أبدا. ومن عجيب امره أنه ينام بإحدى مقلتيه والأخرى يقظى حتى تكتفي العين النائمة من النوم، فيفتحها وينام بالأخرى ليحترس باليقظى ويستريح بالنائمة قال حميد» بن ثور في وصفه، في أبيات مشهورة منها: ونمت كنوم الذئب في ذي حفيظة ... أكلت طعاما دونه وهو جائع «2» ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى الأعادي فهو يقظان هاجع وهو أكثر الحيوان عواء إذا كان مرسلا فإذا أخذ وضرب بالعصي والسيوف حتى يتقطع أو يهشم لم يسمع له صوت إلى أن يموت. وفيه من قوّة حاسة الشم، أنه يدرك المشموم من فرسخ. وأكثر ما يتعرض للغنم في الصبح وإنما يتوقع فترة الكلب ونومه وكلاله، لأنه يظل طول ليله حارسا متيقظا. ومن غريب أمره أنه إذا إجتمع جلده مع جلد شاة تمغط جلد الشاة، وأنه متى وطىء ورق العنصل مات من ساعته. والذئب إذا كده الجوع عوى فتجتمع له الذئاب، ويقف بعضها إلى بعض. فمن ولى منها وثب إليه الباقون وأكلوه، وإذا عرض للإنسان، وخاف العجز عنه، عوى عواء استغاثة فتسمعه الذئاب، فتقبل على الإنسان اقبالا واحدا، وهم سواء في الحرص على أكله، فإن أدمى الإنسان واحدا منها، وثب الباقون على المدمى فمزقوه، وتركوا الإنسان. وقال بعض الشعراء يعاتب صديقا له وكان قد أعان عليه في أمر نزل به: وكنت كذئب السّوء لما رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم «3» روى البيهقي في الشعب، عن الأصمعي، قال: دخلت البادية فإذا بعجوز بين يديها شاة مقتولة وجرو ذئب مقع، فنظرت إليها فقالت: أتدري ما هذا؟ قلت: لا. قالت: جرو ذئب أخذناه وأدخلناه بيتنا، فلما كبر قتل شاتنا. وقد قلت في ذلك شعرا قلت لها: ما هو؟ فأنشدته: بقرت شويهتي وفجعت قلبي ... وأنت لشاتنا ولد ربيب «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 غذيت بدرّها وربيت فينا ... فمن أنباك أن أباك ذيب إذا كان الطباع طباع سوء ... فليس بنافع فيها الأديب وهو إذا خافه إنسان طمع فيه، وإذا طمع الإنسان فيه خافه، ويقطع العظم بلسانه ويبريه بري السيف، ولا يسمع له صوت، ويقال: عوى الذئب، كما يقال عوى الكلب قال الشاعر: «1» عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى ... وصوّت إنسان فكدت أطير «2» وقال آخر: ليت شعري كيف الخلاص من النا ... س وقد أصبحوا ذئاب اعتداء قلت لما بلاهم: صدق خبري ... رضي الله عن أبي الدرداء أشار إلى قول أبي الدرداء: إياكم ومعاشرة الناس فإنهم ما ركبوا قلب امرىء إلا غيروه، ولا جواد إلا عقروه، ولا بعيرا إلا أدبروه. وروى السهيلي، في الكلام على غزوة أحد، في حديث مسند، أنه قال: لما ولد عبد الله بن الزبير نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «هو هو ورب الكعبة» . فلما سمعت أمه أسماء ذلك أمسكت عن ارضاعه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذئاب عليها ثياب ليمنعن البيت أو يقتلن دونه» «3» . وروى ابن ماجه والبيهقي عن كعب بن مالك، وقال: حديث صحيح حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم، بأفسد لها من حرص الرجل على المال والشرف لدينه وقد نص الله تعالى على ذم الحرص بقوله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ «4» وروى ابن عدي عن عمرو بن حنيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدخلت الجنة فرأيت فيها ذئبا، فقلت: أذئب في الجنة؟ فقال: أكلت ابن شرطي» . قال ابن عباس: هذا وإنما أكل ابنه فلو أكله رفع في عليين. وقد رأيته كذلك في تاريخ نيسابور للحاكم في ترجمة شيخه علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي وهو حديث موضوع. وروى الحاكم في مستدركه بإسناد على شرط مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: بينما راع يرعى بالحرة، إذ عدا الذئب على شاة فحال الراعي بينه وبينها فأقعى الذئب على ذنبه، وقال: يا عبد الله تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي! فقال الرجل: واعجبا ذئب يكلمني! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب مني، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحرتين يخبر الناس بأنباء ما قد سبق، فزوى الراعي شياهه إلى زاوية من زوايا المدينة، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «5» : «صدق والذي نفسي بيده» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 فائدة: قال ابن عبد البر وغيره: كلم الذئب من الصحابة ثلاثة: رافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع وأهبان بن أوس الأسلمي رضي الله تعالى عنهم. قال: ولذلك تقول العرب: هو كذئب أهبان يتعجبون منه، وذلك أن أهبان بن أوس المذكور كان في غنم له فشد الذئب على شاة منها فصاح به أهبان فأقعى الذئب وقال: أتنزع مني رزقا رزقنيه الله تعالى؟ فقال أهبان: ما سمعت ولا رأيت أعجب من هذا ذئب يتكلم، فقال الذئب: أتعجب من هذا! ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين هذه النخلات وأو مأ بيده إلى المدينة يحدث بما كان وبما يكون، ويدعو الناس إلى الله وإلى عبادته وهم لا يجيبونه، قال أهبان بن أوس: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالقصة وأسلمت، فقال لي: «حدث به الناس» . قال عبد الله بن أبي داود السجستاني الحافظ فيقال لأهبان: مكلم الذئب ولأولاده أولاد مكلم الذئب، ومحمد بن الأشعث الخزاعي من ولده واتفق مثل ذلك لرافع بن عميرة وسلمة بن الأكوع انتهى. وقال البخاري «1» : أنبأنا شعيب عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بينما راع في غنمه إذا عدا عليها الذئب فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب، وقال: من لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري. وبينما رجل يسوق بقرة قد حمل عليها، فالتفتت إليه وكلمته فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث. فقال الناس: سبحان الله ذئب يتكلم، وبقرة تتكلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر؟ قال ابن الأعرابي: السبع بسكون الباء الموضع الذي عنده المحشر يوم القيامة. أراد من لها يوم القيامة. وقيل: هذا التفسير يفسد بقول الذئب في تمام الحديث يوم لا راعي لها غيري، والذئب لا يكون لها راعيا يوم القيامة. وقيل أراد من لها يوم الفتن حين يتركها الناس هملا لا راعي لها نهبة للسباع والذئاب، فجعل السبع لها راعيا إذ هو منفرد بها. ويكون حينئذ بضم الباء. وهذا انذار ربما يكون من الشدائد والفتن التي تأتي حتى يهمل الناس فيها مواشيهم وتتمكن منها السباع بلا مانع. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى «2» يوم السبع عيد كان لهم في الجاهلية يشتغلون فيه بلهوهم ولعبهم وأكلهم فيجيء الذئب فيأخذها وليس هو بالسبع الذي يفترس الناس. قال: وأملاه أبو عامر العبدي الحافظ بضم الباء وكان من العلم والاتقان بمكان. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «كانت امرأتان معهما ابناهما إذ جاء الذئب فذهب بابن أحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت وقالت الأخرى إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود عليه الصلاة والسلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان فأخبرتاه بذلك فقال سليمان عليه الصلاة والسلام: ائتوني بالسكين أشقه بينكما نصفين فقالت الصغرى: لا ويرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى» . قال أبو هريرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 رضي الله تعالى عنه والله ما سمعت بالسكين قط، إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية واستدل بهذا الحديث من جوز أن المرأة تستلحق اللقيط، وأنه يلحقها لأنها أحد الأبوين. ونقله صاحب التقريب عن ابن سريج والأصح أنه لا يلحقها إذا استلحقته لإمكان إقامة البينة على الولادة بطريق المشاهدة بخلاف الرجل. وفيه وجه ثالث يلحق الخلية دون المزوّجة، لتعذر الإلحاق بها دونه، وإذا قلنا يلحقها بالإستلحاق. وكان لها زوج لم يلحقه في الأصح وليس المراد بالزوج من هي في عصمته، بل كونها فراشا، لشخص لوثبت نسب اللقيط منها بالبينة، لحق صاحب الفراش سواء كانت في العصمة أو في العدة. وروى الإمام أحمد والطبراني بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاسية إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد» «1» . وفي تاريخ ابن النجار عن وهب بن منبه قال: بينما امرأة من بني إسرائيل، على ساحل البحر تغسل ثيابها، وصبي لها يدب بين يديها، إذ جاء سائل فأعطته لقمة من رغيف كان معها، فما كان بأسرع من أن جاء ذئب فالتقم الصبي، فجعلت تعدو خلفه وتقول: يا ذئب ابني يا ذئب ابني، فبعث الله ملكا فنزع الصبي من فم الذئب ورمى به إليها. وقال: لقمة بلقمة. وهو في الحلية عن مالك بن دينار وقال: أخذ السبع صبيا لامرأة فتصدقت بلقمة فرماه السبع فنوديت لقمة بلقمة. وروى الإمام أحمد في الزهد عن سالم بن أبي الجعد، قال: خرجت امرأة وكان معها صبي لها، فجاء الذئب فاختلسه منها فخرجت في أثره وكان معها رغيف، فعرض لها سائل فأعطته الرغيف، فجاء الذئب بصبيها فرده عليها وقد تقدم نظير ذلك عنه في باب الهمزة في الأسود السالخ. قال ابن سعد كان موسى بن أعين راعيا بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الذئاب والشاه والوحش ترعى في موضع واحد فبينما نحن ذات ليلة إذ عرض الذئاب لشاة، فقلنا ما نرى الرجل الصالح إلا قد مات، فنظرنا فإذا عمر بن عبد العزيز قد مات تلك الليلة، وذلك لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى ومائة كما تقدم في الأوز وكانت مدة خلافته سنتين وخمسة أشهر. وروى الإمام أحمد في الزهد أيضا عن مالك بن دينار قال: لما استعمل عمر بن عبد العزيز على الناس، قال رعاة الشاة: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟ قيل لهم: وما أعلمكم بذلك قالوا إنه إذا ولي على الناس خليفة عدل كفت الذئاب والأسد عن شياهنا. الحكم: يحرم أكله لتقويته بنابه. الأمثال: وصفته العرب بأوصاف مختلفة فقالوا «2» : «أغدر من ذئب» . واختل «3» وأخبث «4» واخون «5» وأجول وأعتى وأعوى وأظلم «6» وأحرأ وأكسب «7» وأجوع «8» وأنشط «9» وأوقح «10» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 واجسر وأيقظ «1» وأعق «2» وألأم «3» من ذئب» . وقالوا: «أخوك أم الذئب «4» وقالوا «5» : «أخف رأسا من الذئب» . لأنه ينام بإحدى مقلتيه كما تقدم. وسيأتي له ذكر في أمثال الغراب. وقالوا في الدعاء على العدو: رماه الله بداء الذئب أي الجوع، وقالوا: الذئب يكنى أبا جعدة كما تقدم، وقالوا «6» : «من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم» . أي ظلم الغنم، ويجوز أن يراد به ظلم الذئب، حيث كلفه ما ليس في طبعه، وأول من قال ذلك أكثم بن صيفي، وقاله عمر رضي الله تعالى عنه في قصة سارية بن حصن المشهورة، وذلك أنه كان يخطب يوم الجمعة بالمدينة فقال في خطبته: «يا سارية بن حصن الجبل الجبل من استرعى الذئب الغنم فقد ظلم» . فالتفت الناس بعضهم إلى بعض، ولم يفهموا مراده فلما قضى صلاته، قال له علي كرم الله وجهه: ما هذا الذي قلته؟ قال: أو سمعته؟ قال: نعم. أنا وكل من في هذا المسجد. قال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل فإن عدلوا إليه، قاتلوا من وجدوا وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا فخرج مني هذا الكلام، فجاء البشير بعد شهر، فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم، في تلك الساعة حين جاوزوا الجبل، صوتا يشبه صوت عمر رضي الله تعالى عنه يقول: يا سارية بن حصن الجبل الجبل! فعدلوا إليه ففتح الله عليهم. كذا نقله في تهذيب الأسماء واللغات، وفي طبقات ابن سعد وأسد الغابة أنه سارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر. وأنشدوا في معنى هذا المثل البيت: وراعي الشام يحمي الذئب عنها ... فكيف إذا الرعاة لها ذئاب! كان يحيى «7» بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى يقول لعلماء الدنيا في زمانه: يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية «8» وبيوتكم كسروية، وأثوابكم طالوتية، وأخفافكم جالوتية، وأوانيكم فرعونية، ومراكبكم قارونية، وموائدكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين المحمدية. الخواص: إذا علق رأس الذئب في برج حمام لم يقربه سنور ولا شيء يؤذي الحمام. وكعب الذئب الأيمن إذا علق على رأس رمح، ثم إجتمع عليه جماعة لم يصلوا إليه ما دام الكعب معلقا على رمحه. وعينه اليمنى من علقها عليه لم يخف لصا ولا سبعا. وخصيته إذا شقت وملحت بملح وسقي منها وزن مثقال بماء الجرجير من به وجع الخاصرة ابرأه، وهو نافع أيضا لذات الجنب إذا شرب منها بماء حار وعسل. ودمه ينفع من الصمم إذا ديف بدهن الجوز وقطر في الأذن. ودماغه يداف بماء السذاب والزيت ويدهن به الجسد ينفع من كل علة ظاهرة وباطنة في البدن من البرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وأنيابه وجلده وعينه إذا حملها الإنسان معه غلب خصمه، وكان محببا إلى الناس جميعا وكبده تنفع من وجع الكبد. وقضيبه إذا شوي في الفرن ومضغت منه قطعة هيجت الباه، وإذا خلطت مرارته بالعسل أو بالماء ولطخ بها الذكر وقت الجماع أحبت المرأة الرجل حبا شديدا. وإذا علق ذنب الذئب على معلف بقر لم تقرب إليه ما دام معلقا، وإن أجهدها الجوع. وإن بخر موضع بزبله لم يقربه الفأر. وقيل: يجتمع إليه الفأر، وإذا إجتمع جلده وجلد شاة في موضع واحد تجرد جلد الشاة كما تقدم. ومن أدمن الجلوس على جلده أمن من القولنج، وإذا علق وتر من ذنبه على شيء من الملاهي وضرب بها تقطعت جميع أوتار الغنم التي تكون على الملاهي، ولم يسمع لها صوت، وإذا بخر بجلد الذئب حانوت من يعمل الدفوف التي تلعب بها النساء، تشققت وإن اتخذ طبل من جلده وضرب به بين طبول تشققت الطبول كلها. وشحمه ينفع من داء الثعلب، وشرب مرارته ينفع من استرخاء البطن، وإذا لطخ بها على الإحليل جامع الرجل ما شاء، وإذا طلي بمرارته مع مرارة نسر ودهن الزئبق هيج الباه وأنعظ. وربما أنزل من لذة ذلك وإذا ديفت مرارته بدهن ورد ودهن بها الرجل حاجبيه أحبته المرأة إذا مشي بين يديها. وإذا خلطت مرارته بورس وطلي بها الوجه أذهب البهق. وعين الذئبة إذا علقت على من يصرع تمنع من الصرع، وإن أخذ عظم من العظام التي توجد في ذيل الذئب، وخدش بها الضرس الوجع أبرأه من وقته. وقال جالينوس: يسعط بمرارة الذئب ودهن البنفسج من به الشقيقة المزمنة، فأنه يبرأ. وإن سعط بذلك المولود أمن من الصرع ما عاش. وعيناه إذا علقتا على صبي لم يصرع وإن أخذ جزء من مرارة الذئب وجزء من عسل لم تصبه النار واكتحل به نفع من ظلمة العين وضعف البصر. وإن عقد ذنب الذئب بإسم امرأة، لم يقدر عليها أحد من الرجال، حتى تحل العقدة. وأن خلطت مرارة الذئب بعسل، وطلي به الذكر، وجامع امرأة، فإنها تحب ذلك الرجل حبا شديدا، ودم الذئب ينضج الجراحات. صفة طلسم لجمع الذئاب : يعمل تمثال ذئب من نحاس ويجوف داخله، ويوضع فيه قضيب ذئب ويصفر به فتجتمع الذئاب التي تسمع صوته إليه. صفة طلسم تهرب منه الذئاب: يعمل تمثال ذئب من نحاس، ويحشى من خرء ذئب، ويدفن في أي موضع أردت فإن الذئاب تهرب من ذلك الموضع. التعبير: تدل رؤيته على الكذب والحيلة والعداوة للأهل والمكر بهم. وقيل: الذئب في الرؤيا لص غشوم ظلوم وجروه ولد لص، فمن رأى جرو ذئب فإنه يربي لصا لقيطا، وإن تحوّل الذئب حيوانا انسيا كالخروف وشبهه فإنه لص يتوب ومن رأى ذئبا دخل داره فليحذر اللصوص، ومن رأى ذئبا فإنه يتهم إنسانا ويكون المتهم بريئا لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام. ومن رأى ذئبا وكلبا واجتمعا على النفاق والمكر والخديعة والله أعلم. ذؤالة: إسم للذئب كأسامة للأسد وهو معرفة. سمي بذلك لأنه يذأل في مشيته وهي المشية الخفيفة. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية سوداء ترقص صبيا لها وتقول ذؤال يا ابن القرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 يا ذؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقولي ذؤال فإنه شر السباع، وذؤال ترخيم ذؤالة والقرم السيد» . الذيخ: بكسر الذال ذكر الضباع الكثير الشعر والأنثى ذيخة والجمع ذيوخ وأذياخ وذيخة. روى البخاري في أحاديث الأنبياء، وفي التفسير عن إسماعيل بن عبد الله قال: حدثني أخي عبد الحميد، وعن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يلقى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له إبراهيم عليه السلام: ألم أقل لك أن لا تعصني، فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أن يكون أبي في النار؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين، فيقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» «1» . ورواه النسائي والبزار والحاكم في آخر المستدرك. عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليأخذن رجل بيد أبيه يوم القيامة يريد أن يدخله الجنة قال: فينادي إن الجنة لا يدخلها مشرك لأن الله حرم الجنة على كل مشرك، قال: فيقول: «أي رب أبي فيحول في صورة قبيحة، وريح منتنة فيتركه» . قال: فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرون أنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولم يزدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك. ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ثم روى الحاكم عن حماد بن سلمة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول: يا أبت أي ابن كنت لك فيقول: خير ابن فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم. فيقول خذ بازرتي فيأخذ بازرته ثم ينطلق حتى يأتي الله وهو يعرض الخلق، فيقول: يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لا تخزيني. قال: فيمسخ الله أباه ضبعا ثم يلقى في النار فيؤخذ بأنفه، فيقول الله تعالى: يا عبدي أبوك هو فيقول لا وعزتك» . ثم قال: صحيح على شرط مسلم، وفي حديث خزيمة بن ثابت أو ابن حكيم السلمي البهزي وليس بالأنصاري: «والذيخ محرنجم أي كالح منقبض من شدة الجذب» . وهو حديث طويل شرحه ابن الأثير في أوائل كتاب مثال الطالب، والحكمة في كونه مسخ ضبعا، دون غيره من الحيوان أن الضبع أحمق الحيوان، كما سيأتي إن شاء الله، في أمثال الضبع. ومن حمقه أنه يغفل عما يجب التيقظ له. ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لا أكون كالضبع تسمع اللدم فتخرج حتى تصاد. والدم الضرب الخفيف، فلما لم يقبل آزر النصيحة من أشفق الناس عليه، وقبل خديعة عدوه الشيطان أشبه الضبع الموصوفة بالحمق. لأن الصياد إذا أراد أن يصيدها رمى في جحرها بحجر فتحسبه شيئا تصيده، فتخرج لتأخذه فتصاد عند ذلك. ويقال لها وهي في جحرها: أطرفي أم طريق خامري أم عامر أبشري بجراد عطلى وشاة هزلى، فلا يزال يقال لها ذلك، حتى يدخل عليها الصائد، فيربط يديها ورجليها، ثم يجرها. ولأن آزر لو مسخ كلبا أو خنزيرا لكان فيه تشويه الخلقة، فأراد الله تعالى إكرام إبراهيم عليه الصلاة والسلام بجعل أبيه على هيئة متوسطة. قال في المحكم: يقال ذيخته أي ذللته فلما خفض إبراهيم لأبيه جناح الذل من الرحمة، فلم يقبل حشر، بصفة الذل يوم القيامة. وهذه الحكمة هي أحد الأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 الباعثة على تأليف هذا الكتاب كما تقدم في خطبته والله أعلم. باب الراء المهملة الراحلة: قال الجوهري: هي الناقة التي تصلح لأن ترحل، وكذلك الرحول ويقال الراحلة المركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى انتهى. والهاء فيها للمبالغة كالتي في داهية وراوية وعلّامة. وإنما سميت راحلة لأنها ترحل أي يشد عليها الرحل فهي فاعلة بمعنى مفعولة كقوله «1» تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* أي مرضية. وقد ورد فاعل بمعنى مفعول في عدة مواضع من القرآن العظيم. كقوله «2» تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ أي لا معصوم. وكقوله «3» تعالى: ماءٍ دافِقٍ أي موفوق. وكقوله «4» تعالى: حَرَماً آمِناً* أي مأمونا. وفيه جاء أيضا مفعول بمعنى فاعل، كقوله «5» تعالى: حِجاباً مَسْتُوراً أي ساترا، وكانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا «6» أي آتيا. قال الحريري «7» : وقد يكنى عن النعل بالراحلة، لأنها مطية القدم وإليها أشار الشاعر بقوله ملغزا: رواحلنا ست ونحن ثلاثة ... نجنبهن الماء في كل مورد روى البيهقي في الشعب، في أواخر الباب الخامس والخمسين، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من مشى عن راحلته عقبة فكأنما أعتق رقبة» . قال أبو أحمد: العقبة ستة أميال، وروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الناس كابل مائة لا تجد فيها راحلة «8» » . وقال البيهقي في سننه في باب إنصاف الخصمين في الدخول على القاضي والاستماع منهما والإنصاف لهما هذا الحديث يتأول على أن الناس في أحكام الدين سواء، لا فضل فيها الشريف على مشروف، ولا لرفيع على وضيع، كالإبل المائة لا يكون فيها راحلة، وهي الذلولة التي ترحل وتركب. وذكر قبله عن ابن سيرين أنه قال: كان أبو عبيدة بن حذيفة قاضيا، فدخل عليه رجل من الأشراف، وهو يستوقد نارا، فسأله حاجة، فقال له أبو عبيدة: أسألك أن تدخل أصبعك في هذه النار، قال سبحان الله. قال: أبخلت علي بإصبع من أصابعك أن تدخله في هذه النار، وتسألني إدخال جسمي كله في نار جهنم؟ وقال ابن قتيبة: الراحلة النجيبة المختارة من الإبل للركوب وغيره، وهي كاملة الأوصاف، فإذا كانت في ابل عرفت. قال: ومعنى الحديث أن الناس متساوون ليس لأحد منهم فضل في النسب بل هل أشباه كالإبل المائة. وقال الأزهري: الراحلة عند العرب، الجمل النجيب «9» والناقة النجيبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 قال: والهاء فيها للمبالغة، كما يقال: رجل نسابة وداهية. قال: والمعنى الذي ذكره ابن قتيبة غلط، بل معنى الحديث أن الزاهد في الدنيا الكامل في الزهد فيها الراغب في الآخرة قليل جدا، كقلة الراحلة في الإبل هذا كلام الأزهري. قال الإمام النووي وهو أجود من كلام ابن قتيبة. وأجود منهما قول آخرين: أن المرضى الأحوال من الناس الكامل الأوصاف قليل فيهم جدا كقلة الراحلة في الإبل. قالوا: والراحلة البعير الكامل الأوصاف الحسن المنظر القوي على الأحمال والأسفار. وقال الإمام العلامة الحافظ أبو العباس القرطبي، شيخ المفسرين في زمانه: الذي يقع لي أن الذي يناسب التمثيل بالراحلة، إنما هو الرجل الكريم الجواد الذي يتحمل كل الناس وأثقالهم، بما يتكلف من القيام بحقوقهم والغرامات عنهم وكشف كربهم. فهذا هو القليل الوجود بل قد يصدق عليه إسم المفقود. قلت: وهذا أشبه القولين والله أعلم. الرأل: ولد النعام والأنثى رألة والجمع رئال ورئلان. وسيأتي ذكر النعام في باب النون إن شاء الله تعالى. الراعي : بالراء والعين المهملتين طائر متولد بين الورشان والحمام وهو شكل عجيب. قاله القزويني وقال «1» الجاحظ: إنه متولد بين الحمام والورشان وهو كثير النسل، ويطول عمره وله فضل وعظم في البدن والفرخ عليهما زلة في الهدير قرقرة ليست لأبويه، حتى صارت سببا للزيادة في ثمنه وعلة للحرص على اتخاذه وقد ضبطه بعض مصنفي العصر بالزاي والغين المعجمتين وهو وهم. الربّى: على وزن فعلى بالضم: الشاة التي وضعت حديثا، وإن مات ولدها فهي أيضا ربى وقيل: ربابها ما بينها وبين عشرين يوما، وقيل: هي ربى ما بينها وبين شهرين من وضعها، وخصها أبو زيد بالمعز وغيره بالضأن وقيل: الربى من المعز والرعوث من الضأن وجمعها رباب بالضم. قلت: وقد جاء الجمع على فعال في خمس عشرة كلمة رباب جمع ربى، ورخال الآتي في الباب. ورذال جمع رذل، وبساط جمع بسط، وناقة بسيطة أي هزيلة وتؤام تقول هذا در تؤام أي من التوأمين ونذال جمع نذل، ورعاة جمع راع، وقماء جمع قميء أي حقير، وجمال مع جمل، وسحاح جمع سح، المطر أي كثرة أنصبابه، وعراق جمع عرق. قال علي كرم الله وجهه: الدنيا أهون على الله من عراق خنزير بيد أجذم. وظؤار جمع ظئر وهي الدابة وثناء جمع ثني واحد أثناء الشيء، وعزاز جمع عزيز وفرار جمع فرير وهو الظبي. الرّباح: بفتح الراء الموحدة المخففة: دويبة كالسنور، وهي التي يجلب منها الزّباد «2» ، وهذا هو الصواب في التعبير ووهم الجوهري فقال في النسخة التي بخطه: الرباح إسم دويبة يجلب منها الكافور وهو وهم عجيب. فإن الكافور صمغ شجر بالهند والرباح نوع منه فكأن الجوهري لما سمع أن الزباد يجلب من الحيوان سرى ذهنه إلى الكافور، فذكره. وسيأتي ذكره في باب الزاء المعجمة، فلما رأى ابن القطاع هذا الوهم، أصلحه فقال: والرباح بلد يجلب منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 الكافور، وهو أيضا وهم، لأن الكافور صمغ شجر يكون داخل الخشب ويتخشخش فيه إذا حرك فينشر ويستخرج وقد أجاد ابن رشيق «1» بقوله: فكرت ليلة وصلها في صدها ... فجرت بقايا أدمعي كالعندم «2» فطفقت أمسح مقلتي في نحرها ... إذ عادة الكافور إمساك الدم «3» الرّباح: بضم الراء المهملة وتشديد الباء الموحدة ذكر القرود وسيأتي حكمه. الأمثال: قالوا «4» : «أجبن من رباح» . الرّبح: بضم الراء المهملة وفتح الباء الموحدة الفصيل كأنه لغة في الربيع والربح أيضا طائر قاله الجوهري. الربية: دويبة بين الفأر وأم حبين قاله ابن سيده وقال غيره هي الفأر. الرتوت: الخنازير. قاله الجوهري بعد أن قال: الرت الرئيس وهؤلاء رتوت البلد. وقال في المحكم: الرت شيء يشبه الخنزير البري، وجمعه رتوت. وقيل هي الخنازير الذكور وقد تقدمت في باب الخاء المعجمة. الرّثيلا: بضم الراء المهملة وفتح الثاء المثلثة جنس من الهوام ويمد أيضا وسيأتي ذكرها في آخر الصيد وقال الجاحظ: الرثيلا نوع من العناكب وتسمى عقرب الحيات، لأنها تقتل الحيات، والأفاعي انتهى. وقال أبو عمر وموسى القرطبي الإسرائيلي: الرثيلا إسم يقع على أنواع كثيرة من الحيوان. وقيل: إنها ستة أنواع، وقيل: ثمانية وكلها من أصناف العنكبوت. وذكر حذاق الأطباء أن أعظم هذه الأنواع شرا: المصرية، أما النوعان الموجودان في البيوت، في أكثر البلاد، فهما العنكبوت ونكايتهما قليلة. وأما بقية الأنواع الأخرى من الرثيلات فإنها توجد غالبا في الأرياف، ومنها نوع له زغب، وأهل مصر يسمونه أبا صوفة. ونهش هذه الأنواع كلها قريب من لسع العقرب وسيأتي ذكرها في الصاد في الصيدان إن شاء الله تعالى. ومن خواصها أن شرب دماغها مع شيء من الفلفل ينفع من سمها. وهي في الرؤيا تدل على امرأة مؤذية مفسدة لما يصلحه الناس من نسج ناقضة لما يبرمونه منه. وقيل: هي في الرؤية عدو قتال حقير المنظر شديد الطعنة والله أعلم. الرّخل: الأنثى من ولد الضأن والجمع رخال كما تقدم. الرّخ: بالخاء المعجمة في آخره طائر في جزائر بحر الصين يكون جناحه الواحدة عشرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 آلاف باع، ذكره الجاحظ وأبو حامد الأندلسي قال: وقد كان وصل إلى أرض المغرب رجل من التجار ممن سافر إلى الصين وأقام بها مدة وكان عنده أصل ريشة من جناحه، كانت تسع قربة ماء وكان يقول: إنه سافر مرة في بحر الصين فألقتهم الريح إلى جزيرة عظيمة فخرج إليها أهل السفينة ليأخذوا الماء والحطب، فرأوا قبة عظيمة أعلى من مائة ذراع، ولها لمعان بريق فعجبوا منها فلما دنوا منها إذا هي بيضة الرخ، فجعلوا يضربونها بالخشب والفؤوس والحجارة حتى انشقت عن فرخ كأنه جبل، فتعلقوا بريشة من جناحه فجروه، فنفض جناحه، فبقيت هذه الريشة معهم وخرج أصلها من جناحه، ولم يكمل بعد خلقه فقتلوه وحملوا ما قدروا عليه من لحمه وقد كان بعضهم طبخ بالجزيرة قدرا من لحمه، وحركها بعود حطب ثم أكلوه. وكان فيهم مشايخ فلما أصبحوا إذ هم قد اسودت لحاهم ولم يشب بعد ذلك من أكل من ذلك الطعام. وكانوا يقولون: إن ذلك العود الذي حركوا به القدر من عود شجرة النشاب، قال: فلما طلعت الشمس، إذا بالرخ قد أقبل في الهواء كأنه سحابة عظيمة في رجله حجر كالبيت العظيم أكبر من السفينة فلما حاذى السفينة ألقى ذلك الحجر بسرعة فوقع الحجر في البحر وسبقت السفينة ونجاهم الله تبارك وتعالى بفضله ورحمته. والرخ من أدوات الشطرنج والجمع رخاخ ورخخة قال ابن سيده وقد أجاد سري الرفاء «1» حيث قال: وفتية زهر الآداب بينهم ... أبهى وأنضر من زهر الرياحين راحوا إلى الراح مشي الرّخ وانصرفوا ... والراح يمشي بهم مشي البراذين «2» ومن مستحسن شعره قوله «3» : بنفسي من أجود له بنفسي ... ويبخل بالتحية والسلام وحتفي كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حدّ الحسام التعبير: الرخ في المنام يدل على أخبار غريبة، وأسفار بعيدة، وربما دل على الهذر في الكلام الصحيح والسقيم. وكذلك العنقاء والله أعلم. وسيأتي حكمها في باب العين المهملة. الرخمة: بالتحريك طائر أبقع يشبه النسر في الخلقة، وكنيتها أم جعفران وأم رسالة وأم عجيبة وأم قيس وأم كبير، ويقال لها الأنوق والجمع رخم والهاء فيه للجنس قال الأعشى: يا رخما قاظ على مطلوب ... يعجل كفّ الخارىء المطيب «4» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 مطلوب إسم جبل، والمطيب معناه الذي يطلب طيب النفس بالاستنجاء. ومنه الاستطابة وتسمى الرخمة بالأنوق كما تقدم. ويقال لها ذات الإسمين لذلك، وهي تحمق مع تحرزها. قال الكميت: وذات إسمين والألوان شتى ... تحمق وهي كيّسة الحويل أي الحيلة، وذكر عند الشعبي الروافض، فقال: لو كانوا من الدواب لكانوا حمرا، ولو كانوا من الطير لكانوا رخما. ومن طبع هذا الطائر أنه لا يرضى من الجبال إلا بالموحش منها، ولا من الأماكن إلا باسحقها وأبعدها من أماكن أعدائه، ولا من الهضاب إلا بصخورها. ولذلك تضرب العرب المثل بالامتناع ببيضه فيقولون: «أعز من بيض الأنوق» «1» . كما تقدم. والأنثى منه لا تمكن من نفسها غير ذكرها، وتبيض بيضة واحدة وربما أتأمت وهي من لئام الطير، وهي ثلاثة: البوم والغراب والرخمة. وحكمها: تحريم الأكل كما تقدم. روى البيهقي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الرخمة» «2» . وإسناده ليس بالقوي وقال الإمام العلامة القرطبي، في تفسير آخر سورة الأحزاب: كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى بقولهم أنه قتل أخاه هارون فتكلمت الملائكة بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخمة فلذلك جعله الله أصم أبكم وكذلك رواه الحاكم في المستدرك وفي كتاب تواريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقال الزمخشري: إنها تقول في صياحها سبحان ربي الأعلى. الأمثال: قالوا: «أحمق من رخمة وأموق» «3» . وإنما خصت من بين الطير بذلك، لأنها ألأم الطير وأظهرها حمقا وموقا، وأقذرها طعما، لأنها تأكل العذرة. وقالوا: إنطقي يا رخم فإنك من طير الله أصله أن الطير صاحت فصاحت لرخمة، فقيل لها: يهزأ بها إنك من طير الله فانطقي يضرب للرجل الذي لا يلتقت إليه ولا يسمع منه. الخواص: إذا بخر البيت بريشها طرد الهوام وزبلها يداف بخل خمر ويطلى به البرص يغير لونه وينفعه. وكبدها تشوى وتسحق وتداف «4» ، ويسقى ذلك لمن به جنون، كل يوم ثلاث مرات، ثلاثة أيام متوالية يشفى. وإن علق رأسها على المرأة التي عسرت ولادتها، وضعت سريعا، والجلد الأصفر الذي على قانصة الرخمة إذا أخذ وسحق بعد تجفيفه، وشرب بشراب العسل نفع من كل سم. وعظم رأس الرخمة ينفع من وجع الرأس تعليقا. التعبير: الرخمة في الرؤيا إنسان أحمق قذر، فمن رأى أنه أخذ رخمة فإنه يقع في حرب يسفك فيه دم كثير. وقيل: من أخذ رخمة مرض مرضا شديدا. وقالت النصارى: الرخم الكثير يدل على عسكر يحل في ذلك المكان، وهم سفلى يأكلون الحرام. وقال ارطاميدورس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 الرخم دليل خير لمن صنعته خارج البلد كالكّلاسين وصناع الآجر، لأن الرخم لا يدخل البلد، والرخم في المنام يدل على ناس يغسلون الموتى، ويسكنون المقابر، لأن الرخم يأكل الجيفة ولا يدخل المدن، ومن رأى رخمة في دار وكان فيها مريض، فإنه يموت. وإن لم يكن في الدار مريض خشي على صاحب الدار من الموت أو المرض الشديد. والله أعلم. الرشأ: بفتح الراء الظبي إذا قوي وتحرك ومشى مع أمه والجمع أرشأ. أنشدنا شيخنا الإمام العلامة جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي «1» رحمه الله تعالى قال: أنشدنا شيخنا الشيخ أثير الدين أبو حيان «2» ، قال: أنشدنا شيخنا أبو جعفر بن الزبير قال: أنشدنا أبو الخطاب بن خليل قال: أنشدنا شيخنا أبو حفص عمر بن عمر قاضي أشبيلية لنفسه، وقد أهديت إليه جارية، فتبين له أنه قد كان وطىء أمها فردها ومعها هذه الأبيات: يا مهدي الرشا الذي ألحاظه ... تركت جفوني نصب تلك الأسهم ريحانة كل المنى في شمها ... لولا المهيمن واجتناب المحرم ما عن قلى صرفت إليك وإنما ... صيد الغزالة لم يبح للمحرم «3» يا ويح عنترة يقول وشفه ... ما شفني وجد وإن لم أكتم يا شاة ما قنص لمن حلّت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم وقال أبو الفتح البستي وأجاد: من أين للرشا الغرير الأحور ... في الخد مثل عذارك المتحدر «4» رشأ كأن بعارضيه كليهما ... مسكا تساقط فوق ورد أحمر الرشك: بضم الراء وإسكان الشين المعجمة، وهو بالفارسية إسم للعقرب. ذكر القاضي الإمام أبو الوليد ابن الفرضي في كتاب الألقاب، في أسماء نقلة الحديث، والخطيب أبو علي الغساني، في كتاب تقييد المهمل، والقاضي أبو الفضل عياض بن موسى، في كتاب مشارق الأنوار، والحافظ أبو الفرج بن الجوزي، وغيرهم: أن يزيد بن أبي يزيد وإسمه سنان الضبعي، مولاهم البصري الدارد المعروف بالرشك، أنه لقب بذلك لكبر لحيته قيل: إن العقرب دخل في لحيته، فأقامت ثلاثة أيام وهو لا يدري بها لعظم لحيته، وطولها، قال ابن دحية «5» في كتابع العلم المنشور: والعجب كيف لا يحس بها وكيف لا تسقط عند وضوئه للصلاة، ولعله كان لا يخلل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 لحيته لكبرها، أو كانت العقرب صغيرة جدا، فإختبأت بين الشعر، وأما كونها مقدرة بثلاثة أيام، فهذا التقدير كيف يصح؟ لأنه لو علم بها في أول وجودها في لحيته ما تركها! فمن أين تعلم هذه المدة؟ انتهى. والذي عندي في ذلك أنه يحتمل أن يكون في منتزه، أو كان في مكان فيه العقارب كثيرة، وكانت مدة إقامته في ذلك المكان ثلاثة أيام، فلما أصابها بعد ذلك، علم أن مبدأ وجودها كان من ذلك الوقت، وهذا أولى من تكذيب من رواه من الأئمة الأعلام. فقد روى الحاكم أبو عبد الله في كتاب علوم الحديث، له عن يحيى بن معين أنه قال: كان يزيد يسرح لحيته فخرج منها عقرب، فلقب بالرشك انتهى. والمشهور أن الرشك هو القسام بلغة أهل البصرة، سمي بذلك لأنه كان يقسم الأرض والدور وغير ذلك. مات بالبصرة سنة ثلاثين ومائة وروى له الجماعة. قال الترمذي أبو عيسى في باب ما جاء في صوم ثلاثة من كل شهر. حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن يزيد الرشك، قال: سمعت معاذا يقول: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر؟ قالت: نعم. قلت: من أيها كان يصوم؟ قالت: كان لا يبالي من أيها صام. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ويزيد الرشك هو يزيد بن أبي يزيد الضبعي، وهو يزيد القاسم، وهو القسام. والرشك هو القسام بلغة أهل البصرة كما تقدم. الرفراف: طائر يقال له ملاعب ظله، ويقال له خاطف ظله، وسيأتي الكلام عليه في باب الميم والظليم أيضا يقال له رفراف، لرفرفته عند عدوه والرفرف ضرب من السمك قاله ابن سيده. الرق: بكسر الراء بالقاف ضرب من دواب الماء يشبه التمساح، والرق أيضا العظيم من السلاحف وجمعه رقوق. وفي غريب الحديث كان فقهاء المدينة يشترون الرق ويأكلونه. رواه الجوهري بفتح الراء والأكثرون بكسرها. الركاب: بكسر الراء الإبل، واحدتها راحلة وجمعها ركائب. وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثا، عليهم قيس بن سعد بن عبادة، فجهد وانتحر لهم قيس تسع ركائب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت» . ويجمع أيضا على ركب ومنه قيل: زيت ركابي، لأنه يحمل على ظهور الإبل. والركوبة ما يركب، يقال: ما له ركوبه ولا حلوبة ولا حمولة، أي ما يركبه ويحلبه. ويحمل عليه. وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها فمنها ركوبتهم. وجمع الركوبة ركائب انتهى. وقال السهيلي، قبيل الكلام على ما أنزل الله تعالى، في غزوة بدر: والركوبة ركائب. انتهى. ولو أراد الجمع بغير هاء لقال: ركب كعجز. كما جاء في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن الجنة لا يدخلها العجز» . قالها ممازحا لعمته صفية رضي الله عنها، وقيل: بل قالها لامرأة من الأنصار. ذكر ذلك هناد بن السري في كتاب الرقائق له. الركن: الفأر ويسمى ركينا على لفظ التصغير قاله ابن سيده. الرمكة: بالتحريك الأنثى من البراذين والجمع رماك ورمكات وأرماك أيضا عن الفراء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 مثل ثمار وأثمار ووقع في الوسيط في الباب الثاني من أبواب البيع لو قال: بعتك هذه النعجة فإذا هي رمكة ففي قول يعول على الإشارة وفي قوله آخر يعول على العبارة قال ابن الصلاح: هذا تصحيف، إنما هو هذه البغلة فإن الرمكة لا تشتبه بالنعجة. الرهدون: والرهدنة بفتح الراء، طائر يشبه الحمرة يرهدن في مشيته كأنه يستدبر وجمعه رهادن، وهو كثير بمكة خصوصا بالمسجد الحرام وهو يشبه العصافير إلا أنه أدبس. الروبيات: هو سمك صغير جدا أحمر. الخواص: إن طرحت رجل الروبيان في شراب من يحب الشراب ابغضه، ورقبته ينحر بها فيسقط الجنين وإذا دق الروبيان وهو طري، وضمد به موضع الشوك أو السهم الغائص في البدن أخرجه بسهولة. وإن سلق مع الحمص الأسود وضمد به السرة أخرج حب القرع. وإن جفف وسحق واكتحل به صاحب الغشاوة نفعه. وإن سحق مع سكنجبين وشرب أخرج حب القرع من الجوف. قاله عبد الملك بن زهر. الريم: ولد الظبي والجمع آرام قال الشاعر: بها العير والآرام يمشين خلفه ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم «1» يقول: إذا ذهب فوج جاء فوج. وقال الأصمعي: الآرام الظباء البيض الخالصة البياض، الواحدة ريم. قال: وهي تسكن الرمال وهذا النوع من الظباء، يقال إنه ضأنها لأنه أكثرها شحما ولحما. وكان زكي الدين بن كامل القطيعي أبو الفضل يعرف بقتيل الريم، وأسير الهوى. توفي سنة ست وأربعين وخمسمائة. ومن شعره: لي مهجة كادت بحر كلومها ... للناس من فرط الجوى تتكلم «2» لم يبق منها غير أرسم أعظم ... متحدثات للهوى تتظلم «3» أم رباح: بفتح الراء تخفيف الباء الموحدة وحاء مهملة طائر أغبر أحمر الجناحين والظهر يأكل العنب قاله في المرصع. أبو رباح: بكسر الراء وتخفيف الباء المثناة تحت اليؤيؤ وسيأتي في آخر الكتاب. ذو رميح: مصغر اليربوع، ورمحه ذنبه. وقيل: هو ضرب من اليرابيع طويل الرجلين قاله ابن سيده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 الفهرس مقدمة المؤلف 3 مقدمة المصنف 6 باب الهمزة الأسد 10 الإبل 26 الأبابيل 32 الأتان 32 الأخطب 34 الأخيضر 34 الأخيل 34 الأربد 34 الأرخ 35 الأرضة 35 الأرقم 36 الأرنب 36 الأرنب البحري 41 الأروية 41 الأساريع 42 الأسفع 43 الأسقنقور 43 الأسود السالخ 44 الأصرمان 45 الأصلة 45 الأطلس 46 الأطوم 46 الأطيش 46 الأغثر 47 الأفال والأفائل 47 الأقهبان 55 الأملول 55 الإنس 55 الإنسان 55 إنسان الماء 69 الكم 69 الأنقد 69 الإنكليس 71 الأنن 71 الأنيس 71 الأنوق 71 الإوز 72 الإلفة 152 الإلق 152 الأودع 152 الأورق 152 ايلس 154 الأيم والأين 154 الأيّل 154 ابن آوى 156 باب الباء الموحدة البابوس 157 البازي 157 البازل 162 الباقعة 162 بالام 162 البال 163 الببر 164 الببغاء 164 البج 166 البجع 166 البخزج 166 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 البجاق 166 البخت 167 البدنة 167 البذج 169 البراق 170 البرذون 173 البرغش 176 البرغن 177 البرغوث 177 البرا 179 البرقانة 179 البرقش 179 البركة 180 البشر 180 البط 180 البطس 184 البعوض 184 البعير 193 البغاث 199 البغل 200 البقر الأهلي 212 البقر الوحشي 220 بقر الماء 221 بقرة بني إسرائيل 221 البق 222 البكر 223 البلبل 225 البلح 227 البلشون 227 البلصوص 227 بنات الماء 227 بنات وردان 227 البهار 227 البهثة 228 البهرمان 228 البهمة 228 البهيمة 228 البوم والبومة 231 البوّة 234 بوقير 234 البينيب 234 البياح 234 أبو براقش 234 أبو برا 235 أبو بريص 235 باب التاء المثناة التالب 235 التبيع 235 التبشر 235 التثفل 235 التدرج 235 التخس 235 التفلق 235 التفه 236 التم 236 التمساح 237 التميلة 238 التنوّط 238 التنين 238 التورم 240 التولب 240 التيس 240 باب الثاء المثلثة الثاغية 248 الثرملة 248 الثعبان 248 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 ثعالة 252 الثعبة 252 الثعلب 252 الثفا 260 الثقلان 260 الثلج 260 الثني 260 الثور 260 الثول 263 الثيتل 263 باب الجيم الجأب 264 الجارف 264 الجارحة 264 الجاموس 264 الجان 264 الجيهة 265 الجثلة 265 الجحل 265 الجحمرش 265 الجحش 265 الجخدب 266 الجدجد 266 الجدابة 266 الجدي 266 الأجدل 267 الجذع 267 الجراد 268 الجراد البحري 274 الجرارة 274 الجرذ 274 الجرجس 276 الجوارس 276 الجرو 276 الجريث 277 الجساسة 280 جعار 281 الجعدة 281 الجعل 281 الجعول 283 الجفرة 283 جلكى 283 الجلالة 283 الجلم 284 الجمل 284 جمل البحر 291 جمل الماء 291 جمل اليهود 291 الجمعليلة 291 جميل وجميل 291 الجنبر 291 الجندب 291 الجندع 292 الجن 292 جنان البيوت 307 الجندبادستر 308 الجنين 308 جهبر 310 الجواد 310 الجواف 317 الجوذر 317 الجوزل 320 جيال 320 أبو جرادة 320 باب الحاء المهملة حائم 320 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 الحارية 321 الحباب 321 الحبتر 321 الحبث 321 حباحب 321 الحبارى 321 الحبرج 323 الحبركى 323 حبلق 323 حبيش 323 الحجر 323 الحجروف 324 الحجل 324 الحدأة 325 الحذف 328 الحر 328 الحرباء 329 الحرذون 330 الحرشاف أو الحرشوف 330 الحرقوص 331 الحريش 332 الحسبان 332 الحساس 332 الحسل 332 الحسيل 333 حسون 333 الحشرات 333 الحشو والحاشية 334 الحصان 334 الحصور 336 حضاجر 336 الحضب 337 الحفان 337 الحفص 337 الحقم 337 الحلزون 337 الحلكة والحلكاء والحلكاء والحلكي 337 الحمار الأهلي 338 الحمار الوحشي 359 حمار قبان 362 الحمام 363 الحمسة 374 الحمر 374 الحماط 375 الحمك 375 الحمل 375 حمنان 376 الحمولة 376 الحميمق 376 جميل حر 376 الحنش 376 الحنظب 377 الحوار 377 الحوت 378 حوت الحيض 380 حوت موسى ويوشع عليهما الصلاة والسلام 380 الحوشي 384 الحوصل 385 الحلان 385 حيدرة 385 الحيرمة 387 الحية 387 الحيوت 401 الحيدوان 401 الحيقطان 401 الحيوان 401 أم حبين 404 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 أم حسان 405 أم حسيس 405 أم حفصة 405 أم حمارس 405 باب الخاء المعجمة الخازباز 405 الخاطف 406 خاطف ظله 406 الخبهقعي 406 الخثق 406 الخدارية 406 الخدرنق 407 الخراطين 407 الخرب 407 الخرشة 408 الخرشفلا 408 الخرشنة 408 الخرق 408 الخرنق 408 الخروف 409 الخزز 409 الخشاش 409 الخشاف 410 الخشرم 410 الخشف 410 الخضاري 411 الخضرم 411 الخضيراء 411 الخطاف 411 الخطّاف 414 الخفاش 414 الخنان 416 الخلنبوص 416 الخلد 416 الخلفة 420 الخمل 423 الخنتعة 423 الخندع 423 الخنزير البري 423 الخنزير البحري 429 الخنفساء 429 الخنّوص 430 الختيعور 431 الخيدع 431 الأخيل 431 الخيل 431 أم خنور 441 باب الدال المهملة الدابة 441 الداجن 453 الدارم 454 الدبى 454 الدبدب 456 الدبر 456 الديسي 457 الدجاج 458 الدجاجة الحبشية 465 الدج 465 الدحرج 465 الدخاس 465 الدخس 465 الدخل 466 الدراج 466 الدرباب 467 الدرحرج 467 الدرص 467 الدرة 468 الدساسة 468 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 الدعسوقة 468 الدعموص 468 الدغفل 469 الدغناش 469 الدقيش 469 الدلدل 470 الدلفين 470 الدلق 471 الدلم 471 الدلهاما 472 الدم 472 الدنة 472 الدنيلس 472 الدهانج 473 الدوبل 473 الدود 473 دؤالة 477 الدودمس 477 الدوسر 477 الديسم 477 الديك 477 ديك الجن 485 الديلم 485 ابن دأية 485 الدئل 486 باب الذال المعجمة ذؤالة 488 الذباب 488 الذر 494 الذراح 497 الذرع 497 الذعلب 498 الذئب 498 ذؤالة 505 الذيخ 506 باب الراء المهملة الراحلة 507 الرأل 508 الراعي 508 الربّى 508 الرّباح 508 الرّباح 509 الرّبح 509 الربية 509 الرتوت 509 الرّثيلا 509 الرّخل 509 الرّخ 509 الرخمة 510 الرشأ 512 الرشك 512 الرفراف 513 الرق 513 الركاب 513 الركن 513 الرمكة 513 الرهدون 514 الروبيات 514 الريم 514 أم رباح 514 أبو رباح 514 ذو رميح 514 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 الجزء الثاني بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* باب الزاي الزاغ : من أنواع الغربان، يقال له الزرعي وغراب الزرع، وهو غراب أسود صغير، وقد يكون محمر المنقار والرجلين، ويقال له غراب الزيتون، لأنه يأكله. وهو لطيف الشكل حسن المنظر لكن وقع في عجائب المخلوقات، أنه الأسود الكبير وأنه يعيش أكثر من ألف سنة، وهو وهم، والصواب الأول. عجيبة : رأيت في المنتقى، من انتخاب الحافظ السّلفي «1» ، وفي آخر ورقة من عجائب الخلوقات، عن محمد بن اسماعيل السعدي، أنه قال: وجه إلى يحيى «2» بن أكثم، فتوجهت إليه، فلما دخلت عليه، إذا عن يمينه قمطر فأجلسني، وأمر أن يفتح، فإذا شيء خرج منه رأسه كرأس إنسان، ومن أسفله إلى سرّته على هيئة زاغ، وفي صدره وظهره سلعتان، قال: ففزعت منه ويحيى يضحك، فقلت له: ما هذا أصلحك الله؟ فقال لي: سل عنه منه! فقلت له: ما أنت؟ فنهض وأنشد بلسان فصيح: أنا الزاغ أبو عجوه ... أنا ابن الليث واللبوه «3» أحبّ الراح والريحان ... والقهوة والنشوه «4» فلا عدوى يدي تخشى ... ولا يحذر لي سطوه ولي أشياء تستظرف ... يوم العرس والدعوه فمنها سلعة في الظه ... ر لا تسترها الفروه وأما السّلعة الأخرى ... فلو كان لها عروه لما شك جميع الناس ... فيها أنها ركوه ثم صاح ومدّ صوته زاغ زاغ، وانطرح في القمطر. فقلت: أعز الله القاضي وعاشق أيضا! فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 هو ما ترى لا علم لي بأمره، إلا أنه حمل إلى أمير المؤمنين، مع كتاب مختوم فيه ذكر حاله، لم أقف عليه، انتهى. وهذا الخبر قد رواه لحافظ أبو طاهر السلفي على غير هذه الطريقة، وهو ما أخبر به موسى الرضي قال: قال أبو الحسن علي بن محمد: دخلت على أحمد بن أبي داؤد، وعن يمينه قمطر فقال لي: اكشف وانظر العجب، فكشفت فخرج علي رجل طوله شبر من وسطه إلى أعلاه رجل، ومن وسطه إلى أسفله صورة زاغ ذنبا ورجلا، فقال لي: من أنت؟ فانتسبت له ثم سألته عن اسمه فقال: أنا الزاغ أبو عجوه ... حليف الخمر والقهوه ولي أشياء لا تنكر ... يوم القصف في الدعوه فمنها سلعة في الظهر ... لا تسترها الفروه ومنها سلعة في الصدر ... لو كان لها عروه لما شك جميع الناس ... حقا أنها ركوه ثم قال أنشدني شيئا في الغزل فأنشدته: وليل في جوانبه فضول ... من الإظلام أطلس غيهبان «1» كأن نجومه دمع حبيس ... ترقرق بين أجفان الغواني «2» فصاح وا أبي وأمي! ورجع إلى القمطر وستر نفسه، فقال ابن أبي دؤاد: وعاشق أيضا! قال ابن خلكان في ترجمة يحيى بن أكثم: إنه لما ولي البصرة، كان سنه نحو عشرين سنة، فاستصغره أهل البصرة، وقالوا له: كم سن القاضي؟ فعلم أنهم استصغروه، فقال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد الذي وجه به النبي عليه الصلاة قاضيا على مكة يوم الفتح، ومن معاذ بن جبل الذي وجه به النبي صلى الله عليه وسلم قاضيا على اليمن، ومن كعب بن سور الذي وجه به عمر رضي الله تعالى عنه قاضيا على البصرة، فجعل جوابه احتجاجا. قيل: لما أراد المأمون أن يولي رجلا القضاء، وصف له يحيى بن أكثم فاستحضره، فرآه دميم الخلق فاستحقره، فعلم يحيى ذلك فقال: يا أمير المؤمنين سلني إن كان القصد علمي لا خلقي. فسأله فأجابه، فقلده القضاء. قال: ولم يعلم أحد غلب على سلطانه في زمانه إلا يحيى بن أكثم وأحمد بن أبي دؤاد «3» المعتزلي وكان حنيفا، ولم يكن على الإمام أحمد رحمه الله تعالى في محنته أشد منه. وسيأتي ذكر طرف من محنته في باب الكاف، في لفظ الكلب إن شاء الله تعالى. قال: وكانت كتب يحيى في الفقه أجل كتب، فتركها الناس لطولها، وكان ليحيى يوم في الإسلام لم يكن لأحد مثله، وهو أن المأمون كان في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة ولم يستطع أحد أن يحتج عليه في تحريمها غير يحيى، فقرر عنده تحريم المتعة، فقال المأمون: أستغفر الله تعالى، نادوا بتحريم نكاح المتعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 وروي أن رجلا قال ليحيى: أيها القاضي كم آكل؟ فقال: فوق الجوع، ودون الشبع. قال: فكم أضحك؟ قال: حتى يسفر وجهك، ولا يعلو صوتك. قال: فكم أبكي؟ قال: لا تمل من البكاء من خشية الله. قال: فكم أخفي عملي؟ قال: ما استطعت. قال: فكم أظهر منه؟ قال: ما يقتدى بك البر، ويؤمن عليك قول الناس. فقال الرجل: سبحان الله قول وعمل ظاعن. قال: ولم يكن في يحيى ما يعاب به سوى ما كان يتهم به مما هو شائع عنه من محبة الصبيان، وحب العلو. وكان إذا رأى فقيها سأله عن الحديث، أو محدثا سأله عن النحو، أو نحويا سأله عن الكلام ليخجله ويقطعه، فدخل عليه يوما رجل من أهل خراسان، فناظره فرآه متفننا حافظا، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم. قال: ما تحفظ من الأصول؟ قال: أحفظ عن شريك عن أبي اسحاق عن الحارث، أن عليا رضي الله تعالى عنه رجم لوطيا فأمسك ولم يكلمه. وتوفي بالربذة ودفن هناك سنة اثنتين أو ثلاث وأربعين ومائتين. ونقل أنه رؤي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، إلا أنه وبخني وقال لي: يا يحيى خلطت على نفسك في دار الدنيا. فقلت: يا رب اتكلت على حديث حدثني به أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك قلت إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة مسلما بالنار» . فقال: قد عفوت عنك يا يحيى، وصدق نبيي إلا أنك خلطت على نفسك في دار الدنيا. الذّمامة بالذال المعجمة رداءة الخلق بضم اللام وبالدال المهملة رداءة الخلق بإسكان اللام، وأكثم بالثاء المثلثة، والرّبذة بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة، قرية من قرى المدينة، على طريق الحاج، وهي التي نفى عثمان بن عفان أبا ذر الغفاري رضي الله تعالى عنهما إليها، فأقام بها حتى مات، وقبره ظاهر هناك يزار كما تقدم. الحكم : يحل أكل الزاغ، وهو الأصح عند الرافعي، وبه قال الحكم وحماد ومحمد بن الحسن، وروى البيهقي في شعبه قال: سألت الحكم عن أكل الغربان قال: أما السود الكبار فأكره أكلها، وأما الصغار التي يقال لها الزاغ فلا بأس بها. والأمثال تأتي إن شاء الله تعالى، في باب الغين المعجمة، في لفظ الغراب. الخواص : لسان الزاغ يخفف ويأكله العطشان يذهب عطشه، ولو في وسط تموز، وكذلك قلبه إذا جفف وسحق وشربه إنسان لا يعطش في سفره، فإن هذا الطائر لا يشرب ماء في تموز، ومرارته تخلط بمرارة الديك ويكتحل بها تذهب ظلمة العين وتسود الشعر إذا طلي بها سوادا عجيبا وحوصلته تمنع نزول الماء عند مباديه. التعبير : الزاغ الذي في منقاره حمرة تدل رؤيته على رجل ذي سطوة ولهو وطرب. وقال ارطامدورس: الزاغ في المنام يدل على ناس يحبون المشاركة، وربما دل على أناس فقراء، وقيل: إنه يدل على الولد من الزنا والرجل الممزوج بالخير والشر والله أعلم. الزاقي : الديك والجمع الزواقي، يقال: زقا يزقو إذا صاح، وكل صائح زاق. وفي حديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 هشام بن عروة أنت أثقل من الزواقي يريد أنها إذا زقت سحرا تفرق السمار والأحباب. والزقو والزقي مصدر وقد زقا الصدى يزقو ويزقى زقا أي صاح وكل زاق صائح، قاله الجوهري وقد تقدم في البومة قول توبة بن الحمير «1» صاحب ليلى «2» الأخيلية: ولو أنّ ليلى الأخيلية سلّمت ... علي ودوني جندل وصفائح «3» لسلمت تسليم البشاشة أو زقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الصاد المهملة، في لفظ الصدى. الزامور : قال التوحيدي: إنه حوت صغير الجسم ألوف لأصوات الناس، يستأنس باستماعها، ولذلك يصحب السفن متلذذا بأصوات أهلها، وإذا رأى الحوت الأعظم، يريد الاحتكاك بها وكسرها، وثب الزامور ودخل أذنه، ولا يزال يزمر فيه حتى يفر الحوت إلى الساحل يطلب جرفا أو صخرة. فإذا أصاب ذلك فلا يزال يضرب به رأسه حتى يموت. وركاب السفن يحبونه ويطعمونه ويتفقدونه ليدوم ألفه لهم وصحبته لسفنهم ليسلموا من ضرر السمك العادي وإذا ألقوا شباك الصيد، فوقع الزامور أطلقوه لكرامته. الزبابة : بفتح الزاي والباءين الموحدتين، بينهما ألف: الفأرة البرية تسرق ما تحتاج إليه وما تستغني عنه. وقيل: هي فأرة عمياء صماء، وجمعها زباب ويشبه بها الرجل الجاهل قال الحارث بن كلدة «4» : ولقد رأيت معاشرا ... جمعوا مالا وولدا وهم زباب حائر ... لا تسمع الآذان رعدا أي لا يسمعون شيئا يعني موتى. وصف الزباب بالتحير، والتحير إنما يحصل للأعمى وأراد بذلك أن الأرزاق لم تقسم على قدر العقول، والولد بضم الواو وللواحد والجمع وقوله لا تسمع الآذان رعدا أي لا تسمع آذانهم، فاكتفى بالألف واللام عن الإضافة كقوله تعالى: فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «5» وبين أن آذانهم لشدة صممهم لا يسمعون بها الرعد. قال الإمام الثعالبي، في فقه اللغة، يقال: في آذانه وقر، فإن زاد فهو صمم، فإن زاد فهو طرش، فإن زاد حتى لا يسمع الرعد، فهو صلخ بالصاد المهملة والخاء المعجمة في آخره. انتهى. واختصت هذه الفأرة بالصمم، كما اختص الخلد بالعمى وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر حكمها، في باب الفاء، في لفظ الفأر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الأمثال : قالوا «1» : «أسرق من زبابة» لأنها تسرق ما تحتاج إليه وما تستغني عنه. الزبزب : دابة كالسنور، قاله في العباب. وفي كامل ابن الأثير، في حوادث سنة أربع وثلاثمائة، قال: وفيها خافت العامة ببغداد من حيوان كانوا يسمونه الزبزب، ويقولون إنهم يرونه في الليل على أسطحتهم وأنه يأكل أطفالهم وربما عض يد الرجل أو يد المرأة فيقطعها، وكان الناس يتحارسون منه ويتراعون ويضربون بالطسوت والصواني وغيرها ليفزعوه، وارتجت بغداد لذلك. ثم إن أصحاب السلطان صادوا حيوانا في الليل أبلق بسواد، قصير اليدين والرجلين، فقالوا: هذا هو الزبزب، وصلبوه على الجسر فسكن الناس انتهى. الزّخارف : جمع زخرف وهو ذباب صغار ذات قوائم أربع يطير على الماء قال أوس بن حجر «2» : تذكر عينا من عمان وماؤها ... له حدب تستنّ فيه الزخارف الزرزور : بضم الزاي طائر من نوع العصفور سمي بذلك لزرزرته أي تصويته قال «3» الجاحظ: كل طائر قصير الجناح كالزرازير والعصافير، إذا قطعت رجلاه لم يقدر على الطيران، كما إذا قطعت رجل الإنسان، فإنه لا يقدر على العدو. وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى، في باب العين المهملة، في العصفور. فائدة : روى الطبراني وابن أبي شيبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أنه قال «4» : «أرواح المؤمنين في أجواف طيور خضر، كالزرازير يتعارفون ويرزقون من ثمر الجنة» ، وما أحسن قول شيخنا الشيخ برهان الدين القيراطي «5» رحمة الله تعالى عليه: قد قلت لما مربي معرضا ... وكفه يحمل زرزورا يا ذا الذي عذّبني مطله ... إن لم يزر حقا فزرزورا وفي مناقب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه، لعبد المحسن بن عثمان بن غانم، قال الشافعي: من عجائب الدنيا، طلسم على صفة الزرزور من نحاس في رومية، يصفر في يوم واحد من السنة فلا يبقى طائر من جنسه إلا أتى رومية وفي منقاره زيتونة، فإذا اجتمع ذلك عصر، وكان منه زيتهم في ذلك العام. وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في السودانية، في باب السين المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وحكمه : الحل لأنه من أنواع العصافير. ومن خواصه : أن لحمه يزيد في الباه، ودمه إذا وضع على الدماميل نفعها وإذا ذر رماد الزرزور على الجرح فإنه يختم بإذن الله تعالى. التعبير : الزرزور دال على التردد في الأسفار، في البر والبحر، وربما دل على رجل مسافر يسافر كثيرا كالمكاري الذي لا يلبث في مكان، ونحوه وطعامه حلال لأنه حرم على نفسه الطعام والشراب لما أهبط الله آدم عليه السلام من الجنة، فلم يتناول شيئا من ذلك حتى تاب الله تعالى عليه. وربما دل على التخليط في الأعمال الصالحة أو السيئة، أو على رجل ليس بغني ولا فقير، ولا شريف ولا وضيع، وربما دل على المهانة والقناعة، بأدنى العيش واللعب وربما كان كاتبا والله أعلم. الزّرّق : طائر يصاد به، بين البازي والباشق، قاله ابن سيده. وقال الفراء: هو البازي الأبيض. والجمع الزراريق وهو صنف من البازي لطيف، إلا أنه أحر وأيبس مزاجا، ولذلك هو أشد جناحا وأسرع طيرانا وأقوى إقداما، وفيه ختل وخبث، وخير ألوانه الأسود الظهر، الأبيض الصدر، الأحمر العين، قال الحسن بن هانىء في طريدته يصفه: قد اغتدي بسفرة معلّقه ... فيها الذي يريده من مرفقه مبكرا بزرق أو زرقه ... وصفته بصفة مصدقه كأنّ عينه لحسن الحدقه ... نرجسة نابتة في ورقه ذو منسر مختضب بعلقه ... كم وزة صدنا به ولقلقه سلاحه في لحمها مفرقه الحكم : تحريم الأكل كما تقدم في البازي. الزرافة : كنيتها، وهي بفتح الزاعي المخففة وضمها، وهي حسنة الخلق، طويلة اليدين، قصيرة الرجلين، مجموع يديها ورجليها نحو عشرة أذرع، ورأسها كرأس الإبل، وقرنها كقرن البقرة، وجلدها كجلد النمر، وقوائمها وأظلافها كالبقر، وذنبها كذنب الظبي، ليس لها ركب في رجليها، وإنما ركبتاها في يديها، وهي إذا مشت، قدمت الرجل اليسرى واليد اليمنى، بخلاف ذوات الأربع كلها فإنها تقدم اليد اليمنى والرجل اليسرى، ومن طبعها التودد والتأنس، وتجتر وتبعر ولما علم الله تعالى أن قوتها من الشجر، جعل يديها أطول من رجليها لتستعين بذلك على الرعي منها بسهولة. قاله القزويني في عجائب المخلوقات. وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة محمد بن عبد الله العتبي «1» البصري الإخباري الشاعر المشهور أنه كان بقول: الزرافة بفتح الزاي وضمها الحيوان المعروف وهي متولدة بين ثلاث حيوانات، بين الناقة الوحشية والبقرة الوحشية والضبعان وهو الذكر من الضباع، فيقع الضبعان على الناقة فتأتي بولد بين الناقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 والضبع، فإن كان الولد ذكرا، وقع على البقرة فتأتي بالزرافة، وذلك في بلاد الحبشة، ولذلك قيل لها الزرافة، وهي في الأصل الجماعة، فلما تولدت من جماعة، قيل لها ذلك، والعجم تسميها «اشتركا» و «يلنك» لأن اشتر الجمل وكاو البقرة ويلنك الضبع. وقال قوم: إنها متولدة من حيوانات مختلفة، وسبب ذلك اجتماع الدواب والوحوش في القيظ، عند المياه، فتتسافد فيلقح منها ما يلقح، ويمتنع منها ما يمتنع، وربما سفد الأنثى من الحيوان ذكور كثيرة، فتختلط مياهها فيأتي منها خلق مختلف الصور والألوان والأشكال. والجاحظ لا يرضى هذا القول، ويقول: إنه جهل شديد، لا يصدر إلا ممن لا تحصيل لديه، لأن الله تعالى يخلق ما يشاء، وهو نوع من الحيوان قائم بنفسه، كقيام الخيل والحمير، ومما يحقق ذلك أنه يلد مثله وقد شوهد ذلك وتحقق. وفي حكمها وجهان : أحدهما التحريم، وبه جزم صاحب التنبيه وفي شرح المهذب للنووي أنها محرمة بلا خلاف، وأن بعضهم عدها من المتولد بين المأكول وغيره وقال بتحريمها القاضي أبو الخطاب من الحنابلة، والثاني الحل، وبه أفتى الشيخ تقي الدين بن أبي الدم «1» الحموي، ونقله عن فتاوي القاضي حسين وذكر أبو الخطاب ما يوافق الحل فإنه حكى في فروعه قولين في أن الكركي والبط والزرافة، هل تفدى بشاة أو تفدى بالقيمة؟ والفداء لا يكون إلا للمأكول. قال ابن الرفعة: وهو المعتبر، كما أفتى به البغوي قال: ومنهم من أول لفظها وقال: ليست الزرافة بالفاء بل بالقاف. قال الشيخ تقي الدين السبكي: هذا التعليل ليس بشيء لأنه لا يعرف. واختار في الحلبيات حلها كما أفتى به ابن أبي الدم، ونقله عن القاضي حسين وتتمة التتمة قال: وما ادعاه النووي ممنوع وما ادعاه أبو الخطاب الحنبلي يجوز حمله على جنس يتقوى بنابه، وأما هذا الذي شاهدناه فلا وجه للتحريم فيه. وما برحت أسمع هذا بمصر وقال ابن أبي الدم، في شرح التنبيه: وما ذكره الشيخ في التنبيه غير مذكور في كتب المذهب. وقد ذكر القاضي حسين أنها تحل ثم قال: قلت هذا مع أنها أقرب شبها بما يحل، وهو الإبل والبقر، وذلك يدل على حلها ويمكن أن يقال: إنما ذكر الشيخ ذلك اعتمادا على ما ذكر أهل اللغة أنها من السباع، وتسميتهم لها بذلك تقتضي عدم الحل، وإذا كان كذلك فقد ذكر صاحب كتاب العين أن الزّرافة بفتح الزاي وضمها من السباع ويقال لها بالفارسية «اشتركا» و «يلنك» . وقد ذكر في موضع آخر أن الزرافة متولدة بين الناقة الوحشية والضبع، فيجيء الولد في خلقة الناقة والضبع، فإن كان الولد ذكرا عرض للأنثى من بقر الوحش فيلحقها، فتأتي بالزرافة. وسميت بذلك لأنها جمل وناقة، ولما كان كذلك وسمع الشيخ أنها من السباع اعتقد أنها من السباع حقيقة ولم يكن رآها فاستدل بذلك على تحريم أكلها انتهى. وقد تقدم أن الجاحظ لم يرتض هذا القول، وقال «2» إن هذا القول جهل بين، وإن الزرافة نوع من الحيوان قائم بنفسه كقيام الخيل والحمير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 قلت: وهذا الذي قاله الجاحظ معارض لما نقله ابن أبي الدم عن صاحب كتاب العين، من كونها متولدة بين مأكولين، وما تمسك به ابن أبي الدم من الشبه بالإبل والبقر شبه بعيد، لما يشاهد من طول يديها وقصر رجليها، ولو كان الشبه البعيد كافيا لحل أكل الصرّارة لشبهها بالجرادة ولجاز أكله، لأن خفه يشبه خف الجمل. وقد ذكر في شرح المهذب، أن بعضهم عد الزرافة من المتولد بين مأكول وغير مأكول، واستدل به على تحريمها وكلام الجاحظ ينفي هذا، ويقتضي الحل وهو المختار في الفتاوى الحلبيات كما سبق، وهو مذهب الإمام أحمد ومقتضى مذهب مالك، وقواعد الحنفية تقتضيه وإذا تعارضت الأقوال، وتساقط اعتبار مدلولها، رجعنا إلى الإباحة الأصلية، والتحقت هذه بما لا نص فيه بالتحريم والتحليل. وسيأتي إن شاء الله تعالى، ذكر ما لا نص فيه بالتحريم والتحليل في باب الواو في الورل. ومن خواصها : أن لحمها غليظ سوداوي رديء الكيموس. التعبير : الزرافة في المنام تدل على الآفة في المال، وربما دلت على المرأة الجليلة أو الجميلة أو الوقوف على الأخبار الغريبة من الجهة المقبلة منها، ولا خير فيها إن دخلت البلد من غير فائدة، فإنها تدل على الآفة في المال، وما تأنس من ذلك كان صديقا أو زوجا أو ولدا لا تؤمن غائلته. وربما تعبر بالمرأة التي لا تثبت مع الزوج، لأنها خالفت المركوبات في ظهورها، والله أعلم. الزّرياب : قال في كتاب منطق الطير: إنه أبو زريق. قال: وحكي أن رجلا خرج من بغداد، ومعه أربعمائة درهم لا يملك غيرها، فوجد في طريقه أفراخ زرياب فاشتراها بالمبلغ الذي كان معه، ثم رجع إلى بغداد، فلما أصبح فتح دكانه وعلق الأفراخ عليها، فهبت ريح باردة فماتت كلها إلا فرخا واحدا، وكان أضعفها وأصغرها، فأيقن الرجل بالفقر ولم يزل يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء ليله كله ويقول: يا غياث المستغيثين أغثني! فلما أصبح زال البرد، وجعل ذلك الفرخ ينفش ريشه ويصيح بصوت فصيح، يا غياث المستغيثين أغثني فاجتمع الناس عليه يستمعون صوته فاجتازت به أمة لأمير المؤمنين فاشترته بألف درهم انتهى. فانظر كيف فعل الصدق مع الله تعالى، والإقبال بكنه الهمة في التضرع بين يديه وحضور القلب وعدم الالتفات إلى غيره من الغنى من الجهة الميؤوس منها! فما ظنك بمن ترك الأسباب والوسايط، وأقبل على الله تعالى إقبالا لا يشغله عنه شاغل، ولا يحجبه حاجب، لأن حجابه نفسه وقد فني عنها فهناك لذ الخطاب وطاب الشراب، فسبحان من يختص برحمته من يشاء، وهو العزيز الوهاب. الزّغبة : دويبة تشبه الفأرة، قاله ابن سيده قال: وقد سمت العرب زغبة، وأشار بذلك إلى عيسى بن حماد «1» البصري زغبة روى عن رشد بن سعد وعبد الله بن وهب والليث بن سعد وروى عنه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه ومات سنة ثمان وأربعين ومائتين. الزّغلول : بضم الزاي فرخ الحمام مادام يزق يقال: أزغل الطائر فرخه إذا زقه و الزغلول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 أيضا اللاهج بالرضاع من الغنم والإبل والزغلول أيضا الخفيف من الرجال. الزّغيم: طائر وقيل بالراء غير المعجمة، قاله ابن سيده. الزقة: طائر من طير الماء يمكث حتى يكاد يقبض عليه ثم يغوص في الماء فيخرج بعيدا قاله ابن سيده. الزّلال: بضم الزاي دود يتربّى في الثلج، وهو منقط بصفرة يقرب من الأصبع، يأخذه الناس من أماكنه ليشربوا ما في جوفه لشدة برده، ولذلك يشبه الناس الماء البارد بالزلال، لكن في الصحاح ماء زلال أي عذب. وقال أبو الفرج العجلي، في شرح الوجيز: الماء الذي في دود الثلج طهور، والذي قاله يوافق قول القاضي حسين فيما تقدم في الدود. والمشهور على الألسنة أن الزلال هو الماء البارد قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أحد العشرة المشهود لهم بالجنة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «انه يبعث أمة وحده» : وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذبا زلالا وما أحسن قول أبي فراس بن حمدان واسمه الحارث «1» : قد كنت عدتي التي أسطو بها ... ويدي إذا خان الزمان وساعدي فرميت منك بضد ما أمّلته ... والمرء يشرق بالزلال البارد وقال الآخر: ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا «2» وما أحسن قول «3» وجيه الدولة أبي المطاع بن حمدان ويلقب بذي القرنين وكان شاعرا مجيدا ووفاته في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة: قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد «4» فقال: أبصرته لو ما من ظمأ ... وقلت: قف عن ورود الماء لم يرد قالت: صدقت الوفا في الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي ومن محاسن «5» شعره: ترى الثياب من الكتّان يلمحها ... نور من البدر أحيانا فيبليها فكيف تنكر أن تبلى معاصرها ... والبدر في كلّ وقت طالع فيها «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وقال آخر: لا تعجبوا من بلا غلائله ... قد زر أزراره على القمر «1» وهذا وما قبله يستشهد بهما على أن نور القمر يبلى ثياب الكتان كما قاله حذاق الحكماء، لا سيما إذا طرحت الثياب في الماء عند اجتماع النيرين الشمس والقمر، فإنها تبلى سريعا في غير وقتها واجتماعهما من الخامس والعشرين إلى الثلاثين. ومن هنا يقال: ثوب حام إذا تفصد سريعا وسببه ما ذكرناه، وقد أشار إلى ذلك الرئيس ابن سينا «2» في أرجوزته بقوله: لا تغسلن ثيابك الكتانا ... ولا تصد فيها كذا الحيتانا عند اجتماع النيرين تبلى ... وذا صحيح فاتخذه أصلا فينبغي الاحتراس على ثياب الكتان من نور القمر ومن غسلها عند اجتماع النيرين كما ذكرناه. الحكم: قال أبو الفرج العجلي، في شرح الوجيز: الماء الذي في دود الثلج طهور، والذي قاله يوافق قول القاضي حسين فيما تقدم في الدود والمشهور على الألسنة أن الزلال الماء البارد كما تقدم عن الجوهري وغيره. الزّماج: كرمان طائر كان يقف بالمدينة في الجاهلية على أطم ويقول شيئا لا يفهم وقيل: كان يسقط في مربد، لبعض أهل المدينة، فيأكل ثمره فيرمونه فيقتلونه، ولم يأكل أحد من لحمه إلا مات. قال الشاعر: أعلى العهد أصبحت أم عمرو ... ليت شعري أم غالها الزماج قاله ابن سيده وغيره. الزّمّج: مثال الخرد طائر معروف يصيد به الملوك الطير وأهل البزدرة يعدونه من خفاف الجوارح، وذلك معروف في عينه وحركته وشدة وثبه، ويصفونه بالغدر وقلة الوفاء والألفة لكثافة طبعه، وهو يقبل التعليم لكن بعد بطء. ومن عادته أنه يصيد على وجه الأرض، والمحمود من خلقه أن يكون لونه أحمر وهو أحد نوعي العقاب. وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. قال الجواليقي: الزمج جنس من الطير يصاد به وقال أبو حاتم: إنه ذكر العقاب والجمع الزمامج. وقال الليث: الزمج طائر دون العقاب حمرته غالبة تسميه العجم دو برادران وترجمته أنه إذا عجز عن صيده أعانه أخوه على أخذه. وحكمه : تحريم الأكل كسائر الجوارح. الخواص : إدمان أكل لحم الزمج ينفع من خفقان القلب، ومرارته إذا جعلت في الأكحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 نفعت من الغشاوة، وظلمة البصر نفعا بليغا، وزبله يزيل الكلف والنمش طلاء. زمج الماء: وهو الطائر الذي يسمى بمصر النّورس وهو أبيض في حد الحمام أو أكبر، يعلو في الجو ثم يزج نفسه في الماء ويختلس منه السمك ولا يقع على الجيف ولا يأكل غير السمك. وحكمه : حل الأكل، لكن حكى الروياني عن الصيمري أن طير الماء الأبيض حرام، لخبث لحمه. قال الرافعي: والأصح أن جميع طير الماء حلال إلا اللقلق وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في باب اللام. الزنبور: الدبر وهي تؤنث والزنابير لغة فيها وربما سميت النحلة زنبورا، والجمع الزنابير. قال ابن خالويه، في كتاب ليس: ليس أحد سمعته يذكر كنية الزنبور إلا أبا عمر والزاهد فإنه قال: كنيته أبو علي وهو صنفان جبلي وسهلي: فالجبلي يأوي الجبال ويعشش في الشجر ولونه إلى السواد وبدء خلقه دود، ثم يصير كذلك، ويتخذ بيوتا من تراب كبيوت النحل، ويجعل لبيته أربعة أبواب لمهاب الرياح الأربع، وله حمة يلسع بها، وغذاؤه من الثمار والأزهار. ويتميز ذكورها من إناثها بكبر الجثة. والسهلي لونه أحمر ويتخذ عشه تحت الأرض، ويخرج منه التراب كما يفعل النمل ويختفي في الشتاء لأنه متى ظهر فيه هلك، فهو ينام من البرد طول الشتاء كالميتة ولا يدخر القوت للشتاء بخلاف النمل، فإذا جاء الربيع وقد صارت الزنابير من البرد وعدم القوت كالخشب اليابس، نفخ الله تعالى في تلك الجثث الحياة فتعيش مثل العام الأول، وذلك دأبها. ومن هذا النوع صنف مختلف اللون مستطيل الجسد، في طبعه الحرص والشره، يطلب المطابخ ويأكل ما فيها من اللحوم، ويطير منفردا ويسكن بطن الأرض والجدران، وهذا الحيوان بأسره مقسوم من وسطه ولذلك لا يتنفس من جوفه البتة ومتى غمس في الدهن سكنت حركته، وإنما ذلك لضيق منافذه، فإذا طرح في الخل عاش وطار. قال الزمخشري في تفسير سورة الأعراف: قد يجعل المتوقع الذي لا بد منه بمنزلة الواقع. ومنه ما روي أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري دخل على أبيه وهو يبكي، وهو إذ ذاك طفل، فقال له: ما يبكيك؟ فقال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة فقال حسان: يا بني قلت الشعر ورب الكعبة! أي ستقوله. فجعل المتوقع كالواقع. وما أحسن قول الأول «1» : وللزنبور والبازي جميعا ... لدى الطيران أجنحة وخفق ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزنبور فرق وقد أجاد الشيخ زهير الدين بن عسكر «2» قاضي السلامية بقوله: في زخرف القول تزيين لباطله ... والحقّ قد يعتريه سوء تغيير «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن ذممت فقل قيء الزنابير مدحا وذما وما غيرت من صفة ... سحر البيان يرى الظلماء كالنور «1» وقال شرف الدولة» بن منقذ ملغزا في الزنبور والنحل: ومغردين ترنما في مجلس ... فنفاهما لأذاهما الأقوام هذا يجود بما يجود بعكسه ... هذا فيحمد ذا وذاك يلام روى ابن أبي الدنيا، عن أبي المختار التيمي، قال: حدثني رجل قال: خرجنا في سفر ومعنا رجل يشتم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فنهيناه فلم ينته، فخرج يوما لبعض حاجاته فاجتمع عليه الزنابير فاستغاث فأغثناه فحملت علينا فتركناه فما أقلعت عنه حتى قطعته قطعا. وكذلك رواه ابن سبع في شفاء الصدور، وزاد: فحفرنا له قبرا فتصلبت الأرض فلم نقدر على حفرها فألقيناه على وجه الأرض، وألقينا عليه من ورق الشجرة والحجارة، وجلس رجل من أصحابنا يبول فوقع على ذكره زنبور من تلك الزنابير فلم يضره. فعلمنا أن تلك الزنابير كانت مأمورة. قال يحيى بن معين: كان يعلى بن منصور الرازي من كبار علماء بغداد، روى عن مالك والليث وغيرهما قال: فبينما هو يصلي يوما إذ وقع عليه كور الزنابير، فما التفت ولا تحرك حتى أتم صلاته، فنظروا فإذا رأسه قد صارت هكذا من شدة الانتفاخ. الحكم : يحرم أكله لاستخباثه، ويستحب قتله لما روى ابن عدي في ترجمة مسلمة بن علي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «من قتل زنبورا اكتسب ثلاث حسنات» . لكن يكره احراق بيوتها بالنار قاله الخطابي في معالم السنن. وسئل الامام أحمد عن تدخين بيوت الزنابير فقال: إذا خشي أذاها فلا بأس به وهو أحب إلي من تحريقها. ولا يصح بيعها لأنها من الحشرات. الخواص : إذا طرح الزنبور في الزيت مات، فإن طرح في الخل عاش كما تقدم. وفراخ الزنابير تؤخذ من أوكارها وتغلى في الزيت، ويطرح عليها سذاب وكراويا، وتؤكل تزيد في الباه وشهوة الجماع. وقال عبد الملك بن زهر: عصارة الملوخيا إذا طليت على لسعة الزنبور أبرأتها. التعبير : الزنبور في المنام عدو محارب، وربما دل على البناء والنقاب والمهندس وعلى قاطع الطريق وذي الكسب الحرام وعلى المطرب الخارج الضرب، وربما دلت رؤيته على أكل السموم أو شربها. وقيل: تدل رؤيته على رجل مخاصم مهيب ثابت في القتال، سفيه خبيث المأكل. والزنابير إذا دخلت مكانا فإنها جنود لهم هيبة وسرعة وشجاعة، يحاربون الناس جهارا. وقيل: الزنبور رجل مجادل بالباطل وهو من الممسوخ وقالت اليهود: الزنبور والغراب يدل على المقامرين وسفاكي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 الدماء، وقيل الزنابير في المنام قوم لا رحمة لهم والله أعلم. الزندبيل : الفيل الكبير أنشد يحيى بن معين: وجاءت قريش البطاح ... إلينا هم الدول الجاليه يقودهم الفيل والزندبيل ... وذو الضّرس والشّفة العاليه الزندبيل كبير الفيلة وقال يحيى: أراد بالفيل والزندبيل عبد الملك وأبان ابني بشر بن مروان قتلا مع ابن هبيرة الأصغر وأراد بذي الضرس والشفة العالية خالد بن مسلمة المخزومي المعروف بالفأفاء الكوفي، روى له مسلم والأربعة وروى عن الشعبي وطبقته، وروى عنه شعبة بن الحجاج والسفيانان وكان مرجئا يبغض عليا رضي الله تعالى عنه، أخذ مع ابن هبيرة فقطع أبو جعفر المنصور لسانه ثم قتله. الزّهدم: زاي مفتوحة ثم هاء ساكنة ثم دال مهمة مفتوحة الصقر ويقال فرخ البازي وبه سمي زهدم بن مضرب الجرمي، روى له البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. والزهدمان أخوان من بني عبس زهدم وكردم وفيهما يقول قيس بن زهير «1» : جزاني الزهدمان جزاء سوء ... وكنت المرء يجزى بالكرامة أبو زريق: القيق الآتي ذكره في باب القاف إن شاء الله تعالى. والزرياب المتقدم قبل بورقة، وهو ألوف للناس يقبل التعليم سريع الإدراك لما يعلم، وربما زاد على الببغاء وذلك أنه أنجب وإذا تعلم جاء بالحروف مبينة حتى لا يشك سامعه أنه إنسان وقد تقدم ذكره في الزرياب. وحكمه : حل الأكل لعدم استخباثه لكن قيل إنه متولد من الشقراق والغراب، فعلى هذا يتخرج فيه وجه بالتحريم ولم يذكروه. أبو زيدان: ضرب من الطير. أبو زياد : الحمار. قال الشاعر: زياد لست أدري من أبوه ... ولكن الحمار أبو زياد وأبو زياد أيضا الذكر قال الشاعر: تحاول أن تقيم أبا زياد ... ودون قيامه شيب الغراب وهو الزهد باج أيضا قاله في المرصع. باب السين المهملة سابوط: دابة من دواب البحر قاله ابن سيده وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 ساق حر: هو بالسين المهملة وبالقاف بينهما ألف وحر بالحاء والراء المهملتين الورشان وهو ذكر القمارى لا يختلفون في ذلك قال الكميت «1» : تغريد ساق على ساق يجاوبها ... من الهواتف ذات الطوق والعطل عنى بالأول الورشان، وبالثاني ساق الشجرة وقال حميد بن ثور الهلالي «2» : وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ... دعت ساق حر نزهة وترنما «3» مطوقة غراء تسجع كلما ... دنا الصيف وانحال الربيع فأنجما محلاة طوق لم تكن من تميمة ... ولا ضرب صواغ بكفيه درهما تغنت على غصن عشاء فلم تدع ... لنائحة من نوحها متألما «4» إذا حركته الريح أو مال ميلة ... تغنت عليه مائلا ومقوما عجبت لها أنى يكون غناؤها ... فصيحا ولم تثغر بمنطقها فما «5» فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا هاجه صوت أعجما قال ابن سيده: إنما سمي ذكر القمارى ساق حر لحكاية صوته، فإنه يقول: ساق حر ساق حر، ولذلك لم يعرب ولو أعرب لصرف، فيقال ساق حران كان مضافا وساق حران كان مركبا فتصرفه لأنه نكرة، فترك إعرابه دليل على أنه حكى الصوت بعينه وهو صياحه، وقد يضاف أوله إلى آخره، وذلك كقولهم خاز باز لأنه في اللفظ أشبه بباب دار انتهى. والنزهة الشوق، والترنم الغناء وهما مصدران واقعان موقع الحال من الضمير الفاعل في دعت ساق حر الواقع في موضع الصفة لحمامة وسيأتي في باب القاف إن شاء الله تعالى في القمري. السالخ: الأسود من الحيات وقد تقدم ذكره في الأفعى في باب الهمزة. سامّ أبرص: بتشديد الميم قال أهل اللغة: وهو من كبار الوزغ وهو معرفة إلا أنه تعريف جنس وهما اسمان جعلا واحدا، ويجوز فيه وجهان أحدهما أن تبنيهما على الفتح كخمسة عشر، والثاني أن تعرب الأول وتضيفه إلى الثاني مفتوحا، لكونه لا ينصرف ولا ينثني ولا يجمع على هذا اللفظ، بل تقول في التثنية: هذان ساما أبرص وفي الجمع هؤلاء سوام أبرص، وإن شئت قلت: هؤلاء السوام ولا تذكر أبرص. وإن شئت قلت: هؤلاء البرصة والأبارص، ولا تذكر سام قال الشاعر: والله لو كنت لهذا خالصا ... ما كنت عبدا آكل الأبارصا «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 ولك على الثاني أن تقول: أبرصان وأبارص كما صنع الشاعر، فإنه جمع على الثاني وإنما سمي هذا النوع بسام أبرص لأنه سم أي جعل الله فيه السم، وجعله أبرص. وسيأتي في باب الواو إن شاء الله تعالى، في ذكر الوزغ. ومن شأن هذا الحيوان، أنه إذا تمكن من الملح، تمرغ فيه فيصير مادة لتولد البرص. وحكمه : تحريم الأكل لاستقذاره وللأمر بقتله، وعدم جواز بيعه كسائر الحيوانات التي لا منفعة لها والله أعلم. الخواص : دمه إذا طلي به داء الثعلب أنبت الشعر، وكبده يسكن وجع الضرس، ولحمه يوضع على لسعة العقرب ينفعها، وجلده يوضع موضع الفتق يذهبه، وهو لا يدخل بيتا فيه رائحة الزعفران. التعبير : سام أبرص والعظاية في التأويل: فاسقان يمشيان بالنميمة. وقال ارطاميدورس: سام أبرص يدل على فقر وهم والله أعلم. السانح: وما والاك ميامنه من ظبي أو طائر أو غيرهما تقول سنح الظبي لي سنوحا إذا مر من مياسرك إلى ميامنك. والعرب تتيمن بالسانح وتتشاءم بالبارح. وفي المثل: «من لي بالسانح بعد البارح» «1» قال أبو عبيدة: سأل يونس رؤية عن السانح والبارح، فقال: السانح ما والاك ميامنة، والبارح ما والاك مياسرة، وكان ذلك يصد الناس عن مقاصدهم فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الطيرة وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر قال لبيد «2» : لعمرك ما تدري الطوارق بالحصا ... ولا زاجرات الطير ما الله صانع والطيرة سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى، في الطير واللقحة، في بابي الطاء المهملة واللام. السّبد: بضم السين وفتح الباء طائر لين الريش، إذا قطرت عليه قطرة من ماء جرت عليه من لينه وجمعه سبدان قال الراجز: أكل يوم عرشها مقيلي ... حتى ترى المئزرذا الفضول مثل جناح السبد الغسيل والعرب تشبه الفرس به إذا عرق قال طفيل العامري «3» : كأنه سبد بالماء مغسول ولم أر لأصحابنا في حكمه كلاما. السّبع: بضم الباء وإسكانها الحيوان المفترس والجمع أسبع وسباع وأرض مسبعة أي كثيرة السباع قرأ الحسن وابن حيوة وما أكل السبع بإسكان الباء، وهي لغة لأهل نجد قال حسان بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 ثابت رضي الله تعالى عنه في عتيبة بن أبي لهب: من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع وقرأ ابن مسعود: وأكيلة السبع، وقرأ ابن عباس رضي تعالى عنهما: وأكيل السبع. قيل: سمي سبعا لأنه يمكث في بطن أمه سبعة أشهر، ولا تلد الأنثى أكثر من سبعة أولاد، ولا ينزو الذكر على الأنثى إلا بعد سبع سنين من عمره. قال أبو عبد الله ياقوت الحموي، في كتاب المشترك، وضعا في باب الغين المعجمة والباء الموحدة: الغابة موضع، بينه وبين المدينة أربعة أميال من ناحية الشام، له ذكر في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم «وفدت إليه، فيه السباع تسأله أن يفرض لها ما تأكله» . وفي طبقات ابن سعد عن عبد الله بن حنطب قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس بالمدينة، إذ أقبل ذئب، فوقف بين يديه وعوى، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا وافد السباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئا لا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه وتحرزتم منه، فما أخذ فهو رزقه» . فقالوا: يا رسول الله ما تطيب أنفسنا بشيء، فأومأ إليه بأصابعه الثلاث أي خالسهم فولى. وقد تقدم في باب الذال المعجمة في لفظ الذئب طرف من ذلك. ووادي السباع بطريق الرقة مر به وائل بن قاسط على أسماء بنت رويم، فهم بها حين رآها منفردة في الخباء فقالت: والله لئن هممت بي لأدعون أسبعي! فقال: ما أرى في الوادي سواك! فصاحت ببنيها يا كلب يا ذئب يا فهد يا دب يا سرحان يا أسد يا سبع يا ضبع يا نمر فجاؤوا يتعادون بالسيوف، فقال: ما هذا إلا وادي السباع! وفي الصحيحين «1» «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفترش المصلي ذراعيه افتراش السبع» . وروى الترمذي والحاكم، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلم السباع الإنس، وحتى يكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، يحدثه بما أحدث أهله من بعده» «2» . ثم قال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفاضل، وهو ثقة عند أهل الحديث وثقه يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي. فائدة : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال: «وبما أفضلت السباع» «3» خرجه الدارقطني قال السهيلي: يريد «نعم وبما أفضلت السباع» قال: ومثله قوله تعالى: «سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ» «4» قالوا: إنها واو الثمانية وليس كذلك بل تدل على تصديق القائلين بأنهم سبعة لأنها عاطفة على كلام مضمر مصدق تقديره نعم. وثامنهم كلبهم كما إذا قال قائل: زيد شاعر. فقلت له: وفقيه أيضا أي نعم وفقيه أيضا. وفي التنزيل «وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» «5» الآية قال الزمخشري: هذه الواو آذنت بأن الذين قالوا «سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ» «6» قالوا ذلك عن ثبات علم وطمأنينة نفس، ولم يرجموا بالظن كغيرهم انتهى. وحكى القشيري، في أوائل الرسالة، عن بنان الجمال، وكان عظيم الشأن صاحب كرامات، أنه ألقي بين يدي سبع فجعل السبع يشمه ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 يضره، فلما خرج قيل له: ما الذي كان في قلبك حين شمك السبع؟ قال: كنت أتفكر في اختلاف العلماء في سؤر السبع. قيل: حج سفيان الثوري مع شيبان الراعي رضي الله تعالى عنهما فعرض لهما سبع، فقال سفيان لشيبان: أما ترى هذا السبع؟ فقال: لا تخف، ثم أخذ شيبان أذنه فعركها فبصبص وحرك ذنبه، فقال سفيان: ما هذه الشهرة؟ فقال: لولا مخافة الشهرة لوضعت زادي على ظهره، حتى آتي مكة. وذكر الحافظ أبو نعيم في الحلية قال: كان شيبان الراعي إذا أجنب، وليس عنده ماء دعا ربه فتجيء سحابة فتظله، فيغتسل منها ثم تذهب، وكان إذا ذهب للجمعة، خط حول غنمه خطا فإذا جاء وجدها على حالها لم تتحرك، وذكر أبو الفرج بن الجوزي وغيره أن الإمام أحمد والشافعي مرا يوما بشيبان الراعي فقال الإمام أحمد: لأسألن هذا الراعي وأنظر جوابه، فقال له الشافعي: لا تتعرض له، فقال: لا بد من ذلك، فقال له: يا شيبان ما تقول فيمن صلى أربع ركعات فسها في أربع سجدات ماذا يلزمه؟ قال له: على مذهبنا أم على مذهبكم؟ قال: أهما مذهبان؟ قال: نعم، أما عندكم فيلزمه أن يصلي ركعتين ويسجد للسهو، وأما عندنا فهذا رجل مقسم القلب يجب أن يعاقب قلبه حتى لا يعود. قال: فما تقول فيمن ملك أربعين شاة وحال عليها الحول ماذا يلزمه؟ قال: يلزمه عندكم شاة وأما عندنا فالعبد لا يملك شيئا مع سيده. فغشي على الإمام أحمد فلما أفاق انصرفا انتهى. قلت: وقد ذهب جماعة من علماء الآخرة إلى من سها فسدت صلاته، أخذا بقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس للمرء من صلاته إلا ما عقله منها فعلا ولفظا» . قالوا: ولا تفسد الصلاة إلا بترك واجب، وإلا فأي معنى للركوع والسجود، والمقصود منهما التعظيم والحضور لا الغفلة والذهول؟! وهو حسن، وإنما أفتت العلماء رضي الله تعالى عنهم بصحة الصلاة بذلك لعجزهم عن الاطلاع على أسرار القلوب، وسلموها إلى أربابها ليستفتوا نفوسهم، ليدفع الفقهاء كيد الشيطان وشقشقته عمن يقول لا إله إلا الله، وليقيموا الصلاة، ولم يفتوا بأن ذلك نافع لهم في الآخرة، ما لم يطابق عليه القلب اللسان مع الإخلاص لله والإخلاص لله واجب في سائر الأعمال. والاخلاص هو ما صفا عن الكدر، وخلص من الشوائب. قال تعالى: «مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً» «1» فكما أن خلوص اللبن من الفرث والدم، فكذلك إخلاص الأعمال من الرياء وحظوظ النفس جميعا وقد تكلمت على ذلك كلاما طويلا في الجوهر الفريد فلينظر هناك وبالله التوفيق. ورأيت في بعض المجاميع أن الشافعي رضي الله تعالى عنه كان يجلس إلى شيبان الراعي ويسأله عن مسائل فقيل له: مثلك يسأل هذا البدوي فيقول لهم: هذا وفق لما علمناه. وكان شيبان أميا وإذا كان محل الأمي منهم من العلم هكذا فما ظنك بأئمتهم وقد كان الأئمة المجتهدون كالشافعي وغيره رضي الله تعالى عنهم يعترفون بوفور فضل علماء الباطن وقد قال الإمامان الجليلان الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما: إذا لم يكن العلماء أولياء الله تعالى، فليس لله ولي. وقد حكى غير واحد من الحفاظ أن أبا العباس بن شريح، كان إذا أعجب الحاضرين ما يبديه لهم من العلوم، يقول لهم: أتدرون من أين لي هذا؟ إنما حصل من بركة مجالستي أبا القاسم الجنيد رضي الله تعالى عنه. وكان من دعاء شيبان: يا ودود يا ودود، يا ذا العرش المجيد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 يا مبدىء يا معيد، يا فعالا لما يريد، أسألك بعزك الذي لا يرام، وبملكك الذي لا يزول، وبنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك، وبقدرتك التي قدرت بها على جميع خلقك، أن تكفيني شر الظالمين أجمعين. وقد ذكر بعضهم قصيدة ذكر فيها أسماء جماعة من الأولياء قدس الله أسرارهم فمنها: شيبان قد كان راعي ... وسر سره ما اختفى فاجهد وخلّ الدعاوى ... إن كان لك شيء بان وفي الرسالة، في باب كرامات الأولياء، أن سهل بن عبد الله التستري «1» ، كان في داره بيت تسميه الناس بيت السباع، كانت السباع تجيء إليه فيدخلهم ذلك البيت، ويضيفهم ويطعمهم اللحم ثم يخلي سبيلهم. وفي كفاية المعتقد في ذكر ما زوي لهم من الأرض من غير حركة، وهو أفضل من الطيران في الهواء، والمشي على الماء، عن سهل بن عبد الله التستري، قال: توضأت يوم جمعة ومضيت إلى الجامع، وذلك في أيام البداية، فوجدته قد امتلأ بالناس، وقد هم الخطيب أن يرقى المنبر، فأسأت الأدب ولم أزل أتخطى رقاب الناس حتى وصلت إلى الصف الأول فجلست، وإذا عن يميني شاب حسن المنظر طيب الرائحة عليه أطمار الصوف، فلما نظر إلي قال: كيف نجدك يا سهل قلت: بخير أصلحك الله وبقيت مفكرا في معرفته لي وأنا لم أعرفه، فبينما أنا كذلك إذ أخذني حرقان بول فأكربني، فبقيت على وجل خوفا أن أتخطى رقاب الناس، وإن جلست لم يكن لي صلاة فالتفت إلي وقال: يا سهل أخذك حرقان بول؟ فقلت: أجل فنزع حرامه عن منكبيه فغشاني به، ثم قال: اقض حاجتك وأسرع لتلحق الصلاة. قال: فأغمي علي فلما فتحت عيني، وإذا بباب مفتوح فسمعت قائلا يقول: لج الباب يرحمك الله، فولجت فإذا أنا بقصر مشيد عالي البنيان شامخ الأركان، وإذا بنخلة قائمة وإلى جانبها مطهرة مملوءة أحلى من الشهد ومنزل لإراقة الماء، ومنشفة معلقة وسواك، فحللت لباسي وأرقت الماء ثم اغتسلت وتنشفت بالمنشفة فسمعت مناديا: يا سهل إن كنت قضيت أربك فقل: نعم، فقلت: نعم. فنزع الحرام عني فإذا أنا جالس مكاني ولم يشعر بي أحد. فبقيت مفكرا في نفسي وأنا مكذب نفسي فيما جرى فقامت الصلاة فصليت ولم يكن لي شغل إلا الفتى لأعرفه، فلما فرغت تتبعت أثره، فإذا به قد دخل إلى درب، فالتفت إلي وقال: يا سهل كأنك ما أيقنت بما رأيت؟ قلت: كلا، قال: فلج الباب يرحمك الله، فنظرت الباب بعينه فولجت القصر فنظرت المطهرة والنخلة والحال بعينه، فمسحت عيني وفتحتهما، فلم أجد الفتى ولا القصر. وإنما ذكرت هذه الحكاية لأنها من جملة العجائب عند غير هذه الطائفة، ولا يكاد يؤمن بها كثير من الناس ولها احتمالات منها: أنه يحتمل أنه نقل من مكانه لما أغمي عليه إلى حيث شاء الله من غير شعور منه، ثم أعيد إلى مكانه لطفا من الله تعالى وكرامة لأوليائه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 قال شيخنا اليافعي رحمه الله: ومن المحكي عن سهل رضي الله تعالى عنه أيضا، أن أمير خراسان يعقوب بن الليث أصابته علة أعيت الأطباء، فقيل له: في ولايتك رجل صالح يقال له سهل بن عبد الله ولو استحضرته ليدعو لك رجونا لك العافية فأحضره وسأله الدعاء، فقال: كيف يستجاب دعائي لك وأنت مقيم على الظلم؟ فنوى يعقوب التوبة والرجوع عن المظالم وحسن السيرة في الرعية وأطلق من في سجنه من المظلومين فقال سهل: اللهم كما أريته ذل المعصية فأره عز الطاعة وفرّج عنه، فنهض كأنما نشط من عقال وعوفي من ساعته، فعرض على سهل مالا جزيلا فأبى قبوله فلما رجع إلى تستر قيل له بأثناء الطريق: لو قبلت المال الذي عرض عليك، وفرقته على الفقراء؟ فنظر إلى الحصباء فإذا هي جواهر، فقال: خذوا ما أردتم. ثم قال: من أعطى مثل هذا يحتاج إلى مال يعقوب بن الليث؟ ونظير ذلك من قلب الأعيان ما روي عن الشيخ عيسى الهتار وهو بكسر الهاء وتخفيف التاء المثناة فوق، أنه مر على امرأة بغي فقال لها: بعد العشاء آتيك ففرحت بذلك وتزينت، فلما كان بعد العشاء دخل عليها البيت فصلى ركعتين ثم خرج. فقالت: أراك خرجت؟ قال: حصل المقصود، فورد عليها واراد أزعجها عما كانت عليه فخرجت بعد الشيخ، وتابت على يده فزوجها بعض الفقراء. وقال: اعملوا الوليمة عصيدة ولا تشتروا لها إداما ففعلوا ذلك وأحضروه، وحضر الفقراء والشيخ كالمنتظر لشيء يؤتى به فوصل الخبر إلى أمير كان رفيقا لتلك المرأة فأخرج قارورتين مملوأتين خمرا وأرسل بهما إلى الشيخ وأراد بذلك الاستهزاء، وقال للرسول: قل للشيخ: قد سرني ما سمعت، وبلغني أن ما عندكم إدام، فخذوا هذا فائتدموا به. فلما أقبل الرسول قال له الشيخ: أبطأت. ثم تناول إحداهما فخضها ثم صب منها عسلا مصفى، ثم فعل كذلك بالأخرى وصب منها سمنا عربيا، وقال للرسول: اجلس فكل فأكل فطعم سمنا وعسلا لم ير مثلهما طعما ولونا وريحا. فرجع الرسول وأخبر الأمير بذلك فجاء الأمير فأكل وتحير مما رأى وتاب على يد الشيخ. ويشبه هذا ما حكي عن بعضهم، أنه قال: بينما أنا أسير في فلاة من الأرض، إذا برجل يدور بشجرة شوك، ويأكل منها رطبا جنيا فسلمت عليه فرد علي السلام، وقال: تقدم فكل، قال: فتقدمت إلى الشجرة، فصرت كلما أخذت منها رطبا عاد شوكا، فتبسم الرجل وقال: هيهات لو أطعته في الخلوات أطعمك الرطب في الفلوات. وحكاياتهم في مثل هذا كثيرة، وإنما نبهت على قطرة من بحار عميقة، وعلى الجملة فالدنيا تتصور لهم في صورة عجوز تخدمهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا في هذا الباب، والرجوع في ذلك كله إلى أصل يجب الإيمان به، وهو أن الله على كل شيء قدير، وليس الخرق للعوائد بمستحيل في العقل والله التوفيق. وحكى : عن الشيخ أبي الغيث اليمني رضي الله تعالى عنه، أنه خرج يوما يحتطب فبينما هو يجمع الحطب إذ جاء السبع وافترس حماره، فقال له: وعزة المعبود ما أحمل حطبي إلا على ظهرك، فخضع له السبع فحمل الحطب على ظهره، وساقه إلى البلد، ثم حط عنه وخلّاه. ونقل أن شعوانة رزقت ولدا فربته أحسن تربية، فلما كبر ونشأ قال لها: يا أماه سألتك بالله إلا ما وهبتني لله فقالت له: يا بني أنه لا يصلح أن يهدى للملوك إلا أهل الأدب والتقى وأنت يا ولدي غمر لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 تعرف ما يراد بك ولم يأن لك ذلك فأمسك عنها فلما كان ذات يوم، خرج إلى الجبل ليحتطب، ومعه دابة، فنزل عنها وربطها، وذهب فجمع الحطب ورجع، فوجد السبع قد افترسها، فجعل يده في رقبة السبع، وقال له: يا كلب الله تأكل دابتي وحق سيدي لأحملنك الحطب كما تعديت على دابتي، فحمل على ظهره الحطب وهو طائع لأمره حتى وصل به إلى دار أمه فقرع عليها الباب ففتحت له وقالت لما رأت ذلك: يا بني أما الآن فقد صلحت لخدمة الملك اذهب لله عز وجل فودعها وذهب. روى صاحب مناقب الأبرار عن شاه الكرماني أنه خرج إلى الصيد وهو ملك كرمان، فأمعن في الطلب حتى وقع في برية مقفرة وحده فإذا شاب راكب على سبع وحوله سباع كثير فلما رأته السباع، ابتدرت نحوه فنحاها الشاب عنه فبينما هو كذلك، إذ أقبلت عجوز بيدها شربة ماء فناولتها الشاب فشرب ودفع باقيه إلى شاه فشرب وقال: ما شربت شيئا ألذ منه ولا أعذب، ثم غابت العجوز فقال الشاب: هذه الدنيا وكلها الله تعالى بخدمتي فما احتجت إلى شيء إلا أحضرته إلى حين يخطر ببالي، فعجب شاه من ذلك، فقال له: أبلغك أن الله تعالى لما خلق الدنيا قال لها: يا دنيا من خدمني فاخدميه، ومن خدمك فاستخدميه. ثم وعظه وعظا حسنا، فكان ذلك سبب توبته. وفي الإحياء في عجائب القلب عن ابراهيم الرقي قال: قصدت أبا الخير الديلمي التيناني مسلما عليه فصلى صلاة المغرب، ولم يقرأ الفاتحة مستويا فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي فلما أصبح الصباح خرجت إلى الطهارة فقصدني السبع فعدت إليه وقلت: إن السبع قد قصدني فخرج وصاح على الأسد وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لأضيافي؟ فتنحى الأسد فتطهرت فلما رجعت قال: أنتم اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد، ونحن اشتغلنا بتقويم الباطن فخافنا الأسد وقد أنشدنا شيخنا الامام العلامة جمال الدين بن عبد الله بن أسد اليافعي لنفسه: هم الأسد ما الأسد الأسود تهابهم ... وما النمر ما أظفار فهد ونابه وما الرمي بالنشاب ما الطعن بالقنا ... وما الضرب بالماضي الكمي ما ذبابه لهم همم للقاطعات قواطع ... لهم قلب أعيان المراد انقلابه لهم كلّ شيء طائع ومسخّر ... فلا قط يعصيهم بل الطوع دابه من الله خافوا لا سواه فخافهم ... سواه جمادات الورى ودوابه لقد شمروا في نيل كلّ عزيزة ... ومكرمة مما يطول حسابه إلى أن جنوا ثمر الهوى بعد ما جنى ... عليهم وصار الحب يطول عذبا عذابه وفي الخبر قيل: أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود عليه السلام يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري، معناه خفني لا وصفا في المخوفة من العزة والعظمة والكبرياء والجبروت والقهر وشدة البطش، ونفوذ الأمر، كما تخاف السبع الضاري لشدة بدنه وعبوسة وجهه، وشبوك أنيابه، وقوة براثنه، وجراءة قلبه، وسرعة غضبه، وبغتات وثبه، وفظيع بطشه، ودواعي ضراوته، لا أجلب عليه شرا ولا عصيت له أمرا، فيا أخي خف الله حق خوفه، واترك السوى فمن خاف الله حق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 خوفه خافه كل شيء، ومن أطاع الله حق طاعته أطاعه كل شيء. وحكمه : تقدم في باب الهمزة لكن يكره ركوب السباع لما روى ابن عدي في ترجمة اسماعيل بن عياش عن بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب السباع» «1» . ولا يصح بيع السباع التي لا تنفع وقيل يجوز بيعها لأجل جلودها وأما التي تنفع كالفهد والفيل والقرد فيجوز بيعه. السبنتي والسبندي: النمر الجريء والأنثى سبنداة قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ناحت الجن على عمر رضي الله تعالى عنه قبل أن يموت بثلاثة أيام فقالت «2» : أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاه بأسوق جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق المطرق الحنق الذي أرخى عينيه إلى الأرض، وقد يمد السبنتي. ونسب الجوهري هذه الأبيات إلى الشماخ، وقال في الاستيعاب: لما مات عمر رضي الله تعالى عنه نحل الناس هذه الأبيات إلى الشماخ بن ضرار ولأخويه، وكانوا إخوة ثلاثة كلهم شعراء، وسيأتي ذكر النمر في باب النون إن شاء الله تعالى. السبيطر: بفتح السين وفتح الباء الموحدة والطاء المهملة، بينهما ياء مثناة من تحت، وبالراء المهملة في آخره، مثل العميثل: طائر طويل العنق جدا يرى أبدا في الماء الضحضاح، ويكنى بأبي العيزار. كذا قاله الجوهري وابن الأثير، والظاهر أنهما أرادا به مالكا الحزين، وقال في المحكم: الكركي يكنى أبا العيزار وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر العميثل في باب السين المهملة. السحلة: كالهمزة الأرنب الصغيرة التي قد ارتفعت عن الخرنق وفارقت أمها. السحلية: بضم السين العظاية. قال ابن الصلاح: هي دويبة أكبر من الوزغ وقد عد في الروضة العظاية من نوع الوزغ، وقال: إنها محرمة، وقال ابن قتيبة وصاحب الكفاية: وذكر العظاية يسمى العضرفوط بفتح العين المهملة وتسكين الضاد المعجمة وبالفاء والواو والطاء في آخره. وذكر الجاحظ أن العضرفوط بلغة قيس هي العظاية وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة قول الأزهري: هي دويبة ملساء تعدو وتتردد كثيرا تشبه سام أبرص إلا أنها لا تؤذي وهي أحسن منه. السحا: بفتح السين والحاء المهملتين الخفاش الواحدة سحاة مفتوحتان مقصورتان قاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 النضر بن شميل «1» وقد تقدم لفظ الخفاش في باب الخاء المعجمة. سحنون: بفتح السين وضمها طائر حديد الذهن يكون بالمغرب، يسمونه سحنونا لحدة ذهنه وذكائه وبه سمي سنون بن سعيد التنوخي القيرواني وهو لقب فرد واسمه عبد السلام، وهو تلميذ ابن القاسم وهو مصنف المدونة وكان قبل ذلك كتبها أسد بن الفرات عن ابن القاسم غير مرتبة ثم بخل بها ابن الفرات على سحنون فدعا عليه ابن القاسم أن لا ينفع الله بها ولا به وكذلك كان، فهي متروكة والعمل على مدونة سحنون ووفاته في شهر رجب سنة أربعين ومائتين وولد في شهر رمضان سنة ستين ومائة رحمة الله عليه. السخلة: ولد الشاة من الضأن أو المعز ذكرا كان أو أنثى والجمع سخل وسخلة وسخال قال «2» الشاعر: فللموت تغدو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدور تبنى المساكن وهذه لام العاقبة كقول الآخر: أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها ولم يبنوها للخراب ولكن إليها مآلها كقول الآخر: فإن يكن الموت أفناهم ... فللموت ما تلد الوالده وقال تعالى «3» : فَالْتَقَطَهُ آل ُ فِرْعَ وْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً وقال «4» تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الآية. فائدة : قال أبو زيد: يقال لأولاد الغنم ساعة وضعها من الضأن والمعز جميعا ذكرا كانت أو أنثى سخلة، ثم هي بهمة بفتح الباء الموحدة للذكر والأنثى جميعا وجمعها بهم، فإذا بلغت أربعة أشهر وفصلت عن أمها فما كان من أولاد المعز فهو جفار واحدها جفر، والأنثى جفرة فإذا رعى وقوي فهو عريض وعتود وجمعهما عرضان وعتدان، وهو في ذلك كله جدي والأنثى عناق ما لم يأت عليها الحول وجمعها عنوق. الذكر تيس إذا أتى عليه الحول، والأنثى عنز ثم تجزع في السنة الثانية، فالذكر جذع والأنثى جذعة. روى مالك عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «اعتد عليهم في الزكاة بالسخلة» . وبه استدل الشافعي وغيره على أن ما نتج من النصاب يزكى بحول الأصل، لأن الحول إنما اعتبر للنماء والسخال في نفسها نماء، حتى لو نتجت قبل الحول بلحظة تزكى بحول النصاب، وإن ماتت الأمهات كلها قبل انقضاء حولها، على الأصح. وقيل: يشترط بقاء نصاب من الأمهات، وقيل: يشترط بقاء شيء منها ولو واحدة. وروى الإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي، من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسخلة جرباء قد أخرجها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 أهلها فقال: «والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على أهلها» «1» . وروى البزار في مسنده عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بدمنة قوم، فيها سخلة ميتة، فقال «2» صلى الله عليه وسلم: «أما لأهلها فيها حاجة» ؟ فقالوا: يا نبي الله لو كان لأهلها فيها حاجة ما نبذوها! قال صلى الله عليه وسلم «فو الله للدنيا أهون على الله من هذه السخلة على أهلها فلا ألفينها أهلكت أحدكم» . وفي سيرة ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما خرج هو وأصحابه إلى غزوة بدر،.. لقوا رجلا من الأعراب فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أو فيكم رسول الله؟ قالوا: نعم فسلم عليه. ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له سلمة بن سلامة بن وقش، وكان غلاما حدثا: لا تسأل رسول الله وأقبل علي فأنا أخبرك بذلك! ففي بطنها منك سخلة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه» .. فخشيت على الرجل ثم أعرض عن سلمة. ورواه الحاكم في المستدرك من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة بزيادة وهو أنه قال لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من أهل البادية وهو متوجه إلى بدر، لقيه بالروحاء فسأله القوم عن خبر الناس، فلم يجدوا عنده خبرا، فقالوا له: سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أو فيكم رسول الله؟ قالوا: نعم فسلم عليه ثم قال: إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه؟ فقال له سلمة بن سلامة بن وقش، وكان غلاما حدثا: لا تسأل رسول الله وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك! نزوت عليها ففي بطنها سخلة منك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مه» . فخشيت على الرجل ثم أعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلمه كلمة واحدة حتى قفلوا واستقبلهم المسلمون بالروحاء يهنونهم فقال سلمة: يا رسول الله ما الذي يهنئونك والله إن رأينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعتقلة فنحرناها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل قوم فراسة، وإنما يعرفها الأشراف» . ثم قال: هذا صحيح مرسل. ويتصل بذكر الفراسة ما رواه الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه. والمرأة التي رأت موسى عليه السلام، فقالت لأبيها: يا أبت استأجره. وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما. قال الحاكم: فرضي الله تعالى عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم بهذا الإسناذ الصحيح. فرع : السخلة المرباة بلبن كلبة، لها حكم الجلالة، يكره أكلها كراهة تنزيه على الأصح في الشرح الكبير، والروضة والمنهاج. وبه جزم الروياني والعراقيون. وقال أبو اسحاق المروزي والقفال: كراهة تحريم، ورجحه الإمام والغزالي والبغوي والرافعي في المحرر. والجلالة هي التي تأكل العذرة والنجاسات سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو الدجاج أو الأرز أو السمك، أو غير ذلك من المأكول. وقد تقدم في باب الدال المهملة، في الدجاج، أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياما ثم يأكلها بعد ذلك» «3» . وروى الدارقطني والحاكم والبيهقي، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن أكل الجلالة وشرب ألبانها حتى تحبس» «4» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 قال الحاكم: صحيح الإسناد وقال البيهقي: ليس بالقوي. ثم إن لم يظهر بسبب ذلك تغير في لحمها، فلا تحريم ولا كراهة. واختلفوا فيما يناط به الحرمة والكراهة، فنقل الرافعي عن تتمة التتمة، أنه إن كان أكثر أكلها الطاهرات فليست بجلالة، والأصح أنه لا اعتبار بالكثرة بل بالرائحة فإن كان يوجد في عرقها أو فيها أدنى ريح النجاسة وإن قل فالموضع موضع النهي، وإلا فلا. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن موضع النهي، ما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها أو كانت تقرب من الرائحة فأما إذا كانت الرائحة توجد يسيرة، فلا اعتبار بها. والصحيح الأول إلحاقا لها بالتغير اليسير بالنجاسة في المياه فإن علفت الجلالة علفا طاهرا مدة حتى طاب لحمها، وزالت النجاسة زالت الكراهة. ولا تقدر مدة العلف عندنا بزمن بل المعتبر زوال الرائحة بأي وجه كان. قال الرافعي، رحمه الله: وعن بعض العلماء تقدير العلف في الإبل والبقر بأربعين يوما، وفي الغنم بسبعة أيام وفي الدجاج بثلاثة أيام. قال: وهو محمول عندنا على الغالب اهـ. فإن لم تعلف لم يزل المنع بغسل اللحم بعد الذبح ولا بطبخه وشيه وتجفيفه في الهواء، وإن زالت الرائحة وكذا إن زالت الرائحة، بمرور الزمان عند صاحب التهذيب. وقيل: بخلافه وكما يمنع لحمها يمنع لبنها وبيضها ويكره الركوب عليها من غير حائل بين الراكب وبينها ويطهر جلدها بالدباغ والأصح أنه كاللحم ولا يطهر بالذكاة عند القائل بالتنجيس. وسئل: سحنون عن خروف أرضعته خنزيرة، فقال: لا بأس بأكله. قال الطبري: العلماء مجمعون على أن الجدي إذا اغتذى بلبن كلبة أو خنزيرة، لا يكون حراما، ولا خلاف في أن ألبان الخنازير نجسة كالعذرة. وقال غيره: المعنى فيه أن لبن الخنزيرة لا يدرك في الخروف إذا ذبح بذوق ولا شم رائحة فقد نقله الله تعالى وأحاله كما يحيل الغذاء، وإنما حرّم الله تعالى أكل أعيان النجاسات المدركات بالحواس. كذا قاله أبو الحسن علي بن خلف بن بطال القرطبي في شرح البخاري. ووفاته سنة تسع وأربعين وأربعمائة وهو أحد شيوخ أبي عمر بن عبد البر رحمة الله تعالى عليه. السّرحان: بكسر السين الذئب. والجمع سراح وسراحين، والأنثى سرحانة بالهاء، والجمع كالجمع والسرحان الأسد بلغة هذيل قال أبو المثلم يرثي ميتا: هباط أودية حمال ألوية ... شهاد أندية سرحان فتيان وقال سيبويه: نون سرحان زائدة وهو فعلان والجمع سراحين. قال الكسائي: والأنثى سرحانة. حكى القزويني، عن بعض الرعاة، أنه نزل واديا بغنمه فسلب سرحان شاة من غنمه فقام ورفع صوته ونادى: يا عامر الوادي، فسمع صوتا: يا سرحان رد عليه شاته، فجاء الذئب بالشاة وتركها وذهب، وقد تقدم حكمه وخواصه وتعبيره. الأمثال : قالوا: «سقط العشاء به على سرحان» «1» . قال أبو عبيدة: أصله أن رجلا خرج يلتمس العشاء، فسقط على ذئب فأكله الذئب. وقال الأصمعي: أصله أن دابة خرجت تطلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 العشاء فلقيها ذئب فأكلها. وقال ابن الأعرابي: أصله أن رجلا يقال له سرحان، كان بطلا تتقيه الناس، فقال رجل يوما: والله لأرعين إبلي في هذا الوادي ولا أخاف سرحان بن هزلة فأتى إليه فقتله وأخذ إبله وقال: أبلغ نصيحة أن راعي إبلها ... سقط العشاء به على سرحان سقط العشاء به على متنمر ... طلق اليدين معاود لطعان يضرب في طلب الحاجة تؤدي صاحبها إلى التلف. السرطان: بفتح السين والراء المهملتين وبالنون في آخره، حيوان معروف ويسمى عقرب الماء، وكنيته أبو بحر وهو من خلق الماء وعيش في البر أيضا وهو جيد المشي سريع العدو، ذو فكين ومخاليب وأظفار حداد، كثير الأسنان صلب الظهر من رآه رأى حيوانا بلا رأس ولا ذنب، عيناه في كتفيه وفمه في صدره وفكاه مشقوقان من الجانبين، وله ثماني أرجل، وهو يمشي على جانب واحد، ويستنشق الماء والهواء معا، ويسلخ جلده في السنة ست مرات، ويتخذ لجحره بابين: أحدهما شارع في الماء، والآخر إلى اليبس، فإذا سلخ جلده سد عليه ما يلي الماء خوفا على نفسه من سباع السمك، وترك ما يلي اليبس مفتوحا ليصل إليه الريح فتجف رطوبته ويشتد، فإذا اشتد فتح ما يلي الماء وطلب معاشه. وقال ارسطاطاليس في النعوت: وزعموا أنه إذا وجد سرطان ميت في حفرة مستلقيا على ظهره في قرية أو أرض تأمن تلك البقعة من الآفات السماوية، وإذا علق على الأشجار يكثر ثمرها وفي وصفه قال الشاعر: في سرطان البحر أعجوبة ... ظاهرة للخلق لا تخفى مستضعف المشية لكنه ... أبطش من جاراته كفّا يسفر للناظر عن جملة ... متى مشى قدرها نصفا ويقال: إن ببحر الصين سرطانات متى خرجت إلى البر استحجرت، والأطباء يتخذون منها كحلا يجلو البياض، والسرطان لا يتخلق بتوالد ولا نتاج، إنما يتخلق في الصدف ثم يخرج منه ويتولد. وفي الحلية عن أبي الخير الديلمي أنه قال: كنت عند خير النساج فجاءته امرأة وطلبت أن ينسج لها منديلا، وقالت له: كم الأجرة؟ فقال لها: درهمان فقالت: ما معي الساعة شيء وغدا أتيك بهما إن شاء الله تعالى، فقال لها: إذا أتيتني ولم تريني فارمي بهما في الدجلة فإني إذا رجعت أخذتهما منها إن شاء الله تعالى، فقالت: حبا وكرامة. قال أبو الخير: فجاءت المرأة من الغد وخير غائب، فقعدت ساعة تنتظره ثم قامت وألقت خرقة في الدجلة، فيهما الدرهمان، فإذا سرطان قد تعلق بالخرقة، وغاص في الماء. ثم جاء خير بعد ساعة، ففتح باب حانوته وجلس على الشط يتوضأ، وإذا بسرطان خرج من الماء يسعى نحوه والخرقة على ظهره، فلما قرب من الشيخ أخذها وذهب السرطان إلى حال سبيله. فقلت له: رأيت كذا وكذا، فقال: أحب أن لا تبوح بهذا في حياتي فأجبته إلى ذلك. الحكم : يحرم أكله لاستخباثه كالصدف قال الرافعي: ولما فيه من الضرر، وفي قول انه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 يحل أكله، وهو مذهب مالك رحمة الله تعالى عليه. الخواص : أكل السرطان ينفع وجع الظهر ويصلبه. قال في النعوت: من علق عليه رأس سرطان لم ينم إذا كان القمر محترقا، فإن كان غير محترق نام، وإن أحرق السرطان وحشي به البواسير كيف كانت أبرأها، وإن علقت رجله على شجرة مثمرة سقط ثمرها من غير علة ولحمه نافع للمسلولين جدا. وإذا وضع السرطان على الجراحات أخرج النصل وينفع من لسع الحيات والعقارب. التعبير : السرطان في المنام تدل رؤيته على رجل كثير الكيد، لكثرة سلاحه، عظيم الهمة بعيد المأخذ عسر الصحبة، ومن رأى أنه أكل لحم سرطان في منامه، فإنه يصيب خيرا من أرض بعيدة. وقال جاماسب: لحم السرطان في الرؤيا مال حرام والله أعلم. السرّعوب: بضم السين وسكون الراء وبالعين المهملة ابن عرس ويقال له: النمس قاله في كفاية المتحفظ. السرفوت: بفتح السين والراء المهملتين وضم الفاء دويبة تعشش في كور الزجاج في حال اضطرامه، وتبيض فيه وتفرخ، ولا تعمل بيتها إلا في موضع النار المستمرة الدائمة. كذا قاله «1» ابن خلكان، في ترجمة يعقوب بن صابر المنجنيقي. وهذه الدويبة تشارك السمندل في هذا الوصف كما سيأتي في موضعه. السّرفة: بضم السين واسكان الراء المهملتين وبالفاء الأرضة قال ابن السكيت: إنها دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر، تتخذ لنفسها بيتا مربعا من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها على مثال الناموس، ثم تدخل فيه وتموت. ويقال سرفت السرفة، وتسرفها بالكسر سرفا إذا أكلت ورقها، فهي شجرة مسروفة انتهى. وفي الحديث أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال لرجل: إذا أتيت إلى منى، وانتهيت إلى موضع كذا وكذا، فإن هناك شجرة لم تعبل ولم تجرد ولم تسرف ولم تسرح، قد نزل تحتها سبعون نبيا فأنزل تحتها. ومعنى لم تعبل لم يسقط ورقها، ولم تجرد لم يصبها الجراد، ولم تسرف لم تصبها السرفة، ولم تسرح لم يصبها السرح أي الابل والغنم السارحة. الحكم : يحرم أكلها لأنها من الحشرات. الأمثال : قالوا: «أصنع من سرفة» «2» وقد تقدم الكلام عليها في باب الهمزة. السرمان: دويبة كالحجر والسرمان أيضا ضرب من الزنابير أصفر وأسود ومجزع. السروة: الجرادة أول ما تكون وهي دودة وأصله الهمز والسروة لغة فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 السرماح: الجراد. قاله ابن سيده. السعدانة: الحمامة. السعلاة: أخبث الغيلان وكذلك السعلاء تمد وتقصر، والجمع السعالي. واستسعلت المرأة، أي صارت سعلاة أي صارت صخابة وبذية، قال «1» الشاعر: لقد رأيت عجبا مذ أمسا ... عجائزا مثل السعالي خمسا يأكلن ما أصنع همسا همسا ... لا ترك الله لهن ضرسا وأنشد «2» أبو عمر: يا قبّح الله بني السعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات ليسوا أعفاء ولا أكيات قلب السين تاء وهي لغة بعض العرب. قال الجاحظ: يقال إن عمرو بن يربوع كان متولدا من السعلاة، والإنسان. قال: وذكروا أن جرهما كان من نتاج الملائكة وبنات آدم عليه السلام. قال: وكان الملك من الملائكة إذا عصى ربه في السماء أهبط إلى الأرض في صورة رجل، كما صنع بهاروت وماروت فوقع بعض الملائكة على بعض بنات آدم عليه السلام فولدت جرهما ولذلك قال شاعرهم «3» : لا هم أن جرهما عبادكا ... الناس طرف وهم تلادكا قال: ومن هذا الضرب كانت بلقيس ملكة سبا. وكذلك كان ذو القرنين، كانت أمه آدمية وأبوه من الملائكة ولذلك لما سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا ينادي رجلا: يا ذا القرنين، قال: أفرغتم من أسماء الأنبياء فارتفعتم إلى أسماء الملائكة؟ انتهى. والحق في ذلك أن الملائكة معصومون من الصغائر والكبائر كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما قاله القاضي عياض وغيره. وأما ما ذكروه من أن جرهما كان من نتاج الملائكة وبنات آدم، وكذلك ذو القرنين وبلقيس فممنوع، واستدلالهم بقصة هاروت وماروت ليس بشيء، فإنها لم تثبت على الوجه الذي أوردوه، بل قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هما رجلان ساحران كانا ببابل. وقال الحسن: كانا علجين يحكمان بين الناس ويعلمان الناس السحر ولم يكونا من الملائكة لأن الملائكة لا يعلمون السحر. وقرأ ابن عباس والحسن البصري وما أنزل على الملكين بكسر اللام. وسيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، في باب الكاف في الكلب. وقد اختلف في ذي القرنين ونسبه واسمه، فقال صاحب ابتلاء الأخيار: اسم ذي القرنين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 الاسكندر، قال: وكان أبوه أعلم أهل الأرض بعلم النجوم، ولم يراقب أحد الفلك ما راقبه، وكان قد مد الله تعالى له في الأجل فقال ذات ليلة لزوجته: قد قتلني السهر، فدعيني أرقد ساعة وانظري إلى السماء، فإذا رأيت قد طلع في هذا المكان نجم وأشار بيده إلى موضع طلوعه فنبهيني حتى أطأك فتعلقي بولد يعيش إلى آخر الدهر، وكانت أختها تسمع كلامه ثم نام أبو الاسكندر فجعلت أخت زوجته تراقب النجم فلما طلع النجم أعلمت زوجها بالقصة فوطئها فعلقت منه بالخضر فكان الخضر بن خالد الإسكندر ووزيره فلما استيقظ أبو الاسكندر، رأى النجم قد نزل في غير البرج الذي كان يرقبه، فقال لزوجته: لم لم تنبهيني؟ فقالت: استحييت والله فقال لها: أما تعلمين أني أراقب هذا النجم منذ أربعين سنة والله لقد ضيعت عمري في غير شيء. ولكن الساعة يطلع في أثره نجم فأطؤك فتعلقين بولد يملك قرني الشمس فما لبث أن طلع، فواقعها فعلقت بالاسكندر، وولد الاسكندر وابن خالته الخضر في ليلة واحدة. ثم إن الاسكندر فتح الله عليه، بتمكينه في الأرض، وفتح البلاد وكان من أمره ما كان. وروي عن وهب بن منبه أنه قال: كان ذو القرنين رجلا من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، وكان اسمه الاسكندر وكان عبدا صالحا، فلما بلغ أشده، قال الله تعالى: يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة وهم أصناف منهم أمتان بينهما طول الأرض ومنهم أمتان بينهما عرض الأرض وأمم في وسط الأرض فقال ذو القرنين: إلهي إنك قد ندبتني لأمر عظيم، لا يقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم التي ندبتني إليها بأي قوة أكاثرهم؟ وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ وكيف لي أن أفقه لغاتهم؟ وبأي سمع أسمع قولهم؟ وبأي بصر أنقدهم؟ وبأي حجة أخاصمهم؟ وبأي عقل أعقل عنهم؟ وبأي قلب وحكمة أدبر أمرهم؟ وبأي قسط أعدل بينهم؟ وبأي معرفة أفصل بينهم؟ وبأي يد أسطو عليهم؟ وبأي رجل أطؤهم؟ وبأي طاقة أحصيهم؟ وبأي جند أقاتلهم؟ وبأي رفق أتألفهم؟ وليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم لهم ويقوى عليهم ويطيقهم، وأنت الرؤوف الرحيم الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها ولا يحملها إلا طاقتها. قال الله عز وجل: إني سأطوقك وأحملك وأشرح لك صدرك، فتسمع كل شيء، وأقوي لك فهمك فتفقه كل شيء، وأبسط لك لسانك فتنطق بكل شيء، وأفتح لك سمعك فتعي كل شيء، وأمد بصرك فتنقد كل شيء، وأشد لك ركنك فلا يغلبك شيء، وأقوي لك قلبك فلا يروعك شيء، واحفظ لك عقلك فلا يعزب عنك شيء، وأبسط لك ما بين يديك فتسطو فوق كل شيء، وأشد لك وطأتك فتهد كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يهولنك شيء، وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك، وذلك قوله تعالى: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً «1» وقال ابن هشام: ذو القرنين هو الصعب بن ذي مرثد الحميري من ولد وائل بن حمير. وقال ابن إسحاق: اسمه مرزبان بن مردويه، كذا وقع في السيرة له، وذكر انه الاسكندر. وقيل: إنه رجل من ولد يونان بن يافث، واسمه هرمس ويقال له هرديس، والظاهر من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 علم الأخبار والسير أنهما اثنان أحدهما كان على عهد ابراهيم ويقال إنه الذي قضى لإبراهيم حين خاصم إليه في بئر السبع بالشام، والثاني كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام وقيل إنه افريدون الذي قتل الملك الطاغي الذي كان على عهد ابراهيم أو قبله بزمن. واختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين، فقال بعضهم: لأنه ملك فارس والروم، وقيل: لأنه كان في رأسه شبه القرنين، وقيل: لأنه رأى في المنام كأنه آخذ بقرني الشمس، وكان تأويل رؤياه أنه طاف المشرق والمغرب، وقيل: إنه دعا قومه إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيمن، ثم دعاهم إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيسر، وقيل: إنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه، وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل: لأنه كان إذا حارب قاتل بيديه وركابيه جميعا، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه كان له ذؤابتان حسنتان والذؤابة تسمى قرنا. قال الراعي «1» : فلثمت فاها آخذا بقرونها ... شرب النزيف لبرد ماء الحشرج «2» وقيل: لأنه أعطى علمي الظاهر والباطن. وهو رجل من الاسكندرية يقال له اسكندر بن فيلبش الرومي وكان في الفترة بعد عيسى عليه الصلاة والسلام. قال مجاهد: ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان وذو القرنين، والكافران: نمرود وبختنصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس وهو المهدي. واختلف في نبوته فقال بعضهم: كان نبيا لقوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ «3» وقال آخرون: كان ملكا صالحا عادلا، ولعله الأصح. فالقائلون بنبوته قالوا: إن الملك الذي كان ينزل عليه، اسمه رقيائيل وهو ملك الأرض الذي يطوي الأرض يوم القيامة وينقصها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة. قاله ابن أبي خيثمة. قال السهيلي: وهذا يشاكل توكله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها، كما أن قصة خالد بن سنان العبسي وهو نبي بين عيسى ومحمد عليهما السلام، في تسخير النار، مشاكلة لحال الملك الموكل به، وهو مالك خازن النار. وسيأتي ذكر خالد ونبوته في باب العين المهملة في العنقاء، إن شاء الله تعالى. قال «4» الجاحظ: وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس لقوله تعالى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «5» وهذا ظاهر، وذلك أن الجنيات إنما تتعرض لصرع رجال الإنس على جهة العشق في طلب السفاد، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس، ولولا ذلك لعرض الرجال للرجال والنساء للنساء، قال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ* «6» ولو كان الجان لا يفتض الآدميات، ولم يكن ذلك في تركيبه لما قال الله تعالى هذا القول. وذكروا أن الواق واق نتاج من بعض النباتات وبعض الحيوانات، وقال السهيلي: السعلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 ما يتراءى للناس بالنهار، والغول ما يتراءى للناس بالليل. وقال القزويني: السعلاة نوع من المتشيطنة مغايرة للغول. قال «1» عبيد بن أيوب: وساحرة عيني لو أنّ عينها ... رأت ما ألاقيه من الهول جنّت أبيت وسعلاة وغول بقفرة ... إذا الليل وارى، الجنّ فيه أرنّت قال: وأكثر ما توجد السعلاة في الغياض وهي إذا ظفرت بإنسان ترقصه وتلعب به كما يلعب القط بالفأر. قال: وربما اصطادها الذئب بالليل فأكلها، وإذا افترسها ترفع صوتها وتقول: أدركوني فإن الذئب قد أكلني، وربما تقول: من يخلصني ومعي ألف دينار يأخذها! والقوم يعرفون أنه كلام السعلاة فلا يخلصها أحد فيأكلها الذئب. السّفنج: بضم السين واسكان الفاء وضم النون وبالجيم في آخره، قال أبو عمر: وهو الظليم الخفيف وهو ملحق بالخماسي بتشديد الحرف الثالث منه، كذا قاله الجوهري، والسفنج أيضا طائر كثير الاستنان قاله في العباب. السقب: ولد الناقة أو ساعة يولد والجمع أسقب وسقوب وسقبان والأنثى سقبة وأمها مسقب ومسقاب. الأمثال : قالوا: «أذل من السقبان بين الحلائب» «2» ، أرادوا بالحلائب جمع حلوبة وهي التي تحلب. السقر: قال القزويني: إنه من الجوارح في حجم الشاهين، إلا أن رجليه غليظتان جدا ولا يعيش إلا في البلاد الباردة، ويوجد في بلاد الترك كثيرا، وهو إذا أرسل على الطير أشرف عليها، ويطير حولها على شكل دائرة، فإذا رجع إلى المكان الذي ابتدأ منه تبقى الطيور كلها في وسط الدائرة، لا يخرج منها واحد ولو كانت ألفا وهو يقف عليها وينزل يسيرا يسيرا وتنزل الطيور بنزوله حتى تلتصق بالتراب فيأخذها البزادرة فلا يفلت منها شيء أصلا. السقنقور: نوعان: هندي ومصري، ومنه ما يتولد في بحر القلزم، وهو البحر الذي غرق فيه فرعون وهو عند عقبة الحاج. ويتولد أيضا ببلاد الحبشة وهو يغتذي بالسمك في الماء وبالقطا في البر يسترطه كالحيات، أنثاه تبيض عشرين بيضة تدفنها في الرمل فيكون ذلك حضنا لها وللأنثى فرجان، وللذكر ذكران كالضب. قاله التميمي. وقال ارسطو: السقنقور حيوان بحري وربما تولد في البحر في مواضع الصواعق. ومن عجيب أمره أنه إذا عض إنسانا وسبقه الإنسان إلى الماء، واغتسل منه مات السقنقور، وإن سبق السقنقور إلى الماء مات الإنسان. وبينه وبين الحية عداوة حتى إذا ظفر أحدهما بصاحبه قتله. والفرق بينه وبين الورل من وجوه منها أن الورل برّي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 لا يأوي إلا البراري، والسقنقور لا يأوي إلا بالقرب من الماء أو فيه، ومنها أن جلد السقنقور ألين وأنعم من جلد الورل، ومنها أن ظهر الورل أصفر وأغبر، وظهر السقنقور مدبج بصفرة وسواد. والمختار من هذا الحيوان الذكر فإنه أفضل وأبلغ في النفع المنسوب إليه من أمر الباه قياسا وتجربة، بل كاد أن يكون هو المخصوص بذلك والمختار من أعضائه ما يلي ذنبه من ظهره، فهو أبلغ نفعا وهذا الحيوان نحو ذراعين طولا ونصف ذراع عرضا قال في المفردات: لا يعرف اليوم في عصرنا السقنقور في الديار المصرية إلا ببلاد الفيوم، ومنها يجلب إلى القاهرة لمن عني بطلبه، وإنما يصاد في أيام الشتاء لأنه إذا اشتد عليه البرد يخرج إلى البر فحينئذ يصاد. الحكم : يحل أكله لأنه سمك ويحتمل أن يأتي فيه وجه بالحرمة، لأن له شبهين في البر أحدهما حرام وهو الورل، والآخر يؤكل وهو الضب تغليبا للتحريم. وأما الذي تقدم في باب الهمزة فهو حرام لأنه متولد من التمساح كما تقدم فهو حرام كأصله. الخواص : لحم السقنقور الهندي مادام طريا فهو حار رطب في الدرجة الثانية، وأما مملوحه المجفف فإنه أشد حرارة وأقل رطوبة لاسيما إذا مضت عليه بعد تعليقه مدة طويلة ولذلك صار لا يوافق استعماله أصحاب الأمزجة الحارة اليابسة، بل أرباب الأمزجة الباردة الرطبة ولحمه إذا أكل منه اثنان بينهما عداوة، زالت وصارا متحابين. وخاصية لحمه وشحمه إنهاض شهوة الجماع وتقوية الانعاظ والنفع من الأمراض الباردة التي بالعصب وإذا استعمل بمفرده كان أقوى فعلا من أن يخلط بغيره من الأدوية، والشربة منه من مثقال إلى ثلاثة مثاقيل بحسب مزاج المستعمل له وسنه ووقته وبلده. وقال ارسطو: لحم السقنقور الهندي، إذا طبخ باسفيذاج، نفخ اللحم وأسمن، ولحمه يذهب وجع الصلب ووجع الكليتينن ويدر المني، وخرزته الوسطى إذا علقت على صلب انسان، هيجت الإحليل وزادت الجماع. التعبير : هو في الرؤيا يدل على الإمام العالم الذي يهتدى به في الظلمات فإن جلده يوقد ولحمه ينعش القوة ويثير حرارتها والله أعلم. السلحفاة البرية: بفتح اللام، واحدة السلاحف. قاله أبو عبيدة وحكى الرواسي: سلحفية مثل بلهنية، وهي بالهاء عند الكافة وعند ابن عبدوس: السلحفا، بغير هاء. وذكرها يقال له غيلم، وهذا الحيوان يبيض في البر فما نزل منه في البحر كان لجأة، وما استمر في البركان سلحفاة، ويعظم الصنفان جدا إلى أن يصير كل واحد منهما حمل جمل. وإذا أراد الذكر السفاد، والأنثى لا تطيعه، يأتي الذكر بحشيشة في فيه، من خاصيتها أن صاحبها يكون مقبولا، فعند ذلك تطاوعه وهذه الحشيشة لا يعرفها إلا القليل من الناس. وهي إذا باضت صرفت همتها إلى بيضها بالنظر إليه ولا تزال كذلك حتى يخلق الله تعالى الولد منها، إذ ليس لها أن تحضنه حتى يكمل بحرارتها، لأن أسفلها صلب لا حرارة فيه وربما تقبض السلحفاة على ذنب الحية فتقطع رأسها وتمضغ من ذنبها والحية تضرب بنفسها على ظهر السلحفاة وعلى الأرض حتى تموت. ولها حيلة عجيبة في التوصل إلى صيدها، وذلك أنها تصعد من الماء فتتمرغ في التراب، وتأتي موضعا قد سقط الطير عليه لشرب الماء فتختفي عليه لكدورة لونها، التي اكتسبتها من الماء والتراب، فتصيد منها ما يكون لها قوتا وتدخل به الماء ليموت فتأكله. ولذكرها ذكران وللأنثى فرجان، والذكر يطيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 المكث في السفاد، والسلحفاة مولعة بأكل الحيات، فإذا أكلتها بعدها سعترا. والترس الذي على ظهرها وقاية لها وقد أجاد الشاعر حيث قال في وصفها: لحا الله ذات فم أخرس ... تطيل من السعي وسواسها تكبّ على ظهرها ترسها ... وتظهر من جلدها رأسها إذ الحذر أقلق احشاءها ... وضيّق بالخوف أنفاسها تضمّ إلى نحرها كفّها ... وتدخل في جلدها رأسها الحكم : حكى البغوي في حلها وجهين: وصحح الرافعي التحريم لاستخباثها، لأن غالب أكلها الحيات. وقال ابن حزم: البرية والبحرية حلال، وكذلك بيضها لقوله «1» تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً مع قوله «2» : وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ولم يفصل لنا تحريم السلحفاة فهي حلال. قال: وكذلك يحل اليربوع والسرطان والجراذين وأم حبين والورل والطير كله. قال: وقد روينا عن عطاء، أنه قال بإباحة أكل السلحفاة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه نهى المحرم عن قتل الرخمة وجعل فيها الجزاء وقد قال أبو زيد المروزي من أصحابنا، بعدم تحريم المخاط والبزاق والمني ونحوها وكأنه استغنى بنفرة الطباع عنها فلم يزجر عنها. وفي الأمثال : قالوا «3» : «أبلد من سلحفاة» . الخواص : ذكر صاحب الفلاحة والقزويني أن البرد، إذا كثر وقوعه على الأرض، وأضر بذلك المكان، تؤخذ سلحفاة وتقلب فيه على ظهرها بحيث تبقى قوائمها شائلة نحو السماء، فإن البرد لا يضر ذلك المكان وإذا لطخت الأيدي والأقدام بدمها، نفع من وجه المفاصل، وإذا أديم التمسح بدمها نفع من الكزاز والتشنج، وأكل لحمها يفعل ذلك. وإذا جفف دمها وسحق وطلي به على مسرجة فمن أسرجها ضرط وهو سر عجيب مجرب. وأي عضو من الإنسان حصل له وجع، يعلق عليه نظيره من أعضائها فإن الوجع يسكن بإذن الله تعالى. وطرف ذنب الذكر منها وقت هيجانه من علقه عليه هيج الباه، وإذا اتخذ من ظهرها مكبة وغطى بها رأس قدر، لم يغل مادامت عليه. التعبير : السلحفاة في المنام امرأة تتزين وتتعطر وتعرض نفسها على الرجل. وقيل: إنها تعبر بقاضي القضاة، لأنها أعلم ما في البحر. وقيل: السلحفاة رجل عالم فمن رأى سلحفاة تكرم في مكان فإن العلماء يكرمون هناك. ومن رأى أنه أكل لحم سلحفاة استفاد علما، وقالت النصارى: إنه ينال مالا وعلما والله أعلم. السلحفاة البحرية: اللجأة وستأتي في باب اللام إن شاء الله تعالى. قال الجوهري: وزعموا أن ابنة جندي وضعت قلادتها على سلحفاة فانسابت في البحر، فقالت: يا قوم نزاف نزاف، لم يبق في البحر غير غراف! وهو جمع غرفة من الماء، والسلحفاة البحرية جلدها الذبل الذي يصنع منه الأمشاط وخاصية التسريح بمشط الذبل اذهاب الصيبان من الشعر. وإذا أحرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 الذبل وعجن رماده ببياض البيض، وطلي به شقاق الكعبين والأصابع نفعه. وقيل: الذبل جلد السلحفاة الهندية. فائدة : كان للنبي صلى الله عليه وسلم مشط من العاج والعاج الذبل، وهو شيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية يتخذ منه الأمشاط والأساور. وفي الحديث «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر ثوبان رضي الله تعالى عنه أن يشتري لفاطمة رضي الله تعالى عنها سوارين من عاج» أما العاج الذي هو عظم الفيل، فنجس عند الشافعي، وطاهر عند أبي حنيفة، وعند مالك يطهر بصقله فيجوز التسريح بمشط العاج، وهو الذبل وعليه يحمل ما وقع للنووي في شرح المهذب من جواز التسريح به. فمراده بالعاج الذبل لا العاج الذي هو ناب الفيل. السّلفان: بكسر السين أولاد الحجل الواحدة سلف مثل صرد وصردان قال أبو عمر: ولم يسمع سلفة للأنثى ولو قيل سلفة كما قيل سلكة لواحدة السلكان لكان جيدا. السلق: بالكسر الذئب والأنثى سلقة وربما قيل للمرأة السلطة سلقة ومنه قوله «2» تعالى: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي بسطوا ألسنتهم فيكم. والسالقة الرافعة صوتها عند المصيبة. السلك: فرخ القطا وقيل: فرخ الحجل، والأنثى سلكة، والجمع سلكان، مثل صرد وصردان. وقيل واحدته سلكانة. وقد ضربت العرب المثل بسليك بن سلكة في العدو وهو تميمي من بني سعد وسلكة أمه، وكانت سوداء وكان يقال له سليك المقانب قال الشاعر: إلى الهول أمضى من سليك المقانب. وهو أحد أغربة العرب الآتي ذكرهم إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة. السلكوت: طائر قاله في المحكم في رباعي السين. السلوى: قال ابن سيده: إنه طائر أبيض مثل السماني واحدته سلوة والسلوى العسل قال خالد بن زهير الهذلي: وقاسمها بالله جهدا لأنتم ... ألذّ من السلوى إذا ما نشورها «3» قال الزجاج: أخطأ خالد، إنما السلوى طائر. وقيل: السلوى اللحم. قال الإمام حجة الاسلام الغزالي: وسمي سلوى لأنه يسلي الإنسان عن سائر الإدام، والناس يسمونه قاطع الشهوات. وقال القزويني وابن البيطار: إنه السّماني وقال غيرهما: إنه طائر قريب من السماني. وقال الأخفش: لم يسمع له بواحد ويشبه أن يكون واحده سلوى كدفلى للواحد والجمع، وهو طائر يعيش دهره في قلب اللجة فإذا مرضت البزاة بوجع الكبد، طلبته وأخذته وأكلت كبده فتبرأ، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 الذي أنزله الله تعالى على بني اسرائيل على القول المشهور وغلط الهذلي فظنه العسل فقال: ألذ من السلوى إذا ما نشورها وفي صحيح البخاري في أحاديث الأنبياء وفي مسلم في النكاح من حديث محمد بن رافع، قال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه وذكر أحاديث، منها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا بنو اسرائيل لم يخنز اللحم، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر أبدا» «1» . ومعناه أنه لم يتغير اللحم أبدا ولم ينتن. قال العلماء: معناه أن بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المن والسلوى، نهوا عن ادخارهما فادخروا ففسد وأنتن واستمر من ذلك الوقت. وروى ابن ماجة عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم» «2» . وعنه رضي الله تعالى عنه: «ما أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم لحم إلا قبله، ولا دعي إلى لحم إلا أجاب» «3» . وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «أطيب اللحم لحم الظهر» . وما أحسن ما قال شيخنا برهان الدين القيراطي «4» : لما رأيت سلوى عز مطلبه ... عنكم وعقد اصطبارى صار محلولا دخلت بالرغم مني تحت طاعتكم ... ليقضي الله أمرا كان مفعولا الحكم : يحل أكله بالإجماع. الخواص : قال ابن زهر: إذا علقت عينه على الأرمد شفي، وإن اكتحل بها نفع من وجع الكبد. ومرارته تخلط بزعفران مداف، ويطلى به على البهق الأسود، يقطعه. وزبله يسحق ويذر على القروح المتأكلة ينفعها، وإذا دفن رأسه في برج حمام، زال عنه سائر الهوام ورأسه إذا بخر به مكان أزال الأرضة منه. التعبير : السلوى تدل رؤيته على رفع النكد والنجاة من العدو، ونجاز الوعد والخير والرزق الهنيء بلا تعب ولا عناء لمن رآه أو ملكه. وربما دلّت رؤيته على سلوى عن عشيق لأجل اسمه وربما دلت رؤيته على كفران النعم وزوال المنصب وضنك العيش لقوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ «5» والله أعلم. السماني: قال الزبيدي: هو بضم السين وفتح النون على وزن الحبارى، اسم لطائر يلبد بالأرض ولا يكاد يطير إلا أن يطار والسماني طائر معروف. ولا تقل سماني بالتشديد، والجمع سمانيات ويسمى قتيل الرعد من أجل أنه إذا سمع الرعد مات ويقال: إن فرخه عندما يخرج من البيض يطير من ساعته. ومن عجيب أمره أنه يسكت في الشتاء، فإذا أقبل الربيع يصيح ويغتذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 بالبيش والبيشاء، وهما سم ناقع قاتل. وهو من الطيور القواطع لا يدري من أين يأتي حتى إن بعض التاس يقول: إنه يخرج من البحر المالح فإنه يرى طائرا عليه وأحد جناحيه منغمس فيه، والآخر منشور كالقلع. ولأهل مصر به عناية ويتغالون في ثمنه. الحكم : يحل أكله بالإجماع. الخواص : لحمه حار يابس، وأجوده المخاليف الطرية، وأكله ينفع من وجع المفاصل من برد، لكنه يضر بالكبد الحار، ويدفع ضرره الكسبرة والخل، وهو يولد دما حارا وهو موافق لذوي الأمزجة الباردة والمشايخ ويكره مشوي السماني ليبسه وتجفيفه. قال ابن عبدون وقال غيره: مزاج لحمه بين الدجاج والحجل، وهو إلى مزاج الدجاج أميل. وهو جيد الكيموس، وأكله يفتت الحصا ويدر البول وإذا قطر دمه في الأذن سكن وجعها، وإذا أديم أكله ألان القلب القاسي ويقال: إن هذه الخاصية موجودة في قلبه فقط. التعبير : السماني تدل رؤيته على الفوائد والأرزاق من جهة الزرع والفلاحة. وهو لمن يقصد سماعه دليل على الأرزاق من الشبهات، وربما دل على اللعب واللهو والتبذير، وربما دلت رؤيته على الجرم بما يوجب الحبس والصلب والله أعلم. السمحج: الأتان الطويلة الظهر، والجمع سماحج. وكذلك الفرس، ولا يقال للذكر. السّمع: بكسر السين وإسكان الميم وبالعين المهملة في آخره، ولد الذئب من الضبع، وهو سبع مركب، فيه شدة الضبع وقوتها، وجراءة الذئب وخفته، ويزعمون أنه كالحية لا يعرف العلل ولا يموت حتف أنفه، وأنه أسرع عدوا من الريح. وقال الجوهري: السمع الأزل: الذئب الأرسح وهو القليل لحم الفخذين، وكل ذئب أرسح فإن هذه الصفة لازمة له كما يقال للضبع العرجاء انتهى. وقد قال بعض الأعراب فيه: تراه حديد الطّرف أبلج واضحا ... أغرّ طويل الباع أسمع من سمع ويقال: إن وثبته تزيد على عشرين أو ثلاثين ذراعا وفي كتاب «خبر البشر بخير البشرى» خبر لابن ظفر عن ربيعة ابن أبي نزار، قال: أخبرني خالي قال: لما أظهر الله علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، أشعبنا في كل شعب لا يلوي حميم على حميم، فبينما أنا في بعض الشعاب، إذ رأيت ثعلبا قد تحوى عليه أرقم، والثعلب يعدو عدوا شديدا، فانتحيت إليه بحجر فما أخطأه، فانتهيت إليه فإذا الثعلب قد سبقني بنفسه، وإذا الأرقم قد تقطع وهو يضطرب، فقمت أنظر إليه فهتف بي هاتف، ما سمعت أفظع من صوته، يقول: تعسا لك وبؤسا قد قتلت رئيسا ووترت بئيسا! ثم قال: يا داثر يا داثر، فأجابه مجيب من العدوة الأخرى: لبيك لبيك، فقال: بادر بادر إلى بني الغدافر، فأخبرهم بما صنع الكافر، فناديت أني لم أشعر وأنا عائد بك فأجرني. فقال: كلا والحرم الأمين لا أجير من قاتل المسلمين، وعبد غير رب العالمين. قال: فناديت أني أسلم. فقال: إن أسلمت سقط عنك القصاص، وفزت بالخلاص، والإفلات حين مناص. قال: فقلت: أشهد أن لا إله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقال: نجوت وهديت، ولولا ذلك لرديت، فارجع من حيث جيت. قال: فرجعت أقفو أدراجي فإذا هو يقول: امتط السمع الأزل ... يعل بك التل فهناك أبو عامر ... يتبع بك الفل قال: فالتفت، فإذا سمع كالأسد النهد، فركبته فمر ينسل حتى انتهى إلى تل عظيم، فتوقل فيه إلى أن تسنمه فأشرفت منه على خيل المسلمين، فنزلت عنه وصوبت في الحدور نحوهم، فلما دنوت منهم خرج إلي فارس كالفالج الهائج، فقال: ألق سلاحك لا أم لك، فألقيت سلاحي فقال لي: من أنت؟ قلت: مسلم. قال: فسلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقلت: وعليك السلام والرحمة والبركة. من أبو عامر؟ قال: أنا هو قلت: الحمد لله. فقال: لا بأس عليك، هؤلاء إخوانك المسلمين. ثم قال: إني رأيتك بأعلى التل فارسا فأين فرسك؟ قال: فقصصت عليه القصة فأعجبه ما سمع مني، وسرت مع القوم أقفو بهم أثر هوازن، حتى بلغوا من الله ما أرادوه. قال محمد بن ظفر: قوله: تحوى عليه أرقم، أي استدار عليه، والأرقم الحية التي فيها خطوط كالرقم. وتزعم الأعراب أن الثعالب مطايا الجن، ويكرهون اصطيادها، ويقولون: إن من صاد ثعلبا أصيب ببعض ماله. وقوله: سبقني بنفسه أي هلك قبل أن أصل إليه. وقوله: لولا ذلك لرديت، أي هلكت. والردى الهلاك. وقوله: أقفو أدراجي أي أتبع طرقي التي جئت فيها والأدراج السبل وقوله: الفل هم المنهزمون، وقوله: النهد هو العظيم الخلق. وقوله: ينسل أي يعدو، والنسلان عدو الذئب والكلب وكل ما أشبه ذلك في العدو فهو نسلان. وقوله: كالفالج هو البعير العظيم ذو السنامين انتهى. الحكم : تحريم الأكل. واختلفوا في وجوب الجزاء على المحرم بقتله كالمتولد بين الحمار الوحشي والأهلي فقال ابن القاص: لا جزاء في ذلك. وغلط فيه والمذهب أنه يحرم على المحرم التعرض له ويجب فيه الجزاء. الأمثال : قالوا: «أسمع من سمع ومن سمع الأزل» «1» . لأن هذه الصفة لازمة له، كما يقال للضبع: العرجاء. وهو في الرؤيا يدل على ذي الأصل الرديء. ونقل ما سمعه من كلام جيد ورديء، وذلك مأخوذ من اسمه والله أعلم. السمائم: بالفتح جمع سمامة وهو ضرب من الطير، كالخطاف لا يقدر على بيضه. وقيل: هو السنونو الآتي قريبا إن شاء الله تعالى وهو الطير الأبابيل الذي أرسله الله تعالى على أصحاب الفيل. الأمثال : قالت العرب: «كلفتني بيض السمائم» «2» ويروى بيض السماسم وهو جمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 سمسمة وهي النملة وستأتي إن شاء الله تعالى. يضرب للشيء العزيز الوجود. السمسم: بالفتح الثعلب. السمسمة: بكسر السين، النملة الحمراء. وجمعها سماسم. وقال ابن فارس، في مجمله: هو النمل الصغار. وبها فسر الحديث، الذي رواه مسلم، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر «الجهنميين وأن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس» «1» . قال الامام النووي قوله: كأنهم عيدان السماسم هو بالسينين المهملتين الأولى مفتوحة، والثانية مكسورة وهو جمع سمسم وهو السمسم المعروف الذي يستخرج منه الشيرج. وقال أبو السعادات بن الأثير: السماسم جمع سمسم وعيدانه تراها إذا قلعت وتركت ليؤخذ حبها دقاقا سودا كأنها محترقة قال: وطالما تطلبت هذه اللفظة وسألت عنها، فلم أجد فيها شيئا شافيا وما أشبه أن تكون اللفظة محرفة وربما كانت عيدان السماسم وهو خشب أسود كالآبنوس قال القاضي عياض: لا يعرف معنى السماسم ولعل صوابه السأسم وهو عود أسود. وقيل: هو الآبنوس. وقيل: هو نبت صغير ضعيف كالكسبرة وقال آخرون: لعله السأسم مهموزة وهو الآبنوس شبههم به لسواده. السمك: من خلق الماء، الواحدة سمكة، وجمعه أسماك وسموك، وهو أنواع كثيرة ولكل نوع اسم خاص وقد تقدم في آخر الجراد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «2» «إن الله عز وجل خلق ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر» . ومن أنواع السمك ما لا يدرك الطرف أولها وآخرها لكبرها وما لا يدركها الطرف لصغرها، وكل يأوي الماء ويستنشقه كما يستنشق بنو آدم، وحيوان البر الهواء، إلا أن حيوان البر يستنشق الهواء بالأنوف ويصل بذلك إلى قصبة الرئة، والسمك يستنشق بأصداغه فيقوم له الماء في تولد الروح الحيواني في قلبه مقام الهواء. وإنما استغنى عن الهواء في إقامة الحياة ولم نستغن نحن وما أشبهنا من الحيوان عنه، لأنه من عالم الماء والأرض دون عالم الهواء، ونحن من عالم الأرض والماء والهواء. قال الجاحظ: السمك يسبّح الله في غمر الماء ولا يسبح في أعلاه. ونسيم البر الذي يعيش به الطير، لو دام على السمك ساعة قتله قال «3» الشاعر: تغمه النشوة والنسيم ... ولا يزال مغرقا يعوم في البحر والبحر له حميم ... وأمه الوالدة الرؤوم تلهمه جهرا وما يريم وقوله: وأمه الوالدة فيه شاهد على أن الأم في غير الآدميين تسمى أيضا والدة. وقوله تلهمه أي تأكله لأن السمك يأكل بعضه بعضا، وذلك قوته، ولذلك قال الغزالي: السمك أكثر خلق الله تعالى. وقوله: وما يريم أي لا يبرح عن ذلك الموضع الذي يأكل فيه وما ذكره الجاحظ من كون النسيم يضر بالسمك فليس على إطلاقه فإن الغزالي قد استثنى منه نوعا لا يضره النسيم، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 ومن السمك نوع يطير على وجه البحر مسافة طويلة ثم ينزل انتهى. قال ابن التلميذ «1» في تشبيه السمك: لبسن الجواشن خوف الردى ... عليهن من فوقهن الخوذ فلما أتيح لها أهلكت ... ببرد النسيم الذي يستلذ وهو بجملته شره كثير الأكل لبرد مزاج معدته وقربها من فمه وإنه ليس له عنق ولا صوت ولا يدخل إلى جوفه هواء البتة، ولذلك يقول بعضهم: إن السمك لا رئة له، كما أن الفرس لا طحال له، والجمل لا مرارة له، والنعامة لا مخ لها وصغار السمك تحترس من كباره، ولذلك تطلب ماء الشطوط والماء القليل الذي لا يحمل الكبير، وهو شديد الحركة لأن قوته المحركة للإرادة، تجري في مسلك واحد لا ينقسم في عضو خاص، وهذا بعينه موجود في الحيات. ومن السمك ما يتولد بسفاد، ومنه ما يتولد بغيره إما من الطين أو من الرمل، وهو الغالب في أنواعه، والغالب يتولد من العفونات. وبيض السمك ليس له بياض ولا صفرة، وإنما هو لون واحد قال الجاحظ: ومن السمك القواطع والأوابد كما في الطير، فرب سمكة تأتي في بعض فصول السنة وتنقطع في بعضها. ومن جملة أنواعه السقنقور، والدلفين، والخرشفلا، والتمساح. وقد تقدم ذكرها في أبوابها ومنها: القرش والعنبر، وسيأتيان في بابيهما، إن شاء الله تعالى ومن أصنافه ما هو على شكل الحيات، وغير ذلك، ومن أنواعه السمكة الرعادة هي صغيرة إذا وقعت في الشبكة والصياد ممسك حبلها، ارتعدت يد الصياد والصيادون يعرفون ذلك فإذا أحسوا بها شدوا حبل الشبكة في وتد أو شجرة حتى تموت السمكة، فإذا ماتت بطلت خاصيتها. وما أحسن قول الشيخ شرف الدين محمد بن حماد بن عبد الله البوصيري «2» صاحب البردة في الشيخ زين الدين محمد بن الرعاد: لقد عاب شعري في البرية شاعر ... ومن عاب أشعاري فلا بد أن يهجى «3» فشعري بحر لا يرى فيه ضفدع ... ولا يقطع الرعاد يوما له لجا وأطباء الهند يستعملونها في الأمراض الشديدة الحر، وأما في غير بلاد الهند فلا يمكن استعمالها. قال ابن سيده: الرعادة إذا قربت من رأس المصروع، وهي حية، نفعته. وإذا علقت المرأة شيئا منها عليها لم يقدر الرجل على فراقها. وفي البحر من العجائب ما لا يستطاع حصره، ويكفي في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حدثوا عن البحر ولا حرج» أي حدثوا عنه حيث لا حرج عليكم في ذلك. ومن أنواعه: الشيخ اليهودي وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الشين المعجمة. عجيبة: حكى القزويني، في عجائب المخلوقات عن عبد الرحمن بن هارون المغربي، قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 ركبت بحر المغرب فوصلت إلى موضع يقال له البرطون، وكان معنا غلام صقلي معه صنارة فألقاها في البحر فصاد بها سمكة نحو الشبر فنظرنا فإذا خلف أذنها اليمنى مكتوب لا إله إلا الله وفي قفاها محمد وخلف أذنها اليسرى رسول الله. وفي كتاب تحفة الألباب لأبي حامد الأندلسي الغرناطي، ان في بحر الروم سمكا صغيرا كالذراع يسمى التلب إذا أخذ وأمسك ما شاء الله لا يموت بل يتحرك ويضطرب، وإذا جعل منه قطعة على النار، وثب خارج النار وربما أصاب وجوه الناس، وإن جعلت سمكة منه في قدر وغطي رأسها بصخرة أو حديدة لئلا تخرج منها فما لم تنضج لم تمت ولو قطعت ألف قطعة. فوائد : روى الإمام أحمد، في الزهد، عن نوف البكالي، قال: انطلق رجل مؤمن ورجل كافر يصيدان السمك، فجعل الكافر يلقي شبكته ويذكر آلهته فتمتلىء سمكا، ويلقي المؤمن شبكته ويذكر اسم الله تعالى فلا يصطاد شيئا. قال: ففعلا ذلك إلى مغيب الشمس، ثم إن المؤمن، اصطاد سمكة فأخذها بيده فاضطربت فوقعت في الماء، فرجع المؤمن وليس معه شيء ورجع الكافر وقد امتلأت سفينته، فأسف ملك المؤمن وقال: رب عبدك المؤمن الذي يدعوك رجع وليس معه شيء، وعبدك الكافر رجع وقد امتلأت سفينته. فقال الله عز وجل لملك المؤمن: تعال، فأراه مسكن المؤمن في الجنة. فقال: ما يضر عبدي هذا المؤمن ما أصابه بعد أن يصير إلى هذا. وأراه مسكن الكافر في النار، فقال: هل يغني عنه من شيء أصابه في الدنيا؟ قال: لا والله يا رب. ومنها في آخر صفوة الصفوة عن أبي العباس بن المسروق، قال: كنت باليمن فرأيت صيادا يصطاد السمك على بعض السواحل وعلى جانبه ابنة له، كلما اصطاد سمكة تركها في دوخلة معه، فتردها الصبية إلى الماء فالتفت الرجل فلم ير شيئا فقال: يا بنية أي شيء صنعت بالسمك؟ فقالت: يا أبت سمعتك تروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقع سمكة في شبكة إلا غفلت عن ذكر الله» فلم أحب أن آكل شيئا غفل عن ذكر الله. فبكى الرجل ورمى بالصنارة. ومنها، في كتاب الثواب، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان مريضا فاشتهى سمكة طرية فالتمست له بالمدينة، فلم توجد حتى وجدت بعد كذا وكذا يوما فاشتريت بدرهم ونصف، وشويت وحملت له على رغيف، فقام سائل على الباب فقال للغلام: لفها برغيفها وادفعها إليه. فقال الغلام: أصلحك الله اشتهيتها منذ كذا وكذا يوما، فلم نجدها فلما وجدناها واشتريناها بدرهم ونصف أمرت أن ندفعها له نحن نعطيه ثمنها، فقال: لفها وادفعها إليه فقال الغلام للسائل: هل لك أن تأخذ درهما وتدع هذه السمكة؟ فأخذ منه درهما وردها، فعاد الغلام وقال له: دفعت له درهما وأخذتها منه فقال له: لفها وادفعها إليه، ولا تأخذ منه شيئا، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «1» «أيما امرىء اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له» . ومنها ما روى الطبراني، بإسناد صحيح، عن نافع، أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما اشتكى فاشتهى عنبا فاشترى له عنقود عنب بدرهم، فجاء مسكين فقال: اعطوه إياه فخالف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 إنسان، فاشتراه بدرهم ثم جاء به إليه ففعل ذلك ثلاث مرات ثم في الرابعة أكله ولو علم ذلك ما ذاقه. وقال سريج بن يونس: خرجت يوما لصلاة الجمعة، فرأيت سمكتين مشويتين فاشتهيتهما بقلبي للصبيان، ولم أتكلم، فلما رجعت لم أستقر إلا قليلا، حتى دق الباب رجل وعلى رأسه طبق عليه السمكتان ونقل وخل ورطب كثير، فقال: يا أبا الحارث كل هذا مع الصبيان. وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: سمعت سريج بن يونس يقول: رأيت رب العزة في المنام فقال لي: يا سريج سل حاجتك فقلت: يا رب سر بسر اهـ وسر بسر لفظة أعجمية يعني رأسا برأس. وفي تاريخ ابن خلكان أن سريجا هذا جد أبي العباس إمام الفقهاء الشافعية. الحكم : السمك بجميع أنواعه حلال بغير ذبح، سواء مات بسبب ظاهر، كضغطة أو صدمة حجر أو انحسار ماء أو ضرب من صياد أو مات حتف أنفه لعموم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم: «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» «1» وأجمع المسلمون على طهارة ميتتهما، وسيأتي في باب العين إن شاء الله تعالى، حديث العنبر الذي وجده أبو عبيدة وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم. فرع : لو اصطاد مجوسي سمكا فهو طاهر، لقول الحسن: رأيت سبعين صحابيا يأكلون صيد المجوسي من الحيتان، ولا يتلجلج في صدورهم من ذلك شيء. وهذا في السمك مجمع عليه وخالف مالك في الجراد. فرع : لا يحل قطع السمكة الحية لما فيه من التعذيب، كما لو قلاها قبل الموت في الزيت المغلي كذا قاله أبو حامد. قال النووي: وهذا تفريع على اختياره تحريم ابتلاعها حية وذلك مباح. اهـ قلت: وهذا مشكل فلا يلزم من جواز الابتلاع جواز القلي لما فيه من التعذيب بالنار. فرع : يكره ذبح السمك، إلا أن يكون كبيرا يطول بقاؤه، فيستحب ذبحه في الأصح إراحة له وقال الرافعي: أكل السمكة الصغيرة إذا شويت ولم يشق جوفها ولم يخرج ما فيه، فيه وجهان: وعلى المسامحة جرى الأولون، قال الروياني: وبهذا أفتى ورجيعها طاهر عندي وهو مختار القفال. فرع : اختلف العلماء في الحيوان الذي في البحر سوى الحوت، فقال بعضهم: يؤكل جميع ما في البحر سوى الضفدع، ولو كان على صورة إنسان وإلى هذا ذهب أبو علي الطيبي من قدماء أصحابنا، قال في شرح القنية: قيل له: أرأيت لو كان على صورة بني آدم؟ قال: وإن تكلم بالعربية وقال: أنا فلان بن فلان، فإنه لا يصدق انتهى. وهذا ضعيف شاذ وقال آخرون: يؤكل الجميع إلا ما كان على صورة الكلب والخنزير والضفدع. وقيل: كل ما أكل في البر مذبوحا، يؤكل مثله في البحر مذبوحا، وغير مذبوح على الأصح. وقيل: لا بد من ذبحه واختاره الصيدلاني، فعلى هذا لا يحل كلب الماء ولا خنزيره ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 حمار البحر وإن كان له شبه في البر حلال، وهو الحمار الوحشي لأن له شبها في البر حرام وهو الحمار الأهلي تغليبا للتحريم، كذا قاله في الروضة وشرح المهذب. قلت: المهذب المفتى به حل الجميع إلا السرطان والضفدع والتمساح سواء كانت على صورة كلب أو خنزير أو انسان أم لا. فرع : لو حلف إنسان لا يأكل لحما لم يحنث بأكل لحم السمك لأنه لا يفهم إطلاق اسم اللحم عليه عرفا، وإن سماه الله تعالى لحما طريا. كما لا يحنث بالجلوس في الشمس إذا حلف أنه لا يجلس في ضوء السراج وإن سماها الله تعالى سراجا، وكما لا يحنث بالجلوس على الأرض إذا حلف أنه لا يجلس على بساط وإن سماها الله تعالى بساطا. فرع : قد اختلف في إطلاق اسم السمك على ما سوى الحوت من هذه الحيوانات، والذي نص عليه الشافعي في الأم والمختصر، أنه يطلق على الجميع وهو الصحيح في الروضة. وقال في اختلاف العراقيين في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ «1» الآية قال أهل التفسير: طعامه كل ما فيه وهو يشبه ما قال والله أعلم. هذه عبارته، وهي صريحة في حل الجميع وذكر في المنهاج أن السمك لا يقع إلا على الحوت. فرع : يجوز السلم فيه وفي الجراد حيا وميتا عند عموم الوجود ويوصف كل جنس بما يليق به. ولا يجوز بيع السمك في الماء، لما روى الإمام أحمد عن محمد بن السماك عن يزيد بن أبي زياد، عن المسيب بن رافع، عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر» «2» . قال البيهقي: هكذا روي موقوفا وفيه إرسال بين المسيب وابن مسعود. والصحيح ما رواه هشيم عن يزيد موقوفا، عن عبد الله أنه كره بيع السمك في الماء. فرع : ما يعيش في البر والبحر: الضفدع والتمساح والحية واللجأة والسرطان والسلحفاة والحلزون والدعاميص والأصداف والنسناس. أما الستة الأولى فمحرمة. وأما الحلزون فتقدم حكمه في باب الحاء المهملة. وأما الدعاميص فعلى قول القاضي: أنها ماء منعقد، ولا يعيش إلا في الماء يحل أكلها، وعلى قول الجاحظ: يحرم لأن البعوض حرام. وقد تقدم بيان حكمها في باب الدال المهملة. والصدف حرام كما تقدم في السرطان. وفي النسناس خلاف يأتي إن شاء الله تعالى في باب النون. الخواص : لحمه بارد رطب أجوده البحري المرقش الظهر الصغير المفلس منفعته تخصيب الأبدان المعرقة، لكنه يعطش ويولد خلطا بلغميا يوافق أصحاب الأمزجة الحارة والشباب وأجود ما أكل في الصيف وفي البلاد الحارة. وأنواع السمك كثيرة، ويكره من جملتها الأسود والأصفر والآجامي وما اغتذى بالحمأة. ويكره الابراميس والبوري لمضرتهما بالمعدة، وإطلاقهما البطن، وتحريكهما الأوجاع والغضب بعد أكلهما يورث أمراضا رديئة، وسمك الأنهار كثير الشوك، رقيقه كثير الرطوبة والبحري بالضد. والسلور وهو الجري كثير الغذاء ملين للبطن وينقي قصبة الرئة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 ويصفي الصوت. والمارماهيج يزيد في المني وشحم الكلى. والعظيم الجثة من السمك كثير الغذاء والفضول. وقال ابن سينا: لحم السمك نافع لماء العين، ويحد البصر مع العسل. وقال غيره يزيد في الباه وقال القزويني: إن أكل الطري منه مع البصل الرطب يهيج الباه، ويزيد فيه إذا أكله حارا. والسمك إذا شمه السكران يرجع إليه عقله، ويزول عنه سكره. ومرارته ومرارة السلحفاة البحرية، إذا خلطتا وكتب بهما على كاغد بقلم حديد، فإن الكتابة ترى بالليل كأنها ذهب ومرارة السمك والكركي والحجل تمنع نزول الماء اكتحالا. ومرارة السمك إذا شربت نفعت من الخفقان، وكذلك إذا نفخت في الحلق مع شيء من السكر. التعبير : السمك في الرؤيا إذا عرف عدده إلى أربع فهو نساء، وإن كان أكثر من أربع فهو مال وغنيمة لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا «1» وهو السمك. والحوت يعبر بوزير الملك، والسمك جنده فمن أخذ سمكا نال من جند الملك مالا، ومن رأى كأنه يصطاد السمك في بئر فإنه لوطي، أو يبيع خادمه لإنسان. وقالت النصارى: صيد السمك في الماء الكدر لا خير فيه. ومن رأى أنه يصيد السمك في الماء الصافي، فإنه يسمع كلاما يسر به، والسمك للمريض الملازم للفراش دليل رديء بسبب الرطوبات، وإذا رآه المسافر في فراشه دل على شدة، وربما يخشى على صاحب الرؤيا من الغرق، لأنه قد ضاجعه. ومن رأى كأنه يصيد السمك من الماء الصافي، فإنه يرزق ولدا سعيدا، والسمك المالح هم من قبل السلطان، وذلك لكبس بعضه فوق بعض وقيل: السمك المالح يدل على خير ومال باق، لأن الملح يحفظ السمك من التلف وقيل: إنه هم من قبل المماليك، والسمك المشوي يدل على سفر في طلب علم. ومن رأى سمكة خرجت من فرجه، وله امرأة حامل، بشر بجارية. وإن رأى سمكا كثيرا، وبينها سمكة عظيمة ويرى أكبر السمك قد صلبت، فإن الجائر والباغي يهلك. والسمك المقلي يدل على إجابة دعوة من رآه لأن عيسى عليه الصلاة والسلام دعا الله فأجيب بالسمك المقلي في المائدة. ورؤية الكبار من السمك غنائم وأموال، والصغار هموم وأحزان، لأن شوك الصغار أكثر من لحمه ويشق على آكله. فصل : الحوت تدل رؤيته على اليمين لأن الله تعالى أقسم به، فقال ن وَالْقَلَمِ «2» وربما دلت رؤيته على معبد الصالحين، ومسجد المتعبدين، لأن يونس عليه السلام كان يسبح الله تعالى في بطنه، وربما دلت رؤيته على الغم والنكد، وزوال المنصب وحلول الغضب، لأن الله تعالى حرم على اليهود صيدهم يوم السبت، فخالفوا أمره فاستوجبوا بذلك اللعن. ورؤية حوت يونس عليه السلام أمن للخائف، وغنى للفقير، وفرج لمن هو في شدة. وكذلك رؤية سجن يوسف والكهف والرقيم وتنور نوح عليه السلام. فصل : واعتبر من السمك الطري والحلو والمالح، وما له شوك وما له سلاح، وما يقدد منه وما يأوي البحر العذب، وما يأوي البحر الملح، وما له صوت يسمع، وما يطفو على وجه الماء، من صغاره وكباره وما له شبه في البر، وما يأنس منه في البيوت، وما يمسك منه باليد من غير آلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وأعطى الرائي حقه من ذلك، فمن رأى أنه اصطاد من البحر سمكا طريا حلوا بآلة، دل على الكسب الحلال، والسعي فيه واقتناء الرزق الحلال، والصيد للرجل دال على احتياله برأيه وجهده، فإن كان الرائي أعزب تزوج، وإن كان متزوجا رزق ولدا على قدر ما صاده في المنام. وصيد المرأة يدل على مال تحرزه من زوجها أو أبيها. وصيد العبد دليل على ما يتناوله من مال سيده، وصيد الصغير دليل على ما يحفظه من علم أو صناعة أو مال يرثه من أبويه، فإن كانت آلة صيده شباكا أو خطاطيف أو ما يعمق في البحر، كان ذلك شدة ينالها الرائي وخطرا يرتكبه، فإن كانت آلة صيده خفيفة، وطلع فيها ما يطلع في غيرها من الآلات الثقال، دل على بسط الرزق وتسهيل الأمور، وإن طلع في الآلات الثقال ما يطلع في السهلة، دل على التعب والنصب وعلى اليسير من الرزق، فإن طلع له سمك كثير فإنه رزق مما دل عليه البحر. وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يدل عليه البحر، في باب الفاء في فرس البحر. فإن كان البحر مالحا نال فائدة أو علما من أعجمي أو مبتدع. فإن كان ما صاده له شوك وقشر كانت فضة محرزة أو ذهبا، فإن كان ليس له قشر دل على أعمال باطلة لا تتم وذلك لسرعة انصرافه من الأيدي وملوسته. وإن كان للسمك سلاح كالشال والشلبا، دل على انتصاره على أعدائه، وربما صادق أهل الشرّ، فإن كان ممن يقدد فهي بضاعة لأرباب البضائع، وإن رأى سمك البحر الحلو ينتقل إلى البحر الملح، أو سمك الملح ينتقل إلى الحلو، دل على النفاق في الجيش واختلاف العامة فيما جرت به العوائد، من حدوث مظلمة، أو ظهور بدعة. فإن رأى السمك طافيا على وجه الماء، دل على تسهيل الأمور وقرب البعيد وإظهار الأسرار وإخراج المخبآت، أو مال أصله من ميراث. فإن رأى عنده سمكا صغارا وكبارا، دل على الاهتمام بالأفراح والأحزان، أو ما يوجب الاجتماع بين الجيد والرديء. فإن رأى عنده سمكا، مما يشبه خلق الآدمي أو الطير، دل على التعرف بالتجار المترددين في البر والبحر، أو التراجمة العارفين بالألسنة، أو المتخلقين بالأخلاق المرضية، ويعتبر ذلك بالشبه، فإن رأى عنده شيئا مما يأنس للإنسان أو يربى في البيوت كاللجأة والقرموط، وما أشبههما كان دليلا على الإحسان للأيتام والغرباء. فإن رأى أنه أخذ السمك من قاع البحر، فإنه ربما طالت يده في صناعته وحصل له رزق طائل، أو تعرض لأموال السلاطين، أو صار لصا أو جاسوسا، فإن انكشف البحر وتناول سمكا أو جوهرا اطلع على علم من غيب الله تعالى، باطلاع الله تعالى له، واتضح له الدين واهتدى إلى السبيل، وكانت عاقبة أمره في ذلك عقبى حسنة. فإن عاد السمك منه إلى البحر صحب الأولياء واطلع منهم على ما لم يطلع عليه أحد، وإن نوى سفرا وجد رفقة يوافقونه ويرتفق بهم ويرجع إلى مكانه سالما غانما والله أعلم. السمندل: بفتح السين والميم وبعد النون الساكنة دال مهملة ولا في آخره وسماه الجوهري السندل بغير ميم، وابن خلكان السمند بغير لام. وهو طائر يأكل البيش، وهو نبت بأرض الصين يؤكل وهو أخضر بتلك البلاد، فإذا يبس كان قوتا لهم ولم يضرهم فإذا بعد عن الصين، ولو مائة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 ذراع وأكله مات من ساعته. ومن عجيب أمر السمندل استلذاذه بالنار ومكثه فيها. وإذا اتسخ جلده لا يغسل إلا بالنار وكثيرا ما يوجد بالهند، وهي دابة دون الثعلب خلنجية اللون حمراء العين ذات ذنب طويل، ينسج من وبرها مناديل، إذا اتسخت ألقيت في النار فتنصلح ولا تحترق. وزعم آخرون أن السمندل طائر ببلاد الهند يبيض ويفرخ في النار، وهو بالخاصية لا تؤثر فيه النار ويعمل من ريشه مناديل تحمل إلى بلاد الشام. فإذا اتسخ بعضها، طرح في النار فتأكل النار وسخه الذي عليه ولا يحترق المنديل. قال ابن خلكان: ولقد رأيت منه قطعة ثخينة منسوجة على هيئة حزام الدابة، في طوله وعرضه فجعلوها في النار، فما عملت فيها شيئا فغمسوا أحد جوانبها في الزيت، ثم تركوه على فتيلة السراج فأشعل، وبقي زمانا طويلا مشتعلا، ثم أطفؤوه، فإذا هو على حاله ما تغير منه شيء. قال: ورأيت، بخط شيخنا العلامة عبد اللطيف بن يوسف البغدادي «1» ، أنه قال قدم للملك الظاهر ابن الملك الناصر صلاح الدين، صاحب حلب قطعة سمندل عرض ذراع في طول ذراعين فصاروا يغمسونها في الزيت، ويوقدونها حتى يفنى الزيت وترجع بيضاء كما كانت، ذكره في ترجمة يعقوب بن جابر المنجنيقي «2» ، مع زيادة أخرى وأبيات تأتي إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة في العنكبوت. وقال القزويني: السمندل نوع من الفأر يدخل النار وذكر كما تقدم والمعروف أنه طائر كما حكاه البكري في كتاب المسالك والممالك وغيره أيضا. الخواص : مرارته إذا سقى منها وزن دانق بماء الحمص المغلي المصفى، بلبن حليب مرارا كثيرة، من به السموم القاتلة، أبرأه منها. ودماغه، إذا اكتحل به، مع الإثمد، صاحب الماء النازل، أبرأه، ويحفظ الحدقة من سائر الداء. ودمه إذا طلي به على الوضح أي البرص غير لونه. ومن بلع شيئا من قلبه لا يسمع بعد ذلك شيئا إلا حفظه. ومرارته تنبت الشعر ولو على الراحة. السمّور: وهو بفتح السين وبالميم المشددة المضمومة، على وزن السفود والكلوب، حيوان بري يشبه السنور، وزعم بعض الناس أنه النمس، وإنما البقعة التي هو فيها هي التي أثرت في تغير لونه وقال عبد اللطيف البغدادي: إنه حيوان جريء ليس في الحيوان أجرأ منه على الإنسان، لا يؤخذ إلا بالحيل، وذلك بأن يدفن له جيفة فيغتال بها، ولحمه حار، والترك يأكلونه، وجلده لا يدبغ كسائر الجلود انتهى. ومن غريب ما وقع للنووي، في تهذيب الأسماء واللغات، أنه قال: السمور طائر، ولعله سبق قلم. وأعجب منه ما حكاه ابن هشام البستي، في شرح الفصيح، أنه ضرب من الجن، وخص هذا النوع، باتخاذ الفراء من جلوده، للينها وخفتها، ودفأتها وحسنها، ويلبسه الملوك والأكابر. قال مجاهد: رأيت على الشعبي قباء سمور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 وحكمه : حل الأكل الحاقا له بالثعلب، ولأنه لا يأكل شيئا من الخبائث. التعبير : هو في الرؤيا، يدل على رجل ظالم لص، لا يخالط أحدا والله أعلم. السّميطر: على مثال العميثل طائر طويل العنق جدا، يرى أبدا في الماء الضحضاح، يكنى بأبي العيزار، كذا قاله الجوهري. ويقال له الشبيطر، والظاهر أنه مالك الحزين، وهو البلشون كما تقدم، وسيأتي في باب الميم، إن شاء الله تعالى. السمندر والسميدر: دابة معروفة عند أهل الهند والصين قاله ابن سيده. سناد: قال القزويني: إنه حيوان على صفة الفيل، إلا أنه أصغر منه جثة وأعظم من الثور، وقيل: إن ولدها يخرج رأسه من فرج أمه ويرعى حتى يقوى، فإذا قوي خرج وهرب من الأم، مخافة أن تلحسه بلسانها، لأن لسانها مثل الشوك فإن وجدته لحسته حتى ينحاز لحمه عن عظمه وهو كثير ببلاد الهند. الحكم : يحرم أكله كالفيل. السنجاب: حيوان على حد اليربوع، أكبر من الفأر، وشعره في غاية النعومة، يتخذ من جلده الفراء، يلبسه المتنعمون. وهو شديد الحيل، إذا أبصر الانسان صعد الشجرة العالية، وفيها يأوي ومنها يأكل. وهو كثير ببلاد الصقالبة والترك، ومزاجه حار رطب، لسرعة حركته عن حركة الإنسان. وأحسن جلوده الأزرق الأملس وقد أحسن القائل: كلما ازرقّ لون جلدي من البر ... د تخيلت أنه سنجاب وحكمه : حل الأكل لأنه من الطيبات. وقال بتحريم أكله، القاضي من الحنابلة، وعلله بأنه ينهش الحيات، فأشبه الجرذ. واستدل الجمهور بأنه يشبه اليربوع، ومتى تردد بين الإباحة والتحريم غلبت الإباحة، لأنها الأصل وإذا ذكي السنجاب ذكاة شرعية، جاز لبس فرائه، وإن خنق ثم دبغ جلده، لم يطهر شعره على الأصح كسائر جلود الميتة، لأن الشعر لا يتأثر بالدباغ، وقيل: يطهر الشعر تبعا للجلد، وهي رواية الربيع الجيزي عن الشافعي، ولم ينقل عنه في المهذب سوى هذه المسألة. وهذا الوجه صححه الأستاذ أبو اسحاق الإسفراييني، والروياني، وابن أبي عصرون، واختاره السبكي وغيره، لأن الصحابة قسموا في زمن عمر رضي الله تعالى عنه الفراء المغنومة من الفرس، وهي ذبائح مجوس. وفي صحيح مسلم من حديث أبي الخير مرثد بن عبد الله البرني، قال: رأيت على ابن وعلة السبائي فروا فمسسته، فقال: ما لك تمسه! قد سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قلت له: إنا نكون بالمغرب، ومعنا البربر والمجوس، فيؤتى بالكبش، قد ذبحوه، ونحن لا نأكل ذبائحهم، ويأتون بالسقاء فيجعلون فيه الودك. فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «دباغه طهوره» «1» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الخواص : لحمه يطعم للمجنون يزول جنونه، ويأكله صاحب الأمراض السوداوية ينفعه. قال في المفردات: أسخان السنجاب قليل لأن الأغلب على مزاج حيوانه كثرة الرطوبة وقلة الحرارة، لاغتذائه بالفواكه، ولذلك يصلح لبسه للمحرورين والشباب لأنه يسخن إسخانا معتدلا. السنداوة: الذئبة. السنة: الذئبة أيضا. السندل: هو السمندل المتقدم ذكره قريبا، والسندل لقب عمرو بن قيس المكي وهو متروك الحديث وله في سنن ابن ماجه حديثان ضعيفان. السّنّور: بكسر السين المهملة وفتح النون المشددة، واحد السنانير، حيوان متواضع ألوف خلقه الله تعالى لدفع الفأر، وكنيته أبو خداش وأبو غزوان وأبو الهيثم وأبو شماخ، والأنثى أم شماخ. وله أسماء كثيرة. قيل: إن أعرابيا صاد سنورا فلم يعرفه، فتلقاه رجل فقال: ما هذا السنور؟ ولقي آخر فقال: ما هذا الهر؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا القط؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الضيون؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيدع؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيطل؟ ثم لقي آخر فقال: ما هذا الدم؟ فقال الأعرابي: أحمله وأبيعه لعل الله تعالى يجعل لي فيه مالا كثيرا فلما أتى به إلى السوق، قيل له: بكم هذا؟ فقال بمائة فقيل له: إنه يساوي نصف درهم، فرمى به وقال: لعنة الله، ما أكثر أسماءه وأقل ثمنه! وهذه الأسماء للذكر، قاله في الكفاية. وقال ابن قتيبة: يقال في الأنثى سنورة كما يقال في أنثى الضفادع ضفدعة انتهى. قلت: ولا يمتنع القياس في خيطلة وضيونة وقطة وخيدعة وهرة. روى الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم «يأتي دار قوم الأنصار، ودونهم دور لا يأتيها» . فشق عليهم ذلك، فكلموه فقال: «1» «إن في داركم كلبا» . قالوا: فإن في دارهم سنورا، فقال: السنور سبع. ثم قال: حديث صحيح. وروى نعيم بن حماد، في كتاب الفتن، عن أبي شريحة الغفاري، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «2» «يحشر رجلان من مزينة، هما آخر الناس حشرا، يقبلان من جبل قد توارى، حتى يأتيا معالم الناس، فيجدا الأرض وحوشا حتى يأتيا المدينة، فإذا بلغا أدنى المدينة قالا: أين الناس فلا يريان أحدا، فيقول أحدهما لصاحبه: الناس في دورهم فيدخلان الدور فإذا ليس فيها أحد، وإذا على الفرش الثعالب والسنانير، فيقول أحدهما لصاحبه: أين الناس فيقول: أراهم في الأسواق قد شغلهم البيع، فيخرجان حتى يأتيا الأسواق فلا يجدا فيها أحدا، فينطلقا حتى يأتيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 باب المدينة فإذا عليها ملكان فيأخذان بأرجلهما ويسحبانهما إلى أرض المحشر، فهما آخر الناس حشرا» . غريبة : قيل: كان لركن الدولة سنور يألف مجلسه، وكان بعض أصحابه، إذا أراد الاجتماع به فيعسر عليه ذلك، كتب حاجته في رقعة وعلقها في عنق السنور، فيراها ركن الدولة فيأخذ الرقعة ويقرؤها، ويكتب جوابها، عليها ثم يشدها في عنق السنور، فيرجع بها إلى صاحبها. وقيل: إن أهل سفينة نوح عليه السلام تأذوا من الفأر فمسح نوح عليه السلام جبهة الأسد فعطس، فرمى بالسنور فلذلك هو أشبه شيء بالأسد، بحيث لا يمكن أن يصور الهر إلا جاء أسدا، وهو ظريف لطيف يمسح بلعابه وجهه، وإذا تلطخ شيء من بدنه نظفه، وهو في آخر الشتاء تهيج شهوته، فيتألم ألما شديدا من لذع مادة النطفة فلا يزال يصيح حتى يلقي تلك المادة. وإذا جاعت الأنثى أكلت أولادها، وقيل: إنها تفعل ذلك لشدة محبتها لهم وأنشد «1» الجاحظ: جاءت مع الاشفين في هودج ... تزجى إلى النصرة أجنادها كأنها في فعلها هرة ... تريد أن تأكل أولادها معنى تزجي تسوق قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً «2» أي يسوق سحابا. وإذا بال السنور ستر بوله حتى لا يشم رائحته الفأر فيهرب، فيشمه أولا، فإذا وجد رائحته شديدة، غطاه بحيث يواري الرائحة والجرم، وإلا اكتفى بأيسر التغطية. قالوا: والفأرة تعرف رجيع السنور، وذكر الزمخشري أن الله تعالى ألهم الهرة ذلك، ليتنبه بذلك قاضي الحاجة من الناس فيغطي ما يخرج منه. وإذا ألف السنور منزلا، منع غيره من السنانير الدخول إلى ذلك المنزل، وحاربه أشد محاربة وهو من جنسه، علما منه بأن أربابه ربما استحسنوه وقدموه عليه، أو شاركوا بينه وبينه في المطعم، وإن أخذ شيئا مما يخزنه أصحاب المنزل عنه هرب علما منه بما يناله منهم من الضرب. وإذا طردوه تملقهم وتمسح بهم، علما منه بأنه يخلصه التملق ويحصل له العفو والإحسان. وقد جعل الله تعالى في قلب الفيل الفرق منه، فهو إذا رأى سنورا هرب. وحكي أن جماعة من أهل الهند هزموا بذلك. والسنور ثلاثة أنواع: أهلي، ووحشي، وسنور الزباد. وكل من الأهلي والوحشي له نفس غضوبة يفترس ويأكل اللحم الحي ويناسب الإنسان في أمور: منها أنه يعطس ويتثاءب ويتمطى ويتناول الشيء بيده، وتحمل الأنثى في السنة مرتين، ومدة حملها خمسون يوما. والوحشي حجمه أكبر من حجم الأهلي قال الجاحظ: قال العلماء: اتخاذ السنور وتربيته مستحبة. وذكر القزويني في الاشكال، عن ابن الفقيه، أن لبعض السنابير أجنحة كأجنحة الخفافيش من أصل الأذن إلى الذنب، فإن صح ذلك فالظاهر أنه كالسنور البري، عملا بالمشاكلة. وقال مجاهد: جاء رجل إلى شريح القاضي، يخاصم آخر في سنور فقال: بينتك؟ قال: ما أجد بينة في سنور ولدته أمه عندنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 فقال شريح: اذهبا به إلى أمه فإن استقرت واستمرت ودرت، فهو سنورك، وإن هي اقشعرت وازبأرت وهربت فليست بسنورك. الحكم : الأصح تحريم أكل السنور الأهلي والوحشي، لما روي في الحديث المتقدم، أنه سبع. وروى البيهقي وغيره، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «1» «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الهرة وأكل ثمنها» . وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وسنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع السنور» «2» . فقيل: محمول على الوحشي الذي لا نفع فيه. وقيل: نهي تنزيه حتى يعتاد الناس هبته وإعارته، كما هو الغالب فإن كان مما ينفع وباعه صح البيع، وكان ثمنه حلالا. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكى ابن المنذر، عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد أنه لا يجوز بيعه محتجين بهذا الحديث. وأجاب الجمهور عن الحديث، بأنه محمول على ما ذكرناه، وهذا هو المعتمد. وأما ما ذكره الخطابي وأبو عمر بن عبد البر، أن الحديث ضعيف، فليس كما قالا، بل الحديث صحيح كما تقدم. وقول ابن عبد البر لم يروه عن أبي الزبير غير حماد بن سلمة، غلط أيضا، لأن مسلما رواه في صحيحه من رواية معقل عن عبيد الله عن أبي الزبير، فهذان ثقتان روياه عن أبي الزبير، وهو ثقة. ورواه ابن ماجه عن ابن لهيعة عن أبي الزبير ولا يضره ذلك. وسيأتي في باب الهاء، إن شاء الله تعالى الإشارة إلى هذا أيضا، في لفظ الهرة، واختلفت الرواية عن الإمام أحمد في سنور البر، وأكثر الروايات على تحريمه كالثعلب. وبحله قال الحضرمي من أصحابنا، وهو مذهب مالك وأما الأهلي فحرام عند أبي حنيفة، ومالك وأحمد واختار البوشنجي من أصحابنا الحل والأصح تحريمه كما تقدم. الأمثال : قالوا «أثقف من سنور» «3» . والثقف الأخذ بسرعة. يقال: رجل ثقف لقف، أي سريع الاختطاف. وقالوا: «كأنه سنور عبد الله» يضرب لمن لا يزيد سنا، إلا زاد نقصانا وجهلا وفيه قال بشار بن برد الأعمى «4» : أبا مخلف مازلت نباح غمرة ... صغيرا فلما شبت خيمت بالشاطى «5» كسنور عبد الله بيع بدرهم ... صغيرا فلما شبّ بيع بقيراط لكنه مثل مولد ليس من كلام العرب. وقال ابن خلكان: ولقد كشفت عن سنور عبد الله المظان، وسألت عنه أهل المعرفة بهذا الشأن، فما عرفت له خبرا ولا عثرت له على أثر. ثم إني ظفرت بقول الفرزدق «6» : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 رأيت الناس يزدادون يوما ... فيوما في الجميل وأنت تنقص «1» كمثل الهرّ في صغر يغالى ... به حتى إذا ما شب يرخص ومن ههنا أخذ بشار قوله، وليس المراد منه هرا معينا، بل كل هر قيمته في صغره أكثر منها في كبره انتهى. الخواص : السنور الأهلي، من أكل لحم الأسود منه، لم يعمل فيه السحر. وطحاله، يشد على المستحاضة ينقطع حيضها. وعيناه، إذا جففتا وتبخر بهما إنسان لم يطلب حاجة إلا قضيت. ومن استصحب نابه لم يفزع بالليل، وقلبه، يشد في قطعة من جلده فمن استصحبه لم تظفر به الأعداء. ومرارته من اكتحل بها يرى في الليل، كما يرى في النهار، وتخلط بملح وكمون كرماني، ويطلى بها على الجروح والقروح الرديئة تبرأ. ودمه، إذا طلي به القضيب عند الجماع فإن المفعول به يحب الفاعل حبا شديدا. وإن سقي منه صاحب الجذام نفعه، وإن شرب منه انسان أحبته النساء. وزبله يسقط المشيمة بخوار. وقال القزويني: مرارة الأسود، ومرارة الدجاجة السوداء، إذا جففتا وسحقتا، واكتحل بهما مع الكحل ظهر له الجن، وخدموه. قال: وهو مجرب. ومرارة الأسود، إذا أخذ منها وزن نصف درهم، وديف بدهن زنبق، وسعط به صاحب اللقوة أبرأه ذلك. وأما البري، فمخه عجيب لوجع الكلى، ولعسر البول، إذا أذيب بماء الجرجير، وسخن بالنار وشرب على الريق في الحمام. ودماغه إذا دخن به أخرج المني من الرحم. قاله القزويني. ويأتي تعبيره إن شاء الله تعالى، في باب القاف في لفظ القط. وأما سنور الزباد ، فهو كالسنور الأهلي، لكنه أطول منه ذنبا، وأكبر جثة، ووبره إلى السواد أميل، وربما كان أنمر، ويجلب من بلاد الهند والسند. والزباد فيه شبيه بالوسخ الأسود اللزج، وهو زفر الرائحة يخالطه طيب كطيب المسك، يوجد في ابطيه، وفي باطن أفخاذه، وباطن ذنبه، وحوالي دبره، فيؤخذ من هذه الأماكن بملعقة صغيرة أو بدرهم رقيق. وقد تقدم في باب الزاي الكلام على شيء من هذا. وحكمه : تحريم الأكل على الصحيح، كالأهلي والوحشي وأما الزباد فهو طاهر، لكن قال الماوردي والروياني في آخر باب الغرر: ان الزباد لبن سنور في البحر يجلب كالمسك ريحا، واللبن بياضا، يستعمله أهل البحر طيبا، وهذا يقتضي كونه حلالا، فإن قلنا بنجاسة لبن ما لا يؤكل لحمه، ففي هذا وجهان: قال النووي: الصواب طهارته وصحة بيعه، لأن الصحيح أن جميع حيوان البحر طاهر يحل لحمه ولبنه، هذا بعد تسليم أنه حيوان بحري. والصواب أنه بري، فعلى هذا هو طاهر بلا خلاف، لكنهم قالوا: إنه يغلب فيه اختلاطه بما تساقط من شعره، فينبغي أن يحترز عما فيه شيء من شعره لأن الأصح نجاسة شعر ما لا يؤكل لحمه، إذا انفصل في حال حياته غير الآدمي. السنونو: بضم السين والنونين. الواحدة سنونة، وهو نوع من الخطاطيف، ولذلك سمي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 حجر اليرقان حجر السنونو، ولكن تصحف على صاحب عجائب المخلوقات، فقال: حجر الصنونو بالصاد، والصواب أنه بالسين المهملة نسبة إلى هذا النوع من الخطاطيف، وقد أجاد جمال الدين بن رواحة في تشبيه السنونو بقوله: وغريبة حنّت إلى وكر لها ... فأتت إليه في الزمان المقبل فرشت جناح الآبنوس وصفقت ... بالعاج ثم تقهقهت بالصّندل «1» وحكمه : تقدم في باب الخاء المعجمة في الخطاف. ومن خواصه : أن من أخذ عيني السنونة، وشدهما في خرقة وعلقهما على سرير، فمن صعد ذلك السرير لم ينم. وإذا بخر بعينها العصافير هربت، وإذا بخر بها صاحب الحمى برىء بإذن الله تعالى. السودانية والسوادية: طائر يأكل العنب. قاله ابن سيده. عجيبة : حكي أن بمدينة رومية، شجرة نحاس، عليها سودانية من نحاس، في منقارها زيتونة، فإذا كان وقت الزيتون، صفرت تلك السودانية فلا يبقى في تلك النواحي سودانية إلا جاءت، ومعها ثلاث زيتونات: في منقارها واحدة، وفي رجليها اثنتان، حتى تطرحهن على رأس السودانية التي من النحاس، فيعصر أهل رومية ما يحتاجون إليه من الزيت عامهم كله. قلت: الظاهر أن السودانية هي الزرزور، وقد تقدمت هذه الحكاية عن الشافعي رضي الله عنه، وهو يأكل العنب كثيرا. الخواص : لحم السودانيات بارد، يابس، رديء، لا سيما الهزيل، وأجوده صيد الأشراك، وهو يزيد في الإنعاظ لكنه يضر بالدماغ، وتدفع مضرته بالأمراق الرطبة وهو يولد خلطا حريفا يوافق الأمزجة الباردة والمشايخ، وأصلح ما أكل في الربيع، ويكره أكل لحمها لما تأكله من الحشرات والجراد، ولذلك صار في لحمها حدة وروائح كريهة، وهو أردأ من لحم القنابر. وروفس يرتب الطير ثلاث مراتب ويقول: أفضل الطير البري الرخ والشحرور والسماني ثم الحجل والدراج والطيهوج والشفنين وفرخ الحمام والفاخت ثم السلوى والقنابر. على أن القنابر بالدواء أشبه منها بالغذاء والله أعلم. السوذنيق: الصقر قاله في كفاية المتحفظ. السوس: دود يقع في الصوف والطعام. قاله الجوهري وغيره يقال طعام مسوس ومدود بكسر الواو فيهما قال الراجز: قد أطعمتني دقلا حوليا ... مسوسا مدودا حجريا وقال قتادة ومجاهد، في قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ «2» هو سوس الثياب، ودود الفاكهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «عن يمين العرش نهر من نور، مثل السموات السبع والأرضين السبع سبعين مرة، يدخله جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيه فيزداد نورا إلى نوره، وجمالا إلى جماله، وعظما إلى عظمه، ثم ينتفض فيخرج الله تعالى من كل ريشة سبعين ألف قطرة، فيخلق من كل قطرة سبعين ألف ملك، يدخل منهم كل يوم إلى البيت المعمور سبعون ألف ملك، وإلى الكعبة سبعون ألفا لا يعودون إلى يوم القيامة» . وقال الطبري: ما لا تعلمون ما أعد الله تعالى في الجنة لأهلها، مما لم تره عين، ولم تسمعه أذن، ولم يخطر على قلب بشر. روينا في بعض الأخبار، عن الحارث بن الحكم، قال: أنزل الله تعالى في بعض الكتب: أنا الله لا إله إلا أنا لولا أني قضيت بالنتن على الميت، لحبسه أهله في البيوت، وأنا الله لا إله إلا أنا مرخص الأسعار والبلاد مجدبة، وأنا الله لا إله إلا أنا مغلي الأسعار والأهراء ملأى، وأنا الله لا إله إلا أنا لولا أني قضيت بالسوس على الطعام، لخزنته الملوك، وأنا الله لا إله إلا أنا لولا أني أسكنت الأمل في القلوب، لأهلكها التفكر. ولما حرم عمرو بن هند على المتلمس «1» حب العراق قال «2» : آليت حبّ العراق الدهر أطعمه ... والحبّ يأكله في القرية السوس روى البيهقي، في شعبه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: من استطاع منكم أن يجعل كنزه في السماء حيث لا يناله اللصوص ولا يأكله السوس فليفعل فإن قلب كل امرىء عند كنزه. وحكى عن الشيخ العارف أبي العباس المرسي أن امرأة قالت له: كان عندنا قمح مسوس فطحناه فطحن السوس معه. وكان عندنا فول مسوس فدششناه فخرج السوس حيا فقال لها: صحبة الأكابر تورث السلامة. قلت: ويقرب من هذا، ما حكاه ابن عطية في تفسير سورة الكهف، أن والده حدثه عن أبي الفضل الجوهري الواعظ بمصر، أنه قال في مجلس وعظه: من صحب أهل الخير عادت عليه بركتهم، هذا كلب صحب قوما صالحين فكان من بركتهم عليه أن ذكره الله تعالى في القرآن ولا يزال يتلى على الألسنة أبدا. ولذلك قيل: من جالس الذاكرين انتبه من غفلته، ومن خدم الصالحين ارتفع بخدمته. ومن الفوائد المستغربة ، ما أخبرني به بعض أهل الخير أن أسماء الفقهاء السبعة، الذين كانوا بالمدينة الشريفة، إذا كتبت في رقعة وجعلت في القمح فإنه لا يسوس، ما دامت الرقعة فيه، وهم مجموعون في قول «3» الأول: ألا كلّ من لا يقتدي بأيمة ... فقسمته ضيزى عن الحق خارجه فخذهم عبيد الله عروة قاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجه وأفادني بعض أهل التحقيق، أن أسماءهم إذا كتبت وعلقت على الرأس، أو ذكرت عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 أزالت الصداع العارض له وقد تقدم في باب الجيم في الجراد ذكر الآيات التي تنفع للصداع. وأفادني بعض أهل العلم، أن هذه الأسماء إذا كتبت في رقعة وعلقت على الرأس، أذهبت الصداع والشقيقة. وهي: بسم الله الرحمن الرحيم اهدأ عليه يا رأس، بحق من خلق فيك الأسنان والأضراس، وكتبه الكتبة بلا قلم ولا قرطاس، قر بقرار الله، اسكن واهدأ بهدء الله، بحرمة محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً «1» أسكن أيها الوجع والصداع والشقيقة والضربان، عن حامل هذه الأسماء، كما سكن عرش الرحمن، وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «2» وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «3» وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم. ومما جرب : لإذهاب السوس والفراش ما أفادنيه بعض أئمة الإمامية أن يكتب على خشب الغار هذه الأسماء في الظل بحيث لا تراه الشمس أبدا لا وقت الكتابة ولا وقت الذهاب بها ثم تدفن الخشبة في القمح أو الشعير، فإنه لا يسوس ولا يفرش. وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: موتوا فماتوا كذلك يموت الفراش والسوس ويرحل بإذن الله تعالى، اخرج أيها السوس والفراش بإذن الله تعالى عاجلا، وإلا خرجت من ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ويشهد عليك أنك سرقت لجام بغلة نبي الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام. وهو عجيب مجرب. الحكم : يحرم أكله منفردا لأنه نوع من الدود. الأمثال : قالوا: «العيال سوس المال» وقالوا: «آكل من سوسة» «4» . وقيل لخالد بن صفوان بن الأهيم: كيف ابنك؟ قال: سيد فتيان قومه ظرفا وأدبا. فقيل له: كم ترزقه كل يوم؟ فقال: درهما. فقيل له: وأين يقع منه ثلاثون درهما في كل شهر وأنت تستغل ثلاثين ألفا؟ فقال: الثلاثون درهما أسرع في هلاك المال من السوس في الصوف بالصيف. فحكى كلامه للحسن البصري فقال: أشهد أن خالدا تميمي وإنما قال الحسن ذلك لأن بني تميم مشهورون بالبخل والنهم. وهو في الرؤيا كالدود فليراجع هناك. السّيد: بكسر السين وإسكان الياء المثناة من تحت، من أسماء الذئب وبه سمي جد أبي محمد عبد الله ابن محمد بن السيد البطليوسي اللغوي النحوي صاحب التصانيف المفيدة، والمحاسن العديدة، مولده سنة أربع وأربعين وأربعمائة بمدينة بطليوس، وتوفي في رجب سنة إحدى وعشرين وخمسمائة. السّيدة: بكسر السين وبالدال المهملتين واسكان الياء المثناة من تحت، وبالهاء في آخره: الذئبة وإليها ينسب الإمام العلامة الحافظ النحوي اللغوي المحقق أبو الحسن علي بن اسماعيل بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 سيده المرسي، وكان إماما في اللغة وفي الغريب حافظا لهما، وجمع في ذلك كتابه المحكم والمخصص وغير ذلك، وكان ضريرا وأبوه كذلك. توفي في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وعمره ستون سنة. سيفنة: كهيمنة، قال ابن السمعاني في الأنساب: إنه طائر بمصر يلقي أوراق الأشجار عنها، حتى لا يبقي منها شيئا شبه به أبو اسحاق إبراهيم ابن حسن بن علي الهمداني سيفنة من أكابر المحدثين، لأنه كان إذا ظفر بمحدث سمع جميع ما عنده حتى لا يبقى شيئا من حديثه. أبو سيراس: قال القزويني في الأشكال: إنه حيوان يوجد في الغياض تكامل في قصبة أنفه اثنتا عشرة ثقبة، إذا تنفس يسمع من أنفه صوت كصوت المزامير، والحيوانات تجتمع عليه لاستماع ذلك الصوت فإذا دهش بعضها لذلك، يصيده فيأكله فإن لم يتهيأ له صيد شيء منها وضجر، صاح صيحة هائلة فتتفرق الحيوانات وتفر عنه والله أعلم. باب الشين المعجمة الشادن: بكسر الدال المهملة: الظبي الذكر الذي طلع قرناه وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الظاء المعجمة. شادهوار: حيوان يوجد بأقصى بلاد الروم. قال القزويني في الأشكال: له قرن عليه اثنتان وسبعون شعبة مجوفة، فإذا هبت الريح سمع لها أصوات حسنة، فتجتمع بسبب ذلك الحيوانات إليه لسماع صوته. ذكر أن بعض الملوك أهدي له قرن منه، فترك بين يديه عند هبوب الرياح فكان يخرج منه صوت عجيب مطرب يكاد يدهش الإنسان من سماعه ثم وضع منكوسا فكان يخرج منه صوت محزن حتى يكاد يغلب الإنسان البكاء. الشارف: المسنة من النوق والجمع شرف مثل بازل وبزل وعائذ وعوذ ومنه حديث علي رضي الله تعالى عنه أنه قال «1» : «كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس يومئذ فلما أردت أن أبني بفاطمة رضي الله تعالى عنها، واعدت رجلا صواغا من بني قينقاع أن يرتحل معي، فيأتي باذخر أردت أن أبيعه من الصواغين، فاستعين به في وليمة عرسي، فبينما أنا أجمع لشارفي متاعا من الأقتاب والغرائر والحبائل، وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، فرجعت حين جمعت ما جمعت، فإذا شارفاي قد أجبت أسنمتهما وبقرت خواصر هما وأخذ من أكبادهما، فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر منهما. فقلت: من فعل هذا؟ فقالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، وهو في هذا المكان في هذا البيت في شرب من الأنصار غنته قينة بين أصحابه فقالت: ألا يا حمز للشرف النواء ... وهنّ معقلات بالفناء ضع السكين في اللبات منها ... وضرجهن حمزة بالدماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وعجل من أطايبها لشرب ... طعاما من قديد أو شواء فأنت أبو عمارة المرجى ... لكشف الضرّ عنا والبلاء» وبقية الحديث مشهورة، رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وهو حجة على إباحة كل ما ذبحه غير المالك تعديا كالغاصب والسارق وهو قول جمهور العلماء. وخالف في ذلك سحنون وداود وعكرمة فقالوا: لا يؤكل، وهو قول شاذ. وحجة الجمهور أن الزكاة وقعت من المتعدي على شروطها الخاصة، وتعلق بذمته قيمة الذبيحة فلا موجب للمنع. وهذا الفعل إنما كان من حمزة رضي الله تعالى عنه قبل تحريم الخمر، لأنه قتل يوم أحد وكان تحريمها بعد ذلك فكان معذورا في قوله غير مؤاخذ به، وكان شربه الذي دعاه إليه مباحا كالنائم والمغمى عليه، فلما حرمت الخمر صار شاربها مؤاخذا بشربها محدودا فيها. الشاة: الواحدة من الغنم، تقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، وأصلها شاهة، لأن تصغيرها شويهة، والجمع شياه بالهاء في أدنى العدد. تقول ثلاث شياء إلى العشر، فإذا جاوزت العشرة فبالتاء، فإذا كثرت قلت: هذه شاء كثيرة. والشاة أيضا الثور الوحشي والنسبة إلى الشاء شاوي قال الشاعر: لا ينفع الشاوي فيها شاته ... ولا حماراه ولا غلاته وفي الكامل لابن عدي في ترجمة خارجة بن عبد الله بن سليمان، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له شاة ولا يصيب جاره من لبنها أو مسكين فليذبحها أو ليبعها» «1» . ومما تواتر من حكمة لقمان وهو لقمان بن عنقاء بن بيرون وكان نوبيا من أهل ايلة، أن سيده أعطاه شاة وأمره أن يذبحها، ويأتيه بأطيب ما فيها، فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها. ثم أعطاه في يوم آخر شاة أخرى وأمره أن يذبحها ويأتيه بأخبث ما فيها فذبحها وأتاه بقلبها ولسانها. فسأله عن ذلك. فقال: هما أطيب ما فيها إن طابا، وأخبث ما فيها إن خبثا. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجسد مضغة إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» «2» . ويقال إن سيده دخل الخلاء يوما، فأطال الجلوس فناداه: لا تطل الجلوس على الخلاء، فإنه ينخع الكبد، ويورث البواسير، ويميت القلب. ومن وصيته لابنه، واسمه ثاران، وقيل غير ذلك: يا بني كن على حذر من اللئيم إذا أكرمته، ومن الكريم إذا أهنته، ومن العاقل إذا هجوته، ومن الأحمق إذا مازحته، ومن الجاهل إذا صاحبته، ومن الفاجر إذا خاصمته، وتمام المعروف تعجيله. يا بني ثلاثة أشياء تحسن بالإنسان: حسن المحضر، واحتمال الإخوان، وقلة الملل للصديق. وأول الغضب جنون وآخره ندم. يا بني ثلاثة فيهم الرشد: مشاورة الناصح، ومداراة العدو والحاسد، والتحبب لكل أحد. يا بني المغرور من وثق بثلاثة أشياء: الذي يصدق ما لا يراه، ويركن إلى من لا يثق به، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 ويطمع فيما لا يناله. يا بني احذر الحسد، فإنه يفسد الدين، ويضعف النفس، ويعقب الندم. يا بني إذا خدمت واليا فلا تنم إليه بأحد، فإنه لا يزيده ذلك منك إلا نفورا، فإنه إذا سمع منك في غيرك فإنه لا بد أن يسمع من غيرك فيك، ويكون قلبه خائفا منك أن تنم عليه كما نميت إليه بغيره، ولا يزال محترسا منك. وكن يا بني أقرب الناس إليه عند فرحه، وأبعدهم منه عند غضبه، وإن ائتمنك فلا تخنه، وإن أنالك يسيرا، فخذه واقبله فتبلغ به أن تنال كثيرا. وأكرم خدمه والطف بأصحابه، وغض طرفك عن محارمه، وأصم أذنك عن مجاوبته، وأقصر لسانك عن حديثه واكتم في المجالس سره، واتبع باللطف هواه، وناصح في خدمته، واجمع عقلك في مخاطبته، ولا تأمن الدهر من غضبه، فإنه ليس بينك وبينه نسب. والغضب يسرع إليه في كل وقت، ووثبته كوثبة الأسد. يا بني كتمان السر صيانة للعرض. يا بني إن ردت أن تقوى على الحكمة فلا تملك نفسك للنساء، فإن المرأة حرب ليس فيها صلح، وهي إن أحبتك أكلتك، وإن أبغضتك أهلتك. وفي كتاب ربيع الأبرار للزمخشري، ورحلة ابن الصلاح، التي بخطه، قال الحسن البصري «1» : لو وجدت رغيفا من حلال، لأحرقته ثم دققته ثم داويت به المرضى. ثم قال: اختلطت غنم البادية بغنم أهل الكوفة. فسأل أبو حنيفة كم تعيش الشاة؟ قالوا: سبع سنين، فترك أكل لحم الغنم سبع سنين. وأنشد المبرد: ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلا عصاه الحياء والكرم فلا إلى حرمة مددت يدي ... ولا مشت بي لريبة قدم وفي تاريخ ابن خلكان، أن هشام بن عبد الملك بعث إلى الأعمش «2» ، أن اكتب إلي بمناقب عثمان ومساوي علي رضي الله تعالى عنهما، فأخذ الأعمش القرطاس وأدخله في فم شاة، فلاكته وقال للرسول: قل له هذا جوابه. فذهب الرسول ثم عاد، وقال: إنه آلى أن يقتلني إن لم آته بالجواب، وتحيل عليه بإخوته، فقالوا له: افده من القتل، فلما ألحوا عليه، كتب: أما بعد فلو كان لعثمان مناقب أهل الأرض، ما نفعتك، ولو كان لعلي مساوي أهل الأرض، ما ضرتك، فعليك بخوصية نفسك والسلام. والأعمش اسمه سليمان بن مهران من أعلام التابعين، رأى أنس بن مالك وأبا بكرة الثقفي وأخذ بركابه فقال له: يا بني، إنما أكرمت ربك. وكان لطيف الخلق مزاحا ولم تفته التكبيرة الأولى سبعين سنة، وله نوادر، منها أنه كان له زوجة وكانت من أجمل نساء الكوفة، فجرى بينهما كلام، وكان الأعمش قبيح المنظر، فجاءه رجل يقال له أبو البلاد يطلب الحديث منه، فقال له: إن امرأتي نشزت عليّ، فادخل عليها وأخبرها بمكاني من الناس، فدخل عليها وقال: إن الله تبارك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وتعالى قد أحسن قسمتك، هذا شيخنا وسيدنا وعنه نأخذ أصل ديننا، وحلالنا وحرامنا، فلا يغرنك عموشة عينيه ولا خموشة ساقيه. فغضب الأعمش وقال له: يا خبيث أعمى الله قلبك، قد أخبرتها بعيوبي ثم أخرجه من بيته. ومنها أن إبراهيم النخعي أراد أن يماشيه فقال له الأعمش: إن رآنا الناس معا قالوا: أعور وأعمش! فقال النخعي: وما عليك أن يأثموا ونؤجر! فقال له الأعمش: وما عليك أن يسلموا ونسلم. ومنها أنه جلس يوما في موضع فيه خليج من ماء المطر، وعليه فروة خلقة، فجاءه رجل وقال: قم عدني هذا الخليج وجذب بيده، فأقامه وركبه، وقال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ «1» ، فمضى به الأعمش حتى توسط الخليج ورمى به، وقال: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ «2» ، ثم خرج وتركه يتخبط في الماء. ومنها أن رجلا جاء إلى الأعمش يطلبه، فقيل له: خرج مع امرأة إلى المسجد، فجاءه فوجدهما في الطريق، فقال أيكما: الأعمش؟ فقال الأعمش: هذه وأشار إلى المرأة. ومنه أنه عاده أقوام في مرضه، فأطالوا الجلوس عنده، فأخذ وسادته وقام ثم قال: شفى الله مريضكم فانصرفوا. ومنها أنه ذكر عنده يوما قوله «3» صلى الله عليه وسلم: «من نام عن قيام الليل بال الشيطان في أذنه» . فقال: ما عمشت عيناي إلا من بول الشيطان في أذني. وكتب «4» إلى بعض إخوانه يعزيه: إنا نعزيك لا أنا على ثقة ... من البقاء ولكن سنة الدين فلا المعزّى بباق بعد ميته ... ولا المعزّي وإن عاشا إلى حين توفي رحمه الله سنة سبع وقيل ثمان وقبل تسع وأربعين ومائة. وفيه أيضا أنه لما ولي عبد الله بن الزبير الخلافة بمكة، ولى أخاه مصعب بن الزبير المدينة، وأخرج منها مروان بن الحكم وابنه، فصار إلى الشام ولم يزل يقيم للناس الحج من سنة أربع وستين إلى سنة اثنتين وسبعين، فلما ولي عبد الملك بن مروان منع أهل الشام من الحج من أجل ابن الزبير، لأنه كان يأخذ الناس بالبيعة له إذا حجوا، فضج الناس لما منعوا من الحج، فبنى عبد الملك قبة الصخرة فكان الناس يقفون عندها يوم عرفة. ويقال: إن ذلك كان سبب التعريف في بيت المقدس ومساجد الأمصار. وقيل: إن أول من سن التعريف بالبصرة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وبمصر عبد العزيز بن مروان، وببيت المقدس عبد الملك بن مروان. ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير، وأراد الرجوع، قام إليه الحجاج فقال: إني رأيت في منامي أني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فولني قتاله. فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، فحصر ابن الزبير، ورمى الكعبة بالمنجنيق. فلما رمى به أرعدت السماء وأبرقت فخاف أهل الشام، فصاح الحجاج هذه صواعق تهامة، وأنا ابنها، ثم قام ورمى بنفسه فزاد ذلك وجاءت صاعقة تتبعها أخرى فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا، وزاد خوف أهل الشام، فلما أصبحوا صعقت السماء فقتلت بعض أصحاب ابن الزبير، فقال الحجاج لأصحابه: اثبتوا فإنه مصيبهم ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 أصابكم، ولم يزل يرميها بالمنجنيق حتى هدمها. ورموها بكيزان النفط فاحترقت الستائر حتى صارت رمادا، وأن ابن الزبير قال لأمه: إني لا آمن إن قتلت أن يمثل بي وأصلب، فقالت له: يا ولدي إن الشاة، إذا ذبحت لم تتألم بالسلخ، فودعها وخرج من عندها. فحمل عليهم حتى ردهم على أعقابهم. فرمي بآجرة فأدمت وجهه فلما وجد سخونة الدم على وجهه أنشد قائلا: ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما «1» وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونة، وكانت رأته حينها: وا أمير المؤمنيناه! وأشارت إليه. وقتل رضي الله تعالى عنه في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين. وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وجاء هو وطارق، فوقفا عليه فقال طارق: ما ولدت النساء اذكر من هذا فقال الحجاج: أتمدح من خالف طاعة أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا ولولا هذا ما كان لنا عذر، وإنا لمحاصروه وهو في غير حصن ولا منعة منذ ثمانية أشهر ينتصف منا، بل يفضل علينا كلما التقينا. فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوب رأي طارق. ثم بعث الحجاج برأس ابن الزبير وجماعة إلى عبد الملك، فبعث عبد الملك برأس ابن الزبير إلى عبد الله بن حازم الأسلمي، وهو وال بخراسان من جهة ابن الزبير ودعاه إلى طاعته، على أن يجعل له خراسان طعمة سبع سنين فقال ابن حازم للرسول: لولا أن الرسل لا تقتل لأمرت بضرب عنقك، ولكن كل كتاب صاحبك فأكله. ثم أخذ الرأس فغسله وطيبه وكفنه ودفنه. وقيل: إنه بعث به إلى آل الزبير بالمدينة فدفنوه مع جثته بالمدينة. وماتت أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم بالمدينة بعده بخمسة أيام ولها مائة سنة. وذكر الحافظ ابن عبد البر أن الكعبة رميت بالمنجنيق مرة أخرى، حين حصرها مسلم بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، في أيام يزيد بن معاوية، في وقعة الحرة فمات يزيد ورجع مسلم إلى الشام. غريبة : قال محمد بن عبد الرحمن الهاشمي: دخلت على أمي، يوم عيد الأضحى، فرأيت عندها امرأة في أثواب دنسة، فقالت لي أمي: أتعرف هذه؟ قلت: لا. قالت: هذه عتابة أم جعفر بن يحيى البرمكي فسلمت عليها، وقلت لها: حدثيني ببعض أمركم، فقالت: أذكر لك جملة فيها عبرة لمن اعتبر، لقد هجم عليّ مثل هذا اليوم، يوم العيد، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة وأنا أزعم أن ابني جعفرا عاق لي، وقد أتيتكم اليوم أسألكم جلدي شاتين، أجعل أحدهما شعارا والآخر دثارا. قال: فدفعت إليها خمسمائة درهم، ولم تزل تتردد إلينا حتى فرق الموت بيننا. وسيأتي إن شاء الله تعالى، ذكر قتل جعفر في باب العين المهملة في العقاب. وفي سنن ابن ماجه وكامل بن عدي، في ترجمة أبي زر بن عبد الله، من حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «الشاة من دواب الجنة» . وفي الاستيعاب، للحافظ أبي عمر بن عبد البر، في ترجمة أبي رجاء العطاردي، أن العرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 كانوا يأتون بالشاة البيضاء فيعبدونها، فيجيء الذئب فيأخذها، فيأخذون أخرى مكانها. وفي سنن البيهقي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يكره من الشاة، إذا ذبحت، سبعا: الذكر والأنثيين والدم والمرارة والحياء والعذرة والمثانة «1» » . قال: «وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمها» . وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: كان عندي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت شاة فأخذت قرصا تحت دن لنا، فقمت إليها، فأخذته من بين لحييها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كان ينبغي لك أن تعنقيها» ، أي تأخذي بعنقها وتعصريها. وروى مسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: كان بين مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الحائط ممر الشاة. قلت: وهذا يدل على استحباب القرب من السترة كما جاء عنه أيضا صلى الله عليه وسلم: «إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لئلا يقطع الشيطان عليه صلاته» «2» . رواه أبو داود، ولا يعارض حديث ممر الشاة بحديث «صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة بينه وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع» . وهو الذي يمكن المصلي أن يدرأ من يمر به، إذ حمل بعضهم حديث ممر الشاة، على ما إذا كان قائما، وحديث الثلاثة أذرع على ما إذا ركع أو سجد. ولم يذكر مالك في ذلك حدا، وقدر بعضهم ممر الشاة بقدر شبر. وقد تقدم، في البهيمة والجدي، شيء من هذا. فائدة : في سنن أبي داود، وغيرها أن النبي صلى الله عليه وسلم، أهدت له يهودية بخيبر، شاة مصلية سمتها، فأكل منها وأكل معه رهط من أصحابه، فمات بشر بن البراء بن معرور، فأرسل إلى اليهودية وقال: «ما حملك على ما صنعت؟» قالت: قلت إن كان نبيا فلن يضره، وإن لم يكن نبيا استرحنا منه. «فأمر صلى الله عليه وسلم بها فقتلت» . كذا رواه وهو مرسل، فإن الزهري لم يسمع من جابر شيئا. والمحفوظ، أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: ألا تقتلها؟ فقال: «لا» . كذا «3» رواه البخاري ومسلم، وجمع البيهقي بينهما، بأنه لم يقتلها في الابتداء، فلما مات بشر أمر بقتلها، وهي زينب بنت الحارث ابن سلام. وقال ابن اسحاق: إنها أخت مرحب اليهودي. وروى معمر بن راشد عن الزهري أنها أسلمت. وروى الترمذي عن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «بعثه ليشتري له أضحية بدينار، فاشترى أضحية فأربح فيها دينارا، فاشترى أخرى مكانها وجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحى بالشاة وتصدق بالدينار» «4» . وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم، أعطى عروة بن الجعد، وقيل: ابن أبي الجعد البارقي دينارا ليشتري به شاة، فاشترى شاتين، فباع احداهما بدينار، وجاء بشاة ودينار. وذكر ما كان من أمره. فقال: «بارك الله لك في صفقة يمينك» . فكان يخرج بعد ذلك إلى كناسة البصرة فيربح الربح العظيم حتى صار من أكثر أهل الكوفة مالا. قال شبيب بن غرقدة: رأيت في دار عروة البارقي سبعين فرسا مربوطة للجهاد في سبيل الله تعالى. وروى عروة بن أبي الجعد، عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر حديثا وهو أول من قضى بالكوفة، استعمله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على قضائها قبل شريح. عجيبة : روى ابن عدي، عن حسن بن واقد القصاب، أن أبا جعفر البصري، وكان من أهل الخير والصلاح، قال: اضجعت شاة لأذبحها فمر أيوب السختياني «1» فألقيت الشفرة، وقمت معه أتحدث، فوثبت الشاة فحفرت في أصل الحائط، ودحرجت الشفرة فألقتها في الحفرة، وألقت عليها التراب. فقال لي أيوب: أما ترى أما ترى؟ فجعلت على نفسي أن لا أذبح شيئا بعد ذلك اليوم. فائدة أخرى : كان أبو محمد عبد الله بن يحيى بن أبي الهيثم المصعبي، من أصحاب الشافعي، إماما صالحا عالما من أهل اليمن، من أقران صاحب البيان. ومن تصانيفه: احترازات المذهب والتعريف في الفقه، روى أن ناسا ضربوه بالسيوف، فلم تقطع سيوفهم فيه، فسئل عن ذلك فقال: كنت أقرأ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ «2» وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً «3» إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ «4» فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «5» لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «6» إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «7» وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ «8» وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً «9» وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ «10» وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ «11» وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ «12» اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ «13» وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ «14» إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «15» إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ، هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «16» . ثم قال: كنت خرجت يوما في جماعة، فرأينا ذئبا يلاعب شاة عجفاء ولا يضرها شيئا، فلما دنونا منهما نفر منا الذئب، فتقدمنا إلى الشاة، فوجدنا في عنقها كتابا مربوطا فيه هذه الآيات. توفي المصعبي سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وقال الحافظ أبو زرعة الرازي: وقعت النار بجرجان فاحترق فيها تسعة آلاف بيت، وجدوا فيها تسعة آلاف مصحف قد احترقت، إلا هذه الآيات لم تحترق، في كل مصحف، وهي: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* «1» وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ* «2» وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ «3» وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «4» وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «5» تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى، الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى «6» يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «7» ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «8» وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ «9» وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ «10» . قال: فما وضعت هذه الآيات في متاع أو بيت أو حانوت أو غير ذلك إلا حفظه الله تعالى. قلت: وهي نافعة مجربة. وروى الثعلبي وابن عطية والقرطبي وغيرهم، عن سالم بن أبي الجعد، قال: احترق لنا مصحف فلم يبق فيه إلا قوله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «11» . وغرق لنا مصحف فانمحى كل شيء فيه إلا هذه الآية. وحدثنا شيخنا الإمام العارف بالله عبد الله بن أسعد اليافعي رحمه الله تعالى قال: بلغني عن سيدنا العارف الإمام أبي عبد الله محمد القرشي عن شيخه أبي الربيع المالقي أنه قال له: ألا أعلمك كنزا تنفق منه ولا ينفد؟ قلت: بلى. قال: قل يا الله يا أحد يا واحد يا موجود يا جواد يا باسط يا كريم يا وهاب يا ذا الطّول يا غني يا مغني يا فتاح يا رزاق يا عليم يا حكيم يا حي يا قيوم يا رحمن يا رحيم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والاكرام يا حنان يا منان، انفحني منك بنفحة خير تغنيني بها عمن سواك إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ «12» إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً «13» نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ «14» اللهم يا غني يا حميد، يا مبدىء يا معيد، يا ودود يا ذا العرش المجيد، يا فعالا لما يريد، اكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمن سواك، واحفظني بما حفظت به الذكر، وانصرني بما نصرت به الرسل، إنك على كل شيء قدير. قال: فمن داوم على قراءته بعد كل صلاة، خصوصا صلاة الجمعة، حفظه الله من كل مخوف، ونصره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 على أعدائه وأغناه ورزقه من حيث لا يحتسب، ويسر عليه معيشته، وقضى عنه دينه ولو كان عليه مثل الجبال دينا، أداه الله تعالى عنه بمنه وكرمه. وروى ابن عدي عن عبد الرحمن القرشي، قال: حدثنا محمد بن زياد بن معروف حدثنا جعفر بن حسن عن أبيه قال: حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سألت الله تعالى الإسم الأعظم فجاءني جبريل عليه السلام به مخزونا مختوما، وهو: اللهم إني أسألك باسمك الأعظم المكنون الطهر الطاهر المطهر المقدس المبارك الحي القيوم» «1» . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: بأبي أنت وأمي يا نبي الله علمنيه. فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة نهينا عن تعليمه النساء والصبيان والسفهاء. فائدة أخرى : روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه قال: بينما عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام، سائران إذ رأيا شاة وحشية ماخضا، فقال عيسى ليحيى: قل تلك الكلمات: حنة ولدت يحيى، ومريم ولدت عيسى، الأرض تدعوك يا ولد، أخرج يا ولد. قال حماد بن زيد: فما يكون في الحي امرأة ماخض، فيقال هذا عندها فلا تبرح حتى تضع بإذن الله تعالى. ويحيى أول من آمن بعيسى وصدقه وكانا ابني خالة، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ثم قتل يحيى قبل رفع عيسى عليه السلام. وعن يونس بن عبيد أنه قال: ما قال العبد: اللهم أنت عدتي في كربتي، وأنت صاحبي في غربتي، وأنت حفيظي عند شدتي، وأنت ولي نعمتي، عند النفساء أو البهيمة الماخض، إلا يسر الله عليها وضع الولد. قال بعض الحكم اء: من خصائص الزبد البحري، أنه إذا علق على ذات طلق، سهل الله عليها الولادة. وكذلك قشر البيض إذا سحق ناعما، وشرب بماء فإنه يسهل الولادة، وقد جرب مرارا عديدة فصح. وقد ورد في الحديث «مثل المؤمن كالشاة المأبورة» ، أي التي أكلت الإبرة في علفها فنشبت في جوفها، فهي لا تأكل شيئا وإن أكلت لم ينجع فيها. وفيه أيضا «مثل المنافق كالشاة الرابضة بين غنمين» أراد أنها مذبذبة بين قطيعين من الغنم، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء. والرابضة أيضا ملائكة أهبطوا مع آدم عليه الصلاة والسلام يهدون الضال ولعله من الإقامة وقال الجوهري: الرابضة حملة الحجة لا تخلو منهم الأرض. الحكم : يحل أكلها بالإجماع، وإن أوصى بشاة تناول صغيرة الجثة وكبيرتها، سليمة ومعيبة، ضأنا ومعزا، لصدق الاسم على الجميع. فرع : ومن أحكامها في الأضحية، أن الأضحية سنة غير واجبة ولا تصح إلا من النعم، ولا يجزىء من الضأن إلا الجذعة وهي ما لها سنة تامة وشرعت في الثانية على الأصح عند أصحابنا كما تقدم، في باب الجيم، في الجذعة. ومن المعز إلا الثنية، وهي التي شرعت في السنة الثالثة. ويشترط أن تكون سليمة من كل عيب يضر باللحم، فلا تجزىء العجفاء، ولا العوراء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 ولا المريضة، ولا العرجاء، ولا الجرباء، ولا مكسورة القرن، ولا مقطوعة الأذن، ولا التي لم يخلق لها أذن، وفي مشقوقة الأذن وجهان: قاله في العباب، وإذا لم تجزىء العوراء، فالعمياء أولى. وأما العمش وضعف البصر، من إحدى العينين، أو كلتيهما، فلا يمنع الإجزاء وقال الروياني: إن غطى على الناظر بياض وأذهب بعضه دون بعض، فإن ذهب الأكثر لم تجز التضحية بها، وإن ذهب الأقل، جازت. وفي العشواء، وهي التي تبصر نهارا لا ليلا، وجهان: الأصح الإجزاء. وقد ورد النهي عن التولاء، وهي المجنونة، وهي التي تستدبر المرعى ولا ترعى إلا قليلا. فتهزل. وأما مقطوعة الأذن فينظر فإن لم يبن منها شيء بل بقي طرفها متدليا، لم يمنع على الأصح. وقال القفال: إنها لا تجزىء. وإن أبين فإن كان كثيرا بالإضافة إلى الأذن فإنها لا تجزىء قطعا، وإن كان يسيرا فلا تجزىء على الأصح، لفوات جزء مأكول. قال الإمام: وأقرب ضبط بين القليل والكثير، أنه إن لاح النقص من البعد فكثير، وإلا فقليل. وقال أبو حنيفة: إن كان المقطوع دون الثلث، لا يمنع الإجزاء ولا يضر الكي وقيل: وجهان. وتجزىء صغيرة الأذن، ولا تجزىء التي أخذ الذئب مقدارا بينا من فخذها. والمقطوعة الألية لا تجزىء على المذهب وتجزىء الشاة التي خلقت بلا ضرع، أو بلا ألية على الأصح. وقطع بعض الألية والضرع، كقطع كليهما. ولا تجزىء مقطوعة اللسان، والأصح إجزاء المجبوب والخصي، وشذ ابن كج، فحكى في الخصي قولين: وجعل الجديد عدم الإجزاء. وتجزىء التي لا قرن لها، والمكسورة القرن سواء اندمل أم لا على الأصح وجزم المحاملي، في اللباب، بعدم الإجزاء كما تقدم. قال القفال: إلا أن يؤثر ألم الانكسار في اللحم، فيكون كالجرب وذات القرن أفضل. وتجزىء التي ذهب بعض أسنانها. فائدة : قال الجوهري: الأضحية فيها أربع لغات أضحية وأضحية بضم الهمزة وكسرها، والجمع أضاحي، وضحية والجمع ضحايا، وأضحاة كأرطاة والجمع أضحى كأرطى، بها سمي يوم الأضحى. فرع : النية شرط في الأضحية ويجوز تقديمها على الذبح في الأصح، ولو قال: جعلت هذه الشاة أضحية، فهل يكفي التعيين والقصد دون نية الذبح؟ وجهان أصحهما لا، لأن الأضحية سنة كما تقدم، وهي قربة في نفسها فوجبت النية فيها. واختار الإمام والغزالي الاكتفاء، وإذا قلنا بالاكتفاء فالمستحب تجديد النية. فرع : يستحب للمضحي أن يذبح بيده، ويجوز أن يفوض ذبحها إلى غيره، وكل من حلت ذبيحته جاز التفويض إليه. والأولى أن يكون مسلما، وأن يكون فقيها، ليكون عارفا بوقتها وشرائطها، ويجوز استنابة الكتابي، وقال مالك: لا يجوز ويكون ما ذبحه شاة لحم. وحكى الموفق بن طاهر الحنبلي، عن أحمد مثله. ويستحب أن يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث. وفي قول أن يأكل النصف، ويتصدق بالنصف، فإن أكل الكل معا، فالمذهب أنه يضمن القدر الذي يجزىء فيه، وهو أدنى جزء. وقيل لا يضمن، وقيل يضمن القدر المستحب، وهو الثلث أو النصف، ولا يجوز بيع شيء منها، ولا أن يعطي الجزار منها شيئا أجرة، بل مؤنة الذبح على المضحي كمؤنة الحصاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 فرع : اعلم أن العلماء رضي الله تعالى عنهم قالوا: ادخار الأضحية فوق ثلاث منهي عنه. وهل يجوز أكل الجميع؟ وجهان: أحدهما نعم، وبه قال ابن سريج والأصطخري وابن القاص واختاره ابن الوكيل لأنه يجوز أكل أكثرها، فيجوز أكل جميعها، وحيازة الثواب تحصل بإراقة الدم لقصد النية، ونسب ابن القاص هذا الوجه إلى النص، وحكاه الموفق الحنبلي عن أبي حنيفة، وأصح الوجهين أنه لا بد من التصدق بقدر ما يطلق عليه الاسم. فرع : لو قال جعلت هذه الشاة أضحية أو نذر أن يضحي بشاة بعينها، زال ملكه عنها ولا ينفذ تصرفه فيها ببيع ولا هبة ولا إبدال، ولو بجزء منها وعن الشيخ أبي علي وجه أنه لا يزول الملك عنها حتى تذبح ويتصدق بلحمها، كما لو قال: لله عليّ أن أعتق هذا العبد لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاقه وعند أبي حنيفة، أنه لا يزول الملك عنها ولا يجوز بيعها، ولا إبدالها ولو نذر العتق في عبد بعينه لا يجوز بيعه وإبداله، وإن لم يزل الملك عنه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز بيعه وإبداله، فلو باعها فإنها تسترد إذا كانت العين باقية، فإن أتلفها المشتري أو تلفت عنده فعليه القيمة من يوم القبض إلى يوم التلف. فلو ذبح رجلان، كل واحد منهما أضحية الآخر، بغير إذنه، ضمن كل واحد منهما ما بين القيمتين، أو أجزأت عن الأضحية. فرع : قال المحاملي: وتنحر الإبل وتذبح الغنم فإن نحر كلها، أو ذبح كلها جاز، وموضع النحر في السنة والاختيار اللبة، وموضع الذبح أسفل مجامع اللحيين، وكمال الذبح أن يقطع الحلقوم والمريء والودجين، وأقل ما يجزىء في الذكاة، أن يبين الحلقوم والمريء انتهى. فرع : لو ولدت الأضحية الواجبة، ذبح ولدها معها، سواء كانت معينة أو في الذمة بعد ما عين، وله أن يشرب من لبنها ما يفضل عن ولدها، قاله القاضي أبو سعيد الهروي. الأمثال : قالوا «1» : «كل شاة برجلها معلقة» . أول من قال ذلك: وكيع «2» بن سلمة بن زهير بن إياد، وكان قد ولي أمر البيت، بعد جرهم، فبنى صرحا بأسفل مكة، وجعل فيه أمة يقال لها حزورة وبه سميت الحزورة التي بمكة. وجعل في الصرح سلّما، وكان يزعم أنه يرقاه فيناجي فيه ربه تعالى. وكان ينطق بكثير من الخير، وكان علماء العرب يقولون: إنه من الصديقين، فلما حضرته الوفاة جمع أولاده وقال لهم اسمعوا وصيتي: من رشد فاتبعوه، ومن غوى فارفضوه، وكل شاة برجلها معلقة. فأرسل مثلا أي كل أحد يجزى بعمله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * «3» . الخواص : جلد الشاة، إذا أخذ حين يسلخ، وألبس للمضروب بالسياط، نفعه وسكن ألمه. الشامرك: الفتي من الدجاج قبل أن يبيض بأيام قلائل. قاله في المرصع، وكنيته أبو يعلى، وهو معرب الشاه مرغ، ومعناه ملك الطير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 الشاهين : جمعه شواهين وشياهين، وليس بعربي، لكن تكلمت به العرب. قال «1» الفرزدق: حمى لم يحطّ عنه سريع ولم يخف ... نويرة يسعى بالشياهين طائرة ويروى بالشواهين وقال عبد الله بن المبارك «2» : قد يفتح المرء حانوتا لمتجره ... وقد فتحت لك الحانوت بالدين بين الأساطين حانوت بلا غلق ... تبتاع بالدين أموال المساكين صيّرت دينك شاهينا تصيد به ... وليس يفلح أصحاب الشواهين وقد تقدمت له أبيات، في باب الباء الموحدة، في البازي، تشبه هذه. ومن كلامه: تعلمنا العلم للدنيا، فدلنا على ترك الدنيا. والشاهين ثلاثة أنواع: شاهين وقطامي وأنيقي. والشاهين في الحقيقة من جنس الصقر، إلا أنه أبرد منه وأيبس مزاجا، ولأجل ذلك تكون حركته من العلو إلى السفل شديدة، ولهذا ينقض على سيده انقضاضا من غير تحريم، وعنده جبن وفتور، وهو مع ذلك شديد الضراوة على الصيد ولأجل ذلك ربما ضرب بنفسه الأرض فمات. وعظامه أصلب من عظام سائر الجوارح وبعضهم يقول الشاهين كاسمه يعني الميزان، لأنه لا يتحمل أدنى حال من الشبع، ولا أيسر حال من الجوع، والمحمود من صفاته أن يكون عظيم الهامة، واسع العينين، رحب الصدر، ممتلىء الزور، عريض الوسط، جليد الفخذين، قصير الساقين، قليل الريش، رقيق الذنب إذا صلب عليه جناحيه، لم يفضل عنه منهما شيء، فإذا كان كذلك، صاد الكركي وغيره. ويقال: إن أول من صاد به قسطنطين، وكانت الشواهين ريضت له، وعلمت أن تحوم على رأسه إذا ركب فتظله من الشمس، وكانت تنحدر مرة وترتفع أخرى، فإذا ركب وقفت حوله إلى أن ركب يوما، فثار طائر من الأرض، فانقض عليه بعض الشواهين، فأخذه فأعجبه ذلك وضراه على الصيد. وحكمه : يأتي في باب الصاد المهملة، إن شاء الله تعالى، في الصقر. ومن الرسائل التي كتبتها قديما للأخ فارس الدين شاهين، وأنا بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام: سلام كما فاحت بروض أزاهر ... يضيء كما لاحت بأفق زواهر إذا عبقت كتبي به قال قائل ... أفي طيها نشر من المسك عاطر إلى فارس الدين الذي قد ترحلت ... لخدمة خدام مصر الأكابر إذا عدّ خدام الملوك جميعهم ... فبينهم ذكر لشاهين طائر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وعندي اشتياق نحوه وتلفت ... إليه وقلبي بالمودة عامر تمنيت جهدي أن أراه بحضرة ... معظمة أقطارها وهو حاضر وأدعو له في كلّ وقت مشرف ... وكلّ زمان فضله متواتر وفي مسجد عال كريم معظم ... له شرف في سائر الأرض سائر يقبل الأرض التي لها بشاهين علو النسرين، وجود المرزمين، قصرت عقاب الجو عن مطارها، والعنقاء ذات الحسن عن محاسن أخبارها، وطائرها الميمون صراح، وحامل بطائق سعدها، منشور الجناح، يعترف أبو الصقر لشاهينها، والبزاة وإن استقرت على يمين الملوك لتمكينها، طالما تصيدت الملوك بإحسانها، ونشرت جناحا طار إلى أفق المعالي ومكانها، وينهي أن له إلى مولانا أشواقا غالبه، وعينا برؤيته في تلك البقاع الشريفة مطالبه، وأدعية له عليها في كل وقت مواظبه، ويذكر إجسان مولانا، ويصفه فما أولانا بذكر ما أولانا، وكيف لا يجوز صدقا قصب السبق وهي فارسية، ويطير حائما على أفق العلا فضله وهو ذو نسبة شاهينيه، والمملوك يتذكر صدقاته وإحسانه في كل أوقاته، على أن المخدوم مازال يستبق الخيرات، ويسارع إلى جبر القلوب بأنواع المسرات، ويبذل معروفه إلى البعيد والقريب، ويرسل جوده الذي ما زال يلبي دعوة الداعي ويجيب، فأدام الله على مولانا سوابغ نعمه، وعمه بإحسانه العميم بمنه وكرمه. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الصقر ذكر أبي الصقر المشار إليه. وتعبيره : يأتي في الصقر، إن شاء الله تعالى أيضا. الشبب: الثور المسن وكذلك الشبوب والمشب. الشّبث: بالتحريك العنكبوت. قال في المحكم: هي دويبة لها ست قوائم طوال، صفراء الظهر، وظهور القوائم سوداء الرأس، زرقاء العينين، وقيل: دويبة كثيرة الأرجل، عظيمة الرأس، واسعة الفم، مرتفعة المؤخر، تحرث الأرض، وهي التي تسمى شحمة الأرض. والجمع أشباث وشبثان. وقال الجوهري: الشبث، بالتحريك، دويبة كثيرة الأرجل ولا تقل شبث بإسكان الباء الموحدة. والجمع شبثان مثل خرب وخربان. وحكمها : تحريم الأكل لأنها من الحشرات. الشّبثان: بكسر الشين المعجمة، وبالباء الموحدة ثم الثاء المثلثة ثم نون في آخره، ذكر ابن قتيبة، في أدب الكاتب، أنها دويبة تكون في الرمل، سميت بذلك لتشبثها بما دبت عليه. قال الشاعر: مدارك شبثان لهن لهيم وحكمها : تحريم الأكل لأنها من الحشرات التي لا تؤكل. الشّبدع: العقرب والجمع الشبادع بكسر الشين والدال غير المعجمة، حكاه أبو عمرو والأصمعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 وفي الحديث «1» : «من عض على شبدعه، سلم من الآثام» . أي على لسانه أي سكت، ولم يخض مع الخائضين ولم يلسع به الناس لأن العاض على لسانه، لا يتكلم، فشبه اللسان بالعقرب الضارة. الشّبربص: كسفرجل: الجمل الصغير. الشّبل: ولد الأسد، إذا أدرك الصيد، والجمع أشبال وشبول. الشبوة: العقرب والجمع شبوات قال الراجز: قد جعلت شبوة تزبئر ... تكسو أستها لحما وتقمطر الشبّوط: كسفود ضرب من السمك. قال الليث: والسبوط بالسين المهملة لغة فيه، وهو دقيق الذنب، عريض الوسط، لين المس، صغير الرأس، وهذا النوع قليل الإناث، كثير الذكور، فهو قليل البيض، بسبب ذلك. وذكر بعض الصيادين أنه ينتهي إلى الشبكة، فلا يستطيع الخروج منها، فيعلم أنه لا ينجيه إلا الوثوب، فيتأخر قدر رمح ثم يهمز فيثب، فربما كان وثوبه في الهواء أكثر من عشرة أذرع، فيخرق الشبكة ويخرج منها. ولحمه كثير جدا وهو كثير بدجلة. الشّجاع: بالضم والكسر، الحية العظيمة التي تثب على الفارس والراجل، وتقوم على ذنبها، وربما بلغت رأس الفارس، وتكون في الصحاري، روي أن مالك بن أدهم، خرج يتصيد فلما صار إلى بلد قفر ومعطش، ومعه جماعة من أصحابه، طلبوا الماء فلم يقدروا عليه، فنزل وضربت له خيمة، وأمر أصحابه أن يطلبوا الماء والصيد، فخرجوا في طلبهما فأصابوا ضبا، فأتوه به، فقال: اشووه ولا تنضجوه، ومصوه مصا لعلكم تنتفعون به، ففعلوا ذلك، ثم أثاروا شجاعا، وأرادوا قتله، فدخل على مالك خيمته فقال: قد استجار بي فأجيروه، ففعلوا ذلك، ثم خرج هو وأصحابه في طلب الماء، فإذا هاتف يهتف بهم وهو يقول: يا قوم يا قوم لا ماء لكم أبدا ... حتى تحثوا المطايا يومها التعبا وسددوا يمنة فالماء عن كثب ... ماء غزير وعين تذهب الوصبا «2» حتى إذا ما أخذتم منه حاجتكم ... فاسقوا المطايا ومنه فاملؤوا القربا فأخذ هو وأصحابه في الجهة التي نعتها الهاتف لهم في شعره، فإذا هم بعين غزيرة، فسقوا منها إبلهم، وتزودوا فلما فعلوا ذلك لم يروا للعين أثرا، وإذا بهاتف يهتف بهم ويقول: يا مال عني جزاك الله صالحة ... هذا وداع لكم مني وتسليم لا تزهدن في اصطناع العرف من أحد ... إنّ امرأ يحرم المعروف محروم الخير يبقى وإن طالت مغيبته ... والشرّ ما عاش منه المرء مذموم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 وفي الصحيحين، عن جابر وأبي هريرة وابن مسعود، رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان، يفر منه وهو يتبعه حتى يطوقه في عنقه» . وفي رواية مسلم «يتبعه فاتحا فاه، فإذا أتاه فر منه، فيناديه خذ كنزك الذي خبأته فإذا رأى أنه لا بد له منه سلك يده في فيه، فيقضمها قضمة الفحل، ثم يأخذ بلهزمتيه، يعني شدقيه، ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ » «2» : والأقرع الذي تمعط رأسه وأبيض من السم. والزبيبتان الريشتان من جانبي فمه من كثرة السم ويكون مثلهما في شدقي الإنسان عند كثرة الكلام، وقيل نكتتان في عينيه، وما هو بهذه الصفة من الحيات، هو أشد أذى. وقيل هما نابان يخرجان من فيه ويقضمها بفتح الضاد أي يأكلها، والقضم بأطراف الأسنان والخضم بالفم كله، وقيل: القضم أكل اليابس والخضم أكل الرطب، وتزعم العرب أن الرجل إذا طال جوعه يعرض له في البطن حية يسمونها الشجاع والصفر. قال أبو خراش «3» يخاطب امرأته: أرد شجاع البطن لو تعلمينه ... وأوتر غيري من عيالك بالطعم وأغتبق الماء القراح وأنثني ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم أراد بالأول الطعام، وبالثاني ما يشتهى منه، والغبوق الشرب بالعشي، والمزلج من الرجال الناقص الذوق الضعيف. وقال «4» الشاعر: فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى ... مساغا لناباه الشجاع لصمّما هذه لغة بني الحارث بن كعب، وهي إبقاء ألف التثنية في حالتي النصب والخفض، وهو مذهب الكوفيين ومنه قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «5» . وتعبيره في الرؤيا يدل على ولد جسور، أو امرأة بازلة. الشحرور: كسحنون طائر أسود فوق العصفور، يصوت أصواتا، قاله ابن سيده وغيره، وما أحسن ما قال الشيخ العلامة علاء الدين الباجي، ووفاته سنة أربع عشرة وسبعمائة: (دو بيت) بالبلبل والهزار والشحرور ... يكسى طربا قلب الشجي المغرور فانهض عجلا وانهب من اللذة ما ... جادت كرما به يد المقدور وقد أجاد القائل في وصفه حيث قال «6» : وروضة أزهرت أغصانها وشدت ... أطيارها وتولّت سقيها السحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وظلّ شحرورها الغريد تحسبه ... أسيودا زامرا مزماره ذهب وما أحسن قوله أسيود! وهو تصغير أسود، وقال آخر وأجاد: له في خدّه الوردي خال ... يدور به بنفسج عارضيه كشحرور تخبأ في سياج ... مخافة جارح من مقلتيه وحكمه : كالعصفور، وسيأتي إن شاء الله تعالى وتعبيره : في الرؤيا يدل على رجل من كتاب السلطان نحوي أديب وربما دل على الولد الذكي الفصيح أو على صبي المكتب والله أعلم. شحمة الأرض: دويبة إذا مسها الإنسان تجمعت وصارت مثل الخرزة. وقال القزويني، في الأشكال: إن شحمة الأرض تسمى بالخراطي وهي دودة طويلة حمراء، توجد في المواضع الندية. وقال الزمخشري، في ربيع الأبرار: إنها دويبة منقطة بحمرة، كأنها سمكة بيضاء، يشبه بها كف المرأة. وقال هرمس: إنها دابة صغيرة طيبة الريح، لا تحرقها النار، وتدخل في النار من جانب وتخرج من جانب. الخواص : من طلي بشحمها لم تضره النار ولو دخل فيها وإذا أخذت، شحمة الأرض وجففت وسقي منها قدر درهم للمرأة التي تعسرت ولادتها فإنها تلد من ساعتها. وقال القزويني: إذا شويت وأكلت بالخبز فتتت الحصا من المثانة وتجفف وتطعم لصاحب اليرقان فإنها تذهب صفرته. ورمادها يخلط بدهن، ويطلى به رأس الأقرع، ينبت الشعر ويزيل القرع. وحكمها وتعبيرها : كالدود، وقد تقدم في باب الدال المهملة، أنها غير مأكولة لأنها من الخبائث. الشذا: بفتح الشين والذال المعجمة ذباب الكلب، وقد يقع على البعير. الواحدة شذاة. الشران: شبيه بالبعوض يغشى وجوه الناس. الشّرشق: الشقراق. الشرشور: كعصفور طائر مثل العصفور أغبر على لطافة الحمرة، قاله ابن سيده وقد تقدم في باب الباء أنه أبو براقش. وحكمه : حل الأكل لأنه داخل في عموم العصافير. الشرغ: والشرغ الضفدع الصغير وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في لفظ الضفدع، في باب الضاد المعجمة. الشرنبي: كحبنطي طائر معروف يعرفه الأعراب. الشصر: بالتحريك ولد الظبية وكذلك الشاصر قاله أبو عبيدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 الشعراء: بفتح الشين وكسرها، وبالعين المهملة الساكنة، ذباب أزرق أو أحمر، يقع على الإبل والحمير والكلاب، فيؤذيها أذى شديدا. وقيل: ذباب كذباب الكلب. وفي السيرة أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم، استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول، ولم يدعه قبلها قط فاستشاره فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا! فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقامو بشر مجلس، وإن دخلوا علينا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين. فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي، وقال بعض أصحابه: يا رسول الله اخرج بنا إلى هذه الأكلب، لا يرون أنّا جبنا عنهم وضعفنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني رأيت في منامي بقرا تذبح، فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، فأولتها هزيمة، ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة، فافعلوا» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة، فيقاتلوا في الأزقة، فقال رجال من المسلمين، ممن فاتهم يوم بدر، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: اخرج بنا إلى اعداء الله يا رسول الله. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ولبس لأمته، فلما رأوه قد لبس السلاح، ندموا وقالوا: بئسما صنعتم، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوحي يأتيه! فقالوا: اصنع ما رأيت يا رسول الله، واعتذروا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل» «1» . وكان قد أقام المشركون بأحد الأربعاء والخمسين، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الجمعة بعدما صلى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشّعب من أحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وكان أصحابه سبعمائة رجل فجعل عبد الله بن جبير وهو أخو خوات بن جبير رضي الله عنهما على الرماة، وكانوا خمسين رجلا، وقال عليه الصلاة والسلام: «أقيموا بأصل الجبل، وانضحوا عنا بالنبل، حتى لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» . فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنهما، ومعهما النساء يضربن بالدفوف، ويقلن الأشعار، فقاتلوا حتى حميت الحرب، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا وقال: «من يأخذ هذا بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني» ؟ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة رضي الله تعالى عنه، فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء، وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع» ، ففلق به هام المشركين. وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين، فهزموهم. فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة الغنيمة، والله لتأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم، صرفت وجوههم، وقال الزبير بن العوام: فلما نظرت الرماة إلى القوم وقد انكشفوا ورأوا أصحابهم ينتهبون الغنيمة، أقبلوا يريدون النهب، فلما رأى خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 قلة الرماة، واشتغال الناس بالغنيمة، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين، ثم حمل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزمهم، و «رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته، وهشم أنفه وشجه في وجهه، فأثخنه وتفرق عنه أصحابه، ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صخرة ليعلوها وكان صلى الله عليه وسلم قد ظاهر بين درعين، فلم يستطع النهوض، فجلس تحته طلحة رضي الله تعالى عنه، فنهض صلى الله عليه وسلم حتى استوى عليها» «1» . ووقفت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى، يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد، وأعطتها وحشيا، وبقرت عن كبد حمزة رضي الله تعالى عنه فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها وأقبل عبد الله بن قمئة، يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع وقال: إني قتلت محمدا! وصاح صائح: ألا إن محمدا قد قتل، ويقال: إن ذلك الصائح كان إبليس، فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين، وأصيبت يد طلحة رضي الله تعالى عنه، فيبست حين وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصيبت عين قتادة رضي الله تعالى عنه يومئذ، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها فكانت أحسن ما كانت. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أدركه أبي بن خلف الجمحي، وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد! فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه» حتى إذا دنا منه، وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم، فرق ذرة أقتلك عليها، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى» . فلما دنا منه يوم أحد، وهو راكب فرسه، تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، وانتفض بها انتفاضة، فتطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وطعنه في عنقه طعنة خدشته خدشة غير كبيرة، فتدهده بها عن فرسه، وهو يخور كما يخور الثور، ويقول: قتلني محمد، فحمله أصحابه، وأتوابه قريشا وقد حقد الدم واحتقن، فقالوا: لا بأس عليك، فقال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال: أنا أقتلك؟ فو الله لو بصق عليّ بعد تلك المقالة قتلني، لم يلبث إلا يوما واحدا. ومات عدو الله بموضع يقال له سرف. وقال فيه حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه «2» : لقد ورث الضّلالة عن أبيه ... أبى حين بارزه الرسول أتيت إليه تحمل رمّ عظم ... وتوعده وأنت به جهول وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس عذابا من قتل نبيا أو قتله نبي» «3» ، لأنه من المعلوم أن النبي لا يقتل أحدا ولا يتفق ذلك إلا في شر الخلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 الشغواء: بفتح الشين وسكون الغين المعجمة وبالمد العقاب سميت بذلك لفضل منقارها الأعلى على الأسفل قال الشاعر: شغوا بوطن بين الشيق والنيق الشفدع: الضفدع الصغير حكاه ابن سيده. الشفنين: كاليشنين بكسر الشين المعجمة وهو متولد بين نوعين مأكولين. وعده الجاحظ في أنواع الحمام. وبعضهم يقول: الشفنين هو الذي تسميه العامة اليمام، وصوته في الترنم، كصوت الرباب، وفيه تحزين، وجمعه شفانين وتحسن أصواتها إذا اختلطت. ومن طبعه أنه إذا فقد أنثاه لم يزل أعزب إلى أن يموت، وكذلك الأنثى إذا فقدت ذكرها، وإذا سمن سقط ريشه، ويمتنع من السفاد. ومن طبعه إيثار العزلة وعنده نفور واحتراس من أعدائه. وحكمه : حل الأكل بالاجماع. الخواص : لحم الشفنين حار يابس ولذلك ينبغي أن لا يؤكل من هذا النوع إلا الصغار والمخاليف. والدم المتولد عنه حار يابس، والدهن الكثير يعدله وأكل بيضه بزيت، يزيد في الباه، وزبله، إذا ديف بدهن ورد، وتحملت به المرأة نفع من وجع الأرحام، ومن طلى إحليله بدمه وجامع امرأته، لم يقدر عليها سواه، وإن مات لم تتزوج. ومما ينفع الرمد في العين والورم، أن يقطر فيها شفنين حار أو دم حمامة ويوضع على العين من خارج قطنة مبلولة ببياض بيض، مع شيء من دهن الورد، فإنه نافع مجرب. الشق: بالكسر، قال القزويني: هو من المتشيطنة صورته صورة نصف آدمي، ويزعمون أن النسناس مركب من الشق ومن الآدمي، ويظهر للإنسان في أسفاره. وذكروا أن علقمة بن صفوان بن أمية خرج في بعض الليالي، فانتهى إلى موضع فعرض له شق فقال علقمة: يا شق ما لي ولك اغمد عني منصلك أتقتل من لا يقتلك؟ فقال شق: هيت لك واصبر لما قد حم لك، فضرب كل واحد منهما صاحبه، فوقع ميتا. وأما شق وسطيح الكاهنان، فكان شق إنسان، له يد واحدة ورجل واحدة وعين واحدة، وكان سطيح ليس له عظم ولا بنان، إنما كان يطوى مثل الحصير. ولد شق وسطيح في اليوم الذي ماتت فيه طريفة الكاهنة، امرأة عمرو بن عامر، ودعت بسطيح في اليوم الذي ماتت فيه، قبل أن تموت، فأتيت به فتفلت في فيه، وأخبرت أن سيخلفها في علمها وكهانتها. وكان وجهه في صدره ولم يكن له رأس ولا عنق. ودعت بشق، ففعلت به مثل ذلك ثم ماتت وقبرها بالجحفة. وذكر الحافظ أبو الفرج بن الجوزي، أن خالد بن عبد الله الفهري، كان من ولد شق هذا. وفي سيرة ابن هشام عن ابن اسحاق أن مالك بن نصر اللخمي «1» ، رأى رؤيا هالته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 فبعث إلى جميع الكهان والسحرة والمنجمين من رعيته، فاجتمعوا إليه فقال: إني رأيت رؤيا هالتني، وفظعت منها! فقالوا: قصها علينا نخبرك بتأويلها! فقال لهم: إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم في تأويلها، ولست أصدق في تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الذي يرومه الملك لا يجده إلا عند شق وسطيح! فلما أخبروه بذلك، أرسل الملك من أتاه بهما، فسأل سطيحا فقال: أيها الملك إنك رأيت جمجمة خرجت من ظلمة، فأكلت كل ذات جمجمة! فقال الملك: ما أخطأت شيئا فما عندك في تأويلها؟ فقال سطيح: احلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين إلى جرش. فقال الملك: وأبيك يا سطيح، إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى يكون ذلك أفي زماني أم بعده؟ فقال: بل بعده بحين أكثر من ستين أو سبعين تمضين من السنين، ثم يقتلون ويخرجون منها هاربين. قال الملك: ومن الذي يلي ذلك؟ من قتلهم إخراجهم؟ قال: يليه ابن ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدا منهم باليمن. قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع. قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من ربه العلي، قال: وممن هذا النبي؟ قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر «1» ، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر. فقال الملك: وهل للدهر من آخر يا سطيح؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، ويسعد فيه المحسنون ويشقى فيه المسيؤون. فقال الملك: أحق ما تقول يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والقمر إذا اتسق، إن ما أخبرتكم به لحق. ثم إن الملك أحضر شقا فسأله كما سأل سطيحا فقال له شق: إنك رأيت جمجمة خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت كل ذات نسمة. فلما سمع الملك مقالة شق، قال له: ما أخطأت شيئا. فما عندك في تأويلها؟ فقال شق: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، وليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران. فقال الملك: وأبيك يا شق، إن ذلك لنا لغائظ مؤلم! فمتى يكون ذلك، أفي زماني أم بعده؟ فقال: بل بعده بزمان. ثم يستنقذكم منه عظيم الشأن، ويذيقهم أشد الهوان. فقال الملك: من هو العظيم الشان؟ قال: غلام من غلمان اليمن، يخرج من بيت ذي يزن. فقال الملك: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول، هو خاتم الرسل، يأتي بالحق والعدل بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل. فقال الملك: وما يوم الفصل؟ فقال شق: يوم يجزى فيه الولاة، ويدعى من السماء دعوات، يسمعها الأحياء والأموات، ويجمع الناس فيه للميقات، فيفوز فيه الصالحون بالخيرات. فقال الملك: أحق ما تقول يا شق؟ قال: أي ورب السماء والأرض وما بينهما، من رفع وخفض، إن ما أنبأتكم به لحق ماله من نقض. فوقع ذلك في نفس الملك، لما رأى من تطابق شق وسطيح، على ما ذكراه. فجهز أهل بيته إلى الحيرة فرقا من سلطان الحبشة. وروي عنه، أنه لما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ارتجس فيها إيوان كسرى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 وسقط منه أربع عشرة شرافة، فجزع كسرى أنوشروان من ذلك وتطير، ورأى أن لا يكتمه عن زعماء مملكته، فأحضر موبذموبذان، وهو رئيس حكمائهم، وعنه يأخذون نواميس شرائعهم، وأحضر الموابذة، وهم القضاة، والهرابذة وهم كالخلفاء للموابذة، والأصبهبذ، وهو حافظ الجيوش وأمير الأمراء، وأحضر بزر جمهر مداره، وهو الوزير الأعلى، والمرازبة وهم حفظة الثغور وولاة المملكة، وأخبرهم بما كان من ارتجاس الإيوان وسقوط ما سقط من شرفاته. فقال رئيس الموابذة: إني رأيت في المنام، كأن إبلا تقود خيلا قد قطعت دجلة، وانتشرت في بلاد فارس. وأخبره في ذلك الوقت قومه بالنار وخمودها تلك الليلة. فهاله ومن حضر مجلسه، ذلك واستعظموه ولم يظهر لهم وجهه، ففزعوا وتفرقوا عن الملك يتروّون فيه. ووافت البرد إلى كسرى، من جميع جهات ممالكه، تخبر بخمود النيران تلك الليلة، ووافاه الخبر بأن بحيرة ساوة قد غاض ماؤها فجمع زعماء دينه ورؤساء سلطانه، فأطلعهم على ما انتهى إليه من ذلك كله، وسألهم عما عندهم فيه؟ فقال موبذموبذان: أما رؤياي، فتدل على حدث عظيم يكون من العرب. فكتب كسرى إلى النعمان بن المنذر، يأمره أن يبعث إليه أعلم من في أرضه من العرب، فبعث إليه عبد المسيح بن عمرو الغساني «1» وكان معمّرا، فلما قدم على كسرى، قال له: هل عندك علم مما أريد أن أسألك عنه؟ قال: يخبرني الملك عما يريد علمه، فإن كان عندي علم منه أخبرته! فقال أنوشروان: إنما أريد من يعلم أمري قبل أن أذكره له! فقال عبد المسيح: هذا علم يعلمه خال لي يسكن بمشارق الشام يقال له سطيح. قال كسرى: فاذهب إليه فانطلق عبد المسيح حتى انتهى إلى سطيح فوجده قد أشفى على الموت فحياه فلم يجبه فقال «2» عبد المسيح رافعا صوته: أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... يا صاحب الخطة أعيت من ومن ففتح سطيح عينيه، وقال: عبد المسيح على جمل مشيح، وافى إلى سطيح، وقد أشفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلاد فارس. يا عبد المسيح، إذا ظهرت التلاوة وبعث صاحب الهراوة، وغاضت بحيرة ساوة، لم تكن بابل للفرس مقاما، ولا الشام لسطيح شاما، وسيملك منهم ملوك وملكات على عدد الشرافات، وكل ما هو آت آت ثم قضى سطيح مكانه. فاستوى عبد المسيح على راحلته، وعاد إلى كسرى فأخبره بمقالة سطيح. فقال كسرى: إلى أن يملك منا أربعة عشرة، تكون أمور. فملك منهم عشرة في مدة أربع سنين، وملك الباقون إلى أواخر خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه. انتهى. وبابل هي بابل العراق، وسميت ببابل لتبلبل الألسن بها، عند سقوط صرح نمرود، أي تفرقها. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: بابل أرض الكوفة، وقيل: جبل دنباوند. وكسرى أول ميت اقتص من قاتله، كما قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتاب الأذكياء، وذلك أن كسرى قال له منجموه: إنك تقتل. فقال: والله لأقتلن قاتلي. فعمد إلى سم ناقع، فوضعه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 حق، وكتب عليه: هذا دواء للباه مجرب صحيح، إذا استعمل منه وزن كذا وكذا انعظ، وجامع كذا وكذا مرة. فلما قتله ابنه، بادر ففتح خزائنه، فوجد ذلك الحق مختوما، فقرأ ما كتب عليه، فقال: بهذا كان كسرى يقوى على مجامعة النساء! ففتحه واستعمل منه ما ذكر، فمات. فهو أول ميت اقتص من قاتله. وقد تقدم في باب الدال المهملة، في الدابة عن كامل بن الأثير، أن كسرى كان له ثلاثة آلاف امرأة وخمسون ألف دابة. الشقحطب: كسفرجل، الكبش الذي له أربعة قرون، والجمع شقاحط وشقاطب. الشقذان: الحرباء، قاله ابن سيده، والشقذان أيضا الضب والورل والطحن وسام أبرص والدساسة واحدته شقذة. الشّقراق: بفتح الشين وكسرها. قاله في المحكم، وابن قتيبة في أدب الكاتب. قال البطليوسي، في الشرح: الكسر في شين الشقراق أقيس، لأن فعلان، بكسر الفاء، موجود في أبنية الأسماء نحو طرماح وشنقار، وفعلان بفتح الفاء، مفقود فيها. قال: وبكسر الشين قرأناه في الغريب للمصنف، وهكذا حكاه الخليل وذكر أن فيه ثلاث لغات: شقراق بكسر الشين وإسكان القاف، وشقراق بفتح الشين وإسكان القاف، وشقراق بضم الشين وإسكان القاف. وربما قالوا شرقراق انتهى. وهو طائر صغير يسمى الأخيل، وهو أخضر مليح، بقدر الحمامة، وخضرته حسنة مشبعة، وفي أجنحته سواد، والعرب تتشاءم به. وله مشتى ومصيف، وهو كثير ببلاد الروم والشام وخراسان ونواحيها، ويكون مخططا بحمرة وخضرة وسواد، وفي طبعه شره وشراسة وسرقة فراخ غيره. وهو لا يزال متباعدا من الإنس، ويألف الرّوابي ورؤوس الجبال، لكنه يحضن بيضه في العمران العوالي، التي لا تنالها الأيدي. وعشه شديد النتن، وقال شارح الغنيمة والجاحظ: إنه نوع من الغربان، وفي طبعه العفة عن السفاد، وهو كثير الاستغاثة، إذا ضاربه طائر ضربه وصاح كأنه المضروب. الحكم : جزم الروياني والبغوي بتحريم أكله لاستخباثه، ونقله الرافعي عن الصيمري. وممن قال بالتحريم: العجلي، شارح غنية ابن سريج، وجزم بتحريمه وتحريم العقعق الماوردي، في الحاوي، وعلل بأنهما مستخبثان عند العرب، وهو قول الأكثرين، وقال بعض الأصحاب بحله. الأمثال : قالوا: «أشأم من الأخيل وهو الشقراق» «1» . الخواص : إذا كان الذهب ناقص العيار، يذاب ويفرغ عليه من مرارته، فإنه يحمر ويزداد عياره، كما لو أفرغ عليه من مرارة الثعلب فإنه ينقص عياره، وإذا اتخذ من مرارته خضاب سود الشعر. ولحمه حار ظاهر الحرارة وفيه زهومة قوية، إلا أنه يحلل الرياح الغليظة التي تكون في الأمعاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 التعبير : هو في الرؤيا امرأة حسناء ذات جمال والله أعلم. الشمسية: قال أبو حيان التوحيدي: إنها حية حمراء براقة، إذا كبرت وأصابها وجع العين وعميت، التمست حائطا يقابل الشرق، فإذا طلعت الشمس أحدت إليها بصرها قدر ساعة، فإذا دخل شعاع الشمس عينها، كشط عنها العمى والإظلام ولا تزال كذلك سبعة أيام حتى تجد بصرها تاما، وغيرها منه الحيات إذا عمي أيضا طلب شجر الرازيانج الأخضر فيكتحل به فيبرأ كما تقدم. الشنقب: كقنفذ ضرب من الطير معروف. شه: قال ابن سيده: هو طائر يشبه الشاهين، يأخذ الحمام وليس هو، ولفظه أعجمي. الشهام: السعلاة، قاله الجوهري وغيره. وقد تقدم لفظ السعلاة في باب السين المهملة. الشهرمان: نوع من طير الماء قصير الرجلين أبلق اللون أصغر من اللقلق، وفي بعض كتب الغريب، أنه نوع من الطير. الشوحة: قال ابن الصلاح، في الفتاوي: إنها الحدأة، وقد تقدم ذكرها في باب الحاء المهملة. الشوف: القنفذ، وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب القاف. الشوشب: القمل والعقرب والنمل وسيأتي ذكر كل واحد منها في بابه. الشوط: ضرب من السمك وليس هو الشبوط. قاله الجوهري. شوط براح: هو ابن آوى، قاله الجوهري، قال: ويقال للهباء، الذي يرى في ضوء الكوة: شوط باطل. الشول: النوق التي جف لبنها، وارتفع ضرعها، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، الواحدة شائلة، وهو جمع على غير قياس. تقول منه: تشولت الناقة بالتشديد، أي صارت شائلة. وفي المثل: «لا يجتمع فحلان في شول» وتمثل به عبد الملك بن مروان عند قتله عمرو بن سعيد الأشدق «1» ، والمعنى ينظر إلى قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «2» . وهناك ذكره الزمخشري في الكشاف. وسيأتي، إن شاء الله تعالى للشول ذكر في باب الفاء عند ذكر الفحل. شولة: من أسماء العقرب سميت بذلك لما تشوله من ذنبها، وهي شوكتها وسيأتي لفظها، وما فيه إن شاء الله تعالى في باب العين المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الشيخ اليهودي: قال أبو حامد والقزويني، في عجائب المخلوقات: إنه حيوان وجهه كوجه الإنسان، وله لحية بيضاء وبدنه كبدن الضفدع، وشعره كشعر البقر وهو في حجم العجل، يخرج من البحر ليلة السبت فيستمر حتى تغيب الشمس ليلة الأحد، فيثب كما يثب الضفدع، ويدخل الماء فلا تلحقه السفن. الحكم : هو داخل في عموم السمك كما تقدم. الخواص : ذكروا أن جلده إذا وضع على النقرس أزال وجعه في الحال. الشيذمان: بفتح الشين وضم الذال المعجمة، الذئب، وقد تقدم في باب الذال المعجمة. الشيصبان: ذكر النمل. الشيع: كالبيع، ولد الأسد، وقد تقدم في باب الهمزة. الشيم: ضرب من السمك قال الشاعر: قل لطغام الأزد لا تبطروا ... بالشيم والجريث والكعند «1» الشيهم: كالضيغم، ذكر القنافذ قال الأعشى «2» : لئن جد أسباب العداوة بيننا ... لترتحلن مني على ظهر شيهم قال الأصمعي: الشهام السعلاة. فائدة : قال أبو ذؤيب الهذلي الشاعر: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، فاستشعرت حزنا وبت بأطول ليلة، لا ينجاب ديجورها ولا يطلع نورها، فبت أقاسي طولها، حتى إذا كان وقت السحر أغفيت فهتف بي هاتف وهو يقول «3» : خطب أجلّ ناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام قبض النبيّ محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالأسجام قال أبو ذؤيب: فوثبت من منامي فزعا فنظرت إلى السماء، فلم أر إلا سعد الذابح، فأولته ذبحا يقع في العرب، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض أو هو ميت من علته. فركبت ناقتي وسرت فلما أصبحت طلبت شيئا أزجر به، فعرض لي شيهم قد قبض على صل، يعني حية، فهي تلتوي عليه، والشيهم يقضمها حتى أكلها، فزجرت ذلك وقلت: شيهم شيء هم والتواء الصل تلوي الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أولت أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أولت أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمر، فحثثت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 ناقتي حتى إذا كنت بالغابة، زجرت الطائر، فأخبرني بوفاته صلى الله عليه وسلم ونعب غراب سانح، فنطق بمثل ذلك فتعوذت بالله من شر ما عن لي في طريقي. فقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء، كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلت: ما الخبر؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه، فجئت إلى المسجد، فوجدته خاليا فأتيت بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدت بابه مرتجا أي مغلقا، وقيل هو مسجى وقد خلا به أهله، فقلت: أين الناس؟ فقيل: في سقيفة بني ساعدة صاروا إلى الأنصار. فجئت إلى السقيفة فأصبت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح وجماعة من قريش، ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة، وفيهم شعراؤهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك فأويت إلى قريش، وتكلمت الأنصار فأطالوا الخطاب وأطالوا الجواب. وتكلم أبو بكر، فلله دره من رجل لا يطيل الكلام ويعلم مواضع فصل الخطاب، والله لقد تكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه. ثم تكلم عمر رضي الله تعالى عنه بدون كلامه، ثم قال لأبي بكر: مد يدك أبايعك! فمد يده فبايعه، وبايعه الناس، ورجع أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ورجعت معه. قال أبو ذؤيب: فشهدت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت دفنه. أبو شبقونة: بضم الشين وسكون الباء الموحدة وضم القاف وبعدها نون، قال في المرصع: إنه طائر يكون مع الحمر والنعم يأكل الذباب والله أعلم. باب الصاد المهملة الصؤابة: بالهمزة، بيضة القملة والجمع صؤاب وصئبان، والعامة تخففه فتقول صيبان، والصواب الهمز. قال ابن السكيت: يقال: في رأسه صؤابة، والجمع صئبان بالهمز وقد صيب رأسه بالياء المثناة، تحت المخففة، وقال الجاحظ: قال اياس بن معاوية: الصيبان ذكور القمل، وهو من الشيء الذي يكون ذكوره أصغر من إناثه، كالزراريق والبزاة فالبزاة هي الإناث والزراريق الذكور وليس فيه ذكر شيء من الصؤاب انتهى. وروى خيثمة بن سليمان، في مسنده، في آخر الجزء الخامس عشر، عن جابر بن عبد الله، رضي الله تعالى عنه قال: قال «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «توضع الموازين يوم القيامة، فتوزن الحسنات والسيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار» قيل: يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون» . الحكم : قال الشافعي: حكم الصئبان حكم القمل للمحرم، إذا قتل منه شيئا يستحب أن يتصدق ولو بلقمة، وجزم في الروضة بأنه بيض القمل كما قاله الجوهري وغيره وقد تقدم في السلحفاة البحرية، أن التسريح بمشط الذبل يذهب الصئبان لخاصية فيه. الأمثال : قالوا «2» : «يعد فيّ مثل الصؤاب وفي عينيه مثل الجرّة» قال الميداني: يضرب لمن يلومك في قليل ما كثر فيه من العيوب وأنشد الرياشي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 ألا أيّها ذا اللائمي في خليقتي ... هل النفس فيما كان منك تلوم فكيف ترى في عين صاحبك القذى ... وتنسى قذى عينيك وهو عظيم «1» الصارخ: الديك، روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي، عن مسروق، قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: كان يحب الدائم. قال: قلت: أي حين كان صلى الله عليه وسلم يصلي؟ قالت: «كان إذا سمع الصارخ قام يصلي» «2» . قال النووي: الصارخ هنا الديك، باتفاق العلماء، وسمي بذلك، لكثرة صياحه في الليل. قال أبو حامد، في الإحياء: وهذا الوقت يكون سدس الليل فما دونه. الصافر: ويقال أيضا: الصفارية طائر معروف من أنواع العصافير، ومن شأنه أنه إذا أقبل الليل، يأخذ بغصن شجرة ويضم عليه رجليه، وينكس رأسه، ثم لا يزال يصيح حتى يطلع الفجر، ويظهر النور. قال القزويني: إنما يصيح خوفا من السماء أن تقع عليه. وقال غيره: الصافر التنوط الذي تقدم في باب التاء المثناة فوق، وأنه إن كان له وكر جعله كالخريطة، وإن لم يكن له وكر، شرع يتعلق بالأغصان كما ذكرنا. وحكمه : حل الأكل لأنه من أنواع العصافير. الأمثال : قالوا: «أجبن وأحير من صافر» «3» . وأما قولهم: «ما في الدار صافر «4» » ، فقال أبو عبيدة والأصمعي: معناه مفعول به، كما قيل: ماء دافق، وسر كاتم، أي مدفوق ومكتوم. وقال غيرهما: ما بها أحد يصفر. التعبير : الصافر تدل رؤيته على الحيرة والاختفاء والركون إلى ذوي الأقدار، خوف العدو، لأنه يقال في المثل: «أحير من صافر» ، كما تقدم. الصدف: من حيوانات البحر، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا أمطرت السماء فتحت الصدف أفواهها، وهو غلاف اللؤلؤ، الواحدة صدفة. والصوادف الإبل التي تأتي والإبل على الحوض، فتقف عند أعجازها تنتظر انصراف الشاربة، لتدخل هي. ومنه قول الراجز: الناظرات العقب الصوادف ومن خواص اللؤلؤ، أنه يذهب الخفقان ويزيل داء المرة السوداء، ويصفي دم القلب والكبد، ويجلو البصر، ولهذا يجعل في الأكحال. وإذا حل حتى يصير ماء رجراجا وطلي به البهق أذهبه من أول طلية لا غير. وأما رؤيته في المنام ، فهو على وجوه كثيرة: فإنه يدل على غلمان وجوار وولدان، ومال وكلام حسن، فمن رأى أنه يثقب لؤلؤا ثقبا مستويا، فإنه يفسر القرآن صوابا، ومن رأى اللؤلؤ بيده الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 منثورا، فإنه يبشر بغلام، إن كان له امرأة حامل، فإن لم يكن له حامل، فإنه يملك غلاما لقوله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ «1» . ومن رأى أنه يقلع لؤلؤا ويبيعه، فإنه ينسى القرآن، فإن باعه من غير قلع، فإنه يثبت عملا في الناس. ومن رأى أنه ينثر لؤلؤا فيلقطه الناس، فإنه يعظ الناس وينفعهم وعظه، ومن رأى بيده لؤلؤة يبشر بولد ذكر، فإن لم يكن له حامل، اشترى جارية، وإن كان أعزب، تزوج. ومن رأى أنه استخرج من بحر لؤلؤا كثيرا، يكال ويوزن بالقبان، فإنه ينال مالا كثيرا من رجل ينسب إلى البحر. وقال جاماسب: من رأى أنه يعد لؤلؤا نال مشقة، ومن أعطي اللؤلؤ نال رياسة، ومن رأى اللؤلؤ فإنه ينال سرورا. والعقد من اللؤلؤ يدل على امرأة ذات حسن وجمال وقد يكون العقد من اللؤلؤ عقد نكاح. الخواص : قال القزويني: الصدف ينفع وجع النقرس والمفاصل ضمادا، وإذا سحق بالخل قطع الرعاف، ولحمه ينفع من عضة الكلب، ومحرقه يجلو الأسنان استياكا. وفي الأكحال ينفع من قروح العين، وإذا طلي به موضع الشعر الزائد في الجفن، بعد نتفه، منع نباته. وينفع من حرق النار وإذا شد منه قطعة صافية على صبي، نبتت أسنانه بلا وجع اهـ. وقال غيره: الصدف الذي يتدور في جوفه حيوان وله غطاء على رأسه، يشبه الحجر، إذا سحق وذر على وجه النائم ثبت ولم يتحرك زمانا طويلا، وهو أسلم من البنج، ومما يحبس الرعاف أن يؤخذ الصدف، ويسحق مع جاوشير، ويعمل منه ضماد ويجعل على الأنف. وأما رؤيته في المنام فمن رأى بيده صدفا فإنه يصدف عن شيء عزم عليه ويبطله خيرا كان أو شرا. الصدى: طائر معروف، تقول العرب إنه يخلق من رأس المقتول، يصيح في هامة المقتول، إذا لم يؤخذ بثأره، يقول: اسقوني اسقوني حتى يقتل قاتله، ولذلك قيل له: صاد والصادي العطشان، والصدى ذكر البوم والجمع أصداء، ويقال له: ابن الجبل، وابن طود، وبنات رضوى. وقال العديس العبدي: الصدى الطائر الذي يصر بالليل ويقفز قفزا، ويطفر والناس يرونه، الجندب، وإنما هو الصدى فأما الجندب فإنه أصغر من الصدى، والصدى صوت يرجع من الصوت إذا خرج ووجد ما يحبسه. وقد تقدم في بابي الباء الموحدة والزاي قول «2» صاحب ليلى الأخيلية: ولو أنّ ليلى الأخيلية سلّمت ... علي ودوني جندل وصفائح «3» لسلمت تسليم البشاشة أوزقا ... إليها صدى من جانب القبر صائح والصدى هو الصوت الذي يحيبك من الجبال وغيرها. ولأبي المحاسن بن الشواء «4» في شخص لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 يكتم السر وقد أجاد فيه: لي صديق غدا وإن كان لا ينطق ... إلا بغيبة أو محال أشبه الناس بالصّدى إن تحدّثه ... حديثا أعاده في الحال يقال: صم صداه وأصم الله صداه أي أهلكه الله لأن الرجل إذا مات لم يسمع الصدى منه شيئا، فيجيبه. ومنه قول الحجاج لأنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: إياك أعني أصم الله صداك. روي عن علي بن زيد جدعان، أن أنسا رضي الله تعالى عنه، دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي الجائر المبير، فقال له الحجاج: إيه يا خبيث شيخا جوالا في الفتن، مع أبي تراب مرة، ومع ابن الزبير أخرى، ومع ابن الأشعث مرة، ومع ابن الجارود أخرى، أما والله لأجردنك جرد الضب، ولأقلعنك قلع الصمغة، ولأعصبنك عصب السلمة «1» ، العجب من هؤلاء الأشرار، أهل البخل والنفاق. فقال أنس رضي الله تعالى عنه: من يعني الأمير؟ فقال: إياك أعني، أصم الله صداك. قال علي بن زيد: فلما خرج أنس من عنده قال: أما والله لولا ولدي لأجبته. ثم كتب إلى عبد الملك بن مروان بما كان من الحجاج إليه، فكتب عبد الملك إلى الحجاج كتابا، وأرسله مع إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر، مولى بني مخزوم، فقدم على الحجاج وبدأ بأنس فقال له: إن أمير المؤمنين قد أكبر ما كان من الحجاج إليك، وأعظم ذلك، وأنا لك ناصح إن الحجاج لا يعدله عند أمير المؤمنين أحد، وقد كتب إليه أن يأتيك، وأنا أرى أن تأتيه فيعتذر إليك فتخرج من عنده وهو لك معظم، وبحقك عارف. ثم أتى الحجاج، فأعطاه كتاب عبد الملك، فقرأه فتمعر وجهه، وأقبل يمسح العرق عن وجهه ويقول: غفر الله لأمير المؤمنين، ما كنت أراه يبلغ مني هذا! قال إسماعيل: ثم رمى بالكتاب إليّ وهو يظن أني قرأته، ثم قال: اذهب بنا إليه، يعني أنسا، فقلت: لا بل يأتيك أصلحك الله! فأتيت أنسا رضي الله تعالى عنه، فقلت: اذهب بنا إلى الحجاج، فأتاه فرحب به، وقال: عجلت باللائمة يا أبا حمزة، إن الذي كان مني إليك، كان عن غير حقد، ولكن أهل العراق لا يحبون أن يكون لله عليهم سلطان، يقيم حجته، ومع هذا، فأنا أردت أن يعلم منافقو أهل العراق وفساقهم، إني متى أقدمت عليك، فهم علي أهون وأنا إليهم أسرع، ولك عندنا العتبى حتى ترضى. فقال أنس: ما عجلت باللائمة حتى تناولت مني العامة دون الخاصة، وحتى شمت بنا الأشرار وقد سمانا الله الأنصار، وزعمت أنا أهل بخل، ونحن المؤثرون على أنفسهم، وزعمت أنا أهل نفاق ونحن الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبل، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة لأهل العراق، باستحلالك مني ما حرم الله عليك، وبيننا وبينك الله حكم هو أرضى للرضا، وأسخط للسخط، إليه جزاء العباد، وثواب أعمالهم، ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، فو الله إن النصارى على شركهم وكفرهم، لو رأوا رجلا قد خدم عيسى عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 السلام يوما واحدا، لأكرموه وعظموه! فكيف لم تحفظ لي خدمتي رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين! فإن يكن منك إحسان شكرنا ذلك منك، وإن يكن غير ذلك صبرنا إلى أن يأتي الله بالفرج. قال: وكان كتاب عبد الملك إلى الحجاج: أما بعد فإنك عبد طمت بك الأمور، حتى عدوت طورك، وأيم الله يا ابن المستنثرة «1» بعجم الزبيب، لقد هممت أن أضغمك «2» ضغمة كضغمات الليوث للثعالب، وأخبطك خبطة تود أنك زاحمت مخرجك من بطن أمك، قد بلغني ما كان منك إلى أنس بن مالك، وأظنك أردت أن تختبر أمير المؤمنين، فإن كان عنده غيرة وإلا أمضيت قدما، فلعنة الله عليك وعلى آبائك، أخفش العينين، ممسوح الحاجبين، أحمش الساقين «3» ، نسيت مكان آبائك بالطائف، وما كانوا عليه من الدناءة واللؤم، إذ يحفرون الآبار في المناهل بأيديهم، وينقلون الحجارة على ظهورهم. فإذا أتاك كتابي هذا وقرأته، فلا تلقه من يدك حتى تلقى أنسا بمنزله، واعتذر إليه، وإلا بعث إليك أمير المؤمنين، من يسحبك ظهرا لبطن، حتى يأتي بك أنسا، فيحكم فيك ولن يخفى على أمير المؤمنين نبأك، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون. فلا تخالف كتاب أمير المؤمنين، وأكرم أنسا وولده، وإلا بعثت إليك من يهتك سترك، ولشمت بك عدوك والسلام. توفي أنس رضي الله تعالى عنه سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وتسعين بالبصرة، وهو آخر الصحابة موتا بها رضي الله تعالى عنهم أجمعين. الصّرّاخ: ككتان: الطاوس، وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الطاء المهملة. صرّار الليل: الجدجد وقد تقدم لفظه، في باب الجيم، وهو أكبر من الجندب، وبعض العرب يسميه الصدى. الصّرّاح: كرمان، طائر معروف عند العرب يؤكل. الصّرد: كرطب، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو مهمل الحروف، على وزن جعل، وكنيته أبو كثير وهو طائر، فوق العصفور يصيد العصافير، والجمع صردان، قاله النضر بن شميل، وهو أبقع ضخم الرأس، يكون في الشجرة. نصفه أبيض ونصفه أسود، ضخم المنقار، له برثن عظيم، يعني أصابعه عظيمة لا يرى إلا في سعفة أو شجرة، لا يقدر عليه أحد، وهو شرس النفس شديد النفرة، غذاؤه من اللحم وله صفير مختلف، يصفر لكل طائر يريد صيده بلغته، فيدعوه إلى التقرب منه، فإذا اجتمعوا إليه، شد على بعضهم وله منقار شديد، فإذا نقر واحدا قده من ساعته، وأكله، ولا يزال هذا دأبه. ومأواه الأشجار ورؤوس القلاع، وأعالي الحصون. فائدة : نقل الإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي، في المدهش، في قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ «4» الآية، عن ابن عباس والضحاك، ومقاتل رضي الله عنهم، قالوا: إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 موسى صلى الله عليه وسلم، لما أحكم التوراة وعلم ما فيها، قال في نفسه: لم يبق في الأرض أحد أعلم مني، من غير أن يتكلم مع أحد، فرأى في منامه كأن الله تعالى أرسل السماء بالماء، حتى غرق ما بين المشرق والمغرب، فرأى قناة على البحر، فيها صردة، فكانت الصردة تجيء للماء الذي غرق الأرض، فتنقل الماء بمنقارها، ثم تدفعه في البحر، فلما استيقظ الكليم هاله ذلك، فجاءه جبريل، فقال: ما لي أراك يا موسى كئيبا! فأخبره بالرؤيا، فقال: إنك زعمت أنك استغرقت العلم كله، فلم يبق في الأرض من هو أعلم منك، وإن لله تعالى عبدا علمك في علمه، كالماء الذي حملته الصردة بمنقارها، فدفعته في البحر. فقال: يا جبريل من هذا العبد؟ قال: الخضر بن عاميل من ولد الطيب، يعني إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، فقال: من أين أطلبه؟ قال: اطلبه من وراء هذا البحر. فقال: من يدلني عليه؟ قال. بعض زادك. قالوا: فمن حرصه على لقياه لم يستخلف على قومه، ومضى لوجهه، وقال لفتاه يوشع بن نون: هل أنت موازري؟ قال: نعم. قال: اذهب فاحمل لنا زادا، فانطلق يوشع، فاحتمل أرغفة وسمكة مالحة عتيقة، ثم سارا في البحر، حتى خاضا وحلا وطينا، ولقيا تعبا ونصبا، حتى انتهيا إلى صخرة ناتئة في البحر، خلف بحر أرمينية، يقال لتلك الصخرة قلعة الحرس، فأتياها فانطلق موسى ليتوضأ، فاقتحم مكانا، فوجد عينا من عيون الجنة، في البحر، فتوضأ منها وانصرف، ولحيته تقطر ماء. وكان عليه الصلاة والسلام حسن اللحية، ولم يكن أحد أحسن لحية منه، فنفض موسى لحيته، فوقعت قطرة منها على تلك السمكة المالحة، وماء الجنة لا يصيب شيئا ميتا إلا عاش، فعاشت السمكة ووثبت في البحر، فسارت وصار مجراها في البحر سربا يبسا، ونسي يوشع ذكر السمكة، فلما جاوزا، قال موسى لفتاه آتِنا غَداءَنا «1» الآية فذكر له أمر السمكة، فقال له: ذلك الذي نريده فرجعا يقصان أثرهما، فأوحى الله تعالى إلى الماء فجمد، وصار سربا على قامة موسى وفتاه، فجرى الحوت أمامهما حتى خرج إلى البر وسار، فسار مسيره لهما جادة، فسلكاها فناداهما مناد من السماء، أن دعا الجادة فإنها طريق الشياطين إلى عرش ابليس، وخذا ذات اليمين، فأخذا ذات اليمين حتى انتهيا إلى صخرة عظيمة، وعندها مصلى، فقال موسى عليه السلام: ما أحسن هذا المكان! ينبغي أن يكون للعبد الصالح، فلم يلبثا أن جاء الخضر عليه السلام، حتى انتهى إلى ذلك المكان والبقعة، فلما قام عليها اهتزت خضراء، قالوا: وإنما سمي الخضر، لأنه لا يقوم على بقعة بيضاء إلا صارت خضراء. فقال موسى عليه الصلاة والسلام: السلام عليك يا خضر. فقال: وعليك السلام يا موسى، يا نبي بني إسرائيل. فقال: ومن أدراك من أنا؟ قال: أدراني الذي دلك على مكاني، فكان من أمرهما ما كان، وما قصه القرآن العظيم انتهى. وقد تقدم ذكرهما أيضا في باب الحاء المهملة في الحوت، ونقلنا الخلاف في اسم الخضر ونسبه ونبوته، قال القرطبي: ويقال له الصرد الصوام. روينا في معجم عبد الغني بن قانع، عن أبي غليظ أمية بن خلف الجمحي، قال: رآني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى يدي صرد، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا أول طير صام، ويروى أنه أول طير صام يوم عاشوراء. وكذلك أخرجه الحافظ أبو موسى. والحديث مثل اسمه غليظ، قال الحاكم: وهو من الأحاديث التي وضعها قتلة الحسين رضي الله عنه، رواه عبد الله بن معاوية بن موسى عن أبي غليظ قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى يدي صرد، فقال: هذا أول طائر صام عاشوراء. وهو حديث باطل رواته مجهولون. فائدة : قيل: لما خرج ابراهيم صلى الله عليه وسلم من الشأم، لبناء البيت، كانت السكينة معه والصرد، فكان الصرد دليله على الموضع، والسكينة بمقداره، فلما صار إلى موضع البيت، وقفت السكينة في موضع البيت، ونادت ابن يا ابراهيم على مقدار ظلي. قال جماعة من المفسرين: إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل خلق الأرض بألفي عام فكان زبدة بيضاء على الماء، فدحيت الأرض من تحتها، فلما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض، استوحش، فشكا إلى الله تعالى، فأنزل الله تعالى له البيت المعمور، وهو ياقوتة من يواقيت الجنة، له بابان من زبرجد أخضر، باب شرقي وباب غربي، فوضع على موضع البيت، وقال: يا آدم إني أهبطت إليك بيتا تطوف به، كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي، وأنزل الحجر الأسود، وكان بياضه أشد من اللبن، فاسود من لمس الحيض في الجاهلية، فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشيا، وقيض الله له ملكا يدله على البيت، فحج آدم البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا: بر حجك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وروي أن آدم عليه السلام حج أربعين حجة من الهند إلى مكة ماشيا وكان البيت على ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله إلى السماء الرابعة، وبعث جبريل عليه السلام فخبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خاليا إلى زمن ابراهيم عليه الصلاة والسلام. ثم إن الله تعالى أمر ابراهيم بعدما ولد له اسماعيل عليه الصلاة والسلام ببناء بيت يذكر فيه، فسأل الله أن يبين له موضعه، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت، وهي ريح خجوج لها رأسان، شبه الحية، وقيل: الخجوج الريح الشديدة الهفافة البراقة، لها رأس كرأس الهرة وذنب كذنبها، ولها جناحان من در وزبرجد، وعينان لهما شعاع، وقال علي رضي الله عنه: هي ريح خجوج هفافة لها رأسان، ووجه كوجه الانسان، أمر إبراهيم عليه السلام أن يبني حيث تستقر السكينة، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطوقت السكينة على موضع البيت، كتطوق الحية. قاله علي والحسن رضي الله عنهما، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعث الله سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم عليه السلام يمشي في ظلها، إلى أن وافت به مكة المشرفة، ووقفت عند البيت المعظم، فنودي منها إبراهيم عليه السلام: ابن على ظلها ولا تزد ولا تنقص. وقيل: أرسل الله جبريل عليه السلام فدله على موضع البيت، وقيل كان دليله الصرد، كما تقدم. فكان ابراهيم يبني، واسماعيل يناوله الحجارة، فبناه من خمسة أجبل: طور سينا وطور زيتا ولبنان، وهي جبال بالشام، والجودي، وهو جبل بالجزيرة، وبنيا القواعد من حراء، وهو جبل بمكة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 فلما انتهى ابراهيم إلى موضع الحجر الأسود، قال لابنه اسماعيل: ائتني بحجر حسن يكون للناس علما، فأتاه بحجر، فقال: ائتني بأحسن من هذا، فمضى اسماعيل ينظر حجرا، فصاح أبو قبيس: يا ابراهيم إن لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه. وقيل: أول من بنى الكعبة آدم عليه السلام واندرس زمن الطوفان، ثم أظهره الله تعالى لإبراهيم حتى بناه فذلك قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ «1» يعني أسسه واحدتها قاعدة وقال الكسائي: يعني جدره. الحكم : الأصح تحريم أكله، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه عبد الحق، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل النحلة والنملة والهدهد والصرد» «2» والنهي عن القتل دليل على الحرمة، ولأن العرب تتشاءم بصوته وشخصه. وقيل: إنه يؤكل لأن الشافعي أوجب فيه الجزاء على المحرم، إذا قتله وبه قال مالك. قال الإمام العلامة القاضي أبو بكر بن العربي «3» : إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، لأن العرب كانت تتشاءم به، فنهى عن قتله ليخلع عن قلوبهم ما ثبت فيها من اعتقادهم الشؤم فيه، لا إنه حرام. وذكره العبادي، في الطبقات أيضا. عجيبة : حكى منصور بن الحسين الآبي، في نثر الدرر، أن أعرابيا سافر ابنه ثم أتاه، فقال له أبوه: ما رأيت في طريقك؟ قال: جئت السقاء مرة أشرب، فصاح الصرد فقال: اتركها وإلا فلست بابني! قال: فتركتها. قال: ثم أخذني العطش فأتيت إليها ثانيا فصاح الصرد فقال: اتركها وإلا فلست بابني! قال: فتركتها، ثم زادني العطش فأتيت إليها ثالثا فصاح الصرد فقال: قدها بسيفك وإلا فلست با بني! قال: كذلك فعلت. قال: هل رأيت الحية داخلها؟ قال: نعم قال: الله أكبر. قال: وسافر ولد أعرابي ثم أتى إليه فقال: أخبرني ماذا رأيت في طريقك؟ قال: رأيت طائرا على أكمة. فقال الصرد: أطره وإلا لست أباك! قال: فأطرته، قال: ثم ماذا؟ قال: سقط على شجرة فقال: أطره وإلا لست أباك! قال: كذلك فعلت. قال: ثم ماذا؟ قال: سقط على صخرة قال: اقلبها وإلا لست أباك. قال: كذلك فعلت. قال: اعطني سهمي مما وجدت تحتها، وكان تحتها كنز أخذه ولده، فأعطاه سهمه منه. التعبير : هو في المنام يدل على رجل مراء يظهر الخشوع نهارا ويفجر ليلا. وقيل: هو من قطاع الطريق يجمع أموالا كثيرة ولا يخالط أحدا. الصرصر: ويقال له الصرصار أيضا، حيوان فيه شبه من الجراد، قفاز يصيح صياحا رقيقا، وأكثر صياحه بالليل ولذلك سمي صرار الليل، وهو نوع من بنات وردان عري عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 الأجنحة. وقيل: إنه الجدجد وقد تقدم أن الجوهري فسر الجدجد بصرار الليل، ولا يعرف مكانه إلا بتتبع صوته، وأمكنته المواضع الندية، وألوانه مختلفة فمنه ما هو أسود، ومنه ما هو أزرق، ومنه ما هو أحمر، وهو جندب الصحارى والفلوات. وحكمه : تحريم الأكل لاستقذاره. الخواص : قال ابن سينا: إنه مع القردمانة نافع من البواسير والنافض، وسموم الهوام ويحرق ويسحق ويضاف إلى الأثمد ويكتحل به، يحد البصر: ومع مرارة البقر ينفع من طرفة العين اكتحالا. الصرصران: سمك أملس معروف. الصعب: طائر صغير والجمع صعاب. الصّعوة: طائر من صغار العصافير، أحمر الرأس وهو بفتح الصاد وإسكان العين المهملتين والجمع صعو. وفي كتاب العين والمحكم صغار العصافير. روى أحمد، في كتاب الزهد، عن مالك بن دينار، أنه كان يقول: الناس أشكال كأجناس الطير الحمام مع الحمام، والبط مع البط والصعو مع الصعو والغراب مع الغراب وكل إنسان مع شكله. ومن شعر القاضي أحمد بن محمد الأرجاني «1» بفتح الهمزة وكسر الراء المهملة مع خلاف في تشديدها، وهو شيخ العماد الأصبهاني الكاتب ووفاته في سنة أربع وأربعين وخمسمائة: لو كنت أجهل ما علمت لسرّني ... جهلي كما قد ساءني ما أعلم كالصّعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يتكلم «2» ومن شعره أيضا وأجاد «3» : أحبّ المرء ظاهره جميل ... لصاحبه وباطنه سليم مودته تدوم لكلّ هول ... وهل كلّ مودته تدوم وهذا البيت الأخير يقرأ معكوسا من آخره إلى أوله ولا يتغير شيء من لفظه ولا من معناه. ومن شعره أيضا رحمه الله: شاور سواك إذا نابتك نائبة ... يوما وإن كنت من أهل المشورات «4» فالعين تلقى كفاحا من دنا ونأى ... ولا ترى نفسها إلا بمرآة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ومن شعره أيضا «1» : يأبى العذار المستدير بخدّه ... وكمال بهجة وجهه المنعوت فكأنما هو صولجان زمرد ... متلقف كرة من الياقوت ويقرب من هذا المعنى، ما حكاه ابن خلكان قال: كان بين العماد الكاتب، تلميذ القاضي الأرجاني وبين القاضي الفاضل محاورات، فمن ذلك أنه لقيه يوما وهو راكب فرسا، فقال له العماد: سر فلا كبابك الفرس! فقال له الفاضل: دام علا العماد. وهذا أيضا مما يقرأ من آخره إلى أوله، ولا يتغير شيء من لفظه ولا معناه، وروي أنهما اجتمعا يوما في موكب السلطان، وقد انتشر من الغبار ما سد الفضاء فأنشد «2» العماد الكاتب: أما الغبار فإنه ... مما أثارته السنابك والجوّ منه مظلم ... لكن أنار به السنابك يا دهر لي عبد الرحيم ... فلست أخشى مسّ نابك وهذا التجنيس في غاية الحسن. توفي العماد في مستهل رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية. وتوفي الفاضل في سابع شهر ربيع الآخر سنة سبع وتسعين وخمسمائة بالقاهرة، ودفن بتربة بسفح المقطم. وحكمها وخواصها وتعبيرها كالعصافير. الأمثال : قالوا: «أضعف من صعوة» كما قالوا: «أضعف من وصعة» . الصّفّارية: بضم الصاد وتشديد الفاء، طائر يقال له التبشير، وقد تقدم ذكره في باب التاء المثناة فوق. الصفر: بفتح الصاد والفاء، قيل: إن الجاهلية، كانت تعتقد، أن في الجوف حية على شراسيفه، والشراسيف أطراف الأضلاع التي تشرف على البطن، يقال لها الصفر، إذا تحركت جاع الإنسان وتؤذيه إذا جاع، وأنها تعدي، فأبطل الإسلام ذلك. روى مسلم عن جابر وأبي هريرة وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا غول» «3» . ومعنى لا عدوى ما يتوهم من تعدي مرض من جرب وحكة وغيرهما من الأمراض، من شخص به ذلك المرض إلى شخص آخر، بسبب مخالطة وغيرها. وفي الحديث الصحيح أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت لا عدوى فما بال الإبل تكون سليمة، حتى يدخل فيها البعير الأجرب فتصبح جربى؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «فمن أعدى الأول» «4» فرد عليه الصلاة والسلام ما توهمه من تعدي المرض بنفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وأعلمه أن الله تعالى هو المؤثر. وقد تقدم في باب الهمزة، في الأسد، في الكلام على المجذوم قريب من هذا. ومعنى الطيرة يأتي إن شاء الله تعالى في باب الطاء المهملة المشالة. وأما الصفر ففيه تأويلان: أحدهما المراد تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر وهو النسيء الذي كانوا يفعلونه وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، والثاني أنه الحية التي كانت العرب تعتقد فيها ما تقدم. قال الإمام النووي: وهذا التفسير هو الصحيح الذي عليه عامة العلماء وقد ذكره مسلم عن جابر رضي الله عنه راوي الحديث فتعين اعتماده، ويجوز أن يكون المراد هذا والأول جميعا وأن الصفرين جميعا باطلان لا أصل لهما والله أعلم. الصفرد: بكسر أوله وسكون ثانيه كعربد نقل الميداني عن أبي عبيدة أنه طائر من خساس الطير وفي المثل «1» «أجبن من صفرد» قال الشاعر: تراه كالليث لدى أمنه ... وفي الوغى أجبن من صفرد وقال الجوهري: الصفرد طائر تسميه العامة أبا مليح، وفي المرصع أن أبا المليح كنية القبيح، والعندليب، وطائر صغير يقال له الصفرد كالعصفور، وهو داخل في عموم العصافير. الصقر: الطائر الذي يصاد به، قاله الجوهري، وقال ابن سيده: الصقر كل شيء يصيد من البزاة والشواهين، والجمع أصقر وصقور وصقورة وصقار وصقارة. قال سيبويه: إنما جاؤوا بالهاء في مثل هذا الجمع تأكيدا نحو بعولة، والأنثى صقرة والصقر هو الأجدل، ويقال له القطامي، وكنيته أبو شجاع وأبو الأصبع وأبو الحمراء وأبو عمرو وأبو عمران وأبو عوان. قال النووي، في شرح المهذب: قال أبو زيد الأنصاري المروزي: يقال للبزاة والشواهين وغيرهما مما يصيد صقور، واحدها صقر، والأنثى صقرة وزقر، بإبدال الصاد زايا وسقر بإبدالها سينا. وقال الصيدلاني، في شرح المختصر: كل كلمة فيها صاد وقاف ففيها اللغات الثلاث، كالبصاق والبزاق والبساق. وأنكر ابن السكيت بسق وقال: إنما معناه طال، قال الله تعالى: وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ «2» أي مرتفعات. روى «3» أحمد، في مسنده حدثنا قبيضة قال: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة، فكان إذا خرج أغلق الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع. قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لنفتضحن! فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب فقال داود: أنت إذن والله ملك الموت، مرحبا بأمر الله، ثم مكث مكانه حتى قبضت روحه، فلما غسل وكفن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلي على داود فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض، فقال سليمان للطير: اقبضي جناحا جناحا» . قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وغلبت عليه يومئذ المضرحية، انفرد باخراجه الإمام أحمد وإسناده جيد ورجاله ثقات. ومعنى قوله وغلبت عليه يومئذ المضرحية، أي غلبت على التظليل عليه الصقور الطوال الأجنحة. واحدها مضرحي. قال الجوهري: وهو الصقر الطويل الجناح. ويوضح هذا المعنى ويبينه ما روي عن وهب بن منبه، أنه قال: إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام، فجلسوا في الشمس، في يوم صائف، وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب، عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس، فآذاهم الحر فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل لهم وقاية عليهم، لما أصابهم من الحر، فخرج سليمان فنادى الطير، فأجابت فأمرها أن تظل الناس فتراص بعضها إلى بعض من كل وجه، حتى استمسكت الريح، فكاد الناس أن يهلكوا غما، فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم، فخرج سليمان فنادى الطير أن أظلي الناس من ناحية الشمس وتنحي عن ناحية الريح، ففعلت فكان الناس في ظل، وتهب عليهم الرياح فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان عليه السلام. فائدة : قال الضحاك والكلبي: ملك داود عليه السلام بعد قتله جالوت سبعين سنة، ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود عليه السلام، وجمع الله لداود بين الملك والنبوة، ولم يجتمع ذلك لأحد قبله، بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط، فذلك قوله «1» تعالى: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ قيل: العلم مع العمل وكل من علم وعمل فقد أوتي الحكمة وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا، كان يحرس محرابه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، فذلك قوله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ «2» وقال مقاتل: كان سليمان عليه السلام أعظم ملكا من داود، وأقضى منه وكان شاكرا لأنعم الله تعالى، وكان داود أشد تعبدا منه. توفي داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة، وكان عمر سليمان عليه السلام لما وصل إليه الملك ثلاث عشرة سنة ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. والصقر أحد أنواع الجوارح الأربعة: وهي الصقر والشاهين والعقاب والبازي، وتنعت أيضا بالسباع والضواري والكواسر، والصقر ثلاثة أنواع: صقر وكونج ويؤيؤ، والعرب تسمى كل طائر يصيد صقرا، ما خلا النسر والعقاب، وتسميه الأكدر والأجدل والأخيل، وهو من الجوارح بمنزلة البغال من الدواب، لأنه أصبر على الشدة وأحمل لغليظ الغذاء والأذى وأحسن ألفا وأشد إقداما على جملة الطير من الكركي وغيره. ومزاجه أبرد من سائر ما تقدم ذكره من الجوارح وأرطب، وبهذا السبب يضري على الغزال والأرنب، ولا يضري على الطير، لأنها تفوته وهو أهدأ من البازي نفسا، وأسرع أنسا بالناس وأكثرها قنعا، يغتذي بلحوم ذوات الأربع، ولبرد مزاجه لا يشرب ماء ولو أقام دهرا، ولذلك يوصف بالبخر ونتن الفم. ومن شأنه أنه لا يأوي إلى الأشجار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ولا رؤوس الجبال، إنما يسكن المغارات والكهوف وصدوع الجبال. وللصقر كفان في يديه، وللسبع كفان في يديه لأنه يكف بهما عما أخذ، أي يمنع وأول من صاد به الحارث بن معاوية بن ثور «1» ، وذلك أنه وقف يوما على صياد وقد نصب شبكة للعصافير، فانقض صقر على عصفور وجعل يأكله، والحارث يعجب منه فأمر به فوضع في بيت ووكل به من يطعمه ويؤدبه ويعلمه الصيد، فبينما هو معه ذات يوم، وهو سائر إذ لاحت أرنب فطار الصقر إليها فأخذها، فازداد الحارث به إعجابا، واتخذه العرب بعده. الصنف الثاني من الصقور الكونج، ونسبته من الصقور، كنسبة الزرق إلى البازي، إلا أنه أحرمه ولذلك هو أخف منه جناحا وأقل بخرا ويصيد أشياء من صيد المياه ويعجز عن الغزال الصغير. الصنف الثالث من الصقور اليؤيؤ، ويسميه أهل مصر والشام الجلم، لخفة جناحيه وسرعتهما، ولأن الجلم هو الذي يجز به وهو المقص، وهو طائر صغير الذنب، ومزاجه بالنسبة إلى الباشق بارد رطب، لأنه أصبر منه نفسا، وأثقل حركة، ولا يشرب الماء إلا ضرورة، كما يشربه الباشق، إلا أنه أبخر منه، ومزاجه بالنسبة إلى الصقر، حار يابس، ولذلك هو أشجع منه. ويقال: إن أول من ضراه واصطاد به بهرام جور، وذلك أنه شاهد يؤيؤا يطارد قنبرة ويراوعها ويرتفع وينخفض معها وما تركها إلى أن صادها فأعجبه وأمر به فأدب وصاد به وقال الناشىء «2» في وصفه: ويؤيؤ مهذّب رشيق ... كأنّ عينيه لدى التحقيق فصّان مخروطان من عقيق وقال أبو نواس «3» في وصفه: قد اغتدي والصبح في دجاه ... كطرة البدر لدى مثناه «4» بيؤيؤ يعجب من رآه ... ما في اليآيئ يؤيؤ سواه أزرق لا تكذبه عيناه ... فلو يرى القانص ما يراه فداه بالأمّ وقد فدّاه ... هو الذي خوّلناه الله تبارك الله الذي هداه فائدة أدبية : ذكر الإمام العلامة الطرطوشي، في سراج الملوك، عن الفضل بن مروان، قال: سألت رسول ملك الروم عن سيرة ملكهم فقال: بذل عرفه وجرد سيفه، فاجتمعت عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 القلوب رغبة ورهبة، سهل النوال حزن النكال، الرجاء والخوف معقودان في يده. قلت: كيف حكمه؟ قال: يرد المظالم ويردع الظالم، ويعطي كل ذي حق حقه، فالرعية اثنان: مغتبط وراض. قلت: فكيف هيبته فيهم؟ قال: تصورت في قلوبهم فتغضى له العيون، فنظر رسول ملك الحبشة إلى إصغائي إليه وإقبالي عليه، وكانت الرسل تنزل عندي، فقال لترجمانه: ما الذي يقول الرومي؟ قال: يصف لهم ملكهم، ويذكر سيرته. فكلم ترجمانه فقال لي الترجمان: إنه يقول إن ملكهم ذو اناة عند القدرة، وذو حلم عند الغضب، وذو سطوة عند المغالبة، وذو عقوبة عند الإجرام، قد كسا رعيته جميل نعمته، وفسرهم بعنيف عقوبته، فهم يتراءونه ترائي الهلال خيالا، ويخافونه مخافة الموت نكالا، قد وسعهم عدله، وراعهم قهره، لا تمتهنه مزحة، ولا توالسه غفلة، إذا أعطى أوسع، وإذا عاقب أوجع، فالناس اثنان راج وخائف، فلا الراجي خائب الأمل، ولا الخائف بعيد الأجل. قلت: فكيف كانت هيبتهم له؟ قال: لا ترفع العيون إليه أجفانها، ولا تتبعه الأبصار إنسانها، كأن رعيته طيور فرفرف عليهم صقور صوائد. قال الفضل: فحدثت المأمون بهذين الحديثين فقال: يا فضل كم قيمتها عندك؟ قلت: ألفا درهم. قال: إن قيمتها عندى أكثر من الخلافة، أما علمت حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «قيمة كلّ امرىء ما يحسن» أفتعرف أحدا من الخطباء والبلغاء، يحسن أن يصف أحدا من خلفاء الله الراشدين المهديين، بمثل هذه الصفة؟ قلت: لا. قال: أمرت لهما بعشرين ألف دينار معجلة واجعل العدة بيني وبينهما، على العود فلولا حقوق الاسلام وأهله، لرأيت إعطاءهما جميع ما في بيت المال دون ما استحقاه انتهى. وكان الفضل بن مروان «1» ، قد أخذ البيعة للمعتصم «2» ببغداد، والمعتصم بالروم مع المأمون، فاعتد المعتصم له بها يدا، واستوزره فغلب عليه، واستقل بالأمور، فكانت الخلافة للمعتصم اسما وللفضل معنى. قيل: إن الفضل جلس يوما لأشغال الناس، فرفعت إليه قصص العامة فرأى فيها رقعة مكتوبا فيها هذه الأبيات «3» : تفرعنت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادتهم الأقياد والحبس والقتل وإنك قد أصبحت في الناس ظالما ... ستؤذى كما أوذي الثلاثة من قبل أراد الفضل بن يحيى البرمكي «4» ، والفضل بن الربيع «5» ، والفضل بن سهل «6» . وكان المعتصم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 يأمر بإعطاء المغني والنديم، فلا ينفذ الفضل ذلك، فحقد المعتصم عليه، لذلك ونكبه أهل بيته، وجعل مكانه محمد بن عبد الملك الزيات «1» . وكان الفضل مذموم الأخلاق، فلما نكب شمت به الناس حتى قال فيه بعضهم: لتبك على الفضل بن مروان نفسه ... فليس له باك من الناس يعرف لقد صحب الدنيا منوعا لخيرها ... وفارقها وهو الظلوم المعنف إلى النار فليذهب ومن كان مثله ... على أي شيء فاتنا منه نأسف ولما نكب المعتصم الفصل بن مروان قال: عصى الله في طاعتي، فسلطني عليه. وكان المعتصم قد أخذ ماله ولم يتعرض لنفسه. وقيل: إنه أخذ من داره ألف ألف دينار، وأثاثا وآنية بألف ألف دينار، وحبسه خمسة أشهر وأطلقه. فخدم بعد ذلك جماعة من الخلفاء وتوفي سنة خمسين ومائتين. ومن كلامه: لا تتعرض لعدوك وهو مقبل، فإن إقباله يعينه عليك، ولا تتعرض له وهو مدبر فإن أدباره يكفيك أمره. فائدة أخرى أدبية أيضا قد تقدمت الإشارة إليها، في الرسالة التي كتبتها في الشاهين، قول أبي الحسن علي بن الرومي «2» في قصيدته التي يقول فيها: هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم «3» كأنه الشمس في البرج المنيف به ... على البرية لا نار على علم مراده بالبرج قصره العالي لما شبهه بالشمس جعل قصره برجا وأراد التمليح على الخنساء في قولها في أخيها صخر: وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار قال شيخنا شمس الدين محمد بن العماد: وأبو الصقر لم أقف له على ترجمة ولا وفاة وأبوه ابن عم معن بن زائدة الشيباني، وكان من قواد أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور، وتولى الأعمال الجليلة والولايات السنية، وتوفي قبل الثمانين ومائة. وكان يسكن البادية هو وولده أبو الصقر، وإليه الإشارة بقول ابن الرومي في البيت «بين الضال والسلم» وهما من شجر البادية. وتولى أبو الصقر بعض الولايات للواثق هارون بن المعتصم وولده المنتصر من بعده وعاش إلى خلافة المعتضد وولده المعتمد. وسكنى البادية مما يتمدح به العرب ومنه قوله: الموقدين بنجد نار بادية ... لا يحضرون وفقد العز في الحضر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 ولم أر له أكثر من ذلك انتهى. وتوفي أبو الحسن بن الرومي ببغداد في جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وفيه خلاف. وكان سبب موته، على ما قاله ابن خلكان وغيره، أن القاسم بن عبيد الله وزير المعتضد خاف من هجوه، فدس عليه أبو فراس فأطعمه خشكنانة مسمومة، فلما أحس بالسم قام، فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال: سلم على والدي، فقال: ما طريقي على النار. فأقام أياما ومات. الحكم : يحرم أكل الصقر لعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير. قال الصيدلاني: اختلف في الجوارح ما هي؟ فقيل: ما يجرح الصيد بناب أو مخلب أو ظفر، وقيل: الجوارح الكواسب وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الجوارح الصوائد. وهذا راجع إلى معنى الكسب انتهى. فجميع الجوارح عندنا محرمة، لعموم هذا النهي المتقدم ذكره قريبا، وذهب مالك إلى حلها، وقال: ما لا نص فيه حلال، حتى هدى بعض أصحابه ذلك إلى الكلب والأسد والنمر والدب والقرد وغير ذلك. وقال في الحمار الأهلي: إنه مكروه، وفي الفرس والبغل إنهما حرامان، احتجاجا بقوله «1» تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً الآية. وأجاب الشافعي عن ذلك فقال: يعني مما كنتم تأكلون إذ لا معنى لإباحة شيء مما لا يأكلونه ولا يستطيبونه كما لا يصح أن يحمل قوله «2» تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً على ما هو حرام قبل، وإنما يصح على ما يعتاد صيده. الأمثال : قالوا: «أخلف من صقر» «3» ، وهو من خلوف الفم بفتخ الخاء المعجمة وهو تغير رائحته ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» «4» . ووقع نزاع بين الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، والشيخ عز الدين بن عبد السلام، رحمهما الله تعالى، في أن هذا الطيب في الدنيا والآخرة معا، أم في الآخرة خاصة؟ فقال الشيخ عز الدين: في الآخرة خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية «5» لمسلم «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة» . وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هو عام في الدنيا والآخرة واستدل بأشياء كثيرة فذكرها، منها ما جاء في مسند ابن حبان بكسر الحاء المهملة، وهو من أصحابنا الفقهاء المحدثين، قال: باب في كون ذلك يوم القيامة، وباب في كونه في الدنيا، وروى في هذا الباب بإسناده الثابت الصحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لخلوف فم الصائم حين يخلف، أطيب عند الله من ريح المسك» . وروى الإمام أبو الحسن بن سفيان، بسنده عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا قال: وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 أفواههم عند الله أطيب من ريح المسك» . ورواه الإمام الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه، وقال: هو حديث حسن وكل واحد من المحدثين مصرح بأنه بمجيء وقت وجود الخلوف في الدنيا يتحقق وصفه بكونه أطيب عند الله من ريح المسك. قال: وقد قال العلماء شرقا وغربا بمعنى ما ذكرته في تفسيره. قال الخطابي: طيبه عند الله رضاه به. وقال ابن عبد البر: معناه أذكى عند الله وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك. وقال البغوي في شرح السنة: معناه الثناء على الصائم والرضا بفعله. وكذا قاله الإمام القدوري، إمام الحنفية في كتابه في الخلاف، معناه أفضل عند الله من الرائحة الطيبة. وقاله الإمام العلامة البوني صاحب اللمعة وغيرها وهو من قدماء المالكية. وكذا قاله الإمام أبو عثمان الصابوني، وأبو بكر السمعاني، وأبو حفص بن الصفار من أكابر أئمة الشافعية في أماليهم وأبو بكر بن العربي المالكي وغيرهم. فهؤلاء أئمة المسلمين شرقا وغربا، لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر أحد منهم وجها بتخصيصه بالآخرة، مع أن كتبهم جامعة للوجوه والمشهورة والغريبة ومع أن الرواية التي فيها ذكر يوم القيامة مشهورة في الصحيح، بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما مما هو ثابت في الدنيا والآخرة. وأما ذكر يوم القيامة، في تلك الرواية فلأنه يوم الجزاء، وفيه يظهر رجحان الخلوف على المسك المستعمل، لدفع الرائحة الكريهة طالبا لرضا الله تعالى، حيث يؤمر باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة، كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات، فخص يوم القيامة بالذكر في رواية لذلك، كما خص في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ «1» وأطلق في باقي الروايات ان فضيلته ثابته في الدارين، انتهى كلام الشيخ أبي عمرو رحمه الله. والذي ينبغي أن يعلم أن جميع ما وقع فيه الخلاف بينهما فالصواب فيه ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام، إلا هذه المسألة، فإن الصواب فيها ما قاله الشيخ أبو عمرو بن الصل اح، رحمه الله. والله تعالى أعلم، وقالوا: «أبخر من صقر» «2» . قال الشاعر: وله لحية تيس ... وله منقار نسر وله نكهة ليث ... خالطت نكهة صقر الخواص : قال ابن زهر: الصقر لا مرارة له، وإذا أمسكه إنسان مات فرقا، ودماغه إذا دلك به القضيب هيج الباه. وقال أبو ساري الديلمي، في عين الخواص له: ودماغ الصقر، إذا مسح به الكلف الأسود قلعه ونقاه، وإذا مسح به الحزاز أذهبه. التعبير : قال ابن المقري: رؤية الصقر تدل على العز والسلطان، والنصر على الأعداء، وبلوغ الآمال، والرتبة، والأولاد، والأزواج، والمماليك والسراري، ونفائس الأموال، والصحة وتفريج الهموم، والإنكار وصحة الأبصار، وكثرة الأسفار، وعودة بالربح الطائل، وربما دل على الموت لاقتناصه الأرواح، وربما دل على السجن والترسيم، والتقدير في المطعم والمشرب والمعلم بالنسبة إلى الغشيم، يدل على رجل فصيح وكذلك سباع الطير بأسرها، لأنها تجوز على الحيوان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 فتكسر عظمه وتهشم لحمه. فمن رأى من هذه الجوارح شيئا من غير منازعة، فإنه ينال مغنما، وكل حيوان يصاد به، كالكلب والفهد والصقر يعبر بولد شجاع فمن تبعه صقر، فإن رجلا شجاعا يعطف عليه، وإن كان له حامل، فإنه يرزق ولدا شجاعا، وكل الجوارح المعلمة تدل على الولد الذكر. ومن المنامات المعبرة، أتى رجل إلى ابن سيرين، فقال: رأيت كأن حمامة نزلت على شرفات السور، فأتاها صقر فابتلعها، فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك، ليتزوج الحجاج بنت الطيار. فكان كذلك والله أعلم. الصل: بكسر الصاد، الحية التي لا تنفع فيها الرقية. ومنه قالوا: «فلان صل مطرق» . وبه وصف إمام الحرمين تلميذه أبا المظفر أحمد بن محمد الخوافي، وكان علامة أهل طوس، نظير الغزالي، وكان عجيبا في المناظرة رشيق العبارة، توفي سنة خمسمائة، وكان هو والكيا الهراسي «1» والغزالي أكبر تلامذة إمام الحرمين رحمة الله عليهم. الصّلب: كصرد طائر معروف ذكره في العباب. الصلنباج: كسقنطار سمك طويل دقيق، ذكره في العباب أيضا. الصلصل: بالضم الفاختة، قاله الجوهري وغيره، وسيأتي ما في الفاختة، في باب الفاء إن شاء الله تعالى. الصناجة: قال القزويني في الأشكال: ليس شيء أكبر من هذا الحيوان، وهو يكون بأرض التبت، وهذا الحيوان يتخذ لنفسه بيتا بقدر فرسخ في الأرض، في فرسخ وكل حيوان وقع بصره عليه مات في الحال، وإذا وقع بصر الصناجة عليها ماتت الصناجة، والحيوانات تعرفه فتعرض له مغمضة العين ليقع بصر الصناجة عليها فتموت، وإذا ماتت تبقى طعمة للحيوان مدة طويلة وهذا من عجائب الوجود. قلت: وقد استعمل الحريري لفظة الصناجة، في المقامة السادسة والأربعين، حيث قال: أحسنت يا نغيش، يا صناجة الجيش. قال الشراح لكلامه: النغيش القصير. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «رأى نغاشيا فخر ساجدا» . وفسروا صناجة الجيش بأنها الطبل المعروف. قلت: ووجه الشبه أنه لما كان يطرب بالصنج كطرب الجماعة الحاضرين به سماه بذلك. فالهاء فيه للمبالغة. والصناجة أيضا ذات الصنج، وهي آلة لهو تتخذ من صفر يضرب أحدهما بالآخر. قال الحافظ ابن عبد البر وغيره: أول موروث في الإسلام عدي بن نضلة. وأول وارث نعمان بن عدي، كان عدي قد هاجر إلى أرض الحبشة، فمات بها فورثه ابنه نعمان هناك، واستعمله عمر رضي الله تعالى عنه على ميسان ولم يستعمل من قومه غيره وراود امرأته على الخروج معه فأبت فكتب «2» إليها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... وصنّاجة تحدو على كلّ منسم إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلّم لعلّ أمير المؤمين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم «1» فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، غافِرِ الذَّنْبِ، وَقابِلِ التَّوْبِ، شَدِيدِ الْعِقابِ، ذِي الطَّوْلِ «2» الآية. أما بعد فقد بلغني قولك: لعلّ أمير المؤمنين يسوؤه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم وايم الله لقد ساءني، ثم عزله. فلما قدم عليه سأله فقال: ما كان من هذا شيء وما كان إلا فضل شعر وجدته وما شربتها قط. فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أظن ذلك، ولكن لا تعمل لي عملا أبدا. فنزل البصرة ولم يزل يغزو مع المسلمين حتى مات. وشعره فصيح يستشهد به أهل اللغة على أن ندمان بمعنى نديم. الصوار: القطيع من البقر، والجمع صيران، والصوار أيضا وعاء المسك وقد جمعهما الشاعر في قوله: إذا لاح الصوار ذكرت ليلى ... وأذكرها إذا نفخ الصّوار الصومعة: العقاب، لأنها أبدا مرتفعة على أشرف مكان تقدر عليه هكذا قاله كراع في المجرد. الصيبان: تقدم بما فيه في أول الباب. الصيد: مصدر، عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ «3» وقال أبو طلحة الأنصاري رضي الله تعالى عنه: أنا أبو طلحة واسمي زيد ... وكلّ يوم في سلاحي صيد وبوب البخاري رحمه الله، في أول الربع الرابع من كتابه، فقال: باب قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ «4» وقال عمر رضي الله عنه: صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به. وقال أبو بكر رضي الله عنه: الطافي حلال. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: طعامه ميتته إلا ما قدرت عليها، والجري لا تأكله اليهود ونحن نأكله. وقال أبو شريح، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء في البحر مذبوح، وقال عطاء: أما الطير فأرى أن يذبحه. وقال ابن جريج: قلت لعطاء: صيد الأنهار وقلات السيل أصيد بحر هو؟ قال: نعم ثم تلا «5» هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا. وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء. وقال الشعبي: لو أن أهلي يأكلون الضفادع لأطعمتهم إياها. ولم ير الحسن بالسلفحاة بأسا. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل من صيد نصراني أو يهودي أو مجوسي. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: في المري ذبح الخمر النينان والشمس انتهى. قوله قلات السيل، أي ما هلك فيه لقوله «المسافر وما له على قلت» ، وقوله في المري إلى آخر ما قال، أشار بذلك إلى صفة مري يعمل في الشأم، تؤخذ الخمر فيجعل فيها الملح والسمك، وتوضع في الشمس فتتغير الخمر إلى طعم المر فتستحيل عن هيئتها، كما تستحيل إلى الخلية. يقول: كما أن الميتة حرام، والمذبوحة حلال، كذلك هذه الأشياء ذبحت الخمر فحلت فاستعار الذبح للتحليل، والذبح في الأصل الشق. وأبو شريح اسمه هانىء، وعند الأصيلي ابن شريح، وهو وهم. وفي الاستيعاب للحافظ ابن عبد البر، شريح رجل من الصحابة حجازي، روى عنه أبو الزبير وعمرو بن دينار سمعاه يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قال: كل شيء في البحر مذبوح، ذبح الله لكم كل دابة خلقها في البحر. قال أبو الزبير وعمرو بن دينار: وكان شريح هذا قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو حاتم: له صحبة. ولفظ الصيد في الآية الأولى عام، ومعناه الخصوص، فيما عدا الحيوان الذي أباح النبي صلى الله عليه وسلم قتله في الحرم، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «1» : «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحداة والفأرة والعقرب والكلب العقور» ، فوقف مع ظاهر هذا الحديث، سفيان الثوري والشافعي وابن حنبل وابن راهويه، فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ذلك. وقاس مالك على الكلب العقور الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية، فأما الهر والثعلب والضبع، فلا يقتلها المحرم عنده، وإن فعل فدى. وقال أصحاب الرأي، رحمهم الله: إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله، وإن ابتدأ المحرم فعليه قيمته. وقال مجاهد والنخعي: لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا عليه منها، وثبت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه أمر المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها. وثبت عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضا إباحة قتل الزنبور، لأنه في حكم العقرب. وقال مالك: يطعم قاتله شيئا، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوها. وقال أصحاب الرأي: لا شيء على قاتل هذه كلها، وأما سباع الطير فقال مالك: لا يقتلها المحرم، وإن قتلها فدى. وقال ابن عطية: وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلاء ونحوهما. تذنيب: قال أبو حنيفة: لا يقطع سارق ما كان مباح الأصل من صيد البر والبحر، ولا في جميع الطيور. وقال الشافعي ومالك وأحمد والجمهور: يقطع سارق ذلك إذا كان محرزا، وقيمته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 ربع دينار لعموم الأدلة وإذا ذبح المحرم صيدا حرم عليه في حال الإحرام باتفاق العلماء، وفي تحريمه على غيره قولان: الجديد الصحيح التحريم كذبيحة المجوسي، فعلى هذا يكون ميتة، والقديم الحل ولو كسر المحرم بيض شيد، أو قلاه حرم عليه، وفي تحريمه على غيره طريقان: أشهرهما أنه على القولين، وأشهر القولين التحريم أيضا، ولو كسره مجوسي أو قلاه حل، ولو حلب محرم لبن صيد، فهو ككسر بيضه. فرع : لو صاح محرم على صيد، فمات بسبب صياحه، أو صاح حلال على صيد في الحرم فمات به. فوجهان: أحدهما يضمنه لأنه تسبب في إهلاكه، فكان كما لو صاح على صبي فهلك. قال الإمام النووي: وهذا هو الظاهر. والثاني لا يضمنه، كما لو صاح على بالغ ولو أصاب صيدا، فوقع ذلك الصيد على صيد آخر، أو على فراخه أو بيضه فهلك ضمن جميع ذلك. فرع : لو مات للمحرم قريب، في ملكه صيد، ملكه على المذهب ملكا يتصرف فيه كيف شاء، إلا بالقتل والإتلاف. فرع : قال الروياني: العمرة التي ليس فيها قتل صيد، قيل: إنها أفضل من حجة فيها قتل صيد. والأصح أن الحجة أفضل. فرع : صيد حرم المدينة حرام، لما روى مسلم، من حديث جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لا بيتها، لا يقطع عضاهها، ولا يصاد صيدها» «1» . واختلفوا في أنه هل يضمن صيدها كصيد مكة؟ فقال الشافعي، في الجديد: إنه لا يضمن، لأنه مكان يجوز دخوله بغير إحرام، فلا يضمن كصيدوج الطائف، ففي سنن البيهقي بإسناد فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا إن صيدوج الطائف وعضاهها حرام محرم» . وفي القديم أنه يسلب القاتل لصيد حرم المدينة، والقاطع لشجرها. واختاره النووي من جهة الدليل، وعلى هذا فظاهر إطلاق الأئمة أن السلب لا يتوقف على إتلافه، بل بمجرد الاصطياد وسلبه كسلب قتيل الكفار، عند الأكثرين، وقيل ثيابه فقط، وقيل يترك له ساتر العورة فقط، وهذا هو الصواب في الروضة وشرح المهذب. ثم هو السالب، وقيل لفقراء المدينة كجزاء الصيد، وقيل لبيت المال، ويستثنى من تضمين الصيد ما لو صال عليه فقتله دفعا. فرع : إذا عم الجراد الطريق، ولم يجد بدا من وطئه، فلا ضمان عليه في الأظهر. ولو دخل كافر الحرم، وقتل صيدا ضمنه. وقال الشيخ أبو اسحاق في المهذب: يحتمل عندي أنه لا يجب الضمان، قال النووي في شرحه: انفرد الشيخ بهذا الاحتمال عن الأصحاب، وأقامه في البيان وجها انتهى. وهذا نقله ابن كج وجها للأصحاب، وهو متقدم على صاحب المهذب بأعوام، فإنه توفي سنة أربع وأربعمائة. تنبيهات : اعلم أن الصيد، إذا مات من سببين: مبيح ومحرم فهو حرام، تغليبا لجانب التحريم، ومثال ذلك أن يموت من سهم وبندقة أو يصيب الصيد طرف من النصل، فيجرحه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 ويؤثر فيه عرض السهم في مروره فيموت منهما. وكذلك لو أرسل سهما إلى صيد فجرحه، وكان على طرف سطح فسقط منه، أو على جبل فتردى منه، أو تردى في بئر، أو وقع في ماء، أو على شجرة، فانصدم بأغصانها، فهو حرام، لأنه لا يدري من أيهما مات. ومنها ما لو وقع صيده على محدد، سكين أو غيرها، فهو حرام. ولو أرسل سهما، فأصاب الصيد في الهواء، ثم وقع على الأرض ومات، فهو حلال سواء مات قبل الوصول إلى الأرض أو بعده، أو لم يعلم هل كان موته قبل الوصول أو بعده، لأن الوقوع على الأرض لا بد منه، فيعفى عنه كما يعفى عن الذبح في غير المذبح عند التعذر، وكما أن الصيد لو كان قائما فوقع على جنبه لما أصابه السهم وقال مالك: إن مات بعد وقوعه على الأرض لم يحل، والارتجاف قليلا بعد إصابة السهم لا يضر، لأنه كالوقوع على الأرض، فلو تدحرج من الجبل من جنب إلى جنب لم يضر، لأن ذلك مما لا يؤثر مثله في التلف، فلو رمى بسهم إلى صيد في الهواء فكسر جناحه، ولم يجرحه فوقع فمات، فهو حرام، لأنه لم يصبه جرح يحال الموت عليه، فلو كان الجرح خفيفا لا يؤثر مثله ولكنه عطل جناحيه فوقع فمات فهو حرام، قاله الإمام. ولو وقع الصيد من الهواء بعدما أصابه السهم وجرحه في بئر نظر فإن كان فيها ماء، فهو حرام، وإن لم يكن فالصيد حلال، لأن قعر البئر كالأرض. ولكن الفرض فيما إذا لم يصادمه جدران البئر. ومنها لو كان الصيد واقفا على شجرة، فأصابه السهم فجرحه، فوقع على الأرض، فهو حلال. وإن وقع على غصن أو أغصان، ثم على الأرض لم يحل. وليس الانصدام بالأغصان أو بأحرف الجبل عند التردي من القلة، كالانصدام بالأرض فإن ذلك الانصدام ليس بلازم ولا غالب، والانصدام بالأرض لا بد منه، وللإمام احتمالان في الصورتين لكثرة وقوع الطيور على الأشجار، والانصدام بأطراف الجبال إذا كان الصيد بالجبل. ومنها لو رمى إلى طير الماء، نظر إن كان على وجه الماء فأصابه السهم فجرحه فمات فهو حلال، والماء له كالأرض وإن كان خارج الماء ووقع في الماء، بعدما أصابه السهم، ففيه وجهان، مذكوران في الحاوي، أحدهما: أنه حرام، لأن الماء بعد الجرح، يعين على التلف والثاني: أنه حلال، لأن الماء لا يغرقه، لأنه لا يفارق الماء غالبا. ووقوعه في الماء كوقوع غيره على الأرض، وهذا هو الراجح. وذكر في التهذيب، أن الصيد إذا كان في هواء البحر، نظر إن كان الرامي في البر، لم يحل وإن كان في البحر حل فإن كان الطائر خارج الماء، ووقع فيه بعدما أصابه السهم، ففي حله وجهان. قطع البغوي، في التهذيب، والشيخ أبو محمد في المختصر، بالحل. وجميع ما ذكرنا فيما إذا لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم أو المريء أو غيره، فقد تمت ذكاته، ولا أثر لما يعرض بعد ذلك. ومنها لو جرح الصيد جرحا لم يقتله، ثم غاب فوجده بعد ذلك ميتا، قيل يحل وقيل لا يحل، والأول أصح، لكن يشترط أن ينتهي الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح ولا أثر لغيبته فإن لم ينته إلى حركة المذبوح، فإن وجد في ماء، أو وجد عليه أثر صدمة، أو جراحة أخرى لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 يحل. وللأصحاب ثلاث طرق: أحدها في حله قولان أشهرهما: عند صاحب التهذيب الحل، والعراقيون وغيرهم إلى ترجيح التحريم أميل، والثاني القطع بالحل، والثالث القطع بالتحريم. وقال أبو حنيفة: إن اتبعه عقب الرمي، فوجده ميتا حل، وإن تأخر ساعة من اتباعه لم يحل. وروي عن مالك أنه إن وجده في برية حل، وإلا فلا. وصحح النووي والغزالي الحل، للأحاديث الواردة فيه، ومنها لو رمى، وهو لا يرجو صيدا ولا خطر له ولا قصده، بأن رمى سهما في الهواء، أو في فضاء من الأرض، أو إلى هدف واعترض صيد فأصابه فقتله، ففي حله وجهان أصحهما، وهو المنصوص؛ عدم الحل، لأنه لم يقصد الصيد، لا معينا ولا مبهما. ونظير ذلك ما إذا وقع في الشبكة صيد، فعقر بحديدة فيها، ويفرق بينه وبين ما لو ظنه ثوبا بأنه هنا قصد عينا. ولو رمى إلى ما ظنه حجرا، فكان صيدا فقتله فهو حلال. وكذا لو ظنه صيدا غير مأكول، فكان مأكولا لأنه قصد عينه. وقيس ذلك بما إذا كان له شاتان، فذبح إحداهما ظنا أنها الأخرى. وفي التهذيب وغيره وجه أنه لا يحل، لأنه لم يقصد الصيد، وبه قال مالك. ومنها لو نصب سكينا أو حديدة أو كانت في يده حديدة، فوقعت على حلق شاة فذبحته فهو حرام، لأنه لم يذبح ولم يقصد الذبح، وإنما حصل ما حصل بفعل الشاة أو من غير فعل مختار. وفي التهذيب وغيره، أن عند أبي إسحاق تحل الشاة في صورة وقوع السكين، ولا شك أن الصيد في معناها. وكذا لو كان في يده حديدة يحركها، والشاة أيضا تحك حلقها بها، فحصل انقطاع الحلقوم والمريء بالحركتين، فهو حرام لأن الموت بشركة الذابح والبهيمة. وقال القاضي أبو سعيد الهروي، في اللباب: وإن رمى الأعمى صيدا، بدلالة بصير فالمذهب أنه لا يحل. فرع : في الازدحام والاشتراك وله أحوال منها أن يتعاقب جرحان من رجلين، فالأول منهما إما أن يكون مذففا أو مزمنا، أو لا مذففا ولا مزمنا، فإن لم يكن مذففا ولا مزمنا لم يحل على امتناعه، فإن كانت الجراحة مذففة أو مزمنة، فالصيد للثاني ولا شيء على الأول بجراحته، فإن كان جرح الأول مذففا فالصيد للأول، وعلى الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده، وإن كان جرح الأول مزمنا ملك الصيد به، وينظر في الثاني فإن ذفف بقطع الحلقوم والمريء، فهو حلال وعلى الثاني ما بين قيمته مذبوحا ومزمنا. قال الإمام: وإنما يظهر التفاوت إذا كان فيه حياة مستقرة فإن كان سالما أو كان بحيث لو لم يذبح لهلك، فما عندي أنه ينقص بالذبح منه شيء وإن ذفف الثاني، ولم يقطع الحلقوم والمري أو لم يذفف، ومات بالجرحين فهو ميتة، ويجب على الثاني قيمة الصيد مذبوحا. قال في كتاب التهذيب: قيل: هو كما لو جرح عبده وجرحه غيره، ومات منهما وهو بناء على ما إذا جرح أجنبي عبدا قيمته عشرة وجرحه آخر ومات، ففيه أوجه: قال المزني: يجب على كل واحد أرش جراحته وباقي القيمة ينصف بينهما. وقيل: على كل واحد نصف قيمته يوم جرحه، وقال ابن خيران: توزع القيمة على قيمته يوم الجرح الأول، وهي عشرة، وعلى قيمته يوم الجرح الثاني وهي تسعة، فيكون تسعة عشر جزءا: عشرة على الأول وتسعة على الثاني. وقال القفال: على كل واحد منهما نصف أرش جراحته، وينصف باقي القيمة مجروحا بجرحين. والطريقة الثانية أن الأول إن لم يدركه حيا، وجب على الثاني قيمته مزمنا، وإن أدركه ولم يذبحه، وجب على الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 أرش جراحته على وجه، وقيمته مزمنا على وجه، وإن رماه رجلان فأصاباه معا وقتلاه، فهو لهما فإن أزمن أحدهما وأصاب الآخر المذبح، ولم يعرف السابق وادعى كل منهما أنه المزمن أولا، تحالفا ويكون بينهما لاحتمال سبق المزمن وإن كان أحدهما مجهزا، لم يصب المذبح فالصيد حرام انتهى. فرع : اعلم أن من اصطاد صيدا عليه أثر ملك، فإن كان موسوما أو مقرطا أو مخضوبا أو مقصوص الجناح، لم يملكه لأن هذه آثار تدل على أنه كان مملوكا، وربما أفلت ولا ينظر إلى احتمال أنه اصطاده محرم، وفعل به ذلك ثم أرسله فإنه احتمال بعيد. فرع : لو قدّ الصيد نصفين حل الكل، وإن أبان منه عضوا ومات منه بعد ساعة قبل أن يتمكن من ذبحه حل المبان على أحد الوجهين، كما لو مات منه في الحال وإن أدركه حيا فذبحه حل الأصل دون المبان، وإن مات الصيد بثقل الجارحة لم يحرم على أحد القولين بخلاف ثقل السهم. فرع : ويملك الصيد بأمور: بإثبات اليد أو الاثخان أو إبطال الطيران أو العدو أو التعلق بالشبكة المنصوبة، فإن وقعت منه الشبكة وتعلق بها صيد فوجهان، وكذلك الشرك والربق المنصوبان والحبالة ونحو ذلك. فرع : لو اصطاد سمكة فوجد في بطنها درة مثقوبة، فهي لقطة، وإن كانت غير مثقوبة، فهي له مع السمكة، ولو اشترى سمكة فوجد في بطنها درة غير مثقوبة، فهي له، وإن كانت مثقوبة فهي للبائع، إن ادعاها. هكذا أطلقه في التهذيب. ويشبه أن يقال: إن الدرة تكون لمن اصطاد السمكة، كما في الكنز الذي يوجد في الأرض إنه لمحيي الأرض. خاتمة : لو أرسل الصيد وخلاه بنفسه، فهل يزول ملكه؟ وجهان: أظهرهما لا يزول، ولا يجوز له أن يفعل ذلك، لأن ذلك من فعل الجاهلية من تسييب السوائب، ومن حقه أن يحترز عنه. وسيأتي إن شاء الله تعالى، الكلام على السائبة، في باب النون. وعلى صيد الكلب والجارحة في باب الكاف. ولو أفلت الصيد من يده لم يزل ملكه عنه فإن أخذه أحد فعليه رده للأول، ولا فرق بين أن يلتحق بالوحوش في الصحراء، أو يبعد عن البنيان أو يدور في البلد أو حوله. وقال مالك: ما دام في البلد أو حوله لم يزل ملكه عنه، فإن بعد والتحق بالوحوش، زال ملكه ومن أخذه ملكه. ويروى عنه أنه إن تباعد به العهد زال ملكه عنه، وإن قرب لم يزل. ويروى عنه زوال ملكه بافلاته مطلقا، وعندنا يقاس على إباق العبد وشرود البهيمة. تتمة : لو توحل صيد بمزرعة، وصار مقدورا عليه، ففيه وجهان: أصحهما عدم التملك، لأنه لم يقصد بسقي الأرض الاصطياد، والقصد مرعى في التملك ولو دخل بستان غيره، واصطاد منه طائرا، ملكه قطعا، ولا يثبت لصاحب البستان حكم المتحجر لأن البستان لا يتضمن حكم الطير والله أعلم. وما أحسن قول «1» بعضهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقواما بأقوام وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن حدود بأرزاق وأقسام كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي فائدة : في تاريخ ابن خلكان، لما قلد الرشيد الفضل بن يحيى خراسان، أقام بها مدة ثم وصل كتاب صاحب البريد ينهى، أن الفضل اشتغل بالصيد وإدمان اللذة، عن النظر في أمور الرعية فقال ليحيى: يا أبت اقرأ هذا الكتاب، واكتب إليه بما يردعه عنه، فكتب إليه يحيى كتابا «1» وكتب في أسفله هذه الأبيات: انصب نهارا في طلاب العلا ... واصبر على فقد لقاء الحبيب حتى إذا الليل أتى مقبلا ... واكتحلت بالغمض عين الرقيب فبادر الليل بما تشتهي ... فإنما الليل نهار الأريب كم من فتى تحسبه ناسكا ... يستقبل الليل بأمر عجيب غطى عليه الليل أستاره ... فبات في لهو وعيش خصيب ولذة الأحمق مكشوفة ... يسعى بها كلّ عدو مريب فلما ورد الكتاب على الفضل بن يحيى، لم يفارق المسجد نهارا. قيل دخل الفضل على أبيه يحيى وهو يتبختر في مشيته، فكره يحيى ذلك منه، وقال: قالت الحكماء: البخل والجهل مع التواضع، أزين للرجل من السخاء والعلم مع الكبر، فيا لها من حسنة غطت على سيئتين عظيمتين، ويا لها من سيئة غطت على حسنتين كبيرتين! ولما كان الفضل ويحيى في محبسهما، سمعهما الموكل يوما وهما يضحكان ضحكا مفرطا، فأعلم الرشيد بذلك فبعث مسرورا يستعلم سبب ذلك، فجاءهما فسألهما وقال: يقول لكما أمير المؤمنين: ما هذا الاستخفاف بغضبي؟ فازدادا ضحكا! وقال يحيى: اشتهينا سكباجا فاحتلنا في شراء القدر واللحم والخل وغير ذلك، فلما فرغنا من طبخها وإحكامها، ذهب الفضل ينزلها فسقط قعر القدر، فوقع الضحك والتعجب مما كنا فيه، وما صرنا إليه. فلما أعلم مسرور الرشيد بذلك، بكى وأمر لهما بمائدة في كل يوم، وأذن لرجل مما يأنسان به، أن يدخل عليهما كل يوم، ويتغذى معهما ويحدثهما وينصرف. ونقل «2» أن الفضل كان كثير البر بأبيه، وكان أبوه يتأذى من استعمال الماء البارد، في زمن الشتاء، فلما كان في السجن، لم يقدرا على تسخين الماء، فكان الفضل يأخذ الابريق النحاس، وفيه الماء، فيضعه على بطنه زمانا لينكسر برده، بحرارة بطنه، حتى يستعمله أبوه بعد ذلك. وتوفي يحيى في السجن سنة ثلاث وتسعين ومائة. ولما بلغ الرشيد وفاته، قال: أمري قريب من أمره، فتوفي بعده بخمسة أشهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 الصيدح: الفرس الشديد الصوت وقال الجوهري: الصيدح ذكر البومة انتهى. وتسميته صيدحا اشتقاقا له من صوته، لأن الصيدح الصياح قال الشاعر: وقد هاج شوقي أن تغنّت حمامة ... مطوقة ورقاء تصدح بالفجر أي تصيح قال الجاحظ: البومة وسائر طيور الليل، لا تدع الصياح وقت الأسحار أبدا انتهى. وصيدح اسم ناقة ذي الرمة «1» ، قال يمدح بلال بن أبي بردة «2» بن أبي موسى الأشعري. رأيت الناس ينتجعون غيثا ... فقلت لصيدح انتجعي بلالا وقد تقدم ذكر هذا البيت في باب الهمزة في الإبل. الصيدن: الثعلب. وقد تقدم في باب الثاء المثلثة، والصيدن الملك. الصيدناني: دويبة تعمل لنفسها بيتا في جوف الأرض وتعميه عن الخلق. الصير: سمك صغار يعمل منه الصحناة والمرى، ومنهم من يطلق على الصير الصحناة. وفي سنن البيهقي، في باب ما جاء في أكل الجراد، عن وهب بن عبد الله المغافري، أنه دخل هو وعبد الله بن عمر على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقربت إليهم جرادا مقلوا بسمن، وقالت: كل يا مصري من هذا، لعل الصير أحب إليك منه. قال: قلت إنا لنحب الصير. وفي الحديث أن سالم بن عبد الله «مر به رجل ومع صير، فذاق منه ثم سأل منه كيف تبيعه» . والمراد به في الحديث الصحناة. قال جرير «3» يهجو قوما: كانوا إذا جعلوا في صيرهم بصلا ... ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفوا «4» قال الجوهري: وتفسيره في الحديث الصحناة، تمد وتقصر. وروي أن الحسن سأله رجل عن الصحناة، فقال: وهل يأكل المسلمون الصحناة؟ وهي التي يقال لها الصير وكلا اللفظين غير عربي. الخواص : قال جبريل بن بختيشوع: الصحناة المتخذة من الأبازير تنشق المعدة من البلة والرطوبة وتمنع البخر، وتطيب النكهة، وتنفع من وجع الورك المتولد من البلغم، ومن لدغ العقارب إذا طلي بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 باب الضاد المعجمة الضأن: ذوات الصوف من الغنم، وهي جمع ضائن، والأنثى ضائنة والجمع ضوائن، وقيل: هو جمع لا واحد له، وقيل: جمعه ضئين كعبد وعبيد. فائدة : قال «1» الله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ الآية وذلك أن الجاهلية كانوا يقولون: هذه أنعام وحرث حجر، وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، ومحرم على أزواجنا، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فكنوا يحرمون بعضها على النساء، فلما جاء الإسلام وثبتت أحكامه، جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الذي جادله خطيبهم مالك بن عوف بن الأحوص الجشمي، فقال: يا محمد إنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم قد حرمتم أصنافا من الغنم على غير أصل، وإنما خلق الله هذه الأزواج الخمسة للمأكل والانتفاع بها، فمن أين جاء هذا التحريم أمن قبل الذكر أمن قبل الأنثى» . فسكت مالك وتحير ولم يتكلم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لك لا تتكلم» ؟ فقال له مالك: بل تكلم وأسمع منك. فلو قال جاء التحريم من قبل الذكورة وجب أن يحرم جميع الذكور، ولو قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث، ولو قال باشتمال الرحم عليه لكان ينبغي أن يحرم الكل لأن الرحم يشتمل على الذكور والإناث. فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس والسابع أو بالبعض دون البعض، فمن أين؟ وثمانية أزواج نصبها على البدل من الحمولة والفرش، أي وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج أي أصناف: من الضأن اثنين أي الذكر والأنثى، فالذكر زوج والأنثى زوج والعرب تسمي الواحد زوجا إذا كان لا ينفك عن الآخر. وسيأتي إن شاء الله تعالى، الكلام على البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، في باب النون في النعم. وقد جعل الله تعالى البركة، في نوع الغنم فهي تلد في العام مرة ويؤكل منها ما شاء الله ويمتلىء منها وجه الأرض، بخلاف السباع فإنها تلد شتاء وصيفا، ولا يرى منها إلا واحد واحد في أطراف الأرض، ويضرب المثل بلين جلودها، لما روى البيهقي والترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب» وفي رواية: «وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون للناس جلود الضأن من اللين يشترون الدنيا بالدين يقول الله تعالى: أبي يغترون وعلي يجترئون، فبي حلفت لأقيضن لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران» . يقال: ختله يختله إذا خدعه، وختل الذئب الصيد، إذا تخفى له. وبين المعز والضأن تضاد يوجب أن لا يقع بينهما لقاح أصلا. وعن عجيب طبعها وأمرها أنها ترى الفيل والجاموس فلا تهابهما، مع عظم أبدانهما، وترى الذئب فيعتريها خوف عظيم لمعنى خلقه الله في طباعها. ومن غريب أمرها أن الغنم تلد في ليلة واحدة عددا كثيرا ثم إن الراعي يسرح بالأمهات من الغد ويأتي بها عند العشاء، ويخلي بينها وبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 السخال، فتذهب كل واحدة إلى أمها. ويجلب من الهند نوع من الضأن، في صدره ألية وعلى كتفيه أليتان، وعلى فخذيه أليتان وعلى ذنبه ألية، وربما تكبر ألية الضأن حتى تمنعه من المشي، وإن تسافدت الغنم عند نزول المطر لا تحمل، وإن كان السفاد عند هبوب الشمال تكون الأولاد ذكورا، وإن كان عند هبوب الجنوب تكون الأولاد إناثا. وإذا رعت الضأن الزرع رجع، وإذا رعته المعز لم ينبت. وقالت العرب: «جز ضائنة وحلق معزة» . وحكمها : حل الأكل بالاجماع. الأمثال : قالوا: «أجهل من راعي «1» ضأن» و «أحمق من راعي ضأن ثمانين «2» » و «أحمق من طالب ضأن ثمانين «3» » وذلك أن الضأن تنفر من كل شيء، فيحتاج راعيها إلى أن يجمعها في كل وقت، وفي الصحاح: «أحمق من صاحب ضأن ثمانين» وذلك أن أعرابيا بشر كسرى ببشرى فسر بها، فقال: سلني ما شئت، فقال: أسألك ضأنا ثمانين. وقال ابن خالويه: إنه رجل قضى للنبي صلى الله عليه وسلم حاجة، فقال صلى الله عليه وسلم: «ائتني بالمدينة» ، فأتاه، فقال عليه الصلاة والسلام له: «أيما أحب أليك، ثمانون من الضأن أو أدعو الله أن يجعلك معي في الجنة» ؟ فقال: بل ثمانون من الضأن، فقال عليه الصلاة والسلام: «أعطوه إياها» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إن صاحبة موسى كانت أعقل منك، وذلك أن عجوزا دلته على عظام يوسف عليه السلام، فقال لها موسى: أيما أحب إليك أسأل الله أن تكوني معي في الجنة أو مائة من الغنم؟ قالت: الجنة» . والحديث رواه ابن حبان والحاكم في المستدرك مع اختلاف فيه وقال الحاكم: صحيح الإسناد. وعن أبي موسى الأشعري قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم غنائم هوازن بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال: إن لي عندك موعدا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: «صدقت فاحتكم ما شئت» قال: إني أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها. فقال صلى الله عليه وسلم: «هي لك، ولقد احتكمت يسيرا، ولصاحبة موسى التي دلته على عظام يوسف كانت أحزم منك حين حكمها موسى، فقالت: حكمي أن تردني شابة وأدخل معك الجنة» «4» . قال في الإحياء، في آخر الآفة الثالثة عشرة؛ من آفات اللسان: وكان الناس يضعفون ما احتكم هذا الانسان به حتى جعلوه مثلا، فقالوا: «أقنع من صاحب الثمانين والراعي» . الخواص : لحم الضأن يمنع المرة السوداء، ويزيد في المني وينفع من السموم، وهو حار رطب بالنسبة إلى المعز، وأجوده الحولي، وهو ينفع المعدة المعتدلة ويضر من يعتاده العشي، وتدفع مضرته بالأمراق القابضة، ويكره لحم النعاج لأنه يولد دما رديئا، ولحم الخرفان يغذو غذاء كثيرا حارا رطبا لكنه يولد البلغم، والحولي من الضأن أغذى من صغيرها، ولحم الضأن في الربيع أجود وأنفع منه في سائر الأزمان، ولحم الخصي منها يزيد في الباه، ودمها إذ أخذ وهو حار ساعة تذبح وطلي به الوضح غير لونه وضيعه. وكبد التيس إذا أحرقت طرية ودلك بها الأسنان بيضها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وقرن الكبش إذا دفن تحت شجرة يكثر حملها، وإذا اكتحل بمرارة الكبش مع العسل، يمنع من نزول الماء، وعظمه يحرق بخشب الطرفاء ويخلط رماده بدهن الشمع المتخذ من دهن الورد، ويطلى به موضع الهشم يصلحه. وإذا تحملت المرأة بصوف النعجة، قطعت الحبل. وإذا غطي الإناء بصوف الضأن الأبيض، وفيه عسل، لم يقربه النمل. الضؤضؤ: الطائر الذي يسمى الأخيل، قاله ابن سيده وتوقف فيه ابن دريد. الضب: بفتح الضاد، حيوان بري معروف يشبه الورل، قال أهل اللغة: وهو من الأسماء المشتركة فيطلق على ورم في خف البعير وعلى ضبة الحديد، والضب اسم للجبل الذي بمسجد الخيف في أصله. وضبة الكوفة وضبة البصرة قبيلتان من العرب. والضب أن يجمع الحالب خلفي الناقة في كفيه جميعا أنشد ابن دريد: جمعت له كفّي بالرمح طاعنا ... كما جمع الخلفين في الضبّ حالب وكنيته أبو حسل والجمع ضباب وأضب مثل كف وأكف والأنثى ضبة قالت العرب: «لا أفعله حتى يرد الضب» ، لأن الضب لا يرد الماء. قال ابن خالويه، في أوائل كتاب ليس: الضب لا يشرب الماء ويعيش سبعمائة سنة فصاعدا، ويقال إنه يبول في كل أربعين يوما قطرة، ولا تسقط له سن ويقال إن أسنانه قطعة واحدة ليست مفرقة. ومن كلامهم الذي وضعوه على ألسنة البهائم: ثم قالت السمكة: رد يا ضب فقال «1» : أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي أن يردا إلّا عرادا عردا ... وصلّيا نا بردا «2» وعنكشا ملتبدا ولما كان بين الحوت والضب هذا التضاد أشار إليه حاتم الأصم رحمه الله بقوله: وكيف أخاف الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر تكفّل بالأرزاق للخلق كلّهم ... وللضبّ في البيدا وللحوت في البحر وضبب البلد وأضب كثرت ضبابه. وأرض ضبية أي كثيرة الضباب. قال عبد اللطيف البغدادي: الورل والضب والحرباء وشحمة الأرض والوزغ، كلها متناسبة في الخلق. وللضب ذكران وللأنثى فرجان، كالورل والحرذون. وقال عبد القاهر: الضب دويبة على حد فرخ التمساح الصغير وذنبه كذنبه وهو يتلون ألوانا بحر الشمس كما تتلون الحرباء انتهى. أسند ابن أبي الدنيا، في كتاب العقوبات، عن أنس قال: إن الضب ليموت في جحره هزالا من ظلم بني آدم، ولما سئل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، عن ذكر الضب، قال: إنه كلسان الحية أصل واحد له فرعان، وإذا أرادت الضبة أن يخرج بيضها، حفرت في الأرض حفرة، ورمت فيها البيض وطمتها بالتراب، وتتعاهدها كل يوم، حتى يخرج، وذلك في أربعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 يوما، وهي تبيض سبعين بيضة وأكثر، وبيضها يشبه بيض الحمام. والضب يخرج من جحره كليل البصر فيجلوه بالتحدق للشمس، ويغتذي بالنسيم ويعيش ببرد الهواء، وذلك عند الهرم، وفناء الرطوبات، ونقص الحرارات، وبينه وبين العقارب مودة، فلذلك يؤويها في جحره لتلسع المتحرش به إذا أدخل يده لأخذه، ولا يتخذ جحره إلا في كدية جحر، خوفا من السيل والحافر، ولذلك توجد براثنه ناقصة كليلة لحفره بها في الأماكن الصلبة، وفي طبعه النسيان وعدم الهداية وبه يضرب المثل في الحيرة ولذلك لا يحفر جحره إلا عند أكمة أو صخرة لئلا يضل عنه، إذا خرج لطلب المطعم، ويوصف بالعقوق لأنه يأكل حسوله فلا ينجو منها إلا ما هرب، وأشار إلى ذلك الشاعر بقوله «1» : أكلت بنيك أكل الضب حتى ... تركت بنيك ليس لهم عديد وهو طويل العمر، ومن هذه الجهات يناسب الحيات والأفاعي. ومن طبعه أنه يرجع في قيئه كالكلب، ويأكل رجيعه. وهو طويل الدم بعد الذبح وهشم الرأس، يقال إنه يمكث بعد الذبح ليلة ويلقى في النار فيتحرك. ومن شأنه في الشتاء أن لا يخرج من جحره، وقد أشار إلى ذلك أمية بن أبي الصلت «2» لما جاء إلى عبد الله بن جدعان «3» يطلب نائله بقوله: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إنّ شيمتك الوفاء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء كريم لا يغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء يباري الريح تكرمة ومجدا ... إذا ما الضبّ أجحره الشتاء فأرضك كلّ مكرمة بناها ... بنو تيم وأنت لها سماء فائدة : روى الدارقطني والبيهقي، وشيخه الحاكم وشيخه ابن عدي، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضبا وجعله في كمه ليذهب به إلى رحله، فرأى جماعة محتفين بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: على من هؤلاء الجماعة؟ فقالوا: على هذا الذي يزعم أنه نبي. فأتاه فقال: يا محمد ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك، فلولا أن تسميني العرب عجولا لقتلتك وسررت الناس بقتلك أجمعين! فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله دعني أقتله. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبيا» . ثم أقبل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: واللات والعزى لا آمنت بك حتى يؤمن هذا الضب! وأخرج الضب من كمه وطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن آمن بك آمنت بك! فقال صلى الله عليه وسلم: «يا ضب» ، فكلمه الضب بلسان طليق فصيح، عربي مبين صريح، يفهمه القوم جميعا: لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين! فقال صلى الله عليه وسلم «من تعبد» قال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه. فقال صلى الله عليه وسلم: «فمن أنا يا ضب» ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 قال: أنت رسول رب العالمين، وخاتم النبيين، قد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك. فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وإنك رسول الله حقا، والله لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض إلي منك، ووالله لأنت الساعة أحب إلي من نفسي ومن ولدي، فقد آمن بك شعري وبشري، وداخلي وخارجي، وسري وعلانيتي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي هداك إلى هذا الدين الذي يعلو ولا يعلى عليه، ولا يقبله الله إلا بصلاة، ولا يقبل الصلاة إلا بقرآن» قال: فعلمني فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم سورة الفاتحة وسورة الإخلاص. فقال: يا رسول الله ما سمعت في البسيط ولا في الوجيز أحسن من هذا! فقال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا كلام رب العالمين وليس بشعر. إذا قرأت قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «1» مرة فكأنما قرأت ثلث القرآن، وإذا قرأتها مرتين، فكأنما قرآت ثلثي القرآن، وإذا قرأتها ثلاثا فكأنما قرأت القرآن كله» . فقال الأعرابي: إن إلهنا يقبل اليسير، ويعطي الكثير. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألك مال» ؟ فقال: ما في بني سليم قاطبة رجل أفقر مني. فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أعطوه» ، فأعطوه حتى أبطروه. فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، أنا أعطيه ناقة عشراء تلحق ولا تلحق، أهديت إلي يوم تبوك، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد وصفت ما تعطي، وأصف لك ما يعطيك الله جزاء» قال: نعم صف يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: «لك ناقة من درة بيضاء جوفاء، قوائمها من زبرجد أخضر، وعيناها من ياقوت أحمر، عليها هودج، وعلى الهودج السندس والاستبرق، تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف» . فخرج الأعرابي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاه ألف أعرابي على ألف دابة بألف سيف، فقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: نريد هذا الذي يكذب ويزعم أنه نبي. فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا له: صبأت، فحدثهم بحديثهم، فقالوا كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله مرنا بأمرك، فقال صلى الله عليه وسلم: «كونوا تحت راية خالد بن الوليد» . فلم يؤمن في أيامه صلى الله عليه وسلم من العرب، ولا من غيرهم ألف غيرهم. الحكم : يحل أكل الضب بالاجماع. قال في الوسيط: ولا يؤكل من الحشرات إلا الضب. قال ابن الصلاح، في مشكله: هذا غير مرضي فإن الحشرات اليربوع والقنفذ، ذكرهما الأزهري وغيره. وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أحرام هو؟ قال: «لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه» . وفي سنن «2» أبي داود، لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الضبين المشويين بزق، فقال خالد: يا رسول الله أراك تقذره، وذكر تمام الحديث. وفي رواية لمسلم «لا آكله ولا أحرمه» «3» وفي الأخرى: «كلوه فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي» . وكل هذه الروايات صريحة في الإباحة، ولأن العرب تستطيبه والدليل عليه قول «4» الشاعر: أكلت الضباب فما عفتها ... وإني اشتهيت قديد الغنم ولحم الخروف حنيذا وقد ... أتيت به فاترا في الشّبم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 وأما البهض وحيتانكم ... فأصبحت منها كثير السّقم وركبت زبدا على تمرة ... فنعم الطعام ونعم الأدم وقد نلت منها كما نلتمو ... فلم أر فيها كضبّ هرم وما في التيوس كبيض الدجاج ... وبيض الدجاج شفاء القرم ومكن الضباب طعام العرب ... وكاشيه منها رؤوس العجم قوله: الحنيذ، أي المشوي، وماء الشبم بفتح الشين المعجمة وفتح الباء الموحدة ماء الأسنان، والبهض بكسر الباء الموحدة وفتح الهاء وبالضاد المعجمة الأرز باللبن، والقرم بفتح القاف وكسر الراء الرجل يشتهي اللحم، والمكن بفتح الميم وإسكان الكاف وبالنون في آخره، بيض الضب والكشا جمع كشية بضم الكاشف وإسكان الشين المعجمة. ولا يكره أكله عندنا خلافا لبعض أصحاب أبي حنيفة. وحكى القاضي عياض عن قوم تحريمه. قال الإمام العلامة النووي: وما أظنه يصح عن أحد انتهى. وأما ما روي عن عبد الرحمن بن حسنة، قال: نزلنا أرضا كثيرة الضباب، فأصابتنا مجاعة، فطبخنا منها أي من الضباب، فإن القدور لتغلي إذ جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «1» : «ما هذا» ؟ فقلنا: ضباب أصبناها، فقال: «إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض وإني أخشى أن يكون هذا منها فلم آكلها ولم أنه عنها» ، فيحتمل أن ذلك قبل أن يعلم أن الممسوخ لا يعقب. وفي صحيح البخاري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين، مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال «2» صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فو الذي نفسي بيده لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» . قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» ؟ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ما أشبه الليلة بالبارحة؟ هؤلاء بنو إسرائيل. قال ابن العربي، في عارضة الأحوذي: تفكرت برهة في وجه ضرب المثل بالضب، فعرضت لي في الخاطر معان، أشبهها الآن أن الضب عند العرب يضرب به المثل للحاكم من الإنس، والحاكم تأتي إليه الخلق بأجمعهم، فيما يعرض من الأمور لهم، فلا يتأخر أحد عنه فكان المعنى مصيرهم لذلك. الأمثال : قالوا: «أضل من ضب «3» » ، والضلال ضد الهداية. وكذلك قالوا في الورل، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقالوا: «أعق من ضب «4» » قال ابن الأعرابي: إنما يريدون الأنثى وعقوقها أنها تأكل أولادها. «وأحيى من ضب» ، أي أطول عمرا و «أجبن من ضب» و «أبله من ضب» و «أخدع من ضب «5» » . قال «6» الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 وأخدع من ضبّ إذا جاء حارس ... أعدله عند الذبابة عقربا وقالوا: «أعقد من ذنب الضب» » ، لأن عقده كثيرة. وزعموا أن بعض الحاضرة، كسا أعرابيا ثوبا، فقال له: لأكافئنك على فعلك بما أعلمك كم في ذنب الضب من عقدة؟ قال: لا أدري، قال: فيه إحدى وعشرون عقدة. الخواص : إذا خرج الضب من بين رجلي انسان، لا يقدر بعد ذلك على مباشرة النساء. ومن أكل قلبه أذهب عنه الحزن والخفقان، وشحمه يذاب ويطلى به القضيب يهيج شهوة الجماع، ومن أكل منه لا يعطش زمانا طويلا، وخصيتاه من استصحبهما معه يحبه الخدم محبة شديدة، وكعبه يشد على وجه الفرس لا يسبقه شيء من الخيل، عند المسابقة. وجلده يجعل منه غلاف للسيف يشجع صاحبه، وإن اتخذ ظرفا للعسل، فمن لعق منه هيج شهوة الجماع، ويورث انعاظا شديدة، وبعره ينفع من البرص والكلف طلاء، ومن بياض العين اكتحالا، ومن نزول الماء فيها. التعبير : الضب في المنام رجل عربي خداع في أموال الناس، ومال صاحبه، وقيل: إنه رجل مجهول النسب، وقيل: إنه رجل ملعون لأنه من الممسوخ وقيل: إنه يدل على الشبهة في الكسب، وقيل: من رأى الضب في المنام فإنه يمرض. الضبع: معروفة، ولا تقل ضبعة، لأن الذكر ضبعان، والجمع ضباعين مثل سرحان وسراحين. والأنثى ضبعانة والجمع ضبعانات وضباع، وهذا الجمع للذكر والأنثى مثل سبع وسباع كذا قاله الجوهري. وقال ابن بري: قوله: والأنثى ضبعانة لا يعرف. وفي مسائل الضبع مسألة لطيفة، وهي أن من أصول العربية التي يطرد حكمها ولا ينحل نظمها، أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلب حكم المذكر على المؤنث، لأنه هو الأصل والمؤنث فرع عنه، إلا في موضعين: أحدهما أنك متى أردت تثنية الذكر والأنثى من الضباع قلت: ضبعان وأجريت التثنية على لفظ المؤنث، الذي هو ضبع لا على لفظ المذكر الذي هو ضبعان، وإنما فعل ذلك فرارا مما كان يجتمع من الزوائد أن لو ثنى على لفظ المذكر. والموضع الثاني أنهم في باب التاريخ أرخوا بالليالي، وهي مؤنثة دون الأيام التي هي مذكرة، وإنما فعلوا ذلك مراعاة للأسبق، والأسبق من الشهر ليلته هذا كلامه بحروفه. وقال الحريري في الدرة: إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر إلا في التاريخ، فإنه بالعكس وإلا في تثنية ضبع وضبعان، فيقال: ضبعان بفتح الضاد وضم الباء والنور مكسورة. وعن ابن الأنباري أن الضبع يطلق على الذكر والأنثى، وكذلك حكاه ابن هشام الخضراوي، في كتابه الإفصاح في فوائد الإيضاح للفارسي عن أبي العباس وغيره. والمعروف في المحكم وغيره ما تقدم. وتصغير الضبع أضيبع لما تقدم، في أول باب الهمزة، مما رواه مسلم في باب إعطاء القاتل سلب المقتول، من طريق أبي قتادة، من حديث الليث، فقال أبو بكر رضي الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 تعالى عنه: «كلا لا يعطيه لأضيبع من قريش ويدع أسدا من أسد الله» . وشذ الخطابي، فقال: الأضيبع نوع من الطيور. ومن أسماء الضبع جيل وجعار وحفصة، ومن كناها أم خنور وأم طريق وأم عامر وأم القبور وأم نوفل والذكر أبو عامر وأبو كلدة وأبو الهنبر. وقد تقدم في باب الهمزة أن الضبع تحيض كالأرنب، تقول: ضحكت الأرنب ضحكا، أي حاضت قال الشاعر: وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الحرب يوم اللقا يعني الحيض، فيما زعم بعضهم. وقال ابن الأعرابي في قول ابن أخت تأبط شرا «1» : تضحك الضبع لقتلى هذيل ... وترى الذئب لها يستهل أي إن الضبع، إذا أكلت لحوم الناس، أو شربت دماءهم، طمثت وقد أضحكها الدم. قال الشاعر: وأضحكت الضباع سيوف سعد ... لقتلى ما دفن ولا ودينا وكان ابن دريد يرد هذا، ويقول: من شاهد الضباع عند حيضها، حتى علم أنها تحيض؟ وإنما أراد الشاعر أنها تكشر لأكل اللحوم، وهذا سهو منه فجعل كشرها ضحكا. وقيل: معناه أنها تستبشر بالقتلى إذا أكلتهم فيهر بعضها على بعض فجعل هريرها ضحكا. وقيل: أراد أنها تسر بهم، فجعل السرور ضحكا، لأن الضحك إنما يكون منه كتسمية العنب خمرا، وتستهل الذئاب تصيح وتعوي، قاله ابن سيده. ومن عجيب أمرها، أنها كالأرنب، تكون سنة ذكرا وسنة أنثى فتلقح في حال الذكورة، وتلد في حال الأنوثة، نقله الجاحظ والزمخشري في ربيع الأبرار، والقزويني في عجائب المخلوقات، وفي كتابه مفيد العلوم ومبيد الهموم، وابن الصلاح في رحلته عن ارسطالطاليس وغيرهم، قال القزويني: وفي العرب قوم يقال لهم الضبعيون، لو كان أحدهم في قفل فيه ألف نفس، وجاء الضبع لا يقصد أحدا سواه. والضبع توصف بالعرج وليست بعرجاء وإنما يتخيل ذلك للناظر، وسبب هذا التخيل لدونة في مفاصلها، وزيادة رطوبة في الجانب الأيمن على الأيسر منها. وهي مولعة بنبش القبور لكثرة شهوتها للحوم بني آدم، ومتى رأت إنسانا نائما حفرت تحت رأسه، وأخذت بحلقه فتقتله وتشرب دمه. وهي فاسقة لا يمر بها حيوان من نوعها إلا علاها. وتضرب العرب بها المثل في الفساد، فإنها إذا وقعت في الغنم عاثت، ولم تكتف بما يكتفي به الذئب، فإذا اجتمع الذئب والضبع في الغنم سلمت لأن كل واحد منها يمنع صاحبه. والعرب تقول في دعائها: اللهم ضبعا وذئبا أي اجمعهما في الغنم لتسلم. ومنه قول الشاعر: تفرقت غنمي يوما فقلت لها: ... يا رب سلط عليها الذئب والضبعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 قيل للأصمعي: هذا دعاء لها أم عليها؟ فقال: دعاء لها وذكر ما تقدم. والضبع إذا وطئت ظل الكلب في القمر، وهو على سطح وقع الكلب، فأكلته. وتوصف بالحمق، وذلك أن الصيادين لها، يقولون على باب وجارها كلمات، يصيدونها بها كما تقدم في الذبح. والجاحظ يرى هذا من خرافات العرب. وتلد من الذئب جروا ويسمى العسبار قال «1» الراجز: يا ليت لي نعلين من جلد الضبع ... وشركا من ثفرها لا تنقطع كلّ الحذاء يحتذى الحافي الوقع الثفر للسباع وكل ذات مخلب بمنزلة الحياء من الناقة. وحكمها : حل الأكل، قال الشافعي رحمه الله تعالى: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع» «2» . فما قويت أنيابه، فعدا بها على الحيوان طالبا غير مطلوب، يكون عداؤه بأنيابه علة تحريم أكله. والضبع لا يغتذي بالعدوى، وقد يعيش بغير أنيابه. وقد تقدم ذلك، في باب الهمزة، في لفظ الأسد وبحلها. قال الإمام أحمد واسحاق وأبو ثور وأصحاب الحديث. وقال مالك: يكره أكلها، والمكروه عنده ما أثم آكله، ولا يقطع بتحريمه. واحتج الشافعي بما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضبع. وبه قال ابن عباس وعطاء، وقال أبو حنيفة: الضبع حرام، وهو قول سعيد بن المسيب والثوري محتجين بأنه ذو ناب. وقد «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع» . ودليلنا ما روى عبد الرحمن بن أبي عمار، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: أتؤكل؟ قال: نعم. قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. أخرجه الترمذي وغيره، وقال حسن صحيح. وقال جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الضبع صيد وجزاؤه كبش مسن ويؤكل» «3» . رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، وذكره ابن السكن أيضا، في صحاحه، قال الترمذي: سألت البخاري عنه، فقال: إنه حديث صحيح. وفي البيهقي عن عبد الله بن مغفل السلمي، قال: قلت يا رسول الله ما تقول في الضبع؟ قال: «لا آكله ولا أنهي عنه» «4» . قال: قلت ما لم تنه عنه فإني آكله. اسناده ضعيف. قال الشافعي: وما زال لحم الضبع يباع بين الصفا والمروة، من غير نكير. وأما ما ذكروه من حديث النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، فإنه محمول على ما إذا كان يتقوى بنابه، بدليل أن الأرنب حلال وله ناب ولكنه ضعيف لا يعدو به. الأمثال : قالوا: «أحمق من ضبع» «5» ، ومن الأمثال الشهيرة في ذلك، ما رواه البيهقي، في آخر شعب الايمان، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، أنه سأل يونس بن حبيب عن المثل المشهور «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 «كمجير أم عامر» فقال: كان من حديثه أن قوما خرجوا إلى الصيد، في يوم حار، فبينما هم كذلك إذ عرضت لهم أم عامر وهي الضبع، فطردوها فاتبعتهم حتى ألجؤوها إلى خباء أعرابي، فاقتحمته. فخرج إليهم الأعرابي فقال: ما شأنكم؟ فقال: صيدنا وطريدتنا، قال: كلا والذي نفسي بيده لا تصلون إليها ما ثبت قائم سيفي بيدي. قال: فرجعوا وتركوه، فقام إلى لقحة له فحلبها وقرب إليها ذلك، وقرب إليها ماء، فأقبلت مرة تلغ من هذا ومرة تلغ من هذا حتى عاشت واستراحت، فبينما الأعرابي نائم في جوف بيته، إذ وثبت عليه فبقرت بطنه، وشربت دمه، وأكلت حشوته وتركته. فجاء ابن عم له فوجده على تلك الصورة، فالتفت إلى موضع الضبع فلم يرها فقال: صاحبتي والله، وأخذ سيفه وكنانته واتبعها، فلم يزل حتى أدركها فقتلها وأنشأ يقول: ومن يصنع المعروف من غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر أدام لها حين استجارت بقربه ... قراها من البان اللقاح الغزائر وأشبعها حتى إذا ما تملأت ... فرته بأنياب لها وأظافر فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... غدا يصنع المعروف مع غير شاكر ومن الأمثال: قال الميداني: قالوا: «ما يخفى هذا على الضبع» يضرب للشيء يتعالمه الناس، والضبع أحمق الدواب. الخواص : قال صاحب عين الخواص: الضبع تجذب الكلاب كما يجذب المغناطيس الحديد. وذلك أنه إذا كان كلب على سطح في ليلة مقمرة مضيئة ووطئت الضبع ظله في الأرض، يقع الكلب من السطح فتأكله الضبع. وشحم الضبع، إذا طلي به الجسد أمن من مضرة الكلاب، ومرارتها، إذا يبست، وسقي امرأة منها قدر نصف دانق، أبغضت المجامعة وذهبت منها الشهوة. وإذا اتخذ من جلد الضبع منخل، ونخل به البزور، وزرعت لا يضره الجراد، ذكر ذلك كله محمد بن زكريا الرازي، في كتبه انتهى. قال عطارد بن محمد: الضبع تهرب من عنب الثعلب، فإذا طلي بعصارته الجسد أمن من مضرة الضبع، وجلد الضبع إذا أمسكه إنسان، لم تنبح عليه الكلاب. ومرارتها يكتحل بها تنفع من ظلمة البصر، والماء في العين وتحد البصر وتقويه، وعينها اليمنى تقلع وتنقع في الخل سبعة أيام، ثم تخرج منه وتجعل تحت فص خاتم، فمن لبسه لم يخف سحرا ولا عينا ما دام لا بسه، ومن كان به سحر، فغسل ذلك الخاتم بماء، ثم يسقى منه فإن السحر يذهب عنه. وهو نافع للربط وغيره من أنواع السحر، ورأس الضبع، إذا جعل في برج حمام، كثر فيه الحمام، ولسانها، من أمسكه بيده اليمنى لم تنبح عليه الكلاب ولم تؤذه، وحذاق العيارين يفعلون ذلك. ومن خاف الضباع، فليأخذ بيده أصلا من أصول العنصل «1» ، فإنها تهرب منه. وإذا بخر الصبي العليل سبعة أيام بشعر قفا الضبع، فإنه يبرأ. وإذا سقيت المرأة قضيب الضبعان مسحوقا، وهي لا تعلم أذهب عنها شهوة الجماع. ومن علق عليه قطعة من فرجها صار محبوبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 للناس، وأسنان الضبع، إذا ربطت على العضد، تنفع من النسيان ووجع الأسنان. وإذا جلد بجلده مكيال وكيل به البذر، أمن من ذلك الزرع من سائر الآفات. ومن غريب خواصها، أن من أكل دمها ذهب عنه الوسواس، ومن أمسك بيده حنظلة، فرت الضباع منه، وإذا طلي الجسد بشحم الضباع، أمن من عقر الكلاب. وقال حنين «1» بن إسحاق: إذا نتف الشعر الذي في باطن أجفان العين، واكتحل بمرارة الضبع، أو بمرارة ببغاء، أو بمرارة سبع، أو بمرارة عنز، فإنه يذهب بإذن الله تعالى. وقضيبه يجفف ويسحق ويستف منه الرجل قدر دانقين فإنه يهيج به شهوة الجماع، ولا يمل من النساء. وقال غيره: إذا شرب من مرارة الضبع نصف درهم بمثله عسلا، نفع من سائر الأعلال التي تكون في الرأس والعين، ويمنع نزول الماء في العين ويشد الانتشار وإن خلطت المرارة بالعسل، واكتحل بها جلا العين وزادها حسنا، وكلما عتق هذا الخلط كان أجود وأحسن نفعا. وقال ماسرجويه: الاكتحال بمرارة الضبع ينفع من البله والدموع. ومن غريب خواصها وهو ما أطبق عليه الأطباء، أن شعر الفخذ اليمنى من ذكر الضباع الذي حول فقحته إذا نتف وأحرق وخلط في زيت مسحوقا، ودهن بن من به بغا أبرأه، وهو يحدث العلة في السليم، إذا كان الشعر من أنثى، فافهم. وهو عجيب مجرب مرارا عديدة. التعبير : الضبع تدل رؤيته على كشف الأسرار، والدخول فيما لا يعني. وربما دلت رؤية الذكر على الرجل الخنثى المشكل، وربما دلت على عدو ظلوم مكايد مخالف. وقيل: الضبع امرأة قبيحة المنظر، دنيئة الأصل، ساحرة عجوز. وقال ارطاميدورس: الضبع تدل على الخديعة، ومن ركبها في المنام نال سلطانا والله أعلم. أبو ضبة: الدرّاج. قاله في المرصع، وقد تقدم لفظ الدراج في باب الدال المهملة. الضرغام: والضرغامة الأسد، وما أحسن ما رواه أبو مظفر السمعاني، عن والده، قال: سمعت سعد بن نصر الواعظ الحيوان يقول: كنت خائفا من الخليفة لحادث نزل واشتد الطلب لي فاختفيت، فرأيت في النوم ليلة من الليالي كأني في غرفة جالس على كرسي وأنا أكتب شيئا، فجاء رجل فوقف بإزائي وقال: اكتب ما أملي عليك وأنشدني: ادفع بصبرك حادث الأيام ... وترجّ لطف الواحد العلّام لا تيأسن وإن تضايق كربها ... ورماك ريب صروفها بسهام فله تعالى بين ذلك فرجة ... تخفى على الأبصار والأوهام كم من نجي بين أطراف القنا ... وفريسة سلمت من الضرغام «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 قال: فلما أصبحت أتى الفرج، وزال الخوف والحرج. وفي سراج الملوك، للإمام العلامة الطرطوشي، عن عبد الله بن حمدون قال: كنت مع المتوكل، لما خرج إلى دمشق، فركب يوما إلى رصافة هشام بن عبد الملك بن مروان فنظر إلى قصورها، ثم خرج فرأى ديرا هناك، قديما حسن البناء، بين مزارع وأنهار وأشجار، فدخله فبينما هو يطوف، إذ أبصر رقعة قد التصقت في صدره، فأمر بقلعها فإذا فيها هذه الأبيات: أيا منزلا بالدير أصبح خاليا ... تلاعب فيه شمأل ودبور «1» كأنك لم يسكنك بيض أوانس ... ولم تتبختر في فنائك حور وأبناء أملاك غواشم سادة ... صغيرهم عند الأنام كبير إذا لبسوا أدراعهم فعوابس ... وإن لبسوا تيجانهم فبدور على أنهم يوم اللقاء دراغم ... وأيديهم يوم العطاء بحور ليالي هشام بالرّصافة قاطن ... وفيك ابنه يا دير وهو أمير إذ الدهر غضّ والخلافة لدنة ... وعيش بني مروان فيك نضير ويروى: وروضك مرتاض ونورك مزهر ... وعيش بني مروان فيك نضير بلى فسقاك الله صوب غمامة ... عليك بها بعد الرواح بكور تذكرت قومي خاليا فبكيتهم ... بشجو ومثلي بالبكاء جدير فعزّيت نفسي وهي نفس إذا جرى ... لها ذكر قومي أنة وزفير لعلّ زمانا بالبكاء يوما عليهم ... لهم بالذي تهوى النفوس يدور فيفرح محزون وينعم بائس ... ويطلق من ضيق الوثاق أسير رويدك إن اليوم يتبعه غد ... وإنّ صروف الدائرات تدور فلما قرأها المتوكل ارتاع وتطير، وقال: أعوذ بالله من شر أقداره، ثم دعا صاحب الدير وسأله عن الرقعة ومن كتبها؟ فقال: لا علم لي بهما اهـ. وذكر غيره، أنه بعد عوده إلى بغداد، لم يلبث إلا أياما قلائل حتى قتله ابنه المنتصر. وقد تقدم ذكر قتله وكيفيته، في باب الهمزة، في الاوز في ذكر الخلفاء. وذكر ابن خلكان، في تاريخه في ترجمة علي بن محمد بن أبي الحسن الشابشتي «2» ، أن الواقعة كانت للرشيد، قال: ولم نعرف نسبة الشابشتي إلى أي شيء. الضريس: الطيهوج، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الطاء المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ومن أمثال العامة السائرة «أكسل من الضريس» ، لأنه يلقي رجيعه على أولاده. الضغبوس: ولد الثرملة، وقد تقدم في باب الثاء المثلثة أنها أنثى الثعالب. الضفدع: بكسر الضاد وسكون الفاء والعين المهملة بينهما دال مهملة، مثال الخنصر، واحد الضفادع، والأنثى ضفدعة وناس يقولون: ضفدع بفتح الدال، قال الخليل: ليس في الكلام فعلل إلا أربعة أحرف: درهم وهجرع وهو الطويل وهبلع وهو الأكول، وبلعم وهو اسم. وقال ابن الصلاح: الأشهر فيه، من حيث اللغة، كسر الدال وفتحها، أشهر في ألسنة العامة وأشباه العامة من الخاصة وقد أنكره بعض أئمة اللغة، وقال البطليوسي، في شرح أدب الكاتب: وحكي أيضا ضفدع، بضم الضاد وفتح الدال، وهو نادر. وحكاه المطرزي أيضا، قال في الكفاية: وذكر الضفادع يقال له العلجوم، بضم العين والجيم وإسكان اللام والواو وآخره ميم. ويقال للضفدع أبو المسيح وأبو هبيرة وأبو معبد وأم هبيرة. والضفادع أنواع كثيرة، وتكون من سفاد وغير سفاد، وتتولد من المياه القائمة الضعيفة الجري، ومن العفونات وعقب الأمطار الغزيرة، حتى يظن أنه يقع من السحاب لكثرة ما يرى منه على الأسطحة، عقب المطر والريح. وليس ذلك عن ذكر وأنثى وإنما الله تعالى يخلقه في تلك الساعة، من طباع تلك البرية، وهي من الحيوانات التي لا عظام لها. ومنها ما ينق وما لا ينق، والذي ينق منها يخرج صوته من قرب أذنه، وتوصف بحدة السمع إذا تركت النقيق وكانت خارج الماء، وإذا أرادت أن تنق أدخلت فكها الأسفل في الماء، ومتى دخل الماء في فيها لا تنق. وما أظرف قول الشاعر وقد عوتب على قلة كلامه: قالت الضفدع قولا ... فسرته الحكماء في فمي ماء وهل ينطق ... من في فيه ماء قال عبد القاهر: والثعبان يستدل بصياح الضفدع عليه، فيأتي على صياحه فيأكله. وأنشد في ذلك يقول «1» : يجعل في الأشداق ماء ينصفه ... حتى ينقّ والنقيق يتلفه قوله: ينصفه بضم الياء المثناة تحت، واسكان النون وكسر الصاد المهملة، وليس المراد هنا العدل بل المراد حتى يبلغ نصف فكه الأعلى، وقوله: والنقيق يتلفه أراد به الضفادع إذا صاحت يتبعها الثعبان فيجيء فيأكلها وفي ذلك يقول «2» الشاعر: ضفادع في ظلماء تجاوبت ... فدلّ عليها صوتها حية البحر وحية البحر الأفعى التي تكون في البر، وهي تعيش في البر والبحر كما تقدم. ويعرض لبعض الضفادع مثل ما يعرض لبعض الوحوش من رؤية النار حيرة إذا رأتها وتتعجب منها إلا أنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 تنق، فإذا أبصرت النار سكتت، ولا تزال تدمن النظر إليها، وأول نشئها في الماء أن تظهر مثل حب الدخن أسود ثم تخرج منه، وهي كالدعموص، ثم بعد ذلك تنبت لها الأعضاء، فسبحان القادر على ما يشاء وما يريد سبحانه لا إله إلا هو. وفي الكامل لابن عدي، في ترجمة عبد الرحمن بن سعد بن عثمان بن سعد القرظ مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» «من قتل ضفدعا فعليه شاة محرما كان أو حلالا» . قال سفيان: يقال إنه ليس شيء أكثر ذكرا لله منه. وفيه، في ترجمة حماد بن عبيد، أنه روى عن جابر الجعفي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ضفدعا ألقت نفسها في النار من مخافة الله فأثابهن الله بها برد الماء وجعل نقيقهن التسبيح. وقال «2» «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع والصرد والنحلة» قال: ولا أعلم لحماد بن عبيد غير هذا الحديث. قال البخاري: لا يصح حديثه، وقال أبو حاتم: ليس بصحيح الحديث. وفي كتاب الزاهر لأبي عبد الله القرطبي، أن داود عليه السلام قال: لأسبحن الله الليلة تسبيحا ما سبحه به أحد من خلقه، فنادته ضفدعة من ساقية في داره: يا داود تفتخر على الله بتسبيحك، وإن لي لسبعين سنة ما جف لساني من ذكر الله تعالى، وإن لي لعشر ليال ما طعمت خضرا ولا شربت ماء اشتغالا بكلمتين. فقال: ما هما؟ قالت: يا مسبحا بكل لسان، ومذكورا بكل مكان، فقال داود في نفسه: وما عسى أن أقول أبلغ من هذا؟. وروى البيهقي في شعبه عن أنس بن مالك أنه قال: إن نبي الله داود ظن في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بأفضل مما مدحه به، فأنزل الله عليه ملكا وهو قاعد في محرابه، والبركة إلى جنبه، فقال: يا داود افهم ما تصوت به هذه الضفدعة فأنصت إليها، فإذا هي تقول: سبحانك وبحمدك منتهى علمك. فقال له الملك: كيف ترى؟ فقال: والذي جعلني نبيا إني لم أمدحه بهذا. وفي كتاب فضل الذكر لجعفر بن محمد بن الحسن الغرياني «3» الحافظ العلامة، عن عكرمة، أنه قال: صوت الضفدع تسبيح. وفيه أيضا عن الأعمش عن أبي صالح، أنه سمع صوت صرير باب، فقال: هذا منه تسبيح. فائدة : قال الرئيس ابن سينا: إذا كثرت الضفادع في سنة، وزادت عن العادة، يقع الوباء عقبها. وقال القزويني: الضفادع تبيض في الرمل مثل السلحفاة، وهي نوعان: جبلية ومائية. ونقل الزمخشري في الفائق، عن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، قال: سأل رجل ربه أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم، فرأى فيما يرى النائم رجلا كالبلور، يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان في صورة ضفدع له خرطوم كخرطوم البعوضة، قد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس له، فإذا ذكر الله خنس. وسيأتي إن شاء الله تعالى، ذكر هذا أيضا في لفظ الكركي، من كلام السهيلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 الحكم : يحرم أكلها للنهي عن قتلها، وروى البيهقي في سننه، عن سهل بن سعد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل خمسة: النملة والنحلة والضفدع والصرد والهدهد» «1» . وفي مسند أبي داود الطيالسي، وسنن أبي داود والنسائي والحاكم، عن عبد الله بن عثمان التيمي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن طبيبا سأله عن ضفدع يجعلها في دواء، «فنهاه صلى الله عليه وسلم عن قتلها» «2» . فدل على الضفدع يحرم أكلها وأنها غير داخلة فيما أبيح من دواب الماء. وقال بعض الفقهاء: إنما حرم الضفدع، لأنه كان جار الله في الماء الذي كان عليه العرش قبل خلق السموات والأرض، قال «3» تعالى: وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ. روى ابن عدي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتلوا الضفادع، فإن نقيقها تسبيح» . قال السلمي: سألت الدارقطني عنه، فقال: إنه ضعيف، قلت: الصواب أنه موقوف على عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قاله البيهقي، وقد تقدم في الخطاف. قال الزمخشري: إنها تقول في نقيقها سبحان الملك القدوس. وعن أنس: لا تقتلوا الضفادع، فإنها مرت بنار إبراهيم عليه السلام، فحملت في أفواهها الماء وكانت ترشه على النار. وفي شفاء الصدور لابن سبع، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقهن تسبيح» «4» . ومن أحكامه : أنه ينجس بالموت كغيره من الحيوان الذي لا يؤكل. ونقل في الكفاية، عن الماوردي حكاية وجه أنه لا ينجس بالموت. وغلطه شيخنا، في النقل عنه، وقال: لا ذكر لهذا الوجه في الحاوي، ولا في غيره من كتبه اهـ. وإذا ماتت في ماء قليل، قال النووي: إن قلنا لا تؤكل نجسته بلا خلاف. وحكى الماوردي في نجاسته قولين: أحدهما ينجس كما ينجس بسائر النجاسات، والثاني يعفى عنه كدم البراغيث، والأصح الأول. ولما قدم وفد اليمامة على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، بعد قتل مسيلمة، قال لهم: ما كان صاحبكم يقول؟ فاستعفوه من ذلك. فقال: لتقولن، قالوا: كان يقول يا ضفدع ابنة ضفدع، كم تنقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين. الأمثال : قالوا: «أنق من ضفدع» . قال «5» الأخطل: ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت ... فدل عليها صوتها حية البحر وقد تقدم ذكره وهو كقولهم «6» : «على أهلها دلّت براقش» . وهي كلبة سمعت وقع حوافر الدواب فنبحت فاستدلوا بنباحها على القبيلة فاستباحوهم قال حمزة بن بيض «7» : لم يكن عن جناية لحقتني ... لا يساري ولا يميني جنتني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 بل جناها أخ على كريم ... وعلى أهلها براقش تجني الخواص : قال ابن جميع في كتابه الارشاد: لحوم الضفادع تغثي النفس وتورث إسهالا دمويا، فيتغير منه لون البدن، ويرم ويختلط العقل. وقال صاحب عين الخواص: شحم الضفادع الآجامية، إذا وضع على الأسنان قلعها من غير وجع، وعظم البري، إذا وضع على رأس القدر منعها من الغليان، وإذا يبس ضفدع في الظل ودق وطبخ مع خطمي، وطلي به بعد طلي النورة والزرنيخ لم ينبت عليه الشعر بعد ذلك. والضفدع إذا طرح وهو حي في الشراب الصرف مات، فإذا أخرج وألقي في ماء صاف عاش. ونقل عن محمد بن زكريا الرازي أن رجل الضفدع، إذا علقت على من به النقرس سكن وجعه. انتهى. وإذا أخذت المرأة ضفدع الماء، فتحت فاه وبصقت فيه ثلاث مرات، ثم ردته إلى الماء فإنها لا تحبل وإذا مسحت القدر من ظاهرها بشحمه، وأوقد تحتها ما عسى أن يوقد، لم تغل أبدا. وإذا رضخت الضفدع، وجعلت على لسعة الهوام أبرأتها من وقتها. ومن خواصه العجيبة، أنه إذا شق نصفين من رأسه إلى أسفله، وامرأة تنظر إليه، غلبت شهوتها وكثر ميلها إلى الرجال. وإذا علق لسانه على امرأة نائمة، أخبرت بكل ما عملت في اليقظة. وإذا جعل لسانه في خبز، وأطعم لمن اتهم بالسرقة، فإنه يقر بها. ودمه يطلى به الموضع الذي نتف شعره لم ينبت أبدا. ومن لطخ به وجهه أحبه الناس. وإذا وضع على اللثة أسقط السن، بلا تعب. قال القزويني: ولقد كنت في الموصل، ولنا صاحب في بستان، بنى مجلسا وبركة، فتولدت فيها الضفادع وتأذى سكان المكان بنقيقها وعجزوا عن إبطاله، حتى جاء رجل فقال: اجعلوا طشتا على وجه الماء مقلوبا ففعلوا، فلم يسمع لها نقيق بعد ذلك. وقال محمد بن زكريا الرازي: إذا وضع سراج في طاس، وجعل فوق الماء أو في قناة فيها أصوات الضفداع سكتت، ولا يسمع لها صوت البتة. التعبير : الضفدع في المنام رجل عابد مجتهد في طاعة الله، لأنه صب الماء على نار نمرود. والضفادع الكثيرة عذاب، لأنها من آيات موسى عليه الصلاة والسلام. قال «1» تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ الآية. وقالت النصارى: من رأى أنه مع الضفادع حسنت عشرته مع أقربائه وجيرانه. ومن أكل لحم ضفدع في منامه، نال مشقة، وقال ارطاميدورس: الضفادع في المنام تدل على الخداعين والسحرة. وقال جاماسب: من كلم ضفدعا في المنام نال ملكا. ومن رأى الضفادع خرجت من مدينة خرج منها العذاب والله أعلم. الضوع: بضاد معجمة مضمومة وواو مخففة مفتوحة وعين مهملة في آخره. قال النووي: الأشهر أنه من جنس الهوام، وقال الجوهري: إنه طائر من طير الليل من جنس الهام، وقال المفضل: هو ذكر البوم وجمعه أضواع وضيعان. وأصح القولين تحريم أكله، كما صرح به في شرح المهذب، قال الرافعي: هذا يقتضي أن الضوع ذكر البوم، وذكر ما تقدم، ثم قال: فعلى هذا إن كان في الضوع قول لزم اجراؤه في البوم لأن الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 النووي: قلت الأشهر أن الضوع من جنس الهوام، فلا يلزم اشتراكهما في الحكم. وحكمه : تحريم الأكل على الأصح كما صرح به في شرح المهذب. الضيب: شيء من دواب البحر، على هيئة الكلب وخلقته، قاله ابن سيده. الضئيلة: الحية الدقيقة. قاله الجوهري، وقد تقدم لفظ الحية في باب الحاء المهملة. الضّيون: بفتح الضاد والواو وإسكان الياء المثناة تحت بينهما وبالنون في آخره، الهر الذكر، والجمع ضياون. قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: بريد كأنّ الشمس في حجراته ... نجوم الثريا أو عيون الضياون وقالت العرب: «أدبّ من الضيون» «1» . وهو من الدبيب قال الشاعر: يدبّ بالليل لجاراته ... كضيون دبّ إلى قرنب القرنب: الفأر. وقالوا: «أصيد من ضيون «2» » ، والله أعلم. و «أزنى وأنزى من ضيون «3» » . خاتمة : قال الصقلي: ليس في الأسماء شيء فيه ياء ساكنة بعدها واو مفتوحة إلا ثلاثة أسماء: حيوة وضيون وكيوان، وهو زحل. وقد ذكر أهل الهيئة، أن دورته المختصة به من المغرب إلى المشرق، تتم في تسع وعشرين سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وسماه المنجمون النحس الأكبر، لأنه في النحوسة فوق المريخ، وأضافوا إليه الخراب والهلاك والهم والغم وزعموا أن النظر إليه يفيد غما وحزنا، كما أن النظر إلى الزهرة يفيد فرحا وسرورا والله أعلم. باب الطاء المهملة طامر بن طامر: البرغوث والخسيس من الناس، ويقال للخامل الذي لا يعرف: هو طامر ابن طامر. الطاوس: طائر معروف وتصغيره طويس، بعد حذف الزوائد، وكنيته أبو الحسن وأبو الوشي، وهو في الطير كالفرس في الدواب، عزا وحسنا، وفي طبعه العفة وحب الزهو بنفسه والخيلاء والاعجاب بريشه وعقده لذنبه كالطاق، لا سيما إذا كانت الأنثى ناظرة إليه. والأنثى تبيض بعد أن يمضي لها من العمر ثلاث سنين، وفي ذلك الأوان يكمل ريش الذكر ويتم لونه وتبيض الأنثى مرة واحدة في السنة اثنتي عشرة بيضة وأقل وأكثر، ولا تبيض متتابعا ويسفد في أيام الربيع، ويلقي ريشه في الخريف كما يلقي الشجر ورقه، فإذا بدا طلوع الأوراق في الشجر طلع ريشه، وهو كثير العبث بالأنثى، إذا حضنت، وربما كسر البيض ولهذه العلة يحضن بيضه تحت الدجاج، ولا تقوى الدجاجة على حضن أكثر من بيضتين منه، وينبغي أن تتعاهد الدجاجة بجميع ما تحتاج إليه من الأكل والشرب، مخافة أن تقوم فيفسده الهواء. والفرخ الذي يخرج من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 حضن الدجاجة، يكون قليل الحسن، ناقص الخلق وناقص الجثة، ومدة حضنه ثلاثون يوما، وفرخه يخرج من البيضة كالفروج كاسيا كاسبا، وقد أحسن الشاعر في وصفه حيث قال: سبحان من من خلقه الطاوس ... طير على أشكاله رئيس كأنه في نقشه عروس ... في الريش منه ركّبت فلوس تشرق في داراته شموس ... في الرأس منه شجر مغروس كأنه بنفسج يميس ... أو هو زهر حرم يبيس وأعجب الأمور أنه مع حسنه يتشاءم به، وكأن هذا، والله أعلم، أنه لما كان سببا لدخول إبليس الجنة، وخروج آدم منها، وسببا لخلو تلك الدار من آدم مدة دوام الدنيا، كرهت إقامته في الدور بسبب ذلك. حكي أن آدم لما غرس الكرمة، جاء إبليس فذبح عليها طاوسا، فشربت دمه فلما طلعت أوراقها، ذبح عليها قردا فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسدا فشربت دمه، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيرا فشربت دمه، فلهذا شارب الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة، وذلك أنه أول ما يشربها وتدب في أعضائه، يزهو لونه ويحسن كما يحسن الطاوس فإذا جاءت مبادي السكر لعب وصفق ورقص، كما يفعل القرد فإذا قوي سكره جاءت الصفة الأسدية، فيعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه ثم يتقعص كما يتقعص الخنزير، ويطلب النوم وتنحل عراقوته. فائدة : طاوس بن كيسان فقيه اليمن كان اسمه ذكوان، فلقب بطاوس لأنه كان طاوس القراء والعلماء. وقيل: اسمه طاوس وكنيته أبو عبد الرحمن، كان رأسا في العلم والعمل، من سادات التابعين أدرك خمسين صحابيا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع ابن عباس وأبا هريرة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن الزبير، وروى عنه مجاهد وعمرو بن دينار وعمرو بن شعيب، ومحمد بن شهاب الزهري وآخرون. قال ابن الصلاح، في رحلته: روينا عن الزهري، أنه قال: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قلت: من مكة، قال: فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قال: قلت: عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية. فقال: إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا الناس. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء. قال: من كان كذلك ينبغي أن يسود الناس. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن أبي حبيب، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. فقال: كما قال في الأولين. ثم قال: فمن يسود أهل الشأم؟ قلت: مكحول الدمشقي، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي عبد نوبي، أعتقته امرأة من هذيل. فقال كما قال، ثم قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهران. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. فقال كما قال، ثم قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قلت: الضحاك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 بن مزاحم، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. فقال كما قال، ثم قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قلت: الحسن بن أبي الحسن، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: ويلك! فمن يسود أهل الكوفة؟ قلت: إبراهيم النخعي، قال: من العرب أم من الموالي؟ قلت: من العرب، قال: ويلك يا زهري، فرّجت عني، والله لتسودن الموالي على العرب، حتى يخطب لها على المنابر، وإن العرب تحتها! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه، فمن حفظه ساد ومن ضيعه سقط. ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة، كتب إليه طاوس: إن أردت أن يكون عملك خيرا كله، فاستعمل أهل الخير. قال عمر: كفى بها موعظة. وروى ابن أبي الدنيا بسنده عن طاوس، أنه قال: بينا أنا بمكة استدعاني الحجاج، فأتيته فأجلسني إلى جانبه وأتكأني على وسادة، فبينما نحن نتحدث، إذ سمع صوتا عاليا بالتلبية، فقال: عليّ بالرجل، فأحضر فقال له: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين. فقال: إنما سألتك عن البلد والقوم! قال: من أهل اليمن، فقال: كيف تركت محمد بن يوسف يعني أخاه، وكان واليا على اليمن، فقال: تركته جسيما وسيما لباسا حريرا، ركابا خراجا ولاجا! فقال: إنما سألتك عن سيرته، فقال: تركته غشوما ظلوما، مطيعا للمخلوق، عاصيا للخالق! قال: أتقول فيه هذا وقد علمت مكانه مني؟ فقال الرجل: أتراه بمكانه منك أعز من مكاني من ربي، وأنا مصدق نبيه صلى الله عليه وسلم، ووافد بيته؟! فسكت الحجاج، وذهب الرجل من غير إذن. قال طاوس: فتبعته فقلت: الصحبة، فقال: لا حبا ولا كرامة، ألست صاحب الوسادة؟! الآن وقد رأيت الناس يستفتونك في دين الله، قلت: إنه أمير مسلط، أرسل إليّ فأتيته كما فعلت أنت. قال: فما ذاك الاتكاء على الوسادة في رخاء بال؟! هلا كان لك من واجب نصحه، وقضاء حق رعيته بوعظه، والحذر من بوائق عسفه، وتخلى نفسك من ساعة الأنس به ما يكدر عليك تلك الطمأنينة؟! قلت: أستغفر الله وأتوب إليه، ثم أسألك الصحبة؟! فقال: غفر الله لك إن لي مصحوبا شديد الغيرة عليّ، فلو أنست بغيره رفضني. ثم تركني وذهب. وفي تاريخ «1» ابن خلكان، عن عبد الله الشامي، قال: أتيت طاوسا فخرج إلي شيخ كبير، فقلت: أنت طاوس؟ فقال: أنا ابنه، فقلت: إن كنت ابنه فإن الشيخ قد خرف! قال: إن العالم لا يخرف، فدخلت عليه، فقال: أتحب أن أجمع لك التوراة والإنجيل والزبور والفرقان في مجلسي هذا؟ قلت: نعم. فقال: خف الله مخافة لا يكون عندك شيء أخوف منه، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه، وأحب لأخيك ما تحب لنفسك. وقالت امرأة: ما بقي أحد إلا فتنته إلا طاوسا فإني تعرضت له، فقال لي: إذا كان وقت كذا فتعالي! قالت: فجئت ذلك الوقت، فذهب بي إلى المسجد الحرام، وقال: اضطجعي فقلت: ههنا؟! فقال: الذي يرانا ههنا يرانا في غيره! فتابت المرأة. وقال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج. وكان طاوس يقول: ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا أحصي عليه حتى أنينه في مرضه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وقال: لقي عيسى ابن مريم عليه السلام إبليس فقال: أما علمت أنه لا يصيبك إلا ما قدر لك؟ قال: نعم. قال إبليس: فارق إلى ذروة هذا الجبل وترد منها، فانظر أتعيش أم لا؟ فقال له عيسى عليه السلام: أما علمت أن الله قال: لا يختبرني عبدي، فإني أفعل ما شئت، إن العبد لا يبتلي ربه، ولكن الله يبتلي عبده. قال طاوس: فخصمه. وكان يقول: صاحب العقلاء تنسب إليهم، وإن لم تكن منهم. وروى أبو داود الطيالسي، عن زمعة ابن صالح عن ابن طاوس عن أبيه أنه قال: من لم يدخل في وصية، لم تنله بلية، ومن لم يتول القضاء بين الناس لم ينله جهد البلاء. وروى أحمد عنه، في كتاب الزهد، أنه قال: إن الموتى يفتنون في قبورهم سبعة أيام، فكانوا يستحبون أن يطعم عنهم تلك الأيام. قال: وكان من دعاء طاوس: اللهم ارزقني الإيمان والعمل، ومتعني بالمال والولد. روى عنه الحافظ أبو نعيم وغيره، أنه قال: كان رجل له أربعة بنين فمرض، فقال أحدهم: إما أن تمرضوه، وليس لكم من ميراثه شيء، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء؟ فقالوا: من أمرضه وليس لك من ميراثه شيء فمرضه حتى مات. ولم يأخذ من ميراثه شيئا فأتى إليه في النوم، فقال له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه مائة دينار. فقال في نومه: أفيها بركة؟ فقال: لا. فأصبح فذكر ذلك لامرأته فقالت: خذها فإن من بركتها أن تكتسي منها وتعيش فأبى. فلما أمسى أتى له في النوم، فقال له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة دنانير، فقال: أفيها بركة؟ قال: لا. فلما أصبح ذكر ذلك لامرأته، فقالت له مثل مقالتها الأولى، فأبى أن يأخذها. فأتى له في الليلة الثالثة، فقال له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه دينارا، قال: أفيه بركة؟ قال: نعم. فذهب فأخذ الدينار، ثم خرج به إلى السوق، فإذا هو برجل يحمل حوتين، فقال له: بكم هما؟ فقال: بدينار فأخذهما منه بالدينار، وانطلق بهما إلى منزله، فشق بطونهما فوجد فيهما درتين، لم ير الناس مثلهما. قال: فبعث الملك يطلب درة ليشتريها فلم توجد إلا عنده، فباعها بوقر ثلاثين بغلا ذهبا. فلما رآها الملك، قال: ما تصلح هذه إلا بأخت، أطلبوا أختها وإن أضعفتم ثمنها فجاؤوا إليه فقالوا له: أعندك أختها، ونحن نعطيك ضعف ما أعطيناك؟ قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. فأعطاهم إياها بضعف ما أخذوا به الأولى. توفي طاوس وهو ابن بضع وسبعين سنة حاجا بمكة، قبل يوم التروية بيوم، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، وهو أمير المؤمنين، وذلك في سنة ست ومائة. وحج أربعين حجة وكان مجاب الدعوة. الحكم : يحرم أكل لحم الطاوس لخبث لحمه، وقيل: يحل لأنه لا يأكل المستقذرات واللحوم، وعلى الوجهين يصح بيعه إما لحل أكله، وإما للتفرج على لونه. وقد تقدم في الصيد، أن أبا حنيفة قال: لا يقطع سارق الطيور لأن أصلها على الإباحة، وخالفه الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 الأمثال : قالوا: «أزهى من طاوس» «1» و «أحسن من طاوس» «2» . قال الجوهري: وقولهم: «أشأم من طويس» » ، هو مخنث كان بالمدينة، قال: يا أهل المدينة توقعوا خروج الدجال ما دمت حيا بين ظهرانيكم، فإذا مت فقد أمنتم، لأني ولدت في الليلة التي مات فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وفطمت في اليوم الذي مات فيه أبو بكر، وبلغت الحلم في اليوم الذي قتل فيه عمر، وتزوجت في اليوم الذي قتل فيه عثمان، وولد لي في اليوم الذي قتل فيه علي. وذكر ابن خلكان أن سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة، أن أحص المخنثين قبلك فوقعت على الحاء نقطة فأمر بالمخنثين فخصوا، وخصي طويس من جملتهم فلما خصوهم، أظهروا الفرح بذلك حتى قال أحدهم: ما كان أغنانا عن سلاح لا نقاتل به. وقال آخر، وهو طويس: أف لكم ما سلبتموني إلا ميزاب بول انتهى. وكان طويس اسمه طاوس، فلما تخنث جعلوه طويسا ويسمى بعبد النعيم وقال في نفسه: إنني عبد النعيم ... أنا طاوس الجحيم وأنا أشأم من يمشي ... على ظهر الحطيم أنا حاء ثم لام ... ثم قاف حشو ميم عنى بقوله حشو ميم الياء، لأنك إذا قلت: ميم وقعت بين الميمين ياء، يريد أنه حلقي. وأراد بالحطيم الأرض، فكأنه قال: أنا أشأم الناس. توفي في طويس في سنة اثنتين وتسعين من الهجرة. الخواص : لحم الطاوس عسر الهضم رديء المزاج، وأجوده الحديث ينفع المعدة الحارة، وسلقه قبل طبخه بالخل، يدفع ضرره، وهو يولد كيموسا غليظا يوافق الأمزجة الحارة. وقد كرهت الحكماء لحوم الطواويس وقالوا: إنها أغلظ لحوم جميع الطيور وأعسرها انهضاما، ويجب أن يذبح ويبيت مثقلا ويطبخ وينضج، ويمنع منه أصحاب الترفه والرفاهية، فإنه من أغذية أصحاب الرياضة. قال ابن زهر، في خواصه: إن الطاوس إذا رأى طعاما مسموما، أو شم رائحته فرح ونشر جناحيه ورقص، وبان منه السرور، ومرارته إذا سقي منها المبطون بالكنجبين والماء الحار أبرأه. ونقل عن هرمس، أن مرارته إذا شربت بخل نفعت من لدغ الهوام، لكن قال صاحب عين الخواص: قالت الحكماء، وأطهورس: إن مرارة الطاوس، إن سقي منها إنسان جن، قال: وقد جربته. وقال هرمس: إن خلط دم الطاوس بالأنزروت والملح وطلي به القروح الرديئة الرطبة، التي يخاف منها الأكلة، أبرأها. وزبله، إن طلي به الثآليل قلعها، وعظامه، إذا أحرقت، وسحقت وإلي بها الكلف أبرأته بإذن الله تعالى. التعبير : الطاوس تدل رؤيته على التيه والعجب بالحسن والجمال لمن ملكه، وربما دلت رؤيته على النميمة والغرور والكبر والانقياد إلى الأعداء، وزوال النعم، والخروج من النعيم إلى الشقاء، ومن السعة إلى الضيق، وربما تدل رؤيته على الحلي والحلل، والتاج والأزواج الحسان، والأولاد الملاح. وقال المقدسي: الطاوس في المنام، امرأة عجمية ذات مال وجمال، لكنها مشؤومة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 الناصية. والذكر من الطواويس ملك أعجمي، فمن رأى أنه يواخي الطواويس، فإنه يواخي ملوك العجم، وينال منهم جارية نبطية. وقال ارطاميدورس: الطواويس في الرؤيا تدل على أقوام صباح الوجوه، ضحاك السن. وقيل: الطاوس امرأة أعجمية غير مسلمة والله أعلم. الطائر: واحد الطيور والأنثى طائرة، وهي قليلة، وجمع الطير أطيار وطيور. والطيران حركة ذي الجناحين في الهواء بجناحيه قال «1» الله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ، وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ، إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أي في الخلق والرزق، والحياة والموت، والحشر والمحاسبة، والاقتصاص من بعضها لبعض كما تقدم. فإذا كان يفعل هذا بالبهائم، فنحن أحرى إذ نحن مكلفون عقلا. وقيل: أمم أمثالكم في التوحيد والمعروفة، قاله عطاء. وقوله بجناحيه تأكيد وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة، فقد يقال طائر للنحس والسعد. وقال الزمخشري: الغرض من ذكر ذلك، الدلالة على عظيم قدرة الله ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره، تلك الخلائق المتفاوتة والأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها، ومهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن. روى أحمد، باسناد صحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طير الجنة كأمثال البخت ترعى في شجر الجنة» «2» . قال أبو بكر: يا رسول الله إن هذه الطير لناعمة قال صلى الله عليه وسلم: «آكلها أنعم منها قالها ثلاثا وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها» «3» . ورواه الترمذي بنحو هذا اللفظ، وقال: إنه حسن. وروى البزار عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا» . وفي أفراد مسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير» «4» . قال النووي: قيل مثلها في وقتها وضعفها، كالحديث الآخر «أهل اليمن أرق وأضعف أفئدة» . وقيل في الخوف والهيبة، لأن الطير أكثر الحيوان خوفا وفزعا، كما قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «5» وكأن المراد قوم غلب عليهم الخوف، كما جاء عن جماعات من السلف من شدة خوفهم. وقيل: المراد متوكلون، وقيل: الطائر ما تيامنت به أو تشاءمت به، وأصله في ذي الجناح. وقالوا: طائر الله لا طائرك، فرفعوه على إرادة: هذا طائر الله، وفيه معنى من الدعاء. وطائر الانسان عمله، الذي قلده، وقيل: رزقه، والطائر الحظ من الخير والشر، وقوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «6» قيل: حظه، وقال المفسرون: ما عمل من خير أو شر ألزمناه عنقه، فلكل امرىء حظ من الخير والشر، قد قضاه الله تعالى، فهو ملازم عنقه. وإنما قيل: للحظ من الخير والشر طائر، لقول العرب: جرى له الطائر بكذا من الشر، على طريق الفأل. وفي سنن أبي داود وغيرها عن أبي رزين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت» «7» قال: وأحسبه قال: «ولا تعبرها إلا على ذي ود أو ذي رأي» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 وذكر ابن خلكان أن موسى بن نصير، أمير بلاد المغرب، وفد على الوليد بن عبد الملك، بعد أن فتح الغرب، إلى البحر المحيط إلى طليطلة، التي تحت بنات نعش، فأخبره بالفتح، وقدم معه بمائدة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، التي وجدت في طليطلة، وكانت مصوغة من الذهب والفضة، وعليها طوق لؤلؤ وطوق ياقوت وطوق زمرد، وكان قد حملها على بغل قوي، فما سار إلا قليلا حتى تفسخت قوائمه لعظمها، وقدم معه أيضا بتيجان ملوك اليونان، مكللة بالجواهر، وثلاثين ألف رأس من الرقيق. قال: وكان اليونان، وهم أهل الحكمة، يسكنون بلاد المشرق قبل الاسكندرية، فلما ظهرت الفرس وزاحمت اليونان على ما بأيديهم من الممالك، انتقلوا إلى جزيرة الأندلس، لكونها طرفا من آخر العمارة، ولم يكن لها ذكر، ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرة، ولا كانت عامرة كلها، وكان أول من عمرها واختط فيها اندلس بن يافث بن نوح عليه السلام، فسميت باسمه، ولما عمرت الأرض بعد الطوفان، كانت صورة المعمور منها عندهم على شكل طائر رأسه المشرق، وذنبه المغرب، وجناحاه الشمال والجنوب، وبطنه ما بينهما، فكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخس أجزاء الطائر. وكان اليونان لا يرون فناء الأمم بالحروب، لما فيه من الأضرار والاشتغال عن العلوم، التي أمرها عندهم أهم الأمور، فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس، فعمروها وشقوا أنهارها، وبنوا المعاقل، وغرسوا الجنان والكروم، وملئوها حرثا ونسلا، فعظمت وطابت، حتى قال قائلهم، لما رأى بهجتها: إن الطائر الذي صورت العمارة على شكله، وكان المغرب ذنبه، كان طاوسا، لأن معظم جماله في ذنبه. ولما كملت اليونان عمارة جزيرة الأندلس، جعلوا دار الحكمة والملك فيها مدينة طليطلة، لأنها وسط البلاد. قيل: إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء: على أدمغة اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب. وفي كفاية المعتقد لشيخنا الإمام العارف جمال الدين اليافعي رحمه الله، أن الشيخ العارف بالله تعالى عمر بن الفارض رحمه الله تعالى، دخل في أيام بدايته مدرسة بديار مصر، فوجد شيخا بقالا يتوضأ من بركة ماء فيها بغير ترتيب، فقال له: يا شيخ، أنت في هذا السن، وفي مثل هذا البلد، ولا تحسن الوضوء! فقال له: يا عمر ما يفتح عليك بمصر! فجاء إليه وجلس بين يديه وقال: يا سيدي ففي أي مكان يفتح علي؟ قال: بمكة، فقال له: يا سيدي وأين مكة؟ فقال له: هذه وأشار بيده نحوها فكشف له عنها، وأمره الشيخ بالذهاب إليها في ذلك الوقت فوصل إليها في الحال، وأقام بها اثنتي عشرة سنة ففتح عليه، ونظم فيها ديوانه المشهور، ثم بعد مدة سمع الشيخ المذكور يقول: تعال يا عمر احضر موتي! فجاء إليه، فقال: خذ هذا الدينار فجهزني به، ثم احملني وضعني في هذا المكان، وأشار بيده إلى مكان في القرافة، وهو الموضع الذي دفن فيه ابن الفارض «1» ، ثم انتظر ما يكون من أمري. قال: فعانيته ولم أزل معانيا له، حتى فرغت من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 تجهيزه، ثم حملته ووضعته فيه ووقفت، فإذا أنا برجل قد نزل من الهواء، فصلينا عليه، ثم وقفنا ننتظر ما يكون من أمره، وإذا الجو قد امتلأ بطيور خضر، فجاء طائر كبير فابتلعه ثم طار، فتعجبت منه! فقال لي ذلك الرجل: لا تعجب من هذا، فإن أرواح الشهداء، في حواصل طيور خضر، ترعى في الجنة، وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش! قال شيخنا: أولئك شهداء السيوف، وأما شهداء الصفوة، فأجسادهم أرواح، وقد تكلمت على مقام المحبة، في آخر الجزء الثامن من كتابي الجوهر الفريد في نحو خمس كراكيس، فلينظر هناك وبالله التوفيق. فروع منثورة : منها لو ملك الإنسان طائرا أو صيدا، وأراد إرساله من يده، فوجهان: أحدهما أنه يجوز ويزول ملكه عنه كما لو أعتق عبدا. واختاره ابن أبي هريرة. والثاني لا يجوز ذلك، واختاره الشيخ أبو اسحاق والقفال والقاضي أبو الطيب، وهو الأصح في الروضة والشرح، ولو فعله عصى، ولم يخرج عن ملكه بالإرسال، لأنه يشبه سوائب الجاهلية، كما تقدم في باب الصاد المهملة. وقياسا على ما لو سيب دابة، قال القفال: والعوام يسمونه عتقا، ويحتسبونه وهو حرام، وينبغي الاحتراز عن ذلك، لأن الطائر المخلى يختلط بالطيور المباحة، فيأخذه الآخذ ظنا أنه قد ملكه، وهو لا يملكه، فيكون سببا لوقوع أخيه المؤمن في المحظورات. واختار صاحب الإيضاح وجها ثالثا، وهو إن قصد بعتقه التقرب إلى الله تعالى، زال ملكه عنه، وإلا فلا، وإن قلنا بالوجه الأول، فإنه يعود بالإرسال إلى ما كان عليه في الأصل من حكم الإباحة، وإن قلنا بالوجه الثاني، وهو الأصح كما تقدم، لم يجز لمن عرف أنه ملك الغير، ويعرف كونه ملكا للغير بكونه مخطوما، أو مقصوص الجناح، أو مقرطا، أو فيه جلاجل، أو موسوما، أو مخضوبا، أو غير ذلك مما يدل على الملك، فإن شك في كونه مملوكا، فالأصل الحل، فإن قال المرسل عند إرساله: أبحته لمن يأخذه جاز اصطياده. وإن قلنا بالوجه الثالث، فهل يحل اصطياده؟ فوجهان: أحدهما نعم، لأنه قد عاد إلى حكم الإباحة، ولأنا لو منعنا اصطياده، لأشبه سوائب الجاهلية، وهذا هو الأصح في الروضة، والثاني المنع، كالعبد إذا عتق فإنه لا يسترق، وينبغي أن يختص هذا الوجه، بما إذا أعتقه مسلم، فإن أعتقه كافر جاز اصطياده قطعا، لأن عتقه لا يصح ويسترق عتيقه. ومنها اعلم أن الإمام الرافعي، رحمه الله تعالى، قد أطلق القول بمنع الإرسال، ولا بد من استثناء صور: الأولى، أنه إذا كان الطائر معتاد العدو، فإنه يجوز إرساله في المسابقة. الثانية: إذا كان للطائر فرخ يخشى عليه الموت بحبس الطائر عنه، فينبغي هنا القطع بوجوب الإرسال، لأن الفرخ حيوان محترم، فيجب السعي في صيانة روحه، وقد صرح الأصحاب بوجوب تأخير الحامل وإمهالها، إذا وجب عليها الرجم أو القصاص، لأجل إرضاعها الولد. وجزم الشيخ أبو محمد الجويني بتحريم ذبح الحيوان المأكول إذا كان حاملا بغير مأكول، وعلله بأن في ذبحه قتل ما لا يحل ذبحه، وهو الحمل وقد أطلق صلى الله عليه وسلم ظبية شكت أن لها خشفين، أي ولدين بالغابة، ففي إطلاقه صلى الله عليه وسلم إياها دليل على الوجوب، لأن ما كان ممنوعا منه ولم ينسخ ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 جوز في بعض الأحوال، فجوازه دليل وجوبه كالنظر إلى العورة في الختان. ولما كان الإرسال ممنوعا منه، لكونه سائبة ثم جوز في بعض الأحوال، كان دليل الوجوب. الثالثة، إذا كان معه طائر أو حيوان، وليس معه ما يذبحه به، ولا ما يطعمه، فإرساله واجب ليسعى في طلب رزقه، الرابعة، إذا أراد الإحرام فإنه يجب عليه الإرسال. التعبير : الطائر العمل قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «1» وربما دل الطائر المجهول على الإنذار والموعظة، لقوله تعالى: قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ «2» فمن حسن طائره في المنام حسن عمله، وأتاه رسول بخير. ومن رأى معه طائرا متوحشا دميم الخلق، ربما كان عمله سيئا، أو أتاه رسول بشر. وأما عش الطائر، فإنه يدل على الزوجة، والحد الذي يقف العارف عنده، ورؤية العش للمرأة الحامل ولادة، والعش ما يكون في شجرة، فإذا كان في حائط أو كهف أو جبل، فإنه وكر، والوكر يدل على دور الزناة أو مساجد المتعبدين والمنقطعين. وأما بيض الطائر، فإنه دال على الأولاد من الأزواج والإماء، وربما دل على القبور، وربما دل البيض، على بيض الأسنة أو الخود، وربما دل على الاجتماع بالأهل والأقارب والأحباب، وربما دل على جمع الدراهم والدنانير وادخارها، والريش مال في التأويل، وربما دل على شراء قماش وربما دل على الجاه، لأنه يقال فلان طائر بجناح غيره، وربما دل على النبت من الزرع. والمخلب نصرة المخاصم، كما أنه للطائر عدة وجنة، والمناقر عز وجاه عريض لمن ملكه في المنام، وأما الزبل، فزبل الطائر المأكول مال حلال، وما لا يؤكل مال حرام. والزرق كسوة لاشتباهه في الثوب، وربما دل زرق الطائر الكاسر كالنسر والعقاب ونحوهما، على الخلع من الملوك والأكابر، فهذا قول جلي فيما ذكر من الطيور، وفيما سيأتي، وعلى هذا فقس بفهمك وحذقك تصب إن شاء الله تعالى والله الموفق. فائدة : روى ابن بشكوال، بسنده إلى أحمد بن محمد العطار، عن أبيه، قال: كان لنا جار فأسر وأقام في الأسر عشرين سنة، وأيس أن يرى أهله، قال: فبينما أنا ذات ليلة أفكر فيمن خلفت من صبياني وأبكي، إذ أنا بطائر سقط فوق حائط السجن يدعو بهذا الدعاء، قال: فتعلمته من الطائر ثم دعوت الله به ثلاث ليال متتابعات، ثم نمت فما استيقظت إلا وأنا في بلدي فوق سطح داري، قال: فنزلت إلى عيالي فسروا بي بعد أن فزعوا مني لما رأوني ورأوا ما بي من تغير الحال والهيئة، ثم إني حججت من عامي، فبينما أنا أطوف وأدعو بهذا الدعاء، إذ أنا بشيخ قد ضرب يده على يدي، وقال لي: من أين لك هذا الدعاء؟ فإن هذا الدعاء لا يدعو به إلا طائر ببلاد الروم متعلق بالهواء، فحدثته بقصتي وبما جرى عليّ، وأني كنت أسيرا ببلاد الروم، وتعلمت الدعاء من الطائر فقال: صدقت. فسألت الشيخ عن اسمه، فقال: أنا الخضر، وهو هذا الدعاء: اللهم إني أسألك يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث ولا الدهور، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 ورق الأشجار، وعدد ما يظلم عليه الليل، ويشرق عليه النهار، ولا توارى منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره وسهله، ولا بحر إلا يعلم ما في قعره وساحله، اللهم إني أسألك أن تجعل خير عملي آخره، وخير أيامي يوما ألقاك فيه، إنك على كل شيء قدير. اللهم من عاداني فعاده، ومن كادني فكده، ومن بغى علي بهلكة فأهلكه، ومن أرادني بسوء فخذه، وأطفئ عني نار من أشب لي ناره، واكفني هم من أدخل عليّ همه، وأدخلني في درعك الحصينة، واسترني بسترك الواقي، يا من كفاني كل شيء اكفني ما أهمني من أمر الدنيا والآخرة، وصدق قولي وفعلي بالتحقيق، يا شفيق يا رفيق، فرج عني كل ضيق، ولا تحملني ما لا أطيق، أنت إلهي الحق الحقيق، يا مشرق البرهان يا قوي الأركان، يا من رحمته في كل مكان وفي هذا المكان، يا من لا يخلو منه مكان، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني في كنفك الذي لا يرام، إنه قد تيقن قلبي أن لا إله إلا أنت وأني لا أهلك وأنت معي، يا رجائي فارحمني بقدرتك علي، يا عظيما يرجى لكل عظيم، يا عليم يا حليم أنت بحاجتي عليم، وعلى خلاصي قدير، وهو عليك يسير، فامنن علي بقضائها يا أكرم الأكرمين، ويا أجود الأجودين ويا أسرع الحاسبين يا رب العالمين، ارحمني وارحم جميع المذنبين، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنك على كل شيء قدير، اللهم استجب لنا كما استجبت لهم برحمتك، عجل علينا بفرج من عندك، بجودك وكرمك وارتفاعك في علو سمائك، يا أرحم الراحمين، إنك على ما تشاء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وهذا الدعاء روى الطبراني بإسناد صحيح قطعة منه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأعرابي، وهو يدعو في صلاته، ويقول: يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، ولا توارى منه سماء سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر إلا يعلم ما في قعره، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره، اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوما ألقاك فيه. فوكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعرابي رجلا، فقال: إذا فرغ من صلاته فأتني به فلما قضى صلاته أتاه به، وقد كان أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب من بعض المعادن، فلما أتى الأعرابي وهب له الذهب، وقال: «ممن أنت يا أعرابي» ؟ قال: من بني عامر بن صعصعة، فقال صلى الله عليه وسلم: «هل تدري لم وهبت لك هذا الذهب» ؟ قال: للرحم التي بيننا وبينك يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: «إن للرحم حقا ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله عز وجل» . الطبطاب: طائر له أذنان كبيرتان. الطبوع: القمامة، وستأتي إن شاء الله تعالى، في باب القاف. الطثرج: النمل، قاله الجوهري، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب النون، وقال غيره: صغار النمل. الطحن: دويبة، قاله الجوهري وغيره. قال الزمخشري، في ربيع الأبرار: هي دويبة تشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 أم حبين، يجتمع إليها الصبيان، ويقولون: اطحني لنا، فتطحن بنفسها الأرض حتى تغيب فيها. الطرسوح: حوت بحري، إذا أدمن كله، أورث العين غشاوة. طرغلودس: يعرفه أهل الأندلس، ويسمونه الضريس، بضاد معجمة مضمومة، وراء مهملة مفتوحة، وياء ساكنة منقوطة، اثنتين من تحتها وسين مهملة. قال الرازي، في كتاب الكافي: هو عصفور صغير، أصغر من جميع العصافير، لونه رمادي وأحمر وأصفر، وفي جناحيه ريشة ذهبية ومنقاره رقيق، وفي ذنبه نقط بيض متواترة، وهو دائم الصفير وأجوده السمين. وحكمه : الحل. وله خاصية عجيبة ، في تفتيت الحصا المتكون في المثانة ومنع ما لم يتكون. الطّرف: بكسر الطاء الكريم من الخيل، وقال أبو زيد: هو نعت للذكر خاصة. الطغام: والطغامة بفتح الطاء والغين المعجمة أرذال الطير والسباع، وهما أيضا أراذل الناس، الواحد والجمع في ذلك سواء، قاله ابن سيده. الطفل: ولد كل وحشية، والمولود من بني آدم والجمع أطفال، وقد يكون الطفل واحدا وجمعا، مثل الجنب. قال الله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ «1» والمطفل: الظبية معها طفلها، وهي قريبة عهد بالنتاج، وكذلك الناقة والجمع: المطافيل. قال «2» أبو ذئيب: وإنّ حديثا منك لو تبذلينه ... جنى النحل في ألبان عوذ مطافل مطافيل أبكار حديث نتاجها ... تشاب بماء مثل ماء المفاصيل «3» وما أحسن قول الآخر: فيا عجبا لمن ربيت طفلا ... ألقمه بأطراف البنان أعلّمه الرماية كل يوم ... فلما اشتد ساعده رماني أعلمه الفتوة كلّ وقت ... فلما طر شاربه جفاني وكم علمته نظم القوافي ... فلما قال قافية هجاني ذو الطفيتين: حية خبيثة، والطفية خوصة المقل في الأصل، وجمعها طفى، فشبه الخطين اللذين على ظهر الحية بخوصتين من خوص المقل. قال الزمخشري: وفي كتاب العين الطفية حية لينة خبيثة وأنشد يقول: وهم يذلونها من بعد عزّتها ... كما تذل الطفي من رقية الراقي وكذا قاله ابن سيده أيضا. وفي الصحيحين وغيرهما، من حديث ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يستسقطان الحبالى ويلتمسان البصر» . قال شيخ الإسلام النووي: قال العلماء: الطفيتان الخطان الأبيضان على ظهر الحية. والأبتر قصير الذنب. وقال النضر بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها غالبا. وذكر مسلم في روايته عن الزهري، أنه قال: نرى ذلك من سمها. وأما قوله: يلتمسان البصر، ففيه تأويلان: أصحهما أنهما يخطفانه ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه، لخاصية جعلها الله تعالى في بصرهما إذا وقع على بصر الإنسان، ويؤيد هذا أن في رواية مسلم يخطفان البصر. والثاني أنهم يقصدان البصر باللسع والنهش. قال العلماء: وفي الحيات نوع يسمى الناظر، إذا وقع بصره على عين إنسان مات من ساعتها. وقال أبو العباس القرطبي: ظاهر هذا أن هذين النوعين من الحيات لهما من الخاصية ما يكون عنه ذلك ولا يستبعد هذا، فقد حكى أبو الفرج بن الجوزي في كتابه المسمى بكشف المشكل لما في الصحيحين، أن بعراق العجم أنواعا من الحيات تهلك الرائي لها بنفس رؤيتها ومنها ما يهلك بالمرور على طريقها. الطلح: بالكسر القراد وسيأتي إن شاء الله تعالى لفظ القراد في باب القاف. قال كعب بن زهير «2» : وجلدها من أطوم لا يؤيسه ... طلح بضاحية المتنين مهزول أي لا يؤثر القراد في جلدها لملاسته قاله في نهاية الغريب. الطلا: بكسر الطاء الولد من ذوات الظلف والجمع اطلاء. الأمثال : قالوا: «كيف الطلا وأمه» «3» . يضرب لمن ذهب همه وحلا لسانه. الطلى: بالفتح الصغير من أولاد المعز وإنما سمي بذلك لأنه يطلى أي تشد رجلاه بخيط إلى وتد وجمعه طليان مثل رغيف ورغفان. الطمروق: بفتح الطاء، الخفاش حكاه ابن سيده وقد تقدم في حرف الخاء المعجمة. الطمل: والطملال والأطلس الذئب كما تقدم لفظه في باب الذال المعجمة. الطنبور: نوع من الزنابير ذوات الإبر، وهو يأكل الخشب وقد تقدم لفظ الزنبور في باب الزاي المعجمة، قال شيخ الإسلام النووي، في شرح المهذب: ويستثنى من ذوات الإبر الجراد، فإنه حلال قطعا وكذا القنفذ على الصحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 الطوراني: قال الجاحظ: إنه نوع من أنواع الحمام، وقد تقدم ذكر الحمام في باب الحاء المهملة. الطوبالة: النعجة وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها في باب النون، قاله ابن سيده. الطول: بضم الطاء وتشديد الواو، طائر قاله ابن سيده وغيره. الطوطي: قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في أول الباب الثاني، في حكم الكسب: إنه الببغاء. وقد تقدم لفظ الببغاء في باب الباء الموحدة. الطير: جمع طائر مثل صاحب وصحب وجمع الطير طيور وأطيار مثل فرخ وفرخ وفراخ، وقال قطرب: الطير أيضا قد يقع الى الواحد. فائدة : قال الله تعالى لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ «1» قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أخذ طاوسا ونسرا وغرابا وديكا. وقيل: أخذ حماما وغرابا وديكا وبطة. وقال مجاهد وعطاء وابن جريج: أخذ طاوسا وديكا وحماما وغرابا. وقيل: كانت الطيور بطة خضراء وغرابا أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمر. قيل: وفائدة حصره بأربعة، أن الطبائع أربعة، والغالب على كل واحد من هذه الطيور طبع منها فأمر بقتل الجميع، وخلط لحومها بعضها ببعض، وكذلك خلط دمائها وريشها ثم دعاهن بعد أن فرق أجزاءهن على رؤوس الجبال، وقيل: بل أمسك الرؤوس عنده فاجتمعت الأجزاء وأتين سعيا إلى رؤوسهن وأحياهن الله تعالى كما شاء بقدرته. وفيه إيماء إلى أن إحياء النفس بالحياة الأبدية إنما يتأتى بإماتة الشهوات والزخارف التي هي صفة الطاوس، والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل الموصوف بهما الغراب، والترفع والمسارعة للهوى الموصوف بهما الحمام. وإنما خص الطير لأنه أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواص الحيوان وجمع بين مأكولي اللحم وضدهما وبين ممقوتين وهما الطاوس والغراب، ومحبوبين وهما الديك والحمام، وبين ما يسرع الطيران كالحمام والغراب، وبين ما لا يستطيعه إلا قليلا وهما الديك والطاوس، وبين ما يتميز به الذكر من الأنثى وهم الطاوس والديك، وما لا يتميز إلا للعارف كالحمام وما يعسر تمييزه كالغراب. وما أحسن قول ابن الساعاتي «2» : والطّلّ في سلك الغصون كلؤلؤ ... رطب يصافحه النسيم فيسقط والطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح يكتب والغمام ينقط وهو تقسيم بديع. والطير الذي يأتي في كل سنة إلى جبل بصعيد مصر، يسمى بوقير، وقد تقدم في حرف الباء. فائدتان : الأولى : روى الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي يزيد، عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 سباع بن ثابت عن أم كرز، قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول «1» : «أقروا الطير على مكناتها» وفي رواية في وكناتها. وهذا بعض حديث، رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم وابن حبان، قال: فالتفت سفيان إلى الشافعي وقال: يا أبا عبد الله ما معنى هذا؟ فقال الشافعي: إن علم العرب كان في زجر الطير، فكان الرجل منهم إذا أراد سفرا خرج من بيته، فيمر على الطير في مكانه فيطيره، فإذا أخذ يمينا مر في حاجته، وإن أخذ يسارا رجع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقروا الطير على مكناتها» . قال: فكان ابن عيينة يسأل بعد ذلك عن تفسير هذا الحديث فيفسره على نحو ما فسره الشافعي. قال أحمد بن مهاجر: وسألت الأصمعي عن تفسير هذا الحديث، فقال مثل ما قال الشافعي. قال: وسألت وكيعا فقال: إنما هو عندنا على صيد الليل، فذكرت له قول الشافعي فاستحسنه وقال: ما ظننته إلا على صيد الليل. وروى البيهقي، في سننه، أن إنسانا سأل يونس بن عبد الأعلى عن معنى «أقروا الطير في مكناتها» فقال: إن الله تعالى يحب الحق، إن الشافعي قال في تفسيره كذا، وذكر ما تقدم عنه. قال: وكان الشافعي، رحمه الله نسيج وحده في هذه المعاني. قوله: «نسيج وحده» هو بالإضافة، ووحده مكسور الدال. قال ابن قتيبة: وأصله أن الثوب الرقيق النفيس لا ينسج على منواله غيره، وإن لم يكن نفيسا عمل على منواله عدة أثواب. فاستعير ذلك لكل كريم من الرجال، انتهى. قال الصيدلاني، في شرح المختصر: المكنة بكسر الكاف موضع القرار والتمكن. قال: وفي معنى هذا الحديث أقوال: أحدها النهي عن الصيد ليلا، ثانيهما ما تقدم عن الشافعي، ثالثها قال أبو عبيدة القاسم بن سلام: أقروها على بيضتها التي احتضنتها، وأصل المكن بيض الضب قال الصيدلاني: فعلى هذا يجب أن يكون المفرد المكنة بتسكين الكاف، كتمرة وتمرات انتهى. الفائدة الأخرى : الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء المثناة تحت، التشاؤم بالشيء. قال «2» تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي شؤمهم جاء من قبل الله تعالى، وهو الذي قضى عليهم بذلك وقدره. ويقال تطير طيرة وتخير خيرة، ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما. انتهى. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله بقول: لا طيرة وخيرها الفأل. قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم» «3» وفي رواية قال: «يعجبني الفأل وأحب الفأل الصالح» . وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح، فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في أسفارهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن ذلك. وفي حديث «4» آخر «الطيرة شرك» أي اعتقاد أنها تنفع أو تضر، وإنما اشتقوا الطيرة من الطير لسرعة لحوق البلاء على اعتقادهم كما يسرع الطير في الطيران. وأما الفأل فمهموز، ويجوز ترك همزه، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلمة الصالحة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 والحسنة، والغالب أن يكون فيما يسر، وقد يكون فيما يسوء. وأما الطيرة، فإنها لا تكون إلا فيما يسوء. قال العلماء: إنما أحب الفأل، لأن الإنسان إذا أمل فضل الله تعالى كان على خير، وإذا قطع رجاءه من الله تعالى كان على سوء. والطيرة فيها سوء ظن وتوقع البلاء، وفي الحديث قالوا: يا رسول الله لا يسلم منا أحد من الطيرة والحسد والظن فما نصنع؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تتحقق» . رواه الطبراني وابن أبي الدنيا، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على الطيرة في باب اللام، في اللقحة أيضا. قال في مفتاح دار السعادة: واعلم أن التطير، إنما يضر من أشفق منه وخاف، وأما من لم يبال به ولم يعبأ به، فلا يضره البتة لا سيما إن قال عند رؤية ما يتطير به أو سماعه: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيآت إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك. وأما من كان معتنيا بها فهي أسرع إليه من السيل إلى منحدره، وقد فتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة، ما يفسد عليه دينه وينكد عليه معيشته انتهى. وقال ابن عبد الحكم: لما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة، قال رجل من لخم: نظرت فإذا القمر في الدبران، فكرهت أن أقول له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو في الدبران، فقال: كأنك أردت أن تعلمني بأنه في الدبران، أنا لا نخرج بشمس ولا بقمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار. وقال ابن خلكان: ومن قبيح ما وقع لأبي نواس أن جعفر بن يحيى البرمكي بنى دارا استفرغ فيها جهده، فلما كملت وانتقل إليها صنع فيها أبو نواس قصيدة «1» امتدحه بها أولها: أربع البلى إنّ الخشوع لبادى ... عليك وإني لم أخنك ودادي سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين وغادي فتطير منها بنو برمك، وقالوا: نعيت لنا أنفسنا يا أبو نواس، فما كانت إلا مديدة، حتى أوقع بهم الرشيد وصحّت الطّيرة. وذكر الطبري والخطيب البغدادي وابن خلكان وغيرهم، أن جعفر بن يحيى البرمكي، لما بنى قصره، وتناهى بنيانه، وكمل حسنه، وعزم على الانتقال إليه، جمع المنجمين لاختيار وقت ينتقل فيه إليه، فاختاروا له وقتا في الليل، فخرج في ذلك الوقت والطرق خالية، والناس هادئون فرأى رجلا قائما يقول: تدبر بالنجوم ولست تدري ... وربّ النجم يفعل ما يشاء فتطير ووقف، ودعا بالرجل وقال له: أعد ما قلت فأعاده، فقال: ما أردت بهذا؟ قال: ما أردت به معنى من المعاني، ولكنه شيء عرض لي وجاء على لساني، فأمر له بدينار ومضى لوجهه، وقد تنغص سروره وتكدر عيشه فلم يكن إلا قليل حتى أوقع بهم الرشيد. وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر قتله في باب العين المهملة، في العقاب. وفي التمهيد لابن عبد البر، من حديث المقبري عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 ابن لهيعة عن ابن هبيرة، عن أبي عبد الرحمن الجيلي، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال «1» : «من رجعته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك» . قالوا: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أن يقول أحدكم: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ثم يمضي لحاجته» «2» . تنبيه مهم : جزم الإمام العلامة القاضي أبو بكر بن العربي، في الأحكام، في سورة المائدة، بتحريم أخذ الفأل من المصحف. ونقله القرافي عن الإمام العلامة أبي الوليد الطرطوشي، وأقره وأباحه ابن بطة من الحنابلة. ومقتضى مذهبنا كراهته. وحكى الماوردي، في كتاب أدب الدين والدنيا، أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، تفاءل يوما في المصحف فخرج له قوله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ «3» فمزق المصحف وأنشأ يقول «4» : أتوعد كلّ جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربّك يوم حشر ... فقل يا رب مزّقني الوليد فلم يلبث إلّا أياما يسيرة حتى قتل شر قتلة، وصلب رأسه على قصره، ثم أعلى سور بلده، كما تقدم في باب الهمزة في لفظ الأوز. فائدة أخرى : روى الترمذي وابن ماجه والحاكم، وصححوه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» «5» معناه تذهب أول النهار ضامرة البطون من الجوع وترجع آخر النهار ممتلئة البطون من الشبع. قال الإمام أحمد: ليس في هذا الحديث دلالة على القعود عن الكسب، بل فيه ما يدل على طلب الرزق، وإنما أراد، والله أعلم، لو توكلوا على الله في ذهابهم ومجيئهم وتصرفهم، وعلموا أن الخير بيده ومن عنده، لم ينصرفوا إلا سالمين غانمين، كالطير تغدو خماصا، وتروح بطانا، لكنهم يعتمدون على قوتهم وكسبهم، وهذا خلاف التوكل. وفي الاحياء، في أوائل كتاب أحكام الكسب، قيل لأحمد: ما تقول في الذي يجلس في بيته أو مسجده ويقول: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجل جهل العلم! أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي» «6» . وقوله حيث ذكر الطير: «تغدو خماصا وتروح بطانا» «7» . وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتجرون في البر والبحر، ويعملون في نخيلهم. والقدوة بهم. مسألة: أوصى للمتوكلين، أفتى ابن عباس بأن ذلك يصرف للزراع، فإنهم يحرثون ويضعون البذر في الأرض فهم متوكلون على الله تعالى، ويدل له ما روى البيهقي في الشعب، والعسكري في الأمثال، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، لقى ناسا من أهل اليمن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 فقال: من أنتم؟ قالوا: متوكلون، قال: كذبتم إنما المتوكلون رجل ألقى حبه في التراب، وتوكل على رب الأرباب. وبهذا أفتى بعض فقهاء بيت المقدس قديما. وقال الإمامان الرافعي والنووي، في تفضيل بعض الأكساب على بعض، واحتج من فضل الزراعة، بأنها أقرب إلى التوكل، وفي الشعب أيضا عن عمرو بن أمية الضمري، أنه قال: قلت: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إعقلها وتوكل» «1» وسيأتي إن شاء الله تعالى، هذا في أول باب النون. وقال الحليمي: يستحب لكل من ألقى في الأرض بذرا أن يقرأ بعد الاستعاذة أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ «2» الآية. ثم يقول: بل الله الزارع والمنبت والمبلغ، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، وارزقنا ثمره، وجنبنا ضرره، واجعلنا لأنعمك من الشاكرين. وقال أبو ثور: سمعت الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول: نزه الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ورفع قدره، فقال: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ «3» وذلك أن الناس في التوكل، على أحوال شتى: متوكل على نفسه، أو على ماله، أو على جاهه، أو على سلطانه، أو على صناعته، أو على غلته، أو على الناس. وكل مستند إلى حي يموت، أو إلى ذاهب يوشك أن ينقطع، فنزه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأمره أن يتوكل على الحي الذي لا يموت. وقال الإمام العلامة، شيخ الشريعة والحقيقة، أبو طالب المكي، في كتابه قوت القلوب: اعلم أن العلماء بالله تعالى لم يتوكلوا عليه لأجل أن يحفظ عليهم دنياهم، ولا لأجل تبليغهم رضاهم ومرادهم، ولم يشترطوا عليه حسن القضاء بما يحبون، ولا ليبدل لهم جريان أحكامه عما يكرهون، ولا ليغير لهم سابق مشيئته إلى ما يعقلون، ولا ليحول عنهم سنته التي قد خلت في عباده، من الابتلاء والامتحان والاختبار، بل هو جل وعلا أجل في قلوبهم من ذلك، وهم أعقل عنه وأعرف به من هذا، فلو اعتقد عارف بالله أحد هذه المعاني مع الله في توكله، لكان عليه كبيرة توجب عليه التوبة، وكان توكله معصية، وإنما أخذوا أنفسهم بالصبر على أحكامه كيف جرت وطالبوا قلوبهم بالرضا كيف أجرى. فائدة : عن كعب الأحبار، قال: إن الطير ترتفع اثني عشر ميلا، ولا ترتفع فوق هذا، وفوق الجو السكاك. والجو هو الهواء بين السماء والأرض. التعبير : الطائر في المنام رزق لمن حواه لقول الشاعر: وما الرزق إلا طائر أعجب الورى ... فمدت له من كل فن حبائل وسعادة ورياسة، وقيل: الطيور السود تدل على السيآت، والطيور البيض تدل على الحسنات. ومن رأى طيورا تنزل على مكان وترتفع، فإنها ملائكة ورؤية ما يستأنس بالإنسان من الطيور دليل على لأزواج والأولاد، ورؤية ما لا يأنس بالآدمي من الطير دليل على معاشرة الأضداد والأعجام. ورؤية الكاسر من الطير في المنام شر ونكد ومغارم، ورؤية الجارح المعلم عز وسلطان وفوائد وأرزاق. ورؤية المأكول لحمه فائدة سهلة، ورؤية ذوي الأصوات قوم صالحون، ورؤية المذكر رجال، والمؤنث نساء، ورؤية المجهول من الطير قوم غرباء، ورؤية ما فيه خير وشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 فرج بعد شدة، ويسر بعد عسر، ورؤية ما يظهر بالليل دليل على الجراءة وشدة الطلب والاختفاء، ورؤية ما ليس له قيمة، إذا صار له قيمة في المنام، فإنها تدل على الربا، وأكل المال بالباطل وبالعكس. ورؤية ما يظهر في وقت دون وقت، فإن رآه قد ظهر في غير أوانه، كان ذلك دليلا على وضع الأشياء في غير محلها، أو على الأخبار الغريبة والخوض فيما لا يعني، فهذا قول كلي في أنواع الطير مما تقدم ذكره وسيأتي فافهم ذلك وقس عليه. تتمة : قال المعبرون: كلام الطير كله صالح جيد، فمن رأى الطير يكلمه ارتفع شأنه لقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ «1» وكره المعبرون صوت طير الماء والطاوس والدجاج وقالوا: إنه هم وحزن ونعي، وزمار الظليم، وهو ذكر النعام، قتل من خادم شجاع، فإن كره صوته فإنه غلبة من خادم. وهدير الحمام امرأة قارئة لكتاب الله تعالى، وصوت الخطاف موعظة من رجل واعظ، والله أعلم. خاتمة : قال ابن الجوزي، في كتاب أنس الفريد وبغية المريد: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في القرآن عشرة أطيار، سماها الله تعالى بأسمائها: البعوضة في البقرة، والغراب في المائدة، والجراد في الأعراف، والنحلة في النحل، والسلوى في البقرة وطه، والنمل في النمل، والهدهد فيها أيضا، والذباب في الحج، والفراش في القارعة، والأبابيل في الفيل، فهذه عشر. طير العراقيب: طير الشؤم عند العرب، وكل ما تطيرت به سمته بذلك. ومن الأحكام المتعلقة بالطير، أن من فتح قفصا عن طائر، وهيجه فطار ضمنه. قال الماوردي: بإجماع، لأنه ألجأه إلى ذلك، وإن اقتصر على الفتح، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها يضمنه مطلقا، والثاني لا يضمنه مطلقا، والثالث، وهو الأظهر، إن طار في الحال ضمنه، وإن وقف ثم طار فلا، لأن طيرانه في الحال، دليل على أنه بتنفيره، حصل ذلك. وأما طيرانه بعد الوقوف، فهو أمارة ظاهرة على أنه طار باختياره، لأن للطائر اختيارا فإن كسر الطائر في خروجه قارورة أو أتلف شيئا أو انكسر القفص بخروجه، أو وثبت هرة كانت حاضرة عند الفتح، فدخلت فأكلت الطائر، لزمه الضمان والله أعلم. طير الماء: كنيته أبو سحل، ويقال له ابن الماء وبنات الماء، وسيأتي، إن شاء الله تعالى، ذكره في آخر باب الميم. الحكم : قال الرافعي: إنه حلال بجميع أنواعه إلا اللقلق، فإنه يحرم أكله على الصحيح. وحكى الروياني في طير الماء وجهين عن الصيمري، والأصح ما قاله الرافعي. ويدخل فيه البط والأوز ومالك الحزين قال أبو عاصم العبادي: وهو أكثر من مائة نوع ولا يدرى لأكثرها اسم عند العرب، فإنها لم تكن ببلادهم. وسيأتي، إن شاء الله تعالى الكلام على مالك الحزين في باب الميم. الأمثال : قالوا: «كأن على رؤوسهم الطير» «2» ، بالنصب لأنه اسم كان أي على رأس كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 واحد الطير، يريد صيده فلا يتحرك يضرب للساكن الوادع وهذه كانت صفة مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير يريد أنهم يسكنون فلا يتكلمون، والطير لا تسقط إلا على ساكت. وقال الجوهري: وقولهم: كأنما على رؤوسهم الطير، إذا سكتوا من هيبته. وأصله أن الغراب، إذا وقع على رأس البعير، ليلقط منه الحلمة أو الحمنانة، فلا يحرك البعير رأسه لئلا ينفر عنه الغراب. الطيطوي: قال ارسطاطاليس، في كتاب النعوت: إنه طائر لا يفارق الآجام، وكثرة المياه، لأن هذا الطائر لا يأكل شيئا من النبت، ولا من اللحوم، وإنما قوته مما يتولد في شاطىء الغياض والآجام، من دود النتن. وهذا الطائر تطلبه البزاة عند مرضها، لأن البازي أكثر ما يصيبه من الأمراض بسبب الحرارة في كبده، فإذا عرض له ذلك طلب الطيطوي، وأكل كبده فيبرأ. وقد يطمئن الطيطوي ويصيح، ولا ينفر من موضعه، إلا إذا طلبه البازي هرب وغير موضعه، فإذا كان في الليل، هرب وصاح، وهو في النهار إذا هرب لم يصح، وكمن في الحشيش. وذكر الثعلبي والبغوي وغيرهما في تفسير سورة النمل عند قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ «1» سمى صوت الطير منطقا لحصول الفهم به كما يفهم من كلام الناس. وقالوا: قال كعب الأحبار وفرقد السنجي: مر سليمان عليه السلام على بلبل فوق شجرة يحرك ذنبه ورأسه فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء. ومر بهدهد فأخبر أنه يقول: إذا نزل القضاء عمي البصر. وفي رواية كعب، أنه يقول من لا يرحم لا يرحم، والفاختة تقول: يا ليت هذا الخلق ما خلقوا! وليتهم إذا خلقوا علموا لماذا خلقوا، وليتهم إذا علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا! والصرد يقول: سبحانه ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، والسرطان يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاحت طيطوي عنده فأخبر أنها تقول: كل حي ميت، وكل جديد بال، وقال: إن الخطاف يقول: قدموا خيرا تجدوه عند الله، والورشان يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب، والطاوس يقول: كما تدين تدان والحمامة تقول: سبحان ربي المذكور بكل لسان، والدراج يقول: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «2» وإذا صاحت العقاب تقول: البعد عن الناس راحة، وفي رواية البعد من الناس أنس، وإذا صاح الخطاف قرأ الفاتحة إلى آخرها، ويمد صوته بقوله: وَلَا الضَّالِّينَ «3» ، كما يمده القارىء، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده، والقمري يقول: سبحان ربي الأعلى، وقيل إنه يقول: يا كريم، والغراب يلعن العشار ويدعو عليه، والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء يقول: ويل لمن كانت الدنيا أكبر همه، والزرزور يقول: اللهم إني أسألك رزق يوم بيوم يا رزاق، والقنبرة تقول: اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد، والديك يقول: اذكروا الله يا غافلين، والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وفي رواية أن الفرس تقول: إذا التقى الجمعان سبوح قدوس رب الملائكة والروح. والحمار يلعن المكاس وكسبه، والضفدع تقول: سبحان ربي الأعلى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 التعبير : الطيطوي في المنام امرأة، قاله ابن سيرين. ومن خواصه : أن لحمه يعقل البطن ويزيد في الباه. الطيهوج: بفتح الطاء طائر شبيه بالحجل الصغير، غير أن عنقه أحمر، ومنقاره ورجلاه حمر، مثل الحجل، وما تحت جناحيه أسود وأبيض، وهو خفيف مثل الدراج. وحكمه : الحل. الخواص : لحم الطيهوج كثير الحرارة والرطوبة. قاله يوحنا. وقيل: معتدل، قلت: وهو الصواب، وقيل: إنه في الدرجة الثالثة في الهضم، وأجوده السمين الرطب الخريفي ينفع للزيادة في الباه، ويعقل البطن لكنه يضر بمن يعالج الأثقال، ويدفع ضرره طبخه في الهرائس، وهو يولد دما معتدلا، ويوافق الأمزجة المعتدلة من الصبيان، وأجوده ما أكل في زمن الربيع، لا سيما في البلاد الشرقية، والطيهوج والدراج والحجل متقاربة في ترتيب الأغذية في الاعتدال واللطافة والطيهوج أولا، ثم الدراج ثم الحجل وتقدم في الضاد إنه الدريس والله أعلم. بنت طبق وأم طبق: السلحفات، وقد تقدم ذكرها في باب السين، وقيل: هي حية عظيمة من شأنها أن تنام ستة أيام ثم تستيقظ في اليوم السابع، فلا تنفخ في شيء إلا أهلكته وقد تقدم ذكر النوعين في بابيهما. ومنه قيل للداهية: إحدى بنات طبق، ومنه قولهم: قد طرقت بنكدها أم طبق. الأمثال : قالوا: «جاء فلان بإحدى بنات طبق» «1» يضرب للرجل يأتي بالأمر عظيم. باب الظاء المعجمة الظبي: الغزال والجمع أظب وظباء وظبي، والأنثى ظبية، والجمع ظبيات بالتحريك وظباء، وأرض مظباة أي كثيرة الظباء، وظبية اسم امرأة تخرج قبل الدجال تنذر المسلمين به، قاله ابن سيده. قال الكرخي: الظباء ذكور الغزلان، والأنثى: الغزال، قال الإمام: وهذا وهم فإن الغزال ولد الظبية إلى أن يشتد ويطلع قرناه، قال الإمام النووي: الذي قاله الإمام هو المعتمد. وقول صاحب التنبيه: فإن أتلف ظبيا ماخضا، قال النووي: صوابه ظبية ما خضا، لأن الماخض الحامل، ولا يقال في الأنثى إلا ظبية، والذكر ظبي وجمعت الظبية على ظباء، كركوة وركاء لأن ما كان على فعلة بفتح أوله من المعتل، فجمعه ممدود، ولم يخالف هذا إلا القرية فإنها جمعت على قرى على غير قياس، فجاء مخالفا للباب، فلا يقاس عليه، قاله الجوهري. وتكنى الظبية أم الخشف وأم شادن وأم الطلا. والظباء مختلفة الألوان، وهي ثلاثة أصناف: صنف يقال له الآرام وهي ظباء بيض خالصة البياض، الواحد منها ريم ومساكنها الرمال، ويقال: إنها ضأن الظباء، لأنها أكثر لحوما وشحوما، وصنف يسمى العفر وألوانها حمر، وهي قصار الأعناق، وهي أضعف الظباء عدوا تألف المواضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 المرتفعة من الأرض، والأماكن الصلبة. قال الكميت: وكنا إذا جبار قوم أرادنا ... بكيد حملناه على قرن أعفرا يعني نقتله ونحمل رأسه على السنان، وكانت الأسنة فيما مضى من القرون. وصنف يسمى الأدم، طوال الأعناق والقوائم، بيض البطون. وتوصف الظباء بحدة البصر، وهي أشد الحيوان نفورا ومن كيس الظبي، أنه إذا أراد أن يدخل كناسه يدخل مستديرا ويستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخشفانه، فإن رأى أن أحدا أبصره حين دخوله لا يدخل وإلا دخل. ويستطيب الحنظل ويلتذ بأكله ويرد البحر فيشرب من مائه المر الزعاق. قال ابن قتيبة: ولد الظبية أول سنة طلا بفتح الطاء وخشف بكسر الخاء المعجمة ثم في السنة الثانية جذع ثم في الثالثة ثني ثم لا يزال ثنيا حتى يموت. وذكر ابن خلكان، في ترجمة «1» جعفر الصادق، أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنهما ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي؟ فقال: يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعلم ما فيه. فقال: إن الظبي لا يكون رباعيا وهو ثني أبدا! كذا حكاه كشاجم، في كتاب المصايد والمطارد. وقال الجوهري في مادة س ن ن في قول الشاعر، في وصف الإبل: فجاءت كسنّ الظبي لم أر مثلها ... شفاء عليل أو حلوبة جائع أي هي ثنيات لأن الثني هو الذي يلقي ثنيته، والظبي لا تثبت له ثنية قط، فهو ثني أبدا. وقال ابن شبرمة: دخلت أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد الصادق، فقلت: هذا رجل فقيه من العراق، فقال: لعله الذي يقيس الدين برأيه، أهو النعمان بن ثابت؟ قال: ولم أعلم باسمه إلا ذلك اليوم، فقال له أبو حنيفة: نعم أنا ذلك أصلحك الله، فقال له جعفر: اتق الله ولا تقس الدين برأيك، فإن أول من قاس برأيه إبليس إذ قال: أنا خير منه فأخطأ بقياسه فضل. ثم قال له: أتحسن أن تقيس رأسك من جسدك؟ قال: لا. قال جعفر: فأخبرني لم جعل الله الملوحة في العينين، والمرارة في الأذنين، والماء في المنخرين، والعذوبة في الشفتين، لأي شيء جعل الله ذلك؟ قال: لا أدري. قال جعفر: إن الله تعالى خلق العينين فجعلهما شحمتين، وخلق الملوحة فيهما منا منه على ابن آدم، ولولا ذلك لذابتا فذهبتا. وجعل المرارة في الأذنين منا منه عليه، ولولا ذلك لهجمت الدواب فأكلت دماغه. وجعل الماء في المنخرين ليصعد منه النفس وينزل، ويجد منه الريح الطيبة من الريح الرديئة، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد ابن آدم لذة المطعم والمشرب. ثم قال لأبي حنيفة: أخبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان؟ قال: لا أدري. قال جعفر: هي كلمة لا إله إلا الله. فلو قال: لا إله، ثم سكت كان شركا. ثم قال: ويحك، أيما أعظم عند الله إثما: قتل النفس التي حرم الله بغير حق، أو الزنا؟ قال: بل قتل النفس. قال جعفر: إن الله تعالى قد قبل في قتل النفس شهادة شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة فأنى يقوم لك القياس؟ ثم قال: أيما أعظم عند الله الصوم أو الصلاة؟ قال: الصلاة. قال: فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ اتق الله يا عبد الله، ولا تقس الدين برأيك، فإنا نقف غدا ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 خالفنا بين يدي الله، فنقول: قال الله وقال رسول الله، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا فيفعل الله بنا وبكم ما يشاء. والجواب في أن الزنا لا يقبل فيه إلا أربعة طلبا للستر، وفي أن الحائض لا تقضي الصلاة دفعا للمشقة، لأن الصلاة متكررة في اليوم والليلة خمس مرات، بخلاف الصوم، فإنه في السنة مرة والله أعلم. وجعفر الصادق هو جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وجعفر أحد الأئمة الإثني عشر، على مذهب الإمامية، من سادات أهل البيت. ولقب الصادق لصدقه في مقالته. وله مقال في صنعة الكيمياء والزجر والفأل وتقدم في باب الجيم، في الجفرة. عن ابن قتيبة أنه قال في كتابه أدب الكاتب: إن كتاب الجفر جلد جفرة كتب فيه الإمام جعفر الصادق لأهل البيت كل ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم القيامة. وكذا حكاه ابن خلكان عنه أيضا. وكثير من الناس ينسبون كتاب الجفر إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو وهم، والصواب أن الذي وضعه جعفر الصادق كما تقدم. وأوصى جعفر ابنه موسى الكاظم فقال: يا بني احفظ وصيتي تعش سعيدا، وتمت شهيدا، يا بني إن من قنع بما قسم له استغنى، ومن مد عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيرا، ومن لم يرض بما قسم الله له اتهم الله في قضائه، ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره، ومن استعظم زلة نفسه استصغر زلة غيره. يا بني من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن سل سيف البغي قتل به، ومن احتفر لأخيه بئرا سقط فيها، ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم. يا بني قل الحق لك أو عليك، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال. يا بني إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه. وروي أنه قيل لجعفر الصادق: ما بال الناس في الغلاء يزداد جوعهم، بخلاف العادة في الرخص؟ فقال: لأنهم خلقوا من الأرض وهم بنوها، فإذا أقحطت أقحطوا، وإذا أخصبت أخصبوا. ولد جعفر رحمة الله عليه سنة ثمانين من الهجرة، وقيل سنة ثلاث وثمانين وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر هو وأصحابه وهم محرمون بظبي واقف في ظل شجرة فقال: يا فلان لأحد أصحابه «قف ههنا، حتى يمر الناس لا يريبه أحد بشيء» ، أي لا يتعرض له. وفي المستدرك عن قبيصة بن جابر الأسدي، قال «1» : «كنت محرما، فرأيت ظبيا فرميته فأصبته فمات، فوقع في نفسي من ذلك شيء، فأتيت عمر أسأله، فوجدت إلى جنبه رجلا أبيض رقيق الوجه، وإذا هو عبد الرحمن بن عوف فسألت عمر فالتفت إلى عبد الرحمن، فقال: ترى شاة تكفيه؟ قال: نعم، فأمرني أن أذبح شاة» . فلما قمنا من عنده قال صاحب لي: إن أمير المؤمنين لم يحسن أن يفتيك حتى سأل الرجل! فسمع عمر بعض كلامه، فعلاه بالدرة ضربا، ثم أقبل علي ليضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني لم أقل شيئا إنما هو قاله، فتركني ثم قال: أردت أن تفعل الحرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 ونتعدى في الفتيا ثم قال: إن في الإنسان عشرة أخلاق تسعة حسنة وواحد سيء فيفسدها ذلك السيء. ثم قال: إياك وعثرات اللسان. وحكى المبرد عن الأصمعي أنه قال: حدثت أن رجلا نظر إلى ظبية ترد الماء، فقال له أعرابي: أتحب أن تكون لك؟ قال: نعم، قال: فاعطني أربعة دراهم حتى أردها إليك فأعطاه فخرج يمحص في أثرها فجدت وجد حتى أخذ بقرنيها فأعطاه إياها وهو يقول: وهي على البعد تلوي خدّها ... تزيغ شدّي وأزيغ شدّها كيف ترى عدوى غلام ردها ... وكلما جدت تراني عندها وذكر ابن خلكان، أن كثير عزة «1» ، دخل يوما على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: هل رأيت أحدا أعشق منك؟ قال: نعم، بينا أنا أسير في فلاة، إذا أنا برجل قد نصب حبالة، وهو جالس، فقلت له: ما أجلسك ههنا فقال: أهلكني وقومي الجوع، فنصبت حبالتي هذه لأصيب لهم شيئا ولنفسي، قلت: أرأيت إن أقمت معك؟ أتجعل لي جزأ من صيدك؟ قال: نعم. فبينما نحن كذلك، إذ وقعت ظبية في الحبالة، فبدرني إليها، فحلها وأطلقها، فقلت: ما حملك على ذلك قال: رق قلبي لها لشبهها بليلى وأنشد يقول «2» : أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني ... لك اليوم من وحشية لصديق أقول وقد أطلقتها من وثاقها ... فأنت لليلى ما حييت طليق وفي كتاب ثمار القلوب للثعالبي، في الباب الثالث عشر منه، أن الملك بهرام جور، لم يكن في العجم أرمى منه، ومن غريب ما اتفق له، أنه خرج يوما يتصيد على جمل، وقد أردف جارية يعشقها، فعرضت له ظباء، فقال للجارية: في أي موضع تريدين أن أضع السهم من هذه الظباء؟ فقالت: أريد أن تشبه ذكرانها بإناثها وإناثها بذكرانها! فرمى ظبيا ذكرا بنشابة ذات شعبتين، فاقتلع قرنيه، ورمى ظبية بنشابتين أثبتهما في موضع القرنين. ثم سألته أن يجمع ظلف الظبي وأذنه بنشابة واحدة، فرمى أصل أذن الظبي ببندقة، فلما أهوى بيده إلى أذنه ليحك، رماه بنشابة فوصل أذنه بظلفه، ثم أهوى إلى الجارية مع هواه لها فرمى بها إلى الأرض، وأوطأها الجمل بسبب ما اشتطت عليه، وقال: ما أرادت إلا إظهار عجزي فلم تلبث إلا يسيرا وماتت. فصل : يلتحق بهذا النوع غزال المسك، ولونه أسود ويشبه ما تقدم في القدودقة القوائم وافتراق الأظلاف غير أن لكل منهما نابين أبيضين خفيفين خارجين من فيه في فكه الأسفل، قائمين في وجهه كنابي الخنزير، كل واحد منهما دون الفتر، ويقال إنه يسافر من التبت إلى الهند، فيلقي ذلك المسك هناك فيكون رديئا. وحقيقة ذلك المسك دم يجتمع في سرتها في وقت معلوم من السنة بمنزلة المواد التي تنصب إلى الأعضاء، وهذه السرة جعلها الله تعالى معدنا للمسك، فهي تثمر كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 سنة كالشجرة التي تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها «1» وإذا حصل ذلك الورم مرضت له الظباء، إلى أن يتكامل. ويقال إن أهل التبت يضربون لها أوتادا في البرية، تحتك بها ليسقط عندها. وذكر القزويني في الأشكال، أن دابة المسك تخرج من الماء كالظباء تخرج في وقت معلوم، والناس يصيدون منها شيئا كثيرا فتذبح. فيوجد في سررها دم وهو المسك، ولا يوجد له هناك رائحة حتى يحمل إلى غير ذلك الموضع من البلاد انتهى. وهذا غريب! والمعروف ما تقدم. وفي مشكل الوسيط لابن الصلاح، عن ابن عقيل البغدادي، أن النافجة في جوف الظبية، كالأنفحة في جوف الجدي، وأنه سافر إلى بلاد المشرق، حتى حمل هذه الدابة، إلى بلاد المغرب لخلاف جرى فيها، ونقل في كتاب العطر له عن علي بن مهدي الطبري، أحد أئمة أصحابنا، أنها تلقيها من جوفها كما تلقي الدجاجة البيضة انتهى. قلت: والمشهور أنها ليست مودعة في الظبية بل هي خارجة ملتحمة في سرتها كما تقدم والله أعلم. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «كانت امرأة من بني اسرائيل قصيرة، تمشي مع امرأتين طويلتين، فاتخذت رجلين من خشب، وخاتما من ذهب، وحشته مسكا والمسك أطيب الطيب، فمرت بين المرأتين فلم يعرفوها، فقالت بيدها هكذا ونفض شعبة يده» . قال النووي: دل الحديث على أن المسك أطيب الطيب وأفضله، وأنه طاهر يجوز استعماله في البدن والثوب ويجوز بيعه، وهذا كله مجمع عليه. ونقل أصحابنا عن الشيعة فيه، مذهبا باطلا، وهم محجوجون بإجماع المسلمين وبالأحاديث الصحيحة، في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمال الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال أصحابنا وغيرهم: وهو مستثنى من القاعدة المعروفة أن ما أبين من حي فهو ميتة. قال: وأما اتخاذ المرأة القصيرة رجلين من خشب حتى مشت بين الطويلتين، فلم تعرف فحكمه في شرعنا أنها إن قصدت به مقصودا شرعيا لتستر نفسها لئلا تعرف فتقصد بالأذى ونحو ذلك فلا بأس به. وإن قصدت به التعاظم أو التشبه بالكاملات، وتزويرا على الرجال وغيرهم، فهو حرام. فائدة : روى الدارقطني والطبراني في معجمه الأوسط، عن أنس بن مالك، والبيهقي في شعبه عن أبي سعيد الخدري، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قوم قد صادوا ظبية وشدوها إلى عمود فسطاط فقالت: يا رسول الله إني وضعت ولي خشفان، فاستأذن لي أن أرضعهما ثم أعود إليهم فقال صلى الله عليه وسلم: «خلوا عنها حتى تأتي خشفيها ترضعهما وتأتي إليكم» . قالوا: ومن لنا بذلك يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم: «أنا» فأطلقوها، فذهبت فأرضعتهما ثم عادت إليهم فأوثقوها فقال صلى الله عليه وسلم: «أتبيعونيها» قالوا: هي لك يا رسول الله، فخلوا عنها، فأطلقها. وفي رواية عن زيد بن أرقم، قال: لما أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيتها تسبح في البرية وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وروى الطبراني عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحراء، فإذا مناد ينادي: يا رسول الله، فالتفت فلم ير أحدا، ثم التفت فإذا ظبية موثوقة، فقالت: ادن مني يا رسول الله فدنا منها، فقال: ما حاجتك؟ فقالت: إن لي خشفين في هذا الجبل، فحلني حتى أذهب إليهما فأرضعهما ثم أرجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 إليك! فقال صلى الله عليه وسلم: «وتفعلين» ؟ قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل! فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها ثم رجعت. فأوثقها. وانتبه الأعرابي فقال: ألك حاجة يا رسول الله؟ قال: «نعم تطلق هذه» ، فأطلقها. فخرجت تعدو وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. وفي دلائل النبوة للبيهقي، عن أبي سعيد، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بظبية مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله حلني حتى أذهب فأرضع خشفي، ثم أرجع فتربطني فقال صلى الله عليه وسلم: «صيد قوم وربيطة قوم» ، فأخذ عليها فحلفت له فحلها، فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت وقد نفضت ما في ضرعها، فربطها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى إلى خباء أصحابها فاستوهبها منهم فوهبوها له، فحلها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لو علمت البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا أبدا» وفي ذلك يقول صالح الشافعي من قصيدة له: وجاء امرؤ قد صاد يوما غزالة ... لها ولد خشف تخلّف بالكذا فنادت رسول الله والقوم حضر ... فأطلقها والقوم قد سمعوا النّدا وسيأتي إن شاء الله تعالى، في العشراء بيتان آخران. الحكم : يحل أكلها بجميع أنواعها، ووقع لجماعة من الأصحاب أنهم قالوا: يجب على المحرم في قتل الظبي عنز. كذا قاله الإمام وارتضاه الرافعي وصوبه النووي. وهو وهم، فإن الظبي ذكر والعنز أنثى، فالصواب أن في الظبي ثنيا. وأما المسك فطاهر، وكذا فأرته في الأصح، لكن شرط طهارتها انفصالها حال حياة الظبية. وقيد المحاملي في كتاب اللباب المسك بالظبي، فقال: والمسك من الظبي طاهر، أي المسك المأخوذ من الظبي، احترز بذلك عن المسك التبتي المأخوذ من الفأرة الآتي ذكرها في باب الفاء إن شاء الله تعالى. وهو نجس ويستدل به على منع أكلها إذ لو كانت مأكولة، لالتحق مسكها بمسك الظبية. والطيبيون يسمون المسك التبتي المسك التركي، وهو عندهم أجود المسك، وأغلى ثمنا وينبغي التحرز من استعماله لنجاسته. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الفاء ما قاله الجاحظ في فأرة المسك. ونقل الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، عن القفال الشاشي، أن فأرة المسك، يعني النافجة، تدبغ بما فيها من المسك فتطهر طهارة المدبوغات. وذكر بعض شراح غنية ابن سريج، أن الشعر الذي على فأرة المسك، يعني النافجة نجس بلا خلاف. لأن المسك يدبغ ما لاقاه من الجلد المحاذي له فيطهر، وما لم يلاقه من أطراف النافجة نجس. وهذا الذي قاله ظاهر إلا قوله إن شعرها نجس بلا خلاف، فليس بظاهر، لأن في طهارة الشعر تبعا للجلد المدبوغ خلافا عندنا. وهي رواية الربيع الجيزي، عن الشافعي. واختاره السبكي وغيره، وصححه الأستاذ أبو اسحاق الاسفرايني والروياني وابن أبي عصرون وغيرهم كما تقدم في باب السين المهملة، في الكلام على السنجاب. وذكر الأزرقي، في تعظيم صيد الحرم عن عبد العزيز بن أبي رواد، أن قوما انتهوا إلى ذي طوى ونزلوا بها، فإذا ظبي من ظباء الحرم قد دنا منهم، فأخذ رجل منهم بقائمة من قوائمه، فقال له أصحابه: ويلك أرسله، فجعل يضحك، وأبى أن يرسله فبعر الظبي وبال، ثم أرسله، فناموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 في القائلة، فانتبه بعضهم فإذا هو بحية منطوية على بطن الرجل الذي أخذ الظبي، فقال له أصحابه: ويحك لا تتحرك فلم تنزل الحية عنه حتى كان من الحدث مثل ما كان من الظبي. ثم روى عن مجاهد، قال: دخل مكة قوم تجار من الشأم في الجاهلية، بعد قصي بن كلاب، فنزلوا بوادي طوى، تحت سمرات يستظلون بها، فاختبزوا على ملة لهم، ولم يكن معهم أدم، فقام رجل منهم إلى قوسه، فوضع عليها سهما ثم رمى به ظبية من ظباء الحرم، وهي حولهم ترعى، فقاموا إليها فسلخوها وطبخوها، ليأتدموا بها، فبينما هم كذلك، وقدرهم على النار تغلى بها، وبعضهم يشوي إذ خرجت من تحت القدر، عنق من النار عظيمة، فأحرقت القوم جميعا ولم تحرق ثيابهم ولا أمتعتهم ولا السمرات التي كانوا تحتها. الأمثال : قالوا: «آمن من ظباء الحرم» «1» وقالوا: «ترك الظبي ظله» «2» . وهو كقولهم: اتركه ترك الغزال ظله، يضرب للرجل النفور. وظله كناسه الذي يستظل به من شدة الحر. وهو إذا نفر منه لا يعود إليه أبدا. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في باب الغين أيضا. الخواص : قال ابن وحشية: قرنه ينحت ويبخر به البيت يطرد الهوام. ولسانه يجفف في الظل، ويطعم للمرأة السلطة، تزول سلاطتها. ومرارته تقطر في الأذن الوجعة، يزول وجعها. وبغره وجلده يحرقان ويسحقان، ويجعلان في طعام الصبي، فيأكله فينشأ ذكيا فصيحا حافظا ذلقا. ومسكه يقوي البصر، وينشف الرطوبات، ويقوي القلب والدماغ، ويجلو بياض العين وينفع من الخفقان. وهو ترياق للسموم إلا أنه يورث تصفير الوجه. ومن خواص المسك أن استعماله في الطعام يورث البخر. فصل : المسك حار يابس، وأجوده الصفدي المجلوب من تبت، إلّا أنه يضر بالأدمغة الحارة. ودفع ضرره استعماله بالكافور. وتوافق رائحته الأمزجة الباردة والشيوخ. قال الرازي: لحم الظبي حار يابس، وهو أصلح لحوم الصيد وأجوده الخشف. وهو نافع للقولنج والفالج والأبدان الكثيرة الفضول، لكنه يجفف الأعضاء ويدفع ضرره الأدهان والحوامض، وهو يولد دما حارا وأصلح ما أكل في الشتاء. فائدة : نوافج التبتي نوع رقاق والجرجاري ضده في الرقة والرائحة، والقينوي متوسط بينهما، والصنوبري دون ذلك. ويجلب في قوارير متفرقا في نوافجه، وكلما بعد حيوانه عن البحر كان مسكه ألذ وأذكى. التعبير : الظبي في المنام امرأة حسناء عربية، فمن رأى أن يملك ظبية بصيد، فإنه يملك جارية بمكر وخديعة، أو يتزوج امرأة. ومن رأى أنه ذبح ظبية افتض جارية. ومن رمى ظبية لغير الصيد، فإنه يقذف امرأة. ومن رمى ظبية وكان عزمه الصيد، نال مالا من امرأة. ومن رأى أنه صاد ظبيا أصابته لذاذة في الدنيا، ومن رأى أنه أخذ ظبيا نال ميراثا وخيرا كثيرا. ومن رأى أنه سلخ ظبية فجر بامرأة. ومن رأى ظبيا وثب عليه، فإن امرأته تعصيه في جميع أموره. وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 جاماسب: من رأى أنه يمشي في أثر ظبي، زادت قوته، ومهما ملك الإنسان من قرون الظباء أو شعورها أو جلودها، فهي أموال من قبل النساء. خاتمة : المسك في المنام حبيب أو جارية، ومن حمل المسك من اللصوص، فإنه يمسك لأن الرائحة الذكية تنم على صاحبها وحاملها وتفشي سره، ويدل أيضا على المال، لأنه أكثر ثمنا من الذهب وغيره، ويدل على طيب عيش وخير طيب يرد على من شمه أو ملكه ويدل على براءة المتهمين. وقيل: هو ولد وقيل هو امرأة والله تعالى أعلم. فائدة : رأيت في مختصر الإحياء، للشيخ شرف الدين بن يونس شارح التنبيه، في باب الاخلاص، أن من أخلص لله تعالى في العمل، ولم ينوبه مقابلا، ظهرت آثار بركته عليه، وعلى عقبه إلى يوم القيامة. كما قيل: إنه لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره، فكان يدعو لكل جنس بما يليق به. فجاءته طائفة من الظباء، فدعا لهن ومسح على ظهورهن، فظهر فيهن نوافج المسك، فلما رأى بواقيها ذلك، قلن: من أين هذا لكن؟ فقلن: زرنا صفي الله آدم فدعا لنا ومسح على ظهورنا، فمضى البواقي إليه فدعا لهن، ومسح على ظهورهن، فلم يظهر بهن من ذلك شيء. فقلن: قد فعلنا كما فعلتن فلم نر شيئا مما حصل لكن، فقيل: أنتن كان عملكن لتنلن كما نال إخوانكن. وأولئك كان عملهن لله من غير شيء فظهر ذلك في نسلهن وعقبهن إلى يوم القيامة انتهى. وهذه من زياداته على الإحياء، وقد تكلمنا على الإخلاص والرياء، في كتاب الجوهر الفريد، في الجزء الرابع فلينظر هناك. الظربان: بفتح الظاء المشالة مثل القطران، دويبة فوق جرو الكلب، منتنة الريح كثيرة الفسو، وقد عرف الظربان ذلك من نفسه فجعل ذلك سلاحا له، كما عرفت الحبارى ما في سلحها من السلاح، إذا قرب الصقر منها. كذلك الظربان يقصد جحر الضب، وفيه حسوله وبيضه، فيأتي أضيق موضع فيه فيسده بذنبه ويحول دبره إليه، فلا يفسو ثلاث فسوات حتى يغشى على الضب، فيأكله ثم يقيم في جحره، حتى يأتي على آخر حسوله. وتزعم الأعراب أنها تفسو في ثوب أحدهم، إذا صادها فلا تذهب رائحته حتى يبلى الثوب. فائدة : سأل أبو علي الفارسي «1» الطبيب، أحمد بن الحسين المتنبىء «2» الشاعر، وكان مكثرا من نقل اللغة، هل لنا في الجمع على وزن فعلى؟ فقال في الحال: حجلى وظربى. قال أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال، فلم أجد لهما ثالثا. وقد تقدم هذا في باب الحاء المهملة. والظربان على قدر الهرة والكلب القلطي، وهو منتن الريح ظاهرا أو باطنا، له صماخان بغير أذنين قصير اليدين، وفيهما براثن حداد، طويل الذنب ليس لظهره فقار، ولا فيه مفصل بل عظم واحد من مفصل الرأس إلى مفصل الذنب. وربما ظفر الناس به، فيضربونه بالسيوف، فلا تعمل فيه حتى تصيب طرف أنفه، لأن جلده مثل القد في الصلابة. ومن عادته أنه إذا رأى الثعبان دنا منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ووثب عليه، فإذا أخذه تضاءل في الطول، حتى يبقى شبيها بقطعة حبل، فينطوي الثعبان عليه، فإذا انطوى عليه، نفخ ثم زفر زفرة يتقطع منها الثعبان قطعا قطعا، وله قوة في تسلق الحيطان في طلب الطير. فإذا سقط نفخ بطنه، فلا يضره السقوط، ويتوسط الهجمة من الإبل، فيفسو فيها فتتفرق تلك الإبل، كتفرقها من مبرك فيه قردان، فلا يردها الراعي إلا بجهد. ولهذا سمته العرب مفرق النعم وهو كثير ببلاد العرب والهجمة مائة من الإبل. وحكمه : تحريم الأكل، لاستخباثه ولا يدفع ذلك قول ابن قتيبة: العرب تصيد الظربان فيفسو في أكمامهم لأنهم لا يسمون صيدا إلا المأكول. الأمثال : قالوا: «فسا بينهم الظربان» «1» إذا تقاطع القوم. قال الشاعر: ألا أبلغا قيسا وجندب أنني ... ضربت كثيرا مضرب الظربان الظليم: ذكر النعام، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون وكنيته أبو البيض وأبو ثلاثين وأبو الصحاري وجمعه ظلمان كوليد وولدان قال زهير: من الظلمان جؤجؤه هواء وقال تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ «2» ونظيرهما قضيب وقضبان وعريض وعرضان وفصيل وفصلان. ذكر سيبويه هذه الألفاظ سوى الولدان. وقال: إنه قليل. وحكى غيره القري وهو مجرى الماء والجمع قريان وسرى وسريان وصبي وصبيان وخصي وخصيان. خاتمة : يقال: عار الظليم يعار عرارا، بكسر العين المهملة، وهو صوته قال ابن خلكان، وغيره: ومنه أخذ اسم عرار وهو عرار بن عمرو «3» بن شاس الأسدي الذي قال «4» فيه أبوه: أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم فإن عرارا إن يكن غير واضح ... فإني أحبّ الجون ذا المنكب العمم وكان والده له امرأة من قومه، وابنه عرار هذا كان من أمة، وكان قد وقع بين عرار وبين امرأة أبيه عداوة، فاجتهد أبوه عمرو على أن يصلح بينه وبين امرأته، فلم يمكنه فطلقها، ثم ندم وكان عرار فصيحا عاقلا، توجه عن المهلّب بن أبي صفرة «5» إلى الحجاج بن يوسف الثقفي «6» رسولا في بعض المهمات، فلما مثل بين يديه لم يعرفه وازدراه، فلما استنطقه أبان عن فضل وأعرب إلى أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 بلغ الغاية فأنشد الحجاج متمثلا: أرادت عرارا بالهوان ومن يرد ... عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم فقال عرار: أيدك الله أنا عرار، فأعجب به. وبذلك الاتفاق قلت: وهذه الحكاية نظير ما رواه الدينوري في المجالسة، وقال الحريري في الدرة: إن عبيد بن شرية الجرهمي، عاش ثلاثمائة سنة وأدرك الإسلام فأسلم، ودخل على معاوية بن أبي سفيان بالشأم، وهو خليفة، فقال له: حدثني بأعجب ما رأيت، قال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميتا لهم، فلما انتبهت إليهم، اغرورقت عيناي بالدموع فتمثلت بقول «1» الشاعر: يا قلب إنك من أسماء مغرور ... فاذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير قد بحت بالحب ما تخفيه من أحد ... حتى جرت لك إطلاقا محاضير فلست تدري وما تدري أعاجلها ... أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير فاستقدر الله خيرا وارضين به ... فبينما العسر إذا دارت مياسير وبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذ هو الرمس تعفوه الأعاصير «2» يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور قال: فقال لي رجل: أتعرف من يقول هذه الأبيات؟ قلت: لا والله إلا أني أرويها منذ زمان. فقال: والذي تحلف به، إن قائلها صاحبنا الذي دفناه آنفا الساعة، وأنت الغريب الذي تبكي عليه ولست تعرفه، وهذا الذي خرج من قبره أمس الناس به رحما، وهو أسرهم بموته كما وصف. فعجبت لما ذكره من شعره، والذي صار إليه من قوله، كأنه ينظر من مكانه إلى جنازته. فقلت: «إن البلاء موكل بالمنطق» «3» ، فذهبت مثلا. فقال له معاوية: لقد رأيت عجبا! فمن الميت؟ قال: هو عثير بن لبيد العذري. باب العين المهملة العاتق: قال الجوهري: هو فرخ الطائر فوق الناهض، يقال أخذت فرخ قطاة عاتقا، وذلك إذا طار واستقل. قال أبو عبيدة: نرى أنه من السبق، كأنه يعتق، أي يسبق انتهى. وقال ابن سيده: العاتق الناهض من فرخ القطا، وهو أول ما ينحسر ريشه الأول، وينبت له ريش جديد. وقيل: العاتق من الحمام، ما لم يسن ويستحكم. والجمع عواتق، والفرس العتيق الرائع الكريم. وامرأة عتيقة أي جميلة كريمة. وفي صحيح البخاري، عن ابن مسعود أنه كان يقول في سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء، «أنهن من العتاق الأول، وهو من تلادي» . أراد بالعتاق جمع عتيق. والعرب تسمي كل شيء بلغ الغاية في الجودة عتيقا، يريد تفضيل هذه السور لما تتضمن من ذكر القصص وأخبار الأنبياء، وأخبار الأمم. والتلاد ما كان قديما من المال، يريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 أنها من أوائل السور المنزلة في أول الإسلام، لأنها مكية وأنها من أول ما قرىء وحفظ من القران. العاتك: الفرس والجمع العواتك قال الشاعر: نتبعهم خيلا لنا عواتكا ... في الحرب جردا تركب المهالكا فائدة : روى عبد الباقي بن قانع في معجمه، والحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي من حديث سيانة بن عاصم، وسيانة بسين مهملة ثم ياء مثناة من تحت وبعد الألف نون ثم هاء، له صحبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك من سليم» . العواتك ثلاث نسوة من بني سليم، كن من أمهات النبي صلى الله عليه وسلم إحداهن عاتكة بنت هلال بن فالج بن ذكوان السلمية، وهي أم عبد مناف بن قصي، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال بن الفالج السلمية، وهي أم هاشم بن عبد مناف، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال السلمية، وهي أم وهب أبي آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم. فالأولى من العواتك عمة الثانية والثانية عمة الثالثة. وبنو سليم تفخر بهذه الولادة، ولبني سليم مفاخر أخرى: منها أنها آلفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، أي شهد معه منهم ألف. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم لواءهم يومئذ على الألوية، وكان أحمر. ومنها أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أهل الكوفة والبصرة ومصر والشام، أن ابعثوا إلي من كل بلد أفضله رجلا. فبعث أهل الكوفة عتبة بن فرقد السلمي، وبعث أهل الشام أبا الأعور السلمي، وبعث أهل البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، وبعث أهل مصر معن بن يزيد السلمي. كذا قاله جماعة. والصواب أن بني سليم، كانوا يوم الفتح تسعمائة فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لكم في رجل يعدل مائة فيوفيكم ألفا؟» قالوا: نعم فوفاهم بالضحاك بن سفيان، وكان رئيسهم، وإنما جعله عليهم لأن جميعهم من قيس عيلان. عتاق الطير: هي الجوارح. قاله الجوهري. العتلة: هي الناقة التي لا تلقح، فهي أبدا قوية قاله أبو نصر. وسيأتي إن شاء الله تعالى لفظ الناقة في باب النون. العاضة والعاضهة: حية يموت الذي تلسعه من ساعته، وقد تقدم لفظ الحية في باب الحاء المهملة. العاسل: الذئب، والجمع العسل والعواسل والأنثى عسلى، وقد تقدم لفظ الذئب في باب الذال المعجمة. العاطوس: دابة يتشاءم بها وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها في باب الفاء في الفاعوس. العافية: كل طالب رزق من إنسان أو بهيمة أو طائر، مأخوذ من عفوته إذا أتيته تطلب معروفه. فائدة : في الحديث «1» : «من أحيا أرضا ميتة فهي له، وما أكلت العافية منها فهو له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 صدقة» . وفي رواية العوافي وهي جمع عافية، رواه النسائي والبيهقي وصححه ابن حبان من رواية جابر بن عبد الله، وفي صحيح مسلم من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «تتركون المدينة على خير ما كانت لا يغشاها إلا العوافي» . يريد عوافي السباع والطير. «ثم يخرج راعيان من مزينة يريدان المدينة ينقعان بغنمهما فيجدانها وحشا حتى إذا بلغا ثنية الوداع خرا على وجوههما» . قال الإمام النووي: المختار ان هذا الترك للمدينة، يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة. ويوضحه قصة الراعيين من مزينة فإنهما يخران على وجوههما، حين تدركهما الساعة، وهما آخر من يحشر، كما ثبت في صحيح البخاري انتهى. وقال القاضي عياض: هذا مما جرى في العصر الأول وانقضى، وهو من معجزاته صلى الله عليه وسلم. فقد تركت المدينة على أحسن ما كانت حين انتقلت الخلافة منها إلى الشام والعراق، وذلك الوقت أحسن ما كانت للدين والدنيا، أما الدين فلكثرة العلماء بها، وأما الدنيا فلعمارتها وغرسها واتساع حال أهلها. قال: وذكر الأخباريون، في بعض الفتن التي جرت بالمدينة، وخاف أهلها أنه رحل عنها أكثر الناس، وبقيت ثمارها أو أكثرها للعوافي، وخلت مدة ثم تراجع الناس إليها، قال: وحالها اليوم قريب من هذا وقد خرب أطرافها. العائذ: بالذال المعجمة الناقة التي معها ولدها، وقيل: الناقة إذا وضعت وبعدما تضع أياما حتى يقوى ولدها. وفي الحديث «إن قريشا خرجت لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها العوذ المطافيل «2» . وهي جمع عائذ يريد أنهم خرجوا بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها، ولا يرجعوا حتى يناجزوا محمدا وأصحابه في زعمهم. ووقع في نهاية الغريب أن العوذ المطافيل يريد بها النساء والصبيان، وإنما قيل للناقة عائذ وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها لأنها عاطف عليه كما قالوا تجارة رابحة وإن كان مربوحا فيها، لأنها في معنى نامية وزاكية. وكذلك عيشة راضية لأنها في معنى صالحة. العبقص والعبقوص: دويبة قاله ابن سيده. العبور: الجذعة من الغنم أو أصغر، وعين اللحياني ذلك للصغير، فقال: هي بعد الفطم والجمع عبائر قاله ابن سيده أيضا. العترفان: بضم العين الديك وقد تقدم لفظ الديك في باب الدال المهملة. قال عدي بن زيد «3» : ثلاثة أحوال وشهرا محرما ... أقضى كعين العترفان المحارب العتود: بفتح العين: الصغير من أولاد المعز إذا قوي ورعى وأتى عليه حول، والجمع أعتدة وعدان أصله عتدان، فأدغم. روى مسلم عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم «أعطاه غنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 يقسمها بين أصحابه فبقي عتود، فقال: ضح به أنت» «1» ، قال البيهقي، وسائر أصحابنا: كانت هذه رخصة لعقبة بن عامر خاصة كأبي بردة هانىء بن نيار البلوي. وروى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعقبة بن عامر: «ضح بها أنت ولا رخصة لأحد فيها بعدك» . وفي سنن أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم «رخص في مثل ذلك لزيد بن خالد» «2» ، فالذين خصوا بذلك ثلاثة: أبو بردة وعقبة بن عامر وزيد بن خالد. العثة: ضم العين وتشديد الثاء المثلثة دويبة تلحس الثياب والصوف. والجمع عث وعثث، وأكثر ما تكون في الصوف. وقال في المحكم: هي دويبة تعلق بالإهاب تأكله. هذا قول ابن الأعرابي. وقال ابن دريد: العث بغير هاء دويبة تقع في الصوف، فدل هذا على أن الجمع عث. وقال ابن قتيبة: إنها دويبة تأكل الأديم، وغاير بينها وبين الأرضة، وقال الجوهري: العثة السوسة التي تلحس الصوف. وحكمها : تحريم الأكل. الأمثال : قالوا: «عثيثة تقرم جلدا أملس» «3» يضرب للرجل يجتهد أن يؤثر في الشيء فلا يقدر عليه. قاله الأحنف بن قيس «4» لحارثة بن زيد، لما طلب من علي رضي الله تعالى عنه أن يدخله في الحكومة. وفي الفائق أن الأحنف قاله لرجل هجاه كما قيل: فإن تشتمونا على لومكم ... فقد تقرم العثّ ملس الأدم العثمثمة: الشديدة من النوق والذكر عثمثم والعثمثم الأسد. قاله الجوهري، قال: ويقال ذلك من ثقل وطئه قال الراجز: خبعثن مشيته عثمثم العثمان: بضم العين وإسكان الثاء المثلثة وبالميم والنون بينهما ألف، فرخ الحبارى وفرخ الثعبان والحية أو فرخها. العثوثج: بثاءين مثلثتين مفتوحتين بينهما واو وأوله عين وآخره جيم، البعير الضخم. العجروف: بضم العين، دويبة ذات قوائم طوال، وقيل: هي النملة الطويلة الأرجل. العجل: ولد البقرة، والجمع العجاجيل، والأنثى عجلة وبقرة معجل، أي ذات عجل. فائدة : قيل: سمي عجلا لاستعجال بني إسرائيل عبادته، وكانت مدة عبادتهم له أربعين يوما، فعوقبوا في التيه أربعين سنة، فجعل الله كل سنة في مقابلة يوم. وروى أبو منصور الديلمي، في مسند الفردوس، من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أمة عجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم» . قال حجة الإسلام الغزالي: وكان أصل عجل قوم موسى، من حلية الذهب والفضة. وقال الجوهري: قال بعضهم في قوله تعالى: عِجْلًا جَسَداً* «1» أي من ذهب أحمر انتهى. والسبب في عبادة بني إسرائيل العجل، أن موسى عليه الصلاة والسلام وقت الله تعالى له ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فلما عبر بهم البحر في يوم عاشوراء، بعد مهلك فرعون، وقومه، مروا على قوم لهم أوثان يعبدونها من دون الله تعالى. على تماثيل البقر، قال ابن جريج: وكان ذلك أول شأن العجل، فقال بنو إسرائيل لما رأوا ذلك: يا موسى اجعل لنا إلها أي تمثالا نعبده كما لهم آلهة. ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى. وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب بتعظيمه إلى الله، وظنوا أن ذلك لا يضر الديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم. كما قال تعالى: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ «2» وكان موسى عليه الصلاة والسلام وعد بني إسرائيل، وهم بمصر أن الله إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون. فلما فعل الله ذلك لهم، سأل موسى ربه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوما، فلما تمت الثلاثون أنكر خلوف فمه، فاستاك بعود خروب، وقيل: أكل من لحاء شجرة، فقالت له الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدتها بالسواك، فأتمها بعشر، فلما مضت ثلاثون، كانت فتنتهم في العشر التي زادها. وكان السامري من قوم يعبدون البقر، وكان قد أظهر الإسلام، وفي قلبه من حب عبادة البقر شيء، فابتلى الله به بني إسرائيل، فقال لهم السامري، واسمه موسى بن ظفر: ائتوني بحلي بني إسرائيل، فجمعوا له، فاتخذ لهم منه عجلا جسدا، له خوار، وألقي في فمه قبضة من تراب أثر فرس جبريل، فتحول عجلا جسدا لحما ودما له خوار وهو صوت البقر. كذا قاله ابن عباس والحسن وقتادة، وأكثر أهل التفسير، وهو الأصح كما في البغوي وغيره. وقيل: كان جسدا مجسدا من ذهب لا روح فيه، وكان يسمع منه صوت. وقيل: إنه ما خار إلا مرة واحدة، فعكف عليه القوم للعبادة، من دون الله تعالى، يرقصون حوله ويتواجدون. وقيل إنه كان يخور كثيرا، كلما خار سجدوا له، وإذا سكت رفعوا رؤوسهم، وقال وهب: كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك. وقال السدي: كان يخور ويمشي، والجسد بدن الإنسان، ولا يقال لغيره من الأجسام المغتذية جسد وقد يقال للجن أجساد، فكان عجل بني إسرائيل جسدا يصيح، كما تقدم. ولا يأكل ولا يشرب، قال الله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «3» أي حب العجل. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ «4» قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم عليه السلام البقر. واختار سمينا زيادة في إكرامهم. وقال القرطبي: العجل في بعض اللغات الشاة، ذكره القشيري. وكان عليه الصلاة والسلام مضيافا، وحسبك أنه وقف للضيافة أوقافا تمضيها الأمم على اختلاف أديانها وأجناسها. قال عون بن شداد: مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه، فقام مسرعا حتى لحق بأمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 ومما يحكى من محاسن القاضي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة، ووفاته سنة ثلاثين وثلاثمائة أن العباس بن المعلى الكاتب، كتب إليه: ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنى بنصرانية، فولدت ولدا، جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما فما يرى القاضي فيهما؟ فكتب الجواب بديها: هذا من أعدل الشهود على الملاعين اليهود فإنهم أشربوا حب العجل في صدورهم حتى خرج من أيورهم وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل ويصلب على عنق النصرانية الرأس مع الرجل ويسحبا على الأرض، وينادى عليهما ظلمات بعضها فوق بعض والسلام. فائدة أخرى : نقل القرطبي عن أبي بكر الطرطوشي رحمهما الله تعالى، أنه سئل عن قوم يجتمعون في مكان يقرؤون شيئا من القرآن ثم ينشد لهم منشد شيئا من الشعر، فيرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشبابة هل الحضور معهم حلال أم لا؟ فأجاب مذهب السادة الصوفية أن هذا بطالة وجهالة وضلالة إلى آخر كلامه. قلت: وقد رأيت أنه أجاب بلفظ غير هذا، وهو أنه قال: مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلا جسدا، له خوار قاموا يرقصون حوله ويتواجدون، فهو دين الكفار وعباد العجل. وإنما كان مجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، «كأنما على رؤوسهم الطير» «1» من الوقار، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم، ولا يعينهم على باطلهم، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم من أئمة المسلمين. فائدة أخرى : روي أنه كان في بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له، سواه، فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحوله إلى قرية أخرى، فألقاه بفنائها ثم أصبح يطلب بثأره، وجاء بناس إلى موسى عليه الصلاة والسلام فادعى عليهم القتل، فسألهم موسى فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى، قال الكلبي: وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ذلك، فدعا الله، فأوحى إليه أن يعلمهم أن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة. وروي أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح، وله طفل له عجلة، فأتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر، ومات الرجل. فصارت العجلة في الغيضة عوانا، وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن، وكان بارا بأمه، كان يقسم الليل ثلاثة أثلاث: يصلي ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا، وكان إذا أصبح، انطلق فاحتطب على ظهره، وأتى به السوق فيبيعه بما شاء الله، ثم يتصدق بثلثه ويأكل بثلثه ويعطي أمه ثلثه. فقالت أمه له يوما: إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا وكذا، فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن يردها عليك. وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب أن تأتي، فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه، فقبض على عنقها وأقبل يقودها، فتكلمت العجلة بإذن الله تعالى وقالت: أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك، فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت خذ بعنقها. فقالت: وإله بني إسرائيل لو ركبتني لما قدرت علي أبدا، فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله، وينطلق معك لفعل، لبرك بأمك. فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له: إنك فقير لا مال لك، ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق فبع هذه البقرة، قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة إذا ذاك ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السوق، فبعث الله إليه ملكا ليري خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بوالدته، وكان الله عليما خبيرا، فقال له الملك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضا والدتي، فقال له الملك: فإني أعطيك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك! فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضا والدتي! ثم إن الفتى رجع إلى أمه وأخبرها بالثمن، فقالت له: ارجع وبعها بستة دنانير، على رضا مني، فانطلق بها إلى السوق فأتاه الملك فقال له: استأمرت أمك؟ فقال له الفتى: إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال له الملك: فإني أعطيك اثني عشر دينارا، على أن لا تستأمرها، فأبى الفتى ورجع إلى أمه، فأخبرها بذلك، فقالت له: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجربك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل فقال له الملك: اذهب إلى أمك وقل لها: أمسكي هذه البقرة فإن موسى يشتريها منك لقتيل من بني إسرائيل، فلا تبيعيها إلا بملء مسكها ذهبا، أي جلدها دنانير، فأمسكوها. وقدر الله عز وجل، على بني إسرائيل، ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة له على بره بأمه، فضلا منه ورحمة فما زالوا يستوصفون، حتى وصف لهم تلك البقرة بعينها. واختلف العلماء في لونها فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: شديدة الصفرة، وقال قتادة: لونها صاف، وقال الحسن البصري: الصفراء السوداء. والأول أصح لأنه لا يقال أسود فاقع، وإنما يقال أصفر فاقع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأخضر ناضر، وأبيض يقق، للمبالغة. فلما ذبحوها، أمرهم الله أن يضربوا القتيل ببعضها، واختلف في ذلك البعض فقال ابن عباس وجمهور المفسرين: ضربوه بالعظم الذي يلي الغضروف وهو المقبل. وقال مجاهد وسعيد بن جبير: بعجب الذنب لأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى ويركب عليه الخلق. وقال الضحاك: بلسانها لأنه آلة الكلام، وقال عكرمة والكلبي: بفخذها الأيمن. وقيل: بعضو منها لا بعينه ففعلوا ذلك، فقام القتيل حيا بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دما وقال: قتلني فلان، ثم سقط ومات مكانه، فحرم قاتله الميراث، وفي الخبر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة واسم القتيل عاميل. قاله البغوي وغيره. قال الزمخشري وغيره: روي أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة، فأتى بها الغيضة، وقال: اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر، فكبر الولد وكان بارا بأمه، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا. وكانت البقرة إذ ذاك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 بثلاثة دنانير. وذكر الزمخشري وغيره أن بني إسرائيل، كانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو اعترضوا أي بقرة كانت فذبحوها لكفتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم والاستقصاء شؤم» . وعن بعض الخلفاء، أنه كتب إلى عامله، أن يذهب إلى قوم، فيقطع أشجارهم، ويهدم دورهم، فكتب إليه: بأيهما أبدأ؟ فقال: إن قلت لك بقطع الشجر، سألتني بأي نوع منها أبدأ. وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه كتب إلى عامله قال: إذا أمرتك أن تعطي فلانا شاة، سألتني أضأن أم معز؟ فإن بينت لك، قلت: أذكر أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيء فلا تراجعني فيه. تتمة : فيما يتعلق بهذه الفائدة من الأحكام، إذا وجد قتيل في مكان، ولم يعرف قاتله، فإن كان ثم لوث على إنسان، واللوث ما يغلب على القلب صدق المدعي، بأن اجتمع جماعة في بيت أو صحراء، ثم تفرقوا عن قتيل، يغلب على الظن أن القاتل منهم، أو وجد قتيل في محلة أو قرية كلهم أعداء القتيل، لا يخالطهم غيرهم، فيغلب على القلب أنهم قتلوه وادعى الولي فيحلف المدعي خمسين يمينا، على من يدعي عليه، فإن كان الأولياء جماعة، توزع الأيمان عليهم، ثم بعد الأيمان تؤخذ الدية من عاقلة المدعى عليه، إن ادعى عليه قتل خطأ. وإن ادعى عليه قتل عمد، فمن ماله، ولا قود على قول الأكثرين. وقال عمر بن عبد العزيز: يجب القود، وبه قال مالك وأحمد. وإن لم يكن ثم لوث، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، وهل يحلف يمينا واحدة أم خمسين يمينا؟ قولان أحدهما يمينا واحدة كما في سائر الدعاوى، والثاني خمسين يمينا تغليظا لأمر الدم. وعند أبي حنيفة لا حكم للوث، ولا يبتدأ بيمين المدعي، بل إذا وجد قتيل في محلة أو قرية، يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها ويحلفهم أنهم ما قتلوه ولا يعرفون له قاتلا، ثم يأخذ الدية من سكانها. والدليل على البداءة بيمين المدعي، عند وجود اللوث، ما روى الشافعي عن سهل بن أبي خيثمة، أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود خرجا لخيبر فتفرقا لحاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل، فانطلق محيصة بن مسعود وعبد الرحمن أخو القتيل، وحويصة بن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له قتل عبد الله بن سهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم» «1» فقالوا: يا رسول الله وكيف نقبل أيمان قوم كفار؟ فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم عقله من عنده. قال البغوي، في معالم التنزيل: وجه الدليل من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بأيمان المدعين لقوة جانبهم باللوث، وهو أن عبد الله بن سهل وجد قتيلا في خيبر، وكانت العداوة ظاهرة بين الأنصار وبين أهل خيبر، وكان يغلب على الظن أنهم قتلوه. واليمين أبدا تكون حجة لمن يقوي جانبه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وعند عدم اللوث يقوى جانب المدعى عليه حيث إن الأصل براءة ذمته فكان القول قوله مع يمينه انتهى. الخواص : قال القزويني: خصية العجل تجفف وتشرب بعد حرقها تهيج الباه وتعين على كثرة الجماع حتى يرى عجبا، وقضيب العجل إذا جفف وأجيد سحقه واستف منه إنسان وزن درهم، فإنه يمكن الشيخ العاجز من افتضاض البكر. فإن سحق وألقي على البيض النيمرشت، وتحسى منه فإنه يزيد في الباه زيادة لم ير مثلها. وقال غيره: خصية العجل تجفف وتشرب مسحوقة تهيج الباه وتنعظ وتعين على كثرة الجماع، وقضيبه إذا أحرق وسحق وشرب نفع من وجع الأسنان. وإذا شرب مع السكنجبين منع الطحال. التعبير : العجل في المنام ولد ذكر. وإذا كان مشويا فهو أمن من الخوف، لقصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال تعالى: فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ «1» إلى قوله لا تَخَفْ. خاتمة : بنو عجل قبيلة كبيرة من العرب شهيرة، ينسبون إلى عجل بن لجيم، بضم اللام وفتح الجيم، وكان عجل المذكور يعد من الحمقى من أجل أنه كان له فرس جواد، فقيل له: إن لكل فرس جواد اسما، فما اسم فرسك؟ فقال: لم اسمه بعد، فقيل له: سمه ففقأ إحدى عينيه، ثم قال: سميته الأعور، وفيه قال «2» بعض شعراء العرب: رمتني بنو عجل بداء أبيهم ... وهل أحد في الناس أحمق من عجل أليس أبوهم عار عين جواده ... فسارت به الأمثال في الناس بالجهل يقال عار عينه بالمهملة إذا فقأها. العجمجمة: الشديدة من النوق. قال الجوهري: مثل العثمثمة، وأنشد: بات يباري ورشات كالقطا ... عجمجمات خشفا تحت السّرى أم عجلان: طائر معروف قاله الجوهري. العجوز: الأرنب والأسد والبقر والثور والذئب والذئبة والرخم والرمكة والضبع وعانة الوحش والعقرب والفرس والكلب. عدس: البغل. سموه بزجره قال الشاعر: إذا حملت بزتي على عدس ... على الذي بين الحمار والفرس فما أبالي من عدا ومن جلس وعدس زجر البغل. قال يزيد بن مفرّغ «3» : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 عدس ما لعبّاد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق العذفوط: بالضم دويبة بيضاء ناعمة يشبه بها أصابع الجواري. العربج: كلب الصيد كذا قاله في المداخل. عرار: مثل قطام، اسم بقرة، وفي المثل «باءت عرار بكحل» . وهما بقرتان انتطحتا فماتتا جميعا. العريض: الجدي. كذا قاله في المداخل. وقد تقدم لفظ الجدي في باب الجيم. العسجدية: ركاب الملوك، قال الجوهري: وهي إبل كانت تزين للنعمان. العربد: مثال سلفد، ملحق بجرد حل، حية تنفخ ولا تؤذي. وقد تقدم ذكرها في الحيات، والعربدة سوء الخلق. وقولهم رجل معربد مأخوذ من هذا، قاله ابن قتيبة وغيره. العربض والعرباض: البقر القوي الكلكل قاله ابن سيده. العرس: لبوة الأسد والجمع أعراس، قال مالك بن خويلد الخناعي: ليث هزبر مدل عند خيسته ... بالرقمتين له أجر وأعراس العريقصة: بالصاد المهملة دويبة عريضة كالجعل. العريقطة والعريقطان: بالطاء المهملة دويبة عريضة. العزة: بالفتح بنت الطيبة، وبها سميت المرأة عزة. قاله الجوهري. العسا: بفتح العين المهملة، الأنثى من الجراد، وقد تقدم لفظ الجراد في باب الجيم. العساعس: بفتح العين القنافذ الكبيرة سميت بذلك لكثرة ترددها في الليل. العساس: الذئب وقد تقدم في باب الدال المعجمة. العساهيل: الإبل المهزولة الواحدة عسهول. العسبار: بكسر العين وبالسين الساكنة، والأنثى عسبارة ولد الضبع من الذئب وجمعه عسابر. وحكمه : تحريم الأكل، لأنه متولد بين مأكول وغير مأكول. العسبور: ولد الكلب من الذئبة. والعسبار ولد الذئب، أو ولد الضبع من الذئب كما تقدم. قال الجوهري في ع ول قال الكميت «1» : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 كما خامرت في حضنها أمّ عامر ... لذي الحبل حتى عال أوس عيالها «1» أشار بذلك إلى أن الضبع إذا صيدت، ولها ولد من الذئب لم يزل الذئب يطعم ولدها إلى أن يكبر، وقد تقدم ذلك في لفظ أوس. العسلق: كل سبع جريء، والعسلق الظليم، وقيل الثعلب، حكاه ابن سيده. العسنج: كعملس الظليم أيضا، وقد تقدم لفظ الظليم في باب الظاء المشالة المعجمة. العشراء: الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر، وزال عنها اسم المخاض، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وبعد ما تضع أيضا، يقال: ناقتان عشراوان، ونوق عشار، وليس في الكلام فعلاء يجمع على فعال غير عشراء جمع على عشار، ونفساء جمع على نفاس. فائدة : قال الشيخ أبو عبد الله بن النعمان، في كتاب المستغيثين بخير الأنام: حديث حنين الجذع الذي كان يخطب إليه النبي صلى الله عليه وسلم، حنين العشار. متواتر، رواه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم العدد الكثير، والجم الغفير. منهم جابر بن عبد الله، وابن عمرو من طريقهما أخرجه البخاري، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عباس، وسهل بن سعد الساعدي، وأبو سعيد الخدري، وبريدة، وأم سلمة، والمطلب بن أبي وداعة. قال جابر في حديثه: فصاحت الخشبة صياح الصبي، فضمها إليه. وفي حديثه أيضا: «سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار» «2» . وفي رواية ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، «فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح بيده عليه» «3» . وفي بعض الروايات: «والذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه لم يزل هكذا إلى يوم القيامة» ، تحزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث، بكى وقال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقا إليه لمكانه، وأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. ونظم صالح الشافعي في ذلك فقال: وحنّ إليه الجذع شوقا ورقة ... ورجع صوتا كالعشار مرددا فبادره ضما فقر لوقته ... لكلّ امرىء من دهره ما تعوّدا وحنين الجذع إليه، وتسليم الحجر عليه، لم يثبت لواحد من الأنبياء إلا له صلى الله عليه وسلم. العصاري: بضم العين وفتح الصاد المهملة والراء في آخره بعدها ياء مثناة من تحت نوع من الجراد أسود شبيه بالخنافس. وحكمه : حل الأكل. حكى أبو عاصم العبادي، عن أبي طاهر الزيادي، أنه قال: كنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 نراه حراما ونفتي بتحريمه، حتى ورد علينا الأستاذ أبو الحسن الماسرجسي «1» ، فقال: إنه حلال فبعثنا منه جرابا للبادية، وسألنا عنه العرب؟ فقالوا: هذا هو الجراد المبارك فرجعوا إلى قول العرب فيه. العصفور: بضم العين وحكى ابن رشيق في كتاب الغرائب: والشذوذ عصفور بالفتح، والأنثى عصفورة قال الشاعر: كعصفورة في كفّ طفل يسومها ... حياض الردى والطفل يلهو ويلعب وكنيته أبو الصعو وأبو محرز وأبو مزاحم وأبو يعقوب. قال حمزة: سمي عصفورا لأنه عصى وفر. وهو أنواع: منها ما يطرب بصوته ويعجب بصوته وحسنه وسيأتي إن شاء الله تعالى. والعصفور الصرار، وهو الذي يجيب إذا دعى، من الصيرورة. وعصفور الجنة وهو الخطاف، وقد تقدم ذكرهما في بابيهما. وأما العصفور الدوري البيوتي، فإن في طباعه اختلافا، وذلك أن فيه من طبائع السباع، وهو أكل اللحم، ولا يزق فراخه ومن البهائم أنه ليس بذي مخلب ولا منسر، وإذا سقط على عود قدم أصابعه الثلاث وأخر الدابرة، وسائر أنواع الطير تقدم أصبعين وتؤخر أصبعين، ويأكل الحب والبقول. ويتميز الذكر منها بلحية سوداء كما للرجل والتيس والديك. وليس في الأرض طائر من سبع ولا بهيمة أحنى من العصفور على ولده، ولا أشد له عشقا، وذلك مشاهد عند أخذ فراخها. ووكره في العمران تحت السقوف خوفا من الجوارح، وإذا خلت مدينة من أهلها ذهبت العصافير منها، فإذا عادوا إليها عادت العصافير. والعصفور لا يعرف المشي، إنما يثب وثبا. وهو كثير السفاد، فربما سفد في الساعة الواحدة مائة مرة، ولذلك قصر عمره فإنه لا يعيش في الغالب أكثر من سنة. ولفرخه تدرب على الطيران، حتى إنه يدعى فيجيب. قال الجاحظ: بلغني أنه رجع من فرسخ. ومن أنواعه عصفور الشوك، وأكثر مأواه السياج. وزعم أرسطو أن بينه وبين الحمار عداوة، لأن الحمار إذا كان به دبر، حكه في الشوك الذي يأوي إليه هذا العصفور فيقتله. وربما نهق الحمار، فتسقط فراخه أو بيضه من جوف وكره، فلذلك هذا العصفور، إذا رأى الحمار رفرف فوق رأسه، وعلى عينيه وآذاه بطيرانه وصياحه. ومن أنواعه: القبرة وستأتي إن شاء الله تعالى، في باب القاف. ومن أنواعه حسون، وقد تقدم في باب الحاء، والبلبل والصعو والحمرة والعندليب والمكاكي والصافر والتنوط والوصع والبراقش والقبعة، وكلها في أماكنها مذكورة. وفي الأذكياء لابن الجوزي، أن رجلا رمى عصفورا فأخطأه، فقال له رجل: أحسنت فغضب وقال: أتهزأ بي؟ قال: لا، ولكن أحسنت إلى العصفور إذا لم تصبه. ورأيت في بعض التعاليق، أن المتوكل رمى عصفورا فلم يصبه وطار، فقال له ابن حمدان: أحسنت، فقال له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 المتوكل: كيف أحسنت؟ قال: أحسنت إلى العصفور، ويروى عن الجنيد، أنه قال: أخبرني محمد بن وهب عن بعض أصحابه أنه حج مع أيوب الجمال قال: فلما دخلنا البادية، وسرنا منازل، إذ بعصفور يحوم حولنا، فرفع أيوب رأسه إليه وقال له: قد جئت إلى هنا! فأخذ كسرة خبز ففتها في كفه فانحط العصفور وقعد على كفه، فأكل منها ثم صب له ماء فشربه، ثم قال له: اذهب الآن فطار العصفور، فلما كان من الغد، رجع العصفور، ففعل أيوب مثل فعله في اليوم الأول، فلم يزل كل يوم يفعل به مثل ذلك، إلى آخر السفر. ثم قال أيوب: أتدري ما قصة هذا العصفور؟ قال: لا. قال: إنه كان يجيئني في منزلي كل يوم، فكنت أفعل به في ما رأيت، فلما خرجنا تبعنا يطلب منا ما كنت أفعل به في المنزل. روى البيهقي وابن عساكر، بسندهما إلى أبي مالك، قال: مر سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال: يخطبها لنفسه، ويقول: تزوجيني أسكنك أي قصور دمشق شئت. قال سليمان: وإنه عرف أن قصور دمشق مبنية بالصخر، لا يقدر أن يسكنها، لكن كل خاطب كذاب. وسيأتي إن شاء الله تعالى له نظير، في باب الفاء، في الفاختة، وكان سليمان عليه السلام يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها، ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها كما تقدم في باب الطاء المهملة، في الطيطوي. قال الله تعالى حكاية عنه: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ «1» وكذلك كان يعرف لغات ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات. فائدة : روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت، حين توفي صبي من الأنصار، بين أبوين مسلمين: طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو غير ذلك أن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» «2» ومن الناس من قدح في هذا الحديث بأنه من رواية طلحة بن يحيى وهو متكلم فيه. والصواب صحته وهو في صحيح مسلم ولكنه صلى الله عليه وسلم نهانا عن المسارعة إلى القطع، أو أنه قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة كذا. قال بعضهم: وليس بصحيح لأن سورة الطور مكية ودلت على تبعيتهم، أو أن قطع عائشة بذلك قطع بايمان أبويه، ويحتمل أن يكونا منافقين، فيكون الصبي ابن كافرين. وروى ابن قانع، في ترجمة الشريد بن سويد الثقفي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة، فقال: يا رب عبدك قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة» . وروى في حديث آخر أن رجلا من أهل الصفة استشهد، فقالت له أمه: هنيئا لك عصفور من عصافير الجنة، هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتلت في سبيل الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك لعله كان يتكلم فيما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره» . وروى البيهقي في الشعب، عن مالك بن دينار، قال: مثل قراء هذا الزمان، مثل رجل نصب فخا، فجاء عصفور فوقع في فخه فقال: ما لي أراك مغيبا في التراب؟ قال: للتواضع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 قال: فمم حنيت؟ قال: من طول العبادة. قال: فما هذه الحبة في فيك؟ قال: أعددتها للصائمين. فلما أمسى تناول الحبة فوقع الفخ في عنقه فخنقه. فقال العصفور: إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في العباد اليوم. وفيه أيضا عن الحسن، أن لقمان قال لابنه: يا بني حملت الجندل والحديد، وكل حمل ثقيل فلا أجد شيئا أثقل من الجار السوء، وذقت المرار كله فلم أذق شيئا أمر من الفقر، يا بني لا ترسل رسولا جاهلا فإن لم تجد حكيما، فكن رسول نفسك. يا بني إياك والكذب، فإنه شهي كلحم العصفور، وعما قليل يقلي صاحبه. يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس، فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا. يا بني لا تأكل شبعا على شبع، فإنك إن تلقيه إلى الكلب خير لك من أن تأكله. يا بني لا تكن حلوا فتبلع، ولا مرا فتلفظ. ورأيت في بعض المجاميع عن الحسن، أن لقمان قال لابنه: يا بني اعلم أنه لا يطأ بساطك إلا راغب فيك، أو راهب منك، فأما الراهب منك الخائف فأدن مجلسه وتهلل في وجهه، وإياك والغمز من ورائه، وأما الراغب فيك فاظهر له البشاشة مع صفاء الباطن له، وأبدأه بالنوال قبل السؤال، فإنك إن تلجئه إلى السؤال منك تأخذ من حر وجهه ضعفي ما تعطيه. وأنشدوا على هذا: إذا أعطيتني بسؤال وجهي ... فقد أعطيتني وأخذت مني يا بني ابسط حملك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، وصل أقاربك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك، لم تعبهم ولم يعيبوك اهـ. وقد أذكرني هذا، ما حكاه بعض أشياخي أن الاسكندر وجه رسولا إلى بعض ملوك الشرق فعاد رسوله برسالة، شك الاسكندر في حرف منها، فقال له الاسكندر: ويحك إن الملوك لا يخاف عليها إلا إذا مالت بطانتها، وقد جئتني برسالة صحيحة الألفاظ، بينة العبارة، غير أن فيها حرفا ينقصها، فعلى يقين أنت منه أم شاك فيه؟ فقال الرسول: على يقين. فأمر الاسكندر أن تكتب ألفاظها حرفا حرفا، وتعاد إلى الملك مع رسول آخر، فتقرأ عليه وتترجم له. فلما قرىء الكتاب على الملك، مر بذلك الحرف فأنكره، فقال للمترجم: ضع يدك على هذا الحرف، فوضعها وأمر أن يقطع ذلك الحرف، فقطع من الكتاب، وكتب إلى الاسكندر رأس المملكة صحة فطنة الملك، ورأس الملك صدق لهجة رسوله، إذا كان عن لسانه ينطق، وإلى اذنه يؤدي وقد قطعت ما لم يكن من كلامي، إذ لم أجد إلى قطع لسان رسولك سبيلا. فلما جاء الرسول بهذا إلى الاسكندر، دعا الرسول الأول، وقال له: ما حملك على كلمة أردت بها الفساد بين ملكين؟ فأقر الرسول أن ذلك لتقصير رآه من الموجه إليه، فقال له الاسكندر: ما أراك سعيت إلا لنفسك لا لنا، فلما فاتك ما أملت، جعلت لك ثأرا في الأنفس الخطيرة الرفيعة. ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه. وقال يحيى بن خالد بن برمك: ثلاثة أشياء تدل على عقول الرجال: الهدية والرسول والكتاب. وسمع أبو الأسود الدؤلي رجلا ينشد: إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 فقال: قد أساء قائل هذا أيعلم الغيب إذا لم يوصه كيف يعلم ما في نفسه؟ هلا قال: إذا أرسلت في أمر رسولا ... فأفهمه وأرسله أديبا ولا تترك وصيته بشيء ... وإن هو كان ذا عقل أريبا فإن ضيعت ذاك فلا تلمه ... على أن لم يكن علم الغيوبا وفي تاريخ ابن خلكان وغيره من التواريخ، أن الزمخشري «1» كان مقطوع الرجل، فسئل عن ذلك. فقال: دعاء الوالدة، وذلك أني كنت في صباي أمسكت عصفورا وربطته بخيط في رجله، فأفلت من يدي وأدركته وقد دخل في خرق من الجدار، فجذبته فانقطعت رجله بالخيط، فتألمت والدتي لذلك، وقالت: قطع الله رجل الأبعد كما قطعت رجله! فلما وصلت إلى سن الطلب، رحلت إلى بخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة فانكسرت رجلي، وعملت عملا أوجب قطعها. وفي الحلية للحافظ أبي نعيم، في ترجمة زين العابدين، قال أبو حمزة اليماني: كنت عند علي بن الحسين، فإذا عصافير يطرن حوله ويصرخن، فقال: يا أبا حمزة هل تدري ما تقول هذه العصافير؟ قلت: لا. قال: إنها تقدس ربها جل وعلا، وتسأله قوت يومها. وفي الصحيحين وسنن النسائي وجامع الترمذي، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن أبي بن كعب وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قام موسى خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم فقال: أنا أعلم، فعتب الله تعالى عليه إذا لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إلى موسى، أن عبدا من عبادي، بمجمع البحرين هو أعلم منك» «2» . وفي الرواية الأخرى أنه قيل له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال موسى: لا فأوحى الله تعالى إلى موسى، بل عبدنا خضر. فقال: يا رب وكيف به؟ فقال له: احمل حوتا في مكتلك، فإذا فقدته فهو، ثم انطلق، وانطلق معه فتاه يوشع بن نون، وحملا حوتا في مكتل، حتى إذا كانا عند الصخرة، وضعا رؤوسهما، فناما وانسل الحوت من المكتل، فاتخذ سبيله في البحر سربا، وكان لموسى ولفتاه عجبا، فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما حتى أصبحا، فقال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. ولم يجد موسى شيئا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به. فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت. قال موسى: ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا، فلما انتهيا إلى الصخرة، إذا رجل مسجى بثوب أو قال: تسجى بثوبه فسلم موسى. وفي الرواية الأخرى وكان يتبع أثر الحوت في البحر، فقال الخضر: وأني بأرضك السلام فقال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. ثم قال: هل أتبعك على أن تعلمني مما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 علمت رشدا؟ قال: إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت! وإنك على علم علمكه الله لا أعلمه. قال: ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا. فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فقال: فرأيا سفينة فكلموهما أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله، إلا كنقرة هذا العصفور. وفي الرواية الأخرى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. وعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها! قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: لا تؤاخذني بما نسبت ولا ترهقني من أمري عسرا. فكانت الأولى من موسى نسيانا، فانطلقا فإذا غلام يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده، فقال موسى: أقتلت نفسا زكية بغير حق لقد جئت شيئا نكرا. قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال ابن عيينة: وهذا أوكد. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى: لو شئت لا تخذت عليه أجرا، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. قال «1» النبي صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أخي موسى لوددنا أن لو صبر حتى يقص الله علينا من أنبائهما» وفي الرواية الأخرى «يرحم الله موسى لو كان صبر، لقص علينا من أمرهما» . وعن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: إن نوفا البكالي يزعم أن موسى ليس بموسى بني إسرائيل، إنما هو موسى آخر. قال: كذب عدو الله. حدثني أبي بن كعب، وذكر الحديث، وذكر قصة موسى والخضر بطولها، قال: وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة، ثم نقر في البحر، فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. قال العلماء: لفظ النقص ليس هنا على ظاهره، وإنما معناه إنما علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. قلت: وهذا على التقريب للإفهام، وإلا فنسبة علمهما أقل وأحقر. وحكمه : حل الأكل، قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من إنسان يقتل عصفورة فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها» «2» . قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: «أن يذبحها فيأكلها، وأن لا يقطع رأسها فيرمي به» . رواه النسائي. وروى الحاكم عن خالد بن معدان عن أبي عبيدة بن الجراح، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن قلب ابن آدم مثل العصفور يقلب في اليوم سبع مرات» . ومن أحكام العصافير أنها على اختلاف أنواعها جنس واحد في باب الربا، والبطوط جنس والكركي جنس والحبارى جنس والأوز جنس والدجاج جنس والحمام جنس، وتقدم في بابه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 ومن أحكامها أنه لا يجوز عتقها على الأصح، وقيل: يجوز لما روى الحافظ أبو نعيم عن أبي الدرداء، أنه كان يشتري العصافير من الصبيان، ويرسلها. قال ابن الصلاح: والخلاف فيما يملك بالاصطياد، أما البهائم الأنسية فإن أعناقها من قبيل سوائب الجاهلية وذلك باطل قطعا وقال الشيخ أبو اسحاق الشيرازي، في كتاب عيون المسائل، أن ذرق العصافير غير معفو عنه والمشهور أن فيه الخلاف الذي في بول يؤكل لحمه. الأمثال : قالوا: «أخف حلما من عصفور» «1» . قال «2» حسان رضي الله تعالى عنه: لا بأس بالقوم من طول ومن عظم ... جسم البغال وأحلام العصافير وقال قعنب: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا مثل العصافير أحلاما ومقدرة ... لو يوزنون برقّ الريش ما وزنوا وقالوا: «صاحت عصافير بطنه» إذا جاع. قال الأصمعي: العصافير هنا الأمعاء. قال الجوهري: والمصير المعي وهو فعيل، والجمع المصران، مثل رغيف ورغفان، ثم المصارين جمع الجمع. ونقله في المحكم، عن سيبويه، سميت مصارين لصيرورة الطعام فيها. وقالوا: «أسفد من عصفور» «3» . الخواص : لحم العصافير حار يابس، أصلب من لحم الدجاج، وأجودها الشتوية السمان، وأكلها يزيد في المني والباه، لكنه يضر أصحاب الرطوبات الأصلية، ويدفع ضررها دهن اللوز، وهي تولد خلطا صفراويا، يوافق من الإنسان الشيوخ. ومن الأمزجة الباردة ومن الأزمان الشتاء. قال المختار بن عبدون: يكره أكل لحم العصافير لأن اليسير من عظامها إذا سبق في أكل شيء منها أحدث شحما في المريء والمعي، وإذا اتخذ من فراخها عجة بالبيض والبصل، زادت في الباه وأمراقها تحل الطبع، ولحومها تعقله، ولا سيما إذا كانت مهزولة هزالا فاضحا. وأضر العصافير ما سمن في البيوت وقال غيره: إذا أخذ دماغ العصفور، وأضيف إلى ماء السذاب، وشيء من عسل، وشرب على الريق، فإنه نافع لأوجاع البواسير. وإذا خلط ذرق العصافير بلعاب الإنسان، وطلي به على الثآليل قلعها، مجرب. وإذا أخذ عصفور وذوب دماغه بشيرج، وسقي لمن يحب شرب النبيذ، فإنه يبغضه وهو عجيب مجرب. وإذا أكل عصفور الشوك مشويا ومملوحا فتت الحصى الذي في المثانة والكلى. وقال مهراريش: إذا ذبح العصفور، وقطر دمه على دقيق العدس، وجعل بنادق وجفف، فإنه يهيج الباه وإذا أخذت منه بندقة، وخلطت بزيت وطلي بها الا حليل، ولا يطأ على الأرض فإنه يطأ ما شاء. فائدة : قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أربعة أشياء تزيد في الجماع: أكل العصافير، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وأكل الإطريفل الأكبر، وأكل الفستق، وأكل الجوز. وأربعة أشياء تزيد في العقل: ترك الفضول من الكلام، واستعمال السواك، ومجالسة الصالحين، والعمل بالعلم. وأربعة أشياء تقوي البدن: أكل اللحم، وشم الطيب، وكثرة الغسل من غير جماع، ولبس الكتان. وأربعة أشياء توهن البدن وتسقمه: كثرة الجماع، وكثرة الهم، وكثرة شرب الماء على الريق، وكثرة أكل الحموضة. فائدة أخرى : من أكثر من الجماع وجعله دأبه، أورثه حكة في بدنه، وضعفا في قوته وبصره، وعدم لذة المجامعة، وشاب عاجلا. ومن دافع البول والغائط، ولم يقم إذا دعياه، ضعفت مثانته، وغلظ جلده، وأورثه حرق البول، والرمل والحصا، وضعف البصر. ومن أكثر من حك رجليه بالنخالة والملح، أحد بصره وعوفي من ضعفه. ومن بصق في بوله، وأدمن على ذلك، أمن من وجع الصلب. قاله القزويني نقلا عن أبقراط وغيره، وذكر أنه امتحنه وجربه. التعبير : العصفور في المنام رجل قاص، صاحب لهو وحكايات، يضحك الناس. وقيل: إنه ولد ذكر فمن رأى أنه ذبح عصفورا، وله ولد مريض خشي عليه من الموت. وربما دل على رجل شيخ ضخم، كثير المال يحتال في الأمور، كامل في رياسته مدبر. وربما دل على امرأة حسناء شفيقة، وأصوات العصافير كلام حسن أو دراسة في العلم. والعصافير الكثيرة، أموال لمن حواها في المنام، وتعبر العصافير بالأولاد والصبيان. ومن الرؤيا المعبرة أن رجلا أتى ابن سيرين، فقال له: رأيت كأني آخذ العصافير فأدق أجنحتها وأجعلها في حجري فقال ابن سيرين: أتعلم كتاب الله أنت؟ قال: نعم. فقال: اتق الله في أولاد المسلمين. وأتاه رجل فقال: رأيت كأن في يدي عصفورا وقد هممت بذبحه. فقال: لا يحل لك أن تأكلني! فقال له ابن سيرين: أنت رجل تتناول الصدقة ولست مستحقها، فقال له الرجل: تقول لي ذلك؟ فقال: نعم، ولو شئت قلت لك كم هي درهم. فقال: كم هي؟ فقال ابن سيرين: ستة دراهم. فقال الرجل: ها هي في كفي، وأنا تائب لا أعود إلى تناول الصدقة. فقيل له: من أين أخذت ذلك؟ فقال: العصفور ينطق في الرؤيا بالحق، وهو ستة أعضاء، فبقوله: لا يحل لك أن تأكلني، علمت بذلك أنه يتناول ما لا يستحق. ومن الرؤيا المعبرة أيضا، عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، أنه أتاه رجل، فقال: رأيت كأن في يدي عصفورا، فقال له جعفر: تنال عشرة دنانير، فمر الرجل فوقع في يده تسعة دنانير، فأتى إلى جعفر وأخبره بذلك، فقال: اقصص عليّ الرؤيا ثانيا، فقال: رأيت كأن بيدي عصفورا، وأنا أقلبه فلم أر له ذنبا، فقال له جعفر: لو كان له ذنب، لكانت الدنانير عشرة والله أعلم. العضل: بضم العين وفتح الضاد المعجمة الجرذ والجمع العضلان. وقد تقدم ذكر الجرذ في باب الجيم. العرفوط: بكسر العين دويبة لا خير فيها. تذكر العرب أنها لا تبول إلا شغرت ببولها إلى صوب القبلة، والحيات تأكلها. العريقطة: دويبة عريضة، وهي العريقطان. قاله الجوهري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 العضمجة: الثعلبة وقد تقدم ذكر الثعلب وما فيه في باب الثاء المثلثة في أول الكتاب. العضرفوط: العضاءة الذكر، وتصغيره عضيرف وعضريف. قاله الجوهري. فائدة : قال ابن عطية في تفسير قوله «1» تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ روي أن الغراب كان ينقل الحطب إلى نار ابراهيم، وأن الوزغة كانت تنفخ النار عليه لتضرم. وكذلك البغل. وروي أن الخطاف والضفدع والعضرفوط، كن ينقلن الماء ليطفئن النار فأبقى الله على هذه وقاية وسلط على تلك النوائب والأذى اهـ. وقد أفادني بعض الأشياخ أن يكتب لسائر الحميات: قلنا يا نار كوني بردا وسلاما سلاما سلاما، على ثلاث ورقات، ويشرب المحموم كل يوم ورقة منها على الريق، أو عندما تأخذه الحمى، فإنها تذهب بإذن الله تعالى. وهو عجيب مجرب وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا أن العظاءة هي السحلية وهي مباركة. عطار: قال القزويني في الأشكال: إنه صنف من الدواب الصدفية، يوجد ببلاد الهند في المياه القائمة ويوجد أيضا بأرض بابل، وهو من أعجب الحيوانات، له بيت صدفي يخرج منه وله رأس وأذنان وعينان وفم، فإذا دخل في بيته يحسبه الإنسان صدفة، فإذا خرج منه ينساب في الأرض ويجر بيته معه، فإذا جفت الأرض في الصيف يجتمع ورائحته عطرة. ومن خواصه : أنه إذا بخر به ينفع من الصرع، وإذا أحرق فرماده يجلو الأسنان، وإذا وضع على حرق النار وترك حتى يجف نفعه نفعا بينا. العطاط: بالفتح الأسد، وقال صاحب الكامل في تفسير خطبة الحجاج، لأهل الكوفة: العطاط بضم العين وقيل بفتحها، ضرب من الطير معروف. العطرف: بالكسر الأفعى الكبيرة، وقد تقدم لفظ الأفعى في باب الهمزة. العظاءة: بالظاء المعجمة المفتوحة والمد: دويبة أكبر من الوزغة، ويقال في الواحدة عظاية أيضا والجمع عظاء وعظايا. قال عبد الرحمن بن عوف «2» : كمثل الهر يلتمس العظايا وقال الأزهري: هي دويبة ملساء تعدو وتتردد كثيرا، تشبه سام أبرص إلا أنها أحسن منه، ولا تؤذي وتسمى شحمة الأرض، وشحمة الرمل، وهي أنواع كثيرة، منها الأبيض والأحمر والأصفر والأخضر وكلها منقطة بالسواد، وهذه الألوان بحسب مساكنها فإن منها ما يسكن الرمال ومنها ما يسكن قريبا من الماء والعشب، ومنها ما يألف الناس وتبقى في جحرها أربعة أشهر لا تطعم شيئا، ومن طبعها محبة الشمس لتصلب فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 ومن خرافات العرب قالوا: إن السموم لما فرقت على الحيوانات احتبست العظاءة عند التفرقة حتى نفد السم، وأخذ كل حيوان قسطه منه على قدر السبق إليه، فلم يكن لها فيه نصيب. ومن طبعها أنها تمشي مشيا سريعا ثم تقف، ويقال: إن ذلك لما يعرض لها من التذكر والأسف، على ما فاتها من السم وهذه تسمى بأرض مصر السحلية. وهي محرمة الأكل : وقد تقدم ذكرها في باب السين. الخواص : من علق عليه يدها اليمنى، ورجلها اليسرى في خرقة، جامع ما شاء، وإن علقت في خرقة سوداء على من به حمى الربع المزمنة أبرأته. وقلبها إذا علق على امرأة منعها أن تلد، مادام عليها، وإن طبخت بسمن البقر حتى تتهرى، ومسح بها الملسوع أبرأه وإن جعلت في قارورة وملئت زيتا وجعلت في الشمس حتى تتهرى، كان ذلك الزيت سما قاتلا. وهي في الرؤيا تدل على التلبيس واختلاف الأسرار والله أعلم. العفر: ولد الأروية. وفي المثل : «أوقل من عفر» «1» والعفر بالكسر الخنزير الذكر، والعفر الرجل الخبيث المداهن، والمرأة عفرة. يقال عفرية نفرية، كما يقال عفريت نفريت. العفريت: القوي المارد من الشياطين، والتاء فيه زائدة قال «2» تعالى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قرأ أبو رجاء العطاردي وعيسى الثقفي عفرية ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وقرأت فرقة عفر، وكل ذلك لغات. وقال وهب: اسم هذا العفريت كوذا، وقيل ذكوان، وقال ابن عباس: هو صخر الجني. واختلفوا في غرض سليمان عليه الصلاة والسلام في استدعاء عرش بلقيس، فقال قتادة وغيره: لأنه أعجبه وصفه، لما وصفه الهدهد بالعظم فأراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإسلام. وقال الأكثرون: إن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها، فأراد أن يأخذ عرشها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها. وقال ابن زيد: استدعاه ليريها القدرة، التي هي من عند الله، وعظم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها. وروي أن عرشها كان من فضة وذهب، مرصعا بالياقوت والجوهر، وأنه كان في جوف سبعة أبيات، عليه سبعة أغلاق. وفي الكشف والبيان للثعلبي، أن عرشها كان سريرا ضخما حسنا، وكان مقدمه من ذهب، منضدا بالياقوت الأحمر، والزمرد الأخضر، ومؤخره من فضة مكللا بأنواع الجواهر، وله أربع قوائم: قائمة من ياقوت أحمر، وقائمة من ياقوت أصفر، وقائمة من زبرجد أخضر، وقائمة من در أبيض، وصفائح السرير من ذهب. وكانت قد أمرت به، فجعل في آخر سبعة أبيات، بعضها في بعض في آخر قصر من قصورها، على كل بيت باب مغلق. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وارتفاعه في الهواء ثلاثين ذراعا. وقال مقاتل: كان ثمانين في ثمانين. وقيل: كان طوله ثمانين ذراعا، وعرضه أربعين ذراعا وارتفاعه ثلاثين ذراعا. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان سليمان عليه السلام مهيبا، لا يبدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فرأى ذات يوم وهجا قريبا منه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا عرش بلقيس. فقال: يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين؟ قال عفريت من الجن: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ «1» . وكان سليمان يجلس في مجلس الحكم من الصباح إلى الظهر، وإني عليه أي على الإتيان به لقوي على حمله، أمين لا أختلس منه شيئا. قال الذي عنده علم من الكتاب، قال البغوي وغيره والأكثرون: على أنه آصف بن برخيا، وكان صديقا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ «2» . قال سعيد بن جبير: يعني من قبل أن يرجع إليك أقصى من تراه ومعناه أن يصل إليك من كان منك على مد بصرك. وقال قتادة: قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر. وقال مجاهد: يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئا. وقال وهب: تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى أمثله بين يديك. وقيل: إن الذي عنده علم من الكتاب اسمه اسطوم، وقيل هو جبريل، وقيل هو سليمان نفسه. قال له عالم من بني إسرائيل، قيل اسمه اسطوم، آتاه الله معرفة وفهما: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. قال سليمان: هات. قال: أنت النبي وابن النبي، وليس أحد أوجه عند الله منك. فإن دعوت الله وطلبت منه كان عندك. قال: صدقت. والعلم الذي أوتيه، قيل هو الاسم الأعظم. وفي الكلام حذف تقديره فدعا باسم الله الأعظم، وهو يا حي يا قيوم، يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا، لا إله إلا أنت. وقيل: يا ذا الجلال والإكرام. قيل: شقت الأرض بالعرش فغار في الأرض، حتى نبع بين يدي سليمان. قاله الكلبي. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فبعث الله الملائكة، فحملوا السرير من تحت الأرض، يخدون الأرض خدّا، حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان، وقيل: جيء به في الهواء، وكان بين سليمان والعرش مسيرة شهرين للمجد، فلما رآه مستقرا عنده، جعل يشكر نعمة الله تعالى، بعبارة فيها تعليم للناس، وعرضة للاقتباس، ثم قال: نكروا لها عرشها. أراد بالتنكير تجربة تمييزها ونظرها، وليزيد في الإغراب عليها. وروت فرقة أن الجن، لما أحست من سليمان، أنه ربما يتزوج بلقيس، فتفشي له أخبار الجن، لأن أمها كانت جنية، وأنها ربما تلد ولدا، فينقل الملك إليه، فلا ينفكون من تسخير سليمان وولده من بعده، فأساؤوا الثناء عليها وظلموها عنده، ليزهدوه فيها، فقالوا: إنها غير عاقلة ولا مميزة وإن رجليها كحافر فرس، وقيل: كحافر حمار، وإنها شعراء الساقين. فجرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 عقلها بتنكير العرش، واختبر أمر رجليها بالصرح لتكشف عن ساقيها، وتنكيره بأن يزيد فيه وينقص منه. والقصة في ذلك مشهورة في كتب التفسير، ولما أسلمت وأذعنت وأقرت على نفسها بالظلم، روي أنه تزوجها وردها إلى ملكها باليمن، وكان يأتيها على الريح في كل شهر مرة، فولدت له غلاما فسماه داود ومات في حياته. وقيل: إنه جعل يعني لما زاد في العرش ونقص منه، مكان الجوهر الأخضر أحمر ومكان الأحمر أخضر، فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو. وقيل: عرفته. ولكنها شبهت عليهم، كما شبهوا عليها، قاله مقاتل. وقال عكرمة: كانت بلقيس حكيمة لم تقل نعم خوفا من أن تكذب، ولم تقل لا خوفا من التنكيت عليها، بل قالت: كأنه هو، فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر ولم تنكر. وقيل: إنه اشتبه عليها أمر العرش، لأنها لما أرادت الشخوص إلى سليمان، دعت قومها وقالت لهم: والله ما هذا ملك، وما لنا به من طاقة، ثم أرسلت إلى سليمان: إني قادمة عليك بملوك قومي، حتى أنظر ما أمرك، وما الذي تدعو إليه من دينك. ثم أمرت بعرشها وكان من ذهب وفضة، مرصعا بالياقوت والجوهر، فجعلته في جوف سبعة أبيات، عليه سبعة أغلاق كما تقدم، ووكلت به حراسا يحفظونه، ثم قالت لمن خلفته على سلطانها: احتفظ بما قبلك لا يخلص إليه أحد، ولا ترينه أحدا حتى آتيك. وشخصت إلى سليمان باثني عشر ألف قيل من أقيال اليمن، تحت كل قيل ألوف كثيرة، فلما جاءت، قيل: أهكذا عرشك؟ فاشتبه عليها أمر العرش، فقالت: كأنه هو. ثم قيل لها: ادخلي الصرح. قيل: إنه قصر من زجاج كأنه الماء بياضا، وقيل: الصرح الصحن في الدار، وأجرى تحته الماء، وألقى فيه شيئا كثيرا من دواب البحر، كالسمك والضفادع وغيرها، ثم وضع سرير سليمان في صدره، فكان الصرح إذا رآه أحد حسبه لجة ماء. قيل: إنه إنما بنى الصرح، لأنه أراد أن ينظر إلى قدميها وساقيها، من غير أن يسألها كشفها. وقيل: أراد أن يختبر فهمها كما فعلت هي بالوصفاء والوصائف، وقد تقدم ذكر ذلك في باب الدال المهملة، في الدود. فجلس سليمان عليه السلام على السرير، ودعا بلقيس، فلما جاءت، قيل لها: ادخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة، وهي معظم الماء، وكشفت عن ساقيها لتخوضها إلى سليمان، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما إلا شعر الساقين، فلما رأى سليمان ذلك، صرف بصره عنها وناداها: إنه صرح ممرد من قوارير وليس بماء، ثم دعاها إلى الإسلام. وكانت قد رأت حال العرش والصرح. فأجابت. وقيل: إنها لما بلغت الصرح وحسبته لجة، قالت في نفسها: إن سليمان يريد أن يغرقني، وكان القتل أهون علي من هذا، فقولها ظلمت نفسي يعني بذلك الظن. وقيل: إنه عليه السلام لما أراد أن يتزوجها كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها، فسأل الإنس ما يذهب هذا؟ قالوا: الموسى. قالت: لا تمسني حديدة قط. وكره سليمان الموسى، وقال: إنها تقطع ساقيها، فسأل الجن، فقالوا: لا ندري، فسأل الشياطين، فقالوا: إنا نحتال لك حتى يكونا كالفضة البيضاء، فاتخذوا النورة والحمام ومن يومئذ ظهرت النورة والحمامات، ولم تكن قبل ذلك. فلما تزوجها سليمان أحبها حبا شديدا، وأقرها على ملكها، وأمر الجن فابتنوا لها بأرض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا، وهي سليجين وبينون وغمدان. ثم كان سليمان عليه السلام يزورها في كل شهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام يبتكر من الشأم إلى اليمن، ومن اليمن إلى الشأم على الريح، وولدت له غلاما سماه داود فمات في حياته. وبلقيس هي بنت شراحيل من نسل يعرب بن قحطان، وكان أبوها ملكا عظيم الشأن قد ولده أربعون ملكا هو آخرهم، وكان ملك أرض اليمن كلها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي وأبي أن يتزوج منهم، وأنه تزوج امرأة من الجن اسمها ريحانة بنت السكن، فولدت له بلقيس. ولم يكن له ولد غيرها. وقد جاء في الحديث ما يؤيد هذا، وهو قوله إن أحد أبوي بلقيس كان جنيا، فلما مات أبوها، طمعت في الملك، وطلبت من قومها أن يبايعوها، فأطاعها قوم وعصاها آخرون، وملكوا عليهم رجلا، وافترقوا فرقتين: كل فرقة استولت على طرف من أرض اليمن، ثم إن الرجل الذي ملكوه أساء السيرة في أهل مملكته، حتى كان يمد يده إلى حرم رعيته، ويفجر بهن، فأراد قومه خلعه، فلم يقدروا على ذلك، فلما رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة، فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا اليأس منك، فقال: لا أرغب عنك وأنت كفء كريم، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم، فجمعهم فخطبها إليهم، فذكروا لها ذلك فقالت: أجبت، فزوجوها به، فلما زفت إليه ودخلت عليه، سقته الخمر حتى سكر وغلب على نفسه، ثم حزت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها، وأمرت بنصب رأسه على باب دارها، فلما رأى الناس ذلك علموا أن تلك المناكحة كانت مكرا وخديعة منها، فاجتمعوا إليها وملكوها عليهم. وفي الحديث عن أبي بكرة قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى، قال «1» : «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري. تذنيب: اعلم أن الحكماء قد ذكروا أن للحمام والنورة منافع ومضار، فمن منافعه أنه يوسع المسام، ويستفرغ الفضول، ويحلل الرياح، ويحبس الطبيعة، من هيضة ورطوبة، وينظف البدن من الوسخ والعرق، ويذهب الحكة والجرب والاعياء، ويلين الجسد، ويجيد الهضم، ويعد البدن لاستعداد الغذاء، وينشط الأعضاء المتشنجة، وينضج النزلات والزكام، وينفع من حميات يوم والدق والربع والبلغمية بعد نضجها. قلت: إذا دبر ذلك طبيب حاذق. ومن مضاره تسهيل صب الفضول إلى الأعضاء الضعيفة، ويرخي البدن ويضعف الحرارة الغريزية، والأعضاء العصبية ويضعف الباه، ووقته بعد الرياضة، وقبل الغذاء إلا المتخلخلي الأبدان الكثيري المرار، وإياك أن تدخل الحمام وتخرج منه بحميتك، وإذا أردت الخروج، فاخرج إلى المسلخ متدرجا، وأفرغ عليك ثوبا نظيفا مبخرا، واجتنب النساء يوما وليلة. وتكره المجامعة في الحمام لأنها تورث الاستسقاء وأمراضا رديئة. ويكره للانسان شرب الماء البارد عقب الطعام الحار والحلو والتعب والمجامعة والحمام والأكل، فإن ذلك مضر جدا، وأجود الحمامات القديمة الشاهقة العذبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وأما النورة فهي حارة يابسة، قال الغزالي في الإحياء: إن النورة بعد الحمام أمان من الجذام، وغسل الرجلين بالماء البارد في الصيف، أمان من النقرس، وبولة في الحمام من قيام في الشتاء أنفع من شربة دواء. قال: ويكره إلصاق الظهر إلى حائط الحمام انتهى. ومعناه أن يطلي جسده بالنورة أولا، قبل أن يسكب على جسده الماء، ثم يستحم بعد ذلك. وينبغي أن يستعمل قبل النورة الخطمي ليأمن من حرقها، ثم يغتسل بالماء البارد، وينشف البدن منه. وإن أحب استعمال النورة أولا ليأمن من الجذام، كما قاله الغزالي وغيره فليأخذ على أصبعه شيئا من النورة، ويشمها ويقل صلى الله على سليمان بن داود، ويكتب ذلك على فخذه الأيمن، فإنه يعرق قبل النورة، فيمسح العرق ويطلي، ويكون ذلك في البيت الحار، ليعرق سريعا. ويستعمل بعد هذا العصفر وبزر البطيخ ودقيق الأرز، ويعجن ذلك بماء الآس والتفاح وماء الورد ويسخن في إناء ويطلى به الجسد مع العسل، فإن ذلك ينقي البدن وينفي عنه ثلاثين داء كالجذام والبرص والبهق والبثر والنفاطات ونحوها. قال القزويني: إذا طرح في النورة زرنيخ ورماد الكرم وطلي به الجسد ثم غسل بعدها بدقيق الشعير والباقلاء وبزر البطيخ مرارا، فإن الشعر يضعف حتى لا يكاد أن يعود. وقال الإمام العلامة فخر الدين الرازي رحمة الله تعالى عليه: النورة التي قبل الزرنيخ ربما أحدثت كلفا ويدفع ضررها بالأرز والعصفر طلاء، وأن تعجن للمحرورين بماء الشعير والأرز والبطيخ والبيض وللمبرودين بماء المرزنجوش أو النمام، وينبغي أن يخلط مع النورة الصبر والمر والحنظل من كل واحد درهم ليأمن من الحكة والبثر والله أعلم. خاتمة : روى مالك في الموطأ، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت، ليلة أسري بي، عفريتا من الجن يطلبني بشعلة من نار، كلما التفت رأيته» «1» فقال جبريل: ألا أعلمك كلمات تقولهن فتنطفىء شعلته ويخر لفيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلى» فقال جبريل: قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن فتن الليل والنهار، ومن طوارق الليل والنهار، إلا طارقا يطرق بخير، يا رحمن. وقد تقدم في باب الجيم في الجن حديث العفريت الذي تفلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يقطع عليه صلاته، «فخنقه النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يربطه في سارية من سواري المسجد» «2» . العفر: بالكسر والضم قاله ابن الأثير في النهاية وهو الجحش والأنثى عفرة. العقاب: طائر معروف، والجمع أعقب لأنها مؤنثة. وأفعل بناء يختص به جمع الإناث مثل عناق وأعنق وذراع وأذرع، والكثير عقبان وعقابين جمع الجمع. قال الشاعر: عقابين يوم الجمع تعلو وتسفل وكنيته أبو الأشيم وأبو الحجاج وأبو حسان وأبو الدهر وأبو الهيثم، والأنثى أم الحوار وأم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 الشعو وأم طبلة وأم لوح وأم الهيثم. والعرب تسمى العقاب الكاسر، ويقال لها الخدارية للونها، وهي مؤنثة اللفظ. وقيل: العقاب يقع على الذكر والأنثى. وتمييزه باسم الإشارة. وقال في الكامل: العقاب سيد الطيور والنسر عريفها. والعقاب، قال ابن ظفر: حاد البصر، ولذلك قالت العرب «أبصر من عقاب» «1» . والأنثى منه تسمى لقوة. قال البطليوسي، في الشرح: قال الخليل: اللّقوة واللّقوة بالفتح والكسر العقاب السريعة الطيران انتهى. وتسمى العقاب عنقاء مغرب لأنها تأتي من مكان بعيد، وليس هو العنقاء الآتي ذكرها، وبهذا فسر قول أبي العلاء المعري «2» : أرى العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا «3» وظنّ بسائر الاخوان شرا ... ولا تأمن على سرّ فؤادا فلو خبرتهم الجوزاء خبري ... لما طلعت مخافة أن تصادا وكم عين تؤمل أن تراني ... وتفقد عند رؤيتي السوادا وله من قصيدة قد أبدع فيها «4» : فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا ... فعند التناهي يقصر المتطاول توافي البدور النقص وهي أهلة ... ويدركها النقصان وهي كوامل وفي المعنى لابن العفيف التلمساني «5» : أيسعدني يا طلعة البدر طالع ... ومن شقوتي خط بخديك نازل نعم قد تناهى في الجفاء تطاولا ... وعند التناهي يقصر المتطاول وتقدم أن العقاب، إذا صاحت، تقول: في البعد عن الناس راحة. وهي نوعان عقاب، وزمج فأما العقاب فمنها السود والخوخية والسفع والأبيض والأشقر، ومنها ما يأوي الجبال وما يأوي الصحاري وما يأوي الغياض وما يأوي حول المدن، ويقال: إن ذكورها من طير لطيف الجرم لا يساوي شيئا. وقال ابن خلكان، في آخر ترجمة العماد الكاتب: ويقال إن العقاب جميعه أنثى، وأن الذي يسافده طير آخر من غير جنسه، وقيل: إن الثعلب يسافده. قال: وهذا من العجائب. ولا بن عنين «6» الشاعر في هجو شخص يقال له ابن سيده: ما أنت إلا كالعقاب فأمّه ... معروفة وله أب مجهول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 والعقاب تبيض ثلاث بيضات في الغالب، وتحضنها ثلاثين يوما، وما عداها من الجوارح يبيض بيضتين ويحضن عشرين يوما، فإذا خرجت فراخ العقاب، ألقت واحدا منها لأنه يثقل عليها طعم الثلاث، وذلك لقلة صبرها، والفرخ الذي تلقيه، يعطف عليه طائر آخر، يسمى كاسر العظام، ويسمى المكلفة فيربيه. ومن عادة هذا الطائر أن يزق كل فرخ ضائع. والعقاب، إذا صادت شيئا، لا تحمله على الفور إلى مكانها، بل تنقله من موضع إلى موضع، ولا تقعد إلا على الأماكن المرتفعة، وإذا صادت الأرانب تبدأ بصيد الصغار ثم الكبار. وهي أشد الجوارح حرارة، وأقواها حركة، وأيبسها مزاجا، وهي خفيفة الجناح، سريعة الطيران، تتغدى بالعراق وتتعشى باليمن، وريشها الذي عليها فروتها في الشتاء، وحليتها في الصيف، ومتى ثقلت عن النهوض وعميت، حملتها الفراخ على ظهرها ونقلتها من مكان إلى مكان، فعند ذلك تلتمس لها عينا صافية بأرض الهند، على رأس جبل فتغمسها فيها، ثم تضعها في شعاع الشمس فيسقط ريشها، وينبت لها ريش جديد، وتذهب ظلمة بصرها، ثم تغوص في تلك العين فإذا هي قد عادت شابة، كما كانت. فسبحان القادر على كل شيء، الملهم كل نفس هداها. قال التوحيدي: ومن عجيب ما ألهمته، أنها إذا اشتكت أكبادها، أكلت أكباد الأرانب والثعالب فتبرأ. وهي تأكل الحيات إلا رؤوسها، والطيور إلا قلوبها، ويدل لهذا قول امرىء القيس «1» : كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي «2» ومنه قول طرفة بن العبد «3» : كأنّ قلوب الطير في عشها ... نوى القسب ملقى عند بعض المآدب «4» وقيل لبشار بن برد الأعمى الشاعر: لو خيرك الله أن تكون حيوانا ماذا كنت تختار؟ قال: العقاب لأنها تلبث حيث لا يبلغها سبع ولا ذو أربع، وتحيد عنها سباع الطير ولا تعاني الصيد إلا قليلا، بل تسلب كل ذي صيد صيده. ومن شأنها أن جناحها لا يزال يخفق قال عمرو بن حزام: لقد تركت عفراء قلبي كأنه ... جناح عقاب دائم الخفقان وفي عجائب المخلوقات، في ذكر الأحجار، أن حجر العقاب يشبه نوى التمر هندي إذا حرك يسمع منه صوت، وإذا كسر لا يوجد فيه شيء يوجد في عش العقاب. والعقاب يجلبه من أرض الهند وإذا قصد الإنسان عشه، يرمي إليه بهذا الحجر ليأخذه ويرجع، فكأنه عرف أن قصدهم إياه لخاصيته. فمن خواصه أنه إذا علق على من بها عسر الولادة، تضع سريعا. ومن جعله تحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 لسانه، فإنه يغلب الخصم في المقاولة، ويبقى مقضي الحاجة. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النون نظير هذا، في لفظ النسر. وأول من صاد بها وأدبها أهل المغرب، يحكى أن قيصر ملك الروم أهدى إلى كسرى ملك فارس عقابا، وكتب إليه علمها فإنها تعمل عملا لا يدركه أكثر الصقور، فأمر بها فعلمت وصاد بها فأعجبته ثم جوعها ليصيد بها، فوثبت على صبي من حاشيته فقتلته. فقال كسرى: غزانا قيصر في بلادنا بغير جيش. ثم أهدى كسرى إليه نمرا أو فهدا، وكتب إليه: قد بعثت إليك بما تقتل به الظباء وما قرب منها من الوحش، وكتم عليه ما صنعته العقاب، فأعجب به قيصر، إذ وافقت صفته ما وصف، فغفل عنه يوما، فافترس فتى من بعض فتيانه. فقال: صادنا كسرى فإن كنا قد صدناه فلا بأس، فلما بلغ ذلك كسرى قال: أنا أبو ساسان. وذكر ابن خلكان، في ترجمة «1» جعفر بن يحيى البرمكي وغيره، عن الأصمعي قال: لما قتل الرشيد جعفرا، طلبني ليلا فجئته وأنا خائف، فأومأ إليّ بالجلوس فجلست، فالتفت إليّ وقال: أبيات أحببت أن تسمعها، قلت: إن شاء أمير المؤمنين فأنشدني: لو أن جعفر خاف أسباب الردى ... لنجا به منها طمر ملجم ولكان من حذر المنية حيث لا ... يرجو اللحاق به العقاب القشعم لكنه لما أتاه يومه ... لم يدفع الحدثان عنه منجم فعلمت أنها له فقلت: إنها أحسن أبيات. فقال: الحق الآن بأهلك. ففكرت فلم أعرف لذلك معنى إلا أنه أراد أن يسمعني شعره وأحكيه. وقد حكى أهل التاريخ، في سبب قتل جعفر حكايات مختلفة، منها ما روي عن أبي محمد اليزيدي، أنه قال: من قال إن الرشيد قتل جعفرا بغير سبب يحيى بن عبد الله العلوي فلا تصدقه، وذلك أن الرشيد دفع يحيى إلى جعفر فحبسه، ثم إن جعفر بن حسن، دعا به ليلة من الليالي، وسأله عن أمره فأجابه، ثم إن يحيى قال له: اتق الله فيّ يا جعفر، ولا تتعرض إلى دمي، فيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك يوم القيامة، فو الله ما أحدثت حدثا، ولا آويت محدثا. فرق له جعفر وأطلقه بعد أن استحلفه أن لا يحدث حدثا، وبعث معه من أوصله إلى مأمنه. فنقل ذلك إلى الرشيد، فقال لجعفر: ما فعل بيحيى بن عبد الله؟ قال: على حاله يا أمير المؤمنين في السجن، والأكبال الثقيلة، فقال: بحياتي؟ فأحجم لها جعفر. وكان من أصح الناس فكرا، فهجس في نفسه أنه قد علم شيئا من أمره. فقال: لا وحياتك يا أمير المؤمنين، بل أطلقته، لعلمي أن لا مكروه لديه، فأظهر الرشيد الاستحسان لذلك، وأسرها في نفسه، وقال: نعم ما فعلت، ما عدوت عما كان في خاطري. فلما خرج، أتبعه الرشيد بصره، وقال: قتلني الله بسيوف العدا على الضلالة إن لم أقتلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وفي تاريخ صاحب حماه «1» وغيره، أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر ولا عن أخته عباسة بنت المهدي، فقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها، ولا تمسها فكانا يحضران مجلسه، ثم يقوم الرشيد من المجلس، فيمتلئان من الشراب وهما شابان، فيقوم إليها جعفر فيجامعها فحملت وولدت غلاما، وخافت الرشيد فوجهت المولود مع خواص لها إلى مكة، ولم يزل الأمر مستورا، حتى وقع بين عباسة وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمر الصبي، وأخبرت بمكانه ومن معه من جواريها وما معه من الحلي. فلما حج الرشيد أرسل من أتاه بالصبي وخواصه فوجد الأمر صحيحا فأوقع بالبرامكة. وقيل: إنما قتل الرشيد جعفرا لأنه كان قد حاز ضياع الدنيا لنفسه، وكان الرشيد إذا سافر لا يمر بضيعة ولا بستان إلا قيل: هذا لجعفر، فلم يزل كذلك حتى جنى جعفر على نفسه، بأن وجه فقطع رأس بعض الطالبين من غير أن يكون أمر بقتله، فاستحل الرشيد بذلك دمه. وقيل: كان سبب قتله أنه رفعت إلى الرشيد قصة لم يعرف رافعها وفيها هذه الأبيات «2» : قل لأمين الله في أرضه ... ومن إليه الحلّ والعقد هذا ابن يحيى قد غدا مالكا ... مثلك ما بينكما حد أمرك مردود إلى أمره ... وأمره ليس له رد وقد بنى الدار التي ما بنى ... الفرس لها مثلا ولا الهند والدرّ والياقوت حصباؤها ... وتربها العنبر والنّد «3» ونحن نخشى أنه وارث ... ملكك إن غيبك اللحد ولن يباهي العبد أربابه ... إلا إذا ما بطر العبد فلما وقف الرشيد عليها أضمر له الشر وأوقع به. وقيل: بل أرادت البرامكة إظهار الزندقة وفساد الملك، فأوقع بهم وقتلهم. قلت: وهو قول بعيد لا أعتقد صحته. وقيل: إن مسرورا قال: سمعت الرشيد سنة حج وهي سنة ست وثمانين ومائة، يقول في الطواف: اللهم إنك تعلم أن جعفرا قد وجب عليه القتل، وأنا أستخيرك في قتله فخر لي. وإن الرشيد لما عاد إلى الأنبار، بعث إليه بمسرور وحماد فوافياه، والمغني يغنيه «4» : فلا تبعد فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي فقال مسرور: لذلك جئت، قد والله طرقك الأمر، أجب أمير المؤمنين، فتصدق بأمواله، وأعتق عبيده، وأبرأ الناس من حقوقه. ثم أتى به إلى المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأخبر الرشيد. فقال: ائتني برأسه! فعاوده فيه مرتين، فشتمه وصاح عليه. فدخل عليه واحتز رأسه وجاء به إليه. وذلك في مستهل صفر سنة سبع وثمانين ومائة، وهو ابن سبع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 وثلاثين سنة. ثم صلب رأسه على الجسر وصلب كل قطعة على جسر، فلم يزل كذلك حتى مر عليه الرشيد عند خروجه إلى خراسان، فقال: ينبغي أن يحرق هذا فأحرق. ولما قتله أحاط بجميع البرامكة وأتباعهم، ونودي أن لا أمان لهم إلا لمحمد بن خالد بن برمك وولده وجماعته، لما عرف من براءة محمد بن خالد وولده وجماعته. وقيل: إن علية بنت المهدي قالت للرشيد: لأي شيء قتلت جعفر؟ فقال: لو علمت أن قميصي يعلم سبب قتل جعفر لأحرقته! ولما صلب جعفر وقف عليه يزيد الرقاشي وقال «1» من أبيات: أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى ... حساما فلّه السيف الحسام على اللذات والدنيا جميعا ... لدولة آل برمك السلام فبلغ الرشيد مقالته فأحضره، وقال: ما حملك على ما فعلت وقد بلغك ما توعدنا به كل من يقف عليه أو يرثيه؟ قال: كان يعطيني كل سنة ألف دينار، فأمر له الرشيد بألفي دينار، وقال: هي لك منا مادمنا في قيد الحياة. ويروى أن امرأة وقفت على جعفر ونظرت إلى رأسه معلقا، فقالت: أما والله لئن صرت اليوم آية، لقد كنت في المكارم غاية ثم أنشدت تقول «2» : ولما رأيت السيف خالط جعفرا ... ونادى مناد للخليفة في يحيى بكيت على الدنيا وأيقنت أنما ... قصارى الفتى يوما مفارقة الدنيا وما هي إلا دولة بعد دولة ... تخول ذا نعمى وتعقب ذا بلوى إذا أنزلت هذا منازل رفعة ... من الملك حطّت ذا إلى الغاية السفلى ثم مرت كأنها الريح ولم تقف. ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر، وما نزل بالبرامكة حول وجهه إلى القبلة، وقال: اللهم إن جعفرا كان قد كفاني مؤونة الدنيا فاكفه مؤونة الآخرة. وكان جعفر من الكرم والعطاء على جانب عظيم، وأخباره في ذلك مشهورة، وفي الدفاتر مسطورة، ولم يبلغ أحد من الوزراء منزلة بلغها جعفر من الرشيد، وكان الرشيد يسميه أخا، ويدخله معه في ثوبه، وأن الرشيد، لما قتل جعفرا، خلد أباه يحيى في السجن. وكانت البرامكة في الغاية من الجود والكرم كما هو مشهور عنهم. وكانت مدة وزارتهم للرشيد سبع عشرة سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 وذكر ابن إسحاق قال: قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من شأن الحية، التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لأجلها حتى اختطفها العقاب: عجبت لما تصويت العقاب ... إلى الثعبان وهي لها اضطراب وقد كانت يكون لها كشيش ... وأحيانا يكون لها وثاب «1» إذا قمنا إلى التأسيس شدت ... فهبنا للبناء وقد تهاب فلما أن خشينا الزجر جاءت ... عقاب حلقت ولها انصباب فضمتها إليها ثم خلت ... لنا البنيان ليس له حجاب فقمنا حاشدين إلى بناء ... لنا منه القواعد والتراب غداة نرفع التأسيس منه ... وليس على مساوينا ثياب أعزّ به المليك بني لؤي ... فليس لأصله منه ذهاب وقد حشدت هناك بني عدي ... ومرة قد تعهدها كلاب فبوأنا المليك بذاك عزا ... وعند الله يلتمس الثواب وذكر ابن عبد البر، في التمهيد عن عمرو بن دينار، أنه قال: لما أرادت قريش بناء الكعبة، خرجت منها حية، فحالت بينهم وبينها، فجاء عقاب أبيض فأخذها ورمى بها نحو أجياد. كذا في بعض نسخ التمهيد. وفي بعضها طائر أبيض. فائدة : روى ابن عباس أن سليمان بن داوود عليهما السلام، لما فقد الهدهد، دعا بالعقاب سيد الطير، وأحزمه وأشده بأسا، فقال: عليّ بالهدهد الساعة، فرفع العقاب نفسه نحو السماء، حتى التصق بالهواء، فصار ينظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي الرجل، ثم التفت يمينا وشمالا فرأى الهدهد مقبلا نحو اليمن، فانقض عليه، فقال الهدهد: أسألك بحق الذي أقدرك علي وقواك إلا ما رحمتني. فقال له: الويل لك، إن نبي الله سليمان حلف أن يعذبك أو يذبحك. ثم أتى به فلقيته النسور وعساكر الطيور، فخوفوه وأخبروه بتوعد سليمان، فقال الهدهد: ما قدري وما أنا أو ما أستثنى نبي الله قالوا: بلى. قال: أو ليأتيني بسلطان مبين، قال الهدهد: نجوت إذن. فلما دخل لى سليمان رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه تواضعا لسليمان. فقال له سليمان: أين غبت عن خدمتك ومكانك؟ لأعذبنك عذابا شديدا، أو لأذبحنك. فقال الهدهد: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله بمنزلة وقوفي بين يديك. فاقشعر جلد سليمان وارتعد، وعفا عنه. وسيأتي إن شاء الله تعالى، نظير هذا في باب الهاء في الهدهد. الحكم : يحرم أكل العقاب لأنه ذو مخلب، واختلف في أنه هل يستحب قتله أم لا؟ فجزم الرافعي والنووي في الحج باستحباب قتله، وجزم في شرح المهذب بأنه من القسم الذي لا يستحب قتله ولا يكره وهو الذي فيه نفع ومضرة، قلت: وهذا الذي جزم به القاضي أبو الطيب الطبري «2» وهو المعتمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 الأمثال : قالوا: «أمنع من عقاب الجو» «1» . قاله عمرو بن عدي لقصير بن سعد في قصة الزباء المشهورة. وفي ذلك يقول ابن دريد في مقصورته: واخترم الوضاح من دون التي ... أملها سيف الحمام المنتضى وقد سما عمرو إلى أوتاره ... فاحتطّ منها كلّ عالي المنتهى فاستنزل الزباء قسرا وهي من ... عقاب لوح الجوّ أعلى منتهى جعلها لا متناعها بمنزلة لوح الجو، واللوح الهواء بين السماء والأرض. والجو أيضا ما بينهما. والقصة في ذلك ما ذكره الأخباريون: ابن هشام وابن الجوزي وغيرهم، قالوا وقد دخل كلام بعضهم في بعض: إن جذيمة الأبرش، كان ملكا على الحيرة، وما حولها من السواد، ملك ستين سنة، وكان شديد السلطان قد خافه القريب، وهابه البعيد، وهو أول من أوقدت الشموع بين يديه، وأول من نصب المجانيق في الحرب، وأول من اجتمع له الملك بأرض العراق. فغزا مليح بن البراء، وكان ملكا على الحضر وهو الحاجز بين الروم والفرس وهو الذي ذكره عدي بن زيد بقوله «2» : وأخو الخضر إذ بناه وإذ ... دجلة تجبى إليه والخابور شاده مرمرا وجلّله كلسا ... فللطير في ذراه وكور لم يهبه ريب المنون وباد ... الملك عنه فبابه مهجور فقتله جذيمة وطرد بنته الزباء، فلحقت بالروم. وكانت الزباء عاقلة أديبة عربية اللسان، حسنة البيان شديدة السلطان، كبيرة الهمة. قال ابن الكلبي: ولم يكن في نساء عصرها أجمل منها، وكان اسمها فارعة وكان لها شعر إذا مشت سحبته وراءها، وإذا نشرته جللها فسميت الزباء لذلك. قال: وكان قتل أبيها قبل مبعث عيسى ابن مريم عليهما السلام، فبلغت بها همتها أن جمعت الرجال، وبذلت الأموال، وعادت إلى ديار أبيها ومملكته، فأزالت جذيمة عنها وابتنت على عراقي الفرات مدينتين متقابلتين في شرقي الفرات وغربيه، وجعلت بينهما نفقا تحت الفرات، فكانت إذا رهقتها الأعداء أوت إليه وتحصنت. وكانت قد اعتزلت الرجال فهي عذراء بتول. وكان بينها وبين جذيمة بعد الحرب مهادنة، فحدثته نفسه بخطبتها فجمع خاصته وشاورهم في ذلك، فسكت القوم وتكلم قصير، وكان ابن عمه، وكان عاقلا لبيبا، وكان خازنه، وصاحب أمره، وعميد دولته، فقال: أبيت اللعن أيها الملك إن الزباء امرأة حرمت الرجال فهي عذراء بتول لا ترغب في مال ولا جمال، ولها عندك ثأر، والدم لا ينام وإنما هي تاركتك رهبة وحذرا، والحقد دفين، في سويداء القلب له كمون، ككمون النار في الحجر، إذ قدحته أورى، وإن تركته توارى، وللملك في بنات الملوك الاكفا متسع، ولهن فيه منتفع، ولقد رفع الله قدرك عن الطمع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 فيمن هو دونك، وعظم الرب شأنك، فما أحد فوقك. هكذا حكاه ابن الجوزي وغيره. وذكر ابن هشام، شارح الدريدية وغيره، أن الزباء، هي التي أرسلت إليه تخطبه، وتعرض عليه نفسها، ليتصل ملكه بملكها، فدعته نفسه إلى ذلك، فاستشار وزراءه، فكل واحد منهم رأى ذلك مصلحة، إلا قصيرا فإنه قال: أيها الملك هذه خديعة ومكر، فلم يسمع منه. قال: ولم يكن قصيرا ولكن سمي به اهـ. قال ابن الجوزي: فقال جذيمة: يا قصير، الرأي ما رأيته وقلته، ولكن النفس تواقة، وإلى ما تحب وتهوى مشتاقة، ولكل امرىء قدر لا مفر منه ولا وزر، ثم وجه إليها خاطبا وقال له: اذكر لها ما ترغبها فيه، وتصبو إليه، فجاءها خطيبه فلما سمعت كلامه، وعرفت مراده، قالت: أنعم بك عينا وبما جئت به. وأظهرت له السرور والرغبة فيه، وأكرمت مقدمه، ورفعت موضعه، وقالت: قد كنت أضربت عن هذا، مخافة أن لا أجد كفؤا! ولكن الملك فوق قدري، وأنا دون قدره قد أجبت إلى ما سأل، ورغبت فيما قال، ولولا أن السعي في مثل هذا الأمر بالرجال أمثل، لسرت إليه، ولنزلت عليه. وأهدت له هدية سنية، ساقت إليه فيها العبيد والإماء، والكراع والسلاح، والأموال والإبل والغنم، وغير ذلك من الثياب والأمتعة والجواهر شيئا عظيما. فلما رجع إليه خطيبه، أعجبه ما سمع من الجواب، وأبهجه ما رأى من اللطف، الذي تحير فيه عقول ذوي الألباب، وظن أن ذلك منها لحصول رغبة، فأعجبته نفسه، وسار من فوره فيمن يثق به من خاصته، وأهل مملكته، وفيهم قصير خازنه، وقد استخلف على مملكته عمرو بن عدي اللخمي، وهو أول من ملك الحيرة من لخم، وكانت مدة ملكه مائة وعشرين سنة، وهو الذي اختطفته الجن وهو صبي ثم ردته وقد شب وكبر. فألبسته أمه طوقا من ذهب وأمرته بزيارة خاله جذيمة، فلما رأى جذيمة لحيته والطوق في عنقه قال: «شب عمرو عن الطوق» «1» ، فأرسلها مثلا. وقال ابن هشام: إنه ملك مائة وثماني عشرة سنة. قال ابن الجوزي: فاستخلفه وسار إلى الزباء فوصل إلى قرية على الفرات، يقال لها نيفة فنزل بها، وتصيد وأكل وشرب. واستعاد المشورة والرأي من أصحابه، فسكت القوم وافتتح قصير الكلام فقال: أيها الملك كل عزم لا يؤيد بحزم فإلى أين يكون كونه؟ فلا تثق بزخرف قول لا محصول له، ولا تقذف الرأي بالهوى فيفسد، ولا الحزم بالمنى فيبعد، والرأي عندي للملك أن يعتقب أمره بالتثبت، ويأخذ حذره بالتيقظ، ولولا أن الأمور تجري بالمقدر، لعزمت على الملك عزما بتا أن لا يفعل. فأقبل جذيمة على الجماعة، وقال: ما عندكم أنتم في هذا الأمر؟ فتكلموا بحسب ما عرفوا من رغبته في ذلك، وصوبوا رأيه وقووا عزمه، فقال جذيمة: الرأي مع الجماعة، والصواب ما رأيتم. فقال قصير: «أرى القدر يسابق الحذر، فلا يطاع لقصير أمر» . فأرسلها مثلا، ثم سار جذيمة، فلما قرب من ديار الزباء، أرسل إليها يعلمها بمجيئه، فأظهرت السرور به، والرغبه فيه وأمرت بحمل الميرة إليه، وقالت لجندها، ولخاصة أهل مملكتها، وعامة أهل دولتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 ورعيتها: تلقوا سيدكم وملك دولتكم فعاد الرسول إليه بالجواب، وأخبره بما رأى وسمع. فلما أراد جذيمة أن يسير، دعا قصيرا وقال: أنت على رأيك؟ قال: نعم، وقد زادت بصيرتي فيه، أفأنت على عزمك؟ قال: نعم، وقد زادت رغبتي فيه. فقال قصير: «ليس الدهر بصاحب لمن لم ينظر في العواقب» «1» فأرسلها مثلا. ثم قال: «وقد يستدرك الأمر قبل فوته، وفي يد الملك بقية، هو بها مسلط على استدراك الصواب، فإنك إن وثقت بأنك ذو ملك وسلطان وعشيرة وأعوان، فإنك قد نزعت يدك من سلطانك، وفارقت عشيرتك وأعوانك، وألقيتها في يد من لست آمن عليك مكره وغدره، فإن كنت ولا بد فاعلا، ولهواك تابعا، فإن القوم أن يلقوك غدا رزدقا واحدا، وقاموا لك صفين، حتى إذا توسطتهم أطبقوا عليك من كل جانب، وأحدقوا بك فقد ملكوك، وصرت في قبضتهم. وهذه العصا لا يسبق غبارها. (وكان لجذيمة فرس تسبق الطير وتجاري الرياح، يقال لها العصا) ، فإذا رأيت الأمر كذلك فتجلل ظهرها، فهي ناجية بك إن ملكت ناصيتها» ، فسمع جذيمة كلامه ولم يرد جوابه. وسار وكانت الزباء، لما رجع رسول جذيمة من عندها، قالت لجندها: «إذا أقبل جذيمة غدا فتلقوه بأجمعكم، وقوموا له صفين، عن يمينه وعن شماله، فإذا توسط جمعكم، فانقضوا عليه من كل جانب حتى تحدقوا به، وإياكم أن يفوتكم» . وسار جذيمة وقصير عن يمينه، فلما لقيه القوم رزدقا واحدا، قاموا له صفين، فلما توسطهم انقضوا عليه من كل جانب فعلم أنهم قد ملكوه، وكان قصير يسايره، فأقبل جذيمة عليه وقال: صدقت يا قصير، فقال: هذه العصا فدونكها لعلك تنجو بها، فأنف جذيمة من ذلك، وسارت به الجيوش، فلما رأى قصير أن جذيمة قد استسلم للأمر، وأيقن بالقتل، جمع نفسه ووثب على ظهر العصا، وقال ابن هشام: إن قصيرا قدم العصا إلى جذيمة، فشغل عنها جذيمة بنفسه، فركبها قصير وأعطاها عنانها، وزجرها فذهبت تهوي في هوي الريح، فنظر إليه جذيمة وهي تطاول به، وأشرفت عليه الزباء من قصرها، فقالت له: ما أحسنك من عروس تجلى علي وتزف إلي حتى دخلوا به على الزباء، ولم يكن معها في قصرها إلا جوار أبكار، وهي جالسة على سريرها وحولها ألف وصيفة، كل واحدة لا تشبه صاحبتها في خلق ولا زي، وهي بينهن كأنها قمر قد حفت به النجوم. وقال ابن هشام: وكانت الزباء قد ربت شعر عانتها حولا، فلما دخل عليها جذيمة، تكشفت له وقالت: أمتاع عروس ترى؟ فقال: بل متاع أمة بظراء! فأمرت به فأجلس على نطع، وقيل: إنه لما أدخل عليها أمرت بالانطاع فبسطت وقالت لوصائفها: خذن بيد سيدكن، وبعل مولاتكن، فأخذن بيده وأجلسنه على الانطاع، بحيث تراه ويراها، وتسمع كلامه ويسمع كلامها، ثم أمرت الجواري فقطعن رواهشه «2» ، ووضعن الطست بين يديه، فجعلت دماؤه تشخب في الطست فقطرت قطرة على النطع، فقالت لجواريها: لا تضيعوا دم الملك، فقال جذيمة: لا يحزنك دم أراقه أهله. فقالت: والله ما وفى دمك، ولا شفى قتلك، ولكنه «غيض من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 فيض» «1» ، فأرسلتها مثلا فلما قضى أمرت به فدفن. وأما عمرو فكان يخرج كل يوم إلى ظهر الحيرة يطلب الخبر، ويقتفي من خاله الأثر، فخرج ذات يوم، فإذا فارس قد أقبل، تهوي به الفرس هوي الريح، فقال عمرو بن عدي: أما الفرس ففرس جذيمة وأما الراكب فكالبهيمة «لأمر ما جاءت العصا» ، فأرسلها مثلا، فأشرف قصير فقال: ما وراءك؟ قال: سعى القدر بالملك إلى حتفه، على الرغم من أنفي وأنفه. ثم قال لعمرو بن عدي: أطلب بثأرك من الزباء، فقال عمرو: وأنى يطلب من الزباء وهي «أمنع من عقاب الجو» «2» فأرسلها مثلا. فقال له قصير: قد علمت نصحي لخالك، وكأن الأجل طالبه، وأنا والله لا أنام عن الطلب بدمه، ما لاح نجم أو طلعت شمس، أو أدرك به ثأرا، أو تخترم نفسي فأعذر. ثم إنه عمد إلى أنفه فجدعه. وقال ابن هشام: إن قصيرا قال لعمرو: اجدع أنفي واقطع آذاني، واضرب ظهري حتى يؤثر فيه، ودعني وإياها، ففعل به عمرو ذلك. وذكر الاخباريون أن عمرا أبى عليه ففعل هو بنفسه ذلك، فقيل: «لأمر ما جدع قصير أنفه» «3» . قال ابن الجوزي: ثم إن قصيرا لحق بالزباء هاربا من عمرو بن عدي، فقيل لها: هذا قصير ابن عم جذيمة، وخازنه وصاحب أمره، قد أتاك هاربا، فأذنت له وقالت: ما الذي جاء بك إلينا يا قصير، وبيننا وبينك دم عظيم الخطر؟ فقال: يا ابنة الملوك العظام، لقد أتيت فيما يأتي فيه مثلي إلى مثلك، ولقد كان دم الملك، يعني أباها، يطلب جذيمة حتى أدركه، وقد جئتك مستجيرا من عمرو بن عدي، فإنه اتهمني بخاله لمشورتي عليه في المسير، إليك فجدع أنفي، وأخذ مالي، وجلد ظهري، وقطع آذاني، وحال بيني وبين أهلي، وتهددني بالقتل، وإني خشيت على نفسي، فهربت منه إليك، وأنا مستجير بك، ومستند إلى كنف عزك. فقالت له: أهلا وسهلا، لك حق الجوار، وذمة المستجير. وأمرت به فأنزل، وأجرت له النفقات ووصلته وكسته وأخدمته، وزادت في إكرامه. فأقام مدة لا يكلمها ولا تكلمه، وهو يطلب الحيل عليها، وموضع الفرصة منها، وكانت ممتنعة بقصر مشيد على باب النفق تعتصم به، فلا يقدر أحد عليها، فقال لها قصير يوما: إن لي في العراق مالا كثيرا، وذخائر نفيسة مما يصلح للملوك، فإذا أذنتني في الخروج إلى العراق، وأعطيتني شيئا أتعلل به في التجارة، واجعله سببا إلى الوصول إلى مالي، أتيتك بما قدرت عليه من ذلك. فأذنت له وأعطته مالا فقدم به إلى العراق، وأخذ مالا جزيلا، ثم رجع إلى الزباء، وقد استصحب من ظرائف العراق ولطائفها وزادها مالا كثيرا إلى مالها. قال: فلما قدم عليها، أعجبها ذلك وأبهجها وعظمت منزلته عندها، ثم إنه عاد إلى العراق ثانية، وقدم عليها بأكثر من النوبة الأولى، وزادها أضعافا من الجوهر والخز والبز والقز والديباج، فازداد مكانه منها، وعظمت منزلته عندها، ورغبتها فيه ولم يزل قصير يتلطف في الحيلة، حتى عرف موضع النفق الذي تحت الفرات، والطريق إليه. ثم خرج ثالثة، فقدم بأكثر من المرتين الأوليين ظرائف ولطائف، فبلغ مكانة عظيمة منها، حتى إنها كانت تستعين به في مهماتها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 واسترسلت إليه وعولت في أمورها عليه. وكان قصير رجلا حسن العقل والوجه، أديبا لبيبا، فقالت له يوما: إني أريد أن أغزو البلد الفلانية من أرض الشأم، فاخرج إلى العراق وائتني بكذا وكذا من الدروع والكراع، والعبيد والثياب، فقال قصير: لي ببلاد عمرو بن عدي ألف بعير، وخزانة من المال، وخزانة من السلاح، فيها كذا وكذا، وما لعمرو بها من علم، ولو علم بها لأخذها، واستعان بها على حرب الملكة، وقد كنت أتربص به ريب المنون، وها أنا أخرج متنكرا من حيث لا يعلم فآتي الملكة بذلك، مع الذي سألت، فأعطته من المال ما أراد، وقالت: يا قصير الملك يحسن بمثلك، وعلى يد مثلك يصلح أمره، وقد بلغني أن جذيمة كان إيراده وإصداره إليك، وما أقصر بك عن شيء تناله يدي، ولا يقعد بك حال تنهض بي. فسمع كلامها رجل من خاصة قومها فقال: إنه أسد خادر، وليث ثائر، قد تحفز للوثبة. ولما عرف قصير مكانه منها، وتمكنه من قلبها، قال: الآن طاب الخداع، وخرج من عندها، فأتى عمرو بن عدي فقال: قد أصبت الفرصة من الزباء، فقال له عمرو: قل أسمع ومر اقبل، فأنت طبيب هذه القرحة. فقال: الرجال والأموال. فقال عمرو: حكمك فيما عندي مسلط، فعمد إلى ألفي رجل من فتاك قومه، وصناديد أهل مملكته، فحملهم على ألف بعير، في الغرائر السود بالأسلحة، وجعل ربطها من داخل الجوالق. وكان عمرو منهم، وساق الخيل والكراع والسلاح والإبل محملة. قال ابن هشام: فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار، وكانت الزباء قد صور لها عمرو قائما وقاعدا وراكبا، وغمي عليها أمر قصير، فسألت عنه فقيل: أخذ الغوير. فقالت: «عسى الغوير أبؤسا» «1» ، فأرسلتها مثلا. وعسى، في المثل، بمعنى صار، ولذلك أتى الخبر بغير الفعل، فلما قدم قصير دخل على الزباء وكان قد تقدم على العير، فقال لها: قفي وانظري إلى العير، فصعدت على سطح قصرها وجعلت تنظر إلى العير مثقلة بحمل الرجال فقالت: يا قصير: ما للجمال مشيها وئيد ... أجندلا يحملن أم حديدا «2» أم صرفانا باردا شديدا ... أم الرجال جثما قعودا وكان قصير قد وصف لعمرو الزباء، وشأن النفق، فلما دخلت العير المدينة، وكان على باب الزباء بوابون من النبط، وفيهم رجل بيده مخصرة، فطعن جوالقا، فأصابت المخصرة رجلا منهم فضرط، فقال البواب بالنبطية: بشا بشا أي الشر الشر، فاستل قصير سيفه وضرب به البواب فقتله. وكان عمرو على فرسه فدخل الحصن عقب الإبل وحل الرجال الجوالق، فظهروا في المدينة، ووقف عمرو على باب النفق، فلما رأت الزباء عمرا، عرفته بالصفة، فمصت خاتما في يدها مسموما، وقالت: بيدي لا بيد عمرو، فماتت. ويقال: إن عمرا قتلها بالسيف، وقال ابن الجوزي: إن الزباء، لما رأت الإبل تتهادى بأحمالها، ارتابت بها، وكان قد وشى بقصير إليها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 فقدح ما رأت من كثرة الإبل وعظم أحمالها في نفسها، مع ما عندها من قول الواشي به فقالت: أرى الجمال مشيها وئيدا إلا أنه ذكر عوض «أم الرجال جثما قعودا» أم «الرجال في الغرار السودا» . ثم قالت لجواريها: «أرى الموت الأحمر في الغرائر السود» فذهبت مثلا، وذكر القصة إلى آخرها، فاحتوى عمرو على بلادها. والزباء اسمها نائلة في قول «1» محمد بن جرير الطبري، ويعقوب بن السكيت واستشهد ابن جرير الطبري بقول الشاعر: أتعرف منزلا بين النقاء ... وبين ممر نائلة القديم وميسون في قول ابن دريد، وفارعة في قول ابن هشام وابن الجوزي وغيرهما كما تقدم. قلت: وفي النهاية لابن الأثير، أن قوما من الجن تذكروا عيافة بني أسد، ووصفهم بها، فأتوهم فقالوا: ضلت لنا ناقة، فلو أرسلتم معنا من يعيف؟ فقالوا لغلام لهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم، ثم ساروا فلقيهم عقاب كاسرة إحدى جناحيها، فاقشعر الغلام وبكى، فقالوا: مالك يا غلام؟ فقال: كسرت جناحا ورفعت جناحا، وحلفت بالله صراخا، ما أنت بإنسي ولا تبغي لقاحا، وقالوا: «أطير من عقاب «2» الجو» و «أبصر من عقاب وأحزم» «3» . فإن قيل: ما حزمه؟ قيل: إنه يخرج من بيضته على رأس جبل عال، فلا يتحرك حتى يتكامل ريشه، ولو تحرك لسقط. ويقال أيضا: «أسمع من فرخ عقاب» «4» «وأعز من عقاب «5» الجو» . عجيبة : نقل ابن زهر، عن ارسطاطاليس، أن العقاب تصير حدأة والحدأة عقابا يتبادلان في كل سنة. الخواص : قال صاحب عين الخواص: قال عطارد «6» بن محمد: إن العقاب يهرب من الصبر، وإذا شم رائحته غشي عليه. وريش العقاب إذا دخن به البيت ماتت حياته. ومرارته تنفع من الظلمة، والماء الذي في العينين اكتحالا قاله القزويني. التعبير : العقاب تدل رؤيته لمن هو في حرب على النصر والظفر على الأعداء، لأنها كانت راية النبي صلى الله عليه وسلم. والعقاب تدل على العقاب لمن حل عنده. ومن رأى أنه ملك عقابا أو نسرا، وتحكم عليه، نال عزا وسلطانا ونصرة على عدوه، وعاش عمرا طويلا. فإن كان الرائي من أهل الجد والاجتهاد، انقطع عن الناس واعتزلهم، وعاش منفرا لا يأوي إلى أحد. وإن كان ملكا، اصطلح مع الأعداء، وأمن من شرهم ومكايدهم، وانتفع بما عندهم من السلاح والمال، لأن أرياشها السهام، وهي أموال أيضا، وصغارها أولاد زنا. قاله ابن المقري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وقال المقدسي: من رأى عقابا ضربه بمخالبه، ناله شدة في ماله. وأكل لحم العقاب يدل على الحرص، وربما دلت رؤيته، أعني العقاب، على رجل صاحب حرب، لا يأمنه قريب ولا بعيد. وإذا رؤي على سطح أو دار أو بيت فهو ملك الموت. ومن ركب عقابا في منامه، وكان فقيرا نال خيرا، وإن كان غنيا أو من أشراف الناس، فإنه يموت، لأن في الزمان المتقدم، كانوا يصورون صورة الميت من الأغنياء والأمراء، على صورة عقاب. ومن رأى من النساء، كأنها ولدت عقابا، اتصل ولدها بالملك في خدمة أو صراع، والله أعلم. العقد: الجمل الصغير القوائم، الطويل السنام، فإذا مشى مع الجمال، قصر عن طولها، وإذا برك معها طالها لطول سنامه، ولذلك يقول ثعلبة: أرسلت فيها جملا لكالكا ... يقصر مشيا ويطول باركا العقال: القلوص الفتية، والعقال زكاة العام من الإبل والغنم. قال الشاعر: سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين العقرب: دويبة من الهوام تكون للذكر والأنثى بلفظ واحدة، واحدة العقارب. وقد يقال للأنثى: عقربة وعقرباء ممدود غير مصروف، ويصغر على عقيرب، كما تصغر زينب على زيينب والذكر عقربان بضم العين والراء، وهو دابة له أرجل طوال وليس ذنبه كذنب العقارب قال «1» الشاعر: كأن مرعى أمكم إذ غدت ... عقربة يكومها عقربان أي ينزو عليها. ومكان معقرب بكسر الراء، ذو عقارب، وصدغ معقرب بفتح الراء، أي معطوف. وكنيتها أم عريط وأم ساهرة، واسمها بالفارسية الرشك كما تقدم. ومنها السود والخضر والصفر، وهن قواتل وأشدها بلاء الخضر. وهي مائية الطباع، كثيرة الولد، تشبه السمك والضب. وعامة هذا النوع، إذا حملت الأنثى منه، يكون حتفها في ولادتها، لأن أولادها إذا استوى خلقها، تأكل بطنها وتخرج، فتموت الأم. وأنشدوا قول «2» الشاعر: وحاملة لا يحمل الدهر حملها ... تموت وينمى حملها حين تعطب والجاحظ لا يعجبه هذه القول، ويقول: قد أخبرني من أثق به، أنه رأى العقرب تلد من فيها وتحمل أولادها على ظهرها، وهي على قدر القمل كثيرة العدد. قلت: والذي ذهب إليه الجاحظ هو الصواب. والعقرب أشد ما تكون، إذا كانت حاملا، ولها ثمانية أرجل، وعيناها في ظهرها. ومن عجيب أمرها أنها لا تضرب الميت ولا النائم، حتى يتحرك شيء من بدنه، فإنها عند ذلك تضربه. وهي تأوي إلى الخنافس وتسالمها، وربما لسعت الأفعى فتموت، وهي يلسع بعضها بعضا فتموت، قاله الجاحظ. وفي كتاب القزويني، أن العقرب إذا لسعت الحية فإن أدركتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وأكلتها برئت، وإلا ماتت. وقد أشار إلى ذلك الفقيه عمارة اليمني في أبياته بقوله «1» : إذا لم يسالمك الزمان فحارب ... وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب ولا تحتقر كيد الضعيف فربما ... تموت الأفاعي من سموم العقارب فقد هدم عرش بلقيس هدهد ... وخرب فأر قبل ذا سدّ مأرب إذا كان رأس المال عمرك فاحترز ... عليه من الانفاق في غير واجب فبين اختلاف الليل والصبح معرك ... يكر علينا جيشه بالعجائب وفي تاريخ ابن خلكان، في ترجمة «2» الفقيه عمارة بن علي بن زيدان اليمني، أن قاسم بن هاشم، صاحب مكة، وجهه رسولا إلى الديار المصرية، فدخلها في ربيع الأول سنة خمسين وخمسمائة، وصاحبها يومئذ الفائز، والوزير الصالح بن رزيك، فأنشدهما قصيدته الميمية التي أولها: الحمد للعيس بعد العزم والهمم وفي آخرها: ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها ... عقود مدح فما أرضى لكم كلمي خليفة ووزير مدّ عدلهما ... ظلا على مفرق الاسلام والأمم زيادة النيل نقص عند فيضهما ... فما عسى يتعاطى منة الديم فاستحسنا قصيدته وأجزلا صلته، وعاد إلى مكة، ثم إلى زبيدة ثم أعاده صاحب مكة رسولا إلى مصر أيضا، فاستوطنها وأحسن الصالح وبنوه إليه. فلما ملك السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، مدحه ومدح جماعة من أهل بيته، ثم إنه شرع في الاتفاق، مع جماعة من الرؤساء، على إعادة دولة المصريين ووافقهم جماعة من أمراء الملك الناصر، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية ومن سواحل الشام إلى ديار مصر، على شيء يبذلونه لهم، من المال والبلاد، فعلم صلاح الدين بذلك فقبض عليهم وسألهم عن ذلك، فأقروا. فصلبهم في رمضان سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وهذا التاريخ مناقض لما تقدم، من أنه كان رسولا لصاحب مكة في سنة خمسين وخمسمائة. قلت: والصواب أن صلبهم كان في سنة تسع وستين يوم السبت الثاني من شهر رمضان، وكان القبض عليهم في يوم الأحد السادس والعشرين من شعبان من السنة المذكورة. وكان عمارة شافعيا، وينسب إليه بيت قاله، أو وضع عليه والله أعلم بذلك: قد كان أول هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيّد الأمم فأفتى فقهاء مصر بقتله، ولم يتعرض السلطان صلاح الدين إلى من نافق عليه من أجناده، ولا أظهر لهم أنه علم بشيء من أمرهم. ومن العجيب أن الفقيه عمارة قال قبل صلبه بأيام قلائل في مصلوب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 ورأت يداه عظيم ما جنتا ... ففررن ذي شرقا وذي غربا وأمال نحو الصدر منه فما ... ليلوم في أفعاله القلبا فكأنه كان لسان حاله. ومن شأنها، أنها إذا لسعت الإنسان، فرت فرار مسيء يخشى العقاب. قال الجاحظ: ومن عجيب أمرها أنها لا تسبح ولا تتحرك، إذا ألقيت في الماء سواء كان الماء ساكنا، أو جاريا، قال: والعقارب تخرج من بيوتها للجراد، لأنها حريصة على أكله، وطريق صيدها أن تشبك الجرادة في عود، ثم تدخل في جحرها، فإذا عاينتها العقرب تعلقت فيها. ومتى أدخل الكراث في جحرها وأخرج، فإنها تتبعه أيضا. وربما ضربت الحجر والمدر، ومن أحسن ما قيل في ذلك: رأيت على صخرة عقربا ... وقد جعلت ضربها ديدنا فقلت لها: إنها صخرة ... وطبعك من طبعها ألينا فقالت: صدقت ولكنني ... أريد أعرفها من أنا والعقارب القاتلة تكون في موضعين بشهرزور وبعسكر مكرم، وهي جرارات تلسع فتقتل كما تقدم. وربما تناثر لحم من لسعته أو عفن لحمه واسترخى، حتى إنه لا يدنو منه أحد إلا وهو يمسك أنفه مخافة أعدائه. ومن لطيف أمرها أنها مع صغرها تقتل الفيل والبعير بلسعها. ومن نوع العقارب الطيارة، قال القزويني والجاحظ: وهذا النوع يقتل غالبا. قال الرافعي: وحكى العبادي وجها أنه يصح بيع النمل بنصيبين، لأنه يعالج به العقارب الطيارة، التي بها. وسيأتي إن شاء الله تعالى، هذا أيضا في باب النون، في حكم النمل ولعل مراده أن النمل يعمل مع أدوية، ويعالج بها لدغتها. وبنصيبين عقارب قتالة، يقال إن أصلها من شهرزور، وإن بعض الملوك حاصر نصيبين، فأتى بالعقارب منها وجعلها في كيزان الفقاع، ورمى بها في المجانيق. قال الجاحظ: وكان في دار نصر بن حجاج السلمي «1» عقارب، إذا لسعت قتلت، فدب ضيف لهم، إلى بعض أهل الدار فضربته عقرب في مذاكيره فقال «2» نصر يعرض به: وداري إذا نام سكانها ... أقام الحدود بها العقرب إذا غفل الناس عن دينهم ... فإن عقاربها تضرب فلا تأمنن سرى عقرب ... بليل إذا أذنب المذنب فدخل حوالي الدار وقال: هذه عقارب تسقى من أسود سالخ، ونظر إلى موضع في الدار، وقال: احفروا ههنا، فحفروا فوجدوا أسودين: ذكرا وأنثى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وروى الطبراني وأبو يعلى الموصلي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فقام إلى جنبه فصلى بصلاته، فجاءت عقرب حتى انتهت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تركته، وذهبت نحو علي فضربها بنعله حتى قتلها، فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها بأسا. في إسناده عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف. وروى ابن ماجه، عن أبي رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم «قتل عقربا وهو يصلي» «1» . وفيه أيضا، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب، وهو في الصلاة، فقال: «لعن الله العقرب ما تدع مصليا ولا غير مصل اقتلوها في الحل والحرم» «2» . وروى الحافظ أبو نعيم، في تاريخ أصبهان، والمستغفري في الدعوات، والبيهقي في الشعب، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لدغت النبي صلى الله عليه وسلم عقرب، وهو في الصلاة فلما فرغ من صلاته، قال: «لعن الله العقرب ما تدع مصليا ولا غيره، ولا نبيا ولا غيره، إلا لدغته» . وتناول نعله فقتلها به، ثم دعا بماء وملح فجعل يمسح عليها، ويقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين. وفي تاريخ نيسابور، عن الضحاك بن قيس الفهري، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل يتهجد، فلدغته عقرب في أصبعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله العقرب ما تكاد تدع أحدا» «3» ، ثم دعا بماء في قدح، وقرأ عليه قل هو الله أحد الله الصمد ثلاث مرات، ثم صبه على أصبعه، ثم رؤي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك على المنبر عاصبا أصبعه من لدغة العقرب. وفي عوارف المعارف، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: «لدغت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقرب في إبهامه، من رجله اليسرى فقال: «علي بذاك الأبيض الذي يكون في العجين» ، فجئنا بملح فوضعه صلى الله عليه وسلم في كفه، ثم لعق منه ثلاث لعقاب، ثم وضع بقيته على اللدغة فسكنت عنه. وروى ابن أبي شيبة، عن جابر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس، وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب فقال: «إنكم تقولون لا عدوى، ولا تزالون تقاتلون عدوا حتى تقاتلوا يأجوج ومأجوج، عراض الوجوه، صغار العيون، صهب الشعاف، من كل حدب ينسلون وكأن وجوههم المجان المطرقة» «4» . غريبة : في تاريخ شيخنا اليافعي رحمه الله تعالى، في حوادث سنة تسع وخمسمائة ذكر أن بعض الملوك قال له منجموه: إنه يموت في الساعة الفلانية في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني من سنة كذا من عقرب تلدغه، فلما كانت الساعة المذكورة تجرد من جميع ثيابه سوى ما يستر عورته، وركب فرسا بعد أن غلسه ونظفه وسرح شعره، ودخل به البحر حذارا مما ذكر له منجموه، فبينما هو كذلك عطست الفرس فخرج من أنفه عقرب فلدغته، فمات. فما أغناه الحذر عن القدر. وعن معروف الكرخي قال: بلغنا أن ذا النون المصري، خرج ذات يوم يريد غسل ثيابه، فإذا هو بعقرب قد أقبل عليه، كأعظم ما يكون من الأشياء، قال: ففزع منها فزعا شديدا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 واستعاذ بالله منها فكفي شرها. فأقبلت حتى وافت النيل، فإذا هي بضفدع قد خرج من الماء فاحتملها على ظهره، وعبر بها إلى الجانب الآخر. فقال ذو النون: فاتزرت بمئزري ونزلت في الماء، ولم أزل أرقبها إلى أن أتت إلى الجانب الآخر، فصعدت ثم سعت وأنا أتبعها إلى أن أتت شجرة كثيرة الأغصان، كثيرة الظل، وإذا بغلام أمرد أبيض نائم تحتها، وهو مخمور، فقلت: لا قوة إلا بالله، أتت العقرب من ذلك الجانب للدغ هذا الفتى، فإذا أنا بتنين قد أقبل يريد قتل الفتى، فظفرت العقرب به ولزمت دماغه، حتى قتلته ورجعت إلى الماء. وعبرت على ظهر الضفدع إلى الجانب الآخر فأنشد ذو النون يقول: يا راقدا والجليل يحفظه ... من كل سوء يكون في الظّلم كيف تنام العيون عن ملك ... تأتيك منه فوائد النعم قال: فانتبه الفتى على كلام ذي النون، فأخبره الخبر فتاب ونزع لباس اللهو، ولبس أثواب السياحة وساح ومات على تلك الحالة رحمه الله تعالى. واسم ذي النون ثوبان بن ابراهيم، وقيل: الفيض بن ابراهيم. ومن كلامه رحمه الله تعالى: حقيقة المحبة أن تحب ما أحبه الله، وتبغض ما أبغضه الله، وتطلب رضاه وترفض جميع ما يشغلك عنه، وأن لا تخاف فيه لومة لائم، وأن تعزل نفسك عن رؤيتها وتدبيرها. فإن أشد الحجاب رؤية النفس وتدبيرها. وقال رحمه الله: لا يزال العارف مادام في الدنيا، بين الفخر والفقر، فإذا ذكر الله افتخر، وإذا ذكر نفسه افتقر. وقال: ليس بذي لب من جد في أمر دنياه وتهاون في أمر آخرته، ولا من سفه في مواطن حلمه، ولا من تكبر في مواطن تواضعه، ولا من فقدت منه التقوى في مواطن طمعه، ولا من غضب من حق إن قيل له، ولا من زهد فيما يرغب العقلاء فيه، ولا من رغب فيما يزهد العقلاء فيه، ولا من طلب الإنصاف من غيره لنفسه، ولا من نسى الله تعالى في مواطن طاعته، وذكر الله في مواطن الحاجة إليه، ولا من جمع العلم ليعرف به ثم أثر عليه هواه بعد تعلمه، ولا من قل منه الحياء من الله تعالى، على جميل ستره، ولا من أغفل الشكر على اظهار نعمه، ولا من عجز عن مجاهدة عدوه، ولا من جعل مروأته لباسه، ولم يجعل أدبه درعه وتقواه لباسه، ولا من جعل علمه ومعرفته تظرفا وتزينا في مجلسه، ثم قال: استغفر الله العظيم، إن الكلام كثير وإن لم تقطعه لم ينقطع. وحكى لي بعض أشياخي عن ذي النون أنه قال لبعض الرهبان: ما معنى المحبة؟ فقال: لا يطيق العبد حمل محبتين: من أحب الله لا يحب الأغيار، ومن أحب الأغيار لا يحب الله خالصا، فتفكر في حالك من أي القبيلين أنت؟ قال: قلت: صف لي المحبة. فقال: المحبة عقل ذاهب، ودمع ساكب، ونوم طريد، وشوق شديد، والحبيب يفعل ما يريد. قال ذو النون: فعمل هذا الكلام معي، فعلمت أنه خرج من المعدن وأن الراهب مسلم. ثم فارقته فبينما أنا أطوف بالكعبة، وإذا بالراهب يطوف وقد نحل، فقال لي: يا أبا الفيض، تم الصلح وانفتح باب المؤانسة، ومن الله علي بالاسلام وحملني ما عجزت عنه السموات والأرض. قال ذو النون: حمل نفسه محبة الله تعالى التي عجزت عنها السموات والأرض، وصم الجبال، وحملها أجلاد الرجال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 بلطائف الأحوال. وأنشد يقول: حبّك يا سؤلي ويا منيتي ... قد أنحل الجسم وقد كدّه لو أنّ ما في القلب من حبّكم ... بالجندل الصّلد لقد هدّه ثم قال ذو النون: لا أحياء ولا أموات، ولا صحاة ولا سكرى، ولا مقيمون ولا ظاعنون، ولا مفيقون ولا صرعى، ولا أصحاء ولا مرضى، ولا منتبهون ولا نيام، فهم كأصحاب الكهف، في فجوة الكهف لا يدرون ما يفعل بهم، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال. قال الإمام أبو الفرج بن الجوزي: ذو النون رحمه الله تعالى، أصله من النوبة وكان من أهل اخميم، فنزل مصر وسكنها، ويقال اسمه الفيض وذو النون لقب. وقال الإمام أبو القاسم القشيري، في رسالته: كان ذو النون قد فاق أهل هذا الشأن، وصار واحد وقته علما وورعا وأدبا وحالا، وكانت وفاته بالجيزة لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة ست وأربعين ومائتين. قال ابن خلكان: ودفن بالقرافة الصغرى. وأما معروف فهو ابن قيس الكرخي، كان مشهورا بإجابة الدعوة، وأهل بغداد يستسقون بقبره، ويقولون: قبر معروف ترياق مجرب. وكان سري السقطي تلميذه، وقيل لمعروف في مرض موته: أوص، فقال: إذا مت، فتصدقوا بقميصي فإني أريد أن أخرج من الدنيا عريانا كما دخلتها عريانا. ومر معروف رحمه الله تعالى يوما بسقاء، وهو يقول: يرحم الله من يشرب، وكان صائما فتقدم وشرب، فقيل له: ألم تكن صائما؟ قال: بلى. ولكن رجوت دعاءه. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاثمائة. وقال الزمخشري، في ربيع الأبرار: زعموا أن أرض حمص لا تعيش فيها العقارب، وزعم أهلها أن ذلك لطلسم هناك، قالوا: وإن طرحت فيها عقرب غريبة، ماتت من ساعتها. وحمص مدينة معروفة من مشارق الشأم، لا تنصرف للعلمية والعجمة والتأنيث، وهي من المدن الفاضلة. وفي حديث ضعيف أنها من مدن الجنة. وكانت في أول الأمر أشهر بالفضل من دمشق. وذكر الثعلبي أنه نزلها سبعمائة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. فائدة : رقية العقرب جائزة، لما روى «1» مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، قال: لدغت رجلا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله ارقيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل» . وفي رواية «2» فجاء آل عمر بن حزم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرقى، فقال صلى الله عليه وسلم: «اعرضوا علي رقاكم» ، فعرضوها عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أرى بها بأسا، من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه» . وفي رواية: «اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شيء» . فالرقى جائزة بكتاب الله أو بذكره، ومنهي عنها إذا كانت بالفارسية أو بالعجمية، أو بما لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 يدري معناه، لجواز أن يكون فيه كفر. واختلفوا في رقية أهل الكتاب، فجوزها أبو حنيفة، وكرهها مالك خوفا أن تكون مما بدلوا. فمن الرقى النافعة المجربة، أن يسأل الراقي الملدوغ إلى أين انتهى الوجع من العضو؟ ثم يضع على أعلاه حديدة، ويقرأ العزيمة ويكررها، وهو يجرد موضع الألم بالحديدة من فوق حتى ينتهي في جرد السم إلى أسفل الوجع، فإذا اجتمع في أسفله، جعل يمص ذلك الموضع حتى يذهب جميع الألم، ولا اعتبار بفتور العضو بعد ذلك. وهي هذه: سلام على نوح في العالمين، وعلى محمد في المرسلين، من حاملات السم أجمعين، لا دابة بين السماء والأرض إلا ربي آخذ بناصيتها أجمعين، كذلك يجزي عباده المحسنين، إن ربي على صراط مستقيم، نوح نوح قال لكم نوح: من ذكرني لا تأكلوه، إن ربي بكل شيء عليم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ورأيت بخط ابن الصلاح، في رحلته رقية للعقرب، قال: ذكر أن الإنسان يرقى بها فلا تلدغه عقرب، وإن أخذها بيده لا تلدغه، وإن لدغته لا تضره. وهي بسم الله وبالله وبسم جبريل وميكائيل كازم كازم ويزازم فتيز إلى مرن إلى مرن يشتامر ايشتامر اهوذا هوذا هى لمظا أنا الراقي والله الشافي. صفة خاتم : نافع للسع العقرب، ولإفاقة المجنون وللرعاف، ولوجع العين، إذا كان من ريح باردة، ينقش على خاتم بلور أحمر هذه الأسماء: خطلسلسه كطوده دل صحوه أوسططا أبى ممه بيدهى سفاهه. فللعقرب يغمس في ماء نظيف، ويجعل في موضع اللسع، وللمجنون يديم النظر إلى الخاتم فإنه يفيق بإذن الله تعالى، وللرعاف يكتب على الجبهة، وللحمى يكتب على ورق الزيتون ويعلق، وللريح يجعل الخاتم في موضع الريح ويمسحه. ومما يكتب للحمى أيضا على ثلاث ورقات ويبخر بها المحموم: اا اط لا اا اط ط اا الح لوم الأولى الثانية الثالثة كو كو كو وللحمى أيضا يكتب على ثلاث ورقات، ويأكل كل يوم ورقة إذا حم. الأولى بسم الله نارت واستنارت، الثانية بسم الله في علم الغيب غارت، الثالثة بسم الله حول العرش دارت. ومما يكتب للرعاف أيضا، للنزيف لوطا لوطا لوطا يكتب ثلاثة أسطر. وذكر صاحب عين الخواص: تكتب هذه الأسماء في ورقة، أو على طاسة اسبادرية صحيحة غير مشعوبة، أو قصعة جوز بلا شعب، ويكتب اسم أبيه وأمه، ويسقى للموعوك، وإن سقيت للملسوع أفاق لوقته وهي هذه: «سارا سارا إلى سارا مالى يرن يرن إلى بامال واصال باطوطو كالعوماراساب يا فارس ارددباب ها كانا ما أبين لها نارا أناركاس متمرنا كاطن صلوبير ص صاروب اناوين ودى» . هذا لمسلوع الحية. قال: وهو مما جرب، فوجد نافعا وقد تقدم، في باب الحاء المهملة، في الحية ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 يقرب من هذا. وقال بعض العلماء المتقدمين: من قال في أول الليل وأول النهار، عقدت زبان العقرب ولسان الحية ويد السارق، بقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله أمن من الحية والعقرب والسارق. وروى مالك والجماعة، إلا البخاري، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة؟ فقال «1» صلى الله عليه وسلم: «أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك إن شاء الله تعالى» . وفي كامل ابن عدي، في ترجمة وهب بن راشد الرقي، أن الرجل المذكور بلال. وفي رواية «2» للترمذي: «من قال حين يمسي، ثلاث مرات: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضره حمة تلك الليلة» . قال سهيل: فكان أهلنا يقولونها كل ليلة، فلدغت جارية منهم فلم تجد لها وجعا. وقال: هذا حديث حسن. كلمات الله القرآن. ومعنى تمامها أن لا يدخلها نقص ولا عيب، كما يدخل كلام الناس. وقيل: هي النافعات الكافيات عن كل ما يتعوذ به. قال البيهقي: وإنما سماها تامة لأنه لا يجوز أن يكون في كلامه تعالى نقص أو عيب كما يكون في كلام الآدميين. قال: وبلغني عن الإمام أحمد بن حنبل أنه كان يستدل بذلك على أن القرآن غير مخلوق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الهامة. وذكر أبو عمر بن عبد البر في التمهيد، عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أن من قال حين يمسي سلام على نوح في العالمين، لم تلدغه عقرب. وقال عمرو بن دينار: إن مما أخذ على العقرب، أن لا تضر أحدا قال في ليل أو نهار: سلام على نوح في العالمين. وفي التمهيد، لابن عبد البر في ترجمة يحيى بن سعيد الأنصاري، في بلاغاته في الثاني عشر، قال ابن وهب وأخبرني ابن سمعان قال: سمعت رجالا من أهل العلم يقولون: إذا لدغ الإنسان، فنهشته حية أو لدغته عقرب، فليقرأ الملدوغ هذه الآية «3» : نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وقال الشيخ أبو القاسم القشيري، في تفسيره في بعض التفاسير: إن الحية والعقرب، أتتا نوحا عليه الصلاة والسلام، فقالتا: احملنا، فقال نوح: لا أحملكما فإنكما سبب للبلاء والضرر، فقالتا: احملنا ونحن نعاهدك ونضمن لك أن لا نضر أحدا ذكرك، فعاهدهما وحملهما. فمن قرأ ممن كان يخاف مضرتهما حين يمسي وحين يصبح: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ «4» ما ضرتاه. ثم روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن نوحا عليه الصلاة والسلام اتخذ السفينة في سنتين. وكان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعا، وسمكها ثلاثين ذراعا، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون: في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 الثاني، وهو الأوسط، الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما احتاج إليه من الزاد. وروينا عن الشيخ الإمام الحافظ فخر الدين عثمان بن محمد بن عثمان التوريزي، نزيل مكة المشرفة، أنه قال: كنت أقرأ بمكة الفرائض، على الشيخ تقي الدين الحوراني، فبينما نحن جلوس، وإذا بعقرب تمشي، فأخذها الشيخ بيده، وجعل يقلبها في يده، فوضعت الكتاب من يدي، فقال: اقرأ، فقلت: حتى أتعلم هذه ال فائدة ، فقال: هي عندك، قلت: ما هي؟ قال: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «1» : «من قال حين يصبح وحين يمسي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لم يضره شيء وقد قلتها أول النهار» . ومما يدفع شر الحية والعقرب، أن يقرأ عند النوم ثلاث مرات: أعوذ بربّ أوصافه سمية من كل عقرب وحية، سلام على نوح في العالمين، إنا كذلك نجزي المحسنين، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق. فائدة : يقال: لدغته العقرب تلدغه لدغا وتلداغا فهو ملدوغ ولديغ. قال أبو داود الطيالسي، في قوله «2» صلى الله عليه وسلم «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» : معناه أن المؤمن لا يعاقب على ذنبه في الدنيا، ثم يعاقب عليه في الآخرة. والذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، هو أبو عزة الجمحي الشاعر، واسمه عمر ووقع في الأسر يوم بدر، ولم يكن معه مال، فقال: يا رسول الله إني ذو عيلة، فأطلقه لبناته الخمس، على أن لا يرجع للقتال. فرجع إلى مكة ومسح عارضيه، وقال: خدعت محمدا مرتين، ثم عاد عام أحد مع المشركين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تفلته» . فلم يقع في الأسر غيره، فقال: يا محمد إني ذو عيلة فأطلقني. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» . وأمر بقتله. والحديث المذكور رواه الشافعي ومسلم وابن ماجه. وقوله لا يلدغ يروى بضمن الغين على الخبر، يعني أن المؤمن حازم لا يخدع مرة بعد مرة، ولا يفطن لذلك. وقيل: أراد به الخداع في أمر الآخرة دون أمر الدنيا. ويروى بكسر الغين نهيا، أي لا يؤتى من جهة الغفلة، وهذا يصح أن يتوجه إلى أمر الدنيا والآخرة أيضا. ويؤيد ما قاله أبو داود الطيالسي، ما رواه النسائي، في مسند علي، عن أبي سخيلة أنه سمع عليا رضي الله تعالى عنه يقول: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى؟ قالوا: بلى. قال: قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «3» . قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي ما أصابك من بلاء، أو عقوبة، أو مرض في الدنيا، فبما كسبت يداك. والله أكرم من أن يثني على عبده في الآخرة العقوبة، وما عفا الله عنه في الدنيا، فالله أكرم وأحلم من أن يعود بالعقوبة بعد عفوه انتهى. ولذلك قال الواحدي: إن هذه الآية أرجى آية في القرآن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين: صنف كفره بالمصائب، وصنف عفا عنه، وهو جل وعلا كريم لا يعود في عفوه. فائدة أخرى : يقال: لسعته العقرب والحية تلسعه لسعا فهو ملسوع وما أحسن قول الأول: قالوا: حبيبك مسلوع، فقلت لهم: ... من عقرب الصّدغ أم من حيّة الشعر قالوا: بلى من أفاعي الأرض، قلت لهم: ... وكيف تسعى أفاعي الأرض للقمر ويقال في الحية: عضت تعض، ونهشت تنهش، ونشطت تنشط، ونكزت بأنفها تنكز. وأنشدني شيخنا الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الاسنوى قال: أنشدنا شيخنا الشيخ أثير الدين أبو حيان قال: أنشدنا الحافظ رضي الدين أبو عبد الله الشاطبي قال: أنشدنا أبو الربيع سليمان بن سالم الناقد قال: أنشدنا أبو عبد الله بن رافع القيسي قال: أنشدنا أبو القاسم بن حبيش قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن الفراء الضرير الخطيب بقصبة المرية لنفسه: يا حسنا مالك لم تحسن ... إلى نفوس في الهوى متعبه رقمت بالورد وبالسوسن ... صفحة خدّ بالسنا مذهبه وقد أبى صدغك إن أجتنى ... منه وقد ألدغني عقربه يا حسنه إذ قال: ما أحسني ... ويا لذاك اللفظ ما أعذبه قلت له: كلك عندي سنا ... وكلّ ألفاظك مستعذبه ففوق السهم ولم يخطني ... ومذ رآني ميتا أعجبه وقال كم عاش وكم حبني ... وحبه إياي قد أتعبه يرحمه الله على أنني ... قتلي له لم أدر ما أوجبه قال الحريري في درة الغواص: السوسن بفتح السين، وقد أذكرني السوسن أبياتا أنشدنيها علي بن عبد العزيز الأديب المغربي، لأبي بكر بن القوطية الأندلسي، يصف فيها الورد والسوسن، مما أبدع فيه وأحسن فأوردتها على وجه التسديد لسمط هذا الفصل، والتأسي بمن درج من أهل الفضل وهي: قم فاسقنيها على الورد الذي نعما ... وباكر السوسن الغضّ الذي نجما كأنما ارتضعا خلفي سماءهما ... فأرضعت لبنا هذا وذاك دما جسمان قد كفّر الكافور ذاك وقد ... عقّ العقيق احمرارا ذا وما ظلما «1» كان ذا طلية نصّت لمعترض ... وذاك خدّ غداة البين قد لطما أولا فذاك أنابيب اللجين وذا ... جمر الغضى حركته الريح فاضطر ما «2» وقالت العرب: قد كنت أظن أن العقرب أشد لسعا من الزنبور، فإذا هو هي. وقالوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 أيضا: فإذا هو إياها، وهذا الوجه هو الذي أنكره سيبويه، لما سأله الكسائي، بحضرة يحيى بن خالد البرمكي، فقال له الكسائي: إن العرب ترفع كل ذلك وتنصبه، فقال له يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد سمع منهم أهل البلدين، فيحضرون ويسألون، فأحضروا وسئلوا فوافقوا الكسائي. فأمر يحيى لسيبويه بعشرة آلاف درهم. ورحل سيبويه من فوره إلى بلاد فارس فأقام بها حتى مات في سنة ثمانين ومائة، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، وقيل اثنتان وثلاثون سنة. ويقال: إن العرب علموا منزلة الكسائي عند الرشيد، فقالوا: القول قول الكسائي، ولم ينطقوا بالنصب وإن سيبويه قال ليحيى: مرهم أن ينطقوا بذلك، فإن ألسنتهم لا تطاوعهم على النطق به. وقد أشار إلى ذلك حازم في منظومته بقوله: والعرب قد تحذف الأخبار بعد إذا ... إذا عنت فجأة الأمر الذي دهما وربما نصبوا بالحال بعد إذا ... وربّما رفعوا من بعدها ربما فإن توالى ضميران اكتسى بهما ... وجه الحقيقة من أشكاله عمما لذلك أعيت على الأفهام مسألة ... أهدت إلى سيبويه الحتف والغمما قد كانت العقرب العرجاء أحسبها ... قدما أشدّ من الزنبور وقع حما وفي الجواب عليها هل إذا هو هي ... أو هل إذا هو إياها قد اختصما فخطأ ابن زياد وابن حمزة في ... ما قال فيها أبا بشر وقد ظلما وغاظ عمرا علي في حكومته ... يا ليته لم يكن في أمره حكما كغيظ عمرو عليا في حكومته ... يا ليته لم يكن في أمره حكما «1» وفجع ابن زياد كل منتخب ... من أهله إذا غدا منه يفيض دما وأصبحت بعده الأنفاس باكية ... في كلّ طرس كدمع سحّ وانسجما وليس يخلو امرؤ من حاسد أضم ... لولا التنافس في الدنيا لما أضما والغبن في العلم أشجى محنة علمت ... وأترح الناس شجوا عالم هضما الحكم : يحرم أكل العقرب وبيعها، وتقتل في الحل والحرم، وإذا ماتت في مائع نجسته على المشهور. وقيل: لا تنجسه كالوزغة. ونقل الخطابي عن يحيى بن أبي كثير، أن العقرب إذا ماتت في الماء نجسته، ثم قال: وعامة أهل العلم على خلافه. الأمثال : قال الشاعر: ومن لم يكن عقربا يتقى ... مشت بين أثوابه العقرب وقالوا: «في النصح لسع العقارب» «2» وقالوا: «أعدى من العقرب» «3» ، وهو من العداوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وقالوا: «العقرب تلدغ وتصي» يضرب للظالم في صفة المتظلم. وقالوا: «تحككت العقرب بالأفعى» يضرب لمن ينازع أو يخاصم من هو أكثر منه شرا. يقال: تحكك به، إذا تعرض لشره، وقولهم: «أتجر من عقرب» » و «أمطل من عقرب» «2» . هو اسم تاجر كان بالمدينة، وكان من أكثر الناس تجارة، وأشدهم تسويفا، حتى ضربوا بمطله المثل. فاتفق أن الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب، وكان من أشد الناس اقتضاء، عامله، فقال الناس: ننظر الآن ما يصنعان، فلما جاء المال لزم الفضل باب عقرب، وشد حماره ببابه، وقعد يقرأ القرآن، فأقام عقرب على المطل غير مكترث به، فعدل الفضل عن ملازمة بابه إلى هجاء عرضه، فمما سار عنه قوله فيه: كلّ عدو كيده في استه ... فغيره ليس الأذى ضائره قد تجرت في سوقنا عقرب ... لا مرحبا بالعقرب التاجره كلّ عدوّ يتقى مقبلا ... وعقرب يخشى من الدابره إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضره وقد أذكرني قوله: إن عادت العقرب عدنا لها البيت، ما حكاه الشيخ كما الدين الأدفوي «3» ، في كتابه «الطالع السعيد» أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد «4» ، كان في صباه يلعب الشطرنج مع زوج أخته الشيخ تقي الدين بن الشيخ ضياء الدين، فأذن بالعشاء فقاما فصليا، ثم قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: أما تعود؟ فقال صهره: إن عادت العقرب عدنا لها ... وكانت النعل لها حاضره فأنف الشيخ تقي الدين من ذلك فلم يعد يلعبها إلى أن مات. فائدة : قال ابن خلكان، في ترجمة أبي بكر الصولي «5» الكاتب المشهور، أنه كان أوحد أهل زمانه في لعب الشطرنج، والناس إلى الآن، يضربون المثل به في ذلك. وزعم كثير من الناس أنه الذي وضع الشطرنج، وهو غلط، وواضعه رجل يقال له صصّة، بصادين مهملتين، الأولى مكسورة والثانية مفتوحة مشددة وضعه لملك الهند شهرام بكسر الشين المعجمة، وكان أردشير بن بابك، أول ملوك الفرس المؤرخة به، قد وضع النرد، ولذلك قيل له النردشير، نسبوه إلى واضعه المذكور، وجعله مثالا للدنيا وأهلها. فجعل الرقعة اثني عشر بيتا بعدد شهور السنة، وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام الشهر، وجعل الفصوص مثل القضاء والقدر وتقلبه في الدنيا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 فافتخرت الفرس بوضع النرد، فوضع صصّة الهندي الحكيم الشطرنج، لملك الهند، فقضت حكماء ذلك العصر بترجيح الشطرنج على النرد. وأردشير بالراء المهملة، وقيل بالزاي، هو الذي أباد ملوك الطوائف، ومهد لنفسه الملك. وهو جد ملوك الفرس الذين أخرجهم يذدجرد بكسر الجيم. وانقرض ملكهم في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه سنة اثنتين وثلاثين من الهجرة انتهى. والصواب أن الملك الذي وضع له الشطرنح بلهيت، كما قاله شيخنا اليافعي «1» وغيره، وأنه لما قدمه للملك وأراه طريقة اللعب به، أعجب الملك إعجابا عظيما، وقال له: تمن علي فقال: أتمنى عليك أيها الملك أن يوضع درهم في أول بيوت الرقعة، ويضاعف إلى آخرها، فقال له الملك: ما هذا القدر أفسدت علينا ما صنعت! فقال الوزير: مهلا أيها الملك، فإن خزائنك وخزائن ملوك أهل الأرض تنفددون ذلك! وقد أغفل ابن خلكان من وصف النرد أشياء منها: أن الاثني عشر بيتا التي في الرقعة مقسومة أربعة، على عدد فصول السنة، ومنها أن الثلاثين قطعة بيض وسود كالأيام والليالي. ومنها أن الفصوص مسدسة، إشارة إلى أن الجهات ست لا سابع لها. ومنها أن ما فوق الفصوص وتحتها كيفما وقعت سبع نقط عدد الأفلاك، وعدد الأرضين، وعدد السموات، وعدد الكواكب السيارة. ومنها أنه جعل تصرف اللاعب في تلك الأعداد لاختياره وحسن التدبير بعقله. كما يرزق العاقل شيئا قليلا فيحسن التدبير فيه، ويرزق المفرط شيئا كثيرا فلا يحسن التصرف فيه، فالنرد جامع لحكم القضاء والقدر وحسن التصرف لاختيار لاعبه، والشطرنج مفوض لاختيار اللاعب وعقله وتصرفه، والجيد أو الرديء. وتفضيل الشطرنج على النرد فيه نظر. والسطرنج بكسر السين المهملة على وزن جردحل، وهو الضخم من الإبل وقد جوز في الشطرنج أن يقال بالشين المعجمة، لجواز اشتقاقه من المشاطرة وأن يقال بالسين المهملة لجواز أن اشتق من التسطير، عند التعبية قاله في درة الغواص. ومما قيل في الشطرنج: وخيل قد رأيت إزاء خيل ... يساق بها كأكياس الرياح بميمنة وميسرة وقلب ... كتعبية الكتائب للبطاح إذا ما قتلوا نشروا وعادوا ... صحاحا لم يصابوا بالجراح بغير عداوة كانت قديما ... ولكن للتلذذ والمزاح إشارة : لعب الشطرنج مكروه كراهة تنزيه، وقيل: حرام، وقيل: مباح، والأول أصح. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: إنه حرام. ووافقهم من أصحابنا الحليمي والروياني. وروى البيهقي أن محمد بن سيرين، وهشام بن عروة بن الزبير، وبهز بن حكيم، والشعبي وسعيد بن جبير، كانوا يلعبون بالشطرنج، وقال الشافعي: كان سعيد بن جبير يلعب بالسطرنج استدبارا من وراء ظهره. وروى الصعلوكي تجويزه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وأبي اليسر وأبي هريرة والحسن البصري والقاسم بن محمد وأبي قلابة وأبي مجلز وعطاء والزهري وربيعة بن عبد الرحمن وأبي الزناد رحمهم الله تعالى. والمروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه من اللعب به، مشهور في كتب الفقه. وروى الصولي في جزء، قد جمعه في الشطرنج، أن أبا هريرة وعلي بن الحسين زين العابدين وسعيد بن المسيب ومحمد بن المنكدر والأعمش وناجية وعكرمة وأبا اسحاق السبيعي، وابراهيم بن سعد وابراهيم بن طلحة بن عبد الله بن معمر، كانوا يلعبون بالشطرنج. وقد ذكرت الأسانيد عن هؤلاء، وتكلمت على أدلة المخالفين، بكلام يشفي النفس، ويذهب اللبس، في جزء أفردته في الشطرنج والنرد، نحو عشرين كراسة، فاعلم ذلك والله تعالى أعلم. قال أصحابنا: ولأن الشطرنج فيها تدبير الحروب، فأشبهت اللعب بالحراب ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي صحيح عن اللعب به، وأقوى ما يحتج به القائلون بالتحريم، ما روي عن ابن عمر أنه سئل عن الشطرنج، فقال: هي شر من النرد. قالوا: والنرد حرام. فيكون الشطرنج كذلك. قال الإمام تاج الدين السبكي، في الجواب عن هذا الأثر: إنا لا نعلم مذهب ابن عمر في النرد، ولعله كان يقول بحله. وهو وجه لأصحابنا ولا يلزم حينئذ من كون الشطرنج شرا من الحلال، باعتبار ما أن يكون حراما. وأيضا فإن المسألة مسألة اجتهادية. ولعل ابن عمر كان يذهب إلى التحريم، ورأي الشافعي معروف. وعلى قول من قال: إن قول الصحابي حجة يشترط فيه أن لا يعارضه قول صحابي آخر، وهذا قد عارضه قول جماعة من الصحابة بالجواز، وأيضا هذا الأثر لم يقل بظاهره أحد من العلماء، وذلك أن ظاهره أن الشطرنج شر من النرد، سواء اشتمل على عوض أم لا، وبعض العلماء قال: إن الشطرنج شر من النرد، لكن شرط فيه أن يكون مشتملا على عوض، وأما إذا لم يكن مشتملا على عوض، فلم نعلم أن أحدا من العلماء قال إنه في هذه الحالة شر من النرد. وإذا كان الأثر مردود الظاهر بالاجماع، سقط الاحتجاج به انتهى. وروى الآجري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بالأزلام الشطرنج والنرد فلا تسملوا عليهم» . هذا حديث ضعيف، لأن في سنده سليمان اليماني، وقد قال ابن معين فيه: ليس بشيء. وقال البخاري: منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: هو منكر الحديث، لا أعلم له حديثا صحيحا انتهى. فأما إذا انضم إليه اشتغال عن صلاة أو غيرها، فالتحريم إذ ذاك ليس للشطرنج نفسه، وهو مكروه إذا لم يواظب عليه، فإن واظب عليه فإنه يصير صغيرة، كما ذكره الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء. لكن ذكر ابن الصباغ، في الشامل خلافه. وأما النرد فحرام على الأصح، لقوله «1» صلى الله عليه وسلم: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» . ولقوله «2» صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يلعب النرد ثم يقوم فيصلي، مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي» . ومن محاسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 شعر الإمام العلامة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي «1» رحمه الله تعالى في التشبيه: حلت عقارب صدغه من خدّه ... قمرا يجلّ به عن التشبيه ولقد عهدناه يحلّ ببرجها ... ومن العجائب كيف حلت فيه وقد تقدم ذكر وفاته، وطرف من أخباره في باب الحاء المهملة في الحمام. وقد أجاد أبو المحاسن «2» يوسف بن الشواء في وصف غلام أرسل أحد صدغيه وعقد الآخر فقال: أرسل صدغا ولوى قاتلي ... صدغا فأعيا بهما واصفه فخلت ذا في خده حية ... تسعى وهذا عقربا واقفه ذا ألف ليست لوصل وذا ... واو ولكن ليست العاطفه ومن محاسن شعره رحمه الله أيضا: قالوا: حبيبك قد تضوع نشره ... حتى غدا منه الفضاء معطرا فأجبتهم والخال يعلو خدّه ... أو ما ترى النيران تحرق عنبرا الخواص : قال صاحب عين الخواص: العقرب إذا رأت الوزغة ماتت ويبست من ساعتها. وقيل: إن العقرب إذا أحرقت ودخن بها البيت، هربت العقارب منه، وإذا طبخت بزيت ووضع على لدغ العقارب سكن الوجع، ورماد العقارب يفتت الحصى. وإن أخذت عقرب وقد بقي من الشهر ثلاثة أيام، وجعلت في إناء، وصب عليها رطل زيت، وسد رأس الإناء، وترك حتى يأخذ الزيت قوتها، ثم ادهن به من به وجع الظهر والفخذين، فإنه ينفعه ويقويه. وإن شرب بزر الخس بشراب أمن شاربه من لسع العقارب، وإن طرحت قطعة من فجل، على قدر لم يدب عليها عقرب إلا ماتت من وقتها. وإذا ديف ورق الخس بدهن، وطلي به على لسعة العقرب أبرأها، وإن طبخت العقرب بسمن البقر، وطلي به موضع لسعتها سكنها من وقته. وقال ابن السويدي: إذا وضعت العقرب في إناء فخار، وسد رأسه، ثم وضع في تنور إلى أن تصير رمادا وسقي من ذلك الرماد من به الحصى نفعه وفتتها. وإذا بخر البيت بعقرب اجتمعت فيه العقارب، كذا قال أرسطو، وقال غيره: تهرب منه العقارب. وإذا غرزت شوكة العقرب في ثوب إنسان، لم يزل سقيما حتى تزول منه. وإن دقت العقارب وألصقت على لسعتها أبرأتها. وإن وقعت في ماء وشرب منه إنسان وهو لا يعلم، امتلأ جسده قروحا. وإن بخر البيت بزرنيخ أحمر وشحم البقر هربت منه العقارب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 وقال القزويني والرافعي: من شرب مثقالين من حب الأترج، بعد دقه ناعما، أبرأ ذلك من لسعة العقرب والحية وغيرهما من ذوات السموم، وهو عجيب مجرب. وفي عجائب المخلوقات، أنه إذا علق شيء من عروق شجرة الزيتون، على من لسعته العقرب برىء من وقته، وشجر الرمان إذا بخر بحطبه طردها، وشحم الماعز والسمن البقري والزرنيخ الأصفر، وحافر الحمار، والكبريت، ورش البيت بالماء المنقوع فيه الحلتيت، ووضع قشور الفجل في البيت، كل ذلك يطردها وهو عجيب أيضا مجرب. ذكر ذلك في المنتخب، وفي الموجز الفجل المشدوخ وعصارته، إذا أمسكت وورقه والباذروج يطردها، وإن وضع الفجل المقطوع على جحرها لم تجرأ على الخروج، وفيها أن تفل الصائم يقتل الحيات والعقارب. وفي المنتخب أن تفل الحار المزاج، يفعل مثل ذلك، ورؤية السها تؤمن من لسعة العقرب والسارق، وقد ذكر ذلك الرئيس أبو علي بن سينا في أرجوزته. وقيل: إنها لابن شيخ حطين، وهي تشتمل على خواص مجربة وأسرار من علم الطب فلنأت بها بكمالها لتتم الفائدة وهي هذه: بدأت بسم الله في نظم حسن ... أذكر ما جربت في طول الزمن ما هو بالطبع وبالخواص ... لكلّ عامّ ولكلّ خاص في شوكة العقرب نجم توأم ... تراه عين من يراه يعلم إذا تراآه امرآن اصطحبا ... واتفقا وذا وذا تحابيا لا سيّما إن قيل ذا محبب ... بعض لبعض كوكبان كوكب وتوأم نجمان في سعد بلع ... رؤيته لكلّ ودّ قد جمع ومثله أيضا لسعد الذابح ... رؤيته لكلّ ود صالح تخبر من شئت به فيعجب ... ثم يقول كوكبان كوكب فينشأ الود بإذن الله ... بينهما فلا تكن باللاهي كف الخضيب فرقة إلى الأبد ... لكائن من كان من كلّ أحد ينظره الإنسان أو جماعه ... يفترقوا إلى قيام الساعه نجم السّها مأمنة من سارق ... ومن سموم عقرب وطارق ومن رأى عشية نجم السّها ... لم تدن منه عقرب يمسها وقيل لا يدنو إليه سارق ... في سفر ولا بسوء طارق الطخ على الحزاز دهن القمح ... مع وسخ الأسنان بعد المسح فإنه يذهب منها سعيها ... كالنار فيها ثم يوري نقيها أكو رؤوس كل ثؤلول يرى ... بعودتين قد حرقت أخضرا ومثله رؤوس قش الحلبه ... تذهب بالثؤلول منه الرعبه تخطيطك الأظفار بعد الصبح ... بكزلك عرضا مزيل القلح «1» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وطبقك الأضراس في التثاؤب ... يمنع من هذا لذي التجارب أعني عروض القلح إن تقرحت ... كذاك إن تحفّرت واصطلمت يغرغر العليل ذو الخناق ... بمرق الضبار كالتّرياق لا سيما إن شابه كشوث ... لذي الخلاط نفعه موروث ابلع من الصابون وزن درهم ... تنج من القولنج غير المحكم وامسح على الأضراس والأسنان ... لو كالها بطرف اللسان وقد حرمت الأكل من لحم الفرس ... شهرا ولا من هندبا تبغي الحرس وذاك عند رؤية الهلال ... فتأمن الأضراس من أعلال كذاك في كلّ هلال يجتلى ... فإنها مأمنة من البلا لا تغسلن ثيابك الكتانا ... ولا تصد فيها كذا حيتانا عند اجتماع النيرين تبلى ... وفي السرار فاتخذه أصلا اتخذ البرمة من زجاج ... من غير تلوين ولا علاج والنار جزل إن تشا أو فحم ... ينضج فيها اللحم ثم الشحم وكرر الطبخ بها أياما ... وأشهرا إن شئت أو أعواما وذاك سهل ليس بالعسير ... من غير تقتير ولا تكثير وتتخذ كحلا جديدا محرقا ... منعما مصولا مروقا ومثله من حجر الهنود ... ذي الخاصة الجاذبة الحديد مطيبا بالمسك طيب الإثمد ... واكحل به من شئت فرد مردود «1» ثم اكتحل منه على مر المدى ... لأنه لم يتخذ كحلا سدى واكحل المحبوب بالحديد ... يهواك في الوقت بلا مزيد فيسحر العينين منه فيرى ... وجهك شمسا باهيا أو قمرا ولا يكاد يستطيع صبرا ... عنك ولو حرقت منه الصدرا نشادر الدخان بالحمام ... ينضحه الفخار من مسام فريحه يقتل الأفاعي ... من الهوام والدبيب الساعي ووزن مثقال إذا ما شربا ... مع وزنه من الرجيع انتخبا يخلص المسموم من مماته ... من بعد يأس الأمر من حياته هذا إذا دبر بالإتقان ... بالسحق والترويق في الأواني وكلّ ما جاد بسحق فاعتبر ... وفيه يا هذا تفهم واختبر مرارة الحية سمّ قاتل ... وهي لملدوغ بها تقابل إذا سقي المسموم منها حبه ... نجا من السم بتلك الشّربه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 وإن سقي منها صحيح ماتا ... من يومه وفارق الحياتا التعبير : العقرب في المنام رجل نمام، فمن نازعته عقرب فإنه ينازع رجلا نماما، ومن أخذ عقربا في منامه، فألقاها على زوجته، فإنه يأتيها في الدبر، وإن سيبها على الناس فإنه رجل لوطي، ومن قتل عقربا خرج منه مال وعاد إليه، والعقرب في السروايل رجل فاسق، يداخل امرأة من ورائها في سروايله، ومن أكل لحم عقرب مطبوخا، فإنه يرث مالا، وإن كان نيئا اغتاب رجلا فاسقا، وكذلك كل حيوان لا يؤكل إذا أكل لحمه في المنام، والعقرب رجل يظهر ما في بطنه لسانه، والعقارب في البطن أولاد أعداء، ونزول العقرب من الدبر ولد عاق، وربما دلت رؤية العقرب على الافتتان، بمن يشبه العقرب بصدغه إذا بدا فيه الشعر، والله تعالى أعلم. العقربان: دويبة تدخل الأذن، وهي هذه الطويلة الصفراء الكثيرة القوائم، قاله ابن سيده. العقف: الثعلب. قال حميد بن ثور الهلالي: كأنه عقف تولّى يهرب ... من أكلب تعقّفهن أكلب يقال: عقفت الشيء فانعقف، أي عطفته فانعطف. العقعق: كثعلب ويسمى كندشا بالشين المعجمة، وصوته العقعقة وهو طائر على قدر الحمامة، وهو على شكل الغراب وجناحاه أكبر من جناحي الحمامة، وهو ذو لونين أبيض وأسود طويل الذنب، ويقال له القعقع أيضا. وهو لا يأوي تحت سقف ولا يستظل به بل يهيء وكره في المواضع المشرفة، وفي طبعه الزنا والخيانة، ويوصف بالسرقة والخبث والعرب تضرب به المثل في جميع ذلك، وإذا باضت الأنثى أخفت بيضها بورق الدلب خوفا من الخفاش، فإنه متى قرب من البيض مذر وفسد وتغير من ساعته. حكى الزمخشري وغيره في تفسير قوله «1» تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس شيء من الحيوان يخبأ قوته إلا الإنسان والنمل والفأر والعقعق. وعن بعضهم أنه قال: رأيت البلبل يحتكر، ويقال إن للعقعق مخابىء، إلا أنه ينساها. وفي طبعه شدة الاختطاف لما يراه من الحلي. فكم من عقد ثمين اختطفه من شمال ويمين قال الشاعر: إذا بارك الله في طائر ... فلا بارك الله في العقعق قصير الذنابي طويل الجناح ... متى ما يجد غفلة يسرق يقلب عينيه في رأسه ... كأنهما قطرتا زئبق فائدة : اختلفوا في سبب تسميته عقعقا فقال الجاحظ: لأنه يعق فراخه فيتركهم بلا طعام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 وبهذا يظهر أنه نوع من الغربان، لأن جميعها يفعل ذلك. وقيل: اشتق له هذا الاسم من صوته. الحكم : في حله وجهان: أحدهما يؤكل كغراب الزرع، والثاني يحرم وهو الأصح في الروضة تبعا للبغوي والبوسنجي. وسئل الإمام أحمد عنه فقال: إن لم يأكل الجيف فلا بأس به. وقال بعض الصحابة: إنه يأكلها فيكون على قوله محرما. فائدة : حكى الجوهري أن العرب تتشاءم به وبصياحه، لأنهم كانوا يشتقون في الطيرة مما يسمعون ويشاهدون، فكانوا إذا سمعوا العقعق اشتقوا منه العقوق، وإذا سمعوا العقاب اشتقوا منه العقوبة، وإذا رأوا شجر الخلاف، وهو الصفصاف، اشتقوا منه الخلاف. والخلاف بتخفيف اللام ضد الوفاق، وكذلك الخلاف الذي هو الصفصاف، بتخفيف اللام أيضا. وحكى الرافعي الخلاف عن الحنفية، فيمن خرج لسفر فسمع صوت عقعق فرجع، هل يكفر أم لا؟ قيل: إنه يكفر، وكذلك رأيته في فتاوى قاضي خان. قال النووي: الصحيح أنه لا يكفر عندنا بمجرد ذلك. الأمثال : قالوا: «ألص من عقعق» «1» و «أحمق من عقعق» «2» لأنه كالنعامة التي تضيع بيضها وأفراخها وتشتغل ببيض غيرها وإياها عنى هدبة بقوله: كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا الخواص : إذا جعل دماغه على قطنة، وألصق على موضع النصل، أو الشوكة الغائصين في البدن، أخرجهما بسهولة. ولحمه حار يابس رديء الكيموس. التعبير : العقعق في الرؤيا رجل لا أمان له ولا وفاء، ومن رأى أنه كلمه عقعق جاءه خبر من غائب، والعقعق رجل حكار يطلب الغلاء والله أعلم. العقيب: طائر، لا يستعمل إلا مصغرا. العكّاش: كرمّان ذكر العنكبوت عن كراع. العكرشة: بكسر العين والراء المهملتين وبالشين المعجمة في آخره، الأرنب الأنثى. وفي الحديث، أن رجلا سأل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال: عنت لي عكرشة، وأنا محرم، فقتلتها، فقال: فيها جفرة. العكرمة: بكسر العين والراء المهملتين الأنثى الحمام، وسمي بها الإنسان أيضا، كعكرمة مولى ابن عباس، أحد أوعية العلم، ولما مات مولاه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، كان عكرمة رقيقا لم يعتقه، فباعه ولده علي بن عبد الله بن عباس لخالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فقال عكرمة لعلي: بعت علم أبيك بأربعة آلاف دينار! فاستقال خالدا فأقاله ثم أعتقه. مات عكرمة وكثير عزة الشاعر في يوم واحد بالمدينة سنة خمس ومائة، وصلي عليهما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 مكان واحد. فقال الناس: مات اليوم أعلم الناس وأشعر الناس رحمهما الله تعالى. قال «1» ابن خلكان وغيره: وكثير عزة أحد شعراء العرب ومتيميها، وكان كيسانيا والكيسانية فرقة من الروافض يعتقدون إمامة محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وهو المعروف بمحمد ابن الحنفية. ويقولون: إنه مقيم بجبل رضوى، ومعه أربعون نفرا من أصحابه ولم يوقف لهم على خبر، ويقولون: إنهم أحياء يرزقون، وإنه سيرجع إلى الدنيا ويملؤها عدلا وفي ذلك يقول «2» كثير عزة: وسبط لا يذوق الموت حتى ... تعود الخيل يقدمها اللواء يغيب فلا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء «3» قلت: الصواب أنهما للحميري. قال: وكانت وفاة محمد بن الحنفية سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين من الهجرة والله تعالى أعلم. العلج: بكسر العين واسكان اللام، حمار الوحش السمين القوي، والرجل من كفار العجم، والجمع علوج واعلاج ومعلوجاء وعلجة. العل: بالفتح القراد المهزول. العلجوم: بضم العين وسكون اللام وضم الجيم الضفدع الذكر، وقيل: البطة الذكر كذا حكاه ابن سيده. العلام: بضم العين وتشديد اللام وبالميم في آخره الباشق. العلّوش: بكسر العين وفتح اللام المشددة على وزن سنور: ابن آوى والذئب ودويبة وضرب من السباع. قال ابن رشيق في كتاب الغرائب والشذوذ: قال الخليل: ليس في كلام العرب كلمة تجتمع فيها شين ولام إلا والشين قبل اللام إلا العلوش، فإن اللام فيه تقدمت على الشين وهو مفرد في الكلام. العلهان: كالكروان: الظليم وقد مر. العلس: محركة القراد الضخم، لأنه أول ما يكون قمقامة ثم يصير حمنانة ثم حلمة ثم علسا. ومن الألغاز القديمة أيجب في العلس زكاة، إذا بلغ خمسة أوسق أو أكثر منها؟ قال: لا وإذا علم بذلك الساعي أعرض عنها. العلامات: قال ابن عطية: حدثني أبي، رحمه الله تعالى، أنه سمع بعض أهل العلم بالمشرق يقول: إن في بحر الهند حيتانا طوالا رقاقا كالحيات في ألوانها وحركتها، وأنها تسمى العلامات، وذلك أنها علامات الوصول إلى بلاد الهند، وامارات النجاة من المهالك، لطول ذلك البحر وصعوبته، وأن بعض الناس قال: إنها المراد بقوله تعالى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 يَهْتَدُونَ «1» قال: وأما من شاهد تلك العلامات في البحر، فحدثني منهم عدد كثير. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: العلامات معالم الطرق بالنهار، والنجوم هداية بالليل. وقال الكلبي: هي الجبال. وقال مجاهد والنخعي: هي النجوم منها ما يسمى علامات ومنها ما يهتدى به. العلهز: بكسر العين وإسكان اللام وكسر الهاء قبل الزاي: القراد الضخم، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام، لما دعا على قريش بقوله «2» : «اللهم اجعلها عليهم سنينا كسني يوسف» ، أكلوا العلهز. وقيل: المراد به الوبر المخلوط بالدم. العلعل: كهدهد الذكر من القنابر. العلق: بفتح العين واللام دود أسود وأحمر، يكون بالماء يعلق بالبدن ويمص الدم، وهو من أدوية الحلق والأورام الدموية، لامتصاصه الدم الغالب على الإنسان. الواحدة علقة، وفي حديث عامر «3» «خير الدواء العلق والحجامة» . والعليق الشجرة التي آنس موسى عليه الصلاة والسلام منها النار، قاله ابن سيده. وقيل: إنها العوسج، والعوسج، إذا عظم، قيل له الغرقد. وفي الحديث أنه شجر اليهود، فلا ينطق، يعني إذا نزل عيسى عليه السلام، وقتل اليهود فلا يختبىء أحد منهم خلف شجرة، إلا نطقت وقالت: يا مسلم هذا يهودي خلفي فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجرهم فلا ينطق. فائدة : ذكر الثعلبي في تفسير قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «4» . عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري يعني قدس من في النار، وهو الله سبحانه وتعالى عنى به نفسه. قال: وتأويل هذا القول إنه كان فيها لا على سبيل تمكن الأجسام، بل على أنه جل وعلا نادى موسى عليه الصلاة والسلام، وأسمعه كلامه من جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها، فالشجرة مظهر لكلامه تعالى. وهو كما روي أنه مكتوب في التوراة جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، فمجيئه من سيناء بعثه موسى عليه السلام منها، واشراقه من ساعير بعثه عيسى عليه السلام منه، واستعلانه من جبال فاران بعثه المصطفى صلى الله عليه وسلم منها. وفاران مكة المشرفة، وقيل: كانت النار نوره عز وجل. وإنما ذكره بلفظ النار لأن موسى عليه السلام حسبه نارا، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر. وقال سعيد بن جبير: كانت هي النار بعينها وهي أحد حجبه تعالى. وقيل: بورك من في النار سلطانه وقدرته، وفيمن حولها، وتأويلي هذا القول، إنه عائد إلى موسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام. ومجاز الآية أن بورك من في طلب النار وقصدها، وبالقرب منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 ومعنى الآية أن بورك فيك يا موسى، وفي الملائكة الذين حول النار، وهذه تحية من الله عز وجل لموسى عليه السلام، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم عليه السلام، على ألسنة الملائكة، حين دخلوا عليه، فقالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، فحمد نفسه تعالى بواسطة فعله. قلت: وكذلك إذا ذكر العبد ربه أو حمده فما ذكر الله إلا الله، ولا حمد الله إلا الله، لأنه تعالى ذكر نفسه وحمدها، بواسطة فعله. والعبد آلة ليس له شيء. قال «1» تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وقال تعالى: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ «2» ففعل العبد ينسب إلى الله خلق وايجاد. قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ «3» وينسب إلى العبد نسبة كسب وإسناد ليعاقب عليه أو يثاب، والله تعالى أعلم. وقال بعضهم: هذه البركة راجعة إلى النار نفسها. وأما وجه قوله تعالى: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ «4» فإن العرب تقول بارك الله لك وبارك فيك وبارك عليك وباركك، أربع لغات. قال الشاعر: فبوركت مولودا وبوركت ناشئا ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب وأما الكلام المسموع من الشجرة، فاعلم أن مذهب أهل الحق، أن الله تعالى مستغن عن الحد والكلام والمكان والجهة والزمان، لأن ذلك من أمارات الحدوث، وهي خلقه وملكه، وهو سبحانه أجل وأعظم من أن يوصف بالجهات، أو يحد بالصفات، أو تحصيه الأوقات، أو تحويه الأماكن والأقطار، ولما كان جل وعلا كذلك، استحال أن توصف ذاته بأنها مختصة بجهة، أو متنقلة من مكان إلى مكان، أو حالة في مكان. روي أن موسى عليه السلام، لما كلمه الله تعالى، سمع الكلام من سائر الجهات، ولم يسمعه من جهة واحدة، فعلم بذلك أنه كلام الله تعالى. وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف تعالى بأنه يحل موضعا أو ينزل مكانا، كما لا يوصف بأنه جوهر ولا عرض، ولا يوصف كلامه بحرف ولا صوت، خلافا للحنابلة الحشوية، بل هو صفة قائمة بذاته تعالى، يوصف بها فينتفي عنه بها آفات الخرس والبكم، وما لا يليق بجلاله وكماله، ولا تقبل الانفصال والفراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق. وأما الإفهام والإسماع، فيجوز أن يكون في موضع دون موضع، ومكان دون مكان، وحيث لم يقع إحاطة ولا إدراك بالوقوف على كنه ذاته، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ «5» وأما الهاء في قوله «6» تعالى: يا مُوسى إِنَّهُ فهو عماد وليس بكناية. فائدة أخرى : اختلف في أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟ فذهب ابن عباس وابن مسعود وجعفر الصادق وأبو الحسن الأشعري وطائفة من المتكلمين إلى أنه صلى الله عليه وسلم كلم الله بغير واسطة، وذهب جماعة إلى نفي ذلك. واختلف في جواز الرؤية، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأكثر أهل السنة والسلف على جوازها فيهما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 ووقوعهما في الآخرة. واختلف العلماء من السلف والخلف في أنه هل رأى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه تعالى أم لا؟ فأنكرته عائشة وأبو هريرة وابن مسعود وجماعة من السلف، وبه قال جماعة من المتكلمين والمحدثين، وأجازه جماعة من السلف وأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة الإسراء بعيني رأسه، وهو قول ابن عباس وأبي ذر وكعب الأحبار والحسن البصري والشافعي وأحمد بن حنبل. وحكي أيضا عن ابن مسعود، وأبي هريرة، والمشهور عنهما الأول، وبهذا القول الثاني قال أبو الحسن وجماعة من أصحابه، وهو الأصح، وهو مذهب المحققين من السادة الصوفية. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اختص موسى بالكلام، وابراهيم بالخلة ومحمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية. وذهب جماعة من العلماء إلى الوقف، وقالوا: ليس عليه دليل قاطع نفيا ولا إثباتا، ولكنه جائز عقلا. وصححه القرطبي وغيره. قلت: رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة جائزة بالأدلة العقلية والنقلية، أما العقلية فمعروفة في علم الكلام، وأما النقلية فمنها سؤال موسى عليه السلام رؤية الله تعالى. ووجه التمسك بذلك علم موسى بذلك، ولو علم استحالة ذلك لما سأله، ومحال أن يجهل موسى جواز ذلك، إذ يلزم منه أن يكون مع علو منصبه في النبوة وانتهائه إلى أن اصطفاه الله تعالى على الناس، وأسمعه كلامه بلا واسطة جاهلا بما يجب لله ويستحيل عليه ويجوز، وملتزم هذا كافر. نعوذ بالله من اعتقاد ذلك. ومنها امتنانه تعالى على عباده بالنظر إلى وجهه في الدار الآخرة بقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» وإذا جاز أن يروه في الدار الآخرة، جاز أن يروه في الدنيا لتساوي النظر بالنسبة إلى الأحكام. ومنها ما تواترت به الأحاديث من أخباره صلى الله عليه وسلم برؤية الله تعالى في الدار الآخرة، ووقوع ذلك كرامة للمؤمنين. فهذه الأدلة دالة على جواز رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة. وأما استدلال عائشة رضي الله تعالى عنها على عدم الرؤية بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «2» ففيه بعد إذا يقال بين الإدراك والابصار فرق، فيكون معنى لا تدركه الأبصار، أي لا تحيط به مع أنها تبصره. قاله سعيد بن المسيب وغيره وقد نفى الإدراك مع وجود الرؤية، في قوله تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قالَ كَلَّا «3» أي لا يدركونكم. وأيضا فإن الإبصار عموم، وهو قابل للتخصيص فيختص المنع بالكافرين، كما قال تعالى عنهم: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «4» ويكرم المؤمنين أو من شاء الله منهم بالرؤية كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «5» وبالجملة فالآية ليست نصا ولا من الظواهر الجلية في عدم جواز الرؤية، فلا حجة فيها والله أعلم. ولهذه المسألة أسرار وأغوار تركناها، لأن ذلك ليس من مقصود الكتاب، فمن أراد تحقيق هذه المسألة وغيرها من المسائل المهمة فعليه بكتابنا الجوهر الفريد، فإنا ذكرنا فيه اختلاف الفرق، وأقوال علماء الظاهر والباطن، وما اخترناه وما أيدناه وهو كتاب مهم عمدة في هذا الشأن، لا يستغني عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 طالب، وهو في ثمان مجلدات ضخمة جدا وبالله التوفيق. فائدة أخرى : قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ «1» هذه السورة أول ما نزل من القرآن كما ثبت في الصحيحين، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها. قيل: وجه المناسبة بين الخلق من علق، والتعليم بالقلم، وتعليم العلم، أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة وأعلاها كونه عالما، فكأنه سبحانه وتعالى امتن على الإنسان، بنقله من أخس المراتب، وهي العلقة، إلى أعلاها، وهي العلم. قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال: من علق وإنما خلق من علقة واحدة، كقوله تعالى من نطفة ثم من علقة؟ قلت: لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «2» والأكرم هو الذي له الكمال في زيادة تكرمه على كل كريم، ينعم على عباده النعم التي لا تحصى، ويحلم عليهم فلا يعاجلهم بالعقوبة، مع كفرهم وجحودهم لنعمه، وركوبهم المناهي، وإطراحهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقترافهم العظائم. فما لكرمه غاية ولا أمد، وكأنه ليس وراء التكرم بافادة الفوائد العظيمة تكرم، حيث قال: الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ «3» فدل على كمال كرمه، بأنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل الكتابة، لما فيها من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو. وما دونت العلوم الأول، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة. ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به. فائدة أخرى : سئل شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى عن العلقة السوداء، التي أخرجت من قلب النبي صلى الله عليه وسلم في صغره، حين شق فؤاده، وقول الملك هذا حظ الشيطان منك، فأجاب بقوله: تلك العلقة خلقها الله تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها، فأزيلت من قلبه عليه الصلاة والسلام فلم يبق فيه مكان قابل لأن يلقي الشيطان فيه شيئا. هذا معنى الحديث ولم يكن للشيطان فيه صلى الله عليه وسلم حظ قط، وإنما الذي نفاه الملك أمر هو في الجبلات البشرية، فأزيل القابل الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في قلبه عليه الصلاة والسلام. فقيل له: لم خلق الله هذا القابل في هذه الذات الشريفة، وكان يمكنه أن لا يخلقه فيها؟ فقال: لأنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقه تكملة للخلق الإنساني فلا بد منه ونزعه كرامة ربانية طرأت بعده انتهى. الحكم : يحرم أكل العلق ويجوز بيعه لما فيه من المنفعة ويستثنى بيع القرمز من عدم جواز بيع الحشرات كما تقدم. فرع : العلقة فيها وجهان: أحدهما أنها نجسة لأنها دم خارج من الرحم كالحيض. والثاني أنها طاهرة، لأنها دم غير مسفوح، فهي كالكبد والطحال، نقله أبو حامد عن الصيرفي، وصرح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 بتصحيحه الشيخ أبو حامد والمحاملي والرافعي في المحرر، وهو الأصح كما صرح به في المنهاج. والعلقة هي المني إذا استحال في الرحم، فصار دما غليظا، فإذا استحال بعد، فصار قطعة لحم فهو مضغة. قال النووي، في شرح المهذب: إن المذهب القطع بطهارة المضغة. وقيل: على وجهين. والصواب خلاف ما في شرح المهذب، لأن المضغة إما كميتة الآدمي، وفيها قولان في الجديد، أو كجزئه المنفصل، وفيه طريقان: حاكية للخلاف وقاطعة بالنجاسة. وحكى الرافعي فيها وجهين أصحهما الطهارة. نعم يشترط في المضغة والعلقة على قاعدة الرافعي أن يكونا من الآدمي، فإن مني غيره نجس عنده، فالعلقة والمضغة أولى بالنجاسة من المني، ويدل عليه تردده في المنهاج، في نجاستهما مع جزمه فيه بطهارة المني. قال شيخنا: ولك أن تمنع كونهما أولى بالنجاسة من المني بأنهما صارا أقرب إلى الحيوانية منه وهو أقرب إلى الدموية منهما والله تعالى أعلم. الأمثال : قالوا: «أعلق من العلق» . الخواص : العلق ينفع تعليقا على صاحب الأعضاء الضعيفة التركيب، مثل الآماق والوجنات والمواضع المؤلمة، لأنها تقوم مقام الحجامة، في امتصاصها الدم الفاسد، لا سيما في الأطفال والنساء وأهل الرفاهية. وهي تمص الدم الفاسد من الأجفان وغيرها. وربما كان العلق في الماء فيشربه الإنسان فينشب بحلقه. وطريق إخراجه من الحلق أن يبخر بوبر الثعلب، فإذا أصابه دخانه سقط في الحال. وكذلك إذا بخر بظلف الإبل يموت، مجرب، ذكر ذلك في المنتخب. وقال القزويني وصاحب الذخيرة الحميدة: إذا كان العلق في الحلق، يتغرغر بخل خمر، وبوزن درهم من الذباب الذي في الباقلاء، فإن العلق يسقط. وإذا أرادوا إخراج دم من موضع مخصوص، أخذوا هذا الدود في قطعة طين، وقربوه من العضو، فإنه ينشب به ويمص الدم منه، فإذا أرادوا سقوطه عنه، رشوا عليه ماء الملح، فإنه يسقط في الحال. وقال صاحب عين الخواص: إذا يبس العلق في الظل، وسحق مع نشادر وطلي به موضع داء الثعلب، نبت الشعر عليه. وقال غيره: إذا بخر البيت بالعلق، هرب ما فيه من البق والبعوض وأمثالهما. وإذا ترك العلق في قارورة حتى يموت، ثم يسحق ويفتت الشعر ويطلى به، فإنه لا ينبت أبدا. ومن الخواص المجربة النافعة أن تؤخذ العلق الكبار، التي تكون في الأنهار والأماكن الندية فتقلى بالزيت الطيب، ثم تسحق بالخل حتى تصير مثل المرهم، وتؤخذ في صوفة ويتحمل بها صاحب البواسير فيبرأ. وقيل: إنه يبرىء من القطى. ومن خواصه العجيبة أنه إذا بخر به حانوت زجاج تكسر جميع ما فيه. وإذا أخذ العلق وهو رطب ودهن به الإحليل، فإنه يكبر من غير وجع. التعبير : العلق في الرؤيا بمنزلة الدود، وهم أولاد لقوله «1» تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ فمن رأى علقة دم خرجت من أنفه، أو ذكره أو دبره أو بطنه أو فمه، فإن امرأته تسقط ولدا قبل كمال خلقه. وقيل: العلق والقراد والدلم والنمل وما أشبه ذلك، تدل على الأعداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 والحساد الأخساء. ومن الرؤيا المعبرة أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، أتاه رجل فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيت كأن في يدي كيسا، وأنا أفرغ ما فيه حتى لم يبق فيه شيء، فخرج منه علقة، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أخرج من بين يدي فخرج من بين يديه ومشى خطوات فرمحته دابة فقتلته، فأخبر بذلك أبو بكر فقال: والله ما وددت أن يموت بين يدي، فنزل الكيس بمنزلة الآدمي، والدراهم بمنزلة العمر، والعلقة بمنزلة الروح، لقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ «1» والله تعالى أعلم. العلهب: تيس الجبل. كذا قاله صاحب كتاب المداخل في اللغة أحمد بن يحيى. العمروس: بضم العين الخروف، والجمع عماريس. قال الشاعر: وكان كذئب السوء إذ قال مرة ... لعمروسة والذئب غرثان مرمل أأنت التي من غير ذنب شتمتني ... فقالت: متى ذا؟ قال: ذا عام أول فقالت: ولدت الآن بل رمت غدرة ... فدونك كلني لا هنا لك مأكل العملّس: بفتح العين والميم وتشديد اللام، الذئب الخبيث والكلب الخبيث. وأما قولهم: «أبر من العملس» «2» فإنه رجل كان بارا بأمه، يحملها على عاتقه، ويحج بها على ظهره كل سنة، فضربوا به المثل، ليتأسى به البنون في بر الأمهات. وأشرت إلى ذلك في المنظومة بقولي: وضربوا الأمثال بالعملّس ... في البركى به البنون تأتسي العميثل: الأسد، قاله أبو زيد، في كتاب الإبل، وبه كني عبد الله بن خليد الشاعر البليغ، وكان يفخم الكلام ويعربه، وكان كاتب عبد الله بن طاهر «3» وشاعره. وكان عارفا باللغة فمن شعره في عبد الله المذكور: يا من يحاول أن تكون صفاته ... كصفات عبد الله انصت واسمع فلأنصحنّك في المشورة والذي ... حجّ الحجيج إليه فاسمع أو دع اصدق وعفّ وبر واصبر واحتمل ... واصفح وكاف ودار واحلم واشجع والطف ولن وتأنّ وارفق واتئد ... واحزم وجد وحام واحمل وادفع فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي ... وهديت للنهج الأسدّ المهيع وقبّل يوما كف عبد الله بن طاهر، فاستخشن مس شاربه، فقال أبو العميثل في الحال: شوك القنفذ لا يؤلم كف الأسد، فأعجبه كلامه وأمر له بجائزة سنية. وصنف أبو العميثل كتبا مفيدة في كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، وكانت وفاته سنة أربعين ومائتين. وقال الأصمعي: العميثل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 الذيال بذنبه. وقال الخليل: العميثل البطيء الذي يسيل ثيابه كالوادع الذي يكفي العمل انتهى. العناق: الأنثى من ولد المعز والجمع أعنق وعنوق. روي عن الأصمعي أنه قال: بينا أنا أسير في طريق اليمن، إذا أنا بغلام واقف في الطريق، في أذنيه قرطان، في كل قرط جوهرة، يضيء وجهه من ضوء الجوهرة، وهو يمجد ربه بأبيات من الشعر وهي هذه: يا فاطر الخلق البديع وكافلا ... رزق الجميع سحاب جودك هاطل يا مسبغ البرّ الجزيل ومسبل ... الستر الجميل عميم طولك طائل «1» يا عالم السرّ الخفي ومنجز ... الوعد الوفي قضاء حكمك عادل عظمت صفاتك يا عظيم فجلّ أن ... يحصي الثناء عليك فيها قائل الذنب أنت له بمنّك غافر ... ولتوبة العاصي بحلمك قابل ربّ يربي العالمين ببره ... ونواله أبدا إليهم واصل تعصيه وهو يسوق نحوك دائما ... ما لا تكون لبعضه تستاهل متفضل أبدا وأنت لجوده ... بقبائح العصيان منك تقابل وإذا دجا ليل الخطوب وأظلمت ... سبل الخلاص وخاب فيها الآمل وأيست من وجه النجاة فما لها ... سبب ولا يدنو لها متناول يأتيك من ألطافه الفرج الذي ... لم تحتسبه وأنت عنه غافل يا موجد الأشياء من ألقى إلى ... أبواب غيرك فهو غرّ جاهل ومن استراح بغير ذكرك أو رجا ... أحدا سواك فذاك ظلّ زائل رأي يلم إذا عرته ملمة ... بسوى جنابك فهو رأي مائل عمل أريد به سواك فإنه ... عمل وإن زعم المرائي باطل وإذا رضيت فكل شيء هيّن ... وإذا حصلت فكل شيء حاصل أنا عبد سوء آبق كلّ على ... مولاه أوزار الكبائر حامل قد أثقلت ظهري الذنوب وسوّدت ... صحفي العيوب وستر عفوك شامل ها قد أتيت وحسن ظني شافعي ... ووسائلي ندم ودمع سائل فاغفر لعبدك ما مضى وارزقه تو ... فيقا لما ترضى ففضلك كامل وافعل به ما أنت أهل جميله ... والظنّ كلّ الظن أنك فاعل قال: فدنوت منه وسلمت عليه فقال: ما أنا براد عليك حتى تؤدي من حقي الذي يجب لي عليك! قلت: وما حقك؟ قال: أنا غلام على مذهب ابراهيم الخليل عليه السلام، لا أتغدى ولا أتعشى كل يوم، حتى أسير الميل والميلين في طلب الضيف. فأجبته إلى ذلك، فرحب بي، وسرت معه حتى قربنا من خيمته، فصاح: يا أختاه فأجابته جارية من الخيمة بالبكاء، فقال: قومي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 إلى ضيفنا فقالت الجارية: حتى أبدأ بشكر الله الذي ساق لنا هذا الضيف، ثم قامت فصلت ركعتين شكرا لله تعالى. قال: فأدخلني الشاب الخيمة، وأجلسني ثم أخذ الغلام الشفرة وعمد إلى عناق فذبحها، قال: فلما جلست في الخيمة، نظرت إلى الجارية، فإذا هي أحسن الناس وجها، فكنت أسارقها النظر، ففطنت لبعض لحظاتي إليها، فقالت لي: مه أما علمت أنه نقل عن صاحب طيبة عليه السلام، أنه قال: إن زنا العينين النظر، أما إني ما أردت بهذا أن أوبخك، ولكني أردت أن أؤدبك لكي لا تعود إلى مثل هذا. قال: فلما كان النوم بت أنا والغلام خارج الخيمة، وباتت الجارية من داخلها، فكنت أسمع دوي القرآن إلى السحر، بأحسن صوت يكون وأرقه، ثم سمعت أبياتا بهذا من الشعر بأعذب لفظ، وأشجى نغمة وهي هذه: أبى الحبّ أن يخفى وكم قد كتمته ... فأصبح عندي قد أناح وطنبا «1» إذا اشتدّ شوقي هام قلبي بذكره ... وإن رمت قربا من حبيبي تقربا ويبدو فأفنى ثم أحيا بذكره ... ويسعدني حتى ألذّ وأطربا قال: فلما أصبحت قلت للغلام: صوت من كان ذلك؟ قال: تلك أختي، وهذا شأنها كل ليلة، فقلت: يا غلام كنت أنت أحق بهذا العمل من أختك، إذ أنت رجل وهي امرأة. قال: فتبسم وقال: ويحك أما علمت أنه موفق ومخذول ومقرب ومبعد! قال الأصمعي: فودعتهما وانصرفت. وحكمها : الحل، وتفدى بها الأرنب إذا قتلها المحرم لقضاء الصحابة بذلك. ولا تجزىء في الأضحية لما روى الشيخان وغيرهما عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى، بعد الصلاة، فقال «2» : «من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له» . فقال أبو بردة بن نيار، وهو خال البراء بن عازب: يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، فأحببت أن تكون شاتي أول شاة تذبح في بيتي، فذبحتها وتغديت قبل أن أتي الصلاة. فقال صلى الله عليه وسلم: «شاتك شاة لحم» . قال: يا رسول الله فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين أفتجزىء عني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم ولن تجزىء عن أحد بعدك» «3» . ووقع في أصل الروضة، أن العناق الأنثى من المعز، من حين تولد إلى أن ترعى. والجفرة الأنثى من ولد المعز حين تفطم وتفصل عن أمها، فتأخذ في الرعي وذلك بعد أربعة أشهر. والذكر جفر. وقال في لغات التنبيه ودقائق المنهاج: العناق الأنثى من ولد المعز ما لم تستكمل سنة. ونقل مثل هذا عن الأزهري، في تهذيب الأسماء واللغات، وكلام الأزهري لا يوافق ذلك. وروى «4» الحاكم بإسناد صحيح، وأبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب، عن قيس بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 النعمان رضي الله تعالى عنه، قال: لما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله تعالى عنه مستخفيين، مرا بعبد يرعى غنما فاستسقياه من اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء وما بقي لها لبن. قال صلى الله عليه وسلم: «ادع بها» . فاعتقلها صلى الله عليه وسلم ومسح ضرعها حتى أنزلت. وجاء أبو بكر بمجن فحلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب صلى الله عليه وسلم. فقال الراعي: بالله من أنت فو الله ما رأيت مثلك قط؟ قال: «أو تراك تكتم علي حتى أخبرك» قال: نعم. قال: «فإني محمد رسول الله» . قال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابىء؟ قال: «إنهم ليقولون ذلك» . قال: أشهد أنك نبي، وأن ما جئت به حق، وأنا متبعك. قال صلى الله عليه وسلم: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا» . خاتمة : روى أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد، وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، قال: وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق كقطام، وكانت صديقة له، وإنه كان واعد رجلا من الأسارى بمكة، أن يأتيه فيحمله، قال: فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة، في ليلة مقمرة، قال: فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إلي، قالت: مرثد؟ قلت: مرثد. قالت: مرحبا وأهلا وسهلا هلم فبت عندنا الليلة. فقلت: يا عناق قد حرم الله الزنا. قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراركم. قال: فتبعني ثمانية رجال، وسلكت الخندمة، فانتهيت إلى غار أو كهف، فجاؤوا حتى وقفوا على رأسي وبالوا، فظل بولهم ينزل على رأسي وأعماهم الله عني. فرجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت به إلى الأذخر، ففككت عنه أكبله، وجعلت أحمله ويعييني، حتى قدمت به المدينة، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناق؟ فأمسك ولم يرد علي شيئا حتى نزلت: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ «1» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مرثد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ «2» فلا تنكحها» . قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة، إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها صحيح لا ينفسخ. وقال الشافعي رحمه الله تعالى: قال عكرمة: معنى الآية أن الزاني لا يريد ولا يقصد إلا نكاح زانية. قال: والأشبه ما قاله سعيد بن المسيب أن هذه الآية منسوخة، نسخها قوله «3» تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وهي من أيامى المسلمين. الأمثال : قالوا «4» : «لا تنفط في هذا الأمر عناق» . أي لا تعطس، والنفيط من العناق مثل العطاس من الإنسان. وهو كقولهم: «لا ينتطح فيها عنزان» «5» . وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله. عناق الأرض: دويبة أصغر من الفهد طويل الظهر يصيد كل شيء حتى الطير، وهو التفه الذي تقدم ذكره، في باب التاء المثناة فوق. وقال في نهاية الغريب: قال قتادة: عناق الأرض من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الجوارح دابة وحشية أكبر من السنور، وأصغر من الكلب، والجمع عنوق. يقال في المثل «1» : «لقي عناق الأرض وأدنى عناق أي داهية» . يريد أنها من الحيوان الذي يصاد به إذا علم. العنبس: الأسد، وبه سمي الرجل وهو فنعل من العبوس. والعنابس من قريش أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر، وهم ستة: حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو وسموا بالأسد والباقون يقال لهم الأعياص. العنس: الناقة القوية الصلبة ويقال هي التي اعنونس ذنبها، أي وفر. قاله الجوهري. والعنسة أيضا اسم للأسد علم مشتق من العنوس قاله ابن سيده. العنبر: سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلودها الترس. ويقال للترس عنبر. وقد تقدم ذكرها في باب الباء الموحدة. روى «2» البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر علينا أبا عبيدة، نلتقي عيرا لقريش، وزودنا جرابا فيه تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يطعمنا تمرة تمرة، قال: فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله. فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا شيء كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر. قال: فقال أبو عبيدة: إنها ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهرا، ونحن ثلاثمائة، حتى سمنا، يعني تقوينا، وزال ضعفنا، وإلا فما كانوا سمانا قط، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيها بالقلال الدهن ونقتطع القطعة قدر التور. ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في عينها، وأخذ ضلعا من أضلاعها فأقامه، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمها. فلما قدمنا المدينة، أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ذلك له فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه فتطعمونا» ؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. وسرية أبي عبيدة هذه يقال لها سرية الخبط. وكانت في رجب سنة ثمان من الهجرة، وكان فيها عمر بن الخطاب وقيس بن سعد مع أبي عبيدة رضي الله تعالى عنهم. وحديثها رويناه في الغيلانيات وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة رضي الله تعالى عنه، في سرية فيها المهاجرون والأنصار، ثلاثمائة رجل إلى ساحل البحر، إلى حي من جهينة، فأصابهم جوع شديد، فقال قيس بن سعد: من يشتري مني تمرا بجزور، يوفيني الجزور ههنا، وأوفيه التمر بالمدينة؟ فجعل عمر يقول: وا عجبا لهذا الغلام لا مال له يدين في مال غيره! فوجد رجلا من جهينة، فقال له قيس: يعني جزورا أوفيكه وسقا من تمر المدينة. فقال الجهني: والله ما أعرفك، فمن أنت؟ فقال: أنا ابن سعد بن عبادة بن دليم. فقال الجهني: ما أعرفني بنسبك، وذكر كلاما، فابتاع منه خمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 جزائر، كل جزور بوسق من تمر، يشترط عليه البدوي تمر ذخيرة مصلبة من تمر آل دليم، فيقول قيس: نعم. قال: فاشهد لي قال: فأشهد له نفرا من الأنصار، ومعهم نفر من المهاجرين. قال قيس: إنما أشهد من تحب، وكان فيمن أشهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال عمر: ما أشهد على هذا بدين، ولا مال له، إنما المال لأبيه، فقال الجهني: والله ما كان سعد ليبخس في وسقة من تمر، وإني أرى وجها حسنا وفعالا شريفة. فكان بين عمر وقيس كلام، حتى أغلظ عمر لقيس، ثم أخذ الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة، كل يوم جزورا، فلما كان اليوم الرابع، نهاه أميره وقال له: أتريد أن تحفر ذمتك ولا مال لك؟ قال: فأقبل أبو عبيدة ومعه عمر، فقال: عزمت عليك أن لا تنحر، فقال قيس: يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت يقضي ديون الناس، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، ولا يقضي عني وسقة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل الله؟ فكاد أبو عبيدة أن يلين له، وجعل عمر يقول: اعزم عليه، فعزم عليه وبلغ سعدا ما أصاب القوم من المجاعة فقال: إن يكن قيس كما أعرف، فسينحر للقوم، فلما قدم قيس لقيه سعد فقال: ما صنعت في مجاعة القوم؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نحرت. قال: أصبت، ثم ماذا؟ قال: نهيت. قال: ومن نهاك؟ قال: أبو عبيدة أميري. قال: ولم؟ قال: زعم أنه لا مال لي، وإنما المال لأبيك! فقلت: إن أبي يقضي عن الأباعد، ويحمل الكل، ويطعم في المجاعة، ولا يصنع هذا بي؟ قال: تلك أربع حوائط أدناها حائطا نجذ منه خمسين وسقا. قال: وقدم البدوي مع قيس فأوفاه وسقته، وحمله وكساه. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من فعل قيس فقال: «إنه من قلب جود» . والعنبر المشموم، قيل: إنه يخرج من قعر البحر، يأكله بعض دوابه لدسومته، فيقذفه رجيعا، فيوجد كالحجارة الكبار، فيطفو على الماء، فتلقيه الريح إلى الساحل، وهو يقوي القلب والدماغ، نافع من الفالج واللقوة والبلغم الغليظ. وقال ابن سيده: العنبر يخرج من البحر، وأجوده الأشهب ثم الأزرق ثم الأصفر ثم الأسود. قال: وكثيرا ما يوجد في أجواف السمك الذي يأكله ويموت. وزعم بعض التجار أن بحر الزنج يقذفه كجمجمة الإنسان، وأكبرها وزنه ألف مثقال. وكثيرا ما تأكله الحيتان فتموت، والدابة التي تأكله تدعى العنبر. الحكم : قال الماوردي والروياني في كتاب الزكاة: لا زكاة في العنبر والمسك. وقال أبو يوسف: فيهما الخمس. وقال الحسن وعمر بن عبد العزيز وعبد الله العنبري واسحاق: يجب الخمس في العنبر. واحتج الشافعي عليهم بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في العنبر، إنما هو شيء دسره البحر، أي لفظه، وليس بمعدن حتى يجب فيه الخمس. وروي عنه صريحا أنه قال: لا زكاة فيه. وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العنبر ليس بغنيمة» ، وهذا ينفي وجوب الزكاة فيه. قالا، أي الماوردي والروياني: وأكثر الفقهاء على أن العنبر طاهر، وقال الشافعي: سمعت من قال: رأيت العنبر نابتا في البحر، ملتويا مثل عنق الشاة. وقيل: إن أصله نبت في البحر وله رائحة ذكية. وفي البحر دويبة تقصده لذكاء رائحته، وهو سمها، فتأكله فيقتلها ويلفظها البحر، فيخرج العنبر من بطنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 وقالا في كتاب السلم: يجوز السلم في العنبر، ولا بد من بيان أنواعه ووزنه، فالعنبر منه الأشهب والأبيض والأخضر والأسود ولا يجوز حتى يسمى ذلك. وقال الشافعي: يجوز بيع العنبر، وقال أهل العلم به: إنه نبات والنبات لا يحرم منه شيء. قال: وحدثني بعضهم، أنه ركب البحر فوقع إلى جزيرة فيه، فنظر إلى شجرة مثل عنق الشاة، فإذا ثمرها عنبر، قال: فتركناه حتى يكبر ثم نأخذه، فهبت الريح فألقته في البحر. قال الشافعي: والسمك ودواب البحر تبتلعه أول ما يقع منه، لأنه لين، فإذا ابتلعته قلما تسلم منه إلا قتلها لفرط الحرارة فيه، فإذا أخذ الصياد السمكة، وجده في بطنها فيقدر أنه منها، وإنما هو ثمر نبت. وأما خواصه : فقال المختار بن عبدون: العنبر حار يابس، وهو دون المسك، وأجوده الأشهب الخفيف الدسم، وهو يقوي القلب والدماغ، ويزيد في الروح وينفع من الفالج واللقوة والبلغم الغليظ، ويولد شجاعة، لكنه يضر من اعتاده الباسور، وتدفع مضرته بالكافور وشم الخيار. ويوافق الأمزجة الباردة الرطبة والمشايخ، وأجوده ما استعمل في الشتاء. قالوا: والعنبر جماجم أكبرها ألف مثقال، تبرز من عيون في البحر وتطفو على الماء، فيسقط عليها الطير فتأكلها فتهلك. وقيل: إنه روث دابة، وقيل: إنه من غثاء البحر، وأجوده الأشهب وضده الخمري وله زهومة لابتلاع السمك، ويتصفى منه عند عمله رمل والله تعالى أعلم. العنتر: الذباب الأزرق، وقيل: مطلق الذباب. وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، في حديثه الطويل المشتمل على كرامات ظاهرة للصديق رضي الله تعالى عنه، ومعناه أن الصديق ضيف جماعة، وأجلسهم في محله، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأخر رجوعه، فلما رجع قال: أعشيتموهم؟ قالوا: لا. فأقبل على ابنه عبد الرحمن وقال: يا عنتر، فجدع وسب ومعناه دعا عليه بقطع الأنف ونحوه. وجاء يا عنيتر مصغرا شبهه بذلك تحقيرا له، وقيل: شبهه بالذباب الأزرق لشدة أذاه. وروي بالغين المعجمة وبالثاء المثلثة وهو الأكثر، ومعناه: يا لئيم. وعنترة اسم رجل وهو عنترة بن شداد بن معاوية العبسي، وهو أحد فرسان العرب وشعرائها ومتيميها، وهو من أبطال الجاهلية، ويضرب المثل بشجاعته. قال سيبويه: نون عنترة ليست زائدة. العندليب: الهزار بفتح الهاء، والجمع العنادل لأنك ترده إلى الرباعي ثم تبني منه الجمع والتصغير، والبلبل يعندل إذا صوت. وما أحسن قول «1» أبي سعيد المؤيد بن محمد الأندلسي الشاعر المجيد في وصف طنبور: وطنبور مليح الشكل يحكي ... بنغمته الفصيحة عندليبا روى لما ذوى نغما فصاحا ... حواها في تقلبه قضيبا كذا من عاشر العلماء طفلا ... يكون إذا نشأ شيخا أديبا ومن محاسن شعره قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 أحبّ العذول لتكراره ... حديث الحبيب على مسمعي وأهوى الرقيب لأنّ الرقيب ... يكون إذا كان حبي معي ومما يستجاد من محاسن شعره أيضا: احذر صديقا ما ذقا ... مزج المرارة بالحلاوة يحصي الذنوب عليك ... أيام الصداقة للعداوة وما أحسن قوله: ونهاية الدنيا وغاية أهلها ... ملك يزول وستر قوم يهتك تحلو فتعقب غصة ومرارة ... وتحب وهي بنا تصول وتفتك وكانت وفاته سنة سبع وخمسين وخمسمائة. وحكمه : حل الأكل لأنه من الطيبات. وهو في الرؤيا يدل على ولد ذكي والله أعلم. العندل: البعير الضخم الرأس يستوي فيه الذكر والأنثى. العنز: الأنثى من المعز، والجمع أعنز وعنوز. روى البخاري وأبو داود، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، من عامل يعمل بخصلة منها، رجاء ثوابها، وتصديقا بموعودها، إلا أدخله الله الجنة» «1» ، قال حسان بن عطية الراوي، عن أبي كبشة: فعددنا ما دون منيحة العنز من رد السلام، وتشميت العاطس، واماطة الأذى عن الطريق، ونحوه، فما استطعنا أن نصل إلى خمس عشرة خصلة. قال ابن بطال: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخصال في الحديث. ومعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان عالما بها لا محالة، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يذكرها لمعنى هو أنفع لنا من ذكرها، وذلك والله أعلم، خشية أن يكون التعيين لها، زهدا في غيرها، من أبواب المعروف وسبل الخير. وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام، من الحث والحض على أبواب من الخير والبر، ما لا يحصى كثرة. قال: وقد بلغني عن بعض أهل عصرنا، أنه تتبعها في الأحاديث، فوجدها تزيد على أربعين خصلة ثم ذكرها إلى آخرها. قلت: وتشميث العاطس بالشين المعجمة وبالسين المهملة، فالأول إشارة إلى جمع الشمل، لأن العرب تقول: أشمتت الإبل، إذا اجتمعت في المرعى، وقيل: معناه الدعاء لشوامته، وهو اسم للأطراف، والثاني إشارة إلى أن يرزق السمت الحسن. قلت: وقد روى صاحب الترغيب والترهيب، في باب قضاء حوائج المسلمين، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للمسلم على أخيه المسلم ثلاثون حقا لا براءة له منها إلا بالأداء أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 العفو يغفر زلته ويرحم عبرته ويستر عورته ويقيل عثرته ويقبل معذرته ويرد غيبته ويديم نصيحته ويحفظ خلته ويرعى ذمته ويعود مرضته ويشهد منيته ويجيب دعوته ويقبل هديته ويكافىء صلته ويشكر نعمته ويحسن نصرته ويحفظ حليلته ويقضي حاجته ويشفع مسألته ويقبل شفاعته ولا يخيب مقصده ويشمت عطسته وينشد ضالته ويرد سلامه ويطيب كلامه ويزيد إنعامه ويصدق أقسامه وينصره ظالما أو مظلوما، أما نصره ظالما فيرده عن ظلمه، وأما نصره مظلوما فيعينه على أخذ حقه، ويواليه ولا يعاديه ويسلمه ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه» ، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئا فيطالبه به يوم القيامة» . ثم قال علي رضي الله تعالى عنه: إن أحدكم ليدع تشميت أخيه إذا عطس، فيطالبه به يوم القيامة فيقضى له عليه. فهذه مع ما عده حسان بن عطية يجتمع منها أكثر من أربعين خصلة. فائدة : روى أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبري، في كتاب الدعوات، باسناده عن سويد بن غفلة، قال: أصابت علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فاقة فقال لفاطمة رضي الله تعالى عنها: لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فاتته وكان عند أم أيمن فدقت الباب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم أيمن: «إن هذا الدق لدق فاطمة، ولقد أتتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها فقومي فافتحي لها الباب» . قال: فقامت أم أيمن ففتحت لها الباب، فلما دخلت قال صلى الله عليه وسلم: «يا فاطمة لقد أتيتنا في ساعة ما عودتنا أن تأتينا في مثلها» . فقالت: يا رسول الله هذه الملائكة طعامها التسبيح والتحميد والتقديس، فما طعامنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي بعثني بالحق ما اقتبس في آل محمد نار منذ ثلاثين يوما، وقد أتتنا أعنز فإن شئت أمرت لك بخمسة أعنز، وإن شئت علمتك خمس كلمات علمنيهن جبريل آنفا» . قالت: بل علمني الخمس التي علمك جبريل. قال صلى الله عليه وسلم: «قولي يا أول الأولين، ويا آخر الآخرين، ويا ذا القوة المتين، ويا راحم المساكين، ويا أرحم الراحمين» . قال: فانصرفت حتى دخلت على علي بن أبي طالب، فقالت: ذهبت من عندك إلى الدنيا فأتيتك بالآخرة، وذكرت له ذلك، فقال: خير أيامك خير أيامك. وفي كتاب صفوة التصوف للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، أن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا جابر هؤلاء الأعنز إحدى عشرة عنزا في الدار أحب إليك أم كلمات علمنيهن جبريل آنفا يجمعن لك خير الدنيا والآخرة» ؟ فقال: يا رسول الله، والله إني لمحتاج، وهذه الكلمات أحب إلي فقال صلى الله عليه وسلم: «قل اللهم إنك البر خلاق عليم، اللهم إنك عفور حليم، اللهم إنك تواب رحيم، اللهم إنك رب العرش العظيم، اللهم إنك الجواد الكريم، اغفر لي وارحمني واجبرني ووفقني وارزقني واهدني ونجني وعافني واسترني ولا تضلني وأدخلني الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين» . قال: فطفق يرددهن حتى حفظتهن. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «يا جابر استبقهن معك» . قال: فاستبقتهن معي. وفي تفسير القشيري وغيره، أن ابراهيم عليه الصلاة والسلام لما هاجر بولده اسماعيل وأمه هاجر إلى مكة، مر على قوم من العماليق، فوهبوا لإسماعيل عليه الصلاة والسلام عشرة أعنز، فجميع أعنز مكة من نسلها. وهذا نظير ما تقدم في حمام الحرم، وأنه من نسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 الحمامتين اللتين عششتا على النبي صلى الله عليه وسلم في الغار. فائدة أخرى : قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينتطح فيها عنزان» «1» . والسبب في ذلك أن امرأة من خطمة، كان يقال لها عصماء بنت مروان من بني أمية، كانت تحرض على المسلمين وتؤذيهم، وتقول الشعر، فجعل عمير بن عدي عليه نذرا لله عز وجل لئن رد الله رسوله سالما من بدر ليقتلنها. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر، عدا عليها عمير في جوف الليل فقتلها، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم معه الصبح، فلما قام صلى الله عليه وسلم ليدخل مجلسه، قال لعمير بن عدي: «أقتلت عصماء» ؟ قال: نعم فهل علي في قتلها من شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينتطح فيها عنزان» . فأول ما سمعت هذه الكلمة منه صلى الله عليه وسلم، وهي من الكلام الموجز البديع المفرد الذي لم يسبق إليه. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «حمي الوطيس «2» ، ومات حتف أنفه، ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين «3» ، ويا خيل الله اركبي، والولد للفراش وللعاهر الحجر «4» ، وكل الصيد في جوف الفرا «5» ، والحرب خدعة «6» ، وإياكم وخضراء الدمن «7» ، وان مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا «8» أو يلم، والأنصار كرشي وعيبتي «9» ، ولا يجني على المرء إلا يده «10» ، والشديد من غلب على نفسه عند الغضب «11» ، وليس الخبر كالمعاينة «12» ، والمجالس «13» بالأمانة، واليد العليا خير من اليد السفلى «14» ، والبلاء موكل بالمنطق «15» ، والناس كأسنان المشط «16» ، وترك الشر صدقة، وأي داء أدوأ من البخل «17» ، والأعمال بالنيات «18» ، والحياء خير كله «19» ، واليمين الفاجرة تدع الديار «20» بلاقع، وسيد القوم خادمهم، وفضل العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 خير من فضل العبادة «1» ، والخيل معقود في نواصيها «2» الخير، وأعجل الأشياء عقوبة البغي «3» ، وإن من الشعر لحكمة «4» ، والصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس «5» ، ونية المؤمن خير من عمله، ونية المنافق شر من عمله، والولد للوطء، واستعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان. فإن كل ذي نعمة محسود، والمكر والخديعة في النار «6» ، ومن غشنا ليس منا «7» ، والمستشار مؤتمن «8» ، والندم توبة «9» ، والدال على الخير كفاعله «10» ، وحبك الشيء يعمي ويصم «11» ، والعارية مؤدّاة «12» ، والأيمان قيد الفتك «13» » . وأمثال ذلك من كلامه صلى الله عليه وسلم، وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم العنز دون سائر الغنم، لأن العنز إنما تشام العنز ثم تفارقها وليس كنطاح الكباش وغيرها. وروى ابن دريد أن عدي بن حاتم، لما قتل عثمان رضي الله تعالى عنه، قال: لا ينتطح فيها عنزان. فلما كان يوم الجمل فقئت عينه فقيل له: لا ينتطح في قيل عثمان عنزان؟ قال: بلى وتفقأ عيون كثيرة، كذا ذكر هذا الخبر ابن اسحاق والدمياطي وغيرهما. وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: حدثني الصادق المصدوق أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: «أن أول خصم يقضى عليه يوم القيامة عنزان ذات قرن وغير ذات قرن» . رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف. وحكمها : الحل ويفدى بها الغزال إذا قتله المحرم وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في باب الغين المعجمة. الأمثال : قد تقدم في الحديث قوله عليه الصلاة والسلام «لا ينتطح فيها عنزان «14» » أي لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان لأن النطاح من شأن التيوس والكباش لا العنوز، وهو إشارة إلى قضية مخصوصة لا يجزي فيها خلف ولا نزاع وقالوا: «فلان أضرط من عنز «15» » . وقالوا: «عنز بها كل داء» يضرب للكثير العيوب من الناس والدواب. قال الفزاري: للعنز تسعة وتسعون داء. والعنز العقاب الأنثى في قول الشاعر: إذا ما العنز من ملق تدلت ... ضحيا وهي طاوية تحوم «16» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 فمراده بالعنز هنا العقاب الأنثى. الخواص : مرارة العنز، إذا خلطت بنوشادر، ونتف شعر من مكان في البدن، وطلي به الموضع، لم ينبت فيه شعر البتة. وقال ارسطو: مرارة العنز، إذا خلطت بكراث، وطلي بها مكان الشعر المنتوف، لم ينبت فيه شعر البتة. وإذا غسلت ساقها وسقي من به سلس البول أبرأه. وإن كتبت بلبنها على قرطاس، لم تبن كتابته فإن ذر عليه رماد ظهرت الكتابة. وقال هرمس: إذا أخذ من دماغ العنز ومن دم الضبع، وزن دانق من كل واحد، وزن حبتين من كافور، وعجن باسم شخص، تولد فيه روحانية المحبة إذا طعم ذلك. ومن أخذ من مرارتها وزن دانق، ومثله من دمها، ومن دماغ سنور أسود نصف دانق، وأطعمه إنسانا قطع عنه شهوة الجماع ولا يصل إلى امرأة حتى يحل عنه. وحله أن يسقى أنفحة ظبية في لبن عنز، ويكون سخنا والله تعالى أعلم. العنظب: الذكر من الجرادة وفتح الظاء لغة فيه. قال الكسائي: يقال العنظب والعنظاب والعنظوب والأنثى عنظوبة، والجمع في المذكر عناظب قال الشاعر: رؤوس العناظب كالعنجد والجمع في المؤنث عنظوبات. وفي كتاب سيبويه العنظباء بالمد والضم. العنظوانة: الجراد الأنثى والجمع عنظوانات. وقد تقدم ذكر الجراد وما فيه في باب الجيم. عنقاء مغرب ومغربة: من الألفاظ الدالة على غير معنى. قال بعضهم: هو طير غريب يبيض بيضا كالجبال، ويبعد في طيرانه. وقيل: سميت بذلك لأنه كان في عنقها بياض كالطوق. وقيل: هو طائر يكون عند مغرب الشمس. وقال القزويني: إنها أعظم الطير جثة، وأكبرها خلقة تخطف الفيل كما تخطف الحدأة الفأر، وكانت في قديم الزمان بين الناس فتأذوا منها، إلى أن سلبت يوما عروسا بحليها فدعا عليها حنظلة النبي عليه السلام، فذهب الله بها إلى بعض جزائر البحر المحيط، وراء خط الاستواء. وهي جزيرة لا يصل إليها الناس، وفيها حيوان كثير كالفيل والكركند والجاموس والبقر وسائر أنواع السباع وجوارح الطير. وعند طيران عنقاء مغرب يسمع لأجنحتها دوي كدوي الرعد القاصف والسيل، وتعيش ألفي سنة. وتتزاوج إذا مضى لها خمسمائة سنة، فإذا كان وقت بيضها، يظهر بها ألم شديد. ثم أطال في وصفها. وذكر ارسطاطاليس، في النعوت، أن عنقاء مغرب قد تصاد فيصنع من مخالبها أقداح عظام للشرب. قال: وكيفية صيدها أنهم يوقفون ثورين ويجعلون بينهما عجلة، ويثقلونها بالحجارة العظام، ويجعلون بين يدي العجلة بيتا، يختبىء فيه رجل معه نار، فتنزل العنقاء على الثورين لتخطفهما. فإذا نشبت أظفارها في الثورين أو أحدهما لم تقدر على اقتلاعهما لما عليهما من الحجارة الثقيلة، ولم تقدر على الاستقلال لتخلص مخالبها، فيخرج الرجل بالنار فيحرق أجنحتها. قال: والعنقاء لها بطن كبطن الثور، وعظام كعظام السبع، وهي من أعظم سباع الطير انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 وقال الإمام العلامة أبو البقاء العكبري، في شرح المقامات: إن أهل الرس كان بأرضهم جبل يقال له مخ، صاعد في السماء قدر ميل، وكان به طيور كثيرة وكانت العنقاء به وهي عظيمة الخلق لها وجه كوجه الإنسان، وفيها من كل حيوان شبه. وهي من أحسن الطيور، وكانت تأتي هذا الجبل في السنة مرة، فتلتقط طيوره، فجاعت في بعض السنين، وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به، ثم ذهبت بجارية أخرى، فشكوا ذلك إلى نبيهم حنظلة بن صفوان عليه السلام، فدعا عليها فأصابتها صاعقة فاحترقت. وكان حنظلة بن صفوان عليه السلام في زمن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام انتهى. وذكر غيره أن الجبل يقال له فتح وسميت العنقاء لطول عنقها، ثم إنهم قتلوا نبيهم فأهلكهم الله تعالى. وذكر السهيلي، في التعريف والأعلام، في قوله «1» تعالى: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أن البئر هي الرس، وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود وكان لهم ملك عدل حسن السيرة، يقال له العلس، وكانت البئر تسقي المدينة كلها، وباديتها وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك، وكانت لهم بركات كثيرة عليها ورجال كثيرون موكلون بها وأوان من رخام، وهي شبه الحياض كثيرة يملأ الناس منها وآخر للدواب، والقوم عليها يستقون الليل والنهار يتداولون ذلك. ولم يكن لهم ماء غيرها وطال عمر الملك، فلما جاءه الموت، طلوه بدهن لتبقى صورته ولا يتغير، وكذلك كانوا يفعلون بموتاهم، إذا كانوا ممن يكرم عليهم، فلما مات شق عليهم ورأوا أن أمرهم قد فسد، وضجوا بالبكاء، فاغتنمها الشيطان منهم، فدخل في جثة الملك بعد موته بأيام كثيرة وأخبرهم أنه لم يمت ولا يموت أبدا. ثم قال: ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم. ففرحوا أشد الفرح، وأمر خاصته أن يضربوا له حجابا بينه وبينهم، ليكلمهم من ورائه كي لا يعرف الموت في صورته. فنصبوه صنما من وراء حجاب، وأخبرهم أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يموت أبدا وأنه لهم إله. وكان ذلك كله يتكلم به الشيطان على لسانه، فصدق كثير منهم ذلك وارتاب بعضهم، وكان المؤمن المكذب له أقل من المصدق له، وكان كلما تكلم ناصح منهم زجر وقهر، وفشا الكفر فيهم وأقبلوا على عبادته، فبعث الله إليهم نبيا، كان ينزل الوحي عليه في النوم دون اليقظة، اسمه حنظلة بن صفوان فأعلمهم أن الصورة صنم لا روح له، وأن الشيطان قد أضلهم وأن الله سبحانه لا يمثل بالخلق، وأن الملك لا يجوز أن يكون شريكا لله تعالى، ووعظهم ونصحهم وحذرهم سطوة ربهم ونقمته، فآذوه وعادوه وهو يعظهم وينصح لهم حتى قتلوه وطرحوه في بئر. فعند ذلك حلت عليهم النقمة، فباتوا شباعا رواء من الماء، فأصبحوا والبئر قد غار ماؤها، وتعطلت رشاؤها، فصاحوا بأجمعهم وضج النساء والولدان، وأخذهم العطش وبهائمهم حتى عمهم الموت، وشملهم الهلاك وخلفهم في أرضهم السباع، وفي منازلهم الثعالب والضباع، وتبدلت جناتهم بالسدر وشوك القتاد، فلا يسمع فيها إلا عزيف الجن، وزئير الأسد. نعوذ بالله من سطواته، ومن الاصرار على ما يوجب نقماته. قال: وأما القصر المشيد، فقصر بناه شداد بن عاد بن أرم، ولم يبن في الأرض مثله فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 ذكر، وحاله كحال هذه البئر، في ايحاشه بعد الأنس، وافقاره بعد العمران، فلا يستطيع أحد أن يدنو منه على أميال لما يسمع من عزيف الجن والأصوات المنكرة، بعد النعيم والعيش الرغد، وانتظام الأهل كالسلك، فبادوا وما عادوا. فذكرهم الله تعالى في هذه الآية موعظة وذكرى وتحذيرا من غب المعصية وسوء عاقبة المخالفة نعوذ بالله من ذلك. وروى محمد بن اسحاق عن محمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول الناس دخولا الجنة يوم القيامة عبد أسود» وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا ذلك العبد الأسود، ثم إن أهل تلك القرية عدوا على ذلك النبي فحفروا له بئرا، فألقوه فيها، ثم ألقوا عليه حجرا ضخما، فكان ذلك العبد الأسود يذهب ويحتطب على ظهره، ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما وشرابا، ثم يأتي إلى تلك البئر، فيرفع تلك الصخرة، ويعينه الله عليها، ثم يدلي إليه طعامه وشرابه، ثم يرد الصخرة كما كانت. فمكث كذلك ما شاء الله. ثم ذهب يحتطب يوما، كما كان يصنع، فجمع حطبه وحزم حزمته، وفرغ منها فلما أراد أن يحملها، أخذته سنة من النوم، فاضطجع فنام فضرب الله على أذنه سبع سنين، ثم إنه هب فتمطى لشقه الآخر، فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين، ثم إنه هب فاحتمل حزمته ولا يحسب أنه نام إلا ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم إنه اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع، ثم ذهب إلى البئر والتمس النبي فلم يجده، وقد كان بدا لقومه ما بدا، فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه، فكان النبي يسألهم عن ذلك العبد الأسود ما فعل به فيقولون: لا ندري حتى قبض الله ذلك النبي، وأهب الله ذلك العبد الأسود من نومته بعد ذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك العبد الأسود لأوّل من يدخل الجنة» . قلت: وقد ذكر في هذا الحديث أنهم آمنوا بنبيهم الذي استخرجوه من الحفرة، فلا ينبغي أن يكونوا المعنيين بقوله تعالى: وَأَصْحابَ الرَّسِّ* «1» لأن الله تعالى أخبر عن أصحاب الرس، أنه دمرهم تدميرا إلا أن يكونوا دمروا بأحداث أحدثوها، بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وآمنوا به، فيكون ذلك وجها. قال ابن خلكان: ورأيت في تاريخ أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني نزيل مصر أن العزيز بن نزار ابن المعز صاحب مصر اجتمع عنده من غرائب الحيوان، ما لم يجتمع عند غيره، فمن ذلك العنقاء، وهو طائر جاءه من صعيد مصر، في طول البلشون، لكنه أعظم جسما منه، له لحية وعلى رأسه وقاية، وفيه عدة ألوان ومشابهة من طيور كثيرة، وقد تقدم، عن الزمخشري، أن العنقاء انقطع نسلها، فلا توجد اليوم في الدنيا. وفي آخر ربيع الأبرار، في باب الطير عن ابن عباس، قال: إن الله تعالى خلق، في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، طائرا يسمى العنقاء، لها أربعة أجنخة من كل جانب، ووجه كوجه الإنسان، وأعطاها الله تعالى من كل شيء قسطا، وخلق لها ذكرا مثلها، وأوحى إلى موسى أني خلقت طائرين عجيبين، وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس، وجعلتهما زيادة فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وصلت به بني إسرائيل فتناسلا وكثر نسلهما. فلما توفي موسى عليه الصلاة والسلام، انتقلت فوقعت بنجد والحجاز، فلم تزل تأكل الوحوش، وتخطف الصبيان إلى أن نبىء خالد بن سنان العبسي من بني عبس، قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فشكوا إليه ما يلقون منها فدعا الله عليها، فانقطع نسلها وانقرضت، فلا توجد اليوم في الدنيا. وفي كتاب البدء، لابن أبي خيثمة، ذكر خالد بن سنان العبسي، وذكر نبوته، وذكر أنه كان وكل به من الملائكة، مالك خازن النار وأنه كان من أعلام نبوته، أن نارا يقال لها نار الحدثان، كانت تخرج على الناس من مفازة، فتأكل الناس والدواب، ولا يستطيعون ردها، فردها خالد بن سنان، فلم تخرج بعد ذلك. وذكر شراح الفصوص لابن عربي له قصة غريبة بعد موته، وستأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى شيء من ذلك في لفظ العير. وروى الدارقطني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان نبيا ضيعه قومه» . يعني خالد بن سنان. وذكر غيره من العلماء أن ابنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه، وقال: «أهلا ببنت خير نبي» أو نحو ذلك وذكر الكواشي والزمخشري وغيرهما أنه كان بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل، وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي. وذكر البغوي أنه لا نبي بينهما، والله أعلم. وكان القاضي الفاضل ينشد «1» كثيرا: وإذا السعادة لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان واصطد بها العنقاء فهي حبالة ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان وتقدم في العقاب أنه مراد أبي العلاء المعري بقوله «2» : هي العنقاء تكبر أن تصادا ... فعاند من تطيق له عنادا الأمثال : يقال: «حلقت به عنقاء مغرب» «3» . يضرب لمن يئس منه. قال الشاعر: الجود والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء فلم توجد ولم تكن وسيأتي، إن شاء الله تعالى، ذكر هذا البيت في الغول أيضا. التعبير : العنقاء في المنام رجل رفيع مبتدع لا يصحب أحدا، ومن رأى العنقاء كلمته نال رزقا من قبل الخليفة، وربما يصير وزيرا، ومن ركب العنقاء غلب شخصا لا يكون له نظير، ومن صادها فإنه يتزوج بامرأة جميلة وربما تعبر العنقاء بولد ذكر شجاع لمن أخذها وله امرأة حامل والله أعلم. العنكبوت: دويبة تنسج في الهواء، وجمعها عناكب، والذكر عنكب وكنيته أبو خيثمة وأبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 قشعم، والأنثى أم قشعم ووزنه فعللوت وهي قصار الأرجل كبار العيون للواحد ثمان أرجل وست عيون، فإذا أراد صيد الذباب لطأ بالأرض، وسكن أطرافه، وجمع نفسه، ثم وثب على الذباب، فلا يخطئه. قال أفلاطون: أحرص الأشياء الذباب، وأقنع الأشياء العنكبوت. فجعل الله رزق أقنع الأشياء في أحرص الأشياء، فسبحان اللطيف الخبير. وهذا النوع يسمى الذباب ومنها نوع يضرب إلى الحمرة له زغب، وله في رأسه أربع إبر ينهش بها وهو لا ينسج بل يحفر بيته في الأرض، ويخرج في الليل كسائر الهوام. ومنها الرتيلاء، وقد تقدم الكلام عليها في باب الراء المهملة. وقال الجاحظ: ولد العنكبوت أعجب من الفروج الذي يخرج إلى الدنيا كاسبا كاسيا، لأن ولد العنكبوت، يقوى على النسج ساعة يولد، من غير تلقين ولا تعليم، ويبيض ويحضن، وأول ما يولد دودا صغارا ثم يتغير ويصير عنكبوتا، وتكمل صورته عند ثلاثة أيام، وهو يطاول السفاد، فإذا أراد الذكر الأنثى جذب بعض خيوط نسجها من الوسط، فإذا فعل ذلك فعلت الأنثى مثله، فلا يزالان يتدانيان حتى يتشابكا فيصير بطن الذكر قبالة بطن الأنثى. وهذا النوع من العناكب حكيم، ومن حكمته أنه يمد السدى، ثم يعمل اللحمة، ويبتدىء من الوسط ويهيىء موضعا لما يصيده من مكان آخر كالخزانة، فإذا وقع شيء فيما نسجه وتحرك، عمد إليه وشبك عليه حتى يضعفه، فإذا علم ضعفه، حمله وذهب به إلى خزانته، فإذا خرق الصيد من النسج شيئا عاد إليه ورمه، والذي ينسجه لا يخرجه من جوفه بل من خارج جلده. وفمه مشقوق بالطول وهذا النوع ينسج بيته دائما مثلث الشكل، وتكون سعة بيته بحيث يغيب فيه شخصه. فائدة : أسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيت يورث الفقر. وفي مراسيل أبي داود، عن يزيد بن مزيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العنكبوت شيطان فاقتلوه» «1» . وهو في كامل ابن عدي، في ترجمة مسلمة بن علي الخشني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه» . وهو حديث ضعيف ويزيد بن مزيد الهمداني الصنعاني الدمشقي، أدرك عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وهو القائل: والله لو أن الله تعالى توعدني، إن أنا عصيت، أن يسجنني في الحمام لكان حريا أن لا تجف لي عين. وطلبوه للقضاء فقعد يأكل في السوق فتخلص بذلك منهم. وروى أبو نعيم، في الحلية، في ترجمة مجاهد أنه قال في قوله «2» تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أنه قال: كان فيمن كان قبلكم امرأة وكان لها أجير، فولدت جارية فقالت لأجيرها: اقتبس لنا نارا فخرج فوجد بالباب رجلا، فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ فقال: جارية. فقال: أما أن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة رجل ويتزوج بها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. فقال الأجير في نفسه: فأنا والله ما أريد هذه بعد أن تبغي بمائة، لأقتلنها! فأخذ شفرة ودخل فشق بطن الجارية وخرج على وجهه، فركب البحر فخيط بطن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 الصبية، وعولجت فشفيت وشبت وطلعت من أجمل نساء عصرها، وكانت تبغي فأتت ساحلا من سواحل البحر، وأقامت هناك تبغي. ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم ذلك الساحل، ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل ساحل البحر: ابتغي لي أجمل امرأة في القرية أتزوجها، فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس ولكنها بغي! فقال: ائتيني بها. فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير وقال لي كذا وكذا فقلت كذا وكذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوجته. قال: فتزوجها فوقعت منه موقعا عظيما، وأحبها حبا شديدا، فبينما هو يوما عندها، إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية، وأرته الشق في بطنها. ثم قالت: وقد كنت أبغي، فما أدري بمائة أو أقل أو أكثر. قال: فإنه قد قال لي يكون موتها بالعنكبوت، فبنى لها برجا في الصحراء وشيده، فبينما هو وإياها يوما في ذلك البرج إذا عنكبوت في السقف، فقال: هذا عنكبوت، فقالت: هذا يقتلني لا يقتله أحد غيري فحركته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه، فشدخته فساح سمه بين أظفارها ولحمها، فاسودت رجلها وماتت. فأنزل الله تعالى هذه الآية «1» أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ . وقال أكثر المفسرين: إن هذه الآية نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أحد: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. فرد الله عليهم بقوله «2» أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. والبروج: الحصون، والقلاع المشيدة: المرفوعة المطولة. قال قتادة: معناه في قصور محصنة. وقال عكرمة: مجصصة، والمشيد المجصص. ويكفي العنكبوت فخرا وشرفا نسجها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الغار، والقصة في ذلك مشهورة في كتب التفاسير والسير وغيرها. ونسجت أيضا على الغار الذي دخله عبد الله بن أنيس رضي الله عنه، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم لقتل خالد بن نبيح الهذلي بالعرنة، فقتله، ثم احتمل رأسه ودخل في غار، فنسجت عليه العنكبوت. وجاء الطلب، فلم يجدوا شيئا، فانصرفوا راجعين. ثم خرج فسار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والرأس معه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قد أفلح الوجه» «3» . قال: وجهك يا رسول الله، ووضع الرأس بين يديه وأخبره الخبر، فدفع إليه النبي صلى الله عليه وسلم عصا كانت بيده وقال: «تخطر بهذه في الجنة» . فكانت عنده إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى أهله أن يدفنوها في كفنه ففعلوا. وكانت مدة غيبته ثمان عشرة ليلة. وفي الحلية للحافظ أبي نعيم عن عطاء بن ميسرة، قال: نسجت العنكبوت مرتين على نبيين، على داود حين كان جالوت يطلبه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم في الغار. وفي تاريخ الإمام الحافظ أبي القاسم بن عساكر، أن العنكبوت نسجت أيضا على عورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، لما صلب عريانا في سنة إحدى وعشرين ومائة، فأقام مصلوبا أربع سنين، وكانوا وجهوه لغير القبلة، فدارت خشبته إلى القبلة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 ثم أحرقوا خشبته وجسده رحمه الله. وكان قد بايعه خلق كثير، وحارب متولي العراق يوسف بن عمران، عم الحجاج بن يوسف الثقفي، فظفر به يوسف ففعل به ذلك. وكان ظهوره في أيام هشام بن عبد الملك، ولما خرج أتاه طائفة كثيرة من أهل الكوفة، وقالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر، حتى نبايعك، فأبى، فقالوا: إذن نرفضك. فمن ذلك سموا الرافضة. وأما الزيدية فقالوا: لا نتولاهما ونتبرأ ممن تبرأ منهما، وخرجوا مع زيد فسموا الزيدية. وروى زيد عن أبيه زين العابدين وجماعة، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. تتمة : ذكر ابن خلكان، في ترجمة يعقوب بن جابر المنجنيقي، أنه وقف بالقاهرة على كراريس من شعره، ورأى فيها البيتين المشهورين المنسوبين إلى جماعة من الشعراء ولا يعرف قائلهما على الحقيقة وهما «1» : ألقني في لظى فإن أحرقتني ... فتيقن إن لست بالياقوت جمع النسج كلّ من حاك لكن ... ليس داود فيه كالعنكبوت قال: فعمل يعقوب بن صابر في جوابهما هذه الأبيات «2» : أيها المدعي الفخار دع الفخر ... لذي الكبرياء والجبروت نسج داود لم يفد ليلة الغار ... وكان الفخار للعنكبوت وبقاء السمند في لهب النار ... مزيل فضيلة الياقوت وكذاك النعام يلتقم الجمر ... وما الجمر للنعام بقوت وقد تقدم في السمندل الإشارة إلى هذه الأبيات. وحكم العنكبوت : تحريم الأكل لاستقذارها. الأمثال : قالوا: «أغزل من عنكبوت» «3» وقالوا: «أوهن من بيت العنكبوت» «4» قال «5» الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ . فضرب الله ببيتها المثل لمن اتخذ من دونه آلهة لا تضره ولا تنفعه، فكما أن بيت العنكبوت لا يقيها حرا ولا بردا ولا قصد أحد إليها، فكذلك ما اكتسبوه من الكفر، واتخذوه من الأصنام، لا يدفع عنهم غدا شيئا. والعالمون كل من عقل عن الله عز وجل، وعمل بطاعته، وانتهى عن معصيته، فهم يعقلون صحة هذه الأمثال وحسنها وفائدتها. وكان جهلة قريش يقولون: إن رب محمد يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك، وما علموا أن الأمثال تبرز المعاني الخلفية في الصور الجلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 الخواص : إذا وضع نسج العنكبوت على الجراحات الطرية، في ظاهر البدن حفظها بلا ورم، ويقطع سيلان الدم إذا وضع عليه، وإذا دلكت الفضة المتغيرة بنسجه جلاها. والعنكبوت الذي ينسج على الكنيف، إذا علق على المحموم يبرأ بإذن الله تعالى. وإن لف في خرقة وعلق على صاحب حمى الربع نفعه وأذهبها، وكذلك إذا سحق العنكبوت وهو حي، ومرخ به صاحب الحميات أذهبها. وإذا بخر البيت بورق الآس الرطب هرب منه العنكبوت، قاله صاحب عين الخواص. التعبير : العنكبوت في المنام رجل قريب العهد بالزهد، وقيل: العنكبوت امرأة ملعونة تهجر فراش زوجها. وبيت العنكبوت ونسجها وهن في الدين للآية الكريمة المتقدم ذكرها في الأمثال. وقيل: العنكبوت في الرؤيا نساج فمن نازع العنكبوت نازع رجلا نساجا أو امرأة والله أعلم. العود: المسن من الإبل وهو الذي قد جاوز في السن البازل والخلف وجمعه عودة، والناقة عودة. ويقال في المثل: «زاحم بعود أودع» «1» ، أي استعن على أمرك بأهل السن وأهل المعرفة، فإن رأي الشيخ المسن خير من رأي الغلام ومعرفته. والعود المطافيل، تقدم ذكرها في أول الباب، في لفظ عائد. قال الجوهري: يقال لها ذلك إذا ولدت لعشرة أيام أو خمسة عشر يوما ثم هي مطفل بعد والجمع مطافيل ومطافل. العواساء: بفتح العين ممدود الحامل من الخنافس حكاه أبو عبيدة. العوس: بالضم ضرب من الغنم يقال كبش عوسي. العومة: بالضم دويبة تسبح في الماء، كأنها فص أسود مد ملكة والجمع عوم. قاله الجوهري. العوهق: الخطاف الجبلي ويقال للغراب الأسود، ويقال للبعير الأسود الجسيم العوهق الطويل يستوي فيه الذكر والأنثى. العلا: القطا وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف. العلام: الباشق، وقد تقدم ذكره في باب الباء. العيثوم: الضبع حكاه الجوهري عن أبي عبيدة، وقال غيره: العيثوم أنثى الفيل. العير: الحمار الوحشي والأهلي أيضا والجمع أعيار ومعيوراء وعيور. روى «2» ابن ماجه من حديث عتبة بن عبد الله السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردا تجرد العيرين» ورواه البزار من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والطبراني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه. وروى النسائي في عشرة النساء، من حديث عبد الله بن سرجس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم أهله فليلق على نفسه ثوبا ولا يتجردا تجرد العيرين» «3» . وروى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 أبو منصور الديلمي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقعن أحدكم على أهله كما يقع الحمار وليكن بينهما رسول» قالوا: وما الرسول؟ قال: «القبلة والكلام اللين» . وفي الحديث: «إذا أراد الله بعبد سوءا أمسك عليه ذنوبه حتى يوافيه يوم القيامة كأنه عير» «1» . شبه لعظم ذنوبه بالحمار الوحشي، وقيل: أراد الجبل الذي بالمدينة اسمه عير وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه، فكان يضرب به المثل في المكروهات غالبا. وعير العين جفنها قال الشاعر: زعموا أن كلّ من ضرب العير ... موال لنا وأنّى الولاء قال أبو عمرو بن العلاء: ذهب من كان يعرف معنى هذا البيت. فائدة : روي أن خالد بن سنان العبسي، لما حضرته الوفاة، قال لقومه: إذا أنا دفنت فإنه سيجيء عانة من حمير يقدمها عير فيضرب قبري بحافره، فإذا أنتم رأيتم ذلك فانبشوا عني فإني سأخرج فأخبركم بعلم الأولين والآخرين، فلما مات واتفق ما قاله لقومه أرادوا أن يخرجوه، فكره ذلك بعض ولده وقالوا: إنا نخاف أن ينسب إلينا إنا نبشنا قبر أبينا. ولو فعلوا لخرج إليهم وأخبرهم لكن أراد الله غير ذلك. وقد تقدم أن ابنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم فبسط لها رداءه وقال لها: أهلا ببنت خير نبي أو نحو ذلك. وروي أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ «2» فقالت: كأن أبي يقرأ هذا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذاك نبي أضاعه قومه» . وقال الشاعر يهجو رجلا: لو كنت سيفا كنت غير عضب ... أو كنت ماء كنت غير عذب أو كنت لحما كنت لحم كلب ... أو كنت عيرا كنت غير ندب أي غير صريع في الحاجات. الأمثال : قالت العرب: «معيوراء تكادم الأعيار» «3» جمع عير، والتكادم التعارض، يضرب مثلا للسفهاء تتهارش. وقالوا «4» : «نجي عيرا سمنه» قال أبو زيد: زعموا أن حمرا كانت هزالا فهلكت في جدب، ونجا منها حمار، كان سمينا فضرب به المثل في الحزم قبل وقوع الأمر. أي انج قبل أن لا تقدر على ذلك. ويضرب أيضا لمن خلصه ماله من مكروه. وقالت العرب: قد حيل بين العير والنزوان يضرب لمن أيس منه. قال «5» الشاعر: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان وذكر ابن خلكان في ترجمة أبي أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري من ذلك شيئا ينبغي الوقوف عليه. قال: كان الصاحب بن عباد يود الاجتماع بأبي أحمد العسكري ولا يجد إليه سبيلا، فقال لمخدومه مؤيد الدولة بن بويه: إن عسكر مكرم قد اختلت أحوالها وأحتاج إلى أن أكشفها بنفسي، فأذن له في ذلك فلما أتاها توقع أن يزوره أبو أحمد المذكور فلم يزره فكتب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 الصاحب إليه «1» : ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فلم نقدر على الوخدان أتيناكم من بعض أرض نزوركم ... وكم منزل بكر لنا وعوان نسائلكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان وكتب مع هذه الأبيات شيئا من النثر، فجاوبه أبو أحمد عن النثر بنثر مثله وعن هذه الأبيات بالبيت المشهور وهو: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فلما وقف الصاحب على الجواب، عجب من اتفاق هذا البيت له، وقال: والله لو علمت أنه يقع له هذا البيت، لما كتبت إليه على هذا الروي. وهذا البيت لصخر أخي الخنساء. وهو من جملة أبيات مشهورة. وكان صخر المذكور قد حضر محاربة بني أسد، فطعنه ربيعة بن ثور الأسدي فأدخل بعض حلقات الدرع في جنبه، وبقي مدة حول في أشد ما يكون من المرض، وأمه وزوجته سليمى يمرضانه. فضجرت زوجته منه، فمرت بها امرأة فسألتها عن حاله، فقالت: لا هو حي فيرجى ولا ميت فينسى فسمعها صخر فأنشد «2» : أرى أم صخر لا تمل عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغتر بالحدثان لعمري لقد نبهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان وأي امرىء ساوى بأم حليلة ... فلا عاش إلا شقا وهوان أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فللموت خير من حياة كأنها ... معرس يعسوب برأس سنان وقالوا: «كل شواء العير جوفان» «3» ، قيل: اجتمع فزاري وثعلبي وكلبي في سفر، فاشتووا حمارا وحشيا، فغاب الفزاري في بعض حاجاته، فأكل صاحباه العير، واختبآ له غرموله، فلما جاء قدماه له وقالا: هذا قد اختبأناه لك، فجعل يأكل ولا يسيغه فضحكا منه، فاخترط سيفه وقال: لأقتلنكما إن لم تأكلاه! فأبى أحدهما، فضربه بالسيف، فأبان رأسه. وكان اسمه مرقمة، فقال صاحبه: طاح مرقمة! فقال الفزاري: وأنت إن لم تلقمه أراد إن لم تلقمها طرحت رأسك. وقد عيرت فزارة بهذا الخبر حتى قال سالم بن دارة في ذلك «4» : لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار لا تأمننه ولا تأمن بوائقه ... بعد الذي امتل اير العير بالنار أطعمتم الضيف جوفانا مخاتلة ... فلا سقاكم إلهي الخالق الباري الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وقالوا: «أذل من عير» . قيل: المراد به الوتد، لأنه يشج رأسه أبدا. وقيل: المراد به الحمار، وقال الشاعر: ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الاذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته ... وذا يشج فلا يرثى له أحد وقال خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، عند موته: لقيت كذا وكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ثم ها أنا أموت حتف أنفي كما يموت العير، لا نامت أعين الجبناء. العير: بالكسر الإبل التي تحمل الميرة، ويجوز أن تجمعه على عيرات. وفي الحديث أنهم كانوا يترصدون عيرات قريش. فائدة : قال الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها «1» قال ابن عطية: القرية مصر. قاله ابن عباس وغيره، وهو مجاز، والمراد أهلها. وكذلك قوله والعير هذا قول الجمهور وهو الصحيح. وحكى أبو المعالي في التلخيص، عن بعض المتكلمين، أنه قال: هذا من الحذف، وليس من المجاز، قال: وإنما المجاز لفظة تستعار لغير ما هي له، وحذف المضاف هو غير المجاز، هذا مذهب سيبويه وغيره من أهل النظر، وليس كل حذف مجازا. ورجح أبو المعالى في هذه الآية أنه مجاز، وحكى أنه قول الجمهور، أو نحو هذا. وقالت فرقة: بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة من حيث هو نبي فلا يبعد أن تخبره بالحقيقة، قال: وهذا وان جوز فبعيد. فائدة أخرى : أول من قال: «لا في العير ولا في النفير» «2» أبو سفيان بن حرب، وذلك أنه لما أقبل بعير قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم تحين انصرافها من الشأم، فندب المسلمين للخروج معه وأقبل أبو سفيان حتى دنا من المدينة، وقد خاف خوفا شديدا، فقال للمجد بن عمرو: هل أحسست بأحد من أصحاب محمد؟ فقال: ما رأيت أحدا أذكره إلا راكبين أتيا إلى هذا المكان، وأشار إلى مكان عديا وبسيسا عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أبو سفيان أبعارا من أبعار بعيريهما وفركها فإذا فيها نوى، فقال: علائف يثرب، هذه عيون محمد فضرب وجوه عيره عن يسار بدر، وقد كان بعث إلى قريش يخبرهم بما يخافه من النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبلت قريش من مكة، فأرسل إليهم أبو سفيان يخبرهم أنه قد أحرز العير ويأمرهم بالرجوع، فأبت قريش أن ترجع، ومضت إلى بدر ورجع بنو زهرة منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان فقال: يا بني زهرة «لا في العير ولا في النفير» «3» . قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع. ومضت قريش إلى بدر، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يشهد بدرا من بني زهرة أحد. قال الأصمعي: يضرب هذا المثل للرجل يحط أمره ويصغر قدره، والله تعالى أعلم. عير السراة: طائر كهيئة الحمامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 العيس: بكسر العين الإبل البيض يخالط بياضها شيء من الشقرة، واحدها أعيس والأنثى عيساء، ويقال هي كرام الإبل وما أحسن قول الأول: ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب الحبيب وما إليه وصول كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول وفي حديث سواد بن قارب «وشدت العيس بأحلاسها» . العيساء: بفتح العين الأنثى من الجراد، وقد تقدم ما في الجراد في باب الجيم. العيلام: والعيلان بفتح العين فيهما الذكر من الضباع وفي الحديث، أن الخليل عليه الصلاة والسلام يريد أن يحمل أباه آزر ليجوز به الصراط فينظر إليه فإذا هو عيلام أمدر، والعيلام ذكر الضباع، والياء والألف زائدتان قاله في نهاية الغريب. العيثوم: الضبع عن أبي عبيدة، وقد تقدم قبل ذلك بورقة، وقال الغنوي: والعيثوم الأنثى من الفيلة وأنشد «1» الأخطل: تركوا أسامة في اللقاء كأنما ... وطئت عليه بخفّها العيثوم العين: من الألفاظ المشتركة، قال بعض أهل اللغة ممن تكلم على الألفاظ المشتركة: إن العين طائر أصفر البطن والظهر في حد القمري. العيهل: الناقة السريعة، قال أبو حاتم: ولا يقال جمل عيهل. عيجلوف: كحيزبون اسم النملة المذكورة في القرآن، وسيأتي إن شاء الله تعالى اختلاف العلماء في اسمها في باب النون في لفظ النمل. ابن عرس: وكنيته أبو الحكم وأبو الوثاب وهي دابة تسمى بالفارسية راسو، وهي بكسر العين وإسكان الراء المهملتين، تجمع على بنات عرس وبني عرس، حكاه الأخفش. قال القزويني: هو حيوان دقيق يعادي الفأر، يدخل جحره ويخرجه، ويعادي التمساح فإن التمساح لا يزال مفتوح الفم، وابن عرس يدخل فيه وينزل جوفه ويأكل أحشاءه ويمزقها، ويخرج ويعادي الحية أيضا، ويقتلها. وإذا مرض يأكل بيض الدجاج فيزول مرضه. وحكي أن ابن عرس تبع فأرة فصعدت شجرة، فلم يزل يتبعها حتى انتهت إلى رأس الغصن، ولم يبق لها مهرب، فنزلت على ورقة وعضت طرفها، وعلقت نفسها بها، فعند ذلك صاح ابن عرس، فجاءته زوجته فلما انتهت إلى تحت الشجرة، قطع ابن عرس الورقة التي عضتها الفأرة فسقطت فاصطادها ابن عرس التي كانت تحت الشجرة. وقال عبد اللطيف البغدادي: وأظنه الحيوان المسمى بالدلق، وإنما يختلف لونه ووبره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 بحسب البلاد قال في طبعه: إنه يسرق ما وجد من فضة وذهب، كما يفعل الفأر وربما عادى الفأر فقتله، ولكن خوف الفأر من السنور أشد من خوفه منه. قال: وهو كثير الوجود في منازل أهل مصر، قال: وقد حكي من فطنته، أن رجلا صاد فرخا منها وحبسه في قفص بحيث تراه أمه، فلما رأته ذهبت ثم جاءت وفي فمها دينار، فألقته بين يديه كأنها تفتدي ولدها فلم يتركه لها، فذهبت وعادت بدينار آخر حتى كمل العدد خمسا، فلما رأت أنه لا يطلقه ذهبت وعادت بخرقة كأنها تشير إلى فراغ حاصلها فلم يكترث بها، فلما رأت ذلك منه عادت إل دينار منها لتأخذه، فخشي الرجل من ذلك فأطلق لها ولدها. وقد تقدم في باب الجيم في الجرذ حديث ضباعة بنت الزبير، أن المقداد بن الأسود ذهب يقضي حاجته فإذا جزد يخرج من جحره دينارا ثم دينارا ثم لم يزل كذلك، إلى أن أخرج سبعة عشر دينارا، ثم أخرج خرقة حمراء قد بقي فيها دينار واحد، فكانت ثمانية عشر، فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره وقال: خذ صدقتها. فقال عليه الصلاة والسلام: «هل هويت إلى الجحر بيدك؟ «1» » فقال: لا. فقال له عليه الصلاة والسلام: «بارك الله لك فيها» . قال الجاحظ: ابن عرس نوع من الفأر وأنشد «2» قول الشمقمق: نزل الفارات بيتي ... رفقة من بعد رفقه «3» ثم قال «4» : وابن عرس رأس بيتي ... صاعدا في رأس طبقه ثم قال «5» يصفه: صبغة أبصرت منها ... في سواد العين زرقه مثل هذا في ابن عرس ... أغبش تعلوه بلقه «6» فوصفه بكونه أغبش أبلق، وأنه من الفأر. وهو أنواع ثلاثة عشر ستأتي في أماكنها، إن شاء الله تعالى. وقال أرسطاطاليس، في نعوت الحيوان، والتوحيدي في الامتاع والمؤانسة: إن الأنثى من بنات عرس، تلقح من أفواهها وتلد من أذنابها. وقال في كفاية المتحفظ: ابن عرس هو السرعوب، ويقال له النمس، وهو غلط. والذي قبله قريب منه. والجمع بينه وبين كلام الجاحظ عسر لأن النمس ليس من جنس الفأر، والصواب ما قاله الجاحظ من أنه نوع من الفأر. وقال الشيخ قطب الدين السنباطي: بنات عرس هي هذه التي في بيوت مصر، وفيما قاله قصور، فإن بنات عرس أنواع كما يأتي عن الرافعي قريبا. الحكم : قيل: يحرم أكله لأنه كالفأر، والمشهور حله، بل قال في شرح المهذب: يحل بلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 خلاف، وفيه وجه حكاه الماوردي أنه يحرم. وحكى في الشرح الصغير الوجهين، وقال: الأظهر الحل، وهذه المسألة ساقطة من الشرح الكبير والروضة، والأشبه أنه من صنيع النساخ، وإلا فكلام الشرح لا يستقيم إلا بذكرها، ولذلك كتبها فيه، كما في الشرح الصغير، الشيخ عز الدين النشائي على حاشية نسخته. وقال الرافعي، في كتاب الحج: إن بنات عرس أنواع. والغزالي قال: إنه يشبه الثعلب، وكلام الغزالي يقتضي أن ابن عرس هو النمس، لأنه يشبه الثعلب بأسنانه وطول ذنبه، وإن كان أصغر منه جثة. وقال القاضي أبو الطيب: لا أعلم خلافا بين الأصحاب في حل ابن عرس، لأنه لا يتقوى بنابه، وكذا ذكر صاحب البحر. والمشهور الحل، كما في الشرح الصغير والمختصرات المشهورة كالتنبيه والوجيز والحاوي الصغير. الخواص : دماغه يكتحل به فينفع من ظلمة العين، وإن جفف وشرب بخل نفع من الصرع، ولحمه يستعمل ضمادا لوجع المفاصل، وشحمه يطلى به السن تقع سريعا، ومرارته إن شربت، وهي حارة، قتلت من وقتها. ودمه يطلى به الخنازير يحللها. وإن خلط دمه بدم الفأر، ومزج بماء، ورش في بيت، وقعت الخصومة بين أهله، وإن دفن ابن عرس وفأرة في بيت، فعل كما يفعل الدم، وزبله يجعل على الجراحات يقطع الدم، وإن أخذ كفاه وعلقتا على امرأة لم تحبل مادام ذلك عليها والله تعالى أعلم. وهو في الرؤيا : يدل على الزواج للأعزب بامرأة صبية والله تعالى أعلم. أم عجلان: طائر، قاله الجوهري، وقال ابن الأثير: طائر أسود، يقال له قوبع، وقيل: طائر أسود أبيض الذنب، يكثر تحريك ذنبه يقال له الفتاح. أم عزة: الظبية وعزة ابنتها. أم عويف: دويبة صغيرة، ضخمة الرأس مخضرة، لها ذنب طويل، وأربعة أجنحة، إذا رأت الإنسان قامت على ذنبها، ونشرت أجنحتها، وهي لا تطير. ويقال لها ناشرة برديها، يلعب بها الصبيان ويقولون لها: أمّ عويف انشري برديك ... ثمت طيري بين صحراويك إن الأمير خاطب بنتيك ... بجيشه وناظر إليك كذا قاله في المرصع. وهذه تشبه أن تكون أم حبين المتقدمة في باب الحاء المهملة. أم العيزار: السبيطر، ووقع في المهذب، في باب الهدنة أن عاقر ناقة صالح اسمه العيزار بن سالف، وهو تصحيف بلا خلاف، وإنما عاقر الناقة اسمه قدار بضم القاف، ثم دال مهملة مخففة ثم ألف ثم راء مهملة هكذا ذكره جميع أهل التواريخ والقصص والأسماء وأهل اللغة كالجوهري وغيره ونبه عليه النووي رحمه الله تعالى. باب الغين المعجمة الغاق: والغاقة: نوع من طير الماء معروف مشهور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 الغداف: غراب القيظ وجمعه غدفان، بكسر الغين المعجمة، وربما سموا النسر الكثير الريش غدافا. وكذلك الشعر الأسود الطويل، وقال ابن فارس: الغداف هو الغراب الضخم. وقال العبدري وغيره من أئمة أصحابنا: هو غراب صغير أسود لونه كلون الرماد. الحكم : أباح الشعبي أكل الغراب الأسود الكبير، الذي يأكل الحبوب والزرع، فأشبه الحجل. وقال أبو حنيفة: الغربان كلها حلال. وروى هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: «إني لأعجب ممن يأكل الغراب وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله للمحرم وسماه فاسقا، والله ما هو من الطيبات» «1» وأما مذهب الشافعي، فحاصل ما في الروضة أن الغداف يحرم أكله، والذي في الرافعي أنه حلال، وهذا هو المعتمد في الفتوى، كما نبه عليه شيخنا في المهمات. الخواص : قال القزويني: إذا أخذت شحم الغداف مع دهن ورد، ودهنت به وجهك، ودخلت على السلطان قضى حاجتك. الغذي: السخلة والجمع غذاء، مثل فصيل وفصال، ومنه قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لعامل الصدقة: احتسب عليهم بالغذاء، ولا تأخذها منهم. وأنشد الأصمعي: لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... غذى بهم ولقمانا وذا جدن ورواه خلف الأحمر غذى بالتصغير حكاه الجوهري وغيره. الغراب: معروف، وسمي بذلك لسواده. ومنه قوله تعالى: وَغَرابِيبُ سُودٌ «2» وهما لفظان بمعنى واحد. ومن أحاديث راشد بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب» فسره راشد بن سعد بالذي يخضب بالسواد. وجمعه غربان وأغربة وأغرب وغرابين وغرب. وقد جمعها ابن مالك في قوله: بالغرب أجمع غرابا ثم أغربة ... وأغرب وغرابين وغربان وكنيته أبو حاتم وأبو جحادف وأبو الجراح وأبو حذر وأبو زيدان وأبو زاجر وأبو الشؤم وأبو غياث وأبو القعقاع وأبو المرقال قال الشاعر: إن الغراب وكان يمشي مشية ... فيما مضى من سالف الأجيال حسد القطاة ورام يمشي مشيها ... فأصابه ضرب من العقال فأضلّ مشيته وأخطأ مشيها ... فلذاك سموه أبا المرقال ويقال له ابن الأبرص وابن بريح وابن داية، وهو أصناف: الغداف والزاغ والأكحل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 وغراب الزرع والأورق. وهذا الصنف يحكي جميع ما يسمعه. والغراب الأعصم عزيز الوجود. قالت «1» العرب: «أعز من الغراب الأعصم» . وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المرأة الصالحة في النساء، كمثل الغراب الأعصم في مائة غراب» . رواه الطبراني من حديث أبي أمامة. وفي رواية ابن أبي شيبة، قيل: يا رسول الله وما الغراب الأعصم؟ قال: «الذي إحدى رجليه بيضاء» . وروى الإمام أحمد والحاكم في مستدركه، عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فإذا بغربان كثيرة، فيها غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من النساء إلا مثل هذا الغراب، في هذه الغربان» «2» وإسناده صحيح. وهو في السنن الكبرى للنسائي. قال في الإحياء: الأعصم أبيض البطن. وقال غيره: الأعصم أبيض الجناحين. وقيل: أبيض الرجلين أراد عليه الصلاة والسلام قلة الصالحة في النساء، وقلة من يدخل الجنة منهن، لأن هذا الوصف في الغربان عزيز قليل. وفي وصية لقمان لابنه: يا بني اتق المرأة، فإنها تشيبك قبل المشيب، واتق شرار النساء فإنهن لا يدعون إلى خير، وكن من خيارهن على حذر. وقال الحسن: والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: خالفوا النساء، فإن في خلافهن البركة. وقد قيل: شاوروهن وخالفوهن. وفي السيرة، في قصة حفر زمزم لما رأى عبد المطلب قائلا يقول له: احفر طيبة، قال: وما طيبة؟ قال: زمزم. قال: وما علامتها؟ قال: بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم. قال السهيلي: في ذلك إشارة إلى أن الذي يهدم الكعبة صفته كصفة الغراب، وهو ذو السويقتين. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «يخرب الكعبة ذو السويقتين رجل من الحبشة» . وفي البخاري، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال «4» : «كأني به أسود أفحج، يقلعها حجرا حجرا» . وفي حديث حذيفة الطويل، «كأني بحبشي أفحج الساقين، أزرق العينين، أفطس الأنف، كبير البطن، وأصحابه ينقضونها حجرا حجرا، ويتناولونها حتى يرموا بها إلى البحر» . يعني الكعبة. ذكره أبو الفرج ابن الجوزي، وذكر الحليمي أن هذا يكون في زمن عيسى عليه السلام. وفي الحديث: «استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة» . وغراب الليل، قال الجاحظ: هو غراب ترك أخلاق الغربان، وتشبه بأخلاق البوم، فهو من طير الليل. وسمعت بعض الثقات يقول: إن هذا الغراب يشاهد كثيرا في الليل. وقال ارسطاطاليس، في النعوت: الغربان أربعة أجناس، أسود حالك، وأبلق ومطرف ببياض لطيف الجرم يأكل الحب، وأسود طاوسي براق الريش، ورجلاه كلون المرجان، يعرف بالزاغ، وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 الغراب كله الاستتار عند السفاد، وهو يسفد مواجهة، ولا يعود إلى الأنثى بعد ذلك لقلة وفائه. والأنثى تبيض أربع بيضات وخمسا، وإذا خرجت الفراخ من البيض طردتها، لأنها تخرج قبيحة المنظر جدا، إذ تكون صغار الأجرام كبيرة الرؤوس والمناقير، جرداء اللون، متفاوتة الأعضاء، فالأبوان ينظران الفرخ كذلك فيتركانه، فيجعل الله قوته في الذباب والبعوض الكائن في عشه إلى أن يقوى وينبت ريشه، فيعود إليه أبواه. وعلى الأنثى أن تحضن وعلى الذكر أن يأتيها بالمطعم. وفي طبعه أنه لا يتعاطى الصيد، بل إن وجد جيفة، أكل منها وإلا مات جوعا، ويتقمقم كما يتقمقم ضعاف الطير، وفيه حذر شديد وتنافر. والغداف يقاتل البوم ويخطف بيضها ويأكله، ومن عجيب أمره أن الإنسان إذا أراد أن يأخذ فراخه، يحمل الذكر والأنثى في أرجلهما حجارة، ويتحلقان الجو ويطرحان الحجارة عليه يريدان بذلك دفعه. قال الجاحظ: قال صاحب منطق الطير: الغراب من لئام الطير، وليس من كرامها، ولا من أحرارها ومن شأنه أكل الجيف والقمامات، وهو إما حالك السواد شديد الاحتراق، ويكون مثله في الناس الزنج فإنهم شرار الخلق تركيبا ومزاجا، كمن بردت بلاده ولم تنضجه الأرحام، أو ثخنت بلاده فأحرقته الأرحام، وإنما صارت عقول أهل بابل فوق العقول، وكمالهم فوق الكمال، لأجل ما فيها من الاعتدال. فالغراب الشديد السواد، ليس له معرفة ولا كمال، والغراب الأبقع كثير المعرفة، وهو الأم من الأسود انتهى. والعرب تتشاءم بالغراب، ولذا اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب. فائدة أجنبية : اسم الغربة مجموع من أسماء دالة على محصول اسم الغربة فالغين من غدر وغرور وغيبة وغم وغلة، وهي حرارة الحزن، وغرة وغول وهي كل مهلكة، والراء من رزء وردع وردى وهو الهلاك، والباء من بلوى وبؤس وبرح وهو الداهية، وبوار وهو الهلاك، والهاء من هوان وهول وهم وهلك، قاله محمد بن ظفر، في السلوان. وغراب البين الأبقع. قال الجوهري: هو الذي فيه سواد وبياض. وقال صاحب المجالسة: سمي غراب البين لأنه بان عن نوح، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، لما وجهه لينظر إلى الماء، فذهب ولم يرجع. ولذلك تشاءموا به. وذكر ابن قتيبة أنه سمي فاسقا، فيما أرى، لتخلفه حين أرسله نوح عليه السلام، ليأتيه بخبر الأرض، فترك أمره ووقع على جيفة. قال عنترة: ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببينهم الغراب الأبقع وقال صاحب منطق الطير: الغربان جنس من الأجناس التي أمر بقتلها في الحل والحرام، من الفواسق، اشتق لها ذلك الاسم من اسم إبليس، لما يتعاطاه من الفساد الذي هو شأن إبليس، واشتق ذلك أيضا لكل شيء اشتد أذاه. وأصل الفسق الخروج عن الشيء، وفي الشرع الخروج عن الطاعة انتهى. قال الجاحظ: غراب البين نوعان، أحدهما غراب صغير معروف باللؤم والضعف، وأما الآخر فإنه ينزل في دور الناس، ويقع على مواضع إقامتهم إذا ارتحلوا عنها، وبانوا منها. قال: وكل غراب غراب البين، إذا أرادوا به الشؤم لا غراب البين نفسه الذي هو غراب صغير أبقع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 وإنما قيل: لكل غراب غراب البين، لأنه يسقط في منازلهم إذا ساروا منها وبانوا عنها، فلما كان هذا الغراب لا يوجد إلا عند بينونتهم عن منازلهم، اشتقوا له هذا الاسم من البينونة. وقال المقدسي، في كشف الأسرار، في حكم الطيور والأزهار، في صفة غراب البين: هو غراب أسود ينوح نوح الحزين المصاب، وينعق بين الخلان والأحباب، إذا رأى شملا مجتمعا أنذر بشتاته، وإن شاهد ربعا عامرا بشر بخرابه، ودروس عرصاته، يعرف النازل والساكن بخراب الدور والمساكن، ويحذر الآكل غصة المآكل، ويبشر الراحل بقرب المراحل، ينعق بصوت فيه تحزين، كما يصيح المعلن بالتأذين وأنشد على لسان حاله: أنوح على ذهاب العمر مني ... وحقّ أن أنوح وأن أنادي وأندب كلما عاينت ركبا ... حدا بهمو لو شك البين حادي يعنفني الجهول إذا رآني ... وقد ألبست أثواب الحداد فقلت له: اتعظ بلسان حالي ... فإني قد نصحتك باجتهاد وها أنا كالخطيب وليس بدعا ... على الخطباء أثواب السواد ألم ترني إذا عاينت ركبا ... أنادي بالنوى في كل ناد أنوح على الطلول فلم يجبني ... بساحتها سوى خرس الجماد فأكثر في نواحيها نواحي ... من البين المفتت للفؤاد تيقظ يا ثقيل السمع وافهم ... إشارة من تسير به العوادي فما من شاهد في الكون إلا ... عليه من شهود الغيب بادي وكم من رائح فيها وغاد «1» ... ينادي من دنو أو بعاد لقد أسمعت لو ناديت حيا ... ولكن لا حياة لمن تنادي فدل قوله: وقد ألبست أثواب الحداد، وليس بدعا على الخطباء أثواب السواد، أنه أسود. وقوله: فلم يجبني بساحتها سوى خرس الجماد، أنه يوجد عند مفارقة أهل المواضع لها، وأما قوله: وينغق بين الخلان والأحباب، فهو بالغين المعجمة، عند جمهور أهل اللغة، وهو الذي قاله ابن قتيبة، وجعل غيره خطأ. ونقل البطليوسي، عن صاحب المنطق، أنه قال: نعق الغراب ونغق. قال: وهو بالغين المعجمة أحسن. وحكى ابن جني مثل ذلك. وقد أحسن الصاحب بهاء الدين زهير وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بقوله في البين من أبيات: لقد ظلمتني واستطالت يد النوى ... وقد طمعت في جانبي كل مطمع «2» إلى كم أقاسي فرقة بعد فرقة ... وحتى متى يا بين أنت معي معي وقالت علمنا ما جرى منك بعدنا ... فلا تظلميني ما جرى غير أدمعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وله ملغزا في قفل وقد أجاد: وأسود عار أنحل البرد جسمه ... ومازال من أوصافه الحرص والمنع «1» وأعجب شيء كونه الدهر حارسا ... وليس له عين وليس له سمع وله شعر جيد، وشعره عند أهل الصناعة يسمى السهل الممتنع. وكان متمكنا من الملك الصالح ولا يتوسط إلا بالخير، وكانت وفاته سنة ست وخمسين وستمائة رحمه الله تعالى. ويقال: إذا صاح الغراب مرتين، فهو شر، وإذا صاح ثلاث مرات فهو خير على قدر عدد الحروف. ولما كان صافي العين حاد البصر سموه أعور. وقال الجاحظ: إنهم إنما سموه بالأعور تطيرا منه وتشاؤما به وليس به عور. وقيل: إنما سموه أعور تفاؤلا بالسلامة منه، كما سموا البرية بالمفازة، واليد الشمال باليسار. والتطير أصله من الطير إذا مر بارحا أو سانحا أو قعيدا أو ناطحا، فالبارح ما أتى من ناحية الميامن والسانح، بالنون والحاء المهملة ما أتى من ناحية المياسر، والناطح ما تلقاك والقعيد ما استدبرك. وإنما كان الغراب هو المقدم عندهم في باب الشؤم، لأنه لما كان أسود ولونه مختلفا إن كان أبقع، ولم يكن على إبلهم شيء أشد من الغراب. وكان حديد البصر يخاف من عينيه كما يخاف من عين المعيان قدموه في باب الشؤم انتهى. وقيل: إنما سموه أعور لتغميض إحدى عينيه أبدا، من قوة بصره. قاله ابن الأعرابي، وسيأتي في الأمثال شيء من هذا. فائدة : قال صاحب العشرات: اسم الغراب من الأسماء المشتركة، يقع على الثلج وعلى الضفيرة من الشعر وعلى المعول وعلى رأس الورك وعلى الغراب نفسه. قال: أنشدني أبو عبد الله المهلبي، يعني نفطويه كنى عنه لأنه كان في زمانه، عن ثعلب عن ابن الأعرابي: يا عجبا للعجب العجاب ... خمسة غربان على غراب وقال ارسطاطاليس في النعوت: غراب البين جسمه أسود ومنقاره ورجلاه صفر، ومأكله من جميع النبات واللحوم. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن نقرة الغراب» «2» . يريد بذلك تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه، إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله. وروى البخاري في الأدب، والحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب، وابن عبد البر وغيرهم عن عبد الله بن الحارث الأموي، عن أمه ريطة بنت مسلم، عن أبيها، أنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم حنينا، فقال: «ما اسمك» ؟ قلت: اسمي غراب. فقال صلى الله عليه وسلم: «بل أنت مسلم» «3» . وإنما غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه لأنه حيوان خبيث الفعل، خبيث المطعم، ولذلك أمر صلى الله عليه وسلم بقتله في الحل والحرم. وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: «ما أسمك» ؟ قال: أصرم. قال: «بل أنت زرعة» . وإنما غيره لما فيه من معنى الصرم وهو القطع. قال أبو داود: وغير النبي صلى الله عليه وسلم اسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 العاص وعزيز وعقلة وشيطان والحكم وحباب وشهاب وأرض تسمى عفرة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم خضرة. فالعاص كرهه لمعنى العصيان، وإنما صفة المؤمن الطاعة والاستسلام. وعزيز إنما غيره لأن العزة لله تعالى وشعار العبد الذلة والاستكانة، وقد قال الله تعالى عندما قرع بعض أعدائه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «1» وعقلة معناه الشدة والغلظة، ومن صفة المؤمن اللين والسهولة. قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمنون هينون لينون» . والشيطان اشتقاقه من البعد عن الخير. والحكم هو الحاكم الذي لا يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله سبحانه وتعالى. والحباب اسم الشيطان، والشهاب اسم للشعلة من النار والنار عقوبة الله تعالى، وهي محرقة مهلكة، نسأل الله النجاة منها. وأما عفرة فهو نعت لأرض لا تنبت شيئا، فسماها خضرة على معنى التفاؤل لتخضر وتزرع. وفي سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن شبل، وليس له في الكتب الستة سواه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى المصلي عن نقرة الغراب» «2» . ورواه الحاكم بلفظ «نهى عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان كما يوطنه البعير» . يريد بنقرة الغراب تخفيف السجود، وأنه لا يمكث فيه إلا قدر وضع الغراب منقاره فيما يريد أكله. وروى أبو يعلى الموصلي، والطبراني، في معجمه الأوسط، عن سلمة بن قيصر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام يوما ابتغاء وجه الله، باعده الله من النار كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرما» . وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه كلام. وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه مثله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه الإمام أحمد في الزهد والبزار، وفيه رجل لم يسم، وقد تقدم في باب الحاء المهملة، في لفظ الحية، ما رواه الدارقطني عن أبي أمامة قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم بخفيه ليلبسهما فلبس أحدهما ثم جاء غراب فاحتمل الآخر ورمى به فخرجت منه حية فقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس خفيه حتى ينفضهما» «3» وفي إسناده هشام بن عمر، وذكره ابن حبان في الثقات وهو حديث صحيح إن شاء الله تعالى. وقد تقدم في الأسود السالخ حديث نظير هذا. وروى الإمام أحمد في الزهد، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه كان إذا نعب الغراب قال: اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك. وروينا عن ابن طبرزذ، بإسناده إلى الحكم بن عبد الله بن حطان عن الزهري، عن أبي واقد عن روح بن حبيب قال: بينما أنا عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه، إذ أتي بغراب، فلما رآه بجناحين حمد الله تعالى ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صيد قط صيد إلا بنقص من تسبيح، ولا أنبت الله تعالى نابتة إلا وكل بها ملكا يحصي تسبيحها حتى يأتي به يوم القيامة، ولا عضدت شجرة ولا قطعت، إلا بنقص من تسبيح، ولا دخل على امرىء مكروه إلا بذنب، وما عفا الله عنه أكثر» . يا غراب اعبد الله، ثم خلى سبيله. وسيأتي نظير هذا في لفظ القسورة، من كلام عمر رضي الله تعالى عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 فائدة أخرى : قال أبو الهيثم: يقال: إن الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره. والحكمة في أن الله تعالى بعث إلى قابيل، لما قتل أخاه هابيل، غرابا ولم يبعث له غيره من الطير، ولا من الوحش أن القتل كان مستغربا جدا، إذ لم يكن معهودا قبل ذلك فناسب بعث الغراب. قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً «1» الآيات. قال المفسرون: كان قابيل صاحب زرع، فقرب أرذل ما عنده وأدناه، وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أفضل كباشه فقربه. وكان دليل القبول أن تأتي نار تأكل القربان، فأخذت النار الكبش الذي قربه هابيل، فكان ذلك الكبش يرعى في الجنة، حتى أهبط إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في فداء ولده إسماعيل عليه الصلاة والسلام. وكان قابيل أسن ولد آدم عليه الصلاة والسلام. وروي أن آدم حج إلى مكة وجعل قابيل وصيا على بنيه فقتل قابيل هابيل فلما رجع آدم قال: أين هابيل؟ فقال: لا أدري. فقال آدم: اللهم العن أرضا شربت دمه! فمن ذلك الوقت لم تشرب الأرض دما. ثم إن آدم بقى مائة عام لا يبتسم، حتى جاءه ملك الموت، فقال له: حياك الله يا آدم وبياك، قال: وما بياك؟ قال: أضحكك. وروي أن قابيل حمل أخاه هابيل ومشى به حتى أروح، ولم يدر ما يصنع به، فبعث الله غرابين، فقتل أحدهما الآخر، ثم بحث في الأرض بمنقاره ودفنه، فاقتدى به قابيل، فكان بعث الغراب حكمة كبرى ليرى ابن آدم كيف المواراة، وهو معنى قوله «2» تعالى: ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ وروى أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «امتن الله تعالى على ابن آدم بالريح بعد الروح ولولا ذلك ما دفن حبيب حبيبا» . وقابيل أول من يساق إلى النار من ولد آدم قال «3» الله تعالى: رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهما قابيل وإبليس. وروى أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن يوم الثلاثاء، فقال: «يوم الدم فيه حاضت حواء، وفيه قتل ابن آدم أخاه «4» » . قال مقاتل: وكان قبل ذلك السباع والطيور تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل، هربت منه الطير والوحش، وشاكت الأشجار، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبرت الأرض. وروى أبو داود، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه، أنه قال: يا رسول الله إن دخل علي إنسان في الفتنة، وبسط إلي يده فقال: «كن كخير ابني آدم» «5» . وتلا هذه الآية. عجيبة : نقل القزويني عن أبي حامد الأندلسي أن على البحر الأسود، من ناحية الأندلس، كنيسة من الصخر، منقورة في الجبل، عليها قبة عظيمة وعلى القبة غراب لا يبرح، وفي مقابل القبة مسجد يزوره الناس، يقولون: إن الدعاء فيه مستجاب، وقد شرط على القسيسين ضيافة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 من يزور ذلك المسجد من المسلمين، فإذا قدم زائر، أدخل الغراب رأسه في روزنة على تلك القبة، وصاح صيحة، وإذا قدم اثنان صاح صيحتين، وهكذا كلما وصل زوار صاح على عددهم، فتخرج الرهبان بطعام يكفي الزائرين. وتعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب، وزعم القسيسون أنهم ما زالوا يرون غرابا على تلك القبة، ولا يدرون من أين يأكل أو يشرب. عجيبة أخرى : قال أبو الفرج المعافى بن زكريا، في كتاب الجليس والأنيس له: كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسن فجئنا على العادة فجلسنا عند بابه، وإذا أعرابي جالس كانت له حاجة، إذ وقع غراب على نخلة في الدار فصرخ ثم طار، فقال الأعرابي: إن هذا الغراب يقول: إن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام، قال: فزجرناه فقام وانصرف، ثم خرج الإذن من القاضي إلينا فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتما، فقلنا له: ما الخبر؟ فقال: رأيت البارحة في النوم شخصا يقول: منازل آل عباد بن زيد ... على أهليك والنعم السلام وقد ضاق صدري لذلك، فدعونا له وانصرفنا. فلما كان في اليوم السابع من ذلك اليوم دفن. قال القاضي أبو الطيب الطبري: سمعت هذه الحكاية من لفظ شيخنا أبي الفرج المذكور. عجيبة أخرى : قال يعقوب بن السكيت: كان أمية بن أبي الصلت في بعض الأيام يشرب، فجاء غراب فنعب نعبة، فقال له أمية: بفيك التراب، ثم نعب أخرى، فقال له أمية: بفيك التراب. ثم أقبل على أصحابه، فقال: أتدرون ما يقول هذا الغراب؟ زعم أني أشرب هذا الكأس فأموت، وأمارة ذلك أنه يذهب إلى هذا الكوم فيبتلع عظما فيموت. قال: فذهب الغراب إلى الكوم فابتلع عظما فمات ثم شرب أمية الكأس فمات من حينه اهـ. قلت: وأمية بن أبي الصلت الكافر مذكور في مختصر المزني والمهذب وغيرهما، في كتاب الشهادات. وسمع النبي صلى الله عليه وسلم شعره الذي فيه حكمة واقراره بالوحدانية والبعث. واسم أبي الصلت عبد الله بن ربيعة بن عوف وكان أمية يتعبد في الجاهلية، ويؤمن بالبعث وينشد في ذلك الشعر الحسن وأدرك الإسلام ولم يسلم. وروى الترمذي والنسائي وابن ماجه عن الشريد بن سويد رضي الله تعالى عنه، قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء» «1» قلت: نعم. فقال: «هيه» فأنشدته بيتا، فقال: «هيه» ثم أنشدته بيتا. فقال: «هيه» حتى أنشدته مائة بيت فقال صلى الله عليه وسلم: «إن كاد ليسلم» . وفي رواية: «لقد كاد أن يسلم بشعره» وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لما سمع قوله: لك الحمد والنعماء والفضل ربّنا ... فلا شيء أعلى منك حمدا وأمجد وفي مسند الدارمي، من حديث عكرمة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: صدّق النبي صلى الله عليه وسلم أمية بن أبي الصلت في أبيات من شعره في قوله «2» : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 زحل وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليث مرصد فقال صلى الله عليه وسلم: «صدق» . قال: والشمس تطلع كلّ آخر ليلة ... حمراء يصبح لونها يتورد فقال صلى الله عليه وسلم: «صدق» . قال: تأبى فما تطلع لنا في رسلها ... إلا معذبة وإلا تجلد فقال صلى الله عليه وسلم: «صدق» . قال السهيلي، في التعريف والاعلام، في قوله «1» تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها الآية. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها نزلت في بلعام بن باعورا، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: إنها نزلت في أمية بن أبي الصلت الثقفي. وكان قد قرأ التوراة والإنجيل في الجاهلية، وكان يعلم أنه سيبعث نبي من العرب فطمع أن يكون هو، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وخرجت النبوة عن أمية حسده وكفر. وهو أول من كتب باسمك اللهم، ومنه تعلمت قريش، فكانت تكتب به في الجاهلية. ولتعلم أمية هذه الكلمة نبأ عجيب ذكره المسعودي، وذلك أن أمية كان مصحوبا تبدو له الجن، فخرج في عير من قريش، فمرت بهم حية فقتلوها، فاعترضت لهم حية أخرى تطلب بثأرها، وقالت: قتلتم فلانا! ثم ضربت الأرض بقضيب، فنفرت الإبل فلم يقدروا عليها، إلا بعد عناء شديد، فلما جمعوها، جاءت فضربت ثانية فنفرت، فلم يقدروا عليها إلا بعد نصف الليل، ثم جاءت فضربت ثالثة فنفرتها، فلم يقدروا عليها حتى كادوا أن يهلكوا بها عطشا وعناء، وهم في مفازة لا ماء فيها. فقالوا لأمية: هل عندك من حيلة؟ قال: لعلها. ثم ذهب حتى جاوز كثيبا، فرأى ضوء نار على بعد فاتبعه حتى أتى على شيخ في خباء، فشكا إليه ما نزل به وبصحبه، وكان الشيخ جنيا، فقال: اذهب فإن جاءتكم فقولوا: باسمك اللهم سبعا. فرجع إليهم وقد أشرفوا على الهلكة فأخبرهم بذلك فلما جاءتهم الحية قالوا ذلك، فقالت: تبا لكم من علمكم هذا؟ ثم ذهبت. وأخذوا إبلهم وكان فيهم حرب بن أمية بن عبد شمس، جد معاوية بن أبي سفيان، فقتله الجن بعد ذلك بثأر الحية المذكورة وقالوا «2» فيه: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر وقد أسلمت عاتكة أخت أمية بن أبي الصلت هذا، وأخبرت عنه بخبر، ذكره عبد الرزاق في تفسيره. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في هذا الكتاب، في باب النون، في الكلام على النسر ما يوافق ذلك. الحكم : يحرم أكل الغراب الأبقع الفاسق، وأما الأسود الكبير وهو الجبلي، فهو حرام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 أيضا، على الأصح، وبه قطع جماعة، وغراب الزرع حلال على الأصح. وقد تقدم حكم العقعق والغداف. وقال أبو حنيفة: الغربان كلها حلال. روى «1» البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الدواب ليس على قاتلهن جناح: الغراب والحدأة والفأرة والحية والكلب العقور» . وفي سنن ابن ماجه والبيهقي، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحية فاسقة، والفأرة فاسقة، والغراب فاسق» «2» . وفي سنن ابن ماجه أيضا قيل لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أيؤكل الغراب «3» قال: ومن يأكله بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إنه فاسق؟. وهذه الفواسق الخمس لا ملك لأحد فيها ولا اختصاص، كذا نقله الرافعي في كتاب ضمان البهائم، عن الإمام وأقره. وعلى هذا فلا يجب ردها على غاصبها. الأمثال : قال الشاعر: ومن يكن الغراب له دليلا ... يمرّ به على جيف الكلاب وقالوا: «لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب» «4» ، أي لا أفعل أبدا، لأن الغراب لا يشيب أبدا. روى الحافظ أبو نعيم في حليته، في ترجمة سفيان بن عيينة، عن مسعر بن كدام، أن رجلا ركب البحر فانكسرت السفينة فوقع في جزيرة، فمكث ثلاثة أيام لم ير أحدا، ولم يأكل ولم يشرب، فتمثل بقول القائل: إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب فأجابه صوت مجيب لا يراه: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب فنظر فإذا سفينة قد أقبلت، فلوح إليهم فأتوه فحملوه، فأصاب خيرا كثيرا. وقالوا: «أبصر من غراب» «5» . زعم ابن الأعرابي أن العرب تسمي الغراب الأعور لأنه يغمض أبدا إحدى عينيه، ويقتصر على النظر بإحداهما من قوة بصره. وقال غيره: إنما سموه أعور لحدة بصره على طريق التفاؤل قال بشار بن برد الأعمى: وقد ظلموه حين سمّوه سيدا ... كما ظلم الناس الغراب بأعورا وقد تقدم عن أبي الهيثم، أن الغراب يبصر من تحت الأرض، بقدر منقاره. وقالوا: «أخيل من غراب» «6» «وأزهى «7» وأبكر من غراب «8» » ، فإنه أشد الطير بكورا. وقالوا: «أبطأ من غراب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 نوح» «1» . وذلك أن نوحا عليه الصلاة والسلام أرسله لينظر هل غرقت البلاد ويأتيه بالخبر، فوجد جيفة طافية على وجه الماء فاشتغل بها، ولم يأته بالخبر، فدعا عليه فعقلت رجلاه، وخاف من الناس. وقالوا «2» : «كأنهم كانوا غرابا واقعا» ، يضرب فيما ينقضي سريعا، فإن الغراب، إذا وقع لا يلبث أن يطير. وقالوا: «كالغراب والذئب» يضرب للرجلين بينهما موافقة فلا يختلفان، لأن الذئب إذا أغار على غنم تبعه الغراب ليأكل ما فضل منه. وقالوا: «الغراب أعرف بالتمر» «3» . وذلك أن الغراب لا يأخذ إلا الأجود منه، ولذلك يقال: «وجد تمرة الغراب» «4» ، إذا وجد شيئا نفيسا. وقالوا: «أشأم من غراب البين» «5» ، وإنما لزمه هذا الاسم لأنه إذا بان أهل الدار للنجعة، وقع في موضع بيوتهم يلتمس ويتقمقم فيتشاءموا به، ويتطيروا منه، إذ كان لا يعتري منازلهم إلا إذا بانوا، فلذلك سموه غراب البين. وقال فيه شاعرهم: وصاح غراب فوق أعواد بانة ... بأخبار أحبابي فهيمني الفكر فقلت: غراب باغتراب وبانة ... ببين النوى تلك العيافة والزجر وهبّت جنوب باجتنابي منهم ... وهاجت صبا قلت: الصبابة والهجر وقالوا: «أحذر من غراب» «6» . حكى المسعودي، عن بعض حكماء الفرس، أنه قال: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه، حتى انتهى بي ذلك إلى الكلب والهرة والخنزير والغراب، قيل له: فما أخذت من الكلب؟ قال: ألفه لأهله، وذبه عن صاحبه. قيل: فما أخذت من الهرة؟ قال: حسن تأنيها، وتملقها عند المسألة. قيل: فما أخذت من الخنزير؟ قال: بكوره في حوائجه. قيل: فما أخذت من الغراب؟ قال: شدة حذره. وقالوا: «أغرب من غراب» «7» ، و «أشبه بالغراب من الغراب» «8» . غريبة : رأيت في كتاب الدعوات، للإمام أبي القاسم الطبراني، وفي تاريخ ابن النجار، في ترجمة أبي يعقوب يوسف بن الفضل الصيدلاني، وفي الإحياء، في كتاب آداب السفر، عن زيد بن أسلم عن أبيه، قال: بينما عمر رضي الله تعالى عنه جالس يعرض الناس، إذ هو برجل معه ابنه فقال له: ويحك ما رأيت غرابا أشبه بغراب من هذا بك قط! قال: يا أمير المؤمنين، هذا ما ولدته أمه إلا وهي ميتة! فاستوى عمر جالسا وقال له: حدثني حديثه، قال: يا أمير المؤمنين خرجت لسفر، وأمه حامل به، فقالت: تخرج وتتركني على هذا الحال حاملا مثقلة؟ فقلت: استودع الله ما في بطنك. ثم خرجت فغبت أعواما ثم قدمت فإذا بابي مغلق. فقلت: ما فعلت فلانة، قالوا: ماتت. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم انطلقت إلى قبرها، فبكيت عندها، ثم رجعت فجلست إلى بني عمي، فبينما أنا كذلك، إذ ارتفعت لي نار من بين القبور، فقلت لبني عمي: ما هذه النار؟ فقالوا: ترى على قبر فلانة كل ليلة! فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 والله لقد كانت صوامة قوامة عفيفة مسلمة، انطلقوا بنا إليها فانطلقنا، فأخرت الناس وأتيت القبر فإذا القبر مفتوح، وإذا هي جالسة، وهذا الولد يدور حولها، وإذا مناد ينادي: أيها المستودع ربه وديعته خذ وديعتك. أما والله لو استودعت أمه لوجدتها! فأخذته وعاد القبر كما كان والله يا أمير المؤمنين. قال أبو يعقوب: فحدثت بهذا الحديث في الكوفة، فقالوا: نعم هذا الرجل كان يقال له خزين القبور. وقريب من هذا الخبر في غريب اتفاقه، ولطيف مساقه، ما حكاه الحافظ المزني في تهذيبه، في ترجمة عبيد بن واقد الليثي البصري، أنه قال: خرجت أريد الحج، فوقفت على رجل بين يديه غلام من أحسن الغلمان صورة، وأكثرهم حركة، فقلت: من هذا؟ ومن يكون؟ قال: ابني. وسأحدثك عنه. خرجت مرة حاجا، ومعي أم هذا الغلام، وهي حامل به، فلما كنا في بعض الطريق، ضربها الطلق فولدت هذا الغلام وماتت. وحضر الرحيل، فأخذت الصبي، فلففته في خرقة، وجعلته في غار، وبنيت عليه أحجارا، وارتحلت وأنا أرى أنه يموت من ساعته. فقضينا الحج، ورجعنا فلما نزلنا ذلك المنزل، بادر بعض أصحابي إلى الغار فنقض الأحجار فإذا هو بالصبي يلتقم إبهاميه فنظرنا فإذا اللبن يخرج منهما. فاحتملته معي فهو الذي ترى. الخواص : إذا علق منقار الغراب على إنسان حفظ من العين، وكبده تذهب الغشاوة اكتحالا، وإذا علق طحاله على إنسان هيج الشبق، وإذا سقي إنسان من دمه مع نبيذ أبغض النبيذ حتى لا يرجع يشربه، وبيضه إذا طرح في النورة نفع مستعمله. ودمه إذا جفف وحشي به البواسير أبرأها. وقلبه ورأسه إذا طرحا في النبيذ وسقي الإنسان منه من يريد محبته، فإن الشارب يحب الساقي محبة عظيمة. ولحم المطوق إذا أكل مشويا، نفع القولنج. ومرارة الغراب إذا طلي بها إنسان مسحور بطل عنه السحر. وإذا غمس الغراب الأسود بريشه في الخل وطلي به الشعر سوده. وزبل الغراب الأبلق الذي يسمى اليهودي ينفع الخنازير والخوانيق. وإن صرفي خرقة وعلق على الصبي الذي لم يبلغ الحلم، نفعه من السعال المزمن وقطعه. وإذا أكل الغراب الكتلة سقط ولم يقدر على الطيران، لا سيما في زمن الصيف. التعبير : الغر اب في المنام يدل على رجل مخامر غدار واقف مع حظ نفسه، وربما دل على الحرص في المعاش، وربما كان حفارا. وممن يستحل قتل النفس، وربما دل على الحفر في الأرض ودفن الأموات، لقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ «1» الآية. وربما دل الغراب على الغربة والتشاؤم بالأخبار، والغموم والأنكاد، وطول السفر، وعلى ما يوجب الدعاء عليه من أهله وأقاربه، أو سلطانه لسوء تدبيره. وغراب الزرع يدل على ولد الزنا، والرجل الممزوج بالخير والشر، والغراب الأبقع يدل على رجل معجب بنفسه كثير الخلاف، وهو من الممسوخ. فمن صاد غرابا نال مالا حراما في ضيق بمكابدة. ولحم كل طير وريشه وعظمه مال لمن حواه في المنام. وإذا رأى الغراب على زرع أو شجر فإنه شؤم، ومن رأى غرابا في داره فإن فاسقا يخونه في امرأته، ومن رأى غرابا يحدثه فإنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 يرزق ولدا خبيثا. وقال ابن سيرين: بل يغتم غما شديدا، ثم يفرج عنه، ومن رأى كأنه يأكل لحم غراب، فإنه يأخذ مالا من قبل اللصوص، ومن رأى غرابا على باب الملك، فإنه يجني جناية يندم عليها، أو يقتل أخاه ثم يندم على ذلك، لقوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ «1» فإن رأى الغراب يبحث فالدليل قوي على قتل الأخ، ومن رأى غرابا خدشه، فإنه يهلك في البرية أو يناله ألم ووجع، ومن رأى كأنه أعطي غرابا، نال سرورا. وقال أرطاميدورس: الغراب الأبقع يدل على طول الحياة وبقاء المتاع، وربما دل على العجائز، وذلك لطول عمر الغراب وهن رسل النساء. ومن الرؤيا المعبرة أن رجلا رأى كأن غرابا سقط على الكعبة، فقصها على ابن سيرين فقال: رجل فاسق يتزوج بامرأة شريفة، فتزوج الحجاج بابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين. الغر: بضم الغين ضرب من طير الماء أسود الواحدة غرة الذكر والأنثى في ذلك سواء قاله ابن سيده. الغرنيق: بضم الغين وفتح النون قال الجوهري والزمخشري: إنه طائر أبيض طويل العنق، من طير الماء، وقال في نهاية الغريب: إنه الذكر من طير الماء، ويقال له: غرنيق وغرنوق. وقيل هو الكركي. وعن أبي صبرة الأعرابي أنه إنما سمي بذلك لبياضه. قال الهذلي يصف غواصا: أجاز إليها لجة بعد لجة ... أزل كغرنيق الضّحول عموج وإذا وصف به الرجال، فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون فيهما وغرنوق بالضم فيهما. وقيل: الغرانيق والغرانقة طيور سود في قدر البط. روى الطبراني بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير أنه قال: مات ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالطائف، فشهدنا جنازته، فجاء طائر لم ير مثله على خلقة الغرنيق، حتى دخل في نعشه ثم لم ير خارجا منه. فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، لم ندر من تلاها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي «2» ثم روى مسلم عن عبد الله بن ياسين نحوه. إلا أنه قال: جاء طائر أبيض يقال له الغرنوق. وفي رواية كأنه قبطية. والقبطية ثياب بيض من كتان نسج مصر، تنسب إلى القبط بالضم فرقا بين الأيام والثياب والجمع القباطي. قال القزويني: الغرنوق من الطيور القواطع وهي إذا أحست بتغير الزمان عزمت على الرجوع إلى بلادها، فعند ذلك تتخذ قائدا حارسا، ثم تنهض معا فإذا طارت ترتفع في الهواء حتى لا يعرض لها شيء من السباع، فإذا رأت غيما أو غشيها الليل أو سقطت للطعم أمسكت عن الصياح كي لا يحس بها العدو، وإذا أرادت النوم، أدخل كل واحد منها رأسه تحت جناحه، لعلمه أن الجناح أحمل للصدمة من الرأس، لما فيه من العين التي هي أشرف الأعضاء، والدماغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 الذي هو ملاك البدن، وينام كل واحد منها قائما على إحدى رجليه، حتى لا يكون نومه ثقيلا، وأما قائدها وحارسها فلا ينام، ولا يدخل رأسه في جناحه ولا يزال ينظر في جميع الجوانب، فإذا أحسن بأحد صاح بأعلى صوته. ثم حكى عن يعقوب بن اسحاق السراج أنه قال: رأيت رجلا من أهل رومية قال: ركبت بحر الزنج فألقتني الريح إلى بعض الجزائر، فوصلت منها إلى مدينة أهلها أناس قامتهم قدر ذراع، وأكثرهم عور، فاجتمع عليّ منهم جمع فأخذوني وانتهوا بي إلى ملكهم، فأمر بحبسي، فحبست في شبه قفص، ثم رأيتهم في بعض الأيام يستعدون للقتال، فسألتهم فقالوا: لنا عدو يأتينا في مثل هذه الأيام، فلم نلبث إلا وقد طلعت عليهم عصابة من الغرانيق، وكان عورهم من نقرها أعينهم، فأخذت عصا وشددت عليها فطارت وهربت فأكرموني لذلك. فائدة : قال القاضي عياض وغيره: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة والنجم وقال «1» : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى قال: (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى) فلما ختم السورة سجد، وسجد من معه من المسلمين والكفار لما سمعوه أثنى على آلهتهم. ثم أنزل الله تعالى عليه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الآية «2» . وأجابوا عنه بضعف الحديث، فإنه لم يخرج أحد من أهل الصحيح ولا رواه ثقة بإسناد صحيح سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون لكل صحيح وسقيم. والذي منه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم وهو بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا توهيمه من جهة النقل، وأما من جهة المعنى فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة، على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا، ولم يجعل الله تعالى للشيطان عليه، ولا على أحد من الأنبياء سبيلا. وعلى تقدير صحة ما رووه، وقد أعاذنا الله من صحته، فالراجح في تأويله عند المحققين أنه عليه الصلاة والسلام كان كما أمره الله تعالى يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل الآيات تفصيلا في قراءته، فمن ثم ترصد الشيطان لتلك السكتات، ودس كلاما في تلك الكلمات محاكيا نغمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنوها من قوله صلى الله عليه وسلم، ولم يقدح ذلك عند المسلمين. بل روى محمد بن عقبة أن المسلمين لم يسمعوها وإنما ألقاها الشيطان في أسماع الكفار وعقولهم. وأيضا فمجاهد والكلبي فسر الغرانيق العلا بأنها الملائكة، وذلك أن الكفار كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله تعالى. كما حكاه جل وعلا عنهم ورده عليهم في السورة بقوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى «3» فأنكر الله تعالى كل ذلك من قولهم. ورجاء الشفاعة من الملائكة صحيح. فلما تأوله المشركون على أن المراد به ذكر آلهتهم، ولبس عليهم الشيطان ذلك وزينه في قلوبهم، وألقاه إليهم، نسخ الله تعالى ما ألقى الشيطان، وأحكم آياته، ورفع تلاوة ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 حاوله الشيطان، كما نسخ كثير من القرآن ورفعت تلاوته وكان في إنزال الله تعالى لذلك حكمة. وفي نسخه حكم ليضل به من يشاء ويهدي به من يشاء، وما يضل به إلا الفاسقين، ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض، والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذي أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. فائدة أخرى : روى الإمام محمد بن الربيع الجيزي، في مسند من دخل مصر من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أخدمه، فإذا أنا برجال من أهل الكتاب معهم مصاحف أو كتب، فقالوا: استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرفت إليه فأخبرته بمكانهم فقال صلى الله عليه وسلم: «ما لي ولهم يسألونني عما لا أدري إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي عز وجل» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ابغني وضوءا» فتوضأ. ثم قام إلى مسجد في بيته فركع ركعتين، فلم ينصرف حتى عرفت السرور في وجهه والبشر. ثم قال صلى الله عليه وسلم: «اذهب فأدخلهم ومن وجدت من أصحابي بالباب فأدخله معهم» قال: فأدخلتهم، فلما رفعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن شئتم أخبرتكم عما أردتم أن تسألوني قبل أن تتكلموا، وإن شئتم تكلموا به وأخبركم» . فقالوا: بل أخبرنا قبل أن نتكلم قال صلى الله عليه وسلم: «جئتم تسألونني عن ذي القرنين، وسأخبركم عما تجدونه مكتوبا عندكم إن أول أمره أنه غلام من الروم أعطي ملكا، فسار حتى بلغ ساحل أرض مصر، فابتنى عنده مدينة يقال لها الاسكندرية، فلما فرغ من بنائها، أتاه ملك فعرج به حتى استقله، فرفعه ثم قال له: انظر ماذا ترى تحتك، قال: أرى مدينتي وأرى مدائن معها، ثم عرج به وقال: انظر ماذا تحتك قال: قد اختلطت مدينتي مع المدائن فلا أعرفها، ثم زاد فقال: انظر فقال: أرى مدينتي وحدها لا أرى معها غيرها فقال له الملك: إنما تلك الأرض كلها، والذي ترى محيطا بها هو البحر. وإنما أراد ربك عز وجل أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا. وسوف يعلم الجاهل ويثبت العالم، فسار حتى بلغ مغرب الشمس، ثم سار حتى بلغ مطلع الشمس، ثم أتى السدين، وهما جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، فبنى السد، ثم جاء يأجوج ومأجوج ثم قطعهم فوجد قوما وجوههم وجوه الكلاب، يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم قطعهم فوجد قوما قصارا يقاتلون القوم الذين وجوههم وجوه الكلاب، ثم مضى فوجد أمة من الغرانيق يقاتلون القوم القصار، ثم مضى فوجد أمة من الحيات تلتقم الحية منها الصخرة العظيمة، ثم أفضى إلى البحر المحيط بالأرض» فقالوا: نشهد أن أمره كان هكذا كما ذكرت وإنا نجده هكذا في كتبنا. وروي أن ذا القرنين، لما بنى السد وأحكمه، انطلق يسير حتى وقع على أمة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون، مقسطة مقتصدة يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، ويتراحمون حالهم واحدة وكلمتهم واحدة، وأخلاقهم مستقيمة، وطريقتهم مستوية، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليس لبيوتهم أغلاق، وليس عليهم أمراء، ولا بينهم قضاة، ولا بينهم أغنياء ولا فقراء، ولا أشراف ولا ملوك، لا يختلفون ولا يتفاضلون، ولا يتنازعون ولا يتسابون، ولا يقتتلون ولا يضحكون، ولا يحزنون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب الناس، وهم أطول الناس أعمارا، وليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 فيهم مسكين ولا فقير، ولا فظ غليظ. فلما رأى ذلك ذو القرنين، عجب من أمرهم وقال: خبروني أيها القوم خبركم فإني قد أحصيت الدنيا كلها، برها وبحرها، شرقها وغربها، فلم أر أحدا مثلكم، فخبروني خبركم، قالوا: نعم فسل عما تريد، فقال: خبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم؟ قالوا: عمدا فعلنا ذلك لئلا ننسى الموت، ولئلا يخرج ذكره من قلوبنا. قال: فما بال بيوتكم ليس عليها أغلاق؟ قالوا: ليس فينا متهم وليس منا إلا أمين. قال: فما بالكم ليس عليكم أمراء؟ قالوا: لا حاجة لنا بذلك. قال: فما بالكم ليس عليكم حكام؟ قالوا: لأنا لا نختصم قال: فما بالكم ليس فيكم أغنياء؟ قالوا: لأننا لا نتكاثر بالأموال. قال: فما بالكم ليس فيكم ملوك؟ قالوا: لأنا لا نرغب في ملك الدنيا. قال: فما بالكم ليس فيكم أشراف؟ قالوا: لأنا لا نتفاخر. قال: فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون؟ قالوا: من صلاح ذات بيننا. قال: فما بالكم لا تقتتلون؟ قالوا: من أجل أنّا سسنا أنفسنا بالحلم. قال: فما بال كلمتكم واحدة وطريقتكم مستقيمة؟ قالوا: من قبل انّا لا نتكاذب ولا نتخادع ولا يغتاب بعضنا بعضا. قال: فأخبروني من أي شيء تشابهت قلوبكم واعتدلت سرائركم؟ قالوا: صحت نياتنا فنزع بذلك الغل من صدورنا، والحسد من قلوبنا. قال: فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير؟ قالوا: من قبل إنّا نقتسم بالسوية. قال: فما بالكم ليس فيكم فظ غليظ؟ قالوا: من قبل الذل والتواضع لربنا. قال: فلأي شيء أنتم أطول الناس أعمارا؟ قالوا: من قبل أنا نتعاطى بالحق ونحكم بالعدل. قال: فلأي شيء لا تضحكون؟ قالوا: لئلا نغفل عن الاستغفار. قال: فما بالكم لا تحزنون؟ قالوا: من أجل أنّا وطنا أنفسنا للبلاء، مذ كنا أطفالا، فأحببناه وحرصنا عليه. قال: فلأي شيء لا تصيبكم الآفات كما تصيب الناس؟ قالوا: لأنا لا نتوكل على غير الله تعالى، ولا نعمل بالأنواء والنجوم. قال: حدثوني هكذا وجدتم آباءكم؟ قالوا: نعم وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون على من جهل عليهم، ويصلون أرحامهم، ويؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلواتهم، ويوفون بعهودهم، ويصدقون في مواعيدهم، فأصلح الله بذلك أمرهم، وحفظهم ماداموا أحياء، وكان حقا عليه أن يخلفهم بذلك في عقبهم. فقال ذو القرنين: لو كنت مقيما عند أحد، لأقمت عندكم، ولكن لم أؤمر بالإقامة. وقد ذكرنا الاختلاف بين العلماء في نسبه واسمه ونبوته في باب السين المهملة في السعلاة. الحكم : يحل أكل الغرانيق لأنها من الطيبات. الخواص : زبل الغرنيق يسحق بالماء وتبل فيه فتيلة ويجعل في الأنف ينفع من كل قرحة تكون فيها والله أعلم. الغرغر: بالكسر الدجاج البري، الواحدة غرغرة وأنشد أبو عمرو لابن أحمر: ألفهم بالسيف من كلّ جانب ... كما لفت العقبان حجلي وغرغرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 وفي كتاب الغريب، قال الأزهري: كان بنو إسرائيل، من أهل تهامة، أعز الناس على الله، فقالوا قولا لم يقله أحد، فعاقبهم الله تعالى بعقوبة ترونها الآن بأعينكم، جعل رجالهم القردة، وبرهم الذرة، وكلابهم الأسود، ورمانهم الحنظل، وعنبهم الأراك، وجوزهم السرو، ودجاجهم الغرغر، وهو دجاج الحبش لا ينتفع بلحمه لرائحته. وحكمه : حل الأكل، لأن العرب لا تستخبثه والله أعلم. الغرناق: بالكسر طائر حكاه ابن سيده. الغزال: ولد الظبية إلى أن يقوى ويطلع قرناه، والجمع غزلة وغزلان، مثل غلمة وغلمان، والأنثى غزالة. كذا قاله ابن سيده وغيره. واستعمله الحريري في آخر المقامة الخامسة، كذلك في قوله: فلما ذر قرن الغزالة طمر طمور الغزالة أراد بالأول الشمس، وبالثاني الأنثى من أولاد الظباء، وقد غلطه في ذلك بعضهم. والصواب عدم تغليطه، فإنه مسموع مستعمل نظما ونثرا. قال الصلاح الصفدي، في شرح لامية العجم: وما أحسن قول القائل: غدوت مفكرا في سرّ أفق ... إذا ما العلم مبدؤه الجهاله فما طويت له سبل الدراري ... إلى أن أظفرته بالغزاله قال: وأنشدني لنفسه العلامة أبو الثناء محمود في وصف العقاب: ترى الطير والوحش في كفها ... ومنقارها ذا عظام مزاله فلو أمكن الشمس من خوفها ... إذا طلعت ما تسمت غزاله قال: وقد غلطوا الحريري في قوله: فلما ذر قرن الغزالة طمر طمور الغزالة، قالوا: لم تقل العرب الغزالة إلا للشمس، فلما أرادوا تأنيث الغزال، قالوا: الظبية. ثم هي بعد ذلك ظبية والذكر ظبي، قاله في التحرير، وقال: اعتمده، فقد وقع فيه تخليط في كتب الفقهاء. قلت: وقد وقع هو في ذلك، في باب محرمات الاحرام. ووقع للرافعي أيضا بعض اختلاف تقدم التنبيه على بعضه، في الكلام على حكم الظبي، وقد تنازع جمال الدين يحيى بن مطروح، وأبو الفضل جعفر «1» ابن شمس الخلافة في بيت كل منهما ادعاه وهو هذا: وأقول: يا أخت الغزال ملاحة ... فتقول: لا عاش الغزال ولا بقى وبها سميت المرأة غزالة، وهي امرأة شبيب «2» بن يزيد الشيباني الخارجي، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان، والحجاج أمير العراق يومئذ، وخرج بالموصل وهزم عساكر الحجاج وحصره في قصر الكوفة، وضرب باب القصر بعموده فنقبه، وبقيت الضربة فيه إلى أن خرب قصر الإمارة، وكانت زوجته غزالة، نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين، تقرأ فيهما بسورة البقرة وآل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 عمران، ففعلت وكانت شجيعة وقيل «1» فيها: وفت غزالة نذرها ... يا ربّ لا تغفر لها وهرب الحجاج في بعض حروبه مع شبيب من غزالة، فعيره عمران بن قحطان «2» السدوسي بقوله «3» : أسد علي وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر هلا كررت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر وحكي أن الحجاج، لما برز له شبيب الخارجي، في بعض أيام محاربته، أبرز إليه غلاما له ألبسه لباسه المعروف به، وأركبه فرسه الذي لم يكن يقاتل إلا عليه، فلما رآه شبيب غمس نفسه في الحرب إلى أن خلص إليه، فضربه بعمود، وكان بيده، وهو يظنه الحجاج، فلما أحس الغلام بالضربة، قال: أخ بالخاء المعجمة، فعرف شبيب منه بهذه اللفظة، أنه عبد فانثنى عنه، وقال: قبح الله ابن أم الحجاج، أيتقي الموت بالعبيد؟. قال الجوهري: والعرب إنما تنطق بهذه اللفظة بالحاء المهملة، ولما عجز الحجاج عن شبيب، بعث إليه عبد الملك عساكر كثيرة من الشأم، فتكاثروا على شبيب فهرب فلما حصل على جسر دجلة بالأهواز، نفر به فرسه وعليه الحديد الثقيل، من درع ونحوه فألقاه في الماء، فقال له بعض أصحابه: أغرقا يا أمير المؤمنين؟ قال: ذلك تقدير العزيز العليم، فلما غرق ألقاه دجلة إلى الساحل، فحملوه إلى الحجاج فشق بطنه واستخرج قلبه، فإذا هو كالحجر، إذا ضربت به الأرض نبا عنها، فشق فكان داخله قلب صغير كالكرة، فشق فأصيب فيه علقة من الدم. وكان شبيب إذا صاح على الجيش لا يلوي أحد على أحد. ولما غرق أحضر عبد الملك عتبان الحروري، وهو يرى رأي الخوارج، فقال: يا عدو الله ألست القائل «4» : فإن يك منكم كابن مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب فقال: لم أقل ذلك يا أمير المؤمنين، وإنما قلت: ومنا أمير المؤمنين شبيب، فقبل قوله وعفا عنه. وهذا الجواب في نهاية الحسن، فإنه إذا كان قوله ومنا أمير المؤمنين شبيب مرفوعا كان مبتدأ فيكون شبيب أمير المؤمنين، وإذا نصب، كان معناه ومنا يا أمير المؤمنين شبيب. ولم يخرج عليهم أحد مثل شبيب، فإن أيامه طالت وهزم عساكر كثيرة وجبى الخراج وقال أبو يوسف الجوهري: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وإذا الغزالة في السماء ترفّعت ... وبدا النهار لوقته يترجل أبدت لقرن الشمس وجها مثله ... تلقى السماء بمثل ما تستقبل أراد بالغزالة الشمس وقت ارتفاعها فيقال: طلعت الغزالة، ولا يقال غربت الغزالة. وقد أبدع الصفي الحلي في غلام قلع ضرسه وأجاد حيث قال «1» : لحى الله الطبيب لقد تعدى ... وجاء لقلع ضرسك بالمحال أعاق الظبي في كلتا يديه ... وسط كلبتين على غزال وفي سنن أبي داود، ومن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة، قال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم وهنتهم الحمى، فلما كان الغد جلسوا مما يلي الحجر، «فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين، ليرى المشركون جلدهم» «2» ، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء كأنهم الغزلان، فإن قيل: هذا الحديث يعارضه ما في صحيح مسلم، عن ابن عمر وجابر رضي الله عنهم قالا: «إن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف» «3» ، فالجواب أن حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، كان في عمرة القضاء، سنة سبع قبل فتح مكة وكان أهلها مشركين حينئذ وحديث ابن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهم كان في حجة الوداع، فيكون متأخرا فتعين الأخذ به، وهو الصحيح من المذهب. وحكم الغزال الحل كما تقدم في باب الظاء، في لفظ الظبي، وفيه إذا قتله المحرم أو في الحرم عنز. كذا في المحرر والمنهاج والتنبيه والمناسك وغيرها. واستدلوا لذلك بقضاء الصحابة رضي الله عنهم فيه بذلك. والذي في زوائد الروضة، وصححه في شرح المهذب تبعا للإمام أن الغزال اسم للصغير من ولد الظباء ذكرا كان أو أنثى إلى أن يطلع قرناه، ثم الذكر ظبي والأنثى ظبية، ففي الغزال ما في الصغار، فإن كان ذكرا فجدي وإن كان أنثى فعناق. الأمثال : قالوا: «أنوم من غزال» «4» لأنه إذا رضع أمه فروى امتلأ نوما، وقالوا: «تركت الشيء ترك الغزال لظله» «5» وظله كناسه الذي يستظل به من شدة الحر، وهو إذا نفر منه لا يعود إليه البتة، وقالوا: «أغزل من غزال» ، ومغازلة النساء محادثتهن، ويوصف بالغزل غير الغزال من الحيوان كما قيل: قد ألبستني في الهوى ... ملابس الصبّ الغزل انسانة فتانة ... بدر الدجى منها خجل «6» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 إذا زنت عيني بها ... فبالدموع تغتسل وقد تقدم في الظبي قولهم ترك الغزال لظله ومن محاسن شعر المتنبي: بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا وأنشد الثعالبي لبعض شعراء عصره: رنا ظبيا وغنى عندليبا ... ولاح شقائقا ومشى قضيبا الخواص : دماغ الغزال، يداف بدهن الغار ويغلى، ثم يؤخذ منه فيداف بماء الكمون، ويشرب منه قدر جرعة، ينفع للسعال، ومرارته تخلط بقطران وملح، ويشرب منها صاحب السعال، الذي يقذف القيح والدم جزءا بماء حار يبرأ بإذن الله تعالى. وشحمه إذا طلى به إنسان إحليله، وجامع امرأته لم تحب سواه. وقد تقدم في خواص الظبي، أن لحم الغزال حار يابس وأنه ينفع في القولنج والفالج، وأنه أصلح لحوم الصيد والله أعلم. الغضارة: القطاة قاله ابن سيده وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب القاف. الغضب: الثور والأسد، وقد تقدما في باب الهمزة والثاء المثلثة. الغضف: القطا الجوني شكل معروف عند العرب. الغضوف: الأسد والحية الخبيثة، وقد تقدما في باب الهمزة والحاء المهملة. الغضيض: ولد البقرة الوحشية، وقد تقدم لفظ البقرة الوحشية في باب الباء الموحدة. الغطرب: الأفعى، عن كراع، وقال بعضهم: هذا تصحيف إنما هو بالعين المهملة والظاء المعجمة. الغطريف: فرخ البازي، والذباب، والسيد الشريف والسخي، الجمع غطارفة. الغطلس: كمعملس، الذئب وقد تقدم في باب الذال المعجمة. الغطاطا: بالفتح ضرب من القطا غبر الظهور والبطون والأبدان سود بطون الأجنحة، طوال الأرجل والأعناق، لطاف لا تجتمع أسرابا، وأكثر ما تكون ثلاثا أو اثنتين، الواحدة غطاطة، كذا قاله الجوهري. وقال ابن سيده: الغطاط القطا. وقيل: القطا ضربان فالقصار الأرجل الصفر الأعناق السود القوادم الصهب الخوافي، هي الكدرية والجونية، والطوال الأرجل البيض البطون الغبر الظهور الواسعة العيون هي الغطاط. وقيل: الغطاط ضرب من الطير ليس من القطا. الغفر: بالضم، ولد الأروية، والجمع أغفار. والغفر بالكسر ولد البقرة الوحشية. الغماسة: مشددة طائر ينغمس في الماء كثيرا، ولذلك عدوه من طير الماء، والجمع غماس. الغنافر: بالضم الضبعان الكثير الشعر، وقد تقدم لفظ الضبع في باب الضاد المعجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 الغنم: الشاء لا واحد له من لفظه، والجمع أغنام وغنوم وأغانم وغنم مغنمة أي كثيرة، هذه عبارة المحكم. وقال الجوهري: الغنم اسم مؤنث موضوع للجنس، يقع على الذكور والإناث وعليهما جميعا، وإذا صغرتها ألحقتها الهاء فقلت: غنيمة، لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها، إذا كانت لغير الآدميين فالتأنيث لها لازم، يقال: له خمس من الغنم ذكور فتؤنث العدد، وإن عنيت الكباش إذا كان يليه من الغنم ذكور لأن العدد يجري في تذكيره وتأنيثه على اللفظ، لا على المعنى. والإبل كالغنم في جميع ما ذكرناه، وقد أجاد الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه حيث يقول «1» : سأكتم علمي عن ذوي الجهل طاقتي ... ولا أنثر الدرّ النفيس على الغنم فإن يسّر الله الكريم بفضله ... وصادفت أهلا للعلوم وللحكم بثثت مفيدا واستفدت ودادهم ... وإلا فمخزون لدي ومكتتم فمن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم روى عبد بن حميد بسنده إلى عطية، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: افتخر أهل الإبل وأهل الغنم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: «السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الإبل» «2» . وهو في الصحيحين بألفاظ مختلفة منها «السكينة والوقار في أهل الغنم والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر» . وفي لفظ «الفخر والخيلاء في أصحاب الإبل والسكينة والوقار في أصحاب الشاء» . أراد بالسكينة السكون، وبالوقار التواضع، وأراد بالفخر التفاخر بكثرة المال والجاه، وغير ذلك من مراتب أهل الدنيا، وبالخيلاء التكبر والتعاظم. ومنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «3» ومراده بالوبر أهل الإبل لأنه لها كالصوف للضأن والشعر للمعز، ولذلك قال الله تعالى: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ «4» وهذا منه صلى الله عليه وسلم إخبار عن أكثر حال أهل الغنم وأهل الإبل وأغلبه. وقيل: أراد به عليه الصلاة والسلام أي بأهل الغنم أهل اليمن، لأن أكثرهم أهل غنم، بخلاف ربيعة ومضر، فإنهم أصحاب إبل. وروى «5» مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنما بين جبلين، فأتى قومه فقال: يا قوم أسلموا فو الله إن محمدا ليعطي عطاء رجل لا يخاف الفقر. وقد تقدم في باب الدال المهملة في الكلام على الدجاج، الحديث الذي رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر الأغنياء باتخاذ الغنم، وأمر الفقراء باتخاذ الدجاج» ، وقال عند اتخاذ الأغنياء الدجاج: «يأذن الله بهلاك القرى» «6» . وقد بينا معناه، في شرح سنن ابن ماجه، وبينا أن في إسناده علي بن عروة الدمشقي، وأن ابن حبان قال: كان يضع الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 والغنم على ضربين ضائنة وماعزة، قال الجاحظ: اتفقوا على أن الضأن أفضل من المعز. قلت: وصرح الأصحاب بذلك في الأضحية وغيرها واستدلوا على أفضليته بأوجه منها: أن الله تعالى بدأ بذكر الضأن في القرآن، فقال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ «1» ، ومنها قوله تعالى، حكاية على الخصمين: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ «2» ولم يقل تسع وتسعون غنزا، ولي عنز واحدة. ومنها قوله تعالى: وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ «3» وأجمعوا كما قال الحافظ أنه كبش. وسيأتي الكلام على ذلك، إن شاء الله تعالى، في باب الكاف. ومنها أن الضأن تلد في السنة مرة وتفرد غالبا، والمعز تلد مرتين وقد تثنى وتثلث والبركة في الضأن أكثر. ومنها أن الضأن إذا رعت شيئا من الكلأ فإنه ينبت وإذا رعت المعز شيئا لا ينبت، وقد تقدم، لأن المعز تقلعه من أصوله والضأن ترعى ما على وجه الأرض. ومنها أن صوف الضأن أفضل من شعر المعز وأعز قيمة، وليس الصوف إلا للضأن. ومنها أنهم كانوا إذا مدحوا شخصا قالوا: إنما هو كبش، وإذا ذموه قالوا: إنما هو تيس، وإذا أرادوا المبالغة في الذم قالوا: إنما هو تيس في سفينة. ومما أهان الله به التيس، أن جعله مهتوك الستر مكشوف القبل والدبر، بخلاف الكبش. ولهذا شبه النبي صلى الله عليه وسلم المحلل بالتيس المستعار. ومنها أن رؤوس الضأن أطيب وأفضل من رؤوس المعز، وكذلك لحمها فإن أكل لحم الماعز يحرك المرة السوداء، ويولد البلغم ويورث النسيان، ويفسد الدم، ولحم الضأن عكس ذلك انتهى. فائدة : قال أبو زيد: يقال لما تضعه الغنم من الضأن والمعز حال وضعه سخلة، ذكرا كان أو أنثى. والجمع سخل بفتح السين، وسخال بكسرها، ثم لا يزال اسمه ذلك مادام يرضع اللبن، ثم يقال للذكر والأنثى، بهمة بفتح الباء والجمع بهم بضمها، ويقال لولد المعز حين يولد سليل وسليط، فإذا بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه وأكل من البقل، فإذا كان من أولاد المعز فهو جفر. والأنثى جفرة والجمع جفار. وذكر في كفاية المتحفظ، أن الجفر والجفرة يقعان على الطفل والطفلة من بني آدم حين يأكلان الطعام انتهى. فإذا قوي وأتى عليه حول فهو عريض بفتح العين المهملة وكسر الراء والياء المثناة التحتية، وبالضاد المعجمة في آخره وجمعه عرضان بكسر العين والعتود نوع منه وجمعه أعتدة وعتدان. وقال يونس: جمعه أعتدة وعتدة، وهو في كل ذلك جدي والأنثى عناق إذا كان من أولاد المعز، ويقال له إذا اتبع أمه تلو لأنه يتلو أمه، ويقال للجدي أمر بضم الهمزة وتشديد الميم وبالراء المهملة في آخره، ويقال له هلع وهلعة بضم الهاء وتشديد اللام، والبكرة العناق أيضا، والعطعط الجدي، فإذا أتى عليه حول، فالذكر تيس والأنثى عنز، ثم يكون جذعا في السنة الثانية والأنثى جذعة، فإذا طعن في السنة الثالثة فهو ثني، والأنثى ثنية، فإذا طعن في السنة الرابعة كان رباعيا والأنثى رباعية، ثم يكون خماسيا والأنثى خماسية، ثم يكون سداسيا والأنثى سداسية، ثم يكون ضالعا والأنثى كذلك. ويقال ضلع يضلع ضلوعا والجمع الضلع بتشديد الضاد واللام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 قال الأصمعي: الحلان والحلام من أولاد المعز خاصة. وفي الحديث «في الأرنب يصيبها المحرم حلان» . قال الجاحظ: وقد قالوا في أولاد الضأن، كما قالوا في أولاد المعز إلا في مواضع. قال الكسائي: هو خروف في العريض من أولاد المعز، والأنثى خروفة. ويقال له حمل والأنثى رخل بفتح الراء المهملة وكسر الخاء المعجمة وجمعه رخال بضم الراء المهملة. وهو مما جمع على غير قياس كما قالوا في المرضع ظئر وظؤار، وفي ولد البقرة الوحشية فرير وفرار، وللشاة القريبة العهد بالنتاج ربى ورباب، وللعظم الذي عليه بقية من اللحم عرق وعراق، وللمولود مع قرينه توأم وتؤام، والبهمة للذكر والأنثى من أولاد الضأن والمعز جميعا، ولا يزال كذلك حتى يأكل ويجتر، ثم هو قرقر بقافين مكسورتين والجمع قرقار وقرقور. وهذا كله حين يأكل ويجتر. والجلام بكسر الجيم، الجدي أيضا والبذج بفتح الباء الموحدة والذال المعجمة وبالجيم في آخره من أولاد الضأن خاصة، والجمع بذجان. روى ابن ماجه وشيخه ابن أبي شيبة، باسناد صحيح عن أم هانىء رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» لها: «اتخذي غنما فإن فيها بركة» وشكت إليه امرأة أن غنمها لا تزكو، فقال لها صلى الله عليه وسلم: «ما ألوانها» . قالت: سود. فقال: «عفري» ، أي استبدلي، «أغناما بيضا فإن البركة فيها» . وفي الحديث «2» : «صلوا في مرابض الغنم وامسحوا رغامها» . والرغام ما يسيل من الأنف وقد تقدم، في البهيمة ما رواه أبو داود في أبواب الطهارة، عن لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، كانت له مائة شاة لا يريد أن تزيد، وكانت كلما ولدت سخلة ذبح مكانها شاة. وروى مالك والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» «3» . شعف الجبال، بفتح الشين المعجمة والعين المهملة رؤوسها وشعف كل شيء أعلاه قال ابن بطال: قال أبو الزناد: خص النبي صلى الله عليه وسلم الغنم من بين سائر الأشياء حضا على التواضع، وتنبيها على إيثار الخمول، وترك الاستعلاء والظهور، وقد رعى الأنبياء والصالحون الغنم. وقال «4» صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيا إلا رعى غنما» . وأخبر «5» صلى الله عليه وسلم «أن السكينة في أهل الغنم» . وروى الطبراني والبيهقي في الشعب، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه خرج في بعض نواحي المدينة ومعه أصحاب له، فوضعوا له السفرة فمر بهم راعي غنم، فسلم فقال له ابن عمر: هلم يا راعي فكل معنا، فقال: إني صائم. فقال له ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أتصوم في هذا اليوم الشديد الحر، وأنت في هذه الجبال ترعى هذه الغنم؟ فقال له: إني والله أبادر أيامي هذه الخالية. فقال له ابن عمر يريد أن يختبر ورعه: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونطعمك من لحمها فتفطر عليه؟ فقال: إنها ليست لي، إنها غنم سيدي. فقال له ابن عمر: وما عسى سيدك فاعلا إذا فقدها؟ وقلت: أكلها الذئب! فولى الراعي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 عنه وهو يقول: فأين الله يرفع بها صوته ويشير بأصبعه إلى السماء! فجعل ابن عمر يردد قول الراعي ذلك. فلما قدم المدينة، اشترى العبد الراعي والغنم، وأعتق العبد ووهب منه الأغنام. وروى أحمد بإسناد صحيح عن أبي اليسر عمرو بن كعب رضي الله تعالى عنه قال «1» : والله إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر عشية، إذ أقبلت غنم لرجل من اليهود تريد حصنهم، ونحن محاصروهم، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يطعمنا من هذه الغنم» قلت: أنا يا رسول الله. قال: «فافعل» . قال: فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا قال: «اللهم أمتعنا به» فأدركت الغنم، وقد وصل أوائلها الحصن، فأخذت شاتين من آخرها، فاحتضنتهما تحت يدي، ثم أقبلت بهما أشتد كأنه ليس معي شيء، حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذبحوهما وأكلوهما. وكان أبو اليسر رضي الله تعالى عنه من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا، وكان إذا حدث بهذا الحديث بكى، ثم قال: امتعوني بعمري حتى صرت آخرهم موتا انتهى. وكان أبو اليسر آخر البدريين موتا رضي الله تعالى عنهم. وفي الاستيعاب وغيره قصة إسلام الأسود الحبشي الذي كان يرعى غنما لعامر اليهودي، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه الغنم فقال: يا رسول الله أعرض علي الإسلام فعرضه عليه فأسلم. ثم قال: يا رسول الله إني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع فيها؟ فقال: «اضرب في وجوهها فسترجع إلى ربها» . فقام الأسود، فأخذ حفنة من حصى، ورمى بها في وجوهها، وقال: ارجعي إلى صاحبك، فو الله لا أصبحك بعدها أبدا، فرجعت الغنم مجتمعة، كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم يقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلى لله صلاة قط، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سجي بشملة كانت عليه فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعرض عنه. فقالوا: يا رسول الله لم أعرضت عنه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن معه الآن زوجتيه من الحور العين، ينفضان التراب عن وجهه، ويقولان: ترب الله وجه من ترب وجهك وقتل من قتلك» . قال أبو عمرو: إنما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنم إلى الحصن، لأن ذلك كان مصالحا عليه، أو كان قبل حل الغنائم. وفي الحديث «2» أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما من نبي إلا وقد رعى الغنم» . قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا» . وثبت في صحيح البخاري، وسنن ابن ماجه، واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بعث الله نبيا إلا راعي غنم» . فقال له أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط» «3» . قال سويد: يعني كل شاة بقيراط. وفي غريب الحديث للقعنبي، «بعث موسى عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم، وبعث داود عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم أهلي بأجياد» . وفي الحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 «آجر موسى عليه الصلاة والسلام نفسه بعفة فرجه، وشبع بطنه. فقال له ختنه شعيب عليه السلام: إن لك في غنمي ما جاءت به قالب لون» . جاء تفسيره في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها، كأن لونها قد انقلب. والحكمة في أن الله تعالى جعل الرعي في الأنبياء تقدمة لهم، ليكونوا رعاة الخلق، ولتكون أممهم رعايا لهم. وروى الحاكم في مستدركه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت غنما سودا دخلت فيها غنم كثير بيض» . قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: «العجم يشركونكم في دينكم وأنسابكم» . قالوا: العجم؟ يا رسول الله قال: «لو كان الايمان معلقا بالثريا لناله رجال من العجم» . وفي رواية «1» قال صلى الله عليه وسلم: «رأيت في المنام غنما سودا، يتبعها غنم عفر. يا أبا بكر عبرها» قال: هي العرب تتبعك ثم يتبعها العجم. فقال صلى الله عليه وسلم: «هكذا عبرها الملك سحرا» . وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينزع في قليب وحوله أغنام سود وغنم عفر، ثم جاء أبو بكر فنزع نزعا ضعيفا، والله يغفر له، ثم جاء عمر فاستحالت غربا يعني الدلو، فلم أر عبقريا يفري فريه. فأولها الناس بالخلافة لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، ولولا ذكر الغنم السود والعفر لبعدت الرؤيا عن معنى الخلافة والرعاية، إذ الغنم السود والعفر عبارة عن العرب والعجم. وأكثر المحدثين لم يذكروا الغنم في هذا الحديث. وذكره الإمام أحمد والبزار في مسنديهما وبه يصح المعنى. ودخل أبو مسلم الخولاني على معاوية، فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقالوا: قل: السلام عليك أيها الأمير. فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقالوا: قل: السلام عليك أيها الأمير. فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقال لهم معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول. فقال أبو مسلم: إنما أنت أجير استأجرك رب هذه الغنم لرعايتها، فإن أنت هنأت جرباها، وداويت مرضاها، وحبست أولاها على أخراها، وقاك سيدها. وإن أنت لم تهنأ جرباها، ولم تداو مرضاها، ولم تحبس أولاها على أخراها، عاقبك سيدها. وفي رسالة القشيري، في باب الدعاء، أن موسى عليه الصلاة والسلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال موسى: إلهي لو كانت حاجته بيدي لقضيتها! فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وله غنم، وقلبه عند غنمه، وأنا لا أستجيب لعبد يدعوني وقلبه عند غيري. فذكر موسى للرجل ذلك، فانقطع إلى الله تعالى بقلبه فقضيت حاجته. وفي المجالسة للدينوري، من حديث حماد بن زيد، عن موسى بن أعين الراعي، قال: كانت الغنم والأسد والوحش ترعى في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، في موضع واحد، فعرض ذات يوم لشاة منها ذئب، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أرى الرجل الصالح إلا قد هلك. قال: فحسبناه فوجدناه قد مات في تلك الساعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 وعن عبد الواحد بن زيد، قال: سألت الله ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة، فقيل لي: يا عبد الواحد رفيقك في الجنة ميمونة السوداء. فقلت: وأين هي؟ فقيل لي: هي في بني فلان في الكوفة. فذهبت إلى الكوفة أسأل عنها، فإذا هي ترعى غنما، فأتيت إليها، فطذا غنمها ترعى مع الذئاب، وهي قائمة تصلي، فلما فرغت من صلاتها قالت: يا ابن زيد ليس هذا الموعد، إنما الموعد الجنة. فقلت لها: وما أدراك أني ابن زيد؟ فقالت: أما علمت أن الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف. فقلت لها: عظيني. فقالت: واعجبا لواعظ يوعظ؟ فقلت لها: ما لي أرى أغنامك ترعى مع الذئاب؟ قالت: إني أصلحت ما بيني وبين الله، فأصلح ما بيني وبين غنمي والذئاب. فائدة : في الموطأ «1» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وزيد بن خالد الجهني رضي الله تعالى عنه، قالا: إن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: اقض بيننا يا رسول الله بكتاب الله تعالى، وقال الآخر: وكان أفقههما: أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي أن أتكلم. فقال له: «تكلم» فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديته من غنمي بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وإنما الرجم على امرأته. فقال صلى الله عليه وسلم: «أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى، أما غنمك وجاريتك فرد عليك ويجلد ابنك مائة ويغرب عاما» . وأمر صلى الله عليه وسلم أنيسا الأسلمي «أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت فليرجمها فاعترفت فرجمها» . وهذا الحديث مذكور في الصحيحين. وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه: إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل الله عليه آية الرجم قرأناها وعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، وأخشى إن طال على الناس زمان، أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله. والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف، والرجم نسخت تلاوته وبقي حكمه. وقال أبو حنيفة: التغريب منسوخ في حق البكر، وعامة أهل العلم على أنه ثابت لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب. والمحصن من اجتمعت فيه أربعة أوصاف: العقل والبلوغ والحرية والإصابة، فإن زنى فحده الرجم مسلما كان أو ذميا. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الإسلام من شرائط الإحصان، فلا رجم على الذمي عندهم. ودليلنا أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم يهوديين كانا قد أحصنا. وإن كان الزاني غير محصن بأن لم تجتمع فيه هذه الأوصاف الأربعة، نظر إن كان غير بالغ أو كان مجنونا، فلا حد عليه، وإن كان حرا بالغا عاقلا، غير أنه لم يصب بنكاح صحيح، فعليه جلد مائة وتغريب عام وإن كان عبدا، فعليه جلد خمسين. وفي تغريبه قولان: فإن قلنا يغرب فقولان: أصحهما نصف سنة، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 يجلد خمسين. ولهذه المسألة تتمات مذكورة في كتب الفقه. وذكر المفسرون في قوله «1» تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ الآية. عن ابن عباس وقتادة والزهري أن رجلين دخلا على داود عليه السلام، أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم، فقال صاحب الزرع: إن هذا تفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثي فأفسدته ولم تبق منه شيئا. فأعطاه داود رقاب الغنم بالحرث. فخرجا من عنده، فمرا على سليمان عليه السلام، فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه، فقال سليمان: لو وليت أمركما لقضيت بغير هذا. فدعاه داود فقال له: بحق النبوة والأبوة يا بني إلا ما حدثتني بالذي هو أرفق بالفريقين. فقال سليمان: ادفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويبذر صاحب الغنم لصاحب الحرث، مثل حرثه فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل، دفع إلى أهله وأخذ صاحب الغنم غنمه. فقال داود: القضاء كما قضيت. وكان عمر سليمان يوم حكم بهذا الحكم إحدى عشرة سنة. والنفش الرعي بالليل، والهمل الرعي بالنهار. وهما الراعي بلا راع. ونختم الكلام على الغنم بما في أول عجائب المخلوقات عن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، أنه اجتاز بعين ماء، في سفح جبل، فتوضأ منها ثم ارتقى الجبل ليصلي، إذا أقبل فارس فشرب من ماء العين، وترك عندها كيسا فيه دراهم، وذهب مارا، فجاء بعده راعي غنم فرأى الكيس فأخذه ومضى. ثم جاء بعده شيخ عليه أثر البؤس، وعلى رأسه حزمة حطب، فوضعها هناك ثم استلقى ليستريح، فما كان إلا قليل حتى عاد الفارس يطلب كيسه فلم يجده، فأقبل على الشيخ يطالبه به فأنكر، فلم يزالا كذلك حتى ضربه ولم يزل يضربه حتى قتله. فقال موسى: يا رب كيف العدل في هذه الأمور؟ فأوحى الله تعالى إليه إن الشيخ كان قد قتل أبا الفارس، وكان على الفارس دين لأبي الراعي مقدار ما في الكيس، فجرى بينهما القصاص وقضى الدين وأنا حكم عدل. قال في كتاب المحكم والغايات: قال أصحاب التجارب: ومما يورث الغم المشي بين الأغنام، والتعمم جالسا ولبس السراويل قائما، وقص اللحية بالأسنان، والقعود على أسكفة الباب، والأكل بالشمال، ومسح الوجه بالأذيال، والمشي على قشور البيض، والاستنجاء باليمين والضحك في المقابر. الحكم : يحل أكل الغنم وبيعها بالنص والاجماع. ويجب في سائمتها الزكاة، ففي كل أربعين شاة شاة جذعة ضأن أو ثنية معز. وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه، ثم في كل مائة شاة شاة والسنة أن تقلد إذا جعلت هديا إلى البيت العتيق، لما روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: كنت أفتل قلائد الهدى للنبي صلى الله عليه وسلم، فقلد الغنم. وهذا الحديث حجة للشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 مشروعية ذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: لا تقلد الغنم، والظاهر أن الحديث لم يبلغهما. فرع : فتح إنسان مراح غنم، فخرجت ليلا ورعت زرعا فإن كان الذي فتحه المالك، ضمن الزرع، وإن كان غير المالك لم يضمن. والفرق أن المالك يلزمه حفظها في الليل فإذا فتح عليها ضمن، وغير المالك لا يلزمه حفظها، فإذا فتح عليها لم يضمن. قاله في البحر وسيأتي في باب الميم، الإشارة إلى إتلاف الماشية. وأما الأمثال : فقد تقدم بعضها في باب الجيم، وبعضها في باب الشين المعجمة، وكذلك الخواص وسيأتي طرف منها في المعز في باب الميم، إن شاء الله تعالى. التعبير : الغنم في الرؤيا رعية صالحة طائعة، وتدل على الغنيمة والأزواج والأولاد والأملاك والزرع والأشجار الحافلة فالثمار، فذوات الصوف نساء كريمات جميلات ذوات مال وعرض مستور. والشعاري نساء صالحات فقيرات، ذوات عرض مبذول بكشف عوارتهن، خلافا لذوات الصوف فإن عوراتهن مستورة بالألية. قاله ابن المقري. وقال المقدسي: من رأى أنه يسوق معزا وضأنا، فإنه يلي على عرب وعجم، فإن أخذ من ألبانها وأصوافها فإنه يجبي منهم أموالا، ومن رأى غنما واقفة في مكان، فإنهم رجال يجتمعون في ذلك الموضع، في أمر من الأمور. ومن رأى غنما استقبلته فإنهم أعداء يظفر بهم، ومن رأى شاة تمشي أمامه، وهو يمشي ولا يدركها، تعطلت عليه معيشته، وربما تبع امرأة ولا تحصل له. وألية الغنم مال المرأة، ومن رأى كأنه يجز شعر الغنم فليحذر من الخروج من داره ثلاثة أيام، وقال جاماسب: من رأى قطيع غنم سر دائما. ومن رأى شاة واحدة سر سنة. والنعجة امرأة، فمن ذبح نعجة افتض امرأة مباركة، لقوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ «1» ومن رأى أن صورته تحولت على صورة غنمه نال غنيمة. الغواص: طائر تسميه أهل مصر الغطاس وهو القرلي الآتي في باب القاف إن شاء الله تعالى. قال القزويني في الأشكال: هو طائر يوجد بأطراف الأنهار، يغطس في الماء ويصطاد السمك، فيتقوت منه، وكيفية صيده أنه يغوص في الماء منكوسا بقوة شديدة، ويمكث تحت الماء، إلى أن يرى شيئا من السمك فيأخذه، ويصعد به ومن العجائب لبثه تحت الماء، ويوجد كثيرا بأرض البصرة انتهى. قال بعضهم: رأيت غواصا غاص فطلع بسمكة، فغلبه غراب عليها، فأخذها منه، فغاص مرة أخرى وطلع بسمكة أخرى، فأخذها منه الغراب، ثم الثالثة كذلك، فلما اشتغل الغراب بالسمكة. وثب الغواص فأخذ برجل الغراب، وغاص به تحت الماء حتى مات الغراب، ثم خرج هو من الماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 الحكم : قال القزويني: إن أكله حلال وهو المفهوم من كلام الرافعي وغيره. الخواص : دمه يجفف ويسحق مع شعر إنسان، فإنه ينفع من الطحال، وكذلك عظمه يفعل به مثل ذلك والله أعلم. الغوغاء: الجراد إذا احمر وبدت أجنحته، وهو يذكر ويؤنث ويصرف ولا يصرف، واحدته غوغاءة وغوغاوة، وبه سميت سفلة الناس المنتسبو إلى الشر المسرعو إليه. قال أبو العباس الروياني: الغوغاء من يخالط المفسدين والمجرمين، ويخاصم الناس بلا حاجة، ولذلك قالوا: أكثر من الغوغاء. وفي تاريخ ابن النجار عن ابن المبارك، قال: قدمت على سفيان الثوري بمكة، فوجدته مريضا شارب دواء فقلت له: إني أريد أن أسألك عن أشياء، قلت: أخبرني من الناس؟ قال: الفقهاء. قلت: فمن الملوك؟ قال: الزهاد. قلت: فمن الأشراف؟ قال: الأتقياء. قلت: فمن الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الحديث، يريدون أن يأكلوا به أموال الناس. قلت: فمن السفلة؟ قال: الظلمة انتهى. والغوغاء أيضا شيء يشبه البعوض، إلا أنه لا يعض ولا يؤذي. الغول: بالضم، أحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين، وهم سحرتهم. قال الجوهري: هو من السعالي والجمع أغوال وغيلان، وكل ما اغتال الإنسان فأهلكه فهو غول، والتغول التلون. قال «1» كعب بن زهير بن أبي سلمى رضي الله تعالى عنه: فما تدوم على حال تكون بها ... كما تلوّن في أثوابها الغول ويقال: تغوّلت المرأة إذا تلونت. ويقال: غالته غول، إذا وقع في مهلكة. والغضب غول الحلم. فائدة : سأل رجل أبا عبيدة عن قوله تعالى: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ «2» وإنما يقع الوعد والإيعاد، بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف فأجابه بأن الله تعالى كلم العرب على قدر كلامهم أما سمعت امرأ القيس كيف قال «3» : أتقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان يهولهم أوعدوا به، قال أبو عبيدة: ومن يومئذ عملت كتابي الذي سميته المجاز. وأبو عبيدة كنيته، واسمه معمر بن المثنى البصري النحوي العلامة، كان يعرف أنواعا من العلوم، وكانت العربية وأخبار العرب وأيامها أغلب عليه، وكان مع معرفته يكسر الشعر إذا أنشده، ويلحن إذا قرأ القرآن، وكان يرى رأي الخوارج، وكان لا يقبل شهادته أحد من الحكام، لأنه كان يتهم بالميل إلى الغلمان. قال الأصمعي: دخلت يوما أنا وأبو عبيدة إلى المسجد، فإذا على الأسطوانة التي يجلس إليها أبو عبيدة مكتوب «4» : صلى الإله على لوط وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله آمينا قال: فقال لي: يا أصمعي امح هذا. فركبت ظهره ومحوته. ثم قلت: بقيت الطاء فقال: هي شر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الحروف، الطامة في الطاء، امحها. وقيل: إنه وجدت ورقة في مجلس أبي عبيدة فيها هذا البيت وبعده «1» : فأنت عندي بلا شكّ بقيتهم ... منذ احتلمت وقد جاوزت تسعينا وروي أن أبا عبيدة خرج إلى بلاد فارس قاصدا موسى بن عبد الرحمن الهلالي، فلما قدم عليه، قال لغلمانه: احترزوا من أبي عبيدة فإن كلامه كله دق، ثم حضر الطعام فصب بعض الغلمان على ذيله مرقا، فقال له موسى: قد أصاب ثوبك مرق، وأنا أعطيك عوضه عشرة أثواب، فقال أبو عبيدة: لا عليك فإن مرقكم لا يؤذي، أي ما فيه دهن، ففطن لها موسى وسكت. توفي أبو عبيدة في سنة تسع ومائتين، وهذا أبو عبيدة بالهاء والقاسم بن سلام أبو عبيد بغير هاء، وكلاهما من أهل اللغة. ومعمر بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة وآخره راء مهملة. وكان والد أبي عبيدة من قرية من أعمال الرقة، يقال لها باجروان، وهي القرية التي استطعم أهلها موسى والخضر عليهما السلام، كذا قاله ابن خلكان وغيره، وتقدم في باب الحاء المهملة، في الحوت عن السهيلي أن القرية المذكورة في القرآن برقة، والله تعالى أعلم. وروى الطبراني، في الدعوات والبزار برجال ثقات، من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «إذا تغولت لكم الغيلان، فنادوا بالأذان، فإن الشيطان إذا سمع النداء، أدبر وله جصاص» . أي ضراط. قال النووي، في الاذكار: إنه حديث صحيح، أرشد صلى الله عليه وسلم إلى دفع ضررها بذكر الله تعالى. ورواه النسائي، في آخر سننه الكبرى، من حديث الحسن عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوى بالليل فإذا تغولت لكم الغيلان فبادروا بالأذان» . قال النووي رحمه الله تعالى: ولذلك ينبغي أن يؤذن أذان الصلاة، إذا عرض للإنسان شيطان، لما روى مسلم عن سهيل بن أبي صالح أنه قال: أرسلني أبي إلى بني حارثة، ومعي غلام لنا أو صاحب لنا، فناداه مناد من حائط باسمه، فأشرف الذي معي على الحائط، فلم ير شيئا، فذكرت ذلك لأبي، فقال: لو شعرت أنك ترى هذا ما أرسلتك، ولكن إذا سمعت صوتا فناد بالصلاة، فإني سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان إذا نودي بالصلاة أدبر» . وروى مسلم عن جابر بن عبد الله، أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا غول» «3» . قال جمهور العلماء: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين، تتراءى للناس وتتغول تغولا أي تتلون تلونا، فتضلهم عن الطريق وتهلكهم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال آخرون: ليس المراد بالحديث نفي وجود الغول، وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب، من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها، قالوا: ومعنى لا غول، أي لا تستطيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 أن تضل أحدا. ويشهد له حديث آخر: «لا غول ولكن السعالي» ، قال العلماء: السعالي بالسين المهملة المفتوحة والعين المهملة سحرة الجن كما تقدم. ومنه ما روى «1» الترمذي والحاكم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كانت لي سهوة فيها تمر، فكانت تجيء الغول كهيئة السنور، فتأخذ منه فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اذهب فإذا رأيتها فقل بسم الله أجيبي رسول الله» . قال: فأخذها فحلفت أن لا تعود فأرسلها، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما فعل أسيرك» ؟ قال: حلفت أن لا تعود. قال صلى الله عليه وسلم: «كذبت وهي معاودة للكذب» . قال: فأخذها مرة أخرى فحلفت أن لا تعود فأرسلها، ثم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما فعل أسيرك» ؟ قال: حلفت أن لا تعود، قال صلى الله عليه وسلم: «كذبت وهي معاودة للكذب» قال: فأخذها، وقال: ما أنا بتاركك حتى أذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: «إني ذاكرة لك شيئا آية الكرسي، اقرأها في بيتك فلا يقربك شيطان ولا غيره. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما فعل أسيرك» ؟ فأخبره بما قالت، فقال صلى الله عليه وسلم: «صدقت وهي كذوب» . قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وهذا روى مثله البخاري، فقال: قال عثمان بن الهيثم: حدثنا عوف عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، وذكر القصة، وفيها فقلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله. فقال صلى الله عليه وسلم: «ما هي» ؟ قلت: قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي كلها فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال صلى الله عليه وسلم: «وأما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة» ؟ قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: «ذلك الشيطان» . قال النووي رحمه الله: وهذا الحديث متصل، فإن عثمان بن الهيثم أحد شيوخ البخاري الذين روى عنهم في صحيحه. وأما قول أبي عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين إن البخاري أخرجه تعليقا، فغير مقبول، فإن المذهب الصحيح المختار عند العلماء، والذي عليه المحققون أن قول البخاري وغيره قال فلان، محمول على سماعه منه، واتصاله إذا لم يكن مدلسا. وكان قد لقيه، وهذا من ذلك، وإنما المعلق ما أسقط البخاري فيه شيخه أو أكثر، بأن يقول: في مثل هذا الحديث قال عوف أو قال محمد بن سيرين أو قال أبو هريرة. وروى الحاكم في المستدرك وابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أنه كان له جرين تمر، وكان يجده ينقص فحرسه ليلة فإذا هو بمثل الغلام المحتلم، قال: فسلمت فرد علي السلام، فقلت: من أنت ناولني يدك؟ فناولني، فإذا يد كلب وشعر كلب! فقلت: أجني أم إنسي؟ فقال: بل جني. فقلت: إني أراك ضئيل الخلقة أهكذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن ما فيهم أشد مني! فقلت: ما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك رجل تحب الصدقة، فأحببت أن أصيب من طعامك، فقلت: فما يجيرنا منكم؟ قال: تقرأ آية الكرسي، فإنك إن قرأتها غدوة، أجرت منا حتى تمسي، وإن قرأتها حين تمسي أجرت منا حتى تصبح. قال: فغدوت إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال: «صدقك الخبيث» . ثم قال: صحيح الإسناد. وروى الحاكم أيضا عن أبي الأسود الدؤلي، قال: قلت لمعاذ بن جبل: حدثني عن قصة الشيطان، حين أخذته. فقال: جعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقة المسلمين، فجعلت التمر في غرفة، فوجدت فيه نقصانا، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا الشيطان يأخذ منه، قال: فدخلت الغرفة وأغلقت الباب علي، فجاءت ظلمة عظيمة، فغشيت الباب ثم تصور في صورة أخرى، ثم دخل لي من شق الباب، فشددت إزاري علي، فجعل يأكل من التمر فوثبت عليه فضبطته فالتفت يداي عليه، فقلت: يا عدو الله ما جاء بك ههنا؟ فقال: خل عني فإني شيخ كبير ذو عيال، وأنا فقير وأنا من جن نصيبين، وكانت لنا هذه القرية قبل أن يبعث صاحبكم، فلما بعث أخرجنا منها فخل عني فلن أعود إليك، فخليت عنه. وجاء جبريل عليه السلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قال. قال: فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم نادى مناديه أين معاذ؟ فقمت إليه. فقال صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك يا معاذ» ؟ فأخبرته، فقال: «أما انه سيعود» . قال: فعدت فدخلت الغرفة، وأغلقت علي الباب، فجاء الشيطان، فدخل من شق الباب فجعل يأكل من التمر، فصنعت به كما صنعت في المرة الأولى، فقال: خل عني فإني لن أعود إليك. فقلت: يا عدو الله ألم تقل في المرة الأولى لن أعود ثم عدت؟ قال: فإني لن أعود، وآية ذلك أن لا يقرأ أحد منكم خاتمة سورة البقرة، فيدخل أحد منا في بيته تلك الليلة. ثم قال: صحيح الإسناد. وفي مسند الدارمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: خرج رجل من الإنس فلقيه رجل من الجن، فقال له: هل لك أن تصارعني؟ فإن صرعتني علمتك آية، إذا قرأتها، حين تدخل بيتك، لم يدخله شيطان، فصارعه فصرعه الإنسي. وقال: إني أراك ضئيلا شخيتا، كأن ذراعيك ذراعا كلب، أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم أم أنت من بينهم؟ فقال: إني منهم لضليع، ولكن عاودني الثانية، فإن صرعتني علمتك، فصرعه الإنسي. فقال: تقرأ آية الكرسي، فإنها لا تقرأ في بيت إلا خرج منه الشيطان له حبج كحبج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح. فقيل لعبد الله: أهو عمر؟ قال: ومن عسى أن يكون إلا عمر! قوله: الضئيل، معناه الدقيق النحيف، والشخيت الهزيل الخسيس المجفر الجنبين، والضليع الوافر الأضلاع، والحبج الضراط. وقوله إلا عمر بالرفع بدل من محل من، ومحله الرفع بالابتداء. وقد تقدم في باب الجيم في الكلام على لفظ الجن حديث في مسند الدارمي بهذا المعنى. والذي ذهب إليه المحققون أن الغول شيء يخوف به ولا وجود له كما قال «1» الشاعر: الغول والخل والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء لم توجد ولم تكن ولذلك سموا الغول خيتعورا وهو كل شيء لا يدوم على حالة واحدة ويضمحل كالسراب وكالذي ينزل من الكوى في شدة الحر كنسج العنكبوت قال «2» الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الحبّ حبّها خيتعور وقال قوم: الغول ساحرة الجن، وهي تتصور في صور شتى. وأخذوا ذلك من قول «1» كعب بن زهير بن أبي سلمى رضي الله تعالى عنه: فما تكون على حال تدوم بها ... كما تلوّن في أثوابها الغول وقد تقدم ذلك قريبا، وفي دلائل النبوة للبيهقي، في أواخره، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا تغولت لأحدكم الغيلان، فليؤذن، فإن ذلك لا يضره. وتزعم العرب، أنه إذا انفرد الرجل في الصحراء ظهرت له في خلقة الإنسان، فلا يزال يتبعها حتى يضل عن الطريق، فتدنو منه وتتمثل له في صور مختلفة، فتهلكه روعا. وقالوا: إذا أرادت أن تضل إنسانا، أوقدت له نارا فيقصدها فتفعل به ذلك. قالوا: وخلقتها خلقة إنسان، ورجلاها رجلا حمار. قال القزويني: ورأى الغول جماعة من الصحابة، منهم عمر رضي الله تعالى عنه، حين سافر إلى الشام، قبل الإسلام، فضربها بالسيف. وذكر عن ثابت بن جابر الفهري أنه لقي الغول وذكر أبياته النونية في ذلك. الأمثال : قالت العرب: «فلان أقبح من الغول» «2» ومن زوال النعمة، ومن قول بلا فعل، والله تعالى أعلم. الغيداق: بفتح الغين، ولد الضب، وهو أكبر من الحسل، وقال خلف الأحمر: الغياديق الحيات. الغيطلة: بالفتح أيضا البقرة الوحشية. قاله ابن سيده. ويقال لجماعة البقر الوحشي الربرب، بباءين موحدتين وراءين مهملتين، وكذلك الإجد، بكسر الهمزة والجيم قاله في الكفاية. الغيلم: كديلم ذكر السلاحف، وقد تقدم ذكر السلاحف، في باب السين المهملة. الغيهب: ذكر النعام، والغيهب: الذي لا عقل له. قاله السهيلي، في تفسير شعر مكرز بن حفص «3» ، في أوائل غزوة بدر والله تعالى أعلم باب الفاء الفاختة: واحدة الفواخت، من ذوات الأطواق، وهي بفتح الفاء وكسر الخاء المعجمة وبالتاء المثناة، في آخرها، قاله في الكفاية، ويقال للفاختة: الصّلصل أيضا بضم الصادين المهملتين انتهى. وزعموا أن الحيات تهرب من صوتها، ويحكى أن الحيات كثرت في أرض فشكوا ذلك إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 بعض الحكم اء، فأمرهم بنقل الفواخت إليها، ففعلوا ذلك، فانقطعت الحيات عنها. وهي عراقية وليست بحجازية، وفيها فصاحة وحسن صوت، وصوتها يشبه المثلث، وفي طبعها الانس بالناس وتعيش في الدور، والعرب تصفها بالكذب، فإن صوتها عندهم، هذا أوان الرطب، وتقول ذلك والنخل لم يطلع، قال الشاعر: أكذب من فاختة ... تقول وسط الكرب والطلع لم يبدلها ... هذا أوان الرطب قلت: ويحتمل أنها إنما وصفت بالكذب، لما قاله الغزالي رحمه الله تعالى، في الإحياء، في أواخر كتابي الصبر والشكر، إن كلام العشاق الذين أفرط حبهم يستلذ بسماعه، ولا يعول عليه، كما حكى أن فاختة كان يراودها زوجها، فمنعته نفسها، فقال لها: ما الذي يمنعك عني؟ ولو أردت أن أقلب لك ملك سليمان ظهرا لبطن لفعلت لأجلك؟ فسمعه سليمان عليه الصلاة والسلام، فاستدعاه وقال: ما حملك على ما قلت؟ فقال: يا نبي الله إني محب، والمحب لا يلام وكلام العشاق يطوى ولا يحكى، وهو كما قال الشاعر: أريد وصاله ويريد هجري ... فاترك ما أريد لما يريد وقد تقدم في العصفور نظير هذا. فائدة : اعلم أن الناس قد كثر كلامهم، في وصف المحبة، ونعت العشق، فسلك كل منهم مذهبا أداه إليه نظره واجتهاده، وسأختصر من أقوالهم قدرا يسيرا كافيا. قال عبد الرحمن بن نصر: أهل الطب يجعلون العشق مرضا، يتولد من النظر والسماع، ويجعلون له علاجا كسائر الأمراض البدنية، وهو مراتب ودرجات بعضها فوق بعض. فأول مرتبة منه تسمى الاستحسان، وهي المتولدة من النظر والسماع، ثم تقوى هذه المرتبة بطول الذكر في محاسن المحبوب وصفاته الجميلة، فتصير مودة، وهي الميل إليه والتألف بشخصه، ثم تتأكد المودة فتصير محبة، والمحبة هي الائتلاف الروحاني، فإذا قويت هذه المرتبة صارت خلة، والخلة من الآدميين هي تمكن محبة أحدهما من قلب صاحبه، حتى تسقط بينهما السرائر، فإذا قويت هذه المرتبة صارت هوى، والهوى هو أن المحب لا يخالطه في محبة محبوبه تغير، ولا يداخله تلون، ثم يزيد الحال فيصير عشقا، والعشق هو إفراط المحبة حتى لا يخلو المعشوق من تخيل العاشق، وفكره وذكره لا يغيب عن خاطره وذهنه، فعند ذلك تشتغل النفس عن تنبيه القوى الشهوانية، فيمتنع من الطعام والشراب لاشتغال النفس عن تنبيه القوى الشهوانية، ويمتنع من الفكر والذكر والتخيل والنوم، لاستضرار الدماغ، فإذا قوي العشق صار تيما، وفي هذه الحالة لا يوجد في قلبه فضل لغير صورة المعشوق، ولا ترضى نفسه سواها، فإذا تزايد الحال صار ولها، والوله هو الخروج عن الحدود والترتيب، فتتغير صفاته، ولا تنضبط أحواله، ويصير موسوسا لا يدري ما يقول، ولا أين يذهب فحينئذ تعجز الأطباء عن مداواته، وتقصر آراؤهم عن معالجته، لخروجه عن الحد الضابط. وقد أجاد القائل حيث قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 يقول أناس لو نعت لنا الهوى ... وو الله ما أدري لهم كيف أنعت فليس لشيء منه حد أحده ... وليس لشيء منه وقت موقت إذا اشتد ما بي كان آخر حيلتي ... له وضع كفي فوق خدي وأصمت وأنضح وجه الأرض طور بعبرتي ... وأقرعها طورا بظفري وأنكت وقد زعم الواشون أني سلوتها ... فما لي أراها من بعيد فأبهت قال جالينوس: العشق من فعل النفس، وهو كامن في الدماغ والقلب والكبد، وفي الدماغ ثلاثة مساكن: التخيل في مقدمه، والفكر في وسطه، والذكر في مؤخره، فلا يكون أحد عاشقا، إلا إذا كان بحيث إذا فارق معشوقه لم يخيل من تخيله وفكره وذكره، فيمتنع من الطعام والشراب لاشتغال قلبه وكبده، ومن النوم لاشتغال الدماغ بالتخيل والفكر للمعشوق، فتكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به، ومتى لم يكن كذلك لم يكن عاشقا، فإذا لها العاشق خلت هذه المساكن، فرجع إلى حال الاعتدال. وقال أبو علي الدقاق: العشق تجاوز الحد في المحبة، ولهذا لا يوصف الله تعالى بالعشق، لأنه لا يوصف بأن يجاوز الحد في محبة العبد، وإنما يوصف بالمحبة. كما قال تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ «1» فمحبة الله تعالى للعبد هي إرادته لإنعام مخصوص عليه، كما أن رحمته إرادة الإنعام. وقال قوم: محبة الله تعالى للعبد مدحه وثناؤه عليه، وقيل: بل محبة الله لعبده صفة من صفات فعله، فهي إحسان مخصوص يليق بالعبد، وأما محبة العبد لله تعالى فحالة يجدها في قلبه يحصل منها التعظيم له، وايثاره رضاه، وقلة الصبر عنه والاحتياج إليه والاستئناس بذكره. وقد اختلف في اشتقاق المحبة والعشق، فقال بعضهم: الحب اسم لصفاء المودة، لأن العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب، وقيل: هو مشتق من حباب الماء بفتح الحاء، وهو معظمه، لأن المحبة معظم ما في القلوب من المهمات، وقيل: اشتقاقه من اللزوم والثبات، يقال: أحب البعير إذا برك فلم يقم، فكأن المحب لا ينزع قلبه عن ذكر محبوبه. وأما العشق فاشتقاقه من العشقة، وهو نبات يلتف بأصول الشجر التي يقاربها في منبتها، فلا تكاد تتخلص منه إلا بالموت، وقيل: إن العشقة نبات أصفر متغير الأوراق فسمي العاشق به لاصفراره وتغير حاله. وقيل: أعم حالات الحب وأشهرها وأعظم صفات الهوى وأظهرها ثلاثة أوصاف، ملازمة لا يستطيعون دفعها، وهي النحول والسقم والذبول، والله أعلم. وهدا الطائر يعمر كثيرا، وقد ظهر منه ما عاش خمسا وعشرين سنة، وما عاش أربعين سنة، كما حكاه أبو حيان التوحيدي وأرسطو قبله. الحكم : يحل أكلها وبيعها بالاتفاق. الأمثال : قالوا «2» : «أكذب من فاختة» . وقالوا «3» : «فلان الفاختة عنده أبو ذر» . الخواص : دمها ودم الحمام الأسود، إذا طلي بهما البرص غير لونه. وزبلها، إذا علق على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 صبي بصرع أبرأه. ودمها، إذا قطر في العين أذهب الآثار المزمنة من ضربة أو قرحة أو غيرهما. التعبير : قال ابن المقري: الفواخت والقماري والدبسي وما أشبهها، يدل ملكها في الرؤيا على العز والجاه وظهور النعم، لأنها لا تكون في الغالب إلا عند المتنعمين، وربما دلت على أهل العبادة، والانقطاع والقراءة والتسبيح والتهليل. قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «1» وربما دلت على المطربين، وأصحاب اللهو والغناء والرقص، وربما دلت على الزوجات والإماء. وقال المقدسي: الفاختة في المنام ولد كذاب، وقيل: الفاختة امرأة كذابة غير ألفة، وفي دينها نقص. وقال ارطاميدورس: الفاختة امرأة صاحبة مروءة وشكل، والله أعلم. الفأر: بالهمز جمع فأرة ومكان فترأى: كثير الفأر، وأرض فئرة أي ذات فأر، وكنية الفأرة: أم خراب وأم راشد، وهي أصناف: الجرذ والفأر المعروفان وهما كالجاموس والبقر والبخاتي والعراب، ومنها: اليرابيع والزباب والخلد، فالزباب صم والخلد عمي، وفأرة البيش، وفأرة الإبل وفأرة المسك، وذات النطق، وفأرة البيت وهي الفويسقة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها في الحل والحرم. وأصل الفسق الخروج عن الاستقامة والجور، وبه سمي العاصي فاسقا، وإنما سميت هذه الحيوانات فواسق على الاستعارة لخبثهن، وقيل: لخروجهن عن الحرمة في الحل والحرم، أي لا حرمة لهن بحال، وقيل: سميت بذلك لأنها عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه الصلاة والسلام، فقطعتها، روى الطحاوي في أحكام القرآن بإسناده عن يزيد بن أبي نعيم، أنه سأل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه لم سميت الفأرة الفويسقة؟ فقال: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، وقد أخذت فأرة فتيلة السراج لتحرق على رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت، فقام إليها وقتلها وأحل قتلها للحلال والمحرم. وفي سنن أبي داود، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة، فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدا عليها، فأحرقت منها موضع درهم. الخمرة: السجادة التي يسجد عليها المصلي، سميت بذلك لأنها تخمر الوجه، أي تغطيه. ورواه الحاكم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال «2» : جاءت فأرة فأخذت تجر الفتيلة، فذهبت الجارية تزجرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعيها» . فجاءت بها فألقتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، على الخمرة التي كان قاعدا عليها، فأحرقت منها موضع درهم، فقال عليه الصلاة والسلام: «إذا نمتم فأطفؤا سرجكم فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم» . ثم قال: صحيح الإسناد. وفي صحيح مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر بإطفاء النار عند النوم» وعلل ذلك بأن الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم نارا. وفي الصحيح أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون حتى تطفؤوها» . قال النووي رحمه الله تعالى: هذا عام، يدخل فيه نار السراج وغيرها. وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها، فإن خيف حريق بسببها دخلت في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 الأمر بالإطفاء، وإن أمن ذلك كما هو الغالب، فالظاهر أنه لا بأس بتركها، لانتفاء العلة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا انتفت العلة زال المنع، وقد تقدم في باب الصاد المهملة، في لفظ الصيد الكلام على الفواسق الخمس، وما ألحق بها مما يباح قتله للمحرم، وفي الحرم. والفأر نوعان: جرذان وفئران، وكلاهما له حاسة السمع والبصر، وليس في الحيوانات أفسد من الفأر ولا أعظم أذى منه، لأنه لا يبقي على حقير ولا جليل، ولا يأتي على شيء إلا أهلكه وأتلفه، ويكفيه ما يحكى عنه في قصة سد مأرب، وقد تقدمت في باب الخاء المعجمة، في لفظ الخلد، ومن شأنه أنه يأتي القارورة الضيقة الرأس، فيحتال حتى يدخل فيها ذنبه، فكلما ابتل بالدهن أخرجه وامتصه حتى لا يدع فيها شيئا. ولا يخفى ما بين الفأر والهر من العداوة، والسبب في ذلك ما تقدم في أول خواص الأسد من حديث زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنه، أن نوحا عليه الصلاة والسلام لما حمل في السفينة، من كل زوجين اثنين شكا أهل السفينة الفأرة وأنها تفسد طعامهم، ومتاعهم فأوحى الله تعالى إلى الأسد، فعطس فخرجت منه الهرة فتخبأت الفأرة منها. تذنيب: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اتخذ نوح السفينة في سنتين، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون، فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد. وروي أن الطبقة السفلى، كانت للدواب والوحوش، والوسطى للإنس، والعليا للطير. فلما كثرت أرواث الدواب، أوحى الله تعالى إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل، ففعل فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث. فلما وقع الفأر بحرف السفينة جعل يقرضها وحبالها، فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب، فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر. وعن الحسن قال: كان طول السفينة ألفا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع. والمعروف ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن طولها ثلاثمائة ذراع. وقال قتادة رضي الله تعالى عنه: كان بابها في عرضها، وقال زيد بن أسلم: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها، ومائة عام يعمل الفلك. وقال كعب الأحبار: مكث نوح عليه السلام، في عمل السفينة ثلاثين سنة. وقيل: غرس الشجر أربعين سنة وجففه أربعين سنة. وزعم أهل التوراة، أن الله تعالى أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج، وأن يضعه أزور، وأن يطليه بالقار من داخله ومن خارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا، وعرضه خمسين ذراعا، وطوله في السماء ثلاثين ذراعا. والذراع إلى المنكب، وأن يجعله ثلاث أطباق: سفلى ووسطى وعليا، وأن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمر الله تعالى. وأما الزباب والخلد: فتقدما. وأما اليربوع: فسيأتي في بابه، وقد تقدم في باب العين المهملة في لفظ العقعق، عن سفيان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 بن عيينة، أنه قال: ليس شيء من الحيوان يخبأ قوته إلا الإنسان والنملة والفأرة والعقعق، وبه جزم في الإحياء في باب التوكل. وعن بعضهم قال: رأيت البلبل يحتكر. ويقال إن للعقعق مخابىء إلا أنه ينساها. وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «فقدت أمة من بني إسرائيل، ولا يدري ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر ألا تراها إذا وضع لها لبن الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها لبن الشاة شربته» . قال النووي وغيره: ومعنى هذا أن لحوم الإبل وألبانها، حرمت على بني إسرائيل دون لحوم الغنم وألبانها، فدل امتناع الفأرة من لبن الإبل، دون لبن الغنم، على أنها مسخ من بني إسرائيل. وأما فأرة البيش: وهو بكسر الباء الموحدة، وبالياء المثناة تحت وبالشين المعجمة في آخره وهو السم، فدويبة تشبه الفأرة، وليست بفأرة ولكن هكذا يسمى، وتكون في الغياض والرياض وهي تتخللها طلبا لمنابت السموم، فتأكلها فلا تضرها، وكثيرا ما تطلب البيش وهو سم قاتل كما تقدم هنا. وفي باب السين المهملة في لفظ السمندلي، قاله القزويني، في الأشكال. وأما ذات النطاق: فهي فأرة منطقة ببياض، وأعلاها أسود، شبهوها بالمرأة ذات النطاق، وهي التي تلبس قميصين ملونين وتشد وسطها، ثم ترسل الأعلى على الأسفل. قاله القزويني أيضا. وأما فأرة المسك: فهي غير مهموزة، لأنها من فار يفور، وهي النافجة كذا قاله الجوهري. وفي التحرير، فارة المسك مهموزة كفأر الحيوان، ويجوز ترك الهمز كما في نظائره. وقال الجوهري وابن مكي: ليست مهموزة وهو شذوذ منهما. وقول الشاعر: كأنّ بين فكّها والفك ... فارة مسك ذبحت في سك مراده شقت، والذبح أصله الشق والقطع، والسك ضرب من الطيب يركب من مسك وغيره. وقال الجاحظ: فارة المسك نوعان: النوع الأول دويبة تكون في بلاد التبت تصاد لنوافجها وسررها فإذا صيدت شدت بعصائب، وتبقى متدلية فيجتمع فيها دمها، فإذا أحكم ذلك ذبحت فإذا ماتت قورت السرة التي عصبت، ثم تدفن في الشعير حينا حتى يستحيل ذلك الدم المختنق هناك الجامد بعد موتها، مسكا ذكيا، بعد أن كان لا يرام نتنا. وما أكثر من يأكلها أي الفأرة عندنا! قلت: وتعجبه من كثرة آكليها يدل على استطابتها، والفقهاء لم يتعرضوا لهذا النوع. ثم قال: والنوع الثاني جرذان سود، تكون في البيوت، ليس عندها إلا تلك الرائحة اللازمة، وهذا النوع رائحته كرائحة المسك، إلا أنه لا يؤخذ منه المسك، وقد تقدم في باب الظاء المشالة في لفظ الظبي، ذكر المسك وحكمه. قلت: والمشهور أن فأرة المسك سرر الظباء كما تقدم. وأما فأرة الإبل فقال في الصحاح: هي أن تفوح منها ريح طيبة، وذلك إذا رعت العشب وزهره، ثم شربت وصدرت عن الماء نديت جلودها، ففاحت منها رائحة طيبة فيقال لتلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الرائحة: فأرة الإبل. عن يعقوب، قال «1» الراعي يصف إبلا: لها فأرة زفراء كلّ عشية ... كما فتق الكافور بالمسك فاتقه وأما الفأرة التي خربت سد مأرب: فهي الخلد، وقد تقدم ذكر قصتها، في باب الخاء المعجمة. وروى الحاكم والبيهقي عن مجاهد، في تفسير قوله «2» تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها يعني حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فيسلم كل يهودي وكل نصراني وكل صاحب ملة، وتأمن الفأرة الهر والشاة الذئب ولا تقرض فأرة جرابا، وتذهب العداوة من الأشياء كلها وذلك ظهور الإسلام على الدين كله. الحكم : يحرم أكل جميع أنواع الفأر إلا اليربوع، كما سيأتي في بابه، إن شاء الله تعالى، ويكره أكل سؤر الفأر، وقال ابن وهب عن الليث: كان ابن شهاب يعني الزهري يكره أكل التفاح الحامض، وسؤر الفأر، ويقول: إنهما يورثان النسيان، وكان يشرب العسل، ويقول إنه يورث الذكاء. وقد جمع الشيخ علم الدين السخاوي «3» ما يورث النسيان في أبيات فقال: نوق خصالا خوف نسيان ما مضى ... قراءة ألواح القبور تديمها وأكلك للتفاح ما كان حامضا ... وكزبرة خضراء فيها سمومها كذا المشي ما بين القطار وحجمك ... القفاء ومنها الهمّ وهو عظيمها ومن ذاك بول المرء في الماء راكدا ... كذلك نبذ القمل لست تقيمها ولا تنظر المصلوب في حاله صلبه ... وأكلك سؤر الفأر وهو تميمها تتمة : روى البخاري عن ابن عباس، عن ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: إن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال «4» : «ألقوها وما حولها وكلوه» . ورواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بمعناه. ورواه الترمذي عنه، ثم قال: وهو غير محفوظ. سمعت البخاري يقول: إنه خطأ، يعني من طريق أبي هريرة. قلت: والصواب أنه صحيح، ورواه الطحاوي في بيان المشكل عنه، بلفظ: «إن كان جامدا فخذوها وما حولها فألقوه، وإن كان ذائبا فاستصبحوا به» . وإنما لم يدخل البخاري في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن كان مائعا فأريقوه» ، لأنه من رواية معمر عن الزهري، فاستراب بانفراد معمر بها. والعلماء مجمعون على أن حكم السمن الجامد، تقع فيه الميتة أنها تلقى وما حولها، ويؤكل بقيته. وأما المائع، كالخل والزيت والسمن المائع واللبن والشيرج والعسل المائع، فلا خلاف أنه لا يؤكل، والمشهور جواز الاستصباح به لكن يكره، وقيل: لا يجوز، لقوله «5» تعالى: وَالرُّجْزَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 فَاهْجُرْ . قال أبو العالية والربيع: الرجز بالضم والكسر: النجاسة والمعصية، وكل هذا في غير المساجد. فأما المساجد فلا يستصبح به فيها جزما. ويحل دهن السفن به، وأن يتخذ صابونا يغسل به ولا يباع. وقال أبو حنيفة والليث: يجوز بيع الدهن النجس، إذا بين نجاسته. وقال أهل الظاهر: لا يجوز بيع السمن، ولا الانتفاع به، إذا وقعت فيه الفأرة، ويجوز بيع الزيت والخل والعسل وجميع المائعات، إذا وقعت فيها. قالوا: لأن النهي إنما ورد في السمن دون غيره. الأمثال : قالوا «1» : «ألص من فأرة» و «أكسب من فأرة» «2» و «أسرق من ذبابة» «3» . وهي الفأرة البرية، تسرق كل ما تحتاج إليه وما تستغني عنه. الخواص : قال في كتاب عين الخواص: رأس الفأرة يشد في خرقة كتان، ويعلق على رأس صاحب الصداع الشديد، يزول صداعه، وينفع من الصرع، وعين الفأر تشد في قلنسوة إنسان يسهل المشي عليه، وإن بخر البيت بزبل ذئب أو زبل كلب، هربت منه الفيران. وإن خلط العجين بزبل حمام وأكله الفأر، أو أي حيوان كان مات. وإن دق بصل الفأر وجعل على أبواب حجرتهن فأي فأرشم رائحته مات. وإن جعل على باب جحر الفأر ورق الدفلى مع القلقند لم تبق فيه فأرة. وإن دق عظم ساق الجمل دقا ناعما، وديف بماء وسكب في جحرة الفيران، فإنه يقتلهن. وإن أخذت فأرة وقطع ذنبها ودفنت وسط البيت، لم يدخل ذلك البيت فأر ما دامت فيه، وإذا بخر بكمون ولوز ونطرون عند جحرتهن متن من ساعتهن، وإن بخر البيت بحافر بغل أسود هرب منه الفأر. وإن علقت عين فأرة على من به حمى الربع أبرأته. وذنب الفأر إذا جعل في جلد حمار، وجعلا في خرقة حرير وعلق على اليد اليسرى، فمن يكون له حاجة فإنها تقضى عند الملوك وغيرهم. وبول الفأر يقلع الكتابة من الورق، وطريق أخذ بوله أن يصاد في مصيدة بحديدة، ويوضع إناء وتجعل المصيدة من ناحية الحديدة، على فم الإناء، ويرى الفأر السنور، فإنه يبول من ساعته لشدة خوفه، ويكتب للفأر على أربع صفائح قصدير، وتجعل في أوكار الفأر وهو هذا: يا ربيق يا سلويرا. قلت: وقد أذكرني هذا ما يقلع الزيت وغيره، من الأدهان من القرطاس والجلد والريش، وغير ذلك أن يؤخذ التراب الذي يجعله النساء في رؤوسهن في الحمام الأزرق المحترق فيدق ناعما كالكحل، ويوضع على القرطاس الذي أصابه الزيت، أو غيره ويثقل تثقيلا جيدا يوما وليلة، ثم يرفع، فإن القرطاس يصير نقيا ليس به أثر، وهو سر عجيب مجرب. وأما سم الفأر فهو التراب الهالك عند أهل العراق، وهو السك، يؤتى به من خراسان من معادن الفضة، وهو نوعان: أبيض وأصفر، إن جعل في عجين وطرح في البيت، وأكل منه الفأر مات. وكذلك كل فأرة تجد ريح تلك الفأرة حتى يموت الجميع. التعبير : قال المعبرون: الفأرة في الرؤيا امرأة فاسقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال «4» : «اقتلوا الفويسقة» وقيل: الفأرة امرأة يهودية نائحة ملعونة، أو رجل يهودي فاسق، أو لص نقاب. وربما دل الفأر على الرزق، فمن رأى فأرا في بيته كثيرا، كثر رزقه لأنه لا يكون إلا في مكان فيه رزق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 ومن خرج الفأر من منزله، قلّت بركته ونعمته، ومن ملك فأرا ملك خادما، لأن الفأر يأكل مما يأكل الإنسان، وكذلك الخادم يأكل مما يأكل سيده. ومن رأى فأرا يلعب في داره نال خصبا في تلك السنة، لأن اللعب لا يكون إلا من الشبع، وأما الفأر الأبيض والأسود، فإنه يدل على الليل والنهار، فمن رآه يغدو ويروح فإنه يدل على طول حياته، ومن رأى الفأر كأنه يقرض في ثيابه، فهو معلن بما يمر من أجله، ومن رأى فأرا ينقب فإنه لص نقاب فليحذره والله تعالى أعلم. الفادر: المسن من الأوعال. الفازر: بالزاي قبل الراء، نمل أسود فيه حمرة. الفاشية: الماشية، وجمعها فواش، وهي التي تفشو من المال كالإبل والبقر والغنم السائمة، لأنها تفشو أي تنتشر في الأرض. ويقال: أفشى الرجل، إذا كثرت مواشيه. روى مسلم في الأشربة، وأبو داود في الجهاد، من حديث أبي خيثمة عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء» . زاد أبو داود: «فإن الشياطين تعبث إذا غابت الشمس» «1» . وفحمة العشاء ظلمتها واسودادها، شبه سوادها بالفحم، وفسرها بعضهم باقبال أول ظلامه. وفي الحديث: «ضموا مواشيكم إذا دخل الليل» . وسيأتي، في باب الميم، إن شاء الله تعالى ذكر هذا الكلام. الفاعوس: كجاموس، الحية والوعل والأفعى. قاله ابن الأعرابي. وأنشد في ذلك: قد يهلك الأرقم والفاعوس ... والأسد المدرّع الهوس قال: ولم يأت في الكلام فاعول لام الفعل منه سين، إلا الفاعوس، وهو الحية والوعل، والبابوس وهو الصبي الرضيع، والراموس وهو القبر، والقاموس وهو وسط البحر، والقابوس وهو الجميل الوجه، والعاطوس هو دابة يتشاءم بها، والفانوس وهو النمام، والجاموس وهو ضرب من البقر، والجاروس وهو الكثير الأكل. وقال ابن دريد: والكابوس وهو الذي يقع على الإنسان في نومه، والناموس وهو صاحب سر الخير، والجاسوس وهو صاحب سر الشر. وفي الصحيحين أن ورقة بن نوفل قال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم. قال النووي وغيره: اتفقوا على أن المراد به هنا جبريل عليه الصلاة والسلام. وسمي بذلك لأن الله تعالى خصه بالوحي وعلم الغيب، وسيأتي هذا أيضا في باب النون، إن شاء الله تعالى، في لفظ الناموس. والله تعالى أعلم. الفاطوس: سمكة عظيمة تكسر السفن، والملاحون يعرفونها، فيتخذون خرق الحيض ويعلقونها على السفينة، فإنها تهرب منهم. قال القزويني: ولعل هذا هو حوت الحيض، وقد تقدم ذكره في باب الحاء المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 الفالج: بالجيم في آخره الجمل الضخم ذو السنامين يحمل من الهند، وهو الدهانج بفتح الدال وبالجيم في آخره، كما تقدم في باب الدال المهملة، وفي الحديث «أن فالجا تردى في بئر» . فالية الأفاعي: بنات وردان، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في آخر باب الواو. وقيل هي ضرب من الخنافس رقط تألف العقارب في جحرة الضب. الأمثال : قالت العرب: «آيتكم فالية الأفاعي» . وجمعها الفوالي لأنها إذا خرجت، يعلم أن الضب خارج لا محالة، وإذا رؤيت في الجحر علم أن وراءها العقارب والحيات والأفاعي، يضرب لأول شر ينتظر بعده شر منه والله تعالى أعلم. فتّاح: كصياح طائر يكنى أم عجلان، تقدم في آخر باب العين المهملة. الفتع: دود أحمر يأكل الخشب قال الشاعر: غداة غادرتهم قتلى كأنهم ... خشب تقصف في أجوافها الفتع الواحدة فتعة قاله ابن سيده. الفحل: الذكر من ذي الحافر والظلف والخف وغير ذلك من ذي الروح، وجمعه: أفحل وفحول وفحولة وفحال وفحالة. قال البخاري، في الجهاد: وقال راشد بن سعد: كان السلف يستحبون الفحولة من الخيل، لأنها أجرى وأجرأ. أي أسرع وأجسر. وروى الحافظ أبو نعيم من طريق غيلان بن سلمة الثقفي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض أسفاره، فرأينا منه عجبا جاء رجل فقال: يا رسول الله إنه كان لي حائط فيه عيشي وعيش عيالي، ولي فيه ناضحان فحلان وقد منعاني أنفسهما، وحائطي وما فيه فلا يقدر أحد أن يدنو منهما، فنهض نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الحائط، فقال لصاحبه: «افتح» . فقال: إن أمرهما عظيم! فقال صلى الله عليه وسلم: «افتح» فلما حرك الباب أقبلا ولهما رغاء وجلبة، فلما انفرج الباب ونظرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بركا ثم سجدا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برؤوسهما، ثم دفعهما إلى صاحبهما، وقال: «استعملهما وأحسن علفهما» . فقال القوم: تسجد لك البهائم أفلا تأذن لنا بالسجود لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن السجود لا ينبغي إلا للحي القيوم، الذي لا يموت ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» «1» . ورواه الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ورجاله ثقات، وروى الحافظ الدمياطي، في كتاب الخيل، عن عروة البارقي أنه قال: كانت لي أفراس، وفيها فحل شراؤه عشرون ألف درهم، ففقأ عينه دهقان، فأتيت عمر رضي الله تعالى عنه، فأخبرته، فكتب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه؛ أن خير الدهقان بين أن يعطيه عشرين ألفا ويأخذ الفحل وبين أن يغرم ربع الثمن. فقال الدهقان: ما أصنع بالفحل؟ وغرم ربع الثمن. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا، في باب الحاء المهملة، في لفظ الحيوان. وفي الصحيحين وغيرهما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 «يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل» «1» . وفي السنن: «يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل» «2» . وروى الشافعي رحمه الله تعالى في مسنده بإسناد على شرط مسلم عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن لبن الفحل لا يحرم، ومعناه أن حرمة الرضاع لا تثبت بين المرتضع وبين زوج المرضعة الذي اللبن منه، وإنما تنتشر الحرمة إلى أقارب المرضعة لا غير. وروي هذا عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وبه قال داود الأصم، وهو اختيار عبد الرحمن ابن بنت الشافعي. والذي ذهب إليه الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الأمة، أن حرمة الرضاع تثبت بين المرتضع وبين المرضعة، وبين زوجها الذي منه اللبن فتكون المرضعة أما له وزوجها أبا له كما إذا ولدته من مائة، وكانا أبوين له، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها المتفق على صحته في قصة فلح بن أبي القعيس، وحديثها أيضا المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «3» . وإنما تثبت حرمة الرضاع بشرطين: أحدهما أن يكون قبل استكمال المولود حولين، لقوله «4» تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحرم من الرضاع إلا ما يفتق الأمعاء» . وفي رواية «5» «لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم» . وإنما يكون هذا في حال الصغر. وعند أبي حنيفة مدة الرضاع ثلاثون شهرا لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً «6» . والشرط الثاني أن يكون خمس رضعات متفرقات، كل رضعة إلى الشبع. روي ذلك عن عائشة وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وبه قال مالك والشافعي وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن قليل الرضاع وكثيره محرم، وهو قول ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم. وروي عن سعيد بن المسيب، وإليه ذهب الثوري ومالك في إحدى الروايات، والأوزاعي وعبد الله بن المبارك وأبو حنيفة، فإن كان للرجل خمس بنات أو زوجات أو أمهات أولاد، فأرضعت كل واحدة رضعة واحدا جنينا واحدا، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها لا يقع التحريم، والثاني يصير ابنا له ولا يصير ابنا للمرضعات، والثالث يصير ابنا له وللمرضعات، فإن وصل اللبن إلى جوفه بحقنة، ففيه قولان: وإن اختلط اللبن بمائع ووصل إلى جوفه ثبتت الحرمة، وإن كان مغلوبا على أصح القولين. وللمسألة فروع مبسوطة في كتب الفقه. قلت: وقد أذكرني اللبن حديثا رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «7» : «لا أخاف على أمتي إلا اللبن فإن الشيطان بين الرغوة والضرع» . وروى أيضا من حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيهلك من أمتي أهل اللبن» . قيل: من هم يا رسول الله؟ قال «8» : «أناس يحبون اللبن فيخرجون من الجماعات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 ويتركون الجمعات» . قال الحربي: أظنه أراد يتباعدون عن الأمصار وعن صلاة الجماعة، ويطلبون مواضع اللبن، في المراعي والبراري والبوادي. وقال غيره: أراد قوما أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وفي صحيح البخاري، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن عسب الفحل» «1» . والأشهر في تفسيره أنه ضراب الفحل كما قال الشاعر: ولولا عسبه لرددتموه ... وشر منيحة فحل يعار وقيل: المراد ثمن مائه، ففي رواية الشافعي وأحمد وأبي داود، في بعض نسخه، نهى عن ثمن عسب الفحل، وقيل: العسب أجرة ضرابه، فيحرم ثمن مائه. وكذا أجرته في الأصح. الأمثال : قال العسكري: ومن الأمثال المستحسنة قولهم: «ذلك الفحل لا يقدع أنفه» . وقد تمثل به ورقة بن نوفل في النبي صلى الله عليه وسلم حين خطب خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها. ويقال: بل تمثل به أبو سفيان بن حرب حين خطب النبي صلى الله عليه وسلم ابنته حبيبة رضي الله تعالى عنها. قال: وأصحاب الحديث يرونه «الفحل لا يقرع أنفه» بالراء، انتهى. قال الشماخ «2» : إذا ما استافهنّ ضربن منه ... مكان الرمح من أنف القدوع قوله: استافهن يعني حمارا يستاف أنثى، فيرمحنه إذا استافهن، والسوف الشم. وقوله: مكان الرمح من القدوع أراد بالقدوع المقدوع، وهذا من الأضداد. يقال: طريق ركوب إذا كانت تركب، ورجل ركوب للدواب إذا كان يركبها، وناقة رغوث إذا كانت ترضع، وحوار رغوث إذا كان يرضع، وشاة حلوب إذا كانت تحلب، ورجل حلوب إذا كان يحلب الشاة، والقدوع هنا البعير قدع أنفه، وهو أن يريد الناقة الكريمة، ولا يكون كريما فيضرب أنفه بالرمح حتى يرجع. يقال: قدع أنفه عن كذا، أي منع عنه، وأنشد الشيخ شرف الدين الدمياطي في أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب لعبد الله بن يزيد الهلالي: ما أنجبت نجيبة من فحل ... بجبل نعلمه أو سهل كسته من بطن أمّ الفضل ... زوجة المصطفى ذي الفضل خاتم الأنبياء وخير الرسل ... أكرم بها من كهلة وكهل وقالوا: الفحل يحمي شوله معقولا، والشول تقدم في باب الشين المعجمة أنها النوق، التي جف لبنها وارتفع ضرعها، وأتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، الواحدة شائلة، والشول: جمع على غير قياس. ومعقولا نصب على الحال، أي أن الحر يحتمل الأمر الجليل في حفظ أهله وحريمه، وإن كان به علة، وقد تمثل بذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص أخي سعد بن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 وقاص، حين فقئت عينه باليرموك، وهو الذي افتتح جلولا من بلاد فارس، وهزم الفرس. وكانت جلولا تسمى فتح الفتوح، وبلغت غنائمها ثمانية عشر ألف ألف، وشهد صفين مع علي رضي الله عنه، وكانت معه الراية وهو على الرجالة وقتل يومئذ وهو يقول «1» : أعور يبغي أهله محلا ... قد عالج الحياة حتى ملا لا بدّ أن يفلّ أو يفلا فقطعت رجله يومئذ، وهو يقاتل من دنا منه وهو بارك، ويقول: «الفحل يحمي شوله معقولا» . وفيه يقول أبو الطفيل عامر «2» بن واثلة رضي الله عنه: يا هاشم الخير جزيت الجنه ... قاتلت في الله عدوّ السنه ومن أحكام الفحل، أن من غصب فحلا وأنزاه على شاته، فالولد للغاصب، ولا شيء عليه للإنزاع، لكن إذا نقص الفحل بذلك، غرم أرش نقصه. وإن غصب شاة وأنزى عليها فحلا فالولد لصاحب الشاة. تذنيب : قال يونس: جميع الألبان معتدلة، وقال الرازي: الحلو حار، وأجوده ما كان من ضأن فتى، وهو ينفع الصدر والرئة، ويضر أصحاب الحميات، وهو يولد غذاء جيدا، ويوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة والصبيان وأجود أكله في الربيع. وأما اللبن الحامض، فبارد رطب، وأجوده الكثير الزبد، وهو ينفع لتسكين العطش، ويضر بالأسنان واللثة، ويدفع ضرره التمضمض بماء العسل، ويولد خلطا محمودا، يوافق أصحاب الأمزجة المعتدلة والغلمان، وأجود استعماله في الصيف ويختار اللبن بعد الولادة بأربعين يوما، ويختلف بحسب صفته، فالمطبوخ مع الحنطة والأرز، يوافق أصحاب الأمزجة الحارة، وما نزع زبده ومائيته، ويقال له الودع ينفع الأمزجة الحارة، وإذا ألقى في اللبن الحصا المحمى حتى تذهب مائيته نفع من الذرب، والذي أخرج غلظه بالأنفحة، إذا خلط بالسكنجبين السكري نفع من الحكة والجرب، ولبن الاتن ينفع من السل والدق، ولبن اللقاح نافع من الاستسقاء إذا خلط مع أبوالها، وما خثر من اللبن فهو بارد يمسك الطبع، ويولد خلطا غليظا وسددا، وحجارة في الكلى انتهى. تتمة : اللبن في المنام فطرة الإسلام، وهو مال حلال يناله بلا تعب لقوله تعالى: لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ «3» وأما الرائب فهو مال حرام لحموضته، وخروج دسومته، ولبن الغنم مال شريف، ولبن البقر غنى، ولبن الخيل ثناء حسن، ولبن الثعلب شفاء من مرض، ولبن البغل عسر وهول، ولبن النمر عدو يظهر، ولبن الأسد مال من سلطان، ولبن حمار الوحش شك في الدين، ولبن الخنزير مصيبة في العقل والمال لمن شربه في المنام، وقيل: إصابة مال عظيم، لكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 يخشى على عقل شاربه، ولبن ابن آدم زيادة في المال، إذ هو زاد في الثدي، ولا يحمد لمن رضعه فإنه يدل على داء مكروه. قال محمد بن سيرين: لا أحب الراضع ولا المرضع، فإن شربه المريض، شفي من مرضه، لأن به كان نشؤه وقوته ومن بدد اللبن فقد ضيع دينه، ومن رأى اللبن يخرج من الأرض، فإنها فتنة يراق فيها الدم على قدر ذلك اللبن، ولبن الكلاب والذئاب والسنانير خوف أو مرض. وقيل: إن لبن الذئب مال من سلطان، ورياسة على قوم. ولبن الهوام، من شربه فإنه يصالح أعداءه، والله تعالى أعلم. الفدس: بالضم العنكبوت، والجمع فدسة كفردة. الفرأ: الحمار الوحشي، والجمع الفراء، مثل جبل وجبال، وفي المثل «1» «كل الصيد في جوف الفرا» . قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان بن الحارث. وقيل: لأبي سفيان بن حرب، كذا قاله أبو عمر بن عبد البر، وقال السهيلي: الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قاله لابن حرب يتألف به، وذلك أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فحجب قليلا ثم أذن له، فلما دخل قال: ما كدت تأذن لحجارة الجلهمتين، وهما جانبا الوادي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا سفيان أنت كما قيل: «كل الصيد في جوف الفرا» ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يتألفه عن الإسلام، يعني إذا حجبتك منع كل محجوب، وقال في كلامه على فتح مكة، الأصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لأبي سفيان بن الحارث، وكان رضيع النبي صلى الله عليه وسلم أرضعتهما حليمة، وكان آلف الناس له قبل النبوة لا يفارقه، فلما بعث صلى الله عليه وسلم كان أبعد الناس وأهجاهم له، إلى أن أسلم، فكان أصح الناس إيمانا، وألزمهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصل هذا المثل أن جماعة ذهبوا إلى الصيد، فصاد أحدهم ظبيا، والآخر أرنبا، والآخر حمار وحش، فاستبشر صاحب الأرنب وصاحب الظبي بما نالا، وتطاولا على الثالث فقال الثالث: «كل الصيد في جوف الفرا» ، أي الذي رزقت وظفرت به مشتمل على ما عندكما، وذلك أنه ليس فيما يصيده الناس أعظم من حمار الوحش. ثم اشتهر ذلك المثل واستعمل في كل حاو لغيره وجامع له قال الشاعر: يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هي إلا واحد غير ممتري إذا صحّ كاف الكيس فالكل حاصل ... لديك وكل الصيد في جوف الفرا الفراش: دواب مثل البعوض، واحدتها فراشة، وهي التي تطير وتتهافت في السراج لضعف أبصارها، فهي بسبب ذلك تطلب ضوء النهار، فإذا رأت فتيلة السراج بالليل ظنت أنها في بيت مظلم، وأن السراج كوة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء، فلا تزال تطلب الضوء وترمي بنفسها إلى النار، فإذا جاوزتها ورأت الظلام ظنت أنها لم تصب الكوة، ولم تقصدها على السداد، فتعود إليها مرة بعد مرة، حتى تحترق. قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: ولعلك تظن أن هذا لنقصان فهمها وجهلها، ثم قال: فاعلم أن جهل الإنسان أعظم من جهلها، بل صورة الإنسان في الاكباب على الشهوات، والتهافت فيها، أعظم جهالة منها، لأنه لا يزال يرمي بنفسه فيها إلى أن ينغمس فيها ويهلك هلاكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 مؤبدا. فليت جهل الآدمي كان كجهل الفراش، فإنها باغترارها بظاهر الضوء، إن احترقت، تخلصت في الحال، والآدمي يبقى في النار أبد الآباد، أو مدة مديدة، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم» «1» . انتهى. ولقد أجاد مهلهل بن يموت «2» في قوله «3» : جلّت محاسنه عن كلّ تشبيه ... وجلّ عن واصف في الحسن يحكيه انظر إلى حسنه واستغن عن صفتي ... سبحان خالقه سبحان باريه النرجس الغضّ والورد الجني له ... والأقحوان النضير الغض في فيه دعا بألحاظه قلبي إلي عطبي ... فجاءه مسرعا طوعا يلبيه مثل الفراشة تأتي إذا ترى لهبا ... إلى السراج فتلقي نفسها فيه وقال «4» عون الدين العجمي «5» : لهيب الخدّ حين بدا لطرفي ... هوى قلبي عليه كالفراش فأحرقه فصار عليه خالا ... وها أثر الدخان على الحواشي فائدة : قال الله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ «6» شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والتطاير إلى الداعي، من كل جانب كما يتطاير الفراش. روى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها، وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتفلتون من يدي» «7» وروى مسلم أيضا عن ابن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به ومن فوقها، فيقبض منها، قال تبارك وتعالى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى «8» قال: فراش من ذهب. وروى البيهقي، في الشعب عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «9» : «ما لي أراكم تتهافتون في الكذب، تهافت الفراش في النار، كل الكذب مكتوب إلا الكذب في الحرب، والكذب في إصلاح ذات البين، وكذب الرجل على امرأته ليرضيها» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 الحكم : تحريم الأكل. الأمثال : قالوا: «أطيش من فراشة «1» وأضعف «2» وأذل وأجهل «3» وأخف «4» وأخطأ «5» من فراشة» ، لأنها تلقي نفسها في النار، كما قالوا: «أخطأ وأجهل من ذباب» «6» ، لأنه يلقي نفسه في الطعام الحار وفيما يهلكه، قال الشاعر: سفاهة سنور وحلم فراشة ... وأنك من كلب المهارش أجهل التعبير : الفراش في المنام عدو ضعيف مهين عظيم الكلام، وقال ارطاميدروس: الفراش للفلاحين يدل على البطالة والله أعلم. الفرافصة: بالضم اسم للأسد، وبالفتح اسم لرجل وقيل: كل فرافصة في العرب، فهو بالضم إلا فرافصة أبا نائلة صهر عثمان رضي الله تعالى عنه، فإنه بالفتح، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، في أبواب الصلاة عن يحيى بن سعيد عن ربيعة بن عبد الرحمن عن القاسم بن محمد أن الفرافصة بن عمير الحنفي قال: ما أخذت سورة يوسف إلا من قراءة عثمان بن عفان إياها في الصبح من كثرة ما كان يرددها. الفرخ: ولد الطائر، هذا الأصل وقد استعمل في كل صغير من الحيوان والنبات، والأنثى فرخة وجمع القلة أفرخ وأفراخ، والكثرة فراخ. روى أبو داود بإسناد صحيح على شرط الشيخين، عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثا ثم أتاهم فقال «7» : «لا تبكوا على أخي بعد اليوم» ، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ادعوا إلى بني أخي» . فجيء بنا كأننا أفرخ، فقال صلى الله عليه وسلم: «ادعوا إلي الحلاق» ، فأمره فحلق رؤوسنا. وروى البزار، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان في بعض مغازيه فبينما هم يسيرون، إذ أخذوا فرخ طير فأقبل أحد أبويه، حتى سقط على أيدي الذين أخذوا الفرخ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تعجبون لهذا الطير أخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديهم» ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال «8» صلى الله عليه وسلم: «والله لله أرحم بعباده من هذا الطير بفرخه» . وفي سنن أبي داود، في أوائل كتاب الجنائز، من حديث عامر الرام أخي الخضر بضم الخاء وإسكان الضادين المعجمتين، وهو فرد في الأسماء، قال «9» : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل عليه كساء وفي يده شيء قد لف عليه طرف كسائه، فقال: يا رسول الله إني لما رأيتك أقبلت، فمررت بغيضة شجر، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن، فلففتها معهن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وها هن فيه معي. فقال صلى الله عليه وسلم: «ضعهن عنك» . فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أتعجبون لرحمة أم الفراخ فراخها» ؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال صلى الله عليه وسلم: «فو الذي بعثني بالحق نبيا لله أرحم بعباده من أم هؤلاء الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن» . فرجع بهن وأمهن ترفرف عليهن. وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «إن لله مائة رحمة قسم منها رحمة في دار الدنيا فبها يعطف الرجل على ولده، والطير على فراخه، فإذا كان يوم القيامة صيرها مائة رحمة فعاد بها على الخلق» . قال أبو أيوب السجستاني: إن رحمة الله قسمها في دار الدنيا وأصابني منها الإسلام، وإني لأرجو من تسع وتسعين رحمة، ما هو أكثر من ذلك. وروى «2» مسلم أيضا والنسائي والترمذي، عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد خفت، وفي رواية الترمذي: قد جهد فصار مثل الفرخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه» ؟ قال: نعم. كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله لا تطيقه ولا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» . قال: فدعا الله به فشفاه. ومعنى قوله: مثل الفرخ أنه ضعف ونحل جسمه، وخفي كلامه. وتشبيهه له بالفرخ يدل على أنه تناثر أكثر شعره، ويحتمل أن يكون شبهه به لضعفه، والأول أوقع في التشبيه. ومعلوم أن مثل هذا المرض لا يبقى معه شعر ولا قوة. وفي هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة، وفيه فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، وفيه جواز التعجب بقول: سبحان الله، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنك لا تطيقه» ، يعني أن عذاب الآخرة لا يطيقه أحد في الدنيا لأن نشأة الدنيا ضعيفة لا تحتمل العذاب الشديد، والألم العظيم، بل إذا عظم على الإنسان هلك ومات. وأما نشأة الآخرة، فهي للبقاء إما في النعيم أو العذاب، إذ لا موت، كما قال الله تعالى: في حق الكفار كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ «3» نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى أحسن ما يقال لأنها من الدعوات الجوامع التي تتضمن خير الدنيا والآخرة، وذلك أن النكرة في سياق الطلب عامة، فكأنه يقول: اعطني كل حالة حسنة في الدنيا والآخرة. وقد اختلفت أقوال المفسرين في الآية اختلافا يدل على عدم التوفيق، وعلى قلة التأمل لوضع الكلمة، فقيل: الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة والمغفرة، وقيل: العافية، وقيل: المال وحسن المآل، وقيل: المرأة الصالحة والحور العين. والصحيح الحمل على العموم، قال النووي: وأظهر الأقوال في تفسير الحسنة أنها في الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 العبادة والعافية وفي الآخرة الجنة والمغفرة. وقيل: الحسنة نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. وفي تاريخ ابن النجار وعوالي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن المثنى بن أنس بن مالك الأنصاري قاضي البصرة وعالمها ومسندها، وهو من كبار شيوخ البخاري، من حديث الحسن بن أبي الحسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان فيمن قبلكم رجل يأتي وكر طائر، كلما أفرخ أخذ فراخه فشكا ذلك الطائر إلى الله تعالى ما يفعل به، فأوحى الله تعالى إليه إن عاد فسأهلكه، فلما أفرخ ذلك الطير، خرج ذلك الرجل كما كان يخرج، فبينما هو في بعض الطريق سأله سائل فأعطاه رغيفا كان معه يتغذاه، ثم مضى حتى أتى الوكر ووضع سلمه ثم صعد فأخذ الفرخين وأبواهما ينظران إليه، فقالا: ربنا إنك لا تخلف الميعاد، وقد وعدتنا أنك تهلك هذا إذا عاد، وقد عاد وأخذ فرخينا ولم تهلكه، فأوحى الله إليهما، ألم تعلما أني لا أهلك أحدا تصدق بصدقة في يومه بموتة سوء وقد تصدق» . فائدة : كانت رؤية فرخ الطائر سببا لتمني حنة امرأة عمران الولد، وذلك أنها كانت عاقر لم تلد إلى أن عجزت، فبينما هي في ظل شجرة إذ رأت طائرا يزق فرخا فتحركت نفسها للولد وتمنته فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «1» ، أي السميع لدعائي العليم بضميري، فنذرت أن تتصدق به على بيت المقدس، فيكون من سدنته وخدمته، وكان ذلك في شريعتهم جائزا فحملت بمريم، وهلك عمران وهي حامل فَلَمَّا وَضَعَتْها، قالَتْ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً «2» ووصفها بأنها أحصنت فرجها. قال الزمخشري: إحصانا كليا عن الحلال والحرام جميعا. كما قال «3» تعالى: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا وقال السهيلي: أحصنت فرجها، يريد فرج القميص، أي لم يتعلق بثوبها ريبة، فهي طاهرة الأثواب، وفروج القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل فلا يذهبن فكرك إلى غير هذا، وهذا من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى وأوجز لفظا، وألطف إشارة، وأحسن عبارة، من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل، لا سيما والنفخ من روح القدس، بأمر القدوس، فأضف القدس إلى القدوس، ونزه المقدسة عن الظن الكاذب والحدس وبالله التوفيق. فرع : ومن أحكام الفرخ أنه إذا غصب إنسان بيضا فحضنه دجاجه، كانت الفراخ لصاحب البيض لأنها من عين المغصوب، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يضمن البيض ولا يرد الفراخ، واستدل على ذلك بأنه خلق سوى البيض، قال تعالى في سورة المؤمنون: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ «4» . وفي كتاب التحفة المكية للقاضي نصر العمادي، عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى أنه قال: بلغني أنه كان رجل من بني إسرائيل ذبح عجلا بين يدي أمه فأيبس الله يده، فبينما هو ذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 يوم جالس وإذا بفرخ طائر سقط من وكره فجعل ينظر ويبصبص إلى أبويه، وأبواه ينظران ويبصبصان إليه، فأخذه ذلك الرجل ورده إلى وكره رحمة له فرحمه الله لرحمته لذلك الفرخ، ورد عليه يده بما صنع والله تعالى أعلم. التعبير : الفراخ المشوية في المنام مال ورزق بتعب لمسه النار، فمن رأى أنه أكل لحم فرخ نيئا فإنه يغتاب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأشراف الناس، ومن أكل لحم فراخ السباع من الطير كالشاهين والصقر والعقاب ونحوها، فإنه يغتاب أولاد الملوك أو ينكحهم، ومن اشترى فرخا مشويا فإنه يستأجر أجيرا والله تعالى أعلم. الفرس: واحد الخيل، والجمع أفراس الذكر والأنثى في ذلك سواء، وأصله التأنيث، وحكى ابن جني والفراء فرسة. وقال الجوهري: هو اسم يقع على الذكر والأنثى، ولا يقال للأنثى فرسة، وتصغير الفرس فريس، وإن أردت الأنثى خاصة لم تقل إلا فريسه بالهاء، ولفظها مشتق من الافتراس، لأنها تفترس الأرض بسرعة مشيها. وراكب الفرس فارس، وهو مثل لابن وتامر أي صاحب لبن وصاحب تمر، وفارس أي صاحب فرس، ويجمع على فوارس، وهو شاذ لا يقاس عليه. روى أبو داود والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمي الأنثى من الخيل فرسا، قال ابن السكيت: يقال لراكب ذي الحافر من فرس أو بغل أو حمار فارس. قال الشاعر: وإني امرؤ للخيل عندي مزية ... على فارس البرذون أو فارس البغل وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير: لا أقول لصاحب البغل فارس، ولكن أقول بغّال، ولا أقول لصاحب الحمار فارس، ولكن أقول حمّار. وكنية الفرس: أبو شجاع، وأبو طالب، وأبو مدرك، وأبو مضي، وأبو المضمار، وأبو المنجي. والفرس أشبه الحيوان بالإنسان، لما يوجد فيه من الكرم وشرف النفس، وعلو الهمة. وتزعم العرب أنه كان وحشيا، وأول من ذلله وركبه إسماعيل عليه السلام. ومن الخيل ما لا يبول ولا يروث، مادام راكبه عليه. ومنها ما يعرف صاحبه، ولا يمكن غيره من الركوب عليه. وكان لسليمان عليه السلام خيل ذوات أجنحة. والخيل نوعان: هجين وعتيق، والفرق بينهما أن عظم البرذون أعظم من عظم الفرس، وعظم الفرس أصلب وأثقل من عظم البرذون، والبرذون أحمل من الفرس، والفرس أسرع من البرذون، والعتيق بمنزلة الغزال والبرذون بمنزلة الشاة، فالعتيق من الخيل ما أبواه عربيان، سمي بذلك لعتقه من العيوب، وسلامته من الطعن فيه بالأمور المنقصة، والعتيق الكريم من كل شيء، والخيار من كل شيء التمر والماء والبازي والشحم. وسميت الكعبة البيت العتيق لسلامتها من عيب الرق، لأنها لم يملكها ملك من الملوك الجبابرة قط. وسمي أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عتيقا لجماله، ويقال لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «أنت عتيق الرحمن من النار» «1» . ولم يزل بعين الرضا من الله. ويقال لأن أمه كان لا يعيش لها ولد، فلما عاش سمته عتيقا لأنه عتق من الموت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 فائدة : قال الزمخشري، في تفسير سورة الأنفال: وفي الحديث «أن الشيطان لا يقرب صاحب فرس عتيق، ولا دار فيها فرس عتيق» . وروى الحافظ شرف الدين الدمياطي، في كتاب الخيل، حديثا عزاه إلى ابن منده في كتاب الصحابة وإلى ابن سعد في الطبقات، وإلى ابن قانع في معجم الصحابة، من حديث عبد الله بن عريب المليكي، عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان لا يخبل أحدا في دار فيها فرس عتيق» انتهى. وكذلك رواه الحارث بن أبي أسامة، عن المليكي، عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الطبراني في معجمه، وابن عدي في كامله، في ترجمة سعيد بن سنان، ثم ضعفه. وروى القاضي أبو القاسم علي بن محمد النخعي، في كتاب الخيل، وهو كتاب لطيف نسخته موقوفة بالفاضلية، قال: حدثنا الحسن بن علي بن عفان، قال: حدثنا الحسن بن عطية، عن طلحة بن زيد عن الوضين بن عطاء عن سليمان بن يسار، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في هذه الآية «1» وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ قال: هم الجن لا يدخلون دارا فيها فرس عتيق. وقال مجاهد، في تفسير هذه الآية: هم بنو قريظة. وقال السدي: هم أهل فارس. وقال الحسن: هم المنافقون. وقيل: هم كفار الجن، كما تقدم. قال ابن عبد البر، في التمهيد: الفرس العتيق هو الفاره عندنا. وقال صاحب العين: هو السابق. وفي المستدرك، من حديث معاوية بن حديج، بالحاء المهملة المضمومة، والدال المهملة المفتوحة، وبالجيم في آخره، وهو الذي أحرق محمد بن أبي بكر بمصر رضي الله تعالى عنهما، عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «2» : «ما من فرس عربي إلا يؤذن له كل يوم بدعوتين: يقول اللهم كما خولتني من خولتني فاجعلني من أحب ماله إليه» . ثم قال: صحيح الإسناد. ولهذا الحديث قصة، ذكرها النسائي، في كتاب الخيل من سننه، فقال: قال أبو عبيدة: قال معاوية بن حديج: لما افتتحت مصر، كان لكل قوم مراغة يمرغون فيها دوابهم، فمر معاوية بأبي ذر رضي الله تعالى عنهما، وهو يمرغ فرسا له، فسلم عليه ثم قال: يا أبا ذر ما هذا الفرس؟ فقال: هذا فرس لا أراه إلا مستجاب الدعاء، قال: وهل تدعو الخيل وتجاب؟ قال: نعم، ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه، فيقول: رب إنك سخرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده، اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله وولده. فمنها المستجاب، ومنها غير المستجاب، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجابا. وروى الحاكم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه مرفوعا، قال: إذا أردت أن تغزو، فاشتر فرسا أدهم محجلا طلق اليمين، فإنك تغنم وتسلم. ثم قال: صحيح على شرط مسلم. والهجين الذي أبوه عربي وأمه عجمية، والمقرف، وهو بضم الميم وإسكان القاف، وبالراء المهملة والفاء في آخره عكسه. وكذلك في بني آدم، وأنشد «3» أبو عبيد القاسم بن سلام لهند ابنة النعمان بن بشير: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وهل هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تحللها بغل فإن نتجت مهرا كريما فبالحري ... وإن يك أقراف فمن قبل الفحل قال البطليوسي في شرحه: هكذا رويناه: فمن قبل الفحل. والرواية الأخرى: وإن يك أقراف فما أنجب الفحل وقال: قد روي هذا الشعر لحميدة بنت النعمان بن بشير، وأنها قالته في الفيض بن عقيل الثقفي. فمن رواه لحميدة روى: وما أنا إلا مهرة عربية وكانت حميدة في أول أمرها تحت الحارث بن خالد المخزومي فتركته وقالت فيه: فقدت الشيوخ وأشياعهم ... وذلك من بعض أقواليه ترى زوجة الشيخ مغمومة ... وتمسي لصحبته قاليه «1» فطلقها الحارث وتزوجها روح بن زنباع فتركته وقلته وهجته فقالت «2» فيه: بكى الخزّ من روح وأنكر جلده ... وعجت عجيجا من جذام المطارف «3» وقال العباء نحن كنا ثيابهم ... وأكسية مطروحة وقطائف فطلقها روح، وقال: ساق الله إليك فتى يسكر ويقيء في حجرك، فتزوجها الفيض بن عقيل الثقفي، فكان يسكر ويقيء في حجرها. فكانت تقول: أجيبت في دعوة بن زنباع، وكانت تهجوه وتقول: سمّيت فيضا وما شيء تفيض به ... إلا بسلحك بين الباب والدار فتلك دعوة روح الخير أعرفها ... سقى الإله ثراه الأوطف الساري قال البطليوسي: قد أنكر كثير من الناس رواية بغل بالباء، لأن البغل لا ينتج. قالوا: والصواب نغل بالنون، وهو الخسيس من الدواب. وفي سنن البيهقي، في كتاب البيوع، وأن عبد الرحمن بن عوف اشترى من عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما، فرسا بأربعين ألفا. والفرس الذي اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم من الأعرابي وشهد له به خزيمة اسمه المرتجز، واسم الأعرابي سواد بن الحارث المحاربي وكان النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه منه، فاستتبعه ليقبض ثمنه منه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فساومه رجال لا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه منه، فنادى الأعرابي إن كنت مبتاعا هذا الفرس، وإلا بعته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أو ليس قد ابتعته منك» ؟ فقال الأعرابي: لا والله. وطفق الأعرابي يقول: هلم بشهيد! فقال خزيمة: أنا أشهد، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد» قال: بتصديقك يا رسول الله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم «شهادة خزيمة بشهادة رجلين» . أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم. وفي رواية في الحديث «هل حضرتنا يا خزيمة» ؟ قال: لا. قال: «فكيف تشهد بذلك» ؟ فقال خزيمة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أصدقك على أخبار السماء، وما يكون في غد ولا أصدقك في ابتياعك هذا الفرس! فقال عليه الصلاة والسلام: «إنك لذو الشاهدتين يا خزيمة» . وفي رواية صحيحة عند الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه» . وقال السهيلي: وفي مسند الحارث زيادة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد الفرس على ذلك الأعرابي، وقال: «لا بارك الله لك فيها» . فأصبحت من الغد شائلة برجليها، أي ماتت. ومن أغرب ما اتفق لخزيمة رضي الله تعالى عنه، ما رواه «1» الإمام أحمد من عدة طرق، برجال ثقات أنه رأى في النوم أنه سجد على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر له ذلك، فاضطجع له النبي صلى الله عليه وسلم فسجد خزيمة على جبهته. وفي مسند الإمام أحمد، عن روح بن زنباع أنه روى عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «من نقى لفرسه شعيرا ثم جاء حتى يعلفه كتب الله له بكل شعيرة حسنة» . ورواه ابن ماجه بمعناه. وفي كتب الغريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يحب الرجل القوي المبدي المعيد على الفرس» . أي المبدي المعيد الذي أبدي في غزوه وأعاد، فغزا مرة بعد مرة، أي جرب الأمور طورا بعد طور. والفرس المبدي المعيد الذي غزا عليه صاحبه مرة بعد أخرى، وقيل: هو الذي قد ريض وأدب وصار طوع راكبه. وفي الصحيح «3» أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب فرسا معرورا لأبي طلحة، وقال: «إن وجدناه لبحرا» . وفي الفائق، أن أهل المدينة فزعوا مرة فركب صلى الله عليه وسلم فرسا مقرفا وركض في آثارهم، فلما رجع قال: «إن وجدناه لبحرا» . قال حماد بن سلمة: كان هذا الفرس بطيئا. فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، صار سابقا لا يلحق. وروى النسائي والطبراني من حديث عبد الله بن أبي الجعد أخي سالم بن أبي الجعد، عن جعيل الأشجعي رضي الله تعالى عنه، قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، وأنا على فرس عجفاء، فكنت في آخر الناس، فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «سر يا صاحب الفرس» ، فقلت: يا رسول الله إنها فرس عجفاء ضعيفة، قال: فرفع صلى الله عليه وسلم مخفقة كانت معه فضربها بها، وقال: «اللهم بارك فيها» . فلقد رأيتني ما أملك رأسها حتى صرت قدام القوم، ولقد بعت من بطنها باثني عشر ألفا. وروي عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها. قال ابن محيريز: كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف، وإناث الخيل عند البيات والغارات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وروى البخاري عن سعيد المقبري، أنه قال: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: قال «1» النبي صلى الله عليه وسلم: «من احتبس فرسا في سبيل الله تعالى إيمانا بالله عز وجل واحتسابا وتصديقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة» . يعني حسنات. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «2» : «الخيل لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر» ، فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله تعالى، فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين كانت أبوالها وأرواثها له حسنات، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن تسقى منه كان ذلك له حسنات، فهي لذلك أجر، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله تعالى في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر، ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام فهي على ذلك وزر. وسئل «3» صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: «ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «4» وقد تقدم قريب من ذلك. وروى ابن حبان، في صحيحه عن أبي عامر الهوزني، عن ابن كبشة الأنماري، واسمه عمرو بن سعد، أنه أتاه فقال: أطرقني فرسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أطرق فرسا فعقب له كان له كأجر سبعين فرسا حمل عليها في سبيل الله تعالى، وإن لم يعقب كان كأجر فرس حمل عليها في سبيل الله» . وفي طبع الفرس الزهو والخيلاء والسرور، بنفسه والمحبة لصاحبه، ومن أخلاقه الدالة على شرف نفسه وكرمه أنه لا يأكل بقية علف غيره، ومن علو همته أن أشقر مروان كان سائسه، لا يدخل عليه إلا بإذن وهو أن يحرك له المخلاة، فإن حمحم دخل، وإن دخل ولم يحمحم شد عليه، والأنثى من الخيل ذات شبق شديد، ولذلك تطيع الفحل من غير نوعها وجنسها. قال الجاحظ: والحيض يعرض للإناث منهن لكنه قليل، والذكر ينزو إلى تمام أربعين سنة، وربما عمر إلى تسعين. والفرس يرى المنامات كبني آدم، وفي طبعه أنه لا يشرب الماء إلا كدرا، فإذا رآه صافيا كدره. ويوصف بحدة البصر، وإذا وطىء على أثر الذئب خدرت قوائمه حتى لا يكاد يتحرك، ويخرج الدخان من جلده. قال الجوهري: ويقال إن الفرس لا طحال له، وهو مثل لسرعته وحركته. كما يقال: البعير لا مرارة له أي لا جسارة له. وأفاد الإمام أبو الفرج بن الجوزي أن من واظب على البداءة في لبس النعل باليمين، والخلع باليسار أمن من وجع الطحال. وأفاد غيره أن سورة الممتحنة، إذا كتبت وغسلت أو سقي المطحول ماءها فإنه يبرأ بإذن الله تعالى. ومما جرب أيضا فوجد نافعا أن تكتب هذه الحروف على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 قطعة فروة، وتعلق على الجانب الأيسر وتترك بطول الجمعة وهذه صورة ما يكتب: اد اح ح هم ما مل ملما محد الى راى 18973 صالح صح وصح م له صالح دون مانع من الى ان تنصره ومره ومما جرب للطحال أيضا أن يكتب ويعلق على العضد الأيسر وهو هذا: 259481923 ح ح د د صو ع ومما جرب للطحال أيضا، أن يكتب في ورقة ويحرق في ملعقة على الطحال: وعلم بضميرهم. ومما جرب أيضا أن يكتب في يوم السبت، قبل طلوع الشمس، ويربط بخيط صوف، ويعلق على الجانب الأيمن مثل تعليق السيف وهو هذا كما ترى: ح ح هـ د م ص ها اص اح اا ح ماتت الى الابد وروينا في كتاب المجالسة للدينوري المالكي، وفي آخر الجزء العاشر عن إسماعيل بن يونس، قال: سمعت الرياشي يقول عن أبي عبيدة وأبي زيد، أنهما قالا: الفرس لا طحال له، والبعير لا مرارة له، والظليم لا مخ له. قال أبو زيد: وكذلك طير الماء، وحيتان البحر لا ألسنة لها، ولا أدمغة. والسمك لا رئة له، ولذلك لا يتنفس وكل ذي رئة يتنفس. وروى الجماعة إلا ابن ماجه، من حديث مالك عن الزهري، عن سالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «إن يكن الخير في شيء ففي ثلاث: المرأة والدار والفرس» . وفي رواية «2» «الشؤم في ثلاث: المرأة والدار والفرس» وفي رواية «الشؤم في أربع: المرأة والدار والفرس والخادم» . قلت: وقد اختلفت العلماء في معنى الحديث، فقيل: معناه على اعتقاد الناس في ذلك لا أنه خبر من النبي صلى الله عليه وسلم عن إثبات الشؤم. وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها ففي مسند أبي داود الطيالسي، عنها أنه قيل لها: إن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس» . فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قاتل الله اليهود، يقولون: الشؤم في ثلاث المرأة والدار والفرس» . فسمع آخر الحديث ولم يسمع أوله انتهى. قال البطليوسي: وهذا غير منكر أن يعرض لأنه عليه الصلاة والسلام كان يذكر في مجالسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 الأخيار حكاية ويتكلم بما لا يريد به أمرا ولا نهيا، ولا أن يجعله أصلا في دينه، وذلك معلوم من فعله، مشهور من قوله. وهذا نظير ما اتفق في قوله «1» صلى الله عليه وسلم «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» . وفي الصحيحين لكن قالت عائشة رضي الله تعالى عنها إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية، وهم يبكون عليها فقال عليه الصلاة والسلام «إنهم يبكون وإنها لتعذب ببكاء أهلها عليها» . وقال مالك وطائفة: قوله صلى الله عليه وسلم «الشؤم في ثلاث» الحديث. على ظاهره، فإن الدار قد يجعل الله سكناها سببا للضرر والهلاك، وكذلك المرأة والفرس والخادم، يجعل الله الهلاك أو الضرر عند وجودهم بقضاء الله وقدره. وقال ابن القاسم: سئل مالك عن هذا، فقال: كم من دار سكنها قوم فهلكوا، ثم سكنها آخرون فهلكوا. يعني أنه عام على ظاهره. وقال الخطابي: وكثيرون هو في معنى الاستثناء من الطيرة، أي أن الطيرة منهي عنها، إلا أن يكون له دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس أو خادم يكره إقامتهما، فليفارق الجميع بالبيع ونحوه، وطلاق المرأة. وقال آخرون: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم، وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها. وقيل: حرانها وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوى خلقه وقلة تعهده لما فرض إليه، وقيل: المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة. واعترض بعض الملحدة بحديث «لا طيرة» على هذا، وأجاب ابن قتيبة وغيره بأن هذا مخصوص من حديث لا طيرة، أي لا طيرة إلا في هذه الثلاثة. قال الحافظ الدمياطي: ومن أغرب ما وقع لي في تأويله، ما رويناه بالإسناد الصحيح عن يوسف بن موسى القطان، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري عن سالم، عن أبيه رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «البركة في ثلاث: في الفرس والمرأة والدر» . قال يوسف: سألت سفيان بن عيينة عن معنى هذا الحديث، فقال سفيان: سألت عنه الزهري، فقال الزهري: سألت عنه سالما، فقال سالم: سألت عنه أبي عبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر: سألت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا كان الفرس ضروبا فهو مشؤوم، وإذا كانت المرأة قد عرفت زوجا غير زوجها فحنت إلى الزوج الأول فهي مشؤومة، وإذا كانت الدار بعيدة عن المسجد فلا يسمع فيها الأذان والإقامة فهي مشؤومة، وإذا كن بغير هذه الصفات فهن مباركات» . وفي الموطأ أن رجلا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم سكنوا دارا وعددهم كثير، ومالهم وافر فقل العدد وذهب المال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوها ذميمة» «3» . وأمرهم صلى الله عليه وسلم بالخروج منها، لاعتقادهم ذلك فيها، وظنهم أن الذهاب للعدد والنفاد للمال، إنما كان منها، وليس كما ظنوا ولكن الباري سبحانه وتعالى جعل ذلك وقتا لظهور قضائه وقدره، فيجهل الخلق ذلك، فينسبونه إلى الجماد الذي لا ينفع ولا يضر، وهذا كقوله «4» عليه الصلاة والسلام: «لا عدوى ولا طيرة ولا يورد ممرض على مصح» . لأن الله تعالى يخلق الجرب في الصحيح فيعتقد المصح أن ذلك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 الجرب فيتأذى قلبه ودينه. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، وهذه الدار كانت دار الأسود بن عوف أخي عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه وهو السائل. وفي سنن أبي داود، من حديث فروة بن مسيك رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله، أرض عندنا يقال لها أرض أبين، هي أرض ريفنا وميرتنا، وإنها وبيئة، أو قال: وباؤها شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعها عنك فإن من القرف التلف» . قال ابن الأثير: القرف ملابسة الداء ومداناة المرض، والتلف الهلاك وليس هذا من باب العدوى، وإنما هو من باب الطب، فإن استصلاح الهواء من أعون الأشياء على صحة الأبدان، وفساد الهواء من أسرع الأشياء إلى الأسقام. فائدة : قال السهيلي في الكلام على غزوة ذي قرد: في الفرس عشرون عضوا، كلّ عضو منها يسمى باسم طائر، فمنها النسر والنعامة والهامة والباز والسمامة والسعدانة، وهي الحمامة، والقطاة والذباب والعصفور والغراب والصرد والخرب، وهو ذكر الحبارى، والناهض، وهو فرخ العقاب، والخطاف، ذكرها وبقيتها الأصمعي. وروى فيها شعرا لجرير. تتمة : روى الإمام أحمد بإسناد صحيح، عن أبي الطفيل، أن رجلا ولد له غلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ عليه الصلاة والسلام ببشرة جبهته «1» و «دعا له بالبركة» ، فنبتت شعرة جبهته كهيئة غرة الفرس، وشب الغلام، فلما كان زمن الخوارج أحبهم، فسقطت الشعرة من جبهته، فأخذه أبوه فقيده وحبسه، مخافة أن يلحق بهم. قال: فدخلنا عليه فوعظناه، وقلنا له: ألم تر إلى بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف وقعت من جبهتك؟ فمازلنا به حتى رجع عن رأيهم، فرد الله عز وجل الشعرة بعد في جبهته، وتاب ولم تزل إلى أن مات. وروى الطبراني عن عائذ بن عمرو رضي الله تعالى عنه، قال: أصابتني رمية وأنا أقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر في وجهي فلما سالت الدماء على وجهي ولحيتي وصدري، سلت رسول الله صلى الله عليه وسلم الدماء عني، ثم دعا لي فكان ذلك الموضع الذي أصابته يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدري له غرة سائلة كغرة الفرس. وذكر ابن ظفر، في أعلام النبوة، أن حبرا يهوديا، أوطن مكة فأتى ذات غدوة إلى مجلس فيه ملأ من بني عبد مناف وبني مخزوم، فقال: هل ولد الليلة فيكم مولود؟ فقالوا: ما نعلمه. فقال: أما إذا أخطأكم، فاحفظوا ما أقول لكم: ولد الليلة نبي هذه الأمة الآخرة، وآيته أن بين كتفيه شامة صفراء، حولها شعرات متتابعات، كأنهن عرف فرس، يمتنع من الرضاع ليلتين. فتصدع القوم من مجلسهم يتعجبون لقوله، فلما صاروا إلى منازلهم، أخبرهم نساؤهم أنه ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام، فلما التقوا في ناديهم، تحدثوا بذلك، وجاءهم اليهودي فأخبروه، فقال: اذهبوا بي إليه حتى أراه، فخرجوا به فدخلوا على آمنة، وقالوا: أخرجي إلينا ابنك، فأخرجته لهم، فكشفوا عن ظهره فرأوا خاتم النبوة، فأغمي على اليهودي، فلما أفاق سألوه، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 خرجت النبوة من بني إسرائيل. ثم قال: لا تفرحوا به فو الله ليسطون عليكم سطوة، يخرج خبرها إلى المشرق والمغرب. وذكر الكلبي، في تفسير قوله تعالى: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ «1» الآية، أن النصارى كانوا على دين الإسلام إحدى وثمانين سنة، بعدما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام يصلون إلى القبلة، ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولس، وكان قتل جملة من أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، فقال يوما لليهود: إن كان الحق مع عيسى فكفرنا به فالنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، ولكن سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار، وكان له فرس يقال له العقاب، يقاتل عليه، فعرقب فرسه وأظهر الندامة، ووضع على رأسه التراب، فقالت له النصارى: من أنت؟ فقال: بولس عدوكم، وقد نوديت من السماء أن ليس لك توبة إلا أن تتنصر، وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة، فدخل بيتا فيها، فأقام سنة لا يخرج منه لا ليلا ولا نهارا، حتى تعلم الإنجيل، ثم خرج، فقال: نوديت أن الله تعالى قد قبل توبتك، فصدقوه وأحبوه. ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطور، وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت، وقال لهم: لم يكن عيسى بإنس ولا بجن ولكنه ابن الله، وعلم ذلك رجلا يقال له يعقوب، ثم دعا رجلا يقال له يعقوب، ثم دعا رجلا يقال له ملكان، وقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى، فلما استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا، وقال لكل واحد منهم: أنت خالصتي وقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني. وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي فادع الناس إلى نحلتك، ثم دخل المذبح فذبح نفسه، وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى. فلما كان يوم ثالثة دعا كل واحد منهم الناس إلى نحلته، فتبع كل واحد منهم طائفة من الناس، فافترقت النصاري ثلاث فرق: نسطورية ويعقوبية وملكية، فاختلفوا واقتتلوا، فقال الله تعالى: وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ «2» الآية. قال أهل المعاني: لم يذكر الله تعالى قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك زورا. وذكر الإمام ابن بليان والغزالي وغيرهما، أن الرشيد لما ولي الخلافة زاره العلماء بأسرهم، إلا سفيان الثوري فإنه لم يأته، وكان بينه وبينه صحبة، فشق عليه ذلك، فكتب إليه الرشيد كتابا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون أمير المؤمنين، إلى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري، أما بعد يا أخي، فقد علمت أن الله آخى بين المؤمنين، وقد آخيتك في الله مؤاخاة لم أصرم فيها حبلك، ولم أقطع منها ودك، وإني منطو لك على أفضل المحبة، وأتم الإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله تعالى، لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة، وأنه لم يبق أحد من إخواني وإخوانك، إلا زارني وهنأني بما صرت إليه، وقد فتحت بيوت الأموال، وأعطيتهم المواهب السنية ما فرحت به نفسي، وقرت به عيني، وقد استبطأتك، وقد كتبت كتابا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 مني إليك، أعلمك بالشوق الشديد إليك، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي هذا فالعجل العجل. ثم أعطى الكتاب لعباد الطالقاني، وأمره بايصاله إليه وأن يحصي عليه بسمعه وقلبه، دقيق أمره وجليله، ليخبره به. قال عباد: فانطلقت إلى الكوفة، فوجدت سفيان في مسجده، فلما رآني على بعد، قام وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال: فنزلت عن فرسي بباب المسجد، فقام يصلي ولم يكن وقت صلاة، فدخلت وسلمت فما رفع أحد من جلسائه رأسه إلي، قال: فبقيت واقفا وما منهم أحد يعرض علي الجلوس، وقد علتني من هيبتهم الرعدة، فرميت بالكتاب إليه، فلما رأى الكتاب، ارتعد وتباعد منه، كأنه حية عرضت له في محرابه، فركع وسجد وسلم، وأدخل يده في كمه، وأخذه وقلبه بيده، ورماه إلى من كان خلفه، وقال: ليقرأ بعضكم فإني أستغفر الله أن أمس شيئا مسه ظالم بيده. قال عباد: فمد بعضهم يده إليه، وهو يرتعد كأنه حية تنهشه، ثم قرأه فجعل سفيان يبتسم تبسم المتعجب، فلما فرغ من قراءته، قال: اقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة، فلو كتبت إليه في بياض نقي لكان أحسن، فقال: اكتبوا للظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به، ولا يبقى شيء مسه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا! فقيل له: ما نكتب إليه؟ قال: اكتبوا له: بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد الميت سفيان، إلى العبد المغرور بالآمال هارون، الذي سلب حلاوة الإيمان، ولذة قراءة القرآن، أما بعد، فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودك، وإنك قد جعلتني شاهدا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك، بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته بغير حكمه ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني، حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك، فأما أنا قد شهدت عليك، أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم العدل، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن، وأهل العلم يعني العاملين، أم رضي بفعلك الأيتام والأرامل، أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟ فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جوابا، وللبلاء جلبابا، واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل، فاتق الله في نفسك، إذ سلبت حلاوة العلم والزهد، ولذة قراءة القرآن، ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالما، وللظالمين إماما، يا هارون قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت ستورا دون بابك، وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون، ويشربون الخمر ويحدون الشارب، ويزنون ويحدون الزاني، ويسرقون ويقطعون السارق، ويقتلون ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم، قبل أن يحكموا بها على الناس! فكيف بك يا هارون غدا إذا نادى المنادي من قبل الله: أحشروا الظلمة وأعوانهم!؟ فتقدمت بين يدي الله ويداك مغلولتان إلى عنقك، لا يفكهما إلا عدلك وانصافك، والظالمون حولك وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار، وكأني بك يا هارون وقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 أخذت بضيق الخناق ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيآت غيرك في ميزانك، على سيآتك بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيتك، واحفظ محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته، واعلم أن هذا الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا، تفعل بأهلها واحدا بعد واحد، فمنهم من تزود زادا نفعه، ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإياك ثم إياك، أن تكتب إلي بعد هذا فإني لا أجيبك، والسلام. وألقى الكتاب منشورا من غير طي ولا ختم، فأخذته وأقبلت به إلى سوق الكوفة، وقد وقعت الموعظة بقلبي فناديت يا أهل الكوفة من يشتري رجلا هرب إلى الله؟ فأقبلوا إليّ بالدراهم والدنانير، فقلت: لا حاجة لي بالمال ولكن جبة صوف وعباءة قطوانية، فأتيت بذلك فنزعت ما كان علي من الثياب، التي كنت أجالس بها أمير المؤمنين، وأقبلت أقود الفرس الذي كان معي، إلى أن أتيت باب الرشيد حافيا راجلا، فهزأ بي من كان على الباب، ثم استؤذن لي، فلما رآني على تلك الحالة قام وقعد وجعل يلطم رأسه ووجهه، ويدعو بالويل والحرب، ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل! ما لي وللدنيا والملك يزول عني سريعا! فألقيت الكتاب إليه مثل ما دفع إلي فأقبل يقرؤه ودموعه تتحدر على وجهه، وهو يشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين قد اجترأ عليك سفيان، فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن، فجعلته عبرة لغيره، فقال هارون: اتركوا سفيان وشأنه يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه، والشقي والله حقا من جالستموه، إن سفيان أمة وحده. ولم يزل كتاب سفيان عند الرشيد يقرؤه دبر كل صلاة ويبكي حتى توفي رحمه الله تعالى. وذكر ابن السمعاني وغيره أن المنصور كان يبلغه عن سفيان الإنكار عليه في عدم إقامة الحق، فتطلبه المنصور فهرب إلى مكة، فلما حج المنصور بعث بالخشابين أمامه، وقال: حيثما وجدتم سفيان فاصلبوه، فوصل الخشابون ونصبوا الخشب فأتى الخبر بذلك وسفيان نائم، ورأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجلاه في حجر سفيان بن عيينه، فقالا له خوفا عليه وشفقة: لا تشمت بنا الأعداء، فقام ومشى إلى الكعبة والتزم أستارها عند الملتزم، ثم قال: ورب هذه البنية لا يدخلها يعني المنصور، فزلقت راحلته في الحجون، فوقع من على ظهرها، فمات لوقته. فخرج سفيان وصلى عليه. وقد تقدمت الإشارة إلى ذكر شيء من مناقبه ووفاته في باب الحاء المهملة، في لفظ الحمار. الحكم : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ما لزم اسم الخيل من العراب والمقاريف والبراذين، فأكلها حلال، وهو قول القاضي شريح والحسن وابن الزبير وعطاء وسعيد بن جبير وحماد بن زيد والليث بن سعد وابن سيرين والأسود بن يزيد وسفيان الثوري وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وابن المبارك وأحمد واسحاق وأبي ثور وجماعة من السلف. وقال سعيد بن جبير: ما أكلت أطيب من معرقة برذون، ودليل هذا ما اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأرخص في لحوم الخيل» «1» وذهب أبو حنيفة ومالك والأوزاعي إلى أنها مكروهة، إلا أن كراهتها عند مالك كراهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 تنزيه لا كراهة تحريم. واستدلوا بما في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير» «1» ، لقوله «2» تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وقال صاحب الهداية من الحنفية: فإن قلت الآية خرجت مخرج الامتنان، والأكل من أعلى منافعها، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها. قلت: الجواب أن الآية خرجت مخرج الغالب لأن الغالب في الخيل إنما هو الزينة، والركوب دون الأكل، كما خرج قوله «3» صلى الله عليه وسلم: «وليستنج بثلاثة أحجار» ، مخرج الغالب لأن الغالب أن الاستنجاء لا يقع إلا بالأحجار انتهى. وقال الشافعي ومن وافقه: ليس المراد من الآية بيان التحليل والتحريم، بل المراد منها تعريف الله عباده نعمه وتنبيههم على كمال قدرته وحكمته، وأما الحديث الذي استدل به أبو حنيفة ومالك ومن وافقهما، فقال الإمام أحمد: ليس له إسناد جيد وفيه رجلان لا يعرفان ولا ندع الأحاديث الصحيحة لهذا الحديث. وقد روى «4» الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل» . وفي لفظ «أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية» . رواه الترمذي وصححه. وفي لفظ «سافرنا، يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكنا نأكل لحوم الخيل، ونشرب ألبانها» . وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أنها قالت «5» : نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناها. وفي رواية: ونحن بالمدينة. وفي مسند الإمام أحمد: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناها نحن وأهل بيته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إن الفرس إذا التقت الفئتان تقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ولذلك كان له من الغنيمة سهمان. وكذلك رواه عبد الله بن عمر بن حفص بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا يعطى إلا لفرس واحد عربيا كان أو غير عربي، لأن الله سبحانه وتعالى قال «6» : وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ولم يفرق بين عربي وغيره، ولم يرد في شيء من الأحاديث تفرقة، بل الجمع مثل قوله «7» صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» الأجر والغنيمة. وقال الإمام أحمد: لما سوى العربي سهم وللعربي سهمان لأثر ورد في ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه لكنه لم يصح عنه. ولا يعطى لفرس أعجف وما لا غناء به، لأنه كل على صاحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 ويتعهد الإمام الخيل إذا دخل دار الحرب، ولا يدخل إلا فرسا شديدا، ويسهم للفرس المستعار والمستأجر، ويكون ذلك للمستعير والمستأجر. والأصح أنه يسهم للفرس المغصوب لحصول النفع به، والأصح أنه للراكب، وقيل للمالك ولو كان القتال في ماء أو حصن وأحضر فرس أسهم له، لأنه قد يحتاج إليه ولو أحضر اثنان فرسا مشتركا بينهما فقيل: لا يعطيان سهم الفرس، لأنه لم يحضروا واحد منهما بفرس تام. وقيل يعطى كل واحد منهما سهم فرس لأن معه فرسا قد يركبها، وقيل يعطيان سهم فرس مناصفة ولعل هذا هو الأصح. ولو ركب اثنان فرسا، وشهدا الوقعة، فعن بعض الأصحاب أنهما كفارسين لهما ستة أسهم، وعن بعضهم أنهما كراجلين لتعذر الكر والفر، وقيل لهما أربعة أسهم: سهمان لهما، وسهمان للفرس. واختار ابن كج وجها رابعا حسنا، وهو أنه إن كان فيه قوة الكر والفر مع ركوبهما فأربعة أسهم، وإلا فسهمان. فائدة أجنبية : قال في شرعة الإسلام: إن مقدم العسكر ينبغي له أن يتشبه بأصناف من الخلق فيكون في قلب الأسد، لا يجبن ولا يفر وفي كبر النمر لا يتواضع للعدو، وفي شجاعة الدب يقاتل بجميع جوارحه، وفي الحملة كالخنزير لا يولى دبره إذا حمل، وفي الغارة كالذئب إذا أيس من وجه أغار من وجه، وفي حمل السلاح الثقيل كالنملة تحمل أضعاف وزن بدنها، وفي الثبات كالحجر لا يزول عن مكانه، وفي الصبر كالحمار، إذ أثقله ضرب السيوف، وطعن الرماح، ونصول السهام، وفي الوفاء كالكلب إذا دخل سيده النار تبعه، وفي التماس الفرصة كالديك، وفي الحراسة كالكركي، وفي التعب كاليعر، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والكد والشقاء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الياء. فرع : حمار نزا على فرس فأحبلها يكون لبن الفرس حلالا طاهرا ولا حكم للفحل في اللبن في هذا الموضع بخلاف الأناسي لأن لبن الفرس حادث من العلف، فهو تابع للحمها ولم يسر وطء الفحل إلى هذا اللبن، فإنه لا حرمة هناك تنتشر من جهة الفحل، إلا إلى الولد خاصة، فإنه يكون منه ومن الأم فغلب عليه التحريم. وأما اللبن فلم يتكون بوطئه وإنما تكون من العلف لم يكن حراما. فائدة : كان للنبي صلى الله عليه وسلم أفراس: السكب: اشتراه من أعرابي من بني فزارة بعشرة أواق بالمدينة، وكان أدهم وكان اسمه عند الأعرابي الضرس فسماه النبي صلى الله عليه وسلم السكب، وهو من سكب الماء، كأنه سيل، والسكب أيضا شقائق النعمان، وهو أول فرس غزا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسبحة هو الذي سابق عليه صلى الله عليه وسلم فسبق ففرح بذلك. والمرتجز الذي تقدم ذكره، سمي بذلك لحسن صهيله. ولزاز، قال السهيلي: ومعناه أنه لا يسابق شيئا إلا لزه أي أثبته. والظرب، واللحيف، قال السهيلي: كأنه يلحف الأرض بجريه، ويقال فيه اللخيف بالخاء المعجمة ذكره البخاري في جامعه من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والورد أهداه له تميم الداري فأعطاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فحمل عليه في سبيل الله تعالى وهو الذي وجده يباع برخص هذه السبعة متفق عليها. وقيل: كان له صلى الله عليه وسلم غيرها، وهي الأبلق وذو العقال والمرتجل وذو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 اللمة والسرحان واليعسوب والبحر وكان كميتا، والأدهم وملاوح والطرف بكسر الطاء المهملة والسحا والمراوح والمقدام ومندوب والضرير ذكره السهيلي في أفراسه صلى الله عليه وسلم. فهذه خمسة عشر فرسا مختلف فيها، وقد بسط الكلام عليها الحافظ الدمياطي وغيره. الأمثال : قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كفرسي رهان، كادت تسبق إحدهما الأخرى بأذنها» «1» . وقالوا: هما كفرسي رهان يضرب للإثنين يستويان في الشيء، وهذا التشبيه يقع في الابتداء لا في الانتهاء، لأن النهاية تجلى عن سبق أحدهما لا محالة. وقالوا: «أبصر من فرس» «2» وأطوع «3» وأشد «4» . وقالوا: «فلان كالأشقر إن تقدم نخر وإن تأخر عقر» «5» . لأن العرب تتشاءم من الأفراس بالأشقر. تتمة : ذكر في الإحياء، في الباب الثالث من كتاب أحكام الكسب، روي عن بعض الغزاة في سبيل الله، قال: حملت على فرسي لأقتل علجا فقصر بي فرسي فرجعت، ثم دنا مني العلج فحملت ثانية فقصر بي فرسي، ثم حملت الثالثة فقصر بي فرسي، وكنت لا أعتاد منه ذلك فرجعت حزينا، وجلست منكس الرأس منكسر القلب، لما فاتني من العلج، وما ظهر لي من خلق الفرس، فوضعت رأسي على عمود الفسطاط، وفرسي قائم فرأيت في المنام كأن الفرس يخاطبني، ويقول لي: بالله عليك أردت أن تأخذ العلج على ثلاث مرات، وأنت بالأمس اشتريت لي علفا، ودفعت في ثمنه درهما زائفا لا يكون هذا أبدا. فانتبهت فزعا وذهبت إلى العلاف وأبدلت له ذلك الدرهم اهـ. تتمة أخرى : روى ابن بشكوال، في كتاب المستغيثين بالله عز وجل، عن عبد الله بن المبارك المجمع على دينه وعلمه وورعه، أنه قال: خرجت إلى الجهاد ومعي فرس فبينا أنا في بعض الطريق إذ صرع الفرس، فمر بي رجل حسن الوجه طيب الرائحة، فقال: أتحب أن تركب فرسك؟ قلت: نعم. فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره، وقال: أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله وبعظمة عظمة الله وبجلال جلال الله وبقدرة قدرة الله وبسلطان سلطان الله وبلا إله إلا الله وبما جرى به القلم من عند الله وبلا حول ولا قوة إلا بالله إلا انصرفت. قال: فانتفض الفرس وقام، فأخذ الرجل بركابي وقال: اركب فركبت ولحقت بأصحابي، فلما كان من غداة غد وظهرنا على العدو فإذا هو بين أيدينا، فقلت: ألست صاحبي بالأمس؟ قال: بلى. فقلت: سألتك بالله من أنت؟ فوثب قائما فاهتزت الأرض تحته خضراء، فإذا هو الخضر عليه السلام. قال ابن المبارك رضي الله تعالى عنه: فما قلت هذه الكلمات على عليل إلا شفي بإذن الله تعالى. الخواص : إذا علقت سن الفرس العربي على صبي سهل طلوع أسنانه بلا ألم، وإن وضعت سنه تحت رأس من يغط في النوم انقطع غطيطه، ولحمه يطرد الرياح، وعرقه يطلى به عانة الصبي وإبطه فلا ينبت فيهما شعر، وهو سم قاتل للسباع والثعابين جميعا، وإذا أخذت شعرة من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 ذنب الفرس، وجعلت على باب بيت ممدودة، لم يدخل ذلك البيت بق مادامت الشعرة كذلك، وإن شربت امرأة دم برذون لم تحبل أبدا. ورماد حافر الفرس إذا خلط بزيت، وجعل على الخنازير أبرأها، وإذا سقيت امرأة لبن فرس، وهي لا تعلم أنه لبن فرس، وجامعها زوجها من ساعتها، حملت منه بإذن الله تعالى، وإن شربته بالعسل صارت مجامعتها لذيذة، وإذا سحق بصل الفأر ومسح به أسنان الفرس الحرون لان وذهبت صعوبته، وزبل الفرس إذا جفف وسحق وذر على الجراحات قطع دمها، وإن كحل به البياض العارض في العين أزاله وإن دخن به أخرج الولد من البطن. فصل في صبغ البراذين: قال صاحب عين الخواص: إذا سخن الماء تسخينا شديدا بحيث يذهب الشعر، وصب على البرذون فإنه يحلق شعره ذلك، وينبت له شعر مخالف لما ذهب عنه من اللون. قال: ومما يصير الأشهب أدهم أن يؤخذ مردارسنج وعفص وزنجار ونورة وزاج الأساكفة وطين خوري بالسوية، يدق الجميع ويعجن بماء حار ويصبغ به الفرس البرذون ويترك يوما وليلة، ثم يغسل من الغد، فيصير أدهم. وإن طلي بعض جسده بذلك وترك بعضه كان أبلق، ومما يصير به الأدهم أبرش الحرض إذا طبخ مع ورق الدفلى، وصفي ماؤه ثم طبخ أيضا مع القلى ومخ جوز سائل ثم يغسل به البراذين فتصير شهباء. ومما يصير الأشهب أدهم أيضا، أن يؤخذ قشور الجوز الرطب وتطبخ مع الآس، ووسخ الحديد ثم يغسل به البرذون غسلا نقيا ويطلى بذلك فيصير أدهم، ويبقى سواده ستة أشهر والله أعلم. التعبير : الفرس في الرؤيا تعبر بالحامل بولد ذكر فارس، وتعبر برجل وتجارة وشريك وامرأة، فمن رأى فرسا مات في يده فذلك موت من ينسب إليه الفرس من الولد أو المرأة أو الشريك، والفرس الأبلق في الرؤيا أمير مشهور، وقد تقدم ذكره في باب الخاء المعجمة، في لفظ الخيل، والفرس الأسود والأدهم يدلان على المال، والأصفر والمريض يدلان على المرض لمن ركب أحدهما أو كليهما، والأشقر يدل على دين وحزن، وقيل فتنة. وقال ابن سيرين رحمه الله: لا أحب الأشقر لشبهه بالدم، والأشهب يعبر برجل صاحب قلم، كذا عبره ابن سيرين وقال: ألا تراه سوادا في بياض؟ والكميت يدل على القوة واللهو وربما دل على الحرب والضرب، ومن ركب فرسا وأجراه حتى عرق فإنه يركب أمرا فيه هوى نفس، وتلف مال لمكان العرق، والعرق أيضا تعب، وأما الركض فإنه ارتكاب هوى لقوله «1» تعالى: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومن نزل عن فرسه، ولم يكن له نية في الرجوع، فإنه يعزل إن كان واليا. والفرس الجموح رجل مجنون، والحرون متهاون بطيء بطر. ومن رأى شعر ذنب فرسه كثيرا زاد ماله وأولاده، وإن كان سلطانا كثر جيشه، ومن قطع ذنب فرسه فإنه لا يخلف ولدا، وإن كان له أولاد فإنهم يموتون وإن كان سلطانا ذهب جيشه، وكذلك إذا كان منتوفا تفرق الجيش الذي يتبع صاحب الفرس، ومن ركب فرسا وكان ممن يليق به ركوب الخيل، نال عزا وجاها ومالا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 لقوله عليه الصلاة والسلام: «الخيل معقود في نواصيها الخير» «1» . وربما صادف رجلا جوادا، وربما سافر لأن السفر مشتق من الفرس، فإذا كان حصانا تحصن من عدوه، وإن كان مهرا رزق ولدا جميلا، وإن كان اكديشا ربما عاش زمانا، وإن كان برذونا توسط حاله وعاش لا يستغني ولا يفتقر، وإن كان الفرس حجرا تزوج إن كان أعزب امرأة ذات جمال ومال ونسل، والأصيل شريف بالنسبة إلى غير الأصيل، وربما دلت الفرس على الدار الحسنة البناء. وقال ابن المقري: من رأى أنه ركب فرسا أشهب، نال عزا ونصرا على العدا، لأنه من خيل الملائكة. والأدهم هم، والأغر المحجل علم وورع ودين، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ستردون على يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء» «2» . ومن ركب كميتا ربما شرب خمرا لأنه من أسمائها ومن ركب فرسا لغيره، نال منزلته أو عمل بسنته خصوصا إن كان مركوبا معروفا يليق به انتهى. ومن رأى أنه يقود فرسا، فإنه يطلب خدمة رجل شريف، ولا خير في ركوب الفرس في غير محل الركوب كالسطح والحائط والحبس، وربما دل الفرس الخصي على خادم واعتبر بكل مركوب ما يليق فالسرج للفرس، والكور للجمل وكذلك المحمل والهودج والمحفة للبغال والبرادع للحمير، فمن ركب حيوانا بما لا يليق به من العدة، تكلف أو كلف غيره ما لا يطيق، والدابة بلا لجام ولا مقود امرأة زانية، لأنها كيفما أرادت مشت. وكذلك الفرس العائز، ومن رأى أنه يأكل لحم فرس نال ثناء حسنا واسما صالحا، وقيل إنه مرض لصفرته، ومن نازعه فرسه خرج عليه عبده وإن كان تاجرا خرج عليه شريكه، ومن الرؤيا المعبرة أن رجلا أتى ابن سيرين رحمة الله تعالى عليه، فقال: رأيت كأني راكب على فرس قوائمه من حديد، فقال له ابن سيرين رحمه الله: توقع الموت والله تعالى أعلم. فرس البحر: حيوان يوجد في نيل مصر، له ناصية كناصية الفرس، ورجلاه مشقوقتان كالبقر، وهو أفطس الوجه، له ذنب قصير، يشبه ذنب الخنزير، وصورته تشبه صورة الفرس، إلا أن وجهه أوسع وجلده غليظ جدا وهو يصعد إلى البر، فيرعى الزرع وربما قتل الإنسان وغيره. وحكمه : حل الأكل لأنه كالخيل المتوحشة التي تعدو في غالب أحيانها. الخواص : إذا أحرق جلده وخلط بدقيق كرسنة، وإلي به داء السرطان أبرأه في ثلاثة أيام. ومرارته إذا تركت في الماء ثلاثين يوما ثم سحق واكتحل بها أربعة عشر يوما، أو أربعة وعشرين يوما بعسل لم تصبه النار، أذهبت الماء الأسود من العين. وسنة نافعة لوجع البطن، إذا علقت على من أشرف على الموت، من وجع المعدة من التخمة والامتلاء، يبرأ بإذن الله تعالى. وجلده إذا دفن في وسط قرية لم يقع فيها شيء من الآفات، وإذا أحرق وجعل على الورم أذهبه وسكن وجعه. التعبير : الفرس البحري في الرؤيا يدل على كذب وأمر لا يتم. فصل : والبحر في الرؤيا يعبر بملك وحبس لمن وقع فيه، ولم يمكنه الخروج منه وبرجل عالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وكريم، فيقال بحر علم وبحر كرم، ويعبر بالدنيا، فمن رأى كأنه قاعد على متن البحر أو مضطجع عليه فإنه يداخل ملكا ويكون منه على خطر، لأن الماء لا يؤمن من الغرق فيه، ومن رأى أنه شرب من ماء البحر، نال مالا من الملك فإن شربه كله نال مال الملك كله ومن رأى البحر من بعيد ولم يخالطه فإن ذلك أمر يفوته، ومن رأى أنه يشرب من مائه وله شريك فانه يفارقه لقوله تعالى وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ «1» ومن رأى كأنه يمشي في البحر، وفي طريق يابس، فإنه يأمن من الخوف لقوله تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى «2» . ومن رأى أنه غاص في البحر، ليخرج شيئا من الدر، فإنه يدخل في غامض العلم، ومن قطع البحر سبحا إلى الجانب الآخر، فإنه ينجو من هول وغم، ومن سبح في البحر في زمن الشتاء، ناله هم من قبل ملك أو أصابه مرض أو يحبس أو يناله وجع من الرياح، وإذا دخل البحر إلى درب الناس، وبل القماش أو أكل وحشه طعام الناس، فإن الملك يظلم أهل تلك الناحية. وربما دل على طول الشقاء في تلك السنة، لا سيما إذا كان مضطربا كثير الموج فإنه يدل على مضار كثيرة. والبحيرة في الرؤيا تدل على القضاة والولاة والموالي الذين يفعلون الأشياء بالأمر، والبحيرة الصغيرة تدل على امرأة غنية، والبحر إذا كان هادئا دل على البطالة، والبحيرة للمسافر تدل على تعذر السفر. تتمة : وأما النهر في الرؤيا فإنه يدل على رجل جليل، فمن دخل في نهر فإنه يخالط رجلا من الأكابر، ولا يحمد الشرب من النهر، وقيل: إنه يدل على سفر لمن دخله لأن ماءه منتقل مسافر، ومن رأى أنه وثب من النهر إلى الجانب الآخر، فإنه ينجو من هم وينصر على عدوه، والدخول في النهر دخول في عمل السلطان، وإذا جرى الماء في الأسواق، والناس يتوضؤون منه وينتفعون به، فذلك عدل من سلطان، فإن جرى فوق الأسطحة وبل قماش الناس في دورهم، فذلك جور من السلطان أو عدو يطغى على الناس، ومن رأى نهرا خرج من داره ولم يضر أحدا، فإنه معروف منه يصل إلى الناس، ومن رأى أنه صار نهرا فإنه يموت بنزف الدم. فصل : وأما رؤية عين الماء، فإنها كرامة ونعمة وبلوغ أمنية إذا كان الرائي مستورا، ومن رأى كأن عينا نبعت من داره، دل على مشتري جارية، فإن خرجت من الدار إلى ظاهرها فإنه مال قد ذهب، والماء الراكد في الدار هم باق فإن كان صافيا فهم مع صحة جسم، ولا يكره من العيون إلا ما ركد ماؤه ولم يجر، ومن شرب من ماء عين أصابه هم، فإن كان باردا فلا بأس به والله تعالى أعلم. الفرش: صغار الإبل، وقيل: هو من الإبل والبقر والغنم ما لا يصلح إلا للذبح ومنه قوله تعالى: حَمُولَةً وَفَرْشاً «3» قدم الحمولة على الفرش، لأنها أعظم في الانتفاع إذ ينتفع بها في الأكل والحمل. قال الفراء: ولم أسمع للفرش بجمع. قال: ويحتمل أن يكون مصدرا سمي به من قولهم فرشها الله تعالى فرشا أي بثها بثا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 الفرانق: بضم الفاء الببر البريد وهو الذي ينذر بالأسد، وقد تقدم في باب الباء الموحدة. الفرفر: كهدهد طير من طيور الماء صغير الجثة على قدر الحمام. الفرفور: كعصفور طائر، قاله الجوهري ولعله الذي قبله. الفرع : بفتح الفاء والراء المهملة وبالعين المهملة في آخره أول نتاج البهيمة. ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فرع ولا عتيرة» «1» . وذلك أنهم كانوا يذبحونه ولا يأكلونه رجاء البركة في الأم وكثرة نسلها. والعتيرة بفتح العين المهملة ذبيحة كانوا يذبحونها في اليوم الأول من شهر رجب ويسمونها الرجبية. الحكم : في كراهتهما وجهان الصحيح الذي نص عليه الشافعي واقتضته الأحاديث، أنهما لا يكرهان بل يستحبان. وروى أبو داود بإسناد حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن معاقرة الأعراب» «2» . وهي مفاخرتهم فإنهم كانوا يتفاخرون بأن يعقر كل واحد منهم عددا من إبله فأيهم كان عقره أكثر كان غالبا، فكره النبي صلى الله عليه وسلم لحمها لئلا يكون مما أهل به لغير الله تعالى. وروى «3» أبو داود أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن طعام المتبارين» . فائدة : حكى الإمام العلامة أبو الفرج الأصبهاني وغيره، أن الفرزدق الشاعر المشهور، واسمه همام بن غالب كما تقدم، كان أبوه غالب رئيس قومه، وأن أهل الكوفة أصابتهم مجاعة فعقر غالب أبو الفرزدق المذكور لأهله ناقة وصنع منها طعاما، وأهدى إلى قوم من بني تميم جفانا من ثريد، ووجه جفنة منها إلى سحيم بن وثيل الرياحي رئيس قومه وهو القائل «4» : أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني وقد تمثل بذلك الحجاج في خطبته يوم قدم الكوفة أميرا، فكفأها سحيم وضرب الذي أتى بها وقال: أنا مفتقر إلى طعام غالب إذ نحر هو ناقة نحرت أنا أخرى، فوقعت المعاقرة بينهما فعقر سحيم لأهله ناقة، فلما كان من الغد عقر لهم غالب ناقتين، فعقر سحيم لأهله ناقتين، فلما كان اليوم الثالث عقر غالب لأهله ثلاثا، فعقر سحيم لأهله ثلاثا، فلما كان اليوم الرابع عقر غالب مائة ناقة فلم يكن عند سحيم هذا القدر فلم يعقر شيئا، وأسرها في نفسه. فلما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة، قال بنو رياح لسحيم: جررت علينا عار الدهر: هلا نحرت مثل ما نحر غالب، وكنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين، فاعتذر بأن إبله كانت غائبة. ثم عقر ثلاثمائة ناقة! وقال للناس: شأنكم والأكل وكان ذلك في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي عنه، فاستفتي في حل الأكل منها فقضى بحرمتها. وقال: هذه ذبحت لغير مأكلة ولم يكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 المقصود منها إلا المفاخرة والمباهاة فألقيت لحومها على كناسة الكوفة. فأكلها الكلاب والعقبان والرخم. الفرعل: كقنفذ ولد الضبع والجمع الفراعل. روى البيهقي عند عبد الله بن زيد قال: سألت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه، عن ولد الضبع، فقال: ذاك الفرعل فيه نعجة من الغنم قال أبو عبيد: الفرعل عند العرب ولد الضبع والذي يراد من هذا الحديث قوله نعجة من الغنم يعني أنها حلال بمنزلة الغنم. قال الكميت «1» : وتسمع أصوات الفراعل حوله ... يعاوين أولاد الذئاب الهقالسا يعني حول الماء الذي وردوه. الأمثال : قالوا: «أغزل من فرعل» «2» وهو من الغزل والمراودة. وقال الميداني: هو من الغزل بمعنى الخرق، يقال: غزل الكلب إذا تبع الغزال، فإذا أدركه ثغا الغزال في وجهه ففتر ودهش. ولعل الفرعل يفعل ذلك إذا تبع صيده. فقالوا: «أغزل من فرعل» انتهى. وقال ابن هشام: إن عكرمة بن أبي جهل، ألقى رمحه يوم الخندق وانهزم، فقال فيه حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: وفرّ وألقى لنا رمحه ... لعلك عكرم لم تفعل ووليت تعدو كعدو الظلي ... م ما أن يجوز عن المعدل ولم تبق ظهرك مستأنسا ... كان قفاك قفا فرعل الفرقذ: ولد البقرة وأبو فرقد كنية الثور الوحشي. الفرنب: بكسر الفاء قال ابن سيده: هو الفأر وقيل ولد الفأر من اليربوع. الفرهود: كجلمود. ولد السبع وقيل: ولد الوعل ويقال أيضا للغلام الغليظ وصرفوه. فقالوا تفرهد إذا سمن. الفروج: الفتي من الدجاج والضم فيها لغة حكاها اللحياني والجمع الفراريج. أنشد الجوهري عن الأصمعي: أقبلن من بئر ومن سواج ... والقوم قد ملّوا من الإدلاج «3» يمشون أفواجا على أفواج ... مشي الفراريج مع الدّجاج وحكمه وخواصه : كالدجاج. وأما تعبيره : فالفراريج في الرؤيا هي أولاد السبي، لأن الدجاج جوار ومن سمع أصوات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 الفراريج، فإنه يسمع كلام قوم فسقة، ومن أكل لحم الفراريج، أكل مالا من رجل كريم. والفراريج تدل على أمر يتألف عاجلا بلا تعب، لأن الفراريج لا تحتاج إلى كلفة التربية، والله تعالى أعلم. الفرير والفرار: ولد النعجة والماعزة والبقرة، ويقال: هو من أولاد المعز ما صغر جسمه. وقيل: الفرير واحد والفرار جمع قاله ابن سيده. فسافس: كخنافس حيوان كالقراد شديد النتن، قاله ابن سينا. وقال القزويني: يشبه أن يكون البق، إذا سحقت وجعلت في ثقبة الإحليل نفعت من عسر البول. وقد تقدم في باب الباء الإشارة إلى هذا. الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن رضاع أمه، وهو فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول، والجمع فصلان بضم الفاء وفصال بكسرها. روى الإمام أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى، فقال صلى الله عليه وسلم: «صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال» «1» . وهو أن تحمى الرمضاء، وهو الرمل، فتبرك الفصال من شدة حرها واحراقها أخفافها. وروى الإمام أحمد أيضا وأبو داود من حديث دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أربعون وأربعمائة راكب نسأله الطعام فقال عليه الصلاة والسلام: «يا عمر اذهب فأطعمهم» «2» . فقام عمر وقمنا معه فصعد بنا إلى غرفة فأخرج المفتاح ففتح الباب، فإذا في الغرفة من التمر شبه الفصيل الرابض، فقال: شأنكم فأخذ كل منا ما شاء من ذلك التمر، ثم التفت وإني لمن آخرهم فكأنما لم نرزأ منه تمره. وقال ابن عطية، في تفسير سورة الفلق: حدثني ثقة أنه رأى عند بعضهم خيطا أحمر، وقد عقدت فيه عقد على فصلان فمنعت بذلك رضاع أمهاتها، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع. فرع : دخل فصيل رجل في بيت رجل، ولم يمكن إخراجه إلا بنقض البناء، فإن كان بتفريط صاحب البيت، بأن غصبه وأدخله نقض، ولم يغرم صاحب الفصيل شيئا، وإن كان بتفريط صاحب الفصيل، نقض البناء ولزمه أرش النقض، وإن دخل بنفسه نقض أيضا، ولزم صاحب الفصيل أرش النقض على المذهب، وبه قطع العراقيون، وقيل: وجهان ثانيهما لا أرش عليه. الأمثال : قالوا: «أتخم من فصيل» «3» لأنه يرضع أكثر مما يطيق، ثم يتخم، وقالوا: «كفضل ابن المخاض على الفصيل» «4» . أي الذي بينهما من الفضل قليل يضرب للمتقاربين في رجوليتهما. وقالوا: «استنت الفصال حتى القرعى» «5» . يضرب للذي يتكلم، مع الذي لا ينبغي له أن يتكلم بين يديه، لجلالة قدره، والقرعى: جمع قريع كمريض ومرضى، وهو الذي به قرع بالتحريك، وهو بثر أبيض يطلع في الفصال، ودواؤه الملح وحباب ألبان الإبل والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 التعبير : الفصيل في المنام ولد شريف، وكل صغير من الحيوان إذا مسّه الإنسان فهو هم والله تعالى أعلم. الفلحس: كجعفر: الدب والكلب المسن، وفلحس رجل من رؤساء بني شيبان، كان إذا أعطي سهمه من الغنيمة، سأل سهما لامرأته، وسهما لناقته، فقيل: «أسأل من فلحس» «1» . الفلو: والفلو بضم الفاء وفتحها وكسرها المهر الصغير، والجمع افلاء. قال سيبويه: لم يكسروه على فعل كراهة الإخلال، ولا كسروه على فعلان كراهة الكسرة قبل الواو، وإن كان بينهما حاجز، لأن الساكن ليس بحاجز حصين. قاله ابن سيده، وقال الجوهري: الفلو بتشديد الواو المهر لأنه يفتلي عن أمه أي يفطم. وقد قالوا للأنثى: فلوة، كما قالوا عدو وعدوة والجمع أفلاء مثل عدو وأعداء وفلاوى، مثل خطايا. وأصله فعائل. وقال أبو زيد: إذا فتحت الفاء شددت الواو، وإذا كسرت خففت. فقلت: فلو مثال جرو، وفلوته عن أمه وافتليته إذا فطمته، وفرس مفل ومفلية ذات فلو اهـ. وفي الصحيحين «2» وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما تصدق أحد بصدقة من كسب طيب، إلا أخذه الرحمن بيمينه، وإن كان تمرة فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه، حتى تكون مثل الجبل أو أعظم» . وفي رواية «فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل» . قال الماوردي وغيره: هذا الحديث وشبهه إنما عبر به النبي صلى الله عليه وسلم على ما اعتاده في خطابهم ليفهموا، فكنى هنا عن قبول الصدقة بأخذها بالكف، وعن تضعيف أجرها بالتربية. قال القاضي عياض: لما كان الشيء الذي يرتضى ويعز يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا، واستعير للقبول والرضا إذ الشمال بضد ذلك في هذا. قال: وقيل: المراد بكف الرحمن هنا وبيمينه كف الذي يدفع إليه الصدقة ويمينه، واضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص، لتوضع هذه الصدقة فيها لله عز وجل. قال: وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل، أن المراد بذلك تعظيم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها، ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان. وهذا الحديث نحو قوله «3» تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وفي سنن أبي داود، من حديث «4» الزبير بن العوام أنه حمل على فرس يقال له غمر أو غمرة، فرأى مهرا أو مهرة من أفلائها تباع تنسب إلى فرسه فنهي عنها، أي نهي عن ابتياعها، وعن ادخالها في ملكه، بعد أن تصدق بها والله تعالى أعلم. الفناة: البقرة والجمع فنوات. الفنك: كالعسل دويبة يؤخذ منها الفرو، قال ابن البيطار: إنه أطيب من جميع الفراء يجلب كثيرا من بلاد الصقالبة، ويشبه أن يكون في لحمه حلاوة، وهو أبرد من السمور، وأعدل وأحر من السنجاب يصلح لأصحاب الأمزجة المعتدلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وحكمه : الحل، لأنه من الطيبات، ونقل الإمام أبو عمر بن عبد البر في التمهيد، عن أبي يوسف أنه قال في الفنك والسنجاب والسمور: كل ذلك سبع مثل الثعلب وابن عرس. الفنيق: الفحل الكريم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته عليهم، وجمعه فنق وأفناق، ومنه حديث الحجاج لما حاصر ابن الزبير بمكة، ونصب المنجنيق عليها، وقال: خطاؤه كالجمل الفنيق. الفهد: واحد الفهود، وفهد الرجل أشبه الفهد في كثرة نومه وتمرده، وفي حديث أم زرع: «إن دخل فهد» . وزعم أرسطو أنه يتولد بين نمر وأسد، ومزاجه كمزاج النمر، وفي طبعه مشابهة لطبع الكلب في أدوائه ودوائه. ويقال: إن الفهدة إذا أثقلت بالحمل حن عليها كل ذكر يراها من الفهود، ويواسيها من صيده، فإذا أرادت الولادة هربت إلى موضع قد أعدته لذلك. ويضرب بالفهد المثل في كثرة النوم، وهو ثقيل الجثة يحطم ظهر الحيوان في ركوبه. ومن خلقه الغضب، وذلك أنه إذا وثب على فريسة لا يتنفس حتى ينالها، فيحمى لذلك وتمتلىء رئته من الهواء الذي حبسه فإذا أخطأ صيده رجع مغضبا وربما قتل سائسه. قال ابن الجوزي: إن الفهد يصاد بالصوت الحسن قال: ومتى وثب على الصيد ثلاث مرات، ولم يدركه غضب. ومن خلقه أنه يأنس لمن يحسن إليه. وكبار الفهود أقبل للتأديب من صغارها، وأول من اصطاد به كليب بن وائل، وأول من حمله على الخيل يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأكثر من اشتهر باللعب بها أبو مسلم الخراساني. فائدة : سئل الكيا الهراسي الفقيه الشافعي عن يزيد بن معاوية هل هو من الصحابة أم لا وهل يجوز لعنه أم لا؟ فأجاب أنه لم يكن من الصحابة لأنه ولد في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه، وأما قول السلف ففيه لكل واحد من أبي حنيفة ومالك وأحمد قولان: تصريح وتلويح. ولنا قول واحد: التصريح دون التلويح، وكيف لا يكون كذلك وهو المتصيد بالفهد واللاعب بالنرد ومدمن الخمر؟ ومن شعره في الخمر قوله «1» : أقول لصحب ضمت الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنم خذوا بنصيب من نعيم ولذة ... فكلّ وإن طال المدى يتصرم وكتب فصلا طويلا أضربنا عن ذكره ثم قلب الورقة وكتب: ولو مددت ببياض لأطلقت العنان وبسطت الكلام في مخازي هذا الرجل. وقد أفتى الغزالي في هذه المسألة بخلاف ذلك، فإنه سئل عمن يصرح بلعن يزيد بن معاوية هل يحكم بفسقه أم يكون ذلك مرخصا فيه؟ وهل كان يريد قتل الحسين، أم كان قصده الدفع؟ وهل يسوغ الترحم عليه أم السكوت عنه أفضل؟ فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلا ومن لعن المسلم فهو المعلون، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «المسلم ليس بلعان» «2» . وكيف يجوز لعن المسلم وقد ورد النهي عن ذلك؟ وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، بنص من النبي صلى الله عليه وسلم، ويزيد صح إسلامه وما صح قتله للحسين رضي الله تعالى عنه ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 أمره ولا رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك عنه لم يجز أن يظن ذلك به فإن إساءة الظن أيضا بالمسلم حرام. قال «1» الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وقال «2» صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم من المسلم دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء» . ومن أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله لم يقدر على ذلك، وإذا لم يعلم وجب إحسان الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظن به. ومع هذا لو ثبت على مسلم أنه قتل مسلما، فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر، والقتل ليس بكفر بل هو معصية، وإذا مات القاتل، فربما مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره لم يجز لعنه، فكيف من تاب من قتل؟ ولم يعرف أن قاتل الحسين مات قبل التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فإذا لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقا عاصيا لله عز وجل، ولو جاز لعنه فسكت لم يكن عاصيا بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول عمره لا يقال له في القيامة: لم لم تلعن إبليس؟ ويقال للاعن: لم لعنت ومن أين عرفت أنه ملعون؟ والملعون هو المبعد من الله عز وجل، وذلك لا يعرف إلا فيمن مات كافرا فإن ذلك علم بالشرع، وأما الترحم عليه فجائز بل مستحب، بل داخل في قولنا: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات فإنه كان مؤمنا. اهـ. والكيا الهراسي هو أبو الحسن عماد الدين علي بن محمد الطبري، كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين وثاني الغزالي، وتوفي في المحرم سنة أربع وخمسمائة ببغداد، وحضر دفنه الشريف أبو طالب الزينبي وقاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني مقدما الطائفة الحنفية، وكان بينهما وبينه في حال الحياة منافسة، فوقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال «3» ابن الدامغاني: وما تغني النوادب والبواكي ... وقد أصبحت مثل حديث أمس وأنشد «4» الزينبي: عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إنّ النساء بمثله عقم وقد تقدم في باب الحاء المهملة، في الحمام ذكر شيء من مناقب الإمام الغزالي ووفاته رحمه الله تعالى. وذكر ابن خلكان أن الرشيد خرج مرة إلى الصيد، فانتهى به الطرد إلى موضع قبر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الآن، فأرسل فهودا على صيد فتبعت الصيد إلى موضع قبره، ووقفت الفهود عند موضع القبر الآن، ولم تتقدم على الصيد، فتعجب الرشيد من ذلك! فجاءه رجل من أهل الخبرة وقال: يا أمير المؤمنين أرأيتك إن دللتك على قبر ابن عمك علي بن أبي طالب ما لي عندك؟ قال: أتم مكرمة. قال: هذا قبره. فقال له الرشيد: من أين علمت بذلك؟ قال: كنت أجيء مع أبي فيزور قبره، وأخبرني أنه كان يجيء مع جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه فيزوره، وأن جعفرا كان يجيء مع أبيه محمد الباقر فيزوره، وأن محمدا كان يجيء مع أبيه علي زبن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 العابدين فيزوره، وأن عليا كان يجيء مع أبيه الحسين فيزوره، وكان الحسين أعلمهم بمكان القبر. فأمر الرشيد أن يحجر الموضع، فكان أول أساس وضع فيه، ثم تزايدت الأبنية فيه، في أيام السامانية، وبني حمدان وتفاقم في أيام الديلم أي أيام بني بويه. قال: وعضد الدولة هو الذي أظهر قبر علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وعمر المشهد هناك وأوصى أن يدفن فيه، وللناس في هذا القبر اختلاف متباين حتى قيل إنه قبر المغيرة بن شعبة الثقفي رضي الله تعالى عنه. وأصح ما قيل إنه مدفون بقصر الإمارة بالكوفة انتهى. قلت: وعلي رضي الله تعالى عنه لا يعرف قبره على الحقيقة. وعضد الدولة اسمه فناخسر وأبو شجاع بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه الديلمي. وكان عضد الدولة أعظم بني بويه مملكة دانت له العباد والبلاد، وأطاعه كل صعب القياد، وهو أول من خوطب بالملك في الإسلام كما تقدم، وأول من خطب له على المنابر ببغداد بعد الخليفة، ويلقب بتاج الملة أيضا وكان محبا للعلوم وأهلها، وكان يحسن إليهم ويجلس معهم، ويفاوضهم في المسائل، فقصده العلماء والشعراء من كل بلد، وصنفوا له الكتب وامتدحوه وقد تقدم ذكر وفاته «1» في باب الهمزة في لفظ الأوز. الحكم : يحرم أكله لأنه ذو ناب فأشبه الأسد لكنه يجوز بيعه للصيد به ولا خلاف في جواز إجارته. الأمثال : قالوا: «أثقل رأسا من الفهد» «2» و «أنوم «3» من فهد، وأوثب «4» من فهد، وأكسب «5» من فهد» وذلك أن الفهود الهرمة التي تعجز عن الصيد لأنفسها تجتمع على فهد فتي، فيصيد لها في كل يوم شبعها. الخواص : أكل لحمه يورث حدة الذهن وقوة البدن، ومن سقي من دمه غلبت عليه البلاهة، وبرثنه إذا ترك في موضع هرب منه الفأر. وقال صاحب عين الخواص: قرأت في بعض الكتب، أن بول الفهد إذا تحملت به امرأة لم تحبل، وربما تصير عاقرا. التعبير : الفهد في المنام عدو مذبذب، لا يظهر العداوة ولا الصداقة، فمن نازعه نازع إنسانا كذلك. وقال ابن المقري: إن رؤيته تدل على العز والرفعة والدلال مع الصخب والعياط، وربما دل على ما يدل عليه الجارح من الوحش والله تعالى أعلم. الفور: بالضم الظباء وهو جمع لا واحد له من لفظه، يقال «6» : «لا أفعل كذا ما لألأت بأذنابها» أي حركتها، ويروى ما لألأت العفر بأذنابها وهي الظباء أيضا. الفولع: طائر أحمر الرجلين كأن رأسه شيب مصبوغ، ومنها ما يكون أسود الرأس وسائر خلقه أغبر حكاه ابن سيده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 الفيصور: كقيطون الحمار النشيط. الفويسقة: الفأرة روى البخاري وأبو داود والترمذي، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «خمروا الآنية، وأوكئوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، وكفوا صبيانكم، فإن للجن سيارة خطفة وأطفئوا المصابيح عند الرقاد، فإن الفويسقة ربما أخذت الفتيلة وأحرقت أهل البيت» . قيل: سميت فويسقة لخروجها عن الناس، واغتيالها إياهم في أموالهم بالفساد، وأصل الفسق الخروج، ومن هذا سمي الخارج عن الطاعة فاسقا. يقال فسقت الرطبة عن قشرها إذا خرجت عنه. الفياد: كصياد، ذكر البوم ويقال الصدى. الفيل: معروف وجمعه أفيال وفيول وفيلة، قال ابن السكيت: ولا تقل أفيلة، وصاحبه فيال. قال سيبويه: يجوز أن يكون أصل فيل فعل، فكسر من أجل الياء كما قالوا: أبيض وبيض وكنيته أبو الحجاج وأبو الحرمان وأبو غفل وأبو كلثوم وأبو مزاحم، والفيلة أم شبل. وفي ربيع الأبرار كنية فيل ابرهة ملك الحبشة أبو العباس واسمه محمود، وقد ألغز بعضهم في اسمه فقال: ما اسم شيء تركيبه من ثلاث ... وهو ذو أربع تعالى الاله قيل تصحيفه ولكن إذا ما ... عكسوه يصير لي ثلثاه والفيلة ضربان: فيل وزندبيل، وهما كالبخاتي والعراب والجواميس والبقر والخيل والبراذين والجرذ والفأر والنمل والذر، وبعضهم يقول: الفيل الذكر، والزندبيل الأنثى، وهذا النوع لا يلاقح إلا في بلاده ومعادنه ومغارس اعراقه، وإن صار أهليا. وهو إذا اغتلم أشبه الجمل في ترك الماء والعلف حتى يتورم رأسه، ولم يكن لسواسه إلا الهرب منه، وربما جهل جهلا شديدا، والذكر ينزو إذا مضى له من العمر خمس سنين، وزمان نزوه الربيع، والأنثى تحمل سنتين، وإذا حملت لا يقربها الذكر ولا يمسها ولا ينزو عليها إذا وضعت إلا بعد ثلاث سنين. وقال عبد اللطيف البغدادي: إنها تحمل سبع سنين ولا ينزو إلا على فيلة واحدة، وله عليها غيرة شديدة، فإذا تم حملها وأرادت الوضع دخلت النهر حتى تضع ولدها، لأنها لا تلد إلا وهي قائمة، ولا فواصل لقوائمها فتلد، والذكر عند ذلك يحرسها وولدها من الحيات. ويقال: إن الفيل يحقد كالجمل، فربما قتل سائسه حقدا عليه، وتزعم الهند أن لسان الفيل مقلوب ولولا ذلك لتكلم. ويعظم ناباه وربما بلغ الواحد منهما مائة من، وخرطومه من غضروف وهو أنفه ويده التي يوصل بها الطعام والشراب إلى فيه، ويقاتل بها ويصيح، وليس صياحه على مقدار جثته لأنه كصياح الصبي، وله فيه من القوة بحيث يقلع به الشجرة من منابتها، وفيه من الفهم ما يقبل به التأديب ويفعل ما يأمره به سائسه، من السجود للملوك وغير ذلك من الخير والشر، في حالتي السلم والحرب وفيه من الأخلاق أن يقاتل بعضه بعضا، والمقهور منهما يخضع للقاهر، والهند تعظمه لما اشتمل عليه من الخصال المحمودة، من علو سمكه وعظم صورته، وبديع منظره، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وطول خرطومه، وسعة أذنيه، وثقل حمله، وخفة وطئه، فإنه ربما مر بالإنسان فلا يشعر به لحسن خطوه واستقامته. ويطول عمره، فقد حكى أرسطو أن فيلا ظهر أن عمره أربعمائة سنة، واعتبر ذلك بالوسم. وبينه وبين السنور عداوة طبيعية، حتى إن الفيل يهرب منه، كما أن السبع يهرب من الديك الأبيض، وكما أن العقرب متى أبصرت الوزغة ماتت. وذكر القزويني أن فرج الفيلة تحت إبطها، فإذا كان وقت الضراب، ارتفع وبرز للفحل، حتى يتمكن من إيتانها، فسبحان من لا يعجزه شيء. وفي الحلية، في ترجمة أبي عبد الله القلانسي «1» ، أنه ركب البحر في بعض سياحاته، فعصفت عليهم الريح، فتضرع أهل السفينة إلى الله تعالى ونذروا النذور، إن نجاهم الله تعالى، وألحوا على أبي عبد الله في النذر، فأجرى الله على لسانه أن قال: إن خلصني الله تعالى مما أنا فيه، لا آكل لحم الفيل. فانكسرت السفينة وأنجاه الله تعالى وجماعة من أهلها إلى الساحل. فأقاموا به أياما من غير زاد، فبينما هم كذلك، إذا هم بفيل صغير فذبحوه وأكلوا لحمه، سوى أبي عبد الله، فلم يأكل منه وفاء بالعهد الذي كان منه. قال: فلما نام القوم، جاءت أم ذلك الفيل تتبع أثره وتشم الرائحة، فكل من وجدت منه رائحة لحمه داسته بيديها ورجليها إلى أن تقتله. قال: فقتلت الجميع، ثم أتت إلي فلم تجد مني رائحة اللحم، فأشارت إلي أن أركبها، فركبتها فسارت بي سيرا شديدا الليل كله، ثم أصبحت في أرض ذات حرث وزرع، فأشارت إلى أن أنزل، فنزلت عن ظهرها فحملني أولئك القوم إلى ملكهم، فسألني ترجمانه، فأخبرته بالقصة. فقال لي: إن الفيلة قد سارت بك في هذه الليلة مسيرة ثمانية أيام. قال: فلبثت عندهم إلى أن حملت ورجعت إلى أهلي. وفي كتاب الفرج بعد الشدة للقاضي التنوخي، قال: حدثني الأصبهاني من حفظه، قال: قرأت في بعض أخبار الأوائل، أن الاسكندر لما انتهى إلى الصين ونازلها، أتاه حاجبه ذات ليلة وقد مضى من الليل شطره، فقال له: إن رسول ملك الصين بالباب، يستأذن بالدخول عليك، فقال: ائذن له، فلما دخل وقف بين يديه وقبل الأرض ثم قال: إن رأى الملك أن يخليني فليفعل، فأمر الاسكندر من بحضرته بالانصراف، فانصرفوا ولم يبق سوى حاجبه، فقال له الرسول: إن الذي جئت له، لا يحتمل أن يسمعه غير الملك، فأمر الاسكندر بتفتيشه، ففتش فلم يوجد معه شيء من السلاح، فوضع الاسكندر بين يديه سيفا مصلتا، وقال له: قف مكانك. وقل ما شئت، وأمر حاجبه بالانصراف، فلما خلا المكان قال له الرسول: اعلم أني أنا ملك الصين لا رسول له، وقد حضرت بين يديك، لأسألك عما تريد مني، فإن كان مما يمكن الانقياد له، ولو على أصعب الوجوه، أجبت إليه واغتنيت أنا وأنت عن الحرب. فقال له الاسكندر: وما آمنك مني؟ قال: لعلمي بأنك رجل عاقل، وأنه ليس بيننا عداوة متقدمة، ولا مطالبة بدخل، ولعلمي أيضا أنك تعلم أن أهل الصين، متى قتلتني لا يسلمون إليك ملكهم، ولا يمنعهم عدمهم إياي أن ينصبوا لأنفسهم ملكا غيري، ثم تنسب أنت إلى غير الجميل وضد الحزم. فأطرق الاسكندر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 مفكرا في مقالته، ثم رفع رأسه إليه، وقد تبين له صدق قوله، وعلم أنه رجل عاقل. فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك ثلاث سنين عاجلا، ونصف ارتفاعه في كل سنة. فقال له ملك الصين: هل غير هذا شيء؟ قال: لا. قال: قد أجبتك إلى ذلك. قال: فكيف يكون حالك حينئذ؟ قال: أكون قتيل أول محارب، وأكلة أول مفترس. قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين، كيف يكون حالك؟ قال: أصلح ما يكون ذلك مذهبا لجميع لذاتي. قال: فإن قنعت منك بالسدس. قال: يكون السدس موفرا، والباقي للجيش ولأسباب الملك. قال: قد اقتصرت منك على هذا، فشكره وانصرف. فلما أصبح الصباح وطلعت الشمس، أقبل جيش الصين حتى طبق الأرض كثرة، وأحاط بجيش الاسكندر، حتى خافوا الهلاك، فتواثبوا إلى خيولهم فركبوها واستعدوا، فبينما هم كذلك، إذ ظهر ملك الصين على فيل عظيم وعليه التاج، فلما رأى الاسكندر، ترجل ومشى إليه، وقبل الأرض بين يديه، فقال الاسكندر: أغدرت؟ قال: لا والله. فقال: ما هذا الجيش؟ قال: أردت أن أعلمك أني لم أطعك من قلة ولا ضعف، وأن ترى هذا الجيش، وما غاب عنك أكثر منه، لكني رأيت العالم الأكبر مقبلا عليك ممكنا لك، ممن هو أقوى مني ومنك، وأكثر عددا، فعلمت أنه من حارب الاله غلب وقهر، فأردت طاعته بطاعتك، والذلة لأمره بالذلة لك. فقال له الاسكندر: ليس ينبغي أن يؤخذ من مثلك شيء، وما رأيت أحدا يستحق التفضيل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك، وأنا منصرف عنك. فقال له ملك الصين: أما إذ فعلت ذلك فإنك لا تخسر، ثم قدم له ملك الصين من الهدايا والتحف والالطاف، أضعاف ما قرره معه، ورحل الاسكندر عنه. قلت: وقد أذكرتني هذه الحكاية، ما حكاه صاحب ابتلاء الأخبار، عن الاسكندر مع ملكة الصين الأقصى، قال: إن الاسكندر لما سار في الأرض، وفتح البلاد سمعت به ملكة الصين، فأحضرت من أبصر صورة الاسكندر، ممن يعرف التصوير، وأمرتهم أن يصوروا صورته، في جميع الصنائع، خوفا منه، فصوروه في البسط والأواني والرقوم، ثم أمرت بوضع ما صنعوه بين يديها، وصارت تنظر لذلك، حتى أثبتت معرفته، فلما قدم عليها الاسكندر ونازل بلدها، قال الاسكندر للخضر يوما: قد خطر لي شيء أقوله لك، قال: وما هو؟ قال: أريد أن أدخل هذه البلدة متنكرا، وأنظر كيف يعمل فيها؟ قال: افعل ما بدا لك. فلما دخلها الاسكندر، نظرت إليه الملكة من حصنها، فعرفته بالصور التي عندها، فأمرت باحضاره فلما مثل بين يديها، أمرت به فوضع في مطمورة، لا يعرف الليل فيها من النهار، فبقي فيها ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب، حتى كادت قوته أن تسقط، واختبط عسكره لأجل غيبته، والخضر يسكنهم ويسليهم، فلما كان اليوم الرابع، مدت ملكة الصين سماطا نحو مائة ذراع، ووضعت فيه أواني الذهب والفضة والبلور، وملأت أواني الذهب باللؤلؤ والزبرجد، وأواني الفضة بالدر والياقوت الأحمر والأصفر، وأواني البلور بالذهب والفضة، وما في ذلك شيء يؤكل، إلا أنه مال لا يعلم قدره إلا الله تعالى. وأمرت فوضع في أسفل السماط، صحن فيه رغيف من خبز البر وشربة من الماء، وأمرت باخراج الاسكندر، وأجلسته على رأس السماط، فنظر إليه فأبهره ذلك! وأخذت تلك الجواهر ببصره ولم ير فيه شيئا للأكل، ثم نظر فرأى في أدنى السماط إناء فيه طعام، فقام من مكانه ومشى إليه وجلس عنده، وسمى وأكل، فلما فرغ من أكله، شرب من الماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 كفايته، ثم حمد الله تعالى وقام وجلس مكانه أولا، فخرجت عليه، فقالت له: يا سلطان بعد ثلاثة أيام أما صد عنك هذا الذهب والفضة والجوهر سلطان الجوع؟ وقد أغناك عن هذا كله ما قيمته درهم واحد؟ فمالك والتعرض إلى أموال الناس، وأنت بهذه المثابة؟ فقال لها الاسكندر: لك بلادك وأموالك، ولا بأس عليك بعد اليوم، فقالت له: أما إذا فعلت هذا فإنك لا تخسر، ثم إنها قدمت له جميع ما كانت قد أحضرته، وكان شيئا يحير الناظر، ويذهل الخاطر، ومن المواشي شيئا كثيرا. فنزل إلى عسكره، وقبل هديتها ورحل عنها. وذكر غيره أنه كان في الهدية ثلاثمائة فيل، وأنه دعاها إلى الله تعالى فآمنت وآمن أهل مملكتها. غريبة : ذكر صاحب النشوان أن خارجيا خرج على ملك الهند، فأنفذ إليه الجيوش، فطلب الأمان فأمنه فسار الخارجي إلى الملك، فلما قرب من بلد الملك، أمر الملك الجيش بالخروج إلى لقائه، فخرج الجيش بآلات الحرب، وخرجت العامة تنتظر دخوله، فلما أبعدوا في الصحراء، وقف الناس ينتظرون قدوم الرجل، فأقبل وهو راجل في عدة رجال، وعليه ثوب ديباج ومئزر في وسطه، جريا على زي القوم، فتلقوه بالإكرام، ومشوا معه حتى انتهى إلى فيلة عظيمة، قد أخرجت للزينة، وعليها الفيالون، وفيها فيل عظيم يختصه الملك لنفسه، ويركبه في بعض الأوقات، فقال له الفيال لما قرب منه: تنح عن طريق فيل الملك، فلم يبد له جوابا، فأعاد عليه القول، فلم يبد له جوابا، فقال له: يا هذا احذر على نفسك وتنح عن طريق فيل الملك، فقال له الخارجي: قل لفيل الملك يتنحى عن طريقي، فغضب الفيال وأغرى الفيل به بكلام كلمه به، فغضب الفيل وعدا إلى الخارجي، ولف خرطومه عليه، وشاله الفيل شيلا عظيما، والناس يرونه ثم خبط به الأرض، فإذا هو قد وقع منتصبا على قدميه قابضا على خرطوم الفيل، فزاد غضب الفيل فشاله الثانية، أعظم من الأولى، وعدا ثم رمى به الأرض فإذا هو قد حصل مستويا على قدميه، منتصبا قابضا على الخرطوم، ولم ينح يده عنه فشاله الفيل الثالثة، وفعل به مثل ذلك فحصل على الأرض منتصبا قابضا على الخرطوم، وسقط الفيل ميتا، لأن قبضه على الخرطوم تلك المدة منعه من التنفس فقتله. فأخبر الملك بذلك، فأمر بقتله، فقال له بعض وزرائه: يجب أيها الملك أن يستبقى مثل هذا، ولا يقتل فإن فيه جمالا للمملكة، ويقال إن للملك خادما، قتل فيلا بقوته وحيله، من غير سلاح، فعفا عنه واستبقاه. وذكر الطّرطوشي «1» وغيره أن الفيل دخل دمشق، في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما، فخرج أهل الشام لينظروه لأنهم لم يكونوا رأوا الفيل قبل ذلك، وصعد معاوية سطح القصر للفرجة، فلاحت منه التفاتة، فرأى رجلا مع بعض حظاياه في بعض حجر القصر، فنزل مسرعا إلى الحجرة، فطرق بابها فقيل: من؟ قال: أمير المؤمنين، ففتح الباب، إذ لا بد من فتحه طوعا أو كرها، فدخل أمير المؤمنين معاوية فوقف على رأس الرجل وهو منكس رأسه، وقد خاف خوفا عظيما، فقال له معاوية: يا هذا ما الذي حملك على ما صنعت من دخولك قصري، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 وجلوسك مع بعض حرمي؟ أما خفت نقمتي؟ أما خشيت سطوتي؟ أخبرني يا ويلك، ما الذي حملك على ذلك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، حملني على ذلك حلمك. فقال له معاوية: أرأيت إن عفوت عنك تسترها علي، فلا تخبر بها أحدا؟ قال: نعم. فعفا عنه ووهب له الجارية، وما في حجرتها وكان شيئا له قيمة عظيمة. قال الطرطوشي: فانظر إلى هذا الدهاء العظيم والحلم الواسع كيف طلب الستر من الجاني انتهى. فائدة : لما كان أول المحرم سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة من تاريخ ذي القرنين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ حملا في بطن أمه، حضر أبرهة الأشرم ملك الحبشة يريد هدم الكعبة، وكان قد بنى كنيسة بصنعاء، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من بني كنانة، فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك، وحلف ليهدمن الكعبة، فخرج ومعه جيش عظيم، ومعه فيله محمود، وكان قويا عظيما، واثنا عشر فيلا غيره، وقيل: ثمانية. فلما بلغ المغمس، وهو على ثلثي فرسخ من مكة، مات دليلة أبو رغال هناك، فرجمت العرب قبره. والناس يرجمونه إلى الآن. وروى أبو علي بن السكن، في سننه الصحاح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان بمكة، وأراد أن يقضي حاجة الإنسان، خرج إلى المغمس. ثم إن أبرهة بعث خيلا له إلى مكة، فأخذت مائتي بعير لعبد المطلب، فهم أهل الحرم بقتاله، ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوه. وبعث أبرهة إلى أهل مكة يقول لهم: إني لم آت لحربكم وإنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم! فقال عبد المطلب لرسوله: والله لا نريد حربه، وما لنا من حاجة، هذا بيت الله وبيت خليله ابراهيم صلى الله عليه وسلم فهو يحميه ممن يريد هدمه. ثم خرج عبد المطلب إلى أبرهة، وكان عبد المطلب جسيما وسيما ما رآه أحد إلا أحبه، وكان مجاب الدعوة، فقيل لأبرهة: هذا سيد قريش الذي يطعم الناس في السهل، ويطعم الوحش والطير في رؤوس الجبال، فلما رآه أجله وأجلسه معه على سريره. ثم قال لترجمانه: قل له: سل حاجتك. فقال: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي. فلما قال ذلك، قال له أبرهة: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني! أتكلمني في مائتي بعير وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه فلم تكلمني فيه؟ فقال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه منك. قال أبرهة: ما كان ليمتنع مني. فقال عبد المطلب: أنت وذاك. فرد أبرهة على عبد المطلب إبله، ثم انصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر، وأمرهم بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ودعا الله تعالى ثم قال «1» : لا همّ أن المرء يمنع ... رحله فامنع حلالك وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم أبدا محالك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 ثم أرسل حلقة الباب، وانطلق هو ومن معه من قريش إلى الجبال، ينظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، فحينئذ جاءت قدرة الواحد الأحد القادر المقتدر، فأصبح أبرهة متهيئا لدخول مكة وهدم البيت، وقدم فيله محمودا أمام جيشه، فلما وجه الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب، كذا في سيرة ابن هشام. وقال السهيلي: نفيل بن عبد الله بن جزء بن عامر بن مالك، فأخذ بأذن الفيل وقال: ابرك محمودا وارجع راشدا فإنك في بلد الله الحرام. ثم أرسل أذنه، فبرك الفيل فضربوه بالحديد حتى أدموه ليقوم فأبى! فوجهوه إلى اليمن فقام يهرول، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، فوجهوه إلى مكة فبرك. فعند ذلك أرسل الله تعالى عليهم طيرا أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فتساقطوا بكل طريق، وهلكوا على كل منهل، وأصيب أبرهة حتى تساقط أنملة أنملة، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر، فما مات حتى انصدع قلبه عن صدره، وانفلت وزيره وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر، فخر ميتا بين يديه. وإلى هذه القصة أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث «1» الصحيح: «إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين» . وفي صحيح «2» البخاري وسنن أبي داود والنسائي، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله تعالى عنهما، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل فألحت، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل» . الخلاء في الإبل كالحران في الخيل، والمعنى في التمثيل بحبس الفيل أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لو دخلوا مكة لوقع بينهم وبين قريش قتال في الحرم، وأريق فيه دماء وكان منه الفساد ولعل الله سبحانه وتعالى قد سبق في علمه، ومضى في قضائه، أنه سيسلم جماعة من أولئك الكفار، وسيخرج من أصلابهم قوم مؤمنون، فلو استبيحت مكة لانقطع ذلك النسل وتعطلت تلك العواقب والله أعلم. قيل: كان أبرهة المذكور جد النجاشي الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل، بعد هلاك أصحاب الفيل بخمسين يوما، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان الناس بمكة. وروي أن عبد الملك بن مروان، قال لقباث بن أشيم الكناني: يا قباث أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسن منه، ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل وهو أخضر، وأنا أعقله. قال السهيلي: قوله فبرك الفيل، فيه نظر، لأن الفيل لا يبرك، فيحتمل أن يكون فعل فعل البارك، الذي يلزم موضعه، ولا يبرح، فعبر بالبروك عن ذلك. ويحتمل أن يكون بروكه سقوطه إلى الأرض، لما دهمه من أمر الله سبحانه وتعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 قال: وقد سمعت من يقول: إن في الفيلة صنفا يبرك كما يبرك الجمل، فإن صح، وإلا فتأويله كما قدمناه. قال: وقول عبد المطلب: لا هم ... الخ. إن العرب تحذف الألف واللام من اللهم وتكتفي بما بقي. والحلال متاع البيت، وأراد به سكان الحرم. ومعنى محالك كيدك وقوتك. والكنيسة التي بناها أبرهة بصنعاء تسمى القليس، مثل القبيط سميت بذلك لارتفاع بنائها وعلوها، ومنه القلانس لأنها في أعلى الرؤوس، يقال: تقلس الرجل وتقلنس إذا لبس القلنسوة، وتقلس طعاما إذا ارتفع من معدته إلى فيه. وكان أبرهة قد استذل أهل اليمن في بنائها، وكلفهم فيها أنواعا من السخر وكان ينقل إليها الرخام المجزع، والحجارة المنقوشة بالذهب والفضة، من قصر بلقيس صاحبة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، وكان من موضع هذه الكنيسة على فراسخ، ونصب فيها صلبانا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والآبنوس، وكان يشرف منها على عدن. وكان حكمه في العامل فيها إذا طلعت عليه الشمس، قبل أن يعمل قطع يده، فنام رجل من العمال ذات يوم حتى طلعت الشمس، فجاءت أمه معه، وهي امرأة عجوز، فتضرعت إليه تستشفع لابنها، فأبى إلا قطع يده، فقالت: اضرب بمعولك اليوم، فاليوم لك وغدا لغيرك! فقال: ويحك ما قلت؟ قالت: نعم كما صار هذا الملك من غيرك إليك، فهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك! فأخذته موعظتها، وعفا عن ولدها وأعفى الناس من السخر فيها. فلما هلك ومزقت الحبشة كل ممزق، أقفر ما حول هذه الكنيسة، وكثر حولها السباع والحيات، وكان كل من أراد أن يأخذ منها شيئا أصابته الجن، فبقيت من ذلك العهد بما فيها من العدد والخشب المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير مقنطرة من الأموال إلى زمن أبي العباس السفاح. فذكروا له أمرها وما يتهيب من جنها، فلم يرعه ذلك، وبعث إليها أبا العباس بن الربيع عامله على اليمن، ومعه أهل الحزم والجلادة، فخربها واستأصلها، وحصل منها مالا كثيرا، وباع منها ما أمكن بيعه من رخامها وآلاتها. فخفي بعد ذلك رسمها وانقطع خبرها ودرست آثارها. وكان الذي يصيبهم من الجن، ينسبونه إلى كعيب وامرأته وهما صنمان كانت الكنيسة بنيت عليهما، فلما كسر كعيب وامرأته، أصيب الذي كسرهما بالجذام، فافتتن بذلك رعاع اليمن وطغامهم، وذكر أبو الوليد الأزرقي أن كعيبا كان من خشب وكان طوله ستين ذراعا. وإلى قصة أبرهة أشرت بقولي في المنظومة في أول كتاب السير: فجاءهم أبرهة بالفيله ... وبجيوش أقبلت محتلفه وأمهم في عسكر كالليل ... مستظهرا برجله والخيل وقد أتى الأسود نحو الحرم ... واستاق ما كان به من نعم فأم ذاك الوقت عبد المطلب ... أبرهة والسعي في الخير طلب فمذ رأى أبرهة وجها سما ... مهابة عظمه ربّ السما انحطّ عن سريره منهبطا ... وقعدا على بساط بسطا وقال: سل ما شئت من أمور ... فقال رد مائتي بعير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 قد أخذت من جملة الأموال ... فقال: قد هونت في السؤال لو قلت لي لا تهدمن البيتا ... وارجع وعد من حيثما أتيتا قابلت ما قلت بالامتثال ... من غير إمهال ولا إهمال فقال: هذي إبلي وهذا ... بيت له خالقه أعاذا لا أسأل اليوم سواء فيه ... إن له ربا علا يحميه ثم أتى شيبة باب الكعبة ... فقال: إذ يسأل فيه ربه يا ربّ لا أرجو لهم سواكا ... يا ربّ فامنع عنهم حماك إنّ عدوّ البيت من عاداك ... فامنعهم أن يخربوا قراكا فأجلبوا برجلهم والخيل ... وأقبلوا كقطع من ليل محموده من فوقه مذموم ... بهيمة سواده بهيم يروم هدم البيت ذي الأركان ... وقتل ما فيه من السكان ويستحلّ الجرم المعظما ... ويستبيح البلد المحرما فقام يدعو الله عبد المطلب ... بدعوات جيشهن ما غلب في يده حلقته الوثقى التي ... ما خاب من أمسكها في أزمة فأنجز الله له ما طلبه ... وأنجح الربّ العظيم مطلبه وفيلهم محمود ليل داج ... وكان يكنى بأبي الحجاج وقال قوم بأبي العباس ... وكان معروفا بعظم الباس أمسكه بأذنه نفيل ... قال له وشاع هذا القيل: ابرك أو ارجح راشدا محمود ... فإنّ هذا بلد محمود فأوجعوه بالحديد ضربا ... للسير نحو البيت وهو يأبى وأن يوجه لسواه يبتدر ... ثم عليه أحد لم يقتدر فأرسل الله على الذي فجر ... طيرا أبابيل رمت جنس الحجر مهيئا للقوم من سجّيل ... فهم كعصف بعدها مأكول والملك المطاع عضوا عضوا ... مزّق ثم لم ينل مرجوا وكان عام الفيل عام المولد ... لأحمد خير الورى محمد فائدة أخرى : إذا دخل إنسان على من يخاف شره فليقرأ: كهيعص حم عسق، وعدد حروف الكلمتين عشرة، يعقد لكل حرف أصبعا من أصابعه، يبدأ بإبهام يده اليمنى، ويختم بإبهام يده اليسرى، فإذا فرغ عقد جميع الأصابع، قرأ في نفسه سورة الفيل، فإذا وصل إلى قوله تعالى تَرْمِيهِمْ «1» كرر لفظ ترميهم عشر مرات، يفتح في كل مرة إصبعا من الأصابع المعقودة، فإذا فعل ذلك، أمن شره وهو عجيب مجرب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 ومن الفوائد المجربة : ما أفادنيه بعض أهل الخير والصلاح، أن من قرأ سورة الفيل، ألف مرة، في كل يوم مائة مرة، عشرة أيام متوالية، ويقصد من يريده بالضمائر، وفي اليوم العاشر، يجلس على ماء جار، ويقول: اللهم أنت الحاضر المحيط بمكنونات الضمائر، اللهم عزّ الظالم وقل الناصر، وأنت المطلع العالم، اللهم إنّ فلانا ظلمني وأذاني، ولا يشهد بذلك غيرك، اللهم إنك مالكه فأهلكه، اللهم سربله سربال الهوام، وقمصه قميص الردى، اللهم اقصفه. يكرر هذه اللفظة عشر مرات، ثم يقول: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ «1» فإن الله يهلكه ويكفيه شره. وهو سر لطيف مجرب. وروي أن عمرو بن معد يكرب «2» رضي الله تعالى عنه حمل يوم القادسية على رستم، وهو الذي كان قدمه يزدجرد ملك الفرس يوم القادسية على قتال المسلمين، فاستقبل عمرو رستم وكان رستم على فيل عظيم، فحذف عمرو قوائمه بضربة، فسقط رستم وسقط الفيل عليه، مع خرج كان عليه، فيه أربعون ألف دينار، فقتل رستم وانهزمت العجم. وهذه الضربة لم يسمع بمثلها في الجاهلية ولا في الإسلام. وروي أن الروم حملت القوائم المذكورة، وعلقوها في كنيسة لهم. فكانوا إذا عيروا بانهزام، يقولون: لقينا قوما هذه ضربتهم، فيترجل أبطال الروم فيرونها، ويتعجبون من ذلك. وذكر أبو العباس المبرد، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال يوما: من أجود العرب؟ قيل له: حاتم. قال: فمن فارسها؟ قيل: عمرو بن معد يكرب. قال: فمن شاعرها؟ قيل: امرؤ القيس. قال: فأي سيوفها أمضى؟ قيل: صمصامة عمرو بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه. وأفاد السهيلي أن صمصامة عمرو بن معد يكرب كانت حديدة، وجدت عند الكعبة، من دفن جدهم أو غيره، وأن ذا الفقار سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من تلك الحديدة أيضا. قال: وإنما سمي ذا الفقار لأنه كان في وسطه مثل فقرات الظهر، وكان قبله صلى الله عليه وسلم للعاص بن منبه، سلبه منه يوم بدر. الحكم : يحرم أكل الفيل على المشهور، وعلله في الوسيط، بأنه ذو ناب مكادح أي مغالب مقاتل. وفي وجه شاذ حكاه الرافعي عن أبي عبد الله البوشنجي، وهو من أئمة أصحابنا أنه حلال. وقال الإمام أحمد: ليس الفيل من أطعمة المسلمين، وقال الحسن: وهو منسوخ، وكرهه أبو حنيفة، ورخص في أكله الشعبي، ويصح بيعه لأنه يحمل عليه ويقاتل به وعليه، وراكبه يرضخ له من الفيء أكثر من راكب البغل. ولا يطهر الفيل عندنا بالذبح، ولا يطهر عظمه بالتنقية، سواء أخذ منه بعد ذكاته، أو بعد موته، ولنا وجه شاذ أن عظام الميتة طاهرة، وهو قول أبي حنيفة، ومن وافقه لكن المذهب نجاستها مطلقا. وعند مالك أن عظمه يطهر بصقله، كما تقدم في باب السين المهملة، في لفظ السلحفاة. ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 يجوز بيعه ولا يحل ثمنه، وبهذا قال طاوس وعطاء بن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز ومالك وأحمد. وقال ابن المنذر: خص فيه عروة بن الزبير وابن سيرين وابن جريج. وفي الشامل أن جلد الفيل لا يؤثر فيه الدباغ لكثافته. وفي صحة المسابقة على الفيل وجهان: وقيل قولان أصحهما أنها تصح لما روى الشافعي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان، وصححه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل» «1» والسبق بفتح الباء ما يجعل للسابق على سبقه من جعل، وجمعه أسباق، وأما السبق بإسكان الباء، فهو مصدر سبقت الرجل أسبقه، والرواية الصحيحة في هذا الحديث لا سبق بفتح الباء، وأراد به أن الجعل والعطاء لا يستحق إلا في سباق الخيل والإبل والنصال، لأن هذه الأمور عدة في قتال العدو، وفي بذل الجعل عليها ترغيب في الجهاد ولم يذكر الشافعي الفيل، وقال أبو اسحاق: تجوز المسابقة عليه لأنه يلقي عليه العدو كما يلقي على الخيل، ولأنه ذو خف والصورة النادرة تدخل في العموم، على الأصح عند الأصوليين. ومن الأصحاب من قال: لا تصح المسابقة عليه، وبه قال أحمد وأبو حنيفة، لأنه لا يحصل الكر والفر عليه، فلا معنى للمسابقة عليه، فإن قال قائل: فالإبل كالفيل في هذا المعنى، فالجواب أن العرب تقاتل على الإبل أشد القتال، وذلك لهم عادة غالبة والفيل ليس كذلك. ومن قال بالأول، قال: إنه يسبق الخيل في بلاد الهند والله أعلم. تذنيب : في سنة تسعين وخمسمائة سار نيارس أكبر ملوك الهند، وقصد بلاد الإسلام فطلبه الأمير شهاب الدين الغوري صاحب غزنة، فالتقى الجمعان على نهر ماجون، قال ابن الأثير: وكان مع الهندي سبعمائة فيل ومن العسكر ألف ألف نفس، فصبر الفريقان، وكان النصر لشهاب الدين الغوري، وكثر القتل في الهنود حتى جافت منهم الأرض، وأخذ شهاب الدين تسعين فيلا، وقتل ملكهم نيارس، وكان قد شد أسنانه بالذهب، فما عرف إلا بذلك. ودخل شهاب الدين بلاد نيارس، وأخذ من خزائنه ألفا وأربعمائة حمل من المال، وعاد إلى غزنة. قال: وكان من جملة الفيلة التي أخذها شهاب الدين الغوري فيل أبيض، حدثني بذلك من رآه انتهى. الأمثال : قالوا: «آكل «2» من فيل وأشد «3» من فيل وأعجب من خلق فيل» . روي أنه كان في مجلس الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، جماعة يأخذون عنه العلم، فقال قائل: قد حضر الفيل، فخرج أصحابه كلهم للنظر إليه إلا يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، فإنه لم يخرج، فقال له مالك: لم لم تخرج لترى هذا الخلق العجيب فإنه لم يكن ببلادك؟ فقال: إنما جئت من بلدي لأنظر إليك، وأتعلم من هديك وعلمك، ولم أجىء لأنظر إلى الفيل. فأعجب به مالك رضي الله تعالى عنه، وسماه عاقل أهل الأندلس، ثم إن يحيى عاد إلى الأندلس، وانتهت إليه الرياسة بها. وبه اشتهر مذهب مالك في تلك البلاد، وأشهر روايات الموطأ وأحسنها رواية يحيى وكان معظما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 عند الأمراء، وكان مجاب الدعوة. توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين، وقبره بمقبرة ابن عباس بظاهر قرطبة يستسقى به. ونظير هذه الحكاية ما اتفق لأبي عاصم النبيل، واسمه الضحاك بن مخلد بن الضحاك، فإنه كان بالبصرة فقدمها فيل، فذهب الناس ينظرون إليه، فقال له ابن جريج: ما لك لا تخرج تنظر إلى الفيل؟ فقال: لأني لا أجد منك عوضا! فقال له: أنت النبيل. فكان إذا أقبل، يقول ابن جريج: جاء النبيل. قال البخاري: سمعت أبا عاصم يقول: منذ عقلت أن الغيبة حرام، ما اغتبت أحدا قط. وقالوا: «أثقل من فيل» . قال «1» الشاعر: أنت يا هذا ثقيل ... وثقيل ثقيل أنت في المنظر إنسان ... وفي الميزان فيل الخواص : من سقي من وسخ أذن الفيل ينام سبعة أيام، ومرارته يطلى بها البرص ويترك ثلاثة أيام، فإنه يذهب. وعظمه يعلق على رقاب الصبيان يدفع عنهم الصرع، وإذا علق العاج، الذي هو عظمه، على شجرة لم تثمر تلك السنة. وإذا بخر الكرم والزرع والشجر بعظمه لم يقرب ذلك المكان دود، وإن دخن به في بيت فيه بق مات البق. ومن سقي من نشارة العاج في كل يوم، وزن درهمين بماء وعسل جاد حفظه، وإن شربتها المرأة العاقر سبعة أيام، ثم جومعت بعد ذلك حبلت بإذن الله تعالى. وجلده إذا شد منه قطعة على من به حمى نافض تزول عنه، وإذا نام عليه صاحب التشنج يزول عنه، وإذا أحرق زبله وسحق بعسل وطلي به الأجفان التي سقط شعرها نبت، وإذ شربت المرأة بوله، وهي لا تعلم، ثم جومعت لم تحبل. وزبله إذا علق عليها لم تحبل أيضا، ما دام عليها. ودخان جلده يبرىء البواسير. التعبير : الفيل في المنام ملك أعجمي مهاب، بليد القلب حامل الأثقال عارف بالحرب والقتال، فمن ركب فيه فيلا أو ملكه أو تحكم عليه، اتصل بسلطان ونال منه منزلة سنية، وعاش عمرا طويلا في عز ورفعة، وقيل: إن الفيل رجل ضخم أعجمي، فمن ركب فيلا وكان ذا طوع له، فإنه يقهر رجلا ضخما أعجميا شحيحا. ومن ركب فيلا في نومه بالنهار فإنه يطلق زوجته، لأنه كان في الزمن المتقدم في بلاد الفيلة من طلق زوجته أركب فيلا، وطيف به حتى يعلم الناس، ومن ركب من الملوك فيلا وهو في حرب فإنه يهلك لقوله «2» تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ إلى آخر السورة، ومن ركب فيلا بسرج، تزوج بنت رجل ضخم أعجمي، وإن كان تاجرا عظمت تجارته، ومن افترسه فيل نزلت به آفة من سلطان، وإن كان مريضا مات ومن رعى فيلة فإنه يواخي ملوك العجم وينقادون له، ومن حلب فيلة فإنه يمكر برجل أعجمي. وينال منه مالا، وقالت اليهود: الفيل في المنام ملك كريم لين الجانب ذو مدارة صبور، ومن ضربه فيل بخرطومه نال خيرا، ومن ركبه نال وزارة وولاية، ومن أخذ شيئا من ورثة استغنى. ويدل أيضا على قوم صالحين. وقيل: من يرى الفيل يرى أمرا شديدا، ثم ينجو منه. وقالت النصارى: من رأى فيلا ولم يركبه أصابه نقصان في بدنه أو خسران في ماله. ومن رأى فيلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 مقتولا في بلدة، مات ملكها، أو يقتل رجل مذكور. ومن قتل فيلا قهر رجلا أعجميا، ومن ألقاه الفيل تحته ولم يفارقه، فإنه يموت، وإذا رؤي الفيل في غير بلاد النوبة، فإنه يدل على فتنة، وذلك لقبح لونه وسماجته. وإن رؤي في البلاد التي يوجد فيها فهو رجل من أشراف الناس. والمرأة إذا رأت الفيل فلا يحمد لها ذلك، على أي صفة رأته. وتعبر الفيلة بالسنين كالبقر، وخروج الفيل من بلد فيه طاعون دليل خير لهم وزوال الطاعون عنهم، وإذا ركب الفيل في بلد فيه بحيرة فهو ركوب سفينة، والله تعالى أعلم. فصل في فضل العقل وزينه، وقبح الجهل وشينه: قال بعض الحكماء: العقل ما عقل به عن السيئات، وحض القلب على الحسنات، والعقل معقل عن الدنيات، ونجاة من المهلكات، والنظر في العواقب قبل حلول المصائب، والوقوف عند مقادير الأشياء، قولا وفعلا، لقوله «1» صلى الله عليه وسلم: «أعقلها وتوكل» . وقد أجمع الحكماء والعلماء والفقهاء، أن جميع الأمور كلها، قليلها وجليلها، محتاجة إلى العقل، والعقل محتاج إلى التجربة، وقالوا: العقل سلطان وله جنود، فرأس جنوده التجربة، ثم التمييز ثم الفكر ثم الفهم ثم الحفظ ثم سرور الروح، لأن به ثبات الجسم والروح سراج نوره العقل. وفي الحديث: «ما قسم الله لعباده خيرا من العقل» وروي أن جبريل عليه الصلاة والسلام، أتى آدم عليه السلام فقال: إني أتيتك بثلاث: فاختر واحدة منها، فقال: وما هي؟ فقال: الحياء والعقل والدين. فقال آدم عليه السلام: قد اخترت العقل. فخرج جبريل عليه الصلاة والسلام إلى الحياء والدين، فقال: ارجعا فقد اختار العقل عليكما. فقالا: إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان. وقال بعضهم: من استرشد إلى طريق الحزم بغير دليل العقل فقد أخطأ منهاج الصواب. والعقل مصباح يكشف به عن الجهالة، ويبصر به الفضل من الضلالة، ولو صور العقل لأظلمت معه الشمس، ولو صور الجهل لأضاء معه الليل، وما شيء أحسن من عقل زانه أدب، ومن علم زانه ورع، ومن حلم زانه رفق، ومن رفق زانه تقوى. وروي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أتيتك بمكارم الأخلاق كلها في الدنيا والآخرة. فقال: «وما هي» ؟ فقال «2» : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ ، وهو يا محمد عفوك عمن ظلمك، واعطاء من حرمك، وصلة من قطعك، وإحسانك إلى من أساء إليك، واستغفارك لمن اغتابك، ونصحك لمن غشك، وحلمك عمن أغضبك. فهذه الخصال قد تضمنت مكارم الأخلاق، في الدنيا والآخرة. وأنشد بعضهم في معنى ذلك فقال: خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين ولن في الكلام لكلّ الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 ومن طرق العقل الحميدة: القناعة وهي كنز لا يفنى، والصدقة وهي عز باق، وتمام عز الرجل استغناؤه عن الناس. ومن طرقه أيضا الحياء، وقد قيل: إذا قلّ ماء الوجه قلّ حياؤه ... ولا خير في وجه إذا قلّ ماؤه ومن طرقه أيضا حسن الخلق. روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» «1» . وروي أن يحيى بن زكريا عليهما السلام لقي عيسى ابن مريم عليهما السلام فتبسم عيسى في وجهه، فقال يحيى: ما لي أراك لاهيا كأنك آمن! فقال عيسى: ما لي أراك عابسا كأنك آيس! فقالا: لا نبرح حتى ينزل علينا وحي. فأوحى الله تعالى إليهما: أحبكما إلي أحسنكما خلقا. تتمة : ذكر الغزالي وابن بلبان وغيرهما، أن أبا جعفر المنصور حج ونزل في دار الندوة، وكان يخرج سحرا فيطوف بالبيت، فخرج ذات ليلة سحرا فبينما هو يطوف، إذ سمع قائلا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. فهرول المنصور في مشيته حتى ملأ مسامعه، ثم رجع لدار الندوة، وقال لصاحب الشرطة: إن بالبيت رجلا يطوف فائتني به. فخرج صاحب الشرطة فوجد رجلا عند الركن اليماني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فلما دخل عليه، قال: ما الذي سمعتك آنفا تشكو إلى الله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع؟ فو الله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني! فقال له: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله، وامتلأت بلاد الله بذلك بغيا وفسادا أنت! فقال المنصور: ما هذا؟ أو قال: ويحك كيف يدخلني الطمع، والصفراء والبيضاء ببابي، وملك الأرض في قبضتى؟! فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك؟ استرعاك الله أمور المؤمنين وأموالهم، فأهملت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، واتخذت بينك وبين رعيتك حجابا من الجص والآجر، وحجبة معهم السلاح، وأمرت أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، نفرا استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، ولم تأمر بإيصال المظلوم، ولا الجائع ولا العاري ولا أحد إلا وله في هذا المال حق! فلما رآك هؤلاء الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك، تجمع الأموال ولا تقسمها، قالوا: هذا قد خان الله ورسوله، فما لنا لا نخونه؟ فأجمعوا على أن لا يصل إليك من أمور الناس إلا ما أرادوا، فصار هؤلاء شركاءك في سلطانك، وأنت غافل عنهم، فإذا جاء المظلوم إلى بابك، وجدك قد أوقفت ببابك رجلا ينظر في مظالم الناس، فإن كان الظالم من بطانتك، علل صاحب المظالم بالمظلوم، وسوّف به من وقت إلى وقت، فإذا جهد وظهرت أنت، صرخ بين يديك، فيضرب ضربا شديدا ليكون نكالا لغيره! وأنت ترى ذلك ولا تنكر، ولقد كانت الخلفاء قبلك، من بني أمية، إذا انتهت إليهم الظلامة أزيلت في الحال. ولقد كنت أسافر الصين يا أمير المؤمنين فقدمته مرة، فوجدت الملك الذي به قد فقد سمعه فبكى، فقال له وزراؤه: ما يبكيك أيها الملك لا أبكى الله لك عينا؟ فقال: والله ما بكيت لمصيبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 نزلت بي، وإنما أبكي لمظلوم يصرخ بالباب، فلا أسمع صوته. ثم قال: إن كان سمعي قد ذهب فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس أحدا ثوبا أحمر إلا مظلوما. وكان يركب الفيل طرفي النهار، ويدور في البلد لعله يجد أحد لابسا ثوبا أحمر، فيعلم أنه مظلوم فينصفه، هذا يا أمير المؤمنين رجل مشرك غلبت رأفته على شح نفسه بالمشركين! فكيف لا تغلب رأفتك على شح نفسك بالمؤمنين وأنت مؤمن بالله وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يا أمير المؤمنين: إنما تجمع المال لإحدى ثلاث: إن قلت: إنما أجمع المال للولد، فقد أراك الله عبرة فيمن تقدم ممن جمع المال للولد، فلم يغن ذلك عنه، بل ربما مات فقيرا ذليلا حقيرا، إذ قد يسقط الطفل من بطن أمه وليس له مال، ولا على وجه الأرض من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فلم يزل يلطف الله تعالى بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس فيه، ويحوي ما حوته تلك اليد الشحيحة، ولست بالذي تعطي، وإنما الله المعطي. وإن قلت: إنما أجمعه لمصيبة تنزل بي، فقد أراك الله سبحانه وتعالى عبرة في الملوك والقرون الذين خلوا من قبلك، ما أغنى عنهم ما أعدوا من الأموال والرجال والكراع، حين أراد الله بهم ما أراد. وإن قلت: إنما أجمعه لغاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فو الله ما فوق منزلتك إلا منزلة، لا تدرك إلا بالعمل الصالح. فبكى المنصور بكاء شديدا ثم قال: كيف أعمل والعلماء قد فرت مني، والعباد لم تقرب مني، والصالحون لم يدخلوا علي؟ فقال: يا أمير المؤمنين افتح الباب، وسهل الحجاب، وانتصر للمظلوم، وخذ من المال ما حل وطاب، وأقسمه بالحق والعدل، وأنا ضامن من هرب منك أن يعود إليك! فقال المنصور: نفعل إن شاء الله تعالى. وجاءه المؤذنون فآذنوه بالصلاة، فقام وصلى. فلما قضى صلاته طلب الرجل فلم يجده. فقال لصاحب الشرطة: علي بالرجل الساعة فخرج يتطلبه، فوجده عند الركن اليماني، فقال له: أجب أمير المؤمنين. فقال له: ليس إلى ذلك سبيل. فقال: إذا يضرب عنقي! فقال: لا، ولا الى ضرب عنقك من سبيل. ثم أخرج من مزود كان معه رقا مكتوبا، فقال: خذه فإن فيه دعاء الفرج، من دعا به صباحا، ومات من يومه مات شهيدا، ومن دعا به مساء، ومات من ليلته مات شهيدا، وذكر له فضلا عظيما وثوابا جزيلا. فأخذه صاحب الشرطة، وأتى المنصور فلما رآه قال له: ويلك أو تحسن السحر! قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قص عليه فأمر المنصور بنقله، وأمر له بألف دينار. وهو هذا: اللهم كما لطفت في عظمتك وقدرتك دون اللطفاء، وعلوت بعظمتك على العظماء، وعلمت ما تحت أرضك كعلمك ما فوق عرشك، فكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك، وعلانية القول كالسر في علمك، فانقاد كل شيء لعظمتك، وخضع كل ذي سلطان لسلطانك، وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك، اجعل لي من كل غم وهم أصبحت أو أمسيت فيه فرجا ومخرجا، اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه منك، مما قصرت فيه فصرت أدعوك آمنا، وأسألك مستأنسا، فإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي، فيما بيني وبينك تتودد إلي بالنعم، وأتبغض إليك بالمعاصي، فلم أجد كريما أعطف منك على عبد لئيم مثلي، ولكن الثقة بك حملتني على الجرأة عليك، فجد اللهم بفضلك وإحسانك علي، إنك أنت الرؤوف الرحيم. وروي أن الرجل المذكور كان الخضر عليه السلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 الفينة: طائر يشبه العقاب، إذا خاف البرد انحدر إلى اليمن، قاله ابن سيده. والفينات الساعات يقال لقيته الفينة بعد الفينة، أي الحين بعد الحين، وإن شئت حذفت الألف واللام، فقلت: لقيته فينة بعد فينة، فكأن هذا الطائر لما كان في حين ينحدر إلى اليمن، وفي حين آخر يذهب عنها سمي باسم الزمان. أبو فراس: كنية الأسد، يقال: فرس الأسد فريسته يفرسها فرسا وافترسها، أي دق عنقها وأصل الفرس هذا ثم كثر حتى قيل لكل قتل فرس، وبه سمي أبو فراس بن حمدان، أخو سيف الدولة بن حمدان، وكان ملكا جليلا وشاعرا مجيدا حتى قيل: بدىء الشعر بملك، وختم بملك: بدىء بامرىء «1» القيس واسمه حندج، وختم بأبي فراس «2» . ونظير ذلك قولهم: بدئت الرسائل بعبد الحميد «3» ، وختمت بابن العميد «4» والله تعالى أعلم. باب القاف القادحة: الدودة، يقال: قدح الدود في الأسنان والشجر قدحا. قاله الجوهري. القارة: الدبة. القارية: كسارية، هذا الطائر القصير الرجلين، الطويل المنقار، الأخضر الظهر، تحبه العرب وتتيمن به، ويشبهون به الرجل السخي. وهي مخففة قال الشاعر: أمن ترجيع قارية تركتم ... سباياكم وأبتم بالعناق قال ابن الأعرابي: معنى البيت أفزعتم لما سمعتم ترجيع هذا الطائر وتركتم سباياكم ورجعتم بالخيبة؟ فالعناق هنا الخيبة، والجمع القواري. قال يعقوب: والعامة تقول: قاريّة بالتشديد. كذا قاله الجوهري. وقال البطليوسي، في الشرح: العرب تتيمن بالقواري وتتشاءم بها، فأما تيمنهم بها فإنها تبشر بالمطر، إذا جاءت. والسماء خالية من السحاب. قال النابغة الجعدي «5» : ولا زال يسقيها ويسقي بلادها ... من المزن زحاف يسوق القواريا وأما تشاؤمهم بها، فإن أحدهم إذا لقي منها واحدة من غير غيم ولا مطر خاف ورجع. وقال ابن سيده: القاريّة طير خضر يحبها الأعراب، ويشبهون الرجل السخي بها، وذلك لأنها تنذر بالمطر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 قال بعضهم: ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس قواري الله في الأرض» . أي شهوده، لأن بعضهم يتبع أحوال بعض، فإذا شهدوا الإنسان بخير أو شر فقد وجب، والقواري واحدها قار وهو جمع شاذ. قلت: ويدل لصحة هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «أنتم شهداء الله في الأرض» «1» . وحكمه ا : الحل لأن العرب كانت تأكلها، قاله الصيمري وغيره، وقالوا في كتاب الحج: الحمام يفدى بشاة، وما دونه من القواري وغيرها يفدى بالقيمة. وهذا دليل على حل أكلها، وتصريح بأن القارية ليست من الحمام. وكلام أهل اللغة لا يساعده. فقد قال ابن السكيت، في إصلاح المنطق: القواري طيور خضر لها ترجيع. وقد تقدم تفسير هدير الحمام بالترجيع في صوته، وتقدم أن غير الحمام يشاركه في اللعب وإذا كان غير الحمام يشاركها في اللعب ألغى اعتباره، ووجب اعتبار الهدير وهو الترجيع، فوجب أن تكون القارية من الحمام، وأنها تفدى بشاة دون القيمة، كسائر الحمام وللنظر في هذا التعارض مجال. القاق: طائر مائي طويل العنق. وحكمه : حل الأكل كما تقدم. القاقم: دويبة تشبه السنجاب، إلا أنه أبرد منه مزاجا وأرطب، ولهذا هو أبيض يقق، ويشبه جلده جلد الفنك، وهو أعز قيمة من السنجاب. وحكمه : الحل لأنه من الطيبات. القانب: الذئب العواء والمقانب الذئاب الضاربة، وقد تقدم لفظ الذئب في باب الذال المعجمة. القاوند: طائر يتخذ وكره على ساحل البحر، ويحضن بيضه سبعة أيام في الرمل، ويخرج أفراخه في اليوم السابع، ثم يزقها سبعة أيام أيضا، والمسافرون في البحر يتيمنون بهذه الأيام، ويوقنون بطيب الوقت وحلول أوان السفر. وقيل: إن الله تعالى إنما يمسك البحر عن هيجانه في زمن الشتاء، عن بيض هذا الطائر وفراخه، لبره بأيويه، عند كبرهما، وذلك أنهما إذا كبرا حمل إليهما قوتهما، وعالهما حياتهما إلى أن يموتا. وهذا الطائر المتخذ منه شحم القاوند المعروف، وهو يقيم المقعد ويحلل البلاغم المزمنة. وفي المفردات: دهن القاوند معروف كالسمن، يؤتى به من بلاد اليمن، ومن الحبشة والهند، ويقال إنه يستخرج من ثمر شجرة كالجوز، ويطحن في المعاصر، ويستخرج، ينفع الأمراض الباردة وأوجاع الأعصاب. القبج: بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة، وبالجيم في آخره، واحدة قبجة الحجل، والقبجة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى، حتى تقول: يعقوب، فيختص بالذكر، وكذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 الدراجة حتى تقول حيقطان، والبومة حتى تقول صدي أوفياد، والحبارى حتى تقول خرب، وكذا النعامة حتى تقول ظليم، والنحلة حتى تقول يعسوب، ومثله كثير. وقال كراع في المجرد: القبج فارسي معرب، لأن القاف والجيم أو الكاف لا يجتمعان في كلام العرب، كالجوالق وجلق والقبج والكليجة وهو مكيال صغير، وما كان نحو ذلك. وفراخ القبج تخرج كما الفراريج، كما تقدم، وإناثه تبيض خمس عشرة بيضة، والذكر يوصف بالقوة على السفاد، كما يوصف الديك والعصفور، ولكثرة سفاده يقصد موضع البيض، فيكسره لئلا تشتغل الأنثى بحضنه عنه، ولهذا، الأنثى إذا أتى أوان بيضها، تهرب وتختبىء رغبة في الفراخ، وهي إذا هربت بهذا السبب ضاربت الذكور بعضها بعضا، وكثر صياحها، ثم إن المقهور يتبع القاهر، ويسفد القوي الضعيف، والقبج يغير أصواته بأنواع شتى، بقدر حاجته إلى ذلك، ويعمر خمس عشرة سنة، ومن عجيب أمرها ما حكاه القزويني: أنها إذا قصدها الصياد، خبأت رأسها تحت الثلج، وتحسب أن الصياد لا يراها، وذكورها شديدة الغيرة على إناثها، والأنثى تلقح من رائحة الذكر، وهذا النوع كله يحب الغناء والأصوات الطيبة، وربما وقعت من أوكارها عند سماع ذلك فيأخذها الصياد. وحكمها : حل الأكل لأنها من الطيبات. الخواص : قال عبد الملك بن زهر: مرارة الذكر منها، إذا اكتحل بها تنفع من نزول الماء، وإن خلطت مع ماء الرازيانج واكتحل بها أبرأت من العشى بالليل، وشحمه ينفع السكتة واللوقة سعوطا، وقال أرسطو: مرارة القبج، إذا خلطت بدهن زئبق وسعط بها المحموم ساعة يحم، فإنه يبرأ. قال: وصفة صيدهن أن يعجن لهن دقيق الشعير بالخمر، ويوضع لهن حتى يأكلن، فإذا أكلنه سكرن. فيصيدن. القبرة: بضم القاف وتشديد الباء الموحدة واحدة القبر، قال الجوهري: وقد جاء في الشعر قنبرة كما تقوله العامة، وقال البطليوسي، في شرح أدب الكاتب: وقنبرة أيضا بإثبات النون، قال: وهي لغة فصيحة، وهو ضرب من الطير يشبه الحمرة، وكنية الذكر منه أبو صابر وأبو الهيثم، والأنثى أم العلعل قال «1» طرفة وكان يصطادها: يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري قد رفع الفخّ فماذا تحذري ... ونقّري ما شئت أن تنقّري قد ذهب الصياد عنك فابشري ... لا بد من أخذك يوما فاحذري والسبب في قوله ذلك أنه كان مع عمه في سفر وهو ابن سبع سنين فنزلوا على ماء، فذهب طرفة بفخ له، فنصبه للقنابر وبقي عامة يومه لم يصد شيئا ثم حمل فخه وعاد إلى عمه، فحملوا ورحلوا من ذلك المكان، فرأى القنابر يلقطن ما نثر لهن من الحب، فقال ذلك. قال أبو عمرو: والمراد بالجو هنا ما اتسع من الأودية، وحذف طرفة النون من قوله: فماذا تحذري، لوفاق القافية أو لالتقاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 الساكنين، قال أبو عبيدة: يروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال «1» لابن الزبير، حين خرج الحسين رضي الله تعالى عنه إلى العراق: خلا لك الجو فبيضي واصفري ولطرفة بن العبد، قصة عجيبة مع عمرو بن المنذر بن امرىء القيس، لما كتب له وللمتلمس صحيفتين، ويقال له عمرو بن هند، وكان لا يبتسم ولا يضحك، وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة لشدة ملكه، فإنه ملك ثلاثا وخمسين سنة، وكانت العرب تهابه هيبة شديدة. وقال السهيلي: إنه هو عمرو بن المنذر بن ماء السماء، وهند أمه وسمي أبوه المنذر بابن ماء السماء لشدة جماله، وهو المنذر بن الأسود، ويعرف عمرو بمحرّق، لأنه حرق مدينة يقال لها ملهم، وهي عند اليمامة، وقال العتبي والمبرد: سمي محرقا لأنه حرق مائة من بني تميم. ملك ثلاثا وخمسين سنة. وكان طرفة غلاما معجبا فجعل يتخلج في مشيته بين يديه، فنظر إليه نظرة كادت تبتلعه من مجلسه، فقال له المتلمس حين قاما: يا طرفة إني أخاف عليك من نظرته إليك، فقال طرفة: كلا. ثم إنه كتب لهما كتابين إلى المكعبر وكان عامله على البحرين وعمان، فخرجا من عنده وسارا حتى إذا هبطا بأرض قريبة من الحيرة، فإذا هما بشيخ معه كسرة يأكلها وهو يتبرز ويقصع القمل، فقال له المتلمس: بالله ما رأيت شيخا أحمق وأضعف وأقل عقلا منك! فقال له: وما الذي أنكرت علي؟ فقال: تتبرز وتأكل وتقصع القمل! قال: إني أخرج خبيثا، وأدخل طيبا، وأقتل عدوا! ولكن أحمق مني وألأم حامل حتفه بيمينه، لا يدري ما فيه! فتنبه المتلمس، وكأنما كان نائما، فإذا هو بغلام من أهل الحيرة يسقي غنيمة له من نهر الحيرة، فقال له المتلمس: يا غلام أتقرأ؟ قال: نعم. قال: اقرأ هذه، فإذا فيها باسمك اللهم، من عمرو بن هند إلى المكعبر، إذا أتاك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا. فألقى الصحيفة في النهر، وقال: يا طرفة معك والله مثلها. فقال: كلا، ما كان ليكتب لي مثل ذلك. ثم أتى طرفة إلى المكعبر، فقطع يديه ورجليه ودفنه حيا. فضرب المثل بصحيفة المتلمس، لمن يسعى في حتفه بنفسه، ويغرر بها. وستأتي الإشارة إلى هذه القصة، في باب الكاف، في لفظ الكروان. وكان سبب إحراق عمرو بن هند لبني تميم، كما قاله العتبي والمبرد أن عمرا كان له أخ، وهو أسعد بن المنذر، وكان مسترضعا في بني دارم، فانصرف ذات يوم من صيده وبه نبيذ، فمر بابل لسويد بن ربيعة التميمي، فنحر منها بكرة فرماه سويد بسهم فقتله. فلما سمع عمرو بن هند بقتل أخيه حلف ليحرقن منهم مائة رجل، فأخذ منهم تسعة وتسعين رجلا، فقذفهم في النار، ثم أراد أن يبر قسمه بعجوز منهم ليكمل العدد، فقالت: هلا فتى يفدي هذه العجوز بنفسه؟ ثم قالت: هيهات صارت الفتيان حمما! ومر وافد البراجم، فاشتم رائحة اللحم، فظن أن الملك قد اتخذ طعاما، فعرج إليه فأتى به إليه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا وافد البراجم، فقال «2» له عمرو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 «إن الشقي وافد البراجم» ، فذهبت مثلا ثم أمر به فقذف في النار، وقد أشار إلى ذلك ابن دريد في مقصورته بقوله: ثم ابن هند باشرت نيرانه ... يوم أوارات تميما بالصّلى وأورات موضع، وهو جمع واحدة أوارة، وتميم قبيلة، والصلى وهج النار. والقبرة غبراء كبيرة المنقار كأنما على رأسها قبرة، وهذا الضرب من العصفور قاسي القلب، وفي طبعه أنه لا يهوله صوت صائح، وربما رمي بالحجر، فاستخف بالرامي ولطأ بالأرض، حتى يتجاوز الحجر، وبهذا السبب لا يزال مأخوذا أو مقتولا، لأن الرامي يحمله الحنق عليه على مداومة ضربه حتى يصيبه، وهو يضع وكره على الجادة حبا للأنس. روى الإمام الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، بإسناده عن داود بن أبي هند، قال: صاد رجل قبرة، فقالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أذبحك وآكلك! فقالت: والله إني لا أسمن ولا أغني من جوع، وما أشفي من قرم، ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أما الواحدة فأعلمك إياها وأنا على يدك، والثانية إذا صرت على الشجرة، والثالثة إذا صرت على الجبل. قال: نعم. فقالت وهي على يده: لا تأسفن على ما فاتك، فخلى عنها، فلما صارت على الشجرة قالت: لا تصدقن بما لا يكون، فلما صارت على الجبل، قالت: يا شقي لو ذبحتني لوجدت في حوصلتي درة وزنها عشرون مثقالا. قال: فعض على شفته وتلهف، ثم قال: هاتي الثالثة. فقالت: قد نسيت الثنتين الأوليين، فكيف أعلمك الثالثة؟ قال: وكيف؟ قالت: ألم أقل لك لا تأسفن على ما فاتك وقد تأسفت علي، وقلت لك: لا تصدقن بما لا يكون؟ وقد صدقت فإنه لو جمعت عظامي وريشي ولحمي لم تبلغ عشرين مثقالا، فكيف يكون في حوصلتي درة وزنها عشرون مثقالا. وحكى القشيري في رسالته، عن ذي النون المصري رحمه الله، أنه سئل عن سبب توبته، فقال: خرجت من مصر إلى بعض القرى فنمت في بعض الصحارى، ثم فتحت عيني فإذا أنا بقبرة عمياء سقطت من وكرها، فانشقت لها الأرض، وخرج منها سكرجتان إحداهما فضة والأخرى ذهب، في إحداهما سمسم والأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذه وتشرب من هذه، قال: فتبت ولزمت الباب إلى أن قبلني، وعلمت أن من لم يضيع القبرة لا يضيعني. وحكمها : حل الأكل بالاجماع، ووجوب الجزاء على المحرم بقتلها. الخواص : لحمها يحبس البطن ويزيد في الباه، وبيضها يفعل ذلك، وإذا ديف زبلها بريق إنسان وطلي به الثآليل قطعها، وإذا كرهت المرأة زوجها، فليطل ذكره بشحمها ويجامعها، فإنها تحبه. تتمة : في الأسماء قنبر، بضم القاف وإسكان النون وفتح الباء الموحدة، جد سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر، وسيبويه لقب له، وهي لفظة أعجمية معناها رائحة التفاح وقنبر بضمتين جد ابراهيم بن علي بن قنبر البغدادي، عن نصر الله القزاز وجد أبي الفتح محمد بن أحمد بن قنبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 البزاز وغيرهما، وأما قنبر بفتح القاف والباء فأبو الشعثاء قنبر، وهو يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره ذكره ابن حبان في الثقات وقنبر مولى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال ابن أبي حاتم: روي عن علي كرم الله وجهه ورضي عنه، وكان حاجبه. قال الشيخ في المهذب، في كتاب القضاء: ولا يكره للإمام أن يتخذ حاجبا، لأن يرفأ كان حاجب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، والحسن كان حاجب عثمان رضي الله تعالى عنه، وقنبر كان حاجب علي رضي الله تعالى عنه. قال محمد بن السماك: من عرف الناس داراهم، ومن جهلهم ماراهم، ورأس المداراة ترك المماراة. قيل: جلس أبو يوسف يعقوب بن السكيت يوما مع المتوكل، وكان يؤدب أولاده، فجاءه المعتز والمؤيد ولدا المتوكل فقال له: يا يعقوب أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ فقال: والله إن قنبرا خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل للأتراك: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا به ذلك، فمات في ليلة الإثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين. ثم إن المتوكل أرسل لولده عشرة آلاف درهم، وقال: هذه دية والدك. كذا حكاه ابن خلكان في ترجمته «1» . ومن العجب أنه كان قبل ذلك بيسير أنشد لولدي المتوكل وهو يعلمهما: يصاب الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يصاب المرء من عثرة الرجل فعثرته بالقول تذهب رأسه ... وعثرته بالرجل تبرا على مهل ومن محاسن «2» شعر ابن السكيت: إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الرحيب وأوطنت المكاره واستقرت ... وأرست في أماكنها الخطوب ولم تر لانكشاف الضرّ وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب «3» أتاك على قنوط منك عفو ... يمن به اللطيف المستجيب وكلّ الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها فرج قريب وعرف أبوه بالسكيت، لأنه كان كثير السكوت، طويل الصمت، وكل ما كان على فعيل أو فعليل فإنه مكسور الأول. وكان ابن السكيت، رحمه الله، إماما في اللغة، مكثرا من نقل الغريب، وله تصانيف مفيدة. القبعة: بضم القاف وتخفيف الباء الموحدة، والعين المهملة المفتوحتين، طير أبقع مثل العصفور، يكون عند حجرة الجرذان، فإذا فزع أو رمي بحجر انقبع فيها. ذكره ابن السكيت المذكور قبله. وقوله: انقبع فيها أي دخل الجحر فالتجأ فيه. القبيط: كحمير طائر معروف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 القتع: بفتح القاف والتاء المثناة والعين المهملة، دود يكون في الخشب يأكله، الواحدة قتعة ينزو ثم يقع. ابن قترة: ضرب من الحيات لا يسلم من لدغته، وقيل: هو ذكر الأفعى، وهو نحو من الشبر، وأبو قترة كنية إبليس قاله ابن سيده وغيره. القدان: بكسر القاف وبالدال المهملة المشددة: البراغيث، قاله ابن سيده. وقال غيره: هو دويبة تقرب من البرغوث تقرص قال الراجز: يا أبتا أرقني القدان ... فالنوم لا تطعمه العينان قاله أبو حاتم في كتاب الطير، وقيل: القدان يوجد كثيرا بالبلاد والطرق الرملة، والناس يسمونه الدلم يقرص الإبل وغيرها. القراد: واحد القردان، يقال قرد بعيرك أي انزع منه القراد، وقد تقدم الكلام عليه في الحلم. وقد ذكرنا أن مذهبنا استحباب قتل القراد في الإحرام وغيره، وقال العبدري: يجوز للمحرم عندنا أن يقرد بعيره، وبه قال ابن عمر وابن عباس وأكثر الفقهاء، وقال مالك: لا يقرده. قال ابن المنذر: وممن أباح تقريد البعير عمر وابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والشافعي وأحمد واسحاق وأصحاب الرأي، وكرهه ابن عمر ومالك. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في المحرم يقتل قرادة: يتصدق بتمرة أو تمرتين. قال ابن المنذر: وبالأول أقول. وتقريد البعير أن ينزع القراد منه، وفسره ابن الأثير وغيره بأنه الطبوع الذي يلصق بجسمه. وفي قصيدة كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه: يمشي القراد عليها ثم يزلقه ... عنها لبان وأقراب زهاليل «1» اللبان الصدر، والأقراب الخواصر، والزهاليل الملس. وفي حديث أبي جهل، أن محمدا نزل يثرب وأنه حنق عليكم، نفيتموه نفي القراد عن المسامع. يعني الآذان أي أخرجتموه من مكة إخراج استئصال، لأن أخذ القراد عن الدابة قلعه بالكلية، والأذن أخف الأعضاء شعرا، بل أكثرها لا شعر عليه، فيكون النزع منها أبلغ. الأمثال : قالوا: «أسمع من قراد» «2» ، وذلك أنه يسمع وطء أخفاف الإبل من مسيرة يوم، فيتحرك لها، قال أبو زياد الأعرابي: ربما رحل الناس عن ديارهم بالبادية وتركوها قفارا، والقردان منتشرة في أعطان الإبل، ثم لا يعودون إليها عشر سنين وعشرين سنة، ولا يخلفهم فيها أحد سواهم، ثم يرجعون إليها فيجدون القردان في تلك المواضع أحياء، وقد أحست بروائح الإبل قبل أن توافي فتتحرك لها، ولذلك قالت العرب: «أعمر من قراد» «3» . وقال حمزة: العرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 تزعم أن القراد يعيش سبعمائة سنة، وهذا من أكاذيبهم، وإنما الضجر منهم به دعاهم إلى هذا القول فيه. وهو في الرؤيا : يدل على الأعداء والحساد الأخساء، وإن رأى الدلم منتشرا في الأرض والرمل، فهو كذلك أيضا والله تعالى أعلم. القرد: حيوان معروف، وكنيته أبو خالد وأبو حبيب وأبو خلف وأبو ربة وأبو قشة، وهو بكسر القاف وسكون الراء، وجمعه قرود، وقد يجمع على قردة، بكسر القاف وفتح الراء المهملة، والأنثى قردة بكسر القاف وإسكان الراء، وجمعها قرد بكسر القاف وفتح الراء، مثل قربة وقرب. وهو حيوان قبيح مليح ذكي سريع الفهم يتعلم الصنعة. حكي أن ملك النوبة أهدى إلى المتوكل قردا خياطا، وآخر صائغا. وأهل اليمن يعلمون القردة القيام بحوائجهم حتى إن القصاب والبقال يعلم القرد حفظ الدكان حتى يعود صاحبه، ويعلم السرقة فيسرق. نقل الشيخان عن القاضي حسين أنه قال: لو علم القرد النزول إلى الدار وإخراج المتاع، فنقب وأرسل القرد فأخرج المتاع، ينبغي أن لا يقطع لأن للحيوان اختيارا. ونقل البغوي في باب حد الزنا أن المرأة لو مكنت من نفسها قردا فوطئها. فعليها ما على واطىء البهيمة فتعزر في الأصح، وتحد في قول، وتقتل في قول. فائدة : قال ابن عباس وعكرمة رضي الله تعالى عنهم في قوله «1» تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي أتقنه وقالا: ليست است القرد حسنة، ولكنها متقنة محكمة، فجميع المخلوقات حسنة، وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن. قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «2» . والقردة تلد في البطن الواحد العشرة، والإثني عشر، والذكر ذو غيرة شديدة على الإناث. وهذا الحيوان شبيه بالإنسان في غالب حالته، فإنه يضحك ويطرب ويقعى ويحكي، ويتناول الشيء بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظافر، ويقبل التلقين والتعليم، ويأنس بالناس، ويمشي على أربع مشيه المعتاد ويمشي على رجليه حينا يسيرا، ولشفر عينيه الأسفل أهداب، وليس ذلك لشيء من الحيوان سواه. وهو كالإنسان، وإذا سقط في الماء غرق كالآدمي الذي لا يحسن السباحة، ويأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الإناث، وهما خصلتان من مفاخر الإنسان وإذا زاد به الشبق، استمنى بفيه، وتحمل الأنثى أولادها، كما تحمل المرأة، ومن سر هذا الحيوان أن الطائفة من هذا النوع، إذا أرادت النوم ينام الواحد في جنب الآخر، حتى يكونوا سطرا واحدا، وإذا تمكن النوم منها، نهض أولها من الطرف الأيسر، فإذا قعد صاح فينهض من كان يليه، ويفعل كفعله حتى يكون هذا إلى آخرهم، يفعلون ذلك في الليل كله مرارا، وسبب ذلك أنه يبيت في أرض ويصبح في أخرى، وفيه من قبول التأديب والتعليم ما لا يخفى. ولقد درب قرد ليزيد على ركوب الحمار، وسابق به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 مع الخيل، وفيه يقول «1» يزيد لما سبق بأتان ركبها فارسا: من مبلغ القرد الذي سبقت به ... جواد أمير المؤمنين أتان تعلق أبا قش بها إن ركبتها ... فليس عليها إن هلكت ضمان روى ابن عدي، في كامله، عن أحمد بن طاهر بن حرملة بن أخي حرملة بن يحيى، أنه قال: رأيت بالرملة قردا يصوغ، فإذا أراد أن ينفخ، أشار إلى رجل حتى ينفخ له. وفيه، في ترجمة محمد بن يوسف بن المنكدر عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا رأى القرد خر ساجدا» . وهو في المستدرك، قبيل كتاب الجمعة. ذكره شاهدا، وفيه في ترجمة ضمام بن اسماعيل، أنه روى عن أبي قنبل، أن معاوية صعد المنبر يوم جمعة، فقال في خطبته: أيها الناس إن المال مالنا، والفيء فيؤنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا، فلم يجبه أحد. فلما كان في الجمعة الثانية، قال كذلك فلم يجبه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال كذلك، فقام إليه رجل فقال: كلا يا معاوية، ألا إن المال مالنا، والفيء فيؤنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه إلى الله تعالى بأسيافنا. فنزل معاوية، وأرسل إلى الرجل، فأدخل عليه، فقال القوم: هلك الرجل، ثم فتح معاوية الأبواب، فدخل عليه الناس، فوجدوا الرجل معه على السرير! فقال معاوية: أيها الناس إن هذا الرجل أحياني أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ستكون أئمة من بعدي يقولون فلا يرد عليهم، يتقاحمون في النار كما تتقاحم القردة» ، وإني تكلمت أول جمعة فلم يرد علي أحد شيئا، فخشيت أن أكون منهم، ثم تكلمت في الجمعة الثانية فلم يرد علي أحد شيئا، فقلت في نفسي أنت من القوم، فتكلمت في الجمعة الثالثة، فقام إلي هذا الرجل، فرد علي فأحياني، أحياه الله، فرجوت أن يخرجني الله منهم. ثم أعطاه وأجازه. ورواه ابن سبع، في شفاء الصدور كذلك، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي ورجاله ثقات. وذكر القزويني في عجائب المخلوقات، أن من تصبح بوجه قرد، عشرة أيام، أتاه السرور ولا يكاد يحزن، واتسع رزقه وأحبته النساء حبا شديدا، وأعجبن به. وفيما قاله نظر ظاهر. فائدة أخرى : روى الإمام أحمد، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «إن رجلا حمل معه خمرا في سفينة ليبيعه، ومعه قرد قال: فكان الرجل إذا باع الخمر، شابه بالماء ثم باعه، قال: فأخذ القرد الكيس، فصعد به فوق الدقل، فجعل يطرح دينارا في البحر ودينارا في السفينة حتى قسمه» . ورواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا بمعناه. ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «لا تشربوا اللبن بالماء، فإن رجلا كان فيمن قبلكم يبيع اللبن ويشوبه بالماء، فاشترى قردا وركب البحر حتى إذا لجج فيه ألهم الله القرد صرة الدنانير، فأخذ وصعد الدقل ففتح الصرة، وصاحبها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 ينظر إليه فأخذ دينارا فرمى به في البحر ودينارا في السفينة، حتى قسمها نصفين، فألقى ثمن الماء في البحر وثمن اللبن في السفينة» . قال: ومر أبو هريرة رضي الله تعالى عنه بإنسان يحمل لبنا وقد خلطه بالماء، فقال له أبو هريرة: كيف بك يوم القيامة، حيث يقال لك خلص الماء من اللبن؟ وقد تقدم في باب الهمزة، في لفظ الأسود السالخ حديث يتعلق بهذا والله تعالى أعلم. فائدة أخرى : روى الحاكم، في المستدرك عن الأصم، عن الربيع عن الشافعي، عن يحيى بن سليم عن ابن جريج، عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما، وهو يقرأ في المصحف، قبل أن يذهب بصره، ويبكي، فقلت له: ما يبكيك جعلني الله فداك؟ فقال: هذه الآية وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ الآية «1» . ثم قال: أتعرف أيلة؟ قلت: وما أيلة؟ قال: قرية كان بها أناس من اليهود، حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم في يوم سبتهم شرعا بيضا سمانا كأمثال المخاض، فإذا كان غير يوم السبت، لا يجدونها ولا يدركونها إلا بمشقة ومؤنة، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا يوم السبت، فربطه إلى وتد في الساحل، وتركه في الماء، حتى إذا كان الغد أخذه فأكله ففعل ذلك أهل بيت منهم، فأخذوا وشووا، فوجد جيرانهم ريح الشواء، ففعلوا كفعلهم، وكثر ذلك فيهم فافترقوا فرقا: فرقة أكلت، وفرقة نهت، وفرقة قالت: لم تعظون قوما الله مهلكهم؟! فقالت الفرقة التي نهت: إنا نحذركم غضب الله وعقابه، أن يصيبكم بخسف أو قذف، أو بعض ما عنده من العذاب، والله ما نساكنكم في مكان أنتم فيه، وخرجوا من السور ثم غدوا عليه من الغد، فضربوا باب السور فلم يجبهم أحد فتسور إنسان منهم السور، فقال: قردة والله لها أذناب تتعاوى، ثم نزل ففتح الباب، ودخل الناس عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة! قال: فيأتي القرد إلى نسيبه وقريبه فيحتك به ويلصق إليه، فيقول الإنسي: أنت فلان؟ فيشير برأسه أن نعم، ويبكي وتأتي القردة إلى نسيبها وقريبها الإنسي، فيقول: أنت فلانة فتشير برأسها أن نعم وتبكي. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فاسمع الله يقول «2» : أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ فلا أدري ما فعلت الفرقة الثالثة، فكم قد رأينا من منكر ولم ننه عنه. قال عكرمة: فقلت: ما ترى، جعلني الله فداك أنهم قد أنكروا وكرهوا، حين قالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ فأعجبه قولي ذلك، وأمر لي ببردين غليظين، فكسانيهما. ثم قال: هذا صحيح الإسناد. وأيلة بين مدين والطور على شاطىء البحر. وقال الزهري: القرية طبرية. وفي معالم التنزيل، قال عكرمة: فقلت له: جعلني الله فداك، ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه، وقالوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل أهلكتهم. فأعجبه قولي ورضي به، وأمر لي ببردين غليظين، فكسانيهما وقال: نجت الساكتة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وفي المستدرك أيضا: عن مسلم الزنجي، عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «رأيت في منامي كأن بني الحكم بن أبي العاص، ينزون على منبري، كما تنزو القردة» . فما رؤي النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى مات. ثم قال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. وروى الطبراني، في معجمه الأوسط، من حديث أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في آخر الزمان تأتي المرأة فتجد زوجها قد مسخ قردا لأنه لا يؤمن بالقدر» . فائدة أخرى : اختلف العلماء في الممسوخ هل يعقب أم لا؟ على قولين أحدهما نعم، وهو قول الزجاج والقاضي أبي بكر بن العربي المالكي، وقال الجمهور: لا يكون ذلك. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يعش ممسوخ قط أكثر من ثلاثة أيام، ولا يأكل ولا يشرب. واحتج الأولون بقوله صلى الله عليه وسلم: «فقدت أمة من بني إسرائيل، لا أدري ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربها، وإذا وضع لها ألبان غيرها شربتها «1» » . خرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وبحديث الضب الذي رواه مسلم عن أبي سعيد وجابر قالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بضب فأبى أن يأكله، وقال «2» : «لا أدري لعله من القرود التي مسخت» . قال أبو بكر بن العربي المالكي: وفي البخاري عن عمر بن ميمون، أنه قال: رأينا في الجاهلية قردة قد زنت، فرجموها ورجمتها معهم. ثبت في بعض نسخ البخاري وسقط من بعضها. والجواب عن ذلك أن الحميدي، في الجمع بين الصحيحين، قال: حكى أبو مسعود الدمشقي أن لعمرو بن ميمون الأزدي في الصحيحين «3» حكاية من رواية حصين عنه، قال: رأيت في الجاهلية قردة قد زنت، اجتمع عليها قردة فرجموها ورجمتها معهم. كذا حكاه أبو مسعود، ولم يذكر في أي موضع أخرجه البخاري. فبحثنا عن ذلك فوجدناه في بعض النسخ لا في كلها، مذكورا في كتاب أيام الجاهلية، وليس في رواية الفربري أصلا شيء من هذا الخبر في القردة، ولعلها من المقحمات في كتاب البخاري، والذي قاله البخاري في التاريخ الكبير، قال: قال لي نعيم بن حماد: أخبرنا هشيم، عن أبي المليح وحصين عن عمرو بن ميمون الأزدي، قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة، فرجموها ورجمتها معهم. وليس فيه قد زنت، فلئن صحت هذه الرواية، فإنما أخرجها البخاري دليلا على أن عمرو بن ميمون قد أدرك الجاهلية، ولم يبال بظنه الذي ظنه، وذكر أبو عمر بن عبد البر، في الاستيعاب، عن عمرو بن ميمون، وقال: إنه معدود من التابعين من الكوفيين، قال: وهو الذي رأى الرجم في الجاهلية بين القردة، إن صح ذلك، لأن رواته مجهولون. وذكر البخاري، عن نعيم عن هشيم عن حصين عن عمرو بن ميمون الأزدي مختصرا، قال: «رأيت في الجاهلية قردة زنت فرجموها» . فذكره، ثم قال: والقصة بطولها تدور على عبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 الملك بن مسلم، عن عيسى بن حطان، وليسا ممن يحتج بهما. وهذا عند جماعة من أهل العلم منكر إضافة الزنا إلى غير مكلف، وإقامة الحدود على البهائم. ولو صح، لكانوا من الجن، لأن العبادات والتكليفات في الجن والإنس دون غيرهما اهـ. وعمرو بن ميمون المذكور، خرج له أصحاب الكتب الستة، وحج ستين حجة توفي في سنة سبع وخمسين. وكان من الذين إذا روا ذكر الله تعالى. وأما حديث الضب والفأر فكان ذلك قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لم يجعل للممسوخ نسلا، فلما أوحى إليه، زال عنه ذلك المتخوف، وعلم أن الضب والفأر ليسا مما مسخ، فعند ذلك أخبرنا بقوله صلى الله عليه وسلم، لمن سأله عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك» «1» . وهذا نص صريح، رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه. وقد أخرجه مسلم في كتاب القدر، وثبتت النصوص بأكل الضب بحضرته صلى الله عليه وسلم، وعلى مائدته فلم ينكره. فدل ذلك على صحة ما قلناه. وعن مجاهد في تفسير آية المسخ، في بني إسرائيل: إنما مسخت قلوبهم فقط، وردت أفهامهم كأفهام القردة. وهذا قول تفرد به عن جميع المسلمين. الحكم : أكل القرد حرام عندنا. وبه قال عكرمة وعطاء ومجاهد والحسن وابن حبيب من المالكية. وقال مالك وجمهور أصحابه: ليس بحرام. وأما بيعه فيجوز، لأنه يقبل التعليم فيمسك الشمعة، ويحفظ الأمتعة. وقال ابن عبد البر، في أوائل التمهيد: لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا في أن القرد لا يؤكل، ولا يجوز بيعه، لأنه مما لا منفعة فيه. وما علمت أحدا رخص في أكله. والكلب والفيل وذو الناب كله عندي مثله. والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في قول غيره. وما يحتاج القرد ومثله إلى النهي عنه، لأنه ينهي عن نفسه بزجر الطباع والنفوس لنا عنه، ولم يبلغنا عن العرب ولا عن غيرهم أكله. وروي عن الشعبي، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم، «نهى عن لحم القرد» لأنه سبع فيدخل في عموم الخبر. الأمثال : منها قوله: واسجد لقرد السوء في زمانه ... وداره مادمت في سلطانه وقالوا: «أزنى «2» من قرد» و «أحكى «3» من قرد» لأنه يحكي الإنسان في أفعاله سوى المنطق قال أبو الطيب: يرومون شأوي في الكلام وإنما ... يحاكي الفتى فيها خلا المنطق القرد «4» وقالوا: «أقبح «5» من قرد» و «أولع «6» من قرد» . لأنه إذا رأى الإنسان، تولع بفعل شيء أخذ بفعله مثله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 الخواص : قال الجاحظ: لحم القرد شبيه لحم الكلب، بل هو شر وأخبث؛ قال ابن السويدي: إذا علق سنه على إنسان لم يغلبه النوم ولا الفزع بالليل، وأكل لحمه يمنع من الجذام، وجلده إذا علق على شجرة دفع عنها ضرر البرد، وإذا اتخذ من جلده غربال وغربل به الزريعة وزرعت فإنها تسلم من آفات الجراد، وإذا سقي إنسان من دم قرد وهو حار خرس من وقته، وإذا رأى القرد طعاما مسموما خاف وصاح، وإذا جعل شعره تحت رأس نائم رأى أهوالا تفزعه. التعبير : القرد في المنام رجل فيه كل عيب مخالف، لأن الله تعالى نهاه فلم ينته فمسخه، ومن رأى قردا يقاتله وغلب القرد فإن الرائي يمرض ويبرأ، فإن غلبه القرد فلا يرجى برؤه، ومن رأى أنه أكل لحم قرد فإنه يعالج داء لا يرجى برؤه منه، وقالت النصارى: من أكل لحم قرد لبس جديدا، ومن وهب قردا في منامه انتصر على عدوه، ومن رأى قردا عضه خاصم إنسانا، ومن رأى قردا في فراشه فإنه يهوديا يفجر بامرأته، وكذلك إذا أكل على مائدته، والقرد رجل زالت نعمته لكبيرة ارتكبها، ومن نكح قردا ارتكب فاحشة، أو خاصم إنسانا، وقال ارطاميدورس: القرد رجل مكار خداع، ويدل على مرض المريض، وما يحدث من القمر، لأن القرد من حيوان القمر. وقال جاماسب: من صاد قردا انتفع من جهة السحرة والكهنة، والله تعالى أعلم. القردوح: الضخم من القردان، قاله ابن سيده. القرش: بكسر القاف، وإسكان الراء المهملة، وبالشين المعجمة في آخره دابة عظيمة من دواب البحر، تمنع السفن من السير في البحر وتدفع السفينة، فتقلبها وتضربها فتكسرها. قال الزمخشري: سمعت بعض التجار بمكة، ونحن قعود عند باب بني شيبة، وهو يصف لي القرش، فقال: هو مدور الخلقة، وعظمه كما من مقامنا هذا إلى الكعبة. ومن شأنه أن يتعرض للسفن الكبار فلا يرده شيء إلا أن يأخذ أهلها المشاعل فيمر على وجهه مثل البرق، ولا يهاب شيئا إلا النار، وبه سميت قريش قريشا قال الشاعر: وقريش هي التي تسكن البحر ... بها سميت قريش قريشا تأكل الغثّ والسمين ولا تترك ... فيه لذي جناحين ريشا هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا الخموش الخدوش، وأكلا كميشا أي سريعا، وقال ابن سيده: قريش دابة في البحر لا تدع دابة إلا أكلتها. فجميع الدواب تخافها، ثم أنشد البيت الأول، وقال المطرزي: هي سيدة الدواب البحرية. وأشدها، وكذلك قريش سادات الناس، وحكى أبو الخطاب بن دحية، في تسمية قريش، وفي أول من تسمى به عشرين قولا. فائدة أجنبية : قريش بن مالك بن النضر بن كنانة جد النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي تنسب إليه قريش، ومن ولده بدر بن قريش الذي سميت به بدر بدرا وأم النضر برة بنت مر بن أد بن طابخة، تزوجها كنانة بعد موت أبيه خزيمة، فولدت له النضر على ما كانت الجاهلية تفعله، إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 مات الرجل خلفه على زوجته بعده أكبر بنيه من غيرها. كذا قاله السهيلي رحمه الله تعالى، تبعا للزبير بن بكار. قال: ولذلك قال الله عز وجل: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ «1» أي من تحليل ذلك قبل الإسلام. وفائدة الاستثناء هنا لئلا يعاب نسب النبي صلى الله عليه وسلم وليعلم أنه صلى الله عليه وسلم، لم يكن في أجداده نكاح سفاح. ألا ترى أنه لم يقل في شيء نهى عنه في القرآن نحو: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى «2» وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ «3» ولا في شيء من المعاصي التي نهى عنها، إلا ما قد سلف إلا في هذه الآية. وفي الجمع بين الأختين، فإن الجمع بينهما كان مباحا في شرع من قبلنا، وقد جمع يعقوب عليه الصلاة والسلام بين الأختين وهما راحيل وليا، فقوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ* «4» التفات إلى هذا المعنى. قال: وهذه النكتة من الإمام أبي بكر بن العربي، قال الحافظ قطب الدين عبد الكريم: ولما وقفت على هذا، أقمت مفكرا مدة لكون أن برة المذكورة كانت زوجا لخزيمة، فخلف عليها كنانة بن خزيمة، فجاء له منها النضر بن كنانة وإن هذا وقع في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء، إنما ولدت من نكاح كنكاح الإسلام» إلى أن رأيت أبا عثمان عمرو بن بحر الجاحظ قال، في كتاب له سماه بكتاب الأصنام: وخلف كنانة بن خزيمة على زوجة أبيه، بعد وفاته، وهي برة بنت أد بن طابخة، جد كنانة بن خزيمة، ولم تلد لكنانة ولدا ذكرا ولا أنثى، ولكن كانت ابنة أخيها برة بنت مرة بن أد بن طابخة تحت كنانة بن خزيمة، فولدت له النضر بن كنانة. قال: وإنما غلط كثير من الناس، لما سمعوا أن كنانة خلفه على زوجة أبيه لاتفاق اسمهما، وتقارب نسبهما، وهذا الذي عليه مشايخنا وأهل العلم والنسب. قال: ومعاذ الله أن يكون أصاب نسب النبي صلى الله عليه وسلم نكاح مقت، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «مازلت أخرج من نكاح كنكاح الإسلام حتى خرجت من بين أبي وأمي» . ثم قال: ومن اعتقد غير هذا فقد كفر وشك في هذا الخبر. قال: والحمد لله الذي نزهه عن كل وصم، وطهره تطهيرا انتهى. قلت: وهذا أرجو به الفوز للجاحظ في منقلبه، وأن يتجاوز الله عنه ما سطره في كتبه، وأشرت إلى ذلك في أول كتاب السير من المنظومة بقولي: محمد خير جميع الخلق ... جاء من الحقّ لنا بالحق دعوة ابراهيم الخليل ... بشارة المسيح في التنزيل الطيب الأصول والفروع ... الطاهر المحتد والينبوع «5» آباؤه قد طهرت أنسابا ... وشرفت بين الورى أحسابا نكاحهم مثل نكاح الاسلام ... كذا رواه النجباء الأعلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 ومن أبى أو شك في هذا كفر ... وذنبه بما جناه ما اغتفر نقل ذا الحافظ قطب الدين ... عن صاحب البيان والتبيين الحكم : أفتى شيخنا الشيخ جمال الدين الأسنوي «1» رحمه الله تعالى بحل أكل القرش، وبه صرح الشيخ محب الدين الطبري شارح التنبيه، في الكلام على التمساح، ثم استشكل به تحريم التمساح، وهذا يدل على أنه لا خلاف فيه. وفي نهاية ابن الأثير التصريح بحله، لكن قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه يأكل ولا يؤكل، ولعل مراده أنه يأكل الحيوانات البحرية، ولا يستطيع أحد منها أن يأكله. والقرش يوجد ببحر القلزم الذي غرق فيه فرعون، وهو عند عقبة الحاج، كما تقدم في باب السين المهملة، في الكلام على السقنقور، وإطلاق الجمهور ونص الإمام الشافعي والقرآن العزيز يدل على جواز أكل القرش، لأنه من السمك، ومما لا يعيش إلا في الماء. وقد ذكر النووي، في شرح المهذب، أن الصحيح أن كل ما في البحر حلال، ويحمل ما استثناه الأصحاب على ما يعيش في غير الماء. التعبير : رؤيته في المنام تدل على علو الهمة والشرف في النسب، فإنه يعلو ولا يعلى عليه والله تعالى أعلم. القرقس: بكسر القافين، البعوض، قال الأصحاب: يستحب قتل المؤذيات للمحرم وغيره، كالحية والعقرب والخنزير والكلب العقور والغراب والحدأة والذئب والأسد والنمر والدب والنسر والعقاب والبرغوث والبق والزنبور والقراد والحلمة والقرقس وما أشبهها. القرشام والقرشوم والقراشم: القراد الضخم. القرعبلانة: دويبة عريضة محبنطئة الظهر والبطن، وأصله قرعبل فزيدت فيه ثلاث أحرف، لأن الاسم لا يكون على أكثر من خمسة أحرف وتصغيره قريعبة قاله الجوهري. القرعوش: القراد الغليظ. القرقف: كهدهد طير صغير. القرقفنة: بالنون المشددة، كذا ضبطه في العباب، روى الدينوري في المجالسة، وابن الأثير، من حديث وهب، «إذا كان الرجل لا ينكر عمل السوء على أهله، طار طائر يقال له القرقفنة، فيقع على مشريق بابه، فيمكث هناك أربعين يوما، فإن أنكر طار وذهب، وإن لم ينكر مسح بجناحيه على عينيه فصار قندعا ديوثا، فلو رأى الرجال مع امرأته، لم ير ذلك قبيحا. فذلك القندع الديوث الذي لا ينظر الله تعالى إليه» . قال ابراهيم الحربي: مشريق الباب مدخل الشمس، والقندع الديوث الذليل الذي لا يغار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 ولا يفهم، وذكره الهروي بمعناه. القرلي: بضم القاف وكسرها وفتحها ملاعب ظله، وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الميم. قال الجواليقي: هو فارسي معرب، وقال الميداني: إنه طائر صغير الجرم، حديد البصر، سريع الاختطاف، لا يرى إلا فرقا على وجه الماء على جانب كطيران الحدأة، يهوي بإحدى عينيه إلى قعر الماء طمعا، ويرفع الأخرى إلى الهواء حذرا، فإن أبصر في الماء ما يستقل بحمله من السمك أو غيره، انقض عليه كالسهم المرسل، فأخرجه من قعر الماء، وإن أبصر في الهواء جارحا مر في الأرض، ومن أسجاع ابنة الخس: كن حذرا كالقرلى، إن رأى خيرا تدلى، أو رأى شرا تولى، وقال حمرة: قد خالف رواة النسب هذا التفسير، فقالوا: إن قرلى اسم رجل من العرب، كان لا يتخلف عن طعام أحد، ولا يترك موضع طعم إلا قصد إليه، وإن صادف في طريق قد سلكه خصومة، ترك ذلك الطريق ولم يمر به، فذلك قالوا فيه: «أطمع من قرلى» «1» فهذا ما حكاه النسابون، في تفسير هذا المثل، ثم قال: وأنا أقول: إنه خليق أن يكون هذا الرجل تشبه بهذا الطائر وتسمى باسمه قال الشاعر: يا من جفاني وملا ... نسيت أهلا وسهلا ومات مرحب لما ... رأيت ما لي قلا إني أظنك تحكى ... بما فعلت القرلى الحكم : يحل أكله لأنه من طير الماء. الأمثال : قالوا: «أخطف «2» وأطمع «3» من قرلى» و «أحذر «4» وأحزم «5» من قرلى» . القرمل: ولد البختى والقرامل الإبل ذوات السنامين. وفي الحديث: تردى قرمل لبعض الأنصار على رأسه في بئر فلم يقدروا على نحره فسألوه صلى الله عليه وسلم: فقال: «حرقوه ثم قطعوا أعضاءه» . وأما قولهم في المثل: «دليل عاذ بقرملة» فهي شجرة ضعيفة لا شوك لها. قال «6» جرير: كأنّ الفرزدق إذ يعوذ بخاله ... مثل الذليل يعود تحت القرمل يضرب لمن استعان بضعيف لا نصرة له، لأن القرملة شجرة على ساق لا تكن ولا تظل. القرميد: الأروية. القرمود: بفتح القاف ذكر الوعول حكاه ابن سيده. القرنبى: مقصور، دويبة طويلة الرجلين مثل الخنفساء، أو أعظم منها بيسير. وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 الميداني، في قولهم «ألزق من القرنبى» «1» : إنها الجعل، وقال في موضع آخر: مثل الخنفس منقطة الظهر طويلة القوائم. وفي أدب الكاتب أنها أكبر من الخنفساء، قال الأخطل يصف جارية وبعلها: ألا يا عباد الله قلبي متيم ... بأحسن من صلى وأقبحهم بعلا ينام إذا نامت على عكناتها ... ويلثم فاها كالسلافة أو أحلى يدبّ إلى أحشائها كلّ ليلة ... دبيب القرنبى بات يعلو نقا سهلا قال الجاحظ: إنها تقتات الروث وتطلبه كما يطلبه الجعل. الأمثال : قالوا: «القرنبى في عين أمها حسناء» «2» . وقالوا: «ألزق من قرنبى» لأن كل من بات بالصحراء، وكل من قام إلى الغائط تتبعه لأنها نوع من الجعل قال الشاعر: ولا أطرق الجارات بالليل قابعا ... قبوع القرنبى أخلفته مجاحره القره ب: كثعلب، الثور المسن، قاله الجوهري رحمه الله تعالى وغيره. القزر: بكسر القاف وبالزاي نوع من السباع، قال «3» الحطيئة، لما حبسه عمر رضي الله تعالى عنه: ماذا تقول لأفراخ بذي مرح ... خمص الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر عليك سلام الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... القى إليك مقاليد النّهى البشر لم يؤثروك بها إذ قدّموك لها ... لكن لأنفسهم كانت لها الأثر فامنن على صبية بالرمل مسكنهم ... بين الأباطح يغشاها بها القزر أهلي فداؤك كم بيني وبينهم ... من عرض دوية ما يفنى بها الخبر القرم: الفحل الكريم من الإبل الذي يترك من الركوب والعمل، ويودع القحة، والجمع قروم، والقرم من الرجال السيد العظيم، المجرب للأمور، وعلى المثل من ذلك قال الشاعر: إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم عطف صفة على صفة، لشيء واحد، كقولك: جاءني الظريف والعاقل، وأنت تريد شخصا واحدا، روى مسلم والنسائي وأبو داود، من حديث ابن شهاب، أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال: اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب وقالا: لو بعثنا هذين الغلامين عبد المطلب بن ربيعة والفضل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلماه فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدي الناس وأصابا مما أصاب الناس، فبينما هما في ذلك، إذ جاء علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فوقف عليهما فذكرا له ذلك، فقال: لا تفعلا، فو الله ما هو بفاعل. وألقى علي رداءه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 ثم اضطجع عليه وقال: أنا أبو حسن القرم، والله لا أبرح من مكاني حتى يرجع إليكما ابناكما، فلما رجعا قالا: ذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله أنت أبر الناس، وأوصل الناس، وقد بلغنا النكاح، وقد جئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات، فنؤدي إليك ما يؤدي الناس، ونصيب ما يصيبون. فسكت صلى الله عليه وسلم طويلا، ثم قال «1» : «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس، ادعوا محمئة بن جزء ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب» . قالا: فجاآه، فقال لمحمئة: «أنكح الفضل ابنتك» فأنكحه، وقال لنوفل بن الحارث: «أنكح عبد المطلب ابنتك» . فأنكحه. وقال لمحمئة: «أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا» . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الأخماس انتهى. ملخصا قوله أنا أبو حسن القرم، هو بتنوين حسن، والقرم مرفوع، قال ذلك لأجل الذي كان عنده من علم ذلك. وكان رضي الله تعالى عنه يقول هذه الكلمة عند الأخذ في بيان قضية تشكل على غيره، وهو يعرفها. ولذلك جرى كلامه هذا مجرى المثل، حتى قالوا: «قضية ولا أبا حسن لها» ، أي هذه قضية مشكلة وليس هناك من يبينها، كما كان يفعل أبو الحسن رضي الله تعالى عنه، الذي هو علي بن أبي طالب. القرة: بالضم الضفدعة قاله الجوهري رحمه الله تعالى. القسورة: الأسد، قال الله تعالى: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ «2» . روى البزار بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه قال: القسورة الأسد، قال الشاعر: مضمر يحذره الأبطال ... كأنه القسورة الرئبال وروى ابن طبرزذ، بإسناده إلى الحكم بن عبد الله بن خطاب عن الزهري عن أبي واقد، قال: لما نزل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الجابية، أتاه رجل من بني تغلب، يقال له روح بن حبيب بأسد في تابوت، حتى وضعه بين يديه، فقال رضي الله تعالى عنه: أكسرتم له نابا أو مخلبا؟ قالوا: لا. قال: الحمد لله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما صيد مصيد إلا بنقص في تسبيحه» . يا قسورة اعبد الله، ثم خلى سبيله. وقد تقدم في باب الغين المعجمة، أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مثل ذلك في الغراب. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في القسورة: هو بلسان العرب الأسد، وبلسان الحبشة القسورة، وبلسان فارس سير، وبلسان النبط أرنا. وقيل القسورة فعولة من القسر، وهو القهر، سمي الأسد بذلك لأنه يقهر السباع، وقال ابن جبير: القسورة رجال القنص، وقيل القسورة الرجال الشداد، وقال ثعلب: القسورة سواد أول الليل خاصة لا آخره، والمعنى فرت من ظلمة الليل ولا شيء أشد نفارا من حمر الوحش. واللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 القشعمان: كالعقربان والثعلبان، النسر، قال الشاعر: تركت أباك قد أطلى ومالت ... عليه القشعمان من النسور يقال أطلى الرجل أي مالت عنقه للموت أو لغيره. القشبة: القردة قاله الجوهري رحمه الله تعالى، وقال الأصمعي: هي الصغيرة من أولادها. الأمثال : قالوا: «أكيس من قشبة» «1» . يضرب مثلا للصغار خاصة. القصيرى: مقصورا مصغرا ضرب من الأفاعي. القط: السنور والأنثى قطة، والجمع قطاط وقططة. قال ابن دريد: لا أحسبها عربية صحيحة. قلت: وهو محجوج بقوله صلى الله عليه وسلم: «عرضت على جهنم فرأيت فيها المرأة الحميرية صاحبة القط الذي ربطته فلم تطعمه ولم تسرحه» . كذا رواه الربيع الجيزي فيمن ورد مصر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ولما اتصلت ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد بن معاوية بمعاوية، وكانت ذات جمال باهر، وحسن غامر، أعجب بها معاوية رضي الله تعالى عنه، وهيأ لها قصرا مشرفا على الغوطة، وزينه بأنواع الزخارف، ووضع فيه من أواني الفضة والذهب ما يضاهيه، ونقل إليه من الديباج الرومي الملون والموشى ما هو لائق به، ثم أسكنها، مع وصائف لها، كأمثال الحور العين، فلبست يوما أفخر ثيابها، وتزينت وتطيبت بما أعد لها، من الحلي والجوهر، الذي لا يوجد مثله، ثم جلست في روشنها، وحولها الوصائف، فنظرت إلى الغوطة وأشجارها، وسمعت تجاوب الطير في أوكارها، وشمت نسيم الأزهار وروائح الرياحين والنوار، فتذكرت نجدا، وحنت إلى أترابها وأناسها، وتذكرت مسقط رأسها، فبكت وتنهدت فقالت لها بعض حظاياها: ما يبكيك وأنت في ملك يضاهي ملك بلقيس؟ فتنفست الصعداء، ثم أنشدت: لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحبّ إلي من قصر منيف ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحبّ إلي من لبس الشفوف وأكل كسيرة في كسر بيتي ... أحبّ إلي من أكل الرغيف وأصوات الرياح بكل فجّ ... أحبّ إلي من نقر الدفوف وكلب ينبح الطراق دوني ... أحبّ إلي من قطّ ألوف وبكر يتبع الأظعان صعب ... أحبّ إلي من بغل زفوف وخرق من بني عمي نحيف ... أحبّ إلي من علج عنوف فلما دخل معاوية، عرفته الحظية بما قالت، وقيل: إنه سمعها، وهي تنشد ذلك، فقال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجا عنوفا، هي طالق ثلاثا، مروها فلتأخذ جميع ما في القصر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 فهو لها. ثم سيرها إلى أهلها بنجد. وكانت حاملا بيزيد فولدته بالبادية، وأرضعته سنتين ثم أخذه معاوية رضي الله تعالى عنه منها بعد ذلك. والأرواح جمع ريح قال ذو الرمة: إذا هبت الأرواح من نحو جانب ... به أهل حبي هاج قلبي هبوبها هوى تذرف العينان منه وإنما ... هوى كلّ نفس حيث حلّ حبيبها فقد أبدع وأحسن، فمن قال: هبت الأرياح فقد أخطأ ووهم، والصواب هبت الأرواح، كما قال ذو الرمة. وقد تقدم عن ميسون، والعلة في ذلك أن أصل ريح روح، لاشتقاقها من الروح. وروي هذا الخبر على غير هذا الوجه، فأوردته لتحصل منه الفائدة. وهو: قيل: لما اتصلت ميسون بنت بحدل بمعاوية، ونقلها من البدو إلى الشأم، كانت تكثر الحنين إلى أناسها، والتذكر لمسقط رأسها فاستمع عليها معاوية ذات يوم، وهي تنشد الأبيات المتقدمة، فلما سمع معاوية الأبيات، قال: ما رضيت ابنة بحدل حتى جعلتني علجا عنوفا، هي طالق. وحكى ابن خلكان وغيره، في ترجمة الإمام أبي الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، أنه كان يوما على سطح جامع مصر يأكل شيئا، وعنده بعض أصحابه، فحضرهم قط، فرموا له لقمة، فأخذها في فيه وغاب عنهم، ثم عاد إليهم فرموا له لقمة ثانية، فأخذها وذهب ثم عاد، فرموا له شيئا فأخذه وذهب ثم عاد، ففعل ذلك مرارا كثيرة، وهم يرمون له وهو يأخذ ويغيب ثم يعود من فوره، فتعجبوا منه فتبعوه فإذا هو يأخذ ذلك الطعام، ويدخل به إلى خربة، فيها شبه البيت الخراب، وفي سطح ذلك البيت قط أعمى، فإذا هو يضع الطعام بين يديه، فتعجبوا من ذلك. فقال الشيخ ابن بابشاذ: إذا كان هذا حيوانا أخرس، قد سخر الله له هذا القط، وهو يقوم بكفايته ولم يحرمه الرزق، فكيف يضيع مثلي؟ ثم قطع الشيخ علائقه، وترك خدمة السلطان ولزم بيته وترك جميع أشغاله توكلا على الله تعالى، إلى أن مات في شهر رجب سنة تسع وستين وأربعمائة. وبابشاذ كلمة أعجمية يتضمن معناها الفرح والسرور. وحكمه : تقدم بعضه في باب السين المهملة، في لفظ السنور، وسيأتي إن شاء الله تعالى، بعضه في باب الهاء، في لفظ الهر. وتعبيره : سيأتي إن شاء الله تعالى، أيضا في باب الهاء. القطا: طائر معروف، واحده قطاط، والجمع قطوات وقطيات، وممن ذكر أن القطا من الحمام الرافعي في كتاب الحج والأطعمة، ومن أهل اللغة ابن قتيبة، وأنشد قول «1» النابغة الذبياني: واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد قال الأصمعي: هذه زرقاء اليمامة نظرت إلى قطا. قال البطليوسي، في الشرح: وليس في بيت النابغة دليل على أنه أراد بالحمام القطا، وإنما علم ذلك بالخبر المروي عن زرقاء اليمامة، أنها نظرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 إلى قطا فقالت: يا ليت ذا القطا لنا ... ومثل نصفه معه إلى قطاة أهلنا ... إذا لنا قطا مائه قال: وقوله واحكم كحكم فتاة الحي، أي أصب في أمرك كإصابة فتاة الحي، فهو من الحكم الذي يراد به الحكمة لا من الحكم الذي يراد به القضاء، قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً «1» أي حكمة. قال: وكان الأصمعي يروي شراع بالشين المعجمة، يريد الذي شرع في الماء. وروى غيره سراع بالسين المهملة، والثمد الماء القليل انتهى. وكانت عدة الحمام الذي رأته ستا وستين فتمنت، أن يكون لها هذا الحمام، ومثل نصفه وهو ثلاثة وثلاثون، ومجموع ذلك تسع وتسعون، فإذا ضم إلى حمامتها كان مائة. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، في باب الحاء المهملة في الحمام. ويقال للقطاة: أم ثلاث، لأنها أكثر ما تبيض ثلاث بيضات قال الشاعر: وأمّ ثلاث إن شببن عققنها ... وإن متن كان الصبر منها على نصب يقول: إن شبّت فراخها فارقتها، فكان ذلك عقوقا لها، وإن متن لم تصبر إلا وهي حزينة قلقة. والنصب: التعب والبلاء، ويقال للقطا والحمام وأنواعها أمهات الجوازل، والجوازل فراخها الواحد جوزل قال «2» ذو الرمة: سوى ما أصاب الذئب منه وسربه ... أطافت به من أمهات الجوازل وقد تقدم قريب من هذا في باب الجيم. وسميت القطا بحكاية صوتها فإنها تقول ذلك، ولذلك تصفها العرب بالصدق، قال «3» الكميت في وصفها: لا تكذب القول إن قالت القطا صدقت ... إذ كلّ ذي نسبة لا بدّ ينتحل وأنشد أبو عمر بن عبد البر في التمهيد، قول «4» الشاعر. قال المبرد: وأظنه توبة بن الحمير: كأنّ القلب حين يقال يغدى ... بليلى العامرية أو يراح قطاة غرّها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح فلا في الليل نالت ما ترجى ... ولا في الصبح كان لها براح ثم قال: وقوله: غرها قد تصحف عليه، فقال: غرها من الغرور، وليس كذلك، إنما هو عزها أي غلبها، كما قالت العرب «من عز بز ومن غلب سلب» «5» . وغلق الجناح بالغين المعجمة من قولهم: لا يغلق الرهن على راهنه وقد تصحف بالعين المهملة انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 نكتة : ذكر الحريري في الدرة، أن ليلى الأخيلية، وهي المذكورة في الشعر كانت تتكلم بلغة بهراء، وذلك أنهم يكسرون حرف المضارعة، فيقولون أنت تعلم، وأنها استأذنت على عبد الملك بن مروان وبحضرته الشعبي، فقال له: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في أن أضحكك منها؟ فقال: افعل. فلما استقر بها المجلس، قال لها الشعبي: يا ليلى ما بال قومك لا يكتنون؟ فقالت له: ويحك أما نكتني؟ بكسر حرف المضارعة، فقال لها: لا والله، لو فعلت لاغتسلت! فخجلت من ذلك، واستغرق عبد الملك في الضحك. وفي غير رواية ابن هشام، في أبيات هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهم: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق مشى القطا النواتق كما ذكره الزبير بن بكار، وقاله السهيلي في الروض الأنف، والمراد بالطارق النجم تريد أن أبانا نجم في شرفه وعلوه، قال «1» الله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ يعني النجم يطرق ليلا ويخفى نهارا. قال الثعلبي: أنشد أبو القاسم الحسن بن محمد المفسر، قال: أنشدني أبو الحسن الكازروني، قال «2» : أنشدني ابن الرومي: يا راقد الليل مسرورا بأوله ... إنّ الحوادث قد تطرقن أسحارا لا تفرحن بليل طاب أوله ... فربّ آخر ليل أجج النارا ثم فسره تعالى بأنه النجم الثاقب أي المضيء. قال أبو زيد: كانت العرب تسمي الثريا النجم الثاقب، وقيل: هو زحل سمي به لارتفاعه، وروى ابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: الطارق نجم في السماء السابعة، لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء، هبط وكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، وهو زحل فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد، والنواتق الكثيرات الأولاد، كأنها ترمي بالأولاد رميا والنتق الرمي والنفض والحركة، والقطا نوعان: كدري وجوني، وزاد الجوهري نوعا ثالثا وهو الغطاط، فالكدري غبر اللون رقش البطون والظهور صفر الحلوق قصار الأذناب، وهي ألطف من الجونية، والجونية سود بطون الأجنحة والقوادم، وظهرها أغبر أرقط تعلوه صفرة، وهي أكبر من الكدري تعدل جونية بكدريتين، وإنما سميت الجونية لأنها لا تفصح بصوتها إذا صوتت، وإنما تغرغر بصوت في حلقها. والكدرية فصيحة تنادي باسمها. ولا تضع القطاة بيضها، إلا أفرادا، وفي طبعها أنها إذا أرادت الماء ارتفعت من أفاحيصها أسرابا لا متفرقة عند طلوع الفجر، فتقطع إلى حين طلوع الشمس مسيرة سبع مراحل، فحينئذ تقع على الماء، فتشرب نهلا، والنهل شرب الإبل والغنم أول مرة فإذا شربت، أقامت حول الماء متشاغلة، إلى مقدار ساعتين أو ثلاث ثم تعود إلى الماء ثانية، وهذا يبعد ما حكاه الواحدي المفسر في شرحه لديوان أبي الطيب المتنبي في قوله «3» : وإذا المكارم والصوارم والقنا ... وبنات أعوج كلّ شيء يجمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 إن أعوج فحل كريم كان لبني هلال بن عامر، وإنه قيل لصاحبه: ما رأيت من شدة عدوه؟ فقال: ضللت في بادية وأنا راكبه، فرأيت سرب قطا يقصد الماء، فتبعته وأنا أغض من لجامه، حتى توافينا الماء دفعة واحدة اهـ. قلت: وهذا أغرب شيء يكون، فإن القطا شديد الطيران، وإذا قصدت الماء اشتد طيرانها أكثر، ثم ما كفاه حتى قال: وأنا أغض من لجامه، ولولا ذلك لكان سبق القطا. وتوصف القطا بالهداية، والعرب تضرب بها المثل في ذلك، لأنها تبيض في القفر، وتسقي أولادها من البعد في الليل والنهار، فتجيء في الليلة المظلمة، وفي حواصلها الماء، فإذا صارت حيال أولادها، صاحت: قطا قطا فلم تخط بلا علم ولا إشارة ولا شجرة، فسبحان من هداها لذلك قال الشاعر: والناس أهدى في القبيح من القطا ... وأضلّ في الحسنى من الغربان وقال أبو زياد الكلابي: إن القطا تطلب الماء من مسيرة عشرين ليلة، وفوقها ودونها والجونية منها، تخرج إلى الماء قبل الكدرية قال «1» عنترة: وأنت التي كلفتني دلج السرى ... وجون القطا بالجلهتين جثوم «2» وقال «3» الشاعر في وصفها: أما القطاة فإني سوف أنعتها ... نعتا يوافق معنى بعض ما فيها سكاء مخضوبة في ريشها طرف ... سود قوادمها صهب خوافيها «4» وقال مزاحم «5» العقيلي في القطاة وفرخها: فلما دعته بالقطاة أجابها ... بمثل الذي قالت له لم تبدل «6» وأنشد «7» ياقوت في معجم البلدان لأبي العباس الصيمري: كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعوّاد قد يصاد القطا فينجو سليما ... ويحل القضاء بالصياد ذكر أنه كان بين أبي الفضل المعروف بابن القطا الشاعر المشهور بالبغدادي، وبين الحيص بيص التميمي الشاعر مناظرات، منها أنهما حضرا على سماط الوزير، فأخذ أبو الفضل قطاة مشوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وقدمها إلى الحيص بيص، فقال الحيص بيص للوزير: يا مولاي هذا الرجل يؤذيني، قال: كيف؟ قال: يشير إلى قول «1» الشاعر: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل المكارم ضلت أرى الليل يجلوه النهار ولا أرى ... جلال المخازي عن تميم تجلّت ولو أن برغوثا على ظهر قملة ... يكرّ على صفي تميم لولت ولأبي الفضل نوادر منها: أنه قعد يوما يأكل مع زوجته طعاما فقال لها: اكشفي رأسك. ففعلت، فقرأ سورة الإخلاص، فقالت: ما الخبر؟ فقال: إذا كشفت المرأة رأسها لم تحضر الملائكة، وإذا قرئت سورة الإخلاص هربت الشياطين، وأنا أكره الزحمة على المائدة. فائدة : العرب تصف القطا بحسن المشي لتقارب خطاها، ومشيها يشبه مشي النساء الخفرات بمشيتهن. ومن أحسن ما رأيت في ذلك قول هند بنت عتبة يوم أحد في غير رواية ابن هشام: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق مشي القطا النواتق إلى آخر الرجز كما رواه الزبير بن بكار كما سبق. قال السهيلي، في الروض: يقال: إنهال تمثلت بهذا الرجز وإنه لهند بنت طارق بن فياض الأودية، قالته في حرب الفرس لإياد، فعلى هذا يكون إنشاده بنات طارق بالنصب على الاختصاص. كما قال: نحن بني ضبة أصحاب الجمل. وإن كانت أرادت النجم، فبنات مرفوع لأنه خبر مبتدأ، أي نحن شريفات رفيعات كالنجوم. قال: وهذا التأويل عندي بعيد لأن طارقا وصف للنجم لطروقه، فلو أرادته لقالت: نحن بنات الطارق. إلا أني رأيت الزبير بن بكار قال، في كتاب أنساب قريش: حدثني يحيى بن عبد الملك الهرمزي، قال: جلست ليلة وراء الضحاك «2» بن عثمان الجذامي، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا متقنع، فذكر الضحاك وأصحابه قول هند يوم أحد نحن بنات طارق، ثم قالوا: ما طارق؟ فقلت: النجم فالتفت الضحاك وقال: يا أبا زكريا كيف ذلك؟ فقلت: قال الله تعالى: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ، وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ «3» كأنها قالت: نحن بنات النجم، فقال: أحسنت انتهى. ومرادها بالقطا النواتق الكثيرات الأولاد، قال الجوهري: نتقت المرأة إذا كثر ولدها، فهي ناتق ومنتاق. ومن هذا الحديث الذي رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها، وأنتق أرحاما وأرضى باليسير» «4» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 وحكمها : حل الأكل بالإجماع، وعد الرافعي والأصحاب، في كتاب الحج، القطا من الحمام فأوجبوا على المحرم إذا قتل الواحدة، شاة وإن كان لا مثل لها من النعم. قال الشيخ محب الدين الطبري: وكذلك عدها من الحمام الجوهري والمشهور خلافه. الأمثال : قالوا: «أنسب من قطاة» «1» . وهو من النسبة، وذلك أنها إذا صوتت فإنها تنتسب، لأنها تصوت باسم نفسها فتقول: قطا قطا. وقالوا: «أصدق من القطاة» «2» و «أقصر من إبهام القطاة» . وقالوا: «لو ترك القطا ليلا لنام» «3» . وسبّبه أن عمرو بن امامة نزل على قوم من مراد فطرقوه ليلا فأثاروا القطا من أماكنها فرأتها امرأة طائرة، فنبهت زوجها فقال: إنما هذه القطا، فقالت: «لو ترك القطا ليلا لنام» . يضرب لمن حمل على مكروه من غير إرادته. وقيل: قالته امرأة يقال لها حذام لما رأت القطا طار ليلا قالت: ألا يا قومنا ارتحلوا وسيروا ... فلو ترك القطا ليلا لنام فلم يلتفتوا إلى قولها وأخلدوا إلى مضاجعهم. فقام فيهم رجل وقال «4» : إذا قالت حذام فصدّقوها ... فإن القول ما قالت حذام فنفر القوم وارتحلوا والتجؤوا إلى واد قريب منهم، فاعتصموا به حتى أصبحوا وامتنعوا من عدوهم. يضرب هذا البيت لمن ظهر منه الصدق. وحذام مبني على الكسر مثل أمس. وقالوا: «بيض القطا يحضنه الأجدل» «5» وقد تقدم. وقالوا «6» : «ليس قطا مثل قطى» ، أي ليس الأكابر مثل الأصاغر. الخواص : إذا أحرقت عظام القطا، وأخذ من رمادها وأغلي بالزيت الحار، وطلي به رأس الأقرع وموضع داء الثعلب أنبت الشعر. وقال ابن زهر: إنه جربه. ولحمها عسر الهضم رديء الغذاء، وإذا أخذ رأسها ويبس وصرفي خرقة كتان جديدة، وعلق على فخذ امرأة وهي نائمة أخبرت بجميع ما في نفسها، وبما فعلته فإن خلطت في الكلام فارم به عنها، لئلا تتوسوس، وإذا شق بطن قطاتين ذكر وأنثى وطبخ بطنهما وأخذ دسمهما وجعل في قارورة ودهن به إنسان، وهو لا يعلم أحب الداهن حبا شديدا. خاتمة : روى ابن حبان وغيره من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه، وابن ماجه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «7» : «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة، بنى الله تعالى له في الجنة بيتا» . وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «8» : «من بنى لله مسجدا، بنى الله له بيتا في الجنة مثله» . مفحص القطاة بفتح الميم موضعها الذي تجثم فيه، وتبيض كأنها تفحص عنه التراب، أي تكشفه، والفحص البحث والكشف، وخصصت القطاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 بهذا لأنها لا تبيض في شجر ولا على رأس جبل، إنما تجعل مجثمها على بسيط الأرض دون سائر الطيور، فلذلك شبه به المسجد، ولأنها توصف بالصدق كما تقدم. فكأنه أشار بذلك إلى الإخلاص في بنائه، كما قال سيدي الشيخ، العارف بالله تعالى، أبو الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى: خالص العبودية الاندماج في طي الاحكام من غير شهوة ولا إرادة، وهذا شأن هذا الطائر. وقيل: إنما شبه بذلك لأن أفحوصها يشبه محراب المسجد في استدراته وتكوينه، وقيل: خرج ذلك مخرج الترغيب بالقليل عن الكثير، كما خرج التحذير بالقليل عن الكثير قوله «1» صلى الله عليه وسلم: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» . ولأن الشارع يضرب المثل في الشيء بما لا يكاد يقع كقوله صلى الله عليه وسلم: «ولو سرقت فاطمة بنت محمد» . وهي رضوان الله عليها لا يتوهم منها سرقة. وكقوله «2» صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا ولو عبدا حبشيا» . يعني فأطيعوه، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال «3» : «الأئمة من قريش» . وقيل: المراد طاعة من ولاه الإمام عليكم وإن كان عبدا حبشيا. التعبير : القطا في المنام يدل على الصدق والفصاحة والألفة والأنس، وربما دلت القطاة على امرأة معجبة بنفسها، وهي ذات جمال غير الفة والله تعالى أعلم. القطا: بتشديد الطاء، قال القزويني: سمكة عظيمة ذكروا أن عظم ضلعها يتخذ منه قنطرة يعبر الناس عليها وشحمه إذا طلي به البرص يزول. القطامي: الصقر تضم قافه وتفتح وهو من أعظم الطيور التي يصاد بها وهو عزيز الوجود. قطرب: طائر يجول الليل كله لا ينام، وقالو: «أجول من قطرب» «4» و «أسهر «5» من قطرب» . وقطرب لقب محمد بن المستنير النحوي صاحب المثلث وغيره، كان من أهل العربية، وكان حريصا على الاشتغال والتعلم، فكان يبكر إلى سيبويه قبل حضور أحد من التلامذة، فقال له يوما: ما أنت إلا قطرب ليل! فبقي عليه هذا اللقب. توفي سنة ست ومائتين. والقطرب والقطروب، قال ابن سيده: إنه الذكر من السعالي، وقيل: هما صغار الجن، وقيل: القطارب صغار الكلاب واحدها قطرب، والقطرب دويبة لا تستريح نهارها سعيا. وقال الإمام محمد بن ظفر: القطرب حيوان يكون بالصعيد من أرض مصر، يظهر للمنفرد من الناس، فربما صده عن نفسه إذا كان شجاعا، وإلا لم ينته حتى ينكحه، فإذا نكحه هلك. وهم إذا رأوا من ظهر له القطرب قالوا: أمنكوح أم مروع؟ فإن قال: منكوح أيسوا من حياته، وإن قال: مروع عالجوه. قال: وقد رأيت أهل مصر يلهجون بذكره انتهى. والقطرب الفأر والذئب الأمعط والسفيه ونوع من الماليخوليا وفي الحديث «لا يلقين أحدكم جيفة ليل قطرب نهار» . وهذا من كلام ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. رواه عنه آدم بن أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 إياس العسقلاني في كتاب الثواب، موقوفا عليه. وقيل: مرفوعا وقالوا في معناه: إن القطرب لا يستريح في النهار، والمراد لا ينامن أحدكم الليل كله كأنه جيفة، ثم يكون بالنهار كأنه قطرب، لكثرة جولانه وطوفانه في أمر دنياه، فإذا أمسى، كان كالا تعبا، فينام ليله كله حتى يصبح كالجيفة لا يتحرك. القشعبان: كمهرجان دويبة كالخنفساء قاله في العباب. القعود: من الإبل ما اتخذه الراعي للركوب وحمل الزاد، والجمع أقعدة وقعد وقعدان وقعائد، وقيل: القعود القلوص، وقيل البكر قبل أن يثني ثم هو جمل والقعود الفصيل. القعيد: بفتح القاف الجراد الذي لم يستو جناحاه، والقعيد من الوحش الذي يأتيك من ورائك وهو خلاف النطيح. القعقع: كفلفل طائر أبلق ضخم من طير الماء طويل المنقار قاله الجوهري رحمه الله تعالى. زاد ابن سيده: وفيه بياض وسواد. القلو: بالكسر الحمار الخفيف في السير. القلقاني: طائر كالفاختة. قاله الجوهري وغيره. القلوص: من النوق الشابة، وهي بمنزلة الجارية من النساء، وجمعها قلص وقلائص مثل قدوم وقدائم قال الراجز: متى تقول القلص الرواسما ... يحملن أم قاسم وقاسما نصب القلص كما ينصب بالظن وهي لغة سليم ومنه قول عمر بن أبي ربيعة «1» : أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا «2» وقال العدوي: القلوص أول ما يركب من إناث الإبل إلى أن تثني، فإذا أثنت فهي ناقة وقد تقدم في باب العين المهملة في الكلام على العير قول «3» سالم بن دارة «4» : لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار روى ابن المبارك، في الزهد والرقائق، عن القاسم مولى معاوية، قال: أقبل أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على قلوص له صعب، فسلم فجعل كلما دنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله: نفر به القلوص، وجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحكون، ففعل ذلك ثلاث مرات، ثم وقصه فقتله. فقيل: يا رسول الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 إن الأعرابي قتله قلوصه، حين صرعه. فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم وأفواهكم ملأى من دمه» . كذا رواه ابن المبارك مرسلا، وهو في الإحياء في الآفة العاشرة من آفات اللسان. وفي سنن أبي داوود عن اسحاق بن عبد الله بن الحارث مرسلا، أن النبي صلى الله عليه وسلم «اشترى ببضعة وعشرين قلوصا حلة فأهداها إلى ذي يزن» «1» . وفي كامل ابن عدي، في ترجمة عمارة بن زادان الصيدلاني، عن ثابت عن أنس بن مالك أن ذا يزن أهدى النبي صلى الله عليه وسلم حلة، قومت بعشرين بعيرا، فلبسها صلى الله عليه وسلم ثم كساها عمر رضي الله تعالى عنه، ثم قال: «إياك أن تخدع عنها» . وروى الحاكم عن أبي الزبير عن جابر، قال: «استأجرت خديجة رضي الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرتين إلى جرش، كل سفرة بقلوص» . ثم قال: صحيح الإسناد. والمعروف من ذلك ما في طبقات ابن سعد. قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة، قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد علينا الزمان، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشأم، وخديجة بنت خوليد تبعث رجالا من قومك في عيرها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها، لأسرعت إليك. وبلغ ذلك خديجة، فأرسلت إليه صلى الله عليه وسلم وقالت: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك. وفي رواية أن أبا طالب أتاها، فقال لها: هل لك أن تستأجرى محمدا، فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربع بكرات؟ فقالت خديجة رضي الله عنها: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألت لحبيب قريب! فقال أبو طالب: هذا رزق ساقه الله إليك. فخرج صلى الله عليه وسلم مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدموا بصرى من الشأم، فنزلا في ظل شجرة فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي. قال السهيلي: يريد ما نزل تحتها هذه الساعة إلا نبي، ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي، لبعد العهد بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين قبل ذلك. والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل إلا أن تصح رواية من قال في هذا الحديث: لم ينزل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. فتكون الشجرة على هذا مخصوصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وذكر أبو عمر بن عبد البر أن نسطورا رآه، وقد أظلته غمامة، فقال: هذا نبي، وهو آخر الأنبياء. ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاح، فقال: احلف باللات والعزى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حلفت بهما قط وإني لأمر بهما فأعرض عنهما» . فقال الرجل: القول قولك. وكان ميسرة، إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشمس! وكان الله تعالى قد ألقى عليه المحبة من ميسرة رضي الله عنه، فكان كأنه عبد له، وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر خديجة رضي الله تعالى عنها بالربح، ثم قدم ميسرة رضي الله عنه فأخبرها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 بذلك، وبما شاهده من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما قاله الراهب. فأضعفت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمت له. وقد تقدم للقلوص ذكر في لفظ الفلو في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يربي الصدقة للمتصدق كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه» «1» . والقلوص أيضا الأنثى من النعام. القليب: كالسكين، الذئب وكذلك القلوب كالخنوص قال الشاعر: أيا أمنا أبكى على أمّ واهب ... أكيلة قلّوب بإحدى المذانب القمري: طائر مشهور، كنيته أبو زكرى وأبو طلحة، وهو حسن الصوت والأنثى قمرية والذكر ساق حر، والجمع قماري غير مصروف. قال ابن السمعاني في الأنساب: القمرة بلدة تشبه الجص لبياضها وأظنها بمصر، منها الحجاج بن سليمان بن أفلح القمري مصري روى عن مالك بن أنس والليث بن سعد وغيرهما، مات فجأة سنة ثمان وتسعين ومائة. وروى عنه محمد بن سلمة المرادي وغيره. قال: والقمري طائر منسوب إلى هذه البلدة. هكذا ذكره صاحب المجمل. وقال ابن سيده: القمري طائر صغير من الحمام والأنثى قمرية وجمعها قماري وقمر. انتهى. وكان عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، لما طلق زوجته عاتكة بنت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ينشد «2» : أعاتك لا أنساك ما ذرّ شارق ... وما ناح قمري الحمام المطوق ولم أر مثلي طلق اليوم مثلها ... ولا مثلها من غير جرم يطلق أعاتك قلبي كلّ يوم وليلة ... إليك بما تخفي النفوس معلق لها خلق جزل ورأي ومنصب ... وخلق سوي في الحياة ومنطق فرق له أبوه وأمره أن يراجعها. والقصة في ذلك حسنة طويلة جدا، مذكورة في الاستيعاب والتمهيد وغيرهما. وقال القزويني: إذا ماتت ذكور القماري لم تتزاوج إناثها بعدها، وتنوح عليها إلى أن تموت، ومن العجب أن بيض القماري يجعل تحت الفواخت، وبيض الفواخت تحت القماري. وذكر أن الهوام تهرب من صوت القماري. روى أبو المظفر بن السمعاني عن والده، قال: أنشدنا سعيد بن المبارك النحوي لنفسه: أرى الفضل منّاح التأخر أهله ... وجهل الفتى يسعى له في التقدم كذاك أرى الخفاش ينجيه قبحه ... ويحتبس القمري حسن الترنم فائدة : كان الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه جالسا بين يدي الإمام مالك بن أنس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 رضي الله تعالى عنه، فجاء رجل فقال لمالك: إني رجل أبيع القماري، وإني بعت في يومي هذا قمريا فرده علي المشتري، وقال: قمريك لا يصيح، فحلفت له بالطلاق أنه لا يهدأ من الصياح، فقال له الإمام مالك: طلقت زوجتك ولا سبيل لك عليها! وكان الإمام الشافعي يومئذ ابن أربع عشرة سنة، فقال لذلك الرجل: أيما أكثر: صياح قمريك أم سكوته؟ فقال: لا بل صياحه، فقال: لا طلاق عليك. فعلم بذلك الإمام مالك، فقال: يا غلام من أين لك هذا؟ فقال: لأنك حدثتني عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة أن فاطمة بنت قيس قالت: يا رسول الله إن أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال «1» صلى الله عليه وسلم: «أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه» . وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا جهم كان يأكل وينام ويستريح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يضع عصاه» على المجاز، والعرب تجعل أغلب الفعلين كمداومته، ولما كان صياح قمري هذا أكثر من سكوته، جعلته كصياحه دائما. فتعجب الإمام رضي الله تعالى عنه من احتجاجه، وقال له: أفت فقد آن لك أن تفتي فأفتى من ذلك السن. غريبة : ذكر ابن خلكان وابن الأثير، في تاريخهما، أن بعض الملوك بقلاع الهند، أهدى للسلطان محمود بن سبكتكين «2» هدايا كثيرة من جملتها طائر على هيئة القمري، من خاصيته أنه إذا حضر الطعام وفيه سم دمعت عيناه وجرى منهما ماء وتحجر، فإذا حك ووضع على الجراحات الواسعة يختمها. ذكر ذلك ابن الأثير في حوادث سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وذكره ابن خلكان، في ترجمة السلطان المذكور. ثم ذكر ابن خلكان في ترجمته، عن إمام الحرمين عبد الملك بن الشيخ أبي محمد عبد الله الجويني «3» ، أن السلطان المذكور كان حنفي المذهب، وكان مولعا بعلم الحديث، وكان يسمع عنده الحديث، وكان يسأل عن معناه، فيجد أكثره موافقا لمذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فجمع فقهاء المذهبين، والتمس منهما الكلام في ترجيح أحد المذهبين، فوقع الاتفاق على أن يصلى بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي، ثم على مذهب الإمام أبي حنيفة ركعتان، فنيظر السلطان إلى ذلك، ويختار الأحسن. فصلى القفال المروزي «4» بطهارة سابغة، وشرائط معتبرة من الطهارة، والسترة، واستقبال القبلة، وأتى بالأركان والهيآت، والسنن والأبعاض والآداب، على وجه الكمال، وكانت صلاة لا يجوز الشافعي دونها. ثم صلى ركعتين على ما يجوز أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، فلبس جلد كلب كان مدبوغا، ولطخ بعضه بالنجاسة، وتوضأ بنبيذ التمر، وكان ذلك في صميم الصيف، فاجتمع عليه الذباب والبعوض وكان وضوؤه منكسا منعكسا، ثم استقبل القبلة، وأحرم بالصلاة من غير نية في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 الوضوء، وكبر بالفارسية، ثم قرأ بها دو برك سبز ثم نقر كنقرات الديك، من غير فصل بينها، ومن غير طمأنينة، وتشهد وضرط في آخرهما، وخرج من غير نية السلام، وقال: أيها السلطان هذه صلاة أبي حنيفة! فقال السلطان: لو لم تكن هذه صلاة أبي حنيفة لقتلتك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذو دين، فأنكرت الحنفية أن تكون هذه الصلاة جائزة عند أبي حنيفة، فطلب القفال كتب أبي حنيفة، فأمر السلطان بإحضارها، وأمر نصرانيا أن يقرأ كتب المذهبين جميعا، فوجدت الصلاة التي صلاها القفال جائزة عند أبي حنيفة، فأعرض السلطان عن مذهب أبي حنيفة، وتمسك بمذهب الشافعي رضي الله عنهما. وتوفي السلطان بغزنة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. وتفسير دو برك سبز ورقتان خضراوتان، وهو معنى قوله «1» تعالى: مُدْهامَّتانِ قلت: وقد ذكر أنه أتى بالسنن والأبعاض والآداب والهيآت، فقوله: لا يجوز الشافعي دونها غير مستقيم، والمشهور أنه أتى بما لا تصح الصلاة إلا به. وحكمه : حل الأكل بالإجماع، كالحمام لأنه نوع منه كما تقدم. التعبير : القمرية في المنام امرأة دينة، وقيل: القمري رجل قارىء لقصائد الشعر طيب الحنجرة. وقالت اليهود: من رأى قمريا أو بلبلا، أو ما أشبه ذلك، نال خيرا، وإن كان له مسافر قدم عليه، وإن كان في غم فرج الله تعالى عنه، وإن كانت له حاجة بعيدة قربت، ومن رأى هذه الأشياء، في زمن الربيع، قضيت حاجته، وإن رآها في غير زمن الربيع تأخرت حاجته إلى زمن الربيع. وتدل رؤيتها للحامل، على وضع ذكر. والله تعالى أعلم. القمعة: بالتحريك ذباب يركب الإبل والظباء إذا اشتد الحر، يقال: الحمار يقمع أي يحرك رأسه. وقال الجاحظ: هو ضرب من ذباب الكلاب، قال في الكفاية: القمع ذباب أزرق عظيم. القمعوط والقمعوطة: دويبة حكاه ابن سيده. القمل: معروف واحدته قملة. ويقال لها أيضا قمال. قاله ابن سيده، والقمل جمع قملة، وقد قمل رأسه قملا، وكنية القملة أم عقبة، وأم طلحة ويقال للذكر أبو عقبة، والجمع بنات عقبة وبنات الدروز والدروز الخياطة، سميت بذلك لملازمتها إياها. وقملة الزرع دويبة تطير كالجراد في خلقة الحلم، وجمعها قمل، قاله الجوهري. والقمل المعروف يتولد من العرق والوسخ إذا أصاب ثوبا أو بدنا أو ريشا أو شعرا، حتى يصير المكان عفنا، وقال الجاحظ: ربما كان الإنسان قمل الطباع، وإن تنظف وتعطر وبدل الثياب، كما عرض لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه، حتى استأذنا «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم في لبس الحرير، «فأذن لهما فيه» ولولا أنهما كانا في حد الضرورة، لما أذن لهما فيه، مع ما قد جاء في ذلك من التشديد. فلما كان في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه رأى على بعض بني المغيرة من أخواله قميص حرير، فعلاه بالدرة فقال المغيري: أو ليس عبد الرحمن بن عوف لبس الحرير؟ قال عمر رضي الله تعالى عنه: وأنت مثل عبد الرحمن بن عوف لا أم لك؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 قال: ومن طبع القمل أنه يكون في شعر الرأس الأحمر أحمر، وفي الشعر الأسود أسود، وفي الشعر الأبيض أبيض، ومتى تغير الشعر تغير إلى لونه. قال: وهو من الحيوان الذي إناثه أكبر من ذكوره، وقيل: إن ذكوره الصيبان، وقيل: الصيبان بيضه، كما تقدم في باب الصاد المهملة. روى «1» الحاكم، في أوائل المستدرك، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، أنه قال: يا رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قال صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء» . قال: ثم من؟ قال عليه الصلاة والسلام: «العلماء» . قال: ثم من؟ قال عليه الصلاة والسلام: «الصالحون كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى لا يجد إلا العباءة يلبسها، ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاء» . ثم قال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. والقمل يسرع إلى الدجاج والحمام ويعرض للقردة. وأما قملة النسر، فهي التي تكون في بلاد الجبل، وتسمى بالفارسية دره، وهي إذا عضت قتلت، وهي أعظم من القمل، وإنما سميت قملة النسر لأنها تخرج منه. فائدة : اختلف العلماء في القمل المرسل على بني إسرائيل، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو السوس الذي يخرج من الحنطة. وقال مجاهد والسدي والكلبي رضي الله تعالى عنهم: هو الجراد الطيار الذي له أجنحة. وقيل: الدبا، وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له. وقال عكرمة رضي الله تعالى عنه: بنات الجراد، وقال أبو عبيد: هو الحمنان، وهو ضرب من القراد. وقال أبو زيد: البراغيث. وقال الحسن وسعيد بن جبير: دواب سود صغار. وقال عطاء الخراساني رضي الله تعالى عنه: هو القمل المعروف باسكان الميم. روي أن موسى عليه الصلاة والسلام، مشى بعصاه إلى كثيب أعفر مهيل بقرية من قرى مصر تدعى عين شمس، فضربه بعصاه، فانتشر كله قملا في مصر، فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ونباتهم، فأكله ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيعضه، وكان أحدهم يأكل الطعام، فيمتلىء قملا، فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من ذلك القمل، فإنه أخذ بشعورهم وأبشارهم، وأشفار عيونهم وحواجبهم، ولزم عيونهم وجلودهم، كأنه الجدري فمنعهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا إلى موسى عليه السلام: إنا نتوب فادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء، فدعا لهم موسى عليه السلام، فرفع الله القمل عنهم بعدما أقام عليهم سبعة أيام، من السبت إلى السبت. والقمل هو أحد الآيات الخمس، قال «2» الله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ يتبع بعضها بعضا وتفصيلها أن كل عذاب يمتد أسبوعا، وبين كل عذابين شهر. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن اسحاق رضي الله تعالى عنهم، في تفسير هذه الآية: لما آمنت السحرة، ورجع فرعون مغلوبا، أبى هو وقومه إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر، فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 فلما أتاهم موسى بالآيات الأربع: اليد والعصا والسنين ونقص الثمرات، أبوا أن يؤمنوا وأصروا على كفرهم. فدعا عليهم موسى عليه الصلاة والسلام فقال: رب إن عبدك فرعون علا في الأرض وبغا وعتا، وإن قومه قد نقضوا عهدك، رب فخذهم بعقوبة تجعلها لهم ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية وعبرة، فبعث الله عليهم الطوفان، وهو الماء أرسل الله عليهم السماء، وكانت بيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة ومختلطة، فامتلأت بيوت القبط، حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم، من جلس منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة. وركد الماء على أراضيهم، لا يقدرون على حرث ولا غيره من الأعمال أسبوعا من السبت إلى السبت، وقال مجاهد وعطاء رضي الله تعالى عنهما: الطوفان الموت. وقال وهب: الطوفان الطاعون بلغة اليمن، وقال أبو قلابة: الطوفان الجدري، وهو أول ما عذب به، فبقي في الأرض. قال نحاة الكوفة: الطوفان مصدر لا يجمع كالرجحان والنقصان، وقال أهل البصرة: هو جمع واحده طوفانة. فقالوا لموسى عليه السلام: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا البلاء، فلئن كشف عنا هذا البلاء، لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل، فدعا ربه فرفع عنهم الطوفان، وأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته لهم قبل ذلك من الكلأ والزرع والثمر، وأخصبت بلادهم، فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا وخصبا، فلم يؤمنوا وأقاموا شهرا في عافية. فبعث الله تعالى عليهم الجراد، فأكل عامة زرعهم وثمارهم وأوراق الشجر، حتى أكل الأبواب وسقوف البيوت، والخشب والثيات والأمتعة، ومسامير الأبواب من الحديد، حتى وقعت دورهم، وابتلوا بالجوع، فكانوا لا يشبعون، ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء، فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام، وسألوه رفع ذلك عنهم، فدعا له فكشف الله عنهم الجراد، بعدما أقام أسبوعا من السبت إلى السبت. روي أن موسى عليه السلام برز إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت الجراد من حيث جاءت. فأقاموا مصرين على كفرهم شهرا في عافية، ثم بعث الله تعالى عليهم القمل، وقد تقدم ذكره، فعجوا وضجوا، وسألوا رفع ذلك عنهم، وقالوا: إنا نتوب، فدعا موسى عليه الصلاة والسلام ربه أن يرفع ذلك القمل فرفع الله تعالى عنهم القمل بعدما أقام عليهم أسبوعا، من السبت إلى السبت، فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم، فأقاموا شهرا في عافية، فبعث الله عليهم الضفادع، فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم، وكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم، وأطعمتهم وآنيتهم، فلا يكشف أحد منهم طعاما ولا إناء إلا وجد فيه الضفادع، وكان الرجل يجلس في الضفادع إلى ذقنه، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه. وكانت تلقي نفسها في القدر وهي تغلي، فتفسد طعامهم، وتطفىء نيرانهم، ولا يعجنون عجينا إلا انشدخت فيه، وإذا اضطجع أحدهم تركبه الضفادع، حتى تكون عليه ركاما، حتى لا يستطيع أن ينصرف إلى شقه الآخر. فلقوا منها أذى شديدا، فضجوا وصرخوا، وصاحوا وسألوا موسى عليه السلام، فقالوا: ادع لنا ربك يكشفها عنا، فدعا ربه فرفع الله تعالى عنهم الضفادع، بعدما أقامت عليهم أسبوعا من السبت إلى السبت، فأقاموا شهرا في عافية، ثم نقضوا العهود وعادوا لكفرهم، فأرسل الله تعالى عليهم الدم، فسال النيل عليهم دما، وصارت مياههم دما، فما يستقون من الآبار إلا دما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 عبيطا أحمر، فشكوا إلى فرعون، فقالوا: ليس لنا شراب، فقال: إنه قد سحركم. وكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي على الإناء الواحد، فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء، وما يلي القبطي دما، حتى كانت المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل، حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك، فتصب لها من قربتها فيعود في الإناء دما، حتى كانت تقول: اجعليه في فيك ثم مجيه في فمي، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجته في فيها صار دما، وإن فرعون اعتراه العطش حتى إنه اضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة، فإذا مضغها، يصير ماؤها في فيه ملحا أجاجا، فمكثوا كذلك أسبوعا من السبت إلى السبت لا يشربون إلا الدم. وقال زيد بن أسلم: الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف فأتوا موسى عليه السلام، وقالوا: ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك، ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا لهم فرفع عنهم الدم، فلم يؤمنوا. فذلك قوله «1» قوله عز وجل: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ وهو ما ذكره الله من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. وقال ابن جبير: الرجز الطاعون، وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس حتى مات منهم سبعون ألفا في يوم واحد. روينا عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، أنه سمع أباه يسأل أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون شيئا؟ فقال أسامة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «2» : «الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض قوم فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» . فسألوا موسى عليه السلام فدعا ربه فكشفه عنهم، فتمادوا في كفرهم وطغيانهم إلى أن أغرق الله تعالى فرعون وملأه في اليم وقد تقدم ذكر غرقه، في باب الحاء المهملة، في لفظ الحصان. قال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر: كان ملك فرعون أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة، لا يرى مكروها، ولو حصل له في تلك المدة جوع يوم، أو حمى ليلة، أو وجع ساعة، لما ادعى الربوبية قط. وقد ظفرت بهذه القصة مختصرة، فأوردتها عقب هذا، لتحصل الفائدة، وهو أن موسى عليه السلام مشى بعصاه إلى كثيب أعفر مهيل، فضربه فانتشر كله قملا في مصر، ثم إنهم قالوا: ادع لنا ربك في كشف هذا عنا فدعا فكشف عنهم، فرجعوا إلى طغيانهم، فبعث الله عليهم الضفادع، فكانت تدخل في فرشهم وبين ثيابهم، وإذا هم الرجل أن يتكلم دخلت الضفادع في فيه وتلقي نفسها في القدر، وهي تغلي. فقالوا: ادع لنا ربك يكشفها فكشف عنهم، فرجعوا إلى كفرهم، فبعث الله تعالى عليهم الدم، فرجع ماؤهم الذي كانوا يشربونه دما، فكان الرجل منهم إذا استقى من البئر وارتفع إليه الدلو عاد دما. وقيل: سلط الله تعالى عليهم الرعاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 فائدة أخرى : «نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تقصع القملة بالنواة» أي تقتل، والقصع الدلك بالظفر وإنما خص النوى لأنهم كانوا يأكلونه عند الضرورة، وقيل: لأن النواة كانت مخلوقة من فضلة طينة آدم عليه الصلاة والسلام. وفي الحديث: «أكرموا النخلة فإنها عمتكم» . وفي حديث آخر «نعمت العمة لكم النخلة» . وقيل: لأن النوى قوت الدواب، وقال الجوهري في الحديث: إنه نهى عن قصع الرطبة، وهو عصرها لتقشر. الحكم : يحرم أكل القمل بالإجماع، وإذا ظهر على بدن المحرم أو ثيابه لم يكره له تنحيته، فإن قتله لم يلزمه شيء لكن يكره أن يفلي رأسه أو لحيته، فإن فعل وأخرج منهما قملة فقتلها تصدق ولو بلقمة. قال الأكثرون: هذا التصدق مستحب، وقيل: واجب لما فيه من إزالة الأذى عن الرأس واللحية، وليس هذا التصدق فداء للقمل، حتى يدل ذلك على حل الأكل، وإنما التصدق في مقابلة الترفه الحاصل للمحرم. وأفاد الترمذي الحكيم أنه إذا وجد الجالس على الخلاء قملة، لا يقتلها بل يدفنها. فقد روي أنه من قتل قملة وهو على رأس خلائه بات معه في شعاره شيطان فينسيه ذكر الله أربعين صباحا. وقيل: من قتل قملة على رأس خلائه لن يكفي الهم ما عاش. وفي فتاوى قاضي خان، لا بأس بطرح القملة حية والأدب أن يقتلها. فرع : يجوز لبس الثوب الحرير لدفع القمل، لأنه لا يقمل بالخاصية، ولذلك رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهما في لبسه لذلك، كما تقدم. رواه الشيخان والأصح أنه لا يختص بالسفر، وفي وجه اختاره الشيخ أبو محمد الجويني وابن الصلاح يختص به، لأن الرواية مقيدة بذلك. وقال مالك: لا يجوز لبسه مطلقا لأن وقائع الأحوال عنده لا تعم وهو وجه بعيد عندنا. فرع : إذا رأى المصلي في ثوبه قملة، أو برغوثا؟ قال الشيخ أبو حامد: الأولى أن يتغافل عنها فإن ألقاها بيده أو أمسكها حتى يفرغ فلا بأس، فإن قتلها في الصلاة عفي عن دمها دون جلدها، وإن قتلها وتعلق جلدها بظفره أو بثوبه بطلت صلاته. قال: ولا بأس بقتلها في الصلاة كما لا بأس بقتل الحية والعقرب، فإن ألقى القملة بيده فلا بأس. قال القمولي: وينبغي أن يختص جواز إلقائها بغير المسجد، والذي قاله صحيح متعين لقوله «1» صلى الله عليه وسلم: «إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرج من المسجد» . رواه أحمد في مسنده، بإسناد صحيح. وفي المسند أيضا عن شيخ من أهل مكة من قريش، قال: وجد رجل في ثوبه قملة، فأخذها ليطرحها في المسجد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفعل ردها في ثوبك حتى تخرج من المسجد» . وإسناده أيضا صحيح. وقال البيهقي: إنه مرسل حسن. ثم روى عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه رأى قملة، على ثوب رجل في المسجد، فأخذها فدفنها في الحصا، ثم قال أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً «2» قال: ويذكر نحو هذا عن مجاهد. وعن ابن المسيب أنه يدفنها كالنخامة قال: وروينا عن مالك بن عامر، أنه قال: رأيت معاذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 بن جبل رضي الله تعالى عنه يقتل البراغيث والقمل في الصلاة، وفي رواية رأيت معاذا يقتل القمل في الصلاة ولكن لا يعبث. وروى البزار والطبراني في معجمه الأوسط، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليدفنها» . وقال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: وأما القملة والبرغوث فأكثر أصحابنا يقولون: لا يؤكل طعام مات فيه شيء منهما لأنهما نجسان، وهما من الحيوان الذي عيشه من دم حيوان، لا عيش لهما غير الدم، ولهما دم فهما نجسان. وكان سليمان بن سالم القاضي الكندي من أهل أفريقية يقول: إن ماتت القملة في ماء طرح ولا يشرب، وإن وقعت في دقيق، ولم تخرج في الغربال، لم يؤكل الخبز، وإن ماتت في شيء جامد طرحت وما حولها كالفأرة. وقال غيره من أصحابنا وغيرهم: إن القملة كالذباب سواء، وقال في التمهيد أيضا: ذكر نعيم بن حماد، عن ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يقتل القمل في الصلاة أو قتل القمل في الصلاة» . قال نعيم: هذا أول حديث سمعته من ابن المبارك. الأمثال : قالت العرب: «غل قمل» «1» يضرب للمرأة السيئة الخلق. قال ابن سيده في الحديث: «النساء غل قمل» يقذفها الله في عنق من يشاء ثم لا يخرجها إلا هو، وهذا بعض أثر. وفي الفائق في آخر باب الهاء مع الباء، أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: النساء ثلاث هينة لينة عفيفة مسلمة، تعين أهلها على العيش، ولا تعين العيش على أهلها، وأخرى وعاء للولد، وأخرى غل قمل يضعه الله في عنق من يشاء، ويكفه عمن يشاء. والرجال ثلاثة: رجل ذو رأي وعقل، ورجل إذا حز به أمر أتى ذا رأي فاستشاره، ورجل حائر بائر لا يأتمر رشيدا، ولا يطيع مرشدا. وقال الأصمعي: كانوا يغلون الأسير بالقيد وعليه الوبر فإذا طال الغل عليه قمل فيلقى منه جهدا. يضرب لكل من يلقى في شدة، قال: وهذا هو السبب في قول حاتم الطائي: «لو غير ذات سوار لطمتني» ، وذلك أنه مر ببلاد نميرة في بعض الأشهر الحرم، فناداه أسير لهم: يا أبا سفانة أكلني الإسار والقمل، فقال: ويحك أسأت إذ نوهت باسمي في غير بلاد قومي، فساوم القوم به ثم قال: أطلقوه واجعلوا يدي في الغل مكانه ففعلوا، فجاءته امرأة ببعير لتفديه، فقام فنحره فلطمته، فقال: لو غير ذات سوار لطمتني، يعني أني لا أقتص من النساء فعرف ففدى نفسه. الخواص : قال الجاحظ: القمل يعتري ثياب غير المجذومين، قال ابن الجوزي: والحكمة في ذلك أنه لما تولع الجذام بأطرافهم صعب عليهم الحك، فمنع الله عنهم ذلك لطفا بهم، كما أنه منع عن الأخرس السمع لطفا به، وإذا ألقيت القملة وهي حية أورثت النسيان. كذا رواه ابن عدي في كامله، في ترجمة أبي عبد الله الحكم بن عبد الله الأيلي، أنه روى بإسناد صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ست خصال تورث النسيان: أكل سؤر الفأر، القاء القملة وهي حية، والبول في الماء الراكد، وقطع القطار، ومضغ العلك، وأكل التفاح الحامض، وبضد ذلك اللبان الذكر» «2» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وأشار إلى ذلك الجاحظ بقوله: وفي الحديث أن أكل التفاح الحامض، وسؤر الفأر، ونبذ القملة يورث النسيان. قال: وفي حديث آخر «إن الذي يلقي القملة لا يكفى الهم» . وقيل: إن قراءة ألواح القبور، والمشي بين المرأتين والنظر إلى المصلوب، وأكل الكزبرة الخضراء، وأكل الخبز الحار يورث النسيان، وأكل الحلوى وشرب العسل، وأكل الخبز البارد، يورث الذكاء، والعامة تزعم أن لبس النعال السود يورث النسيان. وإذا أردت أن تعلم هل المرأة حامل بذكر أم أنثى؟ فخذ قملة واحلب عليها من لبنها في كف إنسان، فإن خرجت القملة من اللبن فهي حامل بجارية، وإن لم تخرج فهي حامل بذكر! وإن احتبس على إنسان بوله فخذ قملة من قمل بدنه، واجعلها في إحليله فإنه يبول من وقته. وإن غسلت المرأة أصول شعرها بماء السلق منع القمل. ودهن القرطم إذا دهن به إنسان مات قمله، وإن غسل البدن بخل وماء البحر قتل القمل، وإذا مسح الرأس والبدن بزئبق مقتول بدهن سمسم منع القمل من الرأس والثياب. التعبير : القمل في المنام على وجوه: فإذا كان في قميص جديد فإنه مال وهو للسلطان جند وأعوان، وللوالي زيادة في ماله. ومن رأى القمل في ثوب خلق، فهو دين يخشى زيادته، والقمل على الأرض قوم ضعاف، فإن دب إلى جانب إنسان فإنه يخالطهم، ومن رأى القمل وكرهه فإنه يرى أعداء ولا يقدرون له على مضرة، ومن رأى أنه قرصه القمل، فإن قوما ضعفاء يرمونه بكلام، ومن حكه القمل، فلا بد أن يطالب بدين. والقملة تعبر بامرأة، لأن ابن سيرين أتاه رجل، فقال: رأيت كأن إنسانا أخذ من كمي قملة فألقاها. فقال ابن سيرين: تطلق زوجتك على يده، فكان كذلك. ومن رأى قملة طارت من صدره فإن أجيره أو غلامه أو ولده قد هرب، والقمل الكثير مرض أو حبس، لأنها أكثر ما تحدث على هؤلاء القوم. وربما دلت رؤية القمل على العيال. وتعبر رؤية القمل للملك بجيشه وأعوانه وللوزير بشرطته، وللقاضي بالمتوصلين إليه. ومن رأى أنه رمى قملة، فإنه مخالف لسنة من السنن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن رمي القمل» «1» ومن أكل قملة فإنه يغتاب إنسانا فإن وجد لها دما، فإنه يغتاب رجلا ذا مال. والقمل يعبر بأقوام يمشون بالنميمة بين الأقرباء، وقتل القمل في المنام قهر الأعداء. وقال جاماست: من التقط القمل فإنه يكذب عليه كذب فاحش والله أعلم. القمقام: صغار القردان، وضرب من القمل شديد التشبث بأصول الشعر، الواحدة قمقامة، وتسميه العامة الطبوع وقد تقدم. الأمثال : قالت العرب: «قمقامة حكت بجنب البازل» . البازل من الإبل ما دخل في السنة التاسعة كما تقدم، وهو أقواها يضرب للضعيف الذليل يحتك بالقوي العزيز. قندر: قال القزويني: هو حيوان بري بحري يكون في الأنهار العظام، يتخذ في البر إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 جانب البحر بيتا له بابان، يأكل لحم السمك. وخصيته تسمى الجندبادستر، وقد تقدم في باب الجيم، الكلام على ذلك. القندس: قال ابن دحية: إنه كلب الماء، وفسر به حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، الذي رواه الجماعة، غير النسائي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تقاتلون بين يدي الساعة قوما نعالهم الشعر» «1» . وفي رواية: «يلبسون الشعر، ويمشون في الشعر، وجوههم كالمجان المطرقة، حمر الوجوه، صغار الأعين ذلف الأنوف» . قال ابن دحية: قوله يلبسون الشعر، إشارة إلى الشرابيش التي يدار عليها بالقندس، والقندس كلب الماء وهو من ذوات الشعر كالمعز، وذوات الصوف الضأن، وذوات الوبر والإبل انتهى. وسيأتي، إن شاء الله تعالى، في باب الكاف حكم الكلب المائي. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: بحثنا عن القندس فلم يتبين لنا أنه مأكول أو غيره، فينبغي أن يتورع عن الصلاة فيه، ولنا وجهان فيما أشكل من الحيوان فلم يعلم أنه مأكول أو غيره. القنعاب: كسنجاب العظيم من الوعول السمين. القنفذ: بالذال المعجمة وبضم الفاء وفتحها البري منه، كنيته أبو سفيان وأبو الشوك، والأنثى أم دلدل، والجمع القنافذ. ويقال لها: العساعس لكثرة ترددها بالليل، ويقال للقنفذ: أنقد وهو صنفان قنفذ يكون بأرض مصر قدر الفار، ودلدل يكون بأرض الشام والعراق في قدر الكلب القلطي، والفرق بينهما كالفرق بين الجرذ والفأر. قالوا: إن القنفذ، إذا جاع يصعد الكرم منكسا، فيقطع العناقيد ويرمي بها، ثم ينزل فيأكل منها ما أطاق، فإن كان له فراخ تمرغ في الباقي ليشتبك في شوكه ويذهب به إلى أولاده وهو لا يظهر إلا ليلا قال الشاعر: قنافذ هداجون حول بيوتهم ... بما كان إياهم عطية عودا وهو مولع بأكل الأفاعي ولا يتألم لها، وإذا لدغته الحية أكل السعتر البري، فيبرأ وله خمسة أسنان في فيه، والبرية منها تستفد قائمة وظهر الذكر لاصق ببطن الأنثى. وروى الطبراني في معجمه الكبير والحافظ بن منير الحلبي وغيرهما، عن قتادة بن النعمان، قال: كانت ليلة شديدة الظلمة والمطر، فقلت: لو أني اغتنمت الليلة شهود العتمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلت، فلما رآني قال صلى الله عليه وسلم: «قتادة» . قلت: لبيك يا رسول الله، ثم قلت: علمت أن شاهد الصلاة هذه الليلة قليل، فأحببت أن أشهدها معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا انصرفت فائتني» . فلما فرغت من الصلاة أتيت إليه فأعطاني عرجونا كان في يده، وقال: «هذا يضيء أمامك عشرا ومن خلفك عشرا» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد خلفك في أهلك، فاذهب بهذا العرجون فاستضىء به حتى تأتي بيتك فتجده في زاوية البيت فاضربه بالعرجون» . قال: فخرجت من المسجد، فأضاء العرجون مثل الشمعة نورا، فاستضأت به وأتيت أهلي فوجدتهم قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 رقدوا، فنظرت إلى الزاوية فإذا فيها قنفذ، فلم أزل أضربه بالعرجون حتى خرج. ورواه الإمام أحمد والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح. فائدة : روى البيهقي، في أواخر دلائل النبوة، عن أبي دجانة واسمه سماك بن خرشة قال: شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أني نمت في فراشي، فسمعت صريرا كصرير الرحى ودويا كدوي النحل، ولمعا كلمع البرق، فرفعت رأسي فإذا أنا بظل أسود يعلو ويطول في صحن داري فمسست جلده، فإذا هو كجلد القنفذ فرمى في وجهي مثل شرر النار. فقال صلى الله عليه وسلم: «عامر دارك يا أبا دجانة» . ثم طلب صلى الله عليه وسلم دواة وقرطاسا، وأمر عليا رضي الله تعالى عنه أن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد رسول رب العالمين إلى من يطرق الدار من العمار والزوار، إلا طارقا يطرق بخير أما بعد فإن لنا ولكم في الحق سعة فإن كنت عاشقا مولعا، أو فاجرا مقتحما، فهذا كتاب الله ينطق علينا وعليكم بالحق، إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون، ورسلنا يكتبون ما تمكرون، اتركوا صاحب كتابي هذا وانطلقوا إلى عبدة الأصنام، وإلى من يزعم أن مع الله إلها آخر، لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون حم لا ينصرون حم عسق تفرق أعداء الله وبلغت حجة الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فسيكفيهم الله وهو السميع العليم. قال أبو دجانة رضي الله عنه: فأخذت الكتاب، وأدرجته وحملته إلى داري وجعلته تحت رأسي فبت ليلتي، فما انتبهت إلا من صراخ صارخ يقول: يا أبا دجانة أحرقتنا بهذه الكلمات فبحق صاحبك إلا ما رفعت عنا هذه الكلمات، فلا عود لنا في دارك ولا في جوارك ولا في موضع يكون فيه هذا الكتاب، قال أبو دجانة: فقلت: والله لا أرفعه حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو دجانة: فلقد طالت علي ليلتي بما سمعت، من أنين الجن وصراخهم وبكائهم، حتى أصبحت فغدوت فصليت الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما سمعت من الجن ليلتي، وما قلت لهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا دجانة ارفع عن القوم، فو الذي بعثني بالحق نبيا إنهم ليجدون ألم العذاب إلى يوم القيامة. قال البيهقي: وقد ورد في حرز أبي دجانة رضي الله عنه حديث طويل، غير هذا موضوع، لا تحل روايته. وهذا الذي رواه البيهقي، رواه الديلمي الحافظ في كتاب الإنابة، والقرطبي في كتاب التذكار في أفضل الأذكار. الحكم : قال الشافعي: يحل أكل القنفذ لأن العرب تستطيبه، وقد أفتى ابن عمر بإباحته وقال أبو حنيفة والإمام أحمد: لا يحل لما روى أبو داود وحده أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سئل عنه، فقرأ: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً «1» الآية فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: ذكر القنفذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «خبيث من الخبائث» «2» . فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: إن كان قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال. قلت: والجواب أن رواته مجهولون. قال البيهقي: ولم يرو إلا من وجه واحد ضعيف لا يجوز الاحتجاج به. وما روي عن سعيد بن جبير، أنه قال: جاءت أم حفيد رضي الله تعالى عنها بقنفذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته بين يديه، فنحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأكله فهو مرسل. وقد روي مسندا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وليس فيه ذكر القنفذ. وقيل: أراد أنه خبيث الفعل دون اللحم، لما فيه من إخفاء رأسه عند التعرض لذبحه، وابداء شوكه عند أخذه، وسئل مالك عنه، فقال: لا أدري. وقال القفال: إن صح الخبر فهو حرام، وإلا رجعنا إلى العرب هل تستطيبه أم لا. وقال الرافعي: يقال إن له كرشا ككرش الشاة. الأمثال : قالوا: «أسرى من قنفذ» «1» وقالوا: «ذهبوا إسراء قنفذ» ، يعني ذهبوا ليلا، لأن القنفذ يسري في الليل كثيرا وقد تقدم هذا في باب الهمزة في لفظ أنقد. الخواص : مرارة البري منه، إذا طلي بها موضع الشعر المنتوف، لا ينبت فيه شعر أبدا. وإذا اكتحل بها أزالت البياض من العين، وإذا خلطت بشيء من الكبريت وطلي بها البهق أزالته وإن شرب من مرارته نفع من الجذام والسل والزحير، وإن خلطت بدهن ورد وقطر في أذن من به صمم قديم أبرأه إذا داوم عليه أياما، ولحمه إذا أكل نفع من السل والجذام والبرص والتشنج ووجع الكلى، وإن مسح بشحمه ودمه وبراثنه المعقود عن النساء حله، وطحاله يسقى لمن به وجع الطحال، بشراب العسل فإنه يبرئه، وكليته تجفف ويسقى منها وزن درهم، مسحوقا بماء الحمص الأسود، من به عسر البول فيبرأه سريعا. وإن قتل قنفذ، وقطع رأسه بسيف لم يقتل به إنسان، وعلق على المجنون والمصروع والمختل أبرأه. وإن قطع طرف رجله اليمنى وهو حي وعلقت على صاحب الحمى الحارة والباردة، من غير أن يعلم ما هو، مربوطا في خرقة كتان، أبرأه. وعينه اليمنى تغلى بشيرج، وتجعل في إناء نحاس، فمن اكتحل به لم يخف عليه شيء في الليل، بل يراه كأنه نهار، وشطار العيارين يفعلون ذلك. وعينه اليسرى تغلى بزيت وترفع في قارورة، فإذا أردت أن تنوم إنسانا فخذ منه بطرف الميل، وادنه إلى أنفه، فإنه ينام من ساعته. وأظفار يده اليمنى يبخر بها المحموم، فتذهب حماه. وطحاله إذا شوي وأكله من به وجع الطحال أبرأه، والأول أسرع وهو ما تقدم. ومرارته تعجن بسمن عتيق، وتتحمل بها المرأة في قبلها، فإنها تلقي ما في جوفها. ودمه يطلى به على عضة الكلب، يسكن ألمها، ولحمه المملح ينفع من داء الفيل والجذام، وهو جيد لمن يبول في فراشه. وجميع أصناف القنافذ بيضها أصفر جدا لا يؤكل، وإذا أخذ بول القنفذ وسقي بشراب لمن أعياه مرضه ثلاثة أيام أبرأه. وإن علق قلبه على من به حمى الربع أبرأه، وإذا طلي المجذوم بشحمه نفعه. وأما رؤيته في المنام فإنه يدل على المكر والخداع والتجسس، والاحتقار والشر، وضيق القلب وسرعة الغضب وقلة الرحمة، وربما يدل على فتنة يشهر فيها السلاح، والله تعالى أعلم. القنفذ البحري: قال القزويني: مقدمه يشبه مقدم القنفذ البري، ومؤخره يشبه السمك، طيب اللحم جدا. قال ابن زهر: ويعالج به عسر البول، وريشه لين يشبه الشعر. القنفشة: دويبة معروفة عند أهل البادية حكاه ابن سيده. القهبى: بالفتح اليعقوب وقيل: العنكبوت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 القهيبة: طائر يكون بتهامة فيه بياض وخضرة، وهو نوع من الحجل، قاله ابن سيده أيضا. القوافر : الضفادع، وقد تقدم ما فيها في باب الضاد المعجمة. القواع: بضم القاف الذكر من الأرانب. القوب: الفرخ، ومنه قولهم في المثل «تخلصت قائبة من قوب» «1» فالقائبة قشر البيضة، قال الكميت: لهنّ وللمشيب ومن علاها ... من الأمثال قائبة وقوب وقال أعرابي من بني أسد لتاجر استخفره: إذا بلغت بك مكان كذا وكذا فبرئت قائبة من قوب أي أنا بريء من خفارتك. قوبع: بضم القاف وفتح الباء الموحدة، طائر أسود أبيض الذنب يكثر تحريك ذنبه. تقدم في آخر باب العين المهملة. القوثع: بفتح الثاء المثلثة الظليم، وقد تقدم في باب الظاء المعجمة. القوق: بالضم طائر مائي طويل العنق قاله في العباب. قوقيس: قال القزويني: إنه طائر بأرض الهند، من شأنه أنه عند التزاوج يجمع حطبا كثيرا في عشه، ولا يزال الذكر منه يحك منقاره بمنقار الأنثى، حتى تأجج النار من حكهما في ذلك الحطب، وتشتعل ويحترقان فيها، فإذا سقط المطر على ذلك الرماد تولد منه دود، ثم تنبت له أجنحة ثم يصير طيرا، ثم يفعل كفعل الأول من الحك والاحتراق. قوقي: بضم القاف الأولى وكسر الثانية، صنف من السمك عجيب جدا، على رأسه شوكة قوية، يضرب بها. حكى الملاحون أن هذه السمكة، إذا جاعت رمت نفسها إلى شيء من الحيوان فيبتلعها، ثم إنها تضرب بشوكتها أحشاءه حتى تهلكه. وربما تخرج من شق بطنه تتغذى منه هي وغيرها، وإذا قصدها قاصد في الماء، تضربه بالشوكة فيهلك، ولعلها تضرب السفينة بالشوكة فتخرقها، وتغرق أهلها وتأكل منهم، والملاحون يعرفون ذلك فيجعلون على السفينة جلد تلك السمكة، فإن شوكتها لا تعمل فيه كذا قاله القزويني. قيد الأوابد: الفرس الجواد، قيل له ذلك لأنه يمنع الوحش الفوات لسرعته، والأوابد الوحوش. قال «2» امرؤ القيس: بمنجرد قيد الأوابد هيكل قيق: بكسر أوله طائر على قدر اليمامة، وأهل الشام يسمونه أبا زريق، وهو ألوف للناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 فيه قبول للتعلم وسرعة إدراك لما يعلم. وقد تقدم في باب الزاي. أم قشعم: بفتح القاف النسر والعنكبوت والضبع واللبوة والمنية والداهية والحرب والدنيا أيضا. قال زهير «1» : فشد ولم ينظر بيوتا كثيرة ... إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم قيل: أراد أحد هذه الأشياء وقال آخر: فخر صريعا لليدين وللفم ... إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم أبو قير: طائر معروف، قاله ابن الأثير وغيره، وقد تقدم. أم قيس: هي بقرة بني إسرائيل، وقد تقدم ذكرها في باب الباء، وفي باب العين المهملة في العجل. باب الكاف الكاسر: العقاب، يقال له كسر الطائر يكسر كسرا وكسورا، إذا ضم جناحيه يريد الوقوع وعقاب كاسر. قال الشاعر: كأنه بعد كلال الزاجر ... ومسحه مر عقاب كاسر ويعدى فيقال: كسر جناحيه، قال ابن سيده. كاسر العظام: المكلفة وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الميم. الكبش: فحل الضأن في أي سن كان، وقيل: إذا أثنى، وقيل: إذا أربع، والجمع أكبش وكباش. روى الجماعة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما. وروى «2» أبو داود وابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجوأين فلما وجههما قال صلى الله عليه وسلم: «إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا» . إلى قوله: «وأنا من المسلمين اللهم منك وإليك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر» . ثم ذبح. قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. قوله: أملحين الأملح الذي بياضه أكثر من سواده، وقيل: هو النقي البياض. وفي الحديث الآخر، في صحيح مسلم: «يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 ومعناه أن قوائمه وبطنه وما حول عينيه أسود. ونقل عن أصحاب الحديث، أن معنى كونه ينظر في سواد ويبرك في سواد ويطأ في سواد أن ذلك يكون في ظل نفسه لسمنه. وروى ابن سعد في طبقاته أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له ترس، فيه تمثال كبش، «فوضع يده عليه فأذهب الله ذلك التمثال» . وفي رواية أنه كان له صلى الله عليه وسلم ترس، وفيه تمثال كبش. وفي رواية تمثال عقاب فكره النبي صلى الله عليه وسلم مكانه، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى. وفي سنن أبي داود وابن ماجه، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء قل للذين يتفقهون لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة، ويلبسون للناس صوف الكباش، وقلوبهم كقلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، إياي يخادعون وبي يستهزؤون، لأتيحن لهم فتنة تدع الحكيم حيران» «1» . وروى البيهقي، في الشعب، عن عمر رضي الله تعالى عنه، قال: نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه إهاب كبش، قد تنطق به، فقال صلى الله عليه وسلم: «أنظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حلة اشتريت بمائتي درهم، فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون» انتهى. وفي الصحيحين «2» ، عن خباب بن الأرت قال: هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله عز وجل، فوقع أجرنا على الله فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم نجد له ما نكفنه به إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه خرج رأسه. فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الأذخر. ومنا من أينعت له ثمرته، فهو يهد بها أي يجتنيها. وهو إشارة إلى ما فتح الله عليهم من الدنيا، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والكبش هو الذبح العظيم الذي فدى الله به اسماعيل عليه الصلاة والسلام، وإنما سمي عظيما لأنه رعى في الجنة أربعين عاما، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. قال: وهو الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه. قال: ولو تمت تلك الذبيحة لصارت سنة ولذبح الناس أبناءهم، واستشهد أبو حنيفة رحمه الله تعالى بهذه القصة، على أن من نذر ذبح ولده، يلزمه ذبح شاة. ومنع الجمهور ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية الله ولا نذر لابن آدم فيما لا يملك» «3» . وقد اختلف العلماء في الذبيح هل هو اسماعيل أو إسحاق عليهما الصلاة والسلام، فذهب قوم إلى أنه إسحاق منهم عمر وعلي وابن مسعود والعباس وكعب وقتادة ومسروق وعكرمة وعطاء والزهري والسدي، قالوا: كانت هذه القصة بالشام. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: أري ابراهيم عليه الصلاة والسلام ذبح إسحاق في المنام، فسار به مسيرة شهر، في روحة واحدة، حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 أتى به المنحر في منى، فلما أمره الله تعالى بذبح الكبش ذبحه، وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة، طويت لهما الأودية والجبال. واحتجوا أيضا بقوله تبارك وتعالى: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ «1» فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ، قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ . قالوا: وليس في القرآن أنه بشر بولد سوى ما قال في سورة هود فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ «2» . وممن ذهب إلى أنه إسحاق شيخ التفسير محمد بن جرير الطبري رحمة الله عليه وروي عن مالك. وقالت فرقة: الذبيح إسماعيل، واحتجوا بأن الله تعالى ذكر البشارة باسحاق، بعد الفراغ من قصة الذبيح. فقال: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ «3» فكيف يأمره بذبح إسحاق وقد وعده بنافلة منه؟ قال محمد بن كعب القرظي: سأل عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه رجلا من علماء يهود، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال: إسماعيل. ثم قال: يا أمير المؤمنين إن يهود لتعلم ذلك، ولكنهم يحسدونكم يا معشر العرب، على أن يكون أبوكم الذي أمر الله تعالى بذبحه، ويزعمون أنه إسحاق أبوهم، ومن الدليل عليه أن قرني الكبش، كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت، واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج. قال الشعبي رحمه الله: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: والذي نفسي بيده، لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة قد وخش. يعني قد يبس. وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، إسحاق كان أو إسماعيل؟ فقال: يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه. وقال محمد بن إسحاق: كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل، حمل على البراق فيغدو من الشام ويقيل بمكة، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشأم، حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي، وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته، أمر في المنام أن يذبحه، وذلك أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا، فلما أصبح روى في نفسه، أي فكر أمن الله هذا أم من الشيطان. فمن ثم سمي يوم التروية. فلما أمسى رأى ما رأى في المنام ثانيا، فلما أصبح عرف أنه من الله تعالى، فمن ثم سمي يوم عرفة، فهم بنحر ابنه ففداه الله تعالى بالكبش. وروى البيهقي، في البعث والنشور، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما فدى إسحاق بالكبش قال الله عز وجل: إن لك دعوة مستجابة. فقال له إبراهيم: تعجل دعوتك لا يدخل الشيطان فيها شيئا. قال إسحاق: اللهم من لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئا فاغفر له» . وكنية جماعة من الصحابيات رضي الله تعالى عنهن أم كبشة، منهن أم كبشة بنت معد يكرب عمة الأشعث بن قيس. روى الدارقطني عن معاوية بن حديج، بحاء مهملة مضمومة ودال مهملة مفتوحة وبالجيم في آخره، أن أم كبشة هذه سألت النبي صلى الله عليه وسلم أنها آلت أن تطوف بالبيت الحرام حبوا، فقال لها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوفي على رجليك سبعين: سبعا عن يديك وسبعا عن رجليك» . قلت: والحكم المذكور غريب لم أر من صرح به من الفقهاء، فلذلك ذكرته هنا، وإن لم يكن له تعلق بالكتاب، ثم رأيته بعد ذلك في آخر باب النذر من المحرر لمجد الدين بن تيمية من الحنابلة. فقال: ومن نذر أن يطوف على أربع لزمه أن يطوف طوافين نص عليه. يعني الإمام أحمد، ثم رأيته في تاريخ مكة لأبي الوليد الأزرقي، مرويا من حديث عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن امرأة نذرت أن تطوف على أربع قال: تطوف عن يديها سبعا وعن رجليها سبعا. فائدة : روى «1» البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جيء بالموت، كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة النار ثم يذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت» . ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ «2» . وفي رواية الترمذي: «فيقال هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت. فيضجع فيذبح، فلولا أن الله تعالى قضى لأهل الجنة بالحياة والبقاء لماتوا فرحا، ولولا أن الله تعالى قضى لأهل النار بالحياة والبقاء لماتوا ترحا» . وإنما جيء بالموت على هيئة كبش، لما جاء أن ملك الموت عليه السلام أتى آدم عليه الصلاة والسلام في صورة كبش أملح قد نشر من أجنحته أربعمائة جناح. قال ابن عباس والكلبي ومقاتل في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ «3» خلقهما جسمين، جعل الموت في هيئة كبش أملح لا يمر على شيء، ولا يجد ريحه شيء إلا مات. والحياة على هيئة فرس أنثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يركبونها، خطوها مد البصر فوق الحمار ودون البغل، لا تمر على شيء ولا تطأ شيئا، ولا يجد ريحها شيء إلا حي، وهي التي أخذ السامري من ترابها فألقاه على العجل انتهى. وهذه هي الحكمة في فداء الذبيح بكبش ليكون فدى من الموت بشكل الموت، ولما سر بذبحه سر أهل الجنة أيضا بذبحه منة عليهم. ونقل القرطبي عن كتاب خلع النعلين، أن الذابح للكبش بين الجنة والنار، يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ في اسمه إشارة إلى الحياة الأبدية. وذكر صاحب كتاب الفردوس، أن الذي يذبحه جبريل عليه السلام. فائدة أخرى : قال ابن عباس وابن عمر وابن عمرو وسعيد بن جبير والضحاك والحسن رضي الله تعالى عنهم، في قوله تعالى قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ «4» إن الذي يكبر في صدورهم الموت. قال السهيلي: وهو تفسير يحتاج إلى تفسير. قال: وقال بعض المتأخرين: إن الموت الذي يستعظمونه سيفنى حين يذبح بين الجنة والنار، فكذلك أنتم تفنون. ورأيت في الحلية لأبي نعيم في ترجمة وهب بن منبه أنه قال: إن لله تعالى في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء تجتمع فيها أرواح المؤمنين، فإذا مات الميت من أهل الدنيا تلقته الأرواح يسألونه عن أخبار الدنيا كما يسأل الغائب أهله إذا قدم عليهم. فائدة أخرى : قال البوني في اللمعة النورانية، من السر البديع: إذا كان الإنسان يخاف على نفسه من قتل أو عذاب أو غيره، فليذبح كبشا سمينا سليما من العيوب، كما في الأضحية، يذبحه في موضع خال ذبحا سريعا موجها إلى القبلة، ويقول عند الذبح: اللهم هذا لك ومنك، اللهم إنه فدائي فتقبله مني. ويحفر لدمه حفرة، ويردمها بالتراب، حتى لا يطأ أحد على دمه، ويبضعه ستين جزءا: الجلد جزء، والرأس جزء، والبطن جزء، إلى أن يأتي على الستين جزءا، ولا يأكل منه شيئا لا هو ولا من تجب عليه نفقته، ويفرقه على الفقراء والمساكين، فإنه يكون فداء له، ولا يناله مكروه من جهة الأمر الذي يخشاه. وهو متفق عليه، مجرب معمول به، والله تعالى المحسن لعبيده المنعم عليهم. قال: وإن كان يخاف من أمر دون ذلك، فليطعم ستين مسكينا من أفضل الطعام، ويشبعهم ويقول: اللهم إني أستكفي الأمر الذي أخافه بهم هؤلاء، وأسألك بأنفسهم وأرواحهم وعزائمهم، أن تخلصني مما أخاف وأحذر، فإنه يفرج عنه. وهذا أيضا متفق عليه، معمول به مستفيض عند أهل الطريقة. وحكم الكبش : تقدم، ومنه أنه تحرم المناطحة بالكباش، لما روى «1» أبو داود والترمذي، من حديث مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن التحريش بين البهائم» . والتحريش الإغراء وتهييج بعضها على بعض، كما يفعل بين الكباش والديوك وغيرها. وفي الكامل، في ترجمة غالب بن عبد الله الجزري، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى لعن من يحرش بين البهائم» . قال الحليمي: وهو حرام ممنوع منه، لا يؤذن لأحد فيه، لأن كل واحد من المتهارشين يؤلم صاحبه ويجرحه، ولو أراد المحرش أن يفعل ذلك بيده ما حل له. وعن الإمام أحمد في ذلك روايتان: التحريم والكراهة. الأمثال : قالوا: «عند النطاح يظهر الكبش الأجم» «2» وهو الذي لا قرن له، يضرب لمن غلبه صاحبه بما أعد له. وكان الحسن يقول: يا ابن آدم السكين تحد، والتنور يسجر، والكبش يعتلف. وروى السهيلي وغيره أن عبد الله بن الزبير ولما ولد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو هو» . فلما سمعت بذلك أمه أسماء بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما أمسكت عن ارضاعه فقال «3» لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه ولو بماء عينيك، كبش بين ذئاب، وذئاب عليها ثياب، ليمنعن البيت أو ليقتلن دونه» . ومما قيل في ليالي صفين: الليل داج الكباش تنتطح ... نطاح أسد ما أراها تصطلح فمن يقاتل في وغاها ما نجا ... ومن نجا برأسه فقد ربح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الخواص : خصية الكبش تشوى وتطعم، لمن يبول في الفراش، يبرأ من ذلك إذا داوم عليه، وإن تعسر على المرأة الولادة، فليؤخذ شحم كبش، وشحم بقر، وماء الكراث، وتخلط جميعا، وتتحمل به المرأة فإنها تلد بسهولة، وكليته إذا نزعت بعروقها، وجففت في الشمس، وأذيبت بدهن الزئبق، وطلي به مكان نبت فيه شعر، ومرارته إذا طلي بها الثديان انقطع اللبن. روى «1» الإمام أحمد، بإسناد صحيح عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصف من عرق النسا ألية كبش عربي أسود ليس بالعظيم ولا بالصغير، تجزأ ثلاثة أجزاء فيذاب ويشرب منه كل يوم جزء» . ورواه الحاكم وابن ماجه ولفظهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «شفاء عرق النسا أن يؤخذ ألية كبش فتذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم تشرب على الريق ثلاثة أيام في كل يوم جزء» . قال عبد اللطيف البغدادي: هذه المعالجة تصلح للأعراب الذين يعرض لهم هذا المرض من يبس. التعبير : الكبش في الرؤيا، رجل شريف القدر، لأنه أشرف الدواب، بعد ابن آدم، لأنه كان فداء لاسماعيل عليه السلام. ومن رأى كبشا ينطح فرج امرأة، فإنها تأخذ بالمقراض ما على فرجها من الشعر. ومن رأى أنه أخذ ألية كبش، أخذ مال رجل شريف القدر، أو يتزوج بابنته، لأن ألية الكبش مال الرجل. ومن يتبعه من عقبه. ومن ذبح كبشا لغير الأكل، فإنه يقتل رجلا عظيما وإن ذبحه للأكل نجا من هم على يد رجل عظيم القدر، وإن كان مريضا فإنه يبرأ من مرضه. وقال ارطاميدورس: الكبش يدل على رجل رئيس لتقدمه على الغنم، وهو دليل خير لمن يركبه إذا كان الموضع مرتفعا، والكبش الأجم معزول، ورجل ذليل أو خصي. ومن نكح كبشا، فرق بينه وبين ماله رجل عظيم، ومن ركب كبشا من مكان مستو من الأرض، وكان من الأوباش الخداعين، الذين يحبون الفتن والكلام، فإنه يصلب لأن هذا الحيوان من حيوان عطارد، ومن حمل كبشا على ظهره فإنه يتقلد مؤنة رجل ضخم. ومن رأى نعجته صارت كبشا، فإن زوجته لا تحمل، فإن لم تكن له زوجه نال قوة ونصرة على عدوه. وكبش الإنسان سلطانه وأميره، وقد يكون كبشه كيسه، فإذا حدث فيه شيء فانسبه إلى الكيس. أتى شخص إلى ابن سيرين رحمه الله تعالى فقال: رأيت كبشين يتناطحان على فرج امرأتي. فقال له: إن امرأتك قد أخذت بالمقراض شعر فرجها لتعذر الموسى. ومن ضحى بكبشين، فإنه ينجو من جميع الهموم، وإن كان مسجونا خرج من السجن، وإن كان في حرب سلم، وإن كان عليه دين قضى، وإن كان مريضا شفي، ومن رأى كبشين يتناطحان فإنهما ملكان يقتتلان، فأيهما هزم صاحبه فهو الغالب. وتنسب السود من الكباش إلى العرب، والبيض إلى العجم، وإن تساويا في الألوان، فانظر إلى الجهة التي كانت الثابت فيها، كان أهلها منصورين، ومهما أخذ الإنسان من أصوافها، أو قرونها فهو مال يناله، وقس على هذا والله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 الكبعة: بفتح الكاف وإسكان الباء الموحدة، دابة من دواب البحر، قاله ابن سيده. الكتفان: بضم الكاف وإسكان التاء المثناة فوق، وبعدها فاء، الجراد أول ما يطير، الواحدة كتفانة، ويقال: هو الجراد بعد الغوغاء، أوله السرور ثم الدبى ثم الغوغاء ثم الكتفان. الكتع: كرطب أردأ ولد الثعلب، والجمع كتعان بكسر الكاف. الكدر: بضم الكاف وإسكان الدال المهملة، طير في ألوانها كدرة. روى ابن هشام وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم «غزا قرقرة الكدر، في النصف من المحرم، على رأس ثلاثة عشر شهرا من مهاجرته صلى الله عليه وسلم، وهي ناحية بأرض سليم على ثمانية برد من المدينة، وحمل لواءه صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، فأخذ صلى الله عليه وسلم نعمهم وقسم غنائمهم، وهي خمسمائة بعير فأخرج صلى الله عليه وسلم خمسة، وقسم أربعة أخماسه على المسلمين، فأصاب كل واحد منهم بعيرين، وكانوا مائتي رجل وصار يسار رضي الله تعالى عنه في سهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه حين رآه يصلي، وغاب صلى الله عليه وسلم عن المدينة خمسة عشرة ليلة» ، وقرقرة بفتح القافين أرض ملساء، وقال البكري: هي بضم القاف وإسكان الراء وبعدهما مثلهما والمعروف في ضبطهما الفتح. الكركر: كجعفر طائر ببحر الصين، يطير تحت طائر يقال له شنة يتوقع ذرقه، لأن غذاءه منه. وخرشنة طائرا أكبر من الحمام وهو لا يذرق إلا وهو طائر، كذا ذكره القزويني. الكركند: رأيت بخط اسماعيل بن محمد الأمير، ما مثاله: روي أنه في جزائر الصين والهند الكركند حيوان طوله مائة ذراع فأكثر من ذلك، له ثلاثة قرون: قرن بين عينيه، وقرنان على أذنيه، يطعن الفيل فيأخذه في قرنه، ويبقى بين عينيه مدة، ويبقى ولد الكركند في بطن أمه أربع سنين، وإذا تم له سنة، يخرج رأسه من بطن أمه، فيرعى الشجر مما يصل إليه، وإذا تم له أربع سنين، وقع من بطن أمه وفر كالبرق، حتى لا تدركه فتلحسه بلسانها، لأن لسانها فيه شوك كبير غليظ، إذا لحسته أزالت لحمه عن عظمه في لحظة واحدة. وملوك الصين إذا عذبوا أحدا سلموه إلى الكركند يلحسه فيبقى عظاما ليس عليه من اللحم شيء انتهى. وسماه الجاحظ الكركدن، ويسمى الحمار الهندي، ويسمى الحريش كما تقدم، وهو عدو الفيل ومعادنه بلاد الهند والنوبة، وهو دون الجاموس، ويقال: إنه متولد بين الفرس والفيل، وله قرن واحد عظيم في رأسه، لا يستطيع لثقله أن يرفع رأسه، وهذا القرن مصمت قوي الأصل، حاد الرأس، يقاتل به الفيل فلا يفيد معه ناباه، وإذا نشر قرنه طولا، تخرج منه الصور المختلفة بياض في سواد كالطاوس والغزال، وأنواع الطير والشجر، وصور بني آدم وغير ذلك من عجائب النقوش، يتخذون منه صفائح على سرر الملوك ومناطقهم، ويتغالون في أثمانها. وزعم أهل الهند أن الكركند، إذا كان بأرض لم يدع شيئا من الحيوانات، إلا ما كان بينه وبينه مائة فرسخ، من جميع الجهات هيبة له وهربا منه. ويزعمون أنه ربما نطح الفيل فرفعه على قرنه، ويقال: إن الأنثى تحمل كأنثى الفيل ثلاث سنين أو سبع سنين، ويخرج ولدها نابت الأسنان والقرون، قوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 الحوافر. وقيل: إذا قاربت الأنثى أن تضع يخرج الولد رأسه منها، فيرعى أطراف الشجر ثم يرجع. وقد أنكر الجاحظ هذا. وليس في الحيوان ذو قرن مشقوق الطرف غيره، وهو يجتر كالبقر والغنم والإبل، ويأكل الحشيش، لكنه شديد العداوة للإنسان إذا شم رائحته، أو سمع صوته طلبه، فإذا أدركه قتله. ولا يأكل منه شيئا، ويقال للأنثى كركندة قاله الزمخشري. وأما حكمه فلم أر أحدا تعرض له مع التتبع الشديد، والسؤال العديد، والظاهر حله، لأكله الشجر ولكونه يجتر، ولا يمنع من ذلك كونه يعادي الإنسان، فالضبع يعاديه ويؤكل، فإن ثبت أنه متولد من الفرس والفيل حرم، وهو بعيد. الخواص : على رأس قرنه شعبة مخالفة لانحناء القرن، وهي لها خواص عجيبة، وعلامة صحتها أن يرى منها شكل فارس، ولا توجد تلك الشعبة إلا عند ملوك الهند. ومن خواصها حل كل عقد، فلو أخذها صاحب القولنج بيده شفي في الحال. والمرأة التي ضربها الطلق، إن أمسكتها بيدها تلد في الحال، وإن سحق منها شيء يسير وسقي المصروع أفاق، وحاملها يأمن من عين السوء، ولا يكبو به الفرس، وإذا تركت في الماء الحار عاد باردا، وعينه اليمنى تعلق على الإنسان تزول عنه الآلام كلها، ولا يقربه الجن ولا الحيات، واليسرى تنفع من النافض والحمى، ويتخذ من جلده التجافيف فلا تعمل فيها السيوف. خاتمة : قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب الأمم: أشرف حلى أهل الصين من قرن الكركند فإن قرونها متى قطعت ظهر منها صور عجيبة مختلفة، فيتخذون منها مناطق تبلغ قيمة المنطقة منها أربعة آلاف مثقال ذهبا، والذهب عندهم هين عليهم، حتى يتخذوا منه لجم دوابهم وسلاسل كلابهم. قال: وأهل الصين بيض إلى الصفرة، فطس الأنوف، يبيحون الزنا ولا ينكرون شيئا منه، ويورثون الأنثى أكثر من الذكر، ولهم عيد عند نزول الشمس الحمل، يأكلون فيه ويشربون سبعة أيام. واقليمهم واسع فيه نحو ثلاثمائة مدينة، وفيه عجائب كثيرة. قال: والأصل في ذلك أن عامور بن يافث بن نوح عليه السلام نزلها، وابتنى بها المدائن هو وأولاده، وعملوا فيها العجائب، وكانت مدة ملك عامور ثلاثمائة سنة، ثم ملك بعده ابنه صاين بن عامور مائتي سنة، وبه سميت الصين، فجعل حينئذ تمثالا من ذهب على صورة أبيه على سرير من ذهب، وعكف هو وقومه على عبادته، وفعلوا بجميع ملوكهم ذلك، وهم على دين الصابئين. قال: ووراء الصين أمم عراة منهم أمة يلتحفون بشعورهم، وأمم لا شعر لهم، وأمم حمر الوجوه شقر الشعور، وأمم إذا طلعت الشمس هربوا إلى مغارات يأوون إليها إلى أن تغرب الشمس، وأكثر ما يأكلون نبات يشبه الكمأة وسمك البحر، ثم ذكر بعد هؤلاء يأجوج ومأجوج. قال: وأجمعوا على أنهم من ولد يافث بن نوح. ثم ختم الكتاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن يأجوج ومأجوج، هل بلغتهم دعوتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «مررت بهم ليلة أسري بي فدعوتهم فلم يجيبوا» . وأما تعبير رؤيته في المنام : فإنه ملك عظيم جائر، وقيل: إن رؤيته تدل على الحرب والمخادعة مع حقارته وعجمته ودناءة أصله، وربما كان مسلطا بماله وولده. الكركي: طائر كبير معروف، والجمع الكراكي، وكنيته أبو عريان وأبو عينا وأبو العيزار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 وأبو نعيم وأبو الهيصم، وذهب بعض الناس إلى أنه الغرنوق، وهو أغبر طويل الساقين، والأنثى منه لا تقعد للذكر عند السفاد، وسفاده سريع كالعصفور، وهو من الحيوان الذي لا يصلح إلا برئيس، لأن في طبعه الحذر والتحارس في النوبة، والذي يحرس يهتف بصوت خفي، كأنه ينذر بأنه حارس، فإذا قضى نوبته قام الذي كان نائما يحرس مكانه حتى يقضى كل ما يلزمه من الحراسة ولها مشات ومصايف، ومنها ما يلزم موضعا واحدا ومنها ما يسافر بعيدا، وفي طبعه التناصر، ولا تطير الجماعة منه متفرقة، بل صفا واحدا، يقدمها واحد منها، كالرئيس لها وهي تتبعه، يكون ذلك حينا، ثم يخلفه آخر منها مقدما، حتى يصير الذي كان مقدما مؤخرا، وفي طبعه أن أبويه إذا كبرا عالهما، وقد مدح هذا الخلق أبو الفتح كشاجم حيث يقول مخاطبا لولده: اتخذ في خلة الكراكي ... أتخذ فيك خلة الوطواط أنا إن لم تبرني في عناء ... فببري ترجو جواز الصراط ومعنى قوله خلة الوطواط، أنه يبر ولده فلا يتركه بمضيعة، بل يحمله معه حيثما توجه، وقد كذب المحدثون جميع بن عمير التيمي في قوله: إن الكراكي تفرخ في السماء ولا تقع فراخها، وله في السنن الأربعة ثلاثة أحاديث وحسن له الترمذي لكنه من عتق الشيعة. قال القزويني: والكراكي لا يمشي على الأرض إلا بإحدى رجليه، ويعلق الأخرى، وإن وضعها وضعها وضعا خفيفا مخافة أن تخسف به الأرض. وسيأتي إن شاء الله تعالى، في مالك الحزين طرف من هذا. ولملوك مصر وأمرائها في صيده تغال لا يدرك حده، وإنفاق مال لا يستطاع حصره وعده، فلذلك علت مملكتهم على كثير من الممالك، ولن يهلك على الله إلا هالك أو متهالك. وفي مصنف عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس وأبي موسى، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان نقش خاتمه كركي له رأسان، قال ابن بطال: وهذا إن كان صحيحا، فلا حجة فيه لإباحة ذلك لترك الناس العمل به، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن التصوير. فائدة : ذكر السهيلي عن رواية ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بني سعد، نزل عليه كركيان فشق أحدهما بمنقاره جوفه، ومج الآخر في فيه بمنقاره ثلجا، أو بردا أو نحو هذا. قال: وهي رواية غريبة ذكرها يونس عنه. وفي أوائل المجالسة للدينوري، أنه «أقبل عليه صلى الله عليه وسلم طيران أبيضان، كأنهما نسران» . إلى آخره. وفي المستدرك: «فأقبل عليه صلى الله عليه وسلم طيران أبيضان كأنهما نسران» . وذكر الحديث بطوله. وروى ابن أبي الدنيا وغيره، بإسناد يرفعه إلى أبي ذر رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله كيف علمت أنك نبي وبم علمت حتى استيقنت؟ قال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر أتاني ملكان فوقع أحدهما بالأرض، وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو. قال: فزنه برجل، فوزنني برجل فرجحته. ثم قال: زنه بعشرة فوزنني بعشرة فرجحتهم. ثم قال: زنه بمائة فوزنني فرجحتهم. ثم قال: زنه بألف فوزنني فرجحتهم. ثم قال أحدهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 لصاحبه: شق بطنه. فشق بطني، فأخرج قلبي، فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم، ثم قال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاء، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطني، وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن، ووليا عني فكأني أعاين الأمر معاينة» اهـ. قلت: وفي هذا الحديث من الفوائد أن خاتم النبوة لم يكن قبل ذلك، واختلف العلماء في صفته على عشرين قولا حكاها الحافظ قطب الدين. ففي سيرة ابن هشام أنه كأثر المحجمة القابضة على اللحم. وفي الحديث أنه كان حوله خيلان فيها شعرات سود. وروي أنه كان كالتفاحة، وكزر الحجلة، مكتوب عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقد تقدم في باب الحاء المهملة ما وقع فيه للترمذي. وروى أنه كان كبيضة الحمامة. وروى الحاكم والترمذي في المناقب عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه، قال «1» : خرج أبو طالب إلى الشأم، وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب، هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيد الخلق أجمعين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ قريش: ما أعلمك بهذا؟ فقال: إنكم حين أشرفتم على العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدا لله تعالى، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يفعل ذلك إلا لنبي وإني لأعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة. ثم رجع فصنع لهم طعاما، فلما أتاهم به لم يجده وكان صلى الله عليه وسلم في رعية الإبل، فقال: ارسلوا إليه، فأرسلوا إليه فأقبل صلى الله عليه وسلم وعليه غمامة تظله، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة، فلما جلس صلى الله عليه وسلم مال فيء الشجرة عليه، قال: فبينما هو قائم عليهم يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه، فالتفت فإذا هو بسبعة من الروم قد أقبلوا، فاستقبلهم وقال: ما جاء بكم؟ قالوا: أخبرنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا وقد بعث إليه أناس، وإنا قد أخبرنا يقينا أنه في طريقك هذا. فقال: هل خلفتم أحدا هو خير منكم؟ قالوا: لا وإنما اخترنا طريقك هذا لأجلك. قال: أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه، هل يستطيع أحد من الناس أن يرده؟ قالوا: لا. قال: فبايعوه، فبايعوه وأقاموا معه. ثم قال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب، وبعث معه أبو بكر بلالا رضي الله عنهما، وزوده الراهب من الكعك والزيت. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. اهـ ورجال سنده جميعهم مخرج لهم في الصحيح. قال الحافظ الدمياطي: في هذا الحديث وهمان، الأول قوله فبايعوه وأقاموا معه، والثاني قوله وبعث معه أبو بكر وبلالا، ولم يكونا معه، ولم يكن بلال أسلم ولا ملكه أبو بكر بعد، بل كان أبو بكر حينئذ لم يبلغ عشرين سنة، ولم يملك بلالا إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 قال السهيلي: و الحكم ة في خاتم النبوة على جهة الاعتبار، أنه صلى الله عليه وسلم لما ملىء قلبه حكمة ويقينا ختم عليه، كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا. وأما وضعه أسفل من غضروف الكتف، فلأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم، لما روى ميمون بن مهران عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، أن رجلا سأل ربه سنة أن يريه موضع الشيطان منه، فأري جسدا كالبلور، يرى داخله من خارجه، والشيطان في صورة ضفدع عند نغض كتفه، يحاذي قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة، قد أدخله إلى قلبه يوسوس له، فإذا ذكر الله العبد خنس. وقد تقدم هذا في باب الضاد المعجمة في الضفدع منقولا عن الزمخشري. قلت: وانشقاق الصدر حصل له صلى الله عليه وسلم مرتين: إحداهما في صغره وهي هذه، والأخرى في كبره ليلة الإسراء. ففي الصحيحين «1» من حديث أنس وأبي ذر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فرج عني سقف بيتي، وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطشت من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه» . وقال أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أنه صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: «بينا أنا في الحطيم، وربما قال في الحجر بين النائم واليقظان، إذ نزل علي رجلان، فأتيت بطشت من ذهب مملوء حكمة وإيمانا، فشق صدري من النحر إلى مراق البطن، واستخرج قلبي فغسل، ثم حشي ثم أعيد» . وقال سعيد بن هشام: «ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملىء إيمانا وحكمة ثم أتيت بالبراق فركبته» . الحديث بطوله. وقال قوم: عرج به صلى الله عليه وسلم من دار أم هانىء أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. الحكم : يحل أكله بلا خلاف، وما أوهمه العبادي من جريان، خلاف طير الماء الأبيض فيه شاذ مردود. وقال الأصحاب: ما كان من الطيور المأكولة أكبر من الحمام كالبط والكركي، إذا قتلها المحرم أو قتلت في الحرم، فيه قولان: أحدهما إيجاب الشاة إلحاقا بالحمام من باب أولى، لأنه أكبر شكلا من الحمام، ويشهد له قول عطاء في عظام الطير شاة كالكركي والحبارى والأوز، والقول الثاني اعتبار القيمة، وهو القياس، فإن الشاة في الحمام لا تباع النقل. ويشهد له قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ما كان سوى حمام الحرم، ففيه ثمنه إذا أصابه المحرم. الأمثال : قالوا: «فلان أحرس من الكركي» لأنه يقوم الليل كله على إحدى رجليه كما تقدم. ومن أحسن ما يحكى عن الإمام الزاهد القدوة أبي سليمان الداراني أنه قال: اختلفت إلى مجلس قاص فتكلم فأحسن في كلامه فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت ثانيا فسمعت كلامه فبقي في قلبي أثر كلامه في الطريق، ثم زال ثم عدت ثالثا، فبقي في قلبي أثر كلامه حتى رجعت إلى منزلي، فلزمت الطريق. فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى. فقال «عصفورا اصطاد كركيا» أراد بالعصفور ذلك القاص وبالكركي أبا سليمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 الخواص : لحم الكركي بارد يابس لا دسم له أجوده صيد البازي، ينفع أصحاب الكد لكنه سيء الهضم، ويدفع ضرره إنضاجه بالأبازير الحارة، وهو يولد دما غليظا، ويوافق أصحاب الأمزجة الحارة، لا سيما الشباب، وأجود أكله في الشتاء، ويختار أن يتحلى بعده بالحلوى العسلية، فإنها مما يسهل خروجه، ويجب أن لا يؤكل إلا بعد يوم أو يومين. وتشد في أرجلها الحجارة، وتعلق ليرخص لحمها، وتنضج في طبخها وتستمرىء عند أكلها، وكذلك يفعل فيما لحمه كذلك غليظ عسر الاستمراء، لا سيما إناثها، ومرارته تنفع من القرع، وإذا خلطت مع دماغه بزئبق، وسعط بها الذي ينسى، فإنه يذكر ما ينساه. ومن أحب أن لا ينبت في بدنه من الشعر فليأخذ جزءا من الذراريح، ومثله مخ كركي ويدفهما جميعا ويطلي بهما أي موضع اختاره من بدنه، فإنه لا يطلع فيه شعر. التعبير : الكركي في المنام تدل رؤيته على رجل مسكين غريب، ومن رأى كأنه راكب كركيا فإنه يفتقر، ومن رأى أنه ملك كثيرا منها أو وهب له، فإنه ينال رياسة ومالا، ولحم الكركي لمن أراد المشاركة أو الزواج دليل خير، لأنها لا تفترق في طيرانها، وقيل: إن من رأى أنه أخذ كركيا صاهر قوما سيئة أخلاقهم. وقالت النصارى والروم: من رأى كركيا سافر سفرا بعيدا، وإن رآه مسافرا رجع إلى بلده. وقال ارطاميدورس: الكركي في الشتاء تدل على اللصوص، وقطاع الطريق، وهي دليل خير من أراد الأولاد، لأنها تعين آباءها عند الكبر والله أعلم. الكروان: بفتح الكاف والراء المهملة طائر يشبه البط لا ينام الليل، سمي بضده من الكرى، والأنثى كروانة وجمع كروان كروان بكسر الكاف كورشان وورشان على غير قياس قال بكر «1» بن سوادة في خالد «2» بن صفوان: عليم بتنزيل الكتاب ملقن ... ذكور بما أسداه أول أولا ترى خطباء الناس يوم ارتجاله ... كأنهم الكروان عاين أجدلا وقال طرفة في أبياته التي كانت سبب قتله «3» : لنا يوم وللكروان يوم ... تطير اليابسات ولا نطير فأما يومهن فيوم سوء ... تطاردهن بالحرب الصقور وأما يومنا فنظلّ ركبا ... وقوفا ما نحلّ ولا نسير فكتب له عمرو بن هند وللمتلمس كتابين إلى عامله المكعبر بقتلهما، فقتل طرفة وسلم المتلمس لما قرئت عليه الصحيفة، والقصة في ذلك مشهورة، وتقدمت الإشارة إليها في القبرة. ووقع ذكر هذه الصحيفة في سنن أبي داود في آخر كتاب الزكاة، وذلك أن عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 حابس التميمي قدما على النبي صلى الله عليه وسلم، فسألاه، فأمر لهما عليه الصلاة والسلام بما سألاه. وأملى عليه الصلاة والسلام معاوية رضي الله تعالى عنه، فكتب لهما بما سألاه، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته، وانطلق إلى قومه. وأما عيينه فأخذ كتابه وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أتراني حاملا إلى قومي كتابا لا أدري ما فيه كصيحفة المتلمس؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من سأل وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار» «1» . قالوا: يا رسول الله وما الذي يغنيه؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قدر ما يغديه أو يعشيه» اهـ. وحكمه : حل الأكل بالإجماع. الأمثال : قالوا: «أجبن «2» من كروان» لأنه إذا قيل له: «أطرق «3» كروان النعام في القرى» التصق بالأرض، فيلقى عليه ثوب فيصاد، وهذا المثل يضرب للمعجب بنفسه، قال «4» الشاعر: أمير أبي موسى يرى الناس حوله ... كأنهم الكروان أبصر بازيا وقالوا «5» فيه: شهدت بأن الخبز باللحم طيب ... وإن الحبارى خالة الكروان يضرب عند الشيء يتمنى ولا يقدر عليه. الخواص : قال القزويني: إن لحمه وشحمه يحركان الباه تحريكا عجيبا. الكسعوم: كحلقوم الحمار لغة حميرية والميم زائدة فيه، وكسع حي من حمير باليمن رماة منه قولهم: «ندمت ندامة الكسعي» وهو رجل من كسع اسمه مجاور بن قيس، رأى نبعة فرباها، حتى اتخذ منها قوسا فرمى الوحش عنها ليلا فأصاب، وظن أنه أخطأ، فكسر القوس، فلما أصبح رأى ما أصمى من الصيد فندم. قال الشاعر: ندمت ندامة الكسعي لما ... رأت عيناه ما صنعت يداه روى الطبراني وغيره من حديث عبد الرحمن بن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا زكاة في الكسعة والجبهة والنخة» . فسره أبو عبيد وغيره، بأن الكسعة الحمير، والجبهة الخيل، والنخة العبيد. وقال الكسائي: إنما هو النخة بضم النون وهي البقر العوامل. الكعيت: البلبل جاء مصغرا كما تقدم وجمعه كعتان. عجيبة : ذكر الأزرقي، في تاريخ مكة أن طائرا أصغر من الكعيت، لونه لون الحبرة بريشة حمراء، وريشة سوداء، دقيق الساقين طويلهما، له عنق طويل، دقيق المنقار طويله، كأنه من طير البحر، أقبل يوم السبت، يوم سبع وعشرين من ذي القعدة سنة ست وعشرين ومائتين، حين طلعت الشمس، والناس إذ ذاك في الطواف، كثير من الحاج وغيرهم، وعبر من ناحية أجياد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 حتى وقع في المسجد الحرام، قريبا من زمزم مقابل الحجر الأسود، فمكث ساعة طويلة ثم طار، حتى صدم الكعبة في نحو وسطها بين الركن اليماني والحجر الأسود، وهو إلى الحجر الأسود أقرب. ثم وقع على منكب رجل في الطواف عند الحجر الأسود، من الحاج من أهل خراسان محرم، فلبى وهو على منكبه الأيمن، فطاف به الرجل أسابيع، والناس يدنون منه وينظرون إليه وهو ساكن غير مستوحش منهم، والرجل الذي هو عليه يمشي في الطواف في وسط الناس، وهم ينظرون إليه ويتعجبون، وعينا الرجل تدمعان على خديه ولحيته. قال عبد الله بن ربيعة: رأيته على منكبه الأيمن، والناس يدنون منه وينظرون إليه، فلا ينقل منهم ولا يطير، فطفت أسابيع ثلاثة كل ذلك أخرج من الطواف فأركع خلف المقام، ثم أعود وهو على منكب الرجل. قال: ثم جاء إنسان من أهل الطواف، فوضع يده عليه فلم يطر، وطاف به بعد ذلك ثم طار هو من قبل نفسه حتى وقع على يمين المقام، ومكث ساعة طويلة وهو يمد عنقه ويقبضها إلى جناحه، والناس ينظرون إليه، فأقبل فتى من الحجبة فضرب بيده فيه فأخذه ليريه رجلا منهم كان يركع خلف المقام، فصاح الطير في يده أشد صياح، بصوت لا يشبهه أصوات الطيور، ففزع منه وأرسله من يده فطار حتى أتى بين يدي دار الندوة، خارجا من الظلال، قريبا من الأسطوانة الحمراء، واجتمع الناس ينظرون إليه، وهو مستأنس في ذلك كله غير مستوحش من الناس، ثم طار من قبل نفسه فخرج من باب المسجد الذي بين دار الندوة ودار العجلة نحو قعيقعان، وقد تقدم في باب الهمزة، في الأديم ما ذكره الأزرقي مما يشبه هذا. الككم: طائر بأرض طبرستان حسن موشى حسن العينين جدا سمي باسم صياحه الذي يصيحه، وربما اصطاد العصافير وصغار الطير مما يكون في الآجام والمياه وغيرها، لكن لا في جميع السنة بل في فصل الربيع، فإذا صاح اجتمعت عليه العصافير وصغار الطيور مما يكون في الآجام والمياه، وغيرها فتزقه من أول النهار فإذا كان آخر النهار أخذ واحدا منها فأكله، فذلك فعله في كل يوم إلى أن ينقضي فصل الربيع، فإذا انقضى انعكست عليه، فلا تزال تجتمع عليه وتطرده وتضربه، وهو يهرب منها ولا يسمع له صوت، إلى فصل الربيع الآخر. وذكر علي بن زيد الطبري صاحب فردوس الحكمة أن هذا الطائر لا يكاد يرى قدماه على الأرض، بل يطأ على إحدى رجليه على البدن. وذكر الجاحظ أن الككم من عجائب الدنيا، وأنه لا يطأ على الأرض بقدميه جميعا خشية أن تنخسف من تحته، كما تقدم في الكركي. ومثل هذا يأتي إن شاء الله تعالى في مالك الحزين والنحام. الكلب: حيوان معروف، وربما وصف به فقيل للرجل كلب وللمرأة كلبة، والجمع أكلب وكلاب وكليب، مثل أعبد وعباد وعبيد وهو جمع عزيز. والأكالب جمع أكلب قال ابن سيده: وقد قالوا في جمع كلب كلابات. قال الشاعر: أحبّ كلب في كلابات الناس ... إلي نهجا كلب أمّ عباس وكلاب اسم رجل من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وهو كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وكلاب إما منقول من المصدر، الذي هو في معنى المكالبة، نحو كالبت العدو مكالبة وكلابا، وإما جمع كلب، وسموه بذلك طلبا للكثرة كما سموا سباع، وأنمار. قيل لأبي الدقيش الأعرابي: لم تسمون أبناءكم بشر الأسماء نحو كلب وذئب؟ وعبيدكم بأحسنها نحو مرزوق ورباح؟ فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا وعبيدنا لأنفسنا. وكأنهم قصدوا بذلك التفاؤل بمكالبة العدد وقهره، والكلبة أنثى الكلاب، وجمعها كلبات ولا تكسر. والكلب حيوان شديد الرياضة كثير الوفاء، وهو لا سبع ولا بهيمة، حتى كأنه من الخلق المركب لأنه لو تم له طباع السبعية ما ألف الناس، ولو تم له طباع البهيمية ما أكل لحم الحيوان، لكن في الحديث إطلاق البهيمة عليه. روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينما امرأة تمشي بفلاة من الأرض، اشتد عليها العطش، فنزلت بئرا فشربت ثم صعدت، فوجدت كلبا يأكل الثرى من العطش، فقالت: لقد بلغ بهذا الكلب مثل الذي بلغ بي، ثم نزلت البئر فملأت خفها وأمسكته بفيها، ثم صعدت فسقته، فشكر الله لها ذلك، وغفر لها» . قالوا: يا رسول الله أو لنا في البهائم أجر؟ قال: «نعم في كل كبد رطبة أجر» «1» . وهو نوعان: أهلي وسلوقي نسبة إلى سلوق، وهي مدينة باليمن تنسب إليها الكلاب السلوقية، وكلا النوعين في الطبع سواء، وفي طبعه الاحتلام، وتحيض إناثه وتحمل الأنثى ستين يوما، ومنها ما يقل عن ذلك وتضع جراها عميا، فلا تفتح عيونها إلا بعد اثني عشر يوما، والذكور تهيج قبل الإناث وهي تنزو إذا كمل لها سنة، وربما تسفد قبل ذلك، وإذا سفد الكلبة كلاب مختلفة الألوان أدت إلى كل كلب شبهه. وفي الكلب من اقتفاء الأثر، وشم الرائحة ما ليس لغيره من الحيوانات، والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض. ويأكل العذرة ويرجع في قيئه، وبينه وبين الضبع عداوة شديدة وذلك أنه إذا كان في مكان عال أو موضع مرتفع، ووطئت الضبع ظله في القمر رمى بنفسه عليها مخذولا، فتأخذه فتأكله، وإذا دهن كلب بشحمها جن واختلط، وإذا حمل الإنسان لسان ضبع لم تنبح عليه الكلاب، ومن طبعه أن يحرس ربه ويحمي حرمه شاهدا وغائبا، ذاكرا وغافلا، نائما ويقظان، وهو أيقظ الحيوان عينا في وقت حاجته إلى النوم، وإنما غالب نومه نهارا عند الاستغناء عن الحراسة، وهو في نومه، أسمع من فرس، وأحذر من عقعق، وإذانام كسر أجفان عينيه ولا يطبقها، وذلك لخفة نومه، وسبب خفته أن دماغه بارد بالنسبة إلى دماغ الإنسان، ومن عجيب طباعه أنه يكرم الجلة من الناس وأهل الوجاهة، ولا ينبح أحدا منهم، وربما حاد عن طريقه وينبح الأسود من الناس والدنس الثياب والضعيف الحال. ومن طباعه البصبصة والترضي والتودد والتألف، بحيث إذا دعي بعد الضرب والطرد رجع، وإذا لاعبه ربه عضه العض الذي لا يؤلم، وأضراسه لو أنشبها في الحجر لنشبت، ويقبل التأديب والتلقين والتعليم، حتى لو وضعت على رأسه مسرجة وطرح له مأكول لم يلتفت إليه مادام على تلك الحالة، فإذا أخذت المسرجة عن رأسه وثب إلى مأكوله، وتعرض له أمراض سوداوية في زمن مخصوص، ويعرض له الكلب بفتح اللام وهو داء يشبه الجنون، وعلامة ذلك أن تحمر عيناه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 وتعلوهما غشاوة، وتسترخي أذناه، ويندلع لسانه ويكثر لعابه، وسيلان أنفه، ويطأطىء رأسه وينحدب ظهره، ويتعوج صلبه إلى جانب، ولا يزال يدخل ذنبه بين رجليه ويمشي خائفا مغموما كأنه سكران، ويجوع فلا يأكل، ويعطش فلا يشرب، وربما رأى الماء فيفزع منه، وربما يموت منه خوفا، وإذا لاح له شبح حمل عليه من غير نبح، والكلاب تهرب منه، فإن دنا منها غفلة، بصبصت له وخضعت، وخشعت بين يديه، فإذا عقر هذا الكلب إنسانا عرض له أمراض رديئة، منها أن يمتنع من شرب الماء حتى يهلك عطشا، ولا يزال يستقي حتى إذا سقي الماء لم يشربه، فإذا استحكمت هذه العلة به، فقعد للبول خرج منه شيء على هيئة الكلاب الصغار. قال صاحب الموجز في الطب: الكلب حالة كالجذام تعرض للكلب والذئب وابن آوى وابن عرس والثعلب، ثم ذكر غالب ما تقدم، وقال غيره: الكلب جنون يصيب الكلاب فتموت وتقتل كل شيء عضته إلا الإنسان، فإنه قد يعالج فيسلم. قال: وداء الكلب يعرض للحمار ويقع في الإبل أيضا، فيقال: كلبت الإبل تكلب كلبا وأكلب القوم إذا وقع في إبلهم. ويقال: كلب الكلب واستكلب، إذا ضرى، وتعود أكل الناس انتهى. وذكر القزويني، في عجائب المخلوقات، أن بقرية من أعمال حلب بئرا، يقال لها بئر الكلب، إذا شرب منها من عضه الكلب برىء، وهي مشهورة. قال: وقد أخبرني بعض أهل القرية، أن المكلوب إذا لم يجاوز أربعين يوما، وشرب منها برىء أما إذا جاوز الأربعين فإنه يموت ولو شرب منها. وذكر أنه شاهد ثلاثة أنفس مكلوبين، شربوا منها فسلم اثنان، وكانا لم يبلغا الأربعين، ومات الثالث وكان قد جاوز الأربعين. وهذه البئر يشرب منها أهل الضيعة. وأما السلوقي فمن طباعه أنه إذا عاين الظباء قريبة منه أو بعيدة عرف المقبل من المدبر، ومشي الذكر من مشي الأنثى، ويعرف الميت من الناس والمتماوت، حتى إن الروم لا تدفن ميتا حتى تعرضه على الكلاب، فيظهر لهم من شمها إياه علامة تستدل بها على حياته أو موته، ويقال: إن هذا لا يوجد إلا في نوع منها يقال له القلطي، وهو صغير الجرم قصير القوائم جدا، ويسمى الصيني. وإناث السلوقي أسرع تعلما من الذكور، والفهد بالعكس كما تقدم، والسود من الكلاب أقل صبرا من غيرها. وفي كتاب فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب، لمحمد بن خلف المرزبان «1» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قتيلا، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما شأنه» ؟ قالوا: إنه وثب على غنم بني زهرة، فأخذ منها شاة، فوثب عليه كلب الماشية فقتله. فقال صلى الله عليه وسلم: «قتل نفسه، وأضاع ديته، وعصى ربه، وخان أخاه وكان الكلب خيرا منه» . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كلب أمين خير من صاحب خؤون. قال: وكان للحارث بن صعصعة ندماء لا يفارقهم، وكان شديد المحبة لهم، فخرج في بعض منتزهاته، ومعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 ندماؤه فتخلف منهم واحد، فدخل على زوجته، فأكلا وشربا ثم اضطجعا، فوثب الكلب عليهما فقتلهما. فلما رجع الحارث إلى منزله وجدهما قتيلين. فعرف الأمر فأنشأ يقول: وما زال يرعى ذمتي ويحوطني ... ويحفظ عرسي والخليل يخون «1» فيا عجبا للخلّ يهتك حرمتي ... ويا عجبا للكلب كيف يصون وذكر الإمام أبو الفرج بن الجوزي في بعض مصنفاته، أن رجلا خرج في بعض أسفاره فمر على قبة مبنية أحسن بناء، بالقرب من ضيعة هناك، وعليها مكتوب: من أحب أن يعلم سبب بنائها، فليدخل القرية. فدخل القرية، وسأل أهلها عن سبب بناء القبة، فلم يجد عند أحد خبرا من ذلك، إلى أن دل على رجل قد بلغ من العمر مائتي سنة، فسأله فأخبره عن أبيه أنه حدثه أن ملكا كان بتلك الأرض، وكان له كلب لا يفارقه في سفر ولا حضر، ولا نوم ولا يقظة، وكانت له جارية خرساء مقعدة، فخرج ذات يوم إلى بعض منتزهاته وأمر بربط الكلب لئلا يذهب معه، وأمر طباخه أن يصنع له طعاما من اللبن كان يهواه، وأن الطباخ صنعه وجاء به فوضعه عند الجارية والكلب وتركه مكشوفا، وذهب فأقبلت حية عظيمة إلى الإناء، فشربت من ذلك الطعام وردته وذهبت. ثم أقبل الملك من منتزهه، وأمر بالطعام فوضع بين يديه، فجعلت الجارية تصفق بيديها، وتشير إلى الملك أن لا يأكله فلم يعلم أحد ما تريد، فوضع الملك يده في الصفحة، وجعل الكلب يعوي ويصيح، ويجذب نفسه من السلسلة، حتى كاد أن يقتل نفسه، فتعجب الملك من ذلك وأمر بإطلاقه فأطلق فغدا إلى الملك وقد رفع يده باللقمة إلى فيه فوثب الكلب وضربه على يده فأطار اللقمة منها فغضب الملك، وأخذ خنجرا كان بجنبه، وهم أن يضرب به الكلب، فأدخل الكلب رأسه في الإناء، وولغ من ذلك الطعام، فانقلب على جنبه وقد تناثر لحمه. فعجب الملك ثم التفت إلى الجارية، فأشارت إليه بما كان من أمر الحية. ففهم الملك الأمر وأمر بإراقة الطعام، وتأديب الطباخ على كونه ترك الإناء مكشوفا، وأمر بدفن الكلب وببناء القبة عليه، وبتلك الكتابة التي رأيتها. قال: وهي من أغرب ما يحكى. وفي كتاب النشوان عن أبي عثمان المديني، أنه قال: كان في بغداد رجل يلعب بالكلاب، فتركه ومشى حتى انتهى إلى قوم كان بينه وبينهم عداوة، فصادفوه بغير عدة فقبضوا عليه، والكلب يراهم، فأدخلوه الدار ودخل الكلب معهم فقتلوا الرجل وألقوه في بئر وطموا رأس البئر، وضربوا الكلب، فأخرجوه وطردوه، فخرج يسعى إلى بيت صاحبه فعوى فلم يعبأوا به، وافتقدت أم الرجل ابنها، وعلمت أنه قد تلف، فأقامت عليه المأتم وطردت الكلاب عن بابها، فلزم ذلك الكلب الباب ولم ينطرد فاجتاز يوما بعض قتلة صاحبه بالباب، والكلب رابض، فلما رآه وثب عليه، فخمش ساقه ونهشه وتعلق به، واجتهد المجتازون في تخليصه منه، فلم يمكنهم، وارتفعت للناس ضجة عظيمة، وجاء حارس الدرب وقال: لم يتعلق هذا الكلب بالرجل إلا وله معه قصة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 ولعله هو الذي جرحه. وسمعت أم القتيل الكلام فخرجت فحين رأت الكلب متعلقا بالرجل، تأملت في الرجل، فتذكرت أنه كان أحد أعداء ابنها وممن يتطلبه، فوقع في نفسها أنه قاتل ابنها، فتعلقت به فرفعوهما إلى أمير المؤمنين الراضي بالله، فادعت عليه القتل، فأمر بحبسه بعد أن ضربه فلم يقر، فلزم الكلب باب الحبس، فلما كان بعد أيام أمر الراضي بإطلاقه، فلما خرج من باب الحبس، تعلق به الكلب كما فعل أولا، فتعجب الناس من ذلك وجهدوا على خلاصه منه، فلم يقدروا على ذلك إلا بعد جهد جهيد، فأخبر الراضي بذلك فأمر بعض غلمانه أن يطلق الرجل، ويرسل الكلب خلفه ويتبعه فإذا دخل الرجل داره بادره، وأدخل الكلب معه فمهما رأى الكلب يعمل يعلمه بذلك، ففعل ما أمره به، فلما دخل الرجل داره بادره غلام الخليفة ودخل وأدخل الكلب معه، ففتش البيت فلم ير أثرا ولا خبرا وأقبل الكلب ينبح، ويبحث عن موضع البئر التي طرح فيها القتيل، فتعجب الغلام من ذلك، وأخبر الراضي بأمر الكلب، فأمر بنبش البئر فنبشوها، فوجدوا الرجل قتيلا، فأخذوا صاحب الدار إلى بين يدي الراضي، فأمر بضربه فأقر على نفسه، وعلى جماعته بالقتل. فقتل وطلب الباقون فهربوا. وفي عجائب المخلوقات، أن شخصا قتل شخصا بأصبهان وألقاه في بئر، وللمقتول كلب يرى ذلك، فكان يأتي كل يوم إلى رأس البئر، وينحي التراب عنه، ويشير إليها، وإذا رأى القاتل نبح عليه، فلما تكرر ذلك منه حفروا البئر، فوجدوا القتيل بها، ثم أخذوا الرجل وقرروه فأقر فقتلوه به. وفي الإحياء، عن بعض الصوفية، قال: كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا باب الجهاد، وإذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع خال فقعدنا، فلما نظر الكلب إلى الميتة، رجع إلى البلد، ثم عاد ومعه نحو من عشرين كلبا، فجاء إلى تلك الميتة وقعد ناحية، ووقعت الكلاب في الميتة، فما زالت تأكل إلى أن شبعت، وذلك الكلب قاعد ينظر إلى الميتة، حتى أكلت وبقيت العظام، فلما رجعت الكلاب إلى البلد، قام ذلك الكلب إلى العظام فأكل ما بقي عليها من اللحم ثم انصرف. وفي الشعب للبيهقي وغيرها عن الفقيه منصور اليمني الشافعي الضرير، وله مصنفات في المذهب وشعر حسن أنه كان ينشد «1» لنفسه: الكلب أحسن عشرة ... وهو النهاية في الخساسه ممن ينازع في الريا ... سة قبل إبان الرياسه ثم قال البيهقي: وكان الشيخ الإمام القاضي أبو الطيب الطبري يقول: «من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه» . وقال شعيب بن حرب: «من رضي أن يكون ذنبا أبى الله إلا أن يجعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 رأسا» . ومن محاسن شعر الفقيه منصور اليمني المتقدم ذكره، ووفاته في سنة ست وخمسين وثلاثمائة قوله «1» : لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيله من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله ولقد أجاد علي بن عبد الواحد البغدادي المعروف بصريع الدلاء «2» في قوله: من فاته العلم وأخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حدّ سوا وهذا البيت آخر قصيدة له في المجون، ذكر فيها من صنعة الغزل فنونا، ولو لم يكن له سواه لكفاه، وهي طويلة طنانه عجز فحول الشعراء أن يزيدوا فيها بيتا واحدا. وتوفي في رجب سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فجأة بشرقة لحقته عند الشريف البطحاوي. وذكر ابن خلكان أن الحسين بن أحمد المعروف بابن الحجاج الشاعر المشهور، لما حضرته الوفاة أوصى بأن يدفن عند رجلي الإمام موسى بن جعفر أحد الأئمة الإثني عشر رضي الله عنهم على رأي الإمامية وأن يكتب على قبره وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ «3» . قال: وابن الحجاج ذو خلاعة ومجون. وقيل: إنه دعي إلى دعوة وتأخر الطعام عنه فقال «4» : يا ذاهبا في داره جائيا ... من غير معنى بل ولا فائده قد جنّ أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده ودعوة الطعام بفتح الدال. وأما قول قطرب في مثلثته، فقلت: عندي دعوة بضم الدال فمردود عليه انتهى. فائدة : ذكر ابن عبد البرّ في كتابه بهجة المجالس وأنس المجالس، أنه قيل لجعفر الصادق رضي الله عنه، وهو أحد الأئمة الإثني عشر: كم تتأخر الرؤيا؟ فقال: خمسين سنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كأن كلبا أبقع ولغ في دمه، فأوّله بأن رجلا يقتل الحسين ابن بنته رضي الله تعالى عنه. فكان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين، وكان أبرص. فتأخرت الرؤيا بعده خمسين سنة، كما تقدم في باب الهمزة في الأوز. وفي هذا الكتاب أشياء تصلح للمذاكرة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل الجنة، فرأى فيها عذقا مدلى فأعجبه، فقال: «لمن هذا» ؟ فقيل: هذا لأبي جهل. فشق عليه صلى الله عليه وسلم ذلك. فقال: «ما لأبي جهل والجنة؟ والله لا يدخلها أبدا، فإنه لا يدخلها إلا نفس مؤمنة» . فلما أتاه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنه مسلما، فرح به وقام إليه، وتأول ذلك العذق عكرمة ابنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 ومنها أن بعض الشاميين كان عاملا لعمر رضي الله تعالى عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين رأيت كأن الشمس والقمر اقتتلا، ومع كل واحد منهما فرقة من النجوم، فقال له: مع أيهما كنت؟ فقال: مع القمر. قال: مع الآية الممحوة، لا عملت لي عملا أبدا، فعزله. وقتل ذلك الرجل مع معاوية رضي الله عنه بصفين. ومنها أن عائشة رضي الله تعالى عنها، رأت ثلاثة أقمار سقطن في حجرها، فقال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إن صدقت رؤياك، فإنه يدفن في بيتك ثلاثة من خيار أهل الأرض. فلما دفن صلى الله عليه وسلم في بيتها قال لها أبو بكر رضي الله تعالى عنه: هذا أحد أقمارك، وهو خيرها. وفيه أشياء كثيرة وكان الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي، إمام عصره في الحديث والأثر وهو أحد نقلة المذاهب، وتوفي هو والإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي الشافعي حافظ المشرق في سنة ثلاث وستين وأربعمائة. ومما ينشد «1» للشافعي رحمه الله تعالى: ليت الكلاب لنا كانت مجاورة ... وليتنا لا نرى ممن نرى أحدا إن الكلاب لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا وفي الميزان للذهبي، في ترجمة أحمد بن زرارة المدني بسند مظلم، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا كان زمن يكون الأمير فيه كالأسد، والحاكم فيه كالذئب الأمعط، والتاجر فيه كالكلب الهرار، والمؤمن بينهم كالشاة الولهاء بين الغنم ليس لها مأوى، فكيف حال شاة بين أسد وذئب وكلب!» . وفي أمالي أبي بكر القطيعي، عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بنا كلب فما بلغت يده رجله حتى مات. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، قال: «من الداعي على هذا الكلب آنفا؟» فقال رجل من القوم: أنا يا رسول الله. فقال: «ما قلت» ؟ قال: قلت: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام اكفني هذا الكب بما شئت. فقال «2» النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى» والحديث في السنن الأربعة وفي مسند الإمام أحمد وكتابي الحاكم وابن حبان بغير قصة الكلب. وأفاد الطبراني، من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن هذه الصلاة كانت صلاة العصر يوم الجمعة، وأن الرجل المذكور الداعي على هذا الكلب سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سعد لقد دعوت في يوم وساعة بكلمات، لو دعوت بهن على من في السموات والأرض استجيب لك فأبشر يا سعد» . وروى الإمام أحمد في الزهد، عن جعفر بن سليمان، قال: رأيت مع مالك بن دينار رضي الله تعالى عنه كلبا فقلت: ما تصنع بهذا يا أبا يحيى؟ فقال: هذا خير من جليس السوء! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وفي مناقب الإمام أحمد، أنه بلغه أن رجلا من وراء النهر عنده أحاديث ثلاثية، فرحل الإمام أحمد إليه، فوجد شيخا يطعم كلبا، فسلم عليه فرد عليه السلام، ثم اشتغل الشيخ بإطعام الكلب، فوجد الإمام في نفسه إذ أقبل الشيخ على الكلب ولم يقبل عليه، فلما فرغ الشيخ من طعمة الكلب، التفت إلى الإمام أحمد، وقال له: كأنك وجدت في نفسك، إذ أقبلت على الكلب ولم أقبل عليك؟ قال: نعم. فقال الشيخ: حدثني أبو الزناد، عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قطع رجاء من ارتجاه قطع الله منه رجاءه يوم القيامة فلم يلج الجنة» . وأرضنا هذه ليست بأرض كلاب، وقد قصدني هذا الكلب، فخفت أن أقطع رجاءه فيقطع الله رجائي منه يوم القيامة. فقال الإمام أحمد: هذا الحديث يكفيني ثم رجع. ويقرب من هذا ما في رسالة القشيري، في باب الجود والسخاء، أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، خرج إلى ضيعة له، فنزل على نخيل قوم، وفيها غلام أسود يعمل فيها، إذ أتى الغلام بغدائه، وهي ثلاثة أقراص، فرمى بقرص منها إلى كلب كان هناك فأكله، ثم رمى إليه الثاني فأكله والثالث فأكله، وعبد الله بن جعفر ينظر، فقال: يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ فقال: إن هذه الأرض ليست بأرض كلاب، وإنه جاء من مسافة بعيدة جائعا، فكرهت رده! فقال له عبد الله: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا. فقال عبد الله بن جعفر لأصحابه: ألام على السخاء وهذا أسخى مني؟ ثم اشترى الغلام وأعتقه، واشترى الحائط وما فيه ووهب ذلك له. وتقدم في باب الحاء المهملة، في الحمار، أن الحاكم روى عن جابر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «إذا سمعتم نباح الكلب ونهيق الحمار بالليل فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم، فإنها ترى ما لا ترون وأقلوا الخروج إذا هدأت الرجل، فإن الله تعالى يبث في الليل من خلقه ما شاء» . غريبة : في كتاب البشر بخير البشر، عن مالك بن نفيع أنه قال: ند بعير لي، فركبت نجيبة لي وطلبته حتى ظفرت به، فأخذته وانكفأت راجعا إلى أهلي، فأسريت ليلتي حتى كدت أصبح، فأنخت النجيبة والبعير وعقلتهما، واضطجعت في ذرا كثيب رمل، فلما كحلني الوسن، سمعت هاتفا يقول: يا مالك يا مالك، لو فحصت عن مبرك القعود البارك، لسرك ما هنا لك، قال: فثرت وأثرت البعير عن مبركه، وحفرت فعثرت على صنم في صورة امرأة من صفاة صفراء كالورس، مجلوّا كالمرآة، فأخرجته ومسحته بثوبي ونصبته قائما فما تمالكت أن خررت له ساجدا. ثم قمت فنحرت البعير له ورششته بدمه، وسميته غلابا ثم حملته على النجيبة، وأتيت به أهلي، فحسدني عليه كثير من قومي، وسألوني نصبه لهم ليعبدوه معي، فأبيت عليهم وانفردت لعبادته، وجعلت على نفسي كل يوم عتيرة، وكانت لي ثلة من الضأن، فأتيت على آخرها، فأصبحت يوما وليس لي ما أعتره، وكرهت الاخلال بنذري، فأتيته فشكوت إليه ذلك فإذا هاتف من جوفه يقول: يا مال يا مال، لا تأس على مال، سر إلى طوى الأرقم، فخذ الكلب الأسحم، الوالغ في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 الدم ثم صد به تغنم. قال مالك: فخرجت من فوري إلى طوى الأرقم، فإذا كلب أسحم هائل المنظر، قد وثب على قرهب، يعني ثورا وحشيا، فصرعه وأنا أنظر إليه، ثم بقر بطنه وجعل يلغ في دمه فتهيبته، ثم تجاسرت فتقدمت عليه وهو مقبل على عقيرته، لم يلتفت إلي فشددت في عنقه حبلا، ثم جذبته فتبعني فأتيت راحلتي فأثرتها وقدتها، إلى القرهب وأنختها فجررته وحملته عليها، ثم قدتها وسرت قاصدا إلى الحي والكلب يلوذ بي، فعنت لي ظبية فجعل الكلب يثب ويجاذبني الحبل، فترددت في إرساله ثم أرسلته، فمر كالسهم حتى اختطفها، فأتيته فجاذبته إياها، فأرسلها من يديه، فاستقر بي السرور، وأتيت إلى أهلي فعترت الظبية لغلاب، ووزعت لحم القرهب وبت بخير ليلة. ثم باكرت به الصيد، فلم يفته حمار ولا ماطلة ثور، ولا اعتصم منه وعل، ولا أعجزه ظبي، فتضاعف سروري به، وبالغت في إكرامه وسميته سحاما. فلبثت كذلك ما شاء الله. فإني لذات يوم أصيد به، إذ بصرت بنعامة على أدحيها، وهي قريبة مني فأرسلته عليها فأجفلت أمامه، وأتبعتها على فرس جواد، فلما كاد الكلب أن يثب عليها، انقضت عليه عقاب من الجو، فكر راجعا نحوي، فصحت به فما كذب، وأمسكت الفرس فجاء سحام حتى دخل بين قوائمها، ونزلت العقاب أمامي على شجرة، وقالت: سحام! قال الكلب: لبيك. قالت: هلكت الأصنام، وظهر الإسلام، فأسلم تنج بسلام، وإلا فليست بدار مقام. ثم طارت العقاب وتبصرت سحاما فلم أره وكان آخر عهدي به. قوله طوى أرقم، الطوى بئر مطوية بالحجارة، والأسحم الأسود وبه سمي الكلب سحاما، فهو فعال من ذلك. وقوله: بنعامة على أدحيها، أي الموضع الذي فيه بيضها وقوله ما كذب أي ما توقف ولا انثنى. فائدة : روى الحاكم في المستدرك، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها، قالت: قدمت امرأة من أهل دومة الجندل علي تبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد موته بيسير، تسأله عن شيء دخلت فيه، من أمر السحر لم تعلم به، قالت: فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لأرحمها من كثرة بكائها، وهي تقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت، فسألتها عن قصتها، فقالت: كان لي زوج قد غاب عني، فدخلت علي عجوز فشكوت لها حالي، فقالت: إن فعلت ما آمرك به فإنه يأتيك بعلك! فقلت: إني أفعل. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبت أحدهما، وتركت الآخر، فلم يكن بأسرع حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما حاجتك؟ وما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر؟ فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري! وارجعي. فأبيت وقلت: لا أرجع. قالا: فاذهبي إلى التنور فبولي فيه، فذهبت إليه فاقشعر جلدي ففزعت منه، ولم أفعل فرجعت إليهما، فقالا لي: فعلت؟ قلت: نعم. قالا: هل رأيت شيئا؟ قلت: لم أر شيئا. فقالا: لم تفعلي. ارجعي إلى بلادك لا تكفري، فأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت إليه فاقعشر جلدي وخفت ثم رجعت إليهما فقالا لي: ما رأيت؟ إلى أن قالت: فذهبت في الثالثة فبلت فيه فرأيت فارسا مقنعا بالحديد، خرج مني حتى ذهب في السماء، فأتيتهما فأخبرتهما فقالا: صدقت، ذاك إيمانك خرج منك، اذهبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 فقلت للمرأة: والله ما علمت شيئا، ولا قالا لي شيئا! فقالت لي: بلى لن تريدي شيئا إلا كان. خذي هذا القمح فابذريه، فأخذته فبذرته. وقلت له: اطلع فطلع ثم قلت استحصد فاستحصد، ثم قلت: انطحن فانطحن، ثم قلت: انخبز فانخبز. فلما رأيت أني لا أقول شيئا إلا كان سقط في يدي فندمت، والله يا أم المؤمنين ما فعلت قط ولا أفعله أبدا. فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما دروا ما يقولون لها، وكلهم هاب أن يفتيها بما لا يعلم إلا أنهم قالوا لها: لو كان أبواك حيين أو أحدهما لكانا يكفيانك. ثم قال الحاكم: صحيح انتهى. قال هشام بن عروة، وهو راوي الحديث، عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنهم كانوا أي الصحابة رضي الله عنهم أهل ورع وخشية لله، وبعد من التكلف والجراءة على الله، فلذلك أمسكوا عن الفتيا لها ولو جاءتنا اليوم لوجدت الأمر بخلاف ذلك. قال بعض الحنابلة: قلت: فقد بان بهذا أن السحر والإيمان لا يجتمعان في قلب، ولا يصير ساحرا وفي قلبه إيمان، فاعتبر بحال هذه المرأة المسكينة كيف ألقاها الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء، في ورطة هلكة لا تجبر مصيبتها، وهذا دأب المعاصي تنكس الرؤوس وتوجب الحبوس، وتضاعف البؤس، ولقد أحسن القائل حيث قال: إذا ما دعتك النفس يوما لحاجة ... وكان عليها للخلاف طريق فخالف هواها ما استطعت فإنما ... هواها عدو والخلاف صديق تذنيب : للسحر حقيقة وتأثير وقيل لا، والصحيح أن الصواب الأول، دل عليه ظاهر القرآن والسنة. قال المازري: اختلف العلماء في القدر الذي يقع به السحر، ولهم فيه اضطراب، فقال بعضهم: لا يزيد تأثيره على قدر التفريق بين المرء وزوجه، لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيما لما يكون عنده، وتهويلا له في حقنا فلو وقع به أعظم منه لذكره، لأن المثل لا يضرب عند المبالغة، إلا بأعلى أحوال المذكور. ومذهب الأشعريين أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: وهذا هو الأصح، لأنه لا فاعل إلا الله تعالى، وما وقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها أولى من بعض، ولو ورد الشرع بقصوره عن مرتبة، لوجب المصير إليه. ولكن لا يوجد شرع قاطع بوجوب الاقتصار على ما قال القائل الأول، وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية ليس بنص في منع الزيادة وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا. فإن قيل: إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر، فبماذا يتميز عن النبي؟ فالجواب أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر، لكن النبي يتحدى الخلق بها، ويستعجزهم عن الاتيان بمثلها، ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه، فلو كان كاذبا لم تنخرق على يديه، ولو خرقها الله على يد كاذب لخرقها على يد المعارضين للأنبياء، وأما الولي والساحر فلا يتحديان الخلق، ولا يستدلان على نبوة، ولو ادعيا شيئا من ذلك، لم تنخرق العادة لهما. وأما الفرق بين الولي والساحر، فمن وجهين أحدهما، وهو المشهور، اجماع المسلمين على أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 السحر لا يظهر إلا على يد فاسق، والكرامة لا تظهر إلا على يد ولي، ولا تظهر على يد فاسق، وبهذا جزم إمام الحرمين، وأبو سعيد المتولي وغيرهما. والثاني أن السحر يكون ناشئا بفعل ومزج ومعاناة وعلاج، والكرامة لا تفتقر إلى ذلك وفي كثير من الأوقات يقع ذلك اتفاقا، من غير أن يستدعيه أو يشعر به والله تعالى أعلم. وأما ما يتعلق بالمسألة من فروع الفقه، فتعلم السحر وتعليمه حرام على الصحيح. والصواب عدم جواز تعليمه لكل أحد يريد تعلمه، وقال القاضي حسين وإبراهيم المروزي: إن كان في تعليمه ترك طاعة لله عز وجل لا يجوز، وإن لم يكن فإن قصد بتعلمه دفع ضرر سحر الناس عن نفسه جاز، وإن قصد تعلمه ليسحر الناس لم يجز انتهى. والخلاف فيما إذا كان لا يتوقف على اعتقاد كفر أو مباشرة محظور كترك صلاة وغيرها، أما إذا توقف على ذلك فتعلمه حرام بالإجماع، والسحر من الكبائر. ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد أن الساحر يكفر لقوله «1» تعالى: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ لأنهم إنما نسبوا سليمان عليه السلام إلى السحر لا إلى الكفر. ولقوله تعالى حكاية عن الملكين إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ «2» ومذهب الشافعي أنه لا يكفر إلا أن يكون فيه قول أو فعل يقتضي الكفر. قال الرافعي: من اعتقد إباحته فهو كافر. وقال ابن الصباغ: إن اعتقد التقرب إلى الكواكب السبعة وإنها تجيب إلى ما يقترح منها، فهو كافر. وعن القفال أنه لو قال: أنا أفعل السحر بقدرتي دون قدرة الله تعالى فهو كافر. فلو تاب الساحر قبلت توبته عند الشافعي رحمه الله. وقال مالك رحمه الله: السحر زندقة، فإن قال: أنا أحسن السحر قتل، ولا تقبل توبته كما لا تقبل توبة الزنديق. وعن أبي حنيفة رحمه الله مثله. وعن الإمام أحمد رحمه الله روايتان كالمذهبين. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن المرأة الساحرة تحبس ولا تقتل، وأما الساحر الذمي فلا يقتل إلا أن يضر بالمسلمين فيقتل لنقضه العهد. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يقتل مطلقا، ويقال للرجل المسحور مطبوب. يقال طب الرجل إذا سحر، فكنوا بالطب عن السحر، كما كنوا بالسليم عن اللديغ. قال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب وللسحر طب، وهو من أعظم الأدواء، ورجل طبيب أي حاذق سمي طبيبا لحذقه وفطنته والله تعالى أعلم. فائدة أدبية : دخل أبو العلاء المعري يوما على الشريف المرتضى فعثر برجل، فقال له الرجل: من هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما. فقربه المرتضى واختبره فوجده علامة. ثم جرى ذكر المتنبي يوما فتنقصه الشريف المرتضى وذكر معايبه، فقال المعري: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله «3» : لك يا منازل في القلوب منازل لكفاه فضلا وشرفا، فغضب الشريف المرتضى وأمر بسحبه برجله وإخراجه من المسجد، ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 قال لمن يحضر مجلسه: تدرون أي شيء أراد هذا الأعمى بذكر هذه القصيدة وللمتنبي أجود منها ولم يذكره؟ قالوا: لا. قال: إنما أراد أن يذمني بقوله «1» فيها: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل وسئل شيخ الإسلام تقي الدين بن دقيق العيد «2» عن أبي العلاء المعري، فقال: هو في حيرة. وهذا أحسن ما قيل فيه. فائدة أخرى : قال «3» أبو نواس محمد بن هانىء في طريدته: أتعب كلبا أهله في كده ... قد سعدت جدودهم بجده فكلّ خير عندهم من عنده ... وكلّ رفد نالهم من رفده يظلّ مولاه له كعبده ... يبيت أدنى صاحب من فهده إذا عرى جلله ببرده ... ذا غرة محجلا بزنده يلذّ منه العين حسن قده ... يا حسن شدقيه وطول خده قيل: دخل أبو بكر الخالدي على الخليفة، فأنشده قصيدة امتدحه بها فأجازه، وكان بين يديه صحن يشم أزرق، فلمحه أبو بكر فأعطاه الخليفة إياه فخرج من عنده وهو مسرور، فمر على أبي الفتح بن خالويه فهناه أبو الفتح بذلك، فلما أصبح جاء إلى الخدمة، فقال له الخليفة: كيف حالك وكيف كان مبيتك؟ قال: بخير ودعا له، وقال: بتنا ندعوا لمولانا أمير المؤمنين، وبت أتفنن في الصحن وأتملى بحسنه، فأضفته إلى صدقات مولانا ورفده، وكل خير عندنا من عنده، فتنمر أمير المؤمنين، واستشاط غضبا وزجره، فخرج من عنده حزينا كئيبا، فمر على ابن خالويه فسأله عن السبب وما الخبر فأخبره بما قال، فقال له أبو الفتح: أو قلتها؟ فقال: نعم. فقال: أين أنت؟ أتجعل أمير المؤمنين كلبا أين ذهب عقلك؟ أو ما سمعت قول أبي نواس في طريدته: فكلّ خير عندهم من عنده ... وكلّ رفد نالهم من رفده فكاد الخالدي أن يموت فزعا ثم قال له: عرفني كيف المخلص؟ قال: تمارض مدة ثم أظهر أنك شفيت ثم تأتي أمير المؤمنين، فإذا سألك عن سبب مرضك، فقل له: طالعت طريدة أبي نواس، فلما فعل ذلك رضي عنه أمير المؤمنين. فائدة أخرى : اختلفوا في قوله «4» تعالى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أكثر أهل التفسير على أن كلب أهل الكهف كان من جنس الكلاب. وروى عن ابن جريج أنه قال: كان أسدا ويسمى الأسد كلبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 على عتبة بن أبي لهب «أن يسلط الله عليه كلبا من كلابه» فأكله الأسد. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان كلبا أغبر. وفي رواية عنه أحمر، واسمه قطمير. وقال مقاتل: كان أصفر. وقال القرطبي: صفرته تضرب إلى الحمرة. وقال الكلبي: كان خلنجي اللون. وقيل: كان لونه لون السماء. وقيل: كان أبلق أبيض وأسود وأحمر. وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: اسمه ريان. وقال الأوزاعي: مشير. وقال سعيد الحمال: حران. وقال عبد الله بن سلام: بسيط. وقال كعب الأحبار: صيها، وقال وهب: نقيا. وقصة الإمام مالك في ذلك مشهورة معروفة. وقال فرقة: كان رجلا طباخا لهم، حكاه الطبري. وقال فرقة: كان أحدهم. وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم فسمي باسم الحيوان الملازم لذلك الموضع من الناس، كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا، لأنه منها كالكلب من الإنسان. وهذا القول يضعفه بسط الذراعين، فإنه في العرف من صفة الكلب. وحكى أبو عمرو المطرزي في كتاب اليواقيت وغيره، أن جعفر بن محمد الصادق قرأ: (وكالبهم) فيحتمل أنه يريد هذا الرجل. وقال خالد بن معدان: ليس في الجنة من الدواب سوى كلب أهل الكهف، وحمار العزيز، وناقة صالح وقد تقدم في أوائل باب السين المهملة في السبع الكلام على قوله «1» تعالى: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ونزيد هنا أن قوله «2» تعالى: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أن المثبت في حق الله تعالى الأعلمية، وفي حق القليل العالمية، فلا تعارض بينهما. قال ابن عطية المفسر: حدثني أبي أنه سمع أبا الفضل بن الجوهري، في سنة تسع وستين وأربعمائة، يقول: إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم. كلب أحب أهل فضل وصحبهم، فذكره الله في القرآن معهم. وأما الوصيد، فاختلف المفسرون فيه فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الوصيد فناء الكهف، وهو قول مجاهد رضي الله تعالى عنه، وقال سعيد بن جبير: الوصيد التراب. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا. وقال السدي: الباب. وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأنشد في ذلك: بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر أي بابها وقال عطاء: الوصيد عتبة الباب. وقال العتبي: هو البناء الذي من فوقه ومن تحته، مأخوذ من قولهم أوصدت الباب وآصدته. أي أغلقته وأطبقته لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ «3» يا محمد لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً «4» ، أي هربا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً «5» ، لما ألبسهم الله ومن الهيبة، حتى لا يصل إليهم واصل منعهم بالرعب، لئلا يراهم أحد. وقيل: إنما ذلك من وحشة المكان الذي هم فيه. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب أهل الكهف الذين ذكرهم الله في القرآن، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقلت له: ليس لك ذلك قد منع الله ذلك من هو خير منك، فقال «1» تعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم. ثم بعث ناسا لينظروا، فقال: اذهبوا فادخلوا الكهف، فذهبوا فلما دخلوا الكهف، بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم. وذكر الثعلبي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يريه إياهم، فقال تعالى: إنك لن تراهم ولكن ابعث إليهم أربعة من كبار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: «كيف أبعث إليهم» ؟ فقال له جبريل عليه السلام: أبسط كساءك واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر، وعلى الطرف الثاني عمر، وعلى الطرف الثالث عثمان، وعلى الطرف الرابع عليا، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان، فإن الله يأمرها أن تطيعك. ففعل ذلك صلى الله عليه وسلم، فحملتهم الريح إلى باب الكهف فقلعوا منه حجرا، فحمل عليهم الكلب، فلما رآهم حرك رأسه وبصبص إليهم وأومأ إليهم برأسه، أن ادخلوا فدخلوا الكهف. فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد الله إلى الفتية أرواحهم، فقاموا بأجمعهم فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فقالوا: معشر الفتية، إن النبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم السلام، فقالوا: وعلى محمد السلام مادامت السموات والأرض، وعليكم بما أبلغتم، وقبلوا دينه، ثم قالوا: اقرؤوا على محمد صلى الله عليه وسلم منا السلام، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان، عند خروج المهدي، فيقال: إن المهدي يسلم عليهم، فيحييهم الله ويردون عليه السلام، ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة. ثم ردتهم الريح فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف وجدتموهم» ؟ فأخبروه الخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تفرق بيني وبين أصحابي وأنصاري، واغفر لمن أحبني، وأحب أهل بيتي وخاصتي» . واختلف في سبب مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن اسحاق: مرح أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا، وأطغتهم الجن حتى عبدوا الأصنام، وذبحوا للطواغيت، وكانت فيهم بقايا على دين المسيح، يعبدون الله، وكان ملكهم اسمه دقيانوس، وكان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف، وهي أفسوس، فهرب منه أهل الإيمان، وكان حين قدمها، أمر أن يجمع له أهل الإيمان، فمن وقع به خيره بين القتل وعبادة الأصنام، فمنهم من يرغب في الحياة، ومنهم من يأبى فيقتل. ثم أمر بأجسادهم أن تعلق على سور المدينة وعلى كل باب، فحزن هؤلاء الفتية، وأقبلوا على الصلاة والصيام والتسبيح والدعاء، وكانوا ثمانية من أشراف القوم، فعثر عليهم الملك فقال لهم: اختاروا: إما أن تعبدوا آلهتنا، وإما أن أقتلكم! فقال مكسلمينا، وهو أكبرهم: إن لنا إلها هو ملك السموات والأرض، وهو أعظم وأجل من كل شيء، وهو المعبود، فلن ندعو من دونه إلها. فقال الملك: ما يمنعني أن أعجل لكم العقوبة إلا أنكم شباب، وأحب أن أجعل لكم أجلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 لعلكم تتذكرون فيه، وتراجعون عقولكم. فأخذوا من بيوتهم نفقة، وخرجوا إلى الكهف يعبدون الله، فأتبعهم كلب كان لهم، وقال كعب: بل مروا بكلب، فنبح بهم فطردوه، فعاد فطردوه مرارا، وهو يعود فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء، كهيئة الداعي ونطق فقال: لا تخافوا مني فإني أحب أحباء الله، فناموا حتى أحرسكم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هربوا ليلا، وكانوا سبعة، فمروا براع معه كلب فأتبعهم على دينهم فجعلوا يعبدون الله في الكهف، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم، يقال له تمليخا، فكان يبتاع لهم طعامهم من المدينة، وكان من أجملهم وأجلدهم، وكان إذا دخل المدينة لبس ثياب المساكين، واشترى طعامهم وتجسس لهم الأخبار، فلبثوا كذلك زمانا، ثم أخبرهم تمليخا أن الملك يتطلبهم، ففزعوا لذلك وحزنوا، فبينما هم كذلك عند غروب الشمس، يتحدثون ويتدارسون، إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، فسمع الملك أنهم في جبل فألقى الله في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم، حتى يموتوا جوعا وعطشا وهو يظنهم أيقاظا، أراد الله بذلك أن يكرمهم، وأن يجعلهم آية لخلقه. وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، والملائكة تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، ثم عمد رجلان مؤمنان كانا في بيت الملك، فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم، في لوح من رصاص، وجعلاه في تابوت من نحاس، وجعلاه في البنيان. وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتية مطوقين مصورين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيد فخرجوا في عيد لهم وأخرجوا آلهتهم التي كانوا يعبدونها فقذف الله في قلوبهم الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانه عن صاحبه، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة، ثم خرج آخر فرآه فظن أن يكون على مثل أمره، وجاء من غير أن يظهر له ذلك، ثم خرج الآخرون واحدا بعد واحد حتى اجتمعوا تحت الشجرة. فقال بعضهم لبعض: ما جمعكم ههنا؟ ثم قالوا: ليخرج كل فتيين فيخلوا ثم يفش كل واحد منهما أمره إلى صاحبه، فخرج فتيان فذكر كل واحد منهما لصاحبه أمره، فأقبلا مستبشرين قد اتفقا على أمر واحد، ثم فعلوا جميعا كذلك فإذا هم جميعا على الإيمان. فقال بعضهم لبعض: ائووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهييء لكم من أمركم مرفقا، فدخلوا الكهف ومعهم كلبهم، فناموا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، فلما لم يجدوهم كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم، في شهر كذا في سنة كذا، في مملكة فلان بن فلان. ووضعوا اللوح في خزانة الملك، وقالوا: ليكونن لهذا شأن. وقال السدي: لما خرجوا، مروا براع معه كلب، فقال الراعي: إني أتبعكم على أن أعبد الله معكم، قالوا: سر فسار معهم، وتبعهم الكلب فقالوا: يا راعي هذا الكلب ينبح علينا، وينبه بنا فما لنا به من حاجة. فطردوه فأبى إلا أن يلحق بهم، فرجموه فرفع يديه كالداعي، وأنطقه الله تعالى فقال: يا قوم لم تطردونني لم تضربونني لم ترجمونني؟ فو الله لقد عرفت الله قبل أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 تعرفوه بأربعين سنة فتعجبوا من ذلك وزادهم الله بذلك هدى. وقال محمد الباقر: كان أصحاب الكهف صياقلة، واسم الكهف حيوم، والقصة طويلة مشهورة في كتاب التفاسير والقصص مطولا ومختصرا، وقد وقفت على جمل من ذلك. فمن ذلك ما ساقه الإمام أبو اسحاق محمد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري الثعلبي، في كتابه الكشف والبيان في تفسير القرآن، وربما يتكرر شيء مما تقدم، فيما آتي به. قال: قوله «1» تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً يعني ليسوا من أعجب آياتنا، فإنّ فيم خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجب منهم. والكهف هو الغار في الجبل. واختلفوا في الرقيم، فقال وهب: حدثني «2» النعمان بن بشير الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرقيم، قال: إن ثلاثة نفر خرجوا مرتادين لأهليهم، فبينما هم يمشون إذ أصابتهم السماء، فأووا إلى كهف، فانحطت صخرة من الجبل، فانطبقت على باب الكهف، فأوصد عليهم، فقال قائل منهم: اذكروا أيكم عمل عملا حسنا، لعل الله برحمته أن يرحمنا، فقال رجل منهم: إني قد عملت حسنة مرة، كان لي أجراء يعملون عملا لي، استأجرت كل رجل منهم في نهاره بأجرة معلومة، فجاءني رجل منهم ذات يوم وسط النهار، فاستأجرته بشطر أجرة أصحابه، فعمل في بقية نهاره كما عمل رجل منهم في نهاره كله، فرأيت علي من الذمام، أن لا أنقصه عما استأجرت من أصحابه، لما رأيت من جهده في عمله. فقال رجل منهم: أتعطي هذا مثل ما أعطيتني ولم يعمل إلا وسط النهار؟ فقلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه بما شئت. فغضب وترك أجره فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله، ثم مرت بي بعد ذلك بقر فاشتريت له بها فصيلة من البقر، فبلغت ما شاء الله، فمر بي بعد حين رجل شيخ كبير لا أعرفه، فقال لي: إن لي عندك حقا فذكرنيه حتى عرفته، قلت له: إياك أبغي، وهذا حقك وعرضتها عليه جميعا، فقال: يا عبد الله لا تسخر بي إن لم تصدق علي فأعطني حقي! قلت: والله ما أسخر بك إنها لحقك، مالي فيها شيء فدفعتها إليه جميعا. اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا الحجر، فانصدع الحجر ففرج حتى رأوا وأبصروا. وقال الآخر: قد عملت حسنة مرة، كان لي فضل، وأصابت الناس شدة، فجاءتني امرأة تطلب مني معروفا، فقلت لها: والله ما هو دون نفسك، فأبت علي وذهبت، ثم رجعت فذكرتني بالله عز وجل، والله مطلع عليها فأبيت عليها وقلت لها: والله ما هو دون نفسك، فأبت علي وذهبت، وذكرت لزوجها فقال لها: أعطيه نفسك وأغيثي عيالك! فرجعت إلي ونشدتني بالله، فأبيت عليها وقلت لها: والله ما هو دون نفسك! فلما رأت ذلك، أسلمت إلي نفسها، فلما كشفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي، فقلت لها: ما شأنك؟ فقالت: إني أخاف الله رب العالمين! فقلت لها: خفته في الشدة ولم أخفه في الرخاء! وتركتها وأعطيتها ما يحق علي بما كشفتها. اللهم إن كنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا الحجر فانصدع حتى عرفوا وتبين لهم. وقال الآخر: قد عملت حسنة مرة، كان لي أبوان شيخان كبيران، وكان لي غنم فكنت أطعم والدي وأسقيهما، ثم أرجع إلى غنمي، فأصابني يوما غيث، فحبسني حتى أمسيت، فأتيت أهلي وأخذت محلبي، فحلبت غنمي وتركتها قائمة، ومضيت إلى أبوي، فوجدتهما قد ناما، فشق علي أن أوقظهما، وشق علي أن أترك غنمي، فما برحت جالسا ومحلبي على يدي، حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا. قال النعمان بن بشير: لكأني أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الجبل طاق طاق ففرج الله عنهم فخرجوا» . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الرقيم واد بين عمان وأيلة دون فلسطين، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف. وقال كعب: هي قريتهم وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي، وهو موضع الماء منه، تقول العرب: عليك بالرقمة ودع الضفة. والضفتان جانبا الوادي. وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة. وقيل: من رصاص كتبوا فيه أسماء أهل الكهف، وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم أي الكتاب المرقوم. والرقم الخط والعلامة والرقم الكتابة. ثم ذكر صفتهم فقال «1» تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي رجعوا وصاروا إليه. واختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن اسحاق: مرح أهل الإنجيل وكثرت الخطايا فيهم، وعظمت الذنوب وطغت فيهم الملوك، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام، متمسكين بعبادة الله وتوحيده. فكان ممن فعل ذلك ملك من ملوكهم من الروم، يقال له دقيانوس، كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت، وقتل من خالفه في ذلك ممن أقام على دين المسيح، وكان ينزل قرى الروم فكان لا يترك فيها أحدا مؤمنا إلا فتنة، حتى يعبد الأصنام ويذبح للطواغيت، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف، وهي أفسوس، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه، وهربوا في كل وجه. وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبع أهل الإيمان في أماكنهم، فيجمعوا له واتخذ شرطة من الكفار، من أهلها فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان، في أماكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس، فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت، فيخيرهم بين القتل وعبادة الأصنام والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة، ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله تعالى فيقتل. فلما رأى أهل ذلك البلد الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقطعون ويعلق ما قطع من أجسادهم على سور المدينة ونواحيها كلها، وعلى كل باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة على أهل الإيمان منهم، من أقر فترك، ومنهم من صلب على دينه فقتل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 فلما رأى ذلك الفتية، حزنوا حزنا شديدا فصلوا وصاموا واشتغلوا بالتسبيح والدعاء لله تعالى، وكانوا من أشراف الروم، وكانوا ثمانية فتفرقوا، وتضرعوا، وجعلوا يقولون «1» : رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً ، اللهم اكشف عن عبادك المؤمنين، هذه الفتنة وادفع البلاء والغم عن عبادك، الذين آمنوا بك، حتى يعلنوا عبادتهم إياك، فبينما هم على ذلك إذا أدركهم الشرطة، وكانوا قد دخلوا في مصلى لهم، فوجدوهم سجدا على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله تعالى، ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفتنته. فلما رآهم أولئك الكفرة، قالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه. ثم خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس، فقالوا: نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون بك ويعصون أمرك! فلما سمع ذلك منهم أتى بهم وأعينهم تفيض من الدمع، معفرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح للآلهة التي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم؟ فاختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا كما يذبح الناس، وإما أن أقتلكم؟ فقال مكسلمينا، وكان أكبرهم: إن لنا إلها ملأت السموات والأرض عظمته لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً «2» ولن نقر بهذا الذي تدعو إليه أبدا، ولكنا نعبد الله ربنا، له الحمد والشكر والتسبيح من أنفسنا خالصا أبدا، إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير، فأما الطواغيت وعبادتها فلن نعبدها أبدا، اصنع ما بدا لك. ثم قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له، فلما قالوا ذلك أمر فنزع منهم الملبوس الذي كان عليهم من لبوس عظمائهم، وقال: إن فعلتم ما فعلتم فإني سأؤخركم وأفرغ لكم وأنجزكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أني أراكم شبابا حديثة أسنانكم، فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا، تتذاكرون فيه وتراجعون عقولكم، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت عنهم، ثم أمر بهم فأخرجوا من عنده وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي هم بها قريبة منهم، لبعض أموره فلما علم الفتية أن دقيانوس خرج من مدينتهم، بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم فائتمروا بينهم، أن يأخذ كل رجل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا منها، ثم يتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة، في جبل يقال له منحلوس، فيمكثون فيه ويعبدون الله تعالى، حتى إذا جاء دقيانوس، أتوه فقاموا بين يديه، فيصنع بهم ما شاء. فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه، فأخذ نفقة فتصدقوا منها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، واتبعهم كلب كان لهم. حتى أتوا ذلك الكهف في الجبل فلبثوا فيه. وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون مني؟ لا تخشوا جانبي فأنا أحب أحباب الله. فناموا حتى أحرسكم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هربوا ليلا من دقيانوس بن حلانوس حين دعاهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 إلى عبادة الأصنام، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب، فتبعهم على دينهم، فخرجوا من البلد فآووا إلى الكهف وهو قريب من البلدة، فلبثوا فيه، ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد، ابتغاء وجه الله، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم، يقال له تمليخا، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرا، وكان من أجملهم وأجلدهم، فكان تمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل المدينة يضع ثيابا كانت عليه حسانا، ويلبس كثياب المساكين، الذين يطعمون فيها، ثم يأخذ ورقة ثم ينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاما وشرابا، ويسمع ويتجسس لهم الخبر، هل ذكر أصحابه بشيء أم لا ثم يرجع إلى أصحابه. فلبثوا كذلك ما لبثوا، ثم قدم دقيانوس الجبار المدينة فأمر العظماء، فذبحوا للطواغيت، ففزع لذلك أهل الإيمان، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه الطعام والشراب، فرجع لأصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أن الجبار دقيانوس قد دخل المدينة، وأنهم قد ذكروا مع عظماء المدينة، ليذبحوا الطواغيت، فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجدا يدعون الله تعالى، ويتضرعون إليه، ويتعوذون به من الفتنة، ثم إن تمليخا قال لهم: يا اخوتاه ارفعوا رؤوسكم وأطعموا من رزق الله، وتوكلوا عليه، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع، حزنا وخوفا على أنفسهم، فطعموا منه وذلك عند غروب الشمس، ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون، ويذكر بعضهم بعضا، فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، وهم مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم. فلما كان الغد تفقدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم، فقال لبعض أصحابه: قد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوا بي غضبا عليهم لجهلهم ما جهلوا من أمري، وما كنت لأجهل عليهم، ولا على واحد منهم إن تابوا وعبدوا إلهي. فقال له عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة، مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، قد كنت أجلتهم أجلا، ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنهم لم يتوبوا. فلما قالوا له ذلك: غضب غضبا شديدا، ثم أرسل إلى آبائهم فسأل عنهم؛ ثم قال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني؟ فقالوا له: أما نحن فلن نعصيك، فلم تقتلنا بقوم مردة ذهبوا بأموالنا فأهلكوها بأسواق المدينة، ثم انطلقوا فارتقوا إلى جبل يقال له منحلوس، فلما قالوا له ذلك، خلى سبيلهم، وجعل ما يدري ما يفعل بالفتية، فألقى الله في نفس دقيانوس أن يأمر بالكهف فيسد عليهم. وأراد الله أن يذكرهم ويجعلهم آية، ويستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، ويدعوهم كما هم في الكهف يموتون عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم، وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم. وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، قد غشيه ما غشيهم ذات اليمين وذات الشمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 ثم إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس، يكتمان إيمانهما، كان اسم أحدهما مندروس، والآخر دوماس، ائتمرا أن يكتبا أسماء الفتية وأنسابهم وخبرهم، في لوح رصاص يجعلاه في تابوت من نحاس، ثم يجعلا التابوت في البنيان، وقالا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين، قبل يوم القيامة، فيعلم من فتح عليهم خبرهم، حين يقرأ هذا الكتاب. ففعلا ثم بنيا عليهم فبقي دقيانوس ما بقي، ثم مات وقومه وقرون بعد ذلك كثيرة، وخلفاء الملوك بعد الملوك. وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانا مطوقين مسورين ذوي ذوائب «1» ، وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم، في زي وموكب، وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان، وكان أحدهم وزير الملك، فآمنوا وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن أخيه، فقالوا في أنفسهم، من غير أن يظهر بعضهم على بعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم، لئلا يصيبنا عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة، فجلس فيه ثم خرج آخر فرآه جالسا وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره، من غير أن يظهر له ذلك، فجلس إليه ثم خرج الآخرون فجاؤوا وجلسوا إليهما. واجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ما جمعكم؟ وقال آخر: ما حملكم؟ وكل واحد يكتم عن صاحبه إيمانه، مخافة على نفسه، ثم قالوا: ليخرج كل فتيين منكم فيخلوا ثم ليفش كل واحد منهما لصاحبه أمره، فخرج فتيان منهم، فتوافقا. ثم تكلما، فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما، فقالا: قد اتفقنا على أمر واحد، فإذا هم جميعا على أمر واحد، وهو الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: فأووا إلى الكهف، ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهييء لكم من أمركم مرفقا، فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم، فناموا ثلاثمائة سنة وازدادوا تسعا. وفقدهم الملك وقومهم فطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم، فلما لم يقدروا عليهم، كتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص: فلان وفلان أبناء ملوكنا، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا: ليكونن لهذا شأن ومات ذلك الملك وجاء قرن من بعد قرن. وقال وهب بن منبه: جاء حواري عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها إلا سجد له، فكره أن يدخلها وأتى حماما قريبا من تلك المدينة، فكان فيه وكان يؤاجر نفسه من الحمامي في حمامه، ويعمل فيه ورأى الحمامي في حمامه البركة، ودر عليه الرزق، فجعل يقوم عليه وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض، وخبر الآخرة، حتى آمنوا بالله وصدقوه. وكانوا على مثل حاله من حسن الهيئة، وكان شرط على صاحب الحمام، أن الليل لا يحول بيني وبينه أحد، ولا بين الصلاة، وكان على ذلك، حتى أتى ابن الملك بامرأة، فدخل بها الحمام، فعيره الحمامي، وقال له: أنت ابن الملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 وتدخل مع هذه! فاستحيا وذهب، ثم رجع مرة أخرى، فقال له مثل ذلك فسبه وانتهره، ولم يلتفت إليه حتى دخلاه جميعا فماتا معا في الحمام. فأتى الملك، فقيل له: صاحب الحمام قتل ابنك، فالتمس فلم يقدر عليه وهرب. فقال: من كان يصحبه؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة، فمروا على صاحب لهم في زرع، وهو على مثل إيمانهم، فذكروا له أنهم التمسوا، فانطلق معهم، وكان معه كلب، حتى آواهم الليل إلى كهف، فقالوا: نبيت ههنا الليلة ثم نصبح، فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم، فخرج الملك في أصحابه يطلبهم، فتبعوهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد الرجل منهم دخوله، أرعب فلم يطق أحد منهم أن يدخله، فقال قائل من أصحاب الملك: أليس لو كنت تقدر عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابن عليهم باب الكهف، واتركهم فيه يموتون جوعا وعطشا، ففعل ذلك. قال وهب: فمكثوا بعد ما سد عليهم باب هذا الكهف، زمانا بعد زمان، ثم إن راعيا أدركه المطر عند باب الكهف، فقال في نفسه: لو فتحت باب هذا الكهف، وأدخلت فيه غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتحه، ورد الله عليهم أرواحهم من الغد، حين أصبحوا. قال محمد بن اسحاق: ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح، يقال له تاودوسيوس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانيا وثمانين سنة، فتحزب الناس في ملكه، وكانوا أحزابا، فمنهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذب بها، فكبر ذلك على الملك الصالح، وشكا إلى الله وتضرع إليه، وحزن حزنا شديدا، لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق، ويقولون: لا حياة إلا الحياة الدنيا، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فأما الجسد فتأكله الأرض، ونسوا ما في الكتاب. فجعل تاودوسيوس يرسل إلى كل من يظن فيه خيرا وأنه معه على الحق، فجعلوا يكذبون بالساعة، حتى كادوا يحولون الناس عن الحق وملة الحواريين، فلما رأى ذلك الملك الصالح تاودوسيوس، دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحا، وجعل تحته رمادا ثم جلس عليه، فدأب ليلا ونهارا يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس، ويقول: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث إليهم من يبين لهم. ثم إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد، أراد أن يظهر الفتية أصحاب الكهف، ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية تبين لهم، وحجة عليهم، ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يستجيب لعبده الصالح تاودوسيوس، وأن يتم نعمته عليه، وأن لا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئا، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين، فألقى الله عز وجل في نفس رجل من أهل ذلك الجبل، الذي به أهل الكهف أن يبني فيه حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين، فجعلا ينزعان تلك الأحجار، ويبنيان بها تلك الحظيرة، حتى فرغ ما على فم الكهف، وفتح عليهم باب الكهف، وحجبهم الله عن الناس بالرعب، فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم، من يدخل من باب الكهف، ثم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 إلى باب الكهف قائما، فلما نزعت الحجارة، وفتح عليهم باب الكهف، أذن الله ذو القدرة والعظمة والسلطان، محيي الموتى، أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مستبشرة وجوههم، طيبة أنفسهم فسلم بعضهم على بعض، حتى كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون فيها، إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها، ثم قاموا إلى الصلاة، فصلوا كالذي كانوا يفعلون، لا يرى في وجوههم، ولا في أبشارهم، ولا في ألوانهم شيء يكرهونه، إنما هم كهيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبار في طلبهم. فلما قضوا صلاتهم، قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: ائتنا يا أخي بالذي قال الناس في شأننا، عشية أمس عند الجبار، وهم يظنون أنهم رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون أمس، وقد خيل إليهم أنهم ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها، حتى تساءلوا بينهم، فقال بعضهم لبعض كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ «1» وكل ذلك في أنفسهم يسير، فقال لهم تمليخا: افتقدتم والتمستم بالمدينة، وهو يريد أن يأتي بكم اليوم، فتذبحون للطواغيت، أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل. فقال لهم مكسلمينا: يا اخوتاه، اعلموا أنكم ملاقو الله، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غدا. ثم قال لتمليخا: انطلق إلى المدينة، فتسمع ما يقال لنا بها اليوم، وما الذي نذكر به عند دقيانوس، وتلطف ولا تشعرن بنا أحدا، وابتغ لنا طعاما وائتنا به، فإنه قد نالنا الجوع وزدنا على الطعام الذي تجيئنا به العادة، فإنه كان قليلا وقد أصبحنا جياعا. ففعل تمليخا كما كان يفعل، وخرج ووضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكر فيها، وأخذ ورقا من نفقتهم، التي كانت معهم، التي ضربت بطابع دقيانوس، وكانت كخفاف الربع، فانطلق تمليخا خارجا، فلما مر بباب الكهف، رأى الحجارة منزوعة عن باب الكهف، فعجب منها، ثم مر فلم يبال بها حتى أتى باب المدينة مستخفيا، يصد عن الطريق تخوفا من أن يراه أحد من أهلها، فيعرفه فيذهب به إلى دقيانوس الجبار، ولم يشعر بالعبد الصالح، وأن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة. فلما رأى تمليخا باب المدينة، رفع رأسه فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان، فلما رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفيا، فنظر يمينا وشمالا فلم ير أحدا ممن يعرفه. ثم ترك ذلك الباب، وتحول إلى باب آخر من أبوابها، فرأى مثل ذلك، فجعل يخيل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرفها، ورأى ناسا كثيرين محدثين لم يكن يعرفهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويتعجب منهم ومن نفسه، ويخيل إليه أنه حيران ثم رجع إلى الباب الذي أتى منه، فجعل يتعجب منهم ومن نفسه، ويقول: يا ليت شعري أما هذه عشية أمس كان المسلمون يخفون هذه العلامة، ويستخفون بها فأما اليوم فإنها ظاهرة، لعلي حالم! ثم يرى أنه ليس بنائم. فأخذ كساءه وجعله على رأسه، ثم دخل المدينة فجعل يمشي بين ظهراني سوقها فيسمع ناسا كثيرين يحلفون بالله، ثم بعيسى ابن مريم فزاده عجبا! ورأى كأنه حيران، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدران المدينة، ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا؟ أما عشية أمس فليس على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 وجه الأرض إنسان يذكر عيسى ابن مريم إلا قتل، وأما الغداة فأسمع كل إنسان يذكر أمر عيسى ابن مريم ولا يخاف. ثم قال في نفسه: لعل هذه المدينة ليست التي أعرفها، أسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم. والله ما أعلم مدينة أقرب من مدينتنا، ثم قام كالحيران لا يتوجه وجها، ثم لقي فتى من أهل المدينة، فقال: يا فتى ما اسم هذه المدينة؟ فقال: افسوس. فقال في نفسه: لعل بي مسا أو أمرا أذهب عقلي، والله يحق لي أن أسرع إلى الخروج منها، قبل أن أخرج منها ويصيبني سوء فاهلك. هذا الذي حدث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثم إنه أفاق فقال: والله لو عجلت الخروج من المدينة، قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي، فدنا من الذين يبيعون الطعام، فأخرج الورق التي كانت معه، فأعطاها رجلا منهم فقال: يا عبد الله بعني بهذه الورق طعاما، فأخذها الرجل، ونظر إلى ضرب الورق ونقشها، وعجب منها ثم طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها، ثم جعلوا يتطارحونها بينهم، من رجل إلى رجل، وهم يعجبون منها، ثم جعلوا يتشاورون من أجله، ويقول بعضهم: إن هذا الرجل قد أصاب كنزا خبيئا في الأرض منذ زمان ودهر طويل، فلما رآهم يتشاورون من أجله فرق فرقا شديدا، وحزن حزنا عظيما، وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه، وإنما يريدون أن يحملوه إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرفونه، فقال لهم، وهو شديد الفرق: اقضوني حاجتي، فقد أخذتم ورقي، وإلا فامسكوا طعامك فلا حاجة لي فيه. فقالوا له: من أنت يا فتى وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأولين وأنت تريد أن تخفيه منا، فانطلق معنا وشاركنا فيه، يخف عليك ما وجدت، فإنك إن لم تفعل نأت بك السلطان فنسلمك إليه فيقتلك، فلما سمع قولهم، عجب في نفسه وقال: قد وقعت في كل شيء أحذر منه، ثم قالوا: يا فتى والله أنك لا تستطيع أن تكتم شيئا وجدته، ولا تظن في نفسك أن ستخفى عليك. فجعل تمليخا لا يدري ما يقول، وما يرجع إليهم وفرق حتى ما يحير إليهم جوابا. فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه فطوقوه في عنقه، ثم جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكبلا، حتى سمع به كل من فيها. فقيل: أخذ رجل عنده كنز، واجتمع عليه أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأيناه فيها قط وما نعرفه، فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم، مع ما سمع منهم. فلما اجتمع عليه أهل المدينة، فرق وسكت ولم يتكلم، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدق. وكان مستيقنا أن أباه وأخوته بالمدينة، وأن حسبه في أهل المدينة، من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه عشية أمس، كان يعرف كثيرا من أهلها، وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحد. فبينما هو قائم كالحيران ينتظر من يأتيه من أهله إما أبوه أو بعض إخوته، فيخلصه من أيديهم، إذ اختطفوه فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبران أمرها، وهما رجلان صالحان، اسم أحدهما أرموس والآخر اصطفوس، فلما انطلق به إليهما، ظن تمليخا إنما ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه. فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وجعل الناس يسخرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 به، كما يسخرون من المجنون والحيران، وجعل تمليخا يبكي ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم إله السماء وإله الأرض، أفرغ علي اليوم صبرا، وأولج معي روحا منك، تؤيدني به عند هذا الجبار، وجعل تمليخا يبكي ويقول في نفسه: فرق بيني وبين إخوتي يا ليتهم يعلمون ما لقيت، وأين يذهب به فلو أنهم يعلمون فيأتوني، فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار، فإنا كنا توافقنا لنكونن معا لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا، ولا نعبد الطواغيت من دون الله عز وجل، فرق بيني وبينهم فلم أرهم ولم يروني، وقد كنا توافقنا أن لا نفترق في حياة ولا موت أبدا، يا ليت شعري ما هو فاعل بي أقاتلي أم لا؟ هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حين رجع إليهم، ثم انتهي به إلى الرجلين الصالحين أرموس واصطفوس، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء، فأخذ أرموس واصطفوس الورق فنظرا إليها وعجبا منها، ثم قال له أحدهما: أين الكنز الذي وجدته يا فتى؟ فهذا الورق يشهد عليك أنك قد وجدت كنزا! فقال له تمليخا: ما وجدت كنزا، ولكن هذا الورق ورق آبائي، ونقش هذه المدينة وضربها. ولكني والله ما أدري ما شأني وما أدري ما أقول لكم! فقال أحدهما: من أنت؟ فقال له تمليخا: أما ما أرى، فإني كنت أرى أني من أهل هذه المدينة. فقالوا له: من أبوك ومن يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه، فلم يجدوا أحدا يعرفه ولا أباه. فقال له أحدهما: أنت رجل كذاب لا تخبر بالحق، فلم يدر تمليخا ما يقول لهم، غير أنه نكس رأسه إلى الأرض، فقال بعض من حوله: هذا الرجل مجنون، وقال بعضهم: ليس بمجنون ولكنه يحمق نفسه عمدا، لكي يفلت منكم. فقال له أحدهما ونظر إليه نظرا شديدا: أتظن أنا نرسلك ونصدقك هذا مال أبيك، ونقش هذا الورق وضربها، أكثر من ثلاثمائة سنة؟ وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا، ونحن شمط كما ترى، وحولك سراة «1» أهل المدينة، وولاة أمرها وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار. وإني لأظنني سآمر بك فتضرب وتعذب عذابا شديدا، ثم أوثقك حتى تقر بهذا الكنز الذي وجدت. فلما قال له ذلك، قال له تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدقتكم ما عندي؟ قالوا: سل لا نكتمك شيئا. قال: فما فعل الملك دقيانوس؟ فقالوا له: ليس نعرف اليوم على وجه الأرض ملكا يسمى دقيانوس، ولم يكن إلا ملكا قد هلك منذ زمان ودهر طويل، وقد هلكت بعده قرون كثيرة. فقال لهم تمليخا: فو الله ما يصدقني أحد من الناس بما أقول: لقد كنا فتية الملك، وأنه أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فهربنا منه عشية أمس، فنمنا، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاما وأتجسس لهم الأخبار، فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل منحلوس، أريكم أصحابي، فلما سمع أرموس واصطفوس ما يقول تمليخا، قالا: يا قوم لعل هذه آية من آيات الله عز وجل، جعلها الله لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 يرينا أصحابه كما قال. فانطلق معه أرموس واصطفوس، وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم. ولما رأى الفتية أصحاب الكهف، تمليخا قد احتبس عنهم بطعامهم وشرابهم، عن القدر الذي كان يأتيهم فيه، ظنوا أنه قد أخذ وذهب إلى ملكهم دقيانوس، الذي هربوا منه. فبينما هم يظنون ذلك ويتخوفونه إذا سمعوا الأصوات، وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، فظنوا أنهم رسل الجبار دقيانوس، بعث إليهم ليؤتى بهم، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة وسلم بعضهم على بعض، وقالوا: انطلقوا بنا إلى أخينا تمليخا، فإنه الآن بين يدي الجبار دقيانوس، ينتظر متى نأتيه. فبينما هم يقولون ذلك وهم جلوس بين ظهراني الكهف فلم يروا إلا أرموس وأصحابه، وقوما وقوفا على باب الكهف، وقد سبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو يبكي، فلما رأوه يبكي بكوا معه، ثم سألوه عن شأنه فأخبرهم بخبره وقص عليهم المسألة فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بإذن الله تعالى ذلك الزمان كله، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس وتصديقا للبعث، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها. ثم دخل على أثر تمليخا أرموس، فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة، فقام بباب الكهف ودعا رجالا من عظماء أهل المدينة، ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص، مكتوبا فيهما: إن مكسلمينا وامليخا (أو تمليخا) مرطوكش ونوالس وسانيوس وبطنيوس وكشفوطط كانوا فتية، هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار، مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا في هذا الكهف، فلما أخبر بمكانهم أمر بهذا الكهف فسد عليهم بالحجارة، وأنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلم من بعدهم إن عثر عليهم. فلما قرؤوه عجبوا وحمدوا الله عز وجل، الذي أراهم آية البعث فيهم. ثم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ثم دخلوا على الفتية الكهف فوجدوهم جلوسا بين ظهرانيه ووجوههم مشرقة لم تبل ثيابهم. فخر أرموس وأصحابه سجدا لله تعالى وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته، ثم كلم بعضهم بعضا وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس الجبار. ثم إن أرموس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تاودوسيوس، أن عجل لعلك تنظر إلى آية من آيات الله تعالى، جعلها الله آية على ملكك وجعلها آية للعالمين ليكون ذلك نورا وضياء وتصديقا بالبعث، فاعجل على فتية بعثهم الله وكان قد توفاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة. فلما أتى الملك الخبر قام من السدة التي كان عليها ورجع إليه عقله، وذهب عنه همه، ورجع إلى الله تعالى، وقال: أحمد الله رب العالمين رب السموات والأرض، وأعبدك وأسبح لك تطولت علي ورحمتني برحمتك، فلم تطفىء النور الذي كنت جعلته لآبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك، فلما أنبىء به أهل المدينة ركبوا إليه وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه، فلما رأوا الفتية تاودوسيوس، فرحوا به وخروا سجدا على وجوههم. وقام تاودوسيوس قدامهم، ثم اعتنقهم وبكى، وهم جلوس بين يديه على الأرض، يسبحون الله تعالى ويحمدونه، ثم قال الفتية لتاودوسيوس: نستودعك الله، ونقرأ عليك السلام، حفظك الله ومد ملكك، ونعيذك بالله من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 شر الجن والإنس. فبينما الملك قائم، رجعوا إلى مضاجعهم فناموا، وتوفى الله أرواحهم. وقام الملك فجعل ثيابه عليهم، وأمر أن يجعل لكل واحد تابوت من ذهب. فلما أمسوا ونام، أتوه في المنام، وقالوا: إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة، ولكنا خلقنا من التراب وإلى التراب نصير. فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب، حتى يبعثنا الله، فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج، فجعلوا فيه. وحجبهم الله حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد أن يطلع عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجدا يصلى فيه. وجعل لهم عيدا عظيما، وأمر أن يؤتى كل سنة. وقيل: إنهم لما أتوا باب الكهف، قال لهم تمليخا: دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم، فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم، فدخل فبشرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، وعمي عليهم فلم يهتدوا إليهم. فهذا حديث أصحاب الكهف. ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يريه إياهم، فقال تعالى: إنك لن تراهم في دار الدنيا، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: كيف أبعث إليهم؟ فقال «1» : ابسط كساءك، واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر، وعلى الثاني عمر، وعلى الثالث عليا، وعلى الرابع أبا ذر، ثم ادع الرخاء المسخرة لسليمان بن داود عليهما السلام، فإن الله تعالى أمرها أن تطعيك. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر به، فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف، فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجرا، فقام الكلب فنبح عليهم حين أبصر الضوء، وهر وحمل عليهم، فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه، وأومأ برأسه أن ادخلوا الكهف، فدخلوا فقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد الله عليهم أرواحهم، فقاموا بأجمعهم، وقالوا: وعليكم السلام وعلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مادامت السموات والأرض، وعليكم بما بلغتم ثم جلسوا بأجمعهم يتحدثون، فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقبلوا دين الإسلام. وقالوا: اقرؤوا محمدا منا السلام، ثم أخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم، إلى آخر الزمان، عند خروج المهدي. ويقال إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون إلى يوم القيامة. وقد رأيت في كتاب الشفاء، للإمام أبي الربيع سليمان بن سبع، ما نصه: روي أن عيسى عليه السلام يعمر بعد الدجال ويأجوج ومأجوج أربعين سنة، ويكون حواريوه أصحاب الكهف والرقيم ويحجون معه، لأنهم لم يحجوا. انتهى ما نقله ابن سبع. ثم نرجع إلى سياق الثعلبي، قال: ثم جلس كل واحد منهم على مكانه وحملتهم الريح، فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان منهم. فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: كيف وجدتموهم وما الذي أجابوا؟ فقالوا: يا رسول الله دخلنا عليهم فسلمنا عليهم، فقاموا بأجمعهم فردوا علينا السلام، وبلغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا، وشهدوا أنك رسول الله حقا، وحمدوا الله على ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 أكرمهم بخروجك وتوجيه رسلك إليهم. وهم يقرؤونك السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تفرق بيني وبين أصهاري وأحبابي، واغفر لمن أحبني، وأحب أهل بيتي وأحب أصحابي. فذلك قوله تعالى إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ «1» أي صار يضم الفتية. قال الثعلبي: كان أصحاب الكهف صيارفة. قوله عز وجل إِلَى الْكَهْفِ هو غار بجبل منحلوس. وقيل: بناحيوس واسم الكهف حرم، وقيل خدم. قوله «2» تعالى: فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي يسر لنا ما نلتمس من رضاك، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: رشدا أي مخرجا من الغار في سلامة، وقيل: صوابا. قوله «3» تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ وهذا من فصاحات القرآن، التي أقرت العرب القصور عن الإتيان بمثله. ومعناه أنمناهم وألقينا وسلطنا عليهم النوم. كما يقال ضرب الله فلانا بالفالج، أي ابتلاه به وأرسله عليه. وقيل: معناه حجبناهم عن السمع، وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم. وهذا وصف الأموات والنيام. وقال قطرب: هو كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية، إذا منعهم من العبث والفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة، إذا منعه من التصرف. وقال الأسود «4» بن يعفر، وكان ضريرا، في ذلك: ومن الحوادث لا أبالي أنني ... ضربت على الأرض بالأسداد قوله «5» عز وجل سِنِينَ عَدَداً أي معدودة وهي نعت السنين، والعد المصدر والعدد الاسم المعدود كالنقض والنقض، والقص والقصص، والخبط والخبط. وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر. قوله «6» تعالى: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ يعني من بعد موتهم، لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً «7» وذلك حين تنازع المسلمون الأولون أصحاب الملك، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين رأوا أصحاب الكهف، في قدر مدة لبثهم في الكهف. فقال المسلمون الأولون: لبثوا في الكهف ثلاثمائة سنين وتسع سنين، وقال المسلمون الآخرون: بل لبثوا كذا وكذا. فقال الأولون: الله أعلم بما لبثوا. فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ «8» أي: أي الفريقين أحصى، أي أضبط وأحفظ، لما لبثوا، أي مكثوا في كهفهم نياما أمدا، غاية. وقال مجاهد: عددا. وفي نصبه وجهان: أحدهما على التفسير والثاني مفعول لبثوا. قوله «9» عز وجل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نقرأ وننزل عليك نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ «10» ، أي خبر أصحاب الكهف. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ «11» أي شباب وأحداث آمَنُوا بِرَبِّهِمْ «12» ، حكم الله لهم بالفتوة، حين آمنوا بلا واسطة. لذلك قال أهل اللسان: رأس الفتوة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوة بذل الندى، وكف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 الأذى، وترك الشكوى. وقيل: الفتوة شيآن: اجتناب المحارم واستعمال المكارم. وقيل: الفتى من لا يدعي قبل الفعل، ولا يذكي نفسه بعد الفعل. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السياط، إنما الفتى من يجوز على الصراط، وليس الفتى من يصبر على المسكين إنما الفتى من يطعم المسكين. قوله «1» تعالى: وَزِدْناهُمْ هُدىً أي إيمانا وبصيرة وايقانا. وَرَبَطْنا «2» أي شددنا عَلى قُلُوبِهِمْ «3» بالصبر، وألهمناهم ذلك وقويناهم بنور الإيمان حين صبروا على هجران دار قومهم، وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش، وفروا بدينهم إلى الكهف إِذْ قامُوا «4» بين يدي دقيانوس فَقالُوا «5» حين عاتبهم على ترك عبادة الصنم: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً «6» ، أي لا نعبد من دونه إلها، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً «7» ، قال ابن عباس ومقاتل رضي الله تعالى عنهم: جورا. وقال قتادة، رحمه الله تعالى: كذبا. وأصل الشطط والإشطاط مجاوزة القدر والافراط. هؤُلاءِ قَوْمُنَا «8» : بمعنى أهل بلدهم، اتَّخَذُوا «9» أي عبدوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً «10» يعني من دون الله الأصنام يعبدونها. لَوْلا «11» هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ «12» على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ «13» ، أي حجة واضحة فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «14» . بزعم أن له شريكا وولدا. ثم قال بعضهم لبعض: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ «15» ، يعني قومهم وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ «16» ، أي واعتزلتم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله. وكذلك هو في مصحف عبد الله: وما يعبدون من دون الله. فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ «17» أي صيروا إليه يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً: «18» أي رزقا رغدا. والمرفق ما يرتفق به الإنسان. وفيه لغتان مرفق بفتح الميم وكسر الفاء، وهي قراءة أهل المدينة والشأم وعاصم في بعض الروايات. ومرفق بكسر الميم وفتح الفاء وهي قراءة الباقين. قوله «19» تعالى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ أي وترى يا محمد الشمس إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ «20» أي تتزاور. قرأ أهل الكوفة بالتخفيف على حذف إحدى التاءين، وقرأ أهل الشأم ويعقوب: تزور، على وزن تحمر وكلها بمعنى واحد أي تميل وتعدل عن كهفهم، ذاتَ الْيَمِينِ «21» أي جانب اليمين. وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ «22» . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تدعهم. وقال مقاتل بن حيان: تجاوزهم. وأصل القرض القطع ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ «23» . أي متسع من الكهف. وجمعها فجوات وأفجاء وفجاء. أخبرنا الله بحفظه إياهم في مضجعهم، واختياره لهم أصلح المواضع للرقاد، فأعلمنا أنه يراهم في فضاء من الكهف، مستقبلا بنات نعش، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة وجارية، فلا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرها، وتغير من ألوانهم وتبلي ثيابهم، وأنهم في متسع منه ينالهم فيه برد الريح ونسميها، وتنفي عنهم كربة الغار وغمومه، ذلِكَ «24» ما ذكرنا من أمر الفتية مِنْ آياتِ اللَّهِ «25» ، أي من عجائب صنع الله ودلالات قدرته. قوله «26» عز وجل: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً لأن التوفيق والخذلان بيد الله عز وجل، وَتَحْسَبُهُمْ «27» يا محمد أَيْقاظاً «28» منتبهين جمع يقظ ويقظ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 مثل قولك رجل نجد ونجد للشجاع وجمعه أنجاد، وَهُمْ رُقُودٌ «1» يعني نيام، جمع راقد، مثل قاعد وقعود. وَنُقَلِّبُهُمْ «2» بالتخفيف والتشديد، ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ «3» ، مرة للجنب الأيمن ومرة للجنب الأيسر. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا يقلبون في السنة مرة، من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم، ويقال: إن يوم عاشوراء كان يوم تقلبهم، وقال أبو هريرة: كان لهم في السنة تقليبتان وَكَلْبُهُمْ «4» ، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أحمر. وقال مقاتل: كان أصفر. وقال القرطبي: من شدة صفرته يضرب إلى الحمرة. وقال الكلبي: لونه كالخلنج. وقيل: لون الحجر، وقيل: لون السماء. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: كان اسمه ريان. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قطمير. وقال الأوزاعي: مشير. وقال سعيد الحمال: حران. وقال عبد الله بن كثير: إن اسم كلبهم قطمور. وقال السدى. اسمه تون. وقال عبد الله بن سلام: بسيط. وقال كعب: صيهان. وقال وهب: اسمه نقيا. وقيل: قطفير. وقيل: قطيفير. وقال عروة: مما أخذ على العقرب، أن لا يضر بأحد في ليل ولا نهار، قال: سَلامٌ عَلى نُوحٍ «5» قال: ومما أخذ على الكلب أن لا يضر بأحد، ممن حمل عليه، إذ قال: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ «6» وقرأ جعفر الصادق: وكالبهم، يعني صاحب الكلب باسط ذراعيه بالوصيد. وقال مجاهد والضحاك: الوصيد فناء الكهف، وهي رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: الوصيد الصعيد، وهو التراب وهي رواية عطية العوفي، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال السدي: الوصيد الباب، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس وأنشد قول الشاعر: بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر أي بابها. وقال عطاء: الوصيد عتبة الباب. وقال العتبي: الوصيد البناء، وأصله من قول العرب أصدت الباب وأوصدته، إذا أغلقته وأطبقته. قوله تعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ «7» يا محمد لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً «8» لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة، حتى لا يصل إليهم واصل، ولا تلمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب أجله، فيوقظهم الله تعالى من رقدتهم، لإرادة الله عز وجل أن يجعلهم آية وعبرة لمن يشاء من خلقه، ليعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة لا ريب فيها وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً «9» أي خوفا. وقرأ أهل الكوفة: لملئت بالتشديد، قيل: إنما قال ذلك لوحشة المكان الذي هم فيه. وقال الكلبي وغيره: لأن أعينهم مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم، وهم نيام. وقيل: إن الله منعهم بالرعب، لئلا يراهم أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه غزا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم، فمروا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، الذين ذكرهم الله في القرآن فقال معاوية: لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم؟ فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ليس لك ذلك، قد منع الله ذلك من هو خير منك. قال الله تعالى: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً «1» فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم، فبعث ناسا، فقال: اذهبوا فادخلوا الكهف، فانظروا ففعلوا. فلما دخلوا الكهف، بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم. قوله «2» عز وجل وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ يعني كما أنمناهم في الكهف، ومنعنا من الوصول إليهم، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان، وثيابهم من العفن على ممر الأيام بقدرتنا، فكذلك بعثناهم من النومة التي تشبه الموت، لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ «3» أي ليتحدثوا ويسأل بعضهم بعضا، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ «4» ، يعني رئيسهم مكسلمينا: كَمْ لَبِثْتُمْ «5» في نومكم؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول نومهم. ويقال: إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة! فقال ذلك. قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «6» ، لأنهم دخلوا الكهف غدوة، فلما رأوا الشمس، قالوا: أو بعض يوم، توقيا من الكذب. وكان قد بقيت من الشمس بقية. ويقال كان بعد زوال الشمس، فلما نظروا إلى أظفارهم وأبشارهم، تيقنوا أن لبثهم كان أكثر من يوم، ف قالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ «7» ويقال: إن رئيسهم لما سمع الاختلاف بينهم، قال ذلك: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ «8» ، يعني تمليخا، بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ «9» ، والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، والدليل عليه أن عرفجة بن سعد أصيب أنفه يوم الكلاب، فاتخذ أنفا من ورق وفيه لغات: بورقكم ساكنة الراء. وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وخلف وأبي بكر. وبورقكم بكسر الراء وادغام القاف، وهي قراءة بعض، وبورقكم بفتح الواو وكسرا الراء، وهي قراءة أكثر القراء. ورق وورق مثل كبد وكبد وكلم وكلم، والمدينة أفسوس، وقيل: طرسوس، ويقال: أرسوس كان اسمها في الجاهلية أفسوس، فلما جاء الإسلام سموها طرسوس. فلينظر أيها أزكى طعاما. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه: أحل ذبيحة لأن عامتهم كانوا مجوسا، ومنهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. وقال الضحاك: أطيب. وقال مقاتل وابن حيان: أجود، وقال ابن شهاب: أرخص. وقال قتادة: أخير. وقال عكرمة: أفضل، وأكثر. وأصل الزكاة: الزيادة والنماء. قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة ... كذا السبع أزكى من ثلاث وأطيب فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ «10» أي قوت وطعام، وَلْيَتَلَطَّفْ «11» أي وليرفق في الشراء، وفي طريقه وفي دخوله المدينة، وَلا يُشْعِرَنَ «12» ولا يعلمن بِكُمْ أَحَداً «13» من الناس إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 عَلَيْكُمْ فيعلموا بمكانكم يَرْجُمُوكُمْ «1» قال ابن جريج: يشتموكم ويؤذوكم بالقول. ويقال: يقتلوكم ويقال: كان من عادتهم القتل بالرجم، وهو من أخبث القتل. ويقال: يضربوكم أو يعيدوكم في ملتهم أي دينهم الكفر، ولن تفلحوا إذا أبدا إن عدتم إليهم. قوله «2» عز وجل: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي اطلعنا عليهم، يقال: عثرت على الشيء: اطلعت عليه، وأعثرت غيري وأطلعته عليه لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ «3» يعني قوم تاودوسيوس، وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ «4» قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يتنازعون في البنيان والمسجد، فقال المسلمون: نبني عليهم مسجدا، لأنهم على ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بنيانا لأنهم من أهل نسبنا. وقال عكرمة: يتنازعون في الأرواح والأجساد. فقال المسلمون: البعث للأجساد والأرواح، وقال المشركون: البعث للأرواح دون الأجساد. فبعثهم الله تعالى من رقادهم، وأراهم أن البعث للأجساد والأرواح. وقيل: يتنازعون في عددهم فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ، قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ «5» ، تاودوسيوس الملك وأصحابه لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً «6» . قوله «7» عز وجل: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وذلك أن السيد والعاقب وأصحابهما، من نصارى نجران، كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أهل الكهف، فقال السيد: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وكان السيد يعقوبيا، وقال العاقب: كانوا خمسة سادسهم كلبهم، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. فحقق الله قول المسلمين وصدقهم بعدما حكى قول النصارى فقال: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ «8» أي قذفا بالظن من غير يقين كقول الشاعر: وأجعل قول الحقّ قولا مرجّما وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «9» قال بعضهم: هذه واو الثمانية، وذلك أن العرب تقول واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأن العقد عندهم كان سبعة، كما هو اليوم عندنا عشرة. ونظيره قوله «10» تعالى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وقوله تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً «11» وقال بعضهم: هذه واو الحكم والتحقيق، فإن الله حكى اختلافهم فتم الكلام عند قوله وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ «12» ثم حكى أن ثامنهم كلبهم، الثامن لا يكون إلا بعد السبع. فهذا تحقيق قول المسلمين. قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ «13» قال مجاهد وقتادة: قليل من الناس، وقال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 عطاء وقتادة أيضا: يعني بالقليل أهل الكتاب. وقال ابن عباس، في قوله: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ «1» قال: أنا من أولئك القليل، وهم مكسلمينا وتمليخا ومرطونس وبنيونس وساربونس ودوانوانس وكند سلططنوس، وهو الراعي. والكلب اسمه قطمير كلب أنمر فوق القلطي، ودون الكردي. والقلطي كلب صيني. قال محمد بن المسيب: وما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث، إلا من لم يقدر له. وكتبه علي أبو عمر والجبري زاد الإمام أبو الحسن في روايته فقال: قلت: وصدق ابن المسيب. فقد رأيت في تفسير أبي عمرو الجبري هذا الحديث، مرويا عن ابن المسيب، ثم قال: أعني الإمام أبا الحسن بسنده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إن الله عز وجل عدهم حتى انتهى إلى السبعة، وأنا من القليل الذين يعلمونهم هم سبعة يعني أصحاب الكهف. قال الثعلبي: قوله تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً «2» وهو ما نص عليه، في كتابه العزيز من خبرهم، يقول تعالى: حسبك ما قصصت عليك فلا تمار فيهم وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً «3» من أهل الكتاب. وقوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «4» قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني إن عزمت على أن تفعل غدا شيئا، أو تحلف على شيء أنت فاعله غدا، فقل: إن شاء الله، فإن نسيت الاستثناء، ثم ذكرته فقله، ولو بعد سنة، وهذا تأديب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حين سئل عن المسائل الثلاثة: أهل الكهف والروح وذي القرنين، فوعدهم أن يجيبهم غدا، ولم يقل إن شاء الله ولم يستثن. روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتم إيمان العبد حتى يستثني في كل كلامه. قوله عز وجل وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ «5» قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والحسن رضي الله تعالى عنهم: معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرته فاستثن. وقال عكرمة رضي الله تعالى عنه: معناه واذكر ربك إذا غضبت. فقد روى وهب بن منبه، قال: مكتوب في الإنجيل: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب، أذكرك حين أغضب، وإلا أمحقك فيمن أمحق. وإذا ظلمت فلا تنتصر، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. وقال الضحاك والسدي: هذا في الصلاة لقوله «6» صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة أو نام عنها، فليصلها متى ذكرها» . وقال أهل الإشارة: معناه اذكر ربك، إذا نسيت غيره. ويؤيده قول ذي النون المصري رحمه الله تعالى: من ذكر الله على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء، فإذا نسي في جنب ذكره كل شيء، حفظ الله له كل شيء، وكان له عوضا من كل شيء. وقيل: معناه واذكر ربك، إذا تركت ذكره والنسيان هو الترك. قوله «7» عز وجل وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي يثبتني على طريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 هو أقرب إليه وأرشد. وقيل: معناه لعل الله يهديني فيرشدني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم، أنه سيكون إن هو شاء. وقيل: إن الله أمره أن يذكره إذا نسي شيئا، ويسأله أن يذكره فيذكره ويهديه، لما هو خير له من تذكره ما نسيه. ويقال: إن هؤلاء القوم، لما سألوه عن قصة أصحاب أهل الكهف، على وجه العناد، أمره الله أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج والبيان على صحة نبوته، وما دعاهم إليه من الحق زيادة على ما سألوه، ثم إن الله تعالى فعل ذلك به حيث آتاه من علم غيوب المسلمين، وخبرهم ما كان أوضح الحجج، وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقال بعضهم: هذا شيء أمر صلى الله عليه وسلم أن يقوله مع قوله: إن شاء الله إذا ذكر الاستثناء بعد ما نسيه، فإذا نسي الإنسان «إن شاء الله» فتوبته من ذلك وكفارته أن يقول: عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا. وقوله «1» تعالى: وَلَبِثُوا يعني أصحاب الكهف، فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً «2» قال بعضهم: هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك، وقالوا: لو كان خبرا من الله عن قدر لبثهم في الكهف، لم يكن لقوله «3» قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وجه مفهوم، فقد أعلم الله خلقه قدر لبثهم. وهذا القول قول قتادة، يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود: فقالوا لبثوا في كهفهم. وقال مطر الوراق في هذه الآية: هذا شيء قالته اليهود، فرد الله عليهم، فقال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا «4» . وقال آخرون: هذا إخبار من الله تعالى عن قدر لبثهم في الكهف، وقالوا: معنى قوله «5» تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أن أهل الكتاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: إن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمائة وتسع سنين، فرد الله عليهم ذلك. قال صلى الله عليه وسلم: «الله أعلم بما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير الله وغير من أعلمه ذلك» . وقال الكلبي: قالت النصارى، أهل نجران: أما الثلاثمائة فقد عرفناها، وأما التسع فلا علم لنا بها. فنزلت «6» قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يعلم ما غاب فيهما من العباد. واختلفوا في قوله «7» عز وجل: ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ فقرأ أهل الكوفة بغير تنوين، بمعنى فلبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة. وقال الضحاك ومقاتل: نزلت «8» وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ فقالوا: أياما أو أشهرا أو سنين. فلذلك قال: سنين. ولم يقل سنة انتهى. ما ساقه الإمام أبو اسحاق محمد بن أحمد الثعلبي، من قصة أصحاب الكهف، وقد ذكرها الحافظ أبو محمد بن جرير بن يزيد الطبري في تاريخه الكبير، وفيها زيادة فوائد فلنأت بها. قال: ومما كان في أيام ملوك الطوائف ما ذكره الله تعالى في كتابة العزيز من أمر الفتية، الذين أووا إلى الكهف فضرب على آذانهم، قال: وكان أصحاب الكهف فتية آمنوا بربهم، كما وصفهم الله في تنزيله، فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 آياتِنا عَجَباً «1» والرقيم هو الكتاب الذي كان القوم الذين منهم، كان الفتية كتبوه في لوح بذكر خبرهم وقصصهم، ثم جعلوه على باب الكهف الذي أووا إليه، أو نقروه في الجبل الذي أووا إليه، أو كتبوه في لوح وجعلوه في صندوق خلفوه عندهم، إذا أوى الفتية إلى الكهف. وكان عدد الفتية فيما ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سبعة وثامنهم كلبهم. قال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: أنا من ذلك القليل الذي استثنى الله عز وجل كانوا سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «2» وكان اسم أحدهم تمليخا وهو الذي كان يلي شراء الطعام لهم الذي ذكر الله عز وجل عنهم أنهم قالوا. إذ هبّوا من رقدتهم: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ «3» قال مجاهد في قوله «4» تعالى فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ اسمه تمليخ. وأما ابن اسحاق، فإنه قال: اسمه يمليخا. وكان ابن اسحاق يقول: عدد الفتية ثمانية فعلى قوله كان تاسعهم كلبهم. وإنه كان يسميهم فيقول: كان أحدهم، وهو أكبرهم، والذي كلم الملك عن سائرهم مكسلمينا، والآخر مجسلمينا، والثالث يمليخا، والرابع مرطوس، والخامس كفشطيوس، والسادس ينيونس، والسابع ميموس، والثامن بطنيوس، والتاسع طالوس، وكانوا أحداثا. وعن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانهم وضح الورق، وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم فهداهم الله للإسلام، وكانت شريعتهم شريعة عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، في قول جماعة من سلف علمائنا. وعن عمرو يعني بن قيس الملائي، في قوله «5» تعالى: أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً قال: كانت الفتية على دين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وكان ملكهم كافرا، وكان بعضهم يزعم أن أمرهم ومصيرهم إلى الكهف، كان قبل المسيح، وأن المسيح أخبر قومه خبرهم وأن الله عز وجل بعثهم من رقدتهم، بعدما رفع المسيح عليه السلام في الفترة التي بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، أي ذلك كان. فأما الذي عليه علماء الإسلام، فعلى أن أمرهم كان بعد المسيح. وأما أنه كان في أيام ملوك الطوائف، فإن ذلك لا يرفعه رافع من أهل العلم بأخبار الناس القديمة، وكان لهم في ذلك الزمن ملك يقال له دقيانوس، يعبد الأصنام فيما ذكر، فبلغه عن الفتية خلافهم إياه في دينه، فطلبهم فهربوا منه بدينهم، حتى صاروا إلى جبل لهم، يقال له منحلوس. وكان سبب إيمانهم وخلافهم لقومهم ما ذكر عن وهب بن منبه، أنه قال: جاء حواري عيسى ابن مريم إلى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخل أحد إلا سجد له، فكره أن يدخلها. فأتى حماما كان قريبا من تلك المدينة، فكان يعمل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 فيه يؤاجر نفسه من صاحب الحمام، فرأى الرجل في حمامه البركة ودر عليه الرزق، فجعل يعرض عليه الإسلام، وجعل يسترسل إليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض، وخبر الآخرة حتى آمنوا بما يقوله وصدقوه، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة، وكان يشترط على صاحب الحمام، أن الليل لا يحول بيني وبينه أحد، ولا بين الصلاة إذا حضرت، فكان على ذلك، حتى جاء ابن الملك بامرأة، فدخل بها الحمام، فعيره الحواري «1» ، وقال له: أنت ابن الملك وتدخل معك هذه التي هي كذا وكذا. فاستحيا وذهب، فرجع مرة أخرى، فقال له مثل ذلك، فسبه وانتهره ولم يلتفت إليه حتى دخل، ودخلت معه المرأة فماتا في الحمام جميعا. فأتى الملك، فقيل له: إن صاحب الحمام قد قتل ابنك فالتمس فلم يقدر عليه، وهرب كل من كان يصحبه، فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع، وهو على مثل أمرهم، فذكروا له أنهم التمسوا، فانطلق معهم ومعه الكلب حتى آواهم الليل إلى الكهف، فدخلوا وقالوا: نبيت ههنا الليلة، ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم. فضرب على آذانهم فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم، حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، فكلما أراد رجل أن يدخل الكهف أرعب، فلم يطق أحد أن يدخله فقال قائل: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتون عطشا وجوعا. ففعل فغبر بعد ما بنى عليهم باب الكهف، زمان بعد زمان. ثم إن راعيا أدركه المطر عند الكهف، فقال: لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي من المطر، فلم يزل يعالجه حتى فتح، فأدخل فيه غنمه، ورد الله تعالى إليهم أرواحهم في أجسادهم من الغد حين أصبحوا، فبعثوا أحدهم بورق يشتري لهم طعاما، فلما أتى باب مدينتهم لم ير شيئا ينكره، حتى دخل على رجل فقال له: بعني بهذه الدراهم طعاما، فقال: ومن أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس فآوانا الليل حتى أصبحوا، فأرسلوني. فقال: هذه الدراهم كانت على عهد الملك فلان، فأنى لك بها؟ فرفعه إلى الملك، وكان ملكا صالحا، فقال: من أين لك هذه الدراهم؟ قال: خرجت أنا وأصحاب لي أمس حتى أدركنا الليل في كهف كذا وكذا فلما أصبحوا أمروني أن أشتري لهم طعاما. قال: وأين أصحابك؟ قال: في الكهف. فانطلقوا معه حتى أتوا باب الكهف، فقال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم، فلما رأوه ودنا منهم، ضرب الله على آذانه وآذانهم، فجعلوا كلما دخل رجل أرعب، فلم يقدروا أن يدخلوا إليهم. فبنوا عنده كنيسة واتخذوها مسجدا يصلون فيه. وعن قتادة عن عكرمة قال: كان أصحاب الكهف أبناء ملوك الروم، رزقهم الله الإسلام، فتعوذوا بدينهم واغتالوا قومهم، حتى انتهوا إلى الكهف، فضرب الله على صماخهم فلبثوا دهرا طويلا حتى هلكت أمتهم، وجاءت أمة مسلمة، وكان ملكهم مسلما، واختلفوا في الروح والجسد، فقال قائل: تبعث الروح والجسد جميعا، وقال قائل: تبعث الروح لا غير، فأما الجسد فتأكله الأرض، فلا يكون شيئا، فشق على ملكهم اختلافهم، فانطلق فلبس المسوح وجلس على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 الرماد، ثم دعا الله تعالى فقال: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم ما يبين لهم. فبعث الله أصحاب الكهف، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما، فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه، ويعرف الطريق ويرى الإيمان بالمدينة ظاهرا فانطلق وهو مستخف، حتى أتى رجلا يشتري منه الطعام، فلما نظر الرجل إلى الورق أنكرها. قال: حسبت أنه قال: كأنها أخفاف الربع، يعني الإبل الصغار. فقال الفتى: أليس ملككم فلانا؟ قال: لا بل ملكنا فلان. فلم يزل ذلك بينهما حتى رفعه إلى الملك، فسأله الملك فأخبره الفتى خبر أصحابه. فبعث الملك في الناس فجمعهم، فقال: إنكم قد اختلفتم في الروح والجسد، وإن الله قد بعث لكم آية، فهذا الرجل من قوم فلان يعني ملكهم الذي مضى، فقال الفتى: انطلقوا معي إلى أصحابي، فلما أبصرهم ضرب على آذانه وآذانهم، فلما استبطؤوه دخل الملك ودخل معه الناس، فإذا أجساد لا ينكرون منها شيئا غير أنها لا أرواح فيها! فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم. قال قتادة: وغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة، فمروا بالكهف فإذا فيه عظام، فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة. وقال وهب والسدي وغيرهما: وأسماؤهم مكسلمينا وهو أكبرهم ورئيسهم، وأمليخا وهو أجملهم وأعبدهم وأنشطهم، ومرطونس، ويوناس، وساربنوس، وبطنيوس وكندسلططنوس، وكلبهم قطمير يكتب ذلك للنوم ولبكاء الأطفال. ومما يكتب لنوم الصبيان وبكائهم: أعوذ بكلمات الله التامات التي نام بها أصحاب الكهف والرقيم، الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، اللهم الق النوم والسكينة على حامل هذا الكتاب، بألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فائدة أخرى : وقد تقدمت قبل ذلك، وهي عن عمرو بن دينار أنه قال: مما أخذ على العقرب أن لا تضر أحدا في ليل أو نهار أن يصلي على نوح صلى الله عليه وسلم. ومما أخذ على الكلب، أن لا يضر أحدا حمل عليه في ليل أو نهار، إذ قرأ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ «1» إلى هنا انتهى ما تقدم. وقال القرطبي في كتاب التذكار في أفضل الأذكار: بلغنا عمن تقدم أن في سورة الرحمن آية تقرأ على الكلب إذا حمل على الإنسان، وهي قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ «2» فإنه لا يؤذيه بإذن الله تعالى. وفي تاريخ الإسلام للذهبي في سنة ثلاثمائة أن ممشاد الدينوري رحمه الله تعالى، خرج من داره فنبحه كلب، فقال: لا إله إلا الله فمات الكلب مكانه. الحكم : يحرم أكل الكلاب بجميع أنواعها إلا ابن آوى، فإنه من جنس الكلاب وفيه خلاف سبق في باب الهمزة. وروى ابن عبد البر، في التمهيد، عن الشعبي، أنه سئل عن رجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 يتداوى بلحم الكلاب! فقال: لا شفاه الله. وعلى مقتني الكلب المباح اقتناؤه، أن يطعمه أو يرسله، أو يدفعه لمن يريد الانتفاع به، ولا يحل حبسه ليهلك جوعا. فرع : لو كان لإنسان كلب محترم مضطر، ومع غيره شاة، جاز له مكالبته عليها لإطعامه ويضمنها له. فرع : لو عض كلب كلب شاة فكلبت نحرت، ولا يؤكل لحمها. قال أبو حيان التوحيدي من أصحابنا في كتاب الامتاع: إذا كلب الجمل نحر، ولا يؤكل لحمه انتهى. والظاهر أن ذلك خشية الإيذاء. فرع : لو غصب نجاسة تنفع ككلب معلم، وجلد ميتة وسرجين، فهل له كسر بابه ونقب جداره، إذا لم يصل إليها إلا بذلك؟ الظاهر أنه يجوز له ذلك، كالمال لأنها حق، ويجوز الدفع عنها كالمال والله أعلم. تنبيه : الكلاب كلها نجسة المعلمة وغيرها الصغير والكبير وبه قال الأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد واسحاق وأبو ثور وأبو عبيدة ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين كلب البدوي والحضري لعموم الأدلة. وفي مذهب مالك رحمه الله تعالى أربعة أقوال: طهارته، ونجاسته، وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره، وهذه الثلاثة عن مالك. والرابع عن عبد الملك بن الماجشون أنه يفرق بين البدوي والحضري، وقال الزهري ومالك وداود: إنه طاهر وإنما يغسل الإناء من ولوغه تعبدا. ويحكى هذا عن الحسن البصري وعروة بن الزبير، محتجين بقوله «1» تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ولم يذكر غسل موضع إمساكها. وبحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبول، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ذكره البخاري في صحيحه. واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة رضية الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات، إحداهن بالتراب» . قالوا: ولو لم يكن نجسا لما أمر بإراقته لأنه حينئذ يكون اتلاف مال. وأما حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقال البيهقي: أجمع المسلمون على أن بول الكلاب نجس، وعلى وجوب الرش من بول الصبي، والكلب أولى. فكان حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قبل الأمر بالغسل من ولوغ الكلب، أو أن بولها خفي مكانه فمن تيقنه لزمه غسله. فرع : اختلف الأصحاب في موضع عض الكلب من الصيد، والأصح أنه لا يعفى عنه، كما لو أصاب ثوبا أو إناء، فلا بد من غسله وتعفيره. والثاني يعفى عنه، والثالث يكفي غسله بالماء مرة، والرابع أنه طاهر، والخامس يجب تقويره، والسادس إن أصاب عرقا نضاخا بالدم حرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 أكله، والنضاخ الفوار. قال «1» الله عز وجل: يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ وأحكام التتريب وشرطوه مبسوطة في كتب الفقه. روى مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قال: قال «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود» . قيل لأبي ذر رضي الله تعالى عنه: ما بال الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما سألتني، فقال: «الكلب الأسود شيطان» . فحمله بعض العلماء على ظاهره، وقال: الشيطان يتصور بصورة الكلب الأسود. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «اقتلوا منها كل أسود بهيم» «3» . وقيل: لما كان الكلب الأسود أشد ضررا من غيره وأشد ترويعا، كان المصلي إذا رآه اشتغل عن صلاته، فانقطعت عليه لذلك. ولذلك تأول الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم «يقطع الصلاة المرأة والحمار» بأن ذلك مبالغة الخوف على قطعها وإفسادها من الشغل بهذه المذكورات. وذلك لأن المرأة تفتن، والحمار ينهق، والكلب الأسود يروع ويشوش الفكر، فلما كانت هذه الأمور، آيلة إلى القطع، جعلها قاطعة. وذهب ابن عباس وعطاء رضي الله تعالى عنهم، إلى أن المرأة التي تقطع الصلاة، إنما هي الحائض لما تستصحبه من النجاسة. واحتج أحمد رحمه الله بحديث الكلب الأسود على أنه لا يجوز صيده ولا يحل، لأنه شيطان. واختاره أبو بكر الصيرفي من أصحابنا. وقال الشافعي رحمه الله ومالك وأبو حنيفة وجماهير العلماء رحمة الله تعالى عليهم: يحل صيده كغيره. وليس المراد بالحديث، إخراجه عن جنس الكلاب، ولهذا إذا ولغ في إناء أو غيره وجب غسله وتعفيره كولوغ الكلب الأبيض. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال «4» صلى الله عليه وسلم: «ما بالهم وبال الكلاب» . ثم رخص صلى الله عليه وسلم في كلب الصيد وكلب الغنم. فحمل الأصحاب الأمر بقتلها على الكلب الكلب والكلب العقور، واختلفوا في قتل ما لا ضرر فيه منها. فقال القاضي حسين وإمام الحرمين والماوردي، في باب بيع الكلاب، والنووي في أول البيع، من شرحي المهذب ومسلم: لا يجوز قتلها. وقال في باب المحرمات الإحرام: إنه الأصح، وإن الأمر بقتلها منسوخ. وعلى الكراهة اقتصر الرافعي في الشرح وتبعه في الروضة وزاد أنها كراهة تنزيه لا تحريم. لكن، قال الشافعي في الأم، في باب الخلاف، في ثمن الكلاب: واقتلوا الكلاب التي لا نفع فيها حيث وجدتموها، وهذا هو الراجح في المهمات ولا يجوز اقتناء الكلب الذي لا منفعه فيه. وذلك لما في اقتنائها من مفاسد الترويع والعقر للمار. ولعل ذلك لمجانبة الملائكة لمحلها، ومجانبة الملائكة أمر شديد لما في مخالطتهم من الإلهام إلى الخير والدعاء إليه. واختلف الأصحاب في جواز اتخاذ الكلب لحفظ الدرب والدور على وجهين: أصحهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 الجواز، واتفقوا على جواز اتخاذه للزراعة والماشية والصيد، لكن يحرم اقتناء كلب الماشية قبل شرائها، وكذلك كلب الزرع والصيد لمن لا يزرع ولا يصيد، فلو خالف واقتنى نقص من أجره كل يوم قيرطان. وفي رواية: قيراط، وكلاهما في الصحيح «1» . وحمل ذلك على نوع من الكلاب، إذ بعضها أشد أذى من بعض أو لمعنى فيها، أو يكون ذلك مختلفا باختلاف المواضع، فيكون القيراطان في المدائن ونحوها، والقيراط في البوادي أو يكون ذلك في زمنين. فذكر القيراط أولا ثم زاد في التغليظ، فذكر القراطين. والمراد بالقيراط مقدار معلوم عند الله عز وجل ينقص من أجر عمله. واختلفوا في المراد بما نقص منه. فقيل: مما مضى من عمله، وقيل: من مستقبله، وقيل: قيراط من عمل الليل، وقيراط من عمل النهار، وقيل: قيراط من عمل الفرض، وقيراط من عمل النفل. وأول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام، روى القاسم بن سلمة، بإسناده عن علقمة عن عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: أول من اتخذ الكلب للحراسة نوح عليه السلام، وذلك أنه قال: يا رب أمرتني أن أصنع الفلك وأنا في صناعته أصنع أياما، فيجيئون في الليل فيفسدون كل ما عملت، فمتى يلتئم لي ما أمرتني به فقد طال علي أمدي؟ فأوحى الله إليه: يا نوح اتخذ كلبا يحرسك، فاتخذ نوح عليه السلام كلبا، وكان يعمل بالنهار وينام بالليل. فإذا جاء قومه ليفسدوا بالليل عمله نبحهم الكلب فينتبه نوح عليه السلام فيأخذ الهراوة ويثب لهم فيهربون منه. فالتأم له ما أراد. قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، في مناسكه في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس» : فإن وقع ذلك من جهة غيره، ولم يستطع إزالته فليقل: اللهم إني أبرأ إليك مما فعله هؤلاء، فلا تحرمني ثمرة صحبة ملائكتك وبركتهم ومعونتهم أجمعين. وأما قوله «2» صلى الله عليه وسلم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» . فقال العلماء: سبب امتناعهم من البيت الذي فيه صورة، كونها معصية فاحشة، وفيها مضاهاة لخلق الله تعالى، وبعضها في صورة ما يعبد من دون الله تعالى وسبب امتناعهم من البيت الذي فيه الكلب كثرة أكله النجاسات، ولأن بعض الكلاب يسمى شيطانا. كما جاء في الحديث و «الملائكة ضد الشياطين» ، ولقبح رائحة الكلب، والملائكة تكره الرائحة الخبيثة، ولأنها منهي عن اتخاذها فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته، وصلاتها فيه، واستغفارها له، وتبركها عليه في بيته، ودفعها أذى الشياطين. والملائكة الذين لا يدخلون بيتا فيه كلب ولا صورة هم ملائكة يطوفون بالرحمة والتبرك والاستغفار، وأما الحفظة والموكلون بقبض الأرواح فيدخلون في كل بيت، ولا تفارق الحفظة بني آدم في حال من الأحوال، لأنهم مأمورون بإحصاء أعمالهم وكتابتها. قال الخطابي: وإنما لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة، مما يحرم اقتناؤه من الكلاب والصور، فأما ما ليس اقتناؤه بحرام من كلب الصيد، والزرع والماشية، والصورة التي تمتهن في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 البساط والوسادة وغيرهما، فلا يمتنع دخو الملائكة بسببه. وأشار القاضي إلى نحو ما قال الخطابي، قال النووي: والأظهر أنه عام في كل كلب وكل صورة، وأنهم يمتنعون من الجميع لإطلاق الأحاديث. ولأن الجرو الذي كان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت السرير، كان له فيه عذر ظاهر، فإنه لم يعلم به ومن هذا امتنع جبريل عليه السلام من دخول البيت بسببه، فلو كان العذر في وجود الكلب والصورة لا يمنعهم لم يمتنع جبريل عليه السلام. قال الجاحظ: روي أن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ذهبوا إلى بيت رجل من الأنصار ليعودوه في مرض، فهرت في وجوههم كلاب من دار الأنصاري، فقال الصحابة: لا تدع هؤلاء من أجر فلان شيئا، كل كلب من هؤلاء ينقص من أجره كل يوم قيراطا. فدل هذا على أن القيراط يتعدد بتعدد الكلاب، وقد سئل الشيخ الإمام تقي الدين السبكي عن ذلك فأجاب بأنه لا يتعدد كما لو ولغت الكلاب في الإناء، فإن الأصح عدم تعدد الغسلات، وقد قالوا بتعدد القيراط إذا صلى على جنائر دفعة واحدة. وقال الغزالي في منكرات الشرع من الإحياء: من كان له كلب عقور على باب داره، يؤذي الناس يجب منعه منه، وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه، وإن كان يضيق الطريق ببسط ذراعيه فيمنع منه، بل يمنع صاحبه أن ينام على الطريق، أو يقعد قعودا يضيق الطريق، فكلبه أولى بالمنع. ولا يصح بيع جميع الكلاب عندنا، خلافا لمالك، فإنه أباح بيعها، حتى قال سحنون: ويحج بثمنها. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع غير العقور. والأصح عدم صحة إجارة الكلاب المعلمة، لأن اقتناءها لهذه المنافع إنما جوز لأجل الحاجة، وما جوز للحاجة لا يجوز أخذ العوض عليه، ولأنه لا قيمة لعينه، فكذلك منفعته. وقال صاحب التلخيص: لا تجوز لأنها منفعة مقصودة، واختاره الروياني وابن أبي عصرون، وبناهما الماوردي على اختلاف أصحابنا في أن منفعة الكلب، هل هي مملوكة أو مستباحة؟ وفيها وجهان: فعلى الأول يجوز إجارته، وعلى الثاني لا. ومن أحكامه : أن من كان في داره كلب عقور فاستدعى إنسانا فعقره وجب عليه ضمانه على الأصح في تصحيح النووي. وقيل: لا قطعا، وهو المجزوم به في أصل الروضة، لأن للكلب اختيارا، ويمكن دفعه بعصا وغيرها، هذا إذا لم يعلم الداخل أنه عقور، فإن علم ذلك فلا ضمان جزما، وكذلك لو كان مربوطا فسار إليه المستدعي جاهلا بحاله، فلا ضمان أيضا، ومن له كلب عقور ولم يحفظه فقتل إنسانا في ليل أو نهار، ضمنه لتفريطه. وفي معناه الهرة المملوكة التي تأكل الطيور كما سيأتي، إن شاء الله تعالى في باب الهاء. وقيل: لا ضمان فيها لأن العادة لم تجر بربطها. فرع : لو سرق قلادة من عنق كلب، أو سرقها مع الكلب، قطع وحرز الكلب كحرز الدواب. وإذا وقع في الغنيمة كلب ينتفع به للاصطياد، أو الماشية والزرع. حكى الإمام عن العراقيين أن للإمام أن يسلمه إلى واحد من المسلمين، لعلمه بحاجته إليه، ولا يحسب عليه، واعترض بأن الكلب منتفع به، فليكن حق اليد فيه لجميعهم كما لو مات وله كلب لا يستبد به بعض الورثة. الموجود في كتاب العراقيين، انه إن أراده بعض الغانمين أو أهل الخمس، ولم ينازعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 غيره سلم إليه، وإن تنازعوا فإن وجدنا كلابا وأمكنت القسمة عددا قسم، وإلا أقرع بينهم. وهذا هو المذهب، وههنا المعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة ويعتبر منافعها، كما في الوصية من الروضة. تتمة : قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ «1» أي من العلم الذي كان علمكم الله دل على أن للعالم فضيلة ليست للجاهل، لأن الكلب إذا علم تحصل له فضيلة على غير المعلم، والإنسان إذا كان له علم أولى أن يكون له فضل على غيره كالجاهل، لا سيما إذا عمل بما علم. كما قال علي رضي الله تعالى عنه: لكل شيء قيمة، وقيمة المرء ما يحسنه. وقال لقمان لابنه، واسمه ثاران: وقيل: أنعم يا بني لكل قوم كلب، فلا تكن كلب قومك. وروى الإمام أحمد، في مسنده، والبزار والطبراني، من حديث عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «2» : «ضاف رجل رجلا من بني إسرائيل، وفي داره كلبة مجح، فقالت الكلبة: لا والله لا أنبح ضيف أهلي! قال: فعوت جراؤها في بطنها فقيل: ما هذا؟ فأوحى الله إلى رجل منهم: هذا مثل أمة تكون من بعد يقهر سفاؤها حلماءها» . والمجح بالجيم المكسورة قبل الحاء المهملة. قيل: هي الحامل التي قرب ولادتها. وفي صحيح «3» مسلم وسنن أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بامرأة مجح على باب فسطاط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لعله يريد أن يلم بها» . فقالوا: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن ألعنه لعنا يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له كيف يستخدمه وهو لا يحل له» . الأمثال : قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ «4» قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما رضي الله تعالى عنهم أجمعين: هو رجل من الكنعانيين الجبارين اسمه بلعم بن باعوراء، وقيل بلعام بن باعر، وقال عطية عن ابن عباس: أصله من بني إسرائيل ولكنه كان مع الجبارين. وقال مقاتل: هو من مدينة بلقاء، وكانت قصته على ما ذكره ابن عباس والسدي وغيرهما أن موسى صلى الله عليه وسلم لما قصد حرب الجبارين، ونزل أرض كنعان من أرض الشأم، أتي قوم بلعم وكانوا كفارا، وكان بلعم عنده اسم الله الأعظم، وكان مجاب الدعوة، فقالوا له: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه قد جاء ليخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وأنت رجل مجاب الدعوة، فاخرج وادع الله أن يردهم عنا. فقال: ويلكم نبي الله ومعه الملائكة والمؤمنون كيف أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ وإني إن فعلت هذا ذهبت دنياي وآخرتي!؟ فراجعوه وألحوا عليه، فقال: حتى أؤامر ربي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 وكان لا يدعو بشيء، حتى ينظر ما يؤمر به في المنام، فوامر بالدعاء عليهم، فقيل له في المنام: لا تدع عليهم. فقال لهم: إني قد آمرت ربي وإني نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها، ثم راجعوه فقال: حتى أؤامر ربي فآمره، فلم يجز إليه بشيء. فقال: قد وامرت فلم يجز إلي بشيء. فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم، لنهاك كما نهاك المرة الأولى، فلم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن، وركب أتانا له متوجها إلى جبل يطلع منه على عسكر بني إسرائيل، يقال له حسان، فما سار عليها غير كثير حتى ربضت به فنزل عنها، وضربها حتى إذا أذلقها الضرب، قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت، فضربها حتى أذلقها، فأذن الله تعالى لها بالكلام، فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب ألا ترى الملائكة أمامي يردوني عن وجهي هذا أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين، تدعو عليهم؟ فلم ينزع فخلى الله سبيلها فانطلقت حتى إذا أشرفت على جبل حسان، جعل يدعو عليهم بالاسم الأعظم الذي كان عنده، فاستجيب له ووقع موسى عليه السلام وبنو إسرائيل في التيه. فقال موسى: يا رب بأي ذنب أوقعتنا في التيه؟ قال تعالى: بدعاء بلعام. قال موسى عليه السلام: يا رب فكما سمعت دعاءه علينا فاسمع دعائي عليه. فدعا موسى عليه أن ينزع الله تعالى منه الاسم الأعظم. فنزع الله منه المعرفة وسلخه منها، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء. قاله مقاتل. وقال ابن عباس والسدي: لما دعا بلعام على موسى وقومه، قلب الله لسانه، فجعل لا يدعو عليهم بشيء من الشر إلا صرف الله به لسانه إلى قومه، ولا يدعو بشيء من الخير، إلا صرف الله به لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وعلينا! فقال: هذا ما أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه، فنسي الاسم الأعظم واندلع لسانه على صدره. فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال عليهم، جملوا النساء وزينوهن وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبتعنها فيه، ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى واحد منهم كفيتموهم. ففعلوا. فلما أتى النساء العسكر، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كستى بنت صور برجل من عظماء بني إسرائيل، يقال له زمري بن شلوم، رأس سبط شمعون بن يعقوب، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف على موسى عليه السلام، فقال: إني أظنك ستقول هذا حرام علي! فقال موسى: أجل هي حرام عليك لا تقربنها. قال: فو الله لا أطيعك في هذا، ثم دخل بها قبة، فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون على بني إسرائيل في الوقت. وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى عليه السلام، وكان رجلا قد أعطي بسطة في الخلق، وقوة في البطش وكان غائبا، حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء الطاعون يجوس بني إسرائيل، فأخبر الخبر فأخذ حربته، وكانت من حديد كلها، ثم دخل عليهما القبة، وهما متضاجعان، فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى الحيية وكان بكر العيزار، فجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، فرفع الطاعون، فحسب من هلك من بني إسرائيل بالطاعون فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 بين أصاب زمري المرأة إلى أن قتلهما فنحاص، فوجد قد هلك منهم سبعون ألفا في ساعة من النهار. فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها: القبة والذراع واللحى لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه وإسناده إياها إلى الحيية، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار. ويقال: إنه لما انتظمهما بالحربة وخرج بهما كانا في الحربة كحالهما في حالة الزنا. فكان ذلك آية. وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، أن هذه الآية نزلت في أمية بن أبي الصلت، وكان قد قرأ التوراة والإنجيل، وكان يعلم أن الله تعالى يرسل رسولا من العرب، فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به، وكان صاحب حكمة وموعظة حسنة، وكان قصد بعض الملوك، فلما رجع مر على قتلى بدر، فسأل عنهم من قتلهم؟ فقيل قتلهم محمد صلى الله عليه وسلم. فقال: لو كان نبيا ما قتل أقرباءه. وسيأتي إن شاء الله تعالى له ذكر في الوعل أيضا. وقالت فرقة: إنها نزلت في رجل من بني إسرائيل، كان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها دعوة، فقال: لك منها واحدة فما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا لها. فكانت كذلك. فلما علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه، فغضب الزوج، ودعا عليها فصارت كلبة نباحة فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا قرار، وقد صارت أمنا كلبة نباحة، والناس يعيروننا بها، ادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه، فدعا الله لها فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات كلها. والقولان الأولان أظهر. وقال الحسن وابن كيسان: نزلت في منافقي أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، كما يعرفون أبناءهم. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله تعالى لكل من عرض عليه الهدى، فأبى أن يقبله. قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها «1» أي وفقناه للعمل بها، فكنا نرفع بذلك منزلته في الدنيا والآخرة. ولكنه أخلد إلى الأرض، أي ركن إلى الدنيا وشهواتها ولذاتها. قال الزجاج: خلد وأخلد واحد، وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام. يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا أقام به. والأرض هنا عبارة عن الدنيا لأن ما فيها من العقار والرباع كلها أرض وسائر متاعها مستخرج من الأرض. واتبع هواه انقاد إلى ما دعاه إليه الهوى، فعوقب في الدنيا بأنه كان يلهث كما يلهث الكلب، فشبه به صورة وهيئة. قال القتبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال التعب وحال الراحة، وفي حال الري وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذّب بآيات الله. فقال: إن وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب، إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث انتهى. واللهث تنفس بسرعة، وتحرك أعضاء الفم معه، وامتداد اللسان وخلقة الكلب أنه يلهث على كل حال. قال الواحدي وغيره: وهذه الآية من أشد الآي على ذوي العلم، وذلك أن الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 تعالى أخبر أنه آتاه آياته من اسمه الأعظم، والدعوات المستجابة والعلم والحكمة، فاستوجب بالسكون إلى الدنيا واتباع الهوى تغيير النعمة عليه، والانسلاخ عنها. ومن الذي يسلم من هاتين الحالتين إلا من عصمه الله تعالى! نسأل الله التوفيق والهداية بمنه وكرمه. وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه» . وفي رواية: «كمثل الكلب يقيء ثم يعود في قيئه فيأكله» . قال عمر رضي الله تعالى عنه: حملت على فرس في سبيل الله فأضاعه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه وظننت أن يبيعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لا تشتره ولو باعكه بدرهم، ولا تعد في صدقتك فإن العائد في صدقته، كالعائد في قيئه» . وقال الجاحظ: لكل جيفة كلب، ولكل قدر طالب، ولكل نحو راغب، ولكل وسخ حامل، ولكل صم جارع، ولكل طعام آكل، ولكل ساقط لاقط، ولكل ثوب لابس، ولكل فرج ناكح انتهى. وقالت العرب: «آلف «2» من كلب» و «أبصر «3» وأبخل «4» وأطوع «5» وأفحش «6» وألأم «7» وأبول «8» » فيجوز أن يراد به البول نفسه ويجوز أن يراد به كثرة الجراء، فإن البول في كلام العرب يكنى به عن الولد. وبذلك عبر ابن سيرين رحمه الله تعالى عليه، رؤيا عبد الملك بن مروان لما رأى أنه بال في محراب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فكتب إليه: إن صدقت رؤياك، فسيقوم من أولادك أربعة في المحراب، ويتقلدون الخلافة بعدك فوليها أربعة خلفاء من صلبه: الوليد وسليمان وهشام ويزيد. وقالوا: «سمن كلبك يأكلك» «9» ، وهو قريب من قولهم: «اتق إساءة من أحسنت إليه» ، وقالوا: «جوع «10» كلبك يتبعك» ، يضرب في معاشرة اللئام، وقالوا: «الكلاب على البقر» «11» ، برفعها ونصبها، فالنصب على إضمار فعل تقديره خل كلاب الصيد، أودع الكلاب على بقر الوحش لتصطادها، والرفع على الابتداء، وما بعده خبره. ومعنى المثل: «إذا أمكنتك الفرصة فاغتنمها» . ويقال: معناه خل بين الناس خيرهم وشريرهم، واغتنم أنت طريق السلامة. وقد سئلت عن قول «12» الأخطل: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النار فتمسك البول بخلا أو تجود به ... وما تبول لهم إلا بمقدار والخبز كالعنبر الوردي عندهم ... والقمح سبعون أردبا بدينار «13» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 فقلت: هذا عكس قول شاعر «1» الأنصار حيث يقول: لله درّ عصابة نادمتهم ... يوما بجلّق في الزمان الأول أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضّل يغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأول ومن شعر العتابي «2» رحمه الله تعالى: طاف الخيال بنا ليلا فحيّانا ... أهلا به من ملمّ زار عجلانا ما ضرّ زائرنا المهدى تحيته ... في النوم إذ زارنا لو زار يقظانا إني أهتدي وسواد الليل معتكر ... على تباعد مسراه ومسرانا إن الأماني قد خيلن لي سكنا ... ردت تحيته قلبي كما كانا حتى إذا هو ولى وانتبهت له ... هاجت زيارته شوقا وأحزانا وقال علي بن محمد بن نصير في المعنى بيتا مفردا: وكان خيالها يشفي سقاما ... فضنّت بالخيال على الخيال وقالوا: «أشكر «3» من كلب» . حكى محمد بن حرب، قال: دخلت على العتابي فوجدته جالسا على حصير، وبين يديه شراب في إناء، وكلب رابض بالفناء بحياله، يشرب كأسا ويولغه أخرى، فقلت له: ما الذي أردت بما اخترت؟ فقال: أسمع أنه يكف عني أذاه، ويكفيني أذى من سواه، ويشكر قليلي ويحفظ مبيتي ومقيلي، وهو من بين الحيوان خليلي. قال ابن حرب: فتمنيت والله أن أكون كلبا له لأحوز هذا النعت منه. الخواص : لحمه يعلو شحمه، بخلاف لحم الشاة، فإن شحمها يعلو لحمها، فإذا ارتضعت الشاة من كلبة كان لحمها على صفة لحم الكلاب، وفي ذلك قصة شهيرة لربيعة ومضر وأنمار وإياد، تقدمت في باب الهمزة في الأفعى. قال السهيلي: وفي الحديث «لا تسبوا ربيعة ومضر، فإنهما كانا مؤمنين» . قال: وإنما سمي ربيعة الفرس لأنه أعطي من ميراث أبيه الخيل، وأعطي أخوه الذهب، فسمي مضر الحمراء. ولا تقول العرب إلا ربيعة ومضر ولا يقولون مضر وربيعة أصلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 ومن خواص الكلب العجيبة، أنه لا يلغ في دم مسلم. قال القاضي عياض، في الشفاء: أفتى فقهاء القيروان وأصحاب سحنون بقتل ابراهيم الفزاري، وكان شاعرا ماهرا متفننا في كثير من العلوم، وكان يحضر مجلس القاضي أبي العباس بن أبي طالب، طلبا للمناظرة فضبطت عليه أمور منكرة من الاستهزاء بالله تعالى والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقتل ثم صلب منكسا، وأنزل وأحرق بالنار، ولما رفعت خشبته وزالت عنها الأيدي، استدارت وتحولت عن القبلة، وجاء كلب فولغ في دمه. فقال يحيى بن عمر: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قال: «لا يلغ الكلب في دم مسلم» . وإذا قطع لسان كلب أسود، وأخذه إنسان في يده، لم تنبح عليه الكلاب، وإن أخذت قرادة من أذن كلب، وأمسكها إنسان في يده خضعت له الكلاب كلها حتى ذلك الكلب المأخوذة منه. وإن علقت أسنانه على صبي، خرجت أسنانه من غير تعب، وأنيابه إذا علقت على من به عضة الكلب الكلب سكن عنه وجعها، وإذا علقت على من به اليرقان الظاهر نفعه، وإن حمل إنسان معه ناب الكلب لم تنبحه الكلاب. وذكره إذا جفف وعلق على الفخد هيج الباه. ومن كان يلقى من القولنج شدة، فليقم كلبا نائما وليبل في مكانه، فإنه يزول عنه من وقته ويموت الكلب. ونابه إذا علق على من يتكلم في نومه سكن، ولبن الكلبة إذا طلي به الشعر حلقه، وإن شرب بالماء سكن من وقته السعالي. وبوله إذا طلي به على الثآليل قلعها، وقراده إذا نقع في نبيذ وشربه شارب سكر من وقته. وشعر الكلب الأسود البهيم، إذا علق على المصروع نفعه، ومن كان عنده عبد أبق وأحب أن لا يأبق، فليأخذ جرو كلب صغيرا فيحرقه ثم يسحقه بزيت، ويطلي به رأسه فإنه لا يأبق، مجرب، قاله القزويني وغيره. ولبن الكلبة إذا شرب نفع من السموم القاتلة، ويخرج الأجنة والمشيمة، ومن اكتحل بلبن كلبة سهر ليله كله. وزبله إذا سحق وعجن بماء الكزبرة، وطلي به الأورام الحادة نفعها بإذن الله تعالى. التعبير : الكلاب في الرؤيا عند المسلمين عبيد، وفي الحديث «أن الكلب من الممسوخ» ، وأوله المعبرون برجل سفيه مجترىء على العاصي، وإذا نبح فهو سفيه مشنع طمع، فمن رأى كلبا عضه أو خدشه، ناله من عدوه هم بقدر الألم، وربما مرض، وربما دلت رؤية الكلب على الانكلاب على الدنيا، مع عدم الادخار ورؤية كلب أهل الكهف في المنام، تدل على الخوف أو السجن أو الهرب أو الاختفاء، ورؤيته في البلد دليل على تجديد ولاية، وربما دل الكلب على الكفر والإياس من رحمة الله تعالى، لقوله «1» تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ الآية. وكلب الصيد عز ورفعة ورزق، وكلب الماشية رجل صاحل غيور على الأهل والجار، قاله ابن المقري. ومن رأى كلبا مزق ثيابه، فإن سفيها يغتابه، وإن لم يسمع نباحه فهو عدو، وتزول عداوته بشيء يسير. والكلب يعبر برجل من الأهل، فمن نازعه كلب نازعه رجل من أهله، وربما عبر بالمشنع إذا نبح، أو بسماع نواح، أو بفتح بيت الخلاء. والكلبة امرأة دنيئة من قوم معاندين، والجرو ولد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 محبوب، فإن كان أبيض فهو مؤمن، وإن كان أسود فهو يسود قومه، وقيل: جرو الكلب لقيط سفيه، والكلب الكلب سفيه أيضا. ورؤية كلب الراعي تدل على فائدة من ملك أو وال، والكلب الذي يصاد به ملك وولاية، لمن رآه إذا كان أهلا لذلك، أو يصير إليه شيء يستغني به لقوله «1» تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ والكلب الصيني يدل على مخالطة قوم من الأعجام غير مسلمين. ومن رأى أنه يصيد بالكلاب، فإنه يعطى بغيته وينال مناه، وقال ارسطاميدورس: من رأى كلاب الصيد خارجة فهي دليل خير لطالب الرزق والخدمة، وإذا رآها داخلة من الصيد، فإنها تدل على البطالة. والكلب الحارس في المنام يدل على صيانة الزوجة والمال. وقيل: الكلاب في المنام تدل على قوم أذلة. ومن رأى أنه صار كلبا، فإن الله تعالى قد آتاه علما فنسيه، لقوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها «2» إلى قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ «3» الآية. وقيل: الكلاب تعبر بغلمان الشرطة، والكلب عدو ضعيف لتحوله عن جوهر السباع، ثم يصير صديقا بعد العداوة، لقصة آدم عليه السلام، لما أهبط إلى الأرض وقد تقدم طرف منها، فجعل في التأويل عدوا ثم يرجع صديقا. ومن الرؤيا المعبرة أن سيدنا أبابكر الصديق رضي الله تعالى عنه، رأى كأن كلبة من مكة تهر على الناس، فلما دنوا منها، استلقت على ظهرها ودرت ثدياها لبنا، فأخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ذهب كلبهم، وأقبل درهم، وستلقونهم بعد ويسألونكم أرحامهم فإذا لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه» . فلما قدم المسلمون لفتح مكة، قاتل بعضهم وكان ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الرؤيا المعبرة أيضا أن رجلا أتى ابن سيرين، فقال: رأيت كلبين يقتتلان على فرج زوجتي، فقال: إنها أخذت المقراض، وجزت شعر فرجها والله تعالى أعلم. خاتمة : ومن الفوائد المجربة أن يكتب في إناء حديد، ويمسح بزيت، ويسقى للمكلوب، فإنه يشفى بإذن الله تعالى وهي هذه الأحرف: (اب ج م اع هـ د باب اللد) ، ويكتب أيضا للحامل في إناء جديد، ويغسل بماء ويسقى فإنه نافع إن شاء الله تعالى والله أعلم. كلب الماء: تقدم في القاف أنه القندس. وقال في عجائب المخلوقات: كلب الماء معروف، وهو حيوان مشهور يداه أطول من رجليه يلطخ بدنه بالطين، فيحسبه التمساح طينا، ثم يدخل جوفه فيقطع أمعاءه ويأكلها، ثم يمزق بطنه ويخرج. قال: ومن خواصه أن من كان معه شحم كلب الماء، أمن من غائلة التمساح. وذكر بعضهم أن جلد الجندبادستر خصية هذا الحيوان. وقد تقدمت صفة ذلك في باب الجيم. الحكم : سئل الليث بن سعد عن أكل لحم كلب الماء؟ فقال: لا بأس به، وقد تقدم في عموم السمك، أنها تحل إلا أربعة ليس هذا منها. وقيل: لا يؤكل لأن شبهه في البر لا يؤكل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 الخواص : دم كلب الماء يخلط بماء الكمون الكرماني ويشرب في الحمام ينفع من تقطير البول وعسره، ودماغه ينفع من ظلمة العين اكتحالا، ومرارته قدر عدسة منها، سم قاتل. وقال ابن سينا: إن خصيته تنفع من نهش الحيات، وجلده يتخذ منه جورب يلبسه المنقرس يذهب عنه ذلك ويبرأ. الكلثوم: الفيل قاله ابن سيده. وقد تقدم حكمه في باب الفاء. الكلكسة: قال قوم: إنه ابن عرس، وقال قوم: إنه حيوان آخر غير ابن عرس، وزبله إذا سحق وديف بالخل، وطلي به مواضع النملة الظاهرة، نفع نفعا بينا. وفي كتاب دمقراطيس، أن الكلكسة تبيض من فيها. الكميت: الفرس الشديد الحمرة، ولا يقال كميت، حتى يكون عرفه وغرته وذنبه سودا، وإن كانت حمرا فهو أشقر، والورد فيما بين الكميت والأشقر، والجمع وردان. والكميت من أسماء الخمر، قال الشيخ صلاح الدين الصفدي «1» ، وفيه تورية: وحمراء لما ترشفتها ... جنيت بها اللهو فيما جنيت ونلت المسرات دون الورى ... لأني سبقتهم بالكميت الكندارة: سمكة لها سنام معروفة عند أهل البحر. الكنعبة: الناقة العظيمة، وسيأتي إن شاء الله تعالى، حكم الناقة في باب النون. الكعند والكعند: كجعفر ضرب من السمك، قاله الجوهري وأنشد لجرير «2» : قوم إذا جعلوا في صيرهم بصلا ... ثم اشتووا كنعدا من مالح جدفوا الكندش: العقعق، قال «3» أبو المغطش الحنفي يصف امرأة: منيت بزمردة كالعصا ... ألصّ وأخبث من كندش ولفظ زمردة فارسي معرب أي امرأة الرجل. الكهف: الجاموس المسن، وقد تقدم حكمه في باب الجيم. الكودن: البرذون البطيء، وقال الجوهري: هو البرذون يوكف ويشبه به البليد، وقال ابن سيده: الكودن البرذون، وقيل: البغل. وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «لم يعط الكودن شيئا» . وفي رواية: «أعطاه دون سهم العراب» . رواه الطبراني. وفي إسناده أبو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 بلال الأشعري وهو ضعيف. الكوسج: سمكة في البحر لها خرطوم كالمنشار، تفترس، وربما التقمت ابن آدم وقصمته نصفين، وهي القرش. ويقال لها: اللخم أيضا، ويقال: إنها إذا صيدت بالليل وجدوا في جوفها شحمة طيبة، وإن صيدت نهارا لم يجدوها. وقال القزويني: الكوسج نوع من السمك، وهو في الماء شر من الأسد في البر، يقطع الحيوان في الماء بأسنانه، كما يقطع السيف الماضي. قال: ورأيته وهو سمكة مقدار ذراع أو ذراعين، وأسنانه كأسنان الناس، تنفر منه الحيوانات البحرية، وله أوان معين يكثر فيه بدجلة البصرة. وحكمه عند الإمام أحمد تحريم الأكل. وقال أبو حامد من أصحابه: لا يؤكل التمساح، ولا الكوسج لأنهما يأكلان الناس. ولأنه ذو ناب انتهى. ومقتضى مذهبنا أنه حلال، ومن ألحقه بالقرش أجرى عليه حكمه الذي تقدم في باب القاف. الكهول: قال الأزهري: هو بفتح الكاف وضم الهاء العنكبوت، ومنه قول عمرو لمعاوية رضي الله تعالى عنهما: أتيتك وأمرك كحق الكهول. أي ضعيف كبيت العنكبوت. وضبطها الخطابي والزمخشري بغير ذلك، لكن قالا: إنها العنكبوت أيضا. باب اللام لأي: على وزن لعي هو الثور الوحشي، والجمع ألآء على وزن ألعاء، مثل جبل وأجبال. والأنثى لآة. وقال الفارسي: يجوز أن تكون ألفه منقلبة عن ياء من اللاي. وقال في المحكم: ويجوز أن تكون منقلبة عن واو من اللاو، لأن الثور يوصف بالقوة كما قال ابن عقيل «1» : يمشي بها دبّ الزناد كأنه ... فتى فارسي من سراويل رامج وقد تقدم في باب الباء الموحدة، في ذكر أدم أهل الجنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدامهم بالام ونون» «2» . قالوا: ما هذا؟ قال: ثور وحوت. قال السهيلي، في أول الروض في لؤي: اسم جد النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن الأنباري: إنه تصغير اللأي، وهو الثور الوحشي. وقال أبو حنيفة: اللأي البقرة، قال: وسمعت أعرابيا يقول بكم لآك هذه. اللباد : بضم اللام، قاله الزبيدي في الأبنية، اسم طائر يلبد في الأرض، ولا يكاد يطير، إلا أن يطار، ولبد آخر نسور لقمان، وهو ينصرف لأنه ليس بمعدول، وخبره يأتي في باب النون في النسر إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 الأمثال : قالوا: «أهرم «1» من لبد» . قال «2» الشاعر: إن معاذ بن مسلم رجل ... ليس لميقات عمره أمد قد شاب رأس الزمان واكتهل ... الدهر وأثواب عمره جدد قل لمعاذ إذا مررت به ... قد ضجّ من طول عمرك الأبد يا بكر حواء كم تعيش وكم ... تسحب ذيل الحياة يا لبد مصححا كالظليم ترفل في ... برديك مثل السعير تتقد صاحبت نوحا ورضت بغلة ذي ... القرنين شيخا لولدك الولد فارحل ودعنا فإن غايتك ... الموت وإن شد ركنك الجلد اللبوءة: بضم الباء وبعدها همزة: أنثى الأسد، واللبأة واللبوة، ساكنة الباء، غير مهموزة لغتان فيها حكاهما ابن السكيت، ويقال لها: العرس أيضا. قال عون بن أبي شداد العبدي: بلغني أن الحجاج بن يوسف الثقفي، لما ذكر له سعيد بن جبير رحمة الله تعالى عليه، بعد قتل عبد الرحمن بن الأشعث «3» ، أرسل إليه قائدا من أهل الشأم من خاصة أصحابه، فبينما هم يطلبون، إذا هم براهب في صومعة له، فسألوه عنه فقال الراهب: صفوه لي. فوصفوه له، فدلهم عليه، فانطلقوا فوجدوه ساجدا يناجي ربه تعالى بأعلى صوته، فدنوا منه وسلموا عليه فرفع رأسه، فأتم بقية صلاته، ثم رد عليهم السلام، فقالوا له: إن الحجاج أرسل إليك فأجبه. فقال: ولا بد من الإجابة؟ فقالوا: لا بد. فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام يمشي معهم حتى انتهوا إلى دير الراهب، فقال الراهب: يا معشر الفرسان أصبتم صاحبكم؟ قالوا: نعم. فقال لهم: اصعدوا الدير، فإن اللبوة والأسد يأويان حول الدير، فعجلوا الدخول قبل المساء ففعلوا ذلك، وأبى سعيد رضي الله عنه، أن يدخل الدير! فقالوا: ما نراك إلا تريد الهرب منا؟ قال: لا ولكني لا أدخل منزل مشرك أبدا. فقالوا: إن لا ندعك فإن السباع تقتلك. قال سعيد: فإن معي ربي يصرفها عني، ويجعلها حراسا حولي تحرسني من كل سوء، إن شاء الله تعالى. قالوا: فأنت من الأنبياء؟ قال: ما أنا من الأنبياء، ولكني عبد من عباد الله خاطىء مذنب. قالوا له: فاحلف لنا أنك لا تبرح. فحلف لهم. فقال لهم الراهب: اصعدوا الدير، وأوتروا القسي لتنفروا السباع عن هذا العبد الصالح، فإنه كره الدخول علي في الصومعة، فدخلوا وأوتروا القسي فإذا هم بلبوة قد أقبلت، فلما دنت من سعيد بن جبير، تحككت به وتمسحت به، ثم ربضت قريبا منه، وأقبل الأسد فصنع مثل ذلك، فلما رأى الراهب ذلك دخلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 في قلبه هيبة، فلما أصبحوا نزلوا إليه، فسأله الراهب عن شرائع دينه وسنن نبيه صلى الله عليه وسلم فقرر له سعيد ذلك كله، فأسلم الراهب وحسن إسلامه. وأقبل القوم على سعيد يعتذرون إليه ويقبلون يديه ورجليه، ويأخذون التراب الذي وطئه بالليل يصلون عليه، ويقولون: يا سعيد حلفنا الحجاج بالطلاق والعتاق، إن نحن رأيناك لا ندعك حتى نشخصك إليه، فمرنا بما شئت. فقال سعيد: امضوا لشأنكم فإني لائذ بخالقي ولا راد لقضاء ربي. فساروا حتى وصلوا إلى واسط، فلما انتهوا إليها، قال لهم سعيد رضي الله تعالى عنه: يا معشر القوم، قد تحرمت بكم وصحبتكم، ولست أشك أن أجلي قد قرب وحضر، وأن المدة قد انقضت ودنت، فدعوني الليلة آخذ أهبة الموت، وأستعد لمنكر ونكير، وأذكر عذاب القبر، وما يحثى على من التراب، فإذا أصبحتم فالميعاد بيني وبينكم المكان الذي تريدون، فقال بعضهم: لا نريد أثرا بعد عين. وقال بعضهم: إنكم قد بلغتم أمنكم، واستوجبتم جوائزكم من الأمير، فلا تعجزوا عنه. وقال بعضهم: هو علي أدفعه إليكم إن شاء الله تعالى. فنظروا إلى سعيد وقد دمعت عيناه واغبر لونه، وكان لم يأكل ولم يشرب ولم يضحك، منذ لقوه وصحبوه، فقالوا بأجمعهم: يا خير أهل الأرض ليتنا لم نعرفك ولم نرسل لك، الويل لنا كيف ابتلينا بك! فاعذرنا عند خالقنا، يوم الحشر الأكبر، فإنه القاضي الأكبر، والعادل الذي لا يجوز. فلما فرغوا من البكاء والمجاوبة له ولهم، قال كفيله: أسألك بالله يا سعيد إلا ما زودتنا من دعائك وكلامك، فإنا لن نلقي مثلك أبدا. فدعا لهم سعيد رضي الله تعالى عنه. ثم خلوا سبيله، فغسل رأسه ومدرعته وكساءه، وأقبل على الصلاة والدعاء والاستعداد للموت، ليله كله، وهم مختفون الليل كله فلما انشق عمود الصبح، جاءهم سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه فقرع الباب، فقالوا: صاحبكم ورب الكعبة، فنزلوا إليه فبكى وبكوا معه طويلا، ثم ذهبوا به إلى الحجاج فدخل عليه المتلمس فسلم عليه وبشره بقدوم سعيد بن جبير، فلما مثل بين يديه قال له: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير. فقال: بل أنت شقي بن كسير. قال سعيد: بل أمي كانت أعلم باسمي منك. فقال الحجاج: شقيت أنت وشقيت أمك. فقال سعيد: الغيب يعلمه غيرك. قال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال: لو علمت أن بيدك لاتخذتك إلها. قال: فما قولك في محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبي الرحمة. قال: فما قولك في علي أفي الجنة هو أم النار؟ قال: لو دخلتهما وعرفت أهلهما عرفت من فيهما. قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل. قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقه. قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال: فما بالك لا تضحك؟ قال: أيضحك مخلوق خلق من الطين والطين تأكله النار؟ قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب. قال: ثم إن الحجاج أمر باللؤلؤ والزبرجد والياقوت، وغير ذلك من الجواهر، فوضعت بين يدي سعيد، فقال سعيد رضي الله تعالى عنه: إن كنت جمعت هذا لتفدى به من فزع يوم القيامة، فصالح، وإلا ففزعة واحدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لا خير في شيء جمع للدنيا إلا ما طاب وزكا. ثم دعا الحجاج بآلات اللهو، فضربت بين يدي سعيد فبكى سعيد. فقال الحجاج: ويلك يا سعيد. فقال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة، وأدخل النار. فقال: يا سعيد أي قتلة تريد أن أقتلك بها؟ قال: اختر لنفسك يا حجاج، فو الله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة. قال: فتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو من الله فنعم، وأما منك أنت فلا. فقال: اذهبوا به فاقتلوه. فلما أخرج من الباب ضحك، فأخبر الحجاج بذلك، فأمر برده فقال: ما أضحكك وقد بلغني أن لك أربعين سنة لم تضحك؟ قال: ضحكت عجبا من جراءتك على الله، ومن حلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط بين يديه، وقال: اقتلوه. فقال سعيد: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ* «1» . ثم قال: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ «2» . قال: وجهوه لغير القبلة. فقال سعيد: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ «3» فقال: كبوه لوجهه. فقال: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى «4» فقال الحجاج: اذبحوه. فقال سعيد: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله. ثم قال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي. فذبح على النطع رحمة الله تعالى عليه، فكان رأسه يقول بعد قطعه: لا إله إلا الله مرارا. وذلك في شعبان سنة خمس وتسعين. وكان عمر سعيد تسعا وأربعين سنة، وعاش الحجاج بعده خمس عشرة ليلة، ولم يسلط على قتل أحد بعده. ولما بلغ الحسن البصري «5» رضي الله تعالى عنه قتل سعيد بن جبير، قال: اللهم أنت على فاسق ثقيق رقيب، والله لو أن أهل المشرق والمغرب اشتركوا في قتله، لكبهم الله تعالى في النار، والله لقد مات وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب محتاجون إلى علمه. ونقل أن سعيدا رضي الله تعالى عنه كان يقول: وشى بي واش، وأنا في بلد الله الحرام، أكله إلى الله، يعني خالد القسري. وروي أن الحجاج لما حضرته الوفاة، كان يغيب ثم يفيق، ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير. وقيل: إنه كان في مدة مرضه كلما نام، رأى سعيد بن جبير آخذا بثوبه، وهو يقول: يا عدو الله فيم قتلتني فيستيقظ مذعورا. وروي أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، رآه بعد موته في المنام، وهو جيفة منتنة، وأنه قال له: ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني الله بكل قتيل قتلته قتلة واحدة، وقتلني بسعيد بن جبير سبعين قتلة. فإن قيل ما الحكمة في أن الله تعالى قتل الحجاج بكل قتيل قتلة وقتله بسعيد سبعين قتلة؟ وقد قتل من هو أفضل من سعيد، وهو عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، لأنه صحابي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وسعيد بن جبير تابعي والصحابي أفضل من التابعي؟ فالجواب أن الحجاج لما قتل ابن الزبير، كان له نظراء في العلم من الصحابة، كابن عمرو وأنس بن مالك وغيرهما، ولما قتل سعيدا لم يكن له نظير في العلم، فضوعف عليه العذاب بسبب ذلك. ويشهد لهذا القول ما تقدم عن الحسن البصري، لا لكونه أفضل من ابن الزبير والله أعلم. التعبير : اللبوة في المنام بنت ملك، فمن رأى أنه جامع لبوة نجا من شدة عظيمة، ويعلو شأنه ويظفر بأعدائه، فإن رأى ذلك ملك، وكان في حرب، فإنه يظفر بمن يحاربه ويملك بلادا كثيرة. وقيل: إن اللبوة تعبيرها كالسبع والله أعلم. اللجأ: بالجيم نوع من السلاحف يعيش في البر والبحر، ولها حيلة عجيبة وتوصل في صيد ما تصيده من طائر وغيره، وذلك أنها تغوص في الماء ثم تتمرغ في التراب، ثم تكمن للطير في مواضع شربها، فيختفي عليه لونها، فتمسكه وتغوص به في الماء حتى يموت. ويقال: إن اللجأة تضع بيضها في البر، وأنها تحضنه بالنظر إليه. وقال أرسطاطاليس في النعوت: ما خرج من بيض اللجأة مستقبل البحر، صار إلى البحر، وما خرج منه مستقبل البر، صار إلى البر وكلهن يردن الماء، لأنهن من خلق الماء. قال: وهي تأكل الثعابين واللجأة البحرية لها لسان في صدرها من أصابته به من الحيوان قتلته. وقد تقدم ذكرها في باب السين. الحكم : صرح بتحريمها وبعدم جواز أكلها البغوي والنووي في شرح المهذب. الخواص : قال أرسطو: كبدها إذا أكل طريا نفع من داء الكبد، ولحمها إذا طبخ بخل صفة السكباج وشرب من مرقته من به استسقاء نفعه، وأد بل بطنه، وهو يشد الفؤاد ويذهب الرياح السوداوية والله أعلم. التعبير : اللجأة في المنام امرأة عفيفة، وسنة مقبلة ذات مال، وربما دلت على الوقاية من الأعداء، لاتخاذ الناس من ظهرها تجافيف يدفع الإنسان بها عن نفسه. اللحكاء: قال الأزهري: هي بضم اللام وفتح الحاء المهملة والكاف، وبالألف والمد، ويقال له: اللحكة على مثال الهمزة واللمزة، وحكى ابن قتيبة، في أدب الكاتب، الحلكاء بفتح الحاء وإسكان اللام وبالمد، وحكى في المقصور والممدود، الحلكا بضم الحاء وفتح اللام المشددة وبالقصر، شحمة الأرض تغوص في الرمل كما يغوص طير الماء في الماء. وقال غيره: الحلكة بالهاء وهي فيما ذكروا دويبة كأنها سمكة تكون في الرمل، فإذا أحست بالإنسان، دارت في الرمل وغاصت فيه. وقال غير الأزهري: الحلكة بتقديم الحاء على اللام، وكذلك الحلكاء على مثال العنقاء. وحكى صاحب جامع اللغة فيها القصر أيضا. وقال الجوهري: اللحكة أظنها مقلوبة من الحلكة. قال ابن الصلاح «1» ، في مشكل الوسيط الذي ضبطناه، عن الأزهري، صاحب كتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 تهذيب اللغة، الموثوق به: إنها مقصورة، وهي دويبة ملساء كأنها شحمة مشربة بحمرة، ويقال لها الحلكة مثل الهمزة انتهى. وقال الماوردي، في الحاوي: اللحكاء تشبه السمك وهي عريضة من أعلى، دقيقة من أسفل. وقال ابن السكيت، في إصلاح المنطق: اللحكة دويبة شبيهة بالعظاءة، زرقاء تبرق وليس لها ذنب طويل كالعظاءة وقوائمها خفية. وهذا القول أحسن من الذي نقله ابن الصلاح عن تهذيب الأزهري. وقد تقدم في حرف الحاء الحلكة. وقال الصيدلاني والروياني: إنها دويبة مثل الإصبع تجري في الرمل ثم تغوص فيه. وهذا يقوي قول الجوهري إنها مقلوبة من الحلكة، لأنه فسرها بهذا فعلى ما قاله الأزهري من كونها ملساء كأنها شحمة مشربة بحمرة حسن تشبيه العرب أصابع النساء بها، إلا أن الاشتقاق لا يساعده، لأن الحلكة فيما يظهر شدة السواد، مأخوذ من قولهم: أسود حالك، ولما كانت زرقاء لشدة سوادها سموها بهذا الاسم. والعرب تسميها بنات النقا لأنها تسكن نقيات الرمل. الحكم : لا يحل أكلها لأنها من أنواع الوزغ. اللخم: بضم اللام وإسكان الخاء المعجمة، ضرب من السمك ضخم يقال له الكوسج، وهو القرش كما تقدم. وأنشد ابن سيده لبعض الأدباء: لصيد اللخم في البحر ... وصيد الأسد في البر وقضم الثلج في القر ... ونقل الصخر في الحر وإقدام على الموت ... وتحويل إلى القبر لأشهى من طلاب العز ... ممن عاش في الفقر وحكمه : حل الأكل فيما يظهر، وقد قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير، في كتابه نهاية غريب الحديث ما نصه: في حديث عكرمة رضي الله تعالى عنه، اللخم حلال، وهو ضرب من سمك البحر يقال اسمه القرش اهـ. وقد تقدم الكلام على القرش في باب القاف. اللعوس: الذئب سمي بذلك لسرعة أكله. اللعوة: بفتح اللام الكلبة، قالت العرب: «أجوع «1» من لعوة» . اللقحة: بالكسر والفتح، لغتان مشهورتان والكسر أشهر، والجمع لقح بكسر اللام وفتح القاف كبركة وبرك، وهي الناقة ذات اللبن، وقيل القريبة العهد من النتاج، وناقة لقوح إذا كانت غزيرة اللبن. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «تقوم الساعة والرجل يحلب اللقحة فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة، والرجلان يتبايعان الثوب فلا يتبايعانه حتى تقوم الساعة، والرجل يليط حوضه فما يصدر حتى تقوم الساعة» . وفيه من حديث النواس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 بن سمعان في صفة الدجال: «ويبارك في الرسل يعني اللبن حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس» . الفئام الجماعة الكثيرة مأخوذ من الكثرة، والفخذ بالذال المعجمة الجماعة من الأقارب، وهم دون البطن والبطن دون القبيلة. قال ابن فارس: الفخذ هنا باسكان الخاء المعجمة لا غير بخلاف الفخذ التي هي العضو فإنها تكسر وتسكن. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عشرون لقحة بالغابة وهي على بريد من المدينة بطريق الشأم، كان يراح إليه صلى الله عليه وسلم كل ليلة بقربتين عظيمتين من لبن، وكان أبو ذر رضي الله تعالى عنه فيها، وكان صلى الله عليه وسلم يفرقها على نسائه وهي التي استاقها العرنيون وقتلوا راعيها يسارا ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ما فعل. وروى «1» الحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقحة، فأثابه منها ست بكرات فتسخطها، فقال صلى الله عليه وسلم: «من يعذرني من فلان؟ أهدى إلي لقحة فأثبته منها ست بكرات فتسخطها لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دوسي» ثم قال: صحيح الإسناد. وروى هو وأحمد والبيهقي، عن ضرار بن الأزور رضي الله تعالى عنه، قال: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقحة، فأمرني أن أحلبها فحلبتها فجهدت حلبها، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تفعل دع داعي اللبن» . وروى البزار عن بريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحلاب لقحة، فقام رجل فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك» ؟ فقال: مرة. فقال صلى الله عليه وسلم: «اقعد» . فقام آخر، فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك» ؟ قال: يعيش. فقال صلى الله عليه وسلم له: «احلب» . ورواه مالك عن يحيى بن سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقحة تحلب: «من يحلب هذه» ؟ فقام رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك» ؟ قال له الرجل: مرة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «اجلس» . ثم قال: «من يحلب هذه» ؟ فقام رجل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك» ؟ قال: حرب. قال: «اجلس» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «من يحلب هذه» ؟ فقام رجل فقال له صلى الله عليه وسلم: «ما اسمك» ؟ قال: يعيش. فقال له صلى الله عليه وسلم: «احلب» . ثم روى عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال لرجل: ما اسمك؟ قال: جمرة. قال ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحرقة. قال: أين مسكنك؟ قال بحرة النار. قال: بأيها؟ قال: بذات لظى. فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: أدرك أهلك فقد احترقوا. قال: فكان كما قال عمر رضي الله تعالى عنه. وفي السيرة أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر، مر برجلين فسأل عن اسمهما، فقال له أحدهما: مسلخ والآخر مخذل، فعدل عن طريقهما، وليس هذا من الطيرة التي نهى صلى الله عليه وسلم عنها، بل من باب كراهة الاسم القبيح. فقد كان صلى الله عليه وسلم يكتب إلى أمرائه: «إذا أبردتم إلي بريدا، فأبردوه حسن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 الاسم حسن الوجه» . وفي حديث البزار ومالك زيادة، رواها ابن وهب وهي: فقام عمر فقال: لا أدري أقول أم أسكت؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل» قال: فكيف نهيتنا عن الطيرة وتطيرت؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ما تطيرت ولكني آثرت الاسم الحسن» . وروى أبو داود والترمذي والحاكم وقال: صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «الطيرة شرك وما منا إلا من تطير ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل» . قال الخطابي: معناه وما منا إلا من يعتريه التطير، ويسبق إلى قلبه الكراهة فيه فحذفه اختصارا للكلام، واعتمادا على فهم السامع. قال البخاري: كان سليمان بن حرب ينكر هذا، ويقول: هذا ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه. قال الإمام عبد الصمد: لما رأيت في أطواق الذهب لجار الله العلامة أبي القاسم محمود الزمخشري قوله: رزق مبسوط ومقدر، وشرب صاف ومكدر، ورجل يحسو الماء القراح «2» ، وآخر درت له اللقاح، وما أوتي هذا من عجز ووهن، وما أوتي ذاك من فضل وذكاء ذهن، ولكن تقدير من بيده الملكوت، وإليه الكتاب الموقوت، ذكرت هذين البيتين: لم أوت من طلب ولا ... جدّ ولا هم شريف لكنه قدر يزو ... ل من القوي إلى الضعيف وما أحسن قول «3» القائل حيث قال: أنفق ولا تخش إقلالا فقد قسمت ... على العباد من الرحمن أرزاق لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضرّ مع الإقبال إنفاق اللقوة: العقاب الأنثى، واللقوة بالكسر مثله. قال أبو عبيد: سميت لقوة لسعة أشداقها، وقيل: لاعوجاج منقارها، واللقوة مرض يميل به الوجه إلى جانب. واللقوة الناقة السريعة اللقاح، ولقوة لقب الحجاج بن يوسف الثقفي البغدادي المعروف بابن الشاعر. روى عنه مسلم وأبو داود ووفاته سنة تسع وخمسين ومائتين. اللقاط: بالتشديد طائر معروف، سمي بذلك لأنه يلقط الحب. وحكمه : الحل، قال العبادي: اللقاط حلال، إلا ما استثناه النص. قال، في شرح المهذب: يعني به ذا المخلب وفيما قاله نظر، لأن المراد به ما يلقط الحب وذو المخلب، لم يدخل في اسم اللقاط حتى يصح استثناؤه منه، لكن يحتمل أنه أراد بالمستثنى الغراب الزرعي والاستثناء المنقطع لا تصح إرادته هنا، لأن الرافعي رحمه الله قد نقل بعد ذلك، عن البوشنجي، أن اللقاط حلال، بغير استثناء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 ولعل أبا عاصم أراد بالمستثنى بالنص غراب الزرع، والغداف الصغير فإنهم يلقطان الحب، ويأكلان الزرع. كما قاله الماوردي في الحاوي، وفيهما وجهان أصحهما في الروضة تحريم الغداف وحل الزرعي. وقد تقدم طرف من هذا في أحكام الغراب، لكن كلام الرافعي يقتضي حلهما، فمن قال بتحريمهما استثناهما من اللقاط، ولم يحمل الأمر الوارد بقتل الغراب على الأبقع وحده، بل عليه وعلى غيره. ونقل الجاحظ هذا الاحتمال عن صاحب المنطق، فقال: قال صاحب المنطق: الغراب جنس من الأجناس التي أمر بقتلها في الحال والحرم، وهذا صريح في أن الجميع فواسق، وأن قتل جميعها مستحب. وقد صرح في الحاوي باستحباب قتل الغراب الأسود الكبير، وألحقه بالأبقع وجعل النهي علة تحريمه، ومن قال: يحل اللقاط مطلقا لم يستثن شيئا، وحمل الأمر بقتل الغراب على الأبقع، لأنه قد ورد التقييد، في بعض الروايات بالغراب الأبقع. وهذا إنما يستقيم إذا قلنا: إنّ ذكر بعض أفراد العموم تخصيص، والصحيح أنه ليس بتخصيص. والغراب الأبقع، وإن كان يلقط الحب، فهو غير وارد على البوشنجي، لأن غالب أكله الخبائث، بخلاف الزرعي والغداف الصغير والله تعالى أعلم. اللقلق: طائر أعجمي طويل العنق وكنيته عند أهل العراق أبو خديج، وعبر عنه الجوهري بالقاف، وهو اسم أعجمي قال: وربما قالوا: اللغلغ، والجمع اللقالق، وهو يأكل الحيات، وصوته اللقلقة، وكذلك كل صوت فيه حركة واضطراب. ويوصف بالفطنة والذكاء، قال القزويني، في الأشكال: قال الرئيس: من ذكاء هذا الطائر أنه يتخذ له عشين يسكن في كل واحد منهما بعض السنة، وأنه إذا أحسّ بتغير الهواء عند حدوث الوباء، ترك عشه وهرب من تلك الديار، وربما ترك بيضه أيضا. قال: ومما يتوصل به إلى طرد الهوام اتخاذ اللقلق، فإن الهوام تهرب من مكان هو فيه، لفزعها منه وإذا ظهرت قتلها. الحكم : في حله وجهان: أحدهما، وبه قال الشيخ أبو محمد: يحل كالكركي ورجحه الغزالي، والثاني يحرم، وصححه البغوي وجزم به العبادي، واحتج بأنه يأكل الحيات، ويصف في الطيران. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كل ما دفّ ودّع ما صف» . يقال: دف الطائر في طيرانه إذا حرك جناحيه، كأنه يضرب بهما، وصف إذا لم يتحرك، كما تفعل الجوارح. ومنه قوله «1» تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ . والأصح في شرح المهذب والروضة أنه حرام. واللقلق من طير الماء وقد تقدم استثناؤه. الخواص : إذا ذبح فرخ من فراخه وطلي به بدن المجذوم نفعه نفعا بينا، وإذا أخذ من دماغه وزن دانق ومن أنفحة الأرنب مثله، وأذيبا على النار، فمن طعم منه باسم آخر هيج روحانية المحبة في قلبه. وقال هرمس: من حمل عظم اللقلق معه زال همه، وإن كان عاشقا سلا ومن حمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 حبة عينه اليمنى لم ينم، ومن حمل حبة عينه اليسرى نام، ولم يتنبه ما لم تحل عنه، ومن حمل عينه ودخل الماء، لم يغرق، وإن لم يحسن السباحة. التعبير : اللقلق في المنام يدل على قوم يحبون المشاركة فإذا رآها إنسان مجتمعة في مكان، فإنهم لصوص وقطاع طريق وأعداء محاربة، وقيل: رؤية اللقلق تدل على تردد. ومن رأى اللقالق متفرقة فإنها دليل خير إن كان مسافرا أو أراد السفر، لأنها تظهر في الصيف، وتدل رؤياها على قدوم المسافر إلى وطنه والمقيم على سفره والله أعلم. اللهق: الثور الأبيض وقد تقدم ما في الثور في باب الثاء المثلثة. اللهم: الثور المسن، وقد تقدم والجمع لهوم. اللوب والنوب: الأول بضم اللام، والثاني بضم النون، جماعة النحل ومنه حديث ريان بن قسور رضي الله تعالى عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بوادي الشوحط، فكلمته فقلت: يا رسول الله إن معنا لوبا لنا، يعني نحلا كانت في غيلم لنا، فيه طرم وشمع، فجاء رجل فضرب ميتين، فأنتج حيا وكفنه بالثمام، يعني قدح نارا بالزندين، ونحسه يعني دخنه، فطار اللولب هاربا، وأدلى مشواره في الغيلم، فاشتار العسل فمضى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ملعون من سرق شرو قوم فأضربهم أفلا تبعتم أثره وعرفتم خبره» . قال: قلت: يا رسول الله إنه دخل في قوم لهم منعة، وهم جيرتنا من هذيل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صبرك صبرك ترد نهر الجنة، وإن سعته كما بين العقيقة والسحيقة يتسبب جريا بعسل صاف من قذاه ما تقيأه لوب ولا مجه نوب» انتهى. الغيلم البئر وأراد بها ههنا الخلية. والطرم العسل ذكره السهيلي في مقتل خبيب وأصحابه، بعد أحد. وذكره أبو عمر بن عبد البر وابن الأثير أبو السعادات، ونقلا عن ابن ماكولا، أنه قال: ذكره عبد الغني بن سعيد وغيره بإسناد ضعيف. اللوشب: ككوكب الذئب، وقد تقدم ما في الذئب في باب الذال المعجمة. اللياء: سمكة في البحر يتخذ من جلدها الترسة فلا يحيك فيها شيء من السلاح، ولا يقطع، وفي الحديث أن فلانا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بودان لياء مقشى. ومنه حديث معاوية رضي الله تعالى عنه أنه دخل عليه وهو يأكل لياء مقشى. الليث: الأسد، وجمعه ليوث. وهو أيضا ضرب من العناكب يصطاد الذباب، وهو أصغر من العنكبوت. والليث من الرجل: الشجاع وبنو ليث بطن من العرب، وبه سمي ليث بن سعد بن عبد الرحمن بن الحارث، إمام أهل مصر في الفقه. ولد بقلقشندة وهي قرية في أسفل مصر سنة أربع وتسعين. قال الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به، وقال عثمان بن صالح: كان أهل مصر ينتقصون عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، حتى نشأ فيهم الليث بن سعد فحدثهم بفضائل عثمان رضي الله تعالى عنه. فكفوا عن ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 وكان أهل حمص ينتقصون عليا رضي الله تعالى عنه، حتى نشأ فيهما اسماعيل بن عياش «1» فحدثهم بفضائل علي رضي الله تعالى عنه فكفوا عن ذلك. وحج الليث، فقدم المدينة فبعث إليه الإمام مالك بن أنس بطبق رطب، فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه، وكان الليث رحمه الله يستغل في كل سنة عشرين ألف دينار فينقفها وما وجبت عليه زكاة قط. وقالت له امرأة: يا أبا الحارث إن لي ابنا عليلا واشتهى عسلا، فقال: يا غلام اعطها مطرا من عسل، والمطر مائة وعشرون رطلا. فقيل له في ذلك، فقال: سألت على قدر حاجتها، ونحن أعطيناها على قدر نعمتنا. واشترى قوم منه ثمره ثم استقالوه، فأقالهم وأعطاهم خمسين دينارا، وقال: إنهم كانوا قد أملوا فيها أملا فأحببت أن أعرضهم عن أملهم. وكان رضي الله تعالى عنه حنفي المذهب، وولي القضاء بمصر وتوفي بها في شعبان سنة خمسن وسبعين ومائة. وقبره في القرافة الصغرى مشهور. وقلقشندة بفتح القاف ولام وقاف وشين معجمة مفتوحة ونون ساكنة ودال مهملة وهاء آخرها بينها وبين مصر مقدار ثلاثة فراسخ كذا قاله ابن خلكان. وحكى: عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: كان بأرض اليمامة رجل من ربيعة يقال له جحدر بن مالك العجلي، وكان شاعرا فحلا فاتكا قد أمر على أهل حجر وما يليها، فبلغ ذلك الحجاج، فكتب إلى عامله على اليمامة يوبخه ويلومه على تغلب جحدر في ولايته ويأمره بالتجرد في طلبه والبعث به إليه، إن ظفر به. فلما أتى العامل كتابه دس إليه فتية من قومه، ووعدهم أن يوفدهم معهم، فمكثوا لذلك أياما حتى إذا أصابوا منه غرة شدوا عليه فأوثقوه، وقدموا به على العامل. فبعث به إلى الحجاج فلما جاوزوا بجحدر حجرا أنشأ يقول: لقد ما هاجني فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تغردان تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غصنين من غرب وبان فقلت لصاحبي وكنت أحزو ... ببعض القول ماذا تحزوان فقالا: الدار جامعة قريبا ... فقلت وأنتما متمنيان فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان إذا جاوزتما نخلات حجر ... وأندية اليمامة فانعياني وقولا جحدر أمسى رهينا ... يعالج وقع مصقول يماني كذا المغرور بالدنيا سيردى ... وتهلكه المطامع والأماني فلما قدم به على الحجاج، قال له: أنت جحدر؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير. قال: فما حملك على ما صنعت؟ قال: جراءة الجنان، وكلب الزمان، وجفوة السلطان. قال: وما الذي بلغ من أمرك فيجرأ جنانك، ويكلب زمانك ويجفوك سلطانك؟ قال: لو بلاني الأمير لوجدني من صالح الأعوان، وأهم الفرسان، وأما جراءة جناني فإني لم ألق فارسا قط، إلا كنت عليه في نفسي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 مقتدرا، فقال له الحجاج بن يوسف: إنا قاذفون بك في جب ليث، فإن هو قتلك كفانا مؤنتك، وإن أنت قتلته خلينا عنك وأحسنا جائزتك! قال: نعم، أصلح لله الأمير قربت المحنة، وأعظمت المنة، أنت أهل ذلك، إذا شئت فأمر به. فقيد وحبس. وكتب إلى عامله على كسكر يأمره بالبعثة إليه بأسد ضار، فبعث إليه بأسد قد أضر بأهل كسكر، في صندوق يجره ثوران، فلما قدم به على الحجاج، أمر به فأدخل في جب وسد بابه وجوعه ثلاثة أيام، ثم أتى بجحدر وأمكن من سيف قاطع، وجلس الحجاج والناس ينظرون إليهما فلما نظر الأسد إلى جحدر، وقد أقبل ومعه السيف يرسف في قيوده، تهيأ وتمطى فأنشد جحدر يقول: ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف وفتك «1» وسورة في وصلة ومحك ... أن يكشف الله قناع الشك من ظفري بحاجتي ودركي ... فذاك أحرى منزل بترك فوثب إليه الأسد وثبة شديدة فتلقاه جحدر بالسيف، فضرب هامته ففلقها حتى خالط ذباب السيف لهواته، وتخضبت ثيابه من دمه، فوثب وهو يقول: يا جمل إنك لو رأيت كريهتي ... في يوم هيج مسدف وعجاج «2» وتقدمي لليث أرسف موثقا ... كيما أكابره على الإحراج جهم كأن جبينه لما بدا ... طبق الرحا متعجّر الأثباج يسمو بناظرتين تحسب فيهما ... لما أجالهما شعاع سراج فكأنما خيطت عليه عباءة ... برقاء أو قطع من الديباج قرنان مختصران قد مخضتهما ... أمّ المنية غير ذات نتاج ففلقت هامته فخر كأنه ... أطم تساقط مائل الأبراج «3» ثم انثنيت وفي ثيابي شاهد ... مما جرى من شاخب الأوداج «4» أيقنت أني ذو حفاظ ماجد ... من نسل أملاك ذوي أتواج مما يغار على النساء حفيظة ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج فقال له الحجاج: يا جحدر إن أحببت المقام معنا فأقم، وإن أحببت الانصراف إلى بلادك فانصرف. فقال: بل أختار صحبة الأمير والكينونة معه، ففرض له في شرف العطاء، وأقام ببابه فكان من خواص أصحابه. وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الهاء في الهزبر ما قاله بشر بن أبي عوانة «5» ، لما قتل الأسد، وقد أحسن إبراهيم بن محمد المغربي رحمه الله حيث قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 حملنا من الأيام ما لا نطيقه ... كما حمل العظم الكثير العصائبا «1» وليل رجونا أن يهبّ عذاره ... فما اختطّ حتى صار بالفجر شائبا الليل: ولد الكروان، قالوا: «فلان أجبن من ليل» «2» . وقال ابن فارس، في المجمل: يقال إن بعض الطير يسمى ليلا، ولا أعرفه. وسيأتي إن شاء الله تعالى في حرف النون أن النهار ولد الحبارى والله أعلم. باب الميم مارية: بتشديد المثناة التحتية القطاة الملساء، وبالتخفيف البقرة الوحشية. وأما قولهم «3» : «خذه ولو بقرطي مارية» . فهي مارية بنت ظالم بن وهب. وقيل: أم ولد جفنة. قال «4» حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه: أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضّل يقال إنها أهدت إلى الكعبة قرطيها، وعليهما درتان كبيضتي الحمام، لم ير الناس مثلهما، ولم يدروا قدرهما ولا قيمتهما. يضرب في الشيء الثمين، أي لا يفوتنك بأي ثمن يكون. وسيأتي إن شاء الله تعالى، بعد هذا بأوراق يسيرة، في ترجمة المقوقس، ذكر مارية القبطية، أم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وقريبها مابور. المازور: طائر مبارك ببحر المغرب، يتيامن به أصحاب السفن، يبيض عند سكون البحر، على السواحل، فإذا رأوا بيضه، عرفوا أن البحر قد سكن. وهذا الطائر إذا كانت السفن قريبة من مكان مخوف، أو دابة مضرة يأتي فيطير أمام المركب، فيصعد وينزل كأنه يخبرهم حتى يدبروا أمرهم، والملّاحون يعرفونه. ذكره في تحفة الغرائب. الماشية: الإبل والبقر والغنم، والجمع المواشي، سميت ماشية لرعيها وهي تمشي، وقيل لكثرة نسلها، يقال أمشى الرجل، إذا كثرت ماشيته، وفيه يقول الشاعر: وكلّ فتى وإن أثرى وأمشى ... ستخلفه عن الدنيا المنون روى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء» «5» . وفي سنن أبي داود والترمذي، عن الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا، فإن أجابه أحد فليستأذنه، فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل» . قال الترمذي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 حسن صحيح والعمل عليه عند بعض أهل العلم، وبه قال أحمد واسحاق وقال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينقل طعامه، فإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» . ومن أحكام الماشية أنها إذا أفسدت زرعا لغير مالكها، ولم يكن معها، فإن كان ذلك بالنهار لم يضمن، وإن كان بالليل ضمن، لما روى أبو داود وغيره عن حرام بن سعيد ابن محيصة، قال: إن ناقة للبراء بن عازب رضي الله تعالى عنه، دخلت حائط قوم فأفسدت، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار، وعلى أهل المواشي ما أصابته مواشيهم بالليل. وقد تقدم في الغنم فرع له تعلق بهذا. تذنيب : إذا اشترك أهل الزكاة في ماشية زكوا زكاة الرجل الواحد، فلو كان أحدهم كافرا أو مكاتبا، فلا أثر لخلطته وهي تسمى خلطة ملك، وخلطة أعيان وخلطة اشتراك، وإذا خلطا مجاورة فكذلك الحكم لقوله «2» صلى الله عليه وسلم: «لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة» . ورواه البخاري ويشترط في هذه أن لا تتميز في المشرع والمسرح والمراح، وهو موضع الحلب بفتح اللام. وكذا الراعي والفحل على الصحيح، ولا تشترط النية على الصحيح، لأن خفة المؤنة واتحاد المرافق لا يختلف بالقصد وعدمه، والله تعالى أعلم. مالك الحزين: قال الجوهري: إنه من طير الماء، وقال ابن بري، في حواشيه إنه البلشون. قال: وهو طائر طويل العنق والرجلين انتهى. قال الجاحظ: من أعاجيب الدنيا أمر مالك الحزين لأنه لا يزال يقعد بقرب المياه، ومواضع نبعها من الأنهار وغيرها، فإذا نشفت يحزن على ذهابها، ويبقى حزينا كئيبا، وربما ترك الشرب حتى يموت عطشا، خوفا من زيادة نقصها بشربه منها. قال: وقريب من هذا دودة تضيء بالليل كضوء الشمع، وتطير بالنهار فيرى لها أجنحة، وهي خضراء ملساء غذاؤها التراب، لم تشبع منه قط، خوفا أن يفنى تراب الأرض فتهلك جوعا. قال: وفيها خواص كثيرة ومنافع واسعة. وهذا الطائر لما كان يقعد عند المياه التي انقطعت عن الجري، وصارت مخزونة، سمي مالكا، ولما كان يحزن على ذهابها سمي بالحزين، وهو عطف بيان لمالك، كما يقال: أبو حفص عمر. وقال التوحيدي، في كتاب الامتناع والمؤانسة: مالك الحزين ينشل الحيتان من الماء فيأكلها، وهي طعامه، وهو لا يحسن السباحة، فإن أخطأه الانتشال، وجاع طرح نفسه على شاطىء البحر وفي بعض ضحضاحاته، فإذا اجتمع إليه السمك الصغار، أسرع إلى خطف ما استطاع منها. ولا يحتاج إلى تزاوج ولا سفاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 وحكمه : حل الأكل. ومن خواصه : أن لحمه غليظ بارد يولد إدمان أكله البواسير، وقد تقدم في خطبة الكتاب، أن ضبط هذا كان من جملة الأسباب الباعثة على تأليفه، خوفا من تصحيف لفظه. وتحريفه، والله تعالى الموفق. المتردية: هي التي وقعت في بئر، أو من مكان عال فماتت، ولا فرق بين أن تقع بنفسها أو بسبب آخر، فإنها متردية. وحكمها : تحريم الأكل بالإجماع. المجثّمة: بفتح الجيم وتشديد الثاء المثلثة، هي التي تلقى على الأرض مربوطة، وتترك حتى تموت. قال القزويني: الجثوم للطير والناس بمنزلة البروك للبعير، ومنه قوله «1» تعالى: جاثِمِينَ* أي بعضهم على بعض، وجاثمين باركين على الركب أيضا، روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الجلالة، وعن المجثمة، وعن الخطفة» «2» . المثا: الفراش وقد تقدم ما فيه في باب الفاء. المربح: طائر من طير الماء قبيح الهيئة، قاله ابن سيده. المرء: الرجل تقول هذا مرء صالح، ورأيت مرءا صالحا، ومررت بمرء صالح، ولا يجمع على لفظه. وبعضهم يقول: المرؤون، وربما سموا الذئب مرءا. وذكر يونس أن قول الشاعر: وأنت امرء تعدو على كلّ غرة ... فتخطىء فيها تارة وتصيب يعني به الذئب، والله تعالى أعلم. المرزم: من طير الماء طويل الرجلين والعنق، أعوج المنقار في أطراف جناحيه سواد، أكثر أكله السمك. وحكمه : حل الأكل. المرعة: بضم الميم وفتح الراء والعين المهملتين، كالهمزة. طائر حسن اللون، طيب الطعم، على قدر السماني، وجمعها مرع بضم الميم وفتح الراء. قاله ثعلب وابن السكيت وهي تشبه الدراجة. وحكمها : حل الأكل. الخواص : قال ابن زاهر: إذا شق جوفها، ووضع على الشوك والنصل الغائص في اللحم أخرجه من غير مشقة. مسهر: قال هرمس: إنه طائر لا ينام الليل كله، وهو في النهار يطلب معاشه وله في الليل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 صوت حسن يكرره ويرجعه يلتذ به كل من يسمعه، ولا يشتهي النوم سامعه من لذة سماعه. ومن خواصه : أنه إذا جفف دماغه في ظل، وأخذ منه وزن درهم، وسعط به إنسان مع دهن اللوز، لا ينام أصلا، ويصيبه من الكرب أمر عظيم، حتى يظنه من يراه أنه شارب خمر ومن أمسك رأس هذا الطائر في يده أو علقه عليه، أذهب الوحشة والوسواس عنه، وأورثه من الطرب ما يخرجه إلى حد الرعانة. المطية: الناقة التي يركب مطاها، أي ظهرها. وجمعها مطايا ومطي. وقال الجوهري: المطي واحد وجمع يذكر ويؤنث، والمطايا فعالى، وأصله فعائل، إلا أنه فعل به ما فعل بخطايا. قال أبو العميثل: المطية تذكر وتؤنث، ولما رأى الشيخ أبو الفضل الجوهري مدينة النبي صلى الله عليه وسلم أنشد يقول: رفع الحجاب لنا فلاح لناظري ... قمر تقطع دونه الأوهام وإذا المطي بنا بلغن محمدا ... فظهورهن على الرجال حرام قد زوّرتنا خير من وطىء الثرى ... فلها علينا حرمة وذمام الذمام بالذال المعجمة: الحرمة. وقال السهيلي، في غزوة مؤتة: وإذا المطي بنا بلغن محمدا هو من شعر أبي نواس، قال: وقد أحسن في ذلك، وقد أساء الشماخ حيث قال «1» : إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين وعرابة هذا رجل من الأنصار، وكان من الأجواد. قال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: رأيت رجلا طائفا بالبيت الحرام حاملا أمه على ظهره وهو يقول: إني لها مطية لا تذعر ... إذا الركاب نفرت لا تنفر ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر وذكر ابن خلكان وغيره، أن أمدح بيت قالته العرب، قول «2» جرير لعبد الملك بن مروان: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح وأهجى بيت قالته العرب قول «3» الأخطل يهجو جريرا: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار وأحكم بيت قالته العرب قول «4» طرفة: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 وأحمق بيت قالته العرب، قول «1» القائل، وهو الأعشى أبو محجن الثقفي: إذا متّ فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها وروى في حديث معاوية رضي الله تعالى عنه، أنه قال لابن أبي محجن الثقفي: أبوك الذي يقول: إذا متّ فادفني، البيتين فقال «2» : أبي الذي يقول: وقد أجود وما مالي بذي قنع ... وأكتم السرّ فيه ضربة العنق وأغزل بيت قالته العرب قول «3» جرير: إنّ العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم تحيين قتلانا يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهنّ أضعف خلق الله إنسانا فائدة : روى الطبراني في الدعوات، من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الجنة وبها ينجو من النار» . وقال علي رضي الله تعالى عنه: لا تسبوا الدنيا ففيها تصلون، وفيها تصومون، وفيها تعملون، فإن قيل: كيف يجمع بين هذا، وبين قوله «4» صلى الله عليه وسلم: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما» . فالجواب ما قاله شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، في آخر الفتاوى الموصيلة: إن الدنيا التي لعنت هي المحرمة التي أخذت بغير حقها أو صرفت إلى غير مستحقها. وقد تقدم في باب الباء الموحدة في ذكر البعوض، ما قاله الشيخ أبو العباس القرطبي في ذلك وهو حسن فراجعه. وفي الحديث «5» : «بئس مطية الرجل زعموا» شبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه، ويتوصل به إلى غرضه من قوله: زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه. وإنما يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم من الحديث ما هذا سبيله. وفي الكشاف وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «زعموا مطية الكذب» . وقال ابن عمر وشريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. قال ابن عطية: ولا يوجد زعم مستعملة في فصيح الكلام، إلا عبارة عن الكذب، أو قول انفرد به قائله، وتبقى عهدته على الزاعم، ففي ذلك ما ينحو إلى تضعيف الزعم، وقول سيبويه زعم الخليل كذا إنما يجيء فيما تفرد الخليل به. تتمة : قال شيخ الإسلام النووي: روينا بالإسناد الصحيح، في جامع الترمذي وغيره، عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوشك أن يضرب الناس آباط المطي في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة» . قال الترمذي: حديث حسن. قال: وقد روي عن سفيان ابن عيينة أنه قال: هو مالك بن أنس انتهى. والحديث المذكور رواه النسائي والحاكم، في أوائل المستدرك من حديث ابن عيينة، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «يوشك أن تضربوا أكباد الإبل فلا تجدوا عالما أعلم من عالم المدينة» ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه انتهى. قلت: إنما لم يخرجه مسلم لأنه سأل البخاري عنه فقال: له علة وهي أن أبا الزبير، لم يسمع من أبي صالح، ولما روى النسائي، في السنن الكبرى هذا الحديث، من رواية ابن عيينة، عن ابن جريج عن أبي الزناد، عن أبي هريرة عقبه بقوله: هذا خطأ. والصواب عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة وقيل: عالم المدينة عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العمري المدني الزاهد، روى عنه ابن عيينة وابن المبارك وغيرهما. وكان من أزهد أهل زمانه وأشدهم تخليا للعبادة. وروي أن الرشيد قال: والله إني أريد الحج كل سنة، ما يمنعني من ذلك إلا رجل من ولد عمر رضي الله عنه يسمعني ما أكره يعني العمري. توفي العمري سنة أربع وثمانين ومائة بعد مالك بنحو ست سنين وهو ابن ست وستين سنة. قال عمر بن شبة: حدثنا أبو يحيى الزهري، قال: قال عبد الله بن عبد العزيز العمري عند موته: بنعمة ربي أحدث، لو أن الدنيا أصبحت تحت قدمي، لا يمنعني من أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها ما أزلتها، وكتب العمري إلى مالك وابن أبي ذئب وابن دينار وغيرهم بكتب، أغلظ لهم فيها، فجاوبه مالك جواب فقيه. قال ابن عبد البر، في التمهيد: كتب العمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، ويرغبه به عن الاجتماع عليه في العلم، فكتب إليه مالك أن الله عز وجل قسم الأعمال، كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصيام، وآخر فتح له في الجهاد ولم يفتح له في الصلاة، ونشر العلم وتعليمه من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح الله لي فيه من ذلك، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر. ويجب على كل واحد منا أن يرضى بما قسم الله له والسلام. وفي الإحياء، في الباب السادس من أبواب العلم، يحكى أن يحيى بن يزيد النوفلي، كتب إلى مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد في الأولين والآخرين من يحيى بن يزيد إلى مالك بن أنس، أما بعد فقد بلغني أنك تلبس الرقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطاء، وتجعل على بابك حجابا، وقد جلست مجلس العلم، وضربت إليك آباط المطي، وارتحل إليك الناس، فاتخذوك إماما ورضوا بقولك، فاتق الله يا مالك، وعليك بالتواضع. كتبت إليك بالنصيحة مني كتابا، ما اطلع عليه إلا الله والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 فكتب إليه مالك بن أنس: بسم الله الرحمن الرحيم من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد، سلام عليك أما بعد فقد وصل إلي كتابك، فوقع مني موقع النصيحة من المشفق، أمتعك الله بالتقوى، وجزاك وخولك بالنصيحة خيرا، وسأل الله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأما ما ذكرت، من أني آكل الرقاق وألبس الرقاق وأجلس على الوطاء، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، وقد قال سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ «1» وإني لا أعلم أن ترك ذلك، خير من الدخول فيه، فلا تدعنا من كتابك فإنا ليس ندعك من كتابنا والسلام. وفيه أيضا وروي أن الرشيد أعطاه ثلاثة آلاف دينار فأخذها ولم ينفقها، فلما أراد الرشيد الشخوص إلى العراق، قال لمالك: ينبغي أن تخرج معنا فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ، كما حمل عثمان رضي الله عنه الناس على القرآن. فقال له: أما حمل الناس على الموطأ فليس إلى ذلك سبيل، فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «اختلاف أمتي رحمة» وأما الخروج معك فلا سبيل إليه، قال صلى الله عليه وسلم: «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» . وقال «2» صلى الله عليه وسلم: «المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد» . وهذه دنانيركم كما هي، إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها. يعني إنما تكلفني الخروج معك، ومفارقة المدينة بما اصطنعته لدي. فلا أوثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا يدل على زهده في الدنيا رحمه الله تعالى. وفيه أيضا أن الشافعي رحمه الله، قال: شهدت مالكا رحمه الله وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة؛ فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري وهذا يدل على أنه كان يريد بعلمه وجه الله تعالى، فإن من يريد غير وجه الله بعلمه لا تسمح نفسه بأن يقر على نفسه بأنه لا يدري. ولذلك قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فمالك البحر، وما أحد أمن علي من مالك. وقيل: إن أبا جعفر المنصور منعه من رواية الحديث في طلاق المكره، ثم دس عليه من سأله؛ فروى عن ملأ من الناس: ليس على مكره طلاق. فضربه بالسياط. فانظر كيف اختار ضرب السياط، ولم يترك رواية الحديث. وفي الحلية أن الشافعي رحمه الله، قال: قالت لي عمتي، ونحن بمكة: رأيت في هذه الليلة عجبا! فقلت لها: وما هو؟ قالت: رأيت كأن قائلا يقول لي: مات الليلة أعلم أهل الأرض. قال الشافعي: فحسبنا ذلك فإذا هي ليلة مات مالك بن أنس رحمه الله تعالى. وقال عبد الرحمن بن مهدي: لا أقدم على مالك أحدا. وكان مالك يقول: إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير، لم يكن للناس فيه خير. وفي الحلية أيضا، قال مالك: ما بت ليلة إلا رأيت فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وكان مالك رحمه الله إماما عالما عابدا زاهدا ورعا عارفا بالله تعالى، وكان مبالغا في تعظيم علم الدين، لا سيما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 فراشه، وسرح لحيته وتمكن في الجلوس على وقار وهيبة، ثم حدث. فقيل له في ذلك، فقال: إني أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يقول: العلم نور يجعله الله حيث شاء، وليس هو بكثرة الرواية وقد مدحه بعض العلماء فقال «1» : يدع الكلام فلا يراجع هيبة ... والسائلون نواكس الأذقان سيما الوقار وعز سلطان التقى ... فهو المهيب وليس ذا سلطان توفي الإمام مالك رحمه الله تعالى، في سنة تسع وسبعين ومائة. المعراج: دابة عظيمة عجيبة مثل الأرنب صفراء اللون، على رأسها قرن واحد أسود، لم يرها شيء من السباع والدواب إلا هرب. ذكرها القزويني في جزائر البحار. المعز: بفتح الميم والعين المهملة وتسكينها لغتان: نوع من الغنم خلاف الضأن وهي ذوات الشعور والأذناب القصار، وهو اسم جنس وكذلك المعيز والأمعوز والمعزى وواحد المعز ماعز، مثل صاحب وصحب، وتاجر وتجر، والأنثى ما عزة والجمع مواعز. وأمعز القوم كثرت معزاهم. وكنيتها أم السخال. وفي حديث علي رضي الله عنه: وأنتم تنفرون منه نفور المعزى من وعوعة الأسد أي صوته، ووعوعة الناس ضجتهم. وروى البزار وابن قانع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «احسنوا إلى المعزى، وأميطوا عنها الأذى، فإنها من دواب الجنة» . وفي الحديث: «استوصوا بالمعزى خيرا فإنه مال رقيق، وأنقوا عطنه» . أي نقوا مرابضها مما يؤذيها من حجارة وشوك وغير ذلك، وهي مع ذلك موصوفة بالحمق، وتفضل على الضأن بغزارة اللبن وثخانة الجلد، وما نقص من ألية المعز، زاد في شحمه، ولذلك قالوا: ألية المعز في بطنه. ولما خلق الله تعالى جلد الضأن رقيقا غزر صوفه، ولما خلق جلد المعز ثخينا قلل شعره، فسبحان اللطيف الخبير. الخواص : لحمه يورث الهم والنسيان، ويولد البلغم، ويحرك السوداء، لكنه نافع جدا لمن به الدماميل، وقرن المعز الأبيض يسحق ويشد في خرقة ويجعل تحت رأس النائم، فإنه لا ينتبه مادام تحت رأسه. ومرارة التيس تخلط بمرارة البقر، وتلطخ بها فتيلة، وتجعل في الأذن تزيل الطرش وتمنع نزول الماء. وإذا اكتحل بمرارة التيس بعد نتف الشعر الذي في باطن الجفن منع من انباته، ويمنع أيضا من الغشاوة اكتحالا، ومن العشا ويقلع اللحمة الزائدة التي يقال لها التوتة، وينفع طلاء من الورم الذي يقال له داء الفيل. وأكل مخه يورث الهم والنسيان ويحرك السوداء. قال الرئيس ابن سينا: بعر المعزى يحلل الخنازير بقوة فيه، وإذا احتملته المرأة بصوفة منع سيلان الدم من الفرج ويقطع النزيف. ابن مقرض: بضم الميم وكسر الراء وبالضاد المعجمة، دويبة كحلاء اللون، طويلة الظهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 ذات قوائم أربع أصغر من الفأر، تقتل الحمام وتقرض الثياب، ولذلك قالوا: ابن مقرض. الحكم : حكى الرافعي في حله الوجهين، في ابن عرس وقال: إنه الدلق، قال في المهمات: الصحيح على ما يقتضيه كلام الرافعي الحل. وقد وقعت المسألة في الحاوي الصغير، على الصواب فأباح ابن مقرض وحرم ابن عرس. وقد تقدم في باب الدال المهملة الكلام على الدلق مستوفى، والله الموفق. المقوقس: طائر معروف مطوق سواده في البياض، كالحمام وهو لقب لجريج بن مينا القبطي ملك مصر، وكان من قبل هرقل، ويقال: إن هرقل عزله لما رأى ميله إلى الإسلام. وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا يقال له الزاز، وبغلته الدلدل، وحمارا أو غلاما خصيا اسمه مابور. وقد ذكره ابن منده وأبو نعيم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غلطا في ذلك فإنه لم يسلم ومات على نصرانيته. ومنه فتح المسلمون مصر في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه. ومابور المذكور كان ابن عم مارية القبطية، وكان يأوي إليها فقال الناس: علج يدخل على علجة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فبعث عليا ليقتله، فقال: يا رسول الله أقتله أم أرى رأيي فيه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل ترى رأيك فيه» فلما رأى الخصي عليا، ورأى السيف في يده، تكشف فإذا هو مجبوب ممسوح فرجع علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بذلك فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب» . وروى «1» مسلم في آخر باب التوبة، بعد حديث الإفك عن أنس رضي الله تعالى عنه، أن رجلا كان متهما بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «اذهب فاضرب عنقه» . فأتاه علي فإذا هو على ركى يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إنه لمجبوب. والذي رواه الطبراني، في هذه القصة عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على مارية القبطية أم ولده إبراهيم، وهي حامل به فوجد عندها نسيبا لها، كان قد قدم معها من مصر فأسلم وحسن إسلامه، وكان يدخل عليها وأنه رضي من مكانه من أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجب نفسه فقطع ما بين رجليه، حتى لم يبق لنفسه قليلا ولا كثيرا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على أم ولده إبراهيم، فوجد قريبها عندها، فوقع في نفسه من ذلك شيء كما يقع في أنفس الناس، فرجع متغير اللون، فلقي عمر رضي الله تعالى عنه، فأخبره بما وقع في نفسه من قريب أم إبراهيم، فأخذ عمر رضي الله تعالى عنه السيف، وأقبل يسعى حتى دخل على مارية فوجد قريبها ذلك، عندها فأهوى إليه بالسيف ليقتله، فلما رأى ذلك منه كشف عن نفسه، فلما رأى ذلك عمر رضي الله تعالى عنه، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك يا عمر أن جبريل أتاني فأخبرني أن الله عز وجل قد برأها وقريبها مما وقع في نفسي، وبشرني أن في بطنها غلاما مني وأنه أشبه الخلق بي، وأمرني أن أسميه إبراهيم، وكناني بأبي إبراهيم، ولولا أني أكره أن أحول كنيتي التي عرفت بها، لتكنيت بأبي إبراهيم كما كناني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 جبريل» . ثم مات الخصي في زمن عمر فجمع الناس لشهود جنازته وصلى عليه عمر ودفن بالبقيع. وأهدى المقوقس أيضا للنبي صلى الله عليه وسلم قدحا من قوارير، كان صلى الله عليه وسلم يشرب فيه، وثيابا من قباطي مصر ومطرفا من مطرفاتهم، وطرفا من طرفهم، وألف مثقال ذهبا وعسلا من عسل بنها. فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم العسل ودعا في عسلها بالبركة. ووصلت الهدايا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع وقيل سنة ثمان. وهلك المقوقس في ولاية عمرو بن العاص ودفن في كنيسة أبي يحنس على نصرانيته. وكان الرسول إليه من قبل النبي صلى الله عليه وسلم حاطب بن بلتعة رضي الله تعالى عنه الذي شهد له بالإيمان، وكان حاطب عاقلا لبيبا حازما لا يخدع، باع بعض أصحابه بيعة غبن فيها لغيبة حاطب فقال «صفقة لم يحضرها حاطب» ، فضرب ذلك مثلا في شراء كل صفقة ربح بائعها. قال حاطب: لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، جئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلني في منزله، وأقمت عنده ليالي، ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته، فقال: إني سأكلمك بكلام أحب أن تفهمه مني. قال: فقلت: هلم. فقال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبيا؟ قال: قلت: بلى. قال: هو رسول الله؟ قلت: بلى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما باله، حيث كان هكذا لم يدع على قومه، لما أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ فقلت له: فعيسى ابن مريم أتشهد أنه رسول الله؟ قال: كذا. قلت: فما باله، حيث أخذه قومه، وأرادوا صلبه، لم يدع عليهم بأن يهلكهم الله، بل رفعه الله إليه في سماء الدنيا؟ قال: أحسنت أنت حكيم من حكيم. المكاء: بضم الميم وبالمد والتشديد طائر يصوت في الرياض، يسمى مكاء لأنه يمكو أي يصفر كثيرا ووزنه فعال كخطاف. والأصوات في الأكثر تأتي على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والرغاء والنباح والجؤار ونحوه. وجمعه المكاكي وهذا الطائر يصفر ويصوت كثيرا. قال البغوي في تفسير المكاء: الصفير وهو في اللغة اسم طائر أبيض يكون بالحجاز له صفير، وقال ابن السكيت في إصلاح المنطق: يقال: مكا الطائر ومكا الرجل يمكو مكوا، إذا جمع يديه وصفر فيهما، وكأنهم اشتقوا له هذا الاسم من الصياح. وجمعه المكاكي والمكاء الصفير قال الله تعالى: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً «1» أي صفيرا أو تصفيقا. وقال ابن قتيبة: المكاء الصفير أي بالتخفيف والمكاء بالتشديد طائر يصفر في الرياض ويمكو أي يصفر. قال الشاعر: إذا غرّد المكاء في غير روضة ... فويل لأهل الشاء والحمرات قال البطليوسي في الشرح: إن المكاء إنما يألف الرياض فإذا غرد في غير روضة، فإنما يكون ذلك لإفراط الجدب وعدم النبات، وعند ذلك يهلك الشاء والحمير، فالويل لمن لم يكن له مال غيرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 والحمرات في البيت: جمع حمر بضم الميم، وحمر جمع حمار بمنزلة كتاب وكتب. ويجوز أن يكون جمع حمير كقضيب وقضب. وقولهم: حمير ليس بجمع ولكنه اسم للجمع، بمنزلة العبيد والكتيب قال ابن عطية: والذي مربي، من أمر العرب، في غير ما ديوان، أن المكاء والتصدية كانا من فعل العرب قديما قبل الإسلام، على جهة التقرب به والتشرع. قال: ورأيت عن بعض أقوياء العرب، أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من حراء وبينهما أربعة أميال. انتهى. وكذلك كان مخرمة بن قيس بن عبد مناف يص فر ع ند البيت فيسمع من حراء، وكان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وكانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون. وقال القزويني: المكاء من طير البادية يتخذ أفحوصا عجيبا، وبينه وبين الحية عداوة، فإن الحية تأكل بيضه وفراخه. وحدث هشام بن سالم أن حية أكلت بيض مكاء، فجعل المكاء يشرشر أي يرفرف على رأسها ويدنو منها، حتى إذا فتحت فاها ألقى في فيها حسكة فأخذت بحلق الحية فماتت. المكلفة: طائر، قال الجاحظ: لما كانت العقاب سيئة الخلق تبيض ثلاث بيضات، فتخرج فراخها فتلقى واحدا منها، فيأخذه هذا الطائر الذي يتكلف به قيل له: المكلفة ويسمى كاسر العظام، فيربيه كما تقدم اهـ. واختلفوا في سبب فعل العقاب ذلك، فقال بعضهم: لأنها لا تحضن إلا بيضتين، وقال بعضهم: بل تحضن الثلاثة، لكنها ترمي بفرخ من فراخها استثقالا للكسب على الثلاثة. وقال آخرون: ليس كذلك إلا لما يعتريها من الضعف عن الصيد كما يعتري النفساء من الوهن. وقيل: لأنها سيئة الخلق كما تقدم. ولا يستعان على تربية الولد إلا بالصبر. وقيل: لأنها كثيرة الشره وإذا لم تكن أم الفراخ تؤثر أولادها على نفسها ضاعت أولادها. قال هؤلاء: والفرخ الذي ترمي به العقاب من الثلاثة، يحضنه طائر يقال له المكلفة ويسمونه كاسر العظام أيضا، فيربيه كما تقدم والله تعالى أعلم. الملكة: كالسمكة حية طولها شبر أو أكثر، على رأسها خطوط بيض تشبه التاج، فإذا انسابت على الأرض، أحرقت كل شيء مرت عليه، وإن طار طائر فوقها سقط عليها، وإذا بدت تنساب هرب من بين يديها جميع الدواب. ومن أكل تلك الحية من السباع أو غيرها مات. وهي قليلة الظهور للناس. ومن خواصها الغريبة أن من قتلها فقد حاسة الشم في الحال، ولا يمكن بعد ذلك علاجه. المنارة: سمكة تخرج من البحر، على شكل المنارة، فترمي بنفسها على السفينة فتكسرها وتغرق أهلها، فإذا أحس الناس بها ضربوا بالطسوس والبوقات لتبعد عنهم، وهي محنة عظيمة في البحر. قاله أبو حامد الأندلسي. المنخنقة: هي البهيمة المأكولة تنخنق بحبل حتى تموت، وكانت العرب تفعله حرصا على الدم، لأن العرب كانوا يأكلون الدم، ويسمونه الفصيد، ويقولون: إن اللحم دم جامد. فحرم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 الله تعالى المنخنقة لما ينحبس فيها من الدم، قال الرافعي: ويستثنى من المنخنقة الجنين فإنه مات بقطع النفس عنه وهو حلال. فرع : لو ذبح بهيمة وقطع أوداجها، ثم خنقها ومنع خروج الدم حتى ماتت بقطع النفس، فيحتمل حلها، لأنها لما قطعت أوداجها حصلت الذكاة الشرعية، ولا أثر لحبس الدم كما لا أثر له في مصيد الجوارح إذا مات الصيد بالمثقل، ولم تدرك ذكاته أو رماه بسهم فمات، فإنه حلال وإن انحبس فيه الدم، ويحتمل التحريم، وهو ما أجاب به شيخنا الأسنوي رحمه الله تعالى، لأن الحكمة في الذكاة خروج الدم ولم يوجد، فأشبهت المنخنقة. وبالقياس على ما لو خنقها أولا ثم أسرع فقطع الأوداج والحياة مستقرة، ثم ماتت بقطع النفس. والفرق بين هذا، وبين مصيد الجوارح أن الذبح هناك غير مقدور عليه، فانتفت حكمته لعدم القدرة عليه والقدرة ههنا موجودة فافترق البابان، ولأنا لو قلنا بحلها لم يكن لتحريم الخنق معنى، لأنه يمكن التوصل إليه بهذا الطريق والله أعلم. المنشار: سمكة في بحر الزنج كالجبل العظيم من رأسها إلى ذنبها مثل أسنان المنشار من عظام سود، كالأبنوس كل سن منها كذراعين وعند رأسها عظمان طويلان، كل عظم مقدار عشرة أذرع، تضرب بالعظمين ماء البحر يمينا وشمالا، فيسمع له صوت هائل، ويخرج الماء من فيها وأنفها فيصعد نحو السماء، ثم يعود إلى المركب رشاشه كالمطر. وإذا دخلت تحت سفينة كسرتها، فإذا رآها أهل السفن ضجوا إلى الله تعالى، حتى يدفعها عنهم. كذا ذكره، في عجائب المخلوقات، وهي داخلة في عموم السمك والله أعلم. الموقوذة: قال الزجاج: هي التي تقتل ضربا، يقال: وقذتها أقذها وقذا، وأوقذتها أوقذها إيقاذا إذا أثخنتها ضربا انتهى. قال «1» الفرزدق يهجو جريرا: كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت علي عشاري سعارة تقذّ الفصيل برجلها ... فطّارة لقوادم الأبكار قوله: فدعاء هي التي أصابها الفدع، وهو ورم في القدم، والعشار: النوق، واحدها عشراء وهي التي مضى عليها تسعة أشهر، وطعنت في العاشر، وهي حامل. وقوله: تقذ الفصيل أي تضربه إذا دنا منها عند الحلب، وفطارة مأخوذ من الفطر، وهو الحلب بأطراف الأصابع، فإن كان بجميع الأصابع فهو الصب، وهو إنما يكون في الكبار من النوق، وأما الصغار من النوق فإنما تحلب بأطراف الأصابع، لصغر ضروعها. وفي معنى الموقوذة ما يرمى من الطير بالسهام التي لا نصل لها أو بحجر ونحوه فتموت. وقد سئل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن الطير يموت بالبندقة، فقال: هو وقيذ. قلت: الظاهر عدم جواز رمي الطير بالبندق، إذا علم أنه يقتل غالبا، وكذلك الطومار والحجر لأنه من باب اتلاف الحيوان لغير منفعة والله تعالى أعلم. الموق: بالضم نمل له أجنحة وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في النمل في باب النون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 المول: العنكبوت الواحدة مولة، وأنشدوا: حاملة ذلول لا محموله ... ملأى من الماء كعين الموله المها: بالفتح جمع مهاة، وهي البقرة الوحشية والجمع مهوات، وقيل: المها نوع من البقر الوحشي إذا حملت الأنثى من المها هربت من البقر، ومن طبعها الشبق، والذكر لفرط شهوته يركب ذكرا آخر، وهي أشبه بالمعز الأهلية، وقرونها صلاب جدا، وبها يضرب المثل في سمن المرأة وجمالها قال «1» الشاعر: خليلي إن قالت بثينة: ماله ... أتانا بلا وعد؟ فقولا لها: لها سها وهو مشغول لعظم الذي به ... ومن بات طول الليل يرعى السّها سها بثينة تزري بالغزالة في الضحى ... إذا برزت لم تبق يوما بها بها لها مقلة نجلاء كحلاء خلقة ... كأن أباها الظبيّ أو أمها مها دهتني بود قاتل وهو متلفي ... وكم قتلت بالود من ودّها دها فائدة : روى الطبراني، في معجمه الكبير بإسناد رجاله ثقات، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نزل الركن الأسود من السماء، فوضع على أبي قبيس، كأنه مهاة بيضاء، فمكث أربعين سنة، ثم وضع على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وروى «2» في الأوسط والكبير أيضا، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحجر الأسود من حجارة الجنة وما في الأرض من الجنة غيره وكان أبيض كالمهاة ولولا ما مسه من رجس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا برىء» . وفي إسناده محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام. وروى هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه، قال: بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف بالبيت، إذا هو برجل يطوف، وعلى عنقه مثل المهاة، يعني حسنا وجمالا وهو يقول: عدت لهذي جملا ذلولا ... موطأ أتبع السهولا أعدّ لها بالكفّ أن تميلا ... أحذر أن تسقط أو تزولا أرجو بذاك نائلا جزيلا «3» فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: يا عبد الله من هذه التي وهبت لها حجك؟ قال: امرأتي يا أمير المؤمنين، وإنها لحمقاء مرغامة، أكول قمامة، لا تبقى لها خامة، فقال رضي الله تعالى عنه: ما لك لا تطلقها؟ قال: يا أمير المؤمنين إنها لحسناء لا تفرك، وأم صبيان لا تترك. قال: فشأنك بها. وحكى الإمام أبو الفرج بن الجوزي، في كتاب الأذكياء، قال: قعد رجل على جسر بغداد فأقبلت امرأة من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي، فاستقبلها شاب فقال لها: رحم الله علي بن الجهم. فقالت المرأة: رحم الله أبا العلاء المعري، وما وقفا ومرا مشرقا ومغربا، قال: فتبعت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 المرأة وقلت لها: إن لم تقولي لي ما قلتما فضحتك! فقالت: أراد قول «1» علي بن الجهم: عيون المها بين الرّصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري وأردت أنا قول أبي العلاء المعري: فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال فتركتها وانصرفت. وقد تقدم حكمها وأمثالها في باب الباء الموحدة في الكلام على البقر الوحشي. الخواص : مخها يطعم لصاحب القولنج ينفعه نفعا بينا، ومن استصحب معه شعبة من قرن المهاة نفرت منه السباع، وإذا بخر بقرنه أو جلده في بيت نفرت منه الحيات، ورماد قرنه يذر على السن المتأكلة يسكن وجعها، وشعره إذا بخر به البيت هرب منه الفأر والخنافس، وإذا أحرق قرنه وجعل في طعام صاحب الحمى الربع، فإنها تزول عنه بإذن الله تعالى، وإذا شرب في شيء من الأشربة زاد في الباه، وقوى العصب، وزاد في الإنعاظ، وإذا نفخ في أنف الراعف قطع دمه، وإذا أحرق قرناه حتى يصيرا رمادا وديفا بخل، وطلي به موضع البرص مستقبل الشمس، فإنه يزول بإذن الله تعالى، وإذا استف منه مقدار مثقال، فإنه لا يخاصم أحدا إلا غلبه. التعبير : المهاة في الرؤيا رجل رئيس كثير العبادة، معتزل عن الناس، ومن رأى عين المهاة، نال رياسة أو امرأة سمينة جميلة قصيرة العمر، ومن رأى رأسه تحول كرأس مهاة نال رياسة وغنيمة وولاية على ناس غرماء، ومن رأى كأنه مهاة فإنه يعتزل الجماعة، ويدخل في بدعة والله الموفق. المهر: ولد الفرس والجمع أمهار ومهار ومهارة، والأنثى مهرة بالضم والجمع مهر ومهرات. قال الربيع بن زياد العبسي: ومجنبات ما يذقن عذوفا ... يقذفن بالمهرات والأمهار وقد أحسن مهيار الديلمي في وصف المهرة حيث قال: قال لي العاذل: تسلو قلت: مه ... إنّ أسباب هواها محكمه مهرة تسمع في السرج لها ... تحت من يعلو عليها حمحمه وقيل لبعض الحكماء: أي المال أشرف؟ قال: فرس يتبعها فرس في بطنها فرس. وقال الجوهري: في الحديث «2» : «خير المال مهرة مأمورة، وسكة مأبورة» ، أي كثيرة النتاج والنسل. والسكة الطريقة المصطفة من النخل، والمأبورة الملقحة، ومعنى الكلام خير المال نتاج أو زرع، وملخص هذا أن الجوهري رحمه الله جعله في موضع حديثا، وفي موضع من كلام الناس. كذا قاله الإمام الحافظ شرف الدين الدمياطي، في كتاب الخيل، في آخر الباب الأول. قلت: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 وهذا عجيب من الجوهري مع سعة حفظه، وغزارة علمه والصواب أنه حديث رواه أحمد والطبراني والله أعلم. إشارة : كان أبو عبد الله محمد بن حسان البسري، من الأولياء ذوي الكرامات الظاهرة، والأحوال الباهرة، وأنه خرج للغزاة مرة، فبينما هو في فلاة من الأرض إذ مات مهره الذي كان يركبه، فقال: اللهم أعرنا إياه فقام المهر حيا بإذن الله تعالى، فلما وصل إلى بسر، أخذ السرج عنه فسقط ميتا. وكان رحمه الله، إذا كان شهر رمضان دخل بيتا وقال لامرأته: طيني علي الباب وألقي إلي كل ليلة رغيفا من الكوة، فإذا كان يوم العيد فتحت الباب ودخلت فتجد الثلاثين رغيفا في زاوية البيت فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام رضي الله تعالى عنه. وفي الأنساب لابن السمعاني، أن أبا عبد الله المذكور منسوب إلى بصرى، قرية من قرى الشأم فأبدلت الصاد سينا على قياس قولهم في السويق الصويق والسراط الصراط انتهى. وقال ابن الأثير: هذا كله خطأ في النقل والنحو، أما النقل فإنه منسوب إلى بسر قرية معروفة، وأما النحو فإبدال الصاد سينا ليس على إطلاقه إنما ذلك مع حروف معلومة، وقد ذكره الحافظ أبو القاسم بن عطاء الدمشقي، في تاريخ دمشق، وقال: إنه من قرية بسر وهذا هو الصواب والله تعالى أعلم. قلت: والحروف التي تبدل معها السين صادا هي: الحاء والطاء والعين والقاف بشرط أن تكون السين متقدمة وأحد هذه الحروف متأخرا والله تعالى أعلم. ملاعب ظله: القرلي المتقدم ذكره، في باب القاف، وربما قيل له: خاطف ظله. قال الكميت: وريطة فتيان كخاطف ظلّه ... جعلت لهم منها خباء ممددا كذا قاله الجوهري. قال: قال ابن سلمة: هو طائر يقال له الرفراف، إذا رأى ظله في الماء أقبل إليه ليخطفه. أبو مزينة: سمك في البحر على صورة الرجال، يقال إنهم يظهرون بالاسكندرية والبرلس ورشيد على صورة بني آدم بجلود لزجة وأجساد متشاكلة، لهم بكاء وعويل إذا وقعت في أيدي الناس، وذلك أنهم ربما برزوا من البحر إلى البر، يتمشون فيقع بهم الصيادون، فإذا بكوا رحموهم وأطلقوهم كذا ذكره القزويني. ابنة المطر: قال في المرصع: إنها دويبة حمراء تظهر عقب المطر، فإذا نضب الثرى عنها ماتت. أبو المليح: الصقر وحكمه، تقدم في باب الصاد المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 ابن ماء: قال في المرصع: إنه نوع من طير الماء، ويجمع على بنات ماء، فإذا عرفته قلت: ابن الماء بخلاف ابن عرس وابن آوى، لأنه لا يقع على أنواع من طير الماء، ويطلق على كل ما يألف الماء من أجناس الطير، وذلك يدل كل واحد منها على جنس مخصوص والله أعلم. باب النون الناب: المسنة من النوق، والجمع النيب. وفي المثل: «لا أفعل ذلك ما حنت النيب» سميت بذلك لطول نابها، ولا يقال للجمل: ناب، وناب القوم سيدهم، قاله الجوهري. الناس: جمع إنسان. قال الجوهري: والناس قد يكون من الإنس والجن، وقال كثير من المفسرين، في قوله «1» تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ معناه أعجب من خلق المسيح الدجال، ولم يذكر المسيح الدجال في القرآن، إلا في هذه الآية على هذا القول. وقيل: ذكر في قوله تعال يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ «2» ، والمشهور أنه طلوع الشمس من مغربها. فرع : حلف لا يكلم الناس، حنث إذا كلم واحدا، كما لو قال: لا آكل الخبز، فإنه يحنث بما أكل منه، ولو حلف لا يكلم ناسا حمل على ثلاثة كذا صرح به الشيخان، وفاقا لابن الصباغ وغيره. وقال الماوردي والروياني: إذا حلف على معدود في نفي أو إثبات كالنساء والمساكين، فإن كانت يمينه على الإثبات كقوله: لأكلمن الناس، ولأتصدقن على المساكين لم يبر إلا بثلاثة، اعتبارا بأقل الجمع. وإن كانت يمينه على النفي كقوله: لا أكلم الناس حنث بالواحد، اعتبارا بأقل العدد، وهو واحد، والرق أن نفي الجمع ممكن وإثبات الجمع متعذر، فاعتبر أقل الجمع في الإثبات وأقل العدد في النفي والله تعالى أعلم. الناضح: البعير الذي يستقى عليه، سمي بذلك لأنه ينضح الماء، أي يصبه، والأنثى ناضحة وسانية والجمع نواضح. روى «3» مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أو عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه شك الأعمش قال: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «افعلوا» . فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك غنى. فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم» . فدعا صلى الله عليه وسلم بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع شيء يسير. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: «خذوا في أوعيتكم» . فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملؤوه وأكلوا حتى شبعوا. وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني محمد رسول الله لا يلقى الله بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة» . وروى الحافظ أبو نعيم من طريق غيلان بن سلمة الثقفي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فرأينا منه عجبا، جاء رجل فقال: يا رسول الله إنه كان لي حائط فيه عيشي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 وعيش عيالي، ولي فيه ناضحان فمنعا بي أنفسهما، وحائطي وما فيه، ولا أقدر على الدنو منهما، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى أتى الحائط، فقال لصاحبه: «افتح الباب» فقال: إن أمرهما عظيم، فقال صلى الله عليه وسلم: «افتح الباب» فلما حرك الباب أقبلا ولهما جلبة، فلما انفرج الباب، نظرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبركا ثم سجدا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤوسهما ثم دفعهما إلى صاحبهما، وقال: «استعملهما وأحسن علفهما» . فقال القوم: تسجد لك البهائم أفلا تأذن لنا في السجود لك فقال صلى الله عليه وسلم: «إن السجود ليس إلا للحي الذي لا يموت، ولو أمرت أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» «1» . وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني وأبو بكر البيهقي، من حديث يعلى بن مرة، قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا مررنا بناضح يستقى عليه، فلما رآه البعير جرجر ووضع جرانه وخطامه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «أين صاحب هذا؟» فجاءه فقال صلى الله عليه وسلم: «بعنيه» فقال: بل نهبه لك، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشة غيره، فقال «2» صلى الله عليه وسلم: «إنه شكا إلي كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه» وذكر نحوه الحاكم، في المستدرك، من طريق يعلى. وقال: صحيح ولم يخرجاه. وفي رواية: «إنه جاء وعيناه تذرفان» وفي رواية: «أنه سجد للنبي صلى الله عليه وسلم» ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما يقول زعم أنه خدم مواليه أربعين سنة» . وفي رواية: «عشرين سنة حتى كبر فنقصوا من علفه وزادوا في عمله حتى إذا كان لهم غرض أرادوا أن ينحروه غدا» . وفي رواية يعلى: «في طريق مكة» ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: «لا تنحروه وأحسنوا إليه حتى يأتي أجله» . الناقة: الأنثى من الإبل، قال الجوهري: الناقة تقديرها فعلة بالتحريك، لأنها جمعت على نوق مثل بدنة وبدن، وخشبة وخشب، وفعلة بالتسكين لا تجمع على ذلك، وقد جمعت في القلة على أنوق. ثم استثقلوا الضمة على الواو فقدموها. فقالوا: أونق. حكاها يعقوب عن بعض الطائيين، ثم عوضوا من الواو ياء، فقالوا: أينق ثم جمعوها على أيانق. وقد تجمع الناقة على نياق مثل ثمرة وثمار إلا أن الواو صارت ياء لكسرة ما قبلها، وأنشد أبو زيد للقلاخ بن حزن: أبعدكن الله من نياق ... إن لم تنجين من الوثاق وبعير منوق أي مذلل مروض، وناقة منوقة اهـ. وكنية الناقة أم بو وأم حائل وأم حوار وأم السقب وأم مسعود ويقال لها بنت الفحل وبنت الفلاة وبنت النحائب. روى الإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في سفر، فلعن رجل ناقة، فقال صلى الله عليه وسلم: «أين صاحب هذه الناقة؟» فقال الرجل: أنا. فقال صلى الله عليه وسلم: «أخّرها فقد أجبت فيها» . وروى مسلم وأبو داود والنسائي، عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه، قال: بينما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «1» : «خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة» . قال عمران: فكأني أراها الآن ورقاء تمشي في الناس، ما يعرض لها أحد. وفي رواية: لا تصحبنا ناقة عليها لعنة الله. قال ابن حبان: إنما أمر صلى الله عليه وسلم بإرسالها، لأنه عليه السلام تحقق إجابة الدعوة فيها، فمتى علم استجابة الدعاء من لاعن ما أمرناه بإرسال دابته، ولا سبيل إلى علم هذا لانقطاع الوحي فلا يجوز استعمال هذا الفعل لأحد أبدا. وقيل: إنما قال صلى الله عليه وسلم هذا زجرا لها ولغيرها. وقد كان سبق نهيها ونهي غيرها عن اللعن، فعوقبت بإرسال الناقة. والمراد النهي عن مصاحبته لتلك الناقة في الطريق. وأما بيعها وذبحها وركوبها في غير تلك الطريق، وغير ذلك من التصرفات، التي كانت جائزة قبل هذا فهي باقية على الجواز، لأن النهي إنما ورد في المصاحبة، فيبقى الباقي كما كان. والورقاء بالمد التي يخالط بياضها سواد، والذكر أورق. وقد ورد في النهي عن اللعن أحاديث، منها ما روى مسلم في صحيحه عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة» . وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «لا ينبغي لصديق أن يكون لعانا» . وفي رواية «3» الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذي» . وفي سنن أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، فتهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان أهلا لذلك نزلت عليه وإلا رجعت إلى قائلها» . وفي شعب البيهقي، أن عبد الله بن أبي الهذيل كان إذا لعن شاة لم يشرب من لبنها، وإذا لعن دجاجة لم يأكل من بيضها. فائدة : وأما قوله تعالى: ناقَةُ اللَّهِ* «4» فهو إضافة خلق إلى خالق تشريفا وتخصيصا، قيل: إن صالحا عليه الصلاة والسلام أتى بالناقة من قبل نفسه، وقال الجمهور: بل سألوه أن يدعو ربه أن يخرج لهم آية من صخرة يقال لها الكائبة ناقة عشراء، فدعا الله فانشقت عن ناقة عظيمة، يروى أنها كانت حاملا، فولدت وهم ينظرون إليها سقبا قدرها، فعقرها قدار بن سالف، وهو أشقى الأولين. فَتَعاطى فَعَقَرَ «5» أي قام على أطراف أصابع رجليه، ثم رفع يديه فضربها. روي أن سيد ثمود جندع بن عمرو قال: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة، لصخرة منفردة في ناحية الحجر، يقال لها الكائبة، ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء. فصلى صالح ركعتين، ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، ثم تحركت فانصدعت عن ناقة مخترجة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 جوفاء وبراء وعشراء، كما وصفوا، لا يعلم ما بين جنبيها عظما إلا الله تعالى، وهم ينظرون ثم نتجت سقبا مثالها في العظم فآمن به جندع بن عمرو ورهط من قومه. فقال لهم صالح عليه السلام: هذه ناقة الله لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم. فمكثت الناقة، ومعها سقبها في أرض ثمود، ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا، فإذا كان يوم شربها، وضعت رأسها في بئر في الحجر، يقال لها بئر الناقة لا ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها، فلا تدع فيها قطرة، ثم ترفع رأسها فتتفحج لهم، فيحلبون منها ما شاؤوا من لبن، فيشربون ويدخرون ويملؤون أوانيهم كلها. ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه، لأنها لا تقدر أن تصدر من حيث جاءت. فإذا كان الغد كان يومهم، فيشربون من الماء ما شاؤوا، أو يدخرون ما شاؤوا فهم من ذلك في بر ودعة. وكانت الناقة تصيف، إذا كان الحر، بظهر الوادي، فتهرب منها المواشي إلى بطن الوادي، في حره وجدبه، وتشتو إذا كان الشتاء ببطن الوادي، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب، فأضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار، فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم، وحملهم ذلك على عقر الناقة، فعقرها قدار بن سالف، وهو أشقى الأولين. وكان أحمر أزرق قصيرا ملتزق الخلق، واسم أمه قديرة. روي أنه ولد على فراش سالف، ولم يكن من ظهره، فدعته امرأة يقال لها عنيزة، وكانت عجوزا مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وذات مال من إبل وبقر وغنم. وكان قدار عزيزا منيعا في قومه، فقالت له: أعطيك أي بناتي شئت، على أن تعقر الناقة. فانطلق قدار فكمن لها في أصل شجرة على طريقها، فلما مرت به شد عليها بالسيف فعقرها، فذلك قوله «1» تعالى: فَتَعاطى فَعَقَرَ أي قام على أطراف أصابع رجليه، ثم رفع يديه فضربها، فجرت ورغت رغاءة واحدة تحذر سقبها، فانطلق السقب حتى أتى جبلا منيعا، يقال له صنو. وأتى صالح عليه السلام فقيل له: أدرك الناقة، فقد عقرت، فأقبل وخرجوا يتلقونه يعتذرون إليه. ويقولون له: يا نبي الله إنما عقرها فلان، لا ذنب لنا. فقال: انظروا هل تدركون فصيلها، فإن أدركتموه فعسى أن يرفع عنكم العذاب، فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل فتطاول في السماء حتى ما يناله الطير. وقدار بضم القاف ثم دال مهملة مخففة ثم ألف ثم راء مهملة هكذا ذكره جميع أهل التواريخ وغيرهم. ووقع في المهذب، في باب الهدنة، أن اسمه العيزار بن سالف، وهو وهم بلا خلاف. وكان عقر الناقة يوم الأربعاء، فأصبحوا يوم الخميس ووجوههم مصفرة، كأنما طليت بالخلوق، صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وإنثاهم فأيقنوا بالعذاب، وكان صالح عليه الصلاة والسلام قد أخبرهم بذلك. وخرج هاربا منهم فشغلهم عنه ما نزل بهم، من عذاب الله، فجعل بعضهم يخبر بعضا ما يرون في وجوههم، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يوم من الأجل، فلما أصبحوا يوم الجمعة إذا وجوههم محمرة، كأنما خضبت بالدماء، فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى يومان من الأجل، فلما أصبحوا يوم السبت إذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فلما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 أمسوا صاحوا بأجمعهم ألا قد مضى الأجل وحضركم العذاب، فلما كان يوم الأحد، لما اشتد الضحى، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء له صوت يصوت به في الأرض، فقطعت قلوبهم في صدورهم، فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وكان الذي آمن بصالح عليه الصلاة والسلام من ثمود أربعة آلاف، فخرج بهم صالح إلى حضرموت، فلما حضرها صالح مات، فسميت حضرموت. ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضور. كذا قاله محمد بن اسحاق ووهب وجماعة. وقال قوم من أهل العلم: توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه عشرين سنة. وروى أحمد والطبراني والبزار بإسناد صحيح عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «لا تسألوا نبيكم الآيات فإن قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم آية فبعث الله لهم الناقة فكانت ترد من هذا الفج فتشرب ماءهم يوم ورودها وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروا الناقة، فقيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام أو قيل لهم: إن العذاب يأتيكم إلى ثلاثة أيام، ثم جاءتهم الصيحة فأهلكت من تحت أديم السماء منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدا كان في حرم الله تعالى فمنعه من عذاب الله عز وجل» . قالوا: يا رسول الله من هو؟ قال: «أبو رغال» . قيل: ومن أبو رغال؟ قال: «جد ثقيف» . وفي رواية فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب. وأراهم صلى الله عليه وسلم قبر أبي رغال، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم وحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن. وروى الطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «2» : «أشقى الناس ثلاثة: عاقر ناقة ثمود وابن آدم الأول الذي قتل أخاه، ما سفك على الأرض دم إلا لحقه منه إثم، لأنه أول من سن القتل وقاتل علي بن أبي طالب» . رضي الله تعالى عنه. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر، في غزوة تبوك، أمرهم أن لا يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقالوا: قد عجنا منها واستقينا. فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة. وفي رواية «3» جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين خشية أن يصيبكم مثل ما أصابهم» . وروى «4» مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله تعالى، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة مخطومة» . وروى «5» أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن أبي بن كعب قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 عاملا فمررت برجل، فلما جمع لي ماله لم أجد عليه فيه إلا ابنة مخاض، فقلت له: أدّ ابنة مخاض، فإنها صدقتك. فقال: ذاك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية سمينة فخذها فامتنع أبي بن كعب، وترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «ذاك الذي عليك فإن تطوعت فخير أجرك الله فيه وقبلناه منك» . قال: ها هي يا رسول الله قد جئتك بها فخذها، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له في ماله بالبركة. وفي كامل ابن عدي وسنن البيهقي وشعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، قال: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرسل ناقتي وأتوكل، أم أعقلها وأتوكل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بل اعقلها وتوكل» . وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: إن رجلا ادعى عليه عند النبي صلى الله عليه وسلم بسرقة ناقة، فقال: ما سرقتها. فقال صلى الله عليه وسلم: «احلف» فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما سرقتها. فنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه سرقها، ولكن غفر الله له كذبه، بصدقه بلا إله إلا هو. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أخذتها فردها إليه» فردها إليه. وفي رواية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله غفر لك كذبك بصدقك بلا إله إلا الله» . وروى «1» الحاكم عن النعمان بن سعد قال: كنا جلوسا عند علي رضي الله تعالى عنه، فقرأ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً «2» فقال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا يساقون سوقا، ولكن يؤتون بنوق من نوق الجنة، لم تنظر الخلائق إلى مثلها، رحالها الذهب وأزمتها الزبرجد، فيقعدون عليها حتى يقرعوا باب الجنة. ثم قال: صحيح الإسناد. وروى «3» الحاكم أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل أعرابي جهوري الصوت بدوي على ناقة حمراء، فأناخها بباب المسجد، ودخل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قعد فلما قضى نحبه، قالوا: يا رسول الله إن الناقة التي تحت الأعرابي سرقة قال صلى الله عليه وسلم: «أثمّ بينة» قالوا: نعم يا رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا علي خذ حق الله من الأعرابي إن قامت عليه البينة، وإن لم تقم فرده إلي» فأطرق الأعرابي ساعة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «قم يا أعرابي لأمر الله وإلا فأدل بحجتك» . فقالت الناقة من خلف الباب: والذي بعثك بالحق والكرامة يا رسول الله إن هذا ما سرقني وما ملكني أحد سواه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أعرابي بالذي أنطقها بعذرك ما الذي قلت» ؟ قال: قلت: اللهم إنك لست برب استحدثناك، ولا معك إله أعانك على خلقنا ولا معك رب فنشكّ في ربوبيتك، أنت ربنا كما نقول، وفوق ما يقول القائلون أسألك أن تصلي على محمد وأن تريني براءتي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «الذي بعثني بالكرامة يا أعرابي لقد رأيت الملائكة يبتدرون أفواه الأزقة يكتبون مقالتك فأكثر الصلاة علي» . ثم قال الحاكم: رواته ثقات، لكن فيهم يحيى بن عبد الله المصري، لست أعرفه بعدالة ولا جرح. وقد تقدم في البعير حديث رواه الطبراني قريب من هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وفي المستدرك أيضا، في ترجمة صهيب رضي الله عنه، عن كعب الأحبار، عن صهيب بن سنان، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو: «اللهم إنك لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه، ولا كان لنا قبلك من إله نلجأ إليه، ونذرك ولا أعانك على خلقنا أحد فنشركه معك، تباركت وتعاليت» «1» قال كعب الأحبار: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يدعو به، ثم قال: صحيح الإسناد. في المستدرك أيضا، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بأعرابي فأكرمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أعرابي سل حاجتك» . فقال: يا نبي الله ناقة نرحلها، وأعنزا يحلبها أهلي. فقال صلى الله عليه وسلم: «أعجز هذا أن يكون مثل عجوز بني إسرائيل» . قالوا: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «إن بني إسرائيل خرجوا من مصر، فضلوا الطريق، وأظلم عليهم، فقالوا: ما هذا؟ قال علماؤهم: إن يوسف عليه الصلاة والسلام، لما حضرته الوفاة، أخذ علينا موثقا من الله، أن لا نخرج حتى ننقل عظامه معنا، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: فمن يعلم موضع قبره؟ قالوا: عجوز لبني إسرائيل، فبعث إليها فأتته فقال: دليني على قبر يوسف، قالت: وتعطيني ما أسألك؟ فقال: وما سؤالك؟ قالت: أكون معك في الجنة. فكره أن يعطيها ذلك، فأوحى الله إليه أن أعطها حكمها، ففعل» . ورواه الطبراني وأبو يعلى الموصلي بنحوه. وفي رواية، في غير المستدرك أنها كانت مقعدة عمياء، وأنها قالت لموسى: لا أخبرك عن موضع قبره حتى تعطيني أربع خصال: تطلق رجلي وبصري وشبابي وأكون معك في الجنة. فأوحى الله إليه أن أعطها ما سألتك، فإن ما تعطي علي، ففعل. فانطلقت بهم إلى مستنقع ماء، فاستخرجته من شاطىء النيل، في صندوق من مرمر، فلما فكوا تابوته طلع القمر، وأضاءت الطريق مثل النهار، فاهتدوا وحملوه معهم إلى الشام فدفنه موسى عليه السلام عند آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلى الله عليهم وسلم. وعاش يوسف بعد أبيه يعقوب ثلاثا وعشرين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وفي المستدرك وغيره، عن معاذ رضي الله تعالى عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «2» : «من قاتل في سبيل الله قدر فواق ناقة وجبت له الجنة» . وفواق الناقة ما بين الحلبتين من الراحة وتضم فاؤه وتفتح. وفي الحديث أيضا: «عيادة المريض قدر فواق الناقة» . وفي أخبار معن بن زائدة الشيباني أن رجلا قال له: احملني أيها الأمير، فأمر له بناقة وفرس وبغل وحمار وجارية. ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا يحمل عليه غير هذا لحملتك عليه. وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وعمامة ودراعة وسراويل ومنديل ومطرف ورداء وكساء وجورب وكيس. ولو علمنا شيئا آخر يتخذ من الخز غير هذا لأعطيناك إياه. قال بعضهم: رحم الله معنا، لو كان يعلم أن الغلام يركب لأمر له به، ولكنه كان عربيا محضا لم يتدنس بقاذورات العجم. وذكر ابن خلكان في ترجمته أنه جلس يوما فرأى راكبا فقال: ما أحسب هذا يريد غيري، فلما وصل أنشد قائلا «3» : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا ألحّ دهر رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا «1» فقال: يا فلان ناقتي الفلانية وألف دينار، فدفعهما إليه وهو لا يعرفه. ومحاسن معن كثيرة، وتولى الولايات العظيمة، وتولى في آخر عمره سجستان، فبينما هو ذات يوم في داره والصناع يعملون بين يديه، اندس بينهم قوم من الخوارح فقتلوه وهو يحتجم وهربوا، فتبعهم ابن أخيه يزيد بن مزيد بن زائدة فقتلهم عن آخرهم. وكان قتله في سنة إحدى أو اثنتين أو ثمان وخمسين ومائة رحمه الله. ورثاه الشعراء بمراث كثيرة، فمن المراثي النادرة أبيات الحسن «2» بن مطر الأزدي، وهي في الحماسة منها: ألما على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا «3» فيا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرّ والبحر مترعا ويا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للمكارم مضجعا بلى وقد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدّعا فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مربعا ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا وحكمها : كالإبل. الأمثال : قالوا: «لا ناقتي «4» فيها ولا جملي» وأصل المثل للحارث بن عبادة. وقيل: أول من قاله صدوف بنت حليس العذرية، وخبرها مشهور في الأمثال. ومما أنشد في ذلك قول «5» الراعي: وما هجرتك حتى قلت معلنة ... لا ناقة لي في هذا ولا جمل وقال الطغرائي «6» في لاميته: فيم الإقامة بالزوراء لا سكني ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي يضرب عند التبري من الظلم أو الإساءة وأطال فيه أصحاب الأمثال، وقالوا: «استنوق الجمل» «7» أي صار ناقة، يضرب للرجل يكون في حديث أو صفة شيء ثم يخلطه بغيره. وينتقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 منه إليه. قال الجوهري: وأصله أن طرفة بن العبد، كان عند بعض الملوك، والمسيب بن عبس ينشد شعرا في وصف جمل، ثم حوله إلى نعت ناقة، فقال طرفة: قد استنوق الجمل. وخواصها : كالإبل أيضا. التعبير : الناقة في الرؤيا امرأة، فإن كانت من البخت فهي أعجمية، وإن كانت غير بختية فهي امرأة عربية. فمن رأى كأنه حلب ناقة تزوج امرأة صالحة، ومن كان متزوجا وحلب ناقة رزق ولدا ذكرا، وربما رزق بنتا. ومن رأى ناقة ومعها فصيلها، فإنه يدل على ظهور آية وفتنة عامة. وقال ابن سيرين: الناقة المحدوجة سفر في بر، ومن ركب ناقة مهرية في منامه سافر وقطع عليه الطريق. ومن حلب النوق في منامه فإنه يلي ولاية يجمع فيها الزكاة. ومن الرؤيا المعبرة أن ابن سيرين رحمه الله، أتاه رجل فقال له: رأيت رجلا يحلب من النوق البخت لبنا، ثم حلبها دما. فقال ابن سيرين: هذا رجل يتولى على الأعاجم ويجيبهم الزكاة وهي اللبن، ثم يظلمهم ويأخذ أموالهم غصبا، وهو الدم، فكان كذلك. ولحم النوق يدل على وفاء النذر لقول الله تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ «1» وهو لحم الجزور. وقيل: لحم الجزور في الرؤيا مصيبة، وقيل مرض، وقيل: رزق، لقول الله تعالى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ «2» ومن عقر ناقة في منامه ندم على أمر فعله، وناله منه مصيبة لقول «3» الله تعالى: فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ. وقيل: ركوب الناقة نكاح امرأة، فإن ركبها مقلوبا أتى امرأة في دبرها. ومن رأى ناقة صارت بغلة أو بعيرا، فإن زوجته لا تحمل أبدا. ومن ماتت ناقته ماتت امرأته، أو بطل سفره، وربما دلت الناقة على امرأة كثيرة الخصام، لكثرة رغائها. ومن رأى ناقة دخلت مدينة، فإنها فتنة لقول الله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ «4» فإذا عقرت ناقة في مدينة، أصاب أهلها نكبة والله أعلم. الناموس: البعوض وقد تقدم في باب الباء الموحدة، وقال أبو حامد الأندلسي: الناموس دويبة تلسع الناس، وقال الجوهري: وناموس الرجل سره الذي يطلعه على باطن أمره، ويخصه بما يستره عن غيره. قال الزبيدي: وهو مشتق من نمس بالكلام إذا أخفاه، يقال: نمس الصائد إذا اختفى في الدريئة انتهى. وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام الناموس الأكبر، لأنه يخفي الكلام حين يلقيه إلى الرسل عن الحاضرين، وفي الحديث أن ورقة بن نوفل قال لخديجة رضي الله تعالى عنها، وهو ابن عمها، وكان نصرانيا: لئن كان ما تقولين حقا، إنه ليأتيه الناموس الذي كان يأتي موسى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 وقد تقدم هذا في باب الفاء، في الفاعوس، وتقدم في الفاعوس الكلام على لفظ الناموس. وما جاء على وزن فاعول ولام الفعل منه سين. الناهض: فرخ العقاب، وقد تقدم ما في العقاب في باب العين المهملة. النباج: كرمان الهدهد الكثير القرقرة وسيأتي ما فيه في باب الهاء. النبر: بالكسر دويبة شبيهة بالقراد لكنها أصغر منه إذا دبت على البعير تورم مدبها، والجمع نبار وأنبار. قال «1» الراجز شبيب بن البرصاء «2» : كأنها من بدن وإيقار ... دبت عليها ذربات الأنبار ويروى: عاربات الأنبار، والأنبار أيضا ضرب من السباع، قاله ابن سيده. قال البطليوسي، في الشرح: ويروى هذا البيت بالفاء، وهو أفعال من الشيء الوافر، ويروى بالقاف يريد أنها أو قرت بالشحوم ومعنى الرواية الأولى، أن هذه من سمنها ووفورها دبت عليها الأنبار فلسعتها، وقوله ذربات، في معناها وجهان: أحدهما أنها الحديدة اللسع مأخوذة من قولهم: سكين ذرب ومذرب، أي حادة، والثاني أنها مسمومة، يقال: ذربت السهم إذا سقيته السم ويقال للسم الذرب انتهى. النجيب: من الإبل والخيل، ومن الرجال الكريم، والجمع نجباء وأنجاب والنجائب جمع نجيبة، روى «3» أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن عمر رضي الله تعالى عنه أهدي نجيبة فطلبت منه بثلاثمائة دينار، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يبيعها، ويشتري بثمنها بدنا. فنهاه عن ذلك، وقال: «بل انحرها» . وكذلك رواه الإمام أحمد والبخاري في تاريخه. وفي المثل: أنجبت المرأة إذا ولدت النجباء والمنتجب المختار من كل شيء. روى الحاكم في المستدرك، عن عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: لقد حج الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما خمسا وعشرين حجة ماشيا، وأن النجائب لتقاد بين يديه. وفي الحلية سئل محمد بن علي بن الحسين، المعروف بالباقر أحد الأئمة الإثني عشر، على رأي الإمامية، عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، فقال: أما علمت أن لكل قوم نجيبة، وأن نجيبة بني أمية عمر بن عبد العزيز، وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحده. وروى «4» الإمام أحمد والبزار والطبراني وغيرهم باختصار، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنه لم يكن نبي إلا وقد أعطي سبعة رفقاء نجباء ووزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة وجعفر، وعلي وحسن وحسين، وأبو بكر وعمر وعثمان، وعبد الله بن مسعود وأبوذر والمقداد، وعمار وسليمان وبلال» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 وفي بعض طرق الطبراني مصعب بن عمير، وفيه كثير الشواء، وهو من صغار التابعين، وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور وبقية رجاله ثقات. وفي الحديث: «إن الله يحب التاجر النجيب» أي الفاضل الكريم السخي. وقال «1» ابن مسعود: سورة الأنعام من نجائب القرآن أي من أفاضل سوره. النحام: طائر على خلقة الأوز، واحدته نحامة يكون آحادا وأزواجا في الطيران، وإذا أراد المبيت اجتمع رفوفا فذكوره تنام، وإناثه لا تنام، وتعد لها مبايت، فإذا نفرت من واحد ذهبت إلى آخر. ويقال: إن الأنثى تبيض من زق الذكر من غير سفاد، فإذا باضت نفرت. وبقي الذكر عند البيض، يذرق عليه فيقوم الذرق مقام الحضن، فإذا تمت مدته خرجت الفراخ لا حراك بها فتأتي الأنثى فتنفخ في مناقيرها حتى تجري الريح فيها روحا، ثم يتعاون الذكر والأنثى على التربية. وفي الذكر غلظ طبع وقلة وفاء، فإنه إذا رأى فراخه قد قويت على الطعم ضربها وطردها، فتذهب الأم معها فلا تقرب الذكر إلى وقت السفاد. الحكم : يحل أكله لأنه من الطيبات، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكله. روى ابن النجار، في ذيل تاريخ بغداد، في ترجمة سهل بن عبيد بن سورة الخراساني الأصبهاني أنه حدث عن اسماعيل بن هارون، عن الصعق بن حزن، عن مطر الوراق، قال «2» : أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم طير يقال له النحام فأكله واستطابه، وقال: «اللهم أدخل إلي أحب خلقك اليك» وأنس رضي الله تعالى عنه بالباب، فجاء علي رضي الله تعالى عنه، فقال: يا أنس استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه على حاجة، فدفع صدره ودخل، فقال رضي الله عنه: يوشك أن يحال بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم وال من والاه» . وفي الكامل لابن عدي، في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي، أن الطير المشوي كان حجلا. وفيه، في ترجمة جعفر بن ميمون، أنه كان حبارى. وفي المستدرك أن التي أهدته للنبي صلى الله عليه وسلم أم أيمن رضي الله تعالى عنها. قلت: حديث «3» الطير خرجه الترمذي، وقال: غريب. والبغوي في حسان المصابيح، وخرجه الحربي، وزاد بعد قوله: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم طير، وكان مما يعجبه أكله. وزاد بعد قوله فجاء علي بن أبي طالب فقال: استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عليه إذن، ولكن أحب أن يكون رجلا من الأنصار. ورواه الطبراني وأبو يعلى والبزار، من عدة طرق كلها ضعيفة. وخرجه عمر بن شاهين، ولم يذكر زيادة الحربي. وقال بعد قوله: فجاء علي فرددته: ثم جاء فرددته، فدخل في الثالثة أو في الرابعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ما حبسك عني أو ما أبطأك عني يا علي» ؟ قال: جئت فردني أنس ثم جئت فردني أنس، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أنس ما حملك على ما صنعت؟» قال: رجوت أن يكون رجلا من الأنصار. فقال صلى الله عليه وسلم: «يا أنس أوفي الأنصار خير من علي أو أفضل من علي» ؟. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 وعن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أهدت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم طيرين بين رغيفين، فقدمتهما إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك وإلى رسولك» . ثم ذكر معنى الحديث. قال الحاكم: وقد رواه عن أنس جماعة أكثر من ثلاثين نفسا. ثم صحت الرواية عن علي وأبي سعيد وسفينة وهو من الأحاديث المستدركة على المستدرك. قال الذهبي في تلخيصه: لقد كنت زمنا طويلا أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه فلما علقت هذا الكتاب، رأيت الهول من الموضوعات التي فيه والله أعلم. النحل: ذباب العسل، وقد تقدم في باب الذال المعجمة، في لفظ الذباب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تفسير سورة النساء: «الذباب كله في النار إلا النحل» «1» . وواحدة النحل نحلة كنخل ونخلة. وقرأ يحيى بن وثاب: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «2» بفتح الحاء. والجمهور بالإسكان. قال الزجاج: سميت نحلا لأن الله تعالى نحل الناس العسل، الذي يخرج منها، إذ النحلة العطية وكفاها شرفا قول الله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «3» فأوحى سبحانه إليها وأثنى عليها فعلمت مساقط الأنواء من وراء البيداء، فتقع هناك على كل حرارة عبقة، وزهرة أنقة، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا وتلقطه شرابا. قال القزويني، في عجائب المخلوقات: يقال ليوم عيد الفطر يوم الرحمة، إذ فيه أوحى الله إلى النحل صنعة العسل، فبين سبحانه أن في النحل أعظم اعتبار، وهو حيوان فهيم ذو كيس وشجاعة، ونظر في العواقب، ومعرفة بفصول السنة. وأوقات المطر، وتدبير المرتع والمطعم، والطاعة لكبيره، والاستكانة لأميره وقائده، وبديع الصنعة وعجيب الفطرة. قال أرسطو: النحل تسعة أصناف: منها ستة يأوي بعضها إلى بعض. قال: وغذاؤها من الفضول الحلوة والرطوبات التي يرشح بها الزهرة والورق، ويجمع ذلك كله ويدخره، وهو العسل وأوعيته، ويجمع مع ذلك رطوبات دسمة، يتخذ منها بيوت العسل، وهذه الدسومات هي الشمع، وهو يلقطها بخرطومه ويحملها على فخذيه، وينقلها من فخذيه إلى صلبه، هكذا قال. والقرآن يدل على أنها ترعى الزهر، فيستحيل في جوفها عسلا وتلقيه من أفواهها، فيجتمع منه القناطير المقنطرة قال الله تعالى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ «4» وقوله: مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ «5» المراد به بعضها، نظيره قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «6» يريد البعض واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمرعى، وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى. ومن هذا المعنى قول زينب رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: جرست نحلة العرفط، حين شبهت رائحته برائحة المغافير والحديث مشهور في الصحيحين وغيرهما. ومن شأنه في تدبير معاشه أنه إذا أصاب موضعا نقيا بنى فيه بيوتا من الشمع أولا، ثم بنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 البيوت التي تأوي فيها الملوك، ثم بيوت الذكور التي لا تعمل شيئا. والذكور أصغر جرما من الإناث وهي تكثر المادة داخل الخلية، وإن طارت فهي تخرج بأجمعها وترتفع في الهواء ثم تعود إلى الخلية. والنحل تعمل الشمع أولا، ثم تلقي البزر لأنه لها بمنزلة العش للطير، فإذا ألقته قعدت عليه وحضنته، كما يحضن الطير، فيكون من ذلك البزر دود أبيض، ثم ينهض الدود وتغذي نفسها ثم تطير، وهي لا تقعد على أزهار مختلفة بل على زهر واحد، وتملأ بعض البيوت عسلا وبعضها فراخا، ومن عادتها أنها إذا رأت فسادا من ملك، إما أن تعزله وإما أن تعزله وإما أن تقتله، وأكثر ما تقتل خارج الخلية. والملوك لا تخرج إلا مع جميع النحل، فإذا عجز الملك عن الطيران، حملته. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك، في آخر الكتاب، في لفظ اليعسوب. ومن خصائص الملك أنه ليس له حمة يلسع بها، وأفضل ملوكها الشقر، وأسوؤها الرقط بسواد. والنحل تجتمع فتقسم الأعمال فبعضها يعمل العسل، وبعضها يعمل الشمع، وبعضها يسقي الماء، وبعضها يبني البيوت، وبيوتها من أعجب الأشياء لأنها مبنية على الشكل المسدس الذي لا ينحرف، كأنه استنبط بقياس هندسي. ثم هو في دائرة مسدسة، لا يوجد فيها اختلاف، فبذلك اتصلت حتى صارت كالقطعة الواحدة، وذلك لأن الأشكال من الثلاث إلى العشر، إذا جمع كل واحد منها إلى أمثاله لم يتصل، وجاءت بينها فروج، إلا الشكل المسدس، فإنه إذا جمع إلى أمثاله اتصل، كأنه قطعة واحدة وكل هذا بغير مقياس منها ولا آلة ولا بركار، بل ذلك من أثر صنع اللطيف الخبير وإلهامه إياها، كما قال: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ الآية «1» . فتأمل كمال طاعتها وحسن امتثالها لأمر ربها، كيف اتخذت بيوتا في هذه الأمكنة الثلاثة الجبال والشجر وبيوت الناس حيث يعرشون؛ أي حيث يبنون العروش، فلا ترى للنحل بيتا في غير هذه الأمكنة الثلاثة البتة. وتأمل كيف كانت أكثر بيوتها في الجبال، وهي المتقدمة في الآية ثم الأشجار وهي دون ذلك، ثم فيما يعرش الناس وهي أقل بيوتها. فانظر كيف أداها حسن الامتثال إلى أن اتخذت البيوت قبل المرعى. فهي تتخذها أولا، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمرات، ثم أوت إلى بيوتها، لأن ربها سبحانه وتعالى أمرها باتخاذ البيوت أولا، ثم الأكل بعد ذلك، وقال في الإحياء: انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها، حتى اتخذت من الجبال بيوتا، وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء. ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار، واحترازها من النجاسات والأقذار، وطاعتها لواحد من جملتها، وهو أكبرها شخصا وهو أميرها، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والانصاف بينها، حتى إنه ليقتل منها على باب المنفذ، كل ما وقع منها على نجاسة، لقضيت من ذلك العجب، إن كنت بصيرا في نفسك، وفارغا من هم بطنك وفرجك، وشهوات نفسك، في معاداة أقرانك، وموالاة إخوانك. ثم دع عنك جميع ذلك، وانظر إلى بنيانها بيتا من الشمع، واختيارها من جميع الأشكال، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 الشكل المسدس، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا، بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك، وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير، وما يقرب منه فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة، وشكل النحل مستدير مستطيل، فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة. ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة، فإن الأشكال المستديرة، إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة، بحيث لا يبقى بعد اجتماعها فرجة، إلا المسدس. وهذه خاصية هذا الشكل، فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل على صغر جرمه ذلك لطفا به وعناية بوجوده، فيما هو محتاج إليه ليهنأ عيشه. فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه. وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض، ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا، ويلسع من دنا من الخلية، وربما هلك المسلوع، وإذا هلك شيء منها داخل الخلايا، أخرجته الأحياء إلى خارج، وفي طبعه أيضا النظافة، فلذلك يخرج رجيعه من الخلية، لأنه منتن الريح. وهو يعمل زماني الربيع والخريف، والذي يعمله في الربيع أجود. والصغير أعمل من الكبير، وهو يشرب من الماء ما كان صافيا عذبا، يطلبه حيث كان، ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعه، وإذا قل العسل في الخلية، قذفه بالماء ليكثر، خوفا على نفسه من نفاده، لأنه إذا نفد، أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور، وربما قتلت ما كان منها هناك. قال حكيم من اليونان لتلامذته: كونوا كالنحل في الخلايا، قالوا: وكيف النحل في الخلايا؟ قال: إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته، وأقصته عن الخلية، لأنه يضيق المكان، ويفني العسل، ويعلم النشيط الكسل. والنحل يسلخ جلده كالحيات، وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ويضره السوس. ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح، وأن يفتح في كل شهر مرة، ويدخن باخثاء البقر. وفي طبعه أنه متى طار من الخلية يرعى ثم يعود، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه. وأهل مصر يحولون الخلايا في السفن ويسافرون بها إلى مواضع الزهر والشجر، فإذا اجتمع في المرعى فتحت أبواب الخلايا، فيخرج النحل منها ويرعى يومه أجمع، فإذا أمسى عاد إلى السفينة وأخذت كل نحلة منها مكانها من الخلية لا تتغير عنه. روى «1» الإمام أحمد والحاكم والترمذي والنسائي، من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا نزل عليه الوحي، سمع عنده دوي كدوي النحل، فنزل عليه صلى الله عليه وسلم يوما، فمكثنا ساعة، ثم سري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لقد أنزل الله علي عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة» . ثم قرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ «2» الآيات. قال: صحيح الإسناد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 قال النحاس: معنى أقامهن، عمل بهن ولم يخالف ما فيهن، كما يقال: فلان يقوم بعمله. وروى البيهقي من حديث أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا، لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها: تكلمي، فقالت: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «1» . وروى «2» ابن ماجه، عن أبي بشر بكر بن خلف قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن موسى بن أبي عيسى الطحان، عن عون بن عبد الله، عن أبيه أو عن أخيه عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مما تذكرون من جلال الله التسبيح والتهليل والتحميد، ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل، تذكر بصاحبها. أما يحب أحدكم أن يكون له أو لا يزال له من يذكر به» ؟ ورواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. والدوي صوت ليس بالعالي. وفي حديث الإيمان: يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقوله. وفي المستدرك عن أبي سبرة الهذلي، قال: قال عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما فحدثني حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهمته وكتبته بيدي: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما حدث به عبد الله بن عمرو عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش، ولا سوء الجوار ولا قطيعة الرحم» . ثم قال «3» صلى الله عليه وسلم: «إنما مثل المؤمن كمثل النحلة، وقعت فأكلت طيبا، ثم سقطت ولم تفسد ولم تكسر، ومثل المؤمن كمثل القطعة الذهب الأحمر، أدخلت النار فنفخ عليها فلم تتغير ووزنت فلم تنقص. فذلك مثل المؤمن» . ثم قال: صحيح الإسناد. وفي المعجم الأوسط للطبراني بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل بلال كمثل النحلة، غدت تأكل من الحلو والمر ثم هو حلو كله» . وروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن كالنحلة تأكل طيبا وتضع طيبا، وقعت فلم تكسر ولم تفسد» . وفي شعب البيهقي، عن مجاهد، قال: صاحبت عمر رضي الله تعالى عنه من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث: «إن مثل المؤمن كمثل النحلة إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك وكل شأنه منافع، وكذلك النحلة كل شأنها منافع» . قال ابن الأثير: وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة، حذق النحل وفطنته، وقلة أذاه وخفارته ومنفعته، وقنوعه وسعيه في النهار، وتنزهه عن الأقذار، وطيب أكله، فإنه لا يأكل من كسب غيره، ونحوله وطاعته لأميره. وإن للنحل آفات تقطعه عن عمله، منها: الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفتر به عن علمه منها: ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء السعة، ونار الهوى انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 وفي مسند الدارمي، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كونوا في الناس كالنحلة في الطير إنه ليس في الطير شيء إلا وهو يستضعفها، ولو تعلم الطير ما في أجوافها من البركة، ما فعلت ذلك بها. خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم. فإن للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب. وفيه «1» أيضا، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه سأل كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ فقال كعب: نجده محمد بن عبد الله، يولد بمكة ويهاجر إلى طيبة، ويكون ملكه بالشام، ليس بفحاش ولا صخاب في الأسواق، ولا يكافىء بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون، يحمدون الله في كل سراء وضراء يوضئون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم، دويهم في مساجدهم كدوي النحل، يسمع مناديهم في جو السماء. غريبة : ذكر ابن خلكان، في ترجمة «2» عبد المؤمن بن علي ملك الغرب، أن أباه كان يعمل الطين فخارا، وأنه كان في صغره نائما في دار أبيه، وأبوه يعمل في الطين، فسمع أبوه دويا في السماء، فرفع رأسه فرأى سحابة سوداء من النحل قد هوت مطبقة على الدار، فاجتمعت كلها على ولده وهو نائم، فغطته وأقامت عليه مدة، ثم ارتفعت عنه وما تألم منها. وكان بالقرب منهم رجل يعرف الزجر فأخبره أبوه بذلك، فقال: يوشك أن يجتمع على ولدك جميع أهل المغرب، فكان كذلك. وكان من أمر ولده ما اشتهر من ملك المغرب الأعلى والأدنى، ومات عبد المؤمن في جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة. وقد تقدمت الإشارة إلى ذكر موته، في باب الجيم، في الجفرة. وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: تحقيرا للدنيا أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه فيها رجيع نحلة. وظاهر هذا أنه من غير الفم، كذا نقله عنه ابن عطية. والمعروف عنه أنه قال: إنما الدنيا ستة أشياء: مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم، فأشرف المطعوم العسل، وهو مذقة ذباب، وأشرف المشروب الماء، ويستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوس الحرير، وهو نسج دودة، وأشرف المركوب الفرس، وعليه تقتل الرجال، وأشرف المشموم المسك، وهو دم حيوان، وأشرف المنكوح المرأة، وهو مبال في مبال. والمحقق أن العسل يخرج من بطونها، لكن لا يدري أمن فمها أو من غيره، لكن لا يتم صلاحه إلا بحمي أنفاسها. فقد صنع ارسطاطالبس بيتا من زجاج لينظر إلى كيفية ما تصنع فأبت أن تعمل حتى لطخته من باطن الزجاج بالطين كذا قاله الغزنوي وغيره. وروينا في تفسير الكواشي الأوسط، أن العسل ينزل من السماء فيثبت في أماكن من الأرض فيأتي النحل فيشربه، ثم يأتي الخلية، فيلقيه في الشمع المهيأ للعسل في الخلية، لا كما يتوهمه بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 الناس من أن العسل من فضلات الغذاء، وأنه قد استحال في المعدة عسلا، هذه عبارته. والله أعلم. لطيفة : اعلم أن الله تعالى جمع في النحلة السم والعسل دليلا على كمال قدرته، وأخرج منها العسل ممزوجا بالشمع. وكذلك عمل المؤمن ممزوجا بالخوف والرجاء. وفي العسل ثلاثة أشياء: الشفاء والحلاوة واللين، وكذلك المؤمن، قال «1» الله تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ويخرج من الشاب خلاف ما يخرج من الكهل والشيخ، وكذلك حال المقتصد والسابق، وأمرها الله تعالى بأكل الحلال، حتى صار لعابها شفاء ودواء. وكل الذباب في النار إلا النحل. ودواء الأطباء مر، ودواء الله حلو وهو العسل. وهي تأكل من كل الشجر، ولا يخرج منها إلا حلوا، ولا يغيرها اختلاف مأكلها. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه وقوله «2» تعالى: فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ لا يقتضي العموم لكل علة، وفي كل إنسان، لأنه نكرة في سياق الإثبات، بل هو خبر عن أنه يشفي كما يشفي غيره من الأدوية في حال دون حال. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه كان لا يشكو شيئا إلا تداوى بالعسل، حتى كان يدهن به الدمل والقرحة والقرصة، ويقرأ هذه الآيات، وهذا يقتضي أنه كان يحمله على العموم. وروى ابن ماجه والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل» . وروى «4» ابن ماجه أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لعق من العسل ثلاث غدوات من كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء» . وحكى النقاش عن أبي وجرة أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى به من كل سقم. وروي أيضا عن عوف بن ملك رضي الله تعالى عنه أنه مرض فقال: ائتوني بماء فإن الله تعالى يقول «5» : وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً ثم قال: وائتوني بعسل وقرأ الآية، ثم قال: ائتوني بزيت فإنه من شجرة مباركة. فخلط الجميع ثم شربه فشفي. وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال عليه الصلاة والسلام: «اسقه عسلا» فسقاه، ثم جاءه فقال: يا رسول الله إني قد سقيته عسلا، فلم يزده إلا استطلاقا فقال عليه الصلاة والسلام: «اسقه عسلا» . ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال صلى الله عليه وسلم «اسقه عسلا» . قال: قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا، فقال عليه الصلاة والسلام: «صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا» فسقاه «6» فبرىء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 فائدة : قد اعترض في هذا الحديث، وفي قوله «1» صلى الله عليه وسلم: «عليكم بهذا العود الهندي» يعني الكست، فإن فيه سبعة أشفية: منها ذات الجنب، وقوله «2» صلى الله عليه وسلم: «الحمى من فيح جهنم فاطفؤها بالماء» ، وقوله «3» صلى الله عليه وسلم: «إن في الحبة السوداء الشفاء من كل داء إلا السام» يعني الموت. وقوله «4» صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين» . أما من في قلبه مرض من الملحدة فقال: الأطباء مجمعون على أن العسل مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال؟ ومجمعون أيضا على أن استعمال المحموم الماء البارد مخاطرة، وقرب من الهلاك، لأنه يجمع المسام ويحقن البخار المتحلل، ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم، فيكون سببا للتلف، وينكرون أيضا مداواة ذات الجنب بالقسط مع ما فيه من الحرارة الشديدة، ويرون ذلك خطرا، وهذا الذي قاله المعترض الملحد جهالة بينة وهو فيها كما قال الله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ «5» ونحن نشرح الأحاديث المذكورة في هذا الموضع، ونذكر ما قاله الأطباء في ذلك ليظهر جهل هذا المعترض. اعلم أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل حتى إن المريض يكون الشيء الواحد دواء له في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها بعارض يعرض له، من غضب يحمي مزاجه فيتغير علاجه، أو هواء يتغير، أو غير ذلك مما لا يحصى كثرة. فإذا وجد الشفاء بشيء في حالة ما لشخص ما، لم يلزم منه الشفاء به في سائر الأحوال ولجميع الأشخاص، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه، باختلاف السن والزمان والعادة، والغذاء المتقدم، والتدبير المألوف، وقوة الطباع. فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها الإسهال الحادث من التخم والهيضات. وقد أجمع الأطباء، في مثل هذا، على أن علاجه بأن تترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى معين على الإسهال، أعينت مادامت القوة باقية، وأما حبسها فضرر عندهم. واستعجال مرض، فيحتمل أن يكون هذا الإسهال لهذا الشخص المذكور في الحديث، كان من امتلاء هيضة، فدواؤه ترك الإسهال على ما هو عليه، أو تقويته فأمره صلى الله عليه وسلم بأن يسقيه عسلا فزاده إسهالا، فزاده عسلا إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال. أو يكون الخلط الذي به، كان يوافقه شراب العسل، فثبت بما ذكرناه أن العسل جار على صناعة الطب، وأن المعترض عليه ملحد جاهل بصناعة الطب، ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث، بقول الأطباء، بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم. فلو وجدنا المشاهدة تصدق دعواهم لتأولنا كلامه صلى الله عليه وسلم حينئذ وخرجناه على ما يصح. وقد ذكرنا هذا الجواب وما بعده، عدة للحاجة إن اعتضدوا بمشاهدة، وليظهر جهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 المعترض، وأنه لا يحسن الصناعة التي اعترض بها، وانتسب إليها. وكذلك القول في الماء البارد للمحموم، فإن المعترض تقوّل على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل أكثر من قوله «1» : «أطفئوها بالماء» ولم يبين صفته وحاله، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها يسقى الماء البارد الشديد البرودة، ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى. وأما إنكاره الشفاء من ذات الجنب بالقسط فباطل أيضا. فقد قال بعض الأطباء: إن ذات الجنب، إذا حدثت من البلغم، كان القسط من علاجها. وقد ذكر جالينوس وغيره من حذاق الأطباء، أنه ينفع من وجع الصدر. وقال بعض قدماء الأطباء: إنه يستعمل حيث يحتاج إلى إسخان عضو من الأعضاء، وحيث يحتاج إلى جذب خلط من باطن البدن إلى ظاهره. وهكذا قال الرئيس ابن سينا وغيره من فحول الأطباء، وهذا يبطل ما زعمه هذا المعترض الملحد. وأما قوله «2» صلى الله عليه وسلم: «فيه سبعة أشفية» فقد أطبق الأطباء في كتبهم، على أنه يدر الطمث والبول، وينفع من السموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود وحب القرع، الذي في الأمعاء، إذا شرب بعسل، ويذهب الكلف، إذا طلي عليه. وينفع من برودة المعدة والكبد، ومن الحمى الورد والربع وغير ذلك. وهو صنفان: بحري وهندي، فالبحري هو القسط الأبيض، وقيل هو أكثر من صنفين ونص بعضهم على أن البحري أفضل من الهندي، وأقل حرارة منه، وقيل: هما حاران يابسان في الدرجة الثالثة، والهندي أشد حرارة منه فيها. وقال الرئيس ابن سينا: القسط حار في الثالثة، يابس في الثانية. وقد اتفق الأطباء على هذه المنافع التي ذكرناها في القسط، وهو العود الهندي المذكور في الحديث، فصار ممدوحا شرعا وطبا. وإنما عددنا منافع القسط من كتب الأطباء، لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر منها عددا مجملا. وأما قوله «3» صلى الله عليه وسلم «في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام» فيحمل أيضا على العلل الباردة على نحو ما سبق في القسط، وهو صلى الله عليه وسلم قد يصف بحسب ما شاهده من غالب حال أصحابه، قال الإمام المازري، وقال شيخ الإسلام محيي الدين النووي، وذكر القاضي عياض كلام المازري الذي قدمناه، ثم قال: وذكر الأطباء في منفعة الحبة السوداء، التي هي الشونيز، أشياء كثيرة، وخواص عجيبة، يصدقها قوله صلى الله عليه وسلم. فذكر جالينوس أنها تحلل النفخ، وتقتل ديدان البطن، إذا أكلت أو وضعت على البطن، وتنفع الزكام إذا قليت وصرت في خرقة وشمت، وتزيل العلة التي ينقش منها الجلد، وتقطع الثآليل المعلقة والمنكسة والخيلان، وتدر الطمث المنحبس، إذا كان احتباسه من أخلاط غليظة لزجة، وتنفع الصداع إذا طلي بها الجبين، وتقطع البثور والجرب، وتدر البول واللبن، وتحلل الأورام البلغمية، إذا تضمد بها مع خل. وتنفع من الماء العارض في العين إذا سقط بها مسحوقة بدهن، وهي تنفع من انصباب المواد أيضا، ويتمضمض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 بها من وجع الأسنان، وتنفع من نهش الرتيلاء. وإذا بخر بها طردت الهوام. قال القاضي: وذكر جالينوس أن من خاصيتها إذهاب حمى البلغم والسوداء، وتقتل حب القرع. وإذا علق الشونيز في عنق المزكوم ينفعه، وينفع من حمى الربع. قال: ولا تبعد منفعته من أدوية حارة لخواص فيها فقد نجد ذلك في أدوية كثيرة فيكون الشونيز منها لعموم الحديث، ويكون استعماله أحيانا منفردا وأحيانا مركبا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الكمأة، وهي بفتح الكاف وإسكان الميم وبعدها همزة مفتوحة: و «ماؤها شفاء للعين» قيل: هو نفس الماء مجردا، وقيل: معناه أن يخلط ماؤها بدواء يعالج به العين، وقيل: إن كان لتبريد ما في العين من حرارة، فماؤها مجردا شفاء، وإن كان لغير ذلك فيركب مع غيره. قال الإمام النووي: والصحيح، بل الصواب أن ماءها مجردا شفاء للعين مطلقا، فيعصر ماؤها، ويجعل في العين منه. قال: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان أعمى وذهب بصره حقيقة، فكحل عينيه بماء الكمأة مجردا، فبرىء وعاد بصره إليه. وهو الشيخ العدل الإمام الكمال الدمشقي صاحب فقه ورواية للحديث. وكان استعماله ماء الكمأة اعتقادا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وتبركا به، فشفاه الله لذلك. ففي هذا الحديث والأحاديث المتقدمة بيان لما حواه النبي صلى الله عليه وسلم من علوم الدين والدنيا، وصحة علم الطب، وجواز التطبب في الجملة، واستحبابه لما ذكر في الأحاديث الصحيحة من الحجامة وشرب الأدوية والسعوط، وقطع العروق والرقى وغير ذلك من الأدوية، ولا خفاء أن لله تعالى في مخلوقاته حكما وأسرارا، ولم يخلق جل جلاله داء إلا وخلق له دواء علمه من علمه وجهله من جهله والله أعلم. وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية «1» وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ إنما يراد بها أهل البيت من بني هاشم، وأنهم النحل وأن الشراب هو القرآن، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس أبي جعفر المنصور فقال له رجل: جعل الله طعامه وشرابه مما يخرج من بطون بني هاشم، فأضحك الحاضرين وأبهت القائل. فائدة أخرى : اعلم أن للعسل أسماء كثيرة منها السنوت كسفود وسنور، وفي الحديث «2» «عليكم بالسنى والسنوت» ومنها السلوى لأنه يسلي عن كل حلو، قال خالد بن زهير الهذلي: وقاسمها بالله جهد الأنتم ... ألذّ من السلوى إذا ما نشورها ومن أسمائه الحافظ والأمين، لأنه يحفظ ما يودع فيه، فيحفظ الميت أبدا واللحم ثلاثة أشهر، والفاكهة ستة أشهر. روى «3» أصحاب الكتب الستة، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 «كان يحب الحلواء، ويشرب العسل» . قال العلماء: المراد بالحلواء هنا كل حلو، وذكر العسل بعدها تنبيها على شرفه ومرتبته ومزيته، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام. والحلواء بالمد، وفيه جواز أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق، وأن ذلك لا ينافي الزهد والمراقبة لا سيما إذا حصل ذلك اتفاقا. وفي تاريخ أصبهان، في ترجمة أحمد بن الحسن، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول نعمة ترفع من الأرض العسل» . وكان مالك بن الحارث بن عبد يغوث النخعي الكوفي، المعروف بالأشتر من شيعة أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، وكان تابعيا رئيس قومه، وله بلاء حسن في وقعه اليرموك، وذهبت عينه يومئذ، وكان فيمن شهد حصار عثمان رضي الله تعالى عنه، وشهد وقعة الجمل وصفين. وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا رآه صرف نظره عنه وقال: كفى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم شره. ولاه علي رضي الله تعالى عنه مصر، بعد قيس بن سعد بن عبادة بن دليم، فلما وصل إلى القلزم شرب شربة عسل فمات. فلما بلغ ذلك عليا رضي الله تعالى عنه، قال: لليدين والفم. وقال عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، حين بلغه ذلك: إن لله جنودا من العسل. وقيل: إن الذي قال ذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما. وهو الذي سمه. وقيل: إن الذي سمه كان عبدا لعثمان رضي الله تعالى عنه. وكانت وفاته في شهر رجب سنة سبع وثلاثين. روى له النسائي حديثين. وفي أخبار الحجاج بن يوسف أنه كتب إلى عامله بفارس: أرسل إلي من عسل خلار من النحل الأبكار، ومن الدستفشار الذي لم تمسه النار. يريد بالأبكار فراخ النحل، لأن عسلها أطيب وأصفى. وخلار موضع بفارس مشهور بجودة العسل والدستفشار كلمة فارسية معناها ما عصرته الأيدي. الحكم : كره مجاهد قتل النحل، ويحرم أكلها على الأصح، وإن كان عسلها حلالا، كالآدمية لبنها حلال ولحمها حرام. وأباح بعض السلف أكلها كالجرادة، وهو وجه ضعيف في المذهب. ويحرم قتلها، والدليل على الحرمة نهي «1» النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها. وفي الإبانة، في كتاب الحج، يكره قتلها، وما ذكره الفوراني في الإنابة من الكراهة وذكره غيره من التحريم مفرع، على منع الأكل، فإن أبحناه جاز قتله كالجراد، وكان القياس جواز قتل النحل، لأنه من ذوات الإبر، وما فيه من المنفعة يعارض بالضرر، لأنه يصول ويلدغ الآدمي وغيره. وقد ذكر الرافعي، في كتاب الحج، أنه يجوز قتل الصقر والبازي من الجوارح ونحوها كما تقدم في الكلام عليها، في أماكنها، وعلله بأن المنفعة فيها معارضة بالمضرة، وهو اصطيادها طيور الناس، فجعلوا المضرة التي فيها مبيحة لقتلها، ولم يجعلوا المنفعة التي فيها عاصمة من القتل. إلا أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل النحل» «2» ، كما تقدم، ولا شيء في قوله صلى الله عليه وسلم إلا طاعة الله بالتسليم لأمره صلى الله عليه وسلم. وأما بيع النحل، وهو في الكوارة فصحيح إن رؤى جميعه، وإلا فهو بيع غائب، فإن باعها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 وهي طائرة ففي التتمة يصح، وفي التهذيب عكسه. وصورة المسألة أن تكون الأم في الكوارة كما قاله ابن الرفعة، وإلا صح من الوجهين الصحة. والفرق بينها وبين باقي الطير من وجهين: أحدهما أنها لا تقصد بالجوارح بخلاف غيرها، والثاني أنها لا تأكل في الغالب والعادة إلا مما ترعاه، فلو توفق في صحة البيع على حبسها لربما أضر بها أو تعذر بسببه بيعها، بخلاف غيرها من الطيور. وقال أبو حنيفة: لا يصح بيع النحل كالزنبور وسائر الحشرات، واحتج أصحابنا بأنه حيوان طاهر منتفع به، فجاز بيعه كالشاة والحمام بخلاف الزنبور والحشرات، فإنه لا منفعة فيها كدود القز، ويبقى لها في الكوارة شيئا من العسل، فإن كان الاشتيار في الشتاء وتعذر الخروج، يكون المبقي أكثر. فإن أغنى عن العسل غيره، لم يتعين إبقاء العسل. وقد قيل تشوى دجاجة وتعلق على باب الكوارة لتأكل منها. الأمثال : قالوا: «أنحل من نحلة» مأخوذ من النحول وهو الهزال، وقالوا: «أهدى من نحلة» وقالوا: «كلام كالعسل وفعل كالأسل» «1» وهي الرماح يضرب في اختلاف القول والفعل. الخواص : العسل حر يابس، جيده الشهد وهو مدر للبول مسهل يهيج القيء. وهو معطش ويستحيل إلى الصفراء يولد دما حارا، فإن طبخ بالماء ونزعت رغوته ذهبت حدته، وقلت حلاوته ونفعه، وكثر غذاؤه وإدراره للبول واطلاقه، وأجوده الخريفي الصادق الحلاوة، والكثير الربيعي المائل إلى الحمرة. ويدفع مضرته التفاح المز، وكل ما أسرع إليه الفساد من لحم وغيره إذا وضع في العسل طالت مدة مقامه، وإذا خلط العسل الذي لم يصبه ماء ولا نار ولا دخان بشيء من المسك واكتحل به نفع من نزول الماء في العين، والتلطخ به يقتل القمل والصئبان، ولعقه علاج لعضة الكلب الكلب، والمطبوخ منه نافع من السموم، ومن خاصية الشمع أن من استصحبه وقيل أكله أورثه الغم لكن لا يصيبه الاحتلام. التعبير : النحل في الرؤيا خصب وغنى لمن قناه مع خطر، ومن رأى كوارة نحل واستخرج منها عسلا نال مالا حلالا، فإن أخذ العسل كله ولم يترك للنحل شيئا، فإنه يجوز على قوم، فإن ترك للنحل شيئا فإنه يعدل إن كان واليا أو طالب حق، ومن رأى النحل يقع على رأسه نال ولاية ورياسة، وإن رأى ذلك ملك نال ملكا، وكذلك إذا حل بيده. والنحل للفلاحين دليل خير، وأما الجندي وغير الفلاحين فدليل مخاصمة، وذلك لصوته ولدغه. والنحل يدل على العسكر، لأنه أميره كما يتبع العسكر أميره. ومن قتل نحلا فهو عدو، ولا يحمد قتل النحل للفلاح، لأنه رزقه ومعاشه. والنحل يدل على العلماء وأصحاب التصنيف، وربما دل على الكد والكسب والجباية. وأما العسل فإنه في المنام مال حلال بلا تعب، وهو شفاء من المرض لقوله «2» تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ومن رأى أنه يطعم الناس العسل، فإنه يسمعهم الكلام الحسن والقرآن بلحن طيب، ومن رأى كأنه يلعق عسلا فإنه يتزوج، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 لقوله «1» صلى الله عليه وسلم لامرأة رفاعة رضي الله عنهما: «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» . وأكل العسل عناق حبيب وتقبيله. وأما الشهد فإنه ميراث من حلال أو مال من شركة، وقال ابن سيرين: الشهد رزق حلال لأن النار لا تمسه، ومن رأى بين يديه شهدا موضوعا، فإن عنده علما عزيزا والناس يريدون سماعه منه، والشهد إذا كان وحده، فهو مال من غنيمة، فإن كان في وعاء فهو رجل صاحب علم ومال حلال، وهو للزاهد الغني مال وبر ودين، ومن رأى كأنه يأكل الشهد وفوقه العسل، فإنه ينكح أمة والله تعالى أعلم. النحوص: بفتح النون وضم الحاء والصاد المهملتين الأتان الحائل، والجمع نحص ونحاص. النسر: طائر معروف وجمعه في القلة أنسر، وفي الكثرة نسور، وكنيته أبو الأبرد وأبو الأصبع وأبو مالك وأبو المنهال وأبو يحيى، والأنثى يقال لها أم قشعم. وسمي نسرا لأنه ينسر الشيء ويبتلعه، وهو عريف الطير، ويقول في صياحه: ابن آدم عش ما شئت، فإن الموت ملاقيك. كذا قاله الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما. قلت: وفي هذا مناسبة لما خص النسر به من طول العمر، يقال: إنه من أطول الطير عمرا، وأنه يعمر ألف سنة، وقصة لبد تأتي إن شاء الله تعالى، في الأمثال. والنسر ذو منسر، وليس بذي مخلب، وإنما له أظفار حداد كالمخالب. والبازي والنسر يسفدان كما يسفد الديك. وزعم قوم أن الأنثى من هذا النوع، تبيض من نظر الذكر إليها، وهي لا تحضن وإنما تبيض في الأماكن العالية الضاحية للشمس، فيقوم حر الشمس للبيض مقام الحضن، وهو حاد البصر يرى الجيفة من أربعمائة فرسخ، وكذلك حاسة شمه في النهاية، لكنه إذا شم الطيب مات لوقته، وهو أشد الطير طيرانا، وأقواها جناحا، حتى إنه ليطير ما بين المشرق والمغرب في يوم واحد، وإذا وقع على جيفة وعليها عقبان تأخرت، ولم تأكل مادام يأكل منها، وكل الجوارح تخافه، وهو شره نهم رغيب إذا وقع على جيفة وامتلأ منها، لم يستطع الطيران حتى يثب وثبات، يرفع بها نفسه طبقة بعد طبقة في الهواء حتى يدخل تحت الريح، وربما صاده الضعيف من الناس في هذه الحالة، والأنثى منه تخاف على بيضها وفراخها الخفاش، فتفرش في وكرها ورق الدلب لينفر منه، وهو من أشد الطير حزنا على فراق إلفه، فإذا فارق أحدهما الآخر مات حزنا وكمدا. ومن غريب ما ألهم أنه إذا حملت أنثاه، ذهب إلى الهند فأخذ من هناك حجرا كهيئة الجوزة، إذا حرك سمع له حس حجرا آخر متحرك، كصوت الجرس فإذا جعله عليها أو تحتها أذهب عنها العسر، وهذا بعينه قاله القزويني في العقاب، وقد تقدم في باب العين. وليس في سباع الطير أكبر جثة منه، ويقال للنسر أيضا أبو الطير قال الشاعر: فلا وأبي الطير المريه في الضحى ... على خالد لقد وقعت على لحم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 والنسر سيد الطير، روى اليافعي، في كتاب نفحات الأزهار ولمحات الأنوار، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أنه قال: سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هبط علي جبريل فقال: يا محمد إن لكل شيء سيدا، فسيد البشر آدم، وسيد ولد آدم أنت، وسيد الروم صهيب، وسيد فارس سليمان، وسيد الحبش بلال، وسيد الشجر السدر، وسيد الطير النسر، وسيد الشهور رمضان، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام العربية، وسيد العربية القرآن، وسيد القرآن سورة البقرة» . وروى الطبراني، في معجمه الأوسط، عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا رب أخبرني بأكرم خلقك عليك» ؟ فقال جلا وعلا: الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه. والحديث يأتي إن شاء الله تعالى بتمامه في النمر. وفي شعب الإيمان للبيهقي، عن علي بن هارون العبدي، قال: سمعت الجنيد رضي الله عنه يقول: حق الشكر أن لا يعصي الله فيما أنعم، ومن كان لسانه رطبا بذكر الله تعالى، دخل الجنة وهو يضحك. وقال: إن لله عبادا يأوون إلى ذكر الله، كما يأوي النسر إلى وكره. وفي الحلية، في ترجمة وهب بن منبه وغيرها، عن وهب بن منبه، قال: إن بختنصر مسخ أسدا فكان ملك السباع، ثم مسخ نسرا فكان ملك الطير، ثم مسخ ثورا فكان ملك الدواب. وكان مسخه سبع سنين، وقلبه في ذلك كله قلب إنسان، وهو في ذلك كله يعقل عقل الإنسان، وكان ملكه قائما. ثم رده الله إلى بشريته، ورد عليه روحه، فدعا إلى توحيد الله وقال: كل إله باطل إلا الله إله السماء. فقيل لوهب: أمات مسلما؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: آمن قبل أن يموت. وقال بعضهم: قتل الأنبياء، وخرب بيت الله المقدس، وأحرق كتبه، فغضب الله عليه فلم يقبل منه التوبة انتهى. قال السدي: إن بختنصر، لما رجع إلى صورته، ورد الله عليه ملكه، كان دانيال وأصحابه، من أكرم الناس عليه، فحسدتهم المجوس، وقالوا لبختنصر: إن دانيال إذا شرب لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عارا، فجعل لهم طعاما فأكلوا وشربوا، وقال للبواب: انظر أول من يخرج للبول، فاضربه بالطبر، فإن قال: أنا بختنصر، فقل: كذبت! بختنصر أمرني بقتلك، فكان أول من قام للبول بختنصر، فلما رآه البواب، شد عليه فقال: أنا بختنصر، فقال البواب: كذبت بختنصر أمرني بقتلك، ثم ضربه فقتله. هكذا قال أصحاب المبتدا. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن نمرود الجبار، لما حاج إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ربه، قال: إن كان ما يقوله إبراهيم حقا، فلا أنتهي حتى أصعد إلى السماء فأعلم ما فيها، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور، فرباها حتى شبت، واتخذ تابوتا، فجعل له بابا من أعلاه وبابا من أسفله، وقعد نمرود مع رجل في التابوت، ونصب خشبات في أطراف التابوت، وجعل على رؤوسها اللحم، وربط التابوت بأرجل النسور وخلاها، فطارت وصعدت طمعا في اللحم، حتى مضى يوم وأبعدت في الهواء، فقال نمرود لصاحبه: افتح الباب الأعلى وانظر إلى السماء هل قربنا منها؟ ففتح ونظر، فقال: إن السماء كهيئتها ثم قال له: افتح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 الباب الأسفل، وانظر إلى الأرض، كيف تراها؟ ففعل وقال: أرى الأرض مثل اللحة والجبال مثل الدخان، فطارت النسور يوما آخر وارتفعت، حتى حالت الريح بينها وبين الطيران، فقال لصاحبه: افتح البابين وانظر ففتح الأعلى، فإذا السماء كهيئتها، وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة. ونودي: أيها الطاغية إلى أين تريد؟ وقال عكرمة: كان معه في التابوت غلام، قد حمل قوسا ونشابا، فرمى بسهم، فعاد إليه السهم ملطخا بدم سمكة، قذفت بنفسها من بحر في الهواء، وقيل بدم طائر أصابه السهم. فقال: كفيت إله السماء. قال: ثم إن النمرود، أمر صاحبه أن يصوب الخشبات، وينكس اللحم ففعل، فهبطت النسور بالتابوت، فسمعت الجبال هفيف التابوت والنسور، ففزعت وظنت أنه قد حدث حادث من لسماء، وأن الساعة قد قامت، فكادت تزول عن أماكنها. فذلك قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ «1» قرأ ابن مسعود رضي الله عنه إن كاد بالدال المهملة وقرأ العامة بالنون وقرأ ابن جريج والكسائي لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية، وقرأ العامة بكسر اللام الأولى ونصب الثانية. قال الجوهري: نسر صنم لذي الكلاع بأرض حمير، وكان يغوث لمذحج، ويعوق لهمدان من أصنام قوم نوح عليه السلام. قال الله تعالى: وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً «2» انتهى. وإلى هذا أشار العباس رضي الله تعالى عنه، عم النبي صلى الله عليه وسلم، لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك، فقال: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل لا يفضض الله فاك» . فأنشد العباس رضي الله تعالى عنه يقول: من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد ... ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق حتى احتوى بيتك المهيمن من ... خندق علياء تحتها النطق وأنت لما ولدت أشرقت الأرض ... وضاءت بنورك الأفق فنحن في ذلك الضياء وفي النور ... وسبل الرشاد نخترق تتمة : روى الدارقطني، عن عقبة بن عامر الجهني، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما عرج بي إلى السماء الدنيا، دخلت جنة عدن، فوقعت في يدي تفاحة، فلما وضعتها في يدي انقلبت حوراء عيناء مرضية، أشفار عينها كمقادم النسور، فقلت لها: لمن أنت؟ فقالت: للخليفة بعدك» . الحكم : يحرم أكله لاستخباثه، وأكله الجيف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 الأمثال : قالوا: «أعمر من نسر» «1» وقالوا: «أتى الأبد على لبد» «2» وهذا اللبد الذي هو آخر نسور لقمان بن عاد. وكان لقمان بن عاد الأصغر، قد سيره قومه، وهم عاد الذين ذكرهم الله في كتابه العزيز، إلى الحرم يستسقي لهم، ومعه رهط من قومه، فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر مكة خارج الحرم، فأنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا، وكان مسيرهم شهرا. فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتغوثون لهم، من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري، وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي، والله ما أدري كيف أصنع بهم. فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين فقالتا: قل شعرا لا يدرون من قاله، لعل ذلك يحركهم! فقال شعرا يؤنبهم فيه ويذكرهم الأمر الذي وفدوا لأجله، فلما غنتهم الجرادتان شعره، قال بعضهم لبعض: إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم. فقال مرثد بن سعد، وكان قد آمن بهود عليه الصلاة والسلام سرا: إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وأنبتم إلى ربكم سقيتم. فأظهر إسلامه عند ذلك، وقال شعرا يذكر فيه إسلامه. فقالوا لمعاوية بن بكر: احبس عنا مرثد بن سعد، فلا يقدمن معنا مكة، فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا. ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر، حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له، فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله، ووفد عاد يدعون. فقال: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد. وكان قيل بن عتر رأس وفد عاد، فقال وفد عاد: اللهم اعط ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله. فقال قيل: يا إلهنا إن كان هود صادقا، فاسقنا فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء. ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل، اختر لنفسك وقومك من هذه السحائب، فقال قيل: اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحائب ماء، فناداه مناد: اخترت رمادا رمدا لا يبقي من آل عاد أحدا. وساق الله السحابة السوداء التي اختارها قيل، بما فيها من النقمة، إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا، يقول الله عز وجل: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ الآية «3» . وكان أول من أبصر ما فيها، وعرف أنها ريح مهلكة، امرأة من عاد، يقال لها مهدو، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت، فلما أفاقت، قالوا لها: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار، أمامها رجال يقودونها فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع من عاد أحدا إلا أهلكته. واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه، من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 الريح إلا ما يلين عليهم ويلذ الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن، فتحملهم بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة حتى هلكوا عن آخرهم. فلما هلكت عاد خير لقمان بين أن يعيش عمر سبع بقرات سمر من أظب عفر، في جبل وعر لا يمسها القطر، أو عمر سبعة أنسر، كلما هلك نسر خلف من بعده نسر، وكان قد سأل الله تعالى طول العمر، فاختار النسور فكان يأخذ الفرخ حين خروجه من البيضة فيربيه فيعيش ثمانين سنة، هكذا حتى هلك منها ستة فسمى السابع لبدا. فلما كبر وهرم وعجز عن الطيران، كان يقول له لقمان: انهض لبد، فلما هلك لبد مات لقمان. وروي أن الله تعالى أمر الريح فهالت عليهم الرمال، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام، لهم أنين تحت الرمل، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمل، وأرسل طير أسود، فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه، ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ، فإنها عتت عن الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها. وفي الحديث أنها خرجت على قدر خرم الخاتم. وروي عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إن قبر نبي الله هود عليه الصلاة والسلام بحضر موت، في كثيب أحمر. وقال عبد الرحمن بن سابط: بين الركن والمقام وزمزم اقبر تسعة وتسعين نبيا منهم هود وشعيب وصالح واسماعيل صلى الله عليهم وسلم. وقد ذكرت العرب لبدا في أشعارها كثيرا فمن ذلك قول «1» النابغة الذبياني: أضحت خلاء وأضحى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد وقد تقدم ما قاله الشاعر في ذكر لبد في باب اللام. الخواص : إذا جعل قلب النسر في جلد ذئب، وعلق على إنسان، كان محبوبا مهابا مقضي الحاجة عند السلطان وغيره، ولا يضره سبع أبدا. وإن عسر وضع امرأة فوضع تحتها ريشة من ريشه أسرعت الولادة. وإذا أخذ عظم كبير من عظامه وعلق على من يخدم الملوك والسلاطين أمن غضبهم، وكان محبوبا عندهم. وعظم فخذه الأيسر إن علق على من به سجج قديم نفعه وأبرأه. وعقب ساقه إن علق على من به النقرس أبرأه الأيمن للأيمن والأيسر للأيسر. وإن دخن بريشة من ريشه في بيت فيه هوام طردها، ولم يبق فيه شيء منها. وكبده إذا شويت واحترقت وشربت نفعت للباه منفعة عظيمة. وإن أخذ بيضه وضرب بعضه ببعض حتى يختلط، ويمسح به الإحليل ثلاثة أيام قوي قوة عجيبة. ومرارته تنفع من الماء النازل في العين إذا اكتحل بها سبع مرات بماء بارد، وطلي بها حول العين. وإن علق فكه الأعلى على عنق إنسان في خرقة لم يقربه شيء من الهوام. التعبير : النسر في المنام ملك فمن رأى نسرا نازعه، فإن سلطانا يغضب عليه ويوكل به ظالما، لأن سليمان عليه الصلاة والسلام وكل النسر على الطير، فكانت تخافه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 ومن ملك نسرا مطاعا أصاب ملكا عظيما، ومن ملك نسرا فطار به، وهو لا يخافه، فإنه يعلو أمره ويصير جبارا عنيدا لما تقدم عن النمرود. ومن أصاب فرخ نسر ولد له ولد يكون عظيما هاديا، فإن رأى ذلك نهارا، فإنه يمرض، فإن خدشه ذلك الفرخ طال مرضه. ورؤية النسر المذبوح تدل على موت ملك من الملوك. ومن رأى النسر من النساء الحوامل فإنها ترى المراضع والدايات. وقالت اليهود: النسر يفسر بالأنبياء الصالحين، لأن في التوراة شبه الصالحين بالنسر، الذي يعرف وطنه ويرفرف على فراخه ويزقها. وقال ابراهيم الكرماني: النسر يعبر بأكبر الملوك لأن الله تعالى خلق ملكا على صورته، وهو موكل بأرزاق الطير. وقال جاماست: من رأى نسرا أو سمع صياحه، خاصم إنسانا. وقال ابن المقري: من ملك نسرا أو تحكم عليه نال عزا وسلطانا ونصرة على أعدائه، وعاش عمرا طويلا فإن كان الرائي من أهل الجهد والاجتهاد انقطع عن الناس واعتزلهم، وعاش منفردا لا يأوي إلى أحد. وإن كان ملكا انتصر على أعدائه، وربما صالحهم وأمن شرهم ومكايدهم وانتفع بما عندهم من السلاح والمال، وإن كان من عوام الناس نال منزلة تليق به أو مالا وانتصر على أعدائه. وربما دلت رؤية النسر على البدعة والضلالة عن الهدى، نعوذ بالله من ذلك لقوله «1» تعالى: وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً . ورؤية المؤنث منها نساء خواطىء، وصغار أولاد زنا، وكذلك العقاب. قال: وربما دلت رؤيتها على الموت لاقتناصها الأرواح، وأكلها الميتة والجيفة. وربما دل النسر على الغيرة على العيال والله تعالى أعلم. النساف: بفتح النون وتشديد السين طائر له منقار كبير، قاله ابن سيده. النسناس: قال في المحكم هو خلق في صورة الناس مشتق منهم لضعف خلقهم، وقال في الصحاح: هو جنس من الخلق يثب أحدهم على رجل واحدة انتهى. وقال المسعودي، في مروج الذهب: إنه حيوان كالإنسان له عين واحدة، يخرج من الماء ويتكلم. ومتى ظفر بالإنسان قتله. وفي كتاب القزويني، قال في الأشكال: إنه أمة من الأمم، لكل واحد منهم نصف بدن ونصف رأس ويد ورجل، كأنه إنسان شق نصفين يقفز على رجل واحدة قفزا شديدا، ويعدو عدوا شديدا منكرا ويوجد في جزائر بحر الصين. وفي المجالسة للدينوري، عن ابن قتيبة عن عبد الرحمن بن عبد الله أنه قال: قال ابن اسحاق: النسناس خلق باليمن، لأحدهم عين ويد ورجل، يقفز بها، وأهل اليمن يصطادونهم فخرج قوم لصيدهم، فرأوا ثلاثة نفر منهم، فأدركوا واحدا منهم فعقروه وتوارى اثنان في الشجر، فذبح الذي عقر فقال أحدهم لصاحبه: إنه لسمين، فقال أحد الإثنين: إنه كان يأكل الضرو فأخذوه فذبحوه. فقال الذي ذبحه: ما أنفع الصمت! فقال الثالث: فأنا الصميت فأخذوه فذبحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 قال ابن سيده: الضر والبطم، وهو شجر الحبة الخضراء، كذا يسميه أهل اليمن. وقال الميداني، في باب الهمزة من الأمثال: قال أبو الدقيس: إن الناس كانوا يأكلون النسناس، وهم قوم لكل منهم يد ورجل ونصف رأس ونصف بدن يقال: إنهم من نسل أرم بن سام أخي عاد وثمود ليست لهم عقول، يعيشون في الآجام على ساحل بحر الهند والعرب، يصطادونهم ويأكلونهم وهم يتكلمون بالعربية، ويتناسلون ويتسمون بأسماء العرب، ويقولون الأشعار. وفي تاريخ صنعاء أن رجلا تاجرا سافر إلى بلادهم، فرآهم يثبون على رجل واحدة، ويصعدون الشجر، ويفرون من الكلاب خوفا أن تأخذهم وسمع واحدا منهم يقول: فررت من خوف الشراة شدّا ... إذ لم أجد من الفرار بدّا قد كنت قدما في زماني جلدا ... فها أنا اليوم ضعيف جدا وروى أبو نعيم، في الحلية عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: ذهب الناس وبقي النسناس. قيل: ما النسناس؟ قال: الذين يتشبهون بالناس، وليسوا بالناس. وفي المجالسة للدينوري، من كلام الحسن البصري، أنه قال: ذهب الناس وبقي النسناس، لو تكاشفتم ما تدافنتم. وهو في الفائق ونهاية ابن الأثير وغريب الهروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وقيل: النسناس يأجوج ومأجوج. وقيل: خلق على صورة الناس أشبهوهم في شيء وخالفوهم في شيء وليسوا من بني آدم. ومنه الحديث «ان حيا من عاد عصوا نبيهم فمسخهم الله نسناسا، لكل واحد منهم يد ورجل من شق واحد، ينقرون كما ينقر الطير، ويرعون كما ترعى البهائم» . ونونها الأولى مكسورة وقد تفتح. وروى أحمد في الزهد، عن مطرف بن عبد الله أنه قال: عقول الناس على قدر زمانهم. وقال: هم الناس والنسناس وأناس غمسوا في ماء الناس. قال الكريمي: سمعت أبا نعيم يقول: كثيرا ما يعجبني قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ذهب الذين يعاش في أكنافهم لكن أبا نعيم يقول: ذهب الناس فاستقلوا وصاروا ... خلفا في أراذل النسناس في أناس نعدّهم من عديد ... فإذا فتّشوا فليسوا بناس كلما جئت أبتغي النيل منهم ... بدروني قبل السؤال بياس وبلوني حتى تمنيت أني ... منهم قد أقلت رأسا براس الحكم : قال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو حامد: لا يحل أكل النسناس لأنه على خلقة الناس. ولذلك قال الشيخ محب الدين الطبري، في شرح التنبيه: وأما هذا الحيوان، الذي تسميه العامة بالنسناس، فهو نوع من القردة، لا يعيش في الماء فينبغي تحريم أكله، لأنه يشبه القردة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 الخلقة والخلق والذكاء والفطنة. وأما الحيوان البحري منه ففي حكمه وحل أكله وجهان: أحدهما يحل كغيره من السمك، واختاره الروياني وغيره. والثاني يحرم كما تقدم، وبه قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب، وهو عندهما مستثنى مما عدا السمك، مما لا يعيش إلا في الماء. وترتيب الخلاف فيه: أنا إذا قلنا بتحريم ما عدا الحوت، حرم النسناس. وإن قلنا بإباحته، ففي النسناس وجهان: أحدهما التحريم كالضفدع والسرطان والتمساح. والثاني الحل ككلب الماء وإنسانه. وهذا هو الأقرب إلى نص الشافعي. ويشهد له قول صاحب المحكم، وقول كراع في البحر المتقدم. والنسناس، فيما يقال، دابة في عداد الوحش، تصاد وتؤكل. وهو على شكل الإنسان بعين واحدة، ورجل واحدة، ويد واحدة، يتكلم كالانسان انتهى. فأفاد قوله أنها تصاد وتؤكل أنها مستطابة، وقد تقدم عن الدينوري عن أبي اسحاق أن النسناس يصاد ويؤكل. وقاله الميداني أيضا كما تقدم. التعبير : هو في الرؤيا رجل قليل العقل يهلك نفسه ويفعل فعلا يسقطه من أعين الناس والله أعلم. النسنوس: طائر يأوي الجبال، له هامة كبيرة. النضو: بالكسر البعير المهزول، والناقة نضوة والجمع فيهما أنضاء. وقد أنضتها الأسفار فهي منضاة وأنضى فلان بعيره أي أهزله، وقد أحسن الوزير مؤيد الدين أبو اسماعيل الحسين بن علي الطغرائي صاحب لامية العجم، وكان من أفراد الدهر، وحامل لواء النظم والنثر، في قوله: يقتلن أنضاء حبّ لا حراك به ... وينحرون كرام الخيل والإبل وأحسن الشارح لكلامه الشيخ صلاح الدين الصفدي في ذكره العددين المتحابين هنا، وهما المائتان والعشرون، فإنه عدد زائد أجزاؤه أكثر منه، لأنها إذا جمعت كانت مائتين وأربعة وثمانين بغير زيادة ولا نقصان، والمائتان والأربعة والثمانون عدد ناقص أجزاؤه أقل منه، لأنها إذا جمعت كانت جملتها مائتين وعشرين. فكل من العددين المتحابين أجزاؤه مثل الآخر. بيان ذلك أن العدد التام هو الذي إذا جمعت أجزاؤه كانت مثله، وهو الستة، فإن أجزاءها البسيطة الصحيحة: النصف وهو ثلاثة، والثلث هو اثنان، والسدس وهو واحد. والعدد الناقص ما إذا جمعت أجزاؤها البسيطة الصحيحة كانت أقل منه، كالثمانية فإن أجزاءها النصف والربع والثمن. وهي سبعة. والعدد الزائد ما إذا جمعت أجزاؤه زادت عليه كالإثنى عشر فمجموع أجزائها ستة عشر، وهي تزيد على الأصل. والمائتان والعشرون لها نصف، وهو مائة وعشرة، وربع وهو خمسة وخمسون، وخمس وهو أربع وأربعون، وعشر وهو اثنان وعشرون، ونصف عشر وهو أحد عشر، وجزء من أحد عشر وهو عشرون، وجزء من اثنين وعشرين وهو عشرة، وجزء من أربع وأربعين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وهو خمسة، وجزء من خمسة وخمسين وهو أربعة، وجزء من مائة وعشرة وهو اثنان، وجزء من مائتين وعشرين وهو واحد. وجملة ذلك مائتان وأربعة وثمانون. والمائتان والأربعة والثمانون ليس لها إلا نصف وهو مائة واثنان وأربعون، وربع وهو أحد وسبعون، وجزء من أحد وسبعين وهو أربعة، وجزء من مائة واثنين وأربعين هو اثنان، وجزء من مائتين وأربعة وثمانين وهو واحد، وجملة ذلك من الأجزاء الصحيحة مائتان وعشرون. فقد ظهر بهذا المثل تحاب العددين. وأصحاب الخواص يزعمون أن لذلك خاصية عجيبة في المحبة إذا جعل العدد الأقل والعدد الأكثر في شيء من المأكول وأطعم لمن يريد محبته ويجمع هذين العددين قولك: (فردكر) قال الشارح: وكنت بخلت بهذه الفائدة أن أودعها هذا الكتاب، ثم رأيت إثباتها فيه والله أعلم. النعاب: في فتاوى ابن الصلاح أنه اللقلق. وحكمه : تحريم الأكل على الأصح كما تقدم والمعروف أنه الغراب. يقال: نعب الغراب وغيره ينعب نعبا ونعيبا ونعابا وتنعابا ونعبانا، إذا صوت وقيل: إذا مد عنقه وحرك رأسه وصوت. وفي المجالسة للدينوري، في أوائل الجزء العاشر، عن الأخوص بن حكيم قال: كان من دعاء داود عليه الصلاة والسلام: يا رازق النعاب في عشه، قال: وذلك أن الغراب إذ فقس عن فراخه، خرجت بيضا، فإذا رآها كذلك نفر عنها، فتفتح أفواهها فيرسل الله تبارك وتعالى لها ذبابا يدخل في أجوافها، فيكون ذلك غذاء لها حتى تسود، فإذا اسودت عاد الغراب فغذاها، ويرفع الله تعالى الذباب عنها. وكذلك ذكره صاحب كتاب الحجة لبيان المحجة وغيره، عن مجاهد وغيره. وقد تقدم في باب الحاء المهملة، في لفظ الحمار الوحشي أن الحريري أشار إلى ذلك في المقامة الثالثة عشر بقوله: يا رازق النعاب في عشّه ... وجابر العظم الكسير المهيض أتح لنا اللهم من عرضه ... من دنس الذمّ نقى رحيض والذي رويناه في كتاب الترمذي، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان من دعاء داود عليه السلام: «اللهم إني أسألك حبّك وحبّ من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي ومن أهلي ومن الماء البارد» «1» . قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا ذكر داود عليه السلام، يقول: «كان أعبد البشر» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروينا في كتاب حلية الأولياء، عن الفضيل بن عياض، رحمه الله، قال: قال داود عليه السلام: إلهي كن لابني سليمان كما كنت لي، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: يا داود قل لابنك سليمان، يكن لي كما كنت لي، حتى أكون له كما كنت لك. وهذا الدعاء الذي رواه الترمذي، عن داود عليه السلام، روي أيضا نحوه عن نبينا صلى الله عليه وسلم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال «1» : احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعا فثوب بالصلاة، فصلى وتجوز في صلاته، فلما سلم دعا بصوته فقال لنا: «على مصافكم كما أنتم» . ثم انفتل إلينا فقال: «أما اني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة، إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي تعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد. فقلت: لبيك ربي. قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: رب لا أدري. قال تعالى: «في الكفارات والدرجات» . وفي رواية «قلت: في الكفارات والدرجات» . قال: فما هن؟ قلت: مشي الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء على المكروهات. قال: ثم فيم؟ قلت: في اطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة بالليل، والناس نيام. قال: سل. قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربني إلى حبك» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها حق فادرسوها ثم تعلموها» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. النعام: معروف، يذكر ويؤنث، وهو اسم جنس مثل حمام وحمامة، وجراد وجرادة، وتجمع النعامة على نعامات. ويقال لها أم البيض وأم ثلاثين، وجماعتها بنات الهيق، والظليم ذكرها. قال الجاحظ: والفرس يسمونها اشتر مرغ، وتأويله بعير وطائر. قال «2» الشاعر: ومثل نعامة تدعى بعيرا ... تعاصينا إذا ما قيل طيري فإن قيل احملي قالت: فإني ... من الطير المرفّه في الوكور قال: ويقال لقدم البعير خف، والجمع خفاف ومنسم والجمع مناسم. وكذلك يقال في النعامة ويقال لأنثى النعام قلوص، كما يقال ذلك في الإبل، وإنما قالوا ذلك لما رأوا فيها من شبه الإبل. قال: وتزعم الأعراب، أن النعامة ذهبت تطلب قرنين، فقطعوا أذنيها، فلذلك سميت بالظليم انتهى. وكأنهم إنما سموها ظليما لأنهم ظلموها، حين قطعوا أذنيها ولم يعطوها ما طلبت، وهذا بناء على اعتقادهم الفاسد. والنعامة صمعاء، يقال: خرج السهم متصمعا إذا ابتلت قذذه من الدم. ويقال: أتانا بثريدة متصمعة إذا دققها وحدد رأسها، وصومعة الراهب منه، لأنها دقيقة من أعلى الرأس، ورجل أصمع القلب إذا كان حديدا ماضيا، ويقال للرجل أيضا إذا كان قصير الأذنين لاصقتين بالرأس أصمع، والمرأة صمعاء وبنو أصمع قبيلة من العرب منهم الأصمعي، واسمه عبد الملك بن قريب، وهو صاحب لغة ونحو وشعر ونوادر. فمن نوادره أنه قال: مررت في بعض سكك الكوفة، فإذا برجل قد خرج من حش على كتفه جرة وهو يقول: وأكرم نفسي أنني إن أهنتها ... وحقّك لم تكرم على أحد بعدي فقلت له: أتكرمها بمثل هذا؟ قال: نعم واستغني عن سفلة مثلك، إذا سألته قال: صنع الله بك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 وترك. فقلت: تراه عرفني. فأسرعت فصاح بي يا أصمعي فالتفت فقال: لنقل الصخر من قلل الجبال ... أحبّ إلي من منن الرجال يقول الناس: كسب فيه عار ... وكلّ العار في ذلّ السؤال وقال الأصمعي: سألت أعرابية عن ولد لها كنت أعرفه، فقالت: مات وأنسى المصائب. ثم قالت: وكنت أخاف الدهر ما كان آمنا ... فلما تولّى مات خوفي من الدهر وقال: قلت لرجل من الأعراب أعرفه بالكذب: أصدقت قط؟ فقال: لولا أني أصدق في هذا لقلت: لا. وقال الأصمعي للكسائي، وهما عند الرشيد: ما معنى قول «1» الراعي؟ قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... ودعا فلم أر مثله مخذولا فقال الكسائي: كان محرما بالحج. فقال الأصمعي: فما أراد عدي بن زيد بقوله «2» : قتلوا كسرى بليل محرما ... فمضى فلم يمتع بكفن فهل كان محرما بالحج وأي إحرام لكسرى؟ فقال الرشيد للكسائي: يا علي إذا جاء الشعر فإياك والأصمعي. وروي أن الرشيد قال للأصمعي: ما أحسن ما مر بك في تقويم اللسان؟ قال: أوصى رجل بعض بنيه فقال: يا بني أصلحوا من ألسنتكم، فإن الرجل تنوبه النائبة، فيتحمل فيها فيستعير من أخيه وأبيه ومن صديقه ثوبه، ولا يجد من يعيره لسانه، وأنشد «3» في ذلك: وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن اللسان كفى بالمرء عيبا أن تراه ... له وجه ليس له لسان ويروى عن الأصمعي أنه قال: وجدني أبو عمرو بن العلاء مارا في بعض أزقة البصرة فقال: إلى أين يا أصمعي؟ فقلت: لزيارة بعض إخواني. فقال: يا أصمعي إن كان لفائدة أو عائدة، وإلا فلا. وقد أنشدني في ذلك يوسف الحلبي: يا أيها الإخوان أوصيكم ... وصية الوالد والوالده لا تنقلوا الأقدام إلّا إلى ... من لكم عنده فائده إما لعلم تستفيدونه ... أو لكريم عنده مائده وكان من كلام الأصمعي: خير العلم ما أطفأت به الحريق، وأخرجت به الغريق. وكان يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، فيها ما عدد أبياتها المائة والمائتان. ومن عجيب ما يحكى قال أبو العيناء: كنا في جنازة الأصمعي، فحدثني أبو قلابة «4» الشاعر، وأنشدني «5» لنفسه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 لعن الله أعظما حملوها ... نحو دار البلى على خشبات أعظما تبغض النبي وأهل ... البيت والطيبين والطيبات قال: ثم حدثني «1» أبو العالية الشاعر وأنشدني لنفسه أيضا: لا درّ درّ نبات الأرض إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترى ... في الناس منه ولا من علمه خلفا وكانت وفاة الأصمعي في سنة ست عشرة مائتين بالبصرة. والنعام، عند المتكلمين على طبائع الحيوان، ليست بطائر وإن كانت تبيض، ولها جناح وريش، ويجعلون الخفاش طيرا، وإن كان يحبل ويلد، وله أذنان بارزتان، وليس له ريش لوجود الطيران فيه، ومراعاة لقوله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي «2» وهم يسمون الدجاجة طيرا، وإن كانت لا تطير. وظن بعض الناس، أن النعامة متولدة من جمل وطائر، وهذا لا يصح. ومن أعاجيبها أنها تضع بيضها طولا، بحيث لو مد عليها خيط، لاشتمل على قدر بيضها، ولم تجد لشيء منه خروجا عن الآخر، ثم إنها تعطي كل بيضة منه نصيبها من الحضن، إذ كان كل بدنها لا يشتمل على عدد بيضها. وهي تخرج لعدم الطعم، فإن وجدت بيض نعامة أخرى، تحضنه وتنسى بيضها، ولعلها أن تصاد فلا ترجع إليه، ولهذا توصف بالحمق، ويضرب بها المثل في ذلك قال «3» ابن هرمة: فإني وتركي ندى الأكرمين ... وقد حي بكفي زنادا شحاحا كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا ويقال إنها تقسم بيضها أثلاثا: فمنه ما تحضنه، ومنه ما تجعل صفاره غذاء، ومنه ما تفتحه وتجعله في الهواء حتى يتعفن، ويتولد منه دود، فتغذي بها فراخها إذا خرجت. قال في الكفاية: يقال عار الظليم إذا صاح، والزمار صياح الأنثى. وقال ابن قتيبة: يقال عريعر للذكر، والأنثى زمر زمارا انتهى. وقد سمى الحريري، في المقامات، النعامة باسم صوتها. فقال: ما تقول فيمن أتلف زمارة في الحرم؟ قال: عليه بدنة من النعم. روي عن كعب الأحبار قال: لما أهبط الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام، جاءه ميكائيل بشيء من حب الحنطة، وقال: هذا رزقك، ورزق أولادك من بعدك، قم فاحرث الأرض، وابذر الحب. قال: ولم يزل الحب من عهد آدم عليه السلام، إلى زمن إدريس عليه السلام، كبيضة النعامة، فلما كفر الناس نقص إلى بيضة الدجاجة، ثم إلى بيضة الحمامة، ثم إلى قدر البندقة. وكان في زمن العزيز على قدر الحمصة. والنعام من الحيوان الذي يزاوج ويعاقب الذكر والأنثى في الحضن، وكل ذي رجلين، إذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 انكسرت له أحداهما، استعان بالأخرى في نهوضه وحركته، ما خلا النعامة فإنها تبقى في مكانها جاثمة حتى تهلك جوعا قال «1» الشاعر: إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد ... على أختها نهضا ولا بأستها حبوا وليس للنعام حاسة السمع، ولكن له شم بليغ، فهو يدرك بأنفه، ما يحتاج فيه إلى السمع، فربما شم رائحة القناص من بعد، ولذلك تقول العرب: «هو أشم «2» من نعامة» ، كما تقول: «هو أشم «3» من ذرة» . قال ابن خالويه، في كتابه: ليس في الدنيا حيوان لا يسمع ولا يشرب الماء أبدا إلا النعام. ولا مخ له ومتى دميت رجل واحدة له لم ينتفع بالباقية. والضب أيضا لا يشرب، ولكنه يسمع. ومن حمقها أنها إذا أدركها القناص أدخلت رأسها في كثيب رمل، تقدر أنها قد استخفت منه، وهي قوية الصبر على ترك الماء، وأشد ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح، وكلما اشتد عصوفها، كانت أشد عدوا وتبتلع العظم الصلب والحجر والمدر والحديد فتذيبه وتميعه كالماء. قال الجاحظ: من زعم أن جوف النعام إنما يذيب الحجارة، لفرط الحرارة، فقد أخطأ. ولكن لا بد مع الحرارة من غرائز أخر، بدليل أن القدر يوقد عليها الأيام ولا تذيب الحجارة. وكما أن جوفي الكلب والذئب يذيبان العظم، ولا يذيبان نوى التمر، وكما أن الإبل تأكل الشوك وتقتصر عليه، وإن كان شديدا كالسمر، وهو شجر أم غيلان، وتلقيه روثا، وإذا أكلت الشعير ألقته صحيحا انتهى. وإذا رأت النعامة في أذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفتها. وتبتلع الجمر فيكون جوفها هو العامل في إطفائه ولا يكون الجمر عاملا في إحراقه، وفي ذلك أعجوبتان إحداهما التغذي بما لا يتغذى به، والثانية الاستمراء والهضم، وهذا غير منكر، لأن السمندل يبيض ويفرخ في النار كما تقدم. وأما قول الحريري في المقامة السادسة: فقلدوه في هذا الأمر الزعامة، تقليد الخوارج أبا نعامه. فأبو نعامة هو قطري بن الفجاءة واسمه جعونة بن مازن المازني الخارجي، خرج زمن مصعب بن الزبير فبقي عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة، وكان كلما سير إليه الحجاج جيشا يستظهر قطري عليه. ويروى أن شخصا قال للحجاج: أيها الأمير، فقال الحجاج: إنما الأمير قطري بن الفجاءة، الذي إذا ركب، ركب لركوبه عشرون ألفا لا يسألونه أين يريد! وكان قطري مقداما لا يهاب الموت، وفي ذلك يقول مخاطبا لنفسه وهي من أبيات الحماسة «4» : أقول لها وقد طارت شعاعا ... من الأبطال ويحك لا تراعي لأنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لم تطاعي فصبرا في مجال الموت صبرا ... فما نيل الخلود بمستطاع ولا ثوب البقاء بثوب عزّ ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 سبيل الموت غاية كلّ حيّ ... وداعيه لأهل الأرض داعي ومن لا يغتبط يسأم ويهرم ... وتسلمه المنون إلى انقطاع وما للمرء خير في حياة ... إذا ما عدّ من سقط المتاع وهذه الأبيات تشجع أجبن خلق الله تعالى. ثم توجه إلى قطري سفيان بن الأبرد الكلبي، فظهر على قطري وقتله. ولا عقب لقطري، إنما قيل لأبيه الفجاءة، لأنه كان باليمن، فقدم على أهله فجاءة فسمي بها. كذا قال ابن خلكان وغيره. الحكم : يحل أكل النعام بالإجماع، لأنه من الطيبات، ولأن الصحابة رضي الله تعالى عنه قضوا فيه، إذا قتله المحرم أو في الحرم ببدنة. روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم. رواه الشافعي والبيهقي، ثم قال الشافعي: هذا غير ثابت عند أهل العلم بالحديث، وهو قول الأكثر ممن لقيت. وإنما قلنا في النعامة بدنة بالقياس لا بهذا. واختلفوا في بيض النعام، إذا أتلفه المحرم أو في الحرم، فقال عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والزهري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: تجب فيه القيمة. وقال أبو عبيدة وأبو موسى الأشعري: يجب فيه صيام يوم أو إطعام مسكين. وقال مالك: يجب فيه عشر ثمن البدنة كما في جنين الحرة غرة من عبد أو أمة قيمة عشر دية الأم. دليلنا أنه جزء من الصيد، لا مثل له من النعم، فوجبت قيمته، كسائر المتلفات التي لا مثل لها. وأما حديث «1» أبي المهزم، الذي رواه ابن ماجه والدارقطني، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه» فهو ضعيف باتفاق المحدثين، وبالغوا في تضعيفه حتى قال شعبة: أعطوه فلسا يحدثكم سبعين حديثا. وقد تقدم ذكر أبي المهزم في الجراد أيضا، لكن في مراسيل أبي داود، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم في بيض النعام، في كل بيضة صيام يوم. ثم قال أبو داود: أسند هذا الحديث والصحيح إرساله. واستدل له في المهذب، بأنه خارج من الصيد يخلق منه مثله، فضمن بالجزاء كالفرخ، فإن كسر بيضا لم يحل له أكله بلا خلاف. وفي تحريمه على الحلال طريقان: أصحهما أنه لا يحرم، لأنه لا روح فيه، ولا يحتاج إلى ذكاة، فإن كسر بيضا مذرا لم يضمنه من غير النعامة، لأنه لا قيمة له، ويضمنه من النعامة لأن لقشره قيمة. وقال الشافعي: لا أكره لمن يعلم من نفسه في الحرب بلاء أن يعلم. والمراد بالإعلام أن يجعل في صدره ريش نعام، كما فعله حمزة رضي الله تعالى عنه يوم بدر، فإنه غرز ريش النعام في صدره. وفي كتاب مناقب الشافعي، للحاكم أبي عبد الله، بإسناده عن محمد بن اسحاق، عن المزني، قال: سئل الشافعي عن نعامة ابتلعت جوهرة لرجل آخر، فقال: لست آمره بشيء، ولكن إن كان صاحب الجوهرة كيسا عدا على النعامة فذبحها، واستخرج جوهرته ثم ضمن لصاحب النعامة ما بين قيمتها حية ومذبوحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 الأمثال : قالوا: «مثل النعامة لا طير ولا جمل» «1» . يضرب لمن لم يحكم له بخير ولا شر، وقالوا: «أروى «2» من النعامة» ، لأنها لا تشرب الماء، فإن رأته شربته عبثا. وقالوا: «ركب جناح نعامة» «3» . يضرب لمن جد في أمر كانهزام أو غيره، وقد تقدم في باب السين، قول الشماخ في أبياته التي رثى بها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها، لما كان آخر حجة حجها عمر بأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن: مررت بالمحصب فسمعت رجلا على راحلة قد رفع عقيرته فقال «4» : جزى الله خيرا من إمام وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قد مت بالأمس يسبق قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائق في أكمامها لم تفتق فلم يدر ذلك الراكب من هو، وكنا نتحدث بأنه من الجن. فرجع عمر رضي الله تعالى عنه من تلك الحجة فطعن فمات. وقالوا: تكلم فلان «فجمع بين الأروى والنعامة» إذا تكلم بكلمتين مختلفتين، لأن الأروى يسكن الجبال، والنعامة تسكن الفيافي، فلا يجتمعان. وقالوا: «أحمق «5» من نعامة» و «أجبن «6» من نعامة» . وذلك أنها إذا خافت شيئا، لا ترجع إليه بعد ذلك أبدا. الخواص : مرارته سم ساعة، ومخ عظامه يورث آكله السل، وذرقه إذا أحرق وسحق وطلي به على السعفة أبرأها من وقته، وقشر بيض النعام إذا طرح في الخل بعد ما يخرج جميع ما فيه، تحرك في الخل وزال من موضعه، إلى موضع آخر. وإذا عمل من الحديد الذي يأكله النعام، ويخرج منه سكين أو سيف، لم يكل أبدا ولم يقم له شيء. التعبير : النعامة في المنام امرأة بدوية، وقيل: النعامة نعمة، فمن ركب نعامة في منامه فإنه يركب خيل البريد، وقيل: من ركب نعامة فإنه ينكح خصيا، والنعامة تدل على الأصم لأنها لا تسمع، وقيل: تدل على النعي لأنه مشتق من اسمها، وربما دلت على النعمة. والنعامتان على نعمتين والثلاث نعامات على نعي الرائي وموته للاشتقاق والله أعلم. النعثل: كجعفر، الذكر من الضباع وكان أعداء عثمان رضي الله تعالى عنه يسمونه نعثلا. النعجة: الأنثى من الضأن والجمع نعاج ونعجات قال الشاعر: من كان ذا بتّ فهذا بتي ... مقيظ مصيف مشتى تخذته من نعجات ست ... سود نعاج من نعاج الدّست والدست الصحراء، وكنيتها أم الأموال وأم فروة، وتطلق على الأنثى من الظباء والبقر الوحشية. روى أحمد بن صالح السهمي، عن ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 عنه، قال: مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم نعجة، فقال: «هذه التي بورك فيها، وفي خروفها» . لكنه حديث منكر جدا. وربما كنى بالنعجة عن المرأة، قال «1» الله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ قرأ الحسن نعجة بكسر النون. قال في التمهيد سئل المبرد عن قول الله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ «2» وهم الملائكة، والملائكة لا أزواج لهم. فقال: نحن طول الزمان نفعل مثل هذا، نقول: ضرب زيد عمرا، وإنما هذا تقدير، كان المعنى إذا وقع هكذا فيكف الحكم فيه؟ ومثله قول عدي بن زيد للنعمان: أتدري ما تقول هذه الشجرة أيها الملك؟ فقال: وما تقول؟ قال: تقول «3» : ربّ ركب قد أناخوا حولنا ... يشربون الخمر بالماء الزلال ثم أضحوا لعب الدهر بهم ... وكذاك الدهر حال بعد حال وقول آخر: شكا إلي جملي طول السّرى ... صبرا جميلا فكلانا مبتلى قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ولي نعجة أنثى قلت: يقال: امرأة أنثى للحسناء الجميلة، والمعنى وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها، وذلك أصلح وأزيد في تكسرها وتثنيها، ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال؟ وقوله: تمشي رويدا وتكاد تنعسف وفي مسند أبي محمد الدارمي، في باب سخاء النبي صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن أبي بكر، عن رجل من العرب، قال: زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفحني نفحة بسوط كان في يده، وقال: بسم الله لقد أوجعتني. قال: فبت لنفسي لائما أقول: أوجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبت بليلة كما يعلم الله. فلما أصبحنا، إذا برجل يقول: أين فلان؟ قال: فقلت: والله هذا الذي كان مني بالأمس. قال: فانطلقت وأنا متخوف، فقال «4» لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك وطئت بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني فنفحتك نفحة بالسوط فهذه ثمانون نعجة فخذها بها» . الأمثال : قالوا: «أعجل «5» من نعجة إلى حوض» و «أحمق «6» من نعجة على حوض» ، لأنها إذا رأت الماء أكبت عليه تشرب، فلا تنثني عنه إلا أن تزجر أو تطرد. الخواص : قرن النعجة إذا أخذ وقرىء عليه ثلاث مرات: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً «7» . ووضع تحت رأس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 امرأة نائمة، من غير أن تعلم، وسئلت عن شيء أخبرت به، ولا تكاد تكتم شيئا مما تعلم. ومرارتها إذا أحرقت وخلطت بزيت، وطلي بها الحواجب كثرت شعرها وسودته. ولبن النعاج إذا كتب به على قرطاس فلا تظهر عليه، فإذا طرح في الماء ظهرت عليه كتابة بيضاء. وإن تحملت امرأة بصوف نعجة قطعت الحبل، وقد تقدم. التعبير : النعجة في المنام امرأة شريفة غنية إذا كانت سمينة، لأنه قد كني عن النساء بالنعاج كما تقدم، ومن أكل لحم نعجة ورث امرأة، وصوفها ولبنها مال. ومن رأى نعجة دخلت منزله نال خصبا في تلك السنة. والنعجة الحامل خصب ومال يرتجى، ومن صارت نعجته كبشا فإن زوجته لا تحمل أبدا. وقس على هذا في جميع الإناث. والنعاج الكثيرة نساء صالحات، وربما دلت رؤيتهن على الهموم والأفكار، وفقد الأزواج وزوال المنصب لقوله تعالى: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ «1» الآية. النعبول: بضم النون طائر قاله ابن دريد وغيره. النعرة: مثال الهمزة، ذباب ضخم أزرق العين له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحوافر خاصة. سميت نعرة بضم النون وفتح العين المهملة لنعيرها وهو صوتها قال «2» ابن مقبل: ترى النعرات الخضر حول لباته ... أحاد ومثنى أضعفتها صواهله وربما دخلت في أذن الحمار، فركب رأسه ولا يرده شيء. تقول منه: نعر الحمار بالكسر، ينعر نعرا فهو نعر. الحكم : يحرم أكله. الأمثال : قالوا «3» : «فلان في أنفه أو أذنه نعرة» ، يضرب للجامح الذي لا يستقر على شيء. النعم: عند اللغويين الإبل والشاء، يذكر ويؤنث. قال الله تعالى: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها «4» وقال تعالى في موضع آخر: مِمَّا فِي بُطُونِهِ «5» والجمع أنعام وجمع الجمع أناعيم. وعند الفقهاء النعم يشمل الإبل والبقر والغنم. وقال ابن الأعرابي: النعم الإبل خاصة، والأنعام الإبل والبقر والغنم. وحكى القشيري، في تفسير قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ «6» أنها الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، فَهُمْ لَها مالِكُونَ «7» أي ضابطون مطيعون كما قال الشاعر: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا أي لا أضبطه وقوله «1» تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ قال ثعلب: معناه لا يذكرون الله على طعامهم ولا يسمعون، كما أن الأنعام لا تفعل ذلك. روى الشيخان وغيرهما، من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعلي رضي الله تعالى عنه: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» «2» . وهذا يدل على فضل العلم والتعليم وشرف منزلة أهله، بحيث إنه إذا اهتدى به رجل واحد لا يعلم العلم، كان ذلك خيرا له من حمر النعم، وهي خيارها وأشرفها عند أهلها، فما الظن بمن يهتدي به كل يوم طوائف من الناس. والنعم كثيرة ال فائدة ، سهلة الانقياد، ليس لها شراسة الدواب، ولا نفرة السباع، ولشدة حاجة الناس إليها، لم يخلق الله سبحانه وتعالى لها سلاحا شديدا، كأنياب السباع وبراثنها، وأنياب الحشرات وابرها، وجعل من شأنها الثبات والصبر على التعب والجوع والعطش. وخلقها ذلولا تقاد بالأيدي، كما قال «3» تعالى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وجعل الله تعالى قرنها سلاحا لها، لتأمن به من الأعداء، ولما كان مأكلها الحشيش، اقتضت الحكمة الإلهية أن جعل له أفواها واسعة، وأسنانا حدادا، وأضراسا صلابا، لتطحن بها الحب والنوى. فائدة : جعل الله تعالى الأنعام رفقا بالعباد ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة، قال الله تعالى: وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ، وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ «4» فكان أهل الجاهلية يقطعون طريق الانتفاع، ويذهبون نعمة الله فيها، ويزيلون المنفعة والمصلحة التي للعباد فيها بفعلهم الخبيث. قال الله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ «5» فلفظ جعل في الآية لا يتجه أن يكون بمعنى خلق، لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هو بمعنى ما سن ولا شرع، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد. والبحيرة هي الناقة، كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها، أي شقوها وحرموا ركوبها، والحمل عليها، ولم يجزوا وبرها، وتركوها تأكل حيث شاءت لا تطرد عن ماء ولا كلأ، ثم نظروا إلى خامس ولدها، فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان أنثى بحروا أذنها أي شقوها وتركوها، وحرّموا على النساء لبنها ومنافعها. وكانت منافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء، وقيل: كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة إناثا سيبت، فلم تركب ظهورها، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف. فما نتجت بعد ذلك من أنثى بحر أذنها، أي شق ثم خلى سبيلها مع أمها في الإبل، فلم تركب ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 فعل بأمها، فهي البحيرة بنت السابئة. والبحر الشق. قيل: ومنه سمي البحر بحرا لشقه الأرض، والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة. والسائبة الناقة التي سيبت، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية، إذا مرض أو غاب قريبه نذر فقال: إن شفاني الله أو شفى مريضي، أو رد غائبي، فناقتي هي سائبة ثم يسيبها كالبحيرة، فلا تحبس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد. وقال علقمة: هي العبد يسيب، أي لا ولاء عليه، ولا عقل ولا ميراث. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الولاء لمن أعتق» «1» . وقال سعيد بن المسيب: السائبة الناقة التي كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء، والبحيرة الناقة التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس، وقيل: السائبة الناقة إذا ولدت اثنتي عشرة أنثى سيبت. والسائبة فاعلة بمعنى مفعولة كقولهم: ماء دافق أي مدفوق وعيشة راضية أي مرضية. روى «2» محمد بن اسحاق عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكثم بن الجون الخزاعي رضي الله تعالى عنه: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، فما رأيت من رجل أشبه برجل منه به ولا بك منه، ولقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه» . قال أكثم: أيضرني شبهه يا رسول الله؟ قال: «لا إنك مؤمن وهو كافر» . وعمرو بن لحي هو أول من غير دين اسماعيل عليه الصلاة والسلام، ونصب الأوثان، وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحام. والوصيلة من الغنم، كانت الشاة إذا ولدت ثلاثة بطون أو خمسة أو سبعة، فإن كان آخرها جديا ذبحوه لبيت الآلهة، وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان عناقا استحيوها. فإن كان جديا وعناقا استحيوا الذكر من أجل الأنثى، وقالوا: هذه العناق وصلت أخاها فلم يذبحوه. وكان لبن الأنثى حراما على النساء، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا. والحام هو الفحل من الإبل، إذا لقح من صلبه عشرة أبطن، وقيل: إذا ضرب عشر سنين، وقيل: إذا ولد من ولد ولده، وقيل: إذا ركب من ولد ولده، قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه شيء، ولا يمنع من كلأ ولا ماء، فإذا مات أكله الرجال والنساء، فأعلم الله تعالى أنه لم يحرم من هذه الأشياء شيئا بقوله عز وجل: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ «3» وإنما هذه كلها من أفعال الجاهلية التي نهى الله عنها. النغر: بضم النون وفتح الغين المعجمة قال الجوهري: إنه طير كالعصافير، حمر المناقير. والجمع نغران كصرد وصردان، قال الخطابي: أنشدني أبو عمرو فقال «4» : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 يحملن أوعية السلاح كأنما ... يحملنه بأكارع النغران ومؤنثه نغرة كهمزة، وأهل المدينة يسمونه البلبل. وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، وكان لي أخ لأمي فطيم يقال له عمير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءنا قال «1» : «يا أبا عمير ما فعل النغير» ؟. وعمير تصغير عمر أو عمرو، والفطيم بمعنى المفطوم. قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله تعالى، في الحديث فوائد كثيرة منها: جواز تكنية من لم يولد له، وتكنية الطفل وأنه ليس كذبا. وفي الحديث: «بادروا بكنى أولادكم لا تسبق إليها ألقاب السوء» . وفيه جواز المزاح فيما ليس بإثم، وجواز تصغير بعض المسميات، وجواز التسجيع في الكلام الحسن بلا كلفة، وملاطفة الصبيان وتأنيسهم، وبيان ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حسن الخلق وكرم الشمائل، والتواضع وزيارة أهل الفضل، لأن أم سليم والدة أبي عمير وأنس رضي الله تعالى عنهما، هي من محارمه صلى الله عليه وسلم. واستدل به بعض المالكية على جواز الصيد من حرم المدينة، ولا دلالة فيه لذلك، لأنه ليس في الحديث أنه من حرم المدينة، بل نقول: إنه صيد من الحل وأدخل الحرم. ويجوز للحلال أن يفعل ذلك، ولا يجوز له أن يصيد من الحرم، فيفرق بين ابتداء صيده، وبين استصحاب إمساكه. وقد صحت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد حرم المدينة، فلا يجوز تركها بمثل هذا الاحتمال ومعارضتها به. وفي الحديث أيضا دليل على جواز لعب الصغير بالطير الصغير. قال العلامة أبو العباس القرطبي: لكن الذي أجاز العلماء أن يمسك له، وأن يلهو بحبسه. وأما تعذيبه والعبث به فلا يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان إلا لمأكله. وقال غيره: معنى قوله: يلعب به يتلهى بحبسه وإمساكه، وفيه دليل على جواز حبس الطير في القفص والتلهي به لهذا الغرض وغيره. ومنع ابن عقيل الحنبلي من ذلك، وجعله سفها وتعذيبا، لقول أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: تجيء العصافير يوم القيامة، تتعلق بالعبد الذي كان يحبسها في القفص عن طلب أرزاقها، وتقول: يا رب هذا عذبني في الدنيا. والجواب: أن هذا فيمن منعها المأكول والمشروب. وقد سئل القفال عن ذلك؛ فقال: إذا كفاها المؤنة جاز، بل في الحديث دليل على جواز قصها للعب الصبيان بها. وكان بعض الصحابة يكره ذلك. ورأيت لأبي العباس أحمد بن القاص مصنفا حسنا على هذا الحديث، وذكر فيه أن أبا حنيفة سمع صوت امرأة يضربها بعلها، وهي تصيح، فقال: صدقة مقبولة وحسنة مكتوبة. فقال له رجل من أصحابه: كيف ذاك يا أستاذ؟ فقال لقوله صلى الله عليه وسلم: «أدب الجاهل صدقة عليه» . وأنا أعرفها جاهلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وحكمه : حل الأكل لأنه من جنس العصافير. النغض: بكسر النون وفتحها الظليم، سمي بذلك لأنه يحرك رأسه، قال الله تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ «1» أي يحركونها استهزاء. قال الشاعر: أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنه يطلب شيئا أنفعا النغف: بنون وغين معجمة مفتوحتين ثم فاء، دود يكون في أنوف الإبل والغنم، الواحدة نغفة. قاله الأصمعي. وقال أبو عبيدة: هو أيضا الدود الأبيض، يكون في النوى. وما سوى ذلك من الدود فليس بنغف. وقيل: هو دود طوال سود وخضر وغبر يقطع الحرث في بطون الأرض. روى «2» مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله تعالى عنه في حديثه الذي رواه في الدجال: «ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج، فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة» . قوله: فرسى معناه قتلى، الواحدة فريس من فرس الذئب الشاة وافترسها إذا قتلها. وروى البيهقي، في الأسماء والصفات، في باب ما ذكر فيه الكف عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام، نفضه نفض المزود فخرج منه مثل النغف، فقبض قبضتين، فقال جل وعلا لما في اليمين: هذه إلى الجنة ولا أبالي. ولما في الأخرى: هذه إلى النار ولا أبالي، ثم قال: هذا موقوف. وروي بعده بأسطر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إنّ أخذ الميثاق على بني آدم، كان بأرض عرفات. النفار: بالفاء كجار العصفور سمي بذلك لنفوره. النقاز: بالقاف والزاي طائر من صغار العصافير، كأنه مشتق من النقز وهو الوثب. النقاقة: الضفدع والنقيق صوتها. قالوا: «أعطش من النقاقة» «3» . وذلك أنها إذا فارقت الماء ماتت. النقد: بفتح النون والقاف صغار الغنم، واحدتها نقدة وجمعها نقاد. وقال الجوهري: النقد بالتحريك جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه، تكون بالبحرين الواحدة نقدة. الأمثال : قالوا «4» : «أذل من النقد» . قال الأصمعي: أجود الصوف صوف النقد. قال «5» الكذاب الحرمازي: ففيم يا شرّ تميم محتدا ... لو كنتم شاء لكنتم نقدا أو كنتم قولا لكنتم فندا ... أو كنتم ماء لكنتم زبدا أو كنتم صوفا لكنتم قردا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 النكل: الفرس القوي المجرب، وفي الحديث «أن الله تعالى يحب النكل على النكل» بالتحريك، يعني الرجل القوي المجرب على الفرس القوي المجرب. وهو كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «إن الله يحب الرجل القوي المبدىء المعيد على الفرس القوي المبدىء المعيد» . وقد تقدم ذكر هذا الحديث في باب الفاء في الفرس. النمر: بفتح النون وكسر الميم ويجوز إسكان الميم مع فتح النون وكسرها كنظائره، ضرب من السباع فيه شبه من الأسد، إلا أنه أصغر منه، وهو منقط الجلد نقطا سودا وبيضا وهو أخبث من الأسد، لا يملك نفسه عند الغضب حتى يبلغ من شدة غضبه أن يقتل نفسه. والجمع أنمار وأنمر ونمور ونمار. والأنثى نمرة. وكنيته أبو الأبرد وأبو الأسود وأبو جعدة وأبو جهل وأبو خطاف وأبو الصعب وأبو رقاش وأبو سهيل وأبو عمرو وأبو المرسال. والأنثى أم الأبرد وأم رقاش. قال الأصمعي: يقال: تنمر فلان أي تنكر وتغير، لأن النمر لا تلقاه أبدا إلا متنكرا غضبان. قال عمرو بن معد يكرب: قوم إذا لبسوا الحديد ... تنمروا حلقا وقدا يريد تشبهوا بالنمر لاختلاف ألوان القد والحديد. ومزاج النمر كمزاج السبع، وهو صنفان: صنف عظيم الجثة صغير الذنب وبالعكس. وكله ذو قهر وقوة وسطوات صادقة، ووثبات شديدة وهو أعدى عدو للحيوانات، ولا تروعه سطوة أحد، وهو معجب بنفسه، فإذا شبع نام ثلاثة أيام، ورائحة فيه طيبة بخلاف السبع، وإذا مرض وأكل الفأر زال مرضه. وذكر الجاحظ أن النمر يحب شرب الخمر، فإذا وضع له في مكان شربه حتى يسكر فعند ذلك يصاد. وزعم قوم أن النمرة لا تضع ولدها إلا مطوقا بحية، وهي تعيش وتنهش إلا أنها لا تقتل. ومنزلته من السباع في الرتبة الثانية من الأسد، وهو ضعيف الحزم شديد الحرص يقظان الحراك. وفي طبعه عداوة الأسد، والظفر بينهما سجال، وهو نهوش خطوف بعيد الوثبة، فربما وثب أربعين ذراعا صعودا، ومتى لم يصد لم يأكل شيئا، ولا يأكل من صيد غيره وينزه نفسه عن أكل الجيف. روى الطبراني في معجمه الأوسط، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى عليه السلام قال: يا رب أخبرني بأكرم خلقك عليك، فقال: الذي يسرع إلى هواي إسراع النسر إلى هواه، والذي يألف عبادي الصالحين كما يألف الصبي الناس، والذي يغضب إذا انتهكت محارمي كغضب النمر لنفسه، فإن النمر إذا غضب لا يبالي أقل الناس أم كثروا» . وفي إسناده محمد بن عبد الله بن يحيى بن عروة، وهو متروك. وقد تقدم في النسر الإشارة إلى بعضه. الحكم : يحرم أكله لأنه سبع ضار. روى «1» أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصحب الملائكة رفقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 فيها جلد نمر» . وفي رواية «وقعة» . قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح، في الفتاوى: جلد النمر نجس كله قبل الدباغ سواء كان مذكى أم لا، فيمتنع استعماله امتناع نجس العين. ومعنى هذا أنه يحرم استعماله قطعا فيما يجب فيه مجانبة النجاسة من صلاة وغيرها. وهل يحرم على الاطلاق؟ فيه وجهان: وأما بعد الدباغ فنفس الجلد طاهر، والشعر الذي عليه نجس، تبعا لأصله ولأجل أنه غالب ما يستعمل منه. ورد الحديث بالنهي عنه مطلقا وفي حديث «1» آخر: «لا تركبوا النمور» . وفي حديث «2» آخر أنه صلى الله عليه وسلم «نهى عن جلود السباع أن تفترش» ولا شك أن النمر من السباع. فهذه الأحاديث قوية معتمدة والتأويل المتطرق إليها غير قوي، وإذا وجد الموفق مثل هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المضطرب فهو ضالته ومستروحه لا يرى عنه معدلا. الأمثال : قالوا: «شمر واتزر والبس جلد النمر» «3» . يضرب لمن يؤمر بالجد والاجتهاد. وقالوا: «لبس فلان لفلان جلد النمر» «4» . يضرب في العداوة وكشفها. الخواص : إذا دفن رأسه في موضع اجتمع فيه من الفأر شيء كثير، ومرارته يكتحل بها تزيد في ضوء البصر، وتمنع نزول الماء في العين، وهي سم قاتل إن سقي منها أحد دانقا لا يتخلص منها إلا أن يشاء الله تعالى، ودماغه إذا أنتن لا يشم أحد من الناس رائحته إلا مات، هكذا حكاه ارسطاطاليس، في كتاب طبائع الحيوان. وقيل: إن النمر يهرب من جمجمة الإنسان، وشعره إذا بخر به البيت هربت العقارب منه، وشحمه إذا أذيب وجعل في الجراحات العتيقة نظفها وأبرأها. ولحمه من أكل منه خمسة دراهم لا يضره سم الحيات والأفاعي. وقال القزويني: إن جميع أجزائه تفعل فعل السم القاتل، وخاصة مرارته، وهذا هو الصواب. وقضيبه يطبخ ويشرب من مرقته ينفع من تقطير البول، وأوجاع المثانة. وجلده إذا أدمن الجلوس عليه بلا حائل صاحب البواسير نفعه، ومن حمل معه شيئا من جلده، يصير مهابا عند الناس. ويده وبراثنه إذا دفنت في موضع لا يعيش فيه فأر، وإذا نهش النمر إنسانا طلبه الفأر ليبول عليه، فإن فعل ذلك مات، وينبغي أن يحترس من ذلك ويصان، قاله صاحب عين الخواص. وقال بعضهم: من مسح جلده بشحم الضبع، ودخل على النمر فر النمر منه. التعبير : النمر في المنام سلطان جائر، أو عدو مجاهر، شديد الشوكة، فمن قتله قتل عدوا بهذه الصفة، ومن أكل من لحمه نال مالا وشرفا، ومن ركبه نال سلطانا عظيما، فإن رأى النمر ركبه ناله ضرر من سلطان أو عدو. ومن نكح نمرة تسلط على امرأة من قوم ظلمة، ومن رأى نمرا في داره هجم على داره رجل فاسق. ومن رأى أنه صاد نمرا أو فهدا نال منفعة بقدر ضرر غضبه. وقال ارطاميدورس: النمر يدل على رجل ويدل على امرأة. وذلك بسبب تغير لونه، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 ذو مكر وخديعة وربما دل على مرض ووجع العينين. ولبنه عداوة تضر شاربه والله تعالى أعلم. النمس: بنون مشددة مكسورة، وبالسين المهملة في آخره دويبة عريضة، كأنها قطعة قديد، تكون بأرض مصر، يتخذها الناظور إذا اشتد خوفه من الثعابين، لأن هذه الدويبة تقتل الثعبان وتأكله. قاله الجوهري. وقال قوم: هو حيوان قصير اليدين والرجلين، وفي ذنبه طول يصيد الفأر والحيات ويأكلها. وقال المفضل بن سلمة: هو الظربان، وقال الجاحظ: يزعمون أن بمصر دويبة يقال لها النمس، تنقبض وتنطوي إلى أن تصير كالفأر، فإذا انطوى عليها الثعبان زفرت ونفخت وانتفخت فيتقطع الثعبان. وقال ابن قتيبة: النمس ابن عرس وتسميته نمسا يحتمل أن يكون مأخوذا من قولهم: نمس بالكلام أي أخفاه، ونمس الصائد إذا اختفى في الدريئة، لأنه لما كان يتماوت وتسكن أطرافه حتى تعضه الحية فيأكلها أشبه الصائد في اختفائه في الدريئة. وحكمه : تحريم الأكل لاستخباثه والرافعي في كتاب الحج قال: إن النمس أنواع، وبهذا يجمع بين هذه الأقوال المتباينة. الخواص : إذا بخر برج الحمام بذنب النمس هرب الحمام منه. ومرارته تداف ببياض البيض ويضمد بها العين فتلقط الحرارة وتقطع الدمعة، ودمه يسعط منه المجنون وزن قيراط مع لبن امرأة ويبخر به يفيق. وذكره يطبخ ويشرب من مرقته من كان به تقطير البول ووجع المثانة يبرئه. وعينه اليمنى إذا علقت في خرقة كتان على صاحب حمى الربع أبرأته، وإن علقت عليه اليسرى عادت إليه، ودماغه إذا هرس بماء الفجل ودهن ورد، ودهن به إنسان جرب ومرض مكانه من وقته، وحله أن يسحق خرؤه بدهن الزئبق ويطلى به، وخرؤه إن غرق في ماء وسقي منه إنسان خاف الليل والنهار، ويرى كأن الشياطين في طلبه. التعبير : النمس في الرؤيا يدل على الزنا، لأنه يسرق الدجاج، والجماعة منه في التعبير نساء، فمن نازع نمسا أو رآه في منزله فإنه ينازع إنسانا زانيا والله أعلم. النمل: معروف الواحدة نملة والجمع نمال، وأرض نملة ذات نمل، وطعام منمول إذا أصابه النمل، والنملة بالضم النميمة، يقال رجل نمل أي نمام، وما أحسن قول الأول: اقنع بما تلقى بلا بلغة ... فليس ينسى ربّنا النملة إن أقبل الدهر فقم قائما ... وإن تولّى مدبرا نم له وكنيته أبو مشغول والنملة أم نوبة وأم مازن، وسميت النملة نملة لتنملها وهو كثرة حركتها، وقلة قوائمها. والنمل لا يتزاوج ولا يتناكح إنما يسقط منه شيء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيظا حتى يتكون منه، والبيض كله بالضاد المعجمة الساقطة إلا بيظ النمل، فإنه بالظاء المشالة. والنمل عظيم الحيلة في طلب الرزق، فإذا وجد شيئا أنذر الباقين ليأتوا إليه، ويقال إنما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 يفعل ذلك منها رؤساؤها. ومن طبعه أنه يحتكر قوته من زمن الصيف لزمن الشتاء، وله في الاحتكار من الحيل ما أنه إذ احتكر ما يخاف إنباته قسمه نصفين، ما خلا الكسفرة فإنه يقسمها أرباعا، لما ألهم من أن كل نصف منها ينبت، وإذا خاف العفن على الحب أخرجه إلى ظاهر الأرض ونشره، وأكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر، ويقال إن حياته ليست من قبل ما يأكله ولا قوامه، وذلك لأنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام، ولكنه مقطوع نصفين، وإنما قوته إذا قطع الحب في استنشاق ريحه فقط. وذلك يكفيه. وقد تقدم في العقعق والفأر عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس شيء يحتال لقوته إلا الإنسان والعقعق والنمل والفأر، وبه جزم في الإحياء، في كتاب التوكل. وعن بعضهم أن البلبل يحتكر الطعام، ويقال: إن للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها. والنمل شديد الشم ومن أسباب هلاكه نبات أجنحته، فإذا صار النمل كذلك أخصبت العصافير لأنها تصيدها في حال طيرانها. وقد أشار إلى ذلك أبو العتاهية بقوله «1» : وإذا استوت للنمل أجنحة ... حتى يطير فقد دنا عطبه وكان الرشيد كثيرا ما ينشد ذلك عند نكبة البرامكة. وقد تقدمت الإشارة إليها في باب العين المهملة في لفظ العقاب، وهو يحفر قريته بقوائمه وهي ست، فإذا حفرها جعل فيها تعاريج لئلا يجري إليها ماء المطر، وربما اتخذ قرية بسبب ذلك، وإنما يفعل ذلك خوفا على ما يدخره من البلل. قال البيهقي في الشعب: وكان عدي بن حاتم الطائي يفت الخبز للنمل، ويقول: إنهن جارات ولهن علينا حق الجوار، وسيأتي إن شاء الله تعالى، في الوحش عن الفتح بن سخرب الزاهد، أنه كان يفت الخبز لهن في كل يوم فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله. وليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مرارا غيره، على أنه لا يرضى بأضعاف الأضعاف، حتى إنه يتكلف لحمل نوى التمر، وهو لا ينتفع به، وإنما يحمله على حمله الحرص والشره. ويجمع غذاء سنين لو عاش، ولا يكون عمره أكثر من سنة. ومن عجائبه اتخاذ القرية تحت الأرض، وفيها منازل ودهاليز وغرف وطبقات معلقة، يملؤها حبوبا وذخائر للشتاء ومنه ما يسمى الذر الفارسي، وهو من النمل بمنزلة الزنابير من النحل، ومنه أيضا ما يسمى بنمل الأسد، سمي بذلك لأن مقدمه يشبه وجه الأسد ومؤخره يشبه النمل. فائدة : في الصحيحين «2» وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نزل نبي من الأنبياء عليهم السلام تحت شجرة، فلدغته نملة فأمر بجهازه فأخرج من تحتها، وأمر بها فأحرقت بالنار. فأوحى الله إليه: فهلا نملة واحدة» . قال أبو عبد الله الترمذي، في نوادر الأصول: لم يعاتبه الله على تحريقها، وإنما عاتبه على كونه أخذ البريء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 بغير البريء. وقال القرطبي: هذا النبي هو موسى بن عمران عليه السلام، وأنه قال: يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع، فكأنه جل وعلا أحب أن يريه ذلك من عنده، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها، وعندها قرية النمل فغلبه النوم، فلما وجد لذة النوم لدغته نملة. فدلكهن بقدمه فأهلكهن، وأحرق مسكنهن. فأراه الله تعالى الآية في ذلك عبرة لما لدغته نملة كيف أصيب الباقون بعقوبتها، يريد الله تعالى أن ينبهه على أن العقوبة من الله تعم الطائع والعاصي فتصير رحمة وطهارة وبركة على المطيع، وسوءا ونقمة وعذابا على العاصي. وعلى هذا ليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل، فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك، ولا أحد من خلق الله أعظم حرمة من المؤمن، وقد أبيح لك دفعه عنك بضرب أو قتل على ماله من المقدار، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت للمؤمن، وسلط عليها وسلطت عليه، فإذا آذته أبيح له قتلها. وقوله: «فهلا نملة واحدة» دليل على أن الذي يؤذي يقتل، وكل قتل كان لنفع أو دفع ضر فلا بأس به عند العلماء، ولم يخص تلك النملة التي لدغته من غيرها، لأنه ليس المراد القصاص، لأنه لو أراده لقال فهلا نملتك التي لدغتك، ولكن قال: فهلا نملة، فكأن نملة تعم البريء والجاني، وذلك ليعلم أنه أراد تنبيهه لمسألة ربه تعالى في عذاب أهل قرية فيهم المطيع والعاصي. وقد قيل: إن في شرع هذا النبي عليه السلام كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة، فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله: فهلا نملة واحدة، وهو بخلاف شرعنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تعذيب الحيوان بالنار. وقال «1» : «لا يعذب بالنار إلا الله تعالى» . فلا يجوز إحراق الحيوان بالنار، إلا إذا أحرق إنسانا فمات بالإحراق فلوارثه الاقتصاص بالإحراق للجاني. وأما قتل النمل، فمذهبنا لا يجوز لحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنخلة والهدهد والصرد» . رواه أبو داود «2» بإسناد صحيح، على شرط الشيخين. والمراد النمل الكبير، السليماني كما قاله الخطابي والبغوي في شرح السنة. وأما النمل الصغير المسمى بالذر فقتله جائز، وكره مالك رحمه الله قتل النمل، إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل، وأطلق ابن أبي زيد جواز قتل النمل إذا آذت. وقيل: إنما عاتب الله هذا النبي عليه السلام لانتقامه بنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد منهم، وكان الأولى به الصبر والصفح، لكن وقع للنبي عليه السلام، أن هذا النوع مؤذ لبني آدم، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان. فلو انفرد له هذا النظر، ولم ينضم إليه التشفي الطبيعي، لم يعاتب فعوتب على التشفي بذلك والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 روى الدارقطني والطبراني، في معجمه الأوسط عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لما كلم الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام، كان يبصر دبيب النمل على الصفا في الليلة المظلمة من مسيرة عشرة فراسخ. وروى الترمذي الحكيم، في نوادره، عن معقل بن يسار، قال: قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه، وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك فقال «1» : «هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب الله عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا، وأنا أعلم، وأستغفرك لما تعلم ولا أعلم، بقولها ثلاث مرات» . وروي أيضا عن أبي إمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه، قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال «2» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» . ثم قال: «إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرضين حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلمي الناس الخير» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وسمعت أبا عثمان الحسين بن حريث الخزاعي يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: عالم عامل معلم يدعى كثيرا في ملكوت السموات. وروي أن النملة التي خاطبت سليمان عليه الصلاة والسلام أهدت إليه نبقة فوضعتها في كفه وقالت: ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله ولو كان يهدى للجليل بقدره ... لقصّر عنه البحر حين يسائله ولكننا نهدى إلى من نحبه ... فيرضى به عنا ويشكر فاعله وما ذاك إلا من كريم فعاله ... وإلا فما في ملكنا من يشاكله فقال سليمان عليه السلام: بارك الله فيكم. فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله، وأكثر خلق الله توكلا على الله تعالى. روي أن رجلا استوقف المأمون ليسمع منه فلم يقف له، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله استوقف سليمان بن داود عليهما السلام لنملة ليستمع منها، وما أنا عند الله بأحقر من نملة، وما أنت عند الله بأعظم من سليمان! فقال له المأمون: صدقت، ووقف له وسمع له وقضى حاجته. ومن شعر الإمام تاج الدين اليمني في منزل فيه نمل قوله: ما لي أرى منزل المولى الأديب به ... نمل تجمع في أرجائه زمرا فقال: لا تعجبن من نمل منزلنا ... فالنمل من شأنها أن تتبع الشعرا فائدة أخرى : قال الإمام العلامة فخر الدين الرازي، في تفسير قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ الآية «3» . وادي النمل بالشأم كثير النمل. فإن قيل: لم أتى بعلى؟ قلت: لوجهين أحدهما: أن إتيانهم كان من فوق، فأتى بحرف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 الاستعلاء، الثاني: أنه يراد به قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء إذا بلغ آخره، فتكلمت النملة بذلك، وهذا غير مستبعد، فإن حصول العلم والنطق لها ممكن في نفسه، والله سبحانه قادر على كل الممكنات. وحكي عن قتادة أنه دخل الكوفة، فاجتمع عليه الناس، فقال: سلوا عما شئتم، وكان أبو حنيفة حاضرا، وهو يومئذ غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم، فقال أبو حنيفة: كانت أنثى. فقيل له: كيف عرفت ذلك؟ فقال: من قوله تعالى: قالَتْ ولو كانت ذكرا لقال قال نملة، لأن النملة مثل الحمامة والشاة، في وقوعها على الذكر والأنثى، قال: ورأيت في بعض الكتب أن تلك النملة، إنما أمرت رعيتها بالدخول في مساكنها، لئلا ترى النعم التي أوتيها سليمان وجنوده، فتقع في كفران نعمة الله عليه. وفي هذا تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محظورة. يروى أن سليمان قال لها: لم قلت للنمل ادخلوا مساكنكم أخفت عليها مني ظلما؟ قالت: لا ولكني خشيت أن يفتنوا بما يرون من جمالك وزينتك فيشغلهم ذلك عن طاعة الله. قال الثعلبي وغيره: إنها كانت مثل الذئب في العظم، وكانت عرجاء ذات جناحين. وذكر عن مقاتل أن سليمان عليه السلام سمع كلامها من ثلاثة أميال. وقال بعض أهل التذكير: إنها تكلمت بعشرة أنواع من البديع، قولها: يا «1» نادت أَيُّهَا «2» نبهت النَّمْلِ «3» سمت ادْخُلُوا «4» أمرت مَساكِنَكُمْ «5» نعتت لا يَحْطِمَنَّكُمْ «6» حذرت سُلَيْمانُ «7» خصت وَجُنُودُهُ «8» عمت وَهُمْ «9» أشارت لا يَشْعُرُونَ «10» اعتذرت. والمشهور أنه النمل الصغار. واختلف في اسمها فقيل: كان اسمها طاخية، وقيل كان اسمها حزمى. قيل: كان نمل الوادي كالذئاب، وقيل: كالبخاتي. قال السهيلي، في التعريف والاعلام: ولا أدري كيف يتصور للنملة اسم علم، والنمل لا يسمي بعضه بعضا! ولا الآدمي يمكنه تسمية واحدة منها باسم علم، لأنه لا يتميز للآدميين بعضه من بعض، ولا هم أيضا واقعون تحت ملك بني آدم، كالخيل والكلاب ونحوهما، لأن العلمية فيما كان كذلك موجودة عند العرب. فإن قلت: إن العلمية موجودة في الأجناس كثعالة وأسامة وجعار في الضبع ونحو هذا كثير، فالجواب أن هذا ليس من أمر النمل، لأنهم زعموا أنه اسم علم لنملة واحدة معينة من بين سائر النمل. وثعالة ونحوه مختص بواحد من الجنس، بل كل واحد رأيته من ذلك الجنس فهو ثعالة، وكذلك أسامة وابن آوى وابن عرس وما أشبه ذلك. فإن صح ما قالوا، وله وجه فهو أن تكون هذه النملة الناطقة، قد سميت بهذا الاسم في التوراة، أو في الزبور، أو في بعض الصحف، أو سماها الله تعالى بهذا الاسم، وعرفها به جميع الأنبياء قبل سليمان أو بعده، وخصت بالتسمية لنطقها وإيمانها، ومعنى قولنا: وإيمانها أنها قالت للنمل: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، وهو التفاتة مؤمن أي أن سليمان عليه السلام من عدله وفضله، وفضل جنوده، لا يحطمون نملة فما فوقها، إلا وهم لا يشعرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 وقد قيل: إنما كان تبسم سليمان سرورا بهذه الكلمة منها، ولذلك أكد التبسم بقوله: ضاحكا، إذ قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا، ألا تراهم يقولون: تبسم تبسّم الغضبان، وتبسم تبسم المستهزىء، وتبسم تبسم الضحك، وتبسم الضحك، إنما هو من سرور ولا يسر نبي بأمر دنيا، وإنما يسر بما كان من أمر الدين فقولها: وهم لا يشعرون إشارة إلى الدين والعدل انتهى. فائدة أخرى : روى أبو داود والحاكم وصححه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشفاء بنت عبد الله: «علمي حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة» «1» . وفي صحيح مسلم «2» ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في الرقية من النملة، والنملة قروح تخرج في الجنب من البدن، ورقيتها شيء كانت تستعمله النساء، يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع، وهو أن يقال: العروس تحتفل وتختضب وتكتحل، وكل شيء تفتعل، غير أن لا تعصي الرجل، أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة، لأنه ألقى إليها سرا فأفشته. فكان هذا من لغو الكلام ومزاحه. كقوله صلى الله عليه وسلم للعجوز: «لا تدخل الجنة عجوز» «3» . ورأيت في بعض الكتب، بخط بعض الأئمة الحفاظ، أن رقية النملة أن يصوم راقيها ثلاثة أيام متوالية، ثم يرقيها بكرة كل يوم من الثلاثة، عند طلوع الشمس، فيقول: اقسطري وانبرجي فقد نوه بنوه بربطش ديبقت اشف أيها الجرب بألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ويكون في أصبعه زيت طيب، يمسح به عليها ويتفل على الموضع عقب الرقية قبل المسح بالزيت فافهم. روى الدارقطني والحاكم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقتلوا النملة فإن سليمان عليه السلام خرج ذات يوم يستسقي، فإذا هو بنملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها، تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، لا غنى لنا عن فضلك، اللهم لا تؤاخذنا بذنوب عبادك الخاطئين، واسقنا مطرا تنبت لنا به شجرا، وتطعمنا به ثمرا، فقال سليمان لقومه: ارجعوا فقد كفيتم وسقيتم بغيركم» . فوائد : قال الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال: حدثنا أبو عبد الله الكواز قال: حدثتني حبيبة مولاة الأحنف بن قيس، أن الأحنف بن قيس رآها تقتل نملة فقال: لا تقتليها، ثم دعا بكرسي فجلس عليه، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إني أحرج عليكن إلا خرجتن من داري فاخرجن فإني أكره أن تقتلن في داري، قال: فخرجن فما رؤي فيه منهن بعد ذلك اليوم واحدة. قال عبد الله بن الإمام أحمد: رأيت أبي فعل ذلك حرج على النمل، وأكثر علمي أنه جلس على كرسي كان يجلس عليه لوضوء الصلاة، ثم رأيت النمل قد خرجن من بعد ذلك كبار سود فلم أرهن بعد ذلك. ورأيت بخط بعض المشايخ لإذهاب النمل أن يكتب في إناء نظيف. هذه الأسماء، وتغسل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 بماء وترش في بيت النمل، فإنه يذهب ولا يطلع، وهو: الحمد لله باهيا شراهيا سأريكم باهيا شراهيا. ورأيت أيضا، في بعض المصنفات، أن يكتب على أربع شقف نيئات، وتجعل في أربع أركان المكان الذي فيه النمل، فإن النمل يرحل وربما مات، وهو وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ: يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا «1» لا تسكنوا في منزلنا فتفسدوا، اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ «2» ، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا «3» فماتوا كذلك يموت النمل من هذا المكان ويذهب بقدرة الله. ومما جرب أيضا فوجدناه نافعا أن يكتب على لوح ما عز ويوضع على قرية النمل، فإنه يرحل وهو: ق ول هـ ال ح ق ول هـ ال م ل ك الله الله الله وما لنا أن لا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا، ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون. قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ «4» ، اهيا اهيا شراهيا أدونائى آل شدائى ارحل أيها النمل من هذا المكان بحق هذه الأسماء وبألف لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ف ق ج م م خ م ت. ومن المجربات أيضا أنك إذا كان لك حلواء أو عسل أو سكر أو ما هو شبيه بذلك وكان في إناء، ومررت بيديك على شفته، وقلت: هذا لوكيل القاضي، أو هذا لرسول القاضي، أو هذا لغلام القاضي. فإن النمل لا يقربه، وقد فعل ذلك مرارا وشوهد فلا يصل الذر إليه. الحكم : يكره أكل ما حملته النمل بفيها وقوائمها، لما روى الحافظ أبو نعيم في الطب النبوي، عن صالح بن خوات بن جبير، عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى أن يؤكل ما حملت النمل بفيها وقوائمها» ، ويحرم أكل النمل لورود النهي عن قتله، وقد تقدم. ونقل الرافعي في البيع، وجها عن أبي الحسن العبادي أنه يجوز بيع النمل بعسكر مكرم، لأنه يعالج به السكر، وبنصيبين لأنه يعالج به العقارب الطيارة، وعسكر مكرم قرية من قرى الأهواز والسكر بفتح السين والكاف ومراده بالعقارب الطيارة الجراد. الأمثال : قالوا: «ما عسى أن يبلغ عض النمل» «5» ، يضرب لمن لا يبالي بوعيده، وقالوا: «أحرص من نملة» و «أروى «6» من نملة» لأنها تكون في الفلوات فلا تشرب ماء وقالوا: «أضعف وأكثر «7» وأقوى «8» من النمل» . وحكي أن رجلا قال لبعض الملوك: جعل الله قوتك مثل قوة النمل، فأنكر عليه فقال: ليس من الحيوان ما يحمل ما هو أكبر منه إلا النملة، وقد أهلك الله بالنمل أمة من الأمم وهي جرهم. وفي سيرة ابن هشام، في غزوة حنين عن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه، أنه قال: لقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 رأيت قبل هزيمة القوم، والناس يقتتلون، مثل النجاد الأسود نزل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم، فنظرت فإذا هو نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي، فلم أشك أنها الملائكة ولم تكن إلا هزيمة القوم. الخواص : بيظ النمل وهو بالظاء المشالة كما تقدم، إذا أخذ وسحق وطلي به موضع منع انبات الشعر فيه، وإذا نثر بيظه بين قوم تفرقوا شذر مذر، ومن سقي منه وزن درهم لم يملك أسفله بل يغلبه الحبق أي الضراط، وإن سدت قريته باخثاء البقر لم يفتحها بل يهرب من مكانه، وكذلك يفعل روث القط وإذا سد جحر النمل بحجر المغناطيس مات، وإذا دقت الكرويا وجعلت في جحر النمل منعتهن الخروج، وكذلك الكمون. وإذا صب ماء السذاب في قرية النمل قتله، وإذا رش به بيت هربت البراغيث منه، وكذلك يفعل ماء السماق في البراغيث، وإذا قطر شيء من القطران في قرية النمل متن والكبريت إذا دق ونثر في قريتها هلكت، وإن علقت خرقة امرأة حائض حول شيء لم يقربه النمل. وإذا أخذت سبع نملات طوال وتركتها في قارورة مملوءة بدهن الزيبق، وسددت رأسها ودفنتها في زبل يوما وليلة ثم أخرجتها وصفيت الدهن عنها، ثم مسحت به الإحليل وما فوقه هيج الباه، وأكثر العمل وقوى الإنعاظ. مجرب. التعبير : النمل في الرؤيا يعبر بناس ضعفاء أصحاب حرص، والنمل يعبر أيضا بالجند والأهل، ويعبر بالحياة، فمن رأى النمل دخل قرية أو مدينة فإنه جند يدخلها، ومن سمع كلام النمل نال خصبا وخيرا، ومن رأى النمل دخل منزله ومعه أحمال ثقيلة فإن الخصب والخير يدخل داره، ومن رأى النمل على فراشه كثرت أولاده، ومن رأى النمل خرج من داره نقص عدد أهله. ومن رأى النمل يطير من مكانه وفيه مريض، فإن المريض يهلك أو يسافر من ذلك المكان قوم ويلقون شدة، والنمل يدل على خصب ورزق لأنه لا يكون إلا في مكان فيه الرزق، وإذا رأى المريض كأن النمل يدب على جسده فإنه يموت، لأن النمل حيوان أرضي بارد. وقال جاماست: من رأى النمل يخرج من مكانه ناله هم والله تعالى أعلم. النهار: ولد الحبارى، قالت العرب: «أحمق من نهار» ، قال البطليوسي، في شرح أدب الكاتب: قد اختلف اللغويون في النهار، فقال قوم: هو فرخ القطاة، وقال قوم: إنه ذكر البوم، والأنثى صيف، وقيل: إنه ذكر الحبارى، والأنثى ليل، وقيل: إنه فرخ الحبارى، قال الشاعر: ونهار رأيت منتصف الليل ... وليل رأيت وسط النهار وهذا القول هو الصواب والله أعلم. النهاس: بتشديد النون الأولى، وبالسين في آخر، الأسد. النهس: طائر يشبه الصرد، إلا أنه غير ملمع يديم تحريك ذنبه ويصيد العصافير، وجمعه نهسان كصرد وصردان. وقال ابن سيده: النهس ضرب من الصرد، وسمي بذلك لأنه ينهس اللحم. والنهس أصله أكل اللحم بطرف الأسنان، والنهش بالشين المعجمة أكله بجميعها والطير إذا أكل اللحم إنما يأكله بطرف منقاره فلذلك سمي نهسا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وفي مسند أحمد ومعجم الطبراني أن زيد بن ثابت قال: رأيت شرحبيل بن سعد وقد صاد نهسا بالأسواق، فأخذه من يده وأرسله. والأسواق اسم موضع بحرم المدينة الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد تقدم ذكره في الدبسي وإنما أرسله لأن صيد المدينة حرام كمكة. الحكم : قال الشافعي: النهس حرام كالسباع التي تنهس اللحم. النهام: بضم النون طائر، قاله السهيلي في إسلام عمر رضي الله تعالى عنه، وقال الجوهري: هو ضرب من الطير. النهسر: كجعفر الذئب، وقيل: ولد الأرنب وقيل الضبع. النهشل: الذئب والصقر أيضا وقد تقدم كل منهما في بابه. النواح: طائر كالقمري، وحاله حاله إلا أنه أحر منه مزاجا وأدمث صوتا، ولقد كاد أن يكون للأطيار الدمثة الشجية الأصوات ملكا وهو يهيجها إلى التصويت لأنه أشجاها صوتا، وأطيبها نغما. وجميعها تهوى استماع صوته وهو يطرب لغناء نفسه. النوب: بضم النون النحل لا واحد له من لفظه، وقيل واحدها نائب. قال أبو عبيدة: سميت نوبا لأنها تضرب إلى السواد. وقال أبو عبيد: سميت به لأنها ترعى ثم تنوب إلى موضعها، قال أبو ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عواسل أي لم يخف ولم يبال، فاستعمل الرجاء بمعنى الخوف. ومنه قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «1» أي لا تخافون عظمة الله. وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا «2» الآية، أي لا يخافون. قال ابن عطية: والذي يظهر لي أن الرجاء في الآية وفي البيت على بابه، لأن خوف لقاء الله مقترن أيضا برجائه فإذا نفى سبحانه الرجاء عن أحد، فإنما أخبر عنه بأنه يكذب بالبعث لنفي الخوف والرجاء انتهى. النورس: طير الماء الأبيض، وهو زمج الماء، وقد تقدم في باب الزاي. النوص: بفتح النون الحمار الوحشي. النون: الحوت وجمعه نينان وأنوان، كما قالوا: حوت وحيتان وأحوات، وقد تقدم في أول الكتاب في باب الباء الموحدة، في لفظ بالام، ما رواه مسلم والنسائي عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله بعض اليهود عن تحفة أهل الجنة فقال: «زيادة كبد الحوت» «3» . وكان علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يقول: سبحان من يعلم اختلاف النينان في البحار الغامرات. وروى «4» الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: أول شيء خلقه الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 القلم، فقال له: اكتب، فقال: وما أكتب؟ قال: القدر، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى يوم الساعة. قال: وكان عرشه على الماء فارتفع بخار الماء فتفتقت منه السموات، ثم خلق النون فبسطت الأرض عليه فالأرض على ظهر النون، فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض. وقال كعب الأحبار: إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض كلها فوسوس إليه، وقال: أتدري ما على ظهرك يا لوتياء من الأمم والدواب والشجر والجبال وغير ذلك، فلو نفضتهم فألقيتهم عن ظهرك أجمع لاسترحت، فهم لوتياء أن يفعل ذلك، فبعث الله إليه دابة، فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه فعج الحوت إلى الله تعالى منها، فأذن الله لها فخرجت. قال كعب: فو الذي نفسي بيده لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت إليه كما كانت. وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: اسم الحوت يهموت. قال الراجز: ما لي أراكم كلّكم سكوتا ... والله ربي خالق يهموتا وفي مسن الدارمي، عن مكحول قال: قال «1» رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» . ثم تلا هذه الآية «2» : إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ثم قال: «إن الله وملائكته وأهل سمواته وأرضه والنون في البحر، يصلون على الذين يعلمون الناس الخير» «3» . وفي شعب البيهقي، عن خولة بنت قيس، امرأة حمزة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مشى إلى غريمه لحقه، صلت عليه دواب الأرض، ونون الماء وغرس الله له بكل خطوة شجرة في الجنة، ولا غريم يلوي غريمه وهو قادر، إلا كتب الله عليه في كل يوم إثما» . وروى أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مشى إلى غريمه لحقه صلت عليه دواب الأرض، ونون الماء وينبت له بكل خطوة شجرة في الجنة وذنب يغفر» . وروى الدينوري، في المجالسة في أول الجزء السادس، عن الأوزاعي رحمه الله، أنه قال: كان عندنا صياد يصطاد النينان، فكان يخرج إلى الصيد، فلا يمنعه مكان الجمعة عن الخروج، فخسف به وببغلته، فخرج الناس وقد ذهبت به بغلته في الأرض، فلم يبقى منها إلا أذناها وذنبها. وفيها أيضا، في أول الجزء العشرين، عن زيد بن أسلم، قال: جلس إليّ رجل قد ذهبت يمينه من عضده، فجعل يبكي ويقول: من رآني فلا يظلمن أحدا فقلت له: ما حالك قال: بينا أنا أسير على شط البحر، إذ مررت بنبطي قد اصطاد سبعة أنوان، فقلت: أعطني نونا فأبى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 فأخذت منه نونا وهو كاره، فانقلب إليّ النون وهو حي فعض إبهامي عضة يسيرة، فلم أجد لها ألما، فانطلقت به إلى أهلي فصنعوه وأكلنا فوقعت الأكلة في إبهامي، فاتفق الأطباء على أن أقطعها فقطعتها، ثم عالجتها حتى قلت: قد برئت فوقعت الأكلة في كفي، ثم في ساعدي، ثم في عضدي، فمن رآني فلا يظلمن أحدا. وذو النون لقب نبي الله يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، لأنه ابتلعه الحوت فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «1» روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، المجاب الدعوة رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعلمكم كلمة ما قالها مكروب إلا فرج الله كربه عنه، ولا دعا بها عبد مسلم إلا استجيب له، دعوة أخي يونس لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» «2» . وجمعت الظلمات لشدة تكاثفها عليه، فإنها ظلمة بطن الحوت وظلمة الليل وظلمة البحر، قيل: وظلمة حوت التقم الحوت الأول. واختلفوا في مدة مكثه في بطنه، فقيل: سبع ساعات، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل: أربعة عشر يوما، وقال السهيلي: أقام في بطنه أربعين يوما، يتردد به في ماء الدجلة. ونقل الإمام أحمد، في كتاب الزهد، أن رجلا قال للشعبي: مكث يونس في بطن الحوت أربعين يوما فقال الشعبي: ما مكث إلا أقل من يوم التقمه ضحى، فلما كان بعد العصر وقاربت الشمس الغروب، تثاءب الحوت فرأى يونس ضوء الشمس، فقال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قال: فنبذه وصار كأنه فرخ. فقال رجل للشعبي: أتنكر قدرة الله؟ قال: ما أنكر قدرة الله، ولو أراد الله تعالى أن يجعل في بطنه سوقا لفعل. وروى البزار، بإسناد جيد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لما أراد الله تعالى حبس يونس في بطن الحوت، أوحى الله إلى الحوت أن لا تخدش له لحما، ولا تكسر له عظما، فأخذه ثم أهوى به إلى مسكنه في البحر، فلما انتهى به إلى أسفل البحر، سمع يونس حسا، فقال في نفسه: ما هذا؟ فأوحى الله إليه، وهو في بطن الحوت، ان هذا تسبيح دواب البحر، فسبح وهو في بطن الحوت، فسمعت الملائكة تسبيحه، فقالوا: ربنا إننا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة، فقال تعالى: ذاك عبدي يونس، حبسته في بطن الحوت، في بطن البحر. فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح. قال عز وجل: نعم فشفعوا له عند ذلك، فأمر الله تعالى الحوت فقذفه في الساحل. كما قال الله تعالى: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ «3» . وروي أن الحوت مشى به في البحار كلها، حتى ألقاه في نصيبين، من ناحية الموصل، فنبذه الله تعالى في عراء، وهي الأرض الفيحاء التي لا شجر فيها ولا معلم. وهو سقيم كالطفل المنفوس، مضغة لحم إلا أنه لم ينقص من خلقه شيء، فأنعشه الله في ظل اليقطينة بلبن أروية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 تغاديه وتراوحه، وقيل: بل كان يتغذى من اليقطينة، فيجد منها ألوان الطعام وأنواع شهواته. والحكمة في إنبات الله اليقطينة عليه، أن من خاصية اليقطين أن لا يقربه الذباب، ومن خواصه أن ماء ورقه إذا رش به مكان لا يقربه ذباب أيضا. فأقام عليه الصلاة والسلام تحتها إلى أن صح جسده، لأن ورق الفرع أنفع شيء لمن يسلخ جلده عن جسده، كيونس عليه السلام. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يوما نائما، فأيبس الله تعالى تلك اليقطينة. وقيل: أرسل الله تعالى عليها الأرضة، فقطعت عروقها فانتبه عليه السلام فوجد حر الشمس، فعز عليه شأنها وجزع، فأوحى الله تعالى إليه: يا يونس جزعت ليبس يقطينة، ولم تجزع لهلاك مائة ألف أو يزيدون، تابوا فتيب عليهم. وما أحسن قول «1» الجوهري، صاحب الصحاح: فها أنا يونس في بطن حوت ... بنيسابور في ظلّ الغمام فبيتي والفؤاد ويوم دجن ... ظلام في ظلام في ظلام وقول «2» الآخر: مغيث أيوب والكافي لذي النون ... ينيلني فرجا بالكاف والنون وقول آخر في المعنى: ربما عالج القوافي رجال ... في القوافي فتلتوي وتلين طاوعتهم عين وعين وعين ... وعصتهم نون ونون ونون قال الشيخ جمال الدين بن الحاجب: معنى قوله: عين وعين وعين، يعني به نحو يد وغد ودد، لأنها عينات مطاوعات في القوافي، مرفوعة كانت أو منصوبة أو مجرورة، لأن وزن يدفع ووزن غدفع ووزن ددفع، وقوله: وعصتهم نون ونون ونون: الحوت يسمى نونا، والدواة تسمى نونا والنون الذي هو الحرف وكلها نونات غير مطاوعة في القوافي، إذ لا يلتئم واحد منها مع الآخر. فائدة : روى الدينوري في المجالسة، وأبو عمر بن عبد البر في التمهيد، عن أبي العباس محمد بن اسحاق السراج، قال: حدثنا هشيم عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: كتب صاحب الروم إلى معاوية رضي الله تعالى عنه يسأله عن أفضل الكلام ما هو؟ وعن الثاني والثالث والرابع والخامس، وكتب إليه يسأله عن أكرم الخلق على الله، وعن أكرم الإماء على الله، وعن أربعة من الخلق، فيهم الروح لم يرتكضوا في رحم، ويسأله عن قبر مشى بصاحبه، وعن المجرة وعن القوس، وعن مكان طلعت فيه الشمس، لم تطلع عليه قبل ذلك، ولم تطلع عليه بعده؟ فلما قرأ معاوية الكتاب، قال: أخزاه الله تعالى، وما علمي بما ههنا! فقيل له: اكتب إلى ابن عباس فكتب إليه بذلك، فكتب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 إن أفضل الكلام لا إله إلا الله كلمة الاخلاص لا يقبل عمل إلا بها، والتي تليها سبحان الله وبحمده صلاة الحق، والتي تليها الحمد الله كلمة الشكر، والتي تليها الله أكبر، والخامس لا حول ولا قوة إلا بالله. وأما أكرم الخلق على الله عز وجل فآدم عليه السلام، خلقه الله بيده، وعلمه الأسماء كلها، وأما أكرم إمائه عليه، فهي مريم التي أحصنت فرجها، فنفخ فيه من روحه. وأما الأربعة الذين لم يرتكضوا في الرحم، فآدم وحواء وناقة صالح والكبش الذي فدى به اسماعيل عليه الصلاة والسلام، وقيل: عصا موسى عليه السلام، حين ألقاها، فصارت ثعبانا مبينا. وأما القبر الذي سار بصاحبه، فهو الحوت حين التقم يونس، وأما المجرة فباب السماء، وأما القوس فإنه أمان لأهل الأرض من الغرق، بعد قوم نوح. وأما المكان الذي طلعت عليه الشمس، ولم تطلع عليه قبله ولا بعده، فهو المكان الذي انفلق في البحر لبني إسرائيل. فلما قدم عليه الكتاب، أرسل به إلى صاحب الروم فقال: لقد علمت أن معاوية لم يكن له بهذا علم، وما أصاب هذا إلا رجل من بيت النبوة. باب الهاء الهالع: النعام السريع في مضيه والأنثى هالعة. الهامة: بتخفيف الميم على المشهور، طير الليل وهو الصدى، والجمع هام وهامات قال «1» ذو الرمة: قد أعسف النازح المجهول معسفه ... في ظلّ أخضر يدعو هامة البوم وقد تقدم أن الذكر من البوم يختص باسم الصدى والصيدح، وتقدم أن هذه الأسماء تقع على طير الليل بطريق الاشتراك، وتسمية هذه الطيور بالصدي والصودي، لما تعتقده الأعراب من كونه عطشان، لا يزال يقول: اسقوني. والصدى العطش، والصادي العطشان. ويقال: رجل صديان وامرأة صديا. والصدى أيضا صوت يرجع من الصوت، إذا خرج ووجد ما يحبسه من حجر ونحوه. والعرب تقول: أصم الله صداه، إذا دعوا على شخص بالخرس، والمعنى لا جعل الله له صدى يرجع إليه بصوته، وقد تقدم ذلك. ويقع الصدى أيضا على الدماغ لكونه متصورا بصورة الصدى، ولهذا سمي الدماغ هامة، لأنه يشبه رأس الصدى، لأن الصدى لما كان كبير الرأس، واسع العين وفيه شبه برأس ابن آدم، سموا الرأس هامة باسمه. والهامة هو الصدى، وتسميته بالهامة يحتمل أن تكون للمعنى الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 لأجله سمي صدى، وهو العطش. ويجوز أن يراعى الاشتقاق على أن يكون قد اشتق من الهيام بضم الهاء، وهو داء يصيب الإبل فتشرب ولا تروى، ومنه قوله تعالى: فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ «1» وهو جمع أهيم كأحمر، والهيم الإبل التي أصابها الهيام، يقال: جمل أهيم وناقة هيماء وإبل هيم، قال الشاعر: بي اليأس أو داء الهيام أصابني ... فإياك عني لا يكن بك ما بيا وقال لبيد «2» : أجزت على معارفها بشعب ... وأطلاح عن المهري هيم وقيل: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل، ويحتمل أنه إنما سمي هامة باسم رأسه تشبيها بهامة الإنسان وهي رأسه قال الشاعر: ونضرب بالسيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهن عن الصدور وعلى هذا يكون التجوز حاصلا من الجانبين، وهذا قد وجد في كلام بعضهم الإيماء إليه، وسمي بعضهم الهامة بالمصاص، لأنه ينزل إلى الحمام فيمص دمها، وإنما سموا بعض هذه الطيور بومة، لأنها تصيح بهذا الحرف، وبعضها يصيح بقاف وواو وقاف، فيسمونها قوقة وأم قويق، وكل هذا من جنس الهوام. وروى «3» مسلم وغيره، عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صفر ولا هامة» . وفيه تأويلان: أحدهما أن العرب كانت تتشاءم بالهامة، وهي هذا الطائر المعروف من طير الليل كما تقدم. وقيل: هو البومة كانت إذا سقطت على دار أحدهم قالوا: نعت إليه نفسه أو بعض أهله، وهذا تفسير الإمام مالك بن أنس رحمه الله، والثاني أن العرب، كانت تعتقد أن روح القتيل، الذي لم يؤخذ بثأره، تصير هامة، فتزقو عند قبره وتقول: اسقوني اسقوني من دم قاتلي! فإذا أخذ بثأره طارت. قال لبيد «4» : فليس الناس بعدك في نفير ... وما هم غير أصداء وهام وقيل: كانوا يزعمون أن عظام الميت، وقيل روحه تصير هامة، ويسمونها الصدى، وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين، وأنه عليه الصلاة والسلام نهى عنهما جميعا. روى أبو نعيم، في الحلية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، قال: كنت عند كعب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 الأحبار، وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، ألا أخبرك بأغرب شيء قرأته في كتب الأنبياء عليهم السلام: أن هامة جاءت إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام، فقالت: السلام عليك يا نبي الله، فقال: وعليك السلام يا هامة، أخبريني كيف لا تأكلين من الزرع؟ قالت: يا نبي الله، إن آدم أخرج من الجنة بسببه، قال: فكيف لا تشربين الماء؟ قالت: يا نبي الله لأنه غرق فيه قوم نوح فمن أجل ذلك لا أشربه، قال لها سليمان: كيف تركت العمران وسكنت الخراب؟ قالت: لأن الخراب ميراث الله، فأنا أسكن ميراث الله، قال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ «1» . فالدنيا ميراث الله كلها، قال سليمان: فما تقولين إذا جلست فوق خربة؟ قالت: أقول أين الذين كانوا يتنعمون فيها؟ قال سليمان: فما صياحك في الدور، إذا مررت عليها؟ قالت: أقول: ويل لبني آدم كيف ينامون وأمامهم الشدائد؟ قال سليمان عليه السلام: فما لك لا تخرجين بالنهار؟ قالت: من كثرة ظلم بني آدم لأنفسهم، قال: فأخبريني ما تقولين في صياحك؟ قالت: أقول: تزودوا يا غافلين، وتهيئوا لسفركم، سبحان خالق النور. فقال سليمان عليه السلام: ليس في الطيور طير أنصح لابن آدم، ولا أشفق عليه من الهامة، وما في قلوب الجهال أبغض منها. فرع في فتاوي قاضي خان: إذا صاحت الهامة فقال أحد: يموت رجل، فقال بعضهم: يكون ذلك كفرا إنما يقال هذا على جهة التفاؤل انتهى. وهو قريب مما تقدم في العقعق. والهوام حشرات الأرض وروى ابن حبان وأبو داود الطيالسي، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذه الهوام من الجن فإذا رأى أحدكم في بيته شيئا منها فليحرج عليه ثلاث مرات» «2» قال في النهاية: هو أن يقول لها: أنت في حرج إن عدت إلينا فلا تلومينا أن نضيق عليك بالتتبع والطرد والقتل. وروى «3» البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين يقول: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» ، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: «كان أبوكما إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسماعيل واسحاق عليهما الصلاة والسلام» . قال الخطابي: الهامة إحدى الهوام ذوات السموم كالحية والعقرب ونحوهما، فإن قيل: في هذا الحديث دليل على أن للهامة حقيقة. فالجواب أن الهامة هنا بالتشديد، وتلك بالتخفيف كما تقدم. والمراد هنا هوام الأرض من الحيات والعقارب ونحوهما، كما قاله الخطابي، أو المراد كل ما يهم بالأذى، وهو اسم فاعل من هم يهم فهو هامة كأنه صلى الله عليه وسلم قال: أعيذكما من شر كل نسمة هامة بالأذى، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ومن كل عين لامة» معناه ذات لمم، قال الخطابي: وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 أحمد بن حنبل رحمه الله يستدل بقوله «بكلمات الله التامة» على أن القرآن غير مخلوق، ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق، وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص، فالموصوف منه بالتمام هو غير مخلوق وهو كلام الله تعالى. وفي الصحيحين وغيرهما، عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه، قال: فيّ أنزلت هذه الآية «1» فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أدنه» فدنوت ثم قال: «ادنه» فدنوت، فقال «2» صلى الله عليه وسلم: «أيؤذيك هوامك» ؟ قال ابن عوف: أظنه قال: نعم. فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسر. وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «3» : «إن لله مائة رحمة، واحدة بين الجن والأنس والبهائم والهوامّ فيها يتعاطفون ويتراحمون، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعا وتسعين رحمة، يرحم الله بها عباده يوم القيامة» . وسيأتي هذا في باب الواو، في لفظ الوحش إن شاء الله تعالى. وفي الإحياء، في فضل الجمعة، يقال: إن الطير والهوام يلقي بعضها بعضها في يوم الجمعة، فتقول: سلام سلام يوم صالح، وهو كذلك في قوت القلوب أيضا. وفي كتاب فردوس الحكمة، آية في كتاب الله، من قرأها يأمن من الهوام إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «4» وقد تقدم نظير هذا في باب الباء الموحدة، في البراغيث من رواية ابن أبي الدنيا، في كتاب التوكل، إن عامل أفريقية كتب إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه، يشكو إليه الهوام والعقارب، فكتب إليه: وما على أحدكم إذا أمسى وأصبح أن يقول: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا «5» الآية. وفي كتاب النصائح، أن بعض السياحين، كان مقداما على كل هول يخافه المسافرون، غير متحفظ من الهوام والسباع، فتعجب منه قوم وخوفوه الغرر بنفسه، فقال: إني على بصيرة من أمري، وذلك أني سافرت تاجرا مع رفقة، فكان سراق الأعراب، يطوفون بنا كل ليلة، وكنت أشد أصحابي ذكرا وأطولهم سهرا، وكنت قد أكتريت مع رجل من الأعراب أعرفه بالصلاح والدين فلما رآني على هذه الحالة، قال: صل على محمد صلى الله عليه وسلم مائة مرة، ونم آمنا، ففعلت ذلك ونمت، فإذا رجل يوقظني فارتعت وقلت: من أنت؟ فقال: اصطنعني واستتبني، قلت: مالك؟ قال: هذه يدي قد احتبسها متاعك، وإذا هو قد شق عدلا كنت نائما عليه، وأدخل يده لاستخراج الثياب منه، فلم يستطيع إخراج يده فأيقظت المكاري وأخبرته وسألته أن يدعو له، فقال: أنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 أولى بالدعاء فإنه من أجلك أصيب، فدعوت وأمن فأطلق عن الرجل، فلا أنسى اسوداد يده من اختناق الدم فيها. وفيه أيضا أنه صلوات الله وسلامه عليه، قال: «من صلى عليّ يوم الجمعة ثمانين مرة غفر الله له ذنوب ثمانين سنة» قيل: يا رسول الله، كيف نقول؟ قال صلى الله عليه وسلم: «قولوا اللهم صل على محمد عبدك ونبيك وحبيبك ورسولك النبيّ الأميّ وعلى آله وصحبه وسلم» . روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، لما أتى إلى غار ثور مع النبي صلى الله عليه وسلم، سبق إلى دخوله، فانبطح فيه وألقى نفسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لم فعلت هذا؟» قال: لأن هذه الغيران يكون فيها الهوام المؤذية، فأحببت إن كان فيها شيء أن أقيك بنفسي وقيل: كان عليه رضي الله تعالى عنه برد ثمين فمزقه وحشا به الأحجرة فبقي جحران فسدهما بعقبيه. والهامة في الرؤيا امرأة قوادة أو زانية. وحكمها : تحريم الأكل. الهبع: الفصيل الذي نتج في آخر النتاج، يقال: «ما له هبع ولا ربع» ، والأنثى هبعة والجمع هبعات. الهبلع: الكلب السلوقي، قاله ابن سيده، وقد تقدم ما في الكلب، في باب الكاف. الهجاة: الضفدع، قاله ابن سيده أيضا، والمعروف الهاجة. الهجرس: ولد الثعلب والجمع هجارس، وقيل: هو ولد الدب، وقال أبو زيد: هو القرد، وفي الحديث أن عيينة بن حصن الفزاري مد رجله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: يا عين الهجرس، أتمد رجلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وفي الاستيعاب، في ترجمة أسيد بن حضير، قال: جاء عامر بن الطفيل وأربد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألاه أن يجعل لهما نصيبا من تمر المدينة، «فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم» ، فقال عامر بن الطفيل: لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا! فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفني شر عامر بن الطفيل» . فأخذ أسيد بن حضير الرمح، وجعل يقرع رؤوسهما ويقول: أخرجا أيها الهجرسان، فقال عامر: من أنت؟ قال: أنا أسيد بن حضير، فقال: أبوك خير منك، فقال: بل أنا خير منك ومن أبي، مات أبي وهو كافر. فقيل للأصمعي: ما الهجرس؟ قال: الثعلب. فلما رجع عامر وأربد، من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانا ببعض الطرق، أرسل الله على أربد صاعقة فأحرقته وأحرقت بعيره، وبعث الله على عامر الطاعون في عنقه، فقتله في بيت امرأة سلولية، من بني سلول. فجعل يقول: يا بني عامر «غدة كغدة البعير، وموتا في سلولية» «1» . وذكر سيبويه قول عامر: غدة كغدة البعير وموتا في بيت سلولية، في باب ما ينصب على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 إضمار الفعل المتروك، كأنه قال: اغد غدة. قلت: ومن الأوهام أن المستغفري ذكر في كتابه معرفة الصحابة عامر بن الطفيل، وقال: إنه أسلم وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه كلمات يعيش بهن، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عامر أفش السلام وأطعم الطعام واستحي من الله حق الحياء، وإذا أسأت فأحسن، فإن الحسنات يذهبن السيآت» انتهى. والصواب أن عامر بن الطفيل لم يؤمن بالله طرفة عين، ولم يختلف أحد من أهل النقل، في ذلك. وأما أربد المذكور، فهو أخو لبيد الشاعر الذي عاش في الإسلام ستين سنة لم يقل فيها شعرا، سأله عمر رضي الله تعالى عنه عن تركه الشعر؟ فقال: ما كنت لأقول شعرا بعد أن علمني الله البقرة وآل عمران. فزاد عمر في عطائه خمسمائة درهم من أجل هذا القول. فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة، فلما كان زمن معاوية أراد أن ينقصه الخمسمائة، فقال له: ما بال العلاوة فوق الفودين؟ فقال له لبيد رضي الله تعالى عنه: آن أن أموت ويصير لك العلاوة والفودان. فرق له معاوية وتركها له، ومات لبيد بعد ذلك بأيام قليلة، وقد قيل: إنه قال «1» في الإسلام بيتا واحدا وهو: الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا وقيل: قال: ولقد سئمت من الحياة وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد «2» الأمثال : قالوا «3» : «اسفد من هجرس» «وأغلم «4» وأنزى» «5» . الهجرع: الكلب السلوقي الخفيف، قاله ابن سيده. الهجين: من الخيل والناس، الذي أبوه عربي وأمه غير عربية، والهجان من الإبل البيض، يستوي فيه الذكر والمؤنث، يقال: بعير هجان، وناقة هجان، وإبل هجان، وامرأة هجان، أي كريمة. الهدهد: بضم الهاءين وإسكان الدال المهملة بينهما، طائر معروف ذو خطوط وألوان كثيرة، وكنيته أبو الأخبار وأبو ثمامة وأبو الربيع وأبو روح وأبو سجاد وأبو عباد. ويقال له الهداهد، قال الراعي: كهداهد كسر الرماة جناحه. والجمع الهدهد بالفتح، وهو طير منتن الريح طبعا لأنه يبني أفحوصه في الزبل، وهذا عام في جميع جنسه، ويذكر عنه أنه يرى الماء في باطن الأرض، كما يراه الانسان في باطن الزجاجة، وزعموا أنه كان دليل سليمان على الماء، ولهذا السبب تفقده لما فقده. وكان سبب غيبة الهدهد عن سليمان عليه الصلاة والسلام، أن سليمان عليه السلام، لما فرغ من بناء بيت المقدس، عزم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 الخروج إلى أرض الحرم، فتجهز واستصحب من الجن والإنس والشياطين والطير والوحش، ما بلغ من عسكره مائة فرسخ، فحملتهم الريح، فلما وافى الحرم، أقام به ما شاء الله أن يقيم، وكان ينحر كل يوم، طول مقامه بمكة خمسة آلاف ناقة، ويذبح خمسة آلاف ثور، وعشرين ألف شاة، وأنه قال لمن حضره من أشراف قومه: إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي من صفته كذا وكذا ويعطى النصر على من ناوأه، وتبلغ هيبته مسيرة شهر، القريب والبعيد عنده في الحق سواء، لا تأخذه في الله لومة لائم. قالوا: فبأي دين يدين يا نبي الله؟ قال: بدين الحنيفية، وطوبى لمن أدركه وآمن به قالوا: فكم بيننا وبين خروجه يا نبي الله؟ قال: مقدار ألف عام، فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل. وأقام سليمان عليه السلام بمكة، حتى قضى نسكه، ثم خرج من مكة صباحا، وسار نحو اليمن، فوافى صنعاء وقت الزوال، وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا حسناء تزهو خضرتها، فأحب النزول فيها ليصلي ويتغدى، فلما نزل، قال الهدهد: إن سليمان قد اشتغل بالنزول، فارتفع نحو السماء، فنظر إلى طول الدنيا وعرضها، يمينا وشمالا، فرأى بستانا لبلقيس، فمال إلى الخضرة فوقع فيه، فإذا هو بهدهد من هداهد اليمن، فهبط عليه، وكان اسم هدهد سليمان يعفور، فقال هدهد اليمن ليعفور: من أين أقبلت وأين تريد؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليهما السلام فقال: ومن سليمان؟ قال: ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحش والريح، وذكر له من عظمة ملك سليمان وما سخر الله له من كل شيء، فمن أين أنت؟ فقال له الهدهد الآخر: أنا من هذه البلاد، ووصف له ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثني عشرة ألف قائد، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل، ثم قال: فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها؟ فقال: أخاف أن يتفقدني سليمان في وقت الصلاة، إذا احتاج إلى الماء فقال الهدهد الثاني: إن صاحبك يسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة، فمضى معه ونظر إلى ملك بلقيس، وما رجع إلى سليمان إلا بعد العصر. وكان سليمان قد نزل على غير ماء، فسأل الإنس والجن والشياطين عن الماء؟ فلم يعلموا له خبرا فتفقد الطير، ففقد الهدهد، فدعا عريف الطير وهو النسر، فسأله عن الهدهد فلم يجد عنده علمه، فغضب سليمان عليه السلام عند ذلك، وقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً «1» الآية. ثم دعا بالعقاب وهو سيد الطير، فقال له: علي بالهدهد الساعة، فارتفع في الهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة في يد الرجل، ثم التفت يمينا وشمالا، فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن، فانقض عليه العقاب يريده، فناشده الله، وقال: أسألك بحق الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني، ولم تتعرض لي بسوء، فتركه ثم قال له: ويلك ثكلتك أمك، إن نبي الله قد حلف ليعذبنك أو يذبحنك! فقال الهدهد: أو ما ستثنى نبي الله قال: بلى، قال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «2» قال الهدهد: قد نجوت إذا. ثم طار الهدهد والعقاب، حتى أتيا سليمان عليه السلام، فلما قرب منه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 الهدهد أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا، فأخذ سليمان رأسه فمده إليه، وقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل، فارتعد سليمان وعفا عنه. ثم سأله عن سبب غيبته، فأخبره بأمر بلقيس، وقد تقدمت الإشارة إلى طرف من قصتها في باب الدال والعين المهملتين في الكلام على الدود والعفريت. قال الزمخشري: وكان السبب في تخلفه وغيبته عن سليمان عليه السلام، أنه حين نزل سليمان حلق الهدهد، فرأى هدهدا واقفا فوصف له ملك سليمان، وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وأن تحت يدها اثني عشرة ألف قائد، تحت كل قائد مائة ألف، فذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، فدعا سليمان عليه السلام عريف الطير وهو النسر فلم يجد عنده علمه. فقال لسيد الطير، وهو العقاب: علي به، فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل، فقصدته فناشدها الله تعالى، وقال: بحق الذي قواك وأقدرك علي إلا ما رحمتني. فتركته، وقالت: ثكلتك أمك إن نبي الله حلف ليعذبنك، قال: أو ما ستثنى؟ قالت: بلى قال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ «1» فلما قرب من سليمان، أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ رأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله. وأما قوله: لأعذبنه، فتعذيبه بما يحتمله حاله ليعتبر به أبناء جنسه. وقيل: كان عذاب سليمان عليه السلام للطير، أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا، لا يمتنع من النمل ولا من هوام الأرض، وهو أظهر الأقاويل. وقيل: إنه يطلى بالقطران ويشمس، وقيل: أن يلقى للنمل تأكله، وقيل: إيداعه القفص، وقيل: التفريق بينه وبين إلفه، وقيل: إلزامه صحبة الأضداد. وعن بعضهم أنه قال: أضيق السجون صحبة الأضداد، وقيل: حبسه مع غير جنسه، وقيل: الزامه خدمة أقرانه، وقيل: تزويجه عجوزا. فإن قلت: من أين أحل له تعذيب الهدهد؟ قلت: يجوز أن يبيح الله له ذلك، كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع. وحكى القزويني أن الهدهد قال لسليمان عليه السلام: أريد أن تكون في ضيافتي قال: أنا وحدي، قال: بل أنت وأهل عسكرك في جزيرة كذا في يوم كذا فحضر سليمان عليه السلام بجنوده فطار الهدهد فاصطاد جرادة فخنقها ورمى بها في البحر، وقال: كلوا، يا نبي الله من فاته اللحم، ناله المرق. فضحك سليمان وجنوده من ذلك حولا كاملا. وفي ذلك قيل: جاءت سليمان يوم العرض هدهدة ... أهدت له من جراد كان في فيها وأنشدت بلسان الحال قائلة ... إنّ الهدايا على مقدار مهديها لو كان يهدى إلى الإنسان قيمته ... لكان يهدى لك الدنيا وما فيها قال عكرمة: إنما صرف سليمان عليه السلام عن ذبح الهدهد، لأنه كان بارا بأبويه، ينقل الطعام إليهما فيزقهما في حال كبرهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 قال الجاحظ: وهو وفاء حفوظ ودود، وذلك أنه إذا غابت أنثاه، فلم يأكل ولم يشرب، ولم يشتغل بطلب طعم ولا غيره، ولا يقطع الصياح حتى تعود إليه، فإن حدث حادث أعدمه إياها، لم يسفد بعدها أنثى أبدا، ولم يزل صائحا عليها ما عاش، ولم يشبع بعدها أبدا بطعم، بل ينال منه ما يمسك رمقه، إلى أن يشرف على الموت، فعند ذلك ينال منه يسيرا. وفي الكامل، وشعب الإيمان للبيهقي، أن نافع بن الأزرق، سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقال: سليمان عليه السلام، مع ما خوله الله من الملك وأعطاه، كيف عنى بالهدهد مع صغره؟ فقال له ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنه احتاج إلى الماء، والهدهد كانت الأرض له كالزجاج كما تقدم. فقال ابن الأزرق لابن عباس: قف يا وقاف كيف يبصر الماء من تحت الأرض، ولا يرى الفخ إذا غطى له بقدر أصبع من تراب؟ فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إذا نزل القضاء عمي البصر وأنشدوا في ذلك لأبي عمرو الزاهد: إذا أراد الله أمرا بامرىء ... وكان ذا عقل ورأي وبصر وحيلة يفعلها في دفع ما ... يأتي به محتوم أسباب القدر غطى عليه سمعه وعقله ... وسله من ذهنه سلّ الشعر حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... رد عليه عقله ليعتبر ونافع ابن الأزرق هو رأس فرقة من الخوارج، يقال لها الأزارقة، يكفرون علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إذ حكم، وهو قبل التحكيم عندهم إمام عدل، ويكفرون الحكمين أبا موسى وعمرا. ويرون قتل الأطفال ولا يقيمون الحدود على من قذف محصنا، ويقيمونها على قذف المحصنات وغير ذلك من الأقوال. وأنشد أبو الشيص «1» في صفة الهدهد «2» : لا تأمنن على سري وسرّكم ... غيري وغيرك أو طي القراطيس أو طائر سوف أجليه وأنعته ... ما زال صاحب تنقير وتدريس سود براثنه ميل ذوائبه ... صفر حمالقه في الحسن مغموس البراثن بالباء الموحدة وبالثاء المثلثة وبالنون في آخره: اظفاره، والذوائب ريشه، والحمالق الأجفان. قال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، صاحب دمية القصر، وهي ذيل يتيمة الدهر، قتل سنة سبع وستين وأربعمائة: لا تنكري يا عز إن ذلّ الفتى ... ذو الأصل واستعلى خسيس المحتد إنّ البزاة رؤوسهن عواطف ... والتاج معقود برأس الهدهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 قيل: إن الإمام الحافظ أبا قلابة، واسمه عبد الملك بن محمد الرقاشي، رأت أمه وهي حامل به، كأنها ولدت هدهدا. فقيل لها: إن صدقت رؤياك، فإنك تلدين ولدا ذكرا كثير الصلاة فولدته، فلما كبر كان يصلي كل يوم أربعمائة ركعة، وحدث من حفظه ستين ألف حديث، ومات سنة ست وسبعين ومائتين رحمه الله تعالى. الحكم : الأصح تحريم أكله لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكله، لأنه منتن الريح، ويقتات الدود. وقيل: يحل أكله، لأنه يحكى عن الشافعي وجوب الفدية فيه، وعنده لا يفدى إلا المأكول. الأمثال : قال: «أسجد من هدهد» «1» ، يضرب لمن يرمى بالأبنة، وقالوا: «أبصر من هدهد» لما تقدم من رؤيته الماء تحت الأرض. الخواص : إذا بخر البيت بريشة من ريشه طرد الهوام عنه، وعينه إذا علقت على صاحب النسيان ذكر ما نسيه، وكذلك يفعل قلبه إذا شوي وأكل مع سذاب، وهو نافع للحفظ والذكاء، ولا ينسى شيئا، وهو أنفع من حب الفهم وأسلم. ومن أخذ عشرة هداهد ونزع ريشها وتركها في دار أو دكان خرب ذلك المكان، ولم يعمر أبدا. ومن أخذ مصران الهدهد وعلقه على من به النزيف نفعه، ومن أخذ منقاره وهو ميت، وخرز عليه جلدة لم يتلف له شيء ما دام عليه. وإن دخل به على سلطان رحب به وأكرمه وقضى حوائجه، ومن أخذ تراب عش الهدهد وتركه في سجن خرج من فيه من وقته، وإن أخذ من مخالب رجليه مخلبا واحدا وعلقه على صبي أو غيره لم يلحقه عين ولا يزال في عافية ما دام معلقا عليه. ومن أخذ ذنبه وشيئا من دمه وعلقه على شجرة لم تحمل أبدا، وإن علق على دجاجة بياضة لم تبض، وإن علق على من به نزف الدم سكن عنه، ومن أخذ لسانه وألقاه في شيء من دهن السمسم وجعله تحت لسانه، وسأل إنسانا حاجة قضاها له، وإذا حمل ريشه إنسان وخاصم غلب خصمه، وقضيت حاجته، وظفر بما يريد ولحمه إذا أكل مطبوخا نفع من القولنج، ودماغ الهدهد إذا أخرج وعمل في دقيق وعجن منه قرصة، وجففت في الظل، وأطعمت الإنسان ويقول المطعم: أطعمتك يا فلان بن فلان هدهدا، وجعلتك تسمع قولي وتطيعني، وتشهد لي كما شهد الهدهد لسليمان عليه السلام فإن المطعوم يحب المطعم حبا شديدا. وإن أخذت قشرته وشددتها على عضدك الأيسر، وأخذت منقاره ولسانه وكتبت هذه الأسماء في رق ظبي وجعلتهما فيه، وشددته بخيط صوف كحلي أو أسود أو أحمر ودفنته تحت باب من تريد موضع دخوله وخروجه فإنك تبلغ ما تريده منه من المحبة والعطف والقبول. وهي هذه الأسماء التي تكتبها: فطيطم مارنورمانيل وصعانيل. ودم الهدهد إذا أخذ في صدفة وقطر في عين يطلع فيها الشعر أزاله، وإذا ذبحت هدهدا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 وأخذت دماغه وجففته، وسحقته ببعض من المصطكى، ودققت معه إحدى وعشرين ورقة آس، وخلطته وأشممته لمن تريد، فإنه يحبك. وعينه اليمنى إذا علقتها عليك في خرقة جديدة وشددتها على عضدك الأيمن، ودخلت على من شئت فإنه لا يراك أحد إلا أحبك، وإذا أردت سواد الشعر، فخذ مصران الهدهد وجففه ثم اسحقه بدهن سمسم وادهن به رأس من تريد أو لحيته ثلاثة أيام فإن شعره يسود سوادا عظيما. ودمه وهو حار، إذا قطر على البياض العارض في العين أذهبه، وإن بخر بمخه برج الحمام لم يقربه شيء يؤذيه، وإن علق هدهد مذبوح بجملته في بيت أمن أهله من السحر، ومن علق عليه لحيه الأسفل أحبه الناس، وإن بخر المجنون بعرفه أبرأه، ولحمه إذ بخر به معقود عن الباه، أو مسحورا أبرأه. وقال جابر رحمه الله: إن قلب الهدهد إذا شوي وأكل مع سذاب فإنه ينفع للحفظ جدا. ومصران الهدهد إذا علق على من بها نزف الدم، انقطع عنها. وإن أخذت ثلاث ريشات من الجناح الأيسر من الهدهد، وكنس بها باب دار ثلاثة أيام، قبل طلوع الشمس، ويقول الكانس: كما انقطع هذا التراب من هذا المكان، كذلك ينقطع فلان بن فلانة من هذا المكان، فإنه يخرج منه ولا يعود إليه أبدا وإن أحرقت جناحه الأيسر، ونثرت رماده على طريق من تريد فإنه إذا وطئه أحبك حبا شديدا. ومنقار الهدهد وريشه من جناحه الأيمن إذا خرز في جلد وعلقت ذلك عليك باسم من تريد، واسم أمه، أحبك حبا شديدا. وأطول ريشة في جناحيه الأيسر قبول. التعبير : الهدهد في المنام، رجل عالم غني يثنى عليه بالقبيح لنتن ريحه، فمن رآه نال عزا ومالا فإن كلمه فإنه يأتيه خير من قبل السلطان لقوله تعالى: «1» وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ وقال ابن سيرين: من رأى هدهدا، قدم له مسافر، وقيل: الهدهد رجل حاسب صاحب دهاء يخبر السلطان بما يحدث من الأمور، لأنه أخبر سليمان عليه السلام بأمر بلقيس، وكان صادقا في قوله، وربما كانت رؤيته أمانا للخائف، وقال ابن المقري: إن رؤيته تدل على هدم الدار العامرة، أو الشيء العامر مأخوذ من اسمه هدهد، وربما دلت على الرسول الصادق، والقرب من الملوك والجاسوس، أو الرجل العالم الكثير الجدال، وربما دل على النجاة من الشدائد والعذاب، وربما دل على المعرفة بالله تعالى، وبما شرعه من الدين والصلاة، وإن رآه ظمآن، اهتدى إلى الماء، والله تعالى أعلم. الهدي: هو ما يهدى إلى الحرم من النعم، والهدى أيضا مثله وقرىء حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ «2» بالتخفيف والتشديد، وهما لغتان الواحدة هدية وهدية. وكان الهدي الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية ونحره مائة بدنة. وقال المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: سبعين بدنة والناس سبعمائة. فكانت البدنة عن عشرة وهذا غريب. وعن مصعب بن ثابت، قال: والله لقد بلغني أن حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه حضر يوم عرفة ومعه مائة رقبة ومائة بدنة ومائة بقرة ومائة شاة، فقال: هذا كله لله تعالى، فأعتق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 الرقاب، وأمر بتلك فنحرت، رواه الطبراني مرسلا. وفي الصحيحين «1» ، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أهدي النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنما، وفيه استحباب تقليد الغنم، وقال مالك وأبو حنيفة، لا يستحب، بل خصا التقليد بالإبل والبقر. فرع : اتفق العلماء على أن الهدي إذا كان تطوعا فللمهدي أن يأكل منه، وكذلك أضحية التطوع. لما روى «2» جابر أنه صلى الله عليه وسلم أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها بيده ثلاثا وستين، وأمر عليا فنحر ما بقي منها، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ من كل بدنة بضعة، فتجعل في قدر فأكلا من لحمها وحسيا من مرقها. واختلفوا في الهدي الواجب بالشرع، مثل دم التمتع والقران والواجب بافساد الحج وفواته وجزاء الصيد، فذهب قوم إلى أنه لا يجوز أن يأكل منه شيئا وبه قال الشافعي، وكذلك ما أوجبه على نفسه بالنذر، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا يأكل من جزاء الصيد والنذر، ويأكل مما عداهما، وبه قال الإمام أحمد واسحاق. وقال مالك: يأكل من هدي التمتع ومن كل هدي وجب عليه، إلا من فدية الأذى وجزاء الصيد والنذر. وقال أصحاب الرأي: يأكل من دم التمتع والقران، ولا يأكل من كل واجب سواهما، والله تعالى أعلم. الهديل: ذكر الحمام قد تقدم ما في الحمام في باب الحاء المهملة، قال جران العود «3» : كان الهديل الظالع الرجل وسطها ... من البغي شريب يغرد منزف والهديل صوت الحمام، يقال: هدل القمري يهدل هديلا، والهديل فرخ كان على عهد نوح عليه الصلاة والسلام، فصاده جارح من الطير، فليس من حمامة إلا وتبكي عليه إلى يوم القيامة. قال نصيب «4» : فقلت أتبكي ذات طوق تذكرت ... هديلا وقد أودى وما كان تبع يقول لم يخلق تبع بعد. الهرماس: بكسر الهاء من اسماء الأسد، وقيل: هو الشديد من السباع، والهرماس بن زياد الباهلي من الصحابة سكن البصرة وطال عمره، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثين أحدهما عن أبي داود والآخر رواه النسائي. والهرميس بكسر الهاء أيضا الكركدن عند ابن سيده. قال: وهو أكبر من الفيل قال الشاعر: والفيل لا يبقى على الهرميس الهر: السنور، والجمع هررة، كقرد وقردة، والأنثى هرة وتقدمت في خواص الأسد في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 الكلام على الفأرة، أن الهرة خلقت من عطسة الأسد. روى الإمام أحمد والبزار ورجال الإمام أحمد ثقات، من حديث «1» أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال صلى الله عليه وسلم: «قه أيسرّك أن يشرب معك الهر» قال: لا. قال: «فقد شرب معك الشيطان» . وفي تاريخ ابن النجار، في ترجمة محمد بن عمر الحنبلي، عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كنت جالسا عند عائشة رضي الله تعالى عنها أبشرها بالبراءة، فقالت: والله لقد هجرني القريب والبعيد، حتى هجرتني الهرة، وما عرض علي طعام ولا شراب، فكنت أرقد وأنا جائعة، فرأيت الليلة في منامي فتى فقال: ما لك حزينة؟ فقلت: مما ذكر الناس. فقال: ادعي بهذه الكلمات يفرج عنك. فقلت: وما هي؟ فقال: قولي: دعاء الفرج يا سابغ النعم، ويا دافع النقم، ويا فارج الغمم، ويا كاشف الظلم، ويا أعدل من حكم، ويا حسيب من ظلم، ويا ولي من ظلم، ويا أول بلا بداية، ويا آخر بلا نهاية، ويا من له اسم بلا كنية، أجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. قالت: فانتبهت وأنا ريانة شبعانة، وقد أنزل الله براءتي وجاءني الفرج. وفي الحديث «2» الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن الشيطان عرض للنبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، قال عبد الرزاق: في صورة هر، قال صلى الله عليه وسلم: «فشد علي يقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فذعته أي خنقته ولقد هممت أن أوثقه في سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه. فذكرت قول أخي سليمان: رب أغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرده الله خاسئا» . وروى ابن أبي خيثمة، عن ميمونة بنت سعيد، مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في الاستيعاب، عن سليمان الفارسي، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالهر، وقال: «إنّ امرأة عذبت في هرة ربطتها» «3» الحديث، وهو في الصحيحين. وفي الزهد للإمام أحمد: رأيتها في النار وهي تنهش قبلها ودبرها. والمرأة المعذبة كانت كافرة، كما رواه البزار في مسنده، والحافظ أبو نعيم في تاريخ أصبهان، ورواه البيهقي في البعث والنشور، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فاستحقت التعذيب بكفرها وظلمها. وقال القاضي عياض في شرح مسلم: يحتمل أن تكون كافرة. ونفى النووي هذا الاحتمال، وكأنهما لم يطلعا على نقل في ذلك. وفي مسند أبي داود الطيالسي، من حديث الشعبي، عن علقمة قال: كنا عند عائشة رضي الله تعالى عنها، ومعنا أبو هريرة، فقالت: يا أبا هريرة أنت الذي تحدث «4» عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأة عذبت بالنار من أجل هرة؟ قال أبو هريرة: نعم سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت عائشة: المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة، إنما كانت المرأة مع ذلك كافرة يا أبا هريرة، إذا حدثت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فانظر كيف تحدث. وقد تقدم في الفرس، ما أنكرته عائشة على أبي هريرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 وروى ابن عساكر، في تاريخه عن بعض أصحاب الشبلي، أنه رآه في النوم، بعد موته فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا أبا بكر أتدري بماذا غفرت لك؟ فقلت: بصالح عملي. فقال: لا. قلت: باخلاصي في عبوديتي، قال: لا. قلت: بحجي وصومي وصلاتي. قال: لم أغفر لك بذلك. فقلت: بهجرتي إلى الصالحين، وإدامة أسفاري في طلب العلوم. فقال: لا. فقلت: يا ربي هذه المنجيات التي كنت أعقد عليها خنصري، وظني أنك بها تعفو عني وترحمني. فقال: كل هذه لم أغفر لك بها، فقلت: إلهي فبماذا؟ قال: أتذكر حين كنت تمشي في دروب بغداد، فوجدت هرة صغيرة، قد أضعفها البرد، وهي تنزوي من جدار إلى جدار من شدة البرد والثلج، فأخذتها رحمة لها، فأدخلتها في فرو كان عليك وقاية لها من ألم البرد؟ فقلت: نعم. فقال: برحمتك لتلك الهرة رحمتك. وأبو بكر الشبلي اسمه دلف بن جحدر، وقيل جعفر بن يونس الخراساني، كان سيدا صالحا محدثا، مالكي المذهب، صحب الجنيد رضي الله تعالى عنه، وكان في ابتداء أمره واليا على دنباوند، فتاب في مجلس خير النساج، وكانت له خطفات وسكرات وغرقات توجب تلك الغرقات شطحات، فقام عذره فيها ودخل على الجنيد يوما فوقف بين يديه وصفق وأنشد يقول «1» :. عودوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالصدّ والصدّ صعب زعموا حين أزمعوا أن ذنبي ... فرط حبي لهم وما ذاك ذنب لا وحقّ الخضوع عند التلاقي ... ما جزا من يحب ألا يحب فأجابه «2» الجنيد رحمه الله تعالى: وتمنيت أن أراك ... فلمّا رأيتكا غلبت دهشة السرور ... فلم أملك البكا ومن شعر «3» الشبلي رحمه الله تعالى: مضت الشبيبة والحبيبة فانبرى ... دمعان في الأجفان يزدحمان ما أنصفتني الحادثات رمينني ... بمودعين وليس لي قلبان توفي الشبلي، رحمه الله في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، وله سبع وثمانون سنة. وفي كامل ابن عدي، في ترجمة أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، أنه روى «4» عن عروة، عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم تمر به الهرة فيصفي لها الإناء فتشرب، ثم يتوضأ بفضلها. قال: وكان أبو يوسف يقول: من طلب غرائب الحديث كذب، ومن طلب المال بالكيمياء افتقر، ومن طلب الدين بالكلام تزندق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 وفي آخر كتاب مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه، للحاكم أبي عبد الله، بإسناده إلى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال: سمعت الشافعي يقول: اختصم رجلان إلى بعض القضاة، في هرة ادعى كل منهما أنها له، وأن عنده أولادها، فحكم القاضي أن توسط بين داريهما ثم ترسل فأي دار دخلت فهي لصاحبها. قال الشافعي: فانجفل الناس، وانجفلت معهم، فلم تدخل الهرة دار واحد منهما. قال الشافعي: فبطل قضاؤه. غريبة : ذكر أن مروان الجعدي المنبوز بالحمار، آخر خلفاء بني أمية، لما ظهر السفاح بالكوفة، وبويع له بالخلافة، وجهز العساكر إليه، فانهزم منهم، حتى وصل إلى أبي صير، وهي قرية عند الفيوم.. قال: ما اسم هذه القرية؟ قيل: أبو صير. قال: فإلى الله المصير، ثم دخل الكنيسة التي بها، فبلغه أن خادما له نم عليه، فأمر به فقطع رأسه، وسل لسانه وألقي على الأرض، فجاءت هرة فأكلته. ثم بعد أيام، هجم على الكنيسة التي كان نازلا بها عامر بن إسماعيل، فخرج مروان من باب الكنيسة، وفي يده سيف، وقد أحاطت به الجنود، وخفقت حوله الطبول، فتمثل ببيت الحجاج بن الحكم السلمي وهو «1» : متقلدين صفائحا هندية ... يتركن من ضربوا كأن لم يولد ثم قاتل حتى قتل، فأمر عامر برأسه فقطع في ذلك المكان، وسل لسانه وألقي على الأرض، فجاءت تلك الهرة بعينها فخطفته فأكلته. فقال عامر: لو لم يكن في الدنيا عجب إلا هذا، لكان كافيا، لسان مروان في فم هرة! وقال في ذلك شاعرهم: قد يسّر الله مصرا عنوة لكم ... وأهلك الكافر الجبار إذ ظلما فلاك مقوله هرّ يجر جرّه ... وكان ربّك من ذي الظلم منتقما ودخل عامر بعد قتله الكنيسة، فقعد على فرش مروان، وكان مروان، حين الهجوم على الكنيسة، يتعشى، فلما سمع الوجبة، وثب عن عشائه، فأكل عامر ذلك الطعام، ودعا بابنة مروان، وكانت أسن بناته، فقالت: يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه، وأقعدك عليه، حتى تعشيت بعشائه، واستصبحت بمصباحه، ونادمت ابنته، لقد أبلغ في موعظتك، وأجمل في إيقاظك. فاستحيا عامر وصرفها وكان قتل مروان في سنة ثلاث وثلاثين ومائة. الحكم : يحرم أكل الهر على الصحيح، والثاني، وبه قال الليث بن سعد، يحل أكله. واختاره أبو الحسن البوشنجي، وهو من أئمة أصحابنا، وهو حيوان طاهر لما روى الإمام أحمد والدارقطني والحاكم والبيهقي، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى دار قوم فأجاب، ودعي إلى دار آخرين فلم يجب، فقيل له في ذلك، فقال «2» : «إن في دار فلان كلبا» . فقيل له: وإن في دار فلان هرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «الهرة ليست بنجسة إنما هي من الطوافين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 عليكم والطوفات» . قال الإمام النووي، في شرح المهذب: وبيع الهرة الأهلية جائز بلا خلاف عندنا، إلا ما حكاه البغوي، في شرح مختصر المزني، عن ابن القاص، أنه قال: لا يجوز، وهذا شاذ باطل مردود، والمشهور جوازه وبه قال جماهير العلماء. قال ابن المنذر: أجمعت الأمة على جواز اتخاذها، ورخص في بيعها ابن عباس والحسن وابن سيرين والحكم وحماد ومالك والثوري والشافعي وإسحاق وأبو حنيفة، وسائر أصحاب الرأي. وكرهت طائفة بيعها منهم: أبو هريرة وطاوس ومجاهد وجابر بن زيد. وقال ابن المنذر: إن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيعه، فبيعه باطل، وإلا فجائز. احتج من منعه بحديث ابن الزبير، قال: سألت جابرا رضي الله تعالى عنه عن ثمن الكلب والسنور، فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. رواه مسلم. وفي سنن «1» أبي داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن ثمن الهر» . واحتج أصحابنا بأنه طاهر منتفع به ووجد فيه جميع شروط البيع، فجاز بيعه كالحمار والبغل، والجواب عن الحديثين من وجهين أحدهما: جواب أبي العباس بن القاص والخطابي والقفال وغيرهم، أن المراد الهرة الوحشية، فلا يصح بيعها، لعدم الانتفاع بها، إلا على الوجه الضعيف القائل بجواز أكلها، والثاني أن المراد نهي تنزيه. فهذان الجوابان هما المعتمدان. وأما ما ذكره الخطابي وابن عبد البر، أن الحديث ضعيف فغلط منهما لأن الحديث في صحيح مسلم بإسناد صحيح كما تقدم بيانه، في باب السين المهملة. وفي السنن «2» الأربعة، من حديث كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة، أن أبا قتادة رضي الله تعالى عنه، دخل فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة فشربت منه، فأصفى لها الإناء حتى شربت. قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات» . والطوافون الخدم، والطوافات الخادمات، جعلها بمنزلة المماليك في قوله تعالى «3» : وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ . ومنه قول إبراهيم النخعي: إنما الهرة كبعض أهل البيت. كذا نقله الزمخشري. وفي المستدرك وسنن ابن ماجه وكامل بن عدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «4» : «الهرة لا تقطع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 الصلاة إنما هي من متاع البيت» . فرع : إذا كان للإنسان هرة تأخذ الطيور، وتقلب القدور، فأفلتت وأتلفت، فهل على صاحبها ضمان ما أتلفت؟ وجهان، أصحهما: نعم. سواء أتلفت ليلا أو نهارا، لأن مثل هذه الهرة ينبغي أن تربط ويكف شرها. وكذا الحكم في كل حيوان يولع بالتعدي، أما إذا لم يعهد منها ذلك، فالأصح لا ضمان،، لأن العادة جرت بحفظ الطعام عنها، لا بربطها. وأطلق إمام الحرمين في ضمان ما تتلفه الهرة أربعة أوجه: أحدها يضمن، والثاني لا، والثالث يضمن ليلا لا نهارا، والرابع عكسه: لأن الأشياء تحفظ عنها ليلا. وإذا أخذت الهرة حمامة أو غيرها وهي حية، جاز فتل أذنها وضرب فمها، لترسلها فإذا قصدت الحمام فأهلكت بالدفع، فلا ضمان. فإذا كانت الهرة ضارية بالإفساد فقتلها إنسان في حال إفسادها دفعا جاز ولا ضمان عليه، كقتل الصائل دفعا، وينبغي تقييد ذلك، بما إذا لم تكن حاملا لأن في قتل الحامل قتل أولادها، ولم يتحقق منهم جناية. وأما قتلها في غير حالة الإفساد، ففيه وجهان: أصحهما عدم الجواز ويضمنها. وقال القاضي حسين: يجوز قتلها ولا ضمان عليه فيها، وتلحق بالفواسق الخمس فيجوز قتلها، ولا يختص بحال ظهور الشر، وسؤرها طاهر لطهارة عينها، ولا يكره، فلو تنجس فمها ثم ولغت في ماء قليل، فثلاثة أوجه: الأصح أنها إن غابت واحتمل ولوغها في ماء يطهر فمها، ثم ولغت لم تنجسه، والثاني تنجسه مطلقا، والثالث عكسه وغير الماء من المائعات كالماء. الأمثال : قالوا: «أبر من هرة» «1» أرادوا بذلك أنها تأكل أولادها من شدة الحب لهم قال الشاعر: أما ترى الدهر وهذا الورى ... كهرة تأكل أولادها وقالوا: «فلان لا يعرف هر من بر» «2» قال ابن سيده: يعني لا يعرف الهر من الفار. وقال الزمخشري: لا يعرف من يكرهه ممن يبره، وما أحسن قول «3» أحمد بن فارس صاحب المجمل في اللغة، وكانت وفاته سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة: إذا ازدحمت هموم الصدر قلنا ... عسى يوما يكون لها انفراج نديمي هرتي وأنيس نفسي ... دفاتر لي ومعشوقي السراج قال شيخنا اليافعي رحمه الله تعالى: أخبرني بعض الصالحين من أهل اليمن، أن هرة كانت تأتي الشيخ العارف الأهدل بالدال المهملة، فيطعمها من عشائه، وكان اسمها لؤلؤة، فضربها خادم الشيخ ذات ليلة فماتت، فرمى بها الخادم في خرابة، لئلا يعلم الشيخ بذلك، فلما جاء الشيخ سكت عنه ليلتين أو ثلاثا، ثم قال: أين لؤلؤة؟ فقال: ما أدري، فقال الشيخ: ما تدري، ثم ناداها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 لؤلؤة لؤلؤة، فجاءت تجري إليه، فأطعمها على العادة. والخواص تقدمت في باب السين في لفظ السنور. تتمة : قال الصاحب بن عباد أنشدني أبو الحسن بن أبي بكر الحسن بن علي العلاف البغدادي المقري الأديب قصيدة والده في الهر الذي كنى به عن ابن المعتز حين قتله المقتدر، فخشي من المقتدر ونسبها إلى الهر، وعرض به في أبيات منها. وقيل: إنما كنى بالهر عن المحسن بن الوزير أبي الحسن علي بن الفرات «1» أيام محنته لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه، وقيل: كان له هر يأنس به، فكان يدخل أبراج الحمام التي لجيرانه ويأكل فراخها، فأمسكه أربابها فذبحوه، فرثاه بقصيدة. وقال «2» ابن خلكان: وهي من أحسن الشعر وأبدعه. وعددها خمسة وستون بيتا، وطولها يمنع من الإتيان بجميعها، فنأتي بمحاسنها، وفيها أبيات مشتملة على حكم فنأتي بها وأولها: يا هرّ فارقتنا ولم تعد ... وكنت عندي بمنزلة الولد فكيف ننفك عن هواك وقد ... كنت لنا عدة من العدد تطرد الأذى وتحرسنا ... بالغيب من حية ومن جرد وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السّدد يلقاك في البيت منهمو مدد ... وأنت تلقاهمو بلا مدد لا عدد كان منك منفلتا ... منهم ولا واحد من العدد لا ترهب الصيف عند هاجرة ... ولا تهاب الشتاء في الجمد وكان يجري ولا سداد لهم ... أمرك في بيتنا على سدد حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد وحمت حول الردى لظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد وكان قلبي عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد تدخل برج الحمام متئدا ... وتبلغ الفرخ غير متئد وتطرح الريش في الطريق لهم ... وتبلع اللحم بلع مزدرد أطعمك الغي لحمها فرأى ... قتلك أربابها من الرشد حتى إذا داوموك واجتهدوا ... وساعد النصر كيد مجتهد كادوك دهرا فما وقعت وكم ... أفلت من كيدهم ولم تكد فحين أخفرت وانهمكت و ... كاشفت وأسرفت غير مقتصد صادوك غيظا عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 ثم شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يرعووا على أحد فلم تزل للحمام مرتصدا ... حتى سقيت الحمام بالرصد ومنها: لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد أذاقك الموت ربّهن كما ... أذقت أفراخه يدا بيد كأنّ حبلا حوى بجودته ... جيدك للخلق كان من مسد كأن عيني تراك مضطربا ... فيه وفي فيك رغوة الزبد وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد فما سمعنا بمثل موتك إذ ... متّ ولا مثل عيشك النكد فجدت بالنفس والبخيل بها ... أنت ومن لم يجد بها يجد عشت حريصا يقوده طمع ... ومت ذا قاتل بلا قود يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلّا قنعت بالغدد ألم تخف وثبة الزمان كما ... وثبت في البرج وثبة الأسد عاقبة الظلم لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد هذا بعيد من القياس وما ... أعزّه في الدنو والبعد لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد كم دخلت لقمة حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد ما كان أغناك عن تسوّرك ال ... برج ولو كان جنة الخد ومنها: قد كنت في نعمة وفي دعة ... من العزيز المهيمن الصّمد تأكل من فأر بيتنا رغدا ... وأين بالشاكرين للرغد وكنت بددت شملهم زمنا ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد فلم يبقوا لنا على سبد ... في جوف أبياتها ولا لبد «1» وفرغوا قعرها وما تركوا ... ما علقته يد على وتد وفتتوا الخبز في السلال وكم ... تفتتت للعيال من كبد ومزقوا من ثيابنا جددا ... فكلنا في المصائب الجدد وكان ابن العلاف ينادم المعتضد بالله، فبات ليلة في دار المعتضد مع جماعة من ندمائه، فجاء خادم ليلا فقال: إن أمير المؤمنين يقول لكم: أرقت الليلة فقلت «2» : الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذ الدار قفرى والمزار بعيد وقد ارتج علي تمامه فمن أجازه بما يوافق غرضي أجزته فارتج على الجماعة، وكانوا كلهم أفاضل، فقال «1» ابن العلاف: فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعلّ خيالا طارقا سيعود فعاد الخادم إلى المعتضد، ثم رجع إلى ابن العلاف، وقال: يقول أمير المؤمنين: أحسنت، وأمر لك بجائزة سنية وكانت وفاة ابن العلاف سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وعمره مائة سنة. التعبير : الهر في الرؤيا خادم حافظ، فان خطف شيئا فهو لص الدار، وخدشه وعضه خيانة الخادم، وقال ابن سيرين: عض الهر مرض سنة، وكذلك خدشه، والهر إذا لم يكن يأمو فهو سنة فيها راحة لمن رآه، والهر الوحشي سنة فيها تعب ونصب، ومن باع هرة فإنه ينفق ماله، وقالت اليهود: الهر يعبر بالغمازين واللصوص لأن فيها المنفعة والمضرة. وقال أرطاميدورس: الهر في المنام امرأة خداعة صخابة، وعض الهر مرض في تلك السنة. ومن الرؤيا المعبرة أن ابن سيرين أتته امرأة فقالت: رأيت كأن سنورا أدخل رأسه في بطن زوجي فأخذ منه قطعة، فقال ابن سيرين: قد سرق لزوجك ثلاثمائة درهم وستة عشر درهما، قالت: صدقت، فمن أين لك هذا؟ قال: من هجاء حروفه في حساب الجمل فالسين ستون والنون خمسون والواو ستة والراء مائتان، فصار المبلغ ثلاثمائة وستة عشر درهما، فاتهموا عبدا كان في جوارهم، فضربوه فأقر بالمال، ومن رأى كأنه أكل لحم سنور، فإنه يتعلم السحر والله تعالى أعلم. الهرنصانة: بالكسر دودة تسمى السرفة، وقد تقدمت، في باب السين المهملة. هرثمة: من أسماء الأسد، حكاه ابن سيده وغيره. الهرهير: نوع من السمك، وقال المبرد: إنه مركب من السلحفاة، ومن أسود سالح، قال: وهو من أخبث الحيات، ينام ستة أشهر ثم لا يسلم سليمه انتهى. والظاهر أنه مشترك بين الحية والسمك. الهرزون والهرزان: الظليم، وقد تقدم في باب الظاء. الهزار: بفتح الهاء العندليب، وقد تقدم في باب الصاد المهملة في الكلام على الصعوة قول الشاعر: الصعو يرتع في الرياض وإنما ... حبس الهزار لأنه يترنم الهزبر: بكسر الهاء وفتح الزاي واسكان الباء الموحدة وبالراء المهملة في آخره الأسد، كذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 حكاه الجوهري. وقال غيره: إنه حيوان على شكل السنور الوحشي، وفي قده إلا أن لونه يخالف لونه وهو من ذوات الأنياب، ويوجد في بلاد الحبشة كثيرا، لكن يؤيد ما حكاه الجوهري ما قاله بشر بن أبي عوانة لما قتل الأسد: أفاطم لو شهدت ببطن جب ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا إذا لرأيت ليثا رام ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا تبهنس إذ تقاعس عنه مهري ... فقلت له: عقرت اليوم مهرا أنل قدمي بطن الأرض إني ... وجدت الأرض أثبت منك ظهرا وقلت له وقد أبدى نصالا ... محددة ولحظا مكفهرا يدل بمخلب وبحد ناب ... وباللحظات تحسبهن جمرا وفي يمناي ماضي العزم أبغي ... بمضربه قراع الموت أثرا فأنت تروم للأشبال قربا ... ومطلبي لبنت العم مهرا فلما ظن أن النصح غشّ ... وخال مقالتي زورا وهجرا مشى ومشيت من أسدين راما ... مراما كان يطلباه وعرا هززت له الحسام فخلت أني ... سللت به لدى الظلماء فجرا وجدت بضربة جاءته شفعا ... بساعد ماجد تركته وترا فخرّ مجندلا فحسبت أني ... هدمت له بناء مشمخرا وقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك فلم تطق يا ليث صبرا فلا تجزع فقد لاقيت حرا ... يحاذر أن يعاب فمت حرا وأبو الهزبر الملك المؤيد صاحب اليمن داود بن الملك المظفر يوسف بن عمر، كانت دولته بضعا وعشرين سنة، وكان عالما فاضلا شجاعا، وكان عنده من الكتب نحو مائة ألف مجلد، وكان يحفظ التنبيه وغيره وأبوه الملك المظفر، وولده الملك المجاهد كانا في العلم أرفع منه درجة، وأذكى قريحة، وأشهر فضلا، تغمدهم الله برحمته. الهرعة: القملة، قيل: مكتوب على عرش بلقيس: ستأتي سنون هي المعضلات ... يراع من الهرعة الأجدل وفيها يهين الصغير الكبير ... وذو العلم يسكته الأجهل الهف: جنس من السمك صغار، وهو الحساس المتقدم ذكره في باب الحاء المهملة. الهقل: بكسر الهاء الفتى من النعام، وبه لقب محمد بن زياد الهقل الدمشقي، كاتب الأوزاعي، وكان يسكن بيروت، فغلب عليه هذا اللقب. قال ابن معين: ما كان بالشأم أوثق منه، وكان أعلم الناس بمحاسن الأوزاعي وفتياه، توفي سنة تسع وسبعين. وروى له الجماعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 سوى البخاري وفي المثل قالوا: «أشم من هقل» «1» . الهقلس: كعملس الذئي، وقد تقدم الكلام على الذئب في باب الذال المعجمة مستوفى قال الكميت: ونسمع أصوات الفراعل حوله ... يعاوين أولاد الذئاب الهقالسا يعني حول الماء الذي ورده. الهمج: جمع همجة وهو ذباب صغار كالبعوض، يسقط على وجوه الغنم والحمير وأعينها، اشتقوا من اسمه ما يؤكد به. فقالوا: همج هامج كقولهم: ليل لائل، وصيف صائف، ووتد واتد، ويوم أيوم، وجاهلية جهلاء، ويقال للرعاع من الناس الحمقى إنما هم الهمج. قال علي رضي الله تعالى عنه: سبحان من أدمج قوائم الذرة والهمجة. وقال لكميل بن زياد: يا كميل القلوب أوعية، وخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق. والرباني الراسخ في العالم بعلمه. وقال صاحب قوت القلوب، في تفسير قول علي كرم الله وجهه: هذا الهمج الفراش الذي يتهافت في النار، لجهله واحدته همجة، والرعاع الخفيف الطياش الذي لا عقل له، يستفزه الطمع، ويستخفه الغضب، ويزدهيه العجب، ويستطيله الكبر. قال: ثم بكى علي وقال: هكذا يموت العلم بموت حامله انتهى كلامه. الهمع: بفتح الهاء والميم: الصغير من الظباء خاصة. الهمل: بالتحريك الإبل بلا راع، مثل النفش إلا أن النفش لا يكون إلا ليلا، والهمل يكون ليلا ونهارا. ويقال: إبل همل وهاملة وهمال وهوامل، وتركتها هملا أي سدى، إذا أرسلتها ترعى ليلا ونهارا بلا راع. وفي المثل: «اختلط المرعي بالهمل» «2» . والمرعى الذي له راع. قاله الجوهري. وما أحسن ما صنع الطغرائي في ختمه لاميته بقوله: ترجو البقاء بدار لاثبات لها ... فهل سمعت بظلّ غير منتقل قد رشحوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل أشار به إلى قوله تعالى «3» : أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي معطلا لا يؤمر ولا ينهى. يقال: أسديت حاجتي أي ضيعتها وابل سدى، أي ترعى حيث شاءت بلا راع كذا فسره الثعلبي وغيره. الهملع: بالتحريك مع تشديد اللام الذئب قال الشاعر. والشاء لا تمشي مع الهملع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 أي لا تنمو مع رؤية الذئب، والمشاء هو نماء المال وزيادته. يقال: مشى الرجل وأمشى، إذا نما ماله وكثرت ماشيته، وقيل في قوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ «1» إنه من المشاء، لا من المشي. قاله السهيلي، قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، وأفاد بعده بسطرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخديجة رضي الله تعالى عنه: «إن الله أعلمني أن سيزوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران، وكلثم أخت موسى، وآسية امرأة فرعون» . فقالت: بالرفاء والبنين. وذكر أيضا في الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة رضي الله تعالى عنها، من عنب الجنة. الهمهم: الأسد قاله ابن سيده، وقد تقدم ما في الأسد. الهنبر: مثل الخنصر، ولد الضبع. قال أبو زيد من أسماء الضبع أم هنبر في لغة فزارة، قال الشاعر القتال الكلابي: يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم ... أمّ الهنيبر من زندلها واري وقال أبو عمرو: الهنبر الجحش، ومنه قيل للأتان: أم الهنبر. وقالوا في المثل: «أحمق من أم الهنبر» «2» . الهودع: بفتح الهاء والدال المهملة وبالعين المهملة في آخره: النعامة وقد تقدم ما فيها. الهوذة: بفتح الهاء وسكون الواو وبعدها ذال معجمة ضرب من الطير، وقال قطرب: هي القطاة، والجمع هوذ وبذلك سمي هوذة بن علي الحنفي، الذي أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري فأكرمه وأنزله وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا خطيب قومي وشاعرهم، فاجعل لي بعض الأمر، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم. ولما قدم سليط على هوذة ومعه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي. سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم وأجعل لك ما تحت يديك. فلما قرأ الكتاب، أنزله وحياه، ورده ردا دون رد، وأجاز سليط بن عمرو بجائزة، وكساه أثوابا من نسج هجر. وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة، جاءه جبريل فأخبره أنه قد مات على نصرانيته، والله تعالى أعلم. الهوزن: بفتح الهاء وإسكان الواو وفتح الزاي. طائر، قاله ابن سيده، وبإبدال الواو ياء رجل من أعراب فارس، وهو القائل فيما حكى الله عنه قالُوا: ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ «3» في قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ورميه في النار. وهو الذي جاء فيه الحديث الذي انفرد به مسلم، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم «4» قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 «بينا رجل يمشى قد أعجبته جمته وبرداه، إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة» . الهلابع: بضم الهاء الذئب، من قولهم: رجل هلابع أي حريص على الأكل. الهلال: بكسر الهاء الحية مطلقا، وقيل: الذكر من الحيات، والهلال أيضا الجمل الذي جرب حتى أداه ذلك إلى الهزال، والهلال الهلال المعروف. الهيثم: بفتح الهاء فرخ الحبارى، ومنه سمي الرجل هيثما، وقال الجوهري: إنه فرخ العقاب، وقيل: فرخ النسر أيضا، قاله في كفاية المتحفظ. الهيجمانة: الذر، وقد تقدم لفظ الذر في باب الذال المعجمة. الهيطل: الثعلب، وقد تقدم لفظ الثعلب في باب الثاء المثلثة. الهيعرة: الغول والمرأة الفاجرة والخفة والطيش. الهيق: بفتح الهاء وسكون الياء المثناة تحت قبل القاف: ذكر النعام وكذلك الهيقم، والميم زائدة قال الراجز: أشمّ من هيق وأهدى من جمل وقال آخر: وهو يشمّ كاشتمام الهيق الهيكل: بفتح الهاء الفرس الطويل الضخم. أبو هارون: طير في حنجرته أصوات شجية تفوق النوائح، وتروق فوق كل مغن، لا يسكت بالليل البتة، يصيح إلى وقت الصباح، ويجتمع عليه الطير لا لتذاذها بسماع صوته، وربما يمر به العاشق فلا يستطيع المرور بل يقعد ويبكي على صوته الشجي، والله أعلم. باب الواو الوازع: الكلب لأنه يزع الذئب عن الغنم، أي يطرده. وقد تقدم ما فيه في باب الكاف. الواق واق: تقدم في بابا السين مهملة، في الكلام على السعلاة عن الجاحظ، أنه نتاج ما بين بعض النبات وبعض الحيوان، والله تعالى أعلم. الواقي: كالقاضي: الصرد ويقال له: الواق بكسر القاف، سمي بذلك لحكاية صوته، وأنشد «1» ابن قتيبة لبعض الشعراء، وهو المرقش السدوسي: ولقد عدوت وكنت لا ... أعدو على واق وحاتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم وكذاك لا خير ولا ... شرّ على أحد بدائم لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم قد خطّ ذلك في السطو ... ر الأوليات القدائم الواقي الصرد، والحاتم الغراب، وقال خيثم بن عدي «1» : وليس بهياب إذا شدّ رحله ... يقول عداني اليوم واق وحاتم ولكنه يمضي على ذاك مقدّما ... إذا صد عن تلك الهناة الخثارم يعني بالخثارم العاجز الضعيف الرأي المتطير، والواق أيضا طير من طير الماء أبيض ينطق بهذه الحروف. وفي حله الخلاف في طير الماء الأبيض، وقد تقدم أن الأصح حلها، إلا اللقلق كما قاله الرافعي. الوبر: بفتح الواو وتسكين الباء الموحدة دويبة أصغر من السنور طحلاء اللون لا ذنب لها تقيم في البيوت، وجمعها وبورو وبارو وبارة، والأنثى وبرة، وقول الجوهري: لا ذنب لها أي لا ذنب طويل، وإلا فالوبر له ذنب قصير جدا والناس يسمون الوبر بغنم بني اسرائيل، ويزعمون أنها مسخت لأن ذنبها مع صغره، يشبه ألية الخروف، وهو قول شاذ لا يلتفت إليه ولا يعول عليه. فائدة : روى «2» البخاري، في كتاب الجهاد، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعدما افتتحوها، فقلت: يا رسول الله أسهم لي، فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تسهم له يا رسول الله فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: هذا قاتل ابن قوقل. فقال ابن سعيد بن العاص: واعجبا لوبر تدلى علينا من قدوم ضان، ينعي علي قتل رجل مسلم، أكرمه الله على يدي، ولم يهنّى على يديه. قال: فلا أدري أسهم له أم لم يسهم له. وابن سعيد المذكور هو أبان، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال بعض شراح البخاري: الوبر دويبة يقال إنها تشبه السنور، وأحسب أنها تؤكل. وضان اسم جبل ويروى ضال باللام. قوله: ينعى معناه يعيب، يقال: نعيت على فلان فعله إذا عبته عليه، وخرجه البخاري أيضا في غزوة خيبر، فقال: إن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه فقال أبو هريرة: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل، فقال أبان لأبي هريرة: وا عجبا لك وبر تردى من قدوم ضان ينعي عليّ امرءا أكرمه الله تعالى بيدي ومنعه أن يهينني بيده. قال بعض الشارحين: قدوم جبل لدوس، وهي قبيلة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 قال البكري، في معجمه: هكذا رواه الناس عن البخاري قدوم ضان بالنون إلا الهمداني فإنه رواه من قدوم ضال بالكلام، وهو الصواب إن شاء الله تعالى، والضال السدر البري. وأما إضافة هذه النسبة إلى الضان فلا أعلم لها معنى، وكذلك قال شيخ الإسلام الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام. وقال ابن الأثير، في النهاية: والوبر دويبة على قدر السنور وجمعها وبر وبار، وإنما شبهه بالوبر تحقيرا له. ورواه بعضهم بفتح الباء من وبر الإبل تحقيرا له أيضا. والصحيح الأول. وابن قوقل بقافين مفتوحين، اسمه النعمان رجل مسلم قتله أبان بن سعيد في حال كفره وكان اسلام أبان بين الحديبية وخيبر، وهو الذي أجار عثمان رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة. وحكمه : حل الأكل لأنه يفدى في الإحرام والحرم، وهو كالأرنب يعتلف النبات والبقول. وقال الماوردي والروياني: إنه حيوان في عظم الجرذ إلا أنه أنبل منه وأكبر، والعرب تأكله. وقيل: هو دويبة سوداء على قدر الأرنب وأكبر من ابن عرس، وعبارة الرافعي قريبة من ذلك. وقال مالك: لا بأس بأكله، وبه قال عطاء ومجاهد وطاووس وعمرو بن دينار وابن المنذر وأبو يوسف. وكرهه الحكم وابن سيرين وحماد وأبو حنيفة والقاضي من الحنابلة، وقال ابن عبد البر: لا أحفظ في الوبر شيئا عن أبي حنيفة وهو عندي مثل الأرنب لا بأس بأكله، لأنه يقتات البقول والنبات والله أعلم. الوج: كوج الطائف، القطا والنعام وقد تقدم ما فيهما في بابيهما القاف والنون. الوحرة: بفتح الواو والحاء والراء دويبة حمراء تلزق بالأرض كالعظاء، والجمع وحر، قاله الجوهري. وقال غيره: هي بفتح الحاء وسكونها وهي وزغة شبيهة بسام أبرص تلصق بالأرض، أو ضرب من العظاء لا تطأ طعاما ولا شرابا إلا سمته، وهي على شكل سام أبرص. روى «1» الترمذي، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا فإن الهدية تذهب وحر الصدور لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» . ثم قال: غريب من هذا الوجه، وقوله: «لا تحقرن جارة لجارتها» إلى آخره رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضا بزيادة «يا نساء المسلمات» ووحر الصدر غشه ووساوسه. وقيل: الحقد والغيظ، وقيل: العداوة، وقيل: أشد الغضب، وقيل: الغل اللاصق به كما تلصق الوحرة بالأرض. وكذلك رواه «2» البخاري، في كتاب الأدب، والبيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بإسناد جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تهادوا تحابوا فإنه يضعف الحب ويذهب بغوائل الصدور» . وفي حديث «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 الملاعنة «إن جاءت به أحمر قصيرا مثل الوحرة فقد كذب عليها» . وفي الحديث «1» : «من أحب أن يذهب كثيرا من وحر صدره فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر» . الوحش: كل شيء من دواب البر مما لا يستأنس، والجمع وحوش، يقال: حمار وحش وثور وحش، وكل شيء لا يستأنس من الناس فهو وحش. وقد تقدم في أول الباب الذي قبله، الحديث الذي رواه «2» مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله عز وجل مائة رحمة، قسم منها رحمة بين جميع الخلائق، فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها تعطف الوحش على أولادها، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عبادة يوم القيامة» ؛ وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم الوحش بالذكر، لنفورها وعدم استئناسها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله سبحانه وتعالى: ابن آدم وعزتي وجلالي لئن رضيت بما قسمت لك أرحتك وأنت محمود، وإن لم ترض بما قسمت لك سلطت عليك الدنيا تركض فيها كركض الوحش ثم لا يكون لك إلا ما قسمت لك وأنت مذموم» . وروى الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه مرفوعا: «من سعادة ابن آدم رضاه بما قسم الله» . وفي الإحياء: أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام: يا داود تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد. وقال أبو القاسم الأصبهاني، في الترغيب والترهيب: قال قيس بن عبادة: بلغني أن الوحش كانت تصوم عاشوراء، وقال الفتح بن سخرب، وكان من الزهاد: كنت أفتت للنمل خبزا في كل يوم فإذا كان يوم عاشوراء لم تأكله. تتمة مشتملة على فوائد حسنة : قال شيخ الإسلام محي الدين النووي، في الأذكار، في باب أذكار المسافر، عند إرادة الخروج من بيته: يستحب له عند ارادته الخروج من بيته أن يصلي ركعتين، لحديث المقطم بن المقدام الصحابي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما خلف أحد عند أهله أفضل من ركعتين يركعهما عندهم حين يريد السفر» . رواه الطبراني. قال بعض أصحابنا: يستحب أن يقرأ في الأولى منهما بعد الفاتحة قل أعوذ برب الفلق، وفي الثانية قل أعوذ برب الناس، وإذا سلم قرأ آية الكرسي، فقد جاء أن من قرأ آية الكرسي، قبل خروجه من منزله، لم يصبه شيء يكرهه حتى يرجع ويستحب أن يقرأ سورة لايلاف قريش فقد قال السيد الجليل، أبو الحسن القزويني، الفقيه الشافعي صاحب الكرامات الظاهرة والأحوال الباهرة، والمعارف المتظاهرة: إنه أمان من كل سوء. وقال أبو طاهر بن جحشويه: أردت سفرا، وكنت خائفا منه فدخلت على القزويني، أسأله الدعاء، فقال لي ابتداء من قبل نفسه: من أراد سفرا ففزع من عدو أو وحش، فليقرأ لإيلاف قريش، فإنها أمان من كل سوء. فقرأتها فلم يعرض لي عارض حتى الآن انتهى. قوله المقطم الصحابي وهم، لا يعرف في الصحابة من اسمه المقطم. والحديث المذكور مرسل، فإن راويه إنما هو المقطم بن المقدام الصنعاني رواه الطبراني في كتاب المناسك، وقد وقع هذا الاسم في الأذكار مصحفا كما ترى صحف الصنعاني فجعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 الصحابي وربما ظن أن ذلك تصحيف من النساخ، حتى وجد كذلك بخط الشيخ محي الدين النووي. هكذا أفادنا هذه الفائدة شيخنا الحافظ العلامة زين الدين بن عبد الرحيم العراقي رحمه الله وأحسن إليه قال: والصنعاني المذكور نسبة إلى صنعاء الشام لا إلى صنعاء اليمن. تتمة أخرى : قوله «1» تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ أي جمعت وقوله «2» تعالى: ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ اختلف العلماء في حشر البهائم والوحش والطيّر؛ فقال عكرمة: حشرها موتها. وقال أبي بن كعب: حشرت أي اختلطت. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حشر كل شيء الموت، غير الجن والإنس فإنهما يوفيان يوم القيامة. وقال الجمهور: الجميع تحشر وتبعث حتى الذباب ويقتص لبعضها من بعض، فيقتص للجماء من القرناء، ثم يقول الله تعالى: كوني ترابا فعند ذلك يتمنى الكافر أن يكون ترابا فذلك قوله عز وجل حكاية عن الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «3» قاله أبو هريرة وعمرو بن العاص وعبد الله بن عمرو ابن عباس رضي الله تعالى عنهم في إحدى الروايات والحسن البصري ومقاتل وغيرهم. ورأيت في بعض التفاسير أن المراد بالكافر هنا إبليس لعنه الله وذلك أنه عاب آدم عليه السلام كونه خلق من تراب، وافتخر عليه كونه خلق من نار، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والراحة والرحمة، ورأى ما هو فيه من الشدة والعذاب، تمنى أن يكون ترابا كالبهائم والوحش والطير. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: فيقول التراب للكافر: لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي، ثم يجول ذلك التراب في وجوه الكفار فذلك قوله «4» تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أي ظلمة وكآبة وكسوف وسواد، فإن قيل: ما الفرق بين الغبرة والقترة؟ قيل: إن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض قاله ابن زيد. روى الجماعة «5» : من حديث رافع بن خديج، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فند منّا بعير، فرماه رجل بسهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا» . تتمة أخرى : قال الشيخ قطب الدين القسطلاني: مما حفظت من دعاء والدتي أم محمد آمنة، ووفاتها في صفر سنة ست وخمسين وستمائة، وهو ينفع للوقاية من الأعداء، وممن يخاف شره: اللهم بتلألؤ نور بهاء حجب عرشك من أعدائي احتجبت، وبسطوة الجبروت ممن يكيدني استترت، وبطول حول شديد قوتك من كل سلطان تحصنت، وبديموم قيوم دوام أبديتك من كل شيطان استعذت، وبمكنون السر من سرسرك من كل هم وغم تخلصت، يا حامل العرش عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 حملة العرش، يا شديد البطش يا حابس الوحش، احبس عني من ظلمني. واغلب من غلبني، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ «1» اهـ. وقد فكرت في معنى قولها يا حابس الوحش، فظهر لي فيه أنها أرادت قوله «2» صلى الله عليه وسلم، في قصة الحديبية، «حبسها الفيل» ، والقصة في ذلك مشهورة، وقد تقدمت. وقال الشيخ قطب الدين أيضا: ومما حفظته من دعاء والدتي، وهو من الأدعية التي تنفع في الحجب من الأعداء: اللهم إني أسألك بسر الذات بذات السر، هو أنت أنت هو لا إله إلا أنت احتجبت بنور الله، وبنور عرش الله، وبكل اسم من أسماء الله، من عدوي وعدو الله، ومن شر كل خلق الله، بمائة ألف ألف لا حول ولا قوة إلا بالله، ختمت على نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي، وجميع ما أعطاني ربي، بخاتم الله القدوس المنيع، الذي ختم به أقطار السموات والأرض، حسبنا الله ونعم الوكيل حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ومما جرب في الحجب عن الأعداء أيضا ويمنع من شر كل سلطان وشيطان، وسبع وهامة، أن يقول: سبع مرات عند طلوع الشمس: أشرق نور الله وظهر كلام الله وأثبت أمر الله ونفذ حكم الله استعنت بالله وتوكلت على الله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، تحصنت بخفي لطف الله، وبلطيف صنع الله، وبجميل ستر الله، وبعظيم ذكر الله، وبقوة سلطان الله، دخلت في كنف الله، واستجرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، برئت من حولي وقوتي، واستعنت بحول الله وقته، اللهم استرني في نفسي وديني وأهلي ومالي وولدي، بسترك الذي سترت به ذاتك، فلا عين تراك، ولا يد تصل إليك، يا رب العالمين احجبني عن القوم الظالمين بقدرتك يا قوي يا متين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدين، والحمد رب العالمين. الودع: واحدته ودعة وهو حيوان في جوف البحر، إذا قذف إلى البرمات، وله بريق ولون حسن، وتصلب كصلابة الحجر، فيثقب ويؤخذ منه القلائد، يتحلى بها النساء والصبيان. وفي داله الفتح والسكون قال الشاعر: إن الرواة بلا فهم لما حفظوا ... مثل الجمال عليها يحمل الودع لا الودع ينفعه حمل الجمال له ... ولا الجمال بحمل الودع تنتفع واسمها مشتق من ودعته أي تركته، لأن البحر ينضب عنها ويدعها، فهي ودع بالتحريك وإذا قلت الودع بالتسكين، فهو من باب ما سمي بالمصدر. الوراء: ولد البقرة وقد تقدم ما في البقرة في باب الباء الموحدة. الورد: الأسد قيل له ذلك تشبيها بلون الورد الذي يشم، ولذلك قيل للفرس ورد، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 بين الكميت الأشقر. والأنثى وردة والجمع ورد بالضم مثل جون وجون. ومن الأحاديث الموضوعة، ما ذكره ابن عدي وغيره، في ترجمة الحسن بن علي بن زكريا بن صالح العدوي البصري، الملقب بالذئب، عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «1» : «ليلة أسري بي إلى السماء سقط إلى الأرض من عرقي فنبت منه الورد، فمن أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد» . الورداني: بالراء المهملة طائر متولد بين الورشان والحمام، وله غرابة لون وظرافة قد قاله الجاحظ. الورشان: بالشين المعجمة هو ساق حر المتقدم في باب السين المهملة، وهو ذكر القمارى، والجمع وراشين ويجمع أيضا على ورشان بكسر الراء ككروان جمع للطائر، وقيل: إنه طائر يتولد بين الفاختة والحمامة وبعضهم يسميه الورشين وفي ذلك يقول ابن عنين «2» ملغزا: يا علماء القريض إني ... أعجزني في القريض كشف فخبروني عن اسم طير ... النصف ظرف والنصف حرف وكنيته أبو الأخضر وأبو عمران وأبو النائحة. وهو أصناف منها: النوبي وهو أسود حجازي، إلا أنه أشجى صوتا منه، ومزاجه بارد رطب بالنسبة إلى مزاج الحجازيات، وصوته بين أصواتها كصوت العود بين الملاهي، والورشان يوصف بالحنو على أولاده، حتى إنه ربما قتل نفسه إذا رآها في يد القانص. قال عطاء: إنه يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب. وهذه لام العاقبة مجازا قال الشاعر: له ملك ينادي كلّ يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب حكى القشيري، في رسالته، في باب كرامات الأولياء، أن عتبة الغلام كان يقعد فيقول: يا ورشان إن كنت أطوع لله مني فتعال فاقعد على كفي فيجيء الورشان فيقعد على كفه. وحكمه : حل الأكل لأنه من الطيبات. تتمة : كان عثمان بن سعيد أبو سعد المقرىء المصري المعروف بورش، قصيرا سمينا أشقر أزرق العينين، شديد البياض، حسن الصوت بالقراءة، ولذلك لقبه شيخه نافع بالورشان، فكان يقول له: اقرأ يا ورشان افعل يا ورشان وكان لا يكرهه ويعجبه، ويقول: استاذي نافع سماني به فغلب عليه، ثم حذف بعض الاسم فقيل له ورش. قال ورش: خرجت من مصر لأقرأ على نافع فلما دخلت المدينة، فإذا به لا يطيق أحد القراءة عليه لكثرة الطلبة، وكان لا يقرىء أحدا إلا ثلاثين آية. قال: فتوسلت إليه ببعض أصحابه، فجئت إليه معه، فقال: هذا رجل جاء من مصر ليقرأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 عليك خاصة، لم يجىء تاجرا ولا حاجا، فقال له نافع: أنت ترى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار، فقال: أريد أن تحتال له في وقت، فقال لي نافع: يا أخي يمكنك أن تبيت في المسجد؟ قلت: نعم. فبت فيه. فلما كان الفجر جاء نافع فقال: ما فعل الغريب؟ فقلت: نعم ها أنا ذا يرحمك الله. فقال: اقرأ فقرأت، وكنت حسن الصوت بالقراءة، فاستفتحت أقرأ فملأ صوتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهيت إلى رأس الثلاثين آية، أشار إليّ أن أسكت، فسكت، فقام إليه شاب من الحلقة فقال: يا معلم الخير نحن معك بالمدينة، وهذا هاجر إليك ليقرأ عليك، وقد وهبته من نوبتي عشر آيات، وأنا أقتصر على عشرين. فقال: اقرأ، فقرأتها. ثم قام فتى أخر فقال كقول صاحبه، فقرأت عشر آيات وقعدت حتى إذا لم يبق أحد ممن له قراءة، قال لي: اقرأ فقرأت خمسين آية حتى قرأت عليه ختمات قبل أن أخرج من المدينة. وتوفي ورش بمصر سنة سبع وتسعين ومائة ومولده سنة عشرين ومائة. الأمثال : قالوا: «بعلة الورشان يأكل رطب المشان» بالإضافة، «ولا تقبل الرطب المشان» وهو نوع من التمر، والمشان ضرب من الرطب، والسبب في ذلك أن قوما استحفظوا عبدا لهم رطب نخلهم، فكان يأكله، فإذا عوتب على سوء الأثر فيه يقول: أكله الورشان، فقيل ذلك يضرب لمن يظهر شيئا، والمراد منه شيء آخر. الخواص : دمه يقطر في العين التي أصابتها طرفة أو ضربة فيحلل دمها المجتمع، وكذلك يفعل دم الحمام أيضا وقال هرمس: من داوم على أكل بيضه زاد جماعه وأورثه العشق. التعبير : الورشان رجل غريب مهين، ويدل على أخبار ورسل، لأنه أخبر نوحا عليه الصلاة والسلام بنقص الماء، لما كان في السفينة. وقيل: الورشان امرأة صدوق والله أعلم. الورقاء: الحمامة التي يضرب لونها إلى خضرة، والورقة سواد في غبرة، ومنه قيل للرماد: أورق وللذئبة ورقاء والجمع ورق كأحمر وحمر. وفي الصحيحين «1» وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: جاء رجل من بني فزارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من إبل؟» قال: نعم. قال: «فما ألوانها» ؟ قال: حمر. قال: «فهل فيها من أورق؟» قال: إن فيها الورقاء قال: «فأنى أتاها ذلك؟» قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: «هو ذاك» . قال السهيلي، في قصة سواد بن قارب: ومن هذا الباب خبر سوداء بنت زهرة بن كلاب، وذلك أنها حين ولدت ورآها أبوها ورقاء، أمر بوأدها، وكانوا يئدون من البنات ما كان على هذه الصفة، فأرسلها إلى الحجون لتدفن هناك. فلما حفر لها الحافر، واراد دفنها سمع هاتفا يقول: لا تدفن الصبية وخلها في البرية، فالتفت فلم ير شيئا فعاد لدفنها، فسمع الهاتف فعاد إلى أبيها وأخبره بما سمع، فقال: إن لها لشأنا وتركها. فكانت كاهنة قريش. فقالت يوما: يا بني زهرة إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 فيكم نذيرة تلد نذيرا، فاعرضوا عليّ بناتكم. فعرضوا عليها، فقالت في كل واحدة منهن قولا ظهر عليها بعد حين، حتى عرضت عليها آمنة بنت وهب، فقالت: هذه النذيرة وستلد نذيرا. وهو خبر طويل ذكر الزبير بن بكار منه يسيرا. وقال الغزالي، في الإحياء: روي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوة فجرت بينهم مسألة في العلم، وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم: ربّ ورقاء هتوف في الضحي ... ذات شجو هتف في فنن ذكرت إلفا وخدنا صالحا ... فبكت حزنا فهاجت حزني فبكاي ربما أرقها ... وبكاها ربما أرقني ولقد تشكو فما أفهمها ... ولقد أشكو فما تفهمني غير أني بالجوى أعرفها ... وهي أيضا بالجوى تعرفني قال: فما بقي أحد من القوم، إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم، الذي خاضوا فيه وإن كان العلم حقا، وقد شبه بها الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسين بن سينا النفس حيث قال: هبطت إليك من المحلّ الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع أنفت وما ألفت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذالت الأجرع علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضع تبكي وقد نسيت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمي ولما تقلع حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع وغدت تغرد فوق ذروة شاهق ... والعلم يرفع كلّ من لم يرفع وتعود عالمة بكلّ خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع فهبوطها إذا كان ضربة لازب ... لتكون سامعة لما لم تسمع فلأي شيء أهبطت من شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع إن كان أهبطها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع أو عاقها الشرك الكثيف وصدّها ... قفص عن الأوج الفسيح الأرفع فكأنها برق تألّق بالحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع وكان الرئيس أبو علي نادرة عصره وعلامة دهره وهو أحد فلاسفة المسلمين وله وصايا في الطب، كثيرة، نظما ونثرا فمن المنسوب إليه من ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 اسمع بني وصيتي واعمل بها ... فالطبّ معقود بنص كلامي لا تشربن عقيب أكل عاجلا ... فتقود نفسك للأذى بزمام واجعل غذاءك كل يوم مرة ... واحذر طعاما قبل هضم طعام واحفظ منيك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الأرحام وينسب إليه أيضا: لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفا بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كفّ حائر ... على ذقن أو قارعا سنّ نادم قال الشيخ كمال الدين بن يوسف: إن مخدومه سخط عليه، فاعتقله ومات في السجن سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. الورل: بفتح الواو والراء المهملة وباللام في آخره، دابة على خلقة الضب إلا أنه أعظم منه، والجمع أورال وورلان والأنثى ورلة. كذا قاله ابن سيده. وقال القزويني: إنه العظيم من الوزغ، وسام أبرص طويل الذنب سريع السير، خفيف الحركة. وقال عبد اللطيف البغدادي: الورل والضب والحرباء، وشحمة الأرض والوزغ، كلها متناسبة في الخلق، فأما الورل وهو الحرذون فليس في الحيوان أكثر سفادا منه، وبينه وبين الضب عداوة، فيغلب الورل الضب ويقتله، لكنه لا يأكله كما يفعل بالحية، وهو لا يتخذ بيتا لنفسه ولا يحفر له جحرا بل يخرج الضب من جحره صاغرا، ويستولي عليه، وإن كان أقوى براثن منه، لكن الظلم يمنعه من الحفر، ولهذا يضرب بالورل المثل في الظلم، ويكفي في ظلمه أنه يغصب الحية جحرها ويبلعها، وربما قتل فوجد في جوفه الحية العظيمة، وهو لا يبتعلها حتى يشدخ رأسها ويقال إنه يقاتل الضب. والجاحظ يقول: إن الحرذون غير الورل، ووصفه بأنه دابة تكون غالبا بناحية مصر، مليحة موشاة بألوان كثيرة، ولها كف ككف الإنسان مقسومة أصابعها إلى الأنامل، وهو يقوى على الحيات ويأكلها أكلا ذريعا، ويخرجها من جحرها ويسكن فيه وهو أظلم ظالم. فائدة : قال أهل اللغة: لا تلتقي الراء مع اللام إلا في أربع كلمات: الورل، وهو هذا الحيوان المذكور، وأرل اسم جبل، وغرلة وهي القلفة، وجرل وهو ضرب من الحجارة. الحكم : مقتضى ما تقدم من أكله الحيات أنه يحرم، وهذا هو الظاهر من قول الأقدمين، ورجح الرافعي أنه يرجع فيه إلى استطابة العرب وعدمها، لقوله «1» تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ، وليس المراد الحلال وإن كان قد ورد الطيب بمعنى الحلال، فإن الحمل عليه يخرج الآية عن الافادة، والعرب أولى باعتبار ذلك لأن الدين عربي والنبي صلى الله عليه وسلم عربي، وإنما يرجع في ذلك إلى سكان البلاد والقرى، دون أجلاف البوادي، الذين يأكلون مادب ودرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 من غير تمييز، مع اعتبار حالة اليسار والثروة دون المحتاجين. وأصحاب الضرورات، وحالتي الخصب والرفاهية دون حالتي الجدب والشدة. وقال بعضهم: المعتبر هنا العرب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الخطاب كان لهم. وقال ابن عبد البر، في التمهيد: ذكر عبد الرزاق قال: أخبرني رجل من ولد سعيد بن المسيب قال: أخبرني يحيى بن سعيد قال: كنت عند سعيد بن المسيب، فجاءه رجل من غطفان، فسأله عن الورل فقال: لا بأس به، وإن كان معكم منه شيء فاطعمونا منه. قال عبد الرزاق: والورل يشبه الضب اهـ. وقد ذكر في كتاب رفع التمويه فيما يرد على التنبيه، ما حاصله أنه فرخ التمساح، وقال: لأن التمساح يبيض في البر فإذا خرجت فراخه نزل بعضها في البحر، وبقي بعضها في البر فما نزل إلى البحر صار تمساحا، وما بقي في البر صار ورلا. قال: فعلى هذا يكون في حله الوجهان كما في التمساح اهـ. وهذا الذي قاله لا أعتقد صحته، وذلك لأن الورل ليس على صفات التمساح، لأن جلده يخالف جلده في النعومة وأيضا فإنه لو كان من التمساح لأخذ في الكبر حتى يصير في حجمه، والورل في المقدار لا يزيد على ذراع ونصف أو ذراعين، والتمساح يبلغ عشرة أذرع وأكثر. تنبيه مهم : إعلم أنه تقدم في هذا الكتاب حيوانات لم تتعرض الأصحاب لها بالحل ولا بالحرمة، وذلك نحو البلنصى والدبل والقرعبلان والقرز والقنفشة والورل وغير ذلك، إلا أنهم أعطوا قواعد كلية عامة وقواعد خاصة، وذلك لما أيسوا من الطمع في حصر أنواع الحيوانات. فمن قواعدهم الخاصة: تحريم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وكل ما يقتات من النجاسات والخبائث، وكل ما نهي عن قتله أو أمر بقتله، أو تولد بين مأكول وغيره، وكل نهاش والحشرات بأسرها، إلا الضب واليربوع والقنفذ وابن عرس والدلدل. ومن قواعدهم الخاصة أيضا تحليل كل ذات طوق ولقاط وطيور الماء كلها، إلا اللقلق كما تقدم. ومن هذه القواعد يؤخذ تحريم الورل لأنه من الحشرات، ولم يستثنوه. وكذا غيره من الحشرات كالخلد والربارب وفأرة البيش والإيل ومما يدل على منع أكل الورل قول الجاحظ وغيره: إن الورل يقوي على الحيات ويأكلها أكلا ذريعا ويخرجها من جحرها ويسكن فيه قال: وبراثن الورل أقوى من براثن الضب إلا أن الورل يخرج الحية من جحرها، ولا يحفر خوفا منه على براثنه. ثم المعنى بقولهم ما أمر بقتله لمعنى فيه كالفواسق الخمس أما ما أمر بقتله لمعنى في غيره فلا يحرم، ومن ذلك الدابة المأكولة إذا وطئت فإنه يجب ذبحها ولا يحرم أكلها على الصحيح، وإن ورد الأمر بقتلها لأن ذلك ليس لمعنى فيها، بل هو في غيرها وهو تعبير الزاني وتذكره الفاحشة برؤيتها. وقد أمر عمر رضي الله تعالى عنه بقتل الديكة لأنهم كانوا يتهارشون بها وأمر بقتل الحمام لأنهم كانوا يلعبون بها، ويؤذون الناس بصعودهم الأسطحة والرمي بالأحجار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 وقولهم: ما نهي عن قتله فحرام، يعنون به ما نهي عن قتله إكراما له. قال «1» : الخطابي: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الهدهد كرامة له، لأنه أطاع نبيا لا أنه حرام ونقله عنه العبادي وقضيته ترجيح وجه القائل بحل الصرد لأن النهي عن قتله لأمر خارج عنه لا لمعنى فيه، ولما كانت هذه القواعد غير تامة لجميع الحيوان، ذكر الأصحاب قاعدة عامة وهي الاستطابة والاستخباث، وعليها مدار الباب. قال الرافعي: من الأصول المرجوع إليها في التحريم والتحليل الاستطابة والاستخباث. ورآه الشافعي والأصل العظيم المعتمد فيه قوله «2» تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وليس المراد بالطيب هنا الحلال. وإن كان قد يرد الطيب بمعنى الحلال، لأن الحمل عليه يخرج الآية عن الإفادة. قال الأئمة: ويبعد الرجوع إلى طبقات الناس، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبونه ويستخبثونه، لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحلال والحرام، وذلك يخالف موضوع الشرع في حمل الناس على شرع واحد، ورأوا العرب أولى الأمم بأن يؤخذ باستطابتهم واستخبائهم، لأنهم المخاطبون أولا والدين عربي والنبي صلى الله عليه وسلم عربي، وإنما يرجع إلى سكان البلاد والقرى دون أجلاف سكان البوادي الذين يأكلون مادب ودرج من غير تمييز، مع اعتبار حالة اليسار والثروة دون المحتاجين وأصحاب الضرورات، وحالتي الخصب والرفاهية دون حالتي الجدب والشدة. وقال بعضهم: المعتبر الرجوع إلى عادة العرب الذين كانوا في عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الخطاب كان لهم. ويشبه أن يقال: يرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه. ويدل لهذا التوجيه ما تقدم، في باب العين المهملة، في لفظ العضاري، عن أبي عاصم العبادي، أنه حكى عن الأستاذ أبي طاهر الزيادي أنه قال: كنا نرى العضاري حراما ونفتي بتحريمه، حتى ورد علينا الأستاذ أبو الحسن الماسرجيني فقال: إنه حلال، فبعثنا منه جوابا إلى البادية وسألنا العرب عنه فقالوا: هذا هو الجراد المبارك، فرجعوا إلى قول العرب فيه. وإذا اختلف المرجوع إليهم فاستطابته طائفة واستخبثته طائفة اتبعنا الاكثرين، فإن استوت الطائفتان، قال المارودي في الحاوي، وأبو الحسن العبادي: إنه يتبع قريش، لأنهم قطب العرب وفيهم النبوة، فإن اختلفت قريش أو لم يحكموا بشيء، اعتبر أقرب الحيوانات شبها به. والشبه يكون تارة في الصورة وتارة في الطبع من السلامة والعدوان، وأخرى في طعم اللحم، فإن تساوى الشبه أو لم يوجد ما يشبه ففيه وجهان انتهى. زاد في الحاوي هما من اختلاف أصحابنا في أصول الأشياء، قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو الحظر؟ أحد الوجهين أنها على الإباحة حتى يرد الشرع بالحظر انتهى. قال أبو العباس: إذا وجد حيوان لا يعرف حاله عرض على العرب، فإن سموه باسم ما يحل حل، وإن سموه باسم ما يحرم حرم، وإن لم يكن له اسم عندهم اعتبر بأقرب الأشياء شبها من الذي يحل أو يحرم. وعلى هذا نص الشافعي، رحمه الله تعالى. وقال الرافعي: وفي استصحاب حكم ما ثبت تحريمه في شرع من قبلنا قولان أحدهما: نعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 أخذا بما كان إلى أن يظهر ناسخ، والثاني لا بل اعتماد ظاهر الآية المقتضية للحل أولى، والخلاف على ما ذكر الموفق بن طاهر رحمه الله تعالى، مبني على أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا فيه اختلاف أصولي، والأوفق لسياق كلام الأصحاب أنه لا يستصحب حكم شرع من قبلنا، وعلى هذا فلا تفريع. وعلى القول بالاستصحاب فذلك إذا ثبت بالكتاب أو السنة، أنه كان حراما في شرع من قبلنا، أو شهد به اثنان أسلما منهم، ممن يعرف التبديل، ولا يعتمد فيه قول أهل الكتاب انتهى كلام الرافعي. قال في الحاوي: ولو كان الحيوان ببلاد العجم، اعتبر في أقرب بلاد العرب عند من جمع الأوصاف المعتبرة فإن اختلفوا فيه اعتبر حكمه في أقرب بلاد الشرائع للإسلام، وهي النصرانية فإن اختلفوا فيه فعلى ما ذكرناه من الوجهين يعني في الأشياء قبل ورد الشرع انتهى. قلت: ولا بد من التنبيه هنا على أمرين: أحدهما أنا إذا قلنا باستصحاب شرع من قبلنا، كما هو اختيار ابن الحاجب وغيره من الأصوليين، فله شرطان أحدهما: ألا يختلف في تحريمه وتحليله شريعتان، فإن اختلفتا بأن كان حراما في شريعة إبراهيم عليه السلام وحلالا في شريعة غيره، فيحتمل أن نأخذ بالشريعة المتأخرة، ويحتمل التخيير، إن لم نقل بأن الثانية ناسخة للأولى، فإن ثبت كون الثانية ناسخة للأولى، وجهل كونه حراما في الشريعة السابقة أو اللاحقة، وقف. ويحتمل الرجوع إلى الإباحة الأصلية فيأتي الوجهان السابقان. الأمر الثاني أن يكون التحريم أو التحليل ثابتا قبل تحريفهم وتبديلهم، فإن استحلوا أو حرموا بعد النسخ، فلا عبرة به والله أعلم. الأمثال : قالوا: «أجبر من ورل» و «أسرع من تملظ الورل» «1» وهو الأكل بطرف اللسان، وكذلك يأكل الورل وقالوا: «أشرد «2» وأضل «3» وأظلم «4» من ورل» . الخواص : شعره إذا شد على عضد امرأة لم تحمل ما دام ذلك عليها، ولحمه وشحمه يسمن النساء، وفيه قوة جذب الشوك من البدن، وجلده يحرق ويخلط رماده بدردي الزيت ويطلى به العضو الخدر يذهب خدره، وزبله ينفع من الكلف والنمش طلاء. التعبير : الورل في المنام يدل على عدو خسيس الهمة ذي مهانة وقصور حجة الله تعالى أعلم. الوزغة: بفتح الواو والزاي والغين المعجمة دويبة معروفة، وهي وسام أبرص جنس، فسام أبرص كباره واتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذيات، وجمع الوزغة وزغ وأوزاغ ووزغان وازغان على البدل حكاه ابن سيده. روى «5» البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، عن أم شريك رضي الله تعالى عنها، أنها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 استأمرت النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الوزغان، «فأمرها بذلك» . وفي الصحيحين «1» أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، وسماه فويسقا. وقال: «كان ينفخ النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام» . وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده. وفي الحديث «2» الصحيح، من رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل وزغة من أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية، فله كذا وكذا حسنة دون الأولى، ومن قتلها في الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الثانية» . وفيه أيضا «إن من قتلها في الأولى فله مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك» . وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقتلوا الوزغة ولو في جوف الكعبة» لكن في اسناده عمر بن قيس المكي، وهو ضعيف. وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، لما أحرق بيت المقدس وكانت الأوزاغ تنفخه. وفي سنن ابن ماجه «3» عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه كان في بيتها رمح موضوع، فقيل لها: ما تصنعين بهذا؟ فقالت: أقتل به الوزغ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم اخبرنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، لما ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا أطفأت عنه النار غير الوزغ، فإنه كان ينفخ عليه النار، فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله. وكذلك رواه الإمام أحمد في مسنده. وفي تاريخ ابن النجار في ترجمة عبد الرحيم بن أحمد بن عبد الرحيم الفقيه الشافعي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل وزغة محا الله عنه سبع خطيآت» . وفي الكامل، في ترجمة وهب بن حفص، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل وزغة فكأنما قتل شيطانا» . وروى «4» الحاكم في كتاب الفتن والملاحم من المستدرك، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، أنه قال: كان لا يولد لأحد مولود إلا أتي به للنبي صلى الله عليه وسلم فيدعو له، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال: «هو الوزغ ابن الوزغ الملعون ابن الملعون» . ثم قال: صحيح الإسناد. وروى بعده بيسير عن محمد بن زياد قال: لما بايع معاوية لابنه يزيد قال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر! فقال له مروان: أنت الذي أنزل الله فيك والذي قال لوالديه أف لكما! فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها فقالت: كذب والله ما هو به، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعن أبا مروان ومروان في صلبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 ثم روى الحاكم عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله تعالى عنه، وكانت له صحبة، قال: إن الحكم بن أبي العاص استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف صوته فقال صلى الله عليه وسلم: «ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه إلا المؤمن منهم، وقليل ما هم يشرفون في الدنيا، ويضيعون في الآخرة ذوو مكر وخديعة يعطون في الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق» قال ابن ظفر. وكان الحكم بن أبي العاص يرمى بالداء العضال وكذلك أبو جهل. وأما تسمية الوزغ فويسقا، فنظيره الفواسق الخمس التي تقتل في الحل والحرم، وأصل الفسق الخروج، وهذه المذكورات خرجت عمن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر والأذى. وأما تقييد الحسنات في الضربة الأولى بمائة، وفي الثانية بسبعين، كما في بعض الروايات، فجوابه أنه كقوله في صلاة الجماعة بسبع وعشرين وبخمس وعشرين، وأن مفهوم العدد لا يعمل به فذكر السبعين لا يمنع المائة فلا تعارض بينهما. أو لعله صلى الله عليه وسلم أخبر أولا بالسبعين، ثم تصدق الله تعالى بالزيادة علينا، فأعلم به صلى الله عليه وسلم حين أوحى الله إليه بعد ذلك، أو أنه يختلف باختلاف قاتلي الوزغ، بحسب نياتهم وإخلاصهم، وكمال أحوالهم ونقصها، فتكون المائة للأكمل منهم والسبعون لغيره. قال يحيى بن يعمر: لأن أقتل مائة وزغة أحب إليّ من اعتق مائة رقبة، وإنما قال ذلك لأنها دابة سوء، زعموا أنها تسقى من الحيات وتمج في الإناء فينال الإنسان المكروه العظيم بسبب ذلك، وسبب كثرة الحسنات في المبادرة أن تكرر ضربات في القتل، يدل على عدم الاهتمام بأمر صاحب الشرع، إذ لو قوي عزمه وأشتدت حميته، لقتلها في المرة الأولى لأنه حيوان لطيف لا يحتاج إلى كثرة مؤنة في الضرب، فحيث لم يقتلها في المرة الأولى دل ذلك على ضعف عزمه، فلذلك نقص أجره من المائة إلى السبعين. وعلل عز الدين بن السلام «1» كثرة الحسنات في الأولى بأنه إحسان في القتل فيدخل تحت قوله «2» صلى الله عليه وسلم «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة» . أو أنه مبادرة إلى الخير فيدخل تحت «3» قوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ* قال: وعلى كلا المعنيين فالحية والعقرب أولى بذلك لعظم مفسدتهما. وذكر أصحاب الآثار أن الوزغ أصمّ قالوا: والسبب في صممه ما تقدم من نفخه النار على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فصم لأجل ذلك وبرص. ومن طبعه أنه لا يدخل بيتا فيه رائحة الزعفران، وتألفه الحيات كما تألف العقارب الخنافس، وهو يلقح بفيه ويبيض كما تبيض الحيات، ويقيم في جحره زمن الشتاء، أربعة أشهر لا يطعم شيئا. وقد تقدم في حرف السين المهملة ما يتعلق بأحكامها وخواصها وقد أحسن في وصف الوزغة وغيرها الأديب الشاعر كمال الدين علي بن محمد بن المبارك الشهير بابن الأعمى، صاحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 المقامة البحرية، ووفاته في المحرم سنة اثنتين وتسعين وستمائة. وكان والده خطيب بيت المقدس حيث قال يذم دار سكناه: دار سكنت بها أقلّ صفاتها ... أن تكثر الحشرات في حجراتها الخير عنها نازح متباعد ... والشرّ دان من جميع جهاتها من بعض ما فيها البعوض عدمته ... كم أعدم الأجفان طيب سناتها وتبيت تسعدها براغيث متى ... غنت لها رقصت على نغماتها رقص بتنقيط ولكن قافه ... قد قدمت فيه على أخواتها وبها ذباب كالضباب يسد ... عين الشمس ما طربي سوى غناتها أين الصوارم والقنا من فتكها ... فينا وأين الأسد من وثباتها وبها من الخطاف ما هو معجز ... أبصارنا عن حصر كيفياتها تغشى العيون بمرها ومجيئها ... وتصم سمع الخلد من أصواتها وبها خفافيش تطير نهارها ... مع ليلها ليست على عاداتها شبهتها بقنافذ مطبوخة ... نزع الطهاة بنضجها شوكاتها فاقت على سمر القنا في لونها ... وسماتها وشياتها وصفاتها وبها من الجرذان ما قد قصرت ... عنه العتاق الجرد في حملاتها «1» فترى أبا غزوان منها هاربا ... وأبا الحصين يروغ عن طرقاتها وبها خنافس كالطنافس أفرشت ... في أرضها وعلت على جنباتها لو شمّ أهل الحرب منتن فسوها ... أردى الكماة الصيد عن صهواتها وبنات وردان وأشكال لها ... مما يفوت العين كنه ذواتها متزاحم متراكم متحارب ... متراكب في الأرض مثل نباتها وبها قراد لا اندمال لجرحها ... لا يفعل المشراط مثل أداتها أبدا تمص دماءنا فكأنها ... حجامة لبدت على كاساتها وبها من النمل السليماني ما ... قد قل ذر الشمس عن ذراتها لا يدخلون مساكنا بل يحطمون ... جلودنا فالعفو من سطواتها ما راعني شيء سوى وزغاتها ... فنعوذ بالرحمن من نزغاتها سجعت على أوكارها فظننتها ... ورق الحمام سجعن في سحراتها وبها زنابير تظن عقاربا ... لا برء للمسموم من لدغاتها وبها عقارب كالأقارب رتعا ... فينا حمانا الله لدغ حماتها وكأنما حيطانها كغرابل ... أطلعن أرؤسهن من طاقاتها كيف السبيل إلى النجاة ولا نجا ... ة ولا حياة لمن رأى حياتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 السمّ في نفساتها والمكر في ... لفتاتها والموت في لسعاتها منسوجة بالعنكبوت سماؤها ... والأرض قد نسجت ببراقاتها فلقد رأينا في الشتاء سماءها ... والصيف لا تنفك من صعقاتها فضجيجها كالرعد في جنباتها ... وترابها كالوبل من حسياتها والبوم عاكفة على أرجائها ... والآل يلمع في ثرى عرصاتها «1» والنار جزء من تلهب حرها ... وجهنم تعزى إلى لفحاتها قد رممت من قبل يلقى آدم ... مع أمنا حواء في عرفاتها شاهدت مكتوبا على أرجائها ... ورأيت مسطورا على عتباتها لا تقربوا منها وخافوها ولا ... تلقوا بأيديكم إلى هلكاتها أبدا يقول الداخلون ببابها ... يا رب نج الناس من آفاتها قالوا: إذا ندب الغراب منازلا ... يتفرق السكان من ساحاتها وبدارنا ألفا غراب ناعق ... كذب الرواة فأين صدق رواتها دار تبيت الجنّ تحرس نفسها ... فيها وتنذر باختلاف لغاتها صبرا لعلّ الله يعقب راحة ... للنفس إذ غلبت على شهواتها كم بتّ فيها مفردا والعين شو ... قا للصباح تسحّ من عبراتها وأقول: يا ربّ السموات العلا ... يا رازقا للوحش في فلواتها أسكنتني بجهنم الدنيا ففي ... أخراي هب لي الخلد في جناتها واجمع بمن أهواه شملي عاجلا ... يا جامع الأرواح بعد شتاتها والوزغ في الرؤيا رجل معتزلي يأمر بالمنكر وينهي عن المعروف، خامل الذكر، وكذلك العظاء. وربما دل الوزغ على العدو المجاهر بالشر، والكلام السوء، والتنقل من الأمكنة. الوصع: بفتح الواو والصاد المهملة، وبالعين المهملة في آخره الصعوة، وقد تقدم الكلام عليها، في باب الصاد المهملة. وقيل: هو طائر أصغر من العصفور. وفي الحديث أن إسرافيل عليه الصلاة والسلام له جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وإن العرش على منكب إسرافيل، وإنه ليتضاءل الأحيان من عظمة الله تعالى، حتى يصير مثل الوصع. يروى بفتح الصاد المهملة وسكونها. وقال ابن الأثير: إنه أصغر من العصفور والجمع وصعان. وفي أول التعريف والاعلام للسهيلي، أن أول من سجد من الملائكة لآدم إسرافيل عليه الصلاة والسلام، ولذلك جوزي بولاية اللوح المحفوظ. قاله محمد بن الحسن النقاش. الوطواط: الخفاش وقد تقدم ما فيه في باب الخاء المعجمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وروى الحافظ بن عساكر، في تاريخه بسنده إلى حماد بن محمد، أنه قال: كتب رجل إلى ابن عباس، يسأله عن شيء ليس له لحم ولا دم تكلم، وعن شيء ليس له لحم ولا دم سعى، وعن شيء ليس له لحم ولا دم تنفس، وعن اثنين ليس لهما لحم ولا دم خوطبا وأجابا، وعن رسول بعثه الله ليس من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة، وعن نفس ماتت ثم عاشت بها نفس غيرها، وعن موسى عليه السلام كم أرضعته أمه قبل أن تلقيه في اليم، وفي أي بحر، وفي أي يوم ألقته، وكم كان طول آدم عليه السلام، وكم عاش، ومن كان وصيه، وعن طير لا يبيض ويحيض. فقال: الأول النار قالت: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ «1» ، والثاني عصا موسى عليه السلام، والثالث الصبح، والرابع السماء والأرض، قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «2» ، والخامس الغراب الذي بعثه الله إلى ابن آدم، والسادس البقرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن، وأرضعت موسى أمه قبل أن تلقيه في اليم ثلاثة أشهر، وألقته في بحر القلزم، وكان ذلك يوم الجمعة، وكان طول آدم عليه السلام ستين ذراعا، وعاش ألف سنة إلا ستين سنة، وكان وصيه شيث. والطير الوطواط الذي نفخ فيه عيسى عليه السلام، فكان طائرا بإذن الله عز وجل. وحكمه : تحريم الأكل للنهي عن قتله كما تقدم في باب الخاء المعجمة. الأمثال : قالوا: «أبصر من الوطواط بالليل» «3» أي أعرف ويسمون الجبان وطواطا. التعبير : الوطواط تدل رؤيته على الغي والضلالة عن الحق، وربما دلت رؤيته على ولد الزنا لأنه من الطير، وليس بطائر، وهو يرضع كما يرضع الآدمي، وربما دلت رؤيته على زوال النعم، والبعد من المألوفات، لأنه من الممسوخين، وهذا بعيد. وربما دلت رؤيته على إقامة الحجة والبينة لقوله «4» تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها الآية. وهذا أظهر الأقاويل عندي والله أعلم. الوعوع: ويقال له أيضا الوع، ابن آوى، وقد تقدم الكلام عليه في أواخر باب الهمزة. الوعل: بفتح الواو وكسر العين المهملة، الأروى المتقدم في باب الهمزة وهو التيس الجبلي، والأنثى تسمى أروية وهي شاة الوحش، والجمع أوعال ووعول. وذكر ابن عدي، في كامله، في ترجمة محمد بن اسماعيل بن طريح، أنه قال: حدثني أبي، عن جدي، أنه حضر أمية بن أبي الصلت حين حضرته الوفاة، فأغمي عليه ثم أفاق فرفع رأسه فنظر حيال باب البيت، وقال: لبيكما لبيكما ها أنا ذا لديكما، لا عشيرتي تحميني، ولا مالي يفديني، ثم أغمي عليه ثم أفاق فرفع رأسه وقال «5» : كلّ حي وإنّ تطاول دهرا ... آيل أمره إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا ثم فاضت نفسه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 وعن شهر بن حوشب، قال: لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة، قال له ابنه: يا أبتاه إنك كنت تقول لنا: ليتني كنت ألقى رجلا عاقلا لبيبا عند نزول الموت به، حتى يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي الموت، فقال: يا بني والله كأن السماء قد أطبقت على الأرض، وكأن جنبي في تخت، وكأني أتنفس من سم إبرة، وكأن غصن شوك يجذب من قدمي إلى هامتي، ثم أنشأ يقول: ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا ومن غريب ما اتفق . أن عبد الملك بن مروان لما احتضر، وكان قصره يشرف على بردى، فنظر إلى غسال يغسل الثياب، فقال: ليتني كنت مثل هذا الغسال، أكتسب ما أعيش به يوما بيوم، ولم أل الخلافة. وتمثل بقول «1» أمية بن أبي الصلت: كلّ حي وإنّ تطاول دهرا. البيتين المتقدم ذكرهما. فاتفق له كما اتفق لأمية من الموت عقب ذلك، فلما بلغ ذلك أبا حازم، قال: الحمد لله الذي جعلهم في وقت الموت يتمنون ما نحن فيه، ولم يجعلنا نتمنى ما هم فيه. وفي الاستيعاب، في ترجمة الفارعة بنت أبي الصلت، أخت أمية بن أبي الصلت، أنها قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، بعد فتحه للطائف، وكانت ذات لب وعفاف وجمال، وكان صلى الله عليه وسلم يعجب بها، فقال لها صلى الله عليه وسلم يوما: «هل تحفظين من شعر أخيك شيئا؟» فأخبرته خبره، وما رأت منه، وقصت قصته في شق جوفه، وإخراج قلبه، ثم عوده إلى مكانه وهو قائم، وأنشدت له شعره الذي أوله: باتت همومي تسري طوارقها ... أكف عيني والدمع سابقها نحو ثلاثة عشر بيتا منها قوله: ما أرغّب النفس في الحياة وإن ... تحيا طويلا فالموت لاحقها يوشك من فرّ من منيته ... يوما على غرة يوافقها من لم يمت غبطة يمت هرما ... للموت كأس والمرء ذائقها ثم قالت: وإنه قال عند وفاته: إن تغفرّ اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك ما ألما ثم قال: كلّ حي وإن تطاول دهرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 البيتين ثم مات. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين» . وفي طباع الوعل أنه يأوي إلى الأماكن الوعرة الخشنة، ولا يزال مجتمعا، فإذا كان وقت الولادة تفرق، وإذا اجتمع في ضرع أنثى لبن امتصته. والذكر إذا ضعف عن النزو أكل البلوط فتقوى شهوته، وإذا لم يجد الأنثى انتزع المني بالامتصاص بفيه، وذلك إذا جد به الشبق، وفي طبعه أنه إذا أصابه جرح، طلب الخضرة التي في الحجارة فيمتصها ويجعلها على الجرح فيبرأ. وإذا أحس بالقناص، وهو في مكان مرتفع، استلقى على ظهره ثم يزج نفسه فينحدر، ويكون قرناه، وهما في رأسه، إلى عجزه يقيانه ما يخشى من الحجارة ويسرعان به لملوستهما على الصفا. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال عن المدينة: «لو رأيت الوعول تجرش ما بينها ماهجتها» . أراد لو رأيتها ترعى كلأها ماهجتها لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم صيدها. وفي الترغيب والترهيب، وغريب أبي عبيدة وغيره من حديث أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل ويخون الأمين ويؤتمن الخائن وتهلك الوعول وتظهر التحوت» . قالوا: يا رسول الله ما الوعول وما التحوت؟ قال: «الوعول وجوه الناس وأشرافهم والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يعلم بهم» وبعضه في الصحيح، وإنما شبههم بالوعول وضرب بها المثل لأنها تأوي رؤوس الجبال والله تعالى أعلم. وروى «1» الإمام أحمد وأبو داود والترمذي. عن العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه، قال: كنا جلوسا بالبطحاء، في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت سحابة، فنظر إليها فقال صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما اسم هذه؟» قلنا: نعم، هذا السحاب. قال صلى الله عليه وسلم: «وهو المزن والعنان» . ثم قال عليه الصلاة والسلام. «أتدرون كم بعد ما بين السماء والأرض؟» قلنا: لا. قال صلى الله عليه وسلم: «إما واحدة، وإما اثنتان، وإما ثلاث وسبعون سنة، والسماء فوقها، كذلك» . حتى عد عليه الصلاة والسلام سبع سموات، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه، كما بين سماء إلى سماء، وفوق البحر ثمانية أوعال بين أضلافها وركبها، كما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهن العرش، من أسفله إلى أعلاه، مثل ما بين سماء إلى سماء» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قال الجاحظ الذهبي: وهو كما قال الترمذي حسن غريب، وقد أخرجه الحافظ الضياء أيضا، في كتاب المختار له، ورواه الحاكم في المستدرك عن سماك بن حرب، وقرأ إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ «2» . وفي التمهيد لابن عبد البر، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما، قال: حملة العرش أحدهم على صورة إنسان، والثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 على صورة ثور، والثالث على صورة نسر، والرابع على صورة أسد. وفي تفسير الثعلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدهم الله بأربعة آخرين» . وفي سنن «1» أبي داود، من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» . وحكمه : الحل بالإجماع، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في الوعل إذا قتله المحرم، أو قتل في الحرم شاة. وذكر القزويني، في الأشكال، عن ابن الفقيه، أنه قال: رأيت بجزيرة رانج حيوانات غريبة الأشكال، من ذلك وعول كالتيوس الجبلية، ألوانها حمر منقطعة ببياض، ولحمها حامض انتهى. فإن صح هذا القول، فالذي يظهر الحل إلحاقا بمماثله من المأكول، عملا بالمشاكلة الصورية، والله تعالى أعلم. الأمثال : قالوا: «أزهى «2» من وعل» و «أحمق من ناطح الصخرة» أي الوعل، وأنشدوا قول «3» الأعشى: كناطح صخرة يوما ليوهنها ... فلم يضرّها وأوهى قرنه الوعل أراد كوعل ناطح، فحذف الموصوف وأبقى الصفة. وخواصه : تقدمت في باب الهمزة، في لفظ الأروى، لكن منها أيضا أن مخ جيد للمرأة التي بها نزف الدم، تتحمل به في صوفة. ولحمه وشحمه يسحقان ويلقى عليهما صبر وسعد وقرنفل وزعفران وعسل، يخلط الجميع ويسقى منه وزن مثقال، بماء الكرفس لمن به حصاة في مثانته يبرأ بإذن الله تعالى. الوقواق: كفطفاط طائر حكاه ابن سيده ولعله القاق المتقدم في باب القاف. بنات وردان: بفتح الواو وتسمى فالية الأفاعي، وهي دويبة تتولد في الأماكن الندية وأكثر ما تكون في الحمامات والسقايات، ومنها الأسود والأحمر والأبيض والأصهب، وإذا تكونت تسافدت وباضت بيضا مستطيلا، وهي تألف الحشوش واحدها حش بفتح الحاء المهملة وضمها. قال الجاحظ: أصل الحش القطعة من النخل، وهي الحشان بكسر الحاء المهملة وتشديد الشين، وذلك أن أهل المدينة، كانوا إذا أراد أحدهم قضاء الحاجة، دخل النخل. فكنوا عن مكان الخراء بالحش، كما كنوا عنه بالخلاء، وقالوا لمن يذهب إلى الخراء: ذهب إلى البزار، وذهب إلى المستراح وإلى الحش والخلاء والمخرج والمتوضأ والمذهب والغائط وقضاء الحاجة. وقالوا: ذهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 ينجو، كما قالوا: ذهب يتغوط كل ذلك هربا من أن يقولوا ذهب إلى الخراء. وقد وصف بعض الشعراء بنات وردان حيث قال: بنات وردان جنس ليس ينعته ... خلق كنعتي في وصفي وتشبيهي كمثل أنصاف بسر أحمر تركت ... من بعد تشقيقه أقماعه فيه وحكمها : تحريم الأكل لاستقذارها، ولا يصح بيعها كسائر الحشرات التي لا ينتفع بها، لكنها إذا وقعت في الماء الطهور لا تنجسه، ويعفى عن ذلك، وكذا كل ما ليست له نفس سائلة أي دم يسيل عند قتله وقد تقدم في الذباب هذا الحكم. فرع : قال الأصحاب: ما لا يظهر فيه منفعة ولا مضرة، كبنات وردان والخنافس والجعلان والدود والسرطان والرحم والنعامة والعصافير والذباب يكره قتله ولا يحرم، وعدّ الرافعي رحمه الله منه: الكلب غير العقور، قال: ولا يجوز قتل النمل والنحل والخطاف والضفدع، وقد تقدم شيء من هذا الحكم في أماكنه. الخواص : قال ارسطاطاليس: إذا طبخت بنات وردان بزيت وقطر منه في الأذن الوجعة سكن ألمها وتبرأ من ذلك، وينفع هذا الزيت من القروح، التي في الساقين، وفي جميع الأعضاء، والله تعالى أعلم. باب الياء يأجوج ومأجوج: يهمزان ولا يهمزان، لغتان قرىء بهما، فمن همزهما جعلهما مشتقين من أجة الحر وهي شدته وقوته، ومنه أجيج النار وهو توقدها وحرارتها، والتقدير في ياجوج يفعول، وفي ماجوج مفعول إذا ترك همزهما، قاله الأزهري. ويحتمل أن يكونا مفعولين، وإنما لم يصرفا للتعريف والتأنيث، لأنهما اسما القبيلتين، والأكثرون على أنهما اسمان أعجميان غير مشتقين، ولذلك لا يهمزان ولا يصرفان للعجمة والتعريف. قال سعيد الأخفش: ياجوج من يج وماجوج من مج، وقال قطرب: من لم يهمز فياجوج فاعول مثل داود وجالوت، ويكون من يج، وماجوج فاعول من مج، والأسماء الأعجمية مثلها لا تهمز نحو هاروت وماروت وجالوت وطالوت وقارون. قال: ويجوز أن يكون الأصل الهمز، فخففا إذا لم يهمزا كسائر ما يهمز، وإن كانا أعجميين، فإن العرب تلفظ بألفاظ مختلفة، ويجوز أن يكونا من الأجة، وهي الاختلاط كما قال تعالى في صفتهم: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ «1» جاء في تفسيره: أي مختلطين، ولعل يج الذي ذكره الأخفش وقطرب مخفف الهمز من أج وإلا فإن يج لا يعرف في كلام العرب لعزة مخرج الجيم والياء، والحاصل أنه يجوز همزهما وتركه كما تقدم. وبهما قرىء في السبع والأكثرون على ترك الهمز كما تقدم. وسموا بذلك لكثرتهم وشدتهم وقيل: من الأجاج وهو الماء الشديد الملوحة، قال مقاتل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 هم من ولد يافث بن نوح عليه الصلاة والسلام. وقال الضحاك: هم من الترك، وقال كعب الأحبار: احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك. قلت: وفيه نظر، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يحتلمون. وروى الطبراني، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأجوج أمة لها أربعمائة أمير، وكذلك مأجوج، لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده، صنف منهم كالأرز طولهم مائة وعشرون ذراعا، وصنف منهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا خنزير إلا أكلوه، ويأكلون من مات منهم، مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية، ويمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس» . وقال وهب بن منبه: يأجوج ومأجوج يأكلون الحشيش والشجر والخشب، وما ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس. وقال علي رضي الله تعالى عنه: يأجوج ومأجوج صنف منهم في طول الشبر وصنف منهم مفرط الطول، لهم مخالب الطير، وأنياب كأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئب، وشعورهم تقيهم الحر والبرد، ولهم آذان عظام إحداهما وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، يحفرون السد الذي بناه ذو القرنين، حتى إذا كادوا ينقبونه يعيده الله كما كان، حتى يقولوا: ننقبه غدا إن شاء الله، فينقبونه ويخرجون وتتحصن الناس منهم بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد إليهم السهم ملطخا بالدم، ثم يهلكهم الله بالنغف في رقابهم. والنغف هو الدود كما تقدم. فائدة : سئل شيخ الإسلام محي الدين النووي رحمه الله تعالى عن يأجوج ومأجوج هل هم من ولد آدم وحواء، وكم يعيش كل واحد منهم؟ فأجاب أنهم أولاد حواء وآدم عند أكثر العلماء، وقيل: إنهم من ولد آدم من غير حواء، فيكونون اخوتنا من الأب، ولم يثبت في قدر أعمارهم شيء انتهى. وقد تقدم في الكركند ما نقله الحافظ أبو عمر بن عبد البر، من الإجماع على أنهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن يأجوج ومأجوج، هل بلغتهم دعوتك، فقال صلى الله عليه وسلم: «جزت عليهم ليلة أسري بي فدعوتهم فلم يجيبوا» . وروى «1» الشيخان والنسائي، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك الخير في يديك، فيقول عز وجل: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة. قال: فذلك حين يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد» ، قال: فاشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أبشروا فإن من يأجوج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم رجل» الحديث. قال العلماء إنما خص آدم عليه السلام بالذكر لأنه أب للجميع. وروى «1» الجماعة إلا أبا داود، من حديث زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فزعا محمرا وجهه الشريف، يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الابهام والتي تليها» . قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث» . أشار صلى الله عليه وسلم بذلك إلى أن الذي فتحوا من السد قليل، وهم مع ذلك لا يلهمهم الله أن يقولوا غدا نفتحه إن شاء الله تعالى، فإذا قالوها خرجوا. وقوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للعرب» كلمة تقولها العرب، لكل من وقع في هلكة. وفي مسند «2» الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويل واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» وقيل: الويل الشر، وقوله صلى الله عليه وسلم: «فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج» «3» . الردم هم الحاجز الحصين المتراكم الذي جعل بعضه فوق بعض، والمراد به الردم الذي عمله الإسكندر بين الصدفين وهما الجبلان. وقوله في هذا الحديث إن زينب رضي الله تعالى عنها قالت: أنهلك؟ هو بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكي فتحها وهو ضعيف أو فاسد، قاله النووي رحمه الله وقوله صلى الله عليه وسلم: نعم لأن ما استفهم عنه بإثبات كان جوابه نعم وما استفهم عنه بنفي كان جوابه بلى. ولذلك كانت بَلى «4» في جواب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ «5» ونَعَمْ «6» في جواب فَهَلْ وَجَدْتُمْ فلذلك قال صلى الله عليه وسلم لزينب رضي الله تعالى عنها: «نعم» حين قالت: أنهلك وفينا الصالحون. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا كثر الخبث» «7» هو بفتح الخاء المعجمة والباء الموحدة. وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: المراد به الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، والظاهر أن المراد به المعاصي مطلقا ومعناه أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون، والله تعالى أعلم. وروى البزار، من حديث يوسف ابن مريم الحنفي قال: بينما أنا قاعد مع أبي بكرة، إذا جاء رجل فسلم عليه ثم قال: أما تعرفني؟ فقال أبو بكرة: ومن أنت؟ قال: تعلم رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه رأى الردم؟ فقال له أبو بكرة: أنت هو؟ وقال: نعم. فقال: اجلس فحدثنا، قال رضي الله تعالى عنه: انطلقت إلى أرض ليس لأهلها إلا الحديد يعملونه، فدخلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 بيتا فاستلقيت فيه على ظهري، وجعلت رجلي على جداره، فلما كان غروب الشمس، سمعت صوتا لم أسمع مثله، فرعبت فقال لي رب البيت: لا تذعرن فإن هذا لا يضرك، هذا صوت قوم ينصرفون هذه الساعة من عند هذا السد، أفيسرك أن تراه؟ قلت: نعم. قال: فغدوت إليه، فإذا لبنه من حديد، كل واحدة مثل الصخرة، وإذا كأنه البرد المحبرة، وإذا المسامير مثل الجذوع فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: «صفه لي» . فقلت: كأنه البرد المحبرة. فقال صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى رجل قد أتى الردم فلينظر إلى هذا» . فقال أبو بكرة: صدق انتهى. وهذا الردم هو الذي بناه الاسكندر على يأجوج ومأجوج كما تقدم، وذلك أنه لما بلغ الجبلين وجد من دونهما قوما، كما قال «1» الله تعالى: لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا بفتح الياء والقاف أو يفقهون بفتح الياء وكسر القاف على اختلاف القراءتين، فعلى الأولى لا يفقهون عن أحد لغته ولا يعرفون غير لغتهم، وعلى الثانية لا يفهم لغتهم غيرهم، فشكوا إليه إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض، وذلك أنهم كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء المساكين، فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه. وقيل: إنهم كانوا يلوطون، وقيل: إنهم كانوا يأكلون الناس، فقالوا له: نحن نجعل لك خرجا، أي جعلا من أموالنا، على أن تجعل بيننا وبينهم سدا فرد عليهم جعلهم، وطلب منهم المعونة بالعمل بأبدانهم، ثم انصرف إلى ما بين الصدفين، فقاس ما بينهما فوجد بعد ما بينهما مائة فرسخ، فأمر بحفر الأساس حتى بلغ الماء، ثم جعل عرضه خمسين فرسخا، وجعل حشوه الصخر، وطبقه بالنحاس المذاب، فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض. وقيل إنه حشا ما بين الصدفين قطع الحديد، ونسج بين طبقات الحديد الحطب والفحم ووضع المنافيخ، فلما حمي الحديد أفرغ عليه النحاس المذاب، فاختلط والتصق بعضه ببعض حتى صار جبلا صلدا من حديد وقطر، وشرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب، وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر، فصار كأنه بردة محبرة من صفرة النحاس وحمرته، وسواد الحديد، فلم يطيقوا الظهور عليه لملاسته ولا قدروا على نقبه لشدته وتماسكه. ومن وراء السد البحر، فهم بين السد والبحر محصورون وهم يمطرون التنانين في أيام الربيع، كما يمطرنا الغيث لحينه فيأكلونها إلى مثله من القابل وتعمهم على كثرتهم والله تعالى أعلم. اليامور: قال ابن سيده: هو جنس من الأوعال أو شبيه به له قرن واحد متشعب في وسط رأسه. وقال غيره: إنه الذكر من الأيل له قرنان كالمنشارين، أكثر أحواله تشبه أحوال البقر الوحشي يأوي إلى المواضع التي التفت أشجارها، وإذا شرب الماء ظهر به نشاط فيعدو ويلعب بين الأشجار، وربما ينشب قرناه في شعب الأشجار فلا يقدر على خلاصهما فيصيح، والناس، إذا سمعوا صياحه ذهبوا إليه وصادوه، وقد تقدم ما فيه. وهو حلال كالأيل، ومن خواص جلده أنه إذا جلس عليه صاحب البواسير زالت عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 اليؤيؤ: طائر كنيته أبو رياح، وهو الجلم وهو من جوارح الطير يشبه الباشق، وقد تقدم الكلام عليه، في باب الصاد المهملة، في لفظ الصقر والجمع اليآيىء وكذا جاء في الشعر قال «1» أبو نواس في طريدته: حفظ المهيمن يؤيؤي ورعاه ... ما في اليآيىء يؤيؤ شرواه كذا استدل به الجوهري واعترض عليه بأنه مولد. وكان محمد بن زياد الزيادي يلقب باليؤيؤ، وهو من أئمة أهل البصرة، روى عن حماد بن زيد وغيره، وروى له ابن ماجه والبخاري كالمقرون بغيره توفي في حدود سنة خمسين ومائتين، وضعفه ابن منده، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان يؤيؤ الحديث. وهذا بناء غريب، لم يحفظ منه إلا خمسة: اليؤيؤ والجؤجؤ وهو صدر السفينة والطائر واليؤيؤ وهو الأصل يقال: فلان يؤيؤ الكرم أي أصله، والدؤدؤ ليلة خمس وست وسبع وعشرين. واللؤلؤ وفيه أربع لغات قرىء بهن في السبع لؤلؤ بهمزتين، ولولو بغير همز، وبهمز أوله دون ثانيه، وعكسه. وحكمه : تحريم الأكل كما تقدم. الخواص : دماغه يجفف ويسحق مع السكر الطبرزذي، ويخلط معه بعر الضب ويكتحل به، يزيل البياض الذي في العين بإذن الله تعالى. ومرارته تداف بماء الشهدانج، ويسعط بها من به الصداع ينفعه نفعا بينا إن شاء الله تعالى. اليحبور: ولد الحبارى، وقد تقدم ما في الحبارى، وفي باب الحاء المهملة. اليحمور: دابة وحشية نافرة، لها قرنان طويلان كأنهما منشاران، ينشر بهما الشجر، فإذا عطش وورد الفرات، يجد الشجر ملتفة، فينشرها بهما. وقيل: إنه اليامور نفسه، وقرونه كقرون الأيل يلقيها في كل سنة وهي صامتة لا تجويف فيها، ولونه إلى الحمرة، وهو أسرع من الأيل. وقال الجوهري: اليحمور حمار الوحش. وحكمه : الحل كيف كان. الخواص : دهنه ينفع من الاسترخاء الحاصل في أحد شقي الإنسان إذا استعمل مع دهن البلسان. فائدة : في كتاب العرائس، للإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي، قال: إن بعض طلبة العلم خرج من بلاده، فرافق شخصا في الطريق، فلما كان قريبا من المدينة التي قصدها قال له ذلك الشخص: قد صار لي عليك حق وذمام، وأنا رجل من الجان، ولي إليك حاجة، فقال: وما هي؟ قال: إذا أتيت إلى مكان كذا وكذا، فإنك تجد فيه دجاجا بينها ديك، فاسأل عن صاحبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 واشتره منه واذبحه، فهذه حاجتي إليك. فقال له: يا أخي، وأنا أيضا أسألك حاجة، قال: وما هي؟ قال: إذا كان الشيطان ماردا لا تعمل فيه العزائم، وألح بالآدمي منا، ما دواؤه؟ قال: دواؤه أن يؤخذ له وتر قدر شبر من جلد يحمور، ويشد به إبهاما المصاب من يديه شدا وثيقا، ثم يؤخذ له من دهن السذاب البري فيقطر في أنفه الأيمن أربعا وفي الأيسر ثلاثا، فإن الماسك به يموت ولا يعود إليه أحد بعده. قال: فلما دخلت المدينة، أتيت ذلك المكان فوجدت الديك لعجوز فسألتها بيعه، فأبت فاشتريته منها بأضعاف ثمنه، فلما اشتريته وملكته، تمثل لي من بعيد، وقال لي بالأشارة: اذبحه فذبحته. فعند ذلك خرج علي رجال ونساء، فجعلوا يضربونني ويقولون: يا ساحر! فقلت: لست بساحر. فقالوا: إنك منذ ذبحت الديك، أصيبت عندنا شابة بجني، وأنه منذ مسكها لم يفارقها، فطلبت منهم وترا قدر شبر من جلد يحمور، وشيئا من دهن السذاب البري، فأتوا بهما فشددت إبهامي يدي الشابة شدا وثيقا، فلما فعلت بها ذلك صاح، وقال: أنا علمتك على نفسي! ثم قطرت من الدهن في أنفها الأيمن أربعا، وفي الأيسر ثلاثا، فخر ميتا من وقته وساعته، وشفى الله تلك الشابة، ولم يعاودها بعده شيطان انتهى. اليحموم: طائر حسن اللون، يشبه لون الحبرة الموشاة، وهو كثير بنخلة من أرض الحجاز، وأظنه من نوع اليعاقيب والحجل. وحكمه : حل الأكل، لأنه مستطاب، واليحموم أيضا اسم فرس النعمان بن المنذر، واليحموم أيضا الدخان الأسود، وقيل: هو المراد بقوله تعالى: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ «1» تقول العرب: أسود يحموم، إذا كان شديد السواد، وقيل: اليحموم جبل في جهنم يستظل به أهل النار لا بارد ولا كريم، أي لا بارد الثرى ولا كريم المنظر، وقيل: اليحموم اسم من أسماء النار. وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود، وكل شيء فيها أسود نعوذ بالله من شرها. اليراعة: طائر صغير إذا طار بالنهار كان كبعض الطير، وإذا طار بالليل كان كأنه شهاب ثاقب، أو مصباح طيار، وقال أبو عبيدة: اليراع الهمج بين البعوض والذباب، يركب الوجه ولا يلدغ واليراعة أيضا النعامة. الأمثال : قالوا: «أخف «2» من يراعة» ، فيجوز أن يراد به الطائر الذي يطير بالليل، وأن يراد به القصبة، والجمع يراع فيهما. اليربوع: بفتح الياء المثناة تحت، ويسمى الدرص، بفتح الدال وكسرها واسكان الراء المهملتين وبالصاد المهملة آخره، وذا الرميح كما تقدم في آخر باب الراء المهملة، حيوان طويل الرجلين قصير اليدين جدا، وله ذنب كذنب الجرذ يرفعه صعدا في طرفه شبه النوارة، لونه كلون الغزال. قال أصحاب الكلام في طبائع الحيوان: إن كل دابة حشاها الله خبثا فهي قصيرة اليدين، لأنها إذا خافت شيئا، لاذت بالصعود، فلا يلحقها شيء وهذا الحيوان يسكن بطن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 الأرض، لتقوم رطوبتها له مقام الماء، وهو يؤثر النسيم ويكره البحار أبدا، يتخذ جحره في نشز من الأرض، ثم يحفر بيته في مهب الرياح الأربع ويتخذ فيه كوى، وتسمى النافقاء والقاصعاء والراهطاء، فإذا طلب من إحدى هذه الكوى نافق أي خرج من النافقاء، وإن طلب من النافقاء خرج من القاصعاء، وظاهر بيته تراب وباطنه حفر، وكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر. قال الجاحظ وغيره: واسم المنافق لم يكن في الجاهلية لمن أسر الكفر وأظهر الإيمان، ولكن الباري جل وعلا اشتق له هذا الاسم من هذا الأصل من نافقاء اليربوع، لأنه لما أبطن الكفر وأظهر الإيمان وورى بشيء عن شيء، ودخل في باب الخديعة، وأوهم الغير خلاف ما هو عليه، أشبه في ذلك فعل اليربوع انتهى. وفي طبعه، أنه يطأ في الأرض اللينة، حتى لا يعرف أثر وطئه كما يفعل الأرنب، وهو يجتر ويبعر، وله كرش وأسنان وأضراس، في الفك الأعلى والأسفل، قال الجاحظ والقزويني: اليربوع من نوع الفأر. زاد القزويني: هو من الحيوان الذي له رئيس مطاع ينقاد إليه، وإذا كان فيها يكون من بينها في مكان مشرف، أو على صخرة ينظر إلى الطريق، من كل ناحية، فإن رأى ما يخافه عليها صر بأسنانه وصوت، فإذا سمعته انصرفت إلى أجحرتها، فإن قصر الرئيس حتى أدركها أحد وصاد منها شيئا، اجتمعت على الرئيس فقتلته وولت غيره. وهي إذا خرجت لطلب المعاش، خرج الرئيس أولا يتشوف، فإن لم ير شيئا يخافه، صر بأسنانه وصوت إليها فتخرج. والواو والياء في اليربوع زائدتان، فكان ينبغي أن يكتب في باب الراء المهملة، لكنه قد يخفى على بعض الناس فكتب هنا. الحكم : يحل أكله لأن العرب تستطيبه وتحله، قال عطاء وأحمد وابن المنذر وأبو ثور وقال أبو حنيفة: لا يؤكل لأنه من الحشرات، دليلنا أن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا فيه جفرة إذا قتله أو أصابه المحرم، وأن الأصل الإباحة إلا ما خص بالتحريم. الأمثال : قالوا: «أضل من ولد اليربوع» «1» وقالوا: «كالمشتري القاصعاء باليربوع» يضرب للذي يدع العين ويتبع الأثر، لأن القاصعاء جحر اليربوع الذي يقصع فيه أي يدخل والجمع قواصع. الخواص : دم اليربوع يؤخذ فيطلى على الشعر الذي ينبت في الجفن، بعد أن ينتف يذهب بإذن الله تعالى. التعبير : اليربوع في الرؤيا يدل على رجل حلاف كذاب، فمن نازعه نازع إنسانا كذلك. اليرقان: هو دود يكون في الزرع ثم ينسلخ، فيكون فراشا، يقال: زرع ميروق قاله ابن سيده. اليسف: الذباب، وقد تقدم في باب الذال المعجمة مستوفى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 اليعر: بفتح الياء المثناة تحت، وبالعين المهملة الجدي يشد عند زبية الأسد، وعند مأوى الذئب ويغطي رأسه، فإذا سمع الضبع صوته جاء في طلبه فوقع في الزبية، ومنه قولهم: «فلان أذل من اليعر» «1» ، واليعر أيضا دابة تكون بخراسان تسمن على الكد، وقيل: هي بالغين المعجمة. قالوا في أمثالهم : «أسمن من يغر» «2» . ذكره حمزة وغيره. اليعفور: الخشف وولد البقرة الوحشية أيضا، وقال بعضهم: اليعافير تيوس الظباء، قال بشر بن أبي حازم: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس وفي حديث سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج على حماره يعفور ليعوده. قيل: سمي يعفور للونه، وهي العفرة، كما قيل في أخضر يخضور، وقيل: سمي به تشبيها في عدوه باليعفور وهو الظبي والله تعالى أعلم. اليعقوب: ذكر الحجل قال الجواليقي: وهو عربي صحيح، وأما يعقوب اسم نبي الله صلى الله عليه وسلم فهو أعجمي كيوسف ويونس واليسع. وقال الجوهري: يعقوب اسم رجل لا ينصرف في المعرفة للعجمة والتعريف، واليعقوب ذكر الحجل مصروف، لأنه عربي لم يغير، وإن كان مزيدا في أوله فليس على وزن الفعل، ويوصف اليعقوب بكثرة العدو وشدته قال الشاعر: عاد يقصّر دونه اليعقوب والجمع اليعاقيب، قال الشاعر: أودى الشباب الذي مجد عواقبه ... فيه نلذ ولا لذات للشيب ويروى أيضا: أودى الشباب حميدا ذو التعاجيب ... أودى وذلك شأو غير مطلوب ولّى حثيثا وهذا الشيب يطلبه ... لو كان يدركه ركض اليعاقيب يروى ركض بالرفع والنصب، فمن رفعه جعله فاعل يدركه، وأراد به أن هذا الطائر، على سرعة طيرانه لا يدرك الشباب إذا ولى، فكيف يدركه غيره؟ ومن نصبه نصبه بفعل مضمر تقديره ولى يركض ركض اليعاقيب، وجعله من جملة صفة الشباب، وجعل فاعل يدركه ضمير الشيب المستتر فيه، ويصير في البيت تقديم وتأخير، وتقديره: ولى الشباب حثيثا يركض ركض اليعاقيب، وهذا الشيب يطلبه لو كان يدركه، والمراد باليعاقيب: ذكور القبج، وقال بعضهم: إنه هنا العقاب، والمشهور الأول. واليعقوب والقبج والحجل راجع إلى نوع واحد، ووصفه أبو علي بن رشيق «3» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 بأبيات منها: ما أغربت في زيها ... إلا يعاقيب الحجل جاءتك مثقلة الترا ... ئب بالحلى وبالحلل صفر العيون كأنها ... باتت بتبر تكتحل وتخالها قد وكلت ... بالنوت والصوت الزجل وكأنما باتت ... أصابعها بحناء تعل من يستحل لصيدها ... فأنا امرؤ لا أستحل ومن حكمه : أنه يجب الجزاء بقتل المتولد بين اليعقوب والدجاج، قاله الرافعي، في الحج. وهذا يرد قول من قال: إن المراد في البيتين الأولين هو العقاب، فإن التناسل لا يقع بين الدجاج والعقاب، وإنما يقع التناسل بين حيوانين بينهما تشاكل وتقارب في الخلق كالحمار الوحشي والأهلي، والظبي والشاة، فإذا عرف هذا فالمراد الدجاج البري، وهو في الشكل واللون قريب من الدجاج الإنسي. اليعملة: الناقة النجيبة المطبوعة على العمل، والجمع يعملات، ومنه قول عبد الله بن رواحة لزيد بن أرقم «1» رضي الله تعالى عنهما: يا زيد زيد اليعملات الذبل ... تطاول الليل هديت فانزل «2» وقيل: بل قال ذلك في غزوة مؤتة لزيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه. اليمام: قال الأصمعي: هو الحمام الوحشي، الواحدة يمامة، وقال الكسائي: هي التي تألف البيوت، واليمامة اسم جارية زرقاء، كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، قال الجاحظ: إنها كانت من بنات لقمان بن عاد، وأن اسمها عنز، وكانت هي زرقاء، وكانت الزباء زرقاء، وكانت البسوس زرقاء، وهي أول من اكتحل بالإثمد من العرب وهي التي ذكرها النابغة في قوله» : واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد وقد تقدم في حرف الحاء. فائدة : قال في ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار: النساء اللاتي يضرب بهن المثل خمس وهي: زرقاء اليمامة والبسوس ودغة وظلمة وأم قرفة. أما الزرقاء فيقال «4» : «أبصر من زرقاء اليمامة» ، وهي امرأة من بني نمير، كانت باليمامة تبصر الشعرة البيضاء في الليل، وتنظر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تنذر قومها بالجيوش إذا غزتهم، فلا يأتيهم جيش إلا وقد استعدوا له، فاحتال عليها بعض من غزاهم، فأمر أصحابه فقطعوا شجرا وأمسكوها بأيديهم، أمام معسكره فنظرت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 الزرقاء فقالت: إني أرى الشجر قد أقبلت إليكم! فقال لها قومها: قد خرفت، وذهب عقلك، ورق بصرك، كيف تأتي الشجر؟ قالت: هو ما أقول لكم. فكذبوها فصبحتهم الخيل، وأغاروا عليهم، وقتلوا الزرقاء، وقوروا عينيها، فوجدوا عروق عينيها قد غرقت في الإثمد من كثرة ما تكتحل به. وأما البسوس فيقال: «أشأم من البسوس» «1» ، وهي خالة جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان، ولها كانت الناقة التي قتل من أجلها كليب بن وائل، وبها ثارت حرب بكر وتغلب التي يقال لها حرب البسوس. وأما دغة فيقال: «أحمق من دغة» «2» وهي امرأة من بني عجل تزوجت من بني العنبر. وأما ظلمة فيقال: «أزنى من ظلمة» وهي امرأة من هذيل زنت أربعين سنة، وقادت أربعين عاما، فلما عجزت عن الزنا والقيادة، اتخذت تيسا وعنزا، فكانت تنزي التيس على العنزة، فقيل لها: لم تفعلين ذلك؟ قالت: لأسمع أنفاس الجماع بينهما. وأما أم قرفة، فيقال: «أمنع من أم قرفة» «3» ، وهي امرأة مالك بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكانت تعلق في بيتها خمسين سيفا، كل سيف منها لذي محرم لها. وقد سئل ابن سيرين عن النساء فقال: مفاتيح أبواب الفتن ومخازن الحزن، إن أحسنت المرأة إليك منت عليك، تفشي سرك وتهمل أمرك، وتميل إلى غيرك. وقيل: النساء ريحان بالليل شوك بالنهار. وقيل لبعض الحكم اء: مات عدوك! فقال: وودت أنكم قلتم تزوج. وقيل: العجز في ثلاث خصال: قلة اكتراثه في مصلحته، وقلة مخالفته لشهوته، وقبوله من امرأته فيما لا يعلمه. وقال بعض الحكماء: لا تأمنن قارئا على صحيفة، ولا شابا على امرأة. وقال غيره: لا مصيبة أعظم من الجهل، ولا شر أشر من النساء انتهى. الحكم : يحل أكل اليمام وبيضه بالاتفاق، وقد تقدم في باب الحاء المهملة في الحمام. الأمثال : قالوا: «كن مع الناس يمامة» يعني ارفق بهم ولا تنفرهم. وخواصه وتعبيره كالحمام. اليهودي: حوت في البحر، وقد تقدم الكلام عليه في باب الشين المعجمة. اليوصي: بفتح الياء والواو وكسر الصاد المهملة المشددة، طائر بالعراق أطول جناحا من الباشق، وأخبث صيدا وهو الحر. وحكمه : الحرمة كما تقدم، في باب الحاء المهملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 اليعسوب: اسم مشترك يقع على طائر نحو الجرادة، له أربعة أجنحة لا يقبض له جناحا أبدا ولا يرى أبدا يمشي إنما يرى واقفا على رأس عود، أو طائرا وقال الجوهري: هو أطول من الجرادة لا يضم جناحه، إذا وقع شبهت به الخيل المضمرة قال بشير: أبو ظبية شعث تطيف بشخصه ... كوالح أمثال اليعاسيب ضمرا ثم قال: والياء فيه زائدة، لأنه ليس في الكلام فعلول غير صعفوق. وذكر ابن خلكان، في ترجمة «1» الحسن بن عبد الله العسكري، قال: مرض صخر بن عمرو بن الشريد، وطال مرضه وكانت أمه وزوجته سليمى يمرضانه فسئلت زوجته يوما عن حاله، وكانت قد ضجرت منه، فقالت: لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، فسمعها صخر فأنشد «2» قائلا: أرى أمّ صخر لا تملّ عيادتي ... وملت سليمى مضجعي ومكاني وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك ومن يغترّ بالحدثان لعمري لقد نبهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان وأي امرىء ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلا في شقا وهوان أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان فللموت خير من حياة كأنها ... معرس يعسوب برأس سنان وفي حديث مصعب: «لولا ظمأ الهواجر ما باليت أن أكون يعسوبا» . قال ابن الأثير: المراد ههنا فراشة مخضرة تطير في الربيع، وقيل: وهو طائر أعظم من الجرادة، ولو قيل: إنه النحل لجاز، واليعسوب اسم فرس للنبي صلى الله عليه وسلم وأخرى للزبير رضي الله تعالى عنه، وقيل: إنها إحدى الأفراس الثلاثة التي كانت للمسلمين يوم بدر على اختلاف فيه. واليعسوب يطلق على الغرة المستطيلة في وجه الفرس، وعلى دائرة عند مربض الفرس، وعلى ضرب من الحجلان، حكاه الدمياطي، في كتاب الخيل. والمربض بكسر الميم وبالضاد المعجمة مكان الفرس. وفي الحديث «3» : «صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل» . والمرابض المبارك، وربض الأسد أي رقد. وقال الجاحظ: اليعاسب هي كبار الذباب انتهى. واليعسوب ملك النحل وأميرها الذي لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به، فهي مؤتمرة بأمره سامعة له مطيعة، وله عليها تكليف وأمر ونهي وهي منقادة لأمره، متبعة لرأيه، يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته، حتى إنها إذا أوت إلى بيوتها، وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم أخرى، ولا تتقدم عليها، في العبور بل تعبر بيوتها واحدة بعد واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم، ولا تراكم كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوزه إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 واحد بعد واحد. وأعجب من ذلك أن أميرين منهما، لا يجتمعان في بيت، ولا يتأمران على جمع واحد، بل إذا اجتمع منها جندان وأميران قتلوا أحد الأميرين وقطعوه واتفقوا على الأمير الواحد من غير معاداة منهم، ولا أذى من بعضهم لبعض، بل يصيرون يدا واحدة. روى ابن السني، في عمل اليوم والليلة، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أحدكم إذا أراد أن يخرج من المسجد، تداعت جنود إبليس واجتمعت كما تجتمع النحل على يعسوبها، فإذا قام أحدكم على باب المسجد، فليقل: اللهم إني أعوذ بك من إبليس وجنوده، فإنه إذا قالها لم تضره» . ومن لفظ اليعسوب، قيل للسيد يعسوب قومه. وقال علي رضي الله تعالى عنه، لما رأى عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد مقتولا، يوم الجمل: هذا يعسوب قريش، ثم قال: جدعت أنفي وشفيت نفسي. وكان عبد الرحمن يقاتل ذلك اليوم ويقول: أنا ابن عتاب بسيف ولول ... والموت دن الجمل المجلل وقاتل قتالا شديدا في ذلك اليوم، وقطعت يده يومئذ، وكان فيها خاتم، فاختطفها نسر فطرحها باليمامة، فعرفت بخاتمه فصلوا عليه. وبالجملة، فقد اتفقوا على أن يده احتملها طائر في وقعة الجمل، فألقاها بالحجاز، فصلوا عليها ودفنوها. واختلفوا في الطائر ما هو وفي أي مكان ألقاها؟ فقيل: حملها نسر وألقاها باليمامة في ذلك اليوم كما تقدم. وقال ابن قتيبة: حملتها عقاب، فألقتها في ذلك اليوم باليمامة. وقال الحافظ أبو موسى وغيره: ألقاها بالمدينة. وقال الشيخ، في شرح المهذب: ألقاها بمكة. وفي صحيح «1» مسلم، من حديث النواس بن سمعان الطويل، أن الدجال تتبعه كنوز الأرض، كيعاسيب النحل أي تظهر له وتجتمع عنده كما تجتمع النحل على يعسوبها. ولما مات أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، على باب البيت الذي هو مسجى فيه، فقال: كنت والله يعسوبا للمؤمنين، وكنت كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف. فمثله علي كرم الله وجهه باليعسوب في سبقه للإسلام غيره، لأن اليعسوب يتقدم النحل إذا طارت فتتبعه، والعواصف الريح المهلكة في البر، والقواصف الريح المهلكة في البحر. قال «2» الله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً وقال «3» الله تعالى: فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ. وفي كامل ابن عدي، في ترجمة عبد الله بن واقد الواقفي، وفي ترجمة عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله تعالى عنه: «أنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكفار» . وفي رواية: يعسوب الظلمة وفي رواية: يعسوب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 المنافقين، أي يلوذ بك المؤمنون، ويلوذ الكفار والظلمة والمنافقون بالمال كما تلوذ النحل بيعسوبها. ومن هنا قيل لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه أمير النحل. وهذا ما انتهى إليه الغرض، مما يحصل به في هذا الشأن الاكتفاء، وختم بملك النحل الذي استخرج الله من لعابه الشمع والعسل، وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء وابتدىء بملك الوحش الذي منه الشجاعة تقتفى. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المصطفى، ورضي الله عن آله وعترته وصحبه أهل الفضل والوفا، وحسبنا الله وكفى. قال مؤلفه، فقير رحمة الله تعالى: وكان الفراغ من مسودته في شهر رجب الفرد سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة جعل الله ذلك خالصا لوجهه الكريم، وموجبا للفوز في دار النعيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 ثبت المراجع والمصادر الأذكياء/ ابن الجوزي/ مكتبة الغوالي/ الأعلام/ الزركلي/ دار العلم للملايين/ بيروت ط 7/1986 الأدب في العصر المملوكي/ محمد زغلول سلام/ دار المعارف بمصر/ لا ط بدائع الزهور/ ابن إياس الحنفي/ الهيئة المصرية العامة/ لا ط جمهرة الأمثال/ أبو هلال العسكري/ دار الكتب العلمية/ بيروت ط 1/1988 الحيوان/ الجاحظ/ نسخة مصورة عن الطبعة المصرية/ ديوان الأعشى الأكبر/// ديوان امرىء القيس// دار صادر/ بيروت ديوان أبي نواس// دار الكتب العلمية/ بيروت ديوان أبي تمّام// دار الكتب العلمية/ بيروت ديوان أبي العتاهية// دار صادر/ بيروت ديوان جرير// دار المعارف بمصر/ القاهرة ديوان جرير// دار صادر/ بيروت ديوان جميل بثينة// دار الآفاق الجديدة/ بيروت ديوان حسان بن ثابت/// ديوان الخرنق بنت هفان// دار الكتب العلمية/ بيروت ديوان ذي الرمة// دار الحياة/ بيروت لا ط ديوان ذي الرمة// المكتب الإسلامي/ بيروت لا ط ديوان سلامة بن جندل// دار الكتب العلمية/ بيروت ديوان الإمام الشافعي// دار الكتب العلمية/ بيروت ديوان طرفة بن العبد// دار صادر/ بيروت ديوان الإمام علي// دار الكتب العلمية/ بيروت ديوان عنترة بن شداد// دار صادر/ بيروت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 ديوان عدي بن الرقاع// دار الكتب العلمية/ بيروت ديوان عباس بن مرداس// دار الرسالة/ بيروت ديوان الفرزدق// دار الكتب العلمية/ بيروت ديوان لبيد بن ربيعة// دار صادر/ بيروت ديوان المعلقات السبع/ شرح الزوزني/ دار صادر/ بيروت لا ط ديوان المتنبي/ شرح العكبري/ دار المعرفة/ بيروت لا ط الشعر والشعراء/ ابن قتيبة/ دار الكتب العلمية/ بيروت ط 2/1985 الضوء اللامع/ شمس الدين السخاوي/ دار الحياة/ بيروت لا ط طبقات فحول الشعراء/ ابن سلام/ دار الكتب العلمية/ بيروت ط 2/1988 العقد الثمين في/ تقي الدين الفاسي/ الرسالة/ بيروت ط 2/1986 تاريخ البلد الأمين/// عيون الأخبار/ ابن قتيبة/ دار الكتب العلمية/ بيروت فوات الوفيات/ محمد بن شاكر الكتبي/ دار صادر/ بيروت القاموس المحيط/ الفيروز آبادي// الكامل في ضعفاء الرجال/ ابن عدي/ دار الفكر/ بيروت 1984 المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي/// مجمع الأمثال/ الميداني/ دار القلم/ بيروت المستقصى في الأمثال/ الزمخشري/ دار الكتب العلمية/ بيروت مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني/ بكري شيخ أمين/ دار الآفاق الجديدة/ بيروت ط 3/1980 مجمل اللغة/ أحمد بن فارس/ دار الرسالة/ بيروت ط 2/1986 معجم الأدباء/ ياقوت الحموي/ دار الكتب العلمية/ بيروت 1/1991 معجم البلدان/ ياقوت الحموي/ دار صادر/ بيروت وفيات الأعيان/ ابن خلكان/ دار صادر/ بيروت 1977 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 فهرس الجزء الثاني من حياة الحيوان الكبرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 (الفهرس) باب الزاي الزاغ 3 الزاقي 5 الزامور 6 الزبابة 6 الزبزب 7 الزخارف 7 الزرزور 7 الزرق 8 الزرافة 8 الزرياب 10 الزغبة 10 الزغلول 10 الزغيم 11 الزلال 11 الزقة 11 الزّماج 12 الزّمّج 12 زمج الماء 13 الزنبور 13 الزندبيل 15 الزهدم 15 أبو زريق 15 أبو زيدان 15 أبو زياد 15 باب السين المهملة سابوط 15 ساق حر 16 السالخ 16 سامّ أبرص 16 السانح 17 السّبد 17 السّبع 17 السبنتي والسبندي 23 السبيطر 23 السحلة 23 السحيلة 23 السحا 23 سحنون 24 السخلة 24 السّرحان 26 السرطان 27 السرّعوب 28 السرفوت 28 السرّفة 28 السرمان 28 السروة 28 السرماح 29 السعدانة 29 السعلاة 29 السفنج 32 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 السقب 32 السقر 32 السقنقور 32 السلحفاة البرية 33 السلحفاة البحرية 34 السّلفان 35 السلق 35 السلك 35 السلكوت 35 السلوى 35 السماني 36 السمحج 37 السّمح 37 السمائم 38 السمسم 39 السمسمة 39 السمك 39 السمندل 45 السمّور 46 السميطر 47 السمندر والسميدر 47 السنجاب 47 السنداوة 48 السنة 48 السندل 48 السّنّور 48 السنونو 51 السودانية والسوادية 52 السوذنيق 52 السوس 52 السّيد 54 السّيدة 54 سيفنة 55 أبو سيراس 55 باب الشين المعجمة الشادن 55 شادهوار 55 الشارف 55 الشاة 56 الشامرك 65 الشاهين 66 الشبب 67 الشبث 67 الشبثان 67 الشبدع 67 الشبربص 68 الشبل 68 الشبوة 68 الشبّوط 68 الشّجاع 68 الشحرور 69 شحمة الأرض 70 الشذا 70 الشران 70 الشرشق 70 الشرشور 70 الشرغ 70 الشرنبي 70 الشصر 70 الشعراء 71 الشغواء 73 الشفدع 73 الشفنين 73 الشق 73 الشقحطب 76 الشقدان 76 الشقراق 76 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 الشمسية 77 الشنقب 77 شه 77 الشهام 77 الشهرمان 77 الشوحة 77 الشوف 77 الشوشب 77 الشوط 77 شوط براح 77 الشول 77 شولة 77 الشيخ اليهودي 78 الشيذمان 78 الشيصبان 78 الشيع 78 الشيم 78 الشيهم 78 أبو شبقونة 79 باب الصاد المهملة الصؤابة 79 الصارخ 80 الصافر 80 الصدف 80 الصدى 81 الصّرّاخ 83 صرّار الليل 83 الصّرّاح 83 الصّرد 83 الصرصر 86 الصرصران 87 الصعب 87 الصّعوة 87 الصّفّارية 88 الصفر 88 الصفرد 89 الصقر 89 الصل 96 الصلب 96 الصلنباج 96 الصلصل 96 الصناجة 96 الصوار 97 الصومعة 97 الصيبان 97 الصيد 97 الصيدح 104 الصيدن 104 الصيدناني 104 الصير 104 باب الضاد المعجمة الضأن 105 الضؤضؤ 107 الضب 107 الضبع 111 أبو ضبة 115 الضرغام 115 الضريس 116 الضغبوس 117 الضفدع 117 الضوع 120 الضيب 121 الضئيلة 121 الضيّون 121 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 باب الطاء المهملة طامر بن طامر 121 الطاوس 121 الطائر 126 الطبطاب 130 الطبوع 130 الطثرج 130 الطحن 130 الطرسوح 131 طرغلودس 131 الطرف 131 الطغام 131 الطفل 131 ذو الطيفتين 131 الطلع 132 الطيلا 132 الطلى 132 الطمروق 132 الطمل 132 الطنبور 132 الطوراني 133 الطوبالة 133 الطول 133 الطوطي 133 الطير 133 طير العراقيب 138 طير الماء 138 الطيطوي 139 الطيهوج 140 بنت طبق وأم طبق 140 باب الظاء المعجمة الظبي 140 الظربان 147 الظليم 148 باب العين المهملة العاتق 149 العاتك 150 عتاق الطير 150 العاضة والعاضهة 150 العاسل 150 العاطوس 150 العافية 150 العائذ 151 العبقص والعبقوص 151 العبور 151 العترفان 151 العتود 151 العثة 152 العثمثمة 152 العثمان 152 العثوثج 152 العجروف 152 العجل 152 العجمجمة 157 أم عجلان 157 العجوز 157 عدس 157 العذفوط 158 العربج 158 العريض 158 العسجدية 158 العربد 158 العربض والعرباض 158 العرس 158 العريقطة والعريقطان 158 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 العزة 158 العسا 158 العساعس 158 العساس 158 العساهيل 158 العسبار 158 العسبور 158 العسلق 159 العسنج 159 العشراء 159 العصاري 159 العصفور 160 العضل 166 العرفوط 166 العريقطة 166 العضمجة 167 العضرفوط 167 عطار 167 العطاط 167 العطرف 167 العظاءة 167 العفر 168 العفريت 168 العفر 172 العقاب 172 العقد 185 العقال 185 العقرب 185 العقربان 202 العقف 202 العقعق 202 العقيب 203 العكاش 203 العكرشة 203 العكرمة 203 العلج 204 العل 204 العلجوم 204 العلام 204 العلوش 204 العلهان 204 العلس 204 العلامات 204 العلهز 205 العلعل 205 العلق 205 العلهب 210 العمروس 210 العملس 210 العميثل 210 العناق 211 عناق الأرض 213 العنبس 214 العنس 214 العنبر 214 العنتر 216 العندليب 216 العندل 217 العنز 217 العنظب 221 العنظوانة 221 عنقاء مغرب ومغربة 221 العنكبوت 224 العود 228 العواساء 228 العوس 228 العومة 228 العوهق 228 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 العلا 228 العلام 228 العيثوم 228 العير 228 العير 231 عين السراة 231 العيس 232 العيساء 232 العيلام 232 العيثوم 232 العين 232 العيهل 232 عيجلوف 232 ابن عرس 232 أم عجلان 234 أم عويف 234 أم العيزار 234 باب الغين المعجمة الغاق 234 الغداف 235 الغذي 235 الغراب 235 الغر 247 الغرنيق 247 الغرغر 250 الغرناق 251 الغزال 251 الغضارة 254 الغضب 254 الغضف 254 الغضوف 254 الغضيض 254 الغطرب 254 الغطريف 254 الغطلس 254 الغطاطا 254 الغفر 254 الغماسة 254 الغنافر 254 الغنم 255 الغواص 262 الغوغاء 263 الغول 263 الغيداق 267 الغيطلة 267 الغيلم 267 الغيهب 267 باب الفاء الفاختة 267 الفأر 270 فأرة البيش 272 ذات النطاق 272 فأرة المسك 272 فأرة الإبل 272 وإما الفأرة التي خربت سد مأرب 273 الفادر 275 الفازر 275 الفاشية 275 الفاعوس 275 الفاطوس 275 الفالج 276 فالية الأفاعي 276 فتّاح 276 الفتح 276 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 الفحل 276 الفدس 280 الفرأ 280 الفراش 280 الفرافصة 282 الفرخ 282 الفرس 285 فرس البحر 300 الفرش 301 الفرانق 302 الفرفر 302 الفرفور 302 الفرع 302 الفرعل 303 الفرقذ 303 الفرنب 303 الفرهود 303 الفروج 303 الفرير والفرار 304 فساغس 304 الفصيل 304 الفلحس 305 الفلو 305 الفناة 305 الفنك 305 الفهد 306 الفور 308 الفولع 308 الفيصور 309 الفويسقة 309 الفياد 309 الفيل 309 الفينة 323 أبو فراس 323 باب القاف القادحة 323 القارة 323 القارية 323 القاق 324 القاقم 324 القاوند 324 القبج 324 القبرة 325 القبعة 328 القبيط 328 القتع 329 ابن قترة 329 القدان 329 القراد 329 القردوح 335 القرش 335 القرقس 337 القرشام والقرشوم والقراشم 337 القرعبلانة 337 القرعوش 337 القرقف 337 القرقفنة 337 القرلي 338 القرمل 338 القرميد 338 القرمود 338 القرنبى 338 القرهب 339 القرهب 339 القذر 339 القرم 339 القرة 340 القسورة 340 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 القشعمان 341 القشبة 341 القصيري 341 القط 341 القطا 342 القطّا 348 القطامي 348 قطرب 348 القشعبان 349 القعود 349 القعيد 349 القعقع 349 القلو 349 القلقاني 349 القلوص 349 القليب 351 القمري 351 القمعة 353 القمعوط والقمعوطة 353 القمل 353 القمقام 359 قندر 359 القندس 360 القنعاب 360 القنفذ 360 القنفذ البحري 362 القنفشة 362 القهيى 362 القهيبة 363 القوافر 363 القواع 363 القوب 363 قوبع 363 القوثع 363 القوق 363 قوقيس 363 قوقي 363 قيد الأوابد 363 قيق 363 أم قشعم 364 أبو قير 364 أم قيس 364 باب الكاف الكاسر 364 كاسر العظام 364 الكبش 364 الكبعة 370 الكتفان 370 الكتع 370 الكدر 370 الكركر 370 الكركند 370 الكركي 371 الكروان 375 الكسعوم 376 الكعيت 376 الككم 377 الكلب 377 الكلثوم 424 الكلكسة 424 الكميت 424 الكندارة 424 الكنعبة 424 الكعند والكعند 424 الكندش 424 الكهف 424 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 الكودن 424 الكوسج 425 الكهول 425 باب اللام لأي 425 اللباد 425 اللبؤة 426 اللجأ 429 اللحكاء 429 اللخم 430 اللعوس 430 اللعوة 430 اللقحة 430 اللقاط 432 اللقلق 433 اللهق 434 اللهم 434 اللوب والنوب 434 اللوشب 434 اللياء 434 الليث 434 الليل 437 باب الميم مارية 437 المازور 437 الماشية 437 مالك الحزين 438 المجثمة 439 المثا 439 المربع 439 المرء 439 المرزم 439 المرعة 439 مسهر 439 المطية 440 المعراج 444 المعز 444 ابن مقرض 444 المقوقس 445 المكاء 446 المكلفة 447 الملكة 447 المنارة 447 المنخنقة 447 المنشار 448 الموقوذة 448 الموق 448 المول 449 المها 449 المهر 450 ملاعب ظله 451 أبو مزينة 451 ابنة المطر 451 أبو المليح 451 ابن ماء 452 باب النون الناب 452 الناس 452 الناضح 452 الناقة 453 الناموس 460 الناهض 461 النباج 461 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 النبر 461 النجيب 461 النحام 462 النحل 463 النحوص 474 النسر 474 النساف 479 النسناس 479 النسنوس 481 النضو 481 النعاب 482 النعام 483 النعثل 488 النعجة 488 النعبول 490 النعرة 490 النعم 490 النغر 492 النغض 494 النغف 494 النفار 494 النقاز 494 النقاقة 494 النقد 494 النكل 495 النمر 495 النمس 497 النمل 497 النهار 504 النهاس 504 النهس 504 النهام 505 النهشل 505 النهسر 505 النواح 505 النوب 505 النورس 505 النوص 505 النون 505 باب الهاء الهالع 509 الهامة 509 الهبع 513 الهجاة 513 الهجرس 513 الهجرع 514 الهجين 514 الهدهد 514 الهدي 519 الهديل 520 الهرماس 520 الهر 520 الهرنصانة 528 هرثمة 528 الهرهير 528 الهرزون والهرزان 528 الهزار 528 الهزبر 528 الهرعة 529 الهف 529 الهقل 529 الهقلس 530 الهمج 530 الهمع 530 الهمل 530 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 الهملع 530 الهمم 531 الهنبر 531 الهودع 531 الهوذة 531 الهوزن 531 الهلابع 532 الهلال 532 الهيثم 532 الهيجمانة 532 الهيطل 532 الهيعرة 532 الهيق 532 الهيكل 532 أبو هارون 532 باب الواو الوازع 532 الواق واق 532 الواقي 532 الوبر 533 الوج 534 الوحدة 534 الوحش 535 الودع 537 الورء 537 الورد 537 الورداني 538 الورشان 538 الورقاء 539 الورل 541 الوزغة 544 الوصع 548 الوطواط 548 الوعوع 549 الوعل 549 الوقواق 552 بنات وردان 552 باب الياء يأجوج ومأجوج 553 اليامور 556 اليؤيؤ 557 اليحبور 557 اليحمور 557 اليحموم 558 اليراعة 558 اليربوع 558 اليرقان 559 اليسف 559 اليعر 560 اليعفور 560 اليعقوب 560 اليعملة 561 اليمام 561 اليهودي 562 اليوصي 562 اليعسوب 563 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581