الكتاب: الاختيار لتعليل المختار المؤلف: عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي البلدحي، مجد الدين أبو الفضل الحنفي (المتوفى: 683هـ) عليها تعليقات: الشيخ محمود أبو دقيقة (من علماء الحنفية ومدرس بكلية أصول الدين سابقا) الناشر: مطبعة الحلبي - القاهرة (وصورتها دار الكتب العلمية - بيروت، وغيرها) تاريخ النشر: 1356 هـ - 1937 م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   «المختار للفتوى» لابن مودود الموصلي بأعلى الصفحة، يليه - مفصولا بفاصل - شرحه للمؤلف نفسه ---------- الاختيار لتعليل المختار ابن مودود الموصلي الكتاب: الاختيار لتعليل المختار المؤلف: عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي البلدحي، مجد الدين أبو الفضل الحنفي (المتوفى: 683هـ) عليها تعليقات: الشيخ محمود أبو دقيقة (من علماء الحنفية ومدرس بكلية أصول الدين سابقا) الناشر: مطبعة الحلبي - القاهرة (وصورتها دار الكتب العلمية - بيروت، وغيرها) تاريخ النشر: 1356 هـ - 1937 م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   «المختار للفتوى» لابن مودود الموصلي بأعلى الصفحة، يليه - مفصولا بفاصل - شرحه للمؤلف نفسه [مقدمة المؤلف] «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [حَدِيثٌ شَرِيفٌ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى جَزِيلِ نَعْمَائِهِ، أَحْمَدُهُ عَلَى جَلِيلِ آلَائِهِ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى جَمِيلِ بَلَائِهِ، وَأَشْهَدُ - أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ شَهَادَةً أُعِدُّهَا لِيَوْمِ لِقَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ رُسُلِهِ، وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وَأَصْحَابِهِ وَأَصْفِيَائِهِ - وَأَحْمَدُهُ عَلَى أَنْ جَعَلَنِي مِمَّنْ سَلَكَ سُنَنَ سُنَّتِهِ وَاقْتَفَاهُ، وَوَرَدَ شَرِيعَةَ شَرْعِهِ فَرَوَّاهُ، حَمْدَ مَنْ غَمَرَتْهُ نِعَمُهُ وَعَمَّتْهُ عَطَايَاهُ. وَبَعْدُ: فَقَدْ رَغِبَ إِلَيَّ مَنْ وَجَبَ جَوَابُهُ عَلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ لَهُ مُخْتَصَرًا فِي الْفِقْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ - مُقْتَصِرًا فِيهِ عَلَى مَذْهَبِهِ، مُعْتَمِدًا فِيهِ عَلَى فَتْوَاهُ، فَجَمَعْتُ لَهُ هَذَا الْمُخْتَصَرَ كَمَا طَلَبَهُ وَتَوَخَّاهُ، وَسَمَّيْتُهُ:   [الاختيار لتعليل المختار] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ لَنَا دِينًا قَوِيمًا، وَهَدَانَا إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَجَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ تَعَلُّمًا وَتَعْلِيمًا، حَمْدَ مَنْ عَمَّتْهُ رَحْمَتُهُ وَإِفْضَالُهُ، وَغَمَرَتْهُ أَعْطِيَتُهُ وَنَوَالُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً أَسْتَزِيدُ بِهَا وُفُورَ نِعَمِهِ، وَأَسْتَرْفِدُ بِهَا وُفُورَ كَرَمِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الَّذِي جَمَعَ بِمَبْعَثِهِ شَمْلَ الْحَقِّ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ، وَقَمَعَ بِرِسَالَتِهِ حِزْبَ الْبَاطِلِ بَعْدَ تَطَوُّقِهِ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِمُ الَّذِينَ سَلَكُوا سَنَنَ سُنَنِهِ وَصَوَابِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الْمُخْتَارَ لِلْفَتْوَى لِأَنَّهُ اخْتَارَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ وَارْتَضَاهُ. وَلَمَّا حَفِظَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَاشْتَهَرَ، وَشَاعَ ذِكْرُهُ بَيْنَهُمْ وَانْتَشَرَ، طَلَبَ مِنِّي بَعْضُ أَوْلَادِ بَنِي أَخِي النُّجَبَاءِ أَنْ أَرْمِزَهُ رُمُوزًا يُعْرَفُ بِهَا مَذَاهِبُ بَقِيَّةِ الْفُقَهَاءِ، لِتَكْثُرَ فَائِدَتُهُ، وَتَعُمَّ عَائِدَتُهُ، فَأَجَبْتُهُ إِلَى طَلَبِهِ، وَبَادَرْتُ إِلَى تَحْصِيلِ بُغْيَتِهِ بَعْدَ أَنِ اسْتَعَنْتُ بِاللَّهِ وَتَوَكَّلْتُ عَلَيْهِ وَاسْتَخَرْتُهُ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْهِ، وَجَعَلْتُ لِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسَمَاءِ الْفُقَهَاءِ حَرْفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَهِيَ: لِأَبِي يُوسُفَ (س) وَلِمُحَمَّدٍ (م) وَلَهُمَا (سم) وَلِزُفَرَ (ز) وَلِلشَّافِعِيِّ (ف) وَاللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِإِتْمَامِهِ، وَيَخْتِمَ لِي بِالسَّعَادَةِ عِنْدَ اخْتِتَامِهِ إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَبَعْدُ: فَكُنْتُ جَمَعْتُ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِي مُخْتَصَرًا فِي الْفِقْهِ لِبَعْضِ الْمُبْتَدِئِينَ مِنْ أَصْحَابِي. وَسَمَّيْتُهُ بِـ " الْمُخْتَارِ لِلْفَتْوَى " اخْتَرْتُ فِيهِ قَوْلَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إِذْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ وَالْأَوْلَى، فَلَمَّا تَدَاوَلَتْهُ أَيْدِي الْعُلَمَاءِ، وَاشْتَغَلَ بِهِ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ طَلَبُوا مِنِّي أَنْ أَشْرَحَهُ شَرْحًا أُشِيرُ فِيهِ إِلَى عِلَلِ مَسَائِلِهِ وَمَعَانِيهَا، وَأُبَيِّنُ صُوَرَهَا وَأُنَبِّهُ عَلَى مَبَانِيهَا، وَأَذْكُرُ فُرُوعًا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا وَيُعْتَمَدُ فِي النَّقْلِ عَلَيْهَا، وَأَنْقُلُ فِيهِ مَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا مِنَ الْخِلَافِ، وَأُعَلِّلُهُ مُتَوَخِّيًا مُوجِزًا فِيهِ الْإِنْصَافَ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْهِ، وَشَرَعْتُ فِيهِ، مُسْتَعِينًا بِهِ وَمُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ، وَسَمَّيْتُهُ: الِاخْتِيَارَ لِتَعْلِيلِ الْمُخْتَارِ وَزِدْتُ فِيهِ مِنَ الْمَسَائِلِ مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَمِنَ الرِّوَايَاتِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْفَتْوَى، يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا الْمُبْتَدِئُ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْمُنْتَهِي. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَسْأَلُهُ أَنْ يُوَفِّقَنِي لِلْإِتْمَامِ وَالْإِصَابَةِ، وَيَرْزُقَنِيَ الْمَغْفِرَةَ وَالْإِنَابَةَ، إِنَّهُ قَدِيرٌ عَلَى ذَلِكَ وَجَدِيرٌ بِالْإِجَابَةِ، وَهُوَ حَسْبِي، وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 كِتَابُ الطَّهَارَةِ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ وَهُوَ مُحْدِثٌ فَلْيَتَوَضَّأْ. فَرَائِضُ الْوُضُوءِ وَفَرْضُهُ: غَسْلُ الْوَجْهِ، وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ (ز) ، وَمَسْحُ رُبُعِ (ف) الرَّأْسِ، وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ (ز) .   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الطَّهَارَةِ] وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ النَّظَافَةِ، وَفِي الشَّرْعِ: النَّظَافَةُ عَنِ النَّجَاسَاتِ. وَالْوُضُوءُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْوَضَاءَةِ: وَهُوَ الْحُسْنُ. وَفِي الشَّرْعِ: الْغَسْلُ وَالْمَسْحُ فِي أَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ، وَفِيهِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، لِأَنَّهُ يُحَسِّنُ بِهِ الْأَعْضَاءَ الَّتِي يَقَعُ فِيهَا الْغَسْلُ وَالْمَسْحُ، فَالْغَسْلُ: هُوَ الْإِسَالَةُ، وَالْمَسْحُ: الْإِصَابَةُ. وَسَبَبُ فَرْضِيَّةِ الْوُضُوءِ إِرَادَةُ الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمُ الْقِيَامَ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ. [فَرَائِضُ الْوُضُوءِ] وَفَرْضُهُ: غَسْلُ الْوَجْهِ، وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسْحُ رُبُعِ الرَّأْسِ، وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ لِمَا تَلَوْنَا، فَالْوَجْهُ: مَا يُوَاجَهُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ قُصَاصِ الشَّعْرِ إِلَى أَسْفَلِ الذَّقْنِ طُولًا، وَمَا بَيْنَ شَحْمَتَيِ الْأُذُنَيْنِ عَرْضًا، وَسَقَطَ غَسْلُ بَاطِنِ الْعَيْنَيْنِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَخَوْفِ الضَّرَرِ بِهِمَا، وَبِهِ تَسْقُطُ الطَّهَارَةَ، وَيَجِبُ غَسْلُ مَا بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ لِأَنَّهُ مِنَ الْوَجْهِ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ بَعْدَ نَبَاتِ اللِّحْيَةِ لِسُقُوطِ غَسْلِ مَا تَحْتَ الْعِذَارِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ. قُلْنَا سَقَطَ ذَلِكَ لِلْحَائِلِ وَلَا حَائِلَ هُنَا. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَدْخُلُ الْمِرْفَقَانِ وَالْكَعْبَانِ فِي الْغَسْلِ لِأَنَّ إِلَى لِلْغَايَةِ. قُلْنَا: وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى مَعَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] فَتَكُونُ مُجْمَلَةً، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ مُفَسِّرَةً لَهَا، فَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مَرَافِقِهِ» ، وَرَأَى رَجُلًا تَوَضَّأَ وَلَمْ يُوصِلِ الْمَاءَ إِلَى كَعْبَيْهِ فَقَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» وَأَمَرَهُ بِغَسْلِهِمَا ". وَكَذَا الْآيَةُ مُجْمَلَةٌ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، تَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْجَمِيعِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَتَحْتَمِلُ إِرَادَةَ مَا تَنَاوَلَهُ اسْمُ الْمَسْحِ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَتَحْتَمِلُ إِرَادَةَ بَعْضِهِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَصْحَابُنَا، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ» ، فَكَانَ بَيَانًا لِلْآيَةِ وَحُجَّةً عَلَيْهِمَا، وَالْمُخْتَارُ فِي مِقْدَارِ النَّاصِيَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الرُّبُعُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّ بِالتَّكْرَارِ يَصِيرُ غَسْلًا، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْمَسْحُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وَسُنَنُ الْوُضُوءِ: غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ لِمَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ، وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَائِهِ، وَالسِّوَاكُ، وَالْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَمَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ (ف) ، وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ وَالْأَصَابِعِ، وَتَثْلِيثُ الْغَسْلِ.   [الاختيار لتعليل المختار] [سُنَنُ الْوُضُوءِ] قَالَ: (وَسُنَنُ الْوُضُوءِ: غَسْلُ الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ لِمَنِ اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ) لِحَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ، ثُمَّ قِيلَ: إِنْ كَانَ الْإِنَاءُ صَغِيرًا يَرْفَعُهُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيَصُبُّ عَلَى الْيُمْنَى، ثُمَّ بِالْيُمْنَى فَيَصُبُّ عَلَى الْيُسْرَى، لِتَقَعَ الْبَدَاءَةُ بِالْيُمْنَى كَمَا هُوَ السُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ كَبِيرًا يُدْخِلُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى مَضْمُومَةً دُونَ الْكَفِّ، وَيَأْخُذُ الْمَاءَ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِذَلِكَ، وَلَا يَكْتَفِي بِدُونِ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ. قَالَ: (وَتَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ابْتِدَائِهِ) لِمُوَاظَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهَا. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِمَا أَصَابَ الْمَاءُ» . قَالَ: (وَالسِّوَاكُ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «أَوْصَانِي خَلِيلِي جِبْرِيلُ بِالسِّوَاكِ» قَالُوا: وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. قَالَ: (وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) يَأْخُذُ لِكُلِّ مَرَّةٍ مَاءً جَدِيدًا لِمُوَاظَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ كَذَلِكَ. قَالَ: (وَمَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ بِمَاءٍ وَاحِدٍ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِجَمِيعِ رَأْسِهِ» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، فَيَكُونُ فَرْضًا، وَيَكُونُ مَسْحُ الْجَمِيعِ سُنَّةً. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ» وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ دُونَ الْخِلْقَةِ. قَالَ: (وَتَخْلِيلُ اللِّحْيَةِ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا تَوَضَّأَ شَبَّكَ أَصَابِعَهُ فِي لِحْيَتِهِ كَأَنَّهَا أَسْنَانُ الْمُشْطِ» وَقِيلَ: هُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا ; لِأَنَّ السُّنَّةَ إِكْمَالُ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ وَبَاطِنُ اللِّحْيَةِ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْفَرْضِ. قَالَ: (وَ) تَخْلِيلُ (الْأَصَابِعِ) لِأَنَّهُ إِكْمَالُ الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ، وَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَلِّلُوا أَصَابِعَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَتَخَلَّلَهَا نَارُ جَهَنَّمَ» قَالَ: (وَتَثْلِيثُ الْغَسْلِ) فَالْوَاحِدَةُ فَرْضٌ، وَالثَّانِيَةُ سُنَّةٌ، وَالثَّالِثَةُ دُونَهَا فِي الْفَضِيلَةِ، وَقِيلَ: الثَّانِيَةُ سُنَّةٌ، وَالثَّالِثَةُ إِكْمَالُ السُّنَّةِ، وَأَصْلُهُ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَوَضَّأَ ثَلَاثًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وَيُسْتَحَبُّ فِي الْوُضُوءِ النِّيَّةُ (ف) وَالتَّرْتِيبُ وَالتَّيَامُنُ وَمَسْحُ الرَّقَبَةِ. فَصْلٌ وَيَنْقُضُهُ كُلُّ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَمِنْ غَيْرِ (ف) السَّبِيلَيْنِ إِنْ كَانَ نَجِسًا، وَسَالَ عَنْ رَأَسِ الْجُرْحِ،   [الاختيار لتعليل المختار] ثَلَاثًا وَقَالَ: هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي» . وَمَا رُوِيَ «أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَوَضَّأَ بِالْمَقَاعِدِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا وَقَالَ: هَكَذَا تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ فِي الْوُضُوءِ النِّيَّةُ وَالتَّرْتِيبُ) لِيَقَعَ قُرْبَةً وَلِيَخْرُجَ عَنْ عُهْدَةِ الْفَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ الْمُوَالَاةُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بَيْنَ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ بِغَيْرِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِفَرْضٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] الْآيَةَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِهَا، وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ بِحَرْفِ الْوَاوِ، وَإِنَّهَا لِلْجَمْعِ بِإِجْمَاعِ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ نَقْلًا عَنِ السِّيرَافِيِّ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ لِأَنَّهُ رَاجِحٌ، وَقِيلَ: إِنَّهُمَا سُنَّتَانِ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمُوَاظَبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِمَا. (وَالتَّيَامُنُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّيَامُنَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى التَّنَعُّلِ وَالتَّرَجُّلِ» . (وَمَسْحُ الرَّقَبَةِ) قِيلَ: سُنَّةٌ، وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ فِي وُضُوئِهِ بِغَيْرِهِ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ لِيَكُونَ أَعْظَمَ لِثَوَابِهِ وَأَخْلَصَ لِعِبَادَتِهِ وَيُصَلِّي بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ مَا شَاءَ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ» . [فَصْلٌ نَوَاقِضُ الْوُضُوء] فَصْلٌ (وَيَنْقُضُهُ كُلُّ مَا خَرَجَ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَمِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إِنْ كَانَ نَجِسًا وَسَالَ عَنْ رَأْسِ الْجُرْحِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] وَالْغَائِطُ حَقِيقَةً الْمَكَانُ الْمُطْمَئِنُّ، وَلَيْسَتْ حَقِيقَتُهُ مُرَادَةً فَيُجْعَلُ مَجَازًا عَنِ الْأَمْرِ الْمُحْوِجِ إِلَى الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُحْوِجُ إِلَيْهِ لِتُفْعَلَ فِيهِ تَسَتُّرًا عَنِ النَّاسِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ، حَتَّى لَوْ جَاءَ مِنَ الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ إِجْمَاعًا، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوُضُوءُ مِنْ كُلِّ دَمٍ سَائِلٍ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ» الْحَدِيثَ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يُعَادُ الْوُضُوءُ مِنْ سَبْعٍ» وَعَدَّ مِنْهَا الْقَيْءَ مَلْءَ الْفَمِ، وَالدَّمَ السَّائِلَ، وَالْقَهْقَهَةَ، وَالنَّوْمَ. وَيُشْتَرَطُ السَّيَلَانُ فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ ; لِأَنَّ تَحْتَ كُلِّ جِلْدَةٍ دَمًا وَرُطُوبَةً، فَمَا لَمْ يَسِلْ يَكُونُ بَادِيًا لَا خَارِجًا بِخِلَافِ السَّبِيلَيْنِ ; لِأَنَّهُ مَتَى ظَهَرَ يَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وَالْقَيْءُ مِلْءَ (ز) الْفَمِ، وَإِنْ قَاءَ دَمًا أَوْ قَيْحًا نَقَضَ وَإِنْ لَمْ يَمْلَأِ الْفَمَ (م) ، وَإِذَا اخْتَلَطَ الدَّمُ بِالْبُصَاقِ إِنْ غَلَبَهُ نَقَضَ، وَيَنْقُضُهُ النَّوْمُ مُضْطَجِعًا، وَكَذَلِكَ الْمُتَّكِئُ وَالْمُسْتَنِدُ وَالْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ، وَالنَّوْمُ قَائِمًا (ف) وَرَاكِعًا (ف) وَسَاجِدًا (ف) وَقَاعِدًا (ف) وَمَسُّ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَكَذَا مَسُّ الذَّكَرِ (ف) ،   [الاختيار لتعليل المختار] مُنْتَقِلًا فَيَكُونُ خَارِجًا. قَالَ: (وَالْقَيْءُ مِلْءَ الْفَمِ) لِمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُهُ إِمْسَاكُهُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، وَإِنْ قَاءَ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَلَوْ جَمَعَ كَانَ مِلْءَ الْفَمِ، فَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ ; لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ كَمَا فِي سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَغَيْرِهَا، وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ اتِّحَادَ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَثَيَانُ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى اتِّحَادِهِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَنْقُضُ الْقَلِيلُ أَيْضًا كَالْخَارِجِ مِنَ السَّبِيلَيْنِ وَقَدْ مَرَّ جَوَابُهُ، وَلَا يَنْقُضُ إِذَا قَاءَ بَلْغَمًا وَإِنْ مَلَأَ الْفَمَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ مِنَ الْجَوْفِ نَقَضَ لِأَنَّهُ مَحَلُّ النَّجَاسَةِ فَأَشْبَهَ الصَّفْرَاءَ، قُلْنَا: الْبَلْغَمُ طَاهِرٌ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْخُذُهُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، وَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ النَّازِلُ مِنَ الرَّأْسِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ لِلُزُوجَتِهِ لَا تَتَدَاخَلُهُ النَّجَاسَةُ، وَبَقِيَ مَا يُجَاوِرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَهُوَ قَلِيلٌ، وَالْقَلِيلُ غَيْرُ نَاقِضٍ بِخِلَافِ الصَّفْرَاءِ فَإِنَّهَا تُمَازِجُهَا. (وَإِنْ قَاءَ دَمًا أَوْ قَيْحًا نَقَضَ وَإِنْ لَمْ يَمْلَأِ الْفَمَ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَنْقُضُ مَا لَمْ يَمْلَأِ الْفَمَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْلَاطِ. قُلْنَا: الْمَعِدَةُ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلدَّمِ، وَالْقَيْحُ إِنَّمَا يَسِيلُ إِلَيْهَا مِنْ قُرْحَةٍ أَوْ جُرْحٍ، فَإِذَا خَرَجَ فَقَدْ سَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ فَيَنْقُضُ حَتَّى لَوْ قَاءَ عَلَقًا لَا يَنْقُضُ مَا لَمْ يَمْلَأِ الْفَمَ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي الْمَعِدَةِ، هَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (وَإِذَا اخْتَلَطَ الدَّمُ بِالْبُصَاقِ إِنْ غَلَبَهُ نَقَضَ) حُكْمًا لِلْغَالِبِ، وَكَذَا إِذَا تَسَاوَيَا احْتِيَاطًا وَإِنْ غَلَبَ الْبُصَاقُ لَا ; لِأَنَّ الْقَلِيلَ مُسْتَهْلَكٌ فِي الْكَثِيرِ فَيَصِيرُ عَدَمًا. قَالَ: (وَيَنْقُضُهُ النَّوْمُ مُضْطَجِعًا لِمَا رَوَيْنَا، وَكَذَلِكَ الْمُتَّكِئُ وَالْمُسْتَنِدُ) لِأَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَيْنُ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنُ انْحَلَّ الْوِكَاءُ» قَالَ: (وَالْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ) لِأَنَّهُمَا أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الْمَسْكَةِ مِنَ النَّوْمِ ; لِأَنَّ النَّائِمَ يَسْتَيْقِظُ بِالِانْتِبَاهِ، وَالْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا. قَالَ: (وَالنَّوْمُ قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا وَقَاعِدًا) لَا يَنْقُضُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا وُضُوءَ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَوْ قَاعِدًا، إِنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا» . قَالَ: (وَمَسُّ الْمَرْأَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ) لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» ، وَالْآيَةُ مُتَعَارِضَةُ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: الْمُرَادُ بِاللَّمْسِ الْجِمَاعُ، وَقَدْ تَأَكَّدَ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَكَذَا مَسُّ الذَّكَرِ) «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِطَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ حِينَ سَأَلَهُ: هَلْ فِي مَسِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 وَالْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ تَنْقُضُ (ف) . فَصْلٌ فَرْضُ الْغُسْلِ: الْمَضْمَضَةُ (ف) ، وَالِاسْتِنْشَاقُ (ف) ، وَغَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ.   [الاختيار لتعليل المختار] الذَّكَرِ وُضُوءٌ؟ قَالَ: لَا، هَلْ هُوَ إِلَّا بَضْعَةٌ مِنْكَ» نَفَى الْوُضُوءَ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ وَمَا رُوِيَ: «مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ. قَالَ: (وَالْقَهْقَهَةُ فِي الصَّلَاةِ تَنْقُضُ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَا مَنْ ضَحِكَ مِنْكُمْ قَهْقَهَةً فَلْيُعِدِ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ جَمِيعًا» ، وَأَنَّهُ وَرَدَ فِي صَلَاةٍ كَامِلَةٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا لِوُرُودِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ حَتَّى لَوْ ضَحِكَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ، وَالْقَهْقَهَةُ أَنْ يَسْمَعَهَا جَارُهُ، وَحُكْمُهَا انْتِقَاضُ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ جَمِيعًا، وَالضَّحِكُ أَنْ يَسْمَعَهَا هُوَ لَا غَيْرَ، قَالْوا: وَتَبْطُلُ الصَّلَاةَ لَا غَيْرَ، وَالتَّبَسُّمُ مَا لَا يَسْمَعُهُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ وَلَا حُكْمَ لَهُ، وَإِنْ شَكَّ فِي نَقْضِ وُضُوئِهِ. فَإِنْ كَانَ أَوَّلَ شَكِّهِ أَعَادَهُ ; لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي زَوَالِهِ، وَإِنْ كَانَ يَحْدُثُ لَهُ كَثِيرًا لَمْ يُعِدْ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْحَدَثِ وَشَكَّ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَخَذَ بِالْيَقِينِ. [فَصْلٌ فَرضُ الْغُسْلِ وَسُنَنُهُ] فَصْلٌ فَرْضُ الْغُسْلِ: الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَغَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِغَسْلِ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَالْمُوَاجَهَةُ لَا تَقَعُ بِبَاطِنَيِ الْأَنْفِ وَالْفَمِ، وَفِي الْغَسْلِ مَأْمُورٌ بِتَطْهِيرِ جَمِيعِ الْبَدَنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فَيَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ مِنَ الْبَدَنِ إِلَّا بَاطِنَ الْعَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ بِخِلَافِ بَاطِنِ الْأَنْفِ وَالْفَمِ حَيْثُ يُمْكِنُ غَسْلُهُمَا، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ ; فَيَجِبُ وَقَدْ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ» ، وَيَجِبُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ وَأَثْنَائِهِ فِي اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ لِمَا تَقَدَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ ضَفِيرَةً فِي رِوَايَةٍ لِلْحَرَجِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَسُنَنُهُ: أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ وَفَرْجَهُ، وَيُزِيلَ النَّجَاسَةَ عَنْ بَدَنِهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ يُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ ثَلَاثًا. وَيُوجِبُهُ غَيْبُوبَةُ الْحَشَفَةِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ، وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ (ف) وَالشَّهْوَةِ، وَانْقِطَاعُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَمَنِ اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ فِي ثِيَابِهِ مَنِيًّا أَوْ مَذْيًا (س) ، فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَسُنَنُهُ أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ وَفَرْجَهُ، وَيُزِيلَ النَّجَاسَةَ عَنْ بَدَنِهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ يُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ ثَلَاثًا) هَكَذَا حُكِيَ غُسْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ مَيْمُونَةُ: «وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غُسْلًا فَاغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ فَأَكْفَأَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ عَلَى يَمِينِهِ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى فَرْجِهِ فَغَسَلَهُ. ثُمَّ مَالَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ فَدَلَكَهَا، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، وَأَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ» . وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ غَسْلِ رِجْلَيْهِ إِنْ كَانَتَا فِي مُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ لِمَا رَوَيْنَا وَتَحَرُّزًا عَنِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. [مُوجِبَاتُ الْغُسْلِ] قَالَ: (وَيُوجِبُهُ غَيْبُوبَةُ الْحَشَفَةِ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَتَوَارَتِ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ» ، قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فَعَلْتُهُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ فَاغْتَسَلْنَا "، وَكَذَا فِي الدُّبُرِ ; لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مُشْتَهًى مَقْصُودٌ بِالْوَطْءِ كَالْقُبُلِ، وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تُوجِبُونَ فِيهِ الْحَدَّ وَلَا تُوجِبُونَ فِيهِ صَاعًا مِنْ مَاءٍ؟ . وَفِي الزِّيَادَاتِ يَجِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ احْتِيَاطًا. قَالَ: (وَإِنْزَالُ الْمَنِيِّ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْجَنَابَةَ إِجْمَاعًا، فَيَجِبُ الْغُسْلُ بِالنَّصِّ: «وَسَأَلَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا أَنَّ زَوْجَهَا يُجَامِعُهَا، قَالَ: عَلَيْهَا الْغُسْلُ إِذَا وَجَدَتِ الْمَاءَ» ، وَلَوْ خَرَجَ لَا عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ وَالشَّهْوَةِ، كَمَا إِذَا ضُرِبَ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ أَوْ أَصَابَهُ مَرَضٌ يَجِبُ الْوُضُوءُ دُونَ الْغُسْلِ كَمَا فِي الْمَذْيِ فَإِنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنِيِّ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَخْرُجْ عَلَى وَجْهِ الدَّفْقِ لَمْ يَجِبِ الْغُسْلُ، ثُمَّ الشَّرْطُ انْفِصَالُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ عَنْ شَهْوَةٍ لِأَنَّ بِذَلِكَ يُعْرَفُ كَوْنُهُ مَنِيًّا وَهُوَ الشَّرْطُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خُرُوجُهُ عَنِ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْخُرُوجِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتَئِذٍ. قَالَ: (وَانْقِطَاعُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ) أَمَّا الْحَيْضُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بِالتَّشْدِيدِ، مَنَعَ مِنْ قُرْبَانِهِنَّ حَتَّى يَغْتَسِلْنَ، وَلَوْلَا وُجُوبُهُ لَمَا مَنَعَ. وَأَمَّا النِّفَاسُ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ إِذَا كَمَّلَتْ أَيَّامَ حَيْضِهَا ; لِأَنَّهَا فِي أَحْكَامِ الْحَيْضِ كَالطَّاهِرَاتِ. قَالَ: (وَمَنِ اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ فِي ثِيَابِهِ مَنِيًّا أَوْ مَذْيًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ) أَمَّا الْمَنِيُّ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ ذَكَرَ حُلْمًا وَلَمْ يَرَ بَلَلًا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَأَى بَلَلًا وَلَمْ يَذْكُرْ حُلْمًا فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ» . وَأَمَّا الْمَذْيُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْإِحْرَامِ سُنَّةٌ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ مَسُّ الْمُصْحَفِ إِلَّا بِغِلَافِهِ (ف) ، وَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ. وَيَجُوزُ لَهُ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ، وَلَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ كَالْجُنُبِ. فَصْلٌ تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ كَالْمَطَرِ وَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ   [الاختيار لتعليل المختار] فَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ ; لِأَنَّ الْمَذْيَ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ كَمَا فِي حَالَةِ الْيَقَظَةِ. وَلَنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَنِيٌّ قَدْ رَقَّ فَيَجِبُ الْغُسْلُ احْتِيَاطًا، وَالْمَرْأَةُ إِذَا احْتَلَمَتْ وَلَمْ تَرَ بَلَلًا إِنِ اسْتَيْقَظَتْ وَهِيَ عَلَى قَفَاهَا يَجِبُ الْغُسْلُ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهِ ثُمَّ عَوْدِهِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي الِاحْتِلَامِ الْخُرُوجُ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لَا يَعُودُ لِضِيقِ الْمَحَلِّ، وَإِنِ اسْتَيْقَظَتْ وَهِيَ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَا يَجِبُ. قَالَ: (وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالْإِحْرَامِ سُنَّةٌ) وَقِيلَ: مُسْتَحَبٌّ فَإِنَّهُ يَوْمُ ازْدِحَامٍ، فَيُسْتَحَبُّ لِئَلَّا يَتَأَذَّى الْبَعْضُ بِرَائِحَةِ الْبَعْضِ، وَأَدْنَى مَا يَكْفِي مِنَ الْمَاءِ فِي الْغُسْلِ صَاعٌ وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ، وَالْمُدُّ رَطْلَانِ، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ» . ثُمَّ اخْتَلَفُوا هَلِ الْمُدُّ مِنَ الصَّاعِ أَمْ مِنْ غَيْرِهِ؟ وَهَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ حَتَّى لَوْ أَسْبَغَ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ بِدُونِ ذَلِكَ جَازَ، وَلَوِ اغْتَسَلَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ جَازَ مَا لَمْ يُسْرِفْ فَهُوَ الْمَكْرُوهُ. [مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْدِثِ والجنب والحائض] قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ مَسُّ الْمُصْحَفِ إِلَّا بِغُلَافِهِ) غَيْرِ الْمُشَرَّزِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وَلَا بَأْسَ أَنْ يُمْسِكَهُ بِكُمِّهِ، وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ. (وَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ وَلَا الْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ» ، وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ بَعْضُ آيَةٍ، وَالْحَدِيثُ لَا يَفْصِلُ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْرَأَ شَيْئًا مِنْهُ لَا يُرِيدُ بِهِ الْقُرْآنَ كَالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ. (وَيَجُوزُ لَهُ الذِّكْرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ) لِأَنَّ الْمَنْعَ وَرَدَ عَنِ الْقُرْآنِ خَاصَّةً. (وَلَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا أُحِلُّ الْمَسْجِدَ لِجُنُبٍ وَلَا حَائِضٍ» فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ تَيَمَّمَ وَدَخَلَ، لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَإِنْ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَجْنَبَ، قِيلَ: لَا يُبَاحُ لَهُ الْخُرُوجُ حَتَّى يَتَيَمَّمَ، وَقِيلَ: يُبَاحُ. (وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ كَالْجُنُبِ) فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. [فَصْلٌ في الْمَاءُ الَّذِي يَجُوزُ التَّطَهيُّرُ بِهِ] فَصْلٌ (تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ فِي نَفْسِهِ الْمُطَهِّرِ لِغَيْرِهِ، كَالْمَطَرِ وَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَإِنْ تَغَيَّرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 بِطُولِ الْمُكْثِ، وَيَجُوزُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْأُشْنَانِ وَمَاءِ الْمَدِّ. وَلَا تَجُوزُ بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَأَزَالَ عَنْهُ طَبْعَ الْمَاءِ، كَالْأَشْرِبَةِ وَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ، وَتُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ بِالْأَجْزَاءِ. وَالْمَاءُ الرَّاكِدُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يَجُوزُ بِهِ الْوُضُوءُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَرَةَ (ف) أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] بِطُولِ الْمُكْثِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] . وَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ آبَارِ الْمَدِينَةِ وَقَالَ: «الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إِلَّا مَا غَيَّرَ طَعْمَهُ أَوْ لَوْنَهُ أَوْ رِيحَهُ» ، وَطُولُ الْمُكْثِ لَا يُنَجِّسُهُ فَيَبْقَى طَاهِرًا. قَالَ: (وَيَجُوزُ بِمَاءٍ خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ فَغَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ) وَلَمْ يُزِلْ رِقَّتَهُ. (كَالزَّعْفَرَانِ وَالْأُشْنَانِ وَمَاءِ الْمَدِّ) وَفِي اللَّبَنِ رِوَايَتَانِ. (وَلَا تَجُوزُ بِمَاءٍ غَلَبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَأَزَالَ عَنْهُ طَبْعَ الْمَاءِ كَالْأَشْرِبَةِ وَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ) وَطَبْعُ الْمَاءِ كَوْنُهُ سَيَّالًا مُرَطِّبًا مُسَكِّنًا لِلْعَطَشِ. (وَتُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ بِالْأَجْزَاءِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنَ الطِّينِ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ إِجْمَاعًا لِبَقَاءِ اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَلَا يَجُوزُ بِالْخَلِّ إِجْمَاعًا لِزَوَالِ الِاسْمِ عَنْهُ، فَكُلُّ مَا غَلَبَ عَلَى الْمَاءِ وَأَخْرَجَهُ عَنْ طَبْعِهِ أَلْحَقْنَاهُ بِالْخَلِّ، وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَطَبْعُهُ بَاقٍ أَلْحَقْنَاهُ بِالْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ عَلَى حُكْمِ الْإِطْلَاقِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الْعَيْنِ وَالْبِئْرِ، وَإِنْ تَغَيَّرَ بِالطَّبْخِ لَا يَجُوزُ كَالْمَرَقِ إِلَّا مَا يُقْصَدُ بِهِ التَّنْظِيفُ كَالسِّدْرِ وَالْحَرَضِ وَالصَّابُونِ مَا لَمْ يَثْخُنْ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِوُرُودِ السُّنَّةِ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ. [حكم الْمَاءُ الرَّاكِدُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ] (وَ) أَمَّا (الْمَاءُ الرَّاكِدُ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ أَوْ يَشْرَبُ» . قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي عَشَرَةِ أَذْرُعٍ) ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَالْكَثِيرُ لَا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ» وَاعْتَبَرْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ مَا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ. فَنَقُولُ: كُلُّ مَا لَا يَخْلُصُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ لَا يَنْجُسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَا يَتَحَرَّكُ أَحَدُ طَرَفَيْهِ بِتَحَرُّكِ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَامْتَحَنَ الْمَشَايِخُ الْخُلُوصَ بِالْمِسَاحَةِ فَوَجَدُوهُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَقَدَّرُوهُ بِذَلِكَ تَيْسِيرًا. وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيِّ: إِذَا كَانَ خَمْسَةَ عَشَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ لَا يَخْلُصُ، أَمَّا عِشْرِينَ فِي عِشْرِينَ لَا أَرَى فِي نَفْسِي شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ طُولٌ وَلَا عَرْضَ لَهُ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِحَالٍ لَوْ ضُمَّ طُولُهُ إِلَى عَرْضِهِ يَصِيرُ عَشْرًا فِي عَشْرٍ فَهُوَ كَثِيرٌ، وَالْمُخْتَارُ فِي الْعُمْقِ مَا لَا يَنْحَسِرُ أَسْفَلُهُ بِالْغَرْفِ، ثُمَّ إِنْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ مَرْئِيَّةٌ لَا يَتَوَضَّأُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وَالْمَاءُ الْجَارِي إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ جَازَ الْوُضُوءُ مِنْهُ، وَالْأَثَرُ طَعْمٌ أَوْ لَوْنٌ أَوْ رِيحٌ. وَمَا كَانَ مَائِيَّ الْمَوْلِدِ مِنَ الْحَيَوَانِ مَوْتُهُ فِي الْمَاءِ لَا يُفسِدُهُ (ف) وَكَذَا مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَالْبَقِّ، وَمَا عَدَاهُمَا يُفْسِدُ الْمَاءَ الْقَلِيلَ. وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يُطَهِّرُ الْأَحْدَاثَ، وَهُوَ مَا أُزِيلَ (م) بِهِ حَدَثٌ، أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلَا   [الاختيار لتعليل المختار] مَوْضِعِ الْوُقُوعِ لِلتَّيَقُّنِ بِالنَّجَاسَةِ بِرُؤْيَةِ عَيْنِهَا وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَرْئِيَّةٍ، فَلَوْ تَوَضَّأَ مِنْهُ جَازَ لِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالنَّجَاسَةِ لِاحْتِمَالِ انْتِقَالِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاؤُهَا فِي الْحَالِ. قَالَ: (وَالْمَاءُ الْجَارِي إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَلَمْ يُرَ لَهَا أَثَرٌ جَازَ الْوُضُوءُ مِنْهُ) مِنْ أَيْ مَوْضِعٍ شَاءَ. (وَالْأَثَرُ طَعْمٌ أَوْ لَوْنٌ أَوْ رِيحٌ) لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى مَعَ الْجَرَيَانِ، وَالْجَارِي: مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ جَارِيًا هُوَ الْأَصَحُّ، وَلَوْ وَقَعَتْ جِيفَةٌ فِي نَهْرٍ كَبِيرٍ لَا يُتَوَضَّأُ مِنْ أَسْفَلِ الْجَانِبِ الَّذِي فِيهِ الْجِيفَةُ وَيُتَوَضَّأُ مِنْ أَسْفَلِ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ النَّهْرُ صَغِيرًا إِنْ كَانَ يَجْرِي أَكْثَرُ الْمَاءِ عَلَيْهَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلُّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ نِصْفُهُ يَجُوزُ، وَالْأَحْوَطُ التَّرْكُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي مَاءِ الْمَطَرِ إِذَا مَرَّ بِالنَّجَاسَةِ وَلَا يُوجَدُ أَثَرُهَا يَتَوَضَّأُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ كَالْجَارِي. قَالَ: (وَمَا كَانَ مَائِيَّ الْمَوْلِدِ مِنَ الْحَيَوَانِ مَوْتُهُ فِي الْمَاءِ لَا يُفْسِدُهُ) كَالسَّمَكِ وَالضِّفْدَعِ وَالسَّرَطَانِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» ، فَاسْتَفَدْنَا بِهِ عَدَمَ تَنَجُّسِهِ بِالْمَوْتِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَا يَنْجَسُ مَا يُجَاوِرُهُ، وَلِأَنَّهُ لَا دَمَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْمُنَجِّسُ، إِذِ الدَّمَوِيُّ لَا يَتَوَالَدُ فِي الْمَاءِ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ خَارِجَ الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ مَاتَ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَالْخَلِّ وَاللَّبَنِ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُفْسِدُهُ، وَسَوَاءٌ فِيهِ الْمُنْتَفِخُ وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الضِّفْدَعِ الْبَرِّيِّ وَالْمَائِيِّ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ لِلْبَرِّيِّ دَمٌ سَائِلٌ أَفْسَدَهُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ: (وَكَذَا مَا لَيْسَ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ كَالذُّبَابِ وَالْبَعُوضِ وَالْبَقِّ) إِذَا مَاتَ فِي الْمَائِعِ لَا يُفْسِدُهُ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي طَعَامِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ ثُمَّ انْقُلُوهُ» الْحَدِيثَ، وَأَنَّهُ يَمُوتُ بِالْمَقْلِ فِي الطَّعَامِ سِيَّمَا الْحَارُّ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ مَوْتُهُ يُنَجِّسُ الطَّعَامَ لَمَا أُمِرَ بِهِ. قَالَ: (وَمَا عَدَاهُمَا يُفْسِدُ الْمَاءَ الْقَلِيلَ) لِأَنَّهُ دَمَوِيٌّ يَنْجَسُ بِالْمَوْتِ فَيَنْجَسُ مَا يُجَاوِرُهُ كَالْآدَمِيِّ الْمَيِّتِ إِذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ ; لِأَنَّهُ تَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ. وَإِنْ وَقَعَ بَعْدَ الْغُسْلِ فَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَا يُنَجِّسُهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا حُكِمَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ حُكِمَ بِطَهَارَتِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْكَافِرُ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ لَا يُطَهِّرُ الْأَحْدَاثَ، وَهُوَ مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ، أَوِ اسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ) كَالْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ. (وَيَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 إِذَا انْفَصَلَ عَنِ الْعُضْوِ. [جُلُودُ الْمَيْتَةِ وَشَعْرُهَا وَعَظْمُهَا] وَكُلُّ إِهَابٍ (ف) دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ إِلَّا جِلْدَ الْآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ، وَالْخِنْزِيرِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ، وَشَعْرُ الْمَيْتَةِ وَعَظْمُهَا طَاهِرٌ، وَشَعْرُ الْإِنْسَانِ وَعَظْمُهُ طَاهِرٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِذَا انْفَصَلَ عَنِ الْعُضْوِ) . وَرَوَى النَّسَفِيُّ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَسْتَقِرَّ فِي مَكَانٍ، وَالْأَوَّلُ الْمُخْتَارُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إِلَّا بِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ لَا غَيْرَ، وَإِنَّمَا يَقَعُ قُرْبَةً بِالنِّيَّةِ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِي الْجُنُبِ الْمُنْغَمِسِ فِي الْبِئْرِ لِطَلَبِ الدَّلْوِ فَعِنْدَهُمَا طَاهِرَانِ ; لِأَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فِي صَيْرُورَةِ الْمَاءِ مُسْتَعْمَلًا، وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي إِزَالَةِ الْجَنَابَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الرَّجُلُ بِحَالِهِ لِعَدَمِ الصَّبِّ، وَالْمَاءُ بِحَالِهِ؛ لِعَدَمِ إِزَالَةِ الْحَدَثِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُمَا نَجِسَانِ: الْمَاءُ لِإِزَالَتِهِ الْجَنَابَةَ عَنِ الْبَعْضِ، وَالرَّجُلُ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ فِي بَاقِي الْأَعْضَاءِ. وَقِيلَ: يَطْهُرُ مِنَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَنَحْوُهُ، وَقِيلَ: هُوَ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا إِلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَوَضَّأَ مُحْدِثٌ لِلتَّبَرُّدِ يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَتَبَادَرُونَ إِلَى وُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَمْسَحُونَ بِهِ وُجُوهَهُمْ وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ، وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَنَعَهُمْ كَمَا مَنَعَ الْحَجَّامَ مِنْ شُرْبِ دَمِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ نَجِسٌ نَجَاسَةً مُغَلَّظَةً لِأَنَّهُ أَزَالَ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ فَصَارَ كَمَا إِذَا أَزَالَ الْحَقِيقِيَّةَ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ النَّجَاسَةَ الْحُكْمِيَّةَ أَغْلَظُ حَتَّى لَا يُعْفَى عَنِ الْقَلِيلِ مِنْهَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهِيَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّ نَجَاسَتَهُ خَفِيفَةٌ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ. وَقَالَ زُفَرُ: إِنْ كَانَ الْمُسْتَعْمِلُ مُحْدِثًا فَهُوَ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فَهُوَ طَهُورٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُزِلِ النَّجَاسَةَ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ وَصْفُهُ. [طهارة جُلُودُ الْمَيْتَةِ] قَالَ: (وَكُلُّ إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . قَالَ: (إِلَّا جِلْدَ الْآدَمِيِّ لِكَرَامَتِهِ) فَيَحْرُمُ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِهَانَةِ. (وَ) إِلَّا جِلْدَ. (الْخِنْزِيرِ لِنَجَاسَةِ عَيْنِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورَاتِ فَيُصْرَفُ إِلَيْهِمْ، وَالْفِيلُ كَالْخِنْزِيرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَهُمَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إِذَا أَصْلَحَ مَصَارِينَ مَيْتَةً أَوْ دَبَغَ الْمَثَانَةَ طَهُرَتْ حَتَّى يَتَّخِذَ مِنْهَا الْأَوْتَارَ، وَمَا طَهُرَ بِالدِّبَاغِ يَطْهُرُ بِالذَّكَاةِ ; لِأَنَّهَا تُزِيلُ الرُّطُوبَاتِ كَالدِّبَاغِ، وَالدِّبَاغُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ حَدِّ الْفَسَادِ سَوَاءً كَانَ بِالتُّرَابِ أَوْ بِالشَّمْسِ أَوْ غَيْرِهِمَا. قَالَ: (وَشَعْرُ الْمَيْتَةِ وَعَظْمُهَا طَاهِرٌ) لِأَنَّ الْحَيَاةَ لَا تُحِلُّهُمَا حَتَّى لَا تَتَأَلَّمَ بِقَطْعِهِمَا فَلَا يَحِلُّهُمَا الْمَوْتُ وَهُوَ الْمُنَجِّسُ، وَكَذَلِكَ الْعَصَبُ وَالْحَافِرُ وَالْخُفُّ وَالظِّلْفُ وَالْقَرْنُ وَالصُّوفُ وَالْوَبَرُ وَالرِّيشُ وَالسِّنُّ وَالْمِنْقَارُ وَالْمِخْلَبُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80] امْتَنَّ بِهَا عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. (وَشَعْرُ الْإِنْسَانِ وَعَظْمُهُ طَاهِرٌ) وَهُوَ الصَّحِيحُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا، أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَجَمِيعُ أَجْزَائِهِ نَجِسَةٌ لِمَا مَرَّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 فَصْلٌ إِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ فَأُخْرِجَتْ ثُمَّ نُزِحَتْ طَهُرَتْ، وَإِذَا وَقَعَ فِي آبَارِ الْفَلَوَاتِ مِنَ الْبَعْرِ وَالرَّوْثِ وَالْأَخْثَاءِ لَا يُنَجِّسُهَا مَا لَمْ يَسْتَكْثِرْهُ النَّاظِرُ، وَخُرْءُ الْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ لَا يُفْسِدُهَا (ف) ، وَإِذَا مَاتَ فِي الْبِئْرِ فَأْرَةٌ أَوْ عُصْفُورَةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا إِلَى ثَلَاثِينَ، وَفِي الْحَمَامَةِ وَالدَّجَاجَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ، وَفِي الْآدَمِيِّ وَالشَّاةِ وَالْكَلْبِ جَمِيعُ الْمَاءِ، وَإِنِ انْتَفَخَ الْحَيَوَانُ أَوْ تَفَسَّخَ نُزِحَ جَمِيعُ الْمَاءِ.   [الاختيار لتعليل المختار] شَعْرَهُ طَاهِرٌ حَتَّى يَحِلَّ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْخَرَّازِينَ لِلْحَاجَةِ ضَرُورَةً. [فصل في حكم وقوع النجاسة في البئر] فَصْلٌ (إِذَا وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ نَجَاسَةٌ فَأُخْرِجَتْ ثُمَّ نُزِحَتْ طَهُرَتْ) وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا تَطْهُرُ، لِأَنَّهُ إِذَا تَنَجَّسَ الْمَاءُ تَنَجَّسَ الطِّينُ، فَإِذَا نَزَحَ الْمَاءَ بَقِيَ الطِّينُ نَجِسًا، فَكُلَّمَا نَبَعَ الْمَاءُ نَجَّسَهُ لَكُنَّا خَالَفْنَا الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ السَّلَفِ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُمْ مِنَ الْآثَارِ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ قَالُوهُ سَمَاعًا. (وَإِذَا وَقَعَ فِي آبَارِ الْفَلَوَاتِ مِنَ الْبَعْرِ وَالرَّوْثِ وَالْأَخْثَاءِ لَا يُنَجِّسُهَا مَا لَمْ يَسْتَكْثِرْهُ النَّاظِرُ) لِأَنَّ آبَارَ الْفَلَوَاتِ بِغَيْرِ حَوَاجِزَ، وَالدَّوَابُّ تَبْعَرُ حَوْلَهَا وَالرِّيَاحُ تُلْقِيهَا فِيهَا، فَكَانَ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةٌ دُونَ الْكَثِيرِ. وَحَدُّهُ أَنْ يَأْخُذَ رُبُعَ وَجْهِ الْمَاءِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَقِيلَ: ثُلُثُهُ، وَقِيلَ: أَنْ لَا يَخْلُوَ دَلْوٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَكْثِرَهُ النَّاظِرُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالرَّطْبُ وَالْيَابِسُ وَالصَّحِيحُ وَالْمُنْكَسِرُ سَوَاءٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى وَآبَارُ الْأَمْصَارِ كَذَلِكَ، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الضَّرُورَةِ. قَالَ: (وَخُرْءُ الْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ لَا يُفْسِدُهَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ فِي الْبِئْرِ فَأْرَةٌ أَوْ عُصْفُورَةٌ أَوْ نَحْوُهُمَا نُزِحَ مِنْهَا عِشْرُونَ دَلْوًا إِلَى الثَّلَاثِينَ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ يُنْزَحُ مِنْهَا دِلَاءٌ، وَعَنْ أَنَسٍ عِشْرُونَ دَلْوًا، وَعَنِ النَّخَعِيِّ عِشْرُونَ أَوْ ثَلَاثُونَ، فَالْعِشْرُونَ لِلْإِيجَابِ وَالثَّلَاثُونَ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْفَأْرَتَيْنِ عِشْرُونَ، وَفِي الثَّلَاثِ أَرْبَعُونَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْفَأْرَةِ عِشْرُونَ إِلَى أَرْبَعٍ، وَفِي الْخَمْسِ أَرْبَعُونَ إِلَى تِسْعٍ، وَفِي الْعَشْرِ جَمِيعُ الْمَاءِ. قَالَ: (وَفِي الْحَمَامَةِ وَالدَّجَاجَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ أَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَلِأَنَّهَا ضِعْفُ الْفَأْرَةِ فَضَعَّفْنَا الْوَاجِبَ. (وَفِي الْآدَمِيِّ وَالشَّاةِ وَالْكَلْبِ جَمِيعُ الْمَاءِ) هَكَذَا حَكَمَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ فِي بِئْرِ زَمْزَمَ حِينَ مَاتَ فِيهَا الزِّنْجِيُّ، وَلِأَنَّهُ لِثِقَلِهِ يَنْزِلُ إِلَى قَعْرِ الْبِئْرِ فَيُلَاقِي جَمِيعَ الْمَاءِ. قَالَ: (وَإِنِ انْتَفَخَ الْحَيَوَانُ أَوْ تَفَسَّخَ نُزِحَ جَمِيعُ الْمَاءِ) لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بِلَّةٍ نَجِسَةٍ فَتَشِيعُ فَصَارَ كَمَا إِذَا وَقَعَتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُ جَمِيعِ الْمَاءِ نُزِحَ مِنْهَا مِائَتَا دَلْوٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ. فَصْلٌ سُؤْرُ الْآدَمِيِّ وَالْفَرَسِ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] ابْتِدَاءً، وَلَوْ وَقَعَ الْحَيَوَانُ فِي الْبِئْرِ ثُمَّ أُخْرِجَ حَيًّا فَإِنْ كَانَ طَاهِرًا كَالْآدَمِيِّ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يُنْزَحْ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَخْرَجِهِ نَجَاسَةٌ نُزِحَ الْجَمِيعُ، وَكَذَلِكَ سِبَاعُ الطَّيْرِ وَالْوَحْشِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَلِكَ الْبَغْلُ وَالْحِمَارُ لَا يَصِيرُ الْمَاءُ مَشْكُوكًا فِيهِ ; لِأَنَّ بَدَنَ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ طَاهِرٌ، وَإِنْ وَصَلَ الْمَاءُ إِلَى لُعَابِهِ أَخَذَ حُكْمَهُ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ: إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مُحْدِثًا نُزِحَ أَرْبَعُونَ دَلْوًا، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَالْجَمِيعُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ نَوَى الْغُسْلَ أَوِ الْوُضُوءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا فَيَفْسَدُ وَإِلَّا فَلَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْكَافِرِ يُنْزَحُ جَمِيعُ الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو بَدَنُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ غَالِبًا. قَالَ: (وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بِئْرٍ دَلْوُهَا) لِأَنَّ السَّلَفَ أَطْلَقُوا فَيُنْصَرَفُ إِلَى الْمُعْتَادِ كَمَا فِي النُّقُودِ ; وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالصَّاعِ. (وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُ جَمِيعِ الْمَاءِ نُزِحَ مِنْهَا مِائَتَا دَلْوٍ إِلَى ثَلَثِمِائَةٍ) لِأَنَّ غَالِبَ مَاءِ الْآبَارِ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا أَيْسَرُ عَلَى النَّاسِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُنْزَحُ حَتَّى يَغْلِبَهُمُ الْمَاءُ وَلَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ شَيْئًا، فَيَعْمَلُ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، فَيُرْجَعُ إِلَى قَوْلِ رَجُلَيْنِ لَهُمَا مَعْرِفَةٌ بِذَلِكَ. وَإِذَا نُزِحَ مَا وَجَبَ نَزْحُهُ وَحُكِمَ بِطَهَارَةِ الْبِئْرِ طُهِّرَ الدَّلْوُ وَالرِّشَا وَالْبَكَرَةُ وَنَوَاحِيهَا وَيَدُ الْمُسْتَقَى، مَرْوِيٌّ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. [فصل في حُكْمُ الْأَسْآرِ] فَصْلٌ (سُؤْرُ الْآدَمِيِّ وَالْفَرَسِ وَمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ) الْأَسْآرُ أَرْبَعَةٌ: طَاهِرٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَهُوَ سُؤْرُ الْآدَمِيِّ جُنُبًا كَانَ أَوْ حَائِضًا أَوْ مُشْرِكًا ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرِبَ وَأَعْطَى فَضْلَ سُؤْرِهِ أَعْرَابِيًّا عَنْ يَمِينِهِ فَشَرِبَ، ثُمَّ شَرِبَ أَبُو بَكْرٍ سُؤْرَ الْأَعْرَابِيِّ، وَأَرَادَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَافِحَ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: إِنِّي جُنُبٌ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ، قَالَتْ: إِنِّي حَائِضٌ، قَالَ: لَيْسَتْ حَيْضَتُكِ فِي يَدِكِ» إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّجِسَ مَوْضِعُ الْحَيْضِ، وَلِأَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ طَاهِرٌ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَوْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمْ نَجِسَةً لَمْ يُنْزِلْهُمْ فِيهِ تَنْزِيهًا لَهُ وَكَذَا سُؤْرُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ; لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ لَحْمِهِ فَيَكُونُ طَاهِرًا كَاللَّبَنِ إِلَّا الدَّجَاجَةَ الْمُخَلَّاةَ وَالْإِبِلَ وَالْبَقَرَ الْجَلَّالَةَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وَالثَّانِي مَكْرُوهٌ وَهُوَ سُؤْرُ الْهِرَّةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ، وَسِبَاعِ الطَّيْرِ. وَالثَّالِثُ نَجِسٌ وَهُوَ سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ (ف) . وَالرَّابِعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَهُوَ سُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ (ف) ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَتَوَضَّأُ وَيَتَيَمَّمُ. بَابُ التَّيَمُّمِ   [الاختيار لتعليل المختار] لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ النَّجَاسَةِ عَلَى مِنْقَارِهَا وَفَمِهَا، وَكَذَا سُؤْرُ الْفَرَسِ؛ لِأَنَّ كَرَاهَةَ لَحْمِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِاحْتِرَامِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ، وَعَنْهُ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ كَلَحْمِهِ. (وَالثَّانِي) طَاهِرٌ (مَكْرُوهٌ وَهُوَ سُؤْرُ الْهِرَّةِ وَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ، وَسَوَاكِنِ الْبُيُوتِ) كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ ; لِأَنَّ نَجَاسَةَ لَحْمِهَا تُوجِبُ نَجَاسَتَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِكَوْنِهَا مِنَ الطَّوَّافَاتِ عَلَيْنَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّصُّ فَقُلْنَا بِالطَّهَارَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (وَ) كَذَا سُؤْرُ. (سِبَاعِ الطَّيْرِ) لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَةُ الْمِنْقَارِ إِلَّا أَنَّهَا تَأْكُلُ الْمَيْتَاتِ فَقُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ، وَالْمَاءُ الْمَكْرُوهُ إِذَا تَوَضَّأَ بِهِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ كَانَ مَكْرُوهًا، وَعِنْدَ عَدَمِهِ لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا. (وَالثَّالِثُ نَجِسٌ، وَهُوَ سُؤْرُ الْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ وَسِبَاعِ الْبَهَائِمِ) أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلِأَنَّهُ نَجِسُ الْعَيْنِ وَلُعَابُهُ يَتَوَلَّدُ مِنْ لَحْمِهِ. وَأَمَّا الْكَلْبُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِغَسْلِ الْإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِهِ ثَلَاثًا، وَفِي رِوَايَةٍ سَبْعًا، وَلِسَانُهُ يُلَاقِي الْمَاءَ دُونَ الْإِنَاءِ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّجَاسَةِ. وَأَمَّا سِبَاعُ فَلِأَنَّ فِيهِ لُعَابَهَا، وَأَنَّهُ نَجِسٌ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ لَحْمٍ نَجِسٍ كَاللَّبَنِ بِخِلَافِ الْعَرَقِ فَإِنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لِعُمُومِ الْبَلْوَى. (وَالرَّابِعُ مَشْكُوكٌ فِيهِ وَهُوَ سُؤْرُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ) لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ دَلِيلُ النَّجَاسَةِ، وَطَهَارَةُ الْعَرَقِ دَلِيلُ الطَّهَارَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا فِي حَرِّ الْحِجَازِ وَيُصِيبُ الْعَرَقُ ثَوْبَهُ، وَكَانَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ. وَمَعْنَى الشَّكِّ التَّوَقُّفُ فِيهِ فَلَا يَنْجَسُ الطَّاهِرُ وَلَا يَطْهُرُ النَّجِسُ. (وَعِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ) احْتِيَاطًا لِلْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَأَيْهُمَا قَدَّمَ جَازَ ; لِأَنَّ الْمُطَهِّرَ مِنْهُمَا غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّرْتِيبِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَبْدَأُ بِالْوُضُوءِ لِيَصِيرَ عَادِمًا لِلْمَاءِ حَقِيقَةً، وَجَوَابُهُ إِنْ كَانَ طَهُورًا فَالتَّيَمُّمُ ضَائِعٌ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ طَهُورٍ فَالتَّيَمُّمُ مُعْتَبَرٌ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ، ثُمَّ قِيلَ: الشَّكُّ فِي طَهَارَتِهِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ الشَّكُّ فِي طَهُورِيَّتِهِ لِأَنَّا لَا نَأْمُرُهُ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ إِذَا تَوَضَّأَ بِهِ بَعْدَ مَا وَجَدَ الْمَاءَ، وَعَرَقُ كُلِّ دَابَّةٍ مِثْلُ سُؤْرِهَا. [بَابُ التَّيَمُّمِ] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقُ الْقَصْدِ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَلَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا ... أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِبُعْدِهِ مِيلًا أَوْ لِمَرَضٍ (ف) أَوْ بَرْدٍ (ف) أَوْ خَوْفِ عَدُوٍّ أَوْ عَطَشٍ أَوْ عَدَمِ آلَةٍ، يَتَيَمَّمُ بِمَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ وَالْجِصِّ (فس) وَالْكُحْلِ (فس) ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الطَّهَارَةِ وَالنِّيَّةِ (ز) ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَفِي الشَّرْعِ قَصْدُ الصَّعِيدِ الطَّاهِرِ وَاسْتِعْمَالُهُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ لِإِقَامَةِ الْقُرْبَةِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهِ مَا هُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَشَرْطُ جَوَازِهِ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ خَلَفُ الْوُضُوءِ، فَلَا يُشْرَعُ مَعَهُ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التَّيَمُّمُ كَافِيكَ وَلَوْ إِلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ» . قَالَ: (مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِبُعْدِهِ مِيلًا أَوْ لِمَرَضٍ أَوْ بَرْدٍ أَوْ خَوْفِ عَدُوٍّ أَوْ عَطَشٍ أَوْ عَدَمِ آلَةٍ) يَسْتَقِي بِهَا، (يَتَيَمَّمُ بِمَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ وَالْجِصِّ وَالْكُحْلِ) أَمَّا بَعْدَ الْمَاءِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] ، وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالْمِيلُ فَلِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْحَرَجِ بِذَهَابِهِ إِلَيْهِ وَإِيَابِهِ، وَالْمِيلُ: ثُلُثُ فَرْسَخٍ، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَلِلْآيَةِ، وَسَوَاءٌ خَافَ ازْدِيَادَ الْمَرَضِ أَوْ طُولَهُ، أَوْ خَافَ مِنْ بَرْدِ الْمَاءِ أَوْ مِنَ التَّحْرِيكِ لِلِاسْتِعْمَالِ ; لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تُفَصِّلُ، وَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ إِذَا خَافَ الْمَرَضَ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمِصْرُ وَخَارِجُهُ. وَقَالَا: لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ فِي الْمِصْرِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ قُدْرَتُهُ عَلَى الْمَاءِ الْمُسَخَّنِ. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَرِيبِ الْفَقِيرِ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ فَيَكُونُ عَاجِزًا فَيَتَيَمَّمُ بِالنَّصِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ عَدُوٌّ أَوْ سَبْعٌ لِأَنَّهُ عَادِمٌ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ وَيَخَافُ الْعَطَشَ لَوِ اسْتَعْمَلَهُ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، لِأَنَّهُ عَادِمٌ حُكْمًا، إِمَّا لِخَوْفِ الْهَلَاكِ، أَوْ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالْأَهَمِّ فَصَارَ عَادِمًا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى بِئْرٍ وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَسْتَقِي بِهِ لِأَنَّهُ عَادِمٌ أَيْضًا حُكْمًا، وَيَتَيَمَّمُ بِمَا كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَالصَّعِيدُ: مَا يَصْعَدُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لُغَةً، وَالطَّيِّبُ: الطَّاهِرُ، وَحَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَنْبَتِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ التَّطْهِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] فَكَانَ إِرَادَةُ الطَّاهِرِ أَلْيَقُ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ فِي التَّخْصِيصِ بِالتُّرَابِ وَالرَّمْلِ، وَعَلَى الشَّافِعِيِّ فِي التَّخْصِيصِ بِالتُّرَابِ لَا غَيْرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادِ بِالطَّيِّبِ الْمَنْبَتُ؛ وَلِأَنَّ الطَّيِّبَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الطَّاهِرِ وَالْمَنْبَتِ وَالْحَلَالِ. وَإِرَادَةُ مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ كَلُّ مَا لَا يَلِينُ وَلَا يَنْطَبِعُ بِالنَّارِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا يَلِينُ وَيَنْطَبِعُ أَوْ يَحْتَرِقُ فَيَصِيرُ رَمَادًا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ أَنْ لَا تَلِينَ بِالنَّارِ. (وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الطَّهَارَةِ) لِمَا قَدَّمْنَا. (وَ) لَا بُدَّ مِنَ (النِّيَّةِ) وَهِيَ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ أَوِ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ كَالْوُضُوءِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّيَمُّمِ وَهُوَ الْقَصْدُ، وَالْقَصْدُ: النِّيَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا، بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ وَقَدْ وُجِدَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ. وَصِفَةُ التَّيَمُّمِ أَنْ يَضْرِبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ فَيَنْفُضَهُمَا ثُمَّ يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ يَضْرِبَهُمَا كَذَلِكَ، وَيَمْسَحَ بِكُلِّ كَفٍّ ظَهْرَ ذِرَاعِ الْأُخْرَى وَبَاطِنَهَا مَعَ الْمِرْفَقِ (ف) وَالِاسْتِيعَابُ شَرْطٌ، وَيَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ (ف) وَقَبْلَ طَلَبِ الْمَاءِ (ف) ، - وَلَوْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ - ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَمْ يُعِدْ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ تَوَضَّأَ (ف) وَاسْتَقْبَلَ، وَيُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ مَا شَاءَ (ف) مِنَ الصَّلَوَاتِ كَالْوُضُوءِ ; وَيُسْتَحَبُّ تَأُخِيرُ الصَّلَاةِ لِمَنْ طَمِعَ فِي الْمَاءِ، وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ (ف) بِالتَّيَمُّمِ إِذَا خَافَ فَوْتَهَا لَوْ تَوَضَّأَ،   [الاختيار لتعليل المختار] ثُمَّ التُّرَابُ مُلَوَّثٌ وَمُغَبَّرٌ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُطَهِّرًا ضَرُورَةَ إِرَادَةِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ فِي نَفْسِهِ فَاسْتَغْنَى فِي وُقُوعِهِ طَهَارَةً عَنِ النِّيَّةِ، لَكِنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي وُقُوعِهِ عِبَادَةً وَقُرْبَةً. قَالَ: (وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُحْدِثُ وَالْجُنُبُ) لِلْآيَةِ «وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ أَجْنَبَ فَتَمَعَّكَ بِالتُّرَابِ: " يَكْفِيكَ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» . (وَالْحَائِضُ) وَالنُّفَسَاءُ كَالْجُنُبِ. (وَصِفَةُ التَّيَمُّمِ أَنْ يَضْرِبَ بِيَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ فَيَنْفُضَهُمَا ثُمَّ يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ يَضْرِبَهُمَا كَذَلِكَ، وَيَمْسَحَ بِكُلِّ كَفٍّ ظَهْرَ ذِرَاعِ الْأُخْرَى وَبَاطِنَهَا مَعَ الْمِرْفَقِ) لِحَدِيثِ عَمَّارٍ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ» . (وَالِاسْتِيعَابُ شَرْطٌ) حَتَّى يُخَلِّلَ أَصَابِعَهُ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ اعْتِبَارًا بِالْوُضُوءِ. وَرَوَى الْحَسَنُ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا يَمَّمَ الْأَكْثَرَ جَازَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. (وَيَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ) تَمْكِينًا لَهُ مِنَ الْأَدَاءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَكَمَا فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ خَلَفُهُ. (وَيَجُوزُ قَبْلَ طَلَبِ الْمَاءِ) ؛ لِأَنَّهُ عَادِمٌ حَقِيقَةً، وَالظَّاهِرُ الْعَدَمُ فِي الْمَفَاوِزِ إِلَّا إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ بِقُرْبِهِ مَاءً فَلَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُطْلَبْ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ نَظَرًا إِلَى الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلُ إِخْبَارٌ أَوْ عَلَامَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى الْمَاءِ وَيَطْلُبُهُ مِقْدَارَ غَلْوَةٍ، وَهِيَ مِقْدَارُ رَمْيَةِ سَهْمٍ وَلَا يَبْلُغُ مِيلًا، وَقِيلَ: مِقْدَارُ مَا لَا يَنْقَطِعُ عَنْ رُفَقَائِهِ. (وَلَوْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَمْ يُعِدْ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ فَخَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ. (وَإِنْ وَجَدَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ تَوَضَّأَ وَاسْتَقْبَلَ) لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخُلْفِ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَنْتَقِضُ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ فَانْتَقَضَتْ طَهَارَتُهُ فَيَتَوَضَّأُ وَيَسْتَقْبِلُ. وَيُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ مَا شَاءَ مِنَ الصَّلَوَاتِ كَالْوُضُوءِ) فَرْضًا وَنَفْلَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمُ مَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ أَوْ يُحْدِثْ» ، وَلِأَنَّ طَهَارَتَهُ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمَاءِ وَهِيَ قَائِمَةٌ. (وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِمَنْ طَمِعَ فِي) وُجُودِ (الْمَاءِ) لِيُؤَدِّيَهَا بِأَكْمَلِ الطَّهَارَتَيْنِ. (وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ بِالتَّيَمُّمِ إِذَا خَافَ فَوْتَهَا لَوْ تَوَضَّأَ) لِأَنَّهَا لَا تُعَادُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ (ف) ، وَلَا يَجُوزُ لِلْجُمُعَةِ وَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ، وَلَا لِلْفَرْضِ إِذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ، وَيَنْقُضُهُ نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَاءِ وَاسْتِعْمَالِهِ وَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ بِالتَّيَمُّمِ وَنَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ لَمْ يُعِدْ (فس) ، وَيَطْلُبُ الْمَاءَ مِنْ رَفِيقِهِ فَإِنْ مَنَعَهُ تَيَمَّمَ، وَيَشْتَرِي الْمَاءَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى مَا يَأْتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَتَفُوتُ. (وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ) لِأَنَّهَا لَا تُعَادُ وَلَا تُقْضَى وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاؤُهَا بِالْوُضُوءِ فَيَتَيَمَّمُ كَالْمَرِيضِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لِلْجُمُعَةِ وَإِنْ خَافَ الْفَوْتَ) لِأَنَّهَا تَفُوتُ إِلَى خَلَفٍ وَهُوَ الظُّهْرُ؛ لِأَنَّ الظُّهْرَ فَرْضُ الْوَقْتِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَلَا) يَجُوزُ (لِلْفَرْضِ إِذَا خَافَ فَوْتَ الْوَقْتِ) لِأَنَّهَا تَفُوتُ إِلَى خُلْفٍ وَهُوَ الْقَضَاءُ. قَالَ: (وَيَنْقُضُهُ نَوَاقِضُ الْوُضُوءِ) لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْهُ، وَمَا يَنْقُضُ الْأَصْلَ أَوْلَى أَنْ يَنْقُضَ الْخَلَفَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَقْوَى. قَالَ: (وَ) يَنْقُضُهُ (الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَاءِ وَاسْتِعْمَالُهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ» ، وَالْمَاءُ مَوْضُوعٌ فِي الْجُبِّ وَغَيْرِهِ بِالْفَلَاةِ لَا يَنْقُضُهُ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلشُّرْبِ. قَالَ: (وَلَوْ صَلَّى الْمُسَافِرُ بِالتَّيَمُّمِ وَنَسِيَ الْمَاءَ فِي رَحْلِهِ لَمْ يُعِدْ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُعِيدُ لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ قَبْلَ الطَّلَبِ مَعَ الدَّلِيلِ، فَإِنَّ الرَّحْلَ لَا يَخْلُو عَنِ الْمَاءِ عَادَةً، وَصَارَ كَمَا إِذَا صَلَّى عُرْيَانًا وَنَسِيَ الثَّوْبَ، أَوْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ وَنَسِيَ الْمَالَ. وَلَهُمَا أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ مَعَ النِّسْيَانِ، وَعَجْزُهُ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ وَهُوَ النِّسْيَانُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي أَفْطَرَ نَاسِيًا: «إِنَّمَا أَطْعَمَكَ رَبُّكَ وَسَقَاكَ» بِخِلَافِ الْمَحْبُوسِ ; لِأَنَّ الْعَجْزَ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ حَقِّ الشَّرْعِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الثَّوْبِ فَمَمْنُوعَةٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَلَئِنْ سَلِمَتْ فَالْفَرْقُ أَنَّ الْوُضُوءَ فَاتَ إِلَى خَلَفٍ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ فَاتَ لَا إِلَى خَلَفٍ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكَفَّارَةِ فَالْفَرْقُ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ الصَّوْمِ عَدَمُ كَوْنِ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يُوجَدْ وَشَرْطُ جَوَازِ التَّيَمُّمِ الْعَجْزُ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَقَدْ وُجِدَ، وَالرَّحْلُ عَادَةً لَا يَخْلُو عَنْ مَاءِ الشُّرْبِ، أَمَّا مَاءُ الْوُضُوءِ فَالْغَالِبُ الْعَدَمُ فِيهِ، وَلَوْ ظَنَّ أَنَّ مَاءَهُ قَدْ فَنِيَ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ لَمْ يَجُزْ تَيَمُّمُهُ؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يَزُولُ بِالظَّنِّ. (وَيَطْلُبُ الْمَاءَ مِنْ رَفِيقِهِ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعْطِيَهُ. (فَإِنْ مَنَعَهُ تَيَمَّمَ) لِأَنَّ بِالْمَنْعِ صَارَ عَادِمًا لِلْمَاءِ، وَإِنْ تَيَمَّمَ قَبْلَ الطَّلَبِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الطَّلَبُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَاءَ مَبْذُولٌ عَادَةً فَصَارَ كَالْمَوْجُودِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يُعْطِيهِ لَا يَجُوزُ، وَإِلَّا يَجُوزُ. (وَيَشْتَرِي الْمَاءَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْبَدَلِ قُدْرَةٌ عَلَى الْمُبْدَلِ. (وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَكْثَرَ) وَالْكَثِيرُ: مَا فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ، وَهُوَ ضِعْفُ ثَمَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمِ، فَمَنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ غَسَلَ بَدَنَهُ إِلَّا مَوْضِعَهَا، وَلَا يَتَيَمَّمُ لَهَا. بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَيَجُوزُ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لَا الْغُسْلُ، وَيُشْتَرَطُ لُبْسُهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْمِثْلِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا قَدَرَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ لَا يَتَيَمَّمُ، وَقِيلَ: يُعْتَبَرُ الْغَبْنُ الْفَاحِشُ، وَهُوَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ. قَالَ: (وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ، فَمَنْ كَانَ بِهِ جِرَاحَةٌ) يَضُرُّهَا الْمَاءُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ. (غَسَلَ بَدَنَهُ إِلَّا مَوْضِعَهَا وَلَا يَتَيَمَّمُ لَهَا) ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ غَسَلَ الْبَاقِيَ إِلَّا مَوْضِعَهَا. وَلَا يَتَيَمَّمُ لَهَا وَإِنْ كَانَ الْجِرَاحُ أَوِ الْجُدَرِيُّ فِي أَكْثَرِ جَسَدِهِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَلَا يَغْسِلُ بَقِيَّةَ جَسَدِهِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا جَمْعٌ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَسُؤْرِ الْحِمَارِ ; لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَأَدَّى بِأَحَدِهِمَا لَا بِهِمَا، فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا لِمَكَانِ الشَّكِّ. وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ جَرِيحًا وَالنِّصْفُ صَحِيحًا لَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمَشَايِخُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ التَّيَمُّمَ لِأَنَّهُ طَهَارَةٌ كَامِلَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ غَسْلَ الصَّحِيحِ وَمَسْحَ الْجَرِيحِ إِذَا لَمْ يَضُرُّهُ الْمَسْحُ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَحُكْمِيَّةٌ فَكَانَ أَوْلَى، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ. [بَابُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ] الْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ السُّنَّةُ، وَهِيَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، وَالْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً» . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: «حَدَّثَنِي سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ رَأَوْهُ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ» . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ أَنْكَرَ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ يُخَافُ عَلَيْهِ الْكُفْرُ، فَإِنَّهُ وَرَدَ فِيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ مَا يُشْبِهُ التَّوَاتُرَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِمِثْلِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْلَا أَنَّ الْمَسْحَ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ لَمَا مَسَحْنَا. قَالَ: (وَيَجُوزُ لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ لَا الْغُسْلُ) لِحَدِيثِ صَفْوَانَ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا كُنَّا سَفَرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا لَا عَنْ جَنَابَةٍ، لَكِنْ عَنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ نَوْمٍ» . (وَيُشْتَرَطُ لُبْسُهُمَا عَلَى طَهَارَةٍ كَامِلَةٍ) سَوَاءٌ أُكْمِلَتْ قَبْلَ اللَّبْسِ أَوْ بَعْدَهُ، حَتَّى لَوْ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثُمَّ لَبِسَ خُفَّيْهِ، ثُمَّ أَكْمَلَ الطَّهَارَةَ جَازَ الْمَسْحُ. وَكَمَالُ الطَّهَارَةِ شَرْطٌ عِنْدَ الْحَدَثِ ; لِأَنَّ الْخُفَّ يَمْنَعُ سِرَايَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وَيَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا عَقِيبَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللُّبْسِ، وَيَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ، وَفَرْضُهُ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ (ف) أَصَابِعَ مِنَ الْيَدِ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ إِلَى السَّاقِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى خُفٍّ فِيهِ خَرْقٌ يُبَيِّنُ مِنْهُ مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ (ف) أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ الصِّغَارِ، وَتُجْمَعُ خُرُوقُ كُلِّ خُفٍّ عَلَى حِدَتِهِ. وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقِ (ف) فَوْقَ الْخُفِّ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْحَدَثِ إِلَى الرِّجْلِ، وَلَا يَرْفَعُهُ فَيَظْهَرُ حُكْمُهُ عِنْدَ الْحَدَثِ فَيُعْتَبَرُ الشَّرْطُ عِنْدَهُ. قَالَ: (وَيَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا) لِلْحَدِيثِ أَوَّلَهَا. (عَقِيبَ الْحَدَثِ بَعْدَ اللَّبْسِ) لِأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ فَهِيَ طَهَارَةُ الْغُسْلِ لَا الْمَسْحِ ; لِأَنَّ الْخُفَّ جُعِلَ مَانِعًا مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْحَدَثِ لَا قَبْلَهُ. قَالَ: (وَيَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِهِمَا) حَتَّى لَوْ مَسَحَ بَاطِنَهُ أَوْ عَقِبَهُ أَوْ سَاقَهُ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ بَاطِنُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ، لَكِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ ظَاهِرَهُمَا» . (خُطُوطًا بِالْأَصَابِعِ) . قَالَ: (وَفَرْضُهُ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنَ الْيَدِ) ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهَا آلَةُ الْمَسْحِ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ، وَلَوْ أَصَابَ مَوْضِعَ الْمَسْحِ مَاءٌ قَدْرَ ثَلَاثِ أَصَابِعَ جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَشَى فِي حَشِيشٍ مُبْتَلٍّ بِالْمَطَرِ، وَلَوْ كَانَ مُبَتَّلًا بِالطَّلِّ قِيلَ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَاءٌ، وَقِيلَ: لَا، لِأَنَّهُ نَفَسُ دَابَّةٍ مِنَ الْبَحْرِ يَجْذِبُهُ الْهَوَاءُ إِلَى الْأَرْضِ. (وَالسُنَّةُ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ إِلَى السَّاقِ) هَكَذَا نُقِلَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْ بَدَأَ مِنَ السَّاقِ إِلَى الْأَصَابِعِ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ إِلَّا أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ عَلَى خُفٍّ فِيهِ خَرْقٌ يَبِينُ مِنْهُ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ الصِّغَارِ) وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ خِفَافَ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنِ الْقَلِيلِ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَاهُ لَخَرَجُوا، وَلَا كَذَلِكَ الْكَبِيرُ ; وَلِأَنَّ الْكَبِيرَ يَمْنَعُ الْمَشْيَ الْمُعْتَادَ، فَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ كَاللِّفَافَةِ وَلَا كَذَلِكَ الْقَلِيلُ، وَالْخَرْقُ الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِجًا يُظْهِرُ مَا تَحْتَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ طُولًا، أَوْ كَانَ الْخُفُّ قَوِيًّا لَا يُبَيِّنُ مَا تَحْتَهُ لَا يَمْنَعُ ; لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الظُّهُورُ حَتَّى يَجِبَ الْغَسْلُ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ لَا يُؤَثِّرُ وَلَوْ كَانَ الْخَرْقُ تَحْتَ الْقَدَمِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ الْقَدَمِ مَنَعَ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَمْنَعْ وَإِنْ كَثُرَ، وَاعْتَبَرَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الرِّجْلِ وَالْأَصَابِعُ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْقَدَمِ، وَاعْتَبَرْنَا الصِّغَارَ احْتِيَاطًا. قَالَ: (وَتُجْمَعُ خُرُوقُ كُلِّ خُفٍّ عَلَى حِدَتِهِ) وَلَا يَجْمَعُ خُرُوقَ الْخُفَّيْنِ، وَلَوْ كَانَتِ النَّجَاسَةُ فِي خُفَّيِ الْمُصَلِّي أَوْ ثَوْبَيْهِ أَوْ ثَوْبِهِ وَبَدَنِهِ تُجْمَعُ ; لِأَنَّ النَّجَاسَةَ مَانِعَةٌ مِنَ الصَّلَاةِ لِعَيْنِهَا، وَخَرْقُ الْخُفِّ لَيْسَ مَانِعًا لِعَيْنِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ تَتَابُعِ الْمَشْيِ، وَذَلِكَ فِي الْوَاحِدِ لَا فِي الْخُفَّيْنِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْجُرْمُوقِ فَوْقَ الْخُفِّ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَسَحَ عَلَى الْجَرْمُوقَيْنِ» ، وَلِأَنَّهُمَا كَخُفٍّ ذِي طَاقَيْنِ، وَمَعْنَاهُمَا إِذَا لَبِسَهُمَا عَلَى الْخُفَّيْنِ قَبْلَ الْحَدَثِ، حَتَّى لَوْ لَبِسَهُمَا بَعْدَ الْحَدَثِ أَوْ بَعْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وَيَجُوزُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إِذَا كَانَا ثَخِينَيْنِ (ف) أَوْ مُجَلَّدَيْنِ أَوْ مُنَعَّلَيْنِ. وَيَنْقُضُهُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَنَزْعُ الْخُفِّ وَمُضِيُّ الْمُدَّةِ، فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ نَزَعَهُمَا وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَخُرُوجُ الْقَدَمِ إِلَى سَاقِ الْخُفِّ نَزْعٌ، وَلَوْ مَسَحَ مُسَافِرٌ ثُمَّ أَقَامَ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ نَزَعَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ يُتِمُّ يَوْمًا وَلَيْلَةً، وَلَوْ مَسَحَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَمَّمَ مُدَّةَ الْمُسَافِرِ (ف) . وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْبُرْقُعِ وَالْقُفَّازَيْنِ، وَيَجُوزُ عَلَى الْجَبَائِرِ   [الاختيار لتعليل المختار] مَا مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ لَا يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا ; لَأَنَّ الْحَدَثَ حَلَّ الْخُفَّ، وَيَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْمُكَعَّبِ إِذَا سَتَرَ الْكَعْبَيْنِ، وَكَذَا إِذَا كَانَتْ مُقَدِّمَتُهُ مَشْقُوقَةً، إِلَّا أَنَّهَا مَشْدُودَةٌ أَوْ مُزَرَّرَةٌ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُخَرَّزَةِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ إِذَا كَانَا ثَخِينَيْنِ أَوْ مُجَلَّدَيْنِ أَوْ مُنَعَّلَيْنِ) لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ» ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلًا يَقُولُ: لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَا مُنَعَّلَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهِمَا الْمَسَافَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَا ذَكَرْنَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. قَالَ: (وَيَنْقُضُهُ مَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ) لِأَنَّهُ يَنْقُضُ الْغُسْلَ فَلِأَنْ يَنْقُضَ الْمَسْحَ أَوْلَى. قَالَ: (وَنَزْعُ الْخُفِّ) لِأَنَّهُ الْمَانِعُ مِنْ سِرَايَةِ الْحَدَثِ إِلَى الرِّجْلِ، فَإِذَا نَزَعَهُ زَالَ الْمَانِعُ، وَلِأَنَّ الْجَوَازَ دَفْعًا لِحَرَجِ النَّزْعِ، وَلَمْ يَبْقَ فَيَغْسِلُهُمَا كَمَا قَبْلَ اللُّبْسِ، وَكَذَلِكَ نَزْعُ أَحَدِ خُفَّيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُهُمَا فَيَجِبُ غَسْلُ الْأُخْرَى؛ لِئَلَّا يَجْمَعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْبَدَلِ. قَالَ: (وَمُضِيُّ الْمُدَّةِ) لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ ثَبَتَتْ مُؤَقَّتَةً فَتَزُولُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ كَالْمُسْتَحَاضَةِ. قَالَ: (فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ نَزَعَهُمَا وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَخُرُوجُ الْقَدَمِ إِلَى سَاقِ الْخُفِّ نَزْعٌ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمَشْيُ فِيهِ كَذَلِكَ وَلَوْ خَرَجَ بَعْضُهُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ خَرَجَ أَكْثَرُ عَقِبِهِ إِلَى السَّاقِ بَطَلَ مَسْحُهُ لِمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا لَمْ يَخْرُجْ أَكْثَرُ الْقَدَمِ إِلَى السَّاقِ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ بَقِيَ مِنَ الْقَدَمِ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ لَمْ يَبْطُلْ لِبَقَاءِ مَحَلِّ الْمَسْحِ. قَالَ: (وَلَوْ مَسَحَ مُسَافِرٌ ثُمَّ قَامَ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ نَزَعَ) لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُدَّةُ السَّفَرِ، وَلَا سَفَرَ فَلَا يَجُوزُ. (وَقَبْلَ ذَلِكَ يُتِمُّ يَوْمًا وَلَيْلَةً) لِأَنَّهُ مُقِيمٌ فَلْيَسْتَكْمِلْ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ. (وَلَوْ مَسَحَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ قَبْلَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَمَّمَ مُدَّةَ الْمُسَافِرِ) لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا سَافَرَ بَعْدَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ سَرَى إِلَى الرِّجْلِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْغَسْلِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْبُرْقُعِ وَالْقُفَّازَيْنِ) وَاللِّفَافَةِ ; لِأَنَّ الْمَسْحَ ثَبَتَ فِي الْخُفَّيْنِ لِلْحَرَجِ، وَلَا حَرَجَ فِي نَزْعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ) الْمَسْحُ (عَلَى الْجَبَائِرِ) وَلَيْسَ بِفَرْضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ. وَقَالَا: لَا يَجُوزُ. لَهُمَا مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ عَلِيًّا حِينَ كُسِرَتْ زِنْدُهُ يَوْمَ أُحُدٍ بِالْمَسْحِ عَلَيْهَا» ، وَقِيَاسًا عَلَى الْخُفِّ. وَلَهُ أَنَّ الْمَسْحَ بَدَلٌ عَنِ الْغَسْلِ وَلَا يَجِبُ غَسْلُ مَا تَحْتَ الْجَبِيرَةِ لَوْ ظَهَرَ بِخِلَافِ مَا تَحْتَ الْخُفِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وَإِنْ شَدَّهَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَإِنْ سَقَطَتْ عَنْ بُرْءٍ بَطَلَ. بَابُ الْحَيْضِ وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي تَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِهِ بَالِغَةً،. وَأَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا (س) ، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ (ف) بِلَيَالِيهَا، وَمَا نَقَصَ عَنْ أَقَلِّهِ، وَمَا زَادَ عَلَى أَكْثَرِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَحَدِيثُ عَلِيٍّ لَا يُوجِبُ الْفَرْضِيَّةَ لِأَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ. قَالَ: (وَ) يَجُوزُ (إِنَّ شَدَّهَا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ) لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ حَرَجًا، وَلِأَنَّ غَسْلَ مَا تَحْتَهَا سَقَطَ بِخِلَافِ مَا تَحْتَ الْخُفَّيْنِ. (فَإِنْ سَقَطَتْ عَنْ بُرْءٍ بَطَلَ) لِأَنَّ الْمَسْحَ لِلْعُذْرِ وَقَدْ زَالَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَقَطَتْ لَا عَنْ بُرْءٍ لَمْ يَبْطُلِ الْمَسْحُ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ بَاقٍ، وَإِنْ كَانَتِ الْجَبِيرَةُ زَائِدَةً عَلَى رَأْسِ الْجُرْحِ، فَإِنْ كَانَ حَلُّ الْخِرْقَةَ وَغَسْلُ مَا تَحْتَهَا يَضُرُّهُ مَسَحَ عَلَى الْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ غَسَلَ مَا حَوْلَ الْجِرَاحَةِ وَمَسَحَ عَلَيْهَا لَا عَلَى الْخِرْقَةِ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّهُ الْمَسْحُ دُونَ الْحَلِّ مَسَحَ عَلَى الْخِرْقَةِ الَّتِي عَلَى الْجُرْحِ وَغَسَلَ حَوَالَيْهَا وَمَا تَحْتَ الْخِرْقَةِ الزَّائِدَةِ ; لِأَنَّ جَوَازَ الْمَسْحِ لِلضَّرُورَةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَهَذَا التَّفْصِيلُ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي عِصَابَةِ الْفِصَادِ وَالْقُرُوحِ وَالْجِرَاحَاتِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ وَضَعَ عَلَى شِقَاقِ رِجْلَيْهِ دَوَاءً لَا يَصِلُ الْمَاءُ تَحْتَهُ يُجْرِي الْمَاءَ عَلَى ظَاهِرِ الدَّوَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا. [بَابُ الْحَيْضِ] ِ الْحَيْضُ فِي اللُّغَةِ: السَّيَلَانُ، يُقَالُ: حَاضَتِ الْأَرْنَبُ: إِذَا سَالَ مِنْهَا الدَّمُ، وَحَاضَتِ الشَّجَرَةُ: إِذَا سَالَ مِنْهَا الصَّمْغُ. وَفِي الشَّرْعِ: سَيَلَانُ دَمٍ مَخْصُوصٍ مِنْ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ. وَالدِّمَاءُ ثَلَاثَةٌ: حَيْضٌ. (وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي تَصِيرُ الْمَرْأَةُ بِهِ بَالِغَةً) بِابْتِدَائِهِ الْمُمْتَدِّ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ، قَالَهُ الْكَرْخِيُّ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ لِحَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ» ، أَيْ بَالِغَةٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ: الْحَيْضُ هُوَ الدَّمُ الَّذِي يَنْفُضُهُ رَحِمُ الْمَرْأَةِ السَّلِيمَةِ عَنِ الصِّغَرِ وَالدَّاءِ. وَاسْتِحَاضَةٌ: وَهُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنَ الْفَرْجِ دُونَ الرَّحِمِ. وَنِفَاسٌ: وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مَعَ الْوَلَدِ أَوْ عَقِيبَهُ. قَالَ: (وَأَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا، وَأَكْثَرُهُ عَشَرَةٌ بِلَيَالِيهَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَقَلُّ الْحَيْضِ لِلْجَارِيَةِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا، وَأَكْثَرُهُ عشَرَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهَا» وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَقَلُّهُ يَوْمَانِ، وَأَكْثَرُ الثَّالِثِ إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ لِأَنَّهُ تَنْقِيصٌ عَنْ تَقْدِيرِ الشَّرْعِ. قَالَ: (وَمَا نَقَصَ عَنْ أَقَلِّهِ وَمَا زَادَ عَلَى أَكْثَرِهِ) اسْتِحَاضَةٌ ; لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْعِ، فَلَا يَكُونُ حَيْضًا وَلَيْسَ بِنِفَاسٍ فَيَكُونُ اسْتِحَاضَةً ; لِأَنَّ الدِّمَاءَ الْخَارِجَةَ مِنَ الرَّحِمِ مُنْحَصِرَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وَمَا تَرَاهُ الْحَامِلُ (ف) اسْتِحَاضَةٌ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الصَّوْمَ وَلَا الصَّلَاةَ وَلَا الْوَطْءَ، وَمَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَلْوَانِ فِي مُدَّةِ حَيْضِهَا حَيْضٌ حَتَّى تَرَى الْبَيَاضَ الْخَالِصَ، وَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ فِي الْمُدَّةِ حَيْضٌ، وَهُوَ يُسْقِطُ عَنِ الْحَائِضِ الصَّلَاةَ أَصْلًا. وَيُحَرِّمُ عَلَيْهَا الصَّوْمَ فَتَقْضِيهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ. قَالَ: (وَمَا تَرَاهُ الْحَامِلُ اسْتِحَاضَةٌ) لِأَنَّهَا لَا تَحِيضُ لِأَنَّ بِالْحَمْلِ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ، وَيَصِيرُ دَمُ الْحَيْضِ غِذَاءً لِلْجَنِينِ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا. قَالَ: (وَهُوَ لَا يَمْنَعُ الصَّوْمَ وَلَا الصَّلَاةَ وَلَا الْوَطْءَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمُسْتَحَاضَةِ «تَوَضَّئِي وَصَلِّي وَإِنْ قَطَرَ الدَّمُ عَلَى الْحَصِيرِ قَطْرًا» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِنَّمَا هُوَ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» ، وَلَا يَمْنَعُ كَالرُّعَافِ. قَالَ: (وَمَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْأَلْوَانِ فِي مُدَّةِ حَيْضِهَا حَيْضٌ حَتَّى تَرَى الْبَيَاضَ الْخَالِصَ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَعْرِضْنَ الْكَرَاسِفَ عَلَى عَائِشَةَ، فَكَانَتْ إِذَا رَأَتِ الْكُدْرَةَ قَالَتْ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقُصَّةَ الْبَيْضَاءَ» ، أَيِ الْبَيَاضَ الْخَالِصَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَكُونُ الْكَدْرَةُ حَيْضًا إِلَّا بَعْدَ الدَّمِ ; لِأَنَّ الْكَدْرَةَ مَا يَتَكَدَّرُ، وَأَوَّلُ الشَّيْءِ لَا يَتَكَدَّرُ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا عَنْ عَائِشَةَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّهَا مِنْ أَلْوَانِ الدَّمِ، فَسَوَاءٌ كَانَتْ أَوَّلًا وَآخِرًا كَغَيْرِهَا مِنَ الْأَلْوَانِ، وَقَوْلُهُ: أَوَّلُ الشَّيْءِ لَا يَتَكَدَّرُ. قُلْنَا: لِمَ قُلْتَ: إِنَّ هَذَا أَوَّلَهُ وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي إِنَاءٍ يَسِيلُ مِنْ أَعْلَاهُ وَهَذَا يَسِيلُ مِنْ أَسْفَلِهِ؟ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْكُدْرَةُ أَوَّلًا كَالْجَرَّةِ يُثْقَبُ أَسْفَلُهَا فَإِنَّهُ يَسِيلُ الْكَدَرُ أَوَّلَا كَذَا هَذَا. وَحُكْمُ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَالنِّفَاسِ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِخُرُوجِ الدَّمِ إِلَى الْفَرْجِ الْخَارِجِ ; لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ فَهُوَ فِي مَعْدِنِهِ. قَالَ: (وَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ فِي الْمُدَّةِ حَيْضٌ) لِأَنَّ الْمُدَّةَ لَا تُسْتَوْعَبُ بِالدَّمِ فَاعْتُبِرَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا. قَالَ: (وَهُوَ يُسْقِطُ عَنِ الْحَائِضِ الصَّلَاةَ أَصْلًا، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهَا الصَّوْمَ فَتَقْضِيهِ) لِقَوْلِ عَائِشَةَ: «كُنَّ النِّسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْضِينَ الصَّوْمَ وَلَا يَقْضِينَ الصَّلَاةَ» ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ تَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا، وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ، وَيُسْتَمْتَعُ بِهَا مَا فَوْقَ الْإِزَارِ. وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَقَلِّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِعَشَرَةٍ (زف) جَازَ قَبْلَ الْغُسْلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] شَهْرٍ وَكُلِّ يَوْمٍ فَتُحَرَّجُ فِي الْقَضَاءِ، وَالصَّوْمُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَلَا حَرَجَ. (وَيَحْرُمُ وَطْؤُهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْحَيْضِ إِنْ كَانَا طَائِعَيْنِ أَثِمَا، وَيَكْفِيهِمَا الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ، لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ. وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا طَائِعًا وَالْآخَرُ مُكْرَهًا أَثِمَ الطَّائِعُ وَحْدَهُ. قَالَ فِي الْفَتَاوَى: وَهَذَا فِي الْحُكْمِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ. قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ فَدِينَارٌ، وَفِي آخِرِهِ نِصْفُهُ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الدَّمُ أَسْوَدَ فَدِينَارٌ، وَإِنْ كَانَ أَصْفَرَ فَنِصْفُهُ، وَبِجَمِيعِ ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ. (وَيَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ) لِأَنَّ حُرْمَتَهُ ثَبَتَتْ بِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَيُسْتَمْتَعُ بِهَا مَا فَوْقَ الْإِزَارِ) لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: «سَأَلَتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ؟ قَالَ: " مَا فَوَقَ الْإِزَارِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنِي فَأَتَّزِرُ فَيُبَاشِرُنِي وَأَنَا حَائِضٌ» . وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجْتَنِبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَاهُ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَصْنَعُ الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ الْحَائِضِ كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْجِمَاعَ» وَلَهُمَا مَا رُوِّينَا وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " لَهُ مَا فَوْقَ الْإِزَارِ وَلَيْسَ لَهُ مَا دُونَهُ " أَيْ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا فَوْقَ السُّرَّةِ لَا بِمَا تَحْتَهَا. وَفِيمَا قَالَ مُحَمَّدٌ: رَتْعٌ حَوْلَ الْحِمَى فَيُمْنَعُ مِنْهُ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ. (وَإِنِ انْقَطَعَ دَمُهَا لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجُزْ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِعَشَرَةٍ جَازَ قَبْلَ الْغُسْلِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ، فَمَعْنَى التَّخْفِيفِ حَتَّى يَنْقَطِعَ حَيْضُهَا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَمَعْنَى التَّشْدِيدِ حَتَّى يَغْتَسِلْنَ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَا دُونَهَا عَمَلًا بِالْقِرَاءَتَيْنِ، وَلِأَنَّ مَا قَبْلَ الْعَشَرَةِ لَا يُحْكَمُ بِانْقِطَاعِ الْحَيْضِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الدَّمِ، فَيَكُونُ حَيْضًا، فَإِذَا اغْتَسَلَتْ أَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ دَخَلَتْ فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ، وَمَا بَعْدَ الْعَشَرَةِ حَكَمْنَا بِانْقِطَاعِ الْحَيْضِ، لِأَنَّهَا لَوْ رَأَتِ الدَّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا فَلِهَذَا حَلَّ وَطْؤُهَا. وَقَالَ زُفَرُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وَأَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ. فصل الْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ، وَانْطِلَاقُ الْبَطْنِ، وَانْفِلَاتُ الرِّيحِ، وَالرُّعَافُ الدَّائِمُ، وَالْجُرْحُ الَّذِي لَا يَرْقَأُ يَتَوَضَّئُونَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ، وَيُصَلُّونَ بِهِ مَا شَاءُوا (ف) ، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ بَطَلَ وُضُوءُهُمْ فَيَتَوَضَّئُونَ لِصَلَاةٍ أُخْرَى.   [الاختيار لتعليل المختار] لَا يَحِلُّ وَطْؤُهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ وَإِنِ انْقَطَعَ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ، عَمَلًا بِقِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ. قَالَ: (وَأَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا تَوْقِيفًا (وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ) لِأَنَّهُ يَسْتَمِرُّ مُدَّةً كَثِيرَةً فَلَا يَتَقَدَّرُ. [فصل أَحْكَامُ أَهْلِ الْأَعْذَار] فَصْلٌ (وَالْمُسْتَحَاضَةُ وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَانْطِلَاقُ الْبَطْنِ وَانْفِلَاتُ الرِّيحِ وَالرُّعَافُ الدَّائِمُ وَالْجُرْحُ الَّذِي لَا يَرْقَأُ، يَتَوَضَّئُونَ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَيُصَلُّونَ بِهِ مَا شَاءُوا) لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَتَوَضَّأُ الْمُسْتَحَاضَةُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» . «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ حِينَ قَالَتْ لَهُ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ " تَوَضَّئِي لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» ، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِالصَّلَاةِ الْوَقْتُ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَصَلَّيْتُ» ، وَيُقَالْ: آتِيكَ لِصَلَاةِ الظُّهْرِ: أَيْ لِوَقْتِهَا. قَالَ: (فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ بَطَلَ وُضُوؤُهُمْ، فَيَتَوَضَّئُونَ لِصَلَاةٍ أُخْرَى) لِمَا رَوَيْنَا. وَطَهَارَةُ الْمَعْذُورِ تَنْتَقِضُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ بِالدُّخُولِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِأَيِّهِمَا كَانَ. وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: إِذَا تَوَضَّأَ لِلصُّبْحِ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلْعِيدِ أَوْ لِلضُّحَى ثُمَّ دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَعِنْدَهُمَا يَنْتَقِضُ فِي الْأُولَى لِلْخُرُوجِ، وَلَا يَنْتَقِضُ فِي الثَّانِيَةِ لِعَدَمِهِ، وَعِنْدَ زُفَرَ بِالْعَكْسِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَنْتَقِضُ فِيهِمَا لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مَعَ الْمُنَافِي فَتَتَقَدَّرُ بِالْوَقْتِ، فَلَا تُعْتَبَرُ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَلِزُفَرَ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَبْطُلْ بِالدُّخُولِ لَزَادَتْ عَلَى وَقْتِ صَلَاةٍ وَأَنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ. وَلَهُمَا أَنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ وَخُرُوجُ الْوَقْتِ دَلِيلُ زَوَالِ الْحَاجَةِ، وَالدُّخُولُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، فَتَعَلُّقُ الِانْتِقَاضِ بِالْخُرُوجِ أَوْلَى. وَقَوْلُ زُفَرَ: يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ فِيمَا إِذَا تَوَضَّأَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَوْلُنَا: انْتَقَضَ وُضُوءُهُمْ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ: أَيْ عِنْدَهِ، لَكِنْ بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ مَعَ الدَّمِ رُخْصَةٌ ; لِأَنَّ الْوُضُوءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 وَالْمَعْذُورُ هُوَ الَّذِي لَا يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ إِلَّا وَالْحَدَثُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ مَوْجُودٌ، وَإِذَا زَادَ الدَّمُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَهَا عَادَةٌ فَالزَّائِدُ عَلَى عَادَتِهَا اسْتِحَاضَةٌ، وَإِذَا بَلَغَتْ مُسْتَحَاضَةً فَحَيْضَتُهَا عَشَرَةٌ (ف) مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ. فَصْلٌ النِّفَاسُ: الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ، وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَأَكْثَرُهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا. وَإِذَا جَاوَزَ الدَّمُ الْأَرْبَعِينَ وَلَهَا عَادَةٌ، فَالزَّائِدُ عَلَيْهَا اسْتِحَاضَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ فَنِفَاسُهَا أَرْبَعُونَ، وَالنِّفَاسُ فِي التَّوْأَمَيْنِ عَقِيبَ الْأَوَّلِ (مز) ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَا يَرْفَعُ حَدَثًا وُجِدَ بَعْدَهُ. قَالَ: (وَالْمَعْذُورُ هُوَ الَّذِي لَا يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ إِلَّا وَالْحَدَثُ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ مَوْجُودٌ) حَتَّى لَوِ انْقَطَعَ الدَّمُ وَقْتًا كَامِلًا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ عُذْرٍ مِنْ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ. قَالَ: (وَإِذَا زَادَ الدَّمُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَهَا عَادَةٌ) مَعْرُوفَةٌ. (فَالزَّائِدُ عَلَى عَادَتِهَا اسْتِحَاضَةٌ) لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ عُلِمَ كَوْنُهَا مُسْتَحَاضَةً فَتُرَدُّ إِلَى أَيَّامِ أَقْرَائِهَا. «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمُسْتَحَاضَةِ دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ ثُمَّ تَوَضَّئِي وَصَلِّي» . قَالَ: (وَإِذَا بَلَغَتْ مُسْتَحَاضَةٌ فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ) لِأَنَّهَا مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِلْحَيْضِ فَلَا تَخْرُجُ بِالشَّكِّ (وَالْبَاقِي اسْتِحَاضَةٌ) لِمَا تَقَدَّمَ. [فصل في أَحْكَامُ النُّفَسَاءِ] فَصْلٌ (النِّفَاسُ: الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ) لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ تَنَفُّسِ الرَّحِمِ بِالدَّمِ أَوْ مِنْ خُرُوجِ النَّفْسِ، وَهُوَ الْوَلَدُ أَوِ الدَّمُ وَالْكُلُّ مَوْجُودٌ. قَالَ: (وَلَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَأَكْثَرُهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَقْعُدُ النُّفَسَاءُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إِلَّا أَنْ تَرَى طُهْرًا قَبْلَ ذَلِكَ» قَدَّرَ الْأَكْثَرَ وَلَمْ يُقَدِّرِ الْأَقَلَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ حَدٌّ لِقَدْرِهِ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْوَلَدِ دَلِيلُ خُرُوجِ الدَّمِ مِنَ الرَّحِمِ فَاسْتَغْنَى عَنِ التَّقْدِيرِ وَلَا دَلِيلَ فِي الْحَيْضِ، فَاحْتَجْنَا إِلَى التَّقْدِيرِ لِيُسْتَدَلَّ بِدَوَامِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الرَّحِمِ. قَالَ: (وَإِذَا جَاوَزَ الدَّمَ الْأَرْبَعِينَ وَلَهَا عَادَةٌ فَالزَّائِدُ عَلَيْهَا اسْتِحَاضَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَادَةٌ فَنِفَاسُهَا أَرْبَعُونَ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْحَيْضِ. قَالَ: (وَالنِّفَاسُ فِي التَّوْءَمَيْنِ عَقِيبَ الْأَوَّلِ) . وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: عَقِيبَ الْأَخِيرِ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْوِلَادَتَيْنِ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَا نِفَاسَ لَهَا مِنَ الثَّانِي، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: مَا بَيْنَهُمَا اسْتِحَاضَةٌ وَالنِّفَاسُ مِنَ الثَّانِي. لَهُ أَنَّ النِّفَاسَ وَالْحَيْضَ سَوَاءٌ مِنْ حَيْثُ الْمَخْرَجِ، وَالْمَانِعِيَّةُ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْوَطْءِ وَالْحَيْضِ لَا يُوجَدُ مِنَ الْحَامِلِ، فَكَذَا النِّفَاسُ. وَلَهُمَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِّ النِّفَاسِ وَقَدْ وُجِدَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وَالسَّقْطُ الَّذِي اسْتَبَانَ بَعْضُ (ف) خَلْقِهِ وَلَدٌ. بَابُ الْأَنْجَاسِ وَتَطْهِيرِهَا النَّجَاسَةُ غَلِيظَةٌ وَخَفِيفَةٌ، فَالْمَانِعُ مِنَ الْغَلِيظَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً إِنْ كَانَ مَائِعًا، وَوَزْنًا إِنْ كَانَ كَثِيفًا، وَالْمَانِعُ مِنَ الْخَفِيفَةِ أَنْ يَبْلُغَ رُبُعَ الثَّوْبِ (ف) ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِخِلَافِ الْحَيْضِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ بِالْحَمْلِ فَلَا تَحِيضُ، وَالْعِدَّةُ تَنْقَضِي بِالْأَخِيرِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَيَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ وَهِيَ حَامِلٌ بَعْدَ الْأَوَّلِ. قَالَ: (وَالسَّقْطُ الَّذِي اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ وَلَدٌ) فَتَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ، وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَتَصِيرُ الْأَمَةُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَيَنْزِلُ الشَّرْطُ الْمُعَلَّقُ بِمَجِيءِ الْوَلَدِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ. [بَابُ الْأَنْجَاسِ وَتَطْهِيرِهَا] (النَّجَاسَةُ غَلِيظَةٌ وَخَفِيفَةٌ) فَالْغَلِيظَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَا وَرَدَ فِي نَجَاسَتِهِ نَصٌّ وَلَمْ يُعَارِضْهُ آخَرُ، وَلَا حَرَجَ فِي اجْتِنَابِهِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ. وَالْمُخَفَّفَةُ مَا تَعَارَضَ نَصَّانِ فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ، وَعِنْدَهُمَا الْمُغَلَّظَةُ: مَا اتُّفِقَ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلَا بَلْوَى فِي إِصَابَتِهِ، وَالْمُخَفَّفَةُ: مَا اخْتُلِفَ فِي نَجَاسَتِهِ؛ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ كَالنَّصِّ. قَالَ: (فَالْمَانِعُ مِنَ الْغَلِيظَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِسَاحَةً إِنْ كَانَ مَائِعًا، وَوَزْنًا إِنْ كَانَ كَثِيفًا) وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَ عَرْضِ الْكَفِّ، لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِذَا كَانَتِ النَّجَاسَةُ قَدْرَ ظُفْرِي هَذَا لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَظُفْرُهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ كَفِّنَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: الدِّرْهَمُ الْكَبِيرُ الْمِثْقَالُ: أَيْ مَا يَكُونُ وَزْنُهُ مِثْقَالًا، فَيُحْمَلُ الْأَوَّلُ عَلَى الْمِسَاحَةِ إِنْ كَانَ مَائِعًا، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى الْوَزْنِ إِنْ كَانَ مُسْتَجْسِدًا. قَالَ النَّخَعِيُّ: أَرَادُوا أَنْ يَقُولُوا قَدْرَ الْمَقْعَدَةِ فَكَنَّوْا بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ أَصْحَابُنَا بِالدِّرْهَمِ ; لِأَنَّ قَلِيلَ النَّجَاسَةِ عَفْوٌ بِالْإِجْمَاعِ كَالَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الْبَصَرُ وَدَمُ الْبَعُوضِ وَالْبَرَاغِيثِ، وَالْكَثِيرُ مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَجَعَلْنَا الْحَدَّ الْفَاصِلَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ أَخْذًا مِنْ مَوْضِعِ الِاسْتِنْجَاءِ، فَإِنَّ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْحَجَرِ إِنْ كَانَ الْخَارِجُ قَدْ أَصَابَ جَمِيعَ الْمَخْرَجِ يَبْقَى الْأَثَرُ فِي جَمِيعِهِ، وَذَلِكَ يَبْلُغُ قَدْرَ الدِّرْهَمِ، وَالصَّلَاةُ جَائِزَةٌ مَعَهُ إِجْمَاعًا، فَعَلِمْنَا أَنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ عَفْوٌ شَرْعًا. (وَالْمَانِعُ مِنَ الْخَفِيفَةِ أَنْ يَبْلُغَ رُبُعَ الثَّوْبِ) لِأَنَّ لِلرُّبْعِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَحَلْقِهِ، ثُمَّ قِيلَ: رُبُعَ جَمِيعِ الثَّوْبِ، وَقِيلَ: رُبُعَ مَا أَصَابَهُ كَالْكُمِّ وَالذَّيْلِ وَالدِّخْرِيصِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ شِبْرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ، وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ (سم) وَالْأَخْثَاءُ، وَبَوْلُ الْفَأْرَةِ، وَالصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا، وَالْمَنِيُّ نَجِسٌ (ف) يَجِبُ غَسْلُ رَطْبِهِ، وَيُجْزِئُ الْفَرْكُ فِي يَابِسِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] فِي شِبْرٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِرَاعٌ فِي ذِرَاعٍ، وَعَنْهُ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَالْمُخْتَارُ الرُّبُعُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الِاسْتِفْحَاشِ. (وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّطْهِيرِ فَنَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ) كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ وَالصَّدِيدِ وَالْقَيْءِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْمَنِيُّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَائِشَةَ: «إِنْ كَانَ رَطْبًا فَاغْسِلِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَافْرُكِيهِ» ، وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «إِنَّمَا يُغْسَلُ الثَّوْبُ مِنَ الْمَنِيِّ وَالْبَوْلِ وَالدَّمِ» ، وَلَوْ أَصَابَ الْبَدَنَ وَجَفَّ. رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَطْهُرُ بِالْفَرْكِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَطْهُرُ؛ لِأَنَّ الْبَلْوَى فِيهِ أَعَمُّ، وَالِاكْتِفَاءُ بِالْفَرْكِ لَا يَدَلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقِلُّ بِالْفَرْكِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ، حَتَّى إِذَا أَصَابَهُ الْمَاءُ يَعُودُ نَجِسًا عِنْدَهُ، خِلَافًا لَهُمَا، ثُمَّ رَأَيْنَا كُلَّ مَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ كَالْغَائِطِ وَالْبَوْلِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ نَجِسًا، فَقُلْنَا بِنَجَاسَةِ الْمَنِيِّ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَكْبَرَ الطَّهَارَاتِ، وَكَوْنُهُ أَصْلَ الْآدَمِيِّ لَا يُوجِبُ طَهَارَتَهُ كَالْعَلَقَةِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ الرَّوْثُ وَالْأَخْثَاءُ) وَبَوْلُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الدَّوَابِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ نَجَاسَتَهَا ثَبَتَتْ بِنَصٍّ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الرَّوْثِ: " إِنَّهُ رِجْسٌ ". وَالْأَخْثَاءُ مِثْلُهُ، وَعِنْدَهُمَا مُخَفَّفَةٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فِي الطُّرُقَاتِ وَوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ الْأَرْوَاثُ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَوْثُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَاهِرٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْتَحَالَ إِلَى نَتَنٍ وَفَسَادٍ، وَهُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْ حَيَوَانٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَصَارَ كَالْآدَمِيِّ وَالضَّرُورَةُ فِي النِّعَالِ، وَقَدْ قُلْنَا بِالتَّخْفِيفِ فِيهَا حَتَّى تَطْهُرَ بِالْمَسْحِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحَدِيثِ وَالْمَعْقُولِ خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَزُفَرَ. قَالَ: (وَ) كَذَلِكَ (بَوْلُ الْفَأْرَةِ) وَخَرْؤُهَا لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اسْتَنْزِهُوا مِنَ الْبَوْلِ» ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ مُمْكِنٌ فِي الْمَاءِ، غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الطَّعَامِ وَالثِّيَابِ فَيُعْفَى عَنْهُ فِيهِمَا. قَالَ: (وَ) كَذَلِكَ بَوْلُ (الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ أَكَلَا أَوْ لَا) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَمَا رُوِيَ مِنْ نَضْحِ بَوْلِ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ يَأْكُلْ، فَالنَّضْحُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَسْلِ. «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْمَذْيِ: " انْضَحْ فَرْجَكَ بِالْمَاءِ» ، أَيِ اغْسِلْهُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا. قَالَ: (وَالْمَنِيُّ نَجِسٌ يَجِبُ غَسْلُ رَطْبِهِ، وَيُجْزِئُ الْفَرْكُ فِي يَابِسِهِ) وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وَإِذَا أَصَابَ الْخُفَّ نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ كَالرَّوْثِ فَجَفَّ فَدَلَكَهُ بِالْأَرْضِ جَازَ (مز) ، وَالرَّطْبُ وَمَا لَا جِرْمَ لَهُ كَالْخَمْرِ لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الْغَسْلُ، وَالسَّيْفُ وَالْمِرْآةُ يُكْتَفَى بِمَسْحِهِمَا (ز) فِيهِمَا، وَإِذَا أَصَابَتِ الْأَرْضَ نَجَاسَةٌ فَذَهَبَ أَثَرُهَا جَازَتِ (زف) الصَّلَاةُ عَلَيْهَا دُونَ التَّيَمُّمِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَفِي الْفَتَاوَى: مَرَارَةُ كُلِّ شَيْءٍ كَبَوْلِهِ فِي الْحُكْمِ، وَإِذَا اجْتَرَّ الْبَعِيرُ فَأَصَابَ ثَوْبَ إِنْسَانٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ سِرْقِينِهِ لِوُصُولِهِ إِلَى جَوْفِهِ كَالْمَاءِ إِذَا وَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ حُكْمُهُ حُكْمُ بَوْلِهِ. قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَ الْخُفَّ نَجَاسَةٌ لَهَا جِرْمٌ كَالرَّوْثِ) وَالْعَذِرَةِ (فَجَفَّ فَدَلَكَهُ بِالْأَرْضِ جَازَ، وَالرَّطْبُ وَمَا لَا جِرْمَ لَهُ كَالْخَمْرِ) وَالْبَوْلِ. (لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا الْغَسْلُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِئُ الْمَسْحُ فِيهِمَا إِلَّا الْبَوْلَ وَالْخَمْرَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ فِيهِمَا إِلَّا الْغَسْلُ كَالثَّوْبِ، وَلِأَبِي يُوسُفَ إِطْلَاقُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا أَصَابَ خُفَّ أَحَدِكُمْ أَوْ نَعْلَهُ أَذًى فَلْيَدْلُكْهُمَا فِي الْأَرْضِ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ طَهُورٌ لَهُمَا» ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْيَابِسِ وَالرَّطْبِ وَالْمُسْتَجِدِّ وَغَيْرِهِ وَلِلضَّرُورَةِ الْعَامَّةِ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ، لِأَبِي حَنِيفَةَ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَّا أَنَّ الرَّطْبَ إِذَا مُسِحَ بِالْأَرْضِ يَتَلَطَّخُ بِهِ الْخُفُّ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ فَلَا يُطَهِّرُهُ بِخِلَافِ الْيَابِسِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ لَا يَتَدَاخَلُهُ إِلَّا شَيْءٌ يَسِيرٌ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْبَوْلُ وَالْخَمْرُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَجْتَذِبُ مِمَّا عَلَى الْخُفِّ فَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ، حَتَّى لَوْ لَصَقَ عَلَيْهِ طِينٌ رَطْبٌ فَجَفَّ ثُمَّ دَلَّكَهُ جَازَ كَالَّذِي لَهُ جِرْمٌ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ مُتَخَلِّلٌ فَتَتَدَاخَلُهُ أَجْزَاءُ النَّجَاسَةِ فَلَا تَزُولُ بِالْمَسْحِ فَيَجِبُ الْغَسْلُ. قَالَ: (وَالسَّيْفُ وَالْمِرْآةُ يُكْتَفَى بِمَسْحِهِمَا) فِيهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا لِصَلَابَتِهِمَا لَا يَتَدَاخَلُهُمَا شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَةِ فَيَزُولُ بِالْمَسْحِ. قَالَ: (وَإِذَا أَصَابَتِ الْأَرْضَ نَجَاسَةٌ فَذَهَبَ أَثَرُهَا جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا دُونَ التَّيَمُّمِ) ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الصَّعِيدِ ثَبَتَتْ شَرْطًا بِنَصِّ الْكِتَابِ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ. وَقَالَ زُفَرُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ (م) ، وَبَوْلُ الْفَرَسِ، وَدَمُ السَّمَكِ (ف) ، وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ، وَخُرْءُ مَا لَا (سم) يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ نَجَاسَتُهُ مُخَفَّفَةٌ، وَخُرْءُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ طَاهِرٌ (ف)   [الاختيار لتعليل المختار] لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ كَالتَّيَمُّمِ. وَلَنَا أَنَّ الْأَرْضَ تَنْشَفُ وَالْهَوَاءُ يَجْذِبُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا، فَقُلْتُ: وَالْقَلِيلُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَيَمْنَعُ التَّيَمُّمَ. وَرَوَى ابْنُ كَاسٍ عَنْ أَصْحَابِنَا جَوَازَ التَّيَمُّمِ أَيْضًا لِلْحَدِيثِ ; لِأَنَّ النَّجَاسَةَ اسْتَحَالَتْ إِلَى أَجْزَاءِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْأَرْضِ جَذْبَ الْأَشْيَاءِ إِلَى طَبْعِهَا، وَبِالِاسْتِحَالَةِ تَطْهُرُ كَالْخَمْرِ إِذَا تَخَلَّلَتْ فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ، وَإِذَا أَصَابَتِ الْأَرْضَ نَجَاسَةٌ، إِنْ كَانَتْ رَخْوَةً يَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ فَتَطْهُرُ لِأَنَّهَا تُنَشِّفُ الْمَاءَ فَيَطْهُرُ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْبَةً يُصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهَا ثُمَّ تُكْبَسُ الْحَفِيرَةُ الَّتِي اجْتَمَعَ فِيهَا الْغُسَالَةُ. قَالَ: (وَبَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَبَوْلُ الْفَرَسِ، وَدَمُ السَّمَكِ، وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ نَجَاسَتُهُ مُخَفَّفَةٌ) أَمَّا بَوْلُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَطَاهِرٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِحَدِيثِ الْعُرَنِيِّينَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بَوْلُ الْفَرَسِ عِنْدَهُ أَيْضًا، وَلَهُمَا أَنَّهُ اسْتَحَالَ إِلَى نَتَنٍ وَخَبَثٍ فَيَكُونُ نَجِسًا كَبَوْلِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، إِلَّا أَنَّا قُلْنَا بِتَخْفِيفِهِ لِلتَّعَارُضِ، وَحَدِيثُ الْعَرَنِيِينِ نُسِخَ كَالْمُثْلَةِ، وَدَمُ السَّمَكِ لَيْسَ بِدَمٍ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يَبِيضُ بِالشَّمْسِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ نَجِسٌ، فَقُلْنَا بِخِفَّتِهِ لِذَلِكَ، وَلُعَابُ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ لِتَعَارُضِ النُّصُوصِ، وَخُرْءُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ لِعُمُومِ الْبَلْوَى، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، لِأَنَّهَا تَزْرَقُ مِنَ الْهَوَاءِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نَجَاسَتُهُ غَلِيظَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تُخَالِطُ النَّاسَ فَلَا بَلْوَى، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا. قَالَ: (وَخُرْءُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ الطُّيُورِ طَاهِرٌ) لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ الْحَمَامَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 إِلَّا الدَّجَاجَ وَالْبَطَّ الْأَهْلِيَّ فَنَجَاسَتُهُمَا غَلِيظَةٌ، وَإِذَا انْتَضَحَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ (ف) . إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ. وَبِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ كَالْخَلِّ (م زف) وَمَاءِ الْوَرْدِ، فَإِنْ كَانَ لَهَا عَيْنٌ مَرْئِيَّةٌ فَطَهَارَتُهَا زَوَالُهَا، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرٍ يَشُقُّ زَوَالُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَأَخْرَجُوهَا خُصُوصًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ: (إِلَّا الدَّجَاجَ وَالْبَطَّ الْأَهْلِيَّ فَنَجَاسَتُهُمَا غَلِيظَةٌ) بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَإِذَا انْتَضَحَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَفِيهِ حَرَجٌ فَيَنْتَفِي، وَلَيْسَ بَوْلُ الْخَفَافِيشِ وَخُرْؤُهَا وَلَا دَمُ الْبَقِّ وَالْبَرَاغِيثِ بِشَيْءٍ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ الْكَرْخِيُّ: وَمَا يَبْقَى مِنَ الدَّمِ فِي اللَّحْمِ وَالْعُرُوقِ طَاهِرٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَعْفُوٌّ فِي الْأَكْلِ دُونَ الثِّيَابِ. [ما يجوز إزالة النجاسة به وما لا يجوز وَيَجُوزُ] فَصْلٌ: (وَيَجُوزُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ) وَلَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» . قَالَ: (وَبِكُلِّ مَائِعٍ طَاهِرٍ) يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ. (كَالْخَلِّ وَمَاءِ الْوَرْدِ) وَمَا يُعْتَصَرُ مِنَ الشَّجَرِ وَالْوَرَقِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْمَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْبَدَنِ رِوَايَتَانِ لِمُحَمَّدٍ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» . وَلَوْ جَازَ بِغَيْرِ الْمَاءِ لَمَا كَانَ فِي التَّعْيِينِ فَائِدَةٌ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْحُكْمِيَّةِ. وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] وَتَطْهِيرُ الثَّوْبِ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَنْهُ وَقَدْ وُجِدَ فِي الْخَلِّ حَقِيقَةً، وَالْمُرَادُ مِنَ الْحَدِيثِ الْإِزَالَةُ مُطْلَقًا حَتَّى لَوْ أَزَالَهَا بِالْقَطْعِ جَازَ، وَالْإِزَالَةُ تَتَحَقَّقُ بِمَا ذَكَرْنَا كَمَا فِي الْمَاءِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمُوجِبِ لِلزَّوَالِ مِنْ تَرْقِيقِ النَّجَاسَةِ وَاخْتِلَاطِهَا بِالْمَائِعِ بِالدَّلْكِ وَتَقَاطُرِهَا بِالْعَصْرِ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلَى أَنْ تَفْنَى بِالْكُلِّيَّةِ، وَذِكْرُ الْمَاءِ فِي الْحَدِيثِ وَرَدَ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ غَالِبًا لَا لِلتَّقْيِيدِ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْحُكْمِيَّةِ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ غَيْرِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ، فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَاءُ، أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَالْمَقْصُودُ إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ وَقَدْ زَالَتْ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ لَهَا عَيْنٌ مَرْئِيَّةٌ فَطَهَارَتُهَا زَوَالُهَا) لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالنَّجَاسَةِ بِقِيَامِ عَيْنِهَا فَيَنْعَدِمُ بِزَوَالِهَا، فَلَوْ زَالَتْ بِالْغَسْلَةِ الْوَاحِدَةِ طَهُرَتْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُشْتَرَطُ غَسْلُهُ بَعْدَهَا مَرَّتَيْنِ اعْتِبَارًا بِغَيْرِ الْمَرْئِيَّةِ. قَالَ: (وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ أَثَرٍ يَشُقُّ زَوَالُهُ) «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي دَمِ الْحَيْضِ: " اغْسِلِيهِ وَلَا يَضُرُّكِ أَثَرُهُ» وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَمَا لَيْسَ بِمَرْئِيَّةٍ فَطَهَارَتُهَا أَنْ يَغْسِلَهُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ (ف) وَيُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ أَوْ بِالسَّبْعِ قَطْعًا لِلْوَسْوَسَةِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَصْرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ يُقَدَّرُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ. وَالِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ مِنْ كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ إِلَّا الرِّيحَ، وَيَجُوزُ بِالْحَجَرِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ (ف) يَمْسَحُهُ حَتَّى يُنْقِيَهُ، وَالْغَسْلُ أَفْضَلُ، وَإِذَا تَعَدَّتِ النَّجَاسَةُ الْمَخْرَجَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا الْغَسْلُ، وَلَا يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَمَا لَيْسَ بِمَرْئِيَّةٍ فَطَهَارَتُهَا أَنْ يَغْسِلَهُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ) لِأَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ دَلِيلٌ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْيَقِينِ. قَالَ: (وَيُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ أَوْ بِالسَّبْعِ قَطْعًا لِلْوَسْوَسَةِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَصْرِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَكَذَلِكَ يُقَدَّرُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ) وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا قَبْلَ الثَّلَاثِ لِحَدِيثِ الْمُسْتَيْقِظِ. وَفِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا غَسَلَهُ مَرَّةً سَابِغَةً طَهُرَ، وَمَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ كَالْآجُرِّ وَالْخَزَفِ، وَالْحِنْطَةِ إِذَا تَشَرَّبَتْ فِيهَا النَّجَاسَةُ، وَالْجِلْدِ إِذَا دُبِغَ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ، وَالسِّكِّينِ إِذَا مُوِّهَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ، وَاللَّحْمِ إِذَا طُبِخَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَطْهُرُ أَبَدًا لِعَدَمِ الْعَصْرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: طَهَارَتُهُ أَنْ يُغْسَلَ ثَلَاثًا، وَتُمَوَّهُ السِّكِّينُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ ثَلَاثًا، وَتُطْبَخَ الْحِنْطَةُ وَاللَّحْمُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ ثَلَاثًا، وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. [حكم الاستنجاء] فَصْلٌ (وَالِاسْتِنْجَاءُ سُنَّةٌ مِنْ كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ إِلَّا الرِّيحَ) . اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ. وَاجِبَانِ: أَحَدُهُمَا غَسْلُ نَجَاسَةِ الْمَخْرَجِ فِي الْغُسْلِ عَنِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ كَيْ لَا يَشِيعَ فِي بَدَنِهِ. وَالثَّانِي إِذَا تَجَاوَزَتْ مَخْرَجَهَا يَجِبُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَهُوَ الْأَحْوَطُ لِأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ إِذَا تَجَاوَزَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى الْمَخْرَجِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِجَوَازِ الِاسْتِجْمَارِ فِيهِ، فَيَبْقَى الْمُعْتَبَرُ مَا وَرَاءَهُ. وَالثَّالِثُ سُنَّةٌ، وَهُوَ إِذَا لَمْ تَتَجَاوَزِ النَّجَاسَةُ مَخْرَجَهَا فَغَسْلُهَا سُنَّةٌ. وَالرَّابِعُ مُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ إِذَا بَالَ وَلَمْ يَتَغَوَّطْ يَغْسِلُ قُبُلَهُ. وَالْخَامِسُ بِدْعَةٌ، وَهُوَ الِاسْتِنْجَاءُ مِنَ الرِّيحِ إِذَا لَمْ يَظْهَرِ الْحَدَثُ مِنَ السَّبِيلَيْنِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بِالْحَجَرِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ يَمْسَحُهُ حَتَّى يُنَقِّيَهُ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِنْقَاءُ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ جَازَ. (وَالْغَسْلُ) بِالْمَاءِ. (أَفْضَلُ) لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِنْقَاءِ وَالنَّظَافَةِ. قَالَ: (وَإِذَا تَعَدَّتِ النَّجَاسَةُ الْمَخْرَجَ لَمْ يَجُزْ إِلَّا الْغَسْلُ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. قَالَ: (وَلَا يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وَلَا بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثٍ وَلَا بِطَعَامٍ، وَيُكْرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْخَلَاءِ. كتاب الصلاة   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا بِعَظْمٍ وَلَا بِرَوْثٍ) لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ. (وَلَا بِطَعَامِ) لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ، فَإِنِ اسْتَنْجَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَازَ وَيُكْرَهُ لِأَنَّ الْمَنْعَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَلَا يَمْنَعُ حُصُولَ الطَّهَارَةِ كَالِاسْتِنْجَاءِ بِثَوْبِ الْغَيْرِ وَمَائِهِ. قَالَ: (وَيُكَرَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا فِي الْخَلَاءِ) فِي الْبُيُوتِ وَالصَّحَارَى، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الِاسْتِدْبَارِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَابِلٍ لِلْقِبْلَةِ، وَمَا يَنْحَطُّ مِنْهُ يَنْحَطُّ نَحْوَ الْأَرْضِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ، وَيَسْتَنْجِي بِعَرْضِهَا لَا بِرُءُوسِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ ; وَقِيلَ: تَسْتَنْجِي بِرُءُوسِ أَصَابِعِهَا. [كتاب الصلاة] [تعريف الصلاة] كِتَابُ الصَّلَاةِ الصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] أَيِ ادْعُ لَهُمْ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ» أَيْ: دَعَتْ لَكُمْ، وَقَالَ الْأَعْشَى: وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمَ أَيْ دَعَا. وَفِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ أَرْكَانٍ مَخْصُوصَةٍ وَأَذْكَارٍ مَعْلُومَةٍ بِشَرَائِطٍ مَحْصُورَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُقَدَّرَةٍ. وَهِيَ فَرِيضَةٌ مَحْكَمَةٌ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا وَلَا يَسَعُ تَرْكُهَا، ثَبَتَتْ فَرَضِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا مُوَقَّتًا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 وَقْتُ الْفَجْرِ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي الْمُعْتَرِضُ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتُ الظُّهْرِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الظِّلُّ مِثْلَيْهِ (سم ف) سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ،   [الاختيار لتعليل المختار] : «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» ، وَعَلَيْهَا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. وَسَبَبُ وُجُوبِهَا الْوَقْتُ بِدَلِيلِ إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ، وَهِيَ دَلَالَةُ السَّبَبِيَّةِ، كَحَدِّ الزِّنَا، وَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَيَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنَ الْوَقْتِ مُطْلَقٍ لِلْمُكَلَّفِ تَعْيِينُهُ بِالْأَدَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُصَلِّ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْجُزْءَ لِلْوُجُوبِ حَتَّى لَوْ أَخَّرَهَا عَنْهُ أَثِمَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ. [أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ الخمس] قَالَ: (وَقْتُ الْفَجْرِ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ الثَّانِي الْمُعْتَرِضُ إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ) الْفَجْرُ فَجْرَانِ: كَاذِبٌ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدُو طُولًا ثُمَّ تَعْقُبُهُ ظُلْمَةٌ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَلَا يَحْرُمُ الْأَكْلُ عَلَى الصَّائِمِ. وَصَادِقٌ، وَهُوَ الْبَيَاضُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ، فَيَحْرُمُ بِهِ السُّحُورُ، وَيَدْخُلُ بِهِ وَقْتُ الْفَجْرِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَغُرَّنَّكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيلُ، وَلَكِنِ الْفَجْرُ الْمُسْتَطِيرُ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا وَإِنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الْفَجْرِ حِينَ يَطْلُعَ الْفَجْرُ، وَآخِرُ وَقْتِهَا حِينَ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» . قَالَ: (وَوَقْتُ الظُّهْرِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الظِّلُّ مِثْلَيْهِ سِوَى فَيْءِ الزَّوَالِ) وَلَا خِلَافَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِهِ، فَالْمَذْكُورُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا صَارَ الظِّلُّ مِثْلَهُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى رِوَايَةَ أَسَدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِذَا صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ، وَلَا يَدْخُلُ وَقْتُ الْعَصْرِ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَيْهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مُهْمَلٌ. لَهُمَا إِمَامَةُ جِبْرِيلَ، وَهُوَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَمَّنِي جِبْرِيلُ مَرَّتَيْنِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِيَ الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، وَالْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كَلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَصَلَّى بِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي الظُّهْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ، وَالْعَصْرَ حِينِ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، وَقَالَ: مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَقْتٌ لَكَ وَلِأُمَّتِكَ» . وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَلَا إِبْرَادَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ، لِأَنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ قَبْلَهُ خُصُوصًا فِي الْحِجَازِ، وَكَذَا آخِرُ حَدِيثِ الْإِمَامَةِ حُجَّةٌ لَهُ؛ لِأَنَّ إِمَامَتَهُ الظُّهْرَ حِينَ صَارَ الظِّلُّ مِثْلَهُ دَلِيلُ أَنَّهُ وَقْتُ الظُّهْرِ لَا وَقْتُ الْعَصْرِ وَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ، وَإِذَا وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي خُرُوجِهِ لَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ عَلَى الِاخْتِلَافِ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَآخِرُ وَقْتِهَا مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ، وَإِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ، وَآخِرُهُ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ، وَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَآخِرُهُ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ، وَوَقْتُ الْوِتْرِ وَقْتُ الْعِشَاءِ. الْإِسْفَارُ (ف) بِالْفَجْرِ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ عَلَى الِاخْتِلَافِ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ، وَآخِرُ وَقْتِهَا مَا لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ فَاتَتْهُ الْعَصْرُ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» ، جَعَلَهَا فَائِتَةً بِالْغُرُوبِ فَدَلَّ أَنَّهُ آخِرُ وَقْتِهَا. (وَإِذَا غَابَتِ الشَّمْسُ دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ) لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَوَّلُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ حِينَ تَسْقُطُ الشَّمْسُ» ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. (وَآخِرُهُ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبِ الشَّفَقُ» ، وَالشَّفَقُ: الْبَيَاضُ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَ الْحُمْرَةِ. وَقَالَا: هُوَ الْحُمْرَةُ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَسَدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ نَقَلَ عَنِ الْخَلِيلِ، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ كَذَلِكَ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَآخِرُ وَقْتِ الْمَغْرِبِ إِذَا اسْوَدَّ الْأُفُقُ» . وَعَنْ ثَعْلَبٍ أَنَّهُ الْبَيَاضُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ وَعَائِشَةَ وَمُعَاذٍ. (وَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ دَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ) بِلَا خِلَافٍ. (وَآخِرُهُ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَآخِرُ وَقْتِ الْعِشَاءِ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ» . (وَوَقْتُ الْوِتْرِ وَقْتُ الْعِشَاءِ) إِلَّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَقْدِيمِ الْعِشَاءِ. وَقَالَا: أَوَّلُ وَقْتِ الْوَتْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَآخِرُهُ مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَتِهَا، فَعِنْدَهُ هِيَ وَاجِبَةٌ، وَالْوَقْتُ إِذَا جَمَعَ صَلَاتَيْنِ وَاجِبَتَيْنِ فَهُوَ وَقْتُهُمَا، وَإِنْ أُمِرَ بِتَقْدِيمِ إِحْدَاهُمَا كَالْوَقْتِيَّةِ وَالْفَائِتَةِ، وَعِنْدَهُمَا هِيَ سُنَّةٌ فَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِالْفَرَاغِ مِنَ الْفَرْضِ كَسَائِرِ السُّنَنِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً فَصَلُّوهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَلَا وَهِيَ الْوَتْرُ» . [الْأَوْقَاتُ الْمُسْتَحَبَّةُ لِلصَّلَاةِ وَيُسْتَحَبُّ] فَصْلٌ (وَيُسْتَحَبُّ الْإِسْفَارُ بِالْفَجْرِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «نَوِّرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» . وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: يَبْدَأُ بِالتَّغْلِيسِ، وَيَخْتِمُ بِالْإِسْفَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وَالْإِبْرَادُ (ف) بِالظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ، وَتَقْدِيمُهَا فِي الشِّتَاءِ، وَتَأْخِيرُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرِ الشَّمْسُ، وَتَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ، وَتَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إِلَى مَا قَبْلَ ثُلُثِ اللَّيْلِ وَيُسْتَحَبُّ فِي الْوِتْرِ آخِرُ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِالِانْتِبَاهِ أَوْتَرَ أَوَّلَهُ، وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ، وَتَعْجِيلُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ يَوْمَ الْغَيْمِ. فَصْلٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ (ف) وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ (ف) عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَزَوَالِهَا وَغُرُوبِهَا   [الاختيار لتعليل المختار] جَمْعًا بَيْنَ أَحَادِيثِ التَّغْلِيسِ وَالْإِسْفَارِ. (وَالْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ فِي الصَّيْفِ) لِمَا رَوَيْنَا. (وَتَقْدِيمُهَا فِي الشِّتَاءِ) لِحَدِيثِ أَنَسٍ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ بَكَّرَ بِالظُّهْرِ، وَإِذَا كَانَ الصَّيْفُ أَبْرَدَ بِهَا» . قَالَ: (وَتَأْخِيرُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَتَغَيَّرِ الشَّمْسُ) لِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِتَأْخِيرِ الْعَصْرِ» . وَرَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى شَيْءٍ كَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى تَأْخِيرِ الْعَصْرِ، وَالتَّبْكِيرِ بِالْمَغْرِبِ، وَالتَّنْوِيرِ بِالْفَجْرِ» ، وَالْمُعْتَبَرُ تَغَيُّرُ الْقُرْصِ لَا الضَّوْءُ الَّذِي عَلَى الْحِيطَانِ. قَالَ: (وَتَعْجِيلُ الْمَغْرِبِ) وَفِي الزَّمَانِ كُلِّهِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ» . قَالَ: (وَتَأْخِيرُ الْعِشَاءِ إِلَى مَا قَبْلَ ثُلُثِ اللَّيْلِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ، وَتَأْخِيرُهَا إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ مُبَاحٌ، وَإِلَى مَا بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يُقَلِّلُ الْجَمَاعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ. قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ فِي الْوِتْرِ آخِرُ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يَثِقْ بِالِانْتِبَاهِ أَوْتَرَ أَوَّلَهُ) لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ خَافَ أَنْ لَا يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ آخِرَهُ، فَإِنَّ صَلَاةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَحْضُورَةُ الْمَلَائِكَةِ» ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ. قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ، وَتَعْجِيلُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ يَوْمَ الْغَيْمِ) أَمَّا الْفَجْرُ فَلِمَا رَوَيْنَا، وَأَمَّا الظُّهْرُ فَلِئَلَّا يَقَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِئَلَّا يَقَعَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، وَأَمَّا تَعْجِيلُ الْعَصْرِ فَلِئَلَّا يَقَعَ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَلِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ لِمَجِيءِ الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ. [فصل الْأَوْقَاتُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ] فَصْلٌ (لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ، وَسَجْدَةُ التِّلَاوَةِ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَزَوَالِهَا وَغُرُوبِهَا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ (ف) الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ، وَلَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِأَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَلَا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ (ف) ، وَلَا إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ (ف)   [الاختيار لتعليل المختار] لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: «ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُصَلِّيَ فِيهَا وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا: عَنَدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَعِنْدَ زَوَالِهَا حَتَّى تَزُولَ، وَحِينَ تَضَيَّفُ لِلْغُرُوبِ حَتَّى تَغْرُبَ» ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَنْ نَقْبُرَ: صَلَاةُ الْجِنَازَةِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ مِنَ السَّاعَاتِ سَاعَاتٌ أَفْضَلُ مِنَ الْأُخْرَى؟ قَالَ: " جَوْفُ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ أَفْضَلُ فَإِنَّهَا مُتَقَبَّلَةٌ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ، ثُمَّ انْتَهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَمَا دَامَتْ كَالْحَجَفَةِ فَأَمْسِكْ حَتَّى تُشْرِقَ، فَإِنَّهَا تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ وَيَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ فَإِنَّهَا مَشْهُودَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ حَتَّى يَقُومَ الْعَمُودُ عَلَى ظِلِّهِ ثُمَّ انْتَهِ فَإِنَّهَا سَاعَةٌ يُسَجَّرُ فِيهَا الْجَحِيمُ ثُمَّ صَلِّ إِذَا زَالَتْ إِلَى الْعَصْرِ ثُمَّ انْتَهِ فَإِنَّهَا تَغِيبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وَيَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ» . قَالَ: (إِلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ عِنْدَ الْغُرُوبِ) لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْءُ الْقَائِمُ مِنَ الْوَقْتِ كَمَا بَيَّنَّا فَقَدْ أَدَّاهَا كَمَا وَجَبَتْ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَهَا» . وَقَالَ: (وَلَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ) لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ» : وَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ الْفَوَائِتَ وَيَسْجُدَ لِلتِّلَاوَةِ وَلَا يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَهُوَ شَغْلُ جَمِيعِ الْوَقْتِ بِالْفَرْضِ، إِذْ ثَوَابُ الْفَرْضِ أَعْظَمُ، فَلَا يَظْهَرُ النَّهْيُ فِي حَقِّ فَرْضٍ مِثْلِهِ، وَظَهَرَ فِي رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ لِأَنَّهُ دُونَهُ، قَالَ: (وَلَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِأَكْثَرَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَلَا قَبْلَ الْمَغْرِبِ، وَلَا قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَفِي الثَّانِي تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ. (وَلَا إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» . قَالَ: (وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أَيْ مُؤَقَّتًا، وَفِي الْجَمْعِ تَغْيِيرُ الْوَقْتِ، وَيَجُوزُ الْجَمْعُ فِعْلًا لَا وَقْتًا، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 إِلَّا بعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ. بَابُ الْأَذَانِ وَصِفَتُهُ مَعْرُوفَةٌ وَلَا تَرْجِيعَ فِيهِ، وَالْإِقَامَةُ مِثْلُهُ (ف) ، وَيَزِيدُ فِيهَا بَعْدَ   [الاختيار لتعليل المختار] جَمَعَ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ» ، وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إِلَى آخَرِ وَقْتِهَا، وَيُقَدِّمُ الْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. قَالَ: (إِلَّا بِعَرَفَةَ) بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ. (وَالْمُزْدَلِفَةُ) بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَسَيَأْتِيكَ فِي الْمَنَاسِكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [بَابُ الْأَذَان والإقامة] بَابُ الْأَذَانِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْإِعْلَامِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] . وَفِي الشَّرْعِ: الْإِعْلَامُ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَعْلُومَةٍ مَأْثُورَةٍ عَلَى صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ سُنَّةٌ مُحْكَمَةٌ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَوْمٍ صَلُّوا فِي الْمِصْرِ بِجَمَاعَةٍ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَإِقَامَةٍ: خَالَفُوا السُّنَّةَ وَأَثِمُوا، وَقِيلَ: هُوَ وَاجِبٌ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ لَقَاتَلْتُهُمْ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْوَاجِبِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَنَّ السُّنَّةَ الْمُؤَكَّدَةَ كَالْوَاجِبِ فِي الْإِثْمِ بِتَرْكِهَا، وَإِنَّمَا يُقَاتِلُ عَلَى تَرْكِهِ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْإِسْلَامِ وَشَعَائِرِهِ. (وَصِفَتُهُ مَعْرُوفَةٌ) وَهِيَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. هَكَذَا حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ أَذَانَ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَوَافَقَهُ عُمَرُ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلِّمْهُ بِلَالًا فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْكَ صَوْتًا» وَعَلَّمَهُ فَكَانَ يُؤَذِّنُ بِهِ. قَالَ: (وَلَا تَرْجِيعَ فِيهِ) لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ رَوَوْا أَذَانَ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْأَذَانِ لَمْ يَرْوُوا التَّرْجِيعَ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ قَالْوا: ثُمَّ صَبَرَ هُنَيْهَةً ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَزَادَ فِيهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ، وَلَا تَرْجِيعَ فِي الْإِقَامَةِ إِجْمَاعًا، وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَقَّنَ أَبَا مَحْذُورَةَ الْأَذَانَ وَأَمَرَهُ بِالتَّرْجِيعِ» فَإِنَّهُ كَانَ تَعْلِيمًا، وَالتَّعْلِيمُ غَالِبًا يَرْجِعُ فِيهِ لِلْحِفْظِ فَظَنَّهُ مِنَ الْأَذَانِ، وَالتَّرْجِيعُ أَنْ يَخْفِضَ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَرْفَعُ بِهِمَا صَوْتَهُ. قَالَ: " وَالْإِقَامَةُ مِثْلُهُ، وَيَزِيدُ فِيهَا بَعْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ، وَهُمَا سُنَّتَانِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ، يَزِيدُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْفَلَاحِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَيُرَتِّلُ الْأَذَانَ، وَيَحْدُرُ الْإِقَامَةَ، وَيَسْتَقْبِلُ بِهِمَا الْقِبْلَةَ، وَيَجْعَلُ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَيُحَوِّلُ وَجْهَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا بِالصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ، وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا فِي الْمَغْرِبِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَذَانَ خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً، وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً» قَالَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ: أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ. قَالَ: (وَهُمَا سُنَّتَانِ لِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ) ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاظَبَ عَلَيْهِمَا فِيهَا، وَلِأَنَّ لَهَا أَوْقَاتًا مَعْلُومَةً، وَتُؤَدَّى فِي الْجَمَاعَاتِ فَتَحْتَاجُ إِلَى الْإِعْلَامِ وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَنْ صَلَّى فِي بَيْتِهِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ جَازَ، وَإِنْ فَعَلَ فَحَسَنٌ. أَمَّا الْجَوَازُ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ذَلِكَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي دَارِهِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَيَقُولُ: يَجْزِينَا أَذَانُ الْمُقِيمِينَ حَوْلَنَا وَفِعْلُهُ أَفْضَلٌ لِأَنَّهُمَا أَذْكَارٌ تَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَذْكَارِ. قَالَ: (وَيَزِيدُ فِي أَذَانِ الْفَجْرِ بَعْدَ الْفَلَاحِ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ بِلَالًا أَتَى بَابَ حُجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعْلِمَهُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَهُوَ رَاقِدٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَحْسَنَ هَذَا، اجْعَلْهُ فِي أَذَانِكَ» ، وَتَوَارَثَتْهُ الْأُمَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَلَا تَثْوِيبَ فِي غَيْرِ أَذَانِ الْفَجْرِ لِقَوْلِ بِلَالٍ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا بِلَالُ ثَوِّبْ بِالْفَجْرِ وَلَا تُثَوِّبْ فِي غَيْرِهَا» ، وَلِأَنَّ الْفَجْرَ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِلْأُمَرَاءِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ نَصَبَ مَنْ يُعْلِمُهُ بِأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ; قِيلَ: وَكَذَلِكَ الْقَاضِي وَالْمُفْتِي وَكُلُّ مَنْ يَشْتَغِلُ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ ; وَقِيلَ: فِي زَمَانِنَا يُثَوِّبُ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِظُهُورِ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَالتَّثْوِيبُ: زِيَادَةُ الْإِعْلَامِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِمَا يَتَعَارَفُهُ أَهْلُ كُلِّ بَلْدَةٍ. قَالَ: (وَيُرَتِّلُ الْأَذَانَ وَيَحْدُرُ الْإِقَامَةَ) بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَالًا. (وَيَسْتَقْبِلُ بِهِمَا الْقِبْلَةَ) لِحَدِيثِ النَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ اسْتَقْبَلَ بِهِمَا الْقِبْلَةَ. (وَيَجْعَلُ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ) بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ بِلَالًا وَقَالَ: «إِنَّهُ أَنْدَى لِصَوْتِكَ» . (وَيُحَوِّلُ وَجْهَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا بِالصَّلَاةِ وَالْفَلَاحِ) وَقَدَمَاهُ مَكَانَهُمَا هَكَذَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِ بِلَالٍ، وَلِأَنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّاسِ فَيُوَاجِهُهُمْ بِهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ تَكْبِيرٌ وَتَهْلِيلٌ. قَالَ: (وَيَجْلِسُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ إِلَّا فِي الْمَغْرِبِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَيُكْرَهُ التَّلْحِينُ فِي الْأَذَانِ، وَإِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَامَ الْإِمَامُ وَالْجَمَاعَةُ، وَإِذَا قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ كَبَّرُوا، وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ غَائِبًا أَوْ هُوَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَقُومُونَ حَتَّى يَحْضُرَ، وَيُؤَذِّنُ لِلْفَائِتَةِ وَيُقِيمُ، وَلَا يُؤَذِّنُ لِصَلَاةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ عَلَى طَهَارَةٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَقَالَا: يَجْلِسُ فِي الْمَغْرِبِ جِلْسَةً خَفِيفَةً؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا سُنَّةٌ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ يَكْتَفِي فِي الْمَغْرِبِ بِالْجِلْسَةِ الْخَفِيفَةِ تَحَرُّزًا عَنِ التَّأْخِيرِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْمُبَادَرَةُ وَفِي الْجِلْسَةِ التَّأْخِيرُ، وَالْفَصْلُ يَحْصُلُ بِالسُّكُوتِ بَيْنَهُمَا مِقْدَارَ ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ يَحْصُلُ بِاخْتِلَافِ الْمَوْقِفِ وَالنَّغَمَةِ. (وَيُكْرَهُ التَّلْحِينُ فِي الْأَذَانِ) لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ. (وَإِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ قَامَ الْإِمَامُ وَالْجَمَاعَةُ) إِجَابَةً لِلدُّعَاءِ. (وَإِذَا قَالَ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ كَبَّرُوا) تَصْدِيقًا لَهُ، إِذْ هُوَ أَمِينُ الشَّرْعِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُكَبِّرُوا حَتَّى يَفْرُغَ لِيُدْرِكَ الْمُؤَذِّنُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ. (وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ غَائِبًا أَوْ هُوَ الْمُؤَذِّنُ لَا يَقُومُونَ حَتَّى يَحْضُرَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي قُمْتُ مَقَامِي» وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْقِيَامِ. (وَيُؤَذِّنُ لِلْفَائِتَةِ وَيُقِيمُ) هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الصُّبْحِ لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ. قَالَ: (وَلَا يُؤَذِّنُ لِصَلَاةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا) لِأَنَّهُ شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِالْوَقْتِ وَفِي ذَلِكَ تَضْلِيلٌ، وَإِنْ أَذَّنَ أَعَادَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُعِيدُ فِي الْفَجْرِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِبِلَالٍ: «لَا تُؤَذِّنْ حَتَّى يَسْتَبِينَ لَكَ الْفَجْرُ هَكَذَا وَمَدَّ يَدَهُ عَرْضًا» ، وَأَذَانُ بِلَالٍ لَمْ يَكُنْ لِلصَّلَاةِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ لِيَرْكَعَ قَائِمُكُمْ، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ، وَيَتَسَحَّرَ صِائِمُكُمْ» ، وَالْكَلَامُ فِي الْأَذَانِ لِلصَّلَاةِ. قَالَ: (وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ) وَلَا يَرُدُّ السَّلَامَ؛ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالتَّعْظِيمِ وَيُغَيِّرُ النَّظْمَ. (وَيُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ عَلَى طَهَارَةٍ) لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، فَتُسْتَحَبُّ فِيهِ الطَّهَارَةُ كَالْقُرْآنِ، فَإِذَا أَذَّنَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ جَازَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَيُكْرَهُ، وَقِيلَ: لَا يُكْرَهُ، وَقِيلَ: لَا تُكْرَهُ الْإِقَامَةُ أَيْضًا; وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا تُكْرَهُ؛ لِئَلَّا يُفْصَلَ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَا يُعِيدُ، وَيُسْتَحَبُّ إِعَادَةُ أَذَانِ الْجُنُبِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَرْأَةِ لِيَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ، وَلَا تُعَادُ الْإِقَامَةُ لِأَنَّ تَكْرَارَهَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَيُكْرَهُ الْأَذَانُ قَاعِدًا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمُتَوَارَثِ، وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ فَاجِرًا، أَوْ يَأْخُذَ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صَالِحًا تَقَيًّا عَالِمًا بِالسُنَّةِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ، مُوَاظِبًا عَلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 بَابُ مَا يُفْعَلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَهِيَ سِتُّ فَرَائِضَ: طَهَارَةُ الْبَدَنِ مِنَ النَّجَاسَتَيْنِ، وَطَهَارَةُ الثَّوْبِ، وَطَهَارَةُ الْمَكَانِ، وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةُ، وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا تَحْتَ سُرَّتِهِ إِلَى تَحْتِ رُكْبَتَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَبَطْنُهَا وَظَهْرُهَا عَوْرَةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ مَا يُفْعَلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ] ِ (وَهِيَ سِتُّ فَرَائِضَ: طَهَارَةُ الْبَدَنِ مِنَ النَّجَاسَتَيْنِ، وَطَهَارَةُ الثَّوْبِ، وَطَهَارَةُ الْمَكَانِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَالنِّيَّةُ) أَمَّا طَهَارَةُ الْبَدَنِ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ» الْحَدِيثَ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ مِنَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّي» ، يُوجِبُ الطَّهَارَةَ عَنِ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. وَأَمَّا طَهَارَةُ الثَّوْبِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] . وَأَمَّا الْمَكَانُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . وَأَمَّا سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] قَالَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ: هُوَ مَا يُوَارِي الْعَوْرَةَ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ: قَمِيصٍ وَإِزَارٍ وَعِمَامَةٍ، وَلَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَتَوَشَّحُ بِهِ جَازَ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَوَ كُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟» حِينَ سُئِلَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُتَوَشِّحًا بِهِ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ» ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ إِلَّا أَنْ تَسْتُرَ بِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ رَأْسَهَا وَجَمِيعَ بَدَنِهَا. وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي السَّرَاوِيلِ وَحْدَهُ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الصَّلَاةُ فِي السَّرَاوِيلِ يُشْبِهُ فِعْلَ أَهَّلِ الْجَفَاءِ، وَفِي الثَّوْبِ يُتَوَشَّحُ بِهِ أَبْعَدُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَفِي قَمِيصٍ وَرِدَاءٍ عَادَةُ النَّاسِ. قَالَ: (وَعَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا تَحْتَ سُرَّتِهِ إِلَى تَحْتِ رُكْبَتِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا دُونَ سُرَّتِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ رُكْبَتَيْهِ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الرُّكْبَةُ مِنَ الْعَوْرَةِ» وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ مُلْتَقَى عَظْمِ السَّاقِ وَالْفَخِذِ، فَقُلْنَا بِكَوْنِهَا عَوْرَةً احْتِيَاطًا. قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ) بَلْ أَوْلَى. (وَبَطْنُهَا وَظَهْرُهَا عَوْرَةٌ) لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ مُشْتَهًى، فَأَشْبَهَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَجَمِيعُ بَدَنِ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا ; وَفِي الْقَدَمِ رِوَايَتَانِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُزِيلُ بِهِ النَّجَاسَةَ صَلَّى مَعَهَا وَلَمْ يُعِدْ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا صَلَّى عُرْيَانًا قَاعِدًا مُومِيًا، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِيَامِ، وَمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْكَعْبَةِ يَتَوَجَّهُ إِلَى عَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَ نَائِيًا عَنْهَا يَتَوَجَّهُ إِلَى جِهَتِهَا، وَإِنْ كَانَ خَائِفًا يُصَلِّي إِلَى أَيِّ جِهَةٍ قَدَرَ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَالرُّكْبَةِ، وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْأَمَةِ. قَالَ: (وَجَمِيعُ بَدَنِ الْحُرَّةِ عَوْرَةٌ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحُرَّةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ» . قَالَ: (إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ. وَمِنْ ضَرُورَةِ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ إِبْدَاءُ مَوْضِعِهَا، فَالْكُحْلُ زِينَةُ الْوَجْهِ، وَالْخَاتَمُ زِينَةُ الْكَفِّ، وَلِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى كَشْفِ ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةٌ. (وَفِي الْقَدَمِ رِوَايَتَانِ) الصَّحِيحُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِعَوْرَةٍ فِي الصَّلَاةِ، وَعَوْرَةٌ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَلَوِ انْكَشَفَ ذِرَاعُهَا جَازَتْ صَلَاتُهَا، لِأَنَّهَا مِنَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَهُوَ السُّوَارُ، وَتَحْتَاجُ إِلَى كَشْفِهِ فِي الْخِدْمَةِ كَالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ، وَسَتْرُهُ أَفْضَلُ. وَالْعَوْرَةُ عَوْرَتَانِ: غَلِيظَةٌ وَهِيَ السَّوْءَتَانِ، وَخَفِيفَةٌ وَهِيَ مَا سِوَاهُمَا، فَالْمَانِعُ مِنَ الْغَلِيظَةِ مَا تَبْدُو زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَفِي الْخَفِيفَةِ رُبُعُ الْعُضْوِ كَمَا فِي النَّجَاسَاتِ، وَالذَّكَرُ عُضْوٌ بِانْفِرَادِهِ، وَكَذَلِكَ الْأُنْثَيَانِ. قَالَ: (وَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يُزِيلُ بِهِ النَّجَاسَةَ صَلَّى مَعَهَا وَلَمْ يُعِدْ) لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، فَإِنْ كَانَ الطَّاهِرُ رُبُعَ الثَّوْبِ أَوْ أَكْثَرَ صَلَّى فِيهِ وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا؛ لِأَنَّ الرُّبُعَ قَائِمٌ مَقَامِ الْكُلِّ شَرْعًا عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الرُّبُعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا وَاحِدًا، وَالْعُرْيَانُ يَتْرُكُ فُرُوضًا. وَقَالَا: يَتَخَيَّرُ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ أَفْضَلُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا وَمَعَ النَّجَاسَةِ مَانِعٌ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الصَّلَاةِ وَخَارِجَهَا فَكَانَ أَوْلَى. قَالَ: (وَمَنْ لَمْ يَجِدْ ثَوْبًا صَلَّى عُرْيَانًا قَاعِدًا مُومِيًا، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْقِيَامِ) لِأَنَّهُ ابْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَيَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ، إِلَّا أَنَّ الْقُعُودَ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْإِيمَاءَ خَلَفٌ عَنِ الْأَرْكَانِ وَلَا خَلَفَ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْا كَذَلِكَ. (وَ) أَمَّا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] فَكُلُّ. (مَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْكَعْبَةِ يَتَوَجَّهُ إِلَى عَيْنِهَا، وَإِنْ كَانَ نَائِيًا عَنْهَا يَتَوَجَّهُ إِلَى جِهَتِهَا) لِقِيَامِ الْجِهَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ مَقَامَ عَيْنِهَا ; لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ خَائِفًا يُصَلِّي إِلَى أَيِّ جِهَةٍ قَدَرَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] وَيَسْتَوِي فِيهِ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ وَالسَّبُعِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَلَى خَشَبَةٍ فِي الْبَحْرِ يَخَافُ إِنْ تَوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ غَرِقَ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وَإِنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُهُ اجْتَهَدَ وَصَلَّى وَلَا يُعِيدُ (ف) وَإِنْ أَخْطَأَ، فَإِنْ عَلِمَ بِالْخَطَأِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ وَبَنَى، وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَأَخْطَأَ أَعَادَ، وَيَنْوِي الصَّلَاةَ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا نِيَّةً مُتَّصِلَةً بِالتَّحْرِيمَةِ، وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ بِقَلْبِهِ أَيَّ صَلَاةٍ هِيَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِاللِّسَانِ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِالْعُذْرِ، وَالْقِبْلَةُ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ وَالْهَوَاءُ مِنْ هُنَاكَ إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْبِنَاءِ لِأَنَّهُ يُنْقَلُ، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إِلَى حِجَارَتِهِ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلٍ أَعْلَى مِنَ الْكَعْبَةِ جَازَ، فَدَلَّ أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِالْبِنَاءِ. قَالَ: (وَإِنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُ اجْتَهَدَ وَصَلَّى، وَلَا يُعِيدُ وَإِنْ أَخْطَأَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْقِبْلَةُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِلَى جِهَةٍ وَخَطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَجَدُوا الْخُطُوطَ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، فَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: تَمَّتْ صَلَاتُكُمْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا إِعَادَةَ عَلَيْكُمْ» ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إِلَى جِهَةِ التَّحَرِّي إِذِ التَّكْلِيفُ بِقَدْرِ الْوُسْعِ. قَالَ: (فَإِنْ عَلِمَ بِالْخَطَأِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارَ وَبَنَى) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ لَمَّا بَلَغَهُمْ نَسَخُ الْقِبْلَةِ وَهُمْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرَ اسْتَدَارُوا إِلَيْهَا» ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ بِالْقِبْلَةِ صَارَ فَرْضُهُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا فَيَسْتَدِيرُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَحْسَنَ فِعْلَ أَهْلِ قُبَاءَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ. قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ فَأَخْطَأَ أَعَادَ) وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ يَسْأَلُهُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ ; لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبَ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّحَرِّي وَالسُّؤَالِ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَصَابَ فَلَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ لِوُجُودِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَلَوْ شَرَعَ لَا بِالتَّحَرِّي ثُمَّ عَلِمَ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَصَابَ يَسْتَأْنِفُ التَّحْرِيمَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَمْضِي فِيهَا، لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَهَا يَسْتَأْنِفُ إِلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَلَهُمَا أَنَّ حَالَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ أَقْوَى لِتَيَقُّنِهِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ، وَلِهَذَا قُلْنَا: الْمُومِي إِذَا قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا يَبْنِي، لِأَنَّهُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ كَذَا هُنَا، وَمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ فَصَلَّى إِلَى غَيْرِهَا فَسَدَتْ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ جَائِزَةٌ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ إِصَابَةُ الْقِبْلَةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ تَرَكَ فَرْضًا لَزِمَهُ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ وَهُوَ الصَّلَاةُ إِلَى جِهَةِ التَّحَرِّي، فَصَارَ كَمَا إِذَا تَرَكَ النِّيَّةَ وَنَحْوَهَا. وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ» ، وَلِأَنَّهُ لَا إِخْلَاصَ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْإِخْلَاصِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . قَالَ: (وَيَنْوِي الصَّلَاةَ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا نِيَّةً مُتَّصِلَةً بِالتَّحْرِيمَةِ، وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ بِقَلْبِهِ أَيُّ صَلَاةٍ هِيَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِاللِّسَانِ) لِأَنَّ النِّيَّةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا يَنْوِي فَرْضَ الْوَقْتِ وَالْمُتَابَعَةَ. بَابُ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ وَيَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَخْشَعَ فِي صَلَاتِهِ وَيَكُونَ نَظَرُهُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ، وَمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَمَلُ الْقَلْبِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ فَرْضٌ، وَذِكْرُهَا بِاللِّسَانِ سُنَّةٌ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ ; وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَنْوِيَ مُقَارِنًا لِلشُّرُوعِ: أَيْ مُخَالِطًا لِلتَّكْبِيرِ كَمَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ يُرِيدُ الْفَرْضَ فِي جَمَاعَةٍ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْإِمَامِ كَبَّرَ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى نِيَّتِهِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى تَحْقِيقِ مَا نَوَى، ثُمَّ إِنْ كَانَ يُرِيدُ التَّطَوُّعَ يَكْفِيهِ نِيَّةُ أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَفِي الْقَضَاءِ يُعَيِّنُ الْفَرْضَ، وَفِي الْوَقْتِيَّةِ يَنْوِي فَرْضَ الْوَقْتِ أَوْ ظَهْرَ الْوَقْتِ. (وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا يَنْوِي فَرْضَ الْوَقْتِ وَالْمُتَابَعَةَ) أَوْ يَنْوِي الشُّرُوعَ فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ أَوْ يَنْوِي الِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ فِي صَلَاتِهِ. [بَابُ الْأَفْعَالِ فِي الصَّلَاةِ] ِ قَالَ: (وَيَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَخْشَعَ فِي صَلَاتِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى كَانَ لِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ» . (وَيَكُونُ نَظَرُهُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا يُجَاوِزُ بَصَرُهُ فِي صَلَاتِهِ مَوْضِعَ سُجُودِهِ تَخَشُّعًا لِلَّهِ تَعَالَى» ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ مِنْ إِرْسَالِ الطَّرْفِ يَمِينًا وَشِمَالًا. قَالَ: (وَمَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ كَبَّرَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ» ، وَيَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ وَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَإِنِ افْتَتَحَ بِلَفْظٍ آخَرَ يَشْتَمِلُ عَلَى الثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ كَالتَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ أَوْ بِاسْمٍ آخَرَ كَقَوْلِهِ الرَّحْمَنُ أَكْبَرُ أَجْزَأَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ الْأَكْبَرُ، اللَّهُ الْكَبِيرُ، اللَّهُ كَبِيرٌ، إِلَّا أَنْ لَا يُحْسِنُهُ ; لِأَنَّ الْمُتَوَارَثَ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَأَفْعَلُ وَفَعِيلٌ سَوَاءٌ فِي صِفَاتِهِ تَعَالَى. وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] نَزَلَتْ فِي تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ فَقَدِ اعْتَبَرَ مُطْلَقَ الذِّكْرِ، وَتَقْيِيدُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ. وَلَوِ افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ اللَّهُ أَوِ الرَّحْمَنُ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِوُجُودِ الذِّكْرِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِ الصِّفَةَ كَقَوْلِهِ أَجَلُّ أَوْ أَعْظَمُ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ وَمَعْنَاهُ: يَا اللَّهُ، وَالْمِيمُ الْمُشَدَّدَةُ خَلَفٌ عَنِ النِّدَاءِ، وَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْظِيمٍ خَالِصٍ، وَلَوِ افْتَتَحَ الْأَخْرَسُ وَالْأُمِّيُّ بِالنِّيَّةِ جَازَ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُكَبِّرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ لِيُحَاذِيَ إِبْهَامَاهُ شَحْمَتَيْ (ف) أُذُنَيْهِ، وَلَا يَرْفَعُهُمَا (ف) فِي تَكْبِيرَةٍ سِوَاهَا، ثُمَّ يَعْتَمِدُ بِيَمِينِهِ عَلَى رُسْغِ يَسَارِهِ تَحْتَ سُرَّتِهِ (ف) وَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ (سف) اللَّهُمَّ إِلَى آخِرِهِ، وَيَتَعَوَّذُ   [الاختيار لتعليل المختار] الْمَأْمُومُ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا بَعْدَهُ، وَفِي السَّلَامِ بَعْدَهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّكْبِيرَ شُرُوعٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَالْمُسَارَعَةُ إِلَيْهِ أَفْضَلُ، وَالسَّلَامُ خُرُوجٌ مِنْهَا، فَالْإِبْطَاءُ أَفْضَلُ، وَيَحْذِفُ التَّكْبِيرَ وَهُوَ السُّنَّةُ، وَلِأَنَّ الْمَدَّ فِي أَوَّلِهِ كُفْرٌ لِكَوْنِهِ اسْتِفْهَامًا، وَفِي آخِرِهِ لَحْنٌ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةِ. قَالَ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ لِيُحَاذِي إِبْهَامَاهُ شَحْمَتَيْ أُذُنَيْهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَائِلِ بْنِ حُجْرٍ: «إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلَاةَ فَارْفَعْ يَدَيْكَ حِذَاءَ أُذُنَيْكَ» ، وَهُوَ أَنْ يَرْفَعَهُمَا مَنْصُوبَتَيْنِ حَتَّى تَكُونَ الْأَصَابِعُ مَعَ الْكَفِّ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَلَا يُفَرِّجُ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وَهَكَذَا تَكْبِيرَةُ الْقُنُوتِ وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ. (وَلَا يَرْفَعُهُمَا فِي تَكْبِيرَةٍ سِوَاهَا) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إِلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» ، وَذَكَرَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ، وَأَرْبَعًا فِي الْحَجِّ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (ثُمَّ يَعْتَمِدُ بِيَمِينِهِ عَلَى رُسْغِ يَسَارِهِ تَحْتَ سُرَّتِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ: تَعْجِيلُ الْإِفْطَارِ، وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ، وَوَضْعُ الْيَمِينِ عَلَى الشِّمَالِ تَحْتَ السُّرَّةِ» وَالْمَرْأَةُ تَضَعُ يَدَهَا عَلَى صَدْرِهَا لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا وَيَقْبِضُ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى رُسْغَ الْيُسْرَى كُلَّمَا فَرَغَ مِنَ التَّكْبِيرِ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّعْظِيمِ، وَهَكَذَا فِي تَكْبِيرَةِ الْقُنُوتِ وَالْجِنَازَةِ لِأَنَّهُ قِيَامٌ مُمْتَدٌّ كَالْقِرَاءَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْإِرْسَالَ فِيهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، لِأَنَّهَا قَوْمَةٌ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا كَمَا بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَبَيْنَ تَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ يُرْسِلُهُمَا لِأَنَّ الْوَضْعَ لَا يُفِيدُ لِتَتَابُعِ التَّكْبِيرَاتِ. قَالَ: (وَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ إِلَى آخِرِهِ) وَزَادَ مُحَمَّدٌ وَجَلَّ ثَنَاؤُكَ وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ - وَجَّهْتُ وَجْهِيَ - إِلَى آخِرِهِ ; لِأَنَّ الْأَخْبَارَ وَرَدَتْ بِهِمَا فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَلَهُمَا مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ كَانَ إِذَا كَبَّرَ لِافْتِتَاحِ الصَّلَاةِ قَرَأَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ» إِلَى آخِرِهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ التَّوَجُّهِ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا شُرِعَ التَّسْبِيحُ نُسِخَ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الرُّكُوعِ: «رَكَعَ لَكَ ظَهْرِي» ، وَفِي السُّجُودِ: «سَجَدَ لَكَ وَجْهِي» ، فَلَمَّا نَزَلَ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] " جَعَلُوهُ فِي الرُّكُوعِ وَنَزَلَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] فَجَعَلُوهُ فِي السُّجُودِ وَنُسِخَ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ قَبْلَهُ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. قَالَ: (وَيَتَعَوَّذُ) إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مُنْفَرِدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] أَيْ إِذَا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا لَا يَتَعَوَّذُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَعَوَّذُ ; لِأَنَّ التَّعَوُّذَ تَبَعٌ لِلثَّنَاءِ وَهُوَ لِلصَّلَاةُ عِنْدَهُ فَإِنَّ التَّعَوُّذَ وَرَدَ بِهِ النَّصُّ صِيَانَةً لِلْعِبَادَةِ عَنِ الْخَلَلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وَيَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيُخْفِيهَا (ف) ، ثُمَّ إِنْ كَانَ إِمَامًا جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ وَالْأُولَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَفِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا إِنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا لَا يَقْرَأُ (ف) ، وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ، قَالَ: آمِينَ، وَيَقُولُهَا الْمَأْمُومُ وَيُخْفِيهَا (ف) ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْوَاقِعِ فِيهَا بِسَبَبِ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، وَالصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَفْعَالِ فَكَانَتْ أَوْلَى. وَعِنْدَهُمَا الِافْتِتَاحُ الْقِرَاءَةُ بِالنَّصِّ وَلَا قِرَاءَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا قَامَ الْمَسْبُوقُ لِلْقَضَاءِ يَتَعَوَّذُ عِنْدَهُمَا لِحَاجَتِهِ إِلَى الْقِرَاءَةِ، وَعِنْدَهُ لَا لِأَنَّهُ تَعَّوَذَ بَعْدَ الثَّنَاءِ. وَفِي صَلَاةِ الْعِيدِ يَتَعَوَّذُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ قَبْلَ التَّكْبِيرِ وَعِنْدَهُمَا بَعْدَهُ، وَيُخْفِي التَّعَوُّذَ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خَمْسٌ يُخْفِيهِنَّ الْإِمَامُ: التَّعَوُّذُ، وَالتَّسْمِيَةُ، وَالتَّأْمِينُ، وَرَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَالتَّشَهُّدُ» . قَالَ (وَيَقْرَأُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَؤُهَا. قَالَ: (وَيُخْفِيهَا) لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَكَانُوا يَفْتَتِحُونَ الْقِرَاءَةَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «كَانُوا يُخْفُونَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَهُ يَجْهَرُ بِهَا فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِيَّاكَ وَالْحَدَثَ فِي الْإِسْلَامِ، صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَلْفَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانُوا لَا يَجْهَرُونَ بِالتَّسْمِيَةِ، فَإِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ فَقُلِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] » . قَالَ: (ثُمَّ إِنْ كَانَ إِمَامًا جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْفَجْرِ وَالْأَوَّلَيَيْنِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَفِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ) هَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُتَوَارَثُ مِنْ لَدُنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. وَيُخْفِي فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ» ، وَلِأَنَّهُ الْمَأْثُورُ الْمُتَوَارَثُ. (وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا إِنْ شَاءَ جَهَرَ) لِأَنَّهُ إِمَامُ نَفْسِهِ. (وَإِنْ شَاءَ خَافَتَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْمِعَ غَيْرَهُ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ عَلَى هَيْئَةِ الْجَمَاعَةِ صَلَّى خَلْفَهُ صُفُوفٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ» . قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا لَا يَقْرَأُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: نَزَلَتْ فِي الصَّلَاةِ خَاصَّةً حِينِ كَانُوا يَقْرَءُونَ خَلْفَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ مَأْمُومًا فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» . وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قِرَاءَةَ خَلْفَ الْإِمَامِ» . (وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ، قَالَ: آمِينَ، وَيَقُولُهَا الْمَأْمُومُ وَيُخْفِيهَا) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا الضَّالِّينَ - فَقُولُوا: آمِينَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا» . وَرَوَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِخْفَاءَ، وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ كَبَّرَ وَرَكَعَ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُ ظَهْرَهُ، وَلَا يَرْفَعُ رَأَسَهُ وَلَا يُنَكِّسُهُ، وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَيَقُولُ الْمُؤْتَمُّ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ (سم ف) ، ثُمَّ يُكَبِّرُ، وَيَسْجُدُ عَلَى أَنْفِهِ وَجَبْهَتِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: (فَإِذَا أَرَادَ الرُّكُوعَ كَبَّرَ) «لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ» . قَالَ: (وَرَكَعَ) «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ: ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ ارْكَعْ» ، وَالرُّكُوعُ يَتَحَقَّقُ بِمَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ ; لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْحِنَاءِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ إِلَى حَالِ الْقِيَامِ أَقْرَبَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ إِلَى حَالِ الرُّكُوعُ أَقْرَبَ جَازَ. قَالَ: (وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَيُفَرِّجُ أَصَابِعَهُ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إِذَا رَكَعْتَ فَضَعْ يَدَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ وَفَرِّقْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ» ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنُ فِي أَخْذِ الرُّكْبَةِ. (وَيَبْسُطُ ظَهْرَهُ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ إِذَا رَكَعَ لَوْ وُضِعَ عَلَى ظَهْرِهِ قَدَحُ مَاءٍ لَاسْتَقَرَّ» . (وَلَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَلَا يُنَكِّسُهُ) كَمَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِنَهْيِهِ عَنْ تَدْبِيحٍ كَتَدْبِيحِ الْحِمَارِ ". (وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا رَكَعَ أَحَدُكُمْ وَقَالَ فِي رُكُوعِهِ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ ثَلَاثًا فَقَدْ تَمَّ رُكُوعُهُ» ، وَذَلِكَ أَدْنَاهُ، وَإِنْ زَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْإِمَامِ التَّطْوِيلُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْفِيرِ الْجَمَاعَةِ. (ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَقُولُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَيَقُولُ الْمُؤْتَمُّ: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ) أَوِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ، وَبِهِمَا وَرَدَ الْأَثَرُ، وَلَا يَجْمَعُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَا: يَجْمَعُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ؛ لِئَلَّا يَكُونَ تَارِكًا مَا خَصَّ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، وَلَيْسَ لَنَا ذِكْرٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْمَأْمُومُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا قَالَ الْإِمَامُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، قُولُوا: رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ» ، قَسَّمَ الذِّكْرَيْنِ بَيْنَهُمَا فَيُنَافِي الشَّرِكَةَ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَتَى بِالتَّحْمِيدِ يَتَأَخَّرُ عَنْ قَوْلِ الْمَأْمُومِ فَيَصِيرُ الْإِمَامُ تَبَعًا وَلَا يَجُوزُ، وَالْمُنْفَرِدُ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَأْتِي بِالتَّسْمِيعِ لَا غَيْرَ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ: بِالتَّحْمِيدِ لَا غَيْرَ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ. (ثُمَّ يُكَبِّرُ) كَمَا تَقَدَّمَ. (وَيَسْجُدُ عَلَى أَنْفِهِ وَجَبْهَتِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَنْفِ جَازَ وَقَدْ أَسَاءَ. وَقَالَا: لَا يَجُوزُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْجَبْهَةِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إِسَاءَةَ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَيَضَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ (زف) ، وَيُبْدِي ضَبْعَيْهِ، وَيُجَافِي بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ، وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ، وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا، وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ أَوْ فَاضِلِ ثَوْبِهِ جَازَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَجْلِسُ، فَإِذَا جَلَسَ كَبَّرَ وَسَجَدَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَنْهَضُ (ف) قَائِمًا وَيَفْعَلُ كَذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ إِلَّا الِاسْتِفْتَاحَ وَالتَّعَوُّذَ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: الْوَجْهِ، وَالْكَفَّيْنِ، وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَالْقَدَمَيْنِ» ، وَلَهُمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَكِّنْ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ مِنَ الْأَرْضِ» ، وَلَهُ أَنَّ الْأَنْفَ مَحَلُّ السُّجُودِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ السُّجُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُذْرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لَمَا جَازَ كَالْخَدِّ وَالذَّقَنِ، فَإِذَا سَجَدَ عَلَى الْأَنْفِ يَكُونُ سَاجِدًا، فَيَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ السُّجُودِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَلِأَنَّ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ عَظْمٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ السُّجُودُ عَلَى أَحَدِ طَرَفَيْهِ يَجُوزُ فَكَذَا الْآخَرُ. قَالَ: (وَيَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ وَيَضَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ أُذُنَيْهِ) هَكَذَا نُقِلَ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَيُبْدِي ضَبُعَيْهِ، وَيُجَافِي بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُجَافِي فِي سُجُودِهِ حَتَّى إِنَّ بَهْمَةً لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَمُرَّ لَمَرَّتْ» . (وَلَا يَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْهِ) «لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ افْتِرَاشِ الثَّعْلَبِ» . (وَيَقُولُ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى ثَلَاثًا) لِأَنَّهُ «لَمَّا نَزَلْ قَوْله تَعَالَى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اجْعَلُوهُ فِي سُجُودِكُمْ» . (وَلَوْ سَجَدَ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهُ أَوْ فَاضِلِ ثَوْبِهِ جَازَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْجُدُ عَلَى كَوْرِ عِمَامَتِهِ» . وَقَالَ أَيْضًا: «إِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يَتَّقِي بِفُضُولِهِ حَرَّ الْأَرْضِ وَبَرْدَهَا» ، وَلَوْ سَجَدَ عَلَى السَّرِيرِ وَالْعِرْزَالِ، جَازَ وَلَوْ سَجَدَ عَلَى الْحَشِيشِ وَالْقُطْنِ إِنْ وُجِدَ حَجْمُهُ بِجَبْهَتِهِ كَالطَّنْفَسَةِ وَاللِّبَدِ وَالْحَصِيرِ جَازَ. (ثُمَّ يُكَبِّرُ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيَجْلِسُ) وَالْوَاجِبُ مِنَ الرَّفْعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْفَصْلُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْقُعُودِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا. (فَإِذَا جَلَسَ كَبَّرَ وَسَجَدَ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ اجْلِسْ حَتَّى تَسْتَوِيَ جَالِسًا» . (ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَنْهَضُ قَائِمًا) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنْهَضُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ» . قَالَ: (وَيَفْعَلُ كَذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ) «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرِفَاعَةَ: " ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ» . قَالَ: (إِلَّا الِاسْتِفْتَاحَ) لِأَنَّ مَحَلَّهُ ابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ. (وَالتَّعَوُّذَ) لِأَنَّهُ لِابْتِدَاءِ الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يُشْرَعَا إِلَّا مَرَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ تَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ لَيْسَ بِفَرْضٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَرْضٌ، وَهُوَ الطُّمَأْنِينَةُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِتْمَامُ الْقِيَامِ مِنَ الرُّكُوعِ، وَالْقَعْدَةِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَوَجَّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَبَسَطَ أَصَابِعَهُ وَتَشَهَّدَ. وَالتَّشَهُّدُ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ (ف) وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (ف) ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يَنْهَضُ مُكَبِّرًا   [الاختيار لتعليل المختار] لَهُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَعْرَابِيٍّ حِينَ أَخَفَّ صَلَاتَهُ: " أَعِدْ صَلَاتَكَ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَهُوَ انْحِنَاءُ الظَّهْرِ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] . وَالطُّمَأْنِينَةُ دَوَامٌ عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لَا يَقْتَضِي الدَّوَامَ عَلَيْهِ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمَا رَوَاهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا حَتَّى يَجِبَ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِهَا سَاهَيًا; وَقِيلَ: هِيَ سُنَّةٌ. قَالَ: (فَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ افْتَرَشَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَنَصَبَ الْيُمْنَى، وَوَجَّهَ أَصَابِعَهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ، وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَبَسَطَ أَصَابِعَهُ وَتَشَهَّدَ) هَكَذَا حَكَى وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ وَعَائِشَةُ قُعُودَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ. (وَالتَّشَهُّدُ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) ، وَهُوَ تَشَهُّدُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لِمَا رُوِيَ: " أَنَّ حَمَّادًا أَخَذَ بِيَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، وَقَالَ: أَخَذَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ بِيَدِي وَعَلَّمَنِي، وَأَخَذَ عَلْقَمَةُ بِيَدِ إِبْرَاهِيمَ وَعَلَّمَهُ، وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِيَدِ عَلْقَمَةَ وَعَلَّمَهُ، «وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِ عَبْدِ اللَّهِ وَعَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ، فَقَالَ: قُلِ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» ، إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا، وَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ ; لِأَنَّ أَخْذَهُ بِيَدِهِ وَأَمْرَهُ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَاتَّفَقَ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي التَّشَهُّدِ أَحْسَنُ مِنْ إِسْنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ; وَلِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ تَعَدُّدَ الثَّنَاءِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وَتَشَهُّدُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثَنَاءٌ وَاحِدٌ بَعْضُهُ صِفَةٌ لِبَعْضٍ، وَهَذِهِ الْقَعْدَةُ سُنَّةٌ عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ وَالْكَرْخِيِّ، وَقِيلَ: هِيَ وَاجِبَةٌ حَتَّى يَجِبَ بِتَرْكِهَا سَاهِيًا سُجُودُ السَّهْوِ، وَقِرَاءَةُ التَّشَهُّدِ فِيهَا سُنَّةٌ; وَقِيلَ: وَاجِبٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَوْجَبَ سُجُودَ السَّهْوِ بِتَرْكِهِ، وَلَا يَجِبُ الْوَاجِبُ إِلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ. قَالَ: (وَلَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الْقَعْدَةِ الْأُولَى) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى التَّشَهُّدِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ» . (ثُمَّ: يَنْهَضُ مُكَبِّرًا) لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وَيَقْرَأُ فِيهِمَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، وَيَجْلِسُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، وَيَتَشَهَّدُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ مِمَّا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ. فَصْلٌ الْوِتْرُ وَاجِبٌ (سم ف) ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَتَمَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الشَّفْعُ الثَّانِي فَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ. (وَيَقْرَأُ فِيهِمَا فَاتِحَةَ الْكِتَابِ) وَهِيَ سُنَّةٌ بِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ، وَإِنْ شَاءَ سَبَّحَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَاجِبَةٌ، وَلَوْ تَرَكَهَا سَاهِيًا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ. وَفِي ظَاهِرِ الرَّاوِيَةِ لَوْ سَكَتَ فِيهِمَا عَامِدًا كَانَ مُسِيئًا، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا لَا سَهْوَ عَلَيْهِ. (وَيَجْلِسُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ) كَمَا بَيَّنَّا فِي الْأَوَّلِ لِمَا رَوَيْنَا. (وَيَتَشَهَّدُ) كَمَا قُلْنَا. (وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِ مَسْعُودٍ حِينَ عَلَّمَهُ التَّشَهُّدَ: «إِذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلَتْ هَذَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» ، عَلَّقَ التَّمَامَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَيَتِمُّ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا خَارِجَ الصَّلَاةِ عَمَلًا بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ فَلَا يَلْزَمُنَا الْعَمَلُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ مِمَّا يُشْبِهُ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَالْأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثُمَّ اخْتَرْ مِنَ الدُّعَاءِ أَطْيَبَهُ» وَالْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَرْضٌ وَالتَّشَهُّدُ فِيهَا وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ: «إِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنْ آخَرِ سَجْدَةٍ وَقَعَدْتَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» عَلَّقَ التَّمَامَ بِالْقَعْدَةِ دُونَ التَّشَهُّدِ، وَمِقْدَارُ الْفَرْضِ فِي الْقُعُودِ مِقْدَارُ التَّشَهُّدِ. قَالَ: (ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَعَنْ يَسَارِهِ كَذَلِكَ) لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كَانَ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ، وَعَنْ شِمَالِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ خَدِّهِ الْأَيْسَرِ» وَيَنْوِي بِالْأُولَى مِنْ عَنْ يَمِينِهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ، وَبِالْأُخْرَى كَذَلِكَ لِأَنَّهُ خِطَابُ الْحَاضِرِينَ، وَيَنْوِي الْإِمَامُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ حِذَاءَهُ يَنْوِيهِ فِيهِمَا، وَقِيلَ فِي الْيَمِينِ، وَالْمُنْفَرِدُ يَنْوِي الْحَفَظَةَ لَا غَيْرَ. وَالْخُرُوجُ بِلَفْظِ السَّلَامِ لَيْسَ بِفَرْضٍ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنَّهُ يُنَافِي الْفَرْضِيَّةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ أَوِ السُّنَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ. [بَابُ صَلَاةِ الْوِتْرِ] فَصْلٌ (الْوَتْرُ وَاجِبٌ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى زَادَكُمْ صَلَاةً إِلَى صَلَاتِكُمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وَهِيَ ثَلَاثُ (ف) رَكَعَاتٍ كَالْمَغْرِبِ لَا يُسَلِّمُ بَيْنَهُنَّ، وَيَقْرَأُ فِي جَمِيعِهَا، وَيَقْنُتُ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ (ف) ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيُكَبِّرُ، ثُمَّ يَقْنُتُ، وَلَا قُنُوتَ فِي غَيْرِهَا (ف) .   [الاختيار لتعليل المختار] الْخَمْسِ أَلَا وَهِيَ الْوَتْرُ فَحَافِظُوا عَلَيْهَا» وَالزِّيَادَةُ تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ، وَقَضِيَّتُهِ الْفَرْضِيَّةُ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مَقْطُوعًا بِهِ فَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هِيَ سُنَّةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ: الْوَتْرُ، وَالضُّحَى، وَالْأَضْحَى» ، قُلْنَا الْكِتَابَةُ هِيَ الْفَرْضُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا مُوَقَّتًا، وَيُقَالُ لِلْفَرَائِضَ الْمَكْتُوبَاتِ، فَكَانَ نَفْيُ الْكِتَابَةِ نَفِيَ الْفَرْضِيَّةِ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِالْفَرْضِيَّةِ بَلْ بِالْوُجُوبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: «وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ» أَيْ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالسُنَّةٌ ; لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِهَا وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَهِيَ عِنْدَهُمَا أَعْلَى رُتْبَةً مِنْ جَمِيعِ السُّنَنِ حَتَّى لَا تَجُوزَ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، وَلَا عَلَى رَاحِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَتُقْضَى ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ. قَالَ: (وَهِيَ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ كَالْمَغْرِبِ لَا يُسَلِّمُ بَيْنَهُنَّ) لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ» . قَالَ: (وَيَقْرَأُ فِي جَمِيعِهَا) وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْفَاتِحَةِ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّالِثَةِ بِهَا وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، هَكَذَا نَقَلَ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي وُجُوبِهَا وَجَبَتِ الْقِرَاءَةُ فِي جَمِيعِهَا احْتِيَاطًا. قَالَ: (وَيَقْنُتُ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ) لِمَا رَوَيْنَا. (وَيُكَبِّرُ) لِمَا مَرَّ (ثُمَّ يَقْنُتُ) لِمَا رَوَى عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْنُتُ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ» وَلَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ، وَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَاللَّهُمَّ اهْدِنَا» ، قَالْوا: وَمَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ غَيْرُ ذَلِكَ. وَمَنْ لَا يُحْسِنُ الدُّعَاءَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مِرَارًا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة: 201] الْآيَةَ. وَاخْتَارَ أَبُو اللَّيْثِ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّخَعِيِّ، وَكَرِهَهُ بَعْضُهُمْ لِعَدَمِ وُرُودِ السُّنَّةِ بِهِ. قَالَ: (وَلَا قُنُوتَ فِي غَيْرِهَا) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَا قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إِلَّا شَهْرًا لَمْ يَقْنُتْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ» . وَرَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» . وَمَا رَوَى أَنَسٌ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ» ، مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: «قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصُّبْحِ بَعْدَ الرُّكُوعِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنَ الْعَرَبِ ثُمَّ تَرَكَهُ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ نُسِخَ، فَلَوْ صَلَّى الْفَجْرَ خَلْفَ إِمَامٍ يَقْنُتُ يُتَابِعُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِئَلَّا يُخَالِفَ إِمَامَهُ. وَعِنْدَهُمَا لَا يُتَابِعُهُ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مَنْسُوخٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 فَصْلٌ الْقِرَاءَةُ فَرْضٌ فِي رَكْعَتَيْنِ سُنَّةٌ (ف) فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ سَبَّحَ فِيهِمَا أَجْزَأَهُ (ف) ، وَمِقْدَارُ الْفَرْضِ آيَةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ (سم ف) ، وَالْوَاجِبُ الْفَاتِحَةُ وَالسُّورَةُ أَوْ ثَلَاثُ آيَاتٍ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقْرَأَ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ طِوَالُ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ أَوْسَاطُهُ، وَفِي الْمَغْرِبِ قِصَارُهُ، وَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالسَّفَرِ يُقْرَأُ بِقَدْرِ الْحَالِ   [الاختيار لتعليل المختار] وَصَارَ كَالتَّكْبِيرَةِ الْخَامِسَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَسْكُتُ قَائِمًا، وَلَوْ سَهَا عَنِ الْقُنُوتِ فَرَكَعَ ثُمَّ ذَكَرَ لَا يَعُودُ، وَعَنْ أْبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى الْقُنُوتِ ثُمَّ يَرْكَعُ. [بَابُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ] فَصْلٌ (الْقِرَاءَةُ فَرْضٌ فِي رَكْعَتَيْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وَلَا يُفْتَرَضُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَتَعَيَّنُ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ قِرَاءَةٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ» ، أَيْ تَنُوبُ عَنْهَا كَقَوْلِهِمْ: لِسَانُ الْوَزِيرِ لِسَانُ الْأَمِيرِ. (سُنَّةٌ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، وَإِنْ سَبَّحَ فِيهِمَا أَجْزَأَهُ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. قَالَ: (وَمِقْدَارُ الْفَرْضِ آيَةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) وَقَالَا: ثَلَاثُ آيَاتٍ قِصَارٍ أَوْ آيَةٌ طَوِيلَةٌ تَعْدِلُهَا؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ لِلْمُعْجِزِ وَلَا مُعْجِزَ دُونَ ذَلِكَ. وَلَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وَمَا دُونَ الْآيَةِ خَارِجٌ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ، وَلَا يُفْتَرَضُ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ إِلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا يَجُوزُ نَسْخُ إِطْلَاقِ الْكِتَابِ بِهِمَا فَيُحْمَلُ عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الْفَرْضِيَّةِ كَمَا قُلْنَا. (وَالْوَاجِبُ الْفَاتِحَةُ وَالسُّورَةُ أَوْ ثَلَاثُ آيَاتٍ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَرْكٍ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ سُجُودُ السَّهْوِ بِتَرْكِهِ سَاهِيًا. (وَالسُّنَّةُ أَنْ يُقْرَأَ فِي الْفَجْرِ وَالظُّهْرِ طِوَالُ الْمُفَصَّلِ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ أَوْسَاطُهُ، وَفِي الْمَغْرِبِ قِصَارُهُ) هَكَذَا كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا تَوْقِيفًا، وَقِيلَ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْفَجْرِ أَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسِينَ، وَقِيلَ: مِنْ أَرْبَعِينَ إِلَى سِتِّينَ. وَرَوَى ابْنُ زِيَادٍ: مِنْ سِتِّينَ إِلَى مِائَةٍ بِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَتِ الْآثَارُ; وَقِيلَ: الْمِائَةُ لِلزُّهَّادِ وَالسِتُّونَ فِي الْجَمَاعَاتِ الْمَعْهُودَةِ، وَالْأَرْبَعُونَ فِي مَسَاجِدِ الشَّوَارِعِ، وَفِي الظُّهْرِ ثَلَاثُونَ، وَفِي الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ عِشْرُونَ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِمَامَ يَقْرَأُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَأَ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ الْأَكْثَرَ تَحْصِيلًا لِلثَّوَابِ. (وَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ وَالسَّفَرِ يَقْرَأُ بِقَدْرِ الْحَالِ) دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَالسُنَّةُ أَنْ يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سُورَةً تَامَّةً مَعَ الْفَاتِحَةِ، وَيُسْتَحِبُّ أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ سُورَتَيْنِ فِي رَكْعَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَإِنْ فَعَلَ لَا بَأْسَ، وَكَذَلِكَ سُورَةٌ فِي رَكْعَتَيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وَلَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ، وَيُكْرَهُ تَعْيِينُهُ. فَصْلٌ الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ أَقْرَؤُهُمْ، ثُمَّ أَوْرَعُهُمْ، ثُمَّ أَسَنُّهُمْ، ثُمَّ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، ثُمَّ أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا، وَلَا يُطَوِّلُ بِهِمُ الصَّلَاةَ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَلَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لِشَيْءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ) لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ. (وَيُكْرَهُ تَعْيِينُهُ) لِمَا فِيهِ مِنْ هُجْرَانِ الْبَاقِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ، أَوْ تَبَرُّكًا بِقِرَاءَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ، وَيُطَوِّلُ الْأُولَى مِنَ الْفَجْرِ عَلَى الثَّانِيَةِ إِعَانَةً لِلنَّاسِ عَلَى الْجَمَاعَاتِ، وَيُكْرَهُ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، كَذَا نُقِلَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْنَا: الرَّكْعَتَانِ اسْتَوَتَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْقِرَاءَةِ فَلَا وَجْهَ إِلَى التَّفْضِيلِ بِخِلَافِ الصُّبْحِ فَإِنَّهُ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّطْوِيلِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّعَوُّذِ، وَلَا اعْتِبَارَ فِي ذَلِكَ بِمَا دُونَ ثَلَاثِ آيَاتٍ لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ. [بَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ] فَصْلٌ (الْجَمَاعَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْجَمَاعَةُ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقُ إِلَى قَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجَمَاعَةِ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ» ، وَهَذَا أَمَارَةُ التَّأْكِيدِ، وَقَدْ وَاظَبَ عَلَيْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَسْعُ تَرْكُهَا إِلَّا لِعُذْرٍ، وَلَوْ تَرَكَهَا أَهْلُ مِصْرٍ يُؤْمَرُونَ بِهَا، فَإِنْ قَبِلُوا وَإِلَّا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ. قَالَ: (وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ أَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ) إِذَا كَانَ يُحْسِنُ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَيَجْتَنِبُ الْفَوَاحِشَ الظَّاهِرَةَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَقْرَؤُهُمْ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ» ، قُلْنَا: الْحَاجَةُ إِلَى الْعِلْمِ أَكْثَرُ فَكَانَ أَوْلَى وَفِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الْقُرْآنَ بِأَحْكَامِهِ فَكَانَ أَقْرَؤُهُمْ أَعْلَمَهُمْ. (ثُمَّ أَقْرَؤُهُمْ) لِلْحَدِيثِ. (ثُمَّ أَوْرَعُهُمْ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ صَلَّى خَلْفَ عَالِمٍ تَقِيٍّ فَكَأَنَّمَا صَلَّى خَلْفَ نَبِيٍّ» . (ثُمَّ أَسَنُّهُمْ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَإِذَا سَافَرْتُمَا فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلِيَؤُمُّكُمَا أَكْبَرُكُمَا سِنًّا» . (ثُمَّ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، ثُمَّ أَحْسَنُهُمْ وَجْهًا) . وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ كَانَ وَصْفُهُ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَمَاعَةِ كَانَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ كُلَّمَا كَثُرَتْ كَانَ أَفْضَلَ حَتَّى قَالْوا يُكْرَهُ لِمَنْ يُكْثِرُ التَّنَحْنُحَ فِي الْقِرَاءَةِ أَنْ يَؤُمَّ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَقِفُ فِي غَيْرِ مَوَاضِعِ الْوَقْفِ، وَلَا يَقِفُ فِي مَوَاضِعِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ: (وَلَا يُطَوِّلُ بِهِمُ الصَّلَاةَ) عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إِلَى التَّنْفِيرِ، بَلْ يُخَفِّفُ تَخْفِيفًا عَنْ تَمَامٍ لِحَدِيثِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وَيُكْرَهُ إِمَامَةُ الْعَبْدِ (ف) وَالْأَعْرَابِيِّ وَالْأَعْمَى (ف) وَالْفَاسِقِ وَوَلَدِ الزِّنَا (ف) وَالْمُبْتَدِعِ، وَلَوْ تَقَدَّمُوا وَصَلَّوْا جَازَ، وَلَا تَجُوزُ إِمَامَةُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ (ف) لِلرِّجَالِ، وَمَنْ صَلَّى بِوَاحِدٍ أَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِنْ صَلَّى بِاثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ، وَيُصَفُّ الرِّجَالُ ثُمَّ الصِّبْيَانُ ثُمَّ الْخَنَاثَى ثُمَّ النِّسَاءُ، وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي صَلَاةِ الرَّجُلِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا (ف) الْإِمَامُ،   [الاختيار لتعليل المختار] مُعَاذٍ فَإِنَّهُ كَانَ يُطَوِّلُ بِهِمُ الْقِرَاءَةَ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ صَلِّ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ فَإِنَّ فِيهِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» . قَالَ: (وَيُكْرَهُ إِمَامَةُ الْعَبْدِ وَالْأَعْرَابِيِّ وَالْأَعْمَى وَالْفَاسِقِ وَوَلَدِ الزِّنَا وَالْمُبْتَدِعِ) لِأَنَّ إِمَامَتَهُمْ تُقَلِّلُ الْجَمَاعَاتِ، لِسُقُوطِ مَنْزِلَةِ الْعَبْدِ عِنْدَ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْأَعْرَابِيِّ الْجَهْلُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة: 97] وَالْفَاسِقِ لِفِسْقِهِ، وَالْأَعْمَى لَا يَجْتَنِبُ النَّجَاسَاتِ، وَوَلَدِ الزِّنَا يُسْتَخَفُّ بِهِ عَادَةً، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يُعَلِّمُهُ فَيَغْلِبُ عَلَيْهِ الْجَهْلُ. (وَلَوْ تَقَدَّمُوا وَصَلَّوْا جَازَ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صَلُّوا خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» ، وَالْكَرَاهَةُ فِي حَقِّهِمْ لِمَا ذُكِرَ مِنَ النَّقَائِصِ، وَلَوْ عَدِمَتْ بِأَنْ كَانَ الْعَرَبِيُّ أَفْضَلَ مِنَ الْحَضَرِيِّ، وَالْعَبْدُ مِنَ الْحُرِّ، وَوَلَدُ الزِّنَا مِنْ وَلَدِ الرِّشْدَةِ، وَالْأَعْمَى مِنَ الْبَصِيرِ فَالْحُكْمُ بِالضِّدِّ. وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الصَّلَاةَ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ إِمَامُ الْقَوْمِ صَاحِبَ بِدْعَةٍ أَوْ هَوًى. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ خَلْفَ الرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ. قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ إِمَامَةُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِلرِّجَالِ) أَمَّا النِّسَاءُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» ، وَإِنَّهُ نُهِيَ عَنِ التَّقْدِيمِ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّ صَلَاتَهُ تَقَعُ نَفْلًا فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي التَّرَاوِيحِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ نَفْلَهُ أَضْعَفُ مِنْ نَفْلِ الْبَالِغِ فَلَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ. قَالَ: (وَمَنْ صَلَّى بِوَاحِدٍ أَقَامَهُ عَنْ يَمِينِهِ) لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «وَقَفْتُ عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَخَذَ بِذُؤَابَتِي فأَدَارَنِي إِلَى يَمِينِهِ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ أَوْلَى، وَأَنَّ الْقِيَامَ عَنْ يَسَارِهِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ، وَأَنَّ الْفِعْلَ الْيَسِيرَ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ. قَالَ: (فَإِنْ صَلَّى بِاثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمْ) لِحَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «أَقَامَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْيَتِيمُ وَرَاءَهُ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا» ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» . قَالَ: (وَيُصَفُّ الرِّجَالُ ثُمَّ الصِّبْيَانُ ثُمَّ الْخَنَاثَى ثُمَّ النِّسَاءُ) أَمَّا الرِّجَالُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِيَلِنِي أُولُو الْأَحْلَامِ مِنْكُمْ» ، وَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَلِحَدِيثِ أَنَسٍ، وَأَمَّا الْخَنَاثَى فَلِاحْتِمَالِ كَوْنِهِمْ إِنَاثًا، وَأَمَّا تَقْدِيمُهُمْ عَلَى النِّسَاءِ فَلِاحْتِمَالِ كَوْنِهِمْ ذُكُورًا. قَالَ: (وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي صَلَاةِ الرَّجُلِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا الْإِمَامُ) وَقَالَ زُفَرُ: تَدْخُلُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَالرَّجُلِ. وَلَنَا أَنَّهُ يَلْحَقُهُ مِنْ جِهَتِهَا ضَرَرٌ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِمَالِ بِأَنْ تَقِفَ فِي جَنْبِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وَإِذَا قَامَتْ إِلَى جَانِبِ رَجُلٍ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَسَدَتْ (ف) صَلَاتُهُ، وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ حُضُورُ الْجَمَاعَاتِ، وَأَنْ يُصَلِّينَ جَمَاعَةً (ف) ، فَإِنْ فَعَلْنَ وَقَفَتِ الْإِمَامُ وَسْطَهُنَّ، وَلَا يَقْتَدِي الطَّاهِرُ بِصَاحِبِ عُذْرٍ (ف) ، وَلَا الْقَارِئُ بِالْأُمِّيِّ، وَلَا الْمُكْتَسِي (ف) بِالْعُرْيَانِ، وَلَا مَنْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ (ف) بِالْمُومِي وَلَا الْمُفْتَرِضُ (ف) بِالْمُتَنَفِّلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَتُفْسِدُ صَلَاتَهُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ ذَلِكَ بِتَرْكِ النِّيَّةِ. قَالَ: (وَإِذَا قَامَتْ إِلَى جَانِبِ رَجُلٍ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَفْسَدُ كَمَا لَا تَفْسَدُ صَلَاتُهَا. وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ تَرَكَ فَرْضَ الْمَقَامِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَأْخِيرِهَا وَهُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْأَمْرِ دُونَهَا فَتَفْسُدُ صَلَاتَهُ، وَإِنْ قَامَتْ فِي الصَّفِّ أَفْسَدَتْ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهَا وَيَسَارِهَا وَخَلْفَهَا بِحِذَائِهَا، وَالثِّنْتَانِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَنْ يَمِينِ إِحْدَاهُمَا وَيَسَارِ الْأُخْرَى وَاثْنَيْنِ خَلْفَهُمَا، وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ خَمْسَةٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: يُفْسِدْنَ صَلَاةَ ثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ إِلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَرْأَتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ صَفًّا تَامًّا فَسَدَتْ صَلَاةُ مَنْ خَلْفَهُنَّ مِنَ الصُّفُوفِ وَشَرْطُ الْمُحَاذَاةِ أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ مُشْتَرَكَةٌ وَأَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةٌ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي الْبُقْعَةِ، وَأَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهْوَةِ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ، وَأَدْنَاهُ مِثْلُ مُؤَخَّرَةِ الرَّحْلِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ حُضُورُ الْجَمَاعَاتِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» وَلِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَهَذَا فِي الشَّوَابِّ بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْعَجَائِزُ فَيَخْرُجْنَ فِي الْفَجْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. وَقَالَ: يَخْرُجْنَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي حَقِّهِنَّ. وَلَهُ أَنَّ الْفُسَّاقَ يَنْتَشِرُونَ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَفِي الْمَغْرِبِ يَشْتَغِلُونَ بِالْعِشَاءِ، وَفِي الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ يَكُونُونَ نِيَامًا، وَلِكُلِّ سَاقِطَةٍ لَاقِطَةٌ، وَالْمُخْتَارُ فِي زَمَانِنَا أَنْ لَا يَجُوزَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِفَسَادِ الزَّمَانِ وَالتَّظَاهُرِ بِالْفَوَاحِشِ. قَالَ: (وَأَنْ يُصَلِّينَ جَمَاعَةً) لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ نَقْصٍ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُنَّ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَتَقَدُّمُ الْإِمَامِ عَلَيْهِنَّ. (فَإِنْ فَعَلْنَ وَقَفَتِ الْإِمَامُ وَسَطَهُنَّ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. قَالَ: (وَلَا يَقْتَدِي الطَّاهِرُ بِصَاحِبِ عُذْرٍ، وَلَا الْقَارِئُ بِالْأُمِّيِّ، وَلَا الْمُكْتَسِي بِالْعُرْيَانِ، وَلَا مَنْ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ بِالْمُومِي، وَلَا الْمُفْتَرِضُ بِالْمُتَنَفِّلِ) وَأَصْلُهُ أَنَّ صَلَاةَ الْمُقْتَدِي تَنْبَنِي عَلَى صَلَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وَلَا الْمُفْتَرِضُ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ (ف) . وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ (م) بِالْمُتَيَمِّمِ، وَالْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ، وَالْقَائِمِ (م) بِالْقَاعِدِ، وَالْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ. وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ إِمَامَهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ أَعَادَ (ف) وَيَجُوزُ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى إِمَامِهِ   [الاختيار لتعليل المختار] الْإِمَامِ صِحَّةً وَفَسَادًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ» أَيْ ضَامِنٍ بِصَلَاتِهِ صَلَاةَ الْمُؤْتَمِّ، وَبِنَاءُ النَّاقِصِ عَلَى الْكَامِلِ يَجُوزُ، وَالْكَامِلِ عَلَى النَّاقِصِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يَصْلُحُ أَسَاسًا لِلْقَوِيِّ، لِأَنَّهُ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ يَكُونُ بِنَاءً عَلَى الْمَعْدُومِ وَإِنَّهُ مُحَالٌ. إِذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ: حَالُ الطَّاهِرِ أَقْوَى مِنْ حَالِ صَاحِبِ الْعُذْرِ، وَحَالُ الْقَارِئِ أَقْوَى مِنْ حَالِ الْأُمِّيِّ، وَحَالُ الْمُكْتَسِي أَقْوَى مِنْ حَالِ الْعُرْيَانِ، وَحَالُ الَّذِي يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ أَقْوَى مِنْ حَالِ الْمُومِي، وَحَالُ الْمُفْتَرِضِ أَقْوَى مِنَ الْمُتَنَفِّلِ، فَلَا تَجُوزُ صَلَاتُهُمْ خَلْفَهُمْ. قَالَ: (وَلَا الْمُفْتَرِضُ بِمَنْ يُصَلِّي فَرْضًا آخَرَ) لِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ مُشَارِكٌ لِلْإِمَامِ فَلَا بُدَّ مِنَ الِاتِّحَادِ، فَإِنْ أَمَّ أُمِّيٌّ قَارِئِينَ وَأُمِّيِّينَ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْكُلِّ; وَقَالَا: تَجُوزُ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَمَنْ بِحَالِهِ لِاسْتِوَائِهِمْ كَمَا إِذَا انْفَرَدُوا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَمِيعَ قَادِرُونَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِتَقْدِيمِ الْقَارِئِ، إِذْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُمْ بِالْحَدِيثِ، فَقَدْ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْعَاجِزُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ، قَالْوا: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَؤُمَّ غَيْرَهُ لِمَا بَيَّنَّا وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَقْلِيلِ الْجَمَاعَةِ ; فَلَوْ صَلَّى وَحْدَهُ إِنْ كَانَ لَا يَجِدُ آيَاتٍ تَخْلُو عَنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ وَجَدَ وَقَرَأَ بِمَا فِيهِ تِلْكَ الْحُرُوفُ قِيلَ: يَجُوزُ كَالْأَخْرَسِ يُصَلِّي وَحْدَهُ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ كَالْقَارِئِ إِذَا صَلَّى بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، بِخِلَافِ الْأَخْرَسِ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ إِمَامًا. قَالَ: (وَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ) . وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ كَطَهَارَةِ صَاحِبِ الْعُذْرِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ: «أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَجْنَبَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ» . وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، فَكَانَ اقْتِدَاءَ طَاهِرٍ بِطَاهِرٍ. قَالَ: (وَالْغَاسِلِ بِالْمَاسِحِ) لِأَنَّ الْخُفَّ يَمْنَعُ وُصُولَ الْحَدَثِ إِلَى الرِّجْلِ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ الْحَدَثُ بِالْخُفِّ وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالْمَسْحِ. قَالَ: (وَالْقَائِمِ بِالْقَاعِدِ) خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ أَقْوَى حَالًا. وَلَنَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى آخِرَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا قَاعِدًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامٌ، وَبِمِثْلِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ. قَالَ: (وَالْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرَضِ) لِأَنَّهُ أَضْعَفُ حَالًا وَبِنَاءُ الْأَضْعَفِ عَلَى الْأَقْوَى جَائِزٌ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ بِخِلَافِ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الْمُفْتَرِضَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ أَصْلِ الصَّلَاةِ وَإِلَى نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وَإِنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْمُتَنَفِّلِ. قَالَ: (وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ إِمَامَهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ أَعَادَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُتَعَلِّقَةٌ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ صِحَّةً وَفَسَادًا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى يَلْزَمُ الْمَأْمُومَ سَهْوُ الْإِمَامِ، وَيَكْتَفِي بِقِرَاءَتِهِ لَوْ أَدْرَكَهُ فِي الرُّكُوعِ ; وَإِذَا كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِصَلَاتِهِ يَفْسُدُ بِفَسَادِهَا. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى إِمَامِهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وَإِنْ فَتَحَ عَلَى غَيْرِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَمَنْ حُصِرَ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَصْلًا فَقَدَّمَ غَيْرَهُ جَازَ (سم) ، وَإِنْ قَنَتَ إِمَامُهُ فِي الْفَجْرِ سَكَتَ (سف) . فَصْلٌ يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَعْبَثَ بِثَوْبِهِ،. . أَوْ يُفَرْقِعَ أَصَابِعَهُ، أَوْ يَتَخَصَّرَ، أَوْ يَعْقِصَ شَعْرَهُ، أَوْ يُسْدِلَ ثَوْبَهُ، أَوْ يُقْعِيَ أَوْ يَلْتَفِتَ، أَوْ يَتَرَبَّعَ بِغَيْرِ عُذْرٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ» ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْتَحَ مِنْ سَاعَتِهِ لَعَلَّ الْإِمَامَ يَتَذَكَّرُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُلْجِئَهُ إِلَى الْفَتْحِ، فَإِنْ كَانَ قَرَأَ مِقْدَارَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ يَرْكَعُ. قَالَ: (وَإِنْ فَتَحَ عَلَى غَيْرِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي إِمَامِهِ إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِمَا رَوَيْنَا، وَفِيهِ إِصْلَاحُ صَلَاتِهِ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَمَنْ حُصِرَ عَنِ الْقِرَاءَةِ أَصْلًا فَقَدَّمَ غَيْرَهُ جَازَ) وَقَالَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فَلَا يُقَاسُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ ; وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لِعِلَّةِ الْعَجْزِ عَنِ التَّمَامِ وَقَدْ وُجِدَ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ نَادِرٌ; وَلَوْ قَرَأَ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَإِنْ قَنَتَ إِمَامُهُ فِي الْفَجْرِ سَكَتَ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. [بَابُ مَا يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي] فَصْلٌ (يُكْرَهُ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَعْبَثَ بِثَوْبِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمُ الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ» ، وَلِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْخُشُوعِ، «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا يَعْبَثُ فِي صَلَاتِهِ فَقَالَ: " أَمَّا هَذَا لَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ» . (أَوْ يُفَرْقِعَ أَصَابِعَهُ) لِمَا ذَكَرْنَا وَلِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ. (أَوْ يَتَخَصَّرَ) لِأَنَّ فِيهِ تَرْكُ الْوَضْعِ الْمَسْنُونِ، وَلِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْخَاصِرَةِ. (أَوْ يَعْقِصَ شَعْرَهُ) وَهُوَ أَنْ يَجْمَعَهُ وَسَطَ رَأْسِهِ أَوْ يَجْعَلَهُ ضَفِيرَتَيْنِ فَيَعْقِدُهُ فِي مُؤَخِّرِ رَأْسِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وَرَأَسُهُ مَعْقُوصٌ» . (أَوْ يَسْدِلَ ثَوْبَهُ) لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ السَّدْلِ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُرْسِلُ أَطْرَافَهُ مِنْ جَوَانِبِهِ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ أَهْلِ الْكِتَابِ. (أَوْ يُقْعِي) لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قَالَ: «نَهَانِي خَلِيلِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ أَنْ أَنْقُرَ نَقْرَ الدِّيكِ، أَوْ أُقْعِيَ إِقْعَاءَ الْكَلْبِ، أَوْ أَفْتَرِشَ افْتِرَاشَ الثَّعْلَبِ» . وَالْإِقْعَاءُ: أَنْ يَقْعُدَ عَلَى أَلْيَتَيْهِ وَيَنْصِبَ فَخِذَيْهِ وَيَضُمَّ رُكْبَتَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ. (أَوْ يَلْتَفِتَ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: " تِلْكَ خِلْسَةٌ يَخْتَلِسُهَا الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاتِكُمْ» . (أَوْ يَتَرَبَّعَ بِغَيْرِ عُذْرٍ) لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْقُعُودِ الْمَسْنُونِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أَوْ يَقْلِبَ الْحَصَى إِلَّا لِضَرُورَةٍ، أَوْ يَرُدَّ السَّلَامَ بِلِسَانِهِ أَوْ بِيَدِهِ (ف) ، أَوْ يَتَمَطَّى، أَوْ يَتَثَاءَبَ، أَوْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ، أَوْ يَعُدَّ التَّسْبِيحَ أَوِ الْآيَاتِ (سم) وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ قَرَأَ مِنَ الْمُصْحَفِ (سم) فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَنَّ أَوْ تَأَوَّهَ أَوْ بَكَى بِصَوْتٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلِأَنَّهَا جِلْسَةُ الْجَبَابِرَةِ حَتَّى قَالْوا: يُكْرَهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ أَيْضًا. (أَوْ يَقْلِبَ الْحَصَى) لِأَنَّهُ عَبَثٌ. (إِلَّا لِضَرُورَةٍ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَا أَبَا ذَرٍّ مَرَّةً أَوْ ذَرْ» . (أَوْ يَرُدَّ السَّلَامَ بِلِسَانِهِ) لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. (أَوْ بِيَدِهِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى السَّلَامِ. (أَوْ يَتَمَطَّى أَوْ يَتَثَاءَبَ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنِ التَّثَاؤُبِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ غَلَبَهُ كَظَمَ مَا اسْتَطَاعَ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ» ، بِذَلِكَ أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (أَوْ يُغْمِضَ عَيْنَيْهِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْهُ. (أَوْ يَعُدَّ التَّسْبِيحَ أَوِ الْآيَاتِ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكْرَهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَعَنْهُ مِثْلَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِقِرَاءَةِ آيَاتٍ مَعْدُودَاتٍ فِي الصَّلَاةِ وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا بِالْعَدِّ ; وَعَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ فِي النَّفْلِ خَاصَّةً، لِأَنَّهُ سُومِحَ فِيهِ مَا لَا يَتَسَامَحُ فِي الْفَرْضِ ; وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ عَدَّهُ بِيَدِهِ يُخِلُّ بِالْوَضْعِ الْمَسْنُونِ فَأَشْبَهَ الْعَبَثَ ; وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كَفُّوا أَيْدِيَكُمْ فِي الصَّلَاةِ» ، وَإِنْ عَدَّهُ بِقَلْبِهِ يَشْغَلُهُ عَنِ الْخُشُوعِ فَأَشْبَهَ التَّفَكُّرَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا. وَأَمَّا الْعَدَدُ الْمَسْنُونُ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَعُدَّهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَيَقْرَأَ فِيهَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْعَدَدِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اقْتُلُوهُمَا وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ» . قَالَ: (وَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ قَرَأَ مِنَ الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) أَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فَلِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ لَيْسَ مِنَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ» ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ مِنَ الْمُصْحَفِ، فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا تُفْسِدُ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُصْحَفِ عِبَادَةٌ فَلَا يُفْسِدُهَا إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ تَشَبَّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَهُ إِنْ كَانَ يَحْمِلُهُ فَهُوَ عَمَلٌ كَثِيرٌ لِأَنَّهُ حَمْلٌ وَتَقْلِيبُ الْأَوْرَاقِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّهُ تَعَلُّمٌ وَإِنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ فَيُفْسِدُهَا كَمَا لَوْ تَعَلَّمَ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إِذَا أَنَّ أَوْ تَأَوَّهَ أَوْ بَكَى بِصَوْتٍ) لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذِكْرِ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ) لِأَنَّهُ مِنْ زِيَادَةِ الْخُشُوعِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ تَوَضَّأَ وَبَنَى (ف) ، وَالِاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ إِمَامًا اسْتَخْلَفَ (ف) ، وَإِنْ جُنَّ أَوْ نَامَ فَاحْتَلَمَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ اسْتَقْبَلَ، وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ تَوَضَّأَ وَسَلَّمَ (ف) ، وَإِنْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ تَمَّتْ (ف) صَلَاتُهُ. فَصْلٌ وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ إِذَا ذَكَرَهَا كَمَا فَاتَتْ سَفَرًا أَوْ حَضَرًا،   [الاختيار لتعليل المختار] [حكم من سبقه الحدث وهو في الصلاة] فَصْلٌ (وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ تَوَضَّأَ وَبَنَى) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ فِي صَلَاتِهِ فلِيَنْصَرِفْ وَلِيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ» ، فَإِنْ كَانَ مُنْفَرِدًا إِنْ شَاءَ عَادَ إِلَى مَكَانِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَتَمَّهَا فِي مَنْزِلِهِ، وَالْمُقْتَدِي وَالْإِمَامُ يَعُودَانِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ أَتَمَّ الصَّلَاةَ فَيَتَخَيَّرَانِ. (وَالِاسْتِئْنَافُ أَفْضَلُ) لِخُرُوجِهِ عَنِ الْخِلَافِ، وَلِئَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بِأَفْعَالٍ لَيْسَتْ مِنْهَا; وَقِيلَ إِنْ كَانَ إِمَامًا أَوْ مُقْتَدِيًا فَالْبِنَاءُ أَوْلَى إِحْرَازًا لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ. (وَإِنْ كَانَ إِمَامًا اسْتَخْلَفَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا إِمَامٍ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَنْظُرْ رَجُلًا لَمْ يَسْبِقْ بشيءٍ فَلْيُقَدِّمْهُ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ» ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبِنَاءُ إِذَا فَعَلَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَالْمَشْيِ وَالِاغْتِرَافِ حَتَّى لَوِ اسْتَقَى أَوْ خَرَزَ دَلْوَهُ، أَوْ وَصَلَ إِلَى نَهْرٍ فَجَاوَزَهُ إِلَى غَيْرِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ. قَالَ: (وَإِنْ جُنَّ أَوْ نَامَ فَاحْتَلَمَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ اسْتَقْبَلَ) لِأَنَّ وُجُودَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نَادِرٌ فَلَا يُقَاسُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ أَكْثَرَ مِنْهُ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَكَذَا يَحْتَاجُ إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَهُوَ قَاطِعٌ لِلصَّلَاةِ، وَكَذَا إِذَا نَظَرَ فَأَنْزَلَ. قَالَ: (وَإِنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ بَعْدَ التَّشَهُّدِ تَوَضَّأَ وَسَلَّمَ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ سِوَى السَّلَامِ. (وَإِنْ تَعَمَّدَ الْحَدَثَ تَمَّتْ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْبِنَاءُ لِمَكَانِ التَّعَمُّدِ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ; وَلَوْ أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ مِنْ خَارِجٍ أَوْ شُجَّ رَأْسُهُ لَا يَبْنِي. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَبْنِي كَمَا إِذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ. قُلْنَا هَاهُنَا يَنْصَرِفُ مَعَ قِيَامِ الْوُضُوءِ، فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ. [بَابُ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ] فَصْلٌ (وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ إِذَا ذَكَرَهَا كَمَا فَاتَتْ سَفَرًا أَوْ حَضَرًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْوَقْتِيَّةِ إِلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَهَا، وَيُرَتِّبُ الْفَوَائِتَ فِي الْقَضَاءِ وَيَسْقُطُ التَّرْتِيبُ بِالنِّسْيَانِ، وَخَوْفِ فَوْتِ الْوَقْتِيَّةِ، وَأَنْ تَزِيدَ عَلَى خَمْسٍ (ز) وَإِذَا سَقَطَ التَّرْتِيبُ لَا يَعُودُ،   [الاختيار لتعليل المختار] «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتَهَا لَا وَقْتَ لَهَا غَيْرُهُ» ، وَقَوْلُهُ: كَمَا فَاتَتْ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَحْكِي الْأَدَاءَ. قَالَ: (يُقَدِّمُهَا عَلَى الْوَقْتِيَّةِ إِلَّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَهَا، وَيُرَتِّبَ الْفَوَائِتَ فِي الْقَضَاءِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّرْتِيبَ شَرْطٌ بَيْنَ الْفَائِتَةِ وَالْوَقْتِيَّةِ وَبَيْنَ الْفَوَائِتِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلَمْ يَذْكُرْهَا إِلَّا وَهُوَ مَعَ الْإِمَامِ فَلْيُصَلِّ مَعَ الْأَمَامِ ثُمَّ لِيُصَلِّ الَّتِي نَسِيَ، ثُمَّ لِيُعِدِ الصَّلَاةَ الَّتِي صَلَّاهَا مَعَ الْإِمَامِ» ، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ التَّرْتِيبُ شَرْطًا لَمَا أَمَرَهُ بِالْإِعَادَةِ، وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَاتَتْهُ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَقَالَ: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . قَالَ: (وَيَسْقُطُ التَّرْتِيبُ بِالنِّسْيَانِ، وَخَوْفِ فَوْتِ الْوَقْتِيَّةِ، وَأَنْ تَزِيدَ عَلَى خَمْسٍ) أَمَّا النِّسْيَانُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» الْحَدِيثَ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ وَقْتَ الْفَائِتَةَ وَقْتُ التَّذَكُّرِ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا فَهُمَا صَلَاتَانِ لَمْ يَجْمَعْهَا وَقْتٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ، وَأَمَّا خَوْفُ فَوْتِ الْوَقْتِيَّةِ فَلِأَنَّ الْحِكْمَةَ لَا تَقْتَضِي إِضَاعَةَ الْمَوْجُودِ فِي طَلَبِ الْمَفْقُودِ، وَلِأَنَّ وُجُودَ الْوَقْتِيَّةِ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالتَّرْتِيبُ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَإِنِ اتَّسَعَ الْوَقْتُ عَمِلَ بِهَا وَإِنْ ضَاقَ فَالْعَمَلُ بِالْكِتَابِ أَوْلَى; وَأَمَّا كَثْرَةُ الْفَوَائِتِ فَحَدُّهُ دُخُولُ وَقْتِ السَّابِعَةِ؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ بِالتَّكْرَارِ، وَالتَّكْرَارُ بِوُجُوبِ السَّادِسَةِ، وَوُجُوبُهَا بِآخِرِ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّكْرَارُ بِدُخُولِ وَقْتِ السَّابِعَةِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا أَنْ تَزِيدَ عَلَى خَمْسٍ، لِأَنَّهُ مَتَى زَادَتِ الْفَوَائِتُ عَلَى خَمْسٍ تَكُونُ سِتًّا، وَمَتَى صَارَتْ سِتًّا دَخَلَ وَقْتُ السَّابِعَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا دَخَلَ وَقْتُ السَّادِسَةِ سَقَطَ التَّرْتِيبُ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ كَثِيرٌ، وَجِنْسُ الصَّلَاةِ خَمْسٌ، وَهَذَا فِي الْفَوَائِتِ الْحَدِيثَةِ، أَمَّا الْقَدِيمَةُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تُضَمُّ إِلَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنَ الْحَرَجِ، وَقِيلَ تُضَمُّ عُقُوبَةً لَهُ. (وَإِذَا سَقَطَ التَّرْتِيبُ) بِالْكَثْرَةِ هَلْ يَعُودُ إِذَا قَلَّتْ؟ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ: (لَا يَعُودُ) لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَ بِاعْتِبَارِهَا فَلَأَنْ يَسْقُطَ فِي نَفْسِهَا أَوْلَى. وَصُوَرَتُهُ لَوْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ شَهْرٍ فَقَضَى ثَلَاثِينَ فَجْرًا ثُمَّ ثَلَاثِينَ ظُهْرًا وَهَكَذَا صَحَّ الْجَمِيعُ، وَلَا يَعُودُ التَّرْتِيبُ لِأَنَّ السَّاقِطَ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ، وَكَذَا لَوْ قَضَى جَمِيعَ الشَّهْرِ إِلَّا صَلَاةَ يَوْمٍ ثُمَّ صَلَّى الْوَقْتِيَّةَ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهَا جَازَ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَا تُعَدُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 وَيَقْضِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ وَالْوِتْرَ، وَسُنَّةَ الْفَجْرِ إِذَا فَاتَتْ مَعَهَا، وَالْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ يَقْضِيهَا بَعْدَهَا. بَابُ النَّوَافِلِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءَ» . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا،   [الاختيار لتعليل المختار] الْوَتْرُ فِي الْفَوَائِتِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْفَرَائِضَ، وَلِأَنَّهَا لَوْ عَدَدْنَاهَا كَمَّلَتِ السِّتَّ، وَلَا يَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ وَهُوَ الْمَأْخُوذُ فِي الْكَثْرَةِ. (وَيَقْضِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ) لِمَا رَوَيْنَا. (وَالْوَتْرُ) لِمَا بَيَّنَا مِنْ وُجُوبِهَا، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَامَ عَنْ وَتْرٍ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ أَوْ إِذَا اسْتَيْقَظَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ نَامَ عَنْ وَتْرٍ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ» ، فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ. (وَسُنَّةَ الْفَجْرِ إِذَا فَاتَتْ مَعَهَا) «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَاهَا مَعَهَا لَيْلَةَ التَّعْرِيسِ» . وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقْضِيهَا وَإِنْ فَاتَتْ وَحْدَهَا، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَاهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ السُّنَنِ فَدَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِذَلِكَ. (وَالْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ يَقْضِيهَا بَعْدَهَا) قَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا فَاتَتْهُ الْأَرْبَعُ قَبْلَ الظُّهْرِ قَضَاهَا بَعْدَ الظُّهْرِ» ، وَلِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ الظُّهْرِ وَهِيَ سُنَّةُ الظُّهْرِ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقْضِيهَا قَبْلَ الرَّكْعَتَيْنِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ قَبْلَهَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا فَاتَتْ عَنْ مَحَلِّهَا، فَلَا يُفَوِّتُ الثَّانِيَةَ عَنْ مَحَلِّهَا أَيْضًا، وَهَذَا بِخِلَافِ سُنَّةِ الْعَصْرِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا فِي التَّأْكِيدِ، وَلِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ. [بَابُ النَّوَافِلِ] ِ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ثَابَرَ عَلَى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ» . فَهَذِهِ مُؤَكَّدَاتٌ لَا يَنْبَغِي تَرْكُهَا، فَقَدْ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ: " صَلُّوهمَا وَلَوْ أَدْرَكَتْكُمُ الْخَيْلُ» ، وَقَالَ: «هُمَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ، رَوَتْهُ عَائِشَةُ حَتَّى كَرِهَ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا قَاعِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ تَرَكَ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ لَمْ تَنَلْهُ شَفَاعَتِي» . (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا) قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وَقَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتًّا، وَقَبْلَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا، وَيُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا (س) ، وَيَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مُضِيًّا (ف) وَقَضَاءً (ف) ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . (وَقَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَكْعَتَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَاءَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتًّا) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيمَا بَيْنَهُنَّ بشيءٍ عَدَلْنَ لَهُ عِبَادَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةٍ» ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقِيَامِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَضْلٌ كَثِيرٌ، وَقِيلَ هِيَ نَاشِئَةُ اللَّيْلِ وَتُسَمَّى صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ، وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . (وَقَبْلَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا) وَقِيلَ: رَكْعَتَيْنِ. (وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا) وَقِيلَ: رَكْعَتَيْنِ، وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَهَا أَرْبَعًا ثُمَّ يَضْطَجِعُ» . (وَيُصَلِّي قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا) هَكَذَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ كَانَ مُصَلِّيًا الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ قَبْلَهَا أَرْبَعًا وَبَعْدَهَا» أَرْبَعًا، وَقِيلَ: بَعْدَهَا سِتًّا بِتَسْلِيمَتَيْنِ مَرُوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَهُوَ مَذُهَبُ أَبِي يُوسُفَ، وَكُلُّ صَلَاةٍ بَعْدَهَا سُنَّةٌ يُكْرَهُ الْقُعُودُ بَعْدَهَا، بَلْ يَشْتَغِلُ بِالسُّنَّةِ لِئَلَّا يَفْصِلَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْمَكْتُوبَةِ، وَعَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْعُدُ مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ وَإِلَيْكَ يَعُودُ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، ثُمَّ يَقُومُ إِلَى السُّنَّةِ» ، وَلَا يَتَطَوَّعُ مَكَانَ الْفَرْضِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ إِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بِسُبْحَتِهِ» ، وَكَذَا يُسُتَحَبُّ لِلْجَمَاعَةِ كَسْرُ الصُّفُوفِ لِئَلَّا يَظُنُّ الدَّاخِلُ أَنَّهُمُ فِي الْفَرْضِ. قَالَ: (وَيَلْزَمُ التَّطَوُّعُ بِالشُّرُوعِ مُضِيًّا وَقَضَاءً) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَقِيَاسًا عَلَى الصَّوْمِ فَيَجِبُ الْمُضِيُّ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ لِعَدَمِ الْفَصْلِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلصَّائِمِ: «أَجِبْ أَخَاكَ وَاقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ» ، «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وَقَدْ أَفْطَرَتَا فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ: اقْضِيَا يَوْمًا مَكَانَهُ وَلَا تَعُودَا» ، وَيَجُوزُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ لِقَوْلِ عَائِشَةَ: «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 فَإِنِ افْتَتَحَهُ قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ لِغَيْرِ عُذْرٍ جَازَ (سم) وَيُكْرَهُ. وَصَلَاةُ اللَّيْلِ رَكْعَتَانِ بِتَسْلِيمَةٍ أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ سِتٌّ (سم ف) أَوْ ثَمَانٍ، وَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي النَّهَارِ رَكْعَتَانِ أَوْ أَرْبَعٌ (ف) ، وَالْأَفْضَلُ فِيهِمَا الْأَرْبَعُ،   [الاختيار لتعليل المختار] يُصَلِّي قَاعِدًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ آيَاتٍ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ ثُمَّ عَادَ إِلَى الْقُعُودِ» ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ خَيْرُ مَوْضُوعٍ فَرُبَّمَا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ فَجَاز لَهُ ذَلِكَ إِحُرَازًا لِلْخَيْرِ، وَهَذَا مِمَّا لَم يُنْقَلُ فِيهِ خِلَافٌ. قَالَ: (فَإِنِ افْتَتَحَهُ قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ لِغَيْرِ عُذْرٍ جَازَ، وَيُكْرَهُ) وَقَالَا: لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالنَّذْرِ. وَلَهُ أَنَّ فَوَاتَ الْقِيَامِ لَا يُبْطِلُ التَّطَوُّعَ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَامَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ فَلَا يَلْزَمُ إِلَّا بِالْتِزَامِهِ صَرِيحًا كَالتَّتَابُعِ فِي الصَّوْمِ، وَلِهَذَا خَالَفَ النَّذْرَ. قَالَ: (وَصَلَاةُ اللَّيْلِ رَكْعَتَانِ بِتَسْلِيمَةٍ أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ سِتٌّ أَوْ ثَمَانٍ) وَكُلُّ ذَلِكَ نُقِلَ فِي تَهَجُّدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (وَيُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ، وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ كَالثَّمَانِ. قَالَ: (وَفِي النَّهَارِ رَكْعَتَانِ أَوْ أَرْبَعٌ، وَالْأَفْضَلُ فِيهِمَا الْأَرْبَعُ) وَقَالَا: الْأَفْضَلُ فِي اللَّيْلِ الْمَثْنَى اعْتِبَارًا بِالتَّرَاوِيحِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» وَبَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَسَلِّمْ، وَلَهُ قَوْلُ عَائِشَةَ: «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُصَلِّي بَعْدَ الْعِشَاءِ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلُ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ أَرْبَعًا لَا تَسْأَلُ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ» . وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُوَاظِبُ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى أَرْبَعًا بِتَسْلِيمَةٍ وَلِأَنَّهَا أَدْوَمُ تَحْرِيمَةٍ، فَكَانَ أَشَقَّ فَتَكُونُ أَفْضَلَ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» أَيْ أَشَقُّهَا. أَمَّا التَّرَاوِيحُ فَتُؤَدَّى بِجَمَاعَةٍ فَكَانَ مَبْنَاهَا عَلَى التَّخْفِيفِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَثْنَى مَثْنَى» مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ يَتَشَهَّدُ عَلَى كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، فَسَمَّاهُ مَثْنَى لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وَلَا يَزِيدُ فِي النَّهَارِ عَلَى أَرْبَعٍ بِتَسْلِيمَةٍ، وَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ، وَالْقِرَاءَةُ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ. فَصْلٌ التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِتَشَهُّدٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ: " أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعًا قَبْلَ الْعَصْرِ يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَعْنَاهُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِالتَّشَهُّدِ. (وَلَا يَزِيدُ فِي النَّهَارِ عَلَى أَرْبَعٍ بِتَسْلِيمَةٍ) لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ. قَالَ: (وَطُولُ الْقِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ) لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " طُولُ الْقُنُوتِ» ; لِأَنَّهُ أَشَقُّ وَلِأَنَّ فِيهِ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّسْبِيحِ. قَالَ: (والْقِرَاءَةُ وَاجِبَةٌ فِي جَمِيعِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ) لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ صَلَاةٌ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ بِالتَّحْرِيمَةِ سِوَى شَفْعٍ وَاحِدٍ، وَالْقِيَامُ إِلَى الثَّالِثَةِ كَتَحْرِيمَةٍ مُبْتَدَأَةٍ حَتَّى قَالْوا يُسْتَحَبُّ الِاسْتِفْتَاحُ فِي الثَّالِثَةِ. وَيَجُوزُ لِلرَّاكِبِ أَنْ يَتَنَفَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ يُومِئُ إِيمَاءً إِذَا كَانَ خَارِجَ الْمِصْرِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى خَيْبَرَ يُومِئُ إِيمَاءً» . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْزِلُ لِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لِأَنَّهُمَا آكَدُ مِنْ غَيْرِهِمَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْمِصْرِ أَيْضًا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكْرَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ خَارِجَ الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى الرُّكُوبِ فِيهِ أَغْلَبُ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْمِصْرُ. [بَابُ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ] فَصْلٌ (التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَهَا فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، وَبَيَّنَ الْعُذْرَ فِي تَرْكِ الْمُوَاظَبَةِ وَهُوَ خَشْيَةُ أَنْ تُكْتَبَ عَلَيْنَا، وَوَاظَبَ عَلَيْهَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» . وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنِ التَّرَاوِيحِ وَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ؟ فَقَالَ: التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَمْ يَتَخَرَّصْهُ عُمَرُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مُبْتَدِعًا، وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ إِلَّا عَنْ أَصْلٍ لَدَيْهِ وَعَهْدٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَقَدْ سَنَّ عُمَرُ هَذَا وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَصَلَّاهَا جَمَاعَةً وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعِشَاءَ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ، كُلُّ تَرْوِيحَةٍ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بتَسْلِيمَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ مِقْدَارَ تَرْوِيحَةٍ، وَكَذَا بَعْدَ الْخَامِسَةِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِهِمْ، وَلَا يُصَلَّى الْوِتْرُ بِجَمَاعَةٍ إِلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَوَقْتُهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيُكْرَهُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ. وَالسُّنَّةُ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي التَّرَاوِيحِ مَرَةً وَاحِدَةً،   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَالْعَبَّاسُ وَابْنُهُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَمُعَاذٌ وَأُبَيٌّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَمَا رَدَّ عَلَيْهِ وَاحِدٌ مِنْهُمُ، بَلْ سَاعَدُوهُ وَوَافَقُوهُ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ. وَالسُنَّةُ إِقَامَتُهَا بِجَمَاعَةٍ لَكِنْ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَلَوْ تَرَكَهَا أَهْلُ مَسْجِدٍ أَسَاءُوا، وَإِنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَفْرَادٌ وَصَلَّوْا فِي مَنَازِلِهِمُ لَمْ يَكُونُوا مُسِيئِينَ. قَالَ: (وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ خَمْسَ تَرْوِيحَاتٍ كُلُّ تَرْوِيحَةٍ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَتَيْنِ، يَجْلِسُ بَيْنَ كُلِّ تَرْوِيحَتَيْنِ مِقْدَارَ تَرْوِيحَةٍ، وَكَذَا بَعْدَ الْخَامِسَةِ ثُمَّ يُوتِرُ بِهِمْ) هَكَذَا صَلَّى أُبَيٌّ بِالصَّحَابَةِ، وَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ. (وَلَا يُصَلَّى الْوِتْرُ بِجَمَاعَةٍ إِلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ) وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا قَنَتَ فِي الْوَتْرِ لَا يَجْهَرُ، وَيَقْنُتُ الْمُقْتَدِي أَيْضًا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، وَالْأَفْضَلُ فِيهِ الْإِخْفَاءُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجْهَرُ الْإِمَامُ وَيُؤَمِّنُ الْمَأْمُومُ، وَلَا يَقْرَأُ لِشَبَهِهِ بِالْقُرْآنِ، وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ هَلْ هُوَ مِنْهُ أَمْ لَا؟ وَالْمُنْفَرِدُ إِنْ شَاءَ جَهَرَ، وَإِنْ شَاءَ خَفَتَ، وَالْمَسْبُوقُ فِي الْوَتْرِ إِذَا قَنَتَ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَقْنُتُ ثَانِيًا فِيمَا يَقْضِي لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ مَعَ الْإِمَامِ مُتَابَعَةً لَهُ فَصَارَ مَوْضِعًا لَهُ، فَلَوْ قَنَتَ ثَانِيًا يَكُونُ تَكْرَارًا لَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَلَا يَزِيدُ الْإِمَامُ فِي التَّرَاوِيحِ عَلَى التَّشَهُّدِ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُثْقِلُ عَلَى الْجَمَاعَةِ يَزِيدُ، وَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ وَيَأْتِي بِالثَّنَاءِ عَقِيبَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَوَقْتُهَا مَا بَيْنَ الْعِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ هُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى لَوْ صَلَّاهَا قَبْلَ الْعِشَاءِ لَا يَجُوزُ، وَبَعْدَ الْوَتْرِ يَجُوزُ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ دُونَ الْوَتَرِ، وَالْأَفْضَلُ اسْتِيعَابُ أَكْثَرَ اللَّيْلِ بِهَا لِأَنَّهَا قِيَامُ اللَّيْلِ، وَيَنْوِي التَّرَاوِيحَ أَوْ سُنَّةَ اللَّيْلِ أَوْ قِيَامَ رَمَضَانَ. (وَيُكْرَهُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ) لِزِيَادَةِ تَأَكُّدِهَا. (وَالسُنَّةُ خَتْمُ الْقُرْآنِ فِي التَّرَاوِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَشْرَ آيَاتٍ لِيَقَعَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وَالْأَفْضَلُ فِي السُّنَنِ الْمَنْزِلُ إِلَّا التَّرَاوِيحَ. فَصْلٌ صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَانِ كَهَيْئَةِ (ف) النَّافِلَةِ، وَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَجْهَرُ (ف) وَلَا يَخْطُبُ (ف) ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا، وَيَدْعُونَ بَعْدَهَا حَتَّى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ، وَفِي خُسُوفِ الْقَمَرِ يُصَلِّي كُلٌّ وَحْدَهُ (ف) ، وَكَذَا فِي الظُّلْمَةِ وَالرِّيحِ وَخَوْفِ الْعَدُوِّ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْخَتْمُ، وَالْأَفْضَلُ فِي زَمَانِنَا مِقْدَارُ مَا لَا يُؤَدِّي إِلَى تَنْفِيرِ الْقَوْمِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَالْأَفْضَلُ تَعْدِيلُ الْقِرَاءَةِ بَيْنَ التَّسْلِيمَاتِ، وَكَذَا بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ فِي التَّسْلِيمَةِ. (وَالْأَفْضَلُ فِي السُّنَنِ الْمَنْزِلُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفْضَلُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ» . قَالَ: (إِلَّا التَّرَاوِيحَ) لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. [بَابُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ] فَصْلٌ (صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَانِ كَهَيْئَةِ النَّافِلَةِ) لِمَا رَوَى جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: مِنْهُمُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَسَمُرَةُ وَالْأَشْعَرِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَيْنِ كَهَيْئَةِ صَلَاتِنَا وَلَمْ يَجْهَرْ فِيهِمَا» ، وَاعْتِبَارًا لَهَا بِغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ: " إِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ» ، فَيَنْصَرِفُ إِلَى الصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (وَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُ الْجُمُعَةِ) لِأَنَّهُ اجْتِمَاعٌ فَيُشْتَرَطُ نَائِبُ الْإِمَامِ تَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ كَالْجُمُعَةِ. (وَلَا يَجْهَرُ) لِمَا تَقَدَّمَ. (وَلَا يَخْطُبُ) لِأَنَّهَا لَمْ تُنْقَلْ، وَيُطَوِّلُ بِهِمُ الْقِرَاءَةَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَامَ فِي الْأُولَى بِقَدْرِ الْبَقَرَةِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِقَدْرِ آلِ عِمْرَانَ. (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَلَّى النَّاسُ فُرَادَى رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَرْبَعًا) لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهَا الْفُرَادَى، وَتَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ. (وَيَدْعُونَ بَعْدَهَا حَتَّى تَنْجَلِيَ الشَّمْسُ) هَكَذَا فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَفْزَاعِ فَارْغَبُوا إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ» . (وَفِي خُسُوفِ الْقَمَرِ يُصَلِّي كُلٌّ وَحْدَهُ) لِأَنَّهُ يَكُونُ لَيْلًا فَيُتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ. (وَكَذَا فِي الظُّلْمَةِ وَالرِّيحِ وَخَوْفِ الْعَدُوِّ) لِمَا رَوَيْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 فَصْلٌ لَا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ (ف سم) ، لَكِنِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَإِنْ صَلَّوْا فُرَادَى فَحَسَنٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل لا صَلَاةَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ] ِ، لَكِنِ الدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَإِنْ صَلَّوْا فُرَادَى فَحَسَنٌ) قَالَ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] عَلَّقَ إِرْسَالَ الْمَطَرِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «أَنَّ أَعْرَابَيًّا دَخَلَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْكُرَاعُ وَالْمَوَاشِي، وَأَجْدَبَتِ الْأَرْضُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَدَعَا، قَالَ أَنَسٌ: وَالسَّمَاءُ كَأَنَّهَا زُجَاجَةٌ لَيْسَ بِهَا قَزَعَةٌ، فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ وَمَطَرَتْ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ الْقَوِيَّ لَتَهُمُّهُ نَفْسُهُ حَتَّى عَادَ إِلَى بَيْتِهِ، وَمُطِرْنَا إِلَى الْجُمُعَةِ الْقَابِلَةِ» ، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّاهَا مَرَةً وَتَرَكَهَا أُخْرَى فَلَا تَكُونُ سُنَّةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وَلَا يَخْرُجُ مَعَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ. بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ وَيَسْجُدُ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ (ف) سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَسْقَى بِدُعَاءِ الْعَبَّاسِ، وَقَالَ: لَقَدِ اسْتَسْقَيْتُ لَكُمْ بِمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْغَيْثُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يَخْطُبُ مُتَنَكِّبًا قَوْسًا أَوْ مُعْتَمِدًا عَلَى سَيْفِهِ. وَرَوَى ابْنُ كَاسٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُكَبِّرُ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صَلَّى فِي الِاسْتِسْقَاءِ رَكْعَتَيْنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ» . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُكَبِّرُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْتَسْقَى فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ لَمْ يُكَبِّرْ إِلَّا تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ» ، وَقِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْأَفْزَاعِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالدُّعَاءِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الدُّعَاءِ وَيَقْلِبُ رِدَاءَهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَلَبَ رِدَاءَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُسَنُّ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَدْعِيَةِ، وَتَقْلِيبُ الرِّدَاءِ أَنْ يَجْعَلَ جَانِبَ الْأَيْمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ وَالْأَيْسَرِ عَلَى الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَدْعُو قَائِمًا وَالنَّاسُ قُعُودٌ مُسْتَقْبِلُونَ الْقِبْلَةَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَخْرُجَ النَّاسُ إِلَى الِاسْتِسْقَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ. وَرُوِيَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (وَلَا يَخْرُجُ مَعَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ) لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ نَهَى عَنْهُ، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْكُفَّارِ مَظِنَّةُ نُزُولِ اللَّعْنَةِ فَلَا يَخْرُجُونَ عِنْدَ طَلَبِ الرَّحْمَةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14] . [بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ] ِ سُجُودُ السَّهْوِ وَاجِبٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ سُنَّةٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِنَقْصِ تَمَكُّنٍ فِي الصَّلَاةِ وَرَفْعُهُ وَاجِبٌ فَيَكُونُ وَاجِبًا، وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ دُونَ السُّنَّةِ، وَوَجَبَ نَظَرًا لِلْمَعْذُورِ بِالسَّهْوِ لَا لِلْمُتَعَمِّدِ. قَالَ: (وَيَسْجُدُ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ» . وَرَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ بَعْدَ السَّلَامِ» ، ثُمَّ قِيلَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَقِيلَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً وَهُوَ الْأَحْسَنُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَخِرُّ سَاجِدًا وَيُسَبِّحُ، ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، وَيَفْعَلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَيَجِبُ إِذَا زَادَ فِي صَلَاتِهِ فِعْلًا مِنْ جِنْسِهَا، أَوْ جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافَتُ بِهِ أَوْ عَكَسَ (ف) ، وَلَا يَلْزَمُ لِتَرْكِ ذِكْرٍ إِلَّا الْقِرَاءَةَ وَالتَّشَهُّدَيْنِ وَالْقُنُوتَ وَتَكْبِيرَاتِ (ف) الْعِيدَيْنِ، وَإِنْ قَرَأَ فِي الرُّكُوعِ أَوِ الْقُعُودِ سَجَدَ للسَّهْوِ، وَإِنْ تَشَهَّدَ فِي الْقِيَامِ أَوِ الرُّكُوعِ لَا يَسْجُدُ، وَمَنْ سَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ تَكْفِيهِ سَجْدَتَانِ، وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ فَسَجَدَ سَجَدَ الْمَأْمُومُ وَإِلَا فَلَا (ف) ، وَإِنْ سَهَا الْمُؤْتَمُّ لَا يَسْجُدَانِ، وَالْمَسْبُوقُ يَسْجُدُ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَقْضِي، وَمَنْ سَهَا عَنِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَذَكَّرَ وَهُوَ إِلَى الْقُعُودِ أَقْرَبُ عَادَ وَتَشَهَّدَ،   [الاختيار لتعليل المختار] ذَلِكَ ثَانِيًا، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ ; لِأَنَّ مَوْضِعَ الدُّعَاءِ آخِرُ الصَّلَاةِ، وَهَذَا آخِرُهَا. قَالَ: (وَيَجِبُ إِذَا زَادَ فِي صَلَاتِهِ فِعْلًا مِنْ جِنْسِهَا) كَزِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ قِيَامٍ أَوْ قُعُودٍ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ تَأْخِيرِهِ عَنْ مَحَلِّهِ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلسَّهْوِ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَامَ إِلَى الْخَامِسَةِ فَسُبِّحَ بِهِ فَعَادَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ. قَالَ: (أَوْ جَهَرَ الْإِمَامُ فِيمَا يُخَافَتُ بِهِ أَوْ عَكَسَ) لِأَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ وَاجِبٌ فِي مَوْضِعِهمَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مِقْدَارُ مَا تَجُوزُ بِهِ الصَّلَاةُ عَلَى الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ قَلِيلٌ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. قَالَ: (وَلَا يَلْزَمُ لِتَرْكِ ذِكْرٍ إِلَّا الْقِرَاءَةَ وَالتَّشَهُّدَيْنِ وَالْقُنُوتَ وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ) لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الْأَذْكَارِ كَالتَّكْبِيرَاتِ وَالتَّسْبِيحِ سُنَّةٌ. (وَإِنْ قَرَأَ فِي الرُّكُوعِ أَوِ الْقُعُودِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ تَشَهَّدَ فِي الْقِيَامِ أَوِ الرُّكُوعِ لَا يَسْجُدُ) ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقُعُودَ وَالرُّكُوعَ لَيْسَا مَحَلَّ الْقِرَاءَةِ فَكَانَ تَغْيِيرًا فَيَجِبُ، وَالْقِيَامُ مَحَلُّ الثَّنَاءِ فَلَا تَغْيِيرَ فَلَا يَجِبُ. وَقِيلَ إِنْ بَدَأَ فِي الْقُعُودِ بِالتَّشَهُّدِ ثُمَّ بِالْقِرَاءَةِ فَلَا سَهْوَ عَلَيْهِ، وَلَوْ سَلَّمَ سَاهِيًا قَبْلَ التَّمَامِ سَجَدَ لِلسَّهْوِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَوْضِعِهِ. (وَمَنْ سَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ تَكْفِيهِ سَجْدَتَانِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سَجْدَتَانِ بَعْدَ السَّلَامِ يُجْزِيَانِ عَنْ كُلِّ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ» قَالَ: (وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ فَسَجَدَ سَجَدَ الْمَأْمُومُ وَإِلَّا فَلَا) تَحْقِيقًا لِلْمُوَافَقَةِ وَنَفْيًا لِلْمُخَالَفَةِ. (وَإِنْ سَهَا الْمُؤْتَمُّ لَا يَسْجُدَانِ) وَلَا أَحَدُهُمَا، لِأَنَّهُ لَوْ سَجَدَ الْمُؤْتَمُّ فَقَدْ خَالَفَ إِمَامَهُ، وَإِنْ سَجَدَ الْإِمَامُ يُؤَدِّي إِلَى قَلْبِ الْمَوْضُوعِ وَهُوَ تَبَعِيَّةُ الْإِمَامِ لِلْمَأْمُومِ. قَالَ: (وَالْمَسْبُوقُ يَسْجُدُ مَعَ الْإِمَامِ) لِلْمُوَافَقَةِ. (ثُمَّ يَقْضِي) مَا عَلَيْهِ; وَلَوْ سَهَا فِي الْقَضَاءِ يَسْجُدُ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ، وَلَوْ سَهَا اللَّاحِقُ فِي الْقَضَاءِ لَا يَسْجُدُ لِأَنَّهُ مُؤْتَمٌّ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَلَوْ سَجَدَ مَعَ الْإِمَامِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِأَنَّهُ يَقْضِي أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَيَسْجُدُ إِذَا فَرَغَ لِأَنَّ مَحَلَّهُ آخِرُ الصَّلَاةِ كَمَا مَرَّ، وَالْمُقِيمُ خَلْفَ الْمُسَافِرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَسْبُوقِ فِي سَجْدَتَيِ السَّهْوِ. قَالَ: (وَمَنْ سَهَا عَنِ الْقَعْدَةِ الْأُولَى ثُمَّ تَذَكَّرَ وَهُوَ إِلَى الْقُعُودِ أَقْرَبُ عَادَ وَتَشَهَّدَ) لِأَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنَ الشَّيْءِ يَأْخُذُ حُكْمَهُ وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ هُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَإِنْ كَانَ إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ لَمْ يَعُدْ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَإِنْ سَهَا عَنِ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَامَ عَادَ مَا لَمْ يَسْجُدْ، فَإِنْ سَجَدَ ضَمَّ إِلَيْهَا سَادِسَةً (ف) وَصَارَتْ نَفْلًا، وَإِنْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَامَ عَادَ وَسَلَّمَ، وَإِنْ سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ تَمَّ فَرْضُهُ، فَيَضُمُّ إِلَيْهَا رَكْعَةً سَادِسَةً وَيَسْجُدُ لِلسَّهُوِ وَالرَّكْعَتَانِ لَهُ نَافِلَةٌ. وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى وَهُوَ أَوَّلُ مَا عَرَضَ لَهُ اسْتَقْبَلَ (ف) ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ الشَّكُّ كَثِيرًا بَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ (ف) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ظَنٌّ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ.   [الاختيار لتعليل المختار] الصَّحِيحُ كَأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ. (وَإِنْ كَانَ إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ لَمْ يَعُدْ) لِأَنَّهُ كَالْقَائِمِ. (وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ) لِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَ كَذَلِكَ. قَالَ: (وَإِنْ سَهَا عَنِ الْقَعْدَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَامَ عَادَ مَا لَمْ يَسْجُدْ) لِمَا رُوِّينَا: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَامَ إِلَى الْخَامِسَةِ فَسُبِّحِ بِهِ فَعَادَ» وَلِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ وَهُوَ الْقَعْدَةُ الْأَخِيرَةُ فَيَعُودُ لِيَأْتِيَ بِهِ فِي مَحَلِّهِ لِيَتِمَّ فَرْضُهُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ لِمَا بَيَّنَّا. (فَإِنْ سَجَدَ ضَمَّ إِلَيْهَا سَادِسَةً وَصَارَتْ نَفْلًا) لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى النَّفْلِ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ صَلَاةٌ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ خُرُوجُهُ مِنَ الْفَرْضِ، فَقَدْ خَرَجَ وَبَقِيَ عَلَيْهِ رُكْنٌ فَبَطَلَ فَرْضُهُ فَيَضُمُّ إِلَيْهِ سَادِسَةً؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالْخَمْسِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: بَطَلَتِ الصَّلَاةُ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى بَطَلَتِ الْفَرْضِيَّةُ بَطَلَ أَصْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ عُقِدَتْ لِلْفَرْضِ فَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ أَصْلُ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ عُقِدَتْ لِصَلَاةٍ هِيَ فَرْضٌ. قَالَ: (وَإِنْ قَعَدَ فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَامَ عَادَ وَسَلَّمَ) لِأَنَّهُ بَقِيَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَا دُونَ الرَّكْعَةِ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ فَيَعُودُ. (وَإِنْ سَجَدَ فِي الْخَامِسَةِ تَمَّ فَرْضُهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا قُلْتَ هَذَا أَوْ فَعَلْتَهُ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ» . (فَيَضُمُّ إِلَيْهَا رَكْعَةً سَادِسَةً وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ، وَالرَّكْعَتَانِ لَهُ نَافِلَةٌ) لِأَنَّهُ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي النَّفْلِ بَعْدَ إِتْمَامِ الْفَرْضِ فَيَضُمُّ السَّادِسَةَ لِلنَّهْيِ عَنِ الْبُتَيْرَاءِ وَقَدْ بَقِيَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْفَرْضِ وَقَدْ أَخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّهِ فَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. قَالَ: (وَمَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى وَهُوَ أَوَّلُ مَا عُرِضَ لَهُ اسْتَقْبَلَ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِضُ لَهُ الشَّكُّ كَثِيرًا بَنَى عَلَى غَالِبِ ظَنِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ظَنٌّ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ) وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةٌ، رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ أَثَلَاثًا صَلَّى أَمْ أَرْبَعًا وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا سَهَا اسْتَقْبَلَ» وَأَنَّهُ نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّحَرِّيَ عِنْدَ الشَّكِّ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى كَثْرَةِ الشَّكِّ. وَرَوَى ابْنُ عَوْفٍ وَالْخُدْرِيُّ عَنْهُ الْبِنَاءَ عَلَى الْيَقِينِ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا، ثُمَّ إِذَا بَنَى يَقْعُدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ آخِرَ الصَّلَاةِ تَحَرُّزًا عَنْ تَرْكِ فَرْضِ الْقَعْدَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 بَابُ سُجُودِ التلاوة وَهُوَ وَاجِبٌ (ف) عَلَى التَّالِي وَالسَّامِعِ، وَهِيَ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَالرَّعْدِ، وَالنَّحْلِ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَرْيَمَ، وَالْأُولَى (ف) فِي الْحَجِّ، وَالْفُرْقَانِ، وَالنَّمْلِ، وَالم تَنَزِيلُ، وَص (ف) ، وَحم السَّجْدَةِ، وَالنَّجْمِ، وَالِانْشِقَاقِ، وَالْعَلَقِ. وَشَرَائِطُهَا كَشَرَائِطِ الصَّلَاةِ وَتُقْضَى (ف) ، فَإِنْ تَلَاهَا الْإِمَامُ سَجَدَهَا وَالْمَأْمُومُ، وَإِنْ تَلَاهَا الْمَأْمُومُ لَمْ يَسْجُدَاهَا (م) ، وَإِنْ سَمِعَهَا مَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ سَجَدَهَا، وَإِنْ سَمِعَهَا الْمُصَلِّي مِمَّنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الصَّلَاةِ سَجَدَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ سُجُودِ التلاوة] (وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى التَّالِي وَالسَّامِعِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ تَلَاهَا، السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا» وَعَلَى لِلْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ بَعْضَ السَّجَدَاتِ أَمْرٌ فَيَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَبَعْضُهَا ذَمٌّ عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ، وَتَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، وَسَوَاءٌ كَانَ التَّالِي كَافِرًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا أَوْ صَبِيًّا عَاقِلًا أَوِ امْرَأَةً أَوْ سَكْرَان؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَفْصِلْ، وَمَنْ لَا يَجِبْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَلَا قَضَاؤُهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُجُودُ التِّلَاوَةِ كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِأَنَّهَا مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَهِيَ فِي آخِرِ الْأَعْرَافِ، وَالرَّعْدِ، وَالنَّحْلِ، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَمَرْيَمَ، وَالْأُولَى فِي الْحَجِّ، وَالْفُرْقَانِ، وَالنَّمْلِ، وَالم تَنْزِيلُ، وَص، وَحم السَّجْدَةِ، وَالنَّجْمِ، وَالِانْشِقَاقِ، وَالْعَلَقِ) هَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ. (وَشَرَائِطُهَا كَشَرَائِطِ الصَّلَاةِ) لِأَنَّهَا جُزْءٌ مِنْهَا. (وَتُقْضَى) لِمَكَانِ الْوُجُوبِ، وَيُكْرَهُ لِلسَّامِعِ إِذَا سَجَدَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ التَّالِي ; لِأَنَّ التَّالِيَ كَالْإِمَامِ وَيُكْرَهُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْرَأَهَا فِي صَلَاةِ الْمُخَافَتَةِ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ الْأَمْرُ عَلَى الْقَوْمِ، فَرُبَّمَا رَكَعَ بَعْضُهُمْ; وَلَوْ قَرَأَهَا وَسَجَدَهَا سَجَدَ الْقَوْمُ مَعَهُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهَا حُكْمًا لِلْمُتَابَعَةِ كَمَا يَلْزَمُهُمْ سَهْوُهُ. قَالَ: (فَإِنْ تَلَاهَا الْإِمَامُ سَجَدَهَا وَالْمَأْمُومُ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَلَوْ تَلَاهَا الْمَأْمُومُ لَمْ يَسْجُدَاهَا) لِمَا بَيَّنَّا فِي السَّهْوِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْجُدُونَهَا بَعْدَ الْفَرَاغِ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ السَّمَاعُ وَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ. قُلْنَا هُوَ مَحْجُورٌ عَنِ الْقِرَاءَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَا حُكْمَ لِتَصَرُّفِ الْمَحْجُورِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَإِنَّهُمَا مَنْهِيَّانِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى الْفِعْلِ وَالْحَجْرُ لَا، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِمَا. قَالَ: (وَإِنْ سَمِعَهَا مَنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ سَجَدَهَا) لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَالْحَجْرُ لَا يَعْدُوهُمْ. قَالَ: (وَإِنْ سَمِعَهَا الْمُصَلِّي مِمَّنْ لَيْسَ فِي الصَّلَاةِ سَجَدَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وَمَنْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْجُدْهَا فِيهَا سَقَطَتْ، وَمَنْ كَرَّرَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ كَبَّرَ (ف) وَسَجَدَ، ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ. بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ إِذَا عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ أَوْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ أَوْ مُومِيًا إِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ أَوْمَأَ مُسْتَلْقِيًا (ف) ، أَوْ عَلَى جَنْبِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ، وَإِنْ سَجَدُوهَا فِي الصَّلَاةِ لَمْ تُجْزِهِمْ لِأَنَّهَا صَارَتْ نَاقِصَةً لِلنَّهْيِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهَا الْكَامِلُ وَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُمْ لِأَنَّهَا لَا تُنَافِي الصَّلَاةَ وَيُعِيدُونَهَا لِمَا بَيَّنَّا وَلَا سَهْوَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ تَعَمَّدُوهَا. قَالَ: (وَمَنْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ فَلَمْ يَسْجُدْهَا فِيهَا سَقَطَتْ) لِأَنَّهَا صَلَاتِيَّةٌ وَهِيَ أَقْوَى مِنَ الْخَارِجِيَّةِ فَلَا تَتَأَدَّى بِهَا، وَلَوْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ إِنْ شَاءَ رَكَعَ بِهَا وَإِنْ شَاءَ سَجَدَهَا ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ وَهُوَ أَفْضَلُ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْخُضُوعَ فِي السُّجُودِ أَكْمَلُ، وَتَتَأَدَّى بِالسَّجْدَةِ الصَّلَاتِيَّةِ لِأَنَّهَا تُوَافِقُهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيَنْوِي أَدَاءَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقِيلَ يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَتَى بِعَيْنِ الْوَاجِبِ، وَلَوْ نَوَاهَا فِي الرُّكُوعِ قِيلَ يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى التِّلَاوَةِ. وَقِيلَ لَا وَتَنُوبُ عَنْهَا السَّجْدَةُ الَّتِي عَقِبَ الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ: (وَمَنْ كَرَّرَ آيَةَ سَجْدَةٍ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ) دَفْعًا لِلْحَرَجِ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى التَّكْرَارِ لِلْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ، وَفِي تَكْرَارِ الْوُجُوبِ حَرَجٌ بِهِمْ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَقْرَأُ السَّجْدَةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّبِيُّ يُسْمِعُهَا أَصْحَابَهُ وَلَا يَسْجُدُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. قَالَ: (وَإِذَا أَرَادَ السُّجُودَ كَبَّرَ وَسَجَدَ ثُمَّ كَبَّرَ وَرَفَعَ رَأْسَهُ) اعْتِبَارًا بِالصَّلَاتِيَّةِ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلَا تَشَهُّدَ عَلَيْهِ وَلَا سَلَامَ، لِأَنَّهُمَا لِلتَّحْلِيلِ وَلَا تَحْرِيمَ هُنَاكَ. [بَابُ صَلَاةِ الْمَرِيضِ] ِ (إِذَا عَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ أَوْ خَافَ زِيَادَةَ الْمَرَضِ صَلَّى قَاعِدًا يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ، أَوْ مُومِيًا إِنْ عَجَزَ عَنْهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْقُعُودِ أَوْمَأَ مُسْتَلْقِيًا) وَقَدَمَاهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ. (أَوْ عَلَى جَنْبِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يُصَلِّي الْمَرِيضُ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَى قَفَاهُ يُومِئُ إِيمَاءً فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَاللَّهُ أَحَقُّ بِقَبُولِ الْعُذْرِ مِنْهُ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 فَإِنْ رَفَعَ إِلَى رَأْسِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ إِنْ خَفَضَ رَأْسَهُ جَازَ وَإِلَا فَلَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أَوْمَأَ قَاعِدًا (ف) ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ، وَلَا يُومِئُ بِعَيْنَيْهِ (زف) ، وَلَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِحَاجِبِهِ (زف) ، وَلَوْ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ قَائِمًا ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ كَالْعَجْزِ قَبْلَ الشُّرُوعِ، وَلَوْ شَرَعَ مُومِيًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ اسْتَقْبَلَ (زف) وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ جُنَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ قَضَاهَا (ف) ، وَلَا يَقْضِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: «صَلِّ قَائِمًا، فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ» ، وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَالْأَفْضَلُ الِاسْتِلْقَاءُ لِيَقَعَ إِيمَاؤُهُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَيَجْعَلُ الْإِيمَاءَ بِالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ اعْتِبَارًا بِهِمَا. (فَإِنْ رَفَعَ إِلَى رَأْسِهِ شَيْئًا يَسْجُدُ عَلَيْهِ إِنْ خَفَضَ رَأْسَهُ جَازَ) لِحُصُولِ الْإِيمَاءِ. (وَإِلَّا فَلَا) يَجُوزُ لِعَدَمِهِ. قَالَ: (فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَقَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ أَوْمَأَ قَاعِدًا) لِأَنَّ فَرْضِيَّةَ الْقِيَامِ لِأَجْلِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ; لِأَنَّ نِهَايَةَ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ فِيهِمَا، وَلِهَذَا شُرِعَ السُّجُودُ بِدُونِ الْقِيَامِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَالسَّهْوِ وَلَمْ يُشْرَعِ الْقِيَامُ وَحْدَهُ، وَإِذَا سَقَطَ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ الْقِيَامِ سَقَطَ الْقِيَامُ; وَلَوْ صَلَّى قَائِمًا مُومِيًا جَازَ، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالسُّجُودِ. قَالَ: (فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ أَخَّرَ الصَّلَاةَ) لِمَا رَوَيْنَا، فَإِنْ مَاتَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ بَرِئَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَا غَيْرَ نَفْيًا لِلْحَرَجِ كَمَا فِي الْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ بِخِلَافِ النَّوْمِ حَيْثُ يَقْضِيهَا وَإِنْ كَثُرَتْ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَدُّ أَكْثَرُ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ غَالِبًا. قَالَ: (وَلَا يُومِئُ بِعَيْنَيْهِ وَلَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِحَاجِبَيْهِ) لِأَنَّ فَرْضَ السُّجُودِ لَا يَتَأَدَّى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا يَجُوزُ بِهَا الْإِيمَاءُ كَمَا لَوْ أَوْمَأَ بِيَدِهِ أَوْ رِجْلِهِ بِخِلَافِ الرَّأْسِ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ السُّجُودِ. وَقَالَ زُفَرُ: يُومِئُ بِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِهِ بَعْضُ الْفَرَائِضِ وَهُوَ النِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ فَيُؤَدَّى بِهِ الْبَاقِي. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِيمَاءَ بِالْقَلْبِ النِّيَّةُ وَلَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِ الْجَوَارِحِ كَالْحَجِّ. قَالَ: (وَلَوْ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ قَائِمًا ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ كَالْعَجْزِ قَبْلَ الشُّرُوعِ) مَعْنَاهُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْقُعُودِ أَتَمَّهَا قَاعِدًا، وَإِنْ عَجَزَ فَمُسْتَلْقِيًا لِأَنَّهُ بِنَاءُ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ، وَإِنْ شَرَعَ قَاعِدًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بَنَى خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ صَلَاةَ الْقَائِمِ خَلْفَ الْقَاعِدِ تَجُوزُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ. (وَلَوْ شَرَعَ مُومِيًا ثُمَّ قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ اسْتَقْبَلَ) لِأَنَّهُ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ وَلَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ. (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ جُنَّ خَمْسَ صَلَوَاتٍ قَضَاهَا، وَلَا يَقْضِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) نَفْيًا لِلْحَرَجِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْكَثْرَةِ بِالتَّكْرَارِ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَالْخُدْرِيِّ. مَرِيضٌ مَجْرُوحٌ تَحْتَهُ ثِيَابٌ نَجِسَةٌ وَكُلَّمَا بُسِطَ تَحْتَهُ شَيْءٌ تَنَجَّسَ مِنْ سَاعَتِهِ يُصَلِّي عَلَى حَالِهِ مُسْتَلْقِيًا، وَكَذَا إِنْ كَانَ لَا يَتَنَجَّسُ لَكِنَّهُ يَزْدَادُ مَرَضُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ بِتَحْرِيكِهِ بِأَنْ بَزَغَ الْمَاءُ مِنْ عَيْنِهِ دَفْعًا لِزِيَادَةِ الْحَرَجِ. مَرِيضٌ رَاكِبٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْ يُنَزِّلُهُ يُصَلِّي الْمَكْتُوبَةَ رَاكِبًا بِإِيمَاءٍ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّزُولِ لِمَرَضٍ أَوْ مَطَرٍ أَوْ طِينٍ أَوْ عَدُوٍّ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ فِي مَسِيرٍ فَانْتَهَوْا إِلَى مَضِيقٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ فَمُطِرُوا السماء مِنْ فَوْقِهِمْ وَالْبَلَّةُ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَأَذَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَقَامَ، فَتَقَدَّمَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَصَلَّى بِهِمْ يُومِئُ إِيمَاءً، فَجَعَلَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنَ الرُّكُوعِ» ، وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النُّزُولِ سَقَطَ عَنْهُ كَحَالَةِ الْخَوْفِ، وَإِذَا جَازَ لَلصَّلَاةِ رُكْبَانًا، فَفَرْضُهُمُ الْإِيمَاءُ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلِمَا رُوِّينَا، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى النُّزُولِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِأَجْلِ الطِّينِ صَلَّى قَائِمًا بِإِيمَاءٍ لِلْعَجْزِ عَنِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِذَا صَلَّى رَاكِبًا يُوقِفُ الدَّابَّةَ؛ لِأَنَّ فِي السَّيْرِ انْتِقَالًا وَاخْتِلَافًا لَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إِيقَافُهَا جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَ السَّيْرِ كَمَا فِي حَالَةِ الْخَوْفِ. وَمَنْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الشَّطِّ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْخُرُوجُ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَإِنْ صَلَّى فِي السَّفِينَةِ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مُوثَقَةً بِالشَّطِّ صَلَّى قَائِمًا، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى الْأَرْضِ لِأَنَّهُ مُسْتَقِرٌّ فِي أَرْضِ السَّفِينَةِ فَيَأْتِي بِالْأَرْكَانِ، وَإِنْ كَانَتْ سَائِرَةً يُصَلِّي قَائِمًا، فَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ وَقَالَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ وَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَتْ مَرْبُوطَةً. وَلَهُ مَا رَوَى ابْنُ سِيرِينَ قَالَ: أَمَّنَا أَنَسٌ فِي نَهْرِ مَعْقِلٍ عَلَى بِسَاطِ السَّفِينَةِ جَالِسًا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهَا دَوَرَانُ الرَّأْسِ، وَالْغَالِبُ كَالْمُتَحَقِّقِ كَمَا فِي السَّفَرِ لَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ الْمَشَقَّةَ كَانَ كَالْمُتَحَقِّقِ فِي حَقِّ الرُّخْصَةِ كَذَا هُنَا، بِخِلَافِ الْمَرْبُوطَةِ لِأَنَّهَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْأَرْضِ، فَإِنِ اسْتَدَارَتِ السَّفِينَةُ وَهِيَ سَائِرَةٌ اسْتَدَارَ إِلَى الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَتْ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَلَا يَسْقُطُ كَالْمُصَلِّي عَلَى الْأَرْضِ، بِخِلَافِ الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ يَقْطَعُهُ عَنْ طَرِيقِهِ فَيَسْقُطُ لِلْعُذْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بَابُ صَلَاةِ الْمسافر وَفَرْضُهُ فِي كُلِّ رُبَاعِيَّةٍ رَكْعَتَانِ (ف) ، وَيَصِيرُ مُسَافِرًا إِذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْمِصْرِ قَاصِدًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ، وَيُعْتَبَرُ فِي الْجَبَلِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَفِي الْبَحْرِ اعْتِدَالُ الرِّيَاحِ، وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَدْخُلَ مِصْرَهُ أَوْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ (ف) يَوُمًا فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ صَلَاةِ المسافرِ] ِ (وَفَرْضُهُ فِي كُلِّ رُبَاعِيَّةٍ رَكْعَتَانِ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ فِي الْأَصْلِ رَكْعَتَيْنِ، فَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ» وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا تَوْقِيفًا. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - ". وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيكُمُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ» ، وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ. أَمَّا الْفَجْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْوَتْرُ فَلَا قَصْرَ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ أَتَمَّ الْأَرْبَعَ فَقَدْ خَالَفَ السُّنَّةَ، لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَمَّا صَلَّى بِأَهْلِ مَكَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: " أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» ، فَإِنْ قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ أَجْزَأَهُ اثْنَتَانِ عَنِ الْفَرْضِ، وَقَدْ أَسَاءَ لِتَأْخِيرِ السَّلَامِ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَرَكْعَتَانِ لَهُ نَافِلَةٌ لِزِيَادَتِهَا عَلَى الْفَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ بَطَلَ فَرْضُهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ رُكْنًا وَهُوَ الْقَعْدَةُ آخِرَ الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَيَصِيرُ مُسَافِرًا إِذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْمِصْرِ قَاصِدًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا) لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا إِلَّا إِذَا خَرَجَ مِنَ الْمِصْرِ، وَقَدْ قَالَتِ الصَّحَابَةُ لَوْ فَارَقْنَا هَذَا الْخُصَّ لَقَصَرْنَا. وَأَمَّا التَّقْدِيرُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حُكْمِ جَمِيعِ الْمُسَافِرِينَ لِيَكُونَ أَعَمَّ فَائِدَةً، فَيَتَنَاوَلُ كُلُّ مُسَافِرٍ سَفَرَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِيَسْتَوْعِبَ الْحُكْمُ الْجَمِيعَ، وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَبَقِيَ مِنَ الْمُسَافِرِينَ مَنْ لَمْ يُبَيَّنْ حُكْمُهُ، وَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْجِنْسِ فَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ كُلُّ مُسَافِرٍ، وَمَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ هَذَا الْحُكْمُ لَا يَكُونُ مُسَافِرًا. قَالَ: (بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ) لِأَنَّهُ الْوَسَطُ الْمُعْتَادُ، فَإِنَّ السَّيْرَ فِي الْمَاءِ فِي غَايَةِ السُّرْعَةِ، وَعَلَى الْعَجَلِ فِي غَايَةِ الْإِبْطَاءِ، فَاعْتَبَرْنَا الْوَسَطَ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ. قَالَ: (وَيُعْتَبَرُ فِي الْجَبَلِ مَا يَلِيقُ بِهِ، وَفِي الْبَحْرِ اعْتِدَالُ الرِّيَاحِ) لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسَطُ، وَهُوَ أَنْ لَا تَكُونَ الرِّيَاحُ غَالِبَةً وَلَا سَاكِنَةً، فَيَنْظُرُ كَمْ يَسِيرُ فِي مِثْلِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَيُجْعَلُ أَصْلًا. قَالَ: (وَلَا يَزَالُ عَلَى حُكْمِ السَّفَرِ حَتَّى يَدْخُلَ مِصْرَهُ أَوْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ) لِأَنَّ السَّفَرَ إِذَا صَحَّ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ إِلَّا بِالْإِقَامَةِ، وَالْإِقَامَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُسَافِرٌ وَإِنْ طَالَ مُقَامُهُ. وَمَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالْعَسْكَرِ وَالْعَبْدِ وَالزَّوْجَةِ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِسَفَرِهِ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِ، وَالْمُسَافِرُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِالنِّيَّةِ إِلَّا الْعَسْكَرَ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ أَوْ حَاصَرَ مَوْضِعًا، وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبِيَةِ صَحِيحَةٌ، وَلَوْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِمَوْضِعَيْنِ لَا يَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَبِيتَ بِأَحَدِهِمَا، وَالْمُعْتَبَرُ فِي تَغَيُّرِ الْفَرْضِ قَصْرًا وَإِتْمَامًا آخِرُ الْوَقْتِ، وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ، فَإِنِ اقْتَدَى بِهِ فِي الْوَقْتِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ، فَإِنْ أَمَّ الْمُسَافِرُ الْمُقِيمَ سَلَّمَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَأَتَمَّ الْمُقِيمُ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِالنِّيَّةِ أَوْ بِدُخُولِ وَطَنِهِ؛ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تَرْكُ السَّفَرِ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِالنِّيَّةِ أَتَمَّ، بِخِلَافِ الْمُقِيمِ حَيْثُ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا بِالنِّيَّةِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ إِنْشَاءُ الْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ فَاعِلًا بِالنِّيَّةِ. وَأَمَّا دُخُولُ وَطَنِهِ فَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِلِارْتِفَاقِ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِوَطَنِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَكَذَا نُقِلَ أَنَّ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يُسَافِرُونَ وَيَعُودُونَ إِلَى أَوْطَانِهِمْ مُقِيمِينَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ. وَأَمَّا الْمُدَّةُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَمَنْقُولَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ، وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا تَوْقِيفًا ; وَلِأَنَّ السَّفَرَ لَا يَخْلُو عَنِ اللُّبْثِ الْقَلِيلِ، فَاعْتَبَرْنَا الْخَمْسَةَ عَشَرَ كَثِيرًا فَاصِلًا اعْتِبَارًا بِمُدَّةِ الطُّهْرِ، إِذْ لَهَا أَثَرٌ فِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ وَإِسْقَاطِهَا. قَالَ: (وَإِنْ نَوَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُسَافِرٌ وَإِنْ طَالَ مُقَامُهُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ» وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَقَامَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسُّوسِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ. قَالَ: (وَمَنْ لَزِمَهُ طَاعَةُ غَيْرِهِ كَالْعَسْكَرِ وَالْعَبْدِ وَالزَّوْجَةِ يَصِيرُ مُسَافِرًا بِسَفَرِهِ مُقِيمًا بِإِقَامَتِهِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُخَالَفَتُهُ. قَالَ: (وَالْمُسَافِرُ يَصِيرُ مُقِيمًا بِالنِّيَّةِ) لِمَا بَيَّنَّا. (إِلَّا الْعَسْكَرَ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ أَوْ حَاصَرَ مَوْضِعًا) لِأَنَّ إِقَامَتَهُمْ لَا تَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَوْ نَوَوُا الْإِقَامَةَ ثُمَّ انْهَزَمُوا انْصَرَفُوا فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُمْ. (وَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبِيَةِ صَحِيحَةٌ) كَالْأَكْرَادِ وَالتُّرْكُمَانِ فِي الصَّحْرَاءِ وَالْكَلَأِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ إِقَامَتِهِمْ عَادَةً، فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ كَالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى لِأَهْلِهَا. قَالَ: (وَلَوْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِمَوْضِعَيْنِ لَا يَصِحُّ) إِذْ لَوْ صَحَّ فِي مَوْضِعَيْنِ لَصَحَّ فِي أَكْثَرَ وَأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ. (إِلَّا أَنْ يَبِيتَ بِأَحَدِهِمَا) فَتَصِحُّ النِّيَّةُ ; لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِقَامَةِ مَوْضِعُ الْبُيُوتَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّوقِيَّ يَكُونُ فِي النَّهَارِ فِي حَانُوتِهِ وَيُعَدُّ سَاكِنًا فِي مَحَلَّةٍ فِيهَا بَيْتُهُ. قَالَ: (وَالْمُعْتَبَرُ فِي تَغَيُّرِ الْفَرْضِ قَصْرًا وَإِتْمَامًا آخِرُ الْوَقْتِ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ حَتَّى لَوْ سَافَرَ آخِرَ الْوَقْتِ قَصَرَ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُسَافِرُ آخِرَ الْوَقْتِ تَمَّمَ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُسَافِرِ بِالْمُقِيمِ خَارِجَ الْوَقْتِ) لِتَقَرُّرِ فَرْضِهِمَا وَقَدْ تَقَدَّمَ. (فَإِنِ اقْتَدَى بِهِ فِي الْوَقْتِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ) لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مُتَابَعَتَهُ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ إِمَامًا لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَى أَئِمَّتِكُمْ» ، وَصَيْرُورَتُهُ مُتَابِعًا أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا. (فَإِنْ أَمَّ الْمُسَافِرُ الْمُقِيمَ سَلَّمَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّهُ تَمَّ فَرْضُهُ. (وَأَتَمَّ الْمُقِيمُ) لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ إِتْمَامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَالْعَاصِي (ف) وَالْمُطِيعُ فِي الرُّخَصِ سَوَاءٌ. بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى الْأَحْرَارِ الْأَصِحَّاءِ الْمُقِيمِينَ بِالْأَمْصَارِ،   [الاختيار لتعليل المختار] صَلَاتِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: «أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: (وَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ فِي الرُّخَصِ سَوَاءٌ) لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ، مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 184] . وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . وَقَوْلُهُ: {فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهَا» ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَصَارَ كَمَا إِذَا أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي مُبَاحٍ ثُمَّ نَوَى الْمَعْصِيَةَ بَعْدَهُ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] أَيْ غَيْرَ مُتَلَذِّذٍ فِي أَكْلِهَا وَلَا مُتَجَاوِزٍ قَدْرَ الضَّرُورَةِ، وَنَحْنُ لَا نَجْعَلُ الْمَعْصِيَةَ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ لُحُوقُ الْمَشَقَّةِ النَّاشِئَةِ مِنْ نَقْلِ الْأَقْدَامِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمَحْظُورُ مَا يُجَاوِرُهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، فَكَانَ السَّفَرُ مِنْ حَيْثُ إِفَادَتِهِ الرُّخْصَةَ مُبَاحًا ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَقْبَلُ الِانْفِصَالَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَوْطَانَ ثَلَاثَةٌ: أَصْلِيٌّ وَيُسَمَّى أَهْلِيًّا، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَقِرُّ الْإِنْسَانُ فِيهِ مَعَ أَهْلِهِ، وَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ إِلَّا بِمِثْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ بِأَهْلِهِ بِعَزْلِ الْقَرَارِ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ انْتِقَالِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ سَمَّى نَفْسَهُ مُسَافِرًا بِمَكَّةَ حَيْثُ قَالَ: «فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» . وَالثَّانِي وَطَنُ إِقَامَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يَدْخُلُهُ الْمُسَافِرُ فَيَنْوِي أَنْ يُقِيمَ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيَبْطُلُ بِالْأَصْلِيِّ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ، وَبِالْمُمَائِلِ لِطَرَيَانِهِ عَلَيْهِ، وَبِإِنْشَاءِ السَّفَرِ لِمُنَافَاتِهِ الْإِقَامَةَ. وَالثَّالِثُ وَطَنٌ سَكَنِيٌّ، وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ الْإِنْسَانُ فِي مَرْحَلَةٍ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيَبْطُلُ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي لِأَنَّهُمَا فَوْقَهُ، وَبِمِثْلِهِ لِطَرَيَانِهِ عَلَيْهِ، وَبَيَانُ ضَعْفِهِ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّوْمِ وَإِتْمَامِ الصَّلَاةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ] ِ اعْلَمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ فَرِيضَةٌ مَحْكَمَةٌ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا إِلَّا لِعُذْرٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْكُمُ الْجُمُعَةَ فِي يَوْمِي هَذَا، فِي شَهْرِي هَذَا، فِي عَامِي هَذَا، فِي مَقَامِي هَذَا، فَرِيضَةً وَاجِبَةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . قَالَ: (وَلَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى الْأَحْرَارِ الْأَصِحَّاءِ الْمُقِيمِينَ بِالْأَمْصَارِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وَلَا تُقَامُ إِلَّا فِي الْمِصْرِ (ف) أَوْ مُصَلَّاهُ، وَالْمِصْرُ مَا لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُهُ فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِ لَمْ يَسَعْهُمْ. وَلَا بُدَّ مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ (ف) وَوَقْتُهَا وَقْتُ الظُّهْرِ، وَلَا تَجُوزُ إِلَّا بِالْخُطْبَةِ يَخْطُبُ الْإِمَامُ خُطْبَتَيْنِ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِقَعْدَةٍ خَفِيفَةٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَرْبَعَةٌ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ: الْعَبْدُ، وَالْمَرِيضُ، وَالْمُسَافِرُ، وَالْمَرْأَةُ» وَلِأَنَّ الْعَبِيدَ مَشْغُولُونَ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى، وَالْمَرْأَةَ بِخِدْمَةِ زَوْجِهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعُذْرَ فِي تَرْكِ خُرُوجِهَا إِلَى الْجَمَاعَاتِ، وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَلِلْعَجْزِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْأَعْمَى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ. وَقَالَا: تَجِبُ إِذَا وَجَدَ قَائِدًا لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى السَّعْيِ فَصَارَ كَالضَّالِّ وَلَهُ أَنَّهُ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَرِيضِ فَلَا يَصِيرُ قَادِرًا بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْقَائِدَ قَدْ يَتْرُكُهُ فِي الطَّرِيقِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمُقِيمِينَ بِالْأَمْصَارِ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ وَلَا أَضْحَى إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» . قَالَ: (وَلَا تُقَامُ إِلَّا فِي الْمِصْرِ) لِمَا رَوَيْنَا. (أَوْ مُصَلَّاهُ) لِأَنَّهُ فِي حُكْمِهِ. (وَالْمِصْرُ مَا لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُهُ فِي أَكْبَرِ مَسَاجِدِهِ لَمْ يَسَعْهُمْ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُجَاعٍ الثَّلْجِيُّ: هَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ ; وَقِيلَ: هُوَ أَنْ يَعِيشَ كُلُّ صَانِعٍ بِحِرْفَتِهِ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: مَا أُقِيمَتْ فِيهِ الْحُدُودُ، وَنُفِّذَتْ فِيهِ الْأَحْكَامُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ: وَيُوجَدُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِي مَعَايِشِهِمْ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: كُلُّ مَوْضِعٍ مَصَّرَهُ الْإِمَامُ فَهُوَ مِصْرٌ، فَلَوْ بَعَثَ إِلَى قَرْيَةٍ نَائِبًا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ صَارَ مِصْرًا، فَلَوْ عَزَلَهُ وَدَعَاهُ الْتَحَقَ بِالْقُرَى. قَالَ: (وَلَا بُدَّ مِنَ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ) لِأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَاخْتَارَ كُلُّ جَمَاعَةٍ إِمَامًا فَلَا يَتَّفِقُونَ عَلَى وَاحِدٍ فَتَقَعُ بَيْنَهُمُ الْمُنَازَعَةُ، فَرُبَّمَا خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَا يُصَلُّونَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْفِتْنَةِ، وَمَعَ وُجُودِ السُّلْطَانِ لَا. (وَوَقْتُهَا وَقْتُ الظُّهْرِ) لِحَدِيثِ أَنَسٍ: «كَنَّا نُصْلِي الْجُمُعَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا مَالَتِ الشَّمْسُ» وَلِأَنَّهَا خَلَفٌ عَنِ الظُّهْرِ وَقَدْ سَقَطَتِ الظُّهْرُ فَتَكُونُ فِي وَقْتِهَا. قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ إِلَّا بِالْخُطْبَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَلَا يَجِبُ السَّعْيُ إِلَّا إِلَى الْوَاجِبِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ بِدُونِهَا. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا قُصِرَتِ الصَّلَاةُ لِمَكَانِ الْخُطْبَةِ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَهِيَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، هَكَذَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. (يَخْطُبُ الْإِمَامُ خُطْبَتَيْنِ) قَائِمًا يَسْتَقْبِلُ الْقَوْمَ وَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ. (يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِقَعْدَةٍ خَفِيفَةٍ) هُوَ الْمَأْثُورُ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ (ف سم) ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا طَاهِرًا، فَإِنْ خَطَبَ قَاعِدًا أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ جَازَ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا صَلَّاهَا أَجْزَأَتْهُ عَنِ الظُّهْرِ وَإِنْ أَمَّ فِيهَا جَازَ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ. قَالَ: (وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى جَازَ) وَكَذَلِكَ التَّسْبِيحَةُ وَنَحْوُهَا، وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَخْطَأَ السُّنَّةَ. وَقَالَا: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ طَوِيلٍ يُسَمَّى خُطْبَةً؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ شَرْطٌ. وَالتَّسْبِيحَةُ وَالتَّحْمِيدَةُ لَا تُسَمَّى خُطْبَةً. وَلَهُ أَنَّ التَّسْبِيحَةَ وَالتَّحْمِيدَةَ خُطْبَةٌ. لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مَعَانٍ جَمَّةٍ، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي: «وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: " لَئِنْ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ» سُمِّيَ هَذَا الْقَدْرُ خُطْبَةً، وَالْخُطْبَةُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَيَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِالْأَدْنَى، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَهَذَا ذِكْرٌ فَتَجُوزُ الْجُمُعَةُ بِهِ. (وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا طَاهِرًا) هُوَ الْمَأْثُورُ. (فَإِنْ خَطَبَ قَاعِدَا أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ جَازَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا أَسَنَّ كَانَ يَخْطُبُ قَاعِدًا، وَلِأَنَّ الطِّهَارَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلْخُطْبَةِ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فَلَا تُشْتَرَطُ لَهُ الطَّهَارَةُ كَالتِّلَاوَةِ وَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ، وَقَدْ أَسَاءَ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ مِنَ الْجَمَاعَةِ) لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْهَا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَمِّيَّتِهَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ سِوَى الْإِمَامِ، وَأَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ وَالثَّلَاثَةُ مِمَّنْ يَجُوزُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: اثْنَانِ سِوَى الْإِمَامِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمَاعَةٌ لِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاجْتِمَاعِ وَقَدْ وُجِدَ. وَلَهُمَا أَنَّ الْجَمْعَ الصَّحِيحَ ثَلَاثَةٌ وَمَا دُونَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْجَمَاعَةُ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يَتَأَدَّى بِالْمُخْتَلِفِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمِصْرِ فِي مَوْضِعَيْنِ وَثَلَاثَةٍ وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمِصْرَ إِذَا بَعُدَتْ أَطْرَافُهُ شَقَّ عَلَى أَهْلِهِ الْمَشْيُ مِنْ طَرَفٍ إِلَى طَرَفٍ فَيَجُوزُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَأَنَّهُ يَنْدَفِعُ بِالثَّلَاثِ فَلَا حَرَجَ بَعْدَهَا، وَلِهَذَا كَانَ عَلَيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُصَلِّي الْعِيدَ فِي الْجَبَّانَةِ، أَيِ الْمُصَلَّى، وَيَسْتَخْلِفُ مَنْ يُصَلِّي بِضَعَفَةِ النَّاسِ بِالْمَدِينَةِ، وَالْجَبَّانَةُ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْخِلَافُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ وَاحِدٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَجُوزُ إِلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ فِي مَوْضِعَيْنِ لَجَازَ فِي جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ كَغَيْرِهَا مِنَ الصَّلَوَاتِ وَأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ نَهْرٌ فَاصِلٌ كَبَغْدَادَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَمِصْرَيْنَ. وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَأْمُرُ بِقَطْعِ الْجِسْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةَ لِتَنْقَطِعَ الْوَصْلَةُ بَيْنَ الْجَانِبَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نَهْرٌ فَالْجُمُعَةُ لِمَنْ سَبَقَ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي وَقْتِهَا بِشَرَائِطِهَا، وَتَفْسُدُ جُمُعَةُ الْآخَرِينَ وَيَقْضُونَ الظُّهْرَ، فَإِنْ صَلَّى أَهْلُ الْمَسْجِدَيْنِ مَعًا، أَوْ لَا يَدْرِي مَنْ سَبَقَ فَصَلَاةُ الْكُلِّ فَاسِدَةٌ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَلَا يُخْرَجُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِالشَّكِّ. قَالَ: (وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ) الْجُمُعَةُ، (إِذَا صَلَّاهَا أَجْزَأَتْهُ عَنِ الظُّهْرِ، وَإِنَّ أَمَّ فِيهَا جَازَ) لِأَنَّهَا وُضِعَتْ عَنْهُمْ تَخْفِيفًا وَرُخْصَةً لِمَكَانِ الْعُذْرِ، فَإِذَا حَضَرُوا زَالَ الْعُذْرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ جَازَ (ز) وَيُكْرَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْطُلُ ظُهْرُهُ بِالسَّعْيِ (سم) ، وَيُكْرَهُ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً فِي الْمِصْرِ، وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ وَاسْتَمَعُوا وَأَنْصَتُوا، وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ، فَإِذَا أَذَّنَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ تَوَجَّهُوا إِلَى الْجُمُعَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَتَجُوزُ صَلَاتُهُمْ كَالْمُسَافِرِ إِذَا صَامَ، وَإِذَا حَضَرُوا صَارَتْ صَلَاتُهُمْ فَرْضًا فَتَجُوزُ إِمَامَتُهُمْ كَمَا فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مُسَافِرٌ. قَالَ: (وَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ جَازَ وَيُكْرَهُ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ، وَأَصْلُهُ الِاخْتِلَافُ فِي فَرْضِ الْوَقْتِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: هُوَ الظُّهْرُ، لَكِنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِإِسْقَاطِهِ عَنْهُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ الْجُمُعَةُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا، وَالْفَرْضُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ بِالظُّهْرِ رُخْصَةً. وَعَنْهُ أَنَّ الْفَرْضَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَيَتَعَيَّنُ بِأَدَائِهِ؛ لِأَنَّ أَيَّهُمَا أَدَّى سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ، فَدَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا. وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ الْجُمُعَةُ، وَالظُّهْرُ بَدَلٌ عَنْهَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَعْذُورِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْجُمُعَةِ مَنْهِيٌّ عَنِ الظُّهْرِ، فَإِذَا فَاتَتِ الْجُمُعَةُ أُمِرَ بِالظُّهْرِ، وَهَذَا آيَةُ الْبَدَلِيَّةِ. وَلَنَا أَنَّ التَّكْلِيفَ يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ، وَالْعَبْدُ إِنَّمَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الظُّهْرِ بِنَفْسِهِ دُونَ الْجُمُعَةِ لِأَنَّهَا تَتَوَقَّفُ عَلَى شَرَائِطَ تَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ الْغَيْرِ، وَلِهَذَا لَوْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ أُمِرَ بِقَضَاءِ الظُّهْرِ لَا الْجُمُعَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ الظُّهْرَ، وَيُؤْمَرُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ كَإِنْجَاءِ الْغَرِيقِ آخِرَ الْوَقْتِ قَبْلَ الصَّلَاةِ. قَالَ: (فَإِنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْطُلُ ظُهْرُهُ بِالسَّعْيِ) وَقَالَا: لَا تَبْطُلُ مَا لَمْ يَدْخُلْ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ شَرْطٌ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالطَّهَارَةِ. وَلَهُ أَنَّ السَّعْيَ مِنْ فَرَائِضِ الْجُمُعَةِ وَخَصَائِصِهَا لِلْأَمْرِ، وَالِاشْتِغَالُ بِفَرَائِضِ الْجُمُعَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَا يُبْطِلُ الظُّهْرَ كَالتَّحْرِيمَةِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ لِأَصْحَابِ الْأَعْذَارِ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً فِي الْمِصْرِ) لِأَنَّ فِيهِ إِخْلَالًا بِالْجُمُعَةِ، فَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِمْ غَيْرُهُمْ، بِخِلَافِ الْقُرَى لِأَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ جَرَى التَّوَارُثُ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ بِغَلْقِ الْمَسَاجِدِ وَقْتَ الْجُمُعَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، وَلَوْلَا الْكَرَاهَةُ لَمَا أَغْلَقُوهَا. قَالَ: (وَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ اسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ) بِهِ جَرَى التَّوَارُثُ. (وَاسْتَمَعُوا وَأَنْصَتُوا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] . قَالُوا: نَزَلَتْ فِي الْخُطْبَةِ. وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا لَا يَسْمَعُ النِّدَاءَ قِيلَ يَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْكُتُ لِلْأَمْرِ. (وَتُكْرَهُ الصَّلَاةُ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ الِاسْتِمَاعُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ فَلَا صَلَاةَ وَلَا كَلَامَ» . وَلَوْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ قَبْلَ خُرُوجِهِ سَلَّمَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ كَانَ شَرَعَ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي أَتَمَّهُ، وَلَوْ كَانَ شَرَعَ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الْجُمُعَةِ أَتَمَّهَا. قَالَ: (فَإِذَا أَذَّنَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ تَوَجَّهُوا إِلَى الْجُمُعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وَإِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ جَلَسَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَذَانَ الثَّانِيَ، فَإِذَا أَتَمَّ الْخُطْبَةَ أَقَامُوا. بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَتَجِبُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ، وَشَرَائِطُهَا كَشَرَائِطِهَا إِلَّا الْخُطْبَةَ. وَيُسْتَحَبُّ يَوْمَ الْفِطْرِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَسْتَاكَ، وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَإِذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ جَلَسَ وَأَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَذَانَ الثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ عُثْمَانَ، وَكَثُرَ النَّاسُ وَتَبَاعَدَتِ الْمَنَازِلُ زَادَ مُؤَذِّنًا آخَرَ يُؤَذِّنُ قَبْلَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَإِذَا جَلَسَ أَذَّنَ الْأَذَانَ الثَّانِي، فَإِذَا نَزَلَ أَقَامَ، فَالثَّانِي هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ وَتَرْكِ الْبَيْعِ؟ وَقِيلَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ الْأَوَّلُ إِذَا وَقَعَ بَعْدَ الزَّوَالِ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى: (30 {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] (فَإِذَا أَتَمَّ الْخُطْبَةَ أَقَامُوا) . [بَابُ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ] (وَتَجِبُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ} [البقرة: 185] قَالُوا: الْمُرَادُ صَلَاةُ الْعِيدِ، وَلِمُوَاظَبَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَيْهَا وَلِقَضَائِهِ إِيَّاهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ، وَقِيلَ إِنَّهَا سُنَّةٌ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؟ وَقَوْلُهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: عِيدَانِ اجْتَمَعَا فِي يَوْمٍ: الْأَوَّلُ سُنَّةٌ، وَالثَّانِي فَرِيضَةٌ. مَعْنَاهُ وَجَبَ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَتْرُكُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا دَلِيلَ الْوُجُوبِ. وَقَوْلُهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةِ لِمَا بَيَّنَّا فِيهَا. قَالَ: (وَشَرَائِطُهَا كَشَرَائِطِهَا) يَعْنِي السُّلْطَانَ وَالْجَمَاعَةَ وَالْمِصْرَ وَالْوَقْتَ وَغَيْرَ ذَلِكَ لِمَا مَرَّ فِي الْجُمُعَةِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا جُمْعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ، وَلَا فِطْرَ وَلَا أَضْحَى إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» . قَالَ: (إِلَّا الْخُطْبَةَ) فَإِنَّهُ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، كَذَا الْمَأْثُورُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ تَرَكَهَا جَازَ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ، وَقَدْ أَسَاءَ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ; وَكَذَلِكَ إِنْ خَطَبَ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَجُوزُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ تَعْلِيمُهُمْ وَظِيفَةَ الْيَوْمِ، وَيُكْرَهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَا أَذَانَ لَهَا وَلَا إِقَامَةَ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ. [فصل ما يستحب في يوم الفطر وفي يوم الأضحى] قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ يَوْمَ الْفِطْرِ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَغْتَسِلَ) لِمَا تَقَدَّمَ فِي الطَّهَارَةِ. (وَيَسْتَاكَ) لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَهُ جُبَّةُ فَنَكٍ يَلْبَسُهَا فِي الْجُمَعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَيَتَطَيَّبَ وَيَأْكُلَ شَيْئًا حُلْوًا تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ نَحْوَهُ، وَيُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ ثُمَّ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْمُصَلَّى، وَوَقْتُ الصَّلَاةِ مِنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا. وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَثَلَاثًا (ف) ، بَعْدَهَا ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْكَعُ، وَيَبْدَأَ فِي الثَّانِيَةِ بِالْقِرَاءَةِ (ف) ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا، وَأُخْرَى لِلرُّكُوعِ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الزَّوَائِدِ، وَيَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهِمَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْأَعْيَادِ. (وَيَتَطَيَّبَ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَتَطَيَّبُ يَوْمَ الْعِيدِ وَلَوْ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ، ثُمَّ يَرُوحُ إِلَى الصَّلَاةِ. (وَيَأْكُلَ شَيْئًا حُلْوًا تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ نَحْوَهُ) هَكَذَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِأَنَّهُ يُحَقِّقُ مَعْنَى الِاسْمِ، وَمُبَادَرَةٌ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ. (وَيُخْرِجَ صَدَقَةَ الْفِطْرِ) فَيَضَعَهَا فِي مَصْرِفِهَا، هَكَذَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِ تَفْرِيغُ بَالِ الْفَقِيرِ لِلصَّلَاةِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَغْنُوهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ» وَإِنْ أَخَّرَهَا جَازَ. وَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ. (ثُمَّ يَتَوَجَّهَ إِلَى الْمُصَلَّى) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْشِيَ رَاجِلًا، هَكَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَكَبِّرُ جَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ; وَقَالَا: يُكَبِّرُ اعْتَبَارًا بِالْأَضْحَى. وَلَهُ مَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سَمِعَ النَّاسَ يُكَبِّرُونَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَقَالَ لِقَائِدِهِ: أَكَبَّرَ الْإِمَامُ؟ قَالَ لَا، قَالَ: أَفَجُنَّ النَّاسُ؟ وَلِأَنَّ الذِّكْرَ مَبْنَاهُ عَلَى الْإِخْفَاءِ. وَالْأَثَرُ وَرَدَ فِي الْأَضْحَى فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، وَلَا يُتَطَوَّعُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ حِرْصِهِ عَلَى الصَّلَاةِ. وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى فَرَأَى قَوْمًا يُصَلُّونَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي لَمْ نَعْهَدْهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: (وَوَقْتُ الصَّلَاةِ مِنِ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ إِلَى زَوَالِهَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي الْعِيدَ وَالشَّمْسُ عَلَى قَدْرِ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ ; وَلَمَّا شَهِدُوا عِنْدَهُ بِالْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ صَلَّى الْعِيدَ مِنَ الْغَدِ، وَلَوْ بَقِيَ وَقْتُهَا لَمَا أَخَّرَهَا. قَالَ: (وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ: يُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَثَلَاثًا بَعْدَهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ وَسُورَةً، ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَرْكَعُ، وَيَبْدَأُ فِي الثَّانِيَةِ بِالْقِرَاءَةِ، ثُمَّ يُكَبِّرُ ثَلَاثًا وَأُخْرَى لِلرُّكُوعِ) وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَبَّرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ أَرْبَعًا، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَرْبَعٌ كَأَرْبَعِ الْجِنَازَةِ» . وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ، وَخَنَسَ إِبْهَامَهُ. فَفِيهِ عَمَلٌ وَقَوْلٌ وَإِشَارَةٌ وَتَأْكِيدٌ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْكُتُ بَيْنَ كُلِّ تَكْبِيرَتَيْنِ قَدْرَ ثَلَاثِ تَسْبِيحَاتٍ. قَالَ: (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الزَّوَائِدِ) لِمَا رَوَيْنَا. (وَيَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهِمَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ) لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فَإِنْ شُهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ صَلَّوْهَا مِنَ الْغَدِ، وَلَا يُصَلُّوهَا بَعْدَ ذَلِكَ. يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ إِلَّا أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الْأَكْلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَيُكَبِّرُ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى جَهْرًا، وَيُصَلِّيهَا كَصَلَاةِ الْفِطْرِ، ثُمَّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهِمَا الْأُضْحِيَةَ وَتَكْبِيرَ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ لَمْ يُصَلُّوهَا أَوَّلَ يَوْمٍ صَلَّوْهَا مِنَ الْغَدِ وَبَعْدَهُ، وَالْعُذْرُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ. وَتَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَخْطُبُ بَعْدَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا كَالْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِأَصْحَابِ الْعِلَلِ فِي الْمِصْرِ، لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ جَازَ. قَالَ: (فَإِنْ شَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ بَعْدَ الزَّوَالِ صَلَّوْهَا مِنَ الْغَدِ) لِمَا تَقَدَّمَ. (وَلَا يُصَلُّوهَا بَعْدَ ذَلِكَ) لِأَنَّهَا صَلَاةُ الْفِطْرِ فَتَخْتَصُّ بِيَوْمِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْضَى، لَكِنْ خَالَفْنَاهُ بِمَا رُوِّينَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَاهَا مِنَ الْغَدِ فَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ. 1 - فَصْلٌ (يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْأَضْحَى مَا يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ) مِنَ الْغُسْلِ وَالتَّطَيُّبِ وَالسِّوَاكِ وَاللِّبْسِ. (إِلَّا أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الْأَكْلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا يَطْعَمُ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ فَيَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ» . قَالَ: (وَيُكَبِّرُ فِي طَرِيقِ الْمُصَلَّى جَهْرًا) هَكَذَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا وَصَلَ الْمُصَلَّى قَطَعَ ; وَقِيلَ: إِذَا شَرَعَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ قَطَعَ. قَالَ: (وَيُصَلِّيهَا كَصَلَاةِ الْفِطْرِ) كَذَا النَّقْلُ. (ثُمَّ يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ) كَمَا تَقَدَّمَ. (يُعَلِّمُ النَّاسَ فِيهِمَا الْأُضْحِيَّةَ وَتَكْبِيرَ التَّشْرِيقِ) لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ. (فَإِنْ لَمْ يُصَلُّوهَا أَوَّلَ يَوْمٍ صَلَّوْهَا مِنَ الْغَدِ وَبَعْدِهِ، وَالْعُذْرُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ) لِأَنَّهَا صَلَاةُ الْأَضْحَى، فَتَتَقَدَّرُ بِأَيَّامِهَا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعُذْرِ وَعَدَمِهِ فِي ذَلِكَ. [فَصْلُ تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ] فَصْلٌ (وَتَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 وَهُوَ وَاجِبٌ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ فِي جَمَاعَاتِ الرِّجَالِ الْمُقِيمِينَ بِالْأَمْصَارِ (سم) مِنْ عَقِيبِ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى عَقِيبِ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوَّلَ أَيَّامِ النَّحْرِ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ. بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةً أَمَامَ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةً يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً   [الاختيار لتعليل المختار] وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ الذَّبِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ الْخَلِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، لَمَّا أَخَذَ فِي مُقَدَّمَاتِ الذَّبْحِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْفِدَاءِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا خَافَ عَلَيْهِ الْعَجَلَةَ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، فَسَمِعَهُ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ جَاءَ بِالْفِدَاءِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، فَسَمِعَ الذَّبِيحُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، فَصَارَتْ سُّنَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: (وَهُوَ وَاجِبٌ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ فِي جَمَاعَاتِ الرِّجَالِ الْمُقِيمِينَ بِالْأَمْصَارِ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] . قِيلَ: الْمُرَادُ تَكْبِيرُ التَّشْرِيقِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا جُمُعَةَ وَلَا تَشْرِيقَ، وَلَا فِطْرَ، وَلَا أَضْحَى إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ» . وَالتَّشْرِيقُ: هُوَ التَّكْبِيرُ نَقْلًا عَنِ الْخَلِيلِ وَالنَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ ; وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَفَاهُ ثُمَّ أَوْجَبَهُ، وَمِثْلُهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ كَالْفِطْرِ وَالْأَضْحَى. وَأَمَّا بَقِيَّةُ الشَّرَائِطِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ صَلَّى الْمَكْتُوبَةَ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهَا فَيَجِبُ عَلَى مَنْ يُؤَدِّيهَا ; وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْجَهْرَ بِالتَّكْبِيرِ خِلَافُ الْأَصْلِ، إِذِ الْأَصْلُ الْإِخْفَاءُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ» وَلِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ الرِّيَاءِ، وَالسُّنَّةُ وَرَدَتْ بِالْجَهْرِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهَا عَلَى الْأَصْلِ وَيَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ إِذَا اقْتَدَيْنَ بِالرَّجُلِ، وَالْمُسَافِرِ إِذَا اقْتَدَى بِالْمُقِيمِ تَبَعًا. قَالَ: (مِنْ عَقِيبِ صَلَاةِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ إِلَى عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوَّلَ أَيَّامِ النَّحْرِ ثَمَانِ صَلَوَاتٍ) وَقَالَا: إِلَى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ صَلَاةً، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَمَذْهَبُهُ، وَمَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ يُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْأَصْلَ الْإِخْفَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْمَصِيرُ إِلَى الْأَقَلِّ جَهْرًا أَوْلَى. وَلَهُمَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَالِاحْتِيَاطُ فِيهَا الْوُجُوبُ، وَقِيلَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا. [بَابُ صَلَاةِ الْخَوْفِ] ِ (وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ: طَائِفَةً أَمَامَ الْعَدُوِّ، وَطَائِفَةً يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَةً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 إِنْ كَانَ مُسَافِرًا، وَرَكْعَتَيْنِ إِنْ كَانَ مُقِيمًا وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ، وَتَمْضِي إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَجِيءُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَيُصَلِّي بِهِمْ بَاقِيَ الصَّلَاةِ وَيُسَلِّمُ وَحْدَهُ، وَيَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الْأُولَى فَيُتَمِّمُونَ صَلَاتَهُمْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ وَيُسَلِّمُونَ وَيَذْهَبُونَ، وَتَأْتِي الْأُخْرَى فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ بِقِرَاءَةٍ وَيُسَلِّمُونَ. وَمَنْ قَاتَلَ أَوْ رَكِبَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ صَلَّوْا رُكْبَانًا وُحْدَانًا يُومِئُونَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ قَدَرُوا، وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَاشِيًا، وَخَوْفُ السَّبُعِ كَخَوْفِ الْعَدُوِّ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِنْ كَانَ مُسَافِرًا) ؛ لِأَنَّهَا شَطْرُ صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْفَجْرِ. (وَرَكْعَتَيْنِ إِنْ كَانَ مُقِيمًا) لِأَنَّهُمَا الشَّطْرُ. (وَكَذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ) لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّنْصِيفَ فَكَانُوا أَوْلَى لِلسَّبْقِ. (وَتَمْضِي إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ وَتَجِيءُ تِلْكَ الطَّائِفَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] . (فَيُصَلِّي بِهِمْ بَاقِيَ الصَّلَاةِ وَيُسَلِّمُ وَحْدَهُ) لِأَنَّهُ قَدْ أَتَمَّ صَلَاتَهُ. (وَيَذْهَبُونَ إِلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَتَأْتِي الْأُولَى فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ) لِأَنَّهُمْ لَاحِقُونَ، وَيَتَحَرَّوْنَ أَنْ يَقِفُوا مِقْدَارَ مَا وَقَفَ الْإِمَامُ فَكَأَنَّهُمْ خَلْفَهُ. (وَيُسَلِّمُونَ وَيَذْهَبُونَ) وَتَأْتِي الْأُخْرَى فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ بِقِرَاءَةٍ) لِأَنَّهُمْ مَسْبُوقُونَ. (وَيُسَلِّمُونَ) هَكَذَا رَوَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ أَنَّ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ أَتَمُّوا صَلَاتَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ جَازَ؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ كَالْمُنْفَرِدِ فَلَمْ يَبْقَوْا فِي حُكْمِ الْإِمَامِ. قَالَ: (وَمَنْ قَاتَلَ أَوْ رَكِبَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) لِأَنَّهُ فِعْلٌ كَثِيرٌ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شُغِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ حَتَّى قَضَاهَا لَيْلًا، وَقَالَ: «مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمُ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى» وَلَوْ جَازَتِ الصَّلَاةُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا أَخَّرَهَا؛ لِأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَ بَعْدَ شَرْعِيَّةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، وَهِيَ قَبْلَ الْخَنْدَقِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ لِأَنَّهَا مُخَالَفَةٌ لِلْأُصُولِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] وَجَوَابُهُ أَنَّ الصَّحَابَةَ صَلَّوْهَا بِطَبَرِسْتَانَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا. قَالَ: (فَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ صَلَّوْا رُكْبَانًا وُحْدَانًا يُومِئُونَ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ قَدَرُوا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] وَعَدَمُ التَّوَجُّهِ لِلضَّرُورَةِ، وَلِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِقَدْرِ الْوُسْعِ، وَلَا يَسَعُهُمْ تَأْخِيرُهَا حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ إِلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَهُمُ الصَّلَاةُ ; وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ لِلرَّاكِبِ إِذَا كَانَ طَالِبًا، وَفِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 239] إِشَارَةً إِلَيْهِ، فَإِنَّ الطَّالِبَ لَا يَخَافُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ بِجَمَاعَةٍ أَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْمَطَرِ فِي بَابِ الْمَرِيضِ، وَالْفَتْوَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُخَالَفَةِ فِي الْمَكَانِ. (وَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَاشِيًا) لِأَنَّ الْمَشْيَ فِعْلٌ كَثِيرٌ. قَالَ: (وَخَوْفُ السَّبُعِ كَخَوْفِ الْعَدُوِّ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى، وَلَوْ رَأَوْا سَوَادًا فَظَنُّوهُ عَدُوًّا فَصَلَّوْا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ يَجُوزُ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَنَفْلُهَا فِي الْكَعْبَةِ وَفَوْقَهَا، فَإِنْ قَامَ الْإِمَامُ فِي الْكَعْبَةِ وَتَحَلَّقَ الْمُقْتَدُونَ حَوْلَهَا جَازَ، وَإِنْ كَانُوا مَعَهُ جَازَ، إِلَّا مَنْ جَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى وَجْهِ الْإِمَامِ، وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ. بَابُ الْجَنَائِزِ وَمَنِ احْتُضِرَ وُجِّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] صَلَاةَ الْخَوْفِ وَكَانَ إِبِلًا جَازَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ وُجِدَ فِي صَلَاتِهِمْ خَاصَّةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ] (يَجُوزُ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَنَفْلُهَا فِي الْكَعْبَةِ وَفَوْقَهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] . وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صَلَّى دَاخِلَ الْبَيْتِ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَائِطِ مِقْدَارُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ» ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ اسْتَجْمَعَتْ شَرَائِطَهَا، فَتَجُوزُ، وَالِاسْتِيعَابُ فِي التَّوَجُّهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ النَّاسِ مِنْ لَدُنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا، وَلِأَنَّ الْقِبْلَةَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ وَالْهَوَاءِ إِلَى السَّمَاءِ، لَا نَفْسُ الْبِنَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ; وَكَذَا لَوْ صَلَّى عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَمَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ. قَالَ: (فَإِنْ قَامَ الْإِمَامُ فِي الْكَعْبَةِ وَتَحَلَّقَ الْمُقْتَدُونَ حَوْلَهَا جَازَ) إِذَا كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا؛ لِأَنَّهُ كَقِيَامِهِ فِي الْمِحْرَابِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْمَسَاجِدِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانُوا مَعَهُ جَازَ) لِأَنَّهُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْكَعْبَةِ. (إِلَّا مَنْ جَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى وَجْهِ الْإِمَامِ) لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ عَلَى إِمَامِهِ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى الْإِمَامُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ تَحَلَّقَ النَّاسُ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَصَلَّوْا بِصَلَاتِهِ) هَكَذَا تَوَارَثَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا ; وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الْإِمَامِ جَازَتْ صَلَاتُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِي جَانِبِهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ إِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجَانِبِ، أَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِهِ فَلَا. [بَابُ الْجَنَائِزِ] ِ (وَمَنِ احْتُضِرَ) أَيْ قَرُبَ مِنَ الْمَوْتِ (وُجِّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) هُوَ السُّنَّةِ وَاعْتِبَارًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وَلُقِّنَ الشَّهَادَةَ، فَإِنْ مَاتَ شَدُّوا لَحْيَيْهِ وَغَمَّضُوا عَيْنَيْهِ، وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ دَفْنِهِ. وَيَجِبُ غَسْلُهُ وُجُوبَ كِفَايَةٍ، وَيُجَرَّدُ لِلْغُسْلِ وَيُوضَعُ عَلَى سَرِيرٍ مُجَمَّرٍ وِتْرًا، وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ، وَيُوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ إِلَّا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ، وَيُغْلَى الْمَاءُ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحُرْضِ إِنْ وُجِدَ وَيُغْسَلُ رَأْسُهُ   [الاختيار لتعليل المختار] بِحَالَةِ الْوَضْعِ فِي الْقَبْرِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ، وَاخْتَارَ الْمُتَأَخِّرُونَ الِاسْتِلْقَاءَ، قَالُوا: لِأَنَّهُ أَيْسَرُ لِخُرُوجِ الرُّوحِ. (وَلُقِّنَ الشَّهَادَةَ) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» وَالْمُرَادُ مَنْ قَرُبَ مِنَ الْمَوْتِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِهَا لَكِنْ تُذْكَرُ عِنْدَهُ وَهُوَ يَسْمَعُ. قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ شَدُّوا لِحْيَيْهِ وَغَمَّضُوا عَيْنَيْهِ) هَكَذَا فَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِأَبِي سَلَمَةَ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَحْسِينَهُ. (وَيُسْتَحَبُّ تَعْجِيلُ دَفْنِهِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَجِّلُوا مَوْتَاكُمْ " فَإِنْ كَانَ خَيْرًا قَدَّمْتُمُوهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا فَبُعْدًا لِأَهْلِ النَّارِ» وَكَرِهَ بَعْضُهُمُ النِّدَاءَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ فِيهِ إِعْلَامُ النَّاسِ فَيُؤَدُّونَ حَقَّهُ، وَفِيهِ تَكْثِيرُ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ. [فَصْلٌ غسل الميت] فَصْلٌ (وَيَجِبُ غُسْلُهُ وُجُوبَ كِفَايَةٍ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ " وَعَدَّ مِنْهَا: وَأَنْ يُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ» حَتَّى لَوْ تَرَكُوا غُسْلَهُ أَثِمُوا جَمِيعًا، وَلَوْ تَعَيَّنَ وَاحِدٌ لِغُسْلِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ تَغْسِيلُ الْمَلَائِكَةِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالُوا لِوَلَدِهِ: هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ. قَالَ: (وَيُجَرَّدُ لِلْغُسْلِ) لِيُتَمَكَّنَ مِنْ تَنْظِيفِهِ وَوُصُولِ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ، وَاعْتِبَارًا بِغَسْلِهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غُسِّلَ فِي ثِيَابِهِ فَذَلِكَ خُصَّ بِهِ تَعْظِيمًا لَهُ. قَالَ: (وَيُوضَعُ عَلَى سَرِيرٍ مُجَمَّرٍ وِتْرًا) أَمَّا السَّرِيرُ لِيَنْصَبُّ الْمَاءُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا التَّجْمِيرُ فَلِدَفْعِ الرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ. وَأَمَّا الْوِتْرُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا أَجْمَرْتُمُ الْمَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ وِتْرًا» . (وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهَا كَالْحَيِّ ; وَقِيلَ يُكْتَفَى بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ الْغَلِيظَةِ، وَتُغْسَلُ عَوْرَتُهُ مِنْ تَحْتِ السُّرَّةِ بَعْدَ أَنْ يَلُفَّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً لِئَلَّا يَلْمِسَهَا. قَالَ: (وَيُوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ) لِأَنَّهَا سُنَّةُ الْغُسْلِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّاتِي غَسَّلْنَ ابْنَتَهُ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا» ، قَالَ: (إِلَّا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ) لِتَعَذُّرِ إِخْرَاجِ الْمَاءِ وَلِعَدَمِ تَصَوُّرِهِ مِنَ الْمَيِّتِ. قَالَ: (وَيُغْلَى الْمَاءُ بِالسِّدْرِ أَوْ بِالْحُرْضِ إِنْ وُجِدَ) لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي النَّظَافَةِ وَهِيَ الْمَقْصُودُ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ الْحَارَّ أَبْلَغُ فِي إِزَالَةِ الدَّرَنِ. قَالَ: (وَيَغْسِلُ رَأْسَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَلِحْيَتُهُ بِالْخِطْمِيِّ مِنْ غَيْرِ تَسْرِيحٍ، وَيُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيُغْسَلُ حَتَّى يُعْلَمَ وُصُولُ الْمَاءِ تَحْتَهُ، ثُّمَ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغْسَلُ كَذَلِكَ، ثُّمَ يُجْلِسُهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ، وَلَا يُعِيدُ غَسْلَهُ، ثُمَّ يُنَشِّفُهُ بِخِرْقَةٍ، وَيَجْعَلُ الْحَنُوطَ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَالْكَافُورَ عَلَى مَسَاجِدِهِ. ثُمَّ يُكَفِّنُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ مُجَمَّرَةٍ: قَمِيصٍ، وَإِزَارٍ، وَلِفَافَةٍ، وَهَذَا كَفَنُ السُّنَّةِ. وَصِفَتُهُ: أَنْ تُبْسَطَ اللِّفَافَةُ ثُمَّ الْإِزَارُ فَوْقَهَا ثُمَّ يُقَمَّصُ، وَهُوَ مِنَ الْمَنْكِبِ إِلَى الْقَدَمِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلِحْيَتَهُ بِالْخَطْمِيِّ) تَنْظِيفًا لَهُمَا. (مِنْ غَيْرِ تَسْرِيحٍ) إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَلَا يُؤْخَذُ شَيْءٌ مِنْ شَعْرِهِ وَظُفُرِهِ، وَلَا يُخْتَنُ لِأَنَّهَا لِلزِّينَةِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: " عَلَامَ تَنْصُونَ مَيِّتَكُمْ؟ " أَيْ تَسْتَقْصُونَ. قَالَ: (وَيُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيُغْسَلُ حَتَّى يُعْلَمَ وُصُولُ الْمَاءِ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُضْجَعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ فَيُغْسَلُ كَذَلِكَ) لِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْمَيَامِنِ سُنَّةٌ. (ثُمَّ يُجْلِسُهُ وَيَمْسَحُ بَطْنَهُ) لَعَلَّهُ بَقِيَ فِي بَطْنِهِ شَيْءٌ فَيَخْرُجُ فَتَتَلَوَّثُ بِهِ الأَكْفَانُ. وَرُوِيَ أَنْ عَلِيًّا لَمَّا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْنَدَهُ إِلَى صَدْرِهِ وَمَسَحَ بَطْنَهُ فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، فَقَالَ: طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا يَا رَسُولَ اللَّهِ. (فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ غَسَلَهُ) إِزَالَةً لِلنَّجَاسَةِ. (وَلَا يُعِيدُ غُسْلَهُ) لِأَنَّ الْغُسْلَ عُرِفَ بِالنَّصِّ وَقَدْ حَصَلَ. (ثُمَّ يُنَشِّفُهُ بِخِرْقَةٍ) لِئَلَّا تَبْتَلَّ أَكْفَانُهُ فَيَصِيرَ مُثْلَةً. (وَيُجْعَلُ الْحَنُوطُ عَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ) لِأَنَّهُ طِيبُ الْمَوْتَى. (وَالْكَافُورُ عَلَى مَسَاجِدِهِ) لِأَنَّ التَّطْيِيبَ سُنَّةٌ، وَتَخْصِيصُ مَوَاضِعِ السُّجُودِ تَشْرِيفًا لَهَا. [فَصْلٌ صفة الكفن] فَصْلٌ قَالَ: (ثُمَّ يُكَفِّنُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ مَجْمَّرَةٍ: قَمِيصٍ، وَإِزَارٍ، وَلِفَافَةٍ ; وَهَذَا كَفَنُ السُّنَّةِ) لِمَا «رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ مِنْهَا قَمِيصُهُ» . «وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَفَّنَتْ آدَمَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ، وَقَالَتْ: هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ يَا بَنِي آدَمَ» . (وَصِفَتُهُ أَنْ تُبْسَطَ اللِّفَافَةُ ثُمَّ الْإِزَارُ فَوْقَهَا، ثُمَّ يُقَمَّصُ وَهُوَ مِنَ الْمَنْكِبِ إِلَى الْقَدَمِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 وَيُوضَعُ الْإِزَارُ وَهُوَ مِنَ الْقَرْنِ إِلَى الْقَدَمِ، وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ ثُمَ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى إِزَارٍ وَلِفَافَةٍ جَازَ، وَلَا يُقْتَصَرُ عَلَى وَاحِدٍ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَيُعْقَدُ الْكَفَنُ إِنْ خِيفَ انْتِشَارُهُ، وَلَا يُكَفَّنُ إِلَّا فِيمَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لَهُ، وَكَفَنُ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ، وَتُزَادُ خِمَارًا وَخِرْقَةً تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا، فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَوْبَيْنِ وَخِمَارٍ جَازَ، وَيُجْعَلُ شَعْرُهَا ضَفِيرَتَيْنِ عَلَى صَدْرِهَا فَوْقَ الْقَمِيصِ تَحْتَ اللِّفَافَةِ. فَصْلٌ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَيُوضَعُ الْإِزَارُ وَهُوَ مِنَ الْقَرْنِ إِلَى الْقَدَمِ، وَيُعْطَفُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْيَسَارِ ثُمَّ مِنْ قِبَلِ الْيَمِينِ) اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ، ثُمَّ اللِّفَافَةُ كَذَلِكَ، وَهِيَ مِنَ الْقَرْنِ إِلَى الْقَدَمِ. قَالَ: (فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى إِزَارٍ وَلِفَافَةٍ جَازَ) اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ؟ وَلِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اغْسِلُوا ثَوْبَيَّ هَذَيْنِ وَكَفَّنُونِي فِيهِمَا، وَهَذَا كَفَنُ الْكِفَايَةِ. قَالَ: (وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى وَاحِدٍ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتُشْهِدَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ. قَالَ: (وَيُعْقَدُ الْكَفَنُ إِنْ خِيفَ انْتِشَارُهُ) تَحَرُّزَا عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ. (وَلَا يُكَفَّنُ إِلَّا فِيمَا يَجُوزُ لِبْسُهُ لَهُ) اعْتِبَارًا بِحَالَةِ الْحَيَاةِ. قَالَ: (وَكَفَنُ الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ وَتُزَادُ خِمَارًا وَخِرْقَةً تُرْبَطُ فَوْقَ ثَدْيَيْهَا) تُلْبَسُ الْقَمِيصَ أَوَّلًا ثُمَّ الْخِمَارَ فَوْقَهُ، ثُمَّ تُرْبَطُ الْخِرْقَةُ فَوْقَ الْقَمِيصِ ثُمَّ الْإِزَارُ ثُمَّ اللِّفَافَةُ اعْتِبَارًا بِلِبْسِهَا حَالَ الْحَيَاةِ وَهُوَ كَفَنُ السُّنَّةِ، لِمَا رَوَتْ أَمُّ عَطِيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَاوَلَهَا فِي كَفَنِ ابْنَتِهِ ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى نَاوَلَهَا خَمْسَةَ أَثْوَابٍ آخِرُهَا خِرْقَةٌ تَرْبِطُ بِهَا ثَدْيَيْهَا» . (فَإِنِ اقْتَصَرُوا عَلَى ثَوْبَيْنِ وَخِمَارٍ جَازَ) وَهُوَ كَفَنُ الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى مَا تُسْتَرُ بِهِ حَالَ الْحَيَاةِ، وَيُكْرَهُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَكْفِيهَا إِزَارٌ وَلِفَافَةٌ لِحُصُولِ السِّتْرِ بِهِمَا. قَالَ: (وَيُجْعَلُ شَعْرُهَا ضَفِيرَتَيْنِ عَلَى صَدْرِهَا فَوْقَ الْقَمِيصِ تَحْتَ اللِّفَافَةِ) مِنَ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ يُجْعَلُ وَرَاءَ ظَهْرِهَا لِلزِّينَةِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ رُبَّمَا انْتَشَرَ الْكَفَنُ فَيُجْعَلُ عَلَى صَدْرِهَا لِذَلِكَ، وَالْمُرَاهِقُ كَالْبَالِغِ وَغَيْرِ الْمُرَاهِقِ فِي خِرْقَتَيْنِ إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، وَإِذَا مَاتَتِ الْمَرْأَةُ وَلَا كَفَنَ لَهَا فَكَفَنُهَا عَلَى زَوْجِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا بِكِسْوَتِهَا حَالَ الْحَيَاةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ مِنْ مُؤَنِ النِّكَاحِ وَقَدْ زَالَ. [فَصْلٌ الصَّلَاةُ عَلَى الْجَنَازَةِ] فَصْلٌ (الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَرْضُ كِفَايَةٍ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصَّلَاةُ عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا السُّلْطَانُ، ثُمَّ الْقَاضِي، ثُمَّ إِمَامُ الْحَيِّ، ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، إِلَّا الْأَبَ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الِابْنِ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ إِنْ صَلَّى غَيْرُ السُّلْطَانِ أَوِ الْقَاضِي، فَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ، وَإِنْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ صَلَّوْا عَلَى قَبْرِهِ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ تَفَسُّخُهُ، وَيَقُومُ الْإِمَامُ حِذَاءَ الصَّدْرِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ. وَالصَّلَاةُ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الْأُولَى وَلَا يَرْفَعُ بَعْدَهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صَلُّوا عَلَى كُلِّ مَيِّتٍ بَرٍّ وَفَاجِرٍ» وَلِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ صَلَّوْا عَلَى آدَمَ وَقَالُوا: هَذِهِ سُنَّةُ مَوْتَاكُمْ. قَالَ: (وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا السُّلْطَانُ) لِأَنَّ فِي التَّقَدُّمِ عَلَيْهِ ازْدِرَاءً بِهِ. وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهُ الْحَسَنُ قَدَّمَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَكَانَ أَمِيرًا بِالْمَدِينَةِ، وَقَالَ: لَوْلَا السُّنَّةُ لَمَّا قَدَّمْتُكَ. (ثُمَّ الْقَاضِي) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. ثُمَّ إِمَامُ الْحَيِّ) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِمَامَتِهِ حَالَ حَيَاتِهِ. (ثُمَّ الْأَوْلِيَاءُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، إِلَّا الْأَبَ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الِابْنِ) لِأَنَّ لَهُ فَضِيلَةً عَلَيْهِ فَكَانَ أَوْلَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: الْوَلِيُّ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْقُرْبِ فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلِلْأَقْرَبِ أَنْ يُقَدِّمَ مَنْ شَاءَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ. (وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُصَلِّيَ إِنْ صَلَّى غَيْرُ السُّلْطَانِ أَوِ الْقَاضِي) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ. قَالَ: (فَإِنْ صَلَّى الْوَلِيُّ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ) لِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ تَأَدَّى بِالْوَلِيِّ، فَلَوْ صَلَّوْا بَعْدَهُ يَكُونُ نَفْلًا وَلَا يُتَنَفَّلُ بِهَا، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ لَأَعَادَهَا النَّاسُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعُمَرَ: «إِنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ لَا تُعَادُ» . قَالَ: (وَإِنْ دُفِنَ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ صَلَّوْا عَلَى قَبْرِهِ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ تَفَسُّخُهُ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، فَإِذَا تَفَسَّخَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالتُّرْبَةِ وَلَوْ عَلِمُوا بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَمْ يُغَسَّلْ غَسَّلُوهُ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ، وَلَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ بَعْدَ الدَّفْنِ لَا يُنْبَشُ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَلَا يُعِيدُهَا. وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: يُخْرِجُونَهُ مَا لَمْ يُهِيلُوا التُّرَابَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَبْشٍ. قَالَ: (وَيَقُومُ الْإِمَامُ حِذَاءَ الصَّدْرِ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ) لِمَا «رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ فَقَامَ بِحِذَاءِ صَدْرِهَا» ، وَلِأَنَّ الصَّدْرَ مَحَلُّ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَمَعْدِنُ الْحِكْمَةِ، فَيَكُونُ الْقِيَامُ بِحِذَائِهِ إِشَارَةً إِلَى الشَّفَاعَةِ لِإِيمَانِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقِفُ لِلرَّجُلِ حِذَاءَ الصَّدْرِ، وَلِلْمَرْأَةِ حِذَاءَ وَسَطِهَا؛ لِأَنَّ أَنَسًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَ كَذَلِكَ، وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ. قَالَ: (وَالصَّلَاةُ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صَلَاةِ الْعِيدِ: «أَرْبَعٌ كَأَرْبَعِ الْجَنَائِزِ» . (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الْأُولَى) لِأَنَّهَا تَكْبِيرَةُ الِافْتِتَاحِ. (وَلَا يَرْفَعُ بَعْدَهَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ الْأُولَى، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ الثَّانِيَةِ، وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، وَيُسَلِّمُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ، وَيَقُولُ فِي الصَّبِيِّ بَعْدَ الثَّالِثَةِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَذُخْرًا شَافِعًا مُشَفَّعًا، وَلَا قِرَاءَةَ فِيهَا وَلَا تَشَهُّدَ ; وَمَنِ اسْتَهَلَّ وَهُوَ أَنْ يُسْمَعَ لَهُ صَوْتٌ سُمِّيَ، وَغُسِّلَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا أُدْرِجَ فِي خِرْقَةٍ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ. فَإِذَا حَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ   [الاختيار لتعليل المختار] «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إِلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ» وَلَمْ يَذْكُرْهَا. (يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ الْأُولَى) لِأَنَّ سُنَّةَ الدُّعَاءِ الْبِدَايَةُ بِحَمْدِ اللَّهِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَسْتَفْتِحُ. (وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ الثَّانِيَةِ) لِأَنَّ ذِكْرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَلِي ذِكْرَ رَبِّهِ تَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قِيلَ: لَا أُذْكَرُ إِلَّا وَتُذْكَرُ مَعِي. (وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِلْمَيِّتِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الثَّالِثَةِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الدُّعَاءُ، وَقَدْ قُدِّمَ ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ رَسُولِهِ فَيَأْتِي بِالْمَقْصُودِ فَهُوَ أَقْرَبُ لِلْإِجَابَةِ. (وَيُسَلِّمُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ هَكَذَا آخِرُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إِلَى زَمَانِنَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ دَعَوْتَ بِبَعْضِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَحَسَنٌ، وَإِنْ دَعَوْتَ بِمَا يَحْضُرُكَ فَحَسَنٌ. (وَيَقُولُ فِي الصَّبِيِّ بَعْدَ الثَّالِثَةِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَذُخْرًا شَافِعًا مُشَفَّعًا) لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى غَائِبٍ لِأَنَّهُ إِمَامٌ وَمَأْمُومٌ وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ مَعَ الْغَيْبَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَصَلَّى النَّاسُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ، وَلَوْ صَلَّوْا لَنُقِلَ وَلَمْ يُنْقَلْ. وَأَمَّا صَلَاتُهُ عَلَى النَّجَاشِيِّ فَإِنَّهُ كُشِفَ لَهُ حَتَّى أَبْصَرَ سَرِيرَهُ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ مَاتَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «هَذَا أَخُوكُمُ النَّجَاشِيُّ قَدْ مَاتَ قُومُوا نُصَلِّي عَلَيْهِ» ، فَصَلَّى وَهُوَ يَرَاهُ وَصَلَّتِ الصَّحَابَةُ بِصَلَاتِهِ. قَالَ: (وَلَا قِرَاءَةَ فِيهَا وَلَا تَشَهُّدَ) أَمَّا التَّشَهُّدُ فَإِنَّ مَحَلَّهُ الْقُعُودُ وَلَا قُعُودَ فِيهَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَلِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: لَمْ يُوَقِّتْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ قِرَاءَةً، لَا فِعْلًا، وَلَا قَوْلًا، كَبِّرْ مَا كَبَّرَ الْإِمَامُ، وَاخْتَرْ مِنْ أَطْيَبِ الْكَلَامِ مَا شِئْتَ، وَلَوْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ بِنِيَّةِ الدُّعَاءِ لَا بَأْسَ بِهِ، أَمَّا بِنِيَّةِ التِّلَاوَةِ مَكْرُوهٌ. قَالَ: (وَمَنِ اسْتَهَلَّ وَهُوَ أَنْ يُسْمَعَ لَهُ صَوْتٌ سُمِّيَ وَغُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا أُدْرِجَ فِي خِرْقَةٍ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنِ اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَوُرِّثَ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُوَرَّثْ» رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ. [فَصْلٌ حمل الميت والسير به ودفنه] فَصْلٌ (فَإِذَا حَمَلُوهُ عَلَى سَرِيرِهِ أَخَذُوا بِقَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مِنَ السُّنَّةِ أَنْ تُحْمَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَأَسْرَعُوا بِهِ دُونَ الْخَبَبِ، فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى قَبْرِهِ كُرِهَ لَهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْأَرْضِ، وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ، وَيُحْفَرُ الْقَبْرُ وَيُلْحَدُ، وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَيَقُولُ وَاضِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَيُوَجِّهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ حَتَّى يُجْعَلَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ، وَلَا يُسَجَّى قَبْرُ الرَّجُلِ وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ، ثُّمَ يُهَالُ التُّرَابُ عَلَيْهَا، وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ، وَيُكْرَهُ بِنَاؤُهُ بِالْجِصِّ وَالْآجُرِّ وَالْخَشَبِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُدْفَنَ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ إِلَّا لِضَرُورَةٍ، وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا   [الاختيار لتعليل المختار] الْجِنَازَةُ مِنْ جَوَانِبِهَا الْأَرْبَعِ» ، وَفِيهِ تَعْظِيمُ الْمَيِّتِ وَصِيَانَتُهُ عَنِ السُّقُوطِ وَتَخْفِيفٌ عَنِ الْحَامِلِينَ. قَالَ: (وَأَسْرَعُوا بِهِ دُونَ الْخَبَبِ) لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «سَأَلْنَا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ سَيْرِ الْجِنَازَةِ فَقَالَ: دُونَ الْخَبَبِ، الْجِنَازَةُ مَتْبُوعَةٌ وَلَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا» . قَالَ: (فَإِذَا وَصَلُوا إِلَى قَبْرِهِ كُرِهَ لَهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ عَلَى الْأَرْضِ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُومُ حَتَّى يُسَوَّى عَلَيْهِ التُّرَابُ وَلِأَنَّهَا مَتْبُوعَةٌ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا احْتِيجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَوْ عَلِمُوا اسْتِغْنَاءَهُمْ عَنْهُمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. (وَالْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ) لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الِاتِّعَاظِ، وَالْأَحْسَنُ فِي زَمَانِنَا الْمَشْيُ أَمَامَهَا لِمَا يَتْبَعُهَا مِنَ النِّسَاءِ. قَالَ: (وَيُحْفَرُ الْقَبْرُ وَيُلْحِدُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» وَلِأَنَّهُ صَنِيعُ الْيَهُودِ وَالسُّنَّةُ مُخَالَفَتُهُمْ. قَالَ: (وَيُدْخَلُ الْمَيِّتُ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَيَقُولُ وَاضِعُهُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَيُوَجِّهُهُ إِلَى الْقِبْلَةِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) لِمَا رَوَى زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَاتَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ، فَشَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: " يَا عَلِيُّ، اسْتَقْبِلْ بِهِ الْقِبْلَةَ اسْتِقْبَالًا وَقُولُوا جَمِيعًا: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَضَعُوهُ لِجَنْبِهِ وَلَا تُكِبُّوهُ لِوَجْهِهِ وَلَا تُلْقُوهُ» وَذُو الرَّحِمِ أَوْلَى بِوَضْعِ الْمَرْأَةِ فِي قَبْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْأَجَانِبُ، وَلَا يَدْخُلُ الْقَبْرَ امْرَأَةٌ. قَالَ: (وَيُسَجَّى قَبْرُ الْمَرْأَةِ بِثَوْبٍ حَتَّى يُجْعَلَ اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ) وَلَا يُسَجَّى قَبْرُ الرَّجُلِ لِأَنَّ مَبْنَى أَمْرِهِنَّ عَلَى السِّتْرِ حَتَّى اسْتَحْسَنُوا التَّابُوتَ لِلنِّسَاءِ. (وَيُسَوَّى اللَّبِنُ عَلَى اللَّحْدِ) كَذَا فُعِلَ بِقَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (ثُمَّ يُهَالُ التُّرَابُ عَلَيْهِ) وَهُوَ الْمَأْثُورُ الْمُتَوَارَثُ. (وَيُسَنَّمُ الْقَبْرُ) مُرْتَفِعًا قَدْرَ أَرْبَعِ أَصَابِعَ أَوْ شِبْرٍ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسَنَّمًا، وَلَا يُسَطَّحُ لِأَنَّ التَّسْطِيحَ صَنِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ. (وَيُكْرَهُ بِنَاؤُهُ بِالْجِصِّ وَالْآجُرِّ وَالْخَشَبِ) لِأَنَّهَا لِلْبَقَاءِ وَالزِّينَةِ، وَالْقَبْرُ لَيْسَ مَحَلًّا لَهَا. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يُدْفَنَ اثْنَانِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 تُرَابٌ، وَيُكْرَهُ وَطْءُ الْقَبْرِ وَالْجُلُوسُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ عِنْدَهُ، وَإِذَا مَاتَ لِلْمُسْلِمِ قَرِيبٌ كَافِرٌ غَسَّلَهُ غَسْلَ الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَيَلُفُّهُ فِي ثَوْبٍ وَيُلْقِيهِ فِي حَفِيرَةٍ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ إِلَى أَهْلِ دِينِهِ. بَابُ الشَّهِيدِ وَهُوَ مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ وُجِدَ بِالْمَعْرَكَةِ جَرِيحًا، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا، وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مَالٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ إِنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا طَاهِرًا، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] تُرَابٌ) لِيَصِيرَ كَقَبْرَيْنِ. (وَيُكْرَهُ وَطْءُ الْقَبْرِ وَالْجُلُوسُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ عِنْدَهُ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَفِيهِ إِهَانَةٌ بِهِ. قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ لِلْمُسْلِمِ قَرِيبٌ كَافِرٌ غَسَلَهُ غَسْلَ الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَيَلُفُّهُ فِي ثَوْبٍ وَيُلْقِيهِ فِي حَفِيرَةٍ) لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِصِلَتِهِ وَهَذَا مِنْهُ، وَلِئَلَّا يَتْرُكَهُ طُعْمَةً لِلسِّبَاعِ، وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِأَنَّهَا شَفَاعَةٌ لَهُ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. (وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ إِلَى أَهْلِ دِينِهِ) لِيَفْعَلُوا بِهِ مَا يَفْعَلُونَ بِمَوْتَاهُمْ. [بَابُ الشَّهِيدِ] ِ (وَهُوَ مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ وُجِدَ بِالْمَعْرَكَةِ جَرِيحًا، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا، وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ مَالٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ إِنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا طَاهِرًا، وَيُصَلَّى عَلَيْهِ) وَالْأَصْلُ فِي أَحْكَامِ الشَّهِيدِ شُهَدَاءُ أُحُدٍ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِمْ: «زَمِّلُوهُمُ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ، وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ حَالِهِمْ، أَوْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ بِأَنْ قُتِلَ ظُلْمًا، وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَلَهُ حُكْمُهُمْ. وَقَوْلُهُ: أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا، يَدْخُلُ فِيهِ الْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَمْ يُغَسِّلْ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ قُتِلُوا بِصِفِّينَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» . وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ كَصَلَاتِهِ عَلَى الْجِنَازَةِ، حَتَّى «رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَبْعِينَ صَلَاةً» ، وَفِي رِوَايَةٍ «سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً» فَإِنَّهُ كَانَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُؤْتَى بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ يُصَلِّي عَلَيْهِ، حَتَّى ظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى حَمْزَةَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. وَقَوْلُهُ: إِنْ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا طَاهِرًا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يُغَسَّلُ الصَّبِيُّ وَالْجُنُبُ وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إِذَا اسْتُشْهِدُوا. وَقَالَا: لَا يُغَسَّلُ الصَّبِيُّ قِيَاسًا عَلَى الْبَالِغِ، وَلَا الْجُنُبُ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْجَنَابَةِ سَقَطَ بِالْمَوْتِ، وَمَا يَجِبُ بِالْمَوْتِ مُنْعَدِمٌ فِي حَقِّهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ صَحَّ أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ عَامِرٍ قُتِلَ جُنُبًا فَغَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَيُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ، وَيُنْقَصُ وَيُزَادُ مُرَاعَاةً لِكَفَنِ السُّنَّةِ، وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالسِّلَاحُ وَالْخُفُّ وَالْقَلَنْسُوَةُ، فَإِنْ أَكَلَ (ف) ، أَوْ شَرِبَ (ف) ، أَوْ تَدَاوَى، أَوْ أَوْصَى (ف) بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، أَوْ بَاعَ، أَوِ اشْتَرَى، أَوْ صَلَّى، أَوْ حُمِلَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا، أَوْ آوَتْهُ خَيْمَةٌ، أَوْ عَاشَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَهُوَ يَعْقِلُ غُسِّلَ (ف) ، وَالْمَقْتُولُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ; وَالْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَكَانَ تَعْلِيمًا، وَهُوَ مَخْصُوصٌ مِنَ الْحَدِيثِ الْعَامِّ ; وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ مِثْلُهُ. وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مَوْتَى بَنِي آدَمَ الْغُسْلُ، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِشَهَادَةِ تَكْفِيرِ الذَّنْبِ لِيَبْقَى أَثَرُهَا لِمَا رَوَيْنَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِي الصَّبِيِّ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ ; وَمَنْ قُتِلَ بِالْمُثَقِّلِ يَجِبُ غُسْلُهُ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا الْقَتْلُ، وَمَنْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ مَيِّتًا لَا جِرَاحَةَ بِهِ غُسِّلَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي شَهَادَتِهِ. قَالَ: (وَيُكَفَّنُ فِي ثِيَابِهِ وَيُنْقَصُ وَيُزَادُ مُرَاعَاةً لِكَفَنِ السُّنَّةِ) لِأَنَّ «حَمْزَةَ لَمَّا اسْتُشْهِدَ كَانَ عَلَيْهِ نَمِرَةٌ إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ قَدَمَاهُ، وَإِنْ غُطِّيَتْ قَدَمَاهُ بَدَا رَأْسُهُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُغَطَّى بِهَا رَأْسُهُ وَأَنْ يُوضَعَ عَلَى قَدَمَيْهِ الْإِذْخِرُ» . وَأَنَّهُ زِيَادَةٌ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهَا. (وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالسِّلَاحُ وَالْخُفُّ وَالْقَلَنْسُوَةُ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَثْوَابِ الْكَفَنِ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِنَزْعِهَا عَنِ الشَّهِيدِ. قَالَ: (فَإِنْ أَكَلَ، أَوْ شَرِبَ، أَوْ تَدَاوَى، أَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا، أَوْ بَاعَ، أَوِ اشْتَرَى، أَوْ صَلَّى، أَوْ حُمِلَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا، أَوْ آوَتْهُ خَيْمَةٌ، أَوْ عَاشَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَهُوَ يَعْقِلُ غُسِّلَ) لِأَنَّهُ نَالَ مَرَافِقَ الْحَيَاةِ فَخَفَّ عَنْهُ أَثَرُ الظُّلْمِ، فَلَمْ يَبْقَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ، فَإِنَّهُمْ مَاتُوا عِطَاشًا وَالْكَأْسُ يُدَارُ عَلَيْهِمْ خَوْفًا مِنْ نَقْصِ الشَّهَادَةِ ; وَلَوْ حُمِلَ مِنْ بَيْنِ الصَّفَيْنِ كَيْلَا تَطَأَهَ الْخَيْلُ لَا لِلتَّدَاوِي، لَا يُغَسَّلُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنَلْ مَرَافِقَ الْحَيَاةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا مَضَى عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ يَعْقِلُ غُسِّلَ لِأَنَّهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَإِنْ أَوْصَى بِأَمْرٍ دِينِيِّ لَمْ يُغَسَّلْ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَوْصَى الْأَنْصَارَ فَقَالَ: لَا عُذْرَ لَكُمْ إِنْ قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرَفُ، وَمَاتَ وَلَمْ يُغَسَّلْ. قَالَ: (وَالْمَقْتُولُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَمْ يُقْتَلْ ظُلْمًا فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ. قَالَ: (وَالْبُغَاةُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ) لِأَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] وَالصَّلَاةُ شَفَاعَةٌ فَلَا يَسْتَحِقُّونَهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 كِتَابُ الزَّكَاةِ وَلَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ (ف) الْبَالِغِ (ف) إِذَا مَلَكَ نِصَابًا خَالِيًا عَنِ الدَّيْنِ فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِلْكًا تَامًّا فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ   [الاختيار لتعليل المختار] وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا صَلَّى عَلَى الْبُغَاةِ وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي الْبَابِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَشْهَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا. [كِتَابُ الزَّكَاةِ] ِ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: زَكَا الْمَالُ: إِذَا نَمَا وَازْدَادَ، وَتُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الطَّهَارَةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ زَكِيُّ الْعِرْضِ: أَيْ طَاهِرُهُ. وَفِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ إِيجَابِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمَالِ فِي مَالٍ مَخْصُوصٍ لِمَالِكٍ مَخْصُوصٍ، وَفِيهَا مَعْنَى اللُّغَةِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ طَهَارَةً عَنِ الْآثَامِ. قَالَ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] أَوْ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تَجِبُ فِي الْمَالِ النَّامِي إِمَّا حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا ; وَسَبَبُ وُجُوبِهَا مِلْكُ مَالٍ مُقَدَّرٍ مَوْصُوفٍ لِمَالِكٍ مَوْصُوفٍ فَإِنَّهُ يُقَالُ زَكَاةُ الْمَالِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: تَجِبُ عَلَى التَّرَاخِي، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالتَّأْخِيرِ وَلَوْ هَلَكَ. وَعَنِ الْكَرْخِيِّ عَلَى الْفَوْرِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، وَهِيَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا يَسَعُ تَرْكُهَا، وَيَكْفُرُ جَاحِدُهَا، ثَبَتَتْ فَرْضِيَتُهَا بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَقَوْلُهُ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا رَوَيْنَا مِنَ الْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. قَالَ: (وَلَا تَجِبُ إِلَّا عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا مِلْكَ لَهُ، وَالْكَافِرُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالْفُرُوعِ لِمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ بِالْعِبَادَاتِ، وَهِيَ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا أَحَدُ مَبَانِي الْإِسْلَامِ وَأَرْكَانِهِ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ حَتَّى تَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ. قَالَ: (إِذَا مَلَكَ نِصَابًا خَالِيًا عَنِ الدَّيْنِ فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِلْكًا تَامًّا فِي طَرَفَيِ الْحَوَلِ) أَمَّا الْمِلْكُ فَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي مَالٍ لَا مَالِكَ لَهُ كَاللُّقَطَةِ. وَأَمَّا النِّصَابُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدَّرَهُ بِهِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ» وَكَذَا وَرَدَ فِي سَائِرِ النُّصُبِ. وَأَمَّا خُلُوُّهُ عَنِ الدَّيْنِ فَلِأَنَّ الْمَشْغُولَ بِالدَّيْنِ مَشْغُولٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّيْنِ الْحَائِلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ أَهَمُّ الْحَوَائِجِ، فَصَارَ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ نَاقِصٌ لِأَنَّ لِلْغَرِيمِ أَخْذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَالزَّكَاةُ وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ الْكَامِلَةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ مَصْرِفًا لِلزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] وَبَيْنَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ وَجَوَازِ أَخْذِهَا تَنَافٍ وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فَاضِلٌ عَنِ الدَّيْنِ زَكَّاهُ لِعَدَمِ الْمَانِعِ، وَالْمُرَادُ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَمَا لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لَا يَمْنَعُ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَوُجُوبِ الْحَجِّ وَنَحْوِهِ، وَالنَّفَقَةُ مَا لَمْ يُقْضَ بِهَا لَا تَمْنَعُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ، فَإِذَا قُضِيَ بِهَا صَارَتْ دَيْنًا فَمَنَعَتْ. وَاخْتَلَفُوا فِي دَيْنِ الزَّكَاةِ. قَالَ زُفَرُ: لَا يَمْنَعُ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الْأَدَاءَ لِلْمَالِكِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ الدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ بِأَنِ اسْتَهْلَكَ مَالَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَبَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَلَكَ مَالًا آخَرَ، فَإِنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَلَا يَمْنَعُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الْوُجُوبِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ فِي الْعَيْنِ كَمَنْ لَهُ نِصَابٌ فَمَضَى عَلَيْهِ سُنُونَ، فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِجَمِيعِ مَا مَضَى مِنَ السِّنِينَ خِلَافًا لِزُفَرَ ; وَعِنْدَهُمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَيَمْنَعُ الدَّيْنُ سَوَاءً كَانَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ كَانَ لِلْإِمَامِ، وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَوَّضَهُ إِلَى الْمُلَّاكِ، وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ حَقَّ طَلَبِ الْإِمَامِ حَتَّى لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهُمْ طَالَبَهُمْ بِهَا، وَلَوْ مرَّ بِهَا عَلَى السَّاعِي كَانَ لَهُ أَخْذُهَا، فَكَانَ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَيَمْنَعُ، وَالدَّيْنُ الْمُعْتَرِضِ فِي خِلَالِ الْحَوْلِ يَمْنَعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَالْمَهْرُ يَمْنَعُ مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ مُعَجَّلًا ; وَقِيلَ يَمْنَعُ الْمُعَجَّلُ دُونَ الْمُؤَجَّلِ. وَقَوْلُهُ: فَائِضًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمَرْءُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَقَدُّمِ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةَ وَهِيَ: دُورُ السُّكْنَى، وَثِيَابُ الْبَدَنِ، وَأَثَاثُ الْمَنْزِلِ، وَسِلَاحُ الِاسْتِعْمَالِ، وَدَوَابُّ الرُّكُوبِ، وَكُتُبُ الْفُقَهَاءِ، وَآلَاتُ الْمُحْتَرِفِينَ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَعَاشِهِ. وَأَمَّا الْمِلْكُ التَّامُّ فَاحْتِرَازٌ عَنْ مِلْكِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ الْكَامِلَةِ، وَأَنَّهَا نِعْمَةٌ نَاقِصَةٌ، وَلِمَا رَوَى جَابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ زَكَاةٌ حَتَّى يَعْتِقَ» وَقَوْلُهُ فِي طَرَفَيِ الْحَوَلِ؛ لِأَنَّ الْحَوَلَ لَا بُدَّ مِنْهُ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي النِّصَابِ مُدَّةً يَحْصُلُ مِنْهُ النَّمَاءُ، فَقَدَّرْنَاهُ بِالْحَوْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِعَزْلِ الْوَاجِبِ أَوْ لِلْأَدَاءِ؟ وَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ سَقَطَتْ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا وَلَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ (ز ف) ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْأَسْعَارُ غَالِبًا، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ كَمَالِ النِّصَّابِ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لِلِانْعِقَادِ، وَفِي آخِرِهِ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَمَا بَيْنَهُمَا حَالَةُ الْبَقَاءِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهَا حَرَجًا عَظِيمًا، فَإِنَّ بِالتَّصَرُّفَاتِ فِي النَّفَقَاتِ يَتَنَاقَصُ وَيَزْدَادُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ دَفْعًا لِهَذَا الْحَرَجِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِعَزْلِ الْوَاجِبِ أَوْ لِلْأَدَاءِ) لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الصَّلَاةِ. وَالزَّكَاةُ تُؤَدَّى مُتَفَرِّقًا، فَرُبَّمَا يُحْرَجُ فِي النِّيَّةِ عِنْدَ أَدَاءِ كُلِّ دُفْعَةٍ، فَاكْتَفَيْنَا بِالنِّيَّةِ عِنْدَ الْعَزْلِ تَسْهِيلًا وَتَيْسِيرًا. قَالَ: (وَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ سَقَطَتْ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَسْقُطَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِعَدَمِ النِّيَّةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءُ النِّصَابِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي الرِّقَةِ رُبُعُ الْعُشْرِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا نِصْفُ مِثْقَالٍ» إِلَى غَيْرِهِ مِنَ النُّصُوصِ، وَالرُّكْنُ هُوَ التَّمْلِيكُ عَلَى وَجْهِ الْمَبَرَّةِ، وَقَدْ وُجِدَ لِحُصُولِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى الْكُلَّ فَقَدْ أَدَّى الْجُزْءَ، وَالنِّيَّةُ شُرِطَتْ لِلتَّعْيِينِ، وَالْوَاجِبُ قَدْ تَعَيَّنَ بِإِخْرَاجِ الْكُلِّ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْبَعْضِ سَقَطَتْ زَكَاةُ ذَلِكَ الْبَعْضِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ) وَهُوَ الْمَالُ الضَّائِعُ وَالسَّاقِطُ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْمَفَازَةِ إِذَا نَسِيَ الْمَالِكُ مَكَانَهُ، وَالْعَبْدُ الْآبِقُ وَالْمَغْصُوبُ، وَالدَّيْنُ الْمَجْحُودُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا بَيِّنَةٌ، وَالْمُودَعُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْبُسْتَانِ وَالْأَرْضِ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ، وَالْمَدْفُونُ بِالْبَيْتِ لَيْسَ بِضِمَارٍ. وَقَالَ زُفَرَ: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الضِّمَارِ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ، وَالسَّبَبُ مُتَحَقِّقٌ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَلَا يَضُرُّهُ زَوَالُ الْيَدِ كَابْنِ السَّبِيلِ. وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: «لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ» وَقِيلَ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - لَمَّا رَدَّ الْأَمْوَالَ عَلَى أَصْحَابِهَا - أَفَلَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ زَكَاتَهَا لِمَا مَضَى؟ قَالَ: لَا إِنَّهَا كَانَتْ ضِمَارًا. وَالْعِبَادَاتُ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ وَالْعَقْلِ فِي إِيجَابِهَا وَإِسْقَاطِهَا فَكَانَ تَوْقِيفًا، وَلِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ نَامٍ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ بِالِاسْتِنْمَاءِ غَالِبًا وَهُوَ عَاجِزٌ، بِخِلَافِ ابْنِ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وَتَجِبُ فِي الْمُسْتَفَادِ الْمُجَانِسِ وَيُزَكِّيهِ مَعَ الْأَصْلِ وَتَجِبُ فِي النِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ (م ز) ، وَتَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ (ف) ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ سَقَطَتْ حِصَّتُهُ، وَيَجُوزُ فِيهَا دَفْعُ الْقِيمَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِنَائِبِهِ. قَالَ: (وَتَجِبُ فِي الْمُسْتَفَادِ الْمُجَانِسِ وَيُزَكِّيهِ مَعَ الْأَصْلِ) وَهُوَ مَا يَسْتَفِيدُهُ بِالْهِبَةِ أَوِ الْإِرْثِ أَوِ الْوَصِيَّةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اعْلَمُوا أَنَّ مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا تُؤَدُّونَ فِيهِ الزَّكَاةَ، فَمَا حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَجِيءَ رَأْسُ السَّنَةِ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ وُجُوبِ الْأَصْلِ وَالْحَادِثِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مَجِيءُ رَأْسِ السَّنَةِ، وَهَذَا رَاجِحٌ عَلَى مَا يُرْوَى: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» لِأَنَّهُ عَامٌّ، وَمَا رَوَيْنَاهُ خَاصٌّ فِي الْمُسْتَفَادِ، أَوْ يُحْمَلُ عَلَى مَا رَوَاهُ عَلَى غَيْرِ الْمُجَانِسِ عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ، وَلِأَنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْحَوْلِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ مَشَقَّةً وَعَنَاءً، فَإِنَّ الْمُسْتَفَادَاتِ قَدْ تَكْثُرُ فَيَعْسُرُ عَلَيْهِ مُرَاقَبَةُ ابْتِدَاءِ الْحَوْلِ وَانْتِهَائِهِ لِكُلِّ مُسْتَفَادٍ وَالْحَوْلُ لِلتَّيْسِيرِ، وَصَارَ كَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْبَاحِ ; أَمَّا الْمُسْتَفَادُ الْمُخَالِفُ لَا يُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَتَجِبُ فِي النِّصَابِ دُونَ الْعَفْوِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ فِيهِمَا. وَصُورَتُهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَمَانُونَ مِنَ الْغَنَمِ فَهَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ نِصْفُ شَاةٍ. وَلَوْ كَانَ لَهُ تِسْعٌ مِنَ الْإِبِلِ هَلَكَ مِنْهَا أَرْبَعٌ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ خَمْسَةُ أَتْسَاعِ شَاةٍ. لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ: أَنَّ الْعَفْوَ مَالٌ نَامٍ وَنِعْمَةٌ كَامِلَةٌ، فَتَجِبُ الزَّكَاةُ بِسَبَبِهِ شُكْرًا لِلنِّعْمَةِ وَالْمَالِ النَّامِي. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ، وَلَيْسَ فِي الزِّيَادَةِ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ عَشْرًا» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ فِي الْعَفْوِ، وَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلنِّصَابِ فَيَنْصَرِفُ الْهَلَاكُ إِلَيْهِ كَالرِّبْحِ فِي الْمُضَارَبَةِ. قَالَ: (وَتَسْقُطُ بِهَلَاكِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ سَقَطَتْ حِصَّتُهُ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءُ النِّصَابِ لِمَا مَرَّ، فَكَانَ النِّصَابُ مَحَلًّا لِلزَّكَاةِ ; وَالشَّيْءُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَحَلِّهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذَا مَاتَ وَلَمْ يُوجَدِ الطَّلَبُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ لِفَقِيرٍ بِعَيْنِهِ، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ بَعْدَ طَلَبِ السَّاعِي يُضَمْنُ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فَتُضْمَنُ بِالْهَلَاكِ بَعْدَ الطَّلَبِ كَالْوَدِيعَةِ. وَقَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ: لَا تُضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ إِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَيْنَ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْقِيمَةَ مِنَ النَّقْدَيْنِ وَالْعُرُوضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الدَّفْعَ لِيَحْصُلَ الْعِوَضُ، وَأَمَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ فَقَدْ تَعَدَّى فَيُضْمَنُ عُقُوبَةً لَهُ. قَالَ: (وَيَجُوزُ فِيهَا دَفْعُ الْقِيمَةِ) وَكَذَا فِي الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْعُشُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَأْخُوذِ صَدَقَةٌ، وَكُلَّ جِنْسٍ يَأْخُذُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ: «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ فَغَضِبَ وَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ أَخْذِ كَرَائِمِ أَمْوَالِ النَّاسِ) ؟ فَقَالَ الْمُصَدِّقُ: إِنِّي ارْتَجَعْتُهَا بِبَعِيرَيْنِ فَسَكَتَ» . وَأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْبَابِ. «وَقَوْلُ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ وَسَطَ الْمَالِ ; وَمَنْ مَلَكَ نِصَابًا فَعَجَّلَ الزَّكَاةَ قَبْلَ الْحَوْلِ لِسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ لِنُصُبٍ جَازَ (ز) .   [الاختيار لتعليل المختار] الْيَمَنِ حِينَ بَعَثَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِمْ: ائْتُونِي بِخَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ، فَإِنَّهُ أَيْسَرُ عَلَيْكُمْ، وَأَنْفَعُ لِمَنْ بِالْمَدِينَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ» وَكَانَ يَأْتِي بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خُذْ مِنَ الْإِبِلِ الْإِبِلَ» الْحَدِيثَ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّيْسِيرِ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ عَلَى أَصْحَابِهَا أَسْهَلُ، وَأَيْسَرُ مِنْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَجْنَاسِ ; وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ إِيصَالُ الرِّزْقِ الْمَوْعُودِ إِلَى الْفَقِيرِ وَقَدْ حَصَلَ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ قُوتَ الْفُقَرَاءِ وَسَمَّاهُ زَكَاةً» وَصَارَ كَالْجِزْيَةِ بِخِلَافِ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا؛ لِأَنَّ إِرَاقَةَ الدَّمِ غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى. قَالَ: " وَيَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ وَسَطَ الْمَالِ " لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خُذْ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالَهِمْ» أَيِ الْوَسَطِ، وَلِأَنَّ أَخْذَ الْجَيِّدِ إِضْرَارٌ بِرَبِّ الْمَالِ، وَأَخْذَ الرَّدِيءِ إِضْرَارٌ بِالْفُقَرَاءِ، فَقُلْنَا بِالْوَسَطِ تَعْدِيلًا بَيْنَهُمَا، وَلَا يَأْخُذُ الرَّبِيَّ وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَلَا الْأَكُولَةَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِيَّاكُمْ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ» وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عُدَّ عَلَيْهُمُ السَّخْلَةَ وَلَوْ جَاءَ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدَيْهِ، أَلَسْنَا تَرَكْنَا لكم الرَّبِيَّ وَالْأَكُولَةَ وَالْمَاخِضَ وَفَحْلَ الْغَنَمِ؟ . قَالَ: (وَمَنْ مَلَكَ نِصَابًا فَعَجَّلَ الزَّكَاةَ قَبْلَ الْحَوْلِ لِسَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ لِنُصُبٍ جَازَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اسْتَسْلَفَ الْعَبَّاسَ زَكَاةَ عَامَيْنِ» ، وَلِأَنَّهُ أَدَّى بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ الْمَالُ. وَالْحَوْلُ الْأَوَّلُ وَمَا بَعْدَهُ سَوَاءٌ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ إِتْمَامِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ أَدَّى قَبْلَ السَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَلِأَنَّ النَّصَّابَ الْأَوَّلَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] الزَّكَاةِ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ مِنَ النُّصُبِ، أَلَا يَرَى أَنَّهَا تُضَمُّ إِلَيْهِ فَكَانَتْ تَبَعًا لَهُ. وَقَالَ زُفَرُ: إِذَا أَدَّى عَنْ نُصُبٍ لَا يُجْزِيهِ إِلَّا عَنِ النِّصَابِ الَّذِي فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى قَبْلَ السَّبَبِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَلَنَا مَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ تَبَعُ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْوُجُوبِ، فَيَكُونُ تَبَعًا فِي حُكْمِ الْحَوْلِ أَيْضًا، فَكَأَنَّ الْحَوْلَ حَالَ عَلَى الْجَمِيعِ. 1 - فَصْلٌ وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ أَخَذَهَا الْإِمَامُ كَرْهًا وَوَضَعَهَا مَوْضِعَهَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [التوبة: 103] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ» وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ كَانَ لِلْإِمَامِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إِلَى زَمَانِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِهَذِهِ النُّصُوصِ، فَفَوَّضَهَا فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ إِلَى أَرْبَابِهَا مَخَافَةَ تَفْتِيشِ الظَّلَمَةِ إِلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، فَصَارَ أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ كَالْوُكَلَاءِ عَنِ الْإِمَامِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ طَالَبَهُمْ بِهَا ; وَمَا أَخَذَهُ الْخَوَارِجُ وَالْبُغَاةُ مِنَ الزَّكَاةِ لَا يُثَنَّى عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ حِمَايَتِهِمْ، وَالْجِبَايَةُ بِالْحِمَايَةِ، وَيُفْتَى أَهْلُهَا بِالْإِعَادَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِعَلِمْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَأْخُذُوهَا بِطَرِيقِ الصَّدَقَةِ وَلَا يَصْرِفُونَهَا مَصَارِفَهَا. وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَا يَأْخُذُهُ الظَّلَمَةُ مِنَ السَّلَاطِينِ فِي زَمَانِنَا. قَالَ مَشَايِخُ بَلْخَ: يُفْتَوْنَ بِالْإِعَادَةِ كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ: يُفْتَوْنَ بِإِعَادَةِ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهَا حَقُّ الْفُقَرَاءِ وَلَا يَصْرِفُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَلَا يُفْتَوْنَ فِي الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمُقَاتِلَةِ وَهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ عَلَى الْإِسْلَامِ عَدُوٌّ قَاتَلُوهُ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرْخَسِيُّ: الْأَصَحُّ أَنَّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ إِذَا نَوَوْا عِنْدَ الدَّفْعِ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِمْ سَقَطَ عَنْهُمْ جَمِيعُ ذَلِكَ، وَكَذَا جَمِيعُ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الرَّجُلِ مِنَ الْجِبَايَاتِ وَالْمُصَادَرَاتِ؛ لِأَنَّ مَا بِأَيْدِيهِمْ أَمْوَالُ النَّاسِ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنَ التَّبِعَاتِ فَوْقَ مَالِهِمْ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْغَارِمِينَ وَالْفُقَرَاءِ، حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: يَجُوزُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى بْنِ مَاهَانَ وَالِي خُرَاسَانَ. وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ أَوْ صَدَقَةُ فِطْرٍ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنْ تَبَرَّعَ بِهِ الْوَرَثَةُ جَازَ، وَإِنْ أَوْصَى بِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِهِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَلَا تَتَأَدَّى إِلَّا بِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ شُرِعَتْ لِلِابْتِلَاءِ لِيَتَبَيَّنَ الطَّائِعُ مِنَ الْعَاصِي، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَقَصْدِهِ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِيتَاءِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ، بِخِلَافِ الْوَارِثِ لِأَنَّهُ يَخْلُفُهُ جَبْرًا، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ وَارِثِهِ عَنْهُ إِلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ اسْتِحْسَانًا، وَقُلْنَا بِسُقُوطِهِ عَنْهُ بِأَدَاءِ الْوَارِثِ، لِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَدَيْنُ اللَّهِ أَوْلَى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 بَابُ زَكَاةِ السَّوَائِمِ السَّائِمَةُ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرَ حَوْلِهَا، فَإِنْ عَلَفَهَا نِصْفَ الْحَوْلِ أَوْ أَكْثَرَهُ فَلَيْسَتْ بِسَائِمَةٍ. وَالْإِبِلُ تَتَنَاوَلُ الْبُخْتَ وَالْعِرَابَ. وَالْبَقَرُ يَتَنَاوَلُ الْجَوَامِيسَ أَيْضًا ; وَالْغَنَمُ الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ. فصل لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ، وَفِي الْخَمْسِ شَاةٌ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ زَكَاةِ السَّوَائِمِ] ِ (السَّائِمَةُ الَّتِي تَكْتَفِي بِالرَّعْيِ فِي أَكْثَرِ حَوْلِهَا، فَإِنْ عَلَفَهَا نِصْفَ الْحَوْلِ أَوْ أَكْثَرَهُ فَلَيْسَتْ بِسَائِمَةٍ) لِأَنَّ أَرْبَابَهَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْعَلَفِ أَيَّامَ الثَّلْجِ وَالشِّتَاءِ، فَاعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ لِيَكُونَ غَالِبًا؛ لِأَنَّ السَّوْمَ إِنَّمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ لِحُصُولِ النَّمَاءِ وَخِفَّةِ الْمَئُونَةِ، وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ إِذَا كَانَتْ تُسَامُ أَكْثَرَ الْمُدَّةِ ; أَمَّا إِذَا عُلِفَتْ فَالْمَئُونَةُ تَكْثُرُ وَكَثْرَتُهَا تُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ كَالْمَعْلُوفَةِ دَائِمًا فَاعْتُبِرَ الْأَكْثَرُ، وَهِيَ الَّتِي تُسَامُ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَالنَّمَاءِ ; أَمَّا لَوْ سِيمَتْ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ فَلَا زَكَاةَ فِيهَا لِعَدَمِ النَّمَاءِ. (وَالْإِبِلُ تَتَنَاوَلُ الْبُخْتَ وَالْعِرَابَ) لِأَنَّ الِاسْمَ يَنْتَظِمُهَا لُغَةً. قَالَ: (وَالْبَقَرُ يَتَنَاوَلُ الْجَوَامِيسَ أَيْضًا) لِأَنَّهَا نَوْعٌ مِنْهَا (وَالْغَنَمُ: الضَّأْنُ وَالْمَعِزُ) لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِاسْمِ الْغَنَمِ فِيهِمَا وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا لُغَةً. [فَصْلٌ نصاب الإبل] فَصْلٌ (لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ» وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَةَ وَاحِدَةٌ، وَالصِّفَةُ إِذَا قُرِنَتْ بِاسْمِ الْعَلَمِ صَارَ كَالْعِلَّةِ. قَالَ: (وَفِي الْخَمْسِ شَاةٌ، وَفِي الْعَشْرِ شَاتَانِ، وَفِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ، وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَفِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ، وَفِي إِحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ، وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ، وَفِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي إِحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ إِلَى مَائَةِ وَعِشْرِينَ، ثُمَّ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ (ف) كَالْأَوَّلِ إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ، وَبِنْتُ مَخَاضٍ إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ، ثُمَّ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ كَالْأَوَّلِ إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتٍّ وَثَمَانِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتٍّ وَتِسْعِينَ أَرْبَعُ حِقَاقٍ إِلَى مِائَتَيْنِ، ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ (ف) أَبَدًا كَمَا اسْتُؤْنِفَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ.   [الاختيار لتعليل المختار] فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَفِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الرَّابِعَةِ، وَفِي إِحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الْخَامِسَةِ وَفِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي إِحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ) وَلَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَيْهَا اتَّفَقَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ كُتُبِ الصَّدَقَاتِ الَّتِي كَتَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: (ثُمَّ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ كَالْأَوَّلِ، إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ فَفِيهَا حِقَّتَانِ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ ; ثُمَّ فِي الْخَمْسِ شَاةٌ كَالْأَوَّلِ، إِلَى مِائَةٍ وَخَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ مَخَاضٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتٍّ وَثَمَانِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتٍّ وَتِسْعِينَ أَرْبَعُ حِقَاقٍ إِلَى مِائَتَيْنِ، ثُمَّ تُسْتَأْنَفُ أَبَدًا كَمَا اسْتُؤْنِفَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ وَالْخَمْسِينَ) وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَهَكَذَا كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «فَإِذَا زَادَتِ الْإِبِلُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ اسْتُؤْنِفَتِ الْفَرِيضَةُ، فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَفِيهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسِ ذَوْدٍ شَاةٌ» وَهَذَا تَقْدِيرٌ لِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنَ الْفَرِيضَةِ إِلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ، فَكَانَ أَوْلَى مِنْ تَغْيِيرِهِ وَمُخَالَفَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 فَصْلٌ لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ شَيْءٌ، وَفِي ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنٌّ أَوْ مُسِنَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ، وَمَا زَادَ بِحِسَابِهِ (ف) إِلَى سِتِّينَ، وَفِي سِتِّينَ تَبِيعَانِ أَوْ تَبِيعَتَانِ، وَفِي سَبْعِينَ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ، وَعَلَى هَذَا يَنْتَقِلُ الْفَرْضُ فِي كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ تَبِيعٍ إِلَى مُسِنَّةٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] [فَصْلٌ نِصَابُ الْبَقَرِ] فَصْلٌ (لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقْرِ شَيْءٌ، وَفِي ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ أَوْ تَبِيعَةٌ، وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّانِيَةِ، وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنٌّ أَوْ مُسِنَّةٌ، وَهِيَ الَّتِي طَعَنَتْ فِي الثَّالِثَةِ) بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. قَالَ: (وَمَا زَادَ بِحِسَابِهِ إِلَى سِتِّينَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ; وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ: فَفِي الْوَاحِدَةِ رُبُعُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثُ عُشْرِ تَبِيعٍ، وَفِي اثْنَيْنِ نِصْفُ عُشْرِ مُسِنَّةٍ أَوْ ثُلُثَا عُشْرِ تَبِيعٍ، وَعَلَى هَذَا لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ نَصْبُ النُّصُبِ بِالرَّأْيِ فَيَجِبُ بِحِسَابِهِ. وَرَوَى ابْنُ زِيَادٍ عَنْهُ: لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسِينَ، فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وربع مسنة أَوْ ثُلُثُ تَبِيعٍ لِأَنَّ الْأَوْقَاصَ فِي الْبَقَرِ تَبِيعٌ كَمَا قَبْلَ الْأَرْبَعِينَ وَبَعْدَ السِّتِّينَ، وَرَوَى أَسَدُ بْنُ عُمَرَ عَنْهُ: لَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِقَوْلِ مُعَاذٍ فِي الْبَقَرِ: «لَا شَيْءَ فِي الْأَوْقَاصِ، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . (وَفِي السِّتِّينَ تَبِيعَانِ أَوْ تَبِيعَتَانِ، وَفِي سَبْعِينَ مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ، وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ، وَعَلَى هَذَا يَنْتَقِلُ الْفَرْضُ، فِي كُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ تَبِيعٍ إِلَى مُسِنَّةٍ) وَمِنْ مُسِنَّةٍ إِلَى تَبِيعٍ، عَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَبِهِ وَرَدَتِ الْآثَارُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 فَصْلٌ لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً صَدَقَةٌ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةٌ إِلَى مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى أَرْبَعِمَائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَأَدْنَى مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَيُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ الثَّنِيُّ (ف) ، وَهُوَ مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ. فَصْلٌ مَنْ كَانَ لَهُ خَيْلٌ سَائِمَةٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، أَوْ إِنَاثٌ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَى عَنْ كُلِّ فَرَسٍ (سم) دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ (سم) خَمْسَةَ دَرَاهِمَ.   [الاختيار لتعليل المختار] [فَصْلٌ نِصَابُ الْغَنَمِ] فَصْلٌ (لَيْسَ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً صَدَقَةٌ، وَفِي أَرْبَعِينَ شَاةً إِلَى مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ فَفِيهَا شَاتَانِ، إِلَى مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، إِلَى أَرْبَعِمِائَةٍ فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ) بِذَلِكَ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ: (وَأَدْنَى مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الزَّكَاةُ، وَيُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ الثَّنِيُّ، وَهُوَ مَا تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُجزي فِي الزَّكَاةِ إِلَّا الثَّنِيُّ» وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: «لَا يُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ إِلَّا الثَّنِيُّ فَصَاعِدًا» . وَرُوِيَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ، وَهُوَ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ السَّنَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا، أَمَّا الْمَعْزُ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا الثَّنِيُّ اعْتِبَارًا بِالْأُضْحِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنَ الْإِبِلِ إِلَّا الْإِنَاثُ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِلَفْظِ الْإِنَاثِ بِقَوْلِهِ: بِنْتُ مَخَاضٍ، وَبِنْتُ لَبُونٍ، وَحِقَّةٌ، وَجَذَعَةٌ، وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ بِلَفْظِ الْبَقَرِ وَالشَّاةِ وَأَنَّهُ يَعُمُّهُمَا. [فَصْلٌ نِصَابُ الْخَيْلِ] فَصْلٌ (مَنْ كَانَ لَهُ خَيْلٌ سَائِمَةٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، أَوْ إِنَاثٌ، فَإِنْ شَاءَ أَعْطَى عَنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا، وَإِنْ شَاءَ قَوَّمَهَا وَأَعْطَى عَنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا زَكَاةَ فِي الْخَيْلِ لِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فِي فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَلَا زَكَاةَ فِي الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ، وَلَا فِي الْعَوَامِلِ وَالْعَلُوفَةِ، وَلَا فِي الْفُصْلَانِ وَالْحُمْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ (زس) إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كِبَارٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي كُلِّ فَرَسٍ سَائِمَةٍ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ فِي الرَّابِطَةِ شَيْءٌ» رَوَاهُ جَابِرٌ. وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَنْ خُذْ مِنْ كُلِّ فَرَسٍ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. وَقِيَاسًا عَلَى سَائِرِ السَّوَائِمِ. وَمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فَرَسَ الْغَازِي. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا شَيْءَ فِي الْإِنَاثِ الْخُلَّصِ لِعَدَمِ النَّمَاءِ وَالتَّوَالُدِ، وَالصَّحِيحُ الْوُجُوبُ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِاسْتِعَارَةِ الْفَحْلِ ; وَعَنْهُ فِي الذُّكُورِ رِوَايَتَانِ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ لَا نَمَاءَ بِالْوِلَادَةِ وَلَا بِالسِّمَنِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا ; وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ أَنَّ زَكَاةَ السَّوَائِمِ لَا تَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ; وَالْفَرْقُ أَنَّ النَّمَاءَ يَحْصُلُ فِيهِمَا بِزِيَادَةِ اللَّحْمِ وَهُوَ مَقْصُودٌ، بِخِلَافِ الْخَيْلِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ فِي الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَنْهَا، فَقَالَ: «لَمْ يُنَزَّلْ عَلَيَّ فِيهَا شيء إِلَّا الْآيَةُ الْجَامِعَةُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] » . قَالَ: (وَلَا فِي الْعَوَامِلِ وَالْعَلُوفَةِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنِ اشْتِرَاطِ السَّوْمِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ فِي الْبَقَرِ الْعَوَامِلِ صَدَقَةٌ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ النَّمَاءَ مُنْعَدِمٌ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمَئُونَةَ تَتَضَاعَفُ بِالْعَلْفِ فَيَنْعَدِمُ النَّمَاءُ مَعْنًى، وَالسَّبَبُ الْمَالُ النَّامِي. قَالَ: (وَلَا فِي الْفُصْلَانِ وَالْحُمْلَانِ وَالْعَجَاجِيلِ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِيهَا وَاحِدَةٌ مِنْهَا. وَقَالَ زُفَرُ: فِيهَا مَا فِي الْكِبَارِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاةٌ» وَقَوْلَهُ: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الْكِبَارَ وَالصِّغَارَ. وَلِأَبِي يُوسُفَ: أَنَّ فِي إِيجَارِ الْمُسِنَّةِ إِجْحَافًا بِالْمَالِكِ، وَفِي عَدَمِ الْوُجُوبِ أَصْلًا إِضْرَارًا بِالْفُقَرَاءِ، فَيَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا كَالْمَهَازِيلِ. وَلَهُمَا حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: " فِي عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ مِنْ رَاضِعِ اللَّبَنِ شَيْئًا» وَلِأَنَّ النُّصُبَ لَا تُنْصَبُ إِلَّا تَوْقِيفًا أَوِ اتِّفَاقًا وَقَدْ عُدِمَا فِي الصِّغَارِ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ أَسْنَانًا مُرَتَّبَةً فِي نُصُبٍ مَرْتَبَةٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي الصِّغَارِ تِلْكَ الْأَسْنَانُ. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كِبَارٌ) وَلَوْ كَانَتْ وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تَسْتَتْبِعُ الصِّغَارَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عُدَّ عَلَيْهِمُ السَّخْلَةَ، وَلَوْ جَاءَ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدِهِ. ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِي أَرْبَعِينَ حَمَلًا حَمَلٌ، وَفِي مِائَةٍ وَأَحَدٍ وَعِشْرِينَ اثْنَانِ، وَفِي مِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ ثَلَاثَةٌ، وَفِي أَرْبَعِمِائَةٍ أَرْبَعٌ، ثُمَّ فِي كُلِّ مِائَةٍ وَاحِدَةٌ كَالْكِبَارِ. وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ عِجْلًا عِجْلٌ، فَفِي الثَّلَاثِينَ وَاحِدٌ، وَفِي السِتِّينَ اثْنَانِ، وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةٌ، وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ أَرْبَعَةٌ وَهَكَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وَلَا فِي السَّائِمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ نَصِيبُ كُلِّ شَرِيكٍ نِصَابًا وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ أُخِذَ مِنْهُ أَعْلَى مِنْهُ وَرُدَّ الْفَضْلُ، أَوْ أَدْنَى مِنْهُ وَأُخِذَ الْفَضْلُ. بَابُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَتَجِبُ فِي مَضْرُوبِهِمَا وَتِبْرِهِمَا وَحُلِيِّهِمَا وَآنِيَتِهِمَا نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ نِصَابًا،   [الاختيار لتعليل المختار] أَمَّا الْفُصْلَانُ ; فَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ فَتَجِبُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، ثُمَّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عَدَدًا لَوْ كَانَتْ كِبَارًا يَجِبُ ثِنْتَانِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَسَبْعُونَ فَيَكُونُ فِيهَا فَصِيلَانِ، ثُمَّ لَا يَجِبُ شَيْءٌ حَتَّى تَبْلُغَ عَدَدًا لَوْ كَانَتْ كِبَارًا يَجِبُ فِيهَا ثَلَاثَةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ فَيَجِبُ ثَلَاثُ فُصْلَانٍ وَهَكَذَا. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَةِ شَاةٍ وَمِنْ خُمْسِ فَصِيلٍ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَقَلُّ مِنْ شَاتَيْنِ وَخُمْسِ فَصِيلٍ، وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْخَمْسِ خُمْسُ فَصِيلٍ، وَفِي الْعَشْرِ خُمْسَا فَصِيلٍ وَهَكَذَا ; وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ لِرَجُلٍ لَهُ نِصَابٌ مِنَ السَّائِمَةِ مَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ السَّنَةِ فَوَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتِ الْأُمَّهَاتُ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْأَولاد، فَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ وَالزَّكَاةِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ لَا يَنْقَطِعُ. قَالَ: (وَلَا فِي السَّائِمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ نَصِيبُ كَلِّ شَرِيكٍ نِصَابًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا انْتَقَصَ شِيَاهُ الرَّجُلِ مِنْ أَرْبَعِينَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا» وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْغِنَى وَلَا غِنَى إِلَّا بِالْمِلْكِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِمِلْكِ شَرِيكِهِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ وَالْعُقُودِ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً فَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ أَوْ ثَمَانُونَ شَاةً فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ، وَلَوْ كَانَتْ بَيْنَ صَبِيٍّ وَبَالِغٍ فَعَلَى الْبَالِغِ شَاةٌ. قَالَ: (وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ سِنٌّ فَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ أُخِذَ مِنْهُ أَعْلَى مِنْهُ وَرُدَّ الْفَضْلُ أَوْ أَدْنَى مِنْهُ وَأُخِذَ الْفَضْلُ) وَهَذَا يُبْنَى عَلَى جَوَازِ دَفْعِ الْقِيمَةِ، ثُمَّ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَالِ هُوَ الصَّحِيحُ، إِنْ شَاءَ أَدَّى الْقِيمَةَ، وَإِنْ شَاءَ أَدَّى النَّاقِصَ وَفَضْلَ الْقِيمَةِ أَوِ الزَّائِدَ وَأَخَذَ الْفَضْلَ، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يَأْبَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِذَا أَدَّاهُ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّ التَّيْسِيرَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ مُرَاعًى. [بَابُ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ] ِ (وَتَجِبُ فِي مَضْرُوبِهِمَا وَتِبْرِهِمَا وَحُلِيِّهِمَا وَآنِيَتِهِمَا نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ نِصَابًا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: 34] الْآيَةَ. عَلَّقَ الْوُجُوبَ بِاسْمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَنْزِ عَدَمُ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ بِالْقِيمَةِ (سم) ، وَنِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا وَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ، ثُّمَ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ (سم) . وَنِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، ثُمَّ فِي كُلِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: «كُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، وَمَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا» وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنَ الذَّهَبِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَنْزٌ هِيَ؟ فَقَالَ: " إِنْ أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَالَّذِينَ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. «وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَتَيْنِ عَلَيْهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: " أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّرَكُمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ " قَالَتَا: لَا، قَالَ: " فَأَدِّيَا زَكَاتَهُمَا» أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِتَرْكِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَأَنَّهُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ. قَالَ: (وَيُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ) لِأَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَالثَّمَنِيَّةِ وَالزَّكَاةُ تَعَلَّقَتْ بِهِمَا بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالثَّمَنِيَّةِ فَيُضَمُّ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ، بِخِلَافِ السَّوَائِمِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَعَلَّقَتْ بِهَا بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ وَالصُّورَةِ، وَهِيَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ ; ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ (بِالْقِيمَةِ) وَعِنْدَهُمَا بِالْأَجْزَاءِ. وَصُورَتُهُ مَنْ لَهُ عَشَرَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ وَإِنَاءُ فِضَّةٍ أَقَلُّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ مَثَاقِيلَ تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِمَا الْقَدْرُ لِأَنَّهُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْه. وَلَهُ أَنَّ الضَّمَّ بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ، وَالْمُجَانَسَةُ بِالْقِيمَةِ، فَإِذَا تَمَّتِ الْقِيمَةُ نِصَابًا مِنْ أَحَدِهِمَا وُجِدَ السَّبَبُ. قَالَ: (وَنِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا وَفِيهِ نِصْفُ مِثْقَالٍ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَا عَلِيُّ لَيْسَ عَلَيْكَ فِي الذَّهَبِ شَيْءٌ حَتَّى يَبْلُغَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا، فَإِذَا بَلَغَ فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ» . قَالَ: (ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ وَنِصَابُ الْفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «لَيْسَ فِي الرِّقَةِ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» . قَالَ: (ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: مَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ مِنْهُمَا فَالزَّكَاةُ بِحِسَابِهِ، حَتَّى يَجِبَ عِنْدَهُمَا فِي الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ الْقِيرَاطُ الزَّائِدُ عَلَى الْعِشْرِينَ دِينَارًا، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ» رَوَاهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الِابْتِدَاءَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ مَا بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ نِصَابٌ لَهُ عَفْوٌ فِي الِابْتِدَاءِ، فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ كَالسَّائِمَةِ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْحَرَجِ بِحِسَابِ رُبُعُ عُشْرِ الذُّرَةِ وَالْحَبَّةِ وَالدَّانِقِ وَالدِّرْهَمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَتُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْغَلَبَةُ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْغِشِّ فَهِيَ عُرُوضٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْفِضَّةِ فَهِيَ فِضَّةُ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَلَا زَكَاةَ فِي الْعُرُوضِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، وَتَبْلُغَ قِيمَتُهَا نِصَابًا مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ وَتُضَمَّ قِيمَتُهَا إِلَيْهِمَا.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَتُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْغَلَبَةُ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْغِشِّ فَهِيَ عُرُوضٌ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْفِضَّةِ فَهِيَ فِضَّةٌ، وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ) لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْطَبِعُ إِلَّا بِقَلِيلِ الْغِشِّ، فَلَا يَخْلُو مِنْهُ وَيَخْلُو عَنْ كَثِيرِهِ، فَجَعَلْنَا الْفَاصِلَ الْغَلَبَةَ، وَذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ، فَيَجِبُ فِي الزُّيُوفِ وَالْنبَهْرَجَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ عليهما الفضة ولا تجب في الستوقة لأن الغالب عَلَيْهَا الْغِشُّ إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ مَا فِيهَا مِنَ الْفِضَّةِ نِصَابًا أَوْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، وَتَبْلُغَ قِيمَتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَتَجِبَ حِينَئِذٍ وَإِنْ تَسَاوَيَا لَا تَجِبْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُجُوبِ، وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي السَّبَبِ وَهُوَ النِّصَابُ فَلَا تَجِبُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الصَّرْفِ، وَنَظَرًا لِلْمَالِكِ كَمَا فِي السَّوْمِ، وَسَقْيِ الْأَرَاضِي سَيْحًا وَدَالِيَةً عَلَى مَا يَأْتِي. (وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَاعْتَبَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْضَهَا اثْنَيْ عَشَرَ قِيرَاطًا، وَبَعْضَهَا عَشَرَةَ قَرَارِيطَ، وَبَعْضَهَا عِشْرِينَ قِيرَاطًا، وَكَانَ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي مُعَامَلَتِهِمْ، فَشَاوَرَ عُمَرُ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ: خُذْ مَنْ كُلِّ نَوْعٍ، فَأَخَذَ مِنْ كَلِّ دِرْهَمٍ ثُلُثَهُ فَبَلَغَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا فَجَعَلَهُ دِرْهَمًا، فَجَاءَتِ الْعَشَرَةُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ قِيرَاطًا، وَذَلِكَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ؛ لِأَنَّ الْمِثْقَالَ عِشْرُونَ قِيرَاطًا. قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ فِي الْعُرُوضِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ، وَتَبْلُغُ قِيمَتُهَا نِصَابًا مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ وَتُضَمُّ قِيمَتُهَا إِلَيْهِمَا) لِأَنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا تَجِبُ فِي مَالٍ نَامٍ زَائِدٍ عَلَى الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ. وَالنَّمَاءُ يَكُونُ إِمَّا بِإِعْدَادِ اللَّهِ تَعَالَى كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّهُمَا لِلنَّمَاءِ حَيْثُ خَلَقَهُمَا ثَمَنَ الْأَشْيَاءِ فِي الْأَصْلِ، وَلَا يَحْتَاجُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِمَا وَالْمُعَامَلَةِ بِهِمَا إِلَى التَّقْوِيمِ وَالِاسْتِبْدَالِ، وَتَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ بِعَيْنِهِ كَيْفَ كَانَ أَوْ يَكُونُ مُعَدًّا بِإِعْدَادِ الْعَبْدِ، وَهُوَ إِمَّا الْإِسَامَةُ أَوْ نِيَّةُ التِّجَارَةِ، فَيَتَحَقَّقُ النَّمَاءُ ظَاهِرًا أَوْ غَالِبًا، وَلَيْسَ فِي الْعُرُوضِ نِصَابٌ مُقَدَّرٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِذَلِكَ فَيُرْجَعُ إِلَى الْقِيمَةِ، وَإِذَا قُوِّمَتْ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ صَارَ الْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةَ فَتُضَمُّ إِلَى التَّقْدِيرِ لِمَا مَرَّ وَتُقَوَّمُ بِأَيِّ النَّقْدَيْنِ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ، وَالتَّقْوِيمُ يُعَرِّفُ الْمَالِيَّةَ، وَالنَّقْدَانِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَيُخَيَّرُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ، وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ نِصَابًا نَظَرًا لَهُمْ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: بِغَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ سَيْحًا فَفِيهِ الْعُشْرُ (سم) قَلَّ أَوْ كَثُرَ، إِلَّا الْقَصَبَ الْفَارِسِيَّ وَالْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ، وَمَا سُقِيَ بِالدُّولَابِ وَالدَّالِيَةِ فَنِصْفُ الْعُشْرِ، وَلَا شَيْءَ فِي التِّبْنِ وَالسَّعَفِ،   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ] ِ (مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ أَوْ سُقِيَ سَيْحًا فَفِيهِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ) وَيَسْتَوِي فِيهِ مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى، وَقَالَا: لَا يَجِبُ الْعُشْرُ إِلَّا فِيمَا يَبْقَى إِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَالْوَسْقُ: سِتُّونَ صَاعًا، فَلَا يَجِبُ فِي الْبُقُولِ وَالرَّيَاحِينِ، لَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ فِي الْخُضْرَاوَاتِ عُشْرٌ» وَلِأَنَّهُ صَدَقَةٌ فَيُشْتَرَطُ لَهُ نِصَابٌ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى كَسَائِرِ الصَّدَقَاتِ، وَلَهُ قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] . وَلَا وَاجِبَ فِيهِ إِلَّا الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ الْعُشْرَ، وَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، وَمَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ» وَلِأَنَّ الْعُشْرَ مَئُونَةُ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ، وَالْخَرَاجُ يَجِبُ بِمُطْلَقِ الْخَارِجِ فَكَذَا الْعُشْرُ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ مَحْمُولٌ عَلَى الزَّكَاةِ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ إِلَيْهَا، وَكَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالْأَوْسَاقِ، وَكَانَ قِيمَةُ الْوَسْقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَيَكُونُ قِيمَةُ الْخَمْسَةِ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الثَّانِي صَدَقَةٌ تُؤْخَذُ: أَيْ يَأْخُذُهَا الْعَاشِرُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ يَدْفَعُهَا الْمَالِكُ إِلَى الْفُقَرَاءِ ; وَقَوْلُهُمَا يُشْتَرَطُ النِّصَابُ لِلْغِنَى قُلْنَا لَا اعْتِبَارَ بِالْمَالِكِ حَتَّى يَجِبَ فِي أَرْضِ الْوَقْفِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ وَصْفُهُ ; وَكَذَا لَا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ لِأَنَّهُ لِتُحَقِّقِ النَّمَاءِ وَكُلُّهُ نَمَاءٌ. قَالَ: (إِلَّا الْقَصَبَ الْفَارِسِيَّ وَالْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ) لِأَنَّهَا تُنَقَّى مِنَ الْأَرْضِ، حَتَّى لَوِ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَقْصَبَةً أَوْ مَشْجَرَةً لِلْحَطَبِ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَالْقُنْبُ كَالْحَشِيشِ. قَالَ: (وَمَا سُقِيَ بِالدُّولَابِ وَالدَّالِيَةِ فَنِصْفُ الْعُشْرِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِغرب أو دالِيَةِ فَنِصْفُ الْعُشْرِ» وَلِأَنَّ الْمَئُونَةَ تَكْثُرُ، وَلَهُ أَثَرٌ فِي التَّخْفِيفِ كَالسَّائِمَةِ وَالْعَلُوفَةِ، وَإِنْ سُقِيَ سَيْحًا وَبِدَالِيَةٍ يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ السَّنَةِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا يَجِبُ نِصْفُ الْعُشْرِ نَظَرًا لِلْمَالِكِ كَالسَّائِمَةِ. قَالَ: (وَلَا شَيْءَ فِي التِّبْنِ وَالسَّعَفِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَلَا تُحْسَبُ مَؤُونَتُهُ وَالْخَرْجُ عَلَيْهِ. وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إِذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ، وَالْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ إِذَا اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ صَارَتْ خَرَاجِيَّةً (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُمَا لَا يُقْصَدَانِ، وَكَذَلِكَ بَذْرُ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّمَرَةُ دُونَ الْبَذْرِ. قَالَ: (وَلَا تُحْسَبُ مَئُونَتُهُ وَالْخَرْجُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ فِيهِ الْعُشْرَ فَيَتَنَاوَلُ عُشْرَ الْجَمِيعِ، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَفَّفَ الْوَاجِبَ مَرَّةً بِاعْتِبَارِ الْمَئُونَةِ مِنَ الْعُشْرِ إِلَى نِصْفِهِ فَلَا يُخَفَّفُ ثَانِيًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيمَا لَا يُوَسَّقُ كَالزَّعْفَرَانِ وَالْقُطْنِ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ إِذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ كَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِمَا، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَصْبِ النِّصَابِ بِالرَّأْيِ، فَيُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَاعْتَبَرْنَا بِالْأَدْنَى نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا بَلَغَ الْخَارِجُ خَمْسَةَ أَمْثَالِ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ وَجَبَ الْعُشْرُ، فَفِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ، كُلُّ حِمْلٍ ثَلَاثُمِائَةٍ مَنٍّ، وَيُرْوَى ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ مَنًّا، وَفِي الزَّعْفَرَانِ وَالسُّكَّرِ خَمْسَةُ أَمْنَانٍ، كَمَا اعْتُبِرَ فِي الْمَنْصُوصِ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ وَهُوَ الْوَسْقُ، فَكَانَ مَعْنًى جَامِعًا فَصَحَّ الْقِيَاسُ. وَوَقْتُ الْوُجُوبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عِنْدَ الْإِدْرَاكِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إِذَا حَصَلَ فِي الْحَظِيرَةِ ; وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إِذَا اسْتَهْلَكَهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ يُضَمَّنُ الْعُشْرَ وَقَبْلَهُ لَا، وَعِنْدَهُمَا فِي هَذَا وَفِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ. قَالَ: (وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إِذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنَ الْعَسَلِ الْعُشْرُ» . وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: الْعُشْرُ فِي الْعَسَلِ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ لَيْسَ فِيهِ اخْتِلَافٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا بَلَغَ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَفِيهِ رَطْلٌ. وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ: خَمْسَةُ أَوْسُقٍ. وَفَسَّرَهُ الْقُدُورِيُّ بِقِيمَةِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لِأَنَّهُ لَا يُكَالُ، فَاعْتَبَرَ الْقِيمَةَ عَلَى أَصْلِهِ ; وَعَنْهُ أَيْضًا عَشْرُ قِرَبٍ، كَذَا أَخَذَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَنِيَ سَيَّارَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: خَمْسُ قِرَبٍ ; وَفِي رِوَايَةٍ: خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ كَمَا مَرَّ مِنْ أَصْلِهِ ; وَالْفِرْقُ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رَطْلًا، وَلَا شَيْءَ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ: (وَالْأَرْضُ الْعُشْرِيَّةُ إِذَا اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ صَارَتْ خَرَاجِيَّةً) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ: عَلَيْهِ عُشْرَانِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عُشْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْأَرْضِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ كَالْخَرَاجِ. ثُمَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ سَمَاعَةَ: يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ. وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ السِّيَرِ: مَوْضِعَ الصَّدَقَاتِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا يَجِبُ أَخْذُهُ مِنَ الْمُسْلِمِ يُضَاعَفُ عَلَى الذِّمِّيِّ كَمَا إِذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ ; وَيُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ كَالتَّغْلِبِيِّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَرَاضِيَ النَّامِيَةَ لَا تَخْلُو مِنَ الْعُشْرِ أَوِ الْخَراجِ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ أَهْلًا لِلْعُشْرِ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَالْخَرَاجِيَّةُ لَا تَصِيرُ عُشْرِيَّةً أَصْلًا، وَلَا شَيْءَ فِيمَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ (س) كَالْلُؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ وَالْمَرْجَانِ، وَلَا فِيمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ كَالْجِصِّ وَالنَّوْرَةِ وَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالزُّمُرُّدِ. بَابُ الْعَاشِرِ وَهُوَ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنَ التُّجَّارِ مِمَّا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ ; فَيَأْخُذُ مِنَ الْمُسْلِمِ   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَالْخَرَاجُ أَلْيَقُ بِهِ فَيُوضَعُ عَلَيْهِ ; وَإِنِ اشْتَرَاهَا تَغْلِبِيٌّ فَعَلَيْهِ عُشْرَانِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُمْ صُولِحُوا عَلَى أَنْ يُضَاعَفَ عَلَيْهِمْ جَمِيعُ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ النَّصَارَى كَانُوا قَرِيبًا مِنْ بِلَادِ الرُّومِ، فَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، فَأَبَوْا وَقَالُوا: إِنْ وَضَعْتَ عَلَيْنَا الْجِزْيَةَ لَحِقْنَا بِأَعْدَائِكَ مِنَ الرُّومِ، وَإِنْ أَخَذْتَ مِنَّا مَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَتَضَعُهُ عَلَيْنَا فَافْعَلْ، فَشَاوَرَ عُمَرُ الصَّحَابَةَ فَأَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ عُمَرُ: هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ. قَالَ: (وَالْخَرَاجِيَّةُ لَا تَصِيرُ عُشْرِيَّةً أَصْلًا) لِأَنَّهَا وَظِيفَةُ الْأَرْضِ، وَالْكُلُّ أَهْلٌ لِلْخَرَاجِ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّغْيِيرِ. قَالَ: (وَلَا شَيْءَ فِيمَا يُسْتَخْرَجُ مِنَ الْبَحْرِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ وَالْمَرْجَانِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْكُفَّارِ لِيَكُونَ غَنِيمَةً، وَلِهَذَا لَوِ اسْتُخْرِجَ مِنْهُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لَا شَيْءَ فِيهِمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِيهِ الْخُمْسُ؛ لِأَنَّ عُمَرَ كَانَ يَأْخُذُ الْخُمْسَ مِنَ الْعَنْبَرِ. وَاللُّؤْلُؤُ أَشْرَفُ مَا يُوجَدُ فِي الْبَحْرِ، فَيُعْتَبَرُ بِأَشْرَفَ مَا يُوجَدُ فِي الْبَرِّ وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ. ثُمَّ قِيلَ اللُّؤْلُؤُ مَطَرُ الرَّبِيعِ يَقَعُ فِي الصَّدَفِ فَيَصِيرُ لُؤْلُؤًا. وَقِيلَ: الصُّدَفُ حَيَوَانٌ يُخْلَقُ فِيهِ اللُّؤْلُؤُ. وَأَمَّا الْعَنْبَرُ، قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ حَشِيشُ الْبَحْرِ يَأْكُلُهُ السَّمَكُ ; وَقِيلَ شَجَرَةٌ تَنْكَسِرُ فَيُلْقِيهَا الْمَوْجُ فِي السَّاحِلِ ; وَقِيلَ: خِثْيُ دَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ وَلَيْسَ فِي الْأَشْجَارِ، وَالْأَخْثَاءُ شَيْءٌ. وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْعَنْبَرِ ; فَقَالَ: هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ الْبَحْرُ وَلَا خُمْسَ فِيهِ. قَالَ: (وَلَا فِيمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ كَالْجِصِّ وَالنَّوْرَةِ وَالْيَاقُوتِ وَالْفَيْرُوزَجِ وَالزُّمُرُّدِ) لِأَنَّهُ مِنَ الْأَرْضِ كَالتُّرَابِ وَالْأَحْجَارِ، وَالْفُصُوصُ: أَحْجَارٌ مُضِيئَةٌ. [بَابُ الْعَاشِرِ] ِ (وَهُوَ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنَ التُّجَّارِ مِمَّا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ) عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَتَأْمَنُ التُّجَّارُ بِمُقَامِهِ مِنْ شَرِّ اللُّصُوصِ. (فَيَأْخُذُ مِنَ الْمُسْلِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 رُبُعَ الْعُشْرِ. وَمِنَ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنَ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ. فَمَنْ أَنْكَرَ تَمَامَ الْحَوْلِ أَوِ الْفَرَاغَ مِنَ الدَّيْنِ، أَوْ قَالَ: أَدَّيْتُ إِلَى عَاشِرٍ آخَرَ أَوْ إِلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ وَحَلَفَ صُدِّقَ. وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ، وَالْحَرْبِيُّ لَا يُصَدَّقُ إِلَّا فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَيُعَشِّرُ قِيمَةَ الْخَمْرِ دُونَ الْخِنْزِيرِ (س ز) :   [الاختيار لتعليل المختار] رُبُعَ الْعُشْرِ، وَمِنَ الذِّمِّيِّ نِصْفَ الْعُشْرِ، وَمِنَ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرَ) فَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِثْلَهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا نَصَبَ الْعُشَّارَ قَالَ لَهُمْ: خُذُوا مِمَّا يَمُرُّ بِهِ الْمُسْلِمُ رُبُعَ الْعُشْرِ، وَمِمَّا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ نِصْفَ الْعُشْرِ. قَالُوا: فَمِنَ الْحَرْبِيِّ ; قَالَ: مِثْلَ مَا يَأْخُذُونَ مِنَّا، فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذُوا مِنَّا لَمْ نَأْخُذْ مِنْهُمْ لِأَنَّا أَحَقُّ بِالْمُسَامَحَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَإِنْ أَخَذُوا الْكُلَّ أَخَذْنَا إِلَّا قَدْرَ مَا يُوَصِّلُهُ إِلَى مَأْمَنِهِ ; وَقِيلَ: لَا يُؤْخَذُ لِأَنَّهُ غدْرٌ، وَإِنْ أَخَذُوا مِنَّا الْقَلِيلَ أَخْذَنَا مِنْهُمْ كَذَلِكَ. وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ لَا يُؤْخَذُ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى حِمَايَةٍ. قَالَ: (فَمَنْ أَنْكَرَ تَمَامَ الْحَوَلِ أَوِ الْفَرَاغَ مِنَ الدَّيْنِ، أَوْ قَالَ: أَدَّيْتُ إِلَى عَاشِرٍ آخَرَ أَوْ إِلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ وَحَلَفَ صُدِّقَ) مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ عَاشِرٌ آخَرُ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَا يُصَدَّقُ لِظُهُورِ كَذِبِهِ، وَكَذَا فِي السَّوَائِمِ إِلَّا فِي دَفْعِهِ إِلَى الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ خَالِصَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمِينٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْلِفُ كَمَا إِذَا قَالَ: صُمْتُ أَوْ صَلَّيْتُ. قُلْنَا: السَّاعِي هُنَا يُكَذِّبُهُ وَلَا مُكَذِّبَ ثَمَّ، وَكَذَا إِذَا قَالَ هَذَا الْمَالُ لَيْسَ لِي أَوْ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ وَحَلَفَ صُدِّقَ. وَيُشْتَرَطُ إِخْرَاجُ الْبَرَاءَةِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لِأَنَّهَا عَلَامَةٌ لِصِدْقِ دَعْوَاهُ، قُلْنَا الْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَكُنْ عَلَامَةً، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ السَّائِمَةِ فِي الْأَدَاءِ إِلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ إِلَى الْإِمَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا بِنَفْسِهِ، وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ يُخْرِجُهَا بِنَفْسِهِ. (وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ) لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَهُوَ كَالْمُسْلِمِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَأَحْكَامِهَا. قَالَ: (وَالْحَرْبِيُّ لَا يُصَدَّقُ إِلَّا فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ) لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ لِلْحِمَايَةِ، وَجَمِيعُ مَا مَعَهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْحَوْلَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا نُمَكِّنَهُ مِنَ الْمُقَامِ فِي دَارِنَا سَنَةً ; وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلَا مُطَالِبَ لَهُ فِي دَارِنَا، وَقَوْلُهُ: لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ، يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ إِنَّمَا دَخَلَ دَارَنَا بِالْمَالِ لِلتِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْغُلَامُ يَقُولُ هُوَ وَلَدِي؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا، وَإِلَّا فَقَدْ ثَبَتَ لِلْأَمَةِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلِلْوَلَدِ حَقِيقَتُهَا، فَتَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ فِي حَقِّهِمَا، وَلَوْ عُشِّرَ الْحَرْبِيُّ ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يُعَشِّرْهُ قَبْلَ الْحَوْلِ تَحَرُّزًا عَنِ الِاسْتِئْصَالِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ يَخْرُجُ وَلَوْ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ لِأَنَّهُ أَمَانٌ جَدِيدٌ، وَكَذَا إِذَا حَالَ الْحَوْلُ لِتَجَدُّدِ الْأَمَانِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَيُعَشَّرُ قِيمَةُ الْخَمْرِ دُونَ الْخِنْزِيرِ) وَقَالَ زُفَرُ: يُعَشِّرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَذَلِكَ إِنْ مُرَّ بِهِمَا جُمْلَةً كَأَنَّهُ جَعَلَ الْخِنْزِيرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 بَابُ الْمَعْدِنِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَجَدَ مَعْدِنَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ نُحَاسٍ فِي أَرْضِ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ، فَخُمْسُهُ فَيْءٌ وَالْبَاقِي لَهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي دَارِهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ (سم) ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ ; وَإِنْ وَجَدَهُ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فَيْءٌ ; وَمَنْ وَجَدَ كَنْزًا فِيهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لُقَطَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَلَامَةُ الشِّرْكِ فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ غَنِيمَةً فَفِيهِ الْخُمْسُ، وَالْبَاقِي لِلْوَاجِدِ،   [الاختيار لتعليل المختار] تَبَعًا لِلْخَمْرِ، وَإِنِ انْفَرَدَا عُشِّرَ الْخَمْرُ دُونَ الْخِنْزِيرِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْأَخْذَ بِسَبَبِ الْحِمَايَةِ، وَالْمُسْلِمُ لَهُ أَنْ يَحْمِيَ خَمْرَهُ لِلتَّخْلِيلِ فَيَحْمِيَ خَمْرَ غَيْرِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ، وَلِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ وَحُكْمُ قِيمَتِهِ حُكْمُهُ، وَالْخَمْرُ مِثْلِيٌّ فَلَا يَكُونُ حُكْمُ الْقِيمَةِ حُكْمَهَا. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا ; وَلَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي الْخِنْزِيرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْمَعْدِنِ] ِ (مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَجَدَ مَعْدِنَ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ نُحَاسٍ فِي أَرْضِ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ فَخُمْسُهُ فَيْءٌ وَالْبَاقِي لَهُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ» وَالرِّكَازُ يَتَنَاوَلُ الْكَنْزَ وَالْمَعْدِنَ؛ لِأَنَّ الركاز عِبَارَةٌ عَمَّا يَغِيبُ فِي الْأَرْضِ وَأُخْفِيَ فِيهَا، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْكَنْزِ وَالْمَعْدِنِ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكُفَّارِ وَقَدْ غَلَبْنَا عَلَيْهَا فَتَكُونُ غَنِيمَةً وَفِيهَا الْخُمْسُ، وَالْوَاجِدُ كَالْغَانِمِ فَلَهُ أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ. قَالَ: (وَإِنْ وَجَدَهُ فِي دَارِهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ) لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَالْمَعْدِنُ مِنْ أَجْزَائِهَا. (وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي أَرْضِهِ) وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: يَجِبُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الدَّارِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّارَ مَلَكَهَا بِلَا مَئُونَةٍ أَصْلًا وَالْأَرْضُ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ فَلَمْ تَخْلُ عَنِ الْمُؤَنِ فَيَجِبُ فِي الْمَعْدِنِ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجِبُ فِي الدَّارِ وَالْأَرْضِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ مِلْكِهِ. قَالَ: (وَإِنْ وَجَدَهُ حَرْبِيٌّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فَيْءٌ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مَنْ أَهْلِ الْغَنَائِمِ. قَالَ: (وَمَنْ وَجَدَ كَنْزًا فِيهِ عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ) بِأَنْ كَانَ فِيهِ مُصْحَفٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ مَكْتُوبًا كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ أَوِ اسْمُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْإِسْلَامِ. (فَهُوَ لُقَطَةٌ) لِعِلْمِنَا أَنَّهُ مِنْ وَضْعِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً. (وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَلَامَةُ الشِّرْكِ) كَالصَّلِيبِ وَالصَّنَمِ وَنَحْوِهِمَا. (فَهُوَ مِنْ مَالِ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ غَنِيمَةً فَفِيهِ الْخُمْسُ وَالْبَاقِي لِلْوَاجِدِ) وَمَا لَا عَلَامَةَ فِيهِ قِيلَ هُوَ لُقَطَةٌ لِتَقَادُمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وَإِنْ وَجَدَ فِي دَارِ رَجُلٍ مَالًا مَدْفُونًا مِنْ أَمْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ لِمَنْ كَانَتِ الدَّارُ لَهُ (س) ، وَهُوَ الْمُخْتَطُّ الَّذِي خَطَّهَا الْإِمَامُ لَهُ عِنْدَ الْفَتْحِ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ الْمُخْتَطُّ فَلِأَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ لَهَا. بَابُ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ وَهُمُ الْفَقِيرُ وَهُوَ الَّذِي لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْعَهْدِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِمَّا دَفَنَهُ الْكُفَّارُ، وَقِيلَ حُكْمُهُ حُكْمُ أَمْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكُنُوزَ غَالِبًا مِنَ الْكَفَرَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا وَجَدَهُ فِي فَلَاةٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ. (وَإِنْ وَجَدَ فِي دَارِ رَجُلٍ مَالًا مَدْفُونًا مِنْ أَمْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ لِمَنْ كَانَتِ الدَّارُ لَهُ، وَهُوَ الْمُخْتَطُّ الَّذِي خَطَّهَا الْإِمَامُ لَهُ عِنْدَ الْفَتْحِ) . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ لِلْوَاجِدِ، وَفِيهِ الْخُمْسُ قِيَاسًا عَلَى الْمَوْجُودِ فِي الْمَفَازَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَظْهَرَهُ وَحَازَهُ، وَلَمْ يُمَلِّكْهُ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهُ الْكَنْزَ مَعَ الْأَرْضِ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُخْتَطَّ لَهُ مِلْكُ الْأَرْضِ بِالْحِيَازَةِ، فَيَمْلِكُ ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، وَالْمُشْتَرِيَ مَلَكَهَا بِالْعَقْدِ، فَيَمْلِكُ الظَّاهِرَ دُونَ الْبَاطِنِ، فَبَقِيَ الْكَنْزُ عَلَى صَاحِبِ الْخِطَّةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا. قُلْنَا: هُوَ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي وُسْعِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدِ الْمُخْتَطُّ فَلِوَرَثَتِهِ وَوَرَثَةُ وَرَثَتِهِ هَكَذَا. (فَإِنْ لَمْ يُعْرَفِ الْمُخْتَطُّ فَلِأَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ لَهَا) . [بَابُ مَصَارِفِ الزَّكَاةِ] وهم الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ، إِلَّا الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَزَّ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْهُمْ، وَمَنَعَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: لَا نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، ذَلِكَ شَيْءٌ كَانَ يُعْطِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَأَلُّفًا لَكُمْ، أَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الدِّينَ، فَإِنْ ثَبَتُّمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفُ، وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَالصَّحَابَةُ فَكَانَ إِجْمَاعًا. قَالَ: (وَالْفَقِيرُ وَهُوَ الَّذِي لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ) وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الْفَقِيرُ: الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَالْمِسْكِينُ: الَّذِي يَسْأَلُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَكْسَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ بِالْمَسْأَلَةِ يُظْهِرُ افْتِقَارَهُ وَحَاجَتَهُ، وَالْمِسْكِينُ بِهِ زَمَانَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَالْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ يُعْطَى بِقَدْرِ عَمَلِهِ، وَمُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ وَالْحَاجِّ، وَالْمُكَاتَبُ يُعَانُ فِي فَكِّ رَقَبَتِهِ، وَالْمَدْيُونُ الْفَقِيرُ، وَالْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَهُمْ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمْ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَا يَسْأَلُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الْأَوْقَافِ عَلَيْهِمْ وَالْوَصَايَا لَهُمْ دُونَ الزَّكَاةِ. قَالَ: (وَالْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ يُعْطَى بِقَدْرِ عَمَلِهِ) مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانَهُ زَادَ عَلَى الثَّمَنِ أَوْ نَقَصَ؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِلْعَمَلِ لِلْفُقَرَاءِ، فَيَكُونُ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ كَالْمُقَاتِلَةِ وَالْقَاضِي، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْإِجَارةِ لِأَنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَيَحِلُّ لِلْغَنِيِّ دُونَ الْهَاشِمِيِّ لِمَا فِيهَا مِنْ شُبْهَةِ الْوَسَخِ، وَالْهَاشِمِيُّ أَوْلَى بِالْكَرَامَةِ وَالتَّنَزُّهِ عَنِ الْوَسَخِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ الْغَنِيُّ، وَلَوْ هَلَكَتِ الزَّكَاةُ فِي يَدِ الْعَامِلِ سَقَطَ أَجْرُهُ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيمَا أَخَذَ وَأَجْزَأَتْ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْإِمَامِ وَالْفُقَرَاءِ. قَالَ: (وَمُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ وَالْحَاجِّ) وَهُمُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ( {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُمْ فُقَرَاءُ الْغُزَاةِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ عِنْدَ إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ. وَلِمُحَمَّدٍ: أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ، وَلِأَنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا فِيهِ مِنِ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَطَاعَتِهِ وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ: (وَالْمُكَاتَبُ يُعَانُ فِي فَكِّ رَقَبَتِهِ) وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ( {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] ) هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ، قَالُوا: لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى مُكَاتَبٍ هَاشِمِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمَوْلَى. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ: لَا يُدْفَعُ إِلَى مُكَاتَبِ غَنِيٍّ، وَإِطْلَاقُ النَّصِّ يَقْتَضِي الْكُلَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ: (وَالْمَدْيُونُ الْفَقِيرُ) وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] وَإِطْلَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَوَازَ الصَّرْفِ إِلَى مُطْلَقِ الْمَدْيُونِ إِلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إِلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلًا عَمَّا عَلَيْهِ. قَالَ: (وَالْمُنْقَطِعُ عَنْ مَالِهِ) وَهُوَ ابْنُ السَّبِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِمَالِهِ فَكَانَ كَالْفَقِيرِ، فَهُوَ فَقِيرٌ حَيْثُ هُوَ غَنِيٌّ حَيْثُ مَالُهُ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ عِنْدَهُ فَلَهَا نَفَقَةُ الْفُقَرَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ حَيْثُ مَالُهُ فَلَهَا نَفَقَةُ الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: (وَلِلْمَالِكِ أَنْ يُعْطِيَ جَمِيعَهُمْ) وَلَا خِلَافَ فِيهِ. (وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمْ) لِأَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْآخِذُ لَهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ» الْحَدِيثَ، وَإِضَافَتُهُ إِلَيْهِمْ بِحَرْفِ اللَّامِ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِبَيَانِ أَنَّهُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا، وَبِعِلَّةِ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ صَارُوا مَصَارِفَ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ إِغْنَاءُ الْفَقِيرِ، وَسَدُّ خُلَّةِ الْمُحْتَاجِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِهِمْ» وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَى الْأَغْنِيَاءِ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَعْنًى يَعُمُّ الْكُلَّ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالدَّفْعِ إِلَى الْبَعْضِ، بِخِلَافِ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُهُ صَدَقَةً بَلْ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وَلَا يَدْفَعُهَا إِلَى ذِمِّيٍّ وَلَا إِلَى غَنِيٍّ، وَلَا إِلَى وَلَدِ غَنِيٍّ صَغِيرٍ، وَلَا مَمْلُوكِ غَنِيٍّ، وَلَا إِلَى مَنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةُ وِلَادٍ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ، وَلَا إِلَى زَوْجَتِهِ، وَلَا إِلَى مُكَاتَبِهِ، وَلَا إِلَى هَاشِمِيٍّ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَلَا يَدْفَعُهَا إِلَى ذَمِّيٍّ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أُمِرْتُ أَنْ آخُذَهَا مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ» وَيَدْفَعُ إِلَيْهِ غَيْرَهَا مِنَ الصَّدَقَاتِ كَالنُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ كَالزَّكَاةِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَذْكُورَ مُطْلَقُ الْفُقَرَاءِ إِلَّا أَنَّهُ خُصَّ فِي الزَّكَاةِ بِالْحَدِيثِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَى الْحَرْبِيِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ} [الممتحنة: 9] الْآيَةَ، وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ شَيْءٍ مِنَ الْعُشْرِ إِلَى الذِّمِّيِّ أَيْضًا كَالزَّكَاةِ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. قَالَ: (وَلَا إِلَى غَنِيٍّ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» . قَالَ: (وَلَا إِلَى وَلَدِ غَنِيٍّ صَغِيرٍ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِغِنَى أَبِيهِ عُرْفًا حَتَّى لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ إِلَّا عَلَى الْأَبِ، بِخِلَافِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِغِنَى أَبِيهِ حَتَّى تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى ابْنِهِ لَا عَلَى أَبِيهِ. قَالَ: (وَلَا مَمْلُوكِ غَنِيٍّ) لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ. قَالَ: (وَلَا إِلَى مَنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةُ وِلَادٍ أَعْلَى أَوْ أَسْفَلَ) كَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَالْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّةَ ثَابِتَةٌ بَيْنَهُمَا مِنَ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، وَلَا يَقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ، فَلَا يَتِمُّ الْإِيتَاءُ الْمَشْرُوطُ فِي الزَّكَاةِ إِلَّا بِانْقِطَاعِ مَنْفَعَةِ الْمُؤْتِي عَمَّا أَتَى وَالْمَنَافِعُ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ. (وَلَا إِلَى زَوْجَتِهِ) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ، وَيُعَدُّ غَنِيًّا بِمَالِ زَوْجَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] " قَالُوا: بِمَالِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ لَا تَدْفَعُ إِلَى زَوْجِهَا لِأَنَّهَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِاعْتِبَارِ مَا لَهَا عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَلِأَنَّهُمَا أَصْلُ الْوِلَادِ، وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ يَمْنَعُ صَرْفَ الزَّكَاةِ فَكَذَا الْأَصْلُ، وَلِهَذَا يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ كَقَرَابَةِ الْوِلَادِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَدْفَعُ إِلَى زَوْجِهَا، «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِزَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنِ التَّصَدُّقِ عَلَى زَوْجِهَا: " لَكِ أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الصِّلَةِ» . قُلْنَا: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لِمَا بَيَّنَّا مِنِ اتِّصَالِ الْمَنَافِعِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُ. قَالَ: (وَلَا إِلَى مُكَاتَبِهِ) لِأَنَّهُ مِلْكُهُ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَتَحَقَّقِ الْإِيتَاءُ الْمَشْرُوطُ. قَالَ: (وَلَا إِلَى هَاشِمِيٍّ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا بَنِي هَاشِمٍ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ أَوْسَاخَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ عَنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ» وَهُمْ: آلُ عَبَّاسٍ، وَآلُ عَلِيٍّ، وَآلُ عَقِيلٍ، وَآلُ جَعْفَرٍ، وَآلُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لِأَنَّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ هم الْمُسْتَحِقُّونَ لِخُمْسِ الْخُمْسِ، وَهُوَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقَارِبِ، فَاللَّهُ تَعَالَى حَرَّمَ الصَّدَقَةَ عَلَى فُقَرَائِهِمْ وَعَوَّضَهُمْ بِخُمْسِ الْخُمْسِ، فَيَخْتَصُّ تَحْرِيمُ الصَّدَقَةِ بِهِمْ، وَيَبْقَى مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ كَالْأَجَانِبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وَلَا إِلَى مَوْلَى هَاشِمِيٍّ، وَإِنْ أَعْطَى فَقِيرًا وَاحِدًا نِصَابًا أَوْ أَكْثَرَ جَازَ (ز) وَيُكْرَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَتَحِلُّ لهم الصَّدَقَة، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا سِوَى الزَّكَاةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَاتِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُشُورِ وَالنُّذُورِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَإِسْقَاطِ الْفَرْضِ، فَيَتَدَنَّسُ الْمُؤَدَّى كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ حَيْثُ تَحِلُّ لِلْهَاشِمِيِّ لِأَنَّهَا لَا تُدَنَّسُ كَالْوُضُوءِ لِلتَّبَرُّدِ. قَالَ: (وَلَا إِلَى مَوْلًى هَاشِمِيٍّ) «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَوْلَاهُ أَبِي رَافِعٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يَجُوزُ لِلْهَاشِمِيِّ أَنْ يَدْفَعَ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَى الْهَاشِمِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ; وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَوْسَاخَ النَّاسِ غَيْرُهُمْ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مِثْلِهِ، فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ زَكَاةِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ لَا غَيْرُ. وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي عِصْمَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَفَقِيرُهُمْ فِيهَا كَفَقِيرِ غَيْرِهِمْ، وَوَجْهُهُ أَنْ عِوَضَهَا وَهُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ لِإِهْمَالِ النَّاسِ أَمْرَ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتَهَا وَإِيصَالَهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا، وَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمُ الْعِوَضُ عَادُوا إِلَى الْمُعَوَّضِ، عَمَلًا بِمُطْلَقِ الْآيَةِ سَالِمًا عَنْ مُعَارَضَةِ أَخْذِ الْعِوَضِ، وَكَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا هَلَكُوا جُوعًا، فَيَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّمْلِيكَ شَرْطٌ. قَالَ تَعَالَى: {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ ; وَالْإِعْطَاءُ: التَّمْلِيكُ، فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ قَبْضِ الْفَقِيرِ أَوْ نَائِبِهِ كَالْوَصِيِّ وَالْأَبِ وَمَنْ يَكُونُ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِهِ قَرِيبًا كَانَ أَوْ أَجْنَبِيًّا، وَكَذَلِكَ الْمُلْتَقِطُ لِلَّقِيطِ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَتِمُّ بِدُونِ الْقَبْضِ وَلَا يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلَا سِقَايَةٌ وَلَا قَنْطَرَةٌ وَلَا رِبَاطٌ، وَلَا يُكَفَّنُ بِهَا مَيِّتٌ، وَلَا يُقْضَى بِهَا دَيْنُ مَيِّتٍ، وَلَا يُشْتَرَى بِهَا رَقَبَةٌ تُعْتَقُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ ; وَلَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَ فَقِيرٍ جَازَ، وَيَكُونُ الْقَابِضُ كَالْوَكِيلِ عَنِ الْفَقِيرِ. قَالَ: (وَإِنْ أَعْطَى فَقِيرًا وَاحِدًا نِصَابًا أَوْ أَكْثَرَ جَازَ وَيُكْرَهُ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِمُقَارَنَةِ الْأَدَاءِ الْغِنَى فَيَمْنَعُ وُقُوعُهُ زَكَاةً. وَلَنَا أَنَّ الْغِنَى يَتَعَقَّبُ الْأَدَاءَ لِحُصُولِهِ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ بَعْدَ الْأَدَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْهُ فَيُكْرَهُ كَمَنْ صَلَّى قَرِيبًا مِنَ النَّجَاسَةِ. وَمِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَوْ قَضَاهُ بَقِيَ مَعَهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ، أَوْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ لَوْ فَرَّقَ عَلَيْهِمْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ دُونَ النِّصَابِ لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ سَهْمًا مِنْ ذَلِكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 ويجوز دفعها إلى من يملك دون النصاب وإن كان صحيحا مكتسبا ولو دفعها إلى من ظنه فقيرا فكان غنيا أو هاشميا أو دفعها في ظلمة فظهر أنه أبوه أو ابنه أجزأه (س) وَإِنْ كَانَ عَبْدَهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَيُكْرَهُ نَقْلُهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ إِلَّا إِلَى قَرَابَتِهِ أَوْ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إِلَى مَنْ يَمْلِكُ دُونَ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا) لِأَنَّهُ فَقِيرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَنِيَّ عَلَى مَرَاتِبَ ثَلَاثَةٍ: غَنِيٌّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، وَيَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الزَّكَاةِ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ قُوتَ يَوْمِهِ وَسَتْرَ عَوْرَتِهِ ; وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ سَأَلَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى فَإِنَّهُ يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ "، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا ظَهْرُ غِنًى؟ قَالَ: (أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ عِنْدَ أَهْلِهِ مَا يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ» وَغَنِيٌّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَالْأَخْذُ وَيُوجَبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةُ، وَهُوَ أَنْ يَمْلِكَ مَا قِيمَتُهُ نِصَابٌ فَاضِلًا عَنِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ كَالثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ وَالْعَقَارِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَنَحْوِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ "، قِيلَ: وَمَنِ الْغَنِيُّ؟ قَالَ: " مَنْ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ» وَغَنِيٌّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ وَالْأَخْذُ، وَيُوجَبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةُ، وَيُوجَبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ كَامِلٍ نَامٍ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ. قَالَ: (وَلَوْ دَفَعَهَا إِلَى مَنْ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَكَانَ غَنِيًا أَوْ هَاشِمِيًّا) أَوْ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًا. (أَوْ دَفَعَهَا فِي ظُلْمَةٍ فَظَهَرَ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ أَجْزَأَهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُ بِيَقِينٍ، فَصَارَ كَالْمَاءِ إِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ نَجِسٌ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ أَتَى بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الدَّفْعُ إِلَى مَنْ هُوَ فَقِيرٌ فِي اجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فَقَدْ يَكُونُ فِي يَدِ الْإِنْسَانِ مَالٌ لِغَيْرِهِ أَوْ مَغْصُوبٌ أَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِذَا أَعْطَاهُ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ أَجْزَأَهُ كَمَا إِذَا أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ، وَلِحَدِيثِ «مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: دَفَعَ أَبِي صَدَقَتَهُ إِلَى رَجُلٍ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ فَأَعْطَانِي، فَلَمَّا عَلِمَ أَبِي أَرَادَ أَخْذَهُ مِنِّي فَلَمْ أُعْطِهِ، فَاخْتَصَمْنَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا مَعْنُ، لَكَ مَا أَخَذْتَ، وَيَا يَزِيدُ، لَكَ مَا نَوَيْتَ» . قَالَ: (وَإِنْ كَانَ عَبْدَهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ لَمْ يُجْزِهِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ خُرُوجًا صَحِيحًا، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ نَقْلُهَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَلِأَنَّ لِفُقَرَاءِ بَلَدِهِ حُكْمَ الْقُرْبِ وَالْجِوَارِ، وَقَدِ اطَّلَعُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَتَعَلَّقَتْ بِهِمْ أَطْمَاعُهُمْ، فَكَانَ الصَّرْفُ إِلَيْهِمْ أَوْلَى. قَالَ: (إِلَّا إِلَى قَرَابَتِهِ) لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ مَعَ سُقُوطِ الْفَرْضِ. (أَوْ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ) لِحَدِيثِ مُعَاذٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْقُلُ الصَّدَقَةَ مِنَ الْيَمَنِ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ فُقَرَاءَ الْمَدِينَةِ أَحْوَجُ وَأَشْرَفُ، وَلَوْ نَقَلَ إِلَى غَيْرِهِمْ جَازَ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الْمَالِكِ لِمِقْدَارِ النِّصَابِ فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ، عَنْ نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَعَبِيدِهِ لِلْخِدْمَةِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا لَا غَيْرُ، وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقِهِ، أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ دَقِيقِهِ أَوْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ] ِ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الْمَالِكِ لِمِقْدَارِ النِّصَابِ فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ) كَمَا بَيَّنَاهُ، وَشَرْطُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِهَا لِعَدَمِ مِلْكِهِ، وَالْإِسْلَامُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهَا: «إِنَّهَا طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ الرَّفَثِ» وَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُسْلِمِ، وَالْغِنَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَفِي رِوَايَةِ: «إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ» . قَالَ: (عَنْ نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارَ وَعَبِيدِهِ لِلْخِدْمَةِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا لَا غَيْرُ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهَا رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ رَأْسِهِ فِي الذَّبِّ وَالنُّصْرَةِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَدَّوْا عَمَّنْ تَمُونُونَ» فَيَلْزَمُهُ عَنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَمَمَالِيكِهِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ، وَلَا تَجِبُ عَنْ أَبَوَيْهِ وَأَوْلَادِهِ الْكِبَارِ وَزَوْجَتِهِ وَمُكَاتَبِهِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ، وَلَوْ كَانَ أَبُوهُ مَجْنُونًا فَقِيرًا يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ لِوُجُودِ الْمَئُونَةِ وَالْوَلَايَةِ، وَلَا تَجِبُ عَنْ حَفَدَتِهِ مَعَ وُجُودِ أَبِيهِمْ، فَإِنْ عَدِمَ فَعَلَيْهِ صَدَقَتُهُمْ وَقِيلَ لَا يَجِبُ أَصْلًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ أَخْرَجَ عَنْ زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الْكِبَارِ وَهُمْ فِي عِيَالِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عَادَةً. قَالَ: (وَهِيَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقِهِ، أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ دَقِيقِهِ، أَوْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ) أَمَّا الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ فَلِمَا رَوَيْنَا، وَأَمَّا الدَّقِيقُ فَلِأَنَّهُ مِثْلَ الْحَبِّ بَلْ أَجْوَدُ، وَكَذَا سَوِيقُهُمَا ; وَأَمَّا الزَّبِيبُ فَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: «أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الزَّبِيبِ نِصْفُ صَاعٍ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ، وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ (س) أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ، وَتَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، فَإِنْ قَدَّمَهَا جَازَ (ف) ، وَإِنْ أَخَّرَهَا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا، وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ أَدَّى عَنْهُ وَلَيُّهُ وَعَنْ عَبْدِهِ (م) ، وَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهَا يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ بِعَجَمِهِ فَأَشْبَهَ الْحِنْطَةَ. قَالَ: (أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ) وَقَدْ مَرَّ فِي الزَّكَاةِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الدَّقِيقُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحِنْطَةِ، وَالدَّرَاهِمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدَّقِيقِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ عَلَى الْغَنِيِّ وَأَنْفَعُ لِلْفَقِيرِ، وَالْأَحْوَطُ الْحِنْطَةُ لِيَخْرُجَ عَنِ الْخِلَافِ ; وَلَا يَجُوزُ الْخُبْزُ وَالْأَقِطُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لِعَدَمِ وُرُودِ النَّصِّ بِهِمَا. قَالَ: (وَالصَّاعُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ بِالْعِرَاقِيِّ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: خَمْسَةُ أَرْطَالٍ وَثُلُثُ رَطْلٍ وَهُوَ صَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، نَقَلُوا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صَاعُنَا أَصْغَرُ الصِّيعَانِ» . وَلَنَا مَا رَوَى الدَّرَاقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ» وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَدَّرَ الصَّاعَ لِإِخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ بِثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُ أَصْغَرُ مِنَ الْهَاشِمِيِّ. قَالَ: (وَتَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ) لِأَنَّهُ يُقَالُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالْفِطْرُ إِنَّمَا يَتَجَدَّدُ بِالْيَوْمِ دُونَ اللَّيْلِ. (فَإِنْ قَدَّمَهَا جَازَ) لِأَنَّهُ أَدَاهَا بَعْدَ السَّبَبِ وَهُوَ رَأْسٌ يَمُونُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَجُوزُ. وَرَوَى نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا مَضَى نِصْفُ رَمَضَانَ. وَعَنْ خَلَفِ بْنِ أَيُّوبَ: يَجُوزُ فِي رَمَضَانَ وَلَا يَجُوزُ قَبْلَهُ. (وَإِنْ أَخَّرَهَا فَعَلَيْهِ إِخْرَاجُهَا) لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَالِيَّةٌ مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى فَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ كَالزَّكَاةِ بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ، فَإِنَّ الْإِرَاقَةَ غَيْرُ مَعْقُولَةِ الْمَعْنَى. (وَإِنْ كَانَ لِلصَّغِيرِ مَالٌ أَدَّى عَنْهُ وَلِيُّهُ وَعَنْ عَبْدِهِ) لِأَنَّهَا مَئُونَةٌ كَالْجِنَايَةِ وَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَجِبُ فِي مَالِهِ كَالزَّكَاةِ، وَالْمَجْنُونُ كَالصَّبِيِّ. (وَيُسْتَحَبُّ إِخْرَاجُهَا يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمُصَلَّى) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعِيدَيْنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 كِتَابُ الصَّوْمِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ أَدَاءً وَقَضَاءً، وَصَوْمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَاجِبٌ، وَمَا سِوَاهُ نَفْلٌ، وَصَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَرَامٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الصَّوْمِ] ِ الصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْإِمْسَاكِ، يُقَالُ: صَامَتِ الشَّمْسُ: إِذَا وَقَفَتْ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَأَمْسَكَتْ عَنِ السَّيْرِ سَاعَةَ الزَّوَالِ. وَقَالَ النَّابِغَةُ: خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ أَيْ مُمْسِكَاتٌ عَنِ الْعَلَفِ وَغَيْرُ مُمْسِكَاتٍ. وَفِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنْ إِمْسَاكٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهُوَ قَصْدُ التَّقَرُّبِ مِنْ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْمُسْلِمُ، بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الطَّهَارَةُ عَنِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَهُوَ فَرِيضَةٌ مَحْكَمَةٌ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا وَيَفْسُقُ تَارِكُهَا. ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] . وَبِالسُّنَّةِ وَهُوَ مَا مَرَّ مِنَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صُومُوا شَهْرَكُمْ» وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشَّهْرُ لِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ يُقَالُ: صَوْمُ رَمَضَانَ، وَلِتَكَرُّرِهِ بِتَكْرَارِ الشَّهْرِ، وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبُ وُجُوبِ صَوْمِهِ. قَالَ: (صَوْمُ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ أَدَاءً وَقَضَاءً) أَمَّا الْفَرْضِيَّةُ فَلِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ. وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ. وَأَمَّا " أَدَاءً " فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وَأَمَّا " قَضَاءً " فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] أَيْ فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. قَالَ: (وَصَوْمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَاتِ وَاجِبٌ) أَمَّا النَّذْرُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِ بِنَذْرِكَ» وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَلِمَا يَأْتِي فِيهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَمَا سِوَاهُ نَفْلٌ) لِأَنَّ النَّفْلَ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقُ الزِّيَادَةِ ; وَفِي الشَّرْعِ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ. قَالَ: (وَصَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَرَامٌ) لِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أَيَّامِ مِنًى: «إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ وَإِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، وَبِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَيَوْمُ الْفِطْرِ مَأْمُورٌ بِإِفْطَارِهِ، وَفِي صَوْمِهِ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ وَمُخَالَفَةُ الِاسْمِ، وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ. قَالَ: (وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ وَإِلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَبِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنْيَةِ النَّفْلِ) . اعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي الصَّوْمِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ يَصُومُ، وَلَا يَخْلُو مُسْلِمٌ عَنْ هَذَا فِي لَيَالِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَيْسَتِ النِّيَّةُ بِاللِّسَانِ شَرْطًا، وَلَا خِلَافَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ. وَاخْتَلَفُوا فِي آخِرِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ زُفَرُ: النِّيَّةُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلصَّحِيحِ الْمُقِيمِ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ مُتَعَيِّنٌ لِعَدَمِ الْفَرْضِ فِي حَقِّهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ غَيْرُهُ، فَمَتَى حَصَلَ فِيهِ إِمْسَاكٌ وَقَعَ عَنْ فَرْضِ رَمَضَانَ لِصَوْمِ مُزَاحَمَةِ غَيْرِهِ، فَصَارَ كَإِعْطَاءِ النِّصَابِ جَمِيعِهِ لِلْفَقِيرِ بَعْدَ الْحَوْلِ. وَلَنَا أَنَّهُ عِبَادَةٌ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَلِمَا مَرَّ فِي الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّ الْإِمْسَاكَ قَدْ يَكُونُ لِلْعَادَةِ أَوْ لِعَدَمِ الِاشْتِهَاءِ أَوْ لِلْمَرَضِ أَوْ لِلرِّيَاضَةِ وَيَكُونُ لِلْعِبَادَةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لَهَا إِلَّا بِالنِّيَّةِ كَالْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَأَدَاءِ الْخُمْسِ إِلَى الْفَقِيرِ، بِخِلَافِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ الْمَشْرُوعَ فِيهِ لَا يَتَنَوَّعُ. وَقَوْلُهُ: الزَّمَانُ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ الْفَرْضِ. قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ إِذَا حَصَلَ الصَّوْمُ فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ حَصَلَ ; غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ حَصَلَ الْإِمْسَاكُ وَقَدْ خَرَجَ جَوَابُهُ. وَأَمَّا هِبَةُ النِّصَابِ قُلْنَا: وُجِدَ مِنْهُ مَعْنَى النِّيَّةِ، وَهُوَ الْقُرْبَةُ لِحُصُولِ الثَّوَابِ بِهِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ لِلْفَقِيرِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ بِهِ، أَمَّا هُنَا حَصَلَ مُطْلَقُ الْإِمْسَاكِ وَلَا ثَوَابَ فِيهِ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ صَوْمًا خَارِجَ رَمَضَانَ. وَرَوَى الْقُدُورِيُّ عَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ أَنْكَرَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ زُفَرَ وَقَالَ: إِنَّمَا مَذْهَبُهُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ صَوْمَ الشَّهْرِ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَاحِدٌ وَهُوَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنَ الشَّهْرِ فَصَارَ كَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِكُلِّ يَوْمٍ؛ لِأَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَسَدَ صَوْمُ يَوْمٍ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَاقِي، وَكَذَا عَدَمُ الْأَهْلِيَّةِ فِي بَعْضِهِ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الْأَهْلِيَّةِ فِي الْبَاقِي فَتَجِبُ النِّيَّةُ لِكُلِّ عِبَادَةٍ، وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ بِمَجِيءِ اللَّيْلَةِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا وَغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» وَإِذَا خَرَجَ يَحْتَاجُ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، فَيَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ كَأَوَّلِ الشَّهْرِ. وَأَمَّا جَوَازُ الصَّوْمِ بِالنِّيَّةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّاسَ أَصْبَحُوا يَوْمَ الشَّكِّ، فَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ " فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " اللَّهُ أَكْبَرُ، يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ " فَصَامَ، وَأَمَرَ بِالصِّيَامِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَالنَّفْلُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ، وَيَجُوزُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ، وَبَاقِي الصَّوْمِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ إِنْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَقَعَ عَنْهُ (سم ف) وَإِلَّا وَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: " أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» أَمَرَ بِالصَّوْمِ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَآمِرًا بِهَا، وَلَوْ شُرِطَتِ النِّيَّةُ مِنَ اللَّيْلِ لَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْإِمْسَاكَ لَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نَفْيًا لِلِالْتِبَاسِ، وَمَا يُرْوَى مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي نَفْيِ الصَّوْمِ إِلَّا بِالتَّبْيِيتِ مَحْمُولَةٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ تَوْفِيقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَا؛ وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَيْسَتْ بِشَرْطِ حَالَةِ الشُّرُوعِ حَتَّى لَوْ نَوَى مِنَ اللَّيْلِ جَازَ، وَإِنَّمَا جَازَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، لَأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِهِ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي، وَهُوَ مُشْتَبَهٌ لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَلَا يَقِفُونَ عَلَى أَوَّلِ طُلُوعِهِ، وَهُوَ أَيْضًا وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ ; وَالْمُتَهَجِّدُ يُسْتَحَبُّ لَهُ نَوْمُ آخِرِ اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا جَازَ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ دَفْعًا لِهَذَا الْحَرَجِ، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ هَهُنَا؛ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَبْلُغُ آخِرَ اللَّيْلِ، وَيَنْقَطِعُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ عِنْدَ آخِرِ اللَّيْلِ، وَيَنَامُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَكَذَا يَوْمُ الشَّكِّ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّبْيِيتِ، فَقُلْنَا بِالْجَوَازِ بَعْدَ الْفَجْرِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ أَيْضًا. بِخِلَافِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لَهَا فَوَجَبَ التَّبْيِيتُ نَفْيًا لِلْمُزَاحَمَةِ، وَيَعْتَبِرُ نِصْفَ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي، فَيَكُونُ إِلَى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى، فَيَنْوِي قَبْلَهَا لِيَكُونَ الْأَكْثَرُ مَنْوِيًّا فَيَكُونَ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ حَتَّى لَوْ نَوَى بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِخُلُوِّ الْأَكْثَرِ عَنِ النِّيَّةِ تَغْلِيبًا لِلْأَكْثَرِ. وَأَمَّا جَوَازُهُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنْيَةِ النَّفْلِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا يَصُومَانِ يَوْمَ الشَّكِّ، وَيَقُولَانِ: لَأَنْ نَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، وَكَانَ صَوْمُهُمَا بِنِيَّةِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ، فَلَوْلَا وُقُوعُهُ عَنْ رَمَضَانَ لَوْ ظَهَرَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، لَمَا كَانَ لِاحْتِرَازِهِمَا فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّ الزَّمَانَ مُتَعَيِّنٌ لِصَوْمِ الْفَرْضِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُ بِالْإِجْمَاعِ، فَمَتَى حَصَلَ أَصْلُ النِّيَّةِ كَفَى لِوُقُوعِ الْإِمْسَاكِ قُرْبَةً، فَيَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ لِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ، وَالْأَفْضَلُ الصَّوْمُ بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَيَّتَةٍ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلَافِ. قَالَ: (وَالنَّفْلُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ مِنَ النَّهَارِ) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا أَصْبَحَ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، وَقَالَ: " هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ؟ " فَإِنْ قُلْنَ لَا، قَالَ: " إِنِّي إِذًا لَصَائِمٌ» . قَالَ: (وَيَجُوزُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ) لِمَا مَرَّ فِي مُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَنِيَّةِ النَّفْلِ. قَالَ: (وَبَاقِي الصَّوْمِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ اللَّيْلِ) لِأَنَّ الْوَقْتَ يَصْلُحُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّعْيِينِ وَالتَّبْيِيتِ قَطْعًا لِلْمُزَاحَمَةِ. قَالَ: (وَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ فِي رَمَضَانَ إِنْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَقَعَ عَنْهُ، وَإِلَّا وَقَعَ عَنْ رَمَضَانَ) وَقَالَا: يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لِاحْتِمَالِ تَضَرُّرِهِ وَعَجْزِهِ، فَإِذَا صَامَ انْتَفَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ مَعَ النِّيَّةِ بِشَرْطِ الطَّهَارَةِ عَنِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ; وَيَجِبُ أَنْ يَلْتَمِسَ النَّاسُ الْهِلَالَ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَقْتَ الْغُرُوبِ، فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا، وَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ أَكْمَلُوهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا،   [الاختيار لتعليل المختار] ذَلِكَ فَصَارَ كَالصَّحِيحِ الْمُقِيمِ. وَلَهُ أَنَّ الشَّارِعَ رَخَّصَ لَهُ لِيَصْرِفَهُ إِلَى مَا هُوَ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ مِنَ الصَّوْمِ أَوِ الْفِطْرِ، فَصَارَ كَشَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَلَمَّا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ عَلِمْنَا أَنَّهُ الْأَهَمُّ عِنْدَهُ فَيَقَعُ عَنْهُ، وَقِيلَ: الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَرِيضَ إِذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْفِطْرِ لِلْعَجْزِ، فَإِذَا قَدَرَ فَهُوَ كَالصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ، وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّفْلِ رِوَايَتَانِ، فَمَنْ قَالَ: يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَصْرِفْهُ فِي الْأَهَمِّ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنِ الْعُهْدَةِ أَهَمُّ مِنَ النَّفْلِ، بِخِلَافِ وَاجِبٍ آخَرَ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خُرُوجٌ عَنِ الْعُهْدَةِ. وَمَنْ قَالَ: يَقَعُ نَفْلًا فَلِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إِلَى مَا شَاءَ. قَالَ: (وَوَقْتُ الصَّوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ: الصُّبْحُ الصَّادِقُ، أَبَاحَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَحْرُمُ عِنْدَهُ. وَأَمَّا آخِرُهُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَهُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَهُنَا أَفْطَرَ الصَّائِمُ، أَكْلَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ» . قَالَ: (وَهُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ مَعَ النِّيَّةِ بِشَرْطِ الطَّهَارَةِ عَنِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ لُغَةً، زِدْنَا عَلَيْهِ النِّيَّةَ لِيَقَعَ قُرْبَةً عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَالطَّهَارَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لِيَتَحَقَّقَ الْأَدَاءُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ، وَتَمَامُهُ مَا مَرَّ فِي الْحَيْضِ. وَالنِّيَّةُ: أَنْ يَعْلَمَ بِقَلْبِهِ أَنَّهُ يَصُومُ وَقَدْ مَرَّ. قَالَ: (وَيَجِبُ أَنْ يَلْتَمِسَ النَّاسُ الْهِلَالَ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ وَقْتَ الْغُرُوبِ) وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَنِ السَّلَفِ. (فَإِنْ رَأَوْهُ صَامُوا، وَإِنْ غُمَّ عَلَيْهِمْ أَكْمَلُوهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَلِأَنَّ الشَّهْرَ كَانَ ثَابِتًا فَلَا يَزُولُ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَهُوَ الرُّؤْيَةُ أَوْ إِكْمَالُ الْعِدَّةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ شَهْرٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةُ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ قُبِلَ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَإِنْ رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ صَامَ، وَإِنْ لَمْ يَكَنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا شَهَادَةُ جَمْعٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي بَلَدٍ لَزِمَ جَمِيعَ النَّاسِ; وَلَا اعْتِبَارَ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةُ غَيْمٍ أَوْ غُبَارٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ قُبِلَ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) أَمَّا الْوَاحِدُ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ كَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، وَالْإِخْبَارِ عَنْ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَطَهَارَتِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِأَنَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ، فَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إِذَا تَابَ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَبِلُوا شَهَادَةَ أَبِي بَكْرَةَ، وَفِي مَسْتُورِ الْحَالِ خِلَافٌ بَيْنِ الْأَصْحَابِ ; وَيُفْتَرَضُ عَلَى مَنْ رَأَى الْهِلَالَ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ إِذَا لَمْ يَثْبُتُ دُونَهُ، حَتَّى يَجِبُ عَلَى الْمُخَدَّرَةِ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا زَوْجُهَا. فَإِنْ أَكْمَلُوا ثَلَاثِينَ وَلَمْ يَرَوُا الْهِلَالَ قَالَ مُحَمَّدٌ: يُفْطِرُونَ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الرَّمَضَانِيَّةِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ، وَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ لَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً كَالْإِرْثِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ النَّسَبِ بِقَوْلِ الْقَابِلَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ لَا يُفْطِرُونَ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا أَتَّهِمُ مُسْلِمًا بِتَعْجِيلِ صَوْمِ يَوْمٍ. (فَإِنْ رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ صَامَ) لِأَنَّهُ رَآهُ، فَإِنْ أَفْطَرَ قَضَى لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، وَلَا يُفْطِرُ آخِرَ الشَّهْرِ إِلَّا مَعَ النَّاسِ احْتِيَاطًا، وَلَوْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عَمَلًا بِاعْتِقَادِهِ. قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا شَهَادَةُ جَمْعٍ يَقَعُ الْعِلْمُ بِخَبَرِهِمْ) وَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَطَالِعَ مُتَّحِدَةٌ، وَالْمَوَانِعَ مُرْتَفِعَةٌ، وَالْأَبْصَارَ صَحِيحَةٌ، وَالْهِمَمَ فِي الرُّؤْيَةِ مُتَقَارِبَةٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالرُّؤْيَةِ الْبَعْضُ الْقَلِيلُ. وَرَوَى الْحَسَنُ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ الِاثْنَيْنِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَلَوْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ وَشَهِدَ بِهِ تُقْبَلُ، وَكَذَا إِذَا كَانَ عَلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فِي الْبَلَدِ كَالْمَنَارَةِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صَفَاءِ الْهَوَاءِ وَكُدُورَتِهِ، وَبِاخْتِلَافِ ارْتِفَاعِ الْمَكَانِ وَهُبُوطِهِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ. قَالَ: (فَإِذَا ثَبَتَ فِي بَلَدٍ لَزِمَ جَمِيعَ النَّاسِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ) هَكَذَا ذَكَرَهُ قَاضِيخَانُ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَنَقَلَهُ عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرْخَسِيِّ ; وَقِيلَ: يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَطَالِعِ. وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الْحُسَامِيَّةِ: إِذَا صَامَ أَهْلُ مِصْرٍ ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِرُؤْيَةٍ، وَأَهْلُ مِصْرٍ آخَرَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا بِرُؤْيَةٍ فَعَلَيْهِمْ قَضَاءُ يَوْمٍ، إِنْ كَانَ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ قُرْبٌ بِحَيْثُ تَتَّحِدُ الْمَطَالِعُ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً بِحَيْثُ تَخْتَلِفُ لَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْمِصْرَيْنَ حُكْمُ الْآخَرِ. وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجِبُ عَلَيْهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَلَا يُصَامُ يَوْمُ الشَّكِّ إِلَّا تَطَوُّعًا، وَيُلْتَمَسُ هِلَالُ شَوَّالٍ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَنْ رَآهُ وَحْدَهُ لَا يُفْطِرُ، فَإِنْ أَفْطَرَ قَضَاهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قُبِلَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا عِلَةٌ فَجَمْعٌ كَثِيرٌ، وَذُو الْحِجَّةِ كَشَوَّالٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَضَاءُ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي مِثْلِهِ: لَهُمْ مَا لَهُمْ وَلَنَا مَا لَنَا. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: فِطْرُ كُلِّ بَلْدَةٍ يَوْمَ يُفْطِرُ جَمَاعَتُهُمْ وَأَضْحَى كُلِّ بَلْدَةٍ يَوْمَ يُضَحِّي جَمَاعَتُهُمْ. قَالَ: (وَلَا يُصَامُ يَوْمُ الشَّكِّ إِلَّا تَطَوُّعًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُصَامُ الْيَوْمُ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ إِلَّا تَطَوُّعًا» وَهُوَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ شَعْبَانَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِالرُّؤْيَةِ وَلَا تَثْبُتُ. قَالَ: (وَيُلْتَمَسُ هِلَالُ شَوَّالٍ فِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَنْ رَآهُ وَحْدَهُ لَا يُفْطِرُ) أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَةِ. (فَإِنْ أَفْطَرَ قَضَاهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِمَا بَيَّنَّا. (فَإِنْ كَانَ بِالسَّمَاءِ عِلَّةٌ قُبِلَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَصَارَتْ كَالشَّهَادَةِ عَلَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بِخِلَافِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ، عَلَى أَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، وَهُوَ فِيمَا قُلْنَاهُ. (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا عِلَّةٌ فَجَمْعٌ كَثِيرٌ) لِمَا بَيَّنَّا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ. (وَذُو الْحِجَّةِ كَشَوَّالٍ) لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّ مِنَ الْأَضَاحِي وَغَيْرِهِ، وَإِذَا رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ أَوْ شَوَّالٍ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْآتِيَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ إِنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَلِلْمَاضِيَةِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْأَوَّلُ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَنَسٍ، وَعَنْ عُمَرَ أَيْضًا، وَلِأَنَّ الشَّهْرَ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ، وَبَعْضُ الْأَهِلَّةِ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ، فَيَجُوزُ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِكِبَرِهِ لَا لِكَوْنِهِ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: إِنْ غَابَ بَعْدَ الشَّفَقِ فَلِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَقَبْلَهُ لِلرَّاهِنَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي يَوْمِ الشَّكِّ هَلْ صَوْمُهُ أَفْضَلُ أَمِ الْفِطْرُ؟ قَالُوا: إِنْ كَانَ صَامَ شَعْبَانَ أَوْ وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَصَوْمُهُ أَفْضَلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ بِنَاءً عَلَى الْحَدِيثِ. وَقَالَ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى: الصَّوْمُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُفْتِيَ يَصُومُ هُوَ وَخَاصَّتُهُ، وَيُفْتِي الْعَامَّةَ بِالتَّلَوُّمِ إِلَى مَا قَبْلَ الزَّوَالِ لِاحْتِمَالِ ثُبُوتِ الشَّهْرِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا صَوْمَ وَهُوَ يُمْكِنُهُ الصَّوْمُ عَلَى وَجْهٍ يَخْرُجُ مِنَ الْكَرَاهَةِ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَامَّةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فَصْلٌ وَمَنْ جَامَعَ أَوْ جُومِعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ عَامِدًا، أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَامِدًا غِذَاءً أَوْ دَوَاءً وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ مِثْلَ الْمُظَاهِرِ، وَإِنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ السَّبِيلَيْنِ أَوْ بَهِيمَةً، أَوْ قَبَّلَ، أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ، أَوِ احْتَقَنَ،   [الاختيار لتعليل المختار] [فَصْلٌ مَنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فِي رَمَضَانَ] فَصْلٌ (وَمَنْ جَامَعَ أَوْ جُومِعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ عَامِدًا، أَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ عَامِدًا غِذَاءً أَوْ دَوَاءً وَهُوَ صَائِمٌ فِي رَمَضَانَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ مِثْلَ الْمُظَاهِرِ) وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْجِمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ. «وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ: وَاقَعْتُ أَهْلِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا -: أَعْتِقْ رَقَبَةً» وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ دُونَهُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِيلَاجِ فِي الدُّبُرِ اعْتِبَارًا بِالْحَدِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْكَمَالِ. وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مُطَاوِعَةً لِعُمُومِ الْحَدِيثِ الثَّانِي. وَلِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ يَقُومُ بِهِمَا، فَيَجِبُ عَلَيْهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ كَالْغُسْلِ وَالْحَدِّ، وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا كَمَا فِي النِّسْيَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْحَدِيثِ، وَلَوْ أَكْرَهَتْ زَوْجَهَا فَجَامَعَهَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِلْإِكْرَاهِ، وَلَوْ عَلِمَتْ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ دُونَهُ وَكَتَمَتْهُ عَنْهُ حَتَّى جَامَعَهَا فَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهَا خَاصَّةً. وَأَمَّا وُجُوبُهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْغِذَاءِ وَالدَّوَاءِ فَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَهَذَا قَدْ أَفْطَرَ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ: أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: شَرِبْتُ فِي رَمَضَانَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ وَلَا مَرَضٍ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُ: " أَعْتِقْ رَقَبَةً» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا الْكَفَّارَةُ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، فَإِنْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ، أَوْ مَرِضَ الرَّجُلُ مَرَضًا يُبِيحُ لَهُ الْفِطْرَ سَقَطَتِ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ صَوْمُهُ، وَالْكَفَّارَةُ إِنَّمَا تَجِبُ بِإِفْسَادِ صَوْمٍ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ السَّفَرِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِبْطَالِهَا، بِخِلَافِ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، وَلَوْ سُوفِرَ بِهِ مُكْرَهًا لَا يَسْقُطُ أَيْضًا. وَقَالَ زُفَرُ: يَسْقُطُ كَالْمَرَضِ وَالْحَيْضِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ حَصَلَ مِنْ غَيْرِ صَاحِبِ الْحَقِّ فَلَا يُجْعَلُ عُذْرًا، بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْحَيْضِ. قَالَ: (وَإِنْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ السَّبِيلَيْنِ، أَوْ بَهِيمَةً. أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ، أَوِ احْتَقَنَ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 أَوِ اسْتَعَطَ، أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ، أَوْ دَاوَى جَائِفَةً (سم) أَوْ آمَّةً فَوَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ، أَوِ ابْتَلَعَ الْحَدِيدَ، أَوِ اسْتَقَاءَ (م ز) مِلْءَ فِيهِ، أَوْ تَسَحَّرَ يَظُنُّهُ لَيْلًا وَالْفَجْرُ طَالِعٌ، أَوْ أَفْطَرَ يَظُنُّهُ لَيْلًا وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا غَيْرُ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَوِ اسْتَعَطَ، أَوْ أَقْطَرَ فِي أُذُنِهِ، أَوْ دَاوَى جَائِفَةً أَوْ آمَّةً فَوَصَلَ إِلَى جَوْفِهِ أَوْ دِمَاغِهِ، أَوِ ابْتَلَعَ الْحَدِيدَ، أَوِ اسْتَقَاءَ مِلْءَ فِيهِ، أَوْ تَسَحَّرَ يَظُنُّهُ لَيْلًا وَالْفَجْرُ طَالِعٌ، أَوْ أَفْطَرَ يَظُنُّهُ لَيْلًا وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا غَيْرُ) أَمَّا الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ السَّبِيلَيْنِ أَوِ الْبَهِيمَةِ مَعَ الْإِنْزَالِ، وَالْإِنْزَالُ بِاللَّمْسِ، وَالْقُبْلَةُ فَلِقَضَاءِ إِحْدَى الشَّهْوَتَيْنِ، وَأَنَّهُ يُنَافِي الصَّوْمَ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، وَالِاحْتِيَاطُ فِي الصَّوْمِ الْإِيجَابُ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً، وَفِي الْكَفَّارَاتِ الدَّرْءُ لِأَنَّهَا مِنَ الْحُدُودِ. وَأَمَّا الِاحْتِقَانُ وَالِاسْتِعَاطُ وَالْإِقْطَارُ فِي الْأُذُنِ، وَدَوَاءُ الْجَائِفَةِ وَالْآمَّةِ، فَلِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إِلَى الدَّاخِلِ، وَهُوَ مَا فِيهِ مَصْلَحَةُ الْبَدَنِ مِنَ الْغِذَاءِ أَوِ الدَّوَاءِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْفِطْرُ مِمَّا دَخَلَ» وَلَوْ أَقْطَرَ الْمَاءَ فِي أُذُنِهِ لَا يُفْطِرُ لِعَدَمِ الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى، بِخِلَافِ الدُّهْنِ لِوُجُودِهِ مَعْنًى، وَهُوَ إِصْلَاحُ الدِّمَاغِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ فِي الْجَائِفَةِ وَالْآمَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَهُمَا الْوُصُولُ مِنْ مَنْفَذٍ أَصْلِيٍّ، وَلِعَدَمِ التَّيَقُّنِ بِالْوُصُولِ لِاحْتِمَالِ ضِيقِ الْمَنْفَذِ وَانْسِدَادِهِ بِالدَّوَاءِ وَصَارَ كَالْيَابِسِ، وَلَهُ أَنَّ رُطُوبَةَ الدَّوَاءِ إِذَا اجْتَمَعَتْ مَعَ رُطُوبَةِ الْجِرَاحَةِ ازْدَادَ سَيَلَانًا إِلَى الْبَاطِنِ فَيَصِلُ، بِخِلَافِ الْيَابِسِ لِأَنَّهُ يُنَشِّفُ الرُّطُوبَةَ فَيَنْسَدُّ فَمُ الْجِرَاحَةِ. قَالَ مَشَايِخُنَا: وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ الْوُصُولُ حَتَّى لَوْ عَلِمَ بِوُصُولِ الْيَابِسِ فَسَدَ، وَلَوْ عَلِمَ بِعَدَمِ وُصُولِ الرَّطِبِ لَا يَفْسُدُ. وَأَمَّا إِذَا ابْتَلَعَ الْحَدِيدَ فَلِصُورَةِ الْإِفْطَارِ، وَلَا كَفَّارَةَ لِانْعِدَامِهِ مَعْنًى. وَأَمَّا إِذَا اسْتَقَاءَ مِلْءَ فِيهِ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ قَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتِقَاءَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُفْسِدُهُ وَإِنْ لَمْ يَمْلَأِ الْفَمَ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَالصَّحِيحُ الْفَصْلُ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ مَا دُونُ مِلْءِ الْفَمِ تَبَعٌ لِلرِّيقِ كَمَا لَوْ تَجَشَّأَ وَلَا كَذَلِكَ مِلْءُ الْفَمِ. وَأَمَّا إِذَا تَسَحَّرَ يَظُنُّهُ لَيْلًا وَالْفَجْرُ طَالِعٌ، أَوْ أَفْطَرَ يَظُنُّهُ لَيْلًا وَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ فَإِنَّمَا يُفْطِرُ لِفَوَاتِ الرُّكْنِ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَلَا كَفَّارَةَ لِقِيَامِ الْعُذْرِ وَهُوَ عَدَمُ التَّعَمُّدِ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْجَانِي وَلَوْ جُومِعَتِ النَّائِمَةُ وَالْمَجْنُونَةُ فَسَدَ صَوْمُهُمَا لِوُجُودِ الْمُفْطِرِ، وَلَا كَفَّارَةَ لِعَدَمِ التَّعَمُّدِ، وَلَوِ اسْتَمْنَى بِكَفِّهِ أَفْطَرَ لِوُجُودِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا، أَوْ نَامَ فَاحْتَلَمَ، أَوْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَنْزَلَ أَوِ ادَّهَنَ أَوِ اكْتَحَلَ، أَوْ قَبَّلَ، أَوِ اغْتَابَ، أَوْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ، أَوْ أَقْطَرَ فِي إِحْلِيلِهِ (س) ، أَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ غُبَارٌ أَوْ ذُبَابٌ، أَوْ أَصْبَحَ جُنُبًا لَمْ يُفْطِرْ، وَإِنِ ابْتَلَعَ طَعَامًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِثْلَ الْحِمَّصَةِ أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا،   [الاختيار لتعليل المختار] الْجِمَاعِ مَعْنًى، وَلَا كَفَّارَةَ لِعَدَمِ الصُّورَةِ. قَالَ: (وَإِنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ أَوْ جَامَعَ نَاسِيًا، أَوْ نَامَ فَاحْتَلَمَ، أَوْ نَظَرَ إِلَى امْرَأَةٍ فَأَنْزَلَ، أَوِ ادَّهَنَ، أَوِ اكْتَحَلَ، أَوْ قَبَّلَ، أَوِ اغْتَابَ، أَوْ غَلَبَهُ الْقَيْءُ، أَوْ أَقْطَرَ فِي إِحْلِيلِهِ، أَوْ دَخَلَ حَلْقَهُ غُبَارٌ أَوْ ذُبَابٌ، أَوْ أَصْبَحَ جُنُبًا لَمْ يُفْطِرْ) أَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ نَاسِيًا، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُفْطِرَ لِوُجُودِ الْمُنَافِي، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ «قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي أَكَلَ وَشَرِبَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ: " تِمَّ عَلَى صَوْمِكَ إِنَّمَا أَطْعَمَكَ رَبُّكَ وَسَقَاكَ» وَفِي رِوَايَةٍ أَنْتَ ضَيْفُ اللَّهِ فَإِنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُهُ فَأَكَلَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهُ ظَنٌّ فِي مَوْضِعِ الظَّنِّ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فَكَانَ شُبْهَةً. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إِنْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ ثُمَّ أَكَلَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ حَيْثُ أَمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْإِتْمَامِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ. وَأَمَّا إِذَا نَامَ فَاحْتَلَمَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثَلَاثٌ لَا يُفْطِرْنَ الصَّائِمَ: الْقَيْءُ، وَالْحِجَامَةُ، وَالِاحْتِلَامُ» رَوَاهُ الْخُدْرِيُّ، وَلِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ أَبْلَغَ مِنَ النَّاسِي ; وَالْإِنْزَالُ بِالنَّظَرِ كَالِاحْتِلَامِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لَا اتِّصَالَ لَهُ بِغَيْرِهِ. وَأَمَّا الدُّهْنُ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ كَالِاغْتِسَالِ. وَأَمَّا الْكُحْلُ فَلِمَا «رَوَى أَبُو رَافِعٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَعَا بِمُكْحُلَةِ إِثْمِدٍ فِي رَمَضَانَ فَاكْتَحَلَ وَهُوَ صَائِمٌ» . وَأَمَّا الْقُبْلَةُ فَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ» . وَأَمَّا الْغِيبَةُ فَلِعَدَمِ وُجُودِ الْمُفْطِرِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَإِنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُفْطِرُ فَأَكَلَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، بَلَغَهُ الْحَدِيثُ أَوْ لَمْ يَبْلُغْهُ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْغِيبَةِ غَيْرُ مُفْطِرَةٍ قَلَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ لِكَوْنِهِ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ، وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ لَا تُفْطِرُ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْحَدِيثِ فِي مُقَابَلَةِ الْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا إِذَا غَلَبَهُ الْقَيْءُ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ فَعِنْدَهُمَا لَا يُفْطِرُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفْطِرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَوْفِ مَنْفَذًا بِدَلِيلِ خُرُوجِ الْبَوْلِ، وَالْأَصَحُّ أَنْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مَنْفَذٌ، بَلِ الْبَوْلُ يَتَرَشَّحُ إِلَى الْمَثَانَةِ ثُمَّ يَخْرُجُ، وَمَا يَخْرُجُ رَشْحًا لَا يَعُودُ رَشْحًا فَلَا يَصِلُ، وَالْخِلَافُ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْمَثَانَةِ، أَمَّا إِذَا وَقَفَ فِي الْقَصَبَةِ لَا يُفْطِرُ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا دُخُولُ الْغُبَارِ وَالذُّبَابِ فَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. وَأَمَّا إِذَا أَصْبَحَ جُنُبًا فَلِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ» ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْمُبَاشَرَةَ جَمِيعَ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] الْآيَةَ. وَمِنْ ضَرُورَتِهِ وُقُوعُ الْغُسْلِ بَعْدَ الصُّبْحِ. قَالَ: (وَإِنِ ابْتَلَعَ طَعَامًا بَيْنَ أَسْنَانِهِ مِثْلَ الْحِمِّصَةِ أَفْطَرَ وَإِلَّا فَلَا) لِأَنَّ مَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ لَا يُسْتَطَاعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ مَضْغُ الْعِلْكِ وَالذَّوْقُ وَالْقُبْلَةُ إِنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ. فَصْلٌ وَمَنْ خَافَ الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ أَفْطَرَ، وَالْمُسَافِرُ صَوْمُهُ أَفْضَلُ، وَلَوْ أَفْطَرَ جَازَ، فَإِنْ مَاتَا عَلَى حَالِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا،   [الاختيار لتعليل المختار] الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إِذَا كَانَ قَلِيلًا فَإِنَّهُ تَبَعٌ لِرِيقِهِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ وَهُوَ قَدْرُ الْحِمِّصَةِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى مِثْلُ ذَلِكَ عَادَةً فَلَا تَعُّمُ بِهِ الْبَلْوَى فَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ لِلصَّائِمِ مَضْغُ الْعِلْكِ وَالذَّوْقُ وَالْقُبْلَةُ إِنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ) أَمَّا مَضْغُ الْعِلْكِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ صَوْمِهِ لِلْفَسَادِ، وَهَذَا فِي الْعِلْكِ الْمُلْتَصِقِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُلْتَئِمٍ فَإِنَّهُ يُفْطِرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَئِمُ إِلَّا بِانْفِصَالِ أَجْزَاءٍ تَنْقَطِعُ مِنْهُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلصَّوْمِ. وَأَمَّا الذَّوْقُ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَدْخُلَ إِلَى جَوْفِهِ. وَأَمَّا الْقُبْلَةُ لِمَا رُوِيَ: «أَنْ شَابًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ فَمَنَعَهُ، وَسَأَلَهُ شَيْخٌ فَأَذِنَ لَهُ، فَقَالَ الشَّابُّ: إِنَّ دِينِي وَدِينَهُ وَاحِدٌ، قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِنَّ الشَّيْخَ يَمْلِكُ نَفْسَهُ» ، وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ رُبَّمَا وَقَعَ فِي الْجِمَاعِ؛ فَيَفْسُدُ صَوْمُهُ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَالْمُبَاشَرَةُ كَالْقُبْلَةِ، وَيُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ مَضْغُ الطَّعَامِ لِصَبِيِّهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الصَّوْمِ لِلْفَسَادِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهَا الْإِفْطَارُ إِذَا خِيفَ عَلَيْهِ، فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهَا الْمَضْغُ كَانَ أَوْلَى. [فَصْلٌ مَا يُبَاحُ بِهِ الْإِفْطَارُ] فَصْلٌ (وَمَنْ خَافَ الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ أَفْطَرَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] مَعْنَاهُ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ وَالسَّفَرَ لَا يُوجِبَانِ الْقَضَاءَ. (وَالْمُسَافِرُ صَوْمُهُ أَفْضَلُ) لِأَنَّهُ عَزِيمَةٌ وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسَافِرُ إِذَا أَفْطَرَ رُخْصَةٌ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ» . (وَلَوْ أَفْطَرَ جَازَ) لِمَا تَلَوْنَا. وَلَوْ أَنْشَأَ السَّفَرَ فِي رَمَضَانَ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ سَافَرَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَا يُفْطِرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ صَوْمُهُ إِذْ هُوَ مُقِيمٌ فَلَا يُبْطِلُهُ بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنْ أَفْطَرَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا مَرِضَ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ. قَالَ: (فَإِنْ مَاتَا عَلَى حَالِهِمَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ عَلَيْهِمَا صِيَامَ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَلَمْ يُدْرِكَاهَا، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ وَالسَّفَرَ لَمَّا كَانَا عُذْرًا فِي إِسْقَاطِ الْأَدَاءِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، فَلَأَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ عُذْرًا فِي إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ أَوْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وَإِنْ صَحَّ وَأَقَامَ ثُمَّ مَاتَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ بِقَدْرِهِ، وَيُوصِيَانِ بِالْإِطْعَامِ عَنْهُمَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَالْفِطْرَةِ ; وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَوْ نَفْسَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا لَا غَيْرُ ; وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ ; وَمَنْ جُنَّ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفَاقَ بَعْضَهُ قَضَى مَا فَاتَهُ ; وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ رَمَضَانَ كُلَّهُ قَضَاهُ، وَيَلْزَمُ صَوْمُ النَّفْلِ بِالشُّرُوعِ (ف) أَدَاءً وَقَضَاءً، وَإِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ، أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ، أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ، أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ أَمْسَكَ بَقِيَّتَهُ، وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إِنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِنْ صَحَّ وَأَقَامَ ثُمَّ مَاتَا لَزِمَهُمَا الْقَضَاءُ بِقَدْرِهِ) لِأَنَّهُمَا بِذَلِكَ الْقَدْرِ أَدْرَكَا عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. قَالَ: (وَيُوصِيَانِ بِالْإِطْعَامِ عَنْهُمَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا كَالْفِطْرَةِ) لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِمَا صَوْمُهُ بِإِدْرَاكِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِيَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْوَرَثَةِ الْإِطْعَامُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تُؤَدَّى إِلَّا بِأَمْرِهِ، وَإِنْ فَعَلُوا جَازَ وَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُ ذَلِكَ. قَالَ: (وَالْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا أَوْ نَفْسَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا لَا غَيْرُ) قِيَاسًا عَلَى الْمَرِيضِ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَرَجِ وَالضَّرَرِ. (وَالشَّيْخُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الصِّيَامِ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ) لِأَنَّهُ عَاجِزٌ وَلَا يُرْجَى لَهُ الْقَضَاءُ فَانْتَقَلَ فَرْضُهُ إِلَى الْإِطْعَامِ كَالْمَيِّتِ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] أَيْ لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ: (وَمَنْ جُنَّ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الشَّهْرَ وَهُوَ السَّبَبُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَلِهَذَا يَصِيرُ مُوَلِّيًا عَلَيْهِ. (وَإِنْ أَفَاقَ بَعْضَهُ قَضَى مَا فَاتَهُ) لِأَنَّهُ شَهِدَ الشَّهْرَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة: 185] شُهُودُ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ شُهُودَ كُلِّهِ لَوَقَعَ الصَّوْمُ بَعْدَهُ وَأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ رَمَضَانَ كُلَّهُ قَضَاهُ) لِأَنَّهُ مَرَضٌ يُضْعِفُ الْقُوَى وَلَا يُزِيلُ الْعَقْلَ، وَلِهَذَا لَا يَصِيرُ مُوَلِّيًا عَلَيْهِ فَكَانَ مُخَاطَبًا فَيَقْضِيهِ كَالْمَرِيضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مَعْصُومًا عَنِ الْجُنُونِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ. قَالَ: (وَيَلْزَمُ صَوْمُ النَّفْلِ بِالشُّرُوعِ أَدَاءً وَقَضَاءً) وَقَدْ مَرَّ وَجْهُهُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَإِذَا طَهُرَتِ الْحَائِضُ أَوْ قَدِمَ الْمُسَافِرُ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ أَمْسَكَ بَقِيَّتَهُ) وَلَا يَجِبُ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ، وَلَوْ صَامُوهُ لَمْ يُجْزِهِمْ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي أَوَّلِهِ، وَالْأَدَاءُ لَا يُجْزِي إِلَّا فِي الْمُسَافِرِ إِذَا قَدِمَ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ وَنَوَى جَازَ صَوْمُهُ لِأَنَّهُ أَهْلٌ فِي أَوَّلِهِ. وَأَمَّا إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ يَوْمِهِ لِئَلَّا يَتَّهِمَهُ النَّاسُ، وَالتَّحَرُّزُ عَنْ مَوَاضِعِ التُّهَمِ وَاجِبٌ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ» . قَالَ: (وَقَضَاءُ رَمَضَانَ إِنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ) لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] لَمْ يُشْرَطْ فِيهِ التَّتَابُعُ وَهُوَ أَفْضَلُ مُسَارَعَةً إِلَى إِسْقَاطِ الْفَرْضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فَإِنْ جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَهُ ثُمَّ قَضَى الْأَوَّلَ لَا غَيْرُ، وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَيِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَهُ وَيُفْطِرُ وَيَقْضِي، وَلَوْ صَامَهَا أَجْزَأَهُ. بَابُ الِاعْتِكَافِ الِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] (فَإِنْ جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَهُ) لِأَنَّهُ وَقْتُهُ. (ثُمَّ قَضَى الْأَوَّلَ لَا غَيْرُ) لِأَنَّ جَمِيعَ السَّنَةِ وَقْتُ الْقَضَاءِ إِلَّا الْأَيَّامَ الْخَمْسَةَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا آخَرَ. قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَيِ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ لَزِمَهُ وَيُفْطِرُ وَيَقْضِي) لِأَنَّهُ نَذَرَ بِقُرْبَةٍ وَهُوَ الصَّوْمُ، وَأَضَافَهَا إِلَى وَقْتٍ مَشْرُوعٍ فِيهِ تِلْكَ الْقُرْبَةُ، فَيَلْزَمُ كَالنَّذْرِ بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ، وَلَيْسَ النَّذْرُ مَعْصِيَةً، إِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ أَدَاءُ الصَّوْمِ فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ» نَهَى عَنِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ غَيْرِ الْمَقْدُورِ قَبِيحٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَلْأَعْمَى لَا تُبْصِرْ، وَلِلْآدَمِيِّ لَا تَطِرْ - قَبِيحٌ لِمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ، وَإِذَا اقْتَضَى النَّهْيُ الْقُدْرَةَ كَانَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ مَقْدُورًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، فَيَصِحُّ النّذْرُ إِلَّا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَقُلْنَا: إِنَّهُ يُفْطِرُ فِيهَا تَحَرُّزًا عَنِ ارْتِكَابِ النَّهْيِ وَيَقْضِي لِيَخْرُجَ عَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ. (وَلَوْ صَامَهَا أَجْزَأَهُ) لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ، كَمَا إِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُعْتِقَ هَذِهِ الرَّقَبَةَ وَهِيَ عَمْيَاءُ فَأَعْتَقَهَا خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَإِنْ كَانَ إِعْتَاقُهَا لَا يُجْزِي عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ هَذِهِ السَّنَةَ أَفْطَرَ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا لِمَا بَيَّنَاهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَذَرَ سَنَةً مُتَتَابِعَةً، وَلَوْ نَذَرَ سَنَةً بِغَيْرِ عَيْنِهَا يَلْزَمُ صَوْمُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مُتَفَرِّقَةً؛ لِأَنَّ السَّنَةَ الْمُنَكَّرَةَ اسْمٌ لِأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ فَلَمْ يَكُنْ مُضَافًا إِلَى رَمَضَانَ، وَفِي الْمُعَيَّنَةِ إِضَافَةٌ إِلَى كُلِّ شَهْرٍ مِنْهَا، فَلَمْ تَصِحَّ الْإِضَافَةُ إِلَى رَمَضَانَ فَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الِاعْتِكَافِ] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمَقَامُ وَالِاحْتِبَاسُ، قَالَ تَعَالَى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] وَفِي الشَّرْعِ: عِبَارَةٌ عَنِ الْمُقَامِ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْمَسْجِدُ بِأَوْصَافٍ مَخْصُوصَةٍ مِنَ النِّيَّةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: (الِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ. رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةُ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِلَى أَنْ تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى» . وَعَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا تَرَكَ الِاعْتِكَافَ حَتَّى قُبِضَ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَعْمَالِ إِذَا كَانَ عَنْ إِخْلَاصٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وَلَا يَجُوزُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، وَهَذَا فِي الْوَاجِبِ وَهُوَ الْمَنْذُورُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا وَهُوَ اللَّبْثُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ مَعَ الصَّوْمِ وَالنِّيَّةِ، وَالْمَرْأَةُ تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوِ الْجُمُعَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ عَطَاءٌ: مَثَلُ الْمُعْتَكِفِ كَرَجُلٍ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى عَظِيمٍ فَيَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ، وَيَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتِي، فَكَذَلِكَ الْمُعْتَكِفُ يَجْلِسُ فِي بَيْتِ اللَّهِ، وَيَقُولُ: لَا أَبْرَحُ حَتَّى يُغْفَرَ لِي. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ، وَهَذَا فِي الْوَاجِبِ وَهُوَ الْمَنْذُورُ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا) لِأَنَّ الصَّوْمَ مِنْ شَرْطِهِ، وَلَا صَوْمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ، فَلَا اعْتِكَافَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ضَرُورَةً. وَكَذَلِكَ النَّفْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِالصَّوْمِ» رَوَتْهُ عَائِشَةُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يَجُوزُ أَكْثَرَ النَّهَارِ اعْتِبَارًا لِلْأَكْثَرِ بِالْكُلِّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: سَاعَةً؛ لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَامَحَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ وَلَا كَذَلِكَ الْوَاجِبُ. قَالَ: (وَهُوَ اللُّبْثُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ مَعَ الصَّوْمِ وَالنِّيَّةِ) أَمَّا اللُّبْثُ فَلِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْهُ، وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] . وَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إِمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ فَإِنَّهُ يُعْتَكَفُ فِيهِ» . وَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَا اعْتِكَافَ إِلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ تُؤَدَّى فِيهِ الْجَمَاعَةُ، فَكُلَّمَا كَانَ الْمَسْجِدُ أَعْظَمَ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ أَفْضَلُ. وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلِمَا تَقَدَّمَ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا اعْتَكَفَ إِلَّا صَائِمًا، وَاللَّهُ - تَعَالَى - شَرَعَهُ لِقَوْلِهِ: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّتَهُ، فَكَانَ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ بِغَيْرِ صَوْمٍ لَبَيَّنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَلَمْ يُنْقَلْ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ. قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ تَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا) وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي أَعَدَّتْهُ لِلصَّلَاةِ. (وَيُشْتَرَطُ فِي حَقِّهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ فِي الْمَسْجِدِ) لِأَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا كَانَ اعْتِكَافُهُ فِي مَوْضِعِ صَلَاتِهِ وَكَانَتْ صَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلَ كَانَ اعْتِكَافُهَا فِيهِ أَفْضَلَ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مِخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي صَحْنِ دَارِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي صَحْنِ دَارِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي مَسْجِدِ حَيِّهَا، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ لَوْ كُنَّ يَعْلَمْنَ» وَلَوِ اعْتَكَفَتْ فِي الْمَسْجِدِ جَازَ لِوُجُودِ شَرَائِطِهِ، وَيُكْرَهُ لِمَا رَوَيْنَا. قَالَ: (وَلَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوِ الْجُمُعَةِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَاعَةً (سم) فَسَدَ، وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ، وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِخَيْرٍ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ، فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ، وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ لَزِمَتْهُ بِلَيَالِيهَا مُتَتَابِعَةً، وَلَوْ نَوَى النَّهَارَ خَاصَّةً صُدِّقَ،   [الاختيار لتعليل المختار] - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إِلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» ، وَالْحَاجَةُ: بَوْلٌ أَوْ غَائِطٌ أَوْ غُسْلُ جَنَابَةٍ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا وَلَا يُمْكِنُ قَضَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ مُسْتَثْنًى ضَرُورَةً وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ الْحَوَائِجِ وَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا. وَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ تَقَرُّبٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَتَرْكُ الْجُمُعَةِ مَعْصِيَةٌ، فَيُنَافِيهِ وَيَخْرُجُ قَدْرَ مَا يُمْكِنُهُ أَدَاءَ السُّنَّةِ قَبْلَهَا. وَقِيلَ: قَدْرَ سِتِّ رَكَعَاتٍ، يَعْنِي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ أَيْضًا، وَيُصَلِّي بَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا، وَلَوْ أَطَالَ الْمُكْثَ جَازَ، إِلَّا أَنَّ الْأَوْلَى الْعَوْدُ إِلَى مُعْتَكَفِهِ لِأَنَّهُ عَقَدَهُ فِيهِ فَلَا يُؤَدِّيهِ فِي مَوْضِعَيْنِ. قَالَ: (فَإِنْ خَرَجَ لِغَيْرِ عُذْرٍ سَاعَةً فَسَدَ) لِوُجُودِ الْمُنَافِي. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَفْسُدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ النَّهَارِ اعْتِبَارًا بِالْأَكْثَرِ، وَيَكُونُ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَزَوَاجُهُ وَرَجْعَتُهُ بِالْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى هَذِهِ الْأَشْغَالِ وَيُمْكِنُ قَضَاؤُهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إِلَّا الْمَسْجِدَ، وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَتَحَدَّثُ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ حَدِيثٌ، لَكِنْ يُكْرَهُ حُضُورُ السِّلَعِ الْمَسْجِدَ لِمَا فِيهِ مِنْ شَغْلِ الْمَسْجِدِ بِهَا. قَالَ: (وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمَجُوسِ، وَقَدْ نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ. قَالَ: (وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا بِخَيْرٍ) لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ وَفِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، فَالْمُعْتَكِفُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى. قَالَ: (وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَكَانَتِ الْمُبَاشَرَةُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الِاعْتِكَافِ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ، وَكَذَا دَوَاعِيهِ وَهُوَ اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ وَالْمُبَاشَرَةُ كَمَا فِي الْحَجِّ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ رُكْنُهُ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الدَّوَاعِي. قَالَ: (فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ فَيُفْسِدُهُ كَالْإِحْرَامِ، وَكَذَا إِذَا أَنْزَلَ بِقُبْلَةٍ أَوْ لَمْسٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْجِمَاعِ. وَأَمَّا النِّسْيَانُ فَلِأَنَّ الْحَالَةَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ كَالْحَجِّ بِخِلَافِ الصَّوْمِ. قَالَ: (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ لَزِمَتْهُ بِلَيَالِيهَا مُتَتَابِعَةً) لِأَنَّ ذِكْرَ جَمْعٍ مِنَ الْأَيَّامِ يَنْتَظِمُ مَا بِإِزَائِهَا مِنَ اللَّيَالِي كَمَا فِي قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ تَعَالَى: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [آل عمران: 41] وَقَالَ: {ثَلاثَ لَيَالٍ} [مريم: 10] وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَيُقَالُ: مَا رَأَيْتُكَ مُنْذُ أَيَّامٍ، وَيُرِيدُ اللَّيَالِيَ أَيْضًا. وَأَمَّا التَّتَابُعُ فَإِنَّ الِاعْتِكَافَ يَصِحُّ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ التَّتَابُعَ كَمَا فِي الْأَيْمَانِ وَالْإِجَارَاتِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ إِذَا الْتَزَمَ أَيَّامًا حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ التَّتَابُعُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّفْرِيقُ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلصَّوْمِ فَلَا يَلْزَمُ إِلَّا أَنْ يَشْرِطَهُ. (وَلَوْ نَوَى النَّهَارَ خَاصَّةً صَدَقَ) لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ. كِتَابُ الْحَجِّ وَهُوَ فَرِيضَةُ الْعُمْرِ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً   [الاختيار لتعليل المختار] الْيَوْمَ عِبَارَةٌ عَنْ بَيَاضِ النَّهَارِ. قَالَ: (وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ إِلَّا بِالصَّوْمِ فَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَقَدْ بَيَّنَاهُ. [كِتَابُ الْحَجِّ] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَصْدُ إِلَى الشَّيْءِ الْمُعَظَّمِ. قَالَ الشَّاعِرُ: يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا أَيْ يَقْصِدُونَ عِمَامَتَهُ. وَفِي الشَّرْعِ: قَصْدُ مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، وَهُوَ الْبَيْتُ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ عَلَى مَا يَأْتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ فَرِيضَةٌ مَحْكَمَةٌ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا، وَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ ثَبَتَتْ فَرْضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] . وَالسُّنَّةِ: وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ: «وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ» وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ، وَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْبَيْتُ لِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَا يَتَكَرَّرُ، وَيَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ مَلَكَ زَادًا يُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا» . وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَيُرِيدُ التَّزَوُّجَ يَبْدَأُ بِالْحَجِّ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ فِي السَّنَةِ غَيْرُ نَادِرٍ، بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمَوْتَ فِيهِ نَادِرٌ، وَلِهَذَا كَانَ التَّعْجِيلُ أَفْضَلَ إِجْمَاعًا. قَالَ: (وَهُوَ فَرِيضَةُ الْعُمْرِ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً) لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] . قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: " لَا بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً» وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْبَيْتُ وَلَا يَتَكَرَّرُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ عَاقِلٍ بَالِغٍ صَحِيحٍ قَادِرٍ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَنَفَقَةِ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ إِلَى حِينِ يَعُودُ وَيَكُونُ الطَّرِيقُ أَمْنًا، وَلَا تَحُجُّ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ إِذَا كَانَ سَفَرًا،   [الاختيار لتعليل المختار] وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ. قَالَ: (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ عَاقِلٍ بَالِغٍ صَحِيحٍ قَادِرٍ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَنَفَقَةِ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ فَاضِلًا عَنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ إِلَى حِينِ يَعُودُ، وَيَكُونُ الطَّرِيقُ أَمْنًا) أَمَّا الْإِسْلَامُ، فَلِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ أَهْلًا لِأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ ثُمَّ بَلَغَ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ» وَلِأَنَّ مَنَافِعَ بَدَنِ الْعَبْدِ لِغَيْرِهِ فَكَانَ عَاجِزًا، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ أَعَارَهُ مَنَافِعَ بَدَنِهِ فَلَا يَصِيرُ قَادِرًا بِالْإِعَارَةِ كَالْفَقِيرِ لَا يَصِيرُ قَادِرًا إِذَا أَعَارَهُ غَيْرُهُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ. وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلِأَنَّهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ التَّكْلِيفِ، وَلِمَا مَرَّ مِنَ الْحَدِيثِ. وَأَمَّا الصِّحَّةُ فَلِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ دُونَهَا، وَالْخِلَافُ فِي الْأَعْمَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجُمُعَةِ. وَقِيلَ عِنْدَهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ. لِأَنَّ الْبَذْلَ فِي الْقِيَادِ غَالِبٌ فِي الْجُمُعَةِ نَادِرٌ فِي الْحَجِّ. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَنَفَقَةِ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ فَلَا اسْتِطَاعَةَ دُونَهَا. «وَسُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَقَالَ: " الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ» وَهَكَذَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَالرَّاحِلَةُ: أَنْ يَكْتَرِيَ شِقَّ مِحْمَلٍ أَوْ زَامِلَةٍ دُونَ عُقْبَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ قَادِرًا إِلَّا بِالْمَشْيِ فَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ فَاضِلًا عَنِ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَلِأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَا عَنْ نَفَقَةِ عُمَّالِهِ لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لَهُمْ، وَحُقُوقُهُمْ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِفَقْرِهِمْ وَغِنَاهُ، وَكَذَا فَاضِلًا عَنْ قَضَاءِ دُيُونِهِ لِمَا بَيَّنَّا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: وَنَفَقَةُ شَهْرٍ بَعْدَ عَوْدِهِ إِلَى وَطَنِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ لَا يَسْكُنُهَا وَعَبْدٌ لَا يَسْتَخْدِمُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُمَا فِي الْحَجِّ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَمْنِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْمَقْصُودِ دُونَهُ، وَأَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ حَوْلَهَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِذَا قَدَرُوا بِغَيْرِ رَاحِلَةٍ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْأَدَاءِ بِدُونِ الْمَشَقَّةِ. قَالَ: (وَلَا تَحُجُّ الْمَرْأَةُ إِلَّا بِزَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ إِذَا كَانَ سَفَرًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحُجُّ الْمَرْأَةُ إِلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا» وَالْمَحْرَمُ: كُلُّ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ لِقَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ، إِلَّا الْمَجُوسِيَّ الَّذِي يَعْتَقِدُ إِبَاحَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وَنَفَقَةُ الْمَحْرَمِ عَلَيْهَا، وَتَحُجُّ مَعَهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ إِذَنْ زَوْجِهَا. وَوَقْتُهُ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَيْهَا وَيَجُوزُ. وَالْمَوَاقِيتُ: لِلْعِرَاقِيِّينَ ذَاتُ عِرْقٍ، وَلِلشَّامِيِّينَ الْجُحْفَةُ، وَلِلْمَدَنِيِّينَ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَلِلنَّجْدِيِّينَ قَرْنٌ، وَلِلْيَمَنِيِّينَ يَلَمْلَمُ، وَإِنْ قُدِّمَ الْإِحْرَامُ عَلَيْهَا فَهُوَ أَفْضَلُ، وَلَا يَجُوزَ لِلْآفَاقِيِّ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا إِلَّا مُحْرِمًا إِذَا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ،   [الاختيار لتعليل المختار] نِكَاحِهَا، وَالْفَاسِقَ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِعَجْزِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ عَنِ الْحِفْظِ. قَالَ: (وَنَفَقَةُ الْمَحْرَمِ عَلَيْهَا) لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِحَقِّهَا، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا لِأَنَّ الْمَحْرَمَ شَرْطٌ وَلَيْسَ عَلَيْهَا تَحْقِيقُ الشُّرُوطِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَحْرَمٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَتَحُجُّ مَعَهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا) لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ لَا يَظْهَرُ مَعَ الْفَرَائِضِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ. [مواقيت الْحَجِّ الزمانية] قَالَ: (وَوَقْتُهُ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أَيْ وَقْتُ الْحَجِّ، وَفَسَّرُوهُ كَمَا ذَكَرْنَا. (وَيُكْرَهُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَيْهَا وَيَجُوزُ) أَمَّا الْكَرَاهِيَةُ فَلِمَا فِيهِ مِنْ تَعَرُّضِ الْإِحْرَامِ لِلْفَسَادِ بِطُولِ الْمُدَّةِ. وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلدُّخُولِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ عِنْدَنَا، وَتَقَدُّمُ الشَّرْطِ عَلَى الْوَقْتِ يَجُوزُ كَمَا فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِاتِّصَالِ الْقِيَامِ بِهَا، وَأَفْعَالُ الْحَجِّ تَتَأَخَّرُ عَنِ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بَعْدَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَوْ فَعَلَهُ لَا يُجْزِيهِ لِوُقُوعِهِ قَبْلَ وَقْتِهِ حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ فِي رَمَضَانَ فَطَافَ وَسَعَى لَا يُجْزِيهِ عَنِ الطَّوَافِ الْفَرْضِ بِخِلَافِ طَوَافِ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ. [مواقيت الْحَجِّ المكانية] قَالَ: (وَالْمَوَاقِيتُ: لِلْعِرَاقِيِّينَ ذَاتُ عِرْقٍ، وَلِلشَّامِيِّينَ الْجُحْفَةُ، وَلِلْمَدَنِيِّينَ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَلِلنَّجْدِيِّينَ قَرْنٌ، وَلِلْيَمَنِيِّينَ يَلَمْلَمُ) وَيُقَالُ: أَلَمْلَمُ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ، وَقَالَ: «هُنَّ لِأَهْلِهِنَّ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَوِ الْعُمْرَةَ» ، رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَلَوْ أَرَادَ الْمَدَنِيُّ دُخُولَ مَكَّةَ مِنْ جِهَةِ الْعِرَاقِ فَوَقْتُهُ ذَاتُ عِرْقٍ، وَكَذَا فِي سَائِرِ الْمَوَاقِيتِ، وَمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مَسْلُوكٍ أَحْرَمَ إِذَا حَاذَى الْمِيقَاتَ. (وَإِنْ قَدَّمَ الْإِحْرَامَ عَلَيْهَا فَهُوَ أَفْضَلُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ: وَإِتْمَامُهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ فَكَانَ أَفْضَلَ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِحْرَامُ مِنْ مِصْرِهِ أَفْضَلُ إِذَا مَلَكَ نَفْسَهُ فِي إِحْرَامِهِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لِلْآفَاقِيِّ أَنْ يَتَجَاوَزَهَا إِلَّا مُحْرِمًا إِذَا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ) سَوَاءً دَخَلَهَا حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ تَاجِرًا؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ التَّأْقِيتِ هَذَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَتَجَاوَزُ أَحَدٌ الْمِيقَاتَ إِلَّا مُحْرِمًا» وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فَإِنْ جَاوَزَهَا الْآفَاقِيُّ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، فَإِنْ عَادَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ سَقَطَ الدَّمُ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ مُلَبِّيًا سَقَطَ أَيْضًا (سم ز) ، وَلَوْ عَادَ بَعْدَ مَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَشَرَعَ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَسْقُطْ، وَإِنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ لَا يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَمِيقَاتُهُ الْحِلُّ، وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ، وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِحْرَامٍ لِحَاجَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ دُخُولُهُ لِحَوَائِجِهِ فَيَخْرُجُ فِي ذَلِكَ فَصَارَ كَالْمَكِّيِّ إِذَا خَرَجَ ثُمَّ دَخَلَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا دَخَلَ لِلْحَجِّ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً فَلَا يَخْرُجُ، وَكَذَا لِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا لِنَفْسِهِ. قَالَ: (فَإِنْ جَاوَزَهَا الْآفَاقِيُّ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا مَرَّ مِنَ الْحَدِيثِ. (فَإِنْ عَادَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ سَقَطَ الدَّمُ، وَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ ثُمَّ عَادَ إِلَيْهِ مُلَبِّيًا سَقَطَ أَيْضًا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ الْعَوْدِ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَسْقُطُ وَإِنْ لَبَّى؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ فَلَا تَرْتَفِعُ بِالْعَوْدِ، كَمَا إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ بَعْدَهُ. وَلَنَا أَنَّهُ اسْتَدْرَكَ الْفَائِتَ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْجِنَايَةِ بِالشُّرُوعِ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَسْقُطُ الدَّمُ، بِخِلَافِ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ اسْتِدَامَةُ الْوُقُوفِ وَلَمْ يَسْتَدْرِكْهُ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا أَظْهَرَ حَقَّ الْمِيقَاتِ بِنَفْسِ الْعَوْدِ؛ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى لَوْ مَرَّ بِهِ مُحْرِمًا سَاكِتًا جَازَ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُ جَنَى بِالتَّأْخِيرِ عَنِ الْمِيقَاتِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّهِ بِإِنْشَاءِ التَّلْبِيَةِ، فَكَانَ التَّدَارُكُ فِي الْعَوْدِ مُلَبِّيًا. قَالَ: (وَلَوْ عَادَ بَعْدَ مَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَشَرَعَ فِي الطَّوَافِ لَمْ يَسْقُطْ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ عَلَى حُكْمِ الِابْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ إِنْ عَادَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لِمَا بَيَّنَّا. (وَإِنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ لَا يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ لِتَعْظِيمِ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا قَبْلَهَا مِنَ الْقُرَى وَالْبَسَاتِينِ غَيْرُ وَاجِبِ التَّعْظِيمِ، وَإِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ صَارَ هُوَ وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ سَوَاءً، فَلَهُ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَمِيقَاتُهُ الْحِلُّ) الَّذِي بَيْنَ الْمِيقَاتِ وَبَيْنَ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ. (وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَوَقْتُهُ فِي الْحَجِّ الْحَرَمُ، وَفِي الْعُمْرَةِ الْحِلُّ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْحَجِّ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِعَرَفَةَ وَهِيَ فِي الْحِلِّ، فَإِذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنَ الْحَرَمِ يَقَعُ نَوْعُ سَفَرٍ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَخَا عَائِشَةَ أَنْ يَعْتَمِرَ بِهَا مِنَ التَّنْعِيمِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْعُمْرَةِ بِمَكَّةَ فَيَخْرُجُ إِلَى الْحِلِّ لِيَقَعَ نَوْعُ سَفَرٍ أَيْضًا، وَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنَ الْحِلِّ جَازَ إِلَّا أَنَّ التَّنْعِيمَ أَفْضَلُ لِمَا رَوَيْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ، وَيَقُصَّ شَارِبَهُ، وَيَحْلِقَ عَانَتَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ أَوْ يَغْتَسِلُ وَهُوَ أَفْضَلُ، وَيَلْبَسُ إِزَارًا وَرِدَاءً جَدِيدَيْنِ أَبْيَضَيْنِ وَهُوَ أَفْضَلُ، وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا وَاحِدًا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ جَازَ، وَيَتَطَيَّبُ إِنْ وَجَدَ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي، وَإِنْ نَوَى بِقَلْبِهِ أَجْزَأَهُ، ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] [فَصْلٌ ما يستحب فعله لمن أراد أن يحرم] فَصْلٌ (وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقَلِّمَ أَظْفَارَهُ، وَيَقُصَّ شَارِبَهُ، وَيَحْلِقَ عَانَتَهُ) وَهُوَ الْمُتَوَارَثُ، وَلِأَنَّهُ أَنْظَفُ لِلْبَدَنِ فَكَانَ أَحْسَنَ. (ثُمَّ يَتَوَضَّأُ أَوْ يَغْتَسِلُ وَهُوَ أَفْضَلُ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَسَلَ، وَلِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ التَّنْظِيفُ، وَالْغُسْلُ أَبْلَغُ، وَلَوِ اكْتَفَى بِالْوُضُوءِ جَازَ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَتَغْتَسِلُ الْحَائِضُ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لِلتَّنْظِيفِ. (وَيَلْبَسُ إِزَارًا وَرِدَاءً جَدِيدَيْنِ أَبْيَضَيْنِ وَهُوَ أَفْضَلُ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اتَّزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إِحْرَامِهِ، الْجَدِيدَانِ أَقْرَبُ إِلَى النَّظَافَةِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ ثِيَابِكُمُ الْبِيضُ» . (وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا وَاحِدًا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ جَازَ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. (وَيَتَطَيَّبُ إِنْ وَجَدَ) قَالَتْ عَائِشَةُ: «كُنْتُ أُطَيِّبُّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» . وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَتَطَيَّبُ بِمَا يَبْقَى بَعْدَ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ كَالْمُسْتَعْمِلِ لَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ. وَجَوَابُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ مِنْ مَفْرِقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثَلَاثَةٍ مِنْ إِحْرَامِهِ» ، وَالْمَمْنُوعُ التَّطَيُّبُ قَصْدًا، وَهَذَا تَابِعٌ لَا حُكْمَ لَهُ، وَصَارَ كَمَا إِذَا حَلَقَ أَوْ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ ثُمَّ أَحْرَمَ. قَالَ: (وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ عِنْدَ إِحْرَامِهِ. (وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقْبَّلْهُ مِنِّي) لِأَنَّهُ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُشِقَّةٌ يَأْتِي بِهَا فِي أَمَاكِنَ مُتَبَايِنَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَيَسْأَلُ اللَّهَ التَّيْسِيرَ عَلَيْهِ. (وَإِنْ نَوَى بِقَلْبِهِ أَجْزَأَهُ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَالْأَخْرَسُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ، وَلَوْ نَوَى مُطْلَقَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَتَحَمَّلُ الْمَشَاقَّ الْعَظِيمَةَ وَإِخْرَاجَ الْأَمْوَالِ إِلَّا لِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَوَى التَّطَوُّعَ وَقَعَ مُتَطَوِّعًا إِذْ لَا دَلَالَةَ مَعَ التَّصْرِيحِ. (ثُمَّ يُلَبِّي عَقِيبَ صَلَاتِهِ) وَإِنْ شَاءَ إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وَالتَّلْبِيَةُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ. فَإِذَا نَوَى وَلَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ، فَلْيَتَّقِ الرَّفَثَ وَالْفُسُوقَ وَالْجِدَالَ، وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا سَرَاوِيلَ، وَلَا عِمَامَةً، وَلَا قَلَنْسُوَةً، وَلَا قِبَاءً، وَلَا خُفَّيْنِ، وَلَا يَحْلِقُ شَيْئًا مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مُعَصْفَرًا وَنَحْوِهِ، وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَالتَّلْبِيَةُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ) وَكَسْرُ إِنَّ أَصْوَبُ لِيَقَعَ ابْتِدَاءً، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ» فَالْعَجُّ: رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَالثَّجُّ: إِسَالَةُ دَمِ الذَّبَائِحِ، وَلَا يُخِلُّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لِأَنَّهَا مَنْقُولَةٌ بِاتِّفَاقِ الرُّوَاةِ، وَإِنْ زَادَ جَازَ بِأَنْ يَقُولَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ لَبَّيْكَ إِلَهَ الْخَلْقِ، غَفَّارَ الذُّنُوبِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَهِيَ مَرَّةً شَرْطٌ وَالزِّيَادَةُ سُنَّةٌ، وَيَكُونُ بِتَرْكِهَا مُسِيئًا. قَالَ: (فَإِذَا نَوَى وَلَبَّى فَقَدْ أَحْرَمَ) لِأَنَّهُ أَتَى بِالنِّيَّةِ وَالذِّكْرِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ فَيَدْخُلُ فِي الْإِحْرَامِ (فَلْيَتَّقِ الرَّفَثَ وَالْفُسُوقَ وَالْجِدَالَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ نَقْلًا وَإِجْمَاعًا ; فَالرَّفَثُ: الْجِمَاعُ، وَقِيلَ: دَوَاعِيهِ، وَقِيلَ: ذِكْرُ الْجِمَاعِ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ، وَقِيلَ: الْكَلَامُ الْقَبِيحُ، وَالْفُسُوقُ: الْمَعَاصِي وَهِيَ حَرَامٌ وَفِي الْإِحْرَامِ أَشَدُّ ; وَالْجِدَالُ: الْمُخَاصَمَةُ مَعَ الرَّفِيقِ وَالْجَمَّالِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ: (وَلَا يَلْبَسُ قَمِيصًا وَلَا سَرَاوِيلَ وَلَا عِمَامَةً وَلَا قَلَنْسُوَةً وَلَا قَبَاءً وَلَا خُفَّيْنِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَتَقَ سَرَاوِيلَهُ فَاتَّزَرَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ رِدَاءً شَقَّ قَمِيصَهُ فَارْتَدَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ يَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ الْكَعْبَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَخْرُجُ عَنْ لِبْسِ الْمَخِيطِ وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «إِلَّا أَنْ لَا يَجِدَ النَّعْلَيْنِ فَيَقْطَعُ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ» وَإِنْ أَلْقَى عَلَى كَتِفَيْهِ قِبَاءً جَازَ، مَا لَمْ يُدْخِلْ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لَا لَابِسٌ. قَالَ: (وَلَا يَحْلِقُ شَيْئًا مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَلِأَنَّ فِيهِ إِزَالَةُ الشَّعَثِ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» الشَّعَثُ: الِانْتِشَارُ، وَمُرَادُهُ انْتِشَارُ شَعْرِ الْحَاجِّ فَلَا يَجْمَعُهُ بِالتَّسْرِيحِ وَالدُّهْنِ وَالتَّغْطِيَةِ وَنَحْوِهِ، وَالتَّفْلُ بِالسُّكُونِ: الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ، وَالتَّفِلُ: الَّذِي تَرَكَ اسْتِعْمَالَ الطِّيبِ فَيُكْرَهُ رَائِحَتُهُ، وَالْمُحْرِمُ كَذَلِكَ. قَالَ: (وَلَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مُعَصْفَرًا وَنَحْوَهُ) لِأَنَّهُ طِيبٌ حَتَّى لَوْ كَانَ غَسِيلًا لَا تَفُوحُ رَائِحَتُهُ لَا بَأْسَ (وَلَا يُغَطِّي رَأْسَهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ» . (وَلَا وَجْهِهِ) بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَى الْمَرْأَةِ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ وَفِي كَشْفِهِ فِتْنَةٌ كَانَ الرَّجُلُ بِطَرِيقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَلَا يَتَطَيَّبُ، وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلَا لِحْيَتَهُ بِالْخَطْمِيِّ، وَلَا يَدَّهِنُ، وَلَا يَقْتُلُ صَيْدَ الْبَرِّ، وَلَا يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ لَهُ قَتْلُ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ وَسَائِرِ السِّبَاعِ إِذَا صَالَتْ عَلَيْهِ، وَلَا يَكْسِرُ بَيْضَ الصَّيْدِ، وَلَا يَقْطَعُ شَجَرَ الْحَرَمِ، وَيَجُوزُ لَهُ صَيْدُ السَّمَكِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَبْحُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الْأَهْلِيِّ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ، وَيَسْتَظِلَّ بِالْبَيْتِ وَالْمِحْمَلِ، وَيَشُدَّ فِي وَسَطِهِ الْهِمْيَانَ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْأَوْلَى. قَالَ: (وَلَا يَتَطَيَّبُ، وَلَا يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلَا لِحْيَتَهُ بِالْخَطْمِيِّ، وَلَا يَدَّهِنُ) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِزَالَةَ الشَّعَثِ. قَالَ: (وَلَا يَقْتُلُ صَيْدَ الْبَرِّ، وَلَا يُشِيرُ إِلَيْهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَلِمَا رُوِيَ: «أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ صَادَ حِمَارَ وَحْشٍ وَهُوَ حَلَالٌ وَأَصْحَابُهُ مُحْرِمُونَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْلِهِ، فَقَالَ: " هَلْ أَشَرْتُمْ، هَلْ دَلَلْتُمْ؟ " قَالُوا: لَا، قَالَ: " إِذًا فَكُلُوا» وَلِأَنَّ الْإِشَارَةَ وَالدَّلَالَةَ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِزَالَةِ الْأَمْنِ عَنِ الصَّيْدِ فَيَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ كَالرِّدْءِ وَالْمُعِينِ فِي قَتْلِ بَنِي آدَمَ. قَالَ: وَلَا الْقَمْلُ لِأَنَّهُ إِزَالَةُ الشَّعَثِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ لَهُ قَتْلُ الْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَالذُّبَابِ وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالْفَأْرَةِ وَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ، وَسَائِرِ السِّبَاعِ إِذَا صَالَتْ عَلَيْهِ) أَمَّا الْبَرَاغِيثُ وَالْبَقُّ وَالذُّبَابُ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَيْدٍ وَلَا مُتَوَلِّدَةٍ مِنْهُ، فَلَيْسَ قَتْلُهَا إِزَالَةَ الشَّعَثِ، وَتَبْتَدِئُ بِالْأَذَى، وَكَذَلِكَ النَّمْلُ وَالْقُرَادُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا الْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالذِّئْبُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَمْسٌ مِنَ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحِدَأَةُ وَالْحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زَادَ الْغُرَابَ. وَذُكِرَ فِي رِوَايَةٍ الذِّئْبُ، قَالُوا: وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ إِذْ هُوَ فِي مَعْنَاهُ، وَالْغُرَابُ هُوَ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تَبْدَأُ بِالْأَذَى. وَأَمَّا السِّبَاعُ إِذَا صَالَتْ فَلِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ الشَّرْعُ فِي قَتْلِ الْخَمْسِ الْفَوَاسِقِ لِاحْتِمَالِ الْأَذَى، فَلَأَنْ يَأْذَنَ فِي قَتْلِ مَا تَحَقَّقَ مِنْهُ الْأَذَى كَانَ أَوْلَى. قَالَ: (وَلَا يَكْسِرُ بَيْضَ الصَّيْدِ) لِأَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ. (وَلَا يَقْطَعُ شَجَرَ الْحَرَمِ) لِلْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَى الْحُلَّالِ فَالْمُحْرِمُ أَوْلَى. (وَيَجُوزُ لَهُ صَيْدُ السَّمَكِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الْآيَةَ. (وَيَجُوزُ لَهُ ذَبْحُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ الْأَهْلِيِّ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصُيُودٍ لِإِمْكَانِ أَخْذِهَا مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُتَوَحِّشَةٍ. قَالَ: (وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ) لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الِاغْتِسَالِ لِلْجَنَابَةِ وَغَيْرِهَا، وَقَدِ اغْتَسَلَ عُمَرُ وَهُوَ مُحْرِمٌ. قَالَ: (وَيَسْتَظِلُّ بِالْبَيْتِ وَالْمِحْمَلِ) لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى رَأْسِهِ فَلَا يَتَغَطَّى، وَقَدْ ضُرِبَ لِعُثْمَانَ الْفُسْطَاطُ وَهُوَ مُحْرِمٌ. (وَيَشُدُّ فِي وَسَطِهِ الْهِمْيَانَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلِبْسٍ وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِحِفْظِ النَّفَقَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَيُقَاتِلَ عَدُوَّهُ، وَيُكْثِرَ مِنَ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ، وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا وَبِالْأَسْحَارِ. فَصْلٌ وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخَلَ مَكَّةَ أَوْ نَهَارًا كَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَإِذَا دَخَلَهَا ابْتَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ، وَابْتَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَيُقَبِّلُهُ إِنِ اسْتَطَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا، أَوْ يَسْتَلِمُهُ أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِلَامِ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَيُقَاتِلُ عَدُوَّهُ) لِمَا تَقَدَّمَ. (وَيُكْثِرُ مِنَ التَّلْبِيَةِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ، وَكُلَّمَا عَلَا شَرَفًا أَوْ هَبَطَ وَادِيًا أَوْ لَقِيَ رَكْبًا أَوْ بِالْأَسْحَارِ) هُوَ الْمَأْثُورُ عَنِ الصَّحَابَةِ. [فَصْلٌ دُخُولُ مَكَّةَ] فَصْلٌ (وَلَا يَضُرُّهُ لَيْلًا دَخْلَ مَكَّةَ أَوْ نَهَارًا كَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ، فَإِذَا دَخَلَهَا ابْتَدَأَ بِالْمَسْجِدِ) لِأَنَّ الْبَيْتَ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ زِيَارَتُهُ ; وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ اقْتِدَاءً بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ دُخُولِهَا: اللَّهُمَّ هَذَا حَرَمُكَ وَمَأْمَنُكَ، قُلْتَ - وَقَوْلُكَ الْحَقُّ -: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] اللَّهُمَّ فَحَرِّمْ لَحْمِي وَدَمِي عَلَى النَّارِ، وَقِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ، وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ حَافِيًا إِلَّا أَنْ يَسْتَضِرَّ، وَيَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَلَّغَنِي بَيْتَهُ الْحَرَامَ. اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَمَغْفِرَتِكَ وَأَدْخِلْنِي فِيهَا، وَأَغْلِقْ عَنِّي مَعَاصِيَكَ وَجَنِّبْنِي الْعَمَلَ بِهَا. (فَإِذَا عَايَنَ الْبَيْتَ كَبَّرَ وَهَلَّلَ) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ، حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ، وَأَدْخِلْنَا دَارَ السَّلَامِ، اللَّهُمَّ زِدْ بَيْتَكَ هَذَا تَشْرِيفًا وَمَهَابَةً وَتَعْظِيمًا، اللَّهُمَّ تَقَبَّلَ تَوْبَتِي وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي، وَاغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ. (وَابْتَدِأْ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ) هَكَذَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ. (وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَالصَّلَاةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إِلَّا فِي سَبْعِ مُوَاطِنَ» وَعَدَّ مِنْهَا اسْتِلَامَ الْحَجَرِ. (وَيُقَبِّلُهُ إِنِ اسْتَطَاعَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا أَوْ يَسْتَلِمُهُ) وَهُوَ أَنْ يَلْمِسَهُ بِكَفِّهِ، أَوْ يُلْمِسَهُ شَيْئًا بِيَدِهِ ثُمَّ يُقَبِّلَهُ أَوْ يُحَاذِيهِ. (أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِلَامِ) لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ، وَالتَّقْبِيلُ وَالِاسْتِلَامُ سُنَّةٌ، وَالْإِتْيَانُ بِالْوَاجِبِ أَوْلَى، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَقَالَ لِعُمَرَ: " إِنَّكَ رَجُلٌ أَيِّدٌ - أَيْ قَوِيٌّ - فَلَا تُزَاحِمِ النَّاسَ عَلَى الْحَجَرِ، وَلَكِنْ إِنْ وَجَدْتَ فُرْجَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ وَرُوِيَ " أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «طَافَ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ، وَهُوَ سُنَّةٌ لِلْآفَاقِيِّ، فَيَبْدَأُ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى جِهَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَدِ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ، فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَرَاءَ الْحَطِيمِ، يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، ثُمَّ يَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ، وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ، وَيَخْتِمُ الطَّوَافَ بِالِاسْتِلَامِ،   [الاختيار لتعليل المختار] رَاحِلَتِهِ، وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ» ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إِيمَانًا بِكَ، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ، وَوَفَاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّبَاعًا لِنَبِيِّكَ ; أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ; آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكَفَرْتُ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ. قَالَ: (ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ) وَيُسَمَّى طَوَافَ التَّحِيَّةِ (وَهُوَ سُنَّةٌ لِلْآفَاقِيِّ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَتَى الْبَيْتَ فَلْيُحَيِّهِ بِالطَّوَافِ» وَلَفْظَةُ التَّحِيَّةِ تُنَافِي الْوُجُوبَ، وَلَا قُدُومَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَلَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِمْ ; وَيَقُولُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَعِذْنِي مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (فَيَبْدَأُ مِنَ الْحَجَرِ إِلَى جِهَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَدِ اضْطَبَعَ رِدَاءَهُ) وَالِاضْطِبَاعُ: إِخْرَاجُ طَرَفِ الرِّدَاءِ مِنْ تَحْتِ الْإِبِطِ الْأَيْمَنِ وَإِلْقَاؤُهُ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ. (فَيَطُوفُ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ وَرَاءَ الْحَطِيمِ، يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، ثُمَّ يَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ، وَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ، وَيَخْتِمُ الطَّوَافَ بِالِاسْتِلَامِ) هَكَذَا نُقِلَ نُسُكُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَالْحَطِيمُ: مَوْضِعٌ مَبْنِيٌّ دُونَ الْبَيْتِ مِنَ الرُّكْنِ الْعِرَاقِيِّ إِلَى الرُّكْنِ الشَّامِيِّ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ حُطِمَ مِنَ الْبَيْتِ: أَيُّ كُسِرَ، وَفِيهِ نُصِبَ الْمِيزَابُ، وَهُوَ الْحَجَرُ لِأَنَّهُ حُجِرَ مِنَ الْبَيْتِ: أَيْ مُنِعَ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فُرْجَةٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَلَوْ دَخَلَ فِيهَا فِي طَوَافِهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَطِيمُ مِنَ الْبَيْتِ» فَيُعِيدُ الطَّوَافَ، فَإِنْ أَعَادَهُ عَلَى الْحَطِيمِ وَحْدَهُ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ تَمَّ طَوَافُهُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُعِيدَهُ عَلَى الْبَيْتِ أَيْضًا لِيُؤَدِّيَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ وَالْأَكْمَلِ وَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ خِلَافِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. وَالرَّمَلُ هَزُّ الْكَتِفَيْنِ كَالتَّبَخْتُرِ، وَسَبَبُهُ إِظْهَارُ الْجَلَدِ لِلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ قَالُوا عَنِ الصَّحَابَةِ: أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ جَلَدًا» وَزَالَ السَّبَبُ وَبَقِيَ الْحُكْمُ إِلَى يَوْمِنَا بِهِ التَّوَارُثُ ; وَاسْتِلَامُ الْحَجَرِ أَوَّلُ الطَّوَافِ وَآخِرُهُ سُنَّةٌ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا أَدَبٌ ; وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَلَا يُقَبِّلُهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَلَا يُقَبِّلُ بَقِيَّةَ الْأَرْكَانِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ لَا غَيْرُ ; وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ إِذَا بَلَغَ الرَّكْنَ الْعِرَاقِيَّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ، أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ، وَيَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا فَيَصْعَدُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ وَيُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيُهَلِّلُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ، ثُمَّ يَنْحَطُّ نَحْوَ الْمَرْوَةِ عَلَى هِينَتِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْمِيلَ الْأَخْضَرَ سَعَى حَتَى يُجَاوِزَ الْمِيلَ الْآخَرَ، ثُمَّ يَمْشِي إِلَى الْفَرْوَةِ فَيَفْعَلُ كَالصَّفَا وَهَذَا شَوْطٌ، يَسْعَى سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الشِّرْكِ، وَالْكُفْرِ، وَالنِّفَاقِ، وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ. وَعِنْدَ الْمِيزَابِ: اللَّهُمَّ اسْقِنِي بِكَأْسِ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ شَرْبَةً لَا أَظْمَأُ بَعْدَهَا. وَعِنْدَ الرُّكْنِ الشَّامِيِّ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا، وَتِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، بِرَحْمَتِكَ يَا عَزِيزُ يَا غَفُورُ. وَعِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ. قَالَ: (ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الْمَسْجِدِ) وَهِيَ وَاجِبَةٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ» ، وَقِيلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] إِنَّهُ رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ، وَيَقُولُ عَقِيبَهُمَا: اللَّهُمَّ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ النَّارِ، فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (ثُمَّ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَلَمَهُ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ. قَالَ: (وَيَخْرُجُ إِلَى الصَّفَا) مِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ اتِّبَاعًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الصَّفَا، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْيَوْمَ بَابَ الصَّفَا. (فَيَصْعَدُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ وَيُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيُهَلِّلُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ) هَكَذَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ الدُّعَاءَ عَقِيبَ الثَّنَاءِ وَالصَّلَاةِ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ فَيُقَدَّمَانِ عَلَيْهِ. (ثُمَّ يَنْحَطُّ نَحْوَ الْمَرْوَةَ عَلَى هِينَتِهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْمِيلَ الْأَخْضَرَ سَعَى حَتَّى يُجَاوِزَ الْمِيلَ الْآخَرَ، ثُمَّ يَمْشِي إِلَى الْمَرْوَةِ فَيَفْعَلُ كَالصَّفَا) هَكَذَا فَعَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (وَهَذَا شَوْطٌ، يَسْعَى سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ) كَمَا وَصَفْنَا. (يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ) فَالْمَشْيُ مِنَ الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَةِ شَوْطٌ، وَالْعَوْدُ مِنَ الْمَرْوَةِ إِلَى الصَّفَا آخَرُ. وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ الْعَوْدَ لَيْسَ بِشَوْطٍ، وَيُشْتَرَطُ الْبَدَاءَةُ فِي كُلِّ شَوْطٍ بِالصَّفَا وَالْخَتْمُ بِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ الْمَنْقُولُ الْمُتَوَارَثُ، وَلِئَلَّا يَتَخَلَّلَ بَيْنَ كُلِّ شَوْطَيْنِ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ وَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الِاتِّصَالُ كَالطَّوَافِ وَرَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبٌ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيُ فَاسْعَوْا» وَأَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ فَلَا يُوجِبُ الرُّكْنِيَّةَ فَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ، وقَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] يَنْفِي الرُّكْنِيَّةَ أَيْضًا وَالْأَفْضَلُ تَرْكُ السَّعْيِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ عَقِيبَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لِأَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ، وَإِنَّمَا شُرِعَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَطَوَافُ الْقُدُومِ سُنَّةٌ، وَلَا يُجْعَلُ الْوَاجِبُ تَبَعًا لِلسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا رُخِّصَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مَا شَاءَ، ثُّمَ يَخْرُجُ غَدَاةَ التَّرْوِيَةِ إِلَى مِنًى فَيَبِيتُ بِهَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْفَجْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُّمَ يَتَوَجَّهُ إِلَى عَرَفَاتٍ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ تَوَضَّأَ أَوِ اغْتَسَلَ، فَإِنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ يَوْمُ اشْتِغَالٍ بِالذَّبْحِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِهِ، فَرُبَّمَا لَا يَتَفَرَّغُ لِلسَّعْيِ ; وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ خُرُوجِهِ إِلَى الصَّفَا: بِاسْمِ اللَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَأَدْخِلْنِي فِيهَا ; وَيَقُولَ عَلَى الصَّفَا: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَهْلُ التَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، فَلَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ. وَيَسْأَلُ حَوَائِجَهُ ; فَإِذَا نَزَلَ مِنَ الصَّفَا قَالَ: اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِي الْيُسْرَى، وَجَنِّبْنِي الْعُسْرَى، وَاغْفِرْ لِي فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ; وَيَقُولُ فِي السَّعْيِ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ، وَيَسْتَكْثِرُ مِنْ قَوْلِ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ ; وَيَقُولُ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ الصَّفَا. قَالَ: (ثُمَّ يُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مَا شَاءَ) لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ، وُخُصُوصًا لِلْآفَاقِيِّ، وَيُصَلِّي لِكُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْنِ، وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (ثُمَّ يَخْرُجُ غَدَاةَ التَّرْوِيَةِ) وَهُوَ ثَامِنُ ذِي الْحِجَّةِ. (إِلَى مِنًى) فَيَنْزِلُ بِقُرْبِ مَسْجِدِ الْخَيْفِ. (فَيَبِيتُ بِهَا حَتَّى يُصَلِّيَ الْفَجْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ) فَيُصَلِّي بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، هَكَذَا فَعَلَ جِبْرِيلُ بِإِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ الْمَنْقُولُ مَنْ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذِهِ الْبَيْتُوتَةُ سُنَّةٌ، وَلَوْ بَاتَ بِمَكَّةَ وَصَلَّى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ بِهَا جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَا نُسُكَ بِمِنًى هَذَا الْيَوْمَ، وَقَدْ أَسَاءَ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ ; وَيَقُولُ عِنْدَ نُزُولِهِ بِمِنًى: اللَّهُمَّ هَذِهِ مِنًى، وَهِيَ مِمَّا مَنَنْتَ بِهَا عَلَيْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ، فَامْنُنْ عَلَيَّ بِمَا مَنَنْتَ بِهِ عَلَى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. قَالَ: (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى عَرَفَاتٍ) اقْتِدَاءً - بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَدَاءِ فَرْضِ الْوُقُوفِ بِهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَيَنْزِلُ بِهَا حَيْثُ شَاءَ. (فَإِنْ زَالَتِ الشَّمْسُ تَوَضَّأَ وَاغْتَسَلَ) لِأَنَّهُ يَوْمُ جَمْعٍ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْغُسْلُ، وَقِيلَ: هُوَ سُنَّةٌ. (فَإِنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ صَلَّى الظَّهْرَ وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ) فَقَدْ تَوَاتَرَ النَّقْلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا. وَرَوَى جَابِرٌ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَهُوَ أَنْ يُؤَذِّنَ وَيُقِيمَ لِلظُّهْرِ ثُمَّ يُقِيمَ لِلْعَصْرِ لِأَنَّهَا تُؤَدَّى فِي غَيْرِ وَقْتِهَا فَيُقِيمَ إِعْلَامًا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقِمْ رُبَّمَا ظَنُّوا أَنَّهُ يَتَطَوَّعُ فَلَا يَشْرَعُونَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَتَطَوَّعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِأَنَّ الْعَصْرَ إِنَّمَا قُدِّمَتْ لِيُتَفَرَّغَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وَإِنْ صَلَّى وَحْدَهُ صَلَّى كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتِهَا (سم) ، ثُمَّ يَقِفُ رَاكِبًا رَافِعًا يَدَيْهِ بَسْطًا يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَسْأَلُ حَوَائِجَهُ، وَعَرَفَاتُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ عُرْنَةَ، وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنَ الْغَدِ، فَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَتَحَلَّلُ مِنَ الْإِحْرَامِ وَيَقْضِي الْحَجَّ   [الاختيار لتعليل المختار] إِلَى الْوُقُوفِ، فَالتَّطَوُّعُ بَيْنَهُمَا يُخِلُّ بِهِ. قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى وَحْدَهُ صَلَّى كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتِهَا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا الْمُنْفَرِدُ؛ لِأَنَّ جَوَازَهُ لِيَتَفَرَّغَ لِلْوُقُوفِ وَيَمْتَدُّ وَقْتُهُ وَالْكُلُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَدَاءُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، لَكِنْ خَالَفْنَاهُ فِيمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ، وَهُوَ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاتَيْنِ، وَالْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَفِيمَا عَدَاهُ بَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ: (ثُمَّ يَقِفُ رَاكِبًا رَافِعًا يَدَيْهِ بَسْطًا يَحْمَدُ اللَّهَ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَسْأَلُ حَوَائِجَهُ) وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مَعَ الْإِمَامِ فَيَقِفَ بِالْمَوْقِفِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قَرِيبًا مِنْ جَبَلِ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاحَ عَقِيبَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى الْمَوْقِفِ وَوَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو بَاسِطًا يَدَيْهِ كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكِينِ، رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَيُقَدِّمُ الثَّنَاءَ وَالْحَمْدَ وَالصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ وَقَفَ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا جَازَ، وَالْأَوَّلُ أَفْضَلُ، وَيُلَبِّي فِي الْمَوْقِفِ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا زَالَ يُلَبِّي حَتَّى أَتَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ. قَالَ: (وَعَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ عُرْنَةَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَرَفَاتٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرْنَةَ» . (وَوَقْتُ الْوُقُوفِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنَ الْغَدِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَجُّ عَرَفَةُ» فَمَنْ وَقَفَ بِهَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، فَلْيُحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ " وَإِنْ وَقَفَ سَاعَةً بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفَاضَ أَجَزْأَهُ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ وَقَفَ سَاعَةً بِعَرَفَةَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وَلِأَنَّ الرُّكْنَ أَصْلُ الْوُقُوفِ وَامْتِدَادُهُ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبٌ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «امْكُثُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ فَإِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه» أَمَرَ بِالْمُكْثِ وَأَنَّهُ لِلْوُجُوبِ. قَالَ: (فَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ) فِي هَذَا الْوَقْتِ، (فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَيَطُوفُ وَيَسْعَى، وَيَتَحَلَّلُ مِنَ الْإِحْرَامِ، وَيَقْضِي الْحَجَّ) لِمَا رَوَيْنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ كَثِيرَةٌ فِي فَضِيلَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِجَابَةِ الدُّعَاءِ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَجْتَهِدَ فِيهِ بِالدُّعَاءِ، وَتَدْعُوَ بِكُلِّ دُعَاءٍ تَحْفَظُهُ، وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْحِفْظِ فَاقْرَأِ الْمَكْتُوبَ ; وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَقِيبَ صَلَاتِهِ الْفَاتِحَةَ وَالْإِخْلَاصَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَيَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 فإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَفَاضَ مَعَ الْإِمَامِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَيَأْخُذُ الْجِمَارَ مِنَ الطَّرِيقِ سَبْعِينَ حَصَاةً كَالْبَاقِلَّاءِ، وَلَا يُصَلِّي الْمَغْرِبَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ فَيُصَلِّيهَا مَعَ الْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، يَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ، يَا مُنْزِلَ الْبَرَكَاتِ، يَا فَاطِرَ الْأَرَضِينَ وَالسَّمَاوَاتِ، ضَجَّتْ لَكَ الْأَصْوَاتُ بِصُنُوفِ اللُّغَاتِ، تَسْأَلُكَ الْحَاجَاتِ، وَحَاجَتِي أَنْ تَرْحَمَنِي فِي دَارِ الْبَلَاءِ إِذَا نَسِيَنِي أَهْلُ الدُّنْيَا، أَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنِي لِمَا افْتَرَضْتَ عَلَيَّ، وَتُعِينَنِي عَلَى طَاعَتِكَ، وَأَدَاءِ حَقِّكَ، وَقَضَاءِ الْمَنَاسِكِ الَّتِي أَرَيْتَهَا خَلِيلَكَ إِبْرَاهِيمَ، وَدَلَلْتَ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا حَبِيبَكَ ; اللَّهُمَّ لِكُلِّ مُتَضَرِّعٍ إِلَيْكَ إِجَابَةٌ، وَلِكُلِّ مِسْكِينٍ لَدَيْكَ رَأْفَةٌ، وَقَدْ جِئْتُكَ مُتَضَرِّعًا إِلَيْكَ، مِسْكِينًا لَدَيْكَ، فَاقْضِ حَاجَتِي، وَاغْفِرْ ذُنُوبِي، وَلَا تَجْعَلْنِي مِنْ أَخْيَبِ وَفْدِكَ، وَقَدْ قُلْتَ - وَأَنْتَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ -: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وَقَدْ دَعَوْتُكَ مُتَضَرِّعًا سَائِلًا، فَأَجِبْ دُعَائِي وَأَعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ، وَلِوَالِدِيَّ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. قَالَ: (فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ أَفَاضَ مَعَ الْإِمَامِ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ إِذَا صَارَتِ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ مِثْلَ عَمَائِمِ الرِّجَالِ، وَأَنَا أَدْفَعُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مُخَالَفَةً لَهُمْ» وَيَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ، كَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ» وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ غُرُوبِهَا قَبْلَ الْإِفَاضَةِ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ بِهَذَا الْمَوْقِفِ، وَارْزُقْنِيهِ مَا أَبْقَيْتَنِي، وَاجْعَلْنِي الْيَوْمَ مُفْلِحًا مَرْحُومًا مُسْتَجَابًا دُعَائِي، مَغْفُورًا ذُنُوبِي يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ مَعَ الْإِمَامِ، وَلَا يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا تَأَخَّرَ الْإِمَامُ عَنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَيَدْفَعُ النَّاسُ قَبْلَهُ لِدُخُولِ الْوَقْتِ، وَلَوْ مَكَثَ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَإِفَاضَةِ الْإِمَامِ قَلِيلًا خَوْفَ الزَّحْمَةِ جَازَ، هَكَذَا فَعَلَتْ عَائِشَةُ ; وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] . قَالَ: (وَيَأْخُذُ الْجِمَارَ مِنَ الطَّرِيقِ سَبْعِينَ حَصَاةً كَالْبَاقِلَّاءِ وَلَا يُصَلِّي الْمَغْرِبَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ فَيُصَلِّيهَا مَعَ الْعِشَاءِ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ) أَمَّا تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ فَلِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، فَنَزَلَ بِالشِّعْبِ وَقَضَى حَاجَتَهُ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ، فَقَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصَّلَاةَ، فَقَالَ: " الصَّلَاةُ لَيْسَتْ هُنَا الصَّلَاةُ أَمَامَكَ» وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَلِرِوَايَةِ جَابِرٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَ كَذَلِكَ " وَلِأَنَّ الْعِشَاءَ فِي وَقْتِهَا فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِعْلَامِ بِوَقْتِهَا بِخِلَافِ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَلَا يَتَطَّوَعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يَقْطَعُ الْجُمَعَ، فَإِنْ تَطَوَّعَ أَوِ اشْتَغَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وَيَبِيتُ بِهَا، ثُمَّ يُصَلِّي الْفَجْرَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ يَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا وَادِي مُحَسِّرٍ: ; ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَيَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] بِشَيْءٍ آخَرَ أَعَادَ الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِقَامَةِ الْأُولَى، وَلَوْ صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بِعَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُجْزِيهِ لِأَنَّهُ صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا. وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَيَقْضِيهَا مَا لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَا قَضَاءَ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ وَقْتُ الْجَمْعِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْزِلَ بِقُرْبِ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْمِيقَدَةُ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَفَ هُنَاكَ. (وَيَبِيتُ بِهَا) وَهِيَ سُنَّةٌ. قَالَ: (ثُمَّ يُصَلِّي الْفَجْرَ بِغَلَسٍ) كَذَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِيَتَفَرَّغَ لِلْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ. (ثُمَّ يَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) وَيَدْعُو وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ كَمَا مَرَّ بِعَرَفَةَ ; وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ إِذَا نَزَلَ بِهَا: اللَّهُمَّ هَذِهِ مُزْدَلِفَةُ وَجَمْعٌ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَنِي جَوَامِعَ الْخَيْرِ، وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ سَأَلَكَ فَأَعْطَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ، وَتَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ، وَآمَنَ بِكَ فَهَدَيْتَهُ ; وَإِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاتَيْنِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ حَرِّمْ لَحْمِي وَشَعْرِي وَدَمِي وَعَظْمِي وَجَمِيعَ جَوَارِحِي عَلَى النَّارِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى إِرْضَاءَ الْخُصُومِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ ذَلِكَ لِمَنْ طَلَبَهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ ; وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ مَعَ الْإِمَامِ وَيَدْعُو، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَبِّرَ، وَيُهَلِّلَ، وَيُلَبِّيَ وَيَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ خَيْرُ مَطْلُوبٍ، وَخَيْرُ مَرْغُوبٍ إِلَيْهِ، إِلَهِي لِكُلِّ وَفْدٍ جَائِزَةٌ وَقِرًى، فَاجْعَلِ اللَّهُمَّ جَائِزَتِي وَقِرَايَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ تَتَقَبَّلَ تَوْبَتِي، وَتَتَجَاوَزَ عَنْ خَطِيئَتِي، وَتَجْمَعَ عَلَى الْهُدَى أَمْرِي، وَتَجْعَلَ الْيَقِينَ مِنَ الدُّنْيَا هَمِّي، اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي، وَأَجِرْنِي مِنَ النَّارِ، وَأَوْسِعْ عَلَيَّ الرِّزْقَ الْحَلَالَ، اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ بِهَذَا الْمَوْقِفِ، وَارْزُقْنِيهِ أَبَدًا مَا أَحْيَيْتَنِي بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. (وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مُوْقِفٌ إِلَّا وَادِي مُحَسِّرٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا وَادِي مُحَسِّرٍ» . قَالَ: (ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إِلَى مِنًى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) كَذَا فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَمْشِي بِالسَّكِينَةِ، فَإِذَا بَلَغَ بَطْنَ مُحَسِّرٍ أَسْرَعَ مِقْدَارَ رَمْيَةِ حَجَرٍ مَاشِيًا كَانَ أَوْ رَاكِبًا، هَكَذَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (ف) إِذَا وَصَلَ إِلَى مِنًى. (يَبْتَدِئُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَلَا يَقِفْ عِنْدَهَا وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَذْبَحُ إِنْ شَاءَ، ثُمَّ يُقَصِّرُ أَوْ يَحْلِقُ وَهُوَ أَفْضَلُ، وَحَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءً إِلَّا النِّسَاءَ، ثُمَّ يَمْشِي إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهُوَ   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ) لِمَا رَوَى جَابِرٌ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَتَى مِنًى لَمْ يُعَرِّجْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، وَقَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ رَمَاهَا، وَكَبَّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ نَحَرَ، ثُمَّ حَلَقَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَتَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ» وَيَرْمِي مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى، وَيَجْعَلُ مِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَالْكَعْبَةَ عَنْ يَسَارِهِ، وَيَقِفُ حَيْثُ يَرَى مَوْضِعَ الْحَصَاةِ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ. «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ: " ائْتِنِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ " فَأَتَاهُ بِهِنَّ، فَجَعَلَ يَقَلِّبُهُنَّ وَيَقُولُ: " بِمِثْلِهِنَّ بِمِثْلِهِنَّ لَا تَغْلُوا» وَالْخَذْفُ: أَنْ يَضَعَ الْحَصَاةَ عَلَى رَأْسِ السَّبَّابَةِ، وَيَضَعَ إِبْهَامَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَرْمِي بِهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهَا، وَالْمُخْتَارُ قَدْرُ الْبَاقِلَّاءِ، وَلَوْ رَمَى بِحَجَرٍ أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ جَازَ لِحُصُولِ الرَّمْيِ، وَيَقُولُ عِنْدَ الرَّمْيِ: بِسْمِ اللَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، رَغْمًا لِلشَّيْطَانِ وَحِزْبِهِ ; وَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ أَخَذَهُ جَازَ إِلَّا الْحَصَاةَ الْمَرْمِيَّ بِهَا فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّهَا حَصَى مَنْ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَمَنْ قُبِلَ حَجُّهُ رُفِعَ حَصَاهُ» وَلِأَنَّهُ رَمَى بِهِ مَرَّةً فَأَشْبَهَ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ، وَكَيْفَمَا رَمَى جَازَ، وَعَدَدُ حَصَى الْجِمَارِ سَبْعُونَ: جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ سَبْعَةٌ، وَثَلَاثَةٌ أَيَّامَ مِنًى كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثُ جَمَرَاتٍ بِإِحْدَى وَعِشْرِينَ ; وَقَدِ اسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ غَسْلَ الْحَصَى لِيَكُونَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ. قَالَ: (ثُمَّ يَذْبَحُ إِنْ شَاءَ) لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ وَهُوَ مُفْرِدٌ وَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِ. (ثُمَّ يُقَصِّرُ أَوْ يَحْلِقَ وَهُوَ أَفْضَلُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نَرْمِيَ، ثُمَّ نَذْبَحَ، ثُمَّ نَحْلِقَ» وَلِأَنَّ الْحَلْقَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَيُؤَخَّرُ عَنِ الذَّبْحِ. وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَغْفِرُ اللَّهُ لِلْمُحَلِّقِينَ " قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِلْمُقَصِّرِينَ، فَقَالَ: " يَغْفِرُ اللَّهُ لِلْمُحَلِّقِينَ "، قَالَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: " وَلِلْمُقَصِّرِينَ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ أَجْرَى الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ تَشْبِيهًا بِالْحَلْقِ كَالتَّشْبِيهِ بِالصَّوْمِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الصَّوْمِ ; وَالسُّنَّةُ حَلْقُ الْجَمِيعِ فَإِنْ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنَ الرُّبُعِ، وَنَظِيرُهُ مَسْحُ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ فِي الِاخْتِلَافِ وَالدَّلَائِلِ، وَالتَّقْصِيرُ: أَنْ يَأْخُذَ مِنْ رُءُوسِ شَعْرِهِ وَأَقَلُّهُ مِقْدَارُ الْأُنْمُلَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْفِنَ الشَّعْرَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْحَلْقِ: اللَّهُمَّ هَذِهِ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، فَاجْعَلْ لِي بِكُلِّ شَعْرَةٍ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. (وَحَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ: «حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» . قَالَ: (ثُمَّ يَمْشِي إِلَى مَكَّةَ فَيَطُوفُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ مِنْ غَدِهِ أَوْ بَعْدِهِ، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 رُكْنٌ إِنْ تَرَكَهُ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ بَقِيَ مُحْرِمًا حَتَّى يَطُوفَهَا. وَصِفَتُهُ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا رَمَلَ فِيهَا وَلَا سَعْيَ بَعْدَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ لِلْقُدُومِ رَمَلَ وَسَعَى، وَحَلَّ لَهُ النِّسَاءُ، فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ثُمَّ يَقِفُ عِنْدَهَا مَعَ النَّاسِ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] رُكْنٌ إِنْ تَرَكَهُ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ بَقِيَ مُحْرِمًا حَتَّى يَطُوفَهَا. وَصِفَتُهُ: أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَا رَمَلَ فِيهَا وَلَا سَعْيَ بَعْدَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ لِلْقُدُومِ رَمَلَ وَسَعَى وَحَلَّ لَهُ النِّسَاءُ) وَيُسَمَّى أَيْضًا طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَطُوفَهُ أَوَّلَ أَيَّامِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ذَبَحَ وَحَلَقَ وَمَشَى إِلَى مَكَّةَ، فَطَافَ لِلزِّيَارَةِ ثُمَّ عَادَ إِلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ، وَوَقْتُ الطَّوَافِ أَيَّامَ النَّحْرِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، ثُمَّ قَالَ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] جَعَلَ وَقْتَهُمَا وَاحِدًا، فَلَوْ أَخَّرَهُ عَنْهَا لَزِمَهُ شَاةٌ، وَكَذَا إِذَا أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْهَا أَوْ أَخَّرَ الرَّمْيَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ ; وَلَهُ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فْعَلَيْهِ دَمٌ» وَلِأَنَّ مَا هُوَ مُؤَقَّتٌ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْإِحْرَامُ يَجِبُ بِتَأْخِيرِهِ عَنْهُ دَمٌ، فَكَذَا مَا هُوَ مُؤَقَّتٌ بِالزَّمَانِ وَهُوَ رُكْنٌ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29] فَكَانَ فَرْضًا، فَإِنْ تَرَكَهُ أَوْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْهُ بَقِيَ مُحْرِمًا حَتَّى يَطُوفَهَا. أَمَّا إِذَا تَرَكَهُ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ رُكْنٌ. وَأَمَّا إِذَا تَرَكَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَطُفْ أَصْلًا، وَلَا رَمَلَ فِيهِ وَلَا سَعْيَ بَعْدَهُ إِنْ كَانَ أَتَى بِهِمَا فِي طَوَافِ الْقُدُومِ لِأَنَّهُمَا شُرِعَا مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَهُمَا أَتَى بِهِمَا فِي هَذَا الطَّوَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَحَلَّ لَهُ النِّسَاءُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا طُفْتُمْ بِالْبَيْتِ حَلَلْنَ لَكُمْ» وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ الَّتِي عَقَدَ لَهَا الْإِحْرَامَ، وَيَطُوفُ عَلَى قَدَمَيْهِ حَتَّى لَوْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا لِغَيْرِ عُذْرٍ أَعَادَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ ; وَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ إِعَادَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَإِنْ كَانَ بِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - طَافَ رَاكِبًا» مَحْمُولٌ عَلَى الْعُذْرِ حَالَةَ الْكِبَرِ وَكَذَا التَّيَامُنُ وَاجِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الطَّوَافِ عَنْ يَمِينِهِ مِنْ بَابِ الْكَعْبَةِ حَتَّى لَوْ طَافَ مَنْكُوسًا أَوْ أَكْثَرَهُ أَعَادَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ، فَإِذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ عَادَ إِلَى مِنًى فَبَاتَ بِهَا لَيَالِيهَا، وَالْمَبِيتُ بِهَا سُنَّةٌ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ) وَهُوَ حَادِي عَشَرَ الشَّهْرِ وَيُسَمَّى يَوْمَ الْقَرِّ لِأَنَّهُمْ يَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى. (رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ الزَّوَالِ) يَبْتَدِئُ بِالَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ. (يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ثُمَّ يَقِفُ عِنْدَهَا مَعَ النَّاسِ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ) يَرْفَعُ يَدَيْهِ حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ بَسْطًا يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُثْنِي عَلَيْهِ، وَيَهَلِّلُ، وَيُكَبِّرُ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو اللَّهَ بِحَاجَتِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وَكَذَلِكَ يَرْمِيهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنَ النَّحْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِنْ أَقَامَ، وَإِنْ نَفَرَ إِلَى مَكَّةَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ، فَإِذَا نَفَرَ إِلَى مَكَّةَ نَزَلَ بِالْأَبْطَحِ وَلَوْ سَاعَةً، ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ وَيُقِيمُ بِهَا، فَإِذَا أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى أَهْلِهِ طَافَ طَوَافَ الصَّدَرِ، وَهُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لَا رَمَلَ فِيهَا وَلَا سَعْيَ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْآفَاقِيِّ، ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ يَسْتَقِي بِنَفْسِهِ وَيَشْرَبُ إِنْ قَدَرَ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا، وَذَنْبًا مَغْفُورًا، اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضْتُ، وَمِنْ عَذَابِكَ أَشْفَقْتُ، وَإِلَيْكَ رَغِبْتُ، وَمِنْكَ رَهِبْتُ، فَاقْبَلْ نُسُكِي وَعَظِّمْ أَجْرِي وَارْحَمْ تَضَرُّعِي وَاقْبَلْ تَوْبَتِي وَاسْتَجِبْ دَعْوَتِي وَأَعْطِنِي سُؤْلِي، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَيَفْعَلُ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، وَلَوْ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لِلدُّعَاءِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ يَرْمِيهَا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ) كَمَا وَصَفْنَا. (وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ إِنْ أَقَامَ) وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ صِفَةِ الرَّمْيِ وَالْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ مَرْوِيٌّ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: (وَإِنْ نَفَرَ إِلَى مَكَّةَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَقَطَ عَنْهُ رَمْيُ الْيَوْمِ الرَّابِعِ) وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ حَتَّى يَرْمِيَ الْيَوْمَ الرَّابِعَ لِأَنَّهُ أَتَمَّ لِنُسُكِهِ، فَلَوْ رَمَاهَا فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ. وَقَالَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ كَمَا فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَرْكُ الرَّمْيِ أَصْلًا فَلَأَنْ يَجُوزَ تَقْدِيمُهُ أَوْلَى، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ: (فَإِذَا نَفَرَ إِلَى مَكَّةَ نَزَلَ بِالْأَبْطَحِ وَلَوْ سَاعَةً) وَهُوَ الْمُحَصَّبِ وَهُوَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَزَلَ بِهِ قَصَدًا وَهُوَ نُسُكٌ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ وَيُقِيمُ بِهَا) وَيُكْثِرُ فِيهَا مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ كَالطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتِّلَاوَةِ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجْتَنِبُ إِنْشَادَ الشِّعْرِ وَحَدِيثَ الْفُحْشِ وَمَا لَا يَعْنِيهِ، فَفِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ، «أَنَّ الْحَسَنَةَ فِيهِ تُضَاعَفُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ وَكَذَلِكَ السَّيِّئَةُ» ، وَلِهَذَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمُجَاوَرَةَ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَجُوزُ فَيَتَضَاعَفُ عَلَيْهِ الْعِقَابُ بِتَضَاعُفِ السَّيِّئَاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِمَّنْ يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ وَيَمْلِكُهَا عَمَّا لَا يَنْبَغِي مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، فَالْمُجَاوَرَةُ أَفْضَلُ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (فَإِذَا أَرَادَ الْعَوْدَ إِلَى أَهْلِهِ طَافَ طَوَافَ الصَّدَرِ) وَيُسَمَّى طَوَافَ الْوَدَاعِ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنِ الْبَيْتِ وَيُوَدِّعُهُ. (وَهُوَ سَبْعَةُ أَشْوَاطٍ لَا رَمَلَ فِيهَا وَلَا سَعْيَ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْآفَاقِيِّ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِهِ الطَّوَافَ» بِخِلَافِ الْمَكِّيِّ فَإِنَّهُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَلَا يُوَدِّعُهُ. (ثُمَّ يَأْتِي زَمْزَمَ يَسْتَقِي بِنَفْسِهِ وَيَشْرَبُ إِنْ قَدَرَ) فَهُوَ أَفْضَلُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَتَى زَمْزَمَ وَنَزَعَ بِنَفْسِهِ دَلْوًا فَشَرِبَ ثُمَّ أَفْرَغَ مَاءَ الدَّلْوِ عَلَيْهِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ثُمَّ يَأْتِي بَابَ الْكَعْبَةِ وَيُقَبِّلُ الْعَتَبَةَ، ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ، فَيُلْصِقُ بَطْنَهُ بِالْبَيْتِ وَيَضَعُ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَيْهِ وَيَتَشَبَّثُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ وَيَبْكِي وَيَرْجِعُ الْقَهْقَرَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلِ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إِلَى عَرَفَةَ وَوَقَفَ بِهَا سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ، وَمَنِ اجْتَازَ بِعَرَفَةَ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ بِهَا أَجْزَأَهُ عَنِ الْوُقُوفِ. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ، إِلَّا أَنَّهَا تَكْشِفُ وَجْهَهَا دُونَ رَأْسِهَا، وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ، وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى، وَتُقَصِّرُ وَلَا تَحْلِقُ، وَتَلْبَسُ الْمَخِيطَ وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الشُّرْبِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَيَنْظُرَ إِلَى الْبَيْتِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ; وَيَقُولُ فِي الْمَرَّةِ الْأَخِيرَةِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رِزْقًا وَاسِعًا، وَعِلْمًا نَافِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَسِقَمٍ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ; ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ، وَيَصُبُّ عَلَيْهِ إِنْ تَيَسَّرَ لَهُ. (ثُمَّ يَأْتِي بَابَ الْكَعْبَةِ وَيُقَبِّلُ الْعَتَبَةَ) لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّضَرُّعِ. (ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ) وَهُوَ بَيْنَ الْبَابِ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. (فَيُلْصِقُ بَطْنَهُ بِالْبَيْتِ وَيَضَعُ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَيْهِ وَيَتَشَبَّثُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ) كَالْمُتَعَلِّقِ بِطَرَفِ ثَوْبِ مَوْلَاهُ يَسْتَغِيثُهُ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ. (وَيَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ) فَإِنَّهُ مَوْضِعُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ جَاءَ بِهِ الْأَثَرُ. (وَيَبْكِي) أَوْ يَتَبَاكَى فَإِنَّهُ مِنْ عَلَامَاتِ الْقَبُولِ. (وَيَرْجِعُ الْقَهْقَرَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ) لِيَكُونَ نَظَرُهُ إِلَى الْكَعْبَةِ ; وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْوَدَاعِ: اللَّهُمَّ هَذَا بَيْتُكَ الَّذِي جَعَلْتَهُ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالِمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ، اللَّهُمَّ فَكَمَا هَدَيْتَنَا لِذَلِكَ، فَتَقَبَّلْهُ مِنَّا، وَلَا تَجْعَلْهُ آخِرَ الْعَهْدِ مِنْ بَيْتِكَ الْحَرَامِ، وَارْزُقْنِي الْعَوْدَ إِلَيْهِ حَتَّى تَرْضَى عَنِّي بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَدْخُلِ الْمُحْرِمُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إِلَى عَرَفَةَ وَوَقَفَ بِهَا) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. (سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الْقُدُومِ) لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِسَائِرِ أَفْعَالِهِ عَلَى وَجْهِ التَّرْتِيبِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فَلَا يَجِبُ بِتَرْكِهَا شَيْءٌ. قَالَ: (وَمَنِ اجْتَازَ بِعَرَفَةَ نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ لَا يَعْلَمُ بِهَا أَجْزَأَهُ عَنِ الْوُقُوفِ) لِوُجُودِ الرُّكْنِ وَهُوَ الْوُقُوفُ، وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» . قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ) لِأَنَّ النَّصَّ يَعُمُّهُمَا. (إِلَّا أَنَّهَا تَكْشِفُ وَجْهَهَا دُونَ رَأْسِهَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا» . (وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ) خَوْفًا مِنَ الْفِتْنَةِ. (وَلَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى) لِأَنَّ مَبْنَى أَمْرِهَا عَلَى السَّتْرِ، وَفِي ذَلِكَ احْتِمَالُ الْكَشْفِ. (وَتُقَصِّرُ وَلَا تَحْلِقُ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى النِّسَاءَ عَنِ الْحَلْقِ وَأَمَرَهُنَّ بِالتَّقْصِيرِ. (وَتَلْبَسُ الْمَخِيطَ) لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ خَوْفُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ. (وَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 إِذَا كَانَ هُنَاكَ رِجَالٌ، وَلَوْ حَاضَتْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ، إِلَّا أَنَّهَا لَا تَطُوفُ، وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ عَادَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدَرِ. فَصْلٌ الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ، وَهِيَ: الْإِحْرَامُ، وَالطَّوَافُ، وَالسَّعْيُ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَتُكْرَهُ يَوْمَيْ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِذَا كَانَ هُنَاكَ رِجَالٌ) لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ مُمَاسَّتِهِمْ. قَالَ: (وَلَوْ حَاضَتْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ اغْتَسَلَتْ وَأَحْرَمَتْ) لِمَا مَرَّ فِي الرَّجُلِ. (إِلَّا أَنَّهَا لَا تَطُوفُ) لِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ. (وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ عَادَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِطَوَافِ الصَّدَرِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَخَّصَ لِلْحُيَّضِ فِي طَوَافِ الصَّدَرِ. [فَصْلٌ الْعُمْرَةُ] ُ سُنَّةٌ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهَا عَقِيبَ الْفَرَاغِ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُ يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ، وَيَنْفِيَانِ الذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَأَنَّهُ نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ، وَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ الشُّرُوعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِوُجُوبِ الْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، وَلَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى الْوُجُوبِ ابْتِدَاءً. قَالَ: (وَهِيَ الْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ) لِلتَّحْلِيلِ، هَكَذَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ (وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ) لِأَنَّهَا غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ. (وَتُكْرَهُ يَوْمَيْ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ) مَنْقُولٌ عَنْ عَائِشَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ سَمَاعٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بَاقِيَ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَلَوِ اشْتَغَلَ بِالْعُمْرَةِ رُبَّمَا اشْتَغَلَ عَنْهَا فَتَفُوتُ، وَلَوْ أَدَّاهَا فِيهَا جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ كَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ فِي الْأَوْقَاتِ الْخَمْسَةِ الْمَكْرُوهَةِ. (وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطَعَهَا لَمَّا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 بَابُ التَّمَتُّعِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ. وَصِفَتُهُ: أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَطُوفَ وَيَسْعَى، وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ وَقَدْ حَلَّ، ثُمَّ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَقَبْلَهُ أَفْضَلُ، وَيَفْعَلَ كَالْمُفْرِدِ، وَيَرْمُلَ وَيَسْعَى، وَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلَوْ صَامَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُحْرِمٌ جَازَ، وَسَبْعَةً إِذَا فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، فَإِنْ لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا الدَّمُ (ف) ،   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ التَّمَتُّعِ] وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ بِإِحْرَامَيْنِ بِتَقْدِيمِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا، حَتَّى لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَتَى بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ مَتَمَتِّعًا، وَلَوْ طَافَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ أَكْثَرَهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا، وَالْإِلْمَامُ الصَّحِيحُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ حَلَالًا. (وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ) وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ الْمُفْرِدَ يَقَعُ سَفَرُهُ لِلْحَجِّ وَالْمُتَمَتِّعَ لِلْعُمْرَةِ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ سَفَرَ الْمُتَمَتِّعِ يَقَعُ لِلْحَجِّ أَيْضًا، وَتَخَلُّلَ الْعُمْرَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ لِلْحَجِّ كَتَخَلُّلِ التَّنَفُّلِ بَيْنَ السَّعْيِ وَالْجُمُعَةِ، وَلِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَجْمَعُ بَيْنَ نُسُكَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ حَلَالًا، وَيَجِبُ فِيهِ الدَّمُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا كَذَلِكَ الْمُفْرِدُ. (وَصِفَتُهُ: أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَيَطُوفَ وَيَسْعَى) كَمَا بَيَّنَّا. (وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ، وَقَدْ حَلَّ) فَهَذِهِ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (ثُمَّ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ. وَقَبْلَهُ أَفْضَلُ) يَعْنِي مِنَ الْحَرَمِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَكِّيِّ. (وَيَفْعَلُ كَالْمُفْرِدِ) فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ. (وَيَرْمُلُ وَيَسْعَى) لِأَنَّهُ أَوَّلُ طَوَافٍ أَتَى بِهِ. (وَعَلَيْهِ دَمُ التَّمَتُّعِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ آخِرُهَا يَوْمُ عَرَفَةَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وَالْمُرَادُ وَقْتُ الْحَجِّ. (وَلَوْ صَامَهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُحْرِمٌ جَازَ) لِأَنَّهَا فِي وَقْتِ الْحَجِّ. قَالَ: (وَسَبْعَةٌ إِذَا فَرَغَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ) يَعْنِي بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلرُّجُوعِ إِلَى الْأَهْلِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ إِذَا رَجَعْتُمْ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَقَدْ صَامَ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ. وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ قَبْلَ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَزِمَهُ الْهَدْيُ وَبَطَلَ صَوْمُهُ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَهُوَ التَّحَلُّلُ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ صَوْمِ السَّبْعَةِ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا الدَّمُ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَسَاقَ وَفَعَلَ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَفْضَلُ، وَلَا يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ، فَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ حَلَّ مِنَ الْإِحْرَامَيْنِ وَذَبَحَ دَمَ التَّمَتُّعِ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ تَمْتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ، وَإِنْ عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ، وَإِنْ سَاقَ لَمْ يَبْطُلْ (م) .   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا تُقْضَى لِأَنَّهَا بَدَلٌ وَلَا بَدَلَ لِلْبَدَلِ، وَلِأَنَّ الْأَبْدَالَ لَا تُنْصَبُ قِيَاسًا، وَلَا يَجُوزُ صَوْمُهَا أَيَّامَ النَّحْرِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ كَامِلَةً، فَلَا تَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ، وَإِذَا لَمْ يَصُمِ الثَّلَاثَةَ لَمْ يَصُمِ السَّبْعَةَ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ وَجَبَتْ بَدَلًا عَنِ التَّحَلُّلِ، وَقَدْ فَاتَ بِفَوَاتِ الْبَعْضِ فَيَجِبُ الْهَدْيُ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهَدْيِ تَحَلَّلَ وَعَلَيْهِ دَمَانِ: دَمُ التَّمَتُّعِ، وَدَمٌ لِتَحَلُّلِهِ قَبْلَ الْهَدْيِ. قَالَ: (وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَسُوقَ الْهَدْيَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَسَاقَ وَفَعَلَ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَفْضَلُ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَ كَذَلِكَ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْمُسَارَعَةِ وَزِيَادَةِ الْمَشَقَّةِ، فَإِنْ سَاقَ بَدَنَةً قَلَّدَهَا بِمَزَادَةٍ أَوْ نَعْلٍ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَلَّدَ هَدَايَاهُ، وَالْإِشْعَارُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَسَنٌ عِنْدَهُمَا. وَصِفَتُهُ: أَنْ يَشُقَّ سَنَامَهَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ، لَهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَ كَذَلِكَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُثْلَةٌ فَيَكُونُ مَنْسُوخًا لِتَأْخِيرِ الْمُحَرِّمِ ; وَقِيلَ: إِنَّمَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ الْإِشْعَارَ إِذَا جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْجُرْحِ، وَفِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَمْتَنِعُونَ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُ إِلَّا بِالْإِشْعَارِ، أَمَّا الْيَوْمَ فَلَا. قَالَ: (وَلَا يَتَحَلَّلُ مِنْ عُمْرَتِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً، وَمَنْ سَاقَ فَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ مَعَنَا» رَوَتْهُ حَفْصَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. قَالَ: (وَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ) كَمَا تَقَدَّمَ. (فَإِذَا حَلَقَ يَوْمَ النَّحْرِ حَلَّ مِنَ الْإِحْرَامَيْنِ) لِأَنَّهُ مُحَلِّلٌ فَيَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْهُمَا. (وَذَبَحَ دَمَ التَّمَتُّعِ) لِمَا مَرَّ. (وَلَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ تَمَتُّعٌ وَلَا قِرَانٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وَلَوْ خَرَجَ الْمَكِّيُّ إِلَى الْكُوفَةِ وَقَرَنَ صَحَّ وَلَا يَكُونُ لَهُ تَمَتُّعٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَحَلَّلَ مِنَ الْعُمْرَةِ صَارَ مَكِّيًّا، فَيَكُونُ حَجُّهُ مِنْ وَطَنِهِ. قَالَ: (وَإِنْ عَادَ الْمُتَمَتِّعُ إِلَى أَهْلِهِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ بَطَلَ تَمَتُّعُهُ) لِأَنَّهُ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ إِلْمَامًا صَحِيحًا فَانْقَطَعَ حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ. (وَإِنْ سَاقَ لَمْ يَبْطُلْ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَبْطُلُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَتَى بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي سَفْرَتَيْنِ حَقِيقَةً، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ إِلْمَامُهُ لِبَقَاءِ إِحْرَامِهِ، فَكَانَ حُكْمُ السَّفَرِ الْأَوَّلِ بَاقِيًا، وَصَارَ كَأَنَّهُ بِمَكَّةَ فَقَدْ أَتَى بِهِمَا فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ حُكْمًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 بَابُ الْقِرَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ (ف) . وَصِفَتُهُ: أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا مِنَ الْمِيقَاتِ ; وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي، فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ لِلْعُمْرَةِ وَسَعَى، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَطُوفُ لِلْقُدُومِ، فَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ دَمَ الْقِرَانِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ كَالْمُتَمَتِّعِ، وَإِذَا لَمْ يَدْخُلِ الْقَارِنُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إِلَى عَرَفَاتٍ بَطَلَ قِرَانُهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ،   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ الْقِرَانِ] وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ فِي سَفْرَةٍ وَاحِدَةٍ. (وَهُوَ أَفْضَلُ مِنَ التَّمَتُّعِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي وَأَنَا بِالْعَقِيقِ، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلْ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَا آلَ مُحَمَّدٍ، أَهِلُّوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا» وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ لِكَوْنِهِ أَدْوَمَ إِحْرَامًا وَأَسْرَعَ إِلَى الْعِبَادَةِ وَفِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ. (وَصِفَتُهُ: أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مَعًا مِنَ الْمِيقَاتِ) لِأَنَّ الْقِرَانَ يُنْبِئُ عَنِ الْجَمْعِ (وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَيَسِّرْهُمَا لِي وَتَقَبَّلْهُمَا مِنِّي) لِمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَا إِذَا أَدْخَلَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لِتَحَقُّقِ الْجَمْعِ. قَالَ: (فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ لِلْعُمْرَةِ وَسَعَى) عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ. (ثُمَّ يَشْرَعُ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَطُوفُ لِلْقُدُومِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] جَعَلَ الْحَجَّ نِهَايَةً لِلْعُمْرَةِ، وَالتَّرْتِيبُ إِنْ فَاتَ فِي الْإِحْرَامِ لَمْ يَفُتْ فِي حَقِّ الْأَفْعَالِ، فَيَأْتِي بِأَفْعَالِ الْحَجِّ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُفْرِدِ، وَلَا يَحْلِقُ بَعْدَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى إِحْرَامِ الْحَجِّ، وَيَحْلِقُ يَوْمَ النَّحْرِ كَالْمُفْرِدِ. (فَإِذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ دَمَ الْقِرَانِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ كَالْمُتَمَتِّعِ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ طَافَ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَقَدْ أَسَاءَ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ سُنَّةٌ، وَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا، فَتَقَدُّمُهُ عَلَى السَّعْيِ أَوْلَى، وَتَأْخِيرُ السَّعْيِ بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ لَا يُوجِبُ الدَّمَ، فَكَذَا الِاشْتِغَالُ بِالطَّوَافِ. قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَدْخُلِ الْقَارِنُ مَكَّةَ وَتَوَجَّهَ إِلَى عَرَفَاتٍ وَوَقَفَ بِهَا بَطَلَ قِرَانُهُ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ تَقْدِيمِ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ كَمَا هُوَ الْمَشْرُوعُ فِي الْقِرَانِ، وَلَا يَصِيرُ رَافِضًا بِالتَّوَجُّهِ حَتَّى يَقِفَ هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِخِلَافِ مُصَلِّي الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَيْثُ تَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ السَّعْيِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ ثُمَّ بِالسَّعْيِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَهَهُنَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنِ التَّوَجُّهِ إِلَى عَرَفَةَ قَبْلَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَسَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوَفَّقْ لِأَدَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ. بَابُ الْجِنَايَاتِ إِذَا طَيَّبَ الْمُحْرِمُ عُضْوًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] النُّسُكَيْنِ. (وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا) لِأَنَّهُ رَفَضَ إِحْرَامَهُ قَبْلَ أَدَاءِ أَفْعَالِ الْمُتْعَةِ. (وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ) لِشُرُوعِهِ فِيهَا. [بَابُ الْجِنَايَاتِ] ِ (إِذَا طَيَّبَ الْمُحْرِمُ عُضْوًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّ الطِّيبَ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ» وَهُوَ الَّذِي تَرَكَ الطِّيبَ مِنَ التَّفْلِ وَهُوَ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ. وَرُوِيَ: «الْمُحْرِمُ أَشْعَثُ أَغْبَرُ» وَقَدْ «نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ مَا مَسَّهُ وَرْسٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ» ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا فَوْقَهُ مِنَ الطِّيبِ؟ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ الْمُعْتَدَّةِ: «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» فَإِذَا تَطَيَّبَ فَقَدْ جَنَى عَلَى إِحْرَامِهِ فَتَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ طَيَّبَ عُضْوًا كَامِلًا كَالرَّأْسِ وَالسَّاقِ وَنَحْوِهِمَا فَقَدْ حَصَلَ الِارْتِفَاقُ الْكَامِلُ فَتَجِبُ شَاةٌ، وَمَا دُونَ الْعُضْوِ الْجِنَايَةُ قَاصِرَةٌ فَتَجِبُ صَدَقَةٌ وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ صَاعِ بُرٍّ لِأَنَّهُ أَقَلُّ صَدَقَةٍ وَجَبَتْ شَرْعًا كَالْفِدَاءِ وَالْكَفَّارَةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَنَحْوِهَا، وَكُلُّ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ، فَهُوَ طِيبٌ كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَالْحِنَّاءِ وَالْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْعُودِ وَالْغَالِيَةِ وَالْخَيْرِي وَالْبَنَفْسَجِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا الدُّهْنُ الْمُطَيَّبُ، وَهُوَ مَا طُبِخَ فِيهِ الرَّيَاحِينُ كَالْبَنَفْسَجِ وَالْوَرْدِ، وَالْوَسْمَةُ لَيْسَتْ بِطِيبٍ، وَأَمَّا الزَّيْتُ وَالشَّيْرَجُ فَطِيبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِيهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الطِّيبِ وَفِيهِمَا إِزَالَةُ الشَّعَثِ، وَعِنْدَهُمَا فِيهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِزَالَةَ بَعْضِ الشَّعَثِ فَتَجِبُ صَدَقَةٌ. قَالَ: (وَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ أَوْ غَطَّى رَأْسَهُ يَوْمًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ) أَيْضًا لِأَنَّهُمَا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ كَانَ يَوْمًا كَامِلًا فَهُوَ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ أَنْ يُلْبَسَ الثَّوْبُ يَوْمًا ثُمَّ يُنْزَعَ فَتَجِبُ شَاةٌ، وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ صَدَقَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَإِنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَكَذَلِكَ مَوْضِعُ الْمَحَاجِمِ (سم) ، وَفِي حَلْقِ الْإِبِطَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَوِ الرَّقَبَةِ أَوِ الْعَانَةِ شَاةٌ، وَلَوْ قَصَّ أَظَافِرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَوْ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ. وَلَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ أَوْ لِلصَّدَرِ جُنُبًا أَوْ لِلزِّيَارَةِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْإِمَامِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ فَإِنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَإِفَاضَةِ الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ بَعْدَمَا أَفَاضَ الْإِمَامُ أَوْ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يَسْقُطْ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ وَقَدْ مَرَّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ أَكْثَرَ الْيَوْمِ إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا غَطَّى رُبُعَ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ كَالْحَلْقِ، وَأَنَّهُ مُعْتَادُ بَعْضِ النَّاسِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْأَكْثَرُ لِمَا تَقَدَّمَ. قَالَ: (وَإِنْ حَلَقَ رُبُعَ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّ فِيهِ إِزَالَةَ الشَّعَثِ وَالتَّفَلِ فَكَانَ جِنَايَةً عَلَى الْإِحْرَامِ، ثُمَّ الرُّبُعُ قَائِمٌ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الرَّأْسِ وَهُوَ عَادَةُ بَعْضِ النَّاسِ فَكَانَ ارْتِفَاقًا كَامِلًا فَتَجِبُ شَاةٌ. (وَكَذَلِكَ مَوْضِعُ الْمَحَاجِمِ) لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ، وَفِيهِ إِزَالَةُ الشَّعَثِ فَيَجِبُ الدَّمُ، وَقَالَا: فِيهِ صَدَقَةٌ لِأَنَّهُ حَلَقَ لِغَيْرِهِ وَهِيَ الْحِجَامَةُ وَلَيْسَتْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَكَذَا هَذَا إِلَّا أَنَّ فِيهِ إِزَالَةَ شَيْءٍ مِنَ الشَّعَثِ فَتَجِبُ صَدَقَةٌ. قَالَ: (وَفِي حَلْقِ الْإِبِطَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَوِ الرَّقَبَةِ أَوِ الْعَانَةِ شَاةٌ) أَيْضًا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ، وَهُوَ عُضْوٌ كَامِلٌ فَتَجِبُ شَاةٌ. قَالَ: (وَلَوْ قَصَّ أَظَافِرَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ أَوْ وَاحِدَةً مِنْهَا فَعَلَيْهِ شَاةٌ) أَمَّا الْجَمِيعُ فَلِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ تَامٌّ مَقْصُودٌ، وَفِيهِ إِزَالَةُ الشَّعَثِ فَكَانَ مَحْظُورًا إِحْرَامُهُ فَتَجِبُ شَاةٌ، وَكَذَا أَحَدُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ كَامِلٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي الْكُلِّ دَمٌ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ، وَهَذَا إِذَا قَصَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ فِي مَجَالِسَ يَجِبُ بِكُلِّ عُضْوٍ دَمٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجِبُ فِي الْكُلِّ دَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ فَتَتَدَاخَلُ. وَلَنَا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا تَتَدَاخَلُ إِلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ. قَالَ: (وَلَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ أَوْ لِلصَّدَرِ جُنُبًا أَوْ لِلزِّيَارَةِ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّقْصَ فِي الرُّكْنِ وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَتَجِبُ الشَّاةُ، وَفِي الطَّوَافَيْنِ وَجَبَتِ الشَّاةُ فِي الْجَنَابَةِ إِظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ وَإِنْ كَانَ سُنَّةً فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِالشُّرُوعِ وَاجِبًا، وَلَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ جُنُبًا أَوْ مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّهُ رُكْنٌ فِيهَا، وَإِنَّمَا لَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ لِعَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ ; وَالْحَائِضُ كَالْجُنُبِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَلَوْ أَعَادَ هَذِهِ الْأَطْوِفَةَ عَلَى طَهَارَةٍ سَقَطَ الدَّمُ لِأَنَّهُ أَتَى بِهَا عَلَى وَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَصَارَتْ جِنَايَتُهُ مُتَدَارَكَةً فَسَقَطَ الدَّمُ. قَالَ: (وَإِنْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ الْإِمَامِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) إِمَّا لِأَنَّ امْتِدَادَ الْوُقُوفِ إِلَى الْغُرُوبِ وَاجِبٌ لِمَا تَقَدَّمَ، أَوْ لِأَنَّ مُتَابَعَةَ الْإِمَامِ وَاجِبَةٌ وَقَدْ تَرَكَهُمَا فَتَجِبُ شَاةٌ. (فَإِنْ عَادَ إِلَى عَرَفَةَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَإِفَاضَةِ الْإِمَامِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ) لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ. (وَإِنْ عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ بَعْدَمَا أَفَاضَ الْإِمَامُ أَوْ بَعْدَ الْغُرُوبِ لَمْ يَسْقُطْ) لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْ مَا فَاتَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وَإِنْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ طَوَافَ الصَّدَرِ أَوْ أَرْبَعَةً مِنْهُ، أَوِ السَّعْيَ أَوِ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ وَعَوْرَتُهُ مَكْشُوفَةٌ أَعَادَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ كُلِّهَا أَوْ يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ تَرَكَ أَقَلَّهَا تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ، وَإِنْ حَلَقَ أَقَلَّ مِنْ رُبْعِ رَأْسِهِ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ صَاعِ بُرٍّ، وَكَذَا إِنْ قَصَّ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَظَافِرَ، وَكَذَلِكَ إِنْ قَصَّ خَمْسَةً مُتَفَرِّقَةً (م) ، وَلَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ أَوْ لِلصَّدَرِ مُحْدِثًا فَكَذَلِكَ، وَإِنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِنْ تَرَكَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَمَا دُونَهَا، أَوْ طَوَافَ الصَّدَرِ أَوْ أَرْبَعَةً مِنْهُ، أَوِ السَّعْيَ أَوِ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) أَمَّا الثَّلَاثَةُ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَلِأَنَّهُ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَاقِي فَصَارَ كَالْحَدَثِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَنَابَةِ. (وَإِنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ وَعَوْرَتُهُ مَكْشُوفَةٌ أَعَادَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» وَإِنْ كَانَ عَلَى ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ. وَأَمَّا تَرْكُ طَوَافِ الصَّدَرِ أَوْ أَرْبَعَةٍ مِنْهُ فَلِتَرْكِهِ الْوَاجِبَ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَيُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ مَا دَامَ بِمَكَّةَ وَيَسْقُطُ الدَّمُ، وَكَذَا السَّعْيُ وَالْوُقُوفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ لِأَنَّهُمَا وَاجِبَانِ. قَالَ: (وَلَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ كُلِّهَا أَوْ يَوْمٍ وَاحِدٍ، أَوْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَهَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ وَاجِبًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ تَغْرُبِ الشَّمْسُ يَرْمِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ، لَكِنْ يَجِبُ الدَّمُ لِتَأْخِيرِهَا عِنْدَهُ، خِلَافًا لَهُمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَتَرْكُ رَمْيِ يَوْمٍ وَاحِدٍ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ، وَكَذَا جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ فَتَجِبُ شَاةٌ. (وَإِنْ تَرَكَ أَقَلَّهَا تَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ نِصْفَ صَاعِ بُرٍّ) إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ قِيمَتُهُ شَاةً فَيُنْقِصَهُ مَا شَاءَ. قَالَ: (وَإِنْ حَلَقَ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ رَأْسِهِ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ صَاعِ بُرٍّ) لِأَنَّ الرُّبُعَ مَقْصُودٌ مُعْتَادٌ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ كَالسَّوَادِ وَالْبَادِيَةِ، فَكَانَ ارْتِفَاقًا كَامِلًا، وَمَا دُونَهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ. (وَكَذَا إِنْ قَصَّ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَظَافِرَ) لِأَنَّهُ لَا يُحَصِّلُ بِذَلِكَ الزِّينَةَ بَلْ يُشِينُهُ وَيُؤْذِيهِ إِذَا حَكَّ جَسَدَهُ، وَيَجِبُ فِي كُلِّ ظُفْرٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ، إِلَّا أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةَ دَمٍ فَيُنْقِصُ مَا شَاءَ. (وَكَذَلِكَ إِنْ قَصَّ خَمْسَةً مُتَفَرِّقَةً) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ دَمٌ كَمَا إِذَا كَانَتْ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ. وَلَنَا أَنَّ الْجِنَايَةَ تَتَكَامَلُ بِالِارْتِفَاقِ الْكَامِلِ وَبِالزِّينَةِ، وَهَذَا الْقَصُّ يُشِينُهُ وَيُؤْذِيهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَالْجِنَايَةُ إِذَا نَقَصَتْ تَجِبُ الصَّدَقَةُ. قَالَ: (وَلَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ أَوْ لِلصَّدَرِ مُحْدِثًا فَكَذَلِكَ) إِظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ، وَذَلِكَ بِإِيجَابِ الصَّدَقَةِ، فَكَذَا لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ مِنَ الصَّدَرِ لِنُقْصَانِهِ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً عَنِ الْكُلِّ فَتَجِبُ الصَّدَقَةُ. قَالَ: (وَإِنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ، وَإِنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ حَلَقَ لِعُذْرٍ إِنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعٍ مِنْ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَمَنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَيَمْضِي فِي حَجِّهِ وَيَقْضِيهِ، وَلَا يُفَارِقُ امْرَأَتَهُ إِذَا قَضَى الْحَجَّ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ) لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ جَبْرُ نُقْصَانِ الْحَدَثِ بِالشَّاةِ وَجَبَ جَبْرُ نُقْصَانِ الْجَنَابَةِ بِالْبَدَنَةِ، لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فَتَعْظُمُ الْعُقُوبَةُ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُعِيدَهُ لِيَأْتِيَ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَإِنْ أَعَادَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ فِي وَقْتِهِ. قَالَ: (وَإِنْ تَطَيَّبَ أَوْ لَبِسَ أَوْ حَلَقَ لِعُذْرٍ إِنْ شَاءَ ذَبَحَ شَاةً، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِثَلَاثَةِ أَصْوُعٍ مِنْ طَعَامٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] تَقْدِيرُهُ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ، وَقَدْ فَسَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ يُجْزِئُ فِي أَيِّ مَكَانٍ شَاءَ لِأَنَّهُمَا قُرْبَةٌ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ عَلَى جَمِيعِ الْفُقَرَاءِ. وَأَمَّا الذَّبْحُ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْحَرَمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ قُرْبَةً إِلَّا فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَانٍ مَخْصُوصٍ وَكَذَا كُلُّ دَمٍ وَجَبَ فِي الْحَجِّ جِنَايَةً أَوْ نُسُكًا. قَالَ: (وَمَنْ جَامَعَ فِي أَحَدِ السَّبِيلَيْنِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَيَمْضِي فِي حَجِّهِ وَيَقْضِيهِ) وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَتْ مُحْرِمَةً. أَمَّا فَسَادُ الْحَجِّ فَلِوُجُودِ الْمُنَافِي، قَالَ تَعَالَى: {فَلا رَفَثَ} [البقرة: 197] وَهُوَ الْجِمَاعُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحْرِمُ إِذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ شَاةُ، وَمِثْلُهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا تَوْقِيفًا، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ إِحْرَامًا غَيْرَ مُتَأَكَّدٍ حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ الْفَوَاتُ فَيَفْسُدُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ لِأَنَّهُ تَأَكَّدَ حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ الْفَوَاتُ. أَمَّا وُجُوبُ الشَّاةِ وَالْمُضِيِّ وَالْقَضَاءِ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمَّنْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ؟ قَالَ: " يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَيَحُجَّانِ مِنْ قَابِلٍ» . (وَلَا يُفَارِقُ امْرَأَتَهُ إِذَا قَضَى الْحَجَّ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَذْكُرِ الْمُفَارَقَةَ لَمَّا سُئِلَ عَنْهَا، وَلَوْ وَجَبَ لَذَكَرَهُ كَغَيْرِهِ تَنْبِيهًا عَلَى الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ، وَلَا مُوجِبَ لِلْمُفَارَقَةِ ; أَمَّا قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَلِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ جِمَاعُهَا فَلَا مَعْنَى لِلْمُفَارَقَةِ ; وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّهُمَا إِذَا ذَكَرَا مَا وَجَدَا مِنَ التَّعَبِ وَزِيَادَةَ النَّفَقَةِ يَحْتَرِزَانِ عَنْ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَكَذَا فِي مَوْضِعِ الْجِمَاعِ حَتَّى لَوْ خَافَ الْعَوْدَ يُسْتَحَبُّ لَهُمَا الْمُفَارَقَةُ. قَالَ: (وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ لَمْ يَفْسُدْ حَجُّهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ وَقَفَ بِعَرْفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» . قَالَ: (وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ) مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ عَلِمْنَا أَنَّهُ شُرِعَ لِجَبْرِ نَقْصِ تَمَكُّنٍ فِي الْحَجِّ، وَالنُّقْصَانُ فِي الْجِمَاعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ، أَوْ قَبَّلَ، أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَمَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ طَوَافِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ فَسَدَتْ، وَيَمْضِي فِيهَا وَيَقْضِيهَا وَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَإِنْ جَامَعَ فِيهَا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ لَمْ تَفْسُدْ وَعَلَيْهِ شَاةٌ. وَالْعَامِدُ وَالنَّاسِي سَوَاءٌ. فَصْلٌ إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَاحِشٌ وَجِنَايَةٌ غَلِيظَةٌ، فَتُغَلَّظُ الْكَفَّارَةُ فَتَجِبُ بَدَنَةٌ، بِخِلَافَ مَا قَبْلَ الْوُقُوفِ لِأَنَّ الْجَابِرَ ثَمَّ هُوَ الْقَضَاءُ، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الشَّاةُ لِرَفْضِهِ الْإِحْرَامَ قَبْلَ أَوَانِهِ فَافْتَرَقَا، وَإِنْ جَامَعَ ثَانِيًا بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَادَفَ إِحْرَامًا مُتَأَكَّدًا مُحْتَرَمًا، وَالثَّانِي صَادَفَ إِحْرَامًا مُنْخَرِمًا مُنْهَتِكًا بِالْوَطْءِ فَخَفَّتِ الْجِنَايَةُ. قَالَ: (وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ، أَوْ قَبَّلَ، أَوْ لَمَسَ بِشَهْوَةٍ فَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَسَوَاءٌ أَنَزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ ; وَكَذَا إِذَا جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَكَذَا إِذَا جَامَعَ بَهِيمَةً فَأَنْزَلَ، أَوْ عَبَثَ بِذَكَرِهِ فَأَنْزَلَ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِاللَّمْسِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ وَإِنْ أَنَزَلَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ. قَالَ: (وَمَنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ طَوَافِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ فَسَدَتْ) لِوُجُودِ الْمُنَافِي. (وَيَمْضِي فِيهَا وَيَقْضِيهَا) لِأَنَّهَا لَزِمَتْ بِالْإِحْرَامِ كَالْحَجِّ. (وَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ، وَهُوَ الِارْتِفَاقُ الْكَامِلُ عَلَى إِحْرَامِهِ. (وَإِنْ جَامَعَ فِيهَا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ لَمْ تَفْسَدْ) لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ. (وَعَلَيْهِ شَاةٌ) لِأَنَّهَا سُنَّةٌ. فَتَكُونُ الْجِنَايَةُ أَنْقَصَ، فَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ فِي الْكَفَّارَةِ ; وَلَوْ جَامَعَ الْقَارِنُ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ وَحَجَّتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَيْهِ شَاتَانِ لِجِنَايَتِهِ عَلَى إِحْرَامَيْنِ ; وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ أَكْثَرِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ وَفَسَدَ حَجُّهُ لِمَا بَيَّنَا ; وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ قَبْلَ الْحَلْقِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِلْحَجِّ وَشَاةٌ لِلْعُمْرَةِ كَمَا لَوِ انْفَرَدَا. قَالَ: (وَالْعَامِدُ وَالنَّاسِي سَوَاءٌ) لِأَنَّ حَالَاتِ الْإِحْرَامِ مُذَكِّرَةٌ كَحَالَاتِ الصَّلَاةِ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ، كَذَلِكَ إِذَا جُومِعَتِ النَّائِمَةُ وَالْمُكْرَهَةُ لِوُجُودِ الِارْتِفَاقِ بِالْجِمَاعِ. [فَصْلٌ الصَّيْدُ حَالَ الْإِحْرَامَ] فَصْلٌ (إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا أَوْ دَلَّ عَلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] وَالصَّيْدُ: هُوَ الْحَيَوَانُ الْمُتَوَحِّشُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، الْمُمْتَنِعُ بِجَنَاحَيْهِ أَوْ بِقَوَائِمِهِ، إِلَّا الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ الْمُسْتَثْنَاةَ بِالْحَدِيثِ فَإِنَّهَا تَبْدَأُ بِالْأَذَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وَالْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ وَالنَّاسِي وَالْعَامِدُ سَوَاءٌ. وَالْجَزَاءُ أَنْ يُقَوِّمَ الصَّيْدَ عَدْلَانِ فِي مَكَانِ الصَّيْدِ، أَوْ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ ثُمَّ إِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ هَدْيًا فَذَبَحَهُ، وَإِنْ شَاءَ طَعَامًا فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، فَإِنْ فَضَلَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ إِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ يَوْمًا   [الاختيار لتعليل المختار] فِيهَا، وَصَيْدُ الْبَرِّ مَا كَانَ تَوَالُدُهُ فِي الْبَرِّ. أَمَّا الْجَزَاءُ عَلَى الْقَاتِلِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] أَوْجَبَ الْجَزَاءَ عَلَى الْقَاتِلِ. وَأَمَّا الدَّالُّ فَلِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى الصَّيْدِ الْأَمْنَ لِأَنَّ بَقَاءَ حَيَاةِ الصَّيْدِ بِأَمْنِهِ، فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ الْأَمْنَ إِمَّا بِالْإِحْرَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] أَوْ بِدُخُولِهِ الْحَرَمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] فَإِذَا دَلَّ عَلَيْهِ فَقَدْ فَوَّتَ الْأَمْنَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ فَيَجِبُ الْجَزَاءُ كَالْمُبَاشِرِ، وَلِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ. وَالدَّلَالَةُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِهِ، وَيُصَدِّقَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ عَالِمًا بِهِ، أَوْ كَذَّبَهُ وَدَلَّهُ آخَرُ فَصَدَّقَهُ فَالْجَزَاءُ عَلَى الثَّانِي، وَلَوْ أَعَارَهُ سِكِّينًا لِيَقْتُلَ الصَّيْدَ إِنْ كَانَ مَعَهُ سِكِّينٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَتْلِهِ لَا بِالْإِعَارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِكِّينٌ فَعَلَى الْمُعِيرِ الْجَزَاءُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ بِإِعَارَتِهِ. (وَالْمُبْتَدِئُ وَالْعَائِدُ وَالنَّاسِي وَالْعَامِدُ سَوَاءٌ) لِوُجُودِ الْجِنَايَةِ مِنْهُمْ وَهُوَ الْمُوجِبُ. قَالَ: (وَالْجَزَاءُ أَنْ يُقَوِّمَ الصَّيْدَ عَدْلَانِ فِي مَكَانِ الصَّيْدِ، أَوْ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ هَدْيًا فَذَبَحَهُ، وَإِنْ شَاءَ طَعَامًا فَتَصَدَّقَ بِهِ، عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، فَإِنْ فَضَلَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ، إِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ يَوْمًا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . وَالْأَصْلُ فِي الْمِثْلِ أَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا صُورَةً وَمَعْنًى، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا اعْتِبَارَ لِلْمِثْلِ صُورَةً؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ خَرَجَ عَنِ الْإِرَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ كَالْعُصْفُورِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَبْقَى الْبَاقِي مُرَادًا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ كَمَا فِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ، وَكَمَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالْجَزَاءِ الْقِيمَةُ يُقَوِّمُ الْعَدْلَانِ اللَّحْمَ لَا الْحَيَوَانَ فِي مَكَانِ الصَّيْدِ إِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ فِيهِ الصُّيُودُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُبَاعُ فِيهِ كَالْبَرِيَّةِ فَفِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْهُ، ثُمَّ الْخِيَارُ لِلْقَاتِلِ إِنْ شَاءَ اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ هَدْيًا، وَهُوَ مَا تَجُوزُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ذَلِكَ، وَيَذْبَحُهُ بِمَكَّةَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ مَا تَجُوزُ بِهِ الْأُضْحِيَّةُ لَا يَذْبَحْهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ ; وَقَالَا: يَذْبَحُهُ لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَلِأَنَّهُ يَتَقَرَّبُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا وَلَدَتْهُ الْأُضْحِيَّةُ وَالْهَدْيُ فَإِنَّهُ يُذْبَحُ مَعَ أُمِّهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى التَّقَرُّبَ بِالْإِرَاقَةِ لِكَوْنِهِ إِيلَامَ الْبَرِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ وَإِنَّمَا خَالَفْنَاهُ فِي مَوَارِدِ النَّصِّ وَهِيَ الْأُضْحِيَّةُ وَالْمُتْعَةُ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا هَذَا فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وَمَنْ جَرَحَ صَيْدًا، أَوْ نَتَفَ شَعْرَهُ، أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ ضَمِنَ مَا نَقَصَهُ، وَإِنْ نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ، أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ صَيْدٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَإِنْ كَسَرَ بَيْضَتَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ;   [الاختيار لتعليل المختار] وَحَيْثُ جَازَ إِنَّمَا جَازَ تَبَعًا وَالْكَلَامُ فِي جَوَازِهِ أَصْلًا، وَإِنْ شَاءَ اشْتَرَى طَعَامًا فَأَطْعَمَ كَمَا ذَكَرْنَا كَمَا فِي الْفِدَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَلَى مَا وَصَفْنَا كَمَا فِي الْفِدَاءِ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ الْقَاتِلُ لِأَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ رِفْقًا بِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ إِذَا كَانَ التَّعْيِينُ إِلَيْهِ وَالْخِيَارُ لَهُ، فَإِنْ فَضَلَ أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ أَوْ كَانَ الْوَاجِبُ، إِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ كُلُّ الْوَاجِبِ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَنْهُ يَوْمًا لِعَدَمِ تَجَزِّي الصَّوْمِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَاجِبُ الْمِثْلُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَالْجُثَّةُ، فَفِي الظَّبْيِ وَالضَّبُعِ شَاةٌ، وَفِي الْأَرْنَبِ عِنَاقٌ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ، وَفِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ، وَمَا لَا نَظِيرَ لَهُ كَالْحَمَامِ وَالْعُصْفُورِ تَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا قَالَا، لَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وَالْمِثْلِيَّةُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ مِثْلًا لِلنَّعَمِ. وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِيجَابُ النَّظِيرِ مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ، وَعِنْدَهُ الْخِيَارُ إِلَى الْحَكَمَيْنِ، فَإِنْ حَكَمَا بِالْهَدْيِ يَجِبُ النَّظِيرُ، وَإِنْ حَكَمَا بِالطَّعَامِ أَوْ بِالصِّيَامِ فَكَمَا قَالَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا} [المائدة: 95] نُصِبَ مَفْعُولُ يَحْكُمُ، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ رَفْعُ عَطْفٍ عَلَى الْجَزَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {أَوْ عَدْلُ} [المائدة: 95] رُفِعَ، وَإِنَّمَا الْحَكَمَانِ يَحْكُمَانِ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَوْ كَانَ النَّظِيرَ لَمَا احْتَاجَ إِلَى تَقْوِيمِهَا، فَعُلِمَ أَنَّ الْحَكَمَيْنِ إِنَّمَا يَحْكُمَانِ بِالْقِيمَةِ ثُمَّ الْخِيَارُ إِلَيْهِ رِفْقًا بِهِ كَمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ قَتَلَ مَا لَا يُؤْكَلُ مِنَ السِّبَاعِ فَفِيهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ صَيْدٌ فَيَتَنَاوَلُهُ إِطْلَاقُ النَّصِّ، وَلَا يَتَجَاوَزُ بِقِيمَتِهِ شَاةً؛ لِأَنَّ السَّبُعَ وَإِنْ كَبُرَ لَا يَتَجَاوَزُ قِيمَةُ لَحْمِهِ قِيمَةَ لَحْمِ شَاةٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا. قَالَ: (وَمَنْ جَرَحَ صَيْدًا أَوْ نَتَفَ شَعْرَهُ، أَوْ قَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ ضَمِنَ مَا نَقَصَهُ) اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. (وَإِنْ نَتَفَ رِيشَ طَائِرٍ أَوْ قَطَعَ قَوَائِمَ صَيْدٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ) لِأَنَّهُ خَرَجَ بِهِ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَقَدْ فَوَّتَ عَلَيْهِ الْأَمْنَ فَصَارَ كَمَا إِذَا قَتَلَهُ، وَكَذَلِكَ كَلُّ فِعْلٍ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ. (وَإِنْ كَسَرَ بَيْضَتَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا) لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَى بِذَلِكَ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَوْ خَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَيًّا؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِعَرَضِيَّةِ الْحَيَاةِ وَقَدْ فَوَّتَهَا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ احْتِيَاطًا. وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَا بَيَّنَّا. وَشَجَرُ الْحَرَمِ لَا يَحِلُّ قَطْعُهُ لِمُحْرِمٍ وَلَا حَلَالٍ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا» فَصَارَ كَالصَّيْدِ، وَشَجَرُ الْحَرَمِ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ، أَمَّا إِذَا أَنْبَتَهُ النَّاسُ أَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَلَا بَأْسَ بِقَطْعِهِ وَقَلْعِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا الزِّرَاعَةَ وَالْحَصْدَ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً أَوْ جَرَادَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ، وَإِنْ ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَهُوَ مَيْتَةً ; وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا اصْطَادَهُ حَلَالٌ إِذَا لَمْ يُعِنْهُ. وَكُلُّ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ فِيهِ دَمٌ عَلَى الْقَارِنِ فِيهِ دَمَانِ. بَابُ الْإِحْصَارِ الْمُحْرِمُ إِذَا أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَدَمِ مَحْرَمٍ أَوْ ضَيَاعِ نَفَقَةٍ يَبْعَثُ شَاةً تُذْبَحُ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ أَوْ ثَمَنَهَا لِيُشْتَرَى بِهَا ثُمَّ يَتَحَلَّلُ،   [الاختيار لتعليل المختار] - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا بَأْسَ بِرَعْيِهِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الدَّوَابِّ مُتَعَذِّرٌ، وَجَوَابُهُ الْحَدِيثُ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِالْمَشَافِرِ كَالْقَطْعِ بِالْمَنَاجِلِ. قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ قَمْلَةً أَوْ جَرَادَةً تَصَدَّقَ بِمَا شَاءَ) قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَلِأَنَّ الْقَمْلَةَ مِنَ التَّفَثِ حَتَّى لَوْ قَتَلَ قَمْلَةً وَجَدَهَا عَلَى الْأَرْضِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْقَمْلَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، وَإِنْ كَثُرَ أَطْعَمَ نِصْفَ صَاعٍ لِكَثْرَةِ الِارْتِفَاقِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْقَمْلَةِ يَتَصَدَّقُ بِكَفٍّ مِنْ طَعَامٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ بِكِسْرَةٍ مِنْ خُبْزٍ. قَالَ: (وَإِنْ ذَبَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَهُوَ مَيْتَةٌ) لِأَنَّهُ فِعْلٌ حَرَامٌ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً. (وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا اصْطَادَهُ حَلَالٌ إِذَا لَمْ يُعِنْهُ) لِمَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ. (وَكُلُّ مَا عَلَى الْمُفْرِدِ فِيهِ دَمٌ عَلَى الْقَارِنِ فِيهِ دَمَانِ) لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى إِحْرَامَيْنِ. [بَابُ الْإِحْصَارِ] هُوَ الْمَنْعُ وَالْحَبْسُ، وَمِنْهُ حِصَارُ الْحُصُونِ وَالْمَعَاقِلِ إِذَا مُنِعُوا عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَقَاصِدِهِمْ وَأُمُورِهِمْ، وَالْحَصُورُ: الْمَمْنُوعُ عَنِ النِّسَاءِ. وَفِي الشَّرْعِ: الْمَنْعُ عَنِ الْمُضِيِّ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ بِمَوَانِعَ نَذْكُرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (الْمُحْرِمُ إِذَا أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَدَمِ مَحْرَمٍ أَوْ ضَيَاعِ نَفَقَةٍ، يَبْعَثُ شَاةً تُذْبَحُ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ ثَمَنَهَا لِيُشْتَرَى بِهَا ثُمَّ يَتَحَلَّلُ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُحْصِرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أَحْرَمُوا مُعْتَمِرِينَ فَصَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، فَصَالَحَهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَذَبَحَ الْهَدْيَ وَتَحَلَّلَ ثُمَّ قَضَى الْعُمْرَةَ مِنْ قَابَلٍ. قَالُوا: وَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةُ، فَكُلُّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ ثُمَّ مُنِعَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَوَانِعِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ إِنَّمَا شُرِعَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ النَّاشِئِ مِنْ بَقَائِهِ مُحْرِمًا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعُمُّ جَمِيعَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَوَانِعِ، وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَاهَا كَضَلَالِ الرَّاحِلَةِ، وَمَنْعِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ إِذَا وَقَعَ الْإِحْرَامُ بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا ; وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْإِحْصَارَ يَخْتَصُّ بِالْعَدُوِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ (سم) . وَالْقَارِنُ يَبْعَثُ شَاتَيْنِ، وَإِذَا تَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ، وَعَلَى الْمُعْتَمِرِ عُمْرَةٌ، فَإِنْ بَعَثَ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ لَمْ يَتَحَلَّلْ وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَحَلَّلَ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَهُوَ مَرْدُودٌ بِالْكِتَابِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: مَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ أَوْ ذَهَابِ نَفَقَةٍ يُقَالُ مِنْهُ أُحْصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ ; وَمَا كَانَ مِنْ حَبْسِ عَدُوٍّ أَوْ سَجْنٍ يُقَالُ حُصِرَ فَهُوَ مَحْصُورٌ ; وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ إِجْمَاعَ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى هَذَا، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حُصِرَ بِالْعَدُوِّ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْمُضِيِّ وَالْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ. وَقَوْلُهُ: (فِي الْحَرَمِ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ خَارِجَ الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَمَحِلُّهُ الْحَرَمُ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ مَا عُرِفَ قُرْبَةً إِلَّا بِمَكَانٍ مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، وَالزَّمَانُ قَدِ انْتَفَى فَتَعَيَّنَ الْمَكَانُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَبْحُهُ حَيْثُ أُحْصِرَ لَكَانَ مَحِلُّهُ فَلَا تَبْقَى فَائِدَةٌ فِي قَوْلِهِ: {حَتَّى يَبْلُغَ} [البقرة: 196] . وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَبَحَ بِالْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أُحْصِرَ بِهَا» ، فَالْحُدَيْبِيَةُ بَعْضُهَا مِنَ الْحَرَمِ، فَيُحْمَلُ ذَبْحُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ تَوْقِيفًا بَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ) وَقَالَا: لَا كَدَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّهُ دَمُ جِنَايَةٍ لِتَحَلُّلِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ وَالْجِنَايَاتُ لَا تَتَوَقَّفُ بِخِلَافِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُمَا دَمُ نُسُكٍ، وَلِأَنَّ التَّأْقِيتَ بِالزَّمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ، فَلَا يَجُوزُ ; وَلَوْ عَجَزَ عَنِ الذَّبْحِ لَا يَتَحَلَّلُ بِالصَّوْمِ وَيَبْقَى مُحْرِمًا حَتَّى يُذْبَحَ عَنْهُ أَوْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَأْتِيَ مَكَّةَ وَيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ صَبَرَ حَتَّى زَالَ الْمَانِعُ وَمَضَى إِلَى مَكَّةَ وَتَحَلَّلَ بِالْأَفْعَالِ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَالْقَارِنُ يَبْعَثُ شَاتَيْنِ) لِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ عَنْ إِحْرَامَيْنِ، وَقَدْ أُدْخِلَ النَّقْصُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. قَالَ: (وَإِذَا تَحَلَّلَ الْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِأَنَّ الْحَجَّةَ تَجِبُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا ; وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ، فَيَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَقَدْ عَجَزَ فَيَجِبُ قَضَاؤُهَا. (وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ) حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا، وَعُمْرَةٌ لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا. (وَعَلَى الْمُعْتَمِرِ عُمْرَةٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابُهُ لَمَّا أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي الْعُمْرَةِ وَتَحَلَّلُوا قَضَوْهَا حَتَّى سُمِّيَتْ عُمْرَةَ الْقَضَاءِ. قَالَ: (فَإِنْ بَعَثَ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى إِدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ لَمْ يَتَحَلَّلْ وَلَزِمَهُ الْمُضِيُّ) لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْخُلْفِ. (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَحَلَّلَ) أَمَّا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْهَدْيِ دُونَ الْحَجِّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمُضِيِّ ; وَأَمَّا بِالْعَكْسِ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ وَيَمْضِي وَيَأْتِي بِأَفْعَالِ الْحَجِّ لِيَأْتِيَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، لَكِنِ اسْتَحْسَنُوا وَجَوَّزُوا لَهُ التَّحَلُّلَ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ عَنِ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَهُوَ مُحْصَرٌ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ. بَابُ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ وَلَا يَجُوزُ إِلَّا عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ عَنِ الْعَاجِزِ بِنَفْسِهِ عَجْزًا مُسْتَمِرًّا إِلَى الْمَوْتِ، وَمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ يَنْوِي الْحَجَّ عَنْهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِدْرَاكِ الْهَدْيِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضْمَنُهُ الذَّابِحُ صَارَ كَأَنَّهُ قَدْ ذَبَحَ فَيَتَحَلَّلُ، وَلِأَنَّ الْخَوْفَ عَلَى الْمَالِ كَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ، وَلَوْ خَافَ عَلَى النَّفْسِ تَحَلَّلَ، فَكَذَا عَلَى الْمَالِ. قَالَ: (وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ عَنِ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَهُوَ مُحْصَرٌ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ) لِأَنَّهُ إِنْ قَدَرَ عَلَى الْوُقُوفِ فَقَدْ أَمِنَ فَوَاتَ الْحَجِّ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الطَّوَافِ يَصْبِرُ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ، ثُمَّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَهْلِ مَكَّةَ إِحْصَارٌ؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ أُحْصِرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. [بَابُ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ] ِ الْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمٍ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِينِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَّا كَانَ يُقْبَلُ مِنْكِ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: " فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَقْبَلَ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الْحَجِّ عَنِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْعَجْزِ، وَأَنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إِلَّا عَنِ الْمَيِّتِ، أَوْ عَنِ الْعَاجِزِ بِنَفْسِهِ عَجْزًا مُسْتَمِرًّا إِلَى الْمَوْتِ) وَلَا يَجُوزُ عَنِ الْقَادِرِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ وَجَبَتْ لِلِابْتِلَاءِ، فَلَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ بِإِتْعَابِ الْبَدَنِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ، فَيَقَعُ الْفِعْلُ عَنِ الْفَاعِلِ إِلَّا أَنَّهُ يُسْقِطُ الْحَجَّ عَنِ الْآمِرِ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْحَجِّ بِالِاتِّفَاقِ، فَأَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ فِي حَقِّ الْمَأْيُوسِ نَظَرًا لَهُ كَالْفِدْيَةِ فِي بَابِ الصَّوْمِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي، وَيُشْتَرَطُ دَوَامُ الْعَجْزِ إِلَى الْمَوْتِ كَالْفِدْيَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَتَى قَدَرَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: يَقَعُ عَنِ الْحَاجِّ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ، وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ. وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: يَسْقُطُ عَنِ الْآمِرِ حَجُّهُ وَيَقَعُ عَنِ الْمَأْمُورِ تَطَوُّعًا، وَالْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وُقُوعُهُ عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ لِمَا رُوِّينَا. قَالَ: (وَمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ يَنْوِي الْحَجَّ عَنْهُ) لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النِّيَّةِ لِامْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ وَهِيَ غَيْرُ مُوَقَّتَةٍ، فَجَازَ أَنْ تَقَعَ عَنْ غَيْرِ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ عَنْ فُلَانٍ، وَيَجُوزُ حَجُّ الصَّرُورَةِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، وَدَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْجِنَايَاتِ عَلَى الْمَأْمُورِ، وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ، وَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ ضَمِنَ النَّفَقَةَ وَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَمَا فَضَلَ مِنَ النَّفَقَةِ يَرُدُّهُ إِلَى الْوَصِيِّ أَوِ الْوَرَثَةِ أَوِ الْآمِرِ، وَمَنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى الْوَسَطِ وَهُوَ رُكُوبُ الزَّامِلَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَجَبَ عَلَيْهِ فَيَنْوِي عَنْهُ لِيَقَعَ عَنِ الْآمِرِ. (وَيَقُولُ: لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ عَنْ فُلَانٍ) وَلَوْ لَمْ يَنْوِ جَازَ لِأَنَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى السَّرَائِرِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ حَجُّ الصَّرُورَةِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ) لِوُجُودِ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَالنِّيَّةِ عَنِ الْآمِرِ كَغَيْرِهِمْ، وَالصَّرُورَةُ: الَّذِي لَمْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَوَّزَ حَجَّ الْخَثْعَمِيَّةِ عَنْ أَبِيهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهَا هَلْ حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَمْ لَا، وَلَوْ كَانَ لَسَأَلَهُ تَعْلِيمًا وَبَيَانًا ; وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ رَجُلًا حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا قَدْ حَجَّ، عَالِمًا بِطَرِيقِ الْحَجِّ وَأَفْعَالِهِ، لِيَقَعَ حَجُّهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَيَخْرُجَ بِهِ عَنِ الْخِلَافِ. قَالَ: (وَدَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالْجِنَايَاتِ عَلَى الْمَأْمُورِ) أَمَّا دَمُ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَلِأَنَّهُ وَجَبَ شُكْرًا حَيْثُ وُفِّقَ لِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ النِّعْمَةُ ; وَأَمَّا دَمُ الْجِنَايَاتِ فَلِأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي. (وَدَمُ الْإِحْصَارِ عَلَى الْآمِرِ) لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي وَرَّطَهُ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ خَلَاصُهُ مِنْهُ، وَإِنْ حَجَّ عَنْ مَيِّتٍ فَفِي مَالِ الْمَيِّتِ. وَيُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ خَلَاصُهُ فَصَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى الْحَاجِّ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِيَتَحَلَّلَ فَيَخْلُصَ عَنْ ضَرَرِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ. وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِيهِ. قَالَ: (وَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ ضَمِنَ النَّفَقَةِ) لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحَجِّ الصَّحِيحِ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَقَدْ خَالَفَ الْأَمْرَ. (وَعَلَيْهِ الدَّمُ) لِأَنَّ الْجِمَاعَ فِعْلُهُ، وَإِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ لِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ هَرَبِ الْمُكَارِي أَوْ مَاتَتِ الدَّابَّةُ، فَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَوَادِرِ ابْنِ سَمَاعَةَ أَنَّ لَهُ نَفَقَةَ ذَهَابِهِ دُونَ إِيَابِهِ. وَفِي قَاضِيخَانَ: لَوْ قُطِعَ الطَّرِيقُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَقَدْ أَنْفَقَ بَعْضَ الْمَالِ فَمَضَى فِي الْحَجِّ وَأَنْفَقَ مِنْ مَالَ نَفْسِهِ وَقَعَ الْحَجُّ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ بَقِيَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَأَنْفَقَ مِنْهُ وَقَعَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَإِنْ رَجَعَ وَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ لَمْ يَضْمَنْ إِذَا رَجَعَ النَّاسُ. قَالَ: (وَمَا فَضَلَ مِنَ النَّفَقَةِ يَرُدُّهُ إِلَى الْوَصِيِّ أَوِ الْوَرَثَةِ أَوِ الْآمِرِ) لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُ لِيَقْضِيَ الْحَجَّ فَمَا فَضَلَ يَرُدُّهُ إِلَى مَالِكِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْهُ عَلَى ذَلِكَ لِيَمْلِكَ الْأُجْرَةَ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِيكَ فِي الْإِجَارَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى الْوَسَطِ وَهُوَ رُكُوبُ الزَّامِلَةِ) لِأَنَّهُ أَعْدَلُ الْأُمُورِ ; وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُوصِ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى إِلَّا بِنَفْسِهِ حَقِيقَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وَيَحُجُّونَ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ، فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغِ النَّفَقَةُ فَمِنْ حَيْثُ تُبَلِّغُ. بَابُ الْهَدْيِ وَهُوَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَلَا يُجْزِئُ مَا دُونَ الثَّنِيِّ   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ حُكْمًا بِالِاسْتِخْلَافِ، وَقَضِيَّةُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ لَوْ حَجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، إِلَّا أَنَّا قُلْنَا: لَوْ حَجَّ الْوَارِثُ عَنْهُ أَوْ أَحَجَّ سَقَطَ عَنْهُ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ. وَلِمَا رُوِيَ «أَنْ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ» . قَالَ: (وَيَحُجُّونَ عَنِ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ) لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ، وَكَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا فَحَجَّ، وَكَذَلِكَ إِذَا مَاتَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ فَأَوْصَى. وَقَالَا: يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ مَاتَ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْمَأْمُورُ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ مَنْزِلِهِ وَعِنْدَهُمَا حَيْثُ بَلَغَ. لَهُمَا أَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ بَلَدِهِ مُعْتَدٌّ بِهِ غَيْرُ سَاقِطٍ بِالِاعْتِبَارِ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] " وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ مَاتَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كُتِبَتْ لَهُ حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ» وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَإِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ لَمَّا لَمْ يَتَّصِلْ بِالْخُرُوجِ لَمْ يَبْقَ وَسِيلَةٌ إِلَيْهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ عَنْ حَجَّتِهِ، وَإِنْ حَصَلَ الثَّوَابُ بِوَعْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. (فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغِ النَّفَقَةُ فَمِنْ حَيْثُ تُبَلِّغُ) اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ سُقُوطُ الْفَرْضِ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ عَلَى الْكَمَالِ فَبِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَإِذَا بَلَغَتِ الْوَصِيَّةُ أَنْ يَحُجَّ رَاكِبًا فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحُجُّوا مُشَاةً، وَإِنْ بَلَغَتْ مَاشِيًا مِنْ بَلَدِهِ وَرَاكِبًا مِنَ الطَّرِيقِ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَحُجُّ رَاكِبًا مِنْ حَيْثُ تَبْلُغُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَوْجَبَ الْحَجَّ رَاكِبًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَيُّهُمَا شَاءَ فَعَلَ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُصُورًا مِنْ وَجْهٍ فَيَتَخَيَّرُ، فَإِنْ رَجَعَ الْمَأْمُورُ وَقَالَ: مُنِعْتُ، وَقَدْ أَنْفَقَ فِي رُجُوعِهِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَكَذَّبَهُ الْوَرَثَةُ أَوِ الْوَصِيُّ ضَمِنَ، إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ لَهُ الظَّاهِرُ بِأَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا، وَإِنِ ادَّعَى الْحَجَّ وَكَذَّبَاهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ لَمْ تُقْبَلْ، فَإِنْ قَامَتْ عَلَى إِقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ قُبِلَتْ وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ غَرِيمٌ فَأَمَرَ أَنْ يَحُجَّ عَنِ الْمَيِّتِ بِمَالِهِ عَلَيْهِ، فَادَّعَى أَنَّهُ حَجَّ لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. [بَابُ الْهَدْيِ] وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إِلَى الْحَرَمِ وَيُذْبَحُ فِيهِ. (وَهُوَ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) اعْتِبَارًا بِالضَّحَايَا " وَسُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ الْهَدْيِ فَقَالَ: «أَدْنَاهُ شَاةٌ» وَأَهْدَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَالْبَقَرَةُ كَالْبَدَنَةِ وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: (وَلَا يُجْزِئُ مَا دُونَ الثَّنِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 إِلَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ، وَلَا يَذْبَحُ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَيَأْكُلُ مِنْهَا، وَيَذْبَحُ بَقِيَّةَ الْهَدَايَا مَتَى شَاءَ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا، وَلَا يَذْبَحُ الْجَمِيعَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ يُحْسِنُ الذَّبْحَ، وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا، وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْقَصَّابِ مِنْهَا، وَلَا تُجْزِئُ الْعَوْرَاءُ، وَلَا الْعَرْجَاءُ الَّتِي لَا تَمْشِي إِلَى الْمَنْسِكِ، وَلَا الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي، وَلَا مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ، وَلَا الْعَمْيَاءُ، وَلَا الَّتِي خُلِقَتْ بِغَيْرِ أُذُنٍ، وَلَا مَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ، وَإِنْ ذَهَبَ الْبَعْضُ إِنْ كَانَ ثُلُثًا فَمَا زَادَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنِ   [الاختيار لتعليل المختار] إِلَّا الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ) لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَيُعْتَبَرُ بِالضَّحَايَا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ضَحُّوا بِالثَّنَايَا إِلَّا أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ، فَاذْبَحُوا الْجَذَعَ مِنَ الضَّأْنِ» . قَالَ: (وَلَا يُذْبَحُ هَدْيُ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ إِلَّا يَوْمَ النَّحْرِ وَيَأْكُلُ مِنْهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] ثُمَّ قَالَ: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] وَذَلِكَ يَكُونُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ذَبَحَ مِنْهَا ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، وَذَبَحَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْبَاقِيَ ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ بَضْعَةٌ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ فَوُضِعَتْ فِي قِدْرٍ ثُمَّ أَكَلَا مَنْ لَحَمِهَا وَحَسَوْا مِنْ مَرَقِهَا» . وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا. قَالَ: (وَيَذْبَحُ بَقِيَّةَ الْهَدَايَا مَتَى شَاءَ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا) لِأَنَّهَا جِنَايَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ فَلَا تَتَوَقَّفُ بِوَقْتٍ، وَمَصْرِفُهَا الْفُقَرَاءُ، وَالْأَوْلَى تَعْجِيلُهَا لِيَنْجَبِرَ مَا حَصَلَ مِنَ النَّقْصِ فِي أَفْعَالِهِ. قَالَ: (وَلَا يَذْبَحُ الْجَمِيعَ إِلَّا فِي الْحَرَمِ) قَالَ تَعَالَى فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وَفِي دَمِ الْإِحْصَارِ: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وَلِأَنَّ الْهَدْيَ مَا عُرِفَ قُرْبَةً إِلَّا فِي مَكَانٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ الْحَرَمُ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ» . قَالَ: (وَالْأَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الذَّبْحَ) لِمَا رُوِّينَا مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِأَنَّهَا قُرْبَةٌ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَفْعَلَهَا بِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ لَا يُحْسِنَ فَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَهَا إِنْ لَمْ يَذْبَحْهَا بِنَفْسِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي ضَحِيَّتَكِ، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا» . قَالَ: (وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا، وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْقَصَّابِ مِنْهَا) بِذَلِكَ أَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: (وَلَا تُجْزِئُ الْعَوْرَاءُ وَلَا الْعَرْجَاءُ الَّتِي لَا تَمْشِي إِلَى الْمَنْسَكِ، وَلَا الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا أَرْبَعَةٌ: الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي» أَيْ لَا نِقْيَ لَهَا وَهُوَ الْمُخُّ. قَالَ: (وَلَا مَقْطُوعَةُ الْأُذُنِ، وَلَا الْعَمْيَاءُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ» أَيْ تَأَمَّلُوا سَلَامَتَهُمَا. (وَلَا الَّتِي خُلِقَتْ بِغَيْرِ أُذُنٍ) لِفَوَاتِ عُضْوٍ كَامِلٍ. (وَلَا مَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَإِنْ ذَهَبَ الْبَعْضُ إِنْ كَانَ ثُلُثًا فَمَا زَادَ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ نَقَصَ عَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الثُّلُثِ يَجُوزُ (سم) ، وَتَجُوزُ الْجَمَّاءُ وَالْخَصِيُّ وَالثَّوْلَاءُ وَالْجَرْبَاءُ، وَلَا يَرْكَبُ الْهَدْيَ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ نَقَصَتْ بِرُكُوبِهِ ضَمِنَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا لَبَنٌ لَمْ يَحْلِبْهَا. وَإِنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ وَعَلَيْهِ بَدَلُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] الثُّلُثِ يَجُوزُ) لِأَنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ بِالنَّصِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: الرُّبُعُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنَ النِّصْفِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ. وَفِي النِّصْفِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ. قَالَ: (وَتَجُوزُ الْجَمَّاءُ وَالْخَصِيُّ وَالثَّوْلَاءُ وَالْجَرْبَاءُ) أَمَّا الْجَمَّاءُ فَلِأَنَّ الْقَرْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودٌ ; وَأَمَّا الْخَصِيُّ «فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ» ، وَلِأَنَّ لَحْمَهُ يَكُونُ أَطْيَبَ ; وَأَمَّا الثَّوْلَاءُ فَالْمُرَادُ الَّتِي تُعْتَلَفُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ لَا تُعْتَلَفُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ ; وَأَمَّا الْجَرْبَاءُ فَلِأَنَّ الْجَرَبَ فِي الْجِلْدِ ; أَمَّا اللَّحْمُ الَّذِي هُوَ مَقْصُودٌ لَا نُقْصَانَ فِيهِ حَتَّى لَوْ هَزُلَتْ بِأَنْ وَصَلَ الْجَرَبُ إِلَى اللَّحْمِ لَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَلَا يُرْكَبُ الْهَدْيُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ) لِأَنَّ فِي رُكُوبِهَا اسْتِهَانَةً بِهَا، وَتَعْظِيمُهَا وَاجِبٌ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] وَالتَّقْوَى وَاجِبٌ فَيَكُونُ التَّعْظِيمُ وَاجِبًا وَحَالَةُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: " ارْكَبْهَا وَيْلَكَ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا بَدَنَةٌ، قَالَ: " ارْكَبْهَا وَيْلَكَ» قَالُوا: كَانَ مَجْهُودًا فَأَمَرَهُ بِالرُّكُوبِ لِلضَّرُورَةِ. (فَإِنْ نَقَصَتْ بِرُكُوبِهِ ضَمِنَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ) لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْئِهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا نَقَصَتْ مِنَ الْحَمْلِ عَلَيْهَا لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ لَهَا لَبَنٌ لَمْ يَحْلِبْهَا) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ قَبْلَ بُلُوغِ الْمَحِلِّ، وَيُنْضَحُ ضَرْعُهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ لِيَذْهَبَ اللَّبَنُ ; قَالُوا: وَهَذَا إِذَا قَرُبَ مِنْ وَقْتِ الذَّبْحِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ بَعِيدًا حَلَبَهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَ الْهَدْيِ، وَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ، وَإِنِ اشْتَرَى هَدْيًا فَوَلَدَ عِنْدَهُ ذَبَحَ الْوَلَدَ مَعَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهِ؛ لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حُكْمَ الْأُمِّ عَلَى مَا عُرِفَ. قَالَ: (وَإِنْ سَاقَ هَدْيًا فَعَطِبَ فِي الطَّرِيقِ، فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ) لِتَعَيُّنِهِ بِالنِّيَّةِ وَقَدْ فَاتَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْبَحَهَا وَيَصْبُغَ نَعْلَهَا: أَيْ قِلَادَتَهَا بِدَمِهَا وَيَضْرِبَ بِهِ صَفْحَةَ سَنَامِهَا، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا هُوَ وَلَا الْأَغْنِيَاءُ، بِذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيَّ، وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ. (وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ) لِأَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ عَمَّا عَيَّنَهُ عَادَ مِلْكًا لَهُ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ. (وَعَلَيْهِ بَدَلُهُ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَاقٍ فِي ذِمَّتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وَيُقَلِّدُ هَدْيَ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ دُونَ غَيْرِهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَيُقَلَّدُ هَدْيُ التَّطَوُّعِ وَالْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ دُونَ غَيْرِهَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَلَّدَ هَدَايَاهُ وَكَانَتْ تَطَوُّعًا، وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ فَيَلِيقُ بِهِ الْإِظْهَارُ، وَالْمُرَادُ بِالْهَدْيِ هُنَا الْبُدْنُ ; أَمَّا الْغَنَمُ فَلَا يُقَلِّدُهَا لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ ; وَأَمَّا بَقِيَّةُ الْهَدَايَا فَلِأَنَّهَا جِنَايَاتٌ، وَاللَّائِقُ فِيهَا السِّتْرُ، وَدَمُ الْإِحْصَارِ وَجَبَ لِلتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ فَكَانَ جِنَايَةً. 1 - فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا جَرَى الرَّسْمُ أَنَّ الْحُجَّاجَ إِذَا فَرَغُوا مِنْ مَنَاسِكِهِمْ وَقَفَلُوا عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَصَدُوا الْمَدِينَةَ زَائِرِينَ قَبْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ هِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْمَنْدُوبَاتِ وَالْمُسْتَحَبَّاتِ، بَلْ تَقْرُبُ مِنْ دَرَجَةِ الْوَاجِبَاتِ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّضَ عَلَيْهَا، وَبَالَغَ فِي النَّدْبِ إِلَيْهَا فَقَالَ: «مَنْ وَجَدَ سِعَةً وَلَمْ يَزُرْنِي فَقَدْ جَفَانِي» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي فَكَأَنَّمَا زَرَانِي فِي حَيَاتِي» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَكْثَرَ النَّاسِ غَافِلِينَ عَنْ آدَابِهَا وَمُسْتَحَبَّاتِهَا، جَاهِلِينَ بِفُرُوعِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، أَحْبَبْتُ أَنْ أَذْكُرَ فِيهَا فَصْلًا عَقِيبَ الْمَنَاسِكِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَذْكُرُ نُبَذًا مِنَ الْآدَابِ فَأَقُولُ: يَنْبَغِي لِمَنْ قَصَدَ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُكْثِرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَبْلُغُهُ وَيَصِلُ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَايَنَ حِيطَانَ الْمَدِينَةِ يُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذَا حَرَمُ نَبِيِّكِ، فَاجْعَلْهُ وِقَايَةً لِي مِنَ النَّارِ، وَأَمَانًا مِنَ الْعَذَابِ، وَسُوءِ الْحِسَابِ، وَيَغْتَسِلُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ إِنْ أَمْكَنَهُ، وَيَتَطَيَّبُ وَيَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى التَّعْظِيمِ، وَيَدْخُلُهَا مُتَوَاضِعًا عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، وَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ ; ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّي عِنْدَ مِنْبَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَكْعَتَيْنِ، يَقِفُ بِحَيْثُ يَكُونُ عَمُودَ الْمِنْبَرِ بِحِذَاءِ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ، فَهُوَ مَوْقِفُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بَيْنَ قَبْرِهِ وَمِنْبَرِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» ثُمَّ يَسْجُدُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا وَفَّقَهُ وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ ; ثُمَّ يَنْهَضُ فَيَتَوَجَّهُ إِلَى قَبْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقِفُ عِنْدَ رَأْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ، يَدْنُو مِنْهُ قَدْرَ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ، وَلَا يَدْنُو مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَضَعُ يَدَهُ عَلَى جِدَارِ التُّرْبَةِ فَهُوَ أَهَيْبُ وَأَعْظَمُ لِلْحُرْمَةِ، وَيَقِفُ كَمَا يَقِفُ فِي الصَّلَاةِ، وَيُمَثِّلُ صُورَتَهُ الْكَرِيمَةَ الْبَهِيَّةَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّهُ نَائِمٌ فِي لَحْدِهِ، عَالِمٌ بِهِ يَسْمَعُ كَلَامَهُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ» وَفِي الْخَبَرِ: «أَنَّهُ وُكِّلَ بِقَبْرِهِ مَلَكٌ يُبَلِّغُهُ سَلَامَ مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِهِ» ، وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا صَفِيَّ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ الرَّحْمَةِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا شَفِيعَ الْأُمَّةِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُزَّمِّلُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُدَّثِّرُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَحْمَدُ، السَّلَامُ عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا، جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ قَوْمِهِ، وَرَسُولًا عَنْ أُمَّتِهِ ; أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ، وَنَصَحْتَ الْأُمَّةَ، وَأَوْضَحْتَ الْحُجَّةَ، وَجَاهَدْتَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَاتَلْتَ عَلَى دِينِ اللَّهِ حَتَّى أَتَاكَ الْيَقِينُ، فَصَلَّى اللَّهُ عَلَى رُوحِكَ وَجَسَدِكَ وَقَبْرِكَ صَلَاةً دَائِمَةً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَحْنُ وَفْدُكَ، وَزُوَّارُ قَبْرِكَ، جِئْنَاكَ مِنْ بِلَادٍ شَاسِعَةٍ، وَنَوَاحٍ بَعِيدَةٍ، قَاصِدِينَ قَضَاءَ حَقِّكَ، وَالنَّظَرَ إِلَى مَآثِرِكَ، وَالتَّيَامُنَ بِزِيَارَتِكَ، وَالِاسْتِشْفَاعَ بِكَ إِلَى رَبِّنَا، فَإِنَّ الْخَطَايَا قَدْ قَصَمَتْ ظُهُورَنَا، وَالْأَوْزَارَ قَدْ أَثْقَلَتْ كَوَاهِلَنَا، وَأَنْتَ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ، الْمَوْعُودُ بِالشَّفَاعَةِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] وَقَدْ جِئْنَاكَ ظَالِمِينَ لِأَنْفُسِنَا، مُسْتَغْفِرِينَ لِذُنُوبِنَا، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، وَأَسْأَلْهُ أَنْ يُمِيتَنَا عَلَى سُنَّتِكَ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَتِكَ، وَأَنْ يُورِدَنَا حَوْضَكَ، وَأَنْ يَسْقِيَنَا كَأْسَكَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَادِمِينَ، الشَّفَاعَةَ الشَّفَاعَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَقُولُهَا ثَلَاثًا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] الْآيَةَ. وَيُبَلِّغُهُ سَلَامَ مَنْ أَوْصَاهُ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، يَسْتَشْفِعُ بِكَ إِلَى رَبِّكِ فَاشْفَعْ لَهُ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ; ثُمَّ يَقِفُ عِنْدَ وَجْهِهِ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ مَا شَاءَ. وَيَتَحَوَّلُ قَدْرَ ذِرَاعٍ حَتَّى يُحَاذِيَ رَأْسَ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ فِي الْغَارِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَفِيقَهُ فِي الْأَسْفَارِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِينَهُ عَلَى الْأَسْرَارِ، جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَازَى إِمَامًا عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ، وَلَقَدْ خَلَفْتَهُ بِأَحْسَنِ خَلَفٍ. وَسَلَكْتَ طَرِيقَهُ وَمِنْهَاجَهُ خَيْرَ مَسْلَكٍ، وَقَاتَلْتَ أَهْلَ الرِّدَّةِ وَالْبِدَعِ، وَمَهَّدْتَ الْإِسْلَامَ، وَوَصَلْتَ الْأَرْحَامَ، وَلَمْ تَزَلْ قَائِلًا الْحَقَّ، نَاصِرًا لِأَهْلِهِ حَتَّى أَتَاكَ الْيَقِينُ، فَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ; اللَّهُمَّ أَمِتْنَا عَلَى حُبِّهِ، وَلَا تُخَيِّبْ سَعْيَنَا فِي زِيَارَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] بِرَحْمَتِكَ يَا كَرِيمُ. ثُمَّ يَتَحَوَّلُ حَتَّى يُحَاذِيَ قَبْرَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُظْهِرَ الْإِسْلَامِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُكَسِّرَ الْأَصْنَامِ، جَزَاكَ اللَّهُ عَنَّا أَفْضَلَ الْجَزَاءِ، وَرَضِيَ عَمَّنِ اسْتَخْلَفَكَ، فَلَقَدْ نَصَرْتَ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَكَفَلْتَ الْأَيْتَامَ، وَوَصَلْتَ الْأَرْحَامَ، وَقَوِيَ بِكَ الْإِسْلَامُ، وَكُنْتَ لِلْمُسْلِمِينَ إِمَامًا مَرْضِيًّا، وَهَادِيًا مَهْدِيًّا، جَمَعْتَ شَمْلَهُمْ، وَأَغْنَيْتَ فَقِيرَهُمْ، وَجَبَرْتَ كَسْرَهُمْ، فَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. ثُمَّ يَرْجِعُ قَدْرَ نِصْفِ ذِرَاعٍ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمَا يَا ضَجِيعَيْ رَسُولِ اللَّهِ وَرَفِيقَيْهِ وَوَزِيرَيْهِ وَمُشِيرَيْهِ وَالْمُعَاوِنَيْنِ لَهُ عَلَى الْقِيَامِ فِي الدِّينِ، وَالْقَائِمَيْنِ بَعْدَهُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، جَزَاكُمَا اللَّهُ أَحْسَنَ جَزَاءٍ، جِئْنَاكُمَا نَتَوَسَّلُ بِكُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لِيَشْفَعَ لَنَا وَيَسْأَلُ رَبَّنَا أَنْ يَقْبَلَ سَعْيَنَا، وَيُحْيِيَنَا عَلَى مِلَّتِهِ، وَيُمِيتَنَا عَلَيْهَا، وَيَحْشُرَنَا فِي زُمْرَتِهِ ; ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِمَنْ أَوْصَاهُ بِالدُّعَاءِ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالْأَوَّلِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64] الْآيَةَ، وَقَدْ جِئْنَاكَ سَامِعِينَ قَوْلَكَ طَائِعِينَ أَمْرَكَ، مُسْتَشْفِعِينَ بِنَبِيِّكَ إِلَيْكَ، رَبَّنَا اغْفَرِ لَنَا وَلِآبَائِنَا وَلِأُمَّهَاتِنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ - الْآيَةَ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة: 201] الْآيَةَ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، وَيَزِيدُ فِي ذَلِكَ مَا شَاءَ وَيَنْقُصُ مَا شَاءَ، وَيَدْعُو بِمَا يَحْضُرُهُ مِنَ الدُّعَاءِ وَيُوَفَّقُ لَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثُمَّ يِأْتِي أُسْطُوَانَةَ أَبِي لُبَابَةَ الَّتِي رَبَطَ نَفْسَهُ فِيهَا حَتَّى تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَهِيَ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَتُوبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ ; ثُمَّ يَأْتِي الرَّوْضَةَ وَهِيَ كَالْحَوْضِ الْمُرَبَّعِ، وَفِيهَا يُصَلِّي أَمَامَ الْمَوْضِعِ الْيَوْمَ، فَيُصَلِّي فِيهَا مَا تَيَسَّرَ لَهُ، وَيَدْعُو وَيُكْثِرُ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالِاسْتِغْفَارِ ; ثُمَّ يَأْتِي الْمِنْبَرَ فَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الرُّمَّانَةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا إِذَا خَطَبَ لِيَنَالَهُ بَرَكَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُصَلِّي عَلَيْهِ وَيَسْأَلُ اللَّهَ مَا شَاءَ، وَيَتَعَوَّذُ بِرَحْمَتِهِ مِنْ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ ; ثُمَّ يَأْتِي الْأُسْطُوَانَةَ الْحَنَّانَةَ، وَهِيَ الَّتِي فِيهَا بَقِيَّةُ الْجِذْعِ الَّذِي حَنَّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ تَرَكَهُ وَخَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَنَزَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاحْتَضَنَهُ فَسَكَنَ، وَيَجْتَهِدُ أَنْ يُحْيِيَ لَيْلَهُ مُدَّةَ مَقَامِهِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّعَاءِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَالْقَبْرِ وَبَيْنَهُمَا سِرًّا وَجَهْرًا; وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ بَعْدَ زِيَارَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَأْتِيَ الْمَشَاهِدَ وَالْمَزَارَاتِ، خُصُوصًا قَبْرَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَيَزُورَ فِي الْبَقِيعِ قُبَّةَ الْعَبَّاسِ وَفِيهَا مَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَزَيْنُ الْعَابِدِينَ وَابْنُهُ مُحَمَّدٌ الْبَاقِرُ وَابْنُهُ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ، وَفِيهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ، وَفِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَمَّتُهُ صَفِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَيُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بِالْبَقِيعِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَزُورَ شُهَدَاءَ أُحُدٍ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَيَقُولَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنَعِمَ عُقْبَى الدَّارِ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَيَقْرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَسُورَةَ الْإِخْلَاصِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ مَسْجِدَ قُبَاءٍ يَوْمَ السَّبْتِ، كَذَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَدْعُوَ: يَا صَرِيخَ الْمُسْتَصْرِخِينَ، يَا غِيَاثَ الْمُسْتَغِيثِينَ، يَا مُفَرِّجَ كَرْبَ الْمَكْرُوبِينَ، يَا مُجِيبَ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّينَ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْشِفْ كَرْبِي وَحُزْنِي كَمَا كَشَفْتَ عَنْ رَسُولِكَ حُزْنَهُ وَكَرْبَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ، يَا كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ، يَا دَائِمَ الْإِحْسَانِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. تَمَّ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ " الِاخْتِيَارُ لِتَعْلِيلِ الْمُخْتَارِ " وَيَلِيهِ: الْجُزْءُ الثَّانِي، وَأَوَّلُهُ: كِتَابُ الْبُيُوعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [حَدِيثٌ شَرِيفٌ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْبُيُوعِ   [الاختيار لتعليل المختار] [كتاب البيوع] [ما ينعقد به البيع] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْبُيُوعِ الْبَيْعُ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْمُبَادَلَةِ، وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ، سَوَاءً كَانَتْ فِي مَالٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] وَقَالَ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ} [البقرة: 175] . وَفِي الشَّرْعِ: مُبَادَلَةُ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ بِالْمَالِ الْمُتَقَوَّمِ تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا، فَإِنْ وُجِدَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِالْمَنَافِعِ فَهُوَ إِجَارَةٌ أَوْ نِكَاحٌ، وَإِنْ وُجِدَ مَجَّانًا فَهُوَ هِبَةٌ، وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ. ثَبَتَتْ شَرْعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَقَالَ: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] . وَأَمَّا السُّنَّةُ «فَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَقَدْ بَاعَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاشْتَرَى مُبَاشَرَةً وَتَوْكِيلًا» ، وَعَلَى شَرْعِيَّتِهِ الْإِجْمَاعُ. وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى شَرْعِيَّتِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْأَعْوَاضِ وَالسِّلَعِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي فِي أَيْدِي بَعْضِهِمْ، وَلَا طَرِيقَ لَهُمْ إِلَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، فَإِنَّ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الطِّبَاعُ مِنَ الشُّحِّ وَالضِّنَةِ وَحُبِّ الْمَالِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إِخْرَاجِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَاحْتَاجُوا إِلَى الْمُعَاوَضَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُشْرَعَ دَفْعًا لِحَاجَتِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِلَفْظَيِ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ وَبِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُمَا وَبِالتَّعَاطِي (ف) وَإِذَا أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَالْآخَرُ إِنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ، وَأَيُّهُمَا قَامَ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لِأَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى الرِّضَا الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ، وَكَذَا مَا كَانَ فِي مَعْنَاهِمَا. وَشَرَطُهُ: أَهْلِيَّةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ مِنْ غَيْرِ أَهْلٍ. وَمَحَلُّهُ: الْمَالُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْهُ شَرْعًا. وَحُكْمُهُ: ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ، وَالْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ إِذَا كَانَ بَاتًّا، وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ إِذَا كَانَ مَوْقُوفًا. قَالَ: (الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِلَفْظَيِ الْمَاضِي كَقَوْلِهِ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ) لِأَنَّهُ إِنْشَاءٌ، وَالشَّرْعُ قَدِ اعْتَبَرَ الْإِخْبَارَ إِنْشَاءً فِي جَمِيعِ الْعُقُودِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْمَاضِيَ إِيجَابٌ وَقَطْعٌ، وَالْمُسْتَقْبَلُ عِدَةٌ أَوْ أَمْرٌ وَتَوْكِيلٌ، فَلِهَذَا انْعَقَدَ بِالْمَاضِي. قَالَ: (وَبِكُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُمَا) كَقَوْلِهِ أَعْطَيْتُكَ بِكَذَا، أَوْ خُذْهُ بِكَذَا، أَوْ مَلَّكْتُكَ بِكَذَا، فَقَالَ: أَخَذْتُ، أَوْ قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ، أَوْ أَمْضَيْتُ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْقَبُولِ وَالرِّضَى، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ بِكَذَا، فَقَالَ الْبَائِعُ: رَضِيتُ، أَوْ أَمْضَيْتُ، أَوْ أَجَزْتُ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (وَبِالتَّعَاطِي) فِي الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ وَالنَّفِيسَةِ، نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا الْمَقْصُودِ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ فِيمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلَا يَنْعَقِدُ فِيمَا لَمْ تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ؛ وَلَوْ قَالَ بِعْنِي، فَقَالَ بِعْتُ، أَوْ قَالَ اشْتَرِ مِنِّي، فَقَالَ اشْتَرَيْتُ، لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ اشْتَرَيْتُ أَوْ بِعْتُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ بِعْنِي وَاشْتَرِ لَيْسَ بِإِيجَابٍ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ، فَإِذَا قَالَ بِعْتُ أَوِ اشْتَرَيْتُ فَقَدْ وُجِدَ شَطْرُ الْعَقْدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْآخَرِ لِيَتِمَّ. وَقِيلَ إِذَا نَوَى الْإِيجَابَ فِي الْحَالِ انْعَقَدَ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَى هَذَا أَبِيعُكَ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ أُعْطِيكَهُ، فَيَقُولُ الْآخَرُ أَشْتَرِيهِ أَوْ أَقْبَلُهُ أَوْ آخُذُهُ إِنْ نَوَى الْأَصَحَّ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: (وَإِذَا أَوْجَبَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فَالْآخَرُ إِنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ) لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ غَيْرُ مُجْبَرٍ فَيَخْتَارُ أَيُّهُمَا شَاءَ، وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ، وَيَمْتَدُّ فِي الْمَجْلِسِ لِلْحَاجَةِ إِلَى التَّفَكُّرِ وَالتَّرَوِّي وَالْمَجْلِسُ جَامِعٌ لِلْمُتَفَرِّقَاتِ، وَيَبْطُلُ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ خِيَارُ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَلِلْمُوجِبِ الرُّجُوعَ لِعَدَمِ إِبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الْقَبُولُ فِي الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ ضَمَّ الرَّدِيءِ إِلَى الْجَيِّدِ فِي الْبَيْعِ لِتَرْوِيجِ الرَّدِيءِ، فَلَوْ صَحَّ التَّفْرِيقُ يَزُولُ الْجَيِّدُ عَنْ مِلْكِهِ فَيَبْقَى الرَّدِيءُ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي يَرْغَبُ فِي الْجَمِيعِ، فَإِذَا فَرَّقَ الْبَائِعُ الصَّفْقَةَ عَلَيْهِ يَتَضَرَّرُ. (وَأَيُّهُمَا قَامَ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ) لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَعَدَمِ الرِّضَا وَلَهُ ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَهُمَا الْبَيْعُ بِلَا خِيَارِ مَجْلِسٍ (ف) ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ مَعْرِفَةً نَافِيَةً لِلْجَهَالَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ، وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فَهُوَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ كَيْلًا وَوَزْنًا وَمُجَازَفَةً؛ وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ الْغَائِبِ كَمَنْ قَالَ: بِعْتُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ فَبَلَغَهُ فَقَبِلَ لَا يَنْعَقِدُ إِلَّا إِذَا كَانَ بِكِتَابَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ، فَيُعْتَبَرُ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَعَلَى هَذَا الْإِجَارَةُ وَالْهِبَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالنِّكَاحُ؛ وَلَوْ تَبَايَعَا وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ إِنْ لَمْ يَفْصِلَا بَيْنَ كَلَامَيْهِمَا بِسَكْتَةٍ انْعَقَدَ الْبَيْعُ، وَإِنْ فَصَلَا لَمْ يَنْعَقِدْ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِالْأَبْدَانِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ: (فَإِذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَزِمَهُمَا الْبَيْعُ بِلَا خِيَارِ مَجْلِسٍ) لِأَنَّ الْعَقْدَ تَمَّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لِوُجُودِ رُكْنِهِ وَشَرَائِطِهِ، فَخِيَارُ أَحَدِهِمَا الْفَسْخَ إِضْرَارٌ بِالْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّهِ، وَالنَّصُّ يَنْفِيهِ؛ وَمَا رُوِيَ مِنَ الْحَدِيثِ مَحْمُولٌ عَلَى خِيَارِ الْقَبُولِ، هَكَذَا قَالَهُ النَّخَعِيُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ " الْمُتَبَايِعَانِ " يَقْتَضِي حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ، وَقَوْلُهُ: " مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " أَيْ بِالْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا. قَالَ: (وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ مَعْرِفَةً نَافِيَةً لِلْجَهَالَةِ) قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا فَيَكْتَفِي بِالْمُبَاشَرَةِ، لِأَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلتَّعْرِيفِ قَاطِعَةٌ لِلْمُنَازَعَةِ. وَإِنْ كَانَ غَائِبًا، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِالْأُنْمُوذَجِ كَالْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَرُؤْيَةُ الْأُنْمُوذَجِ كَرُؤْيَةِ الْجَمِيعِ، إِلَّا أَنْ يَخْتَلِفَ فَيَكُونَ لَهُ خِيَارُ الْعَيْبِ، فَإِنْ كَانَ مَا لَا يُعْرَفُ بِالْأُنْمُوذَجِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَيَذْكُرُ لَهُ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَيَكُونُ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَصِفَتِهِ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ) قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ لِتُعَيِّنَهُ. (وَمَنْ أَطْلَقَ الثَّمَنَ فَهُوَ عَلَى غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ) لِلتَّعَارُفِ. وَلَوْ قَالَ: اشْتَرَيْتُ هَذَا الدَّارَ بِعَشَرَةٍ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ، أَوْ هَذَا الْبِطِّيخَ بِعَشَرَةٍ وَهُوَ فِي بَلَدٍ يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَالْفُلُوسِ، انْصَرَفَ فِي الدَّارِ إِلَى الدَّنَانِيرِ، وَفِي الثَّوْبِ إِلَى الدَّرَاهِمِ، وَفِي الْبِطِّيخِ إِلَى الْفُلُوسِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَامَلُوا بِهَا يَنْصَرِفْ إِلَى الْمُعْتَادِ عِنْدَهُمْ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ كَيْلًا وَوَزْنًا وَمُجَازَفَةً) وَمُرَادُهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» وَلِأَنَّهُ لَا رِبًا إِلَّا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ الزِّيَادَةُ إِلَّا فِيهِ. قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ صُبْرَةَ طَعَامٍ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ فِي قَفِيزٍ وَاحِدٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ جُمْلَةُ قُفْزَانِهَا، إِمَّا بِالتَّسْمِيَةِ أَوْ بِالْكَيْلِ فِي الْمَجْلِسِ. وَقَالَا: يَجُوزُ فِي الْكُلِّ لِأَنَّ زَوَالَ الْجَهَالَةِ بِيَدِهَا وَلَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ. وَلَهُ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إِلَى الْجَمِيعِ لِلْجَهَالَةِ فِي الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيُصْرَفُ إِلَى الْأَقَلِّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 وَمَنْ بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ كُلَّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا (سم ف) ، وَالثِّيَابُ كَالْغَنَمِ، فَإِنْ سَمَّى جُمْلَةَ الْقُفْزَانِ وَالذُّرْعَانِ وَالْغَنَمِ جَازَ فِي الْجَمِيعِ؛ وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ مَفَاتِيحُهَا وَبِنَاؤُهَا فِي الْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الشَّجَرُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ وَيَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ صَلَاحِهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] وَهُوَ الْوَاحِدُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ. فَإِذَا زَالَتِ الْجَهَالَةُ جَازَ فِي الْجَمِيعِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ، وَإِذَا جَازَ الْبَيْعُ فِي الْوَاحِدِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ. قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ قَطِيعَ غَنَمٍ كُلَّ شَاةٍ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَالثِّيَابُ) وَالْمَعْدُودُ التَّفَاوُتُ (كَالْغَنَمِ) وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْكُلِّ لِمَا مَرَّ. وَلَهُ أَنَّ قَضِيَّةَ مَا ذَكَرْنَا الْجَوَازُ فِي وَاحِدٍ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاحِدَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَتَفَاوَتُ فَيُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ فَصَارَ كَالْمَجْهُولِ فَلَا يَجُوزُ. قَالَ: (فَإِنْ سَمَّى جُمْلَةَ الْقُفْزَانِ وَالذُّرْعَانِ وَالْغَنَمِ جَازَ فِي الْجَمِيعِ) لِانْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ. قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ دَارًا دَخَلَ مَفَاتِيحُهَا وَبِنَاؤُهَا فِي الْبَيْعِ) لِأَنَّ الْمَفَاتِيحَ تَبَعٌ لِلْأَبْوَابِ، وَالْأَبْوَابُ مُتَّصِلَةٌ بِالْبِنَاءِ لِلْبَقَاءِ، وَالْبِنَاءُ مُتَّصِلٌ بِالْعَرْصَةِ اتِّصَالَ قَرَارٍ، فَصَارَتْ كَالْجُزْءِ مِنْهَا فَتَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ فَيَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ. (وَكَذَلِكَ الشَّجَرُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ) لِأَنَّ اتِّصَالَهُ كَاتِّصَالِ الْبِنَاءِ بِخِلَافِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ، لِأَنَّ اتِّصَالَهُمَا لَيْسَ لِلْقَرَارِ فَصَارَ كَالْمَتَاعِ، وَيُقَالُ لِلْبَائِعِ: اقْطَعِ الثَّمَرَةَ وَاقْلَعِ الزَّرْعَ وَسَلِّمِ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُشْتَرِي عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْبَيْعِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّفْرِيقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ شَرَطَهُمَا دَخَلَا فِي الْبَيْعِ عَمَلًا بِالشَّرْطِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنِ اشْتَرَى نَخْلًا أَوْ شَجَرًا فِيهِ ثَمَرٌ فَثَمَرَتُهُ لِلْبَائِعِ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ» وَلَوِ اشْتَرَى دَارًا وَذَكَرَ حُدُودَهَا دَخَلَ السُّفْلُ وَالْعُلُوُّ وَالْإِصْطَبْلُ وَالْكَنِيفُ وَالْأَشْجَارُ، لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحُدُودُ، وَأَنَّهُ يَدُورُ عَلَى جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا؛ وَالْبُسْتَانُ إِذَا كَانَ خَارِجَ الدَّارِ إِنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْهَا دَخَلَ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الدَّارِ عُرْفًا، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهَا أَوْ أَكْبَرَ لَا يَدْخُلُ إِلَّا بِالشَّرْطِ لِخُرُوجِهِ عَنِ الْحُدُودِ؛ وَتَدْخُلُ الظُّلَّةُ عِنْدَهُمَا إِذَا كَانَ مَفْتَحُهَا إِلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ تُعَدُّ مِنَ الدَّارِ عُرْفًا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَدْخُلُ، لِأَنَّ أَحَدَ طَرَفَيْهَا عَلَى حَائِطِ الدَّارِ فَيَتْبَعُهَا، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ عَلَى دَارٍ أُخْرَى أَوْ عَلَى أُسْطُوَانَةٍ فَلَا تَتْبَعُهَا، فَلَا تَدْخُلُ بِالشَّكِّ حَتَّى تُذْكَرَ الْحُقُوقُ، وَالظُّلَّةُ: هِيَ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ وَهُوَ السَّابَاطُ، وَيَدْخُلُ الطَّرِيقُ إِلَى السِّكَّةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ. وَلَوِ اشْتَرَى مَنْزِلًا فَوْقَهُ مَنْزِلٌ لَا يَدْخُلُ إِلَّا أَنْ تُذْكَرَ الْحُقُوقُ أَوْ كُلُّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، لِأَنَّ الْمَنْزِلَ اسْمٌ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَرَافِقُ السُّكْنَى. لِأَنَّهُ مِنَ النُّزُولِ وَهُوَ السُّكْنَى، وَالْعُلُوُّ مِثْلُ السُّفْلِ فِي السُّكْنَى مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَيَكُونُ تَبَعًا مِنْ وَجْهٍ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ، فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ دَخَلَ وَإِلَّا فَلَا. وَلَوِ اشْتَرَى بَيْتًا لَا يَدْخُلُ الْعُلُوُّ وَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ حَتَّى يَنُصَّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْبَيْتَ مَا يُبَاتُ فِيهِ، وَعُلُوُّهُ مِثْلُهُ فِي الْبَيْتُوتَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ إِلَّا بِالشَّرْطِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ صَلَاحِهَا) وَالْمُرَادُ إِذَا كَانَتْ يُنْتَفَعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 وَيَجِبُ قَطْعُهَا لِلْحَالِ، وَإِنْ شَرَطَ تَرْكَهَا عَلَى الشَّجَرِ فَسَدَ الْبَيْعُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةً، وَيَسْتَثْنِي مِنْهَا أَرْطَالًا مَعْلُومَةً وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا، وَالْبَاقِلَاءِ فِي قِشْرِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَسِيلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِهَا لِلْأَكْلِ أَوِ الْعَلْفِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوَّمٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ؟ أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُنْتَفَعًا بِهَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوَّمٍ. (وَيَجِبُ قَطْعُهَا لِلْحَالِ) لِيَتَفَرَّغَ مِلْكُ الْبَائِعِ. (وَإِنْ شَرَطَ تَرْكَهَا عَلَى الشَّجَرِ فَسَدَ الْبَيْعُ) لِأَنَّهُ إِعَارَةٌ أَوْ إِجَارَةٌ فِي الْبَيْعِ، فَيَكُونُ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَكَذَا الزَّرْعُ فِي الْأَرْضِ؛ وَإِنْ تَرَكَهَا بِأَمْرِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ جَازَ وَطَابَ الْفَضْلُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ تَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ لِحُصُولِهِ بِأَمْرٍ مَحْظُورٍ؟ وَإِنِ اسْتَأْجَرَ الشَّجَرَ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ، وَبَطَلَتِ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ؛ وَكَذَا إِذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَمَا تَنَاهَى عِظَمُهَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِلْحَالِ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ تَرَكَهَا طَابَ الْفَضْلُ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ وَإِنَّمَا هُوَ تَغَيُّرُ وَصْفٍ؛ فَإِنْ شَرَطَ بَقَاءَهَا عَلَى الشَّجَرِ جَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعِظَمِ لِأَنَّهُ يَزْدَادُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدِ اشْتَرَطَ الْجُزْءَ الْمَعْدُومَ فَلَا يَجُوزُ؛ فَإِنْ خَرَجَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ أَوْ خَرَجَ الْكُلُّ لَكِنَّ بَعْضَهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ وَالْمُتَقَوَّمِ وَغَيْرِ الْمُتَقَوَّمِ فَتَبْقَى حِصَّةُ الْمَوْجُودِ مَجْهُولَةً؛ وَكَانَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحُلْوَانِيُّ وَالْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُخَارِيُّ يُفْتِيَانِ بِجَوَازِهِ فِي الثِّمَارِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَنَحْوِهِمَا، جَعَلَا الْمَعْدُومَ تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ لِلتَّعَامُلِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الْعَادَةِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ الْجَوَازُ فِي بَيْعِ الْوَرْدِ لِأَنَّهُ مُتَلَاحِقٌ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ إِذْ لَا ضَرُورَةَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنَّهُ يَشْتَرِي أُصُولَهَا أَوْ يَشْتَرِي الْمَوْجُودَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَيَحِلُّ لَهُ الْبَائِعُ مَا يُحْدِثُ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا وَأَثْمَرَ ثَمَرًا آخَرَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ أَثْمَرَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ يَشْتَرِكَانِ، وَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي فِي قَدْرِهِ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ. [شروط صحة البيع] قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَةً وَيَسْتَثْنِيَ مِنْهَا أَرْطَالًا مَعْلُومَةً) لِجَهَالَةِ الْبَاقِي، وَقِيلَ: يَجُوزُ لِجَوَازِ بَيْعِهِ ابْتِدَاءً؛ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ ابْتِدَاءً يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ كَبَيْعِ صُبْرَةٍ إِلَّا قَفِيزًا، وَقَفِيزٌ مِنْ صُبْرَةِ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ابْتِدَاءً. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنْبُلِهَا وَالْبَاقِلَاءِ فِي قِشْرِهِ) وَكَذَا السِّمْسِمُ وَالْأُرْزُ وَالْجَوْزُ وَاللَّوْزُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ» ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَعَلَى الْبَائِعِ تَخْلِيصُهُ بِالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ، وَكَذَا قُطْنٌ فِي فِرَاشٍ وَعَلَى الْبَائِعِ فَتْقُهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ. أَمَّا جُذَاذُ الثَّمَرَةِ، وَقَطْعُ الرَّطْبَةِ، وَقَلْعُ الْجُذُورِ وَالْبَصَلِ وَأَمْثَالِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَعْمَلُ فِي مِلْكِهِ وَلِلْعُرْفِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَسِيلِ) لِأَنَّ الطَّرِيقَ مَوْضِعٌ مِنَ الْأَرْضِ مَعْلُومُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ سَلَّمَهُ أَوَّلًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا؟ وَإِنْ بَاعَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ سُلِّمَا مَعًا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ (م) ، وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ (ز) وَالسِّلْعَةِ (ز) وَالْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ، وَيَلْتَحِقُ (ز) بِأَصْلِ الْعَقْدِ؛ وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَجَّلَهُ صَحَّ،   [الاختيار لتعليل المختار] الطُّولِ وَالْعَرْضِ فَيَجُوزُ؛ وَالْمُسِيلُ: مَوْضِعُ جَرَيَانِ الْمَاءِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ. قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ سَلَّمَهُ أَوَّلًا) تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَالثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، فَلِهَذَا اشْتَرَطَ تَسْلِيمَهُ. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا) لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالتَّأْجِيلِ وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْآخَرِ. (وَإِنْ بَاعَ سِلْعَةً بِسِلْعَةٍ أَوْ ثَمَنًا بِثَمَنٍ سُلِّمَا مَعًا) تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ» ، وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَهْلَكُ فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَيَكُونُ غَرَرًا، وَكَذَا كُلُّ مَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ كَبَدَلِ الصُّلْحِ وَالْإِجَارَةِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَمَا لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ لَا غَرَرَ فِيهِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَقِيَاسًا عَلَى الْمَنْقُولِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْعَرْصَةُ، وَهِيَ مَأْمُونَةُ الْهَلَاكِ غَالِبًا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، أَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عُلْوًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ النَّقْلِيُّ، لِأَنَّ الْقَبْضَ الْحَقِيقِيَّ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ وَعَمَلًا بِدَلَائِلِ الْجَوَازِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَالثَّانِي نَافِذٌ وَإِلَّا فَمَوْقُوفٌ كَبَيْعِ الْمَرْهُونِ وَالْإِجَارَةِ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ. وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنَافِعُ، وَهَلَاكُهَا غَيْرُ نَادِرٍ بِهَلَاكِ الْبِنَاءِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِهِ) لِقِيَامِ الْمِلْكِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يَكُونُ فِيهِ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ. قَالَ: (وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةِ، وَالْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ وَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ) وَقَالَ زُفَرُ: هِيَ مُبْتَدَأَةٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكُهُ عِوَضَ مِلْكِهِ فَجَعَلْنَاهُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً. وَلَنَا أَنَّ بِالزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ غَيَّرَا وَصْفَ الْعَقْدِ مِنَ الرِّبْحِ إِلَى الْخُسْرَانِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَهُمَا يَمْلِكَانِ إِبْطَالَهُ فَيَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ، وَلَا بُدَّ فِي الزِّيَادَةِ مِنَ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا قَابِلًا لِلتَّصَرُّفِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَا تَصِحَّ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِهِ، وَيَصِحُّ الْحَطُّ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ وَالزِّيَادَةُ إِثْبَاتٌ، وَلَوْ حَطَّ بَعْضَ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ، وَإِنْ حَطَّ الْجَمِيعَ لَمْ يَلْتَحِقْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الثَّمَنَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَبْطُلُ الْحَطُّ، وَإِذَا صَحَّتِ الزِّيَادَةُ يَصِيرُ لَهَا حِصَّةٌ مِنَ الثَّمَنِ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ، وَلَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَ حِصَّتُهَا مِنَ الثَّمَنِ. قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍ ثُمَّ أَجَّلَهُ صَحَّ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 وَمَنْ مَلَكَ جَارِيَةً يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَدَوَاعِيهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ وَضْعِ حَمْلٍ؛ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ حَقُّهُ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ فَيَمْلِكُ تَأْجِيلَهُ؟ وَكُلُّ دَيْنٍ حَالٍ يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا إِلَّا الْقَرْضَ لِأَنَّهُ صِلَةُ ابْتِدَاءٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَاتِ، وَالتَّأْجِيلُ فِي التَّبَرُّعَاتِ غَيْرُ لَازِمٍ كَالْإِعَارَةِ مُعَاوَضَةَ انْتِهَاءٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ نَسِيئَةً وَأَنَّهُ حَرَامٌ. قَالَ: (وَمَنْ مَلَكَ جَارِيَةً يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَدَوَاعِيهِ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ وَضْعِ حَمْلٍ) وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ: «أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا غَيْرُ الْحَبَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ» نَهْيٌ عَنْ وَطْءِ الْمَمْلُوكَاتِ بِالسَّبْيِ إِلَى غَايَةِ الِاسْتِبْرَاءِ، فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ عِنْدَ تَجَدُّدِ الْمِلْكِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَنَحْوِهَا، وَالشَّهْرُ كَالْحَيْضَةِ عِنْدَ عَدَمِهَا لِمَا عُرِفَ؛ وَإِنْ حَاضَتْ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ انْتَقَلَ إِلَى الْحَيْضَةِ كَمَا فِي الْعِدَّةِ؛ وَالْمُعْتَبَرُ مَا يُوجَدُ بَعْدَ الْقَبْضِ حَتَّى لَوْ حَاضَتْ أَوْ وَضَعَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ، وَكَمَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ يَحْرُمُ دَوَاعِيهِ احْتِرَازًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ كَمَا فِي الْعِدَّةِ، بِخِلَافِ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِلْأَذَى وَلَا أَذًى فِي الدَّوَاعِي؛ وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ يُزَوِّجَهَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا فَالْأَحْسَنُ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا. وَأَمَّا مُمْتَدَّةُ الطُّهْرِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَتَيَقَّنَ بِعَدَمِ الْحَمْلِ، وَرُوِيَ عَنْهُ سَنَتَانِ وَهُوَ الْأَحْوَطُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَعَنْهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشرَةُ أَيَّامٍ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِلْحُرَّةِ تَعْرِفُ بِهَا بَرَاءَةَ الرَّحِمِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ لِأَنَّهُ عِدَّةُ الْأَمَةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّهَا تُعْرَفُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعُ سِنِينَ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ عِنْدَهُ. وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ الْبَلْخِيُّ: تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ؛ وَيَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ إِذَا حَدَثَ لَهُ مِلْكُ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، سَوَاءٌ وَطِئَهَا الْبَائِعُ أَوْ لَا، أَوْ كَانَ بَائِعُهَا مِمَّنْ لَا يَطَأُ كَالْمَرْأَةِ وَالصَّغِيرِ وَالْأَخِ مِنَ الرِّضَاعِ، وَكَذَا إِنْ كَانَتْ بِكْرًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا اسْتِبْرَاءَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إِذَا حَاضَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهِيَ ثَابِتَةٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ ظَاهِرًا. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِبْرَاءِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ فِي مِلْكٍ مُتَجَدِّدٍ بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَحِكْمَتُهُ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَالْحُكْمُ يُدَارُ عَلَى السَّبَبِ لَا عَلَى الْحِكْمَةِ؛ وَلَوِ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ فَلَا اسْتِبْرَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ صِيَانَةُ مَائِهِ عَنْ مَائِهِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ وَالسِّبَاعِ مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ) لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حِرَاسَةً وَاصْطِيَادًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبَيْعِ كَالْمُسْلِمِينَ، وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ؛ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْأَخْرَسِ، وَسَائِرُ عُقُودِهِ بِالْإِشَارَةِ الْمَفْهُومَةِ؛ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ، وَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ بِجَسِّ الْمَبِيعِ أَوْ بِشَمِّهِ أَوْ بِذَوْقِهِ، وَفِي الْعَقَارِ بِوَصْفِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَيَجُوزُ، وَلِهَذَا يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَارِثِ، بِخِلَافِ الْحَشَرَاتِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالضَّبِّ وَالْقُنْفُذِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ الْعَقُورِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ إِمْسَاكِهِ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهِ؛ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْفِيلِ. وَفِي بَيْعِ الْقِرْدِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ لِأَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِجِلْدِهِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ بِيعَ الْحَيِّ مِنَ السَّرَطَانِ وَالسُّلَحْفَاةِ وَالضِّفْدَعِ دُونَ الْمَيِّتِ مِنْهُ؛ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْعَلَقِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي الْبَيْعِ كَالْمُسْلِمِينَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا قَبِلُوا الْجِزْيَةَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» . (وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَهُمْ بَيْعَهَا. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْأَخْرَسِ، وَسَائِرُ عُقُودِهِ بِالْإِشَارَةِ الْمَفْهُومَةِ) وَيُقْتَصُّ مِنْهُ وَلَهُ، وَلَا يُحَدُّ لِلْقَذْفِ وَلَا يُحَدُّ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ يَكْتُبُ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مِنَ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ مِنَ الْحَاضِرِ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُمِرَ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَقَدْ بَلَّغَ الْبَعْضُ بِالْكِتَابِ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِمَكَانِ الْعَجْزِ، وَالْعَجْزُ فِي الْأَخْرَسِ أَظْهَرُ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَنِ اعْتَقَلَ لِسَانَهُ أَوْ صَمَتَ يَوْمًا، لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ إِذَا صَارَتْ مَعْهُودَةً وَمَعْلُومَةً، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْرَسِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبَهَاتِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْمَى وَشِرَاؤُهُ) لِأَنَّ النَّاسَ تَعَاهَدُوا ذَلِكَ مِنْ لَدُنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَمِنَ الصَّحَابَةِ مَنْ عَمِيَ وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ حَبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا ابْتَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِي الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» وَكَانَ أَعْمًى ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَلِأَنَّ مَنْ جَازَ لَهُ التَّوْكِيلُ جَازَ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ كَالْبَصِيرِ. (وَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ بِجَسِّ الْمَبِيعِ أَوْ بِشَمِّهِ أَوْ بِذَوْقِهِ، وَفِي الْعَقَارِ بِوَصْفِهِ) وَفِي الثَّوْبِ بِذِكْرِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمُشْتَرَى كَالنَّظَرِ مِنَ الْبَصِيرِ وَبَلْ أَكْثَرُ؛ وَلَوْ وُصِفَ لَهُ الْعَقَارُ ثُمَّ أَبْصَرَ لَا خِيَارَ لَهُ؛ وَلَوِ اشْتَرَى الْبَصِيرُ مَا لَمْ يَرَهُ ثُمَّ عَمِيَ فَهُوَ كَالْأَعْمَى عِنْدَ الْعَقْدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 فَصْلٌ [الْإِقَالَةُ] الْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ، وَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ، وَهِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ (سم) بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ (ز) ،   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل في الإقالة وأحكامها] فَصْلٌ (الْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَلِأَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهَا كَحَاجَتِهِمْ إِلَى الْبَيْعِ فَتُشْرَعُ، وَلِأَنَّهَا تَرْفَعُ الْعَقْدَ فَصَارَتْ كَالطَّلَاقِ مَعَ النِّكَاحِ. (وَتَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ) لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَتَصِحُّ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهَا لَا يَحْضُرُهَا السَّوْمُ غَالِبًا كَالنِّكَاحِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا بُدَّ مِنْ لَفْظَيْنِ مَاضِيَيْنِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِلَفْظِ الْإِقَالَةِ، فَلَوْ تَقَايَلَا بِلَفْظِ الْبَيْعِ كَانَ بَيْعًا بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِقَالَةَ تُنْبِئُ عَنِ الرَّفْعِ، وَالْبَيْعَ عَنِ الْإِثْبَاتِ فَتَتَنَافَيَا؛ وَلَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَبْطُلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. قَالَ: (وَهِيَ فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ جَعْلُهَا فَسْخًا بَطَلَتْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَفَسْخٌ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بَطَلَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: فَسْخٌ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَبَيْعٌ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بَطَلَ. وَقَالَ زُفَرُ: فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، وَصُورَتُهُ: لَوْ تَقَايَلَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ فَسْخٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ بَيْعًا إِلَّا فِي الْعَقَارِ حَيْثُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ. وَلَوْ تَقَايَلَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَهُوَ فَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ جِنْسًا وَوَصْفًا وَقَدْرًا، وَيَبْطُلُ مَا شَرَطَهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالتَّأْجِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، لِأَنَّ الْإِقَالَةَ رَفْعٌ فَيَقْتَضِي رَفْعَ الْمَوْجُودِ، وَالزِّيَادَةُ لَمْ تَكُنْ فَلَا تُرْفَعُ إِلَّا إِذَا حَدَثَ بِالْمَبِيعِ عَيْبٌ، فَيَجُوزُ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ النُّقْصَانَ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْبِ، وَلَوْ حَدَثَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَبِيعِ كَالْوَلَدِ وَنَحْوِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ بَطَلَتِ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُ لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ بِمَا سَمَّيَا كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ، وَحُدُوثُ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إِنْ سَكَتَ أَوْ سَمَّى الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ فَهُوَ فَسْخٌ، أَمَّا إِذَا سَمَّى الْأَقَلَّ فَلِأَنَّهُ سُكُوتٌ عَنِ الْبَعْضِ، وَلَوْ سَكَتَ عَنِ الْكُلِّ كَانَ فَسْخًا فَكَذَا عَنِ الْبَعْضِ، وَأَمَّا إِذَا ذَكَرَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِذَا دَخَلَهُ عَيْبٌ فَلَمَّا مَرَّ. وَإِنْ سَمَّيَا أَكْثَرَ أَوْ خِلَافَ الْجِنْسِ أَوْ حَدَثَتِ الزِّيَادَةُ فَهُوَ بَيْعٌ جَدِيدٌ لِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ. وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ فَسْخٌ بِصِيغَتِهِ، لِأَنَّ الْإِقَالَةَ تُنْبِئُ عَنِ الرَّفْعِ، وَمِنْهُ: أَقِلْنِي عَثْرَتِي بِمَعْنَى الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، وَفِيهِ مَعْنَى الْبَيْعِ لِكَوْنِهِ مُبَادَلَةَ الْمَالِ بِالْمَالِ، فَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالصِّيغَةِ يَعْمَلُ بِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ، وَهَلَاكُ بَعْضِهِ يَمْنَعُ بِقَدْرِهِ، وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ. بَابُ الْخِيَارَاتِ خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزٌ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا، وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِلَّا يَعْمَلُ بِالْمَعْنَى، فَإِذَا سَكَتَ أَوْ سَمَّى الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ فَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالصِّيغَةِ لِمَا بَيَّنَّا. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ بِيعٌ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ عَنْ تَرَاضٍ فَيُعْمَلُ بِهِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ فَيُعْمَلُ بِالصِّيغَةِ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ عِنْدَهُ فِي الْإِقَالَةِ فِي الْمَنْقُولِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِقَالَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْفَسْخِ وَالْإِزَالَةِ لِمَا بَيَّنَّا، فَلَا تَحْتَمِلُ مَعْنًى آخَرَ نَفْيًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَالْأَصْلُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ لَا يُجْعَلُ بَيْعًا مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ ضِدُّ الرَّفْعِ فَيَبْطُلُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ بَيْعًا فِي حَقٍّ ثَالِثٍ وَهُوَ الشَّفِيعُ، فَصُورَتُهُ: بَاعَ دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَقَايَلَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي، فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ، لِأَنَّ مَا هُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا فَهُوَ فَسْخٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِقَالَةَ نَقْلُ مِلْكٍ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ بِعِوَضٍ مَالِيٍّ وَهُوَ سَبَبُ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ، وَهُمَا عَبَّرَا عَنْهُ بِالْإِقَالَةِ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ، وَلَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ وَهَبَهُ شَيْئًا وَقَبَضَهُ فَبَاعَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ثُمَّ تَقَايَلَا، لَيْسَ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ وَيَصِيرُ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَالْمُشْتَرِي. قَالَ: (وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ) لِأَنَّ الْفَسْخَ يَقْتَضِي قِيَامَ الْبَيْعِ وَهُوَ بِبَقَاءِ الْمَبِيعِ. (وَهَلَاكُ بَعْضِهِ يَمْنَعُ بِقَدْرِهِ) لِقِيَامِ الْبَيْعِ فِي الْبَاقِي. (وَهَلَاكُ الثَّمَنِ لَا يَمْنَعُ) لِقِيَامِ الْبَيْعِ بِدُونِهِ، وَإِنْ تَقَايَضَا فَهَلَاكُ أَحَدِهِمَا لَا يَمْنَعُ الْإِقَالَةَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ قَائِمًا، وَيَرُدُّ قِيمَةَ الْهَالِكِ أَوْ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا انْفَسَخَ فِي الْبَاقِي يَنْفَسِخُ فِي الْهَالِكِ ضَرُورَةً، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ فَيَرُدُّ عِوَضَهُ، وَلَوْ هَلَكَ الْعِوَضَانِ لَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ وَتَصِحُّ لَوْ هَلَكَ الْبَدَلَانِ فِي الصَّرْفِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَقْدَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ فِي الْعُرُوضِ دُونَ الْأَثْمَانِ فَكَذَا فِي الْإِقَالَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [بَابُ الْخِيَارَاتِ] ِ (خِيَارُ الشَّرْطِ جَائِزٌ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، وَلِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِحَبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَكَانَ يُخْدَعُ فِي الْبِيَاعَاتِ: «إِذَا ابْتَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ، وَلِي الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» (وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَقَالَا: يَجُوزُ إِذَا ذَكَرَ مُدَّةً مَعْلُومَةً، لِأَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ لِلِاحْتِرَازِ عَنِ الْغَبْنِ وَالظَّلَامَةِ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثِ فَيَكُونُ مُفَوَّضًا إِلَى رَأْيِهِ، وَمَذْهَبُهُمَا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 وَمَنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَفْسَخُ إِلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ (س) ، وَلَهُ أَنْ يُجِيزَ بِحَضْرَتِهِ وَغَيْبَتِهِ. وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ؛ وَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَكَانَ بِخِلَافِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ؛ وَخِيَارُ الْبَائِعِ لَا يُخْرِجُ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِهِ، وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي يُخْرِجُهُ وَلَا يُدْخِلُهُ فِي مِلْكِهِ (سم)   [الاختيار لتعليل المختار] الْأَصْلَ يَنْفِي جَوَازَ الشَّرْطِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ كَسَائِرِ مُوجِبَاتِ الْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ النَّصُّ يَنْفِيهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى مَكَّةَ: «انْهَهُمْ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ، وَبَيْعٍ وَسَلَفٍ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» ، إِلَّا أَنَّا عَدَلْنَا عَنْ هَذِهِ الْأُصُولِ وَقُلْنَا بِجَوَازِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ حَبَّانَ، وَالْحَاجَةُ إِلَى دَفْعِ الْغَبْنِ تَنْدَفِعُ بِالثَّلَاثِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ وَالْحَاجَةِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَثَبَتَ فِي حَقِّهِمَا؛ وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ لَمْ يُبَيِّنْ وَقْتًا، أَوْ ذَكَرَ وَقْتًا مَجْهُولًا فَأَجَازَ فِي الثَّلَاثِ أَوْ أَسْقَطَهُ، أَوْ سَقَطَ بِمَوْتِهِ أَوْ بِمَوْتِ الْعَبْدِ، أَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، أَوْ أَحْدَثَ فِيهِ مَا يُوجِبُ لُزُومَ الْعَقْدِ يَنْقَلِبُ جَائِزًا خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُفْسِدَ لَمْ يَتَّصِلْ بِالْعَقْدِ، لِأَنَّ الْفَسَادَ بِالْيَوْمِ الرَّابِعِ، حَتَّى إِنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَفْسَدُ بِمُضِيِّ جُزْءٍ مِنَ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا قَبْلَهُ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بِالْعَقْدِ مَانِعَةٌ مِنَ انْبِرَامِهِ فَجَازَ أَنْ يَنْبَرِمَ بِإِسْقَاطِهِ كَالْخِيَارِ الصَّحِيحِ، وَشَرْطُ خِيَارِ الْأَبَدِ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَمَنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَفْسَخُ إِلَّا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ) أَيْ بِعِلْمِهِ. (وَلَهُ أَنْ يُجِيزَ بِحَضْرَتِهِ وَغَيْبَتِهِ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَفْسَخُ بِغَيْبَتِهِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْخِيَارَ أَثْبَتَ لَهُ حَقَّ الْإِجَازَةِ وَالْفَسْخِ، فَكَمَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ مَعَ غَيْبَتِهِ فَكَذَا الْفَسْخُ. وَلَهُمَا أَنَّهُ فَسْخُ عَقْدٍ فَلَا يَصِحُّ مِنْ أَحَدِهِمَا كَالْإِقَالَةِ، بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ لِأَنَّهَا إِبْقَاءُ حَقِّ الْآخَرِ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى عِلْمِهِ، وَالْفَسْخُ إِسْقَاطُ حَقِّهِ فَاحْتَاجَ إِلَيْهِ، فَإِذَا فَسَخَ بِغَيْبَتِهِ فَعُلِمَ بِهِ فِي الْمُدَّةِ تَمَّ الْفَسْخُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ تَمَّ الْعَقْدُ. [خيار الشرط وأحكامه] قَالَ: (وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ) لِأَنَّهُ مَشِيئَةٌ وَتَرَوٍّ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِرْثُ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ. أَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ سَلِيمًا فَيَنْتَقِلُ إِلَى وَارِثِهِ كَذَلِكَ. وَأَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ لَهُ ابْتِدَاءً لِاخْتِلَاطِ مِلْكِ الْمُوَرَّثِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ. قَالَ: (وَمَنِ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ فَكَانَ بِخِلَافِهِ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) لِأَنَّ هَذَا وَصْفٌ وَالْأَوْصَافُ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ فَيَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، إِلَّا أَنَّهُ فَاتَهُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ مُسْتَحِقٌّ بِالْعَقْدِ، فَبِفَوَاتِهِ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِدُونِهِ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ، وَعَلَى هَذَا اشْتِرَاطُ سَائِرِ الْحِرَفِ. قَالَ: (وَخِيَارُ الْبَائِعِ لَا يُخْرِجُ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِهِ، وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي يُخْرِجُهُ وَلَا يُدْخِلُهُ فِي مِلْكِهِ) اعْلَمْ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ حُكْمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ عَلَى سُقُوطِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وَمَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ جَازَ (ز) وَيَثْبُتُ لَهُمَا، وَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ وَأَيُّهُمَا فَسَخَ انْفَسَخَ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ بِالْخِيَارِ اسْتُثْنِيَ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَامْتَنَعَ حُكْمُهُ إِلَى أَنْ يَسْقُطَ الْخِيَارُ، ثُمَّ الْخِيَارُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي أَوْ لَهُمَا، فَإِنْ كَانَ لِلْبَائِعِ فَلَا يَخْرُجُ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَخْرُجُ بِالْمُرَاضَاةِ، وَلَا رِضًا مَعَ الْخِيَارِ حَتَّى نَفَذَ إِعْتَاقُ الْبَائِعِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَلَوْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْفِذِ الْبَيْعَ، وَلَا نَفَاذَ لِلتَّصَرُّفِ بِدُونِ الْمِلْكِ، فَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَفِيهِ الْقِيمَةُ، وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَالصَّحِيحِ، وَيَخْرُجُ الثَّمَنُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْبَائِعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي يُخْرِجُ الْمَبِيعَ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ لَزِمَ مِنْ جَانِبِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ، وَالثَّمَنُ لَا يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ مُطَالَبَتَهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ. وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِئَلَّا يَصِيرَ سَائِبَةً بِغَيْرِ مَالِكٍ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ لِلتَّرَوِّي، فَلَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ رُبَّمَا فَاتَ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ فَيُعْتِقُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، فَلَوْ دَخَلَ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِهِ اجْتَمَعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، وَقَضِيَّةُ الْمُعَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ، وَدُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ يَنْفِيهَا، وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي هَلَكَ بِالثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ إِنْ دَخَلَهَا عَيْبٌ لِأَنَّ بِالْعَيْبِ يَمْتَنِعُ الرَّدُّ، وَالْهَلَاكُ لَا يَخْلُو عَنْ مُقَدِّمَةِ عَيْبٍ، فَيَهْلَكُ بَعْدَ انْبِرَامِ الْعَقْدِ فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ، وَيُعْرَفُ مِنْ هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ الْحُكْمُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُمَا لِمَنْ يَتَأَمَّلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي مَسَائِلَ: مِنْهَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى قَرِيبًا لَهُ لَمْ يُعْتَقْ عِنْدَهُ، وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ لَمْ يَنْفَسِخِ النِّكَاحُ خِلَافًا لَهُمَا فِيهِمَا، وَإِنْ وَطِئَهَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا بِحُكْمِ النِّكَاحِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ نَقَصَهَا الْوَطْءُ، وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَوْ كَانَتْ جَارِيَةً قَدْ وَلَدَتْ مِنْهُ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ حَاضَتْ عِنْدَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ لَا يَجْتَزِئُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ عَنْ الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَهُ، وَلَوْ رَدَّهَا لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا فِيهِمَا، وَيُبْتَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ يَعْرِفُهَا مَنْ أَتْقَنَ هَذِهِ الْأُصُولَ. قَالَ: (وَمَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ جَازَ وَيَثْبُتُ لَهُمَا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ مُوجِبُ الْعَقْدِ، فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ كَالثَّمَنِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ ابْتِدَاءً ثُمَّ لِلْغَيْرِ نِيَابَةً تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ. (وَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ، وَأَيُّهُمَا فَسَخَ انْفَسَخَ) فَإِنْ أَجَازَ أَحَدَهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرَ فَالْحُكْمُ لِلْأَسْبَقِ، وَإِنْ تَكَلَّمَا مَعًا فَالْحُكْمُ لِلْفَسْخِ، لِأَنَّ الْخِيَارَ شُرِعَ لِلْفَسْخِ فَهُوَ تَصَرُّفٌ فِيمَا شُرِعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَيَسْقُطُ الْخِيَارُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ، وَبِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا كَالرُّكُوبِ وَالْوَطْءِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِ. فَصْلٌ وَمَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ جَازَ، وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ؛   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَجْلِهِ فَكَانَ أَوْلَى، وَقِيلَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ أَوْلَى كَالْمُوَكِّلِ. قَالَ: (وَيَسْقُطُ الْخِيَارُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَبِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا كَالرُّكُوبِ وَالْوَطْءِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِ) . اعْلَمْ أَنَّ الْخِيَارَ يَسْقُطُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا الْإِسْقَاطُ صَرِيحًا كَقَوْلِهِ: أَسْقَطَتُ الْخِيَارَ أَوْ أَبْطَلْتُهُ، أَوْ أَجَزْتُ الْبَيْعَ، أَوْ رَضِيتُ بِهِ وَمَا شَابَهَهُ لِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَى فَيَبْطُلُ الْخِيَارُ. وَالثَّانِي الْإِسْقَاطُ دَلَالَةً، وَهُوَ كُلُّ فِعْلٍ يُوجَدُ مِمَّنْ لَهُ الْخِيَارُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْمِلْكِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْوَطْءِ وَاللَّمْسِ وَالْقُبْلَةِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ، وَإِنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا يَكُونُ رِضًى، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إِلَى سَائِرِ أَعْضَائِهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلْمُعَالَجَةِ وَلِيَعْرِفَ لِينَهَا وَخُشُونَتَهَا، وَلَوْ فَعَلَ الْبَائِعُ ذَلِكَ فَهُوَ فَسْخٌ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوبُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمَالِكِ، فَإِنْ رَكِبَهَا لِيَرُدَّهَا أَوْ لِيَسْقِيَهَا أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهَا عَلَفًا فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا سَكَنَ الدَّارَ أَوْ أَسْكَنَهَا لِدَلِيلِ الرِّضَى، وَلَوْ رَكِبَ أَوْ لَبِسَ أَوِ اسْتَخْدَمَ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَى ذَلِكَ لِلِاخْتِبَارِ، وَلَوْ أَعَادَ ذَلِكَ بَطَلَ خِيَارُهُ لِعَدَمِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ إِلَّا فِي الْعَبْدِ إِذَا اسْتَخْدَمَهُ فِي حَاجَةٍ أُخْرَى لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ كُلُّ فِعْلٍ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ مَعَ الْقَبْضِ وَالرَّهْنِ؛ وَالْعَرْضُ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالْمِلْكِ. وَالثَّالِثُ سُقُوطُ الْخِيَارِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ كَمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ وَمَوْتِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، فَإِنَّ الْخِيَارَ كَانَ لَهُمَا فَمَاتَا تَمَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَالْآخَرُ عَلَى خِيَارِهِ، وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ جُنَّ أَوْ نَامَ أَوْ سَكِرَ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ حَتَّى مَضَتِ الْمُدَّةُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْقُطُ الْخِيَارُ، وَلَوْ دَاوَى الْعَبْدَ، أَوْ عَالَجَ الدَّابَّةَ، أَوْ عَمَّرَ فِي السَّاحَةِ، أَوْ رَمَّ شَعَثَ الدَّارِ، أَوْ لَقَّحَ النَّخِيلَ، أَوْ حَلَبَ الْبَقَرَةَ بَطَلَ، لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ خَصَائِصِ الْمِلْكِ. [فَصْلٌ خيار الرؤيا وأحكامه] فَصْلٌ (وَمَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ جَازَ، وَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) مَعْنَاهُ: إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَكَذَا إِنْ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا وَلَمْ يَرَهُ الْبَائِعُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنِ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ» وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فَلَا تُشْتَرَطُ رُؤْيَتُهُ لِلِانْعِقَادِ كَالثَّمَنِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ يَرُدُّهُ لِعَدَمِ اللُّزُومِ، وَإِذَا جَازَ الْعَقْدُ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ بِالْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ حَتَّى لَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ قَبْلَهَا لَا يَلْزَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 وَمَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَيَسْقُطُ بِرُؤْيَةِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَقْصُودِ كَوَجْهِ الْآدَمِيِّ وَوَجْهِ الدَّابَّةِ وَكَفَلِهَا، وَرُؤْيَةِ الثَّوْبِ مَطْوِيًّا وَنَحْوِهِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَازِمًا، أَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ، أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّ بَعْضِهِ، أَوْ مَاتَ بَطَلَ الْخِيَارُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ قَبْلَهَا لِأَنَّهُ خِيَارٌ ثَبَتَ شَرْعًا فَلَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِمَا، بِخِلَافِ خِيَارَيِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ لِأَنَّهُمَا ثَبَتَا بِقَصْدِهِمَا وَشَرْطِهِمَا، وَيَمْلِكُ فَسْخَهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ الْخِيَارَ لَهُ، وَلَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ، لَكِنْ يَمْنَعُ اللُّزُومَ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَزِمَ الْبَيْعُ، وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ أَوْ عَرَضَهَ عَلَى الْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ وَيَلْزَمُ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ لَكِنْ رَضِيَ، وَالرِّضَى قَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا يُسْقِطُ الْخِيَارَ. قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ مَا لَمْ يَرَهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ) وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَهُ الْخِيَارُ، لِأَنَّ اللُّزُومَ بِالرِّضَى، وَالرِّضَى بِالْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ، وَالْعَلَمُ بِالرُّؤْيَةِ؛ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: لَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّ النَّصَّ أَثْبَتَهُ لِلْمُشْتَرِي خَوْفًا مِنْ تَغَيُّرِ الْمَبِيعِ عَمَّا يَظُنُّهُ وَدَفْعًا لِلْغَبْنِ عَنْهُ، فَلَوْ ثَبَتَ لِلْبَائِعِ لَثَبَتَ خَوْفًا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا يَظُنُّهُ مِنَ الْأَوْصَافِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْخِيَارَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ مَرِيضٌ فَإِذَا هُوَ صَحِيحٌ لَزِمَهُ وَلَا خِيَارَ لَهُ؟ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَاعَ أَرْضًا بِالْكُوفَةِ مِنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقِيلَ لِعُثْمَانَ: غَبَنْتَ؟ قَالَ: لِي الْخِيَارُ فَإِنِّي بِعْتُ مَا لَمْ أَرَهُ، وَقِيلَ لِطَلْحَةَ: غُبِنْتَ؟ فَقَالَ: لِي الْخِيَارُ لِأَنِّي اشْتَرَيْتُ مَا لَمْ أَرَهُ، فَاحْتَكَمَا إِلَى جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَحَكَمَ بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَحَكَمَ جُبَيْرٌ، وَرُجُوعُهُمَا إِلَى حُكْمِهِ وَعَدَمُ وُجُودِ النَّكِيرِ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنْهُمْ. قَالَ: (وَيَسْقُطُ بِرُؤْيَةِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِالْمَقْصُودِ كَوَجْهِ الْآدَمِيِّ وَوَجْهِ الدَّابَّةِ وَكَفَلِهَا، وَرُؤْيَةِ الثَّوْبِ مَطْوِيًّا وَنَحْوِهِ) لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْجَمِيعِ غَيْرُ شَرْطٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ فَاكْتُفِيَ بِرُؤْيَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ. وَالْوَجْهُ فِي الْآدَمِيِّ هُوَ الْمَقْصُودُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ يَزْدَادُ وَيَنْقُصُ بِالْوَجْهِ، وَكَذَلِكَ الْوَجْهُ وَالْكَفَلُ فِي الدَّابَّةِ؛ وَأَمَّا الثَّوْبُ فَالْمُرَادُ الثِّيَابُ الَّتِي لَا يُخَالِفُ بَاطِنُهَا الظَّاهِرَ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فَلَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْبَاطِنِ، وَكَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ؛ وَفِي الدَّارِ لَا بُدَّ مِنْ رُؤْيَةِ الْأَبْنِيَةِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ الظَّاهِرِ؛ وَلَا بُدَّ فِي شَاةِ اللَّحْمِ مِنَ الْجَسِّ وَشَاةِ الدَّرِّ وَالنَّسْلِ مِنَ النَّظَرِ إِلَى الضَّرْعِ مَعَ جَمِيعِ جَسَدِهَا، وَاعْتُبِرَ بِهَذَا جَمِيعُ الْمَبِيعَاتِ. قَالَ: (فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَازِمًا أَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ، أَوْ تَعَذَّرَ رَدُّ بَعْضِهِ، أَوْ مَاتَ بَطَلَ الْخِيَارُ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَلِأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْبَعْضِ فَرَدُّ الْبَاقِي إِضْرَارٌ بِالْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ رَدُّ الْمَعِيبِ؛ وَأَمَّا الْمَوْتُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ وَبَقِيَ لَهُ خِيَارُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وَلَوْ رَأَى بَعْضَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَأَى بَاقِيَهُ، وَمَا يُعْرَضُ بِالْأُنْمُوذَجِ رُؤْيَةُ بَعْضِهِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ؛ وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ فَالْمَالِكُ إِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ وَالْمُتَبَايِعَانِ بِحَالِهِمْ.   [الاختيار لتعليل المختار] الرُّؤْيَةِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَا يُورَثُ. قَالَ: (وَلَوْ رَأَى بَعْضَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَأَى بِاقِيَهُ) لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ يَكُونُ إِلْزَامًا لِلْبَيْعِ فِيمَا لَمْ يَرَهُ وَأَنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ، وَكَذَلِكَ الْإِجَازَةُ فِي الْبَعْضِ لَا تَكُونُ إِجَازَةً فِي الْكُلِّ لِمَا مَرَّ، وَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ فِي الْبَعْضِ وَرَدُّ الْبَاقِي لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَمَا يُعْرَضُ بِالْأُنْمُوذَجِ رُؤْيَةُ بَعْضِهِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا كَانَ أَشْيَاءَ إِنْ كَانَ مِنَ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْبِطِّيخِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ الْكُلِّ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ، وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَهُوَ الَّذِي يُعْرَضُ بِالْأُنْمُوذَجِ أَوْ مَعْدُودًا مُتَقَارِبًا كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ فَرُؤْيَةُ بَعْضِهِ تُبْطِلُ الْخِيَارَ فِي كُلِّهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ الصِّفَةِ وَقَدْ حَصَلَتْ وَعَلَيْهِ التَّعَارُفُ، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ أَرْدَأَ مِنَ الْأُنْمُوذَجِ فَيَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ مُغَيَّبًا تَحْتَ الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالشَّلْجَمِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالْفُجْلِ بَعْدَ النَّبَاتِ إِنْ عُلِمَ وُجُودُهُ تَحْتَ الْأَرْضِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، فَإِذَا بَاعَهُ ثُمَّ قَلَعَ مِنْهُ أُنْمُوذَجًا وَرَضِيَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ كَيْلًا كَالْبَصَلِ، أَوْ وَزْنًا كَالثُّومِ وَالْجَزَرِ بَطَلَ خِيَارُهُ عِنْدَهُمَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِلْحَاجَةِ وَجَرَيَانِ التَّعَامُلِ بِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَبْطُلُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ عَدَدًا كَالْفُجْلِ وَنَحْوِهِ، فَرُؤْيَةُ بَعْضِهِ لَا يُسْقِطُ خِيَارَهُ لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الرُّؤْيَةِ فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ؛ وَكَذَلِكَ لَوِ اخْتَلَفَا فِي الْمَرْدُودِ فَقَالَ الْبَائِعُ: لَيْسَ هَذَا الْمَبِيعَ، وَكَذَلِكَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَفِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ. قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ فَالْمَالِكُ إِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ وَالْمُتَبَايِعَانِ بِحَالِهِمْ) . اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ مُنْعَقِدَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمَالِكِ لِصُدُورِهَا مِنَ الْأَهْلِ وَهُوَ الْحُرُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ، مُضَافَةً إِلَى الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُلْزِمٍ لَهُ، وَتُحْتَمَلُ الْمَنْفَعَةُ فَيَنْعَقِدُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِدِ الْعَاقِلِ وَتَحْصِيلًا لِلْمَنْفَعَةِ الْمُحْتَمَلَةِ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَفَعَ دِينَارًا إِلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ لِيَشْتَرِيَ بِهِ أُضْحِيَّةً، فَاشْتَرَى شَاةً ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ، وَاشْتَرَى بِأَحَدِ الدِّينَارَيْنِ شَاةً، وَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ، فَأَجَازَ صَنِيعَهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ» ، وَكَانَ فُضُولِيًّا لِأَنَّهُ بَاعَ الشَّاةَ وَاشْتَرَى الْأُخْرَى بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَمَا لَا فَلَا، حَتَّى إِنَّ طَلَاقَ الْفُضُولِيِّ وَعِتَاقَهُ وَنِكَاحَهُ وَهِبَتَهُ لَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَيَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، لِأَنَّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَصِيرُ الْفُضُولِيُّ كَالْوَكِيلِ حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 فَصْلٌ [خِيَارُ الْعَيْبِ] مُطْلَقُ الْبَيْعِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ، وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ، وَإِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] تَرْجِعَ الْحُقُوقُ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ كَالْوِكَالَةِ السَّابِقَةِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْوِكَالَةِ وَلَا الْمُبَاشَرَةِ؛ وَلِلْفُضُولِيِّ الْفَسْخُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِئَلَّا تَرْجِعَ الْحُقُوقُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ فِيهِ إِلَيْهِ لِمَا عُرِفَ أَنَّهُ سَفِيرٌ فِيهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمَبِيعِ وَالْمُتَبَايِعَيْنِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ، إِذْ لَا بَقَاءَ لِلْعَقْدِ بِدُونِهِمْ. وَالْإِجَازَةُ: إِنْفَاذُ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ مُقَايَضَةً يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْعِوَضَيْنِ وَالْمُتَعَاقِدَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا. [فصل خِيَارُ الْعَيْبِ وأحكامه] فَصْلٌ (مُطْلَقُ الْبَيْعِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَبِيعِ) لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ السَّلَامَةُ، وَهُوَ وَصْفٌ مَطْلُوبٌ مَرْغُوبٌ عَادَةً، وَالْمَطْلُوبُ عُرْفًا كَالْمَشْرُوطِ نَصًّا. قَالَ: (وَكُلُّ مَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الثَّمَنِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ فَهُوَ عَيْبٌ) لِأَنَّ الضَّرَرَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ وَهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْعُيُوبِ وَتَعْدَادِهَا، وَإِذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَوْ عِنْدَ الْقَبْضِ وَسَكَتَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ. قَالَ: (وَإِذَا اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى عَيْبٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَبِيعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ وَأَخْذُ النُّقْصَانِ إِلَّا بِرِضَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ بِالْعَقْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا، فَوَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ الْجَيِّدَ وَيَرُدَّ الْمَعِيبَ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ التَّمَامِ لِمَا بَيَّنَّا وَيَمْلِكُ بَعْدَهُ، وَخِيَارُ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَعَدَمُ الْقَبْضِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ، وَبِالْقَبْضِ تَتِمُّ الصَّفْقَةُ، وَالْمُرَادُ قَبْضُ الْجَمِيعِ حَتَّى لَوْ قَبَضَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا إِمَّا أَنْ يَرُدَّهُمَا أَوْ يُمْسِكَهُمَا؛ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَمْلِكُ رَدَّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا بَعْدَهُ، لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْمَعِيبِ زِيَادَةٌ فِي الْعَيْبِ، فَكَأَنَّهُ عَيْبٌ حَادِثٌ حَتَّى قِيلَ لَوْ كَانَ فِي وِعَاءَيْنِ لَهُ رَدُّ الْمَعِيبِ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ، وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى زَوْجَيْ خُفٍّ أَوْ مِصْرَاعَيْ بَابٍ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ يَرُدُّهُمَا أَوْ يُمْسِكُهُمَا، وَكَذَا كُلُّ مَا فِي تَفْرِيقِهِ ضَرَرٌ، وَمَا لَا ضَرَرَ فِي تَفْرِيقِهِ كَالْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ إِذَا وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا إِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَفْرِيقِهَا، لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ، فَجَازِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وَالْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ، وَعَيْبٌ فِي الَّذِي يَعْقِلُ، وَيُرَدُّ بِهِ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ وَانْقِطَاعِ الْحَيْضِ عَيْبٌ، وَالِاسْتِحَاضَةُ عَيْبٌ، وَالْبَخَرُ وَالدَّفَرُ وَالزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ، وَالشَّيْبُ وَالْكُفْرُ وَالْجُنُونُ عَيْبٌ فِيهِمَا، وَإِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي عَيْبًا وَحَدَثَ عِنْدَهُ عَيْبٌ آخَرُ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَلَا يَرُدُّهُ إِلَّا بِرِضَا الْبَائِعِ.   [الاختيار لتعليل المختار] رَدُّ الْبَعْضِ كَمَا لَوِ اشْتَرَى مِنَ اثْنَيْنِ، وَاسْتِحْقَاقُ الْبَعْضِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ مَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ فَهُوَ عَيْبٌ، وَمَا لَا فَلَا. قَالَ: (وَالْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ لَيْسَ بِعَيْبٍ فِي الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ ضَالٌّ لَا آبِقٌ. (وَعَيْبٌ فِي الَّذِي يَعْقِلُ) لِأَنَّهُ تَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا. (وَيُرَدُّ بِهِ إِلَّا أَنْ يُوجَدَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ) . اعْلَمْ أَنَّ جَوَازَ الرَّدِّ إِنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحَالِ بِأَنْ فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي حَالَةَ الصِّغَرِ أَوْ حَالَةَ الْكِبَرِ، أَمَّا إِذَا فَعَلَهُ عِنْدَ الْبَائِعِ حَالَةَ الصِّغَرِ، وَعِنْدَ الْمُشْتَرِي حَالَةَ الْكِبَرِ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ، لِأَنَّ شَرْطَ ثُبُوتِ الرَّدِّ اتِّحَادُ سَبَبِ الْعَيْبِ، وَأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، لِأَنَّ الْإِبَاقَ وَالسَّرِقَةَ مِنَ الصَّغِيرِ لِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ، وَقُصُورِ عَقْلِهِ، وَمِنَ الْكَبِيرِ لِخُبْثِ طَبِيعَتِهِ، وَالْبَوْلُ فِي الْفِرَاشِ مِنَ الصَّغِيرِ لِضَعْفِ الْمَثَانَةِ، وَمِنَ الْكَبِيرِ لِدَاءٍ فِي بَطْنِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ السَّبَبَانِ، فَكَانَ الْعَيْبُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ فَلَا يَجِبُ الرَّدُّ، بِخِلَافِ الْجُنُونِ حَيْثُ لَهُ الرَّدُّ لَوْ جُنَّ عِنْدَ الْبَائِعِ فِي الصِّغَرِ، وَعِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ لَأَنَّ السَّبَبَ مُتَّحِدٌ، وَهُوَ آفَةٌ تَحُلُّ الدِّمَاغَ فِي الْحَالَتَيْنِ. قَالَ: (وَانْقِطَاعُ الْحَيْضِ عَيْبٌ) لِأَنَّهُ مِنْ دَاءٍ، وَمَعْنَاهُ إِذَا كَانَتْ مِمَّنْ يَحِيضُ مِثْلُهَا، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَأَدْنَاهُ شَهْرَانِ، وَقِيلَ: لَا يَرُدُّهَا إِلَّا إِذَا ادَّعَتِ ارْتِفَاعَهُ بِالْحَبَلِ، وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا تَحِيضُ وَهِيَ لَا تَحِيضُ لِلْإِيَاسِ فَهُوَ عَيْبٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلْحَبَلِ وَالْآيِسَةُ لَا تَحْبَلُ. قَالَ: (وَالِاسْتِحَاضَةُ عَيْبٌ) لِأَنَّ اسْتِمْرَارَ الدَّمِ مَرَضٌ، وَعَدَمُ الْخِتَانِ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ إِذَا كَانَا كَبِيرَيْنِ مُولَدَيْنِ، أَمَّا إِذَا كَانَا صَغِيرَيْنِ أَوْ جَلْبَيْنِ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ. قَالَ: (وَالْبَخَرُ وَالدَّفَرُ وَالزِّنَا عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الْغُلَامِ) لِأَنَّ ذَلِكَ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ مِنْهَا وَهُوَ الِاسْتِفْرَاشُ وَالْوُثُوقُ بِكَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْغُلَامِ الِاسْتِخْدَامُ، وَلَا يُخِلُّ ذَلِكَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ دَاءٍ فَهُوَ عَيْبٌ فِيهِ أَيْضًا، وَكَذَا إِذَا كَانَ كَثِيرَ الزِّنَا يَتْبَعُ الزَّوَانِيَ لِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنِ الْخِدْمَةِ. قَالَ: (وَالشَّيْبُ وَالْكُفْرُ وَالْجُنُونُ عَيْبٌ فِيهِمَا) أَمَّا الشَّيْبُ وَالْجُنُونُ فَلِأَنَّهُمَا يُنْقِصَانِ الْمَالِيَّةَ، وَالْكَافِرُ تَنْفُرُ الطِّبَاعُ مِنَ اسْتِخْدَامِهِ وَيَقِلُّ الْوُثُوقُ بِهِ لِعَدَاوَةِ الدِّينِ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ فِي بَعْضِ الْكَفَّارَاتِ وَكُلُّ ذَلِكَ عَيْبٌ، وَالنِّكَاحُ وَالدَّيْنُ عَيْبٌ فِيهِمَا لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِيهِمَا، وَالْحَبَلُ عَيْبٌ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ بَهَائِمَ بِالْعُرْفِ. قَالَ: (وَإِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي عَيْبًا وَحَدَثَ عِنْدِهِ عَيْبٌ آخَرُ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، وَلَا يَرُدُّهُ إِلَّا بِرِضَا الْبَائِعِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وَإِنْ صَبَغَ الثَّوْبَ أَوْ خَاطَهُ، أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ أَعْتَقَهُ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ، فَإِنْ قَتَلَهُ أَوْ أَكَلَ الطَّعَامَ (سم) لَمْ يَرْجِعْ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الرَّدِّ أَنْ يَرُدَّهُ كَمَا قَبَضَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْبَائِعِ، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِأَنْ عَجَزَ عَنِ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ فِي الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَعَنِ الْوُصُولِ إِلَى رَأْسِ مَالِهِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِبَدَلِ الْفَائِتِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَنُقْصَانُ الْعَيْبِ أَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا وَيُقَوَّمَ مَعِيبًا، فَمَا نَقَصَ فَهُوَ حِصَّةُ الْعَيْبِ فَيَرْجِعُ بِهَا مِنَ الثَّمَنِ. قَالَ: (وَإِنْ صَبَغَ الثَّوْبَ أَوْ خَاطَهُ أَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بِسَمْنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِهِ) لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ تَعَذَّرَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْفَسْخُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَهِيَ لَمْ تَكُنْ فِي الْعَقْدِ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَخْذُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِالْمُشْتَرِي، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْحَادِثَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَبَعْدَهُ تَمْنَعُ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ وَالْأَرْشِ وَالثَّمَرَةِ لِأَنَّهَا مَبِيعَةٌ مُلِكَتْ بِالْبَيْعِ، وَهِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِيُقَابِلَهَا الثَّمَنُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، فَلَا يُمْكِنُ رَدُّهَا فَتَبْقَى سَالِمَةً لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ عِوَضٍ وَأَنَّهُ رِبًا، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ رَدَّهَا بِرِضَا الْبَائِعِ، وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ يَرُدُّ الْأُمَّ، وَلَوِ اسْتَهْلَكَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَا تُرَدُّ، وَالْكُسْبُ وَالْغَلَّةُ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَكَذَا سَلَامَةُ بَدَلِهَا. قَالَ: (وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ أَعْتَقَهُ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ) وَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ؛ أَمَّا الْمَوْتُ فَلِأَنَّهُ إِنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَالِامْتِنَاعِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ؛ وَأَمَّا الْعِتْقُ فَهُوَ إِنْهَاءٌ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمِلْكَ إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْآدَمِيِّ مُوَقَّتًا إِلَى وَقْتِ الْعِتْقِ، وَالْمُنْتَهِي مُتَقَرِّرٌ فَصَارَ كَالْمَوْتِ فَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ؛ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي الْعِتْقِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ جِهَتِهِ كَالْقَتْلِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ كَاتَبَهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ حَبْسَ الْبَدَلِ كَحَبْسِ الْمُبْدَلِ. قَالَ: (فَإِنْ قَتَلَهُ أَوْ أَكَلَ الطَّعَامَ لَمْ يَرْجِعْ) أَمَّا الْقَتْلُ فَلِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ عِوَضِهِ مَعْنًى وَهُوَ سُقُوطُ الضَّمَانِ عَنْهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ، لِأَنَّ قَتْلَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانٌ؛ وَأَمَّا الْأَكْلُ فَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِفِعْلٍ مَضْمُونٍ مِنْهُ فَصَارَ كَالْقَتْلِ، وَقَالَا: يَرْجِعُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِالْمَبِيعِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِالشِّرَاءِ وَالْمُعْتَادُ فِيهِ فَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ. قُلْنَا: لَا اعْتِبَارَ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مَقْصُودًا، فَإِنَّ الْمَبِيعَ مَقْصُودٌ بِالشِّرَاءِ وَمَعَ ذَلِكَ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إِذَا لَبِسَ الثَّوْبَ حَتَّى تَخَرَّقَ، وَلَوْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي الْجَمِيعِ. وَعَنْهُمَا يَرُدُّ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ مَا أَكَلَ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ لِلْبَائِعِ أَخْذُهُ كَالْعَيْبِ الْحَادِثِ وَنَحْوِهِ، فَبَاعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ أَعْتَقَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ فَبَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ؛ وَمَنِ اشْتَرَى بِطِّيخًا أَوْ خِيَارًا أَوْ بَيْضًا أَوْ نَحْوَهُ فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا، فَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ رَجَعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنْ كَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ الْفَسَادِ رَجَعَ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الرَّدُّ، لِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وَمَنْ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ أَصْلًا، وَإِذَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ إِنْ قَبِلَهُ بِقَضَاءٍ رَدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ، وَإِنْ قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَمْ يَرُدَّهُ، وَيَسْقُطُ الرَّدُّ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْكَسْرَ عَيْبٌ حَادِثٌ فَيَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَمَنْ شَرَطَ الْبَرَاءَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ فَلَيْسَ لَهُ الرَّدُّ أَصْلًا) لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ لَا يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَجُوزُ مَعَ الْجَهَالَةِ، وَلَوْ حَدَثَ عَيْبٌ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ دَخَلَ فِي الْبَرَاءَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ وَقْتَ الْإِبْرَاءِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ سُقُوطُ حَقِّ الْفَسْخِ بِالْعَيْبِ، وَذَلِكَ الْبَرَاءَةُ عَنِ الْمَوْجُودِ وَالْحَادِثِ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلِّ غَائِلَةٍ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ السَّرِقَةُ وَالْإِبَاقُ وَالْفُجُورُ دُونَ الْمَرَضِ، لِأَنَّ الْغَائِلَةَ تَخْتَصُّ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلِّ دَاءٍ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّاءُ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ طِحَالٍ أَوْ كَبِدٍ أَوْ فَسَادِ حَيْضٍ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ يُسَمَّى مَرَضًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ هُوَ الْمَرَضُ. وَلَوْ قَالَ بَرِئْتُ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِعَيْنِهِ فَإِذَا هُوَ أَعْوَرُ، أَوْ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ بِيَدِهِ فَإِذَا هُوَ أَقْطَعُ لَا يَبْرَأُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَيْبٍ بِالْمَحَلِّ بَلْ هُوَ عَدَمُ الْمَحَلِّ. قَالَ: (وَإِذَا بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ إِنْ قَبِلَهُ بِقَضَاءٍ رَدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنَ الْأَصْلِ فَجُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ وَإِنْ أَنْكَرَ فَقَدْ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا. (وَإِنْ قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَمْ يَرُدَّهُ) لِأَنَّهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لِوُجُودِ حَدِّهِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ وَالتَّمَلُّكُ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ، رَدَّهُ عَلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ الرَّدَّ مُتَعَيَّنٌ فِيهِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَضَاءُ وَعَدَمُهُ. قَالَ: (وَيَسْقُطُ الرَّدُّ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ) وَقَدْ ذُكِرَتْ فِيهِ، وَذُكِرَ الْبَعْضُ هُنَا أَيْضًا. 1 - فَصْلٌ فِي التَّلْجِئَةِ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ: مَا أُلْجِئَ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ إِنَّمَا يُعْقَدُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ سَمَّوْهُ تَلْجِئَةً؛ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ، وَفِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا: أَنْ تَكُونَ التَّلْجِئَةُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، مِثْلَ أَنْ يَخَافَ عَلَى سِلْعَتِهِ ظَالِمًا أَوْ سُلْطَانًا فَيَقُولُ: أَنَا أُظْهِرُ الْبَيْعَ، وَلَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَلْجِئَةٌ، وَيُشْهِدُ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ يَبِيعُهَا فِي الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. حَكَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَلَمْ يُحْكَ خِلَافًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُمَا عَقَدَا عَقْدًا صَحِيحًا وَمَا شَرَطَاهُ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِيهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَمَا إِذَا اتَّفَقَا أَنْ يَشْرُطَا شَرْطًا فَاسِدًا ثُمَّ تَبَايَعَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ أَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا الْعَقْدَ فَصَارَا كَالْهَازِلَيْنِ فَلَا يَنْعَقِدُ. الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ فِي الْبَدَلِ بِأَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَلْفٍ فِي السِّرِّ وَيَتَبَايَعَا فِي الظَّاهِرِ بِأَلْفَيْنِ. رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثَّمَنَ ثَمَنُ الْعَلَانِيَةِ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ الثَّمَنَ ثَمَنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَهُوَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ، وَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمَبِيعِ حَالَةَ الْفَسْخِ، فَإِنْ بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ جَازَ،   [الاختيار لتعليل المختار] السِّرِّ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَهُوَ قَوْلُهُمَا، لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا الْأَلِفَ الزَّائِدَةَ فَكَأَنَّهُمَا هَزِلَا بِهَا. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْعَقْدِ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ الْعَقْدُ بِهِ، وَمَا ذَكَرَاهُ سِرًّا لَمْ يَذْكُرَاهُ حَالَةَ الْعَقْدِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ. الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَا أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَتَبَايَعَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِيَاسُ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ يَصِحَّ بِمِائَةِ دِينَارٍ. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الثَّمَنَ الْبَاطِنَ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ، وَالْمَذْكُورُ لَمْ يَقْصِدَاهُ فَسَقَطَ فَبَقِيَ بِلَا ثَمَنٍ فَلَا يَصِحُّ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْبَيْعُ الْجَائِزُ لَا الْبَاطِلُ، وَلَا جَائِزَ إِلَّا بِثَمَنِ الْعَلَانِيَةِ كَأَنَّهُمَا أَضْرَبَا عَنِ السِّرِّ وَذَكَرَا الظَّاهِرَ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ سِرًّا مَذْكُورٌ فِي الْعَقْدِ وَزِيَادَةٌ وَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ، وَيَثْبُتُ لَهُمَا الْخِيَارُ فِي بَيْعِ التَّلْجِئَةِ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا زَوَالَ الْمِلْكِ فَصَارَ كَشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِمَا، وَلَوِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّلْجِئَةَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي انْفِسَاخَ الْعَقْدِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ، وَيُسْتَحْلَفُ الْآخَرُ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. [بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وأحكامه] بَابُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ (وَهُوَ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ) بِأَمْرِ الْبَائِعِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً كَمَا إِذَا قَبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ وَسَكَتَ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ إِلَّا الِانْتِفَاعَ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَائِشَةَ لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ فَأَبَى مَوَالِيهَا أَنْ يَبِيعُوهَا إِلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَهُمْ، فَاشْتَرَتْ وَشَرَطَتِ الْوَلَاءَ لَهُمْ ثُمَّ أَعْتَقَتْهَا، وَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَجَازَ الْعِتْقَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ» فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَجَازَ الْعِتْقَ مَعَ فَسَادِ الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، وَلِأَنَّ رُكْنَ التَّمْلِيكِ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ هُوَ الْمُكَلَّفُ الْمُخَاطَبُ مُضَافًا إِلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْمَالُ عَنْ وِلَايَةٍ، إِذِ الْكَلَامُ فِيهِمَا فَيَنْعَقِدُ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى الْمَصَالِحِ وَالْفَسَادِ لِمَعْنًى يُجَاوِرُهُ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَالنَّهْيُ لَا يَنْفِي الِانْعِقَادَ بَلْ يُقَرِّرُهُ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَصَوُّرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَمَّا لَا يُتَصَوَّرُ وَعَنْ غَيْرِ الْمَقْدُورِ قَبِيحٌ، إِلَّا أَنَّهُ يُفِيدُ مِلْكًا خَبِيثًا لِمَكَانِ النَّهْيِ. (وَ) لِهَذَا كَانَ. (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ) إِزَالَةً لِلْخُبْثِ وَرَفْعًا لِلْفَسَادِ. (وَيُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمَبِيعِ حَالَةَ الْفَسْخِ) لِأَنَّ الْفَسْخَ بِدُونِهِ مُحَالٌ. (فَإِنْ بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ جَازَ) لِمُصَادَفَةِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِلْكَهُ وَمُنِعَ الْفَسْخُ، وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُفْسَخُ كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يُفْسَخُ كَالْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا تُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ وَهَذَا عُذْرٌ، وَالرَّهْنُ يَمْنَعُ الْفَسْخَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِهِ إِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، أَوْ مِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ وَيَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ (سم) ، وَبَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْحُرِّ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ (سم) وَمَيْتَةٍ وَذَكِيَّةٍ (سم) بَاطِلٌ، وَبَيْعُ الْمُكَاتَبِ بَاطِلٌ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ فَيَجُوزُ، وَبَيْعُ السَّمَكِ وَالطَّيْرِ قَبْلَ صَيْدِهِمَا، وَالْآبِقِ وَالْحَمْلِ وَالنِّتَاجِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ، وَاللَّحْمِ فِي الشَّاةِ، وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ، وَثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ فَاسِدٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَإِنْ عَادَ الرَّهْنُ فَلَهُ الْفَسْخُ، وَهَذَا لِأَنَّ النَّقْضَ لِرَفْعِ حُكْمِهِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعَبْدِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ لِمَا عُرِفَ. (وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِهِ إِنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ أَوْ مِثْلُهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا) لِأَنَّهُ كَالْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ قَبْضِهِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ ضَعِيفًا لِمُجَاوَرَتِهِ الْمُفْسِدَ تُوقَفُ إِفَادَةُ الْمِلْكِ عَلَى الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ. قَالَ: (وَالْبَاطِلُ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ) لِأَنَّ الْبَاطِلَ هُوَ الْخَالِي عَنِ الْعِوَضِ وَالْفَائِدَةِ. (وَيَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ) يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَهْلَكُ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْبَائِعَ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ مَجَّانًا، وَلَهُ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهِ فَقَدْ رَضِيَ بِقَبْضِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ مَالِيٍّ فَلَا يُضْمَنُ كَالْمُودَعِ. قَالَ: (وَبَيْعُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْحُرِّ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَمَيْتَةٍ وَذَكِيَّةٍ بَاطِلٌ) أَمَّا الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَالْحُرُّ فَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَالْبَيْعُ وَالتَّمْلِيكُ مَالٌ بِمَالٍ، وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ فِي حَقِّنَا، وَكَذَلِكَ أَمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا الْعِتْقَ بِأَمْرٍ كَائِنٍ لَا مَحَالَةَ فَأَشْبَهَا الْحُرَّ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ، وَمَيْتَةٍ وَذَكِيَّةٍ؛ فَلِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، وَالْحُرُّ وَالْمَيْتَةُ لَا يَدْخُلَانِ تَحْتَ الْعَقْدِ لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ، وَمَتَى بَطَلَ فِي الْبَعْضِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ، لِأَنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُتَجَزِّئَةٍ، وَكَذَا الْجَمْعُ بَيْنَ دَنَّيْنِ أَحَدُهُمَا خَلٌّ وَالْآخَرُ خَمْرٌ وَمَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ كَالْمَيْتَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْحُرُّ وَالْمَيْتَةُ مَالًا لَا يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، فَيَبْقَى الْعَبْدُ وَالذَّكِيَّةُ مَجْهُولَةَ الثَّمَنِ، وَلِأَنَّ الْقَبُولَ فِي الْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ شَرْطٌ لِلْبَيْعِ فِي الْعَبْدِ وَالذَّكِيَّةِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ سَمَّى لِكُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا جَازَ فِي الْعَبْدِ وَالذَّكِيَّةِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ أُخْتِهِ وَأَجْنَبِيَّةٍ فِي النِّكَاحِ. قُلْنَا: النِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ وَلَا كَذَلِكَ الْبَيْعُ. قَالَ: (وَبَيْعُ الْمُكَاتَبِ بَاطِلٌ) لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ جِهَةَ حُرِّيَّةٍ وَهُوَ ثُبُوتُ يَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ. (إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ فَيَجُوزُ) لِأَنَّهُ إِذَا أَجَازَهُ فَكَأَنَّهُ عَجَّزَ نَفْسَهُ فَيَعُودُ قِنًّا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ. قَالَ: (وَبَيْعُ السَّمَكِ وَالطَّيْرِ قَبْلَ صَيْدِهِمَا، وَالْآبِقِ وَالْحَمْلِ وَالنِّتَاجِ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ، وَاللَّحْمِ فِي الشَّاةِ، وَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ، وَثَوْبٍ مِنْ ثَوْبَيْنِ فَاسِدٌ) أَمَّا السَّمَكُ وَالطَّيْرُ فَلِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَلَوْ كَانَ السَّمَكُ مُجْتَمِعًا فِي أَجَمَةٍ إِنِ اجْتَمَعَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وَبَيْعُ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ فَاسِدٌ، وَلَوْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَبَيْعُ جَارِيَةٍ إِلَّا حَمْلَهَا فَاسِدٌ وَلَوْ بَاعَهُ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ يَعْتِقَهَا أَوْ يَسْتَخْدِمَهَا الْبَائِعُ أَوْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ فَهُوَ فَاسِدٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِنِ اجْتَمَعَ بِصُنْعِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَى أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ اصْطِيَادٍ جَازِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَيَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ إِلَّا بِالِاصْطِيَادِ لَا يَجُوزُ، وَأَمَّا الْآبِقُ فَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ حَتَّى لَوْ عَادَ الْآبِقُ جَازَ الْبَيْعُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ بَاعَهُ مِمَّنْ زَعَمَ أَنَّهُ عِنْدَهُ يَجُوزُ كَبَيْعِ الْمَغْصُوبِ مِنَ الْغَاصِبِ وَأَمَّا الْحَمْلُ وَالنِّتَاجُ فَلِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ وَأَمَّا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ فَلِلْجَهَالَةِ وَاخْتِلَاطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ؛ وَأَمَّا الصُّوفُ عَلَى الظَّهْرِ فَلِاخْتِلَاطِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِهِ، وَلِوُقُوعِ التَّنَازُعِ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ بِخِلَافِ الْقَصِيلِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَلْعُهُ، وَقَدْ «نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ بَيْعِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ، وَعَنْ لَبَنٍ فِي ضَرْعٍ، وَسَمْنٍ فِي لَبَنٍ» . وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى شَجَرِ الْخِلَافِ. قُلْنَا شَجَرُ الْخِلَافِ يَنْبُتُ مِنْ أَعْلَاهُ، فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي، وَالصُّوفُ يَنْبُتُ مِنْ أَسْفَلِهِ فَيَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَخْتَلِطَانِ؛ وَأَمَّا اللَّحْمُ فِي الشَّاةِ وَالْجِذْعُ فِي السَّقْفِ فَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِلَّا بِضَرَرٍ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ ذِرَاعٌ مِنْ ثَوْبٍ، وَحِلْيَةٌ فِي سَيْفٍ، وَإِنْ قَلَعَهُ وَسَلَّمَهُ قَبْلَ نَقْضِ الْبَيْعِ جَازَ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي الِامْتِنَاعُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا بَاعَهُ ذِرَاعًا مِنْ كِرْبَاسٍ، وَعَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ هَذِهِ النُّقْرَةِ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ؛ وَأَمَّا ثَوْبٌ مِنْ ثَوْبَيْنِ فَلِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ جَازَ لِعَدَمِ الْمُنَازَعَةِ. قَالَ: (وَبَيْعُ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ فَاسِدٌ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْهُمَا. وَالْمُزَابَنَةُ: بَيْعُ الثَّمَرِ عَلَى النَّخْلِ بِتَمْرٍ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُهُ كَيْلًا حَزْرًا. وَالْمُحَاقَلَةُ: بَيْعُ الْحِنْطَةِ فِي سُنَبُلِهَا بِمِثْلِهَا مِنَ الْحِنْطَةِ كَيْلًا حَزْرًا، وَلِأَنَّهُ بَيْعُ الْكَيْلِيِّ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةٌ فَلَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَلَوْ بَاعَ عَيْنًا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَهُوَ فَاسِدٌ) لِأَنَّ تَأْجِيلَ الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لِأَنَّ التَّأْجِيلَ شُرِعَ فِي الْأَثْمَانِ تَرَفُّهًا عَلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْصِيلِهِ وَأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْأَعْيَانِ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا. قَالَ: (وَبَيْعُ جَارِيَةٍ إِلَّا حَمْلَهَا فَاسِدٌ) لِأَنَّ الْحَمْلَ بِمَنْزِلَةِ طَرَفِ الْحَيَوَانِ لِاتِّصَالِهِ بِهِ خِلْقَةً، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَلَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ كَسَائِرِ الْأَطْرَافِ. (وَلَوْ بَاعَهُ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ يَعْتِقَهَا أَوْ يَسْتَخْدِمَهَا الْبَائِعُ أَوْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ يَخِيطُهُ الْبَائِعُ فَهُوَ فَاسِدٌ) «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ إِلَّا مَعَ الْكُوَّارَاتِ (م) ، وَلَا دُودِ الْقَزِّ إِلَّا مَعَ الْقَزِّ (م) ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْجُمْلَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ بِالشَّرْطِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ: الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ جَائِزَانِ، وَهُوَ كُلُّ شَرْطٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَيُلَائِمُهُ كَمَا إِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا، أَوْ طَعَامًا عَلَى أَنْ يَأْكُلَهُ أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا؛ وَلَوِ اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنْ يَطَأَهَا فَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ فِيهِ نَفْعًا لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ بِهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَقَالَا: لَا يَفْسَدُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا. وَنَوْعٌ كِلَاهُمَا فَاسِدَانِ، وَهُوَ كُلُّ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ مَا مَرَّ مِنَ الشُّرُوطِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَنَحْوِهَا، أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ كَعِتْقِ الْعَبْدِ، فَلَوْ أَعْتَقَهُ انْقَلَبَ جَائِزًا، فَيَجِبُ الثَّمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يَنْتَهِي بِهِ، وَالشَّيْءُ يَتَأَكَّدُ بِانْتِهَائِهِ. وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ، وَهُوَ فَاسِدٌ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّ بِهِ تَقَرَّرَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ. وَنَوْعٌ: الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، وَهُوَ كُلُّ شَرْطٍ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ مَضَرَّةٌ لِأَحَدِهِمَا، أَوْ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ وَلَا مَضَرَّةٌ لِأَحَدٍ، أَوْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِغَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْمَبِيعِ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَ الْمَبِيعَ وَلَا يَهَبَهُ، وَلَا يَلْبَسَ الثَّوْبَ، وَلَا يَرْكَبَ الدَّابَّةَ، وَلَا يَأْكُلَ الطَّعَامَ، وَلَا يَطَأَ الْجَارِيَةَ، أَوْ عَلَى أَنْ يُقْرِضَ أَجْنَبِيًّا دَرَاهِمَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدٌ فَيَلْغُو بِخُلُوِّهِ عَنِ الْفَائِدَةِ، وَيُبْتَنَى عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّحْلِ إِلَّا مَعَ الْكُوَّارَاتِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ إِذَا كَانَ مَجْمُوعًا لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ وَلَا بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَلَا يَجُوزُ كَالزَّنَابِيرِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنَ الْعَسَلِ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ؛ أَمَّا إِذَا بَاعَهَا مَعَ الْكُوَّارَاتِ وَفِيهَا عَسَلٌ يَجُوزُ تَبَعًا، هَكَذَا عَلَّلَهُ الْكَرْخِيُّ فِي جَامِعِهِ، ثُمَّ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ: إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِطَرِيقِ التَّبَعِ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ وَأَتْبَاعِهِ، وَالنَّحْلُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْعَسَلِ وَأَتْبَاعِهِ. وَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْكُوَّارَاتِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا فَائِدَةٌ بِدُونِ النَّحْلِ جُعِلَ النَّحْلُ مِنْ جُمْلَةِ حُقُوقِهَا تَجَوُّزًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشُّرْبِ مَقْصُودًا. وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ لِمَا أَنَّهُ لَا انْتِفَاعَ بِالْأَرْضِ بِدُونِ الشُّرْبِ، وَأَمْثَالُهُ كَثِيرَةٌ. قَالَ: (وَلَا دُودِ الْقَزِّ إِلَّا مَعَ الْقَزِّ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ، وَالْعِلَّةُ فِيهِ مَا مَرَّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فِي النَّحْلِ، وَقَالَا: يَجُوزُ بَيْعُ بَيْضِهِ، وَالسَّلَمُ فِيهِ كَيْلًا فِي حِينِهِ؛ لِأَنَّهُ بِزْرٌ يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَصَارَ كَبِزْرِ الْبِطِّيخِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِعَيْنِهِ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ يُضَمِّنُ مَنْ قَتَلَ دُودَ الْقَزِّ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ بَيْعِهِ، وَلَا يُضَمّنُهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 وَالْبَيْعُ إِلَى النَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إِذَا جَهِلَا ذَلِكَ فَاسِدٌ، وَالْبَيْعُ إِلَى الْحَصَادِ وَالْقِطَافِ وَالدِّيَاسِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ فَاسِدٌ، وَإِنْ أَسْقَطَا الْأَجَلَ قَبْلَهُ جَازَ (ز) ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ عَبْدِ الْغَيْرِ جَازَ فِي عَبْدِهِ بِحِصَّتِهِ، وَيُكْرَهُ الْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ، وَكَذَا بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَكَذَا السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] جَوَازِهِ. قَالَ: (وَالْبَيْعُ إِلَى النَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِ الْيَهُودِ إِذَا جَهِلَا ذَلِكَ فَاسِدٌ) لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ عَلِمَا ذَاكَ جَازَ كَالْأَهِلَّةِ، وَلَوِ اشْتَرَى إِلَى فِطْرِ النَّصَارَى وَقَدْ دَخَلُوا فِي الصَّوْمِ جَازَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ، وَقَبْلَ دُخُولِهِمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. قَالَ: (وَالْبَيْعُ إِلَى الْحَصَادِ وَالْقِطَافِ وَالدِّيَاسِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ فَاسِدٌ) لِلْجَهَالَةِ لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ وَتَتَأَخَّرُ. (وَإِنْ أَسْقَطَا الْأَجَلَ قَبْلَهُ جَازَ) الْبَيْعُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَقَدْ مَرَّ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ. وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ سَائِرَ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ تَنْقَلِبُ جَائِزَةً بِحَذْفِ الْمُفْسِدِ. قَالَ: (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ أَوْ عَبْدِ الْغَيْرِ جَازَ فِي عَبْدِهِ بِحِصَّتِهِ) وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْمُدَبَّرِ لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَيْرَ لَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ فِي عَبْدِهِ جَازَ، وَكَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَكَذَا لَوْ رَضِيَ الْمُكَاتَبُ فَصَارَ كَمَا إِذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ كَذَا هَذَا. قَالَ: (وَيُكْرَهُ الْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . (وَكَذَا بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ» وَهُوَ أَنْ يَجْلِبَ الْبَادِي السِّلْعَةَ فَيَأْخُذَهَا الْحَاضِرُ لِيَبِيعَهَا بَعْدَ وَقْتٍ بِأَغْلَى مِنَ السِّعْرِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْجَلَبِ، وَكَرَاهَتُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ بِأَهْلِ الْبَلَدِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَضُرَّ لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْعِ الْبَادِي مِنْ غَيْرِ تَضَرُّرِ غَيْرِهِ. (وَكَذَا السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ» وَهُوَ أَنْ يَرْضَى الْمُتَعَاقِدَانِ بِالْبَيْعِ وَيَسْتَقِرَّ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْدُ فَيَزِيدُ عَلَيْهِ وَيُبْطِلُ بَيْعَهُ؛ أَمَّا لَوْ زَادَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّرَاضِي يَجُوزُ، وَهُوَ الْمُعْتَادُ بَيْنَ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ وَالْأَمْصَارِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَاعَ حِلْسًا فِي بَيْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وَكَذَا النَّجَشُ، وَتَلَقِّي الْجَلَبِ مَكْرُوهٌ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ؛ وَمَنْ مَلَكَ صَغِيرَيْنِ أَوْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا أَحَدُهُمَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنَ الْآخَرِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَلَا يُكْرَهُ فِي الْكَبِيرَيْنِ.   [الاختيار لتعليل المختار] مَنْ يَزِيدُ» . (وَكَذَا النَّجَشُ وَتَلَقِّي الْجَلَبِ مَكْرُوهٌ) وَالنَّجَشُ: أَنْ يَزِيدَ فِي السِّلْعَةِ وَلَا يُرِيدَ شِرَاءَهَا لِيَرْغَبَ غَيْرُهُ فِيهَا، وَتَلَقِّي الْجَلَبِ: أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ وَهُمْ غَيْرُ عَالِمِينَ بِالسِّعْرِ، أَوْ يُلَبِّسَ عَلَيْهُمُ السِّعْرَ لِيَشْتَرِيَهُ وَيَبِيعَهُ فِي الْمِصْرِ، فَإِنْ لَمْ يُلَبِّسْ عَلَيْهِمْ أَوْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ أَهْلَ الْمِصْرِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَدْ «نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَنَاجَشُوا» . (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ) فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا، لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْعَقْدِ وَشَرَائِطِهِ بَلْ لِمَعْنًى خَارِجٍ فَيَجُوزُ. قَالَ: (وَمَنْ مَلَكَ صَغِيرَيْنِ أَوْ صَغِيرًا وَكَبِيرًا أَحَدُهُمَا ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنَ الْآخَرِ كُرِهَ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ فِي الْجَنَّةِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهُمُ السَّبْيَ وَالتَّفْرِيقَ حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ» وَلِأَنَّ الْكَبِيرَ يُشْفِقُ عَلَى الصَّغِيرِ وَيُرَبِّيهِ، وَالصَّغِيرَانِ يَتَآلَفَانِ فَيَتَضَرَّرَانِ بِالتَّفْرِيقِ «وَوَهَبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَلِيٍّ أَخَوَيْنِ صَغِيرَيْنِ ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ: بِعْتُ أَحَدَهُمَا، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " بِعْهُمَا أَوْ رُدَّهُمَا» وَفِي رِوَايَةٍ: " اذْهَبْ فَاسْتَرِدَّهُ ". (وَلَا يُكْرَهُ فِي الْكَبِيرَيْنِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ أَوْ تَحِيضَ الْجَارِيَةُ» «وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَرَّقَ بَيْنَ مَارِيَةَ وَسِيرِينَ وَكَانَتَا أُخْتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ، فَاسْتَوْلَدَ مَارِيَةَ وَوَهَبَ سِيرِينَ» . فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ يَجُوزُ كَابْنِ الْعَمِّ، لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ وَكَذَا إِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 بَابُ التَّوْلِيَةِ التَّوْلِيَةُ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَابَحَةُ بِزِيَادَةٍ، وَالْوَضِيعَةُ بِنَقِيصَةٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِثْلِيًّا أَوْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي.   [الاختيار لتعليل المختار] كَانَتِ الْمَحْرَمِيَّةُ لِغَيْرِ نَسَبٍ كَالْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ، وَكَذَا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ بَاعَ الصَّغِيرَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا جَازَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَلِزُفَرَ فِي الْإِخْوَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا. وَوَجْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَمْرُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالرَّدِّ، وَهُوَ دَلِيلُ عَدَمِ الْجَوَازِ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَأَى فِي السَّبَايَا امْرَأَةً وَالِهَةً فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقِيلَ: بِيعَ وَلَدُهَا، فَأَمَرَهُمْ بِالرَّدِّ» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُهُ الْوَعِيدَ بِالتَّفْرِيقِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ التَّفْرِيقِ. وَلَنَا أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ بَيْعًا جَامِعًا شَرَائِطَ الصِّحَّةِ فَيَجُوزُ، وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنِ الْعَقْدِ، وَهُوَ مَا يَلْحَقُ الصَّبِيَّ مِنَ الضَّرَرِ فَلَا يُفْسِدُهُ كَالْبَيْعِ عِنْدَ النِّدَاءِ فَأَوْجَبَ الْكَرَاهَةَ وَالْإِثْمَ، وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ فِي الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ، وَيَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ مَكْرُوهٌ وَإِيفَاءَ الْحُقُوقِ وَاجِبٌ، وَلَا يُكْرَهُ عِتْقُ أَحَدِهِمَا وَلَا كِتَابَتُهُ، لِأَنَّ نَفْعَهُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ تَضَرُّرِهِ بِالتَّفْرِيقِ فَكَانَ أَوْلَى. [بَابُ التولية والمرابحة والوضيعة] بَابُ التَّوْلِيَةِ (التَّوْلِيَةُ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَالْمُرَابَحَةُ بِزِيَادَةٍ، وَالْوَضِيعَةُ بِنَقِيصَةٍ) لِأَنَّ الِاسْمَ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ وَمَبْنَاهَا عَلَى الْأَمَانَةِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَأْتَمِنُ الْبَائِعَ فِي خَبَرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِهِ، فَيَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ التَّنَزُّهُ عَنِ الْخِيَانَةِ وَالتَّجَنُّبُ عَنِ الْكَذِبِ لِئَلَّا يَقَعَ الْمُشْتَرِي فِي بَخْسٍ وَغُرُورٍ، فَإِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ يَرُدُّ أَوْ يَخْتَارُ عَلَى مَا يَأْتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهِيَ عُقُودٌ مَشْرُوعَةٌ لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا، وَقَدْ تَعَامَلَهَا النَّاسُ مِنْ لَدُنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَدِ اشْتَرَى بَعِيرَيْنِ وَلِّنِي أَحَدَهُمَا» وَلِلنَّاسِ حَاجَةٌ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ قِيمَةَ الْأَشْيَاءِ فَيَسْتَعِينُ بِمَنْ يَعْرِفُهَا وَيَطِيبُ قَلْبُهُ بِمَا اشْتَرَاهُ وَزِيَادَةٌ، وَلِهَذَا كَانَ مَبْنَاهَا عَلَى الْأَمَانَةِ وَرَأْسُ الْمَالِ فِي الْمُوَاضَعَةِ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يَحُطَّ مِنْهُ. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِثْلِيًّا أَوْ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي) لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا كَانَ مِثْلِيًّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ؛ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ وَهُوَ فِي يَدِهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَدَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَهَذَا مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، وَالْقِيَمُ مَجْهُولَةٌ إِنَّمَا تُعْلَمُ بِالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا عُقِدَ بِهِ لَا مَا نُقِدَ، فَإِنِ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ فَدَفَعَ بِهَا ثَوْبًا فَالثَّمَنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 وَيَجُوزُ أَنْ يَضُمَّ إِلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أُجْرَةَ الصَّبْغِ وَالطِّرَازِ وَحَمْلِ الطَّعَامِ وَالسِّمْسَارِ وَسَائِقِ الْغَنَمِ، وَيَقُولُ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَلَا يَضُمُّ نَفَقَتَهُ وَأُجْرَةَ الرَّاعِي وَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِ وَالرَّايِضِ وَجُعْلَ الْآبِقِ وَكِرَاهُ، فَإِنْ عَلِمَ بِخِيَانَةٍ فِي التَّوْلِيَةِ أَسْقَطَهَا (م) مِنَ الثَّمَنِ؛ وَفِي الْمُرَابَحَةِ إِنْ شَاءَ (س) أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] دَرَاهِمُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ أَوِ الْوَضِيعَةُ مَعْلُومًا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى الْجَهَالَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، فَلَوْ بَاعَهُ بِرِبْحٍ " ده يازده " لَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِالثَّمَنِ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ قَبْلَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ مِثْلِيًّا فَلَهُ بَيْعُ نَصْفِهِ مُرَابَحَةً بِحِصَّتِهِ، وَلَوْ كَانَ ثَوْبًا أَوْ نَحْوَهُ لَا يَبِيعُ جُزْءًا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إِلَّا بِضَرَرٍ. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَضُمَّ إِلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أُجْرَةَ الصَّبْغِ وَالطِّرَازِ وَحَمْلِ الطَّعَامِ وَالسِّمْسَارِ وَسَائِقِ الْغَنَمِ وَيَقُولُ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَلَا يَضُمُّ نَفَقَتَهُ وَأُجْرَةَ الرَّاعِي وَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِ وَالرَّايِضِ وَجُعْلَ الْآبِقِ وَكِرَاهُ) وَأَصْلُهُ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَارَفَ التُّجَّارُ إِلْحَاقَهُ بِرَأْسِ الْمَالِ يَلْحَقُ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا؛ وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وَمَا تَزْدَادُ بِهِ قِيمَةُ الْمَبِيعِ أَوْ عَيْنُهُ يَلْحَقُ بِهِ، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ أَمَّا الصَّبْغُ وَالطِّرَازِ فَظَاهِرٌ؛ وَأَمَّا الْحَمْلُ وَالسُّوقُ فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ تَزْدَادُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ، وَلَا كَذَلِكَ الْقِسْمُ الثَّانِي. أَمَّا الرَّاعِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوقِعْ فِيهِ فِعْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ حَافِظٌ فَصَارَ كَالْبَيْتِ، وَجُعْلُ الْآبِقِ نَادِرٌ وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا؛ وَكَذَلِكَ الطَّبِيبُ وَمَا ثَبَتَ بِالْمُعَلِّمِ وَالرَّايِضِ لِمَعْنًى فِيهِ وَهُوَ ذَكَاؤُهُ وَفِطْنَتُهُ وَلَوْ ضَمَّ إِلَى الثَّمَنِ مَا لَا يَجُوزُ ضَمُّهُ فَهُوَ خِيَانَةٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَمْسَكَ جُزْءًا مِنَ الْمَبِيعِ أَوْ بَدَّلَهُ أَوْ كَتَمَ وَصْفَ الثَّمَنِ أَوِ الْأَجَلِ فِيهِ، أَوْ عَيْبًا بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، وَلَوْ عَابَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَلَيْسَ بِخِيَانَةٍ، وَلَوْ كَتَمَ أُجْرَةَ الْمَبِيعِ أَوْ غَلَّتَهُ فَلَيْسَ بِخِيَانَةٍ وَلَوِ اشْتَرَاهُ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيَّنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا وَلَوِ اشْتَرَاهُ مِنْ عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ يُبَيَّنُ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوِ اشْتَرَاهُ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِدِينِهِ لَمْ يُبَيَّنْ بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّهُمَا مُتَبَايِنَانِ فِي الْأَمْلَاكِ فَصَارَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلَهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّحِدَةً فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِالتَّسَامُحِ وَالْمُحَابَاةِ بَيْنَ هَؤُلَاءِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَيَجِبُ الْبَيَانُ كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ مِنْ عَبْدٍ. قَالَ: (فَإِنْ عَلِمَ بِخِيَانَةٍ فِي التَّوْلِيَةِ أَسْقَطَهَا مِنَ الثَّمَنِ) وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْوَضِيعَةِ. (وَفِي الْمُرَابَحَةِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحُطُّ فِيهِمَا، وَحِصَّةُ الْخِيَانَةِ مِنَ الرِّبْحِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُخَيَّرُ فِيهِمَا لِأَنَّهُ فَاتَهُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِي الثَّمَنِ فَيَتَخَيَّرُ كَوَصْفِ السَّلَامَةِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ بَيْعٌ تَعَلَّقَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ: وَلَّيْتُكَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَبِعْتُكَ مُرَابَحَةً أَوْ مُوَاضَعَةً عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَقَدْرُ الْخِيَانَةِ لَمْ يَكُنْ فِي الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيُحَطُّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إِثْبَاتَ الزِّيَادَةِ فِي الْمُرَابَحَةِ لَا تُبْطِلُ مَعْنَاهَا، إِلَّا أَنَّهُ فَاتَهُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فَيُخَيَّرُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 بَابُ الرِّبَا وَعِلَّتُهُ عِنْدَنَا الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ (ف) مَعَ الْجِنْسِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِثْبَاتُ الزِّيَادَةِ يُبْطِلُ مَعْنَى التَّوْلِيَةِ، فَتَلْغُو التَّسْمِيَةُ، وَتُحَطُّ الزِّيَادَةُ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى التَّوْلِيَةِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْوَضِيعَةِ: أَيْ إِذَا خَانَ خِيَانَةً تَنْفِي الْوَضِيعَةَ؛ أَمَّا إِذَا كَانَتْ خِيَانَةً تُوجَدُ الْوَضِيعَةُ مَعَهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ، وَهَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحُطُّ فِيهِمَا، وَمُحَمَّدٌ يُخَيَّرُ فِيهِمَا. [بَابُ الرِّبَا] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ الرَّبْوَةُ لِلْمَكَانِ الزَّائِدِ عَلَى غَيْرِهِ فِي الِارْتِفَاعِ. وَفِي الشَّرْعِ: الزِّيَادَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْعَقْدِ، وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ. وَقِيلَ الرِّبَا فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ بِصِفَةٍ سَوَاءً كَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنَّ بَيْعَ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً رِبًا وَلَا زِيَادَةَ فِيهِ. وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَقَوْلُهُ: {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَزْنًا بِوَزْنٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ، كَيْلًا بِكَيْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، كَيْلًا بِكَيْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، كَيْلًا بِكَيْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، كَيْلًا بِكَيْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا» وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَعَدِّي الْحُكْمِ مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا إِلَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ وَلَا اعْتِمَادَ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَعِلَّتُهُ عِنْدَنَا الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ مَعَ الْجِنْسِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ» رَوَاهَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيُّ بَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَبِيعُوا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ، وَلَا الصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ» وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَكِيلٍ سَوَاءً كَانَ مَطْعُومًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَعَلِّقٌ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، إِمَّا إِجْمَاعًا، أَوْ لِأَنَّ التَّسَاوِيَ حَقِيقَةً لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِمَا، وَجَعْلُ الْعِلَّةِ مَا هُوَ مُتَعَلَّقُ الْحُكْمِ إِجْمَاعًا أَوْ مُعَرَّفٌ لِلتَّسَاوِي حَقِيقَةً أَوْلَى مِنَ الْمَصِيرِ إِلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي حَقِيقَةً، وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ وَالْمُمَاثَلَةَ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «سَوَاءً بِسَوَاءٍ» أَوْ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَالْمُمَاثَلَةُ بِالصُّورَةِ وَالْمَعْنَى أَتَمُّ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ، لِأَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ يُوجِبُ الْمُمَاثِلَةَ صُورَةً، وَالْجِنْسِيَّةُ تُوجِبُهَا مَعْنًى فَكَانَ أَوْلَى. وَهَذَا أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَامَّةُ مَسَائِلِ الرِّبَا، فَنَذْكُرُ بَعْضَهَا تَنْبِيهًا عَلَى الْبَاقِي لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا: مِنْهَا لَوْ بَاعَ حِفْنَةَ طَعَامٍ بِحِفْنَتَيْنِ، أَوْ تُفَّاحَةً بِتُفَّاحَتَيْنِ يَجُوزُ لِعَدَمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 فَإِذَا وُجِدَا حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ، وَإِذَا عُدِمَا حَلَّا، وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا خَاصَّةً حَلَّ التَّفَاضُلُ وَحَرُمَ النَّسَاءُ (ف) ، وَجَيِّدُ مَالِ الرِّبَا وَرَدِيئُهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ سَوَاءٌ، وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِكَيْلِهِ فَهُوَ كَيْلِيٌّ أَبَدًا، وَمَا وَرَدَ بِوَزْنِهِ فَوَزْنِيٌّ أَبَدًا؛ وَعَقْدُ الصَّرْفِ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبْضُ عِوَضَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ الرَّبَوِيَّاتِ يَكْفِي فِيهِ التَّعْيِينُ؛ وَيَجُوزُ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا (م) ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ مَا ذَكَرْنَا. (فَإِذَا وُجِدَا حَرُمَ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ) عَمَلًا بِالْعِلَّةِ. (وَإِذَا عُدِمَا حَلَّا) لِعَدَمِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ، وَلِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . (وَإِذَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا خَاصَّةً حَلَّ التَّفَاضُلُ، وَحَرُمَ النَّسَاءُ) أَمَّا إِذَا وُجِدَ الْمِعْيَارُ وَعُدِمَ الْجِنْسُ، كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ - وَيُرْوَى النَّوْعَانِ - فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» . وَأَمَّا إِذَا وُجِدَتِ الْجِنْسِيَّةُ وَعُدِمَ الْمِعْيَارُ كَالْهَرَوِيِّ بِالْهَرَوِيِّ، فَإِنَّ الْمُعَجَّلَ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّلِ وَلَهُ فَضْلٌ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ الْفَضْلُ مِنْ حَيْثُ التَّعْجِيلُ رَبًا؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَهُوَ مَشْرُوطٌ فِي الْعَقْدِ فَيَحْرُمُ. قَالَ: (وَجَيِّدُ مَالِ الرِّبَا وَرَدِيئُهُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ سَوَاءٌ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الْبِيَاعَاتِ فَيَلْغُو. قَالَ: (وَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِكَيْلِهِ فَهُوَ كَيْلِيٌّ أَبَدًا، وَمَا وَرَدَ بِوَزْنِهِ فَوَزْنِيٌّ أَبَدًا، اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ أَيْضًا، لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ عَلَى عَادَتِهِمْ فَتُعْتَبَرُ الْعَادَةُ، وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ لِأَنَّهُ مِنَ الدَّلَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ. قَالَ: (وَعَقْدُ الصَّرْفِ يُعْتَبَرُ فِيهِ قَبْضُ عِوَضَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ هَاءَ وَهَاءَ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ هَاءَ وَهَاءَ» أَيْ يَدًا بِيَدٍ. (وَمَا سِوَاهُ مِنَ الرَّبَوِيَّاتِ يَكْفِي فِيهِ التَّعْيِينُ) لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَيَتَمَكَّنُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ كَالثِّيَابِ بِخِلَافِ الصَّرْفِ، لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِيهِ لِلتَّعْيِينِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِدُونِ الْقَبْضِ عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَدًا بِيَدٍ» أَيْ عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الصَّامِتِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ فَصَارَتْ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَكَمَا إِذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا. وَلَهُمَا أَنْ ثَمَنِيَّتَهَا بِالِاصْطِلَاحِ، فَيَبْطُلُ بِهِ أَيْضًا، وَقَدِ اصْطَلَحَا عَلَى إِبْطَالِهَا، إِذْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الْبَابِ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ ثَمَنًا، وَبِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَا بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ وَلَا بِالسَّوِيقِ وَلَا بِالنُّخَالَةِ، وَلَا الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ (سم) ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَبِالتَّمْرِ (سم) مُتَمَاثِلًا،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالدَّقِيقِ وَلَا بِالسَّوِيقِ وَلَا بِالنُّخَالَةِ، وَلَا الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ شُبْهَةَ الرِّبَا، وَشُبْهَةَ الْجِنْسِيَّةِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي بَابِ الرِّبَا احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ جِنْسٌ وَاحِدٌ نَظَرًا إِلَى الْأَصْلِ، وَالْمُخَلِّصُ هُوَ التَّسَاوِي فِي الْكَيْلِ، وَأَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ لِانْكِبَاسِ الدَّقِيقِ فِي الْمِكْيَالِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِذَا عُدِمَ الْمُخَلِّصُ حَرُمَ الْبَيْعُ؛ وَكَذَا لَا تَجُوزُ الْمَقْلِيَّةُ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ، وَلَا بِالسَّوِيقِ وَالدَّقِيقِ، وَلَا الْمَطْبُوخَةُ بِغَيْرِ الْمَطْبُوخَةِ، لِتَعَذُّرِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا بِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَفِعْلُهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي إِسْقَاطِ مَا شُرِطَ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَبْلُولَةِ بِمِثْلِهَا وَبِالْيَابِسَةِ، وَالرَّطْبَةِ بِمِثْلِهَا وَبِالْيَابِسَةِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا بِصُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ؛ وَأَمَّا الْمَبْلُولَةُ فَلِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ خُلِقَتْ نِدِّيَّةً، فَالْبَلُّ يُعِيدُهَا إِلَى مَا خُلِقَتْ عَلَيْهِ كَأَنَّهَا لَمْ تَتَغَيَّرْ فَصَارَتْ كَالسَّلِيمَةِ بِالْمُسَوَّسَةِ وَالْعَلْكَةِ بِالرَّخْوَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالسَّوِيقِ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ نَظَرًا إِلَى اخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ، وَجَوَابُهُ مَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ التَّغَذِّي وَهُوَ يَشْمَلُهُمَا، وَيَجُوزُ بَيْعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَمَاثِلًا لِلتَّسَاوِي؛ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْخُبْزِ بِالدَّقِيقِ وَالْحِنْطَةِ كَيْفَ كَانَ لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ أَوْ وَزْنِيٌّ بِكُلِّيٍّ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا نَسِيئَةً وَالْآخَرُ نَقْدًا، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ اخْتِلَافٌ وَتَفْصِيلٌ وَالْفَتْوَى عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَبِالتَّمْرِ مُتَمَاثِلًا) وَكَذَا التَّمْرُ بِالْبُسْرِ وَالرُّطَبُ بِالْبُسْرِ، لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَصَارَ كَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ التَّمْرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: «أَوَيَنْقُصُ إِذَا جَفَّ؟ " قَالُوا: نَعَمْ، " قَالَ: لَا إِذًا» وَلِأَنَّ الرُّطَبَ يَنْكَبِسُ أَكْثَرَ مِنَ التَّمْرِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْعِرَاقَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ يَجُوزُ، لِأَنَّ الرُّطَبَ إِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ التَّمْرِ جَازَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَمْرًا جَازَ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: 9 «إِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» وَرَدَّ مَا رَوَيَاهُ مِنَ الْحَدِيثِ، وَقَالَ: مَدَارُهُ عَلَى زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، حَتَّى قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: كَيْفَ يُقَالُ إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ وَقَدْ عَرِفَ مِثْلَ هَذَا الْإِسْنَادِ؟ وَلِأَنَّهُ بَاعَ التَّمْرَ بِالتَّمْرِ لِأَنَّ الرُّطَبَ تَمْرٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَمَّا أُهْدِيَ لَهُ رُطَبٌ مِنْ خَيْبَرَ: " أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟» وَقَوْلُهُ: الرُّطَبُ يَنْكَبِسُ أَكْثَرَ مِنَ التَّمْرِ، قُلْنَا هَذَا التَّفَاوُتُ نَشَأَ مِنَ الصِّفَاتِ الْفِطْرِيَّةِ، وَأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَنَّا فِيمَا شُرِطَ عَلَيْنَا مِنْ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا جَاءَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ (م) ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكِرْبَاسِ بِالْقُطْنِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ، وَلَا السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ إِلَّا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَلَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ (س) ، وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ. بَابُ السَّلَمِ   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى مَا مَرَّ آنِفًا. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إِذَا بَاعَهُ بِجِنْسِهِ إِلَّا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمُفْرَزُ أَكْثَرَ مِنَ اللَّحْمِ الَّذِي فِي الشَّاةِ لِيَكُونَ الْفَاضِلُ بِالسَّقْطِ تَحَرُّزًا عَنِ الرِّبَا، وَهُوَ زِيَادَةُ السَّقْطِ وَصَارَ كَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ بَاعَ مَوْزُونًا بِعَدَدِيٍّ، وَلَا يُعْرَفُ مَا فِيهِ مِنَ اللَّحْمِ بِالْوَزْنِ، لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يُخَفِّفُ نَفْسَهُ فِي الْمِيزَانِ مَرَّةً وَيُثَقِّلُهَا أُخْرَى بِخِلَافِ الزَّيْتِ وَالزَّيْتُونِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ الْكِرْبَاسِ بِالْقُطْنِ) لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ وَالْمِعْيَارِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَالْقُطْنُ بِالْغَزْلِ يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِمَا ذَكَرْنَا، خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِلْمُجَانَسَةِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ، وَلَا السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ إِلَّا بِطَرِيقِ الِاعْتِبَارِ) تَحَرُّزًا عَنِ الرِّبَا وَشُبْهَتِهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا شَابَهَهُ كَالْعِنَبِ بِدِبْسِهِ وَالْجَوْزِ بِدُهْنِهِ وَأَمْثَالِهِ، وَاللُّحْمَانُ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا حَتَّى لَا يُكَمَّلَ نِصَابُ بَعْضِهَا مِنَ الْآخَرِ، إِلَّا أَنَّ الْبَقَرَ وَالْجَوَامِيسَ جِنْسٌ، وَالْمَعَزَ وَالضَّأْنَ جِنْسٌ، وَالْبَخْتَ وَالْعِرَابَ جِنْسٌ، وَكَذَلِكَ الْأَلْبَانُ وَالشَّحْمُ وَالْأَلْيَةُ جِنْسَانِ، وَشَحْمُ الْجَنْبِ لَحْمٌ وَيُعْرَفُ تَمَامُهُ فِي الْأَيْمَانِ. قَالَ: (وَلَا رِبًا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى هَذَا الْقِمَارِ لِأَنَّ الرِّبَا وَالْقِمَارَ حَرَامٌ، وَلَا يَحِلُّ فِي دَارِهِمْ كَالْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا. وَلَهُمَا أَنَّ مَالَهُمْ مُبَاحٌ، إِلَّا أَنَّهُ بِالْأَمَانِ حَرُمَ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ، فَإِذَا رَضَوْا بِهِ حَلَّ أَخْذُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ، لِأَنَّ مَالَهُ صَارَ مَحْظُورًا بِالْأَمَانِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ السَّفَاتِجُ) وَهُوَ قَرْضٌ اسْتَفَادَ بِهِ الْمُقْرِضُ أَمْنَ الطَّرِيقِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبًا» وَصُورَتُهُ أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ عِوَضُهَا فِي بَلَدِهِ، أَوْ عَلَى أَنْ يَحْمِيَهُ فِي الطَّرِيقِ. [بَابُ السَّلَمِ] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيمُ وَالتَّسْلِيمُ وَكَذَلِكَ السَّلَفُ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: اسْمٌ لِعَقْدٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الثَّمَنِ عَاجِلًا وَفِي الْمُثَمَّنِ آجِلًا، وَسُمِّيَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُوبِ تَقْدِيمِ الثَّمَنِ، وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 كُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ، وَمَا لَا فَلَا، وَشَرَائِطُهُ: تَسْمِيَةُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْوَصْفِ وَالْأَجَلِ وَالْقَدْرِ وَمَكَانِ الْإِيفَاءِ (سم) إِنْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمَؤُونَةٌ، وَقَدْرُ (سم) رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ، وَقَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْقُدُورِيُّ: السَّلَمُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: عَقْدٌ يَتَضَمَّنُ تَعْجِيلَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَتَأْجِيلَ الْآخَرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْبَيْعِ، لَكِنْ لَمَّا اخْتَصَّ بِحُكْمٍ وَهُوَ تَعْجِيلُ الثَّمَنِ اخْتَصَّ بِاسْمٍ كَالصَّرْفِ لَمَّا اخْتَصَّ بِوُجُوبِ تَعْجِيلِ الْبَدَلَيْنِ اخْتَصَّ بِاسْمٍ، وَهُوَ عَقْدٌ شُرِعَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ، إِلَّا أَنَّا تَرْكُنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَازَ السَّلَمَ وَأَنْزَلَ فِيهِ أَطْوَلَ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ» وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَيُسَمَّى بَيْعَ الْمَفَالِيسِ شُرِعَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَى رَأْسِ الْمَالِ، لِأَنَّ أَغْلَبَ مَنْ يَعْقِدُهُ مَنْ لَا يَكُونُ الْمُسْلَمُ فِيهِ فِي مِلْكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ يَبِيعُهُ بِأَوْفَرِ الثَّمَنَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى السَّلَمِ، وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ السَّلَمِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، وَبِلَفْظِ السَّلَفِ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ، وَبِلَفْظِ الْبَيْعِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ لِأَنَّهُ نَوْعُ بَيْعٍ، وَفِي رِوَايَةِ الْمُجَرَّدِ لَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ: (كُلُّ مَا أَمْكَنَ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ) لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ. (وَمَا لَا فَلَا) لِأَنَّهُ يَكُونُ مَجْهُولًا فَيُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يُبْتَنَى عَلَيْهَا أَكْثَرُ مَسَائِلِ السَّلَمِ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِهَا لِيُعْرَفَ بَاقِيهَا بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا فَنَقُولُ: يَجُوزُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَزْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ ضَبْطُ صِفَتِهِ وَمَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَأَشْبَاهِهِمَا؛ وَلَا فِي الْجَوْهَرِ وَالْخَرَزِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ فِي الطَّسْتِ وَالْقُمْقُمِ وَالْخُفَّيْنِ وَنَحْوِهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يَجُوزُ فِي الْخُبْزِ لِتَفَاوُتِهِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا بِالثَّخَانَةِ وَالرِّقَّةِ وَالنُّضْجِ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِتَفَاوُتِهِ عَدَدًا مِنْ حَيْثُ الْخِفَّةُ وَالثِّقَلِ، وَوَزْنًا مِنْ حَيْثُ الصَّنْعَةُ. وَعِنْدِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ وَزْنًا لَا عَدَدًا، لِأَنَّ الْوَزْنَ أَعْدَلُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ بِهِمَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِتَعَامُلِ النَّاسِ بِهِ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَشَرَائِطُهُ تَسْمِيَةُ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالْوَصْفِ وَالْأَجَلِ وَالْقَدْرِ وَمَكَانِ الْإِيفَاءِ إِنْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمَؤُونَةٌ، وَقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ، وَقَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ) لِأَنَّ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تُنْفَى الْجَهَالَةُ وَتُقْطَعُ الْمُنَازَعَةُ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] يَكُونُ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولًا فَتُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَالْجِنْسُ كَالْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ، وَالنَّوْعُ كَالْبَرْنِيِّ، وَالْمَكْتُومُ فِي التَّمْرِ وَفِي الْحِنْطَةِ كَسَهْلِيَّةٍ وَجَبَلِيَّةٍ، وَالْوَصْفُ كَالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ، وَالْأَجَلُ كَقَوْلِهِ إِلَى شَهْرٍ وَنَحْوِهِ وَهُوَ شَرْطٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شُرِعَ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّأْجِيلِ لِيَقْدِرَ عَلَى التَّحْصِيلِ وَتَقْدِيرُهُ إِلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ، ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ. وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، رَوَاهُ عَنْ أَصْحَابِنَا اعْتِبَارًا بِمُدَّةِ الْخِيَارِ. وَرُوِيَ عَنْهُمْ لَوْ شُرِطَ نِصْفُ يَوْمٍ جَازَ لَأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ الْخِيَارِ لَا تَتَقَدَّرُ فَكَذَلِكَ أَجَلُ السَّلَمِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ شَهْرٌ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجِلِ وَأَقْصَى الْعَاجِلِ. وَأَمَّا الْقَدْرُ فَقَوْلُهُ كَذَا قَفِيزًا وَكَذَا رِطْلًا، وَهُوَ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ» وَأَمَّا مَكَانُ الْإِيفَاءِ فَقَوْلُنَا فِي مَكَانِ كَذَا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ إِذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمَؤُونَةٌ، وَقَالَا: لَا يَشْتَرِطُ وَيُوَفِّيهِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ مُتَعَيِّنٌ لِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَكَمَا فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ. وَلَهُ أَنَّ التَّسْلِيمَ غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَلَا يَدْرِي أَيْنَ يَكُونُ عِنْدَ حُلُولِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ مَوْضِعِ الْإِيفَاءِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ فِي الْحَالِ، وَلَا مُنَازَعَةَ فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْأُجْرَةُ وَالثَّمَنُ إِذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ، وَالْقِسْمَةُ وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمَؤُونَةٌ، وَإِذَا شَرَطَ مَكَانًا يَتَعَيَّنُ عَمَلًا بِالشَّرْطِ؛ وَأَمَّا مَا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ، وَمَؤُونَةٌ كَالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ وَنَحْوِهِمَا لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، وَهَلْ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ؟ عَنْهُ رِوَايَتَانِ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ، وَلَوْ شَرَطَ لَهُ مَكَانًا قِيلَ لَا يَتَعَيَّنُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَقِيلَ يَتَعَيَّنُ لِلْفَائِدَةِ، لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَنْبَرِ فِي الْمِصْرِ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي السَّوَادِ، وَلِأَنَّ فِيهِ أَمْنَ خَطَرِ الطَّرِيقِ. وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِهَا وَصَارَ كَالثَّوْبِ إِذَا كَانَ رَأْسَ الْمَالِ. وَلَهُ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَجِدُ بَعْضَهَا زُيُوفًا وَقَدْ أَنْفَقَ الْبَعْضَ فَيَرُدُّهُ وَلَا يُسْتَبْدَلُ فِي الْمَجْلِسِ، وَفِي الْمِثْلِيَّاتِ يَنْقَسِمُ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فَيَنْتَقِضُ السَّلَمُ بِقَدْرِ مَا رُدَّ، وَلَا يُدْرَى قَدْرُ الْبَاقِي فَيُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمَوْهُومُ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالْمُتَحَقِّقِ لِشَرْعِيَّتِهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا أَسْلَمَ فِي جِنْسَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ أَحَدِهِمَا. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ الْعَشَرَةَ وَهَذِهِ الدَّنَانِيرَ فِي كَذَا، أَوْ يَقُولُ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ، أَوْ فِي ثَوْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ غَيْرَ مِثْلِيٍّ كَالثَّوْبِ وَالْحَيَوَانِ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ قِيمَتُهُ وَذَرْعُهُ، لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ الذُّرْعَانِ لِتَفَاوُتِهَا فِي الْجَوْدَةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا عَلَى الْقِيمَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْعَقْدِ فَلَا يُفِيدُ مَعْرِفَتُهَا فَلَا يُعْتَبَرُ. وَأَمَّا قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ فَلِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ عَلَى مَا مَرَّ، فَيَجِبُ قَبْضُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ لِيَتَحَقَّقْ مَعْنَى الِاسْمِ، وَلَا يَجِبُ قَبْضُ الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْحَالِ فَيَجِبُ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا يَصِيرُ كَالِئًا بِكَالِئٍ وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَالْقِيَاسُ أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فَقَدِ افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِعَيْنٍ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنَّهُ شَرْطٌ عَمَلًا بِالْخَبَرِ وَمُقْتَضَى لَفْظِ السَّلَمِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ فَيُخِلُّ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ عِوَضَ رَأْسِ الْمَالِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ الْمَشْرُوطِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِنْ قُبِلَ الْإِبْرَاءُ سَقَطَ الْقَبْضُ وَبَطَلَ الْعَقْدُ، وَإِنْ رَدَّهُ لَمْ يَبْطُلْ لِأَنَّهُ صَحَّ بِتَرَاضِيهِمَا فَلَا يَبْطُلُ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْ جِنْسِهِ أَرْدَأَ مِنْهُ وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إِلَيْهِ بِهِ جَازَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ وَإِنْ خَالَفَ فِي الصِّفَةِ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَعْطَى أَجْوَدَ مِنْهُ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ خِلَافًا لِزُفَرَ. لَهُ أَنَّهُ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْجَوْدَةِ فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ. وَلَنَا أَنَّ الْجَوْدَةَ لَا تُخْرِجُهُ عَنِ الْجِنْسِ وَهِيَ غَيْرُ مُنْفَرِدَةٍ عَنِ الْعَيْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الرِّضَى إِذَا تَبَرَّعَ بِهَا كَالرُّجْحَانِ فِي الْوَزْنِ. وَأَمَّا الْمُسْلَمُ فِيهِ فَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَا يَجِبُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْهُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ عِوَضَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ» وَعَنِ الصَّحَابَةِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا «لَيْسَ لَكَ إِلَّا سَلَمُكُ أَوْ رَأْسُ مَالِكَ» فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنَ الْجِنْسِ أَجْوَدَ أَوْ أَرْدَأَ جَازَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَشَرْطٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ فِي الْبَدَلَيْنِ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ الرِّبَا حَتَّى لَا يَجُوزَ إِسْلَامُ الْهَرَوِيِّ فِي الْهَرَوِيِّ وَلَا إِسْلَامُ الْكَيْلِيِّ فِي الْكَيْلِيِّ كَالْحِنْطَةِ فِي الشَّعِيرِ وَلَا الْوَزْنِيِّ فِي الْوَزْنِيِّ كَالْحَدِيدِ فِي الصُّفْرِ أَوْ فِي الزَّعْفَرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: «إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ، وَلَا خَيْرَ فِي نَسِيئَةٍ» وَهَذَا مُطَّرِدٌ إِلَّا فِي الْأَثْمَانِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِسْلَامُهَا فِي الْوَزْنِيَّاتِ ضَرُورَةً لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ الْأَثْمَانَ تُخَالِفُ غَيْرَهَا مِنَ الْوَزْنِيَّاتِ فِي صِفَةِ الْوَزْنِ، لِأَنَّهَا تُوزَنُ بِصَنْجَاتِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَغَيْرُهَا يُوزَنُ بِالْأَرْطَالِ وَالْأَمْنَانِ، وَالْأَثْمَانُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَغَيْرُهَا يَتَعَيَّنُ فَلَمْ يَجْمَعْهُمَا أَحَدُ وَصْفَيِ الْعِلَّةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَجَازَ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، وَلَوْ أَسْلَمَ مَكِيلًا فِي مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا إِذَا أَسْلَمَ كُرَّ حِنْطَةٍ فِي كُرِّ شَعِيرٍ وَعَشَرَةِ أَرْطَالِ زَيْتٍ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ فِي الْكُلِّ، وَقَالَا: يَجُوزُ فِي حِصَّةِ الْمَوْزُونِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ مَتَى فَسَدَتْ فِي الْبَعْضِ فَسَدَتْ فِي الْكُلِّ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَفْسَدُ بِقَدْرِ الْمُفْسَدِ لِأَنَّهُ وُجِدَ فِي الْبَعْضِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا مُدَبَّرٌ، وَلَهُ أَنَّهُ فَسَادٌ قَوِيٌّ تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَيَشِيعُ فِي الْكُلِّ كَمَا إِذَا ظَهَرَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ حُرًّا أَوْ أَحَدُ الدَّنَّيْنِ خَمْرًا، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ بَيْعِهِ لَيْسَ مَجْمَعًا عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ بِهَا يَجُوزُ نَسِيئَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى السَّلَمِ فِيهِمَا، وَهَلْ يَجُوزُ فِي التِّبْرِ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَيَجُوزُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 وَلَا يَصِحُّ فِي الْمُنْقَطِعِ وَلَا فِي الْجَوَاهِرِ، وَلَا فِي الْحَيَوَانِ وَلَحْمِهِ (سم) وَأَطْرَافِهِ وَجُلُودِهِ، وَيَصِحُّ فِي السَّمَكِ الْمَالِحِ وَزْنًا، وَلَا يَصِحُّ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ، وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الْحُلِيِّ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ، وَفِي الْفُلُوسِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَقَدْ مَرَّ. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ فِي الْمُنْقَطِعِ) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ فِي الْمُدَّةِ، وَفِي مُدَّةِ انْقِطَاعِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَرُبَّمَا أَفْضَى إِلَى الْعَجْزِ عَنِ التَّسْلِيمِ وَقْتَ الْمَحَلِّ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُسْلِفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا» وَالِانْقِطَاعُ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي سُوقِهِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يُوجِدُ فِي الْبُيُوتِ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْإِقْلِيمِ كَالرُّطَبِ فِي خُرَاسَانَ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَقَالِيمِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ، وَلَوْ حَلَّ السَّلَمُ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى انْقَطَعَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَبْطُلُ السَّلَمُ، وَقِيلَ إِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ، كَإِبَاقِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ وَتَخَمُّرِ الْعَصِيرِ قَبْلَ الْقَبْضِ. قَالَ: (وَلَا فِي الْجَوَاهِرِ) لِتَفَاوُتِ آحَادُهَا تَفَاوُتًا فَاحِشًا حَتَّى لَوْ لَمْ تَتَفَاوَتْ كَصِغَارِ اللُّؤْلُؤِ الَّذِي يُبَاعُ وَزْنًا، قَالُوا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ وَزْنِيٌّ. قَالَ: (وَلَا فِي الْحَيَوَانِ وَلَحْمِهِ وَأَطْرَافِهِ وَجُلُودِهِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ» ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ الْبَاطِنَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي الْمَالِيَّةِ فَيُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ. وَأَمَّا اللَّحْمُ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَالَا: إِذَا سَمَّى مِنَ اللَّحْمِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ جَازَ لِأَنَّهُ وَزْنِيٌّ مَعْلُومُ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَيَجُوزُ. وَلَهُ أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا بِكِبَرِ الْعَظْمِ وَصِغَرِهِ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ فِي مَنْزُوعِ الْعَظْمِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، وَيَتَفَاوَتُ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ أَيْضًا، فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَصْلًا وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ شُجَاعٍ، وَلَوِ اسْتَهْلَكَ لَحْمًا ضَمِنَهُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ بِالْمِثْلِ وَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ فِي الْأَصَحِّ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَرْضَ وَالضَّمَانَ يَجِبَانِ حَالًّا فَتَكُونُ صِفَتُهُ مَعْلُومَةً وَلَا كَذَلِكَ السَّلَمُ. وَأَمَّا أَطْرَافُهُ وَجُلُودُهُ فَلِأَنَّهَا عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ تَفَاوُتًا يُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَطْرَافِ الرُّؤُوسُ وَالْأَكَارِعُ. أَمَّا الشُّحُومُ وَالْأَلْيَةُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا لِأَنَّهَا وَزْنِيٌّ مَعْلُومُ الْقَدْرِ والصِّفَةِ. قَالَ: (وَيَصِحُّ فِي السَّمَكِ الْمَالِحِ وَزْنًا) لِأَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ، وَكَذَلِكَ الطَّرِيُّ الصِّغَارُ فِي حِينِهِ. وَفِي الْكِبَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، الْمُخْتَارُ الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ السِّمَنَ وَالْهُزَالَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ عَادَةً. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي لَحْمِ الْكِبَارِ مِنْهُ. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ بِمِكْيَالٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهُ) لِأَنَّهُ رُبَّمَا هَلَكَ الْمِكْيَالُ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَيَعْجِزُ عَنِ التَّسْلِيمِ. وَكَذَا ذِرَاعٌ بِعَيْنِهِ، أَوْ وَزْنُ حَجَرٍ بِعَيْنِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمِكْيَالُ مِمَّا لَا يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ كَالْخَشَبِ وَالْحَدِيدِ لِيَكُونَ مَعْلُومًا فَلَا يُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ. أَمَّا مَا يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ كَالْجِرَابِ وَالزِّنْبِيلِ يَزْدَادُ وَيَنْتَقِصُ فَيُؤَدِّي إِلَى النِّزَاعِ. قَالَ: (وَلَا فِي طَعَامِ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا) لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَسْلَمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وَيَجُوزُ فِي الثِّيَابِ إِذَا سَمَّى طُولًا وَعَرْضًا وَرُقْعَةً، وَفِي اللَّبِنِ إِذَا عَيَّنَ الْمِلْبَنَ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا فِي رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَإِذَا اسْتَصْنَعَ شَيْئًا جَازَ اسْتِحْسَانًا (ز) ، وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَلِلصَّانِعِ بَيْعُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] طَعَامُهَا إِمَّا بِآفَةٍ أَوْ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، وَكَذَا ثَمَرَةُ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ صَاحِبِهِ؟» وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْلَمَ إِلَى زَيْدِ بْنِ سَعَفَةَ فِي تَمْرٍ فَقَالَ: أَسْلِمْ إِلَيَّ فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أَمَّا فِي تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَا» . قَالَ: (وَيَجُوزُ فِي الثِّيَابِ إِذَا سَمَّى طُولًا وَعَرْضًا وَرُقْعَةً) لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ مَعَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَالتَّفَاوُتُ بَعْدَهُ يَسِيرٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ. وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْوَزْنُ فِي الْحَرِيرِ؟ الْأَصَحُّ اشْتِرَاطُهُ، لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنُ مُعْتَبَرٌ؛ وَقِيلَ إِنْ كَانَ إِذَا ذُكِرَ الطُّولُ وَالْعَرْضُ وَالرُّقْعَةُ لَا يَتَفَاوَتُ وَزْنُهُ لَا حَاجَةَ إِلَى ذِكْرِ الْوَزْنِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ وَزْنُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَزْنِ، وَاخْتَارَهُ الْقُدُورِيُّ، وَإِذَا أَطْلَقَ الذِّرَاعَ فَلَهُ الْوَسَطُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَادًا فَلَهُ الْمُعْتَادُ. قَالَ: (وَفِي اللَّبِنِ إِذَا عَيَّنَ الْمِلْبَنَ) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ إِذَا بُيِّنَ الْمِلْبَنُ وَكَذَلِكَ الْآجُرُّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ بَاعَ مِائَةَ آجُرَّةٍ مِنْ أَتُّونٍ لَا يَجُوزُ لِلتَّفَاوُتِ فِي النُّضْجِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ) لِأَنَّهُ مَبِيعٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ وَالتَّوْلِيَةُ لِأَنَّهُمَا تَصَرُّفٌ. (وَلَا فِي رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ) لِأَنَّهُ يَجِبُ قَبْضُهُ لِلْحَالِ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَاتَ الْقَبْضُ فَلَا يَجُوزُ. [فصل إِذَا اسْتَصْنَعَ شَيْئًا جَازَ اسْتِحْسَانًا] فَصْلٌ (وَإِذَا اسْتَصْنَعَ شَيْئًا جَازَ اسْتِحْسَانًا) اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ لَكِنِ اسْتَحْسَنَّا جَوَازَهُ لِلتَّعَامُلِ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَبِمِثْلِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ وَيُخُصُّ الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ، ثُمَّ قِيلَ هِيَ مُوَاعَدَةٌ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا مُعَاقَدَةٌ لِأَنَّ فِيهِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَفَرَّقَ بَيْنَ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ وَمَا لَا، وَذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقُودِ، وَيَنْعَقِدُ عَلَى الْعَيْنِ دُونَ الْعَمَلِ حَتَّى لَوْ جَاءَ بِعَيْنٍ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ جَازَ. (وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرُّؤْيَةِ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ. (وَلِلصَّانِعِ بَيْعُهُ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ) لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَالْعَقْدُ لَمْ يَقَعْ عَلَى هَذَا بِعَيْنِهِ، فَإِذَا رَآهُ الْمُسْتَصْنِعُ وَرَضِيَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لِلصَّانِعِ بَيْعُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وَإِنْ ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا صَارَ سَلَمًا (سم) . بَابُ الصَّرْفِ وَهُوَ بَيْعُ جِنْسِ الْأَثْمَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَضْرُوبُهُمَا وَمَصُوغُهُمَا وَتِبْرُهُمَا، فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَمْ يَجُزْ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ، ثُمَّ إِنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ أَوَانِي الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ وَالْعِيدَانِ وَالْخِفَافِ وَالْقَلَانِسِ وَالْأَوْعِيَةِ مِنَ الْأُدْمِ وَالْمَنَاطِقِ وَجَمِيعِ الْأَسْلِحَةِ، وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ كَالْجِبَابِ وَنَسْجِ الثِّيَابِ، لِأَنَّ الْمُجَوِّزَ لَهُ هُوَ التَّعَامُلُ عَلَى مَا مَرَّ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَإِنْ ضَرَبَ لَهُ أَجَلًا صَارَ سَلَمًا) فَيُشْتَرَطُ لَهُ شَرَائِطُ السَّلَمِ، وَقَالَا: لَا يَصِيرُ سَلَمًا لِأَنَّهُ اسْتِصْنَاعُ حَقِيقَةٍ، فَبِضَرْبِ الْأَجَلِ لَا يَصِيرُ سَلَمًا، كَمَا لَا يَصِيرُ السَّلَمُ اسْتِصْنَاعًا بِحَذْفِ الْأَجَلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى السَّلَمِ فَيَكُونُ سَلَمًا، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي لَا لِلصُّوَرِ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُهُ سَلَمًا فَيُجْعَلُ لِوُرُودِ النَّصِّ بِجَوَازِ السَّلَمِ دُونَ الِاسْتِصْنَاعِ. وَجَوَابُهُمَا أَنَّ حَذْفَ الْأَجَلِ لَيْسَ مِنْ خَوَاصِّ الِاسْتِصْنَاعِ، أَمَّا الْأَجَلُ مِنْ خَوَاصِّ السَّلَمِ، وَيُكْتَفَى فِي الِاسْتِصْنَاعِ بِصِفَةٍ مَعْرُوفَةٍ تَحْتَمِلُ الْإِدْرَاكَ، وَلَا بُدَّ فِي السَّلَمِ مِنَ اسْتِقْصَاءِ الصِّفَةِ عَلَى وَجْهٍ يُتَيَقَّنُ بِالْإِدْرَاكِ فَافْتَرَقَا. [بَابُ الصَّرْفِ] ِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الدَّفْعُ وَالرَّدُّ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ: اصْرِفْ عَنَّا كَيْدَ الْكَائِدِينَ، وَصَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ السُّوءَ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: بَيْعُ الْأَثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، سُمِّيَ بِهِ لِوُجُوبِ دَفْعِ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِلَى صَاحِبِهِ فِي الْمَجْلِسِ. قَالَ: (وَهُوَ بَيْعُ جِنْسِ الْأَثْمَانِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَضْرُوبُهُمَا وَمَصُوغُهُمَا وَتِبْرُهُمَا، فَإِنْ بَاعَ فِضَّةً بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبًا بِذَهَبٍ لَمْ يَجُزْ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَالْفَضْلُ رِبًا» وَلِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ إِلَى وَرَاءِ السَّارِيَةِ فَلَا تُنْظِرْهُ. وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لِيُخْرَجَ مِنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَيُقْبَضَانِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا قُبِضَ أَحَدُهُمَا يَجِبُ قَبْضُ الْآخَرِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْمُفَارَقَةُ بِالْأَبْدَانِ حَتَّى لَوْ تَصَارَفَا وَسَارَا عَنْ مَجْلِسِهِمَا كَثِيرًا ثُمَّ تَقَابَضَا جَازَ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا، وَكَذَلِكَ مَجْلِسُ عَقْدِ السَّلَمِ، وَلَوْ تَصَارَفَا وَوَكَّلَا بِالْقَبْضِ فَالْمُعْتَبَرُ تَفَرُّقُ الْعَاقِدَيْنِ لَا تَفَرُّقُ الْوَكِيلَيْنِ، وَلَوْ نَامَا جَالِسَيْنِ لَمْ يَكُنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 وَلَا اعْتِبَارَ بِالصِّيَاغَةِ وَالْجَوْدَةِ، فَإِنْ بَاعَهَا مُجَازَفَةً ثُمَّ عُرِفَ التَّسَاوِي فِي الْمَجْلِسِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا، وَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَمُجَازَفَةً مُقَابَضَةً، وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارٍ بِدِينَارَيْنِ وَدِرْهَمٍ، وَبَيْعُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةٍ وَدِينَارٍ (ز) ، وَمَنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحِلْيَةِ جَازَ وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ قَدْرِ الْحِلْيَةِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ.   [الاختيار لتعليل المختار] فُرْقَةً، وَلَوْ نَامَا مُضْطَجِعَيْنِ كَانَ فُرْقَةً، وَلَا يَجُوزُ خِيَارُ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ يَنْفِي اسْتِحْقَاقَ الْقَبْضِ وَلَا الْأَجَلِ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْقَبْضَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الصِّحَّةِ، فَإِنْ أَسْقَطَهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ مَرَّ، وَلَوِ اشْتَرَى بِثَمَنِ الصَّرْفِ عَرَضًا قَبْلَ قَبْضِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْقَبْضَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ، وَكَذَا كُلُّ تَصَرُّفٍ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلَا اعْتِبَارَ بِالصِّيَاغَةِ وَالْجَوْدَةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا فِيهِ سَوَاءٌ» . (فَإِنْ بَاعَهَا مُجَازَفَةً ثُمَّ عَرَفَ التَّسَاوِيَ فِي الْمَجْلِسِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا) لِمَا عُرِفَ أَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَالْعِلْمِ فِي ابْتِدَائِهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمَا لَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا، لِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَحْصِيلُهُ، أَمَّا وُجُودُهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْبَنِي عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَتُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْغَلَبَةُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فَهِيَ كَالْجِيَادِ فِي الصَّرْفِ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا وَمُجَازَفَةً مُقَابَضَةً) . لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ» وَلَوِ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارٍ بِدِينَارَيْنِ وَدِرْهَمٍ، وَبَيْعُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةٍ وَدِينَارٍ) وَكَذَا دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ، وَكَذَا كُرَّيْ حِنْطَةٍ، وَكُرِّ شَعِيرٍ بِكُرِّ حِنْطَةٍ، وَكُرَّيْ شَعِيرٍ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عِنْدَنَا يُصْرَفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْجِنْسَيْنِ إِلَى خِلَافِهِ حَمْلًا لِتَصَرُّفِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ، فَإِنَّهُ يَصْرِفُ الْجِنْسَ إِلَى جِنْسِهِ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ. وَلَنَا أَنَّهُمَا قَصَدَا الصِّلَةَ ظَاهِرًا فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِقَصْدِهِمَا، وَدَفْعًا لِحَاجَتِهِمَا؛ وَلَوْ بَاعَ الْجِنْسَ بِمِثْلِهِ، وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَمَعَهُ عَرْضٌ إِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الْعَرْضِ قَدْرَ النُّقْصَانِ جَازَ وَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رِبًا. قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحِلْيَةِ جَازَ) وَمُرَادُهُ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ الْحِلْيَةِ جَازَ لِتَكُونَ الْحِلْيَةُ بِمِثْلِهَا وَالزِّيَادَةُ بِالنَّصْلِ وَالْحَمَائِلِ وَالْجِفَنِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهَا أَوْ أَقَلَّ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ رِبًا، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ جِنْسِهَا جَازَ كَيْفَ كَانَ لِجَوَازِ التَّفَاضُلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ قَدْرِ الْحِلْيَةِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ) لِأَنَّهُ صَرْفٌ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وَإِنْ بَاعَ إِنَاءَ فِضَّةٍ، أَوْ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ، فَقَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ ثُمَ افْتَرَقَا صَارَ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا، فَإِنِ اسْتُحِقَّ بَعْضُ الْإِنَاءِ، فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَلَوِ اسْتُحِقَّ بَعْضُ الْقِطْعَةِ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ، فَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً عَيَّنَهَا، وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً لَمْ يُعَيِّنْهَا، فَإِنْ بَاعَ بِهَا ثُمَّ كَسَدَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ (سم) ؛ وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا وَقَالَ: أَعْطِنِي بِهِ فُلُوسًا وَنِصْفًا إِلَّا حَبَّةً جَازَ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَوِ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَالْحِلْيَةُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَقَبَضَ مِنْهَا عَشْرَةً فَهِيَ حِصَّةُ الْحِلْيَةِ وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا حَمْلًا لِتَصَرُّفِهِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَكَذَا إِذَا قَالَ خُذْهَا مِنْ ثَمَنِهِمَا لِأَنَّ قَصْدَهُ الصِّحَّةُ، وَقَدْ يُرَادُ بِالِاثْنَيْنِ أَحَدُهُمَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وَكَذَا إِنِ اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ عَشَرَةٍ نَقْدًا وَعَشَرَةٍ نَسِيئَةً، فَالنَّقْدُ حِصَّةُ الْحِلْيَةِ لِمَا تَقَدَّمَ؛ فَإِنِ افْتَرَقَا لَا عَنْ قَبْضٍ بَطَلَ الْبَيْعُ فِيهِمَا إِنْ كَانَتِ الْحِلْيَةُ لَا تَتَخَلَّصُ إِلَّا بِضَرَرٍ كَجِذْعٍ فِي سَقْفٍ، وَإِنْ كَانَتْ تَتَخَلَّصُ جَازَ فِي السَّيْفِ وَبَطَلَ فِي الْحِلْيَةِ كَالطَّوْقِ فِي عُنُقِ الْجَارِيَةِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا جَمِيعَ أَمْثَالِهَا. (وَإِنْ بَاعَ إِنَاءَ فِضَّةٍ أَوْ قِطْعَةَ نُقْرَةٍ فَقَبَضَ بَعْضَ الثَّمَنِ ثُمَّ افْتَرَقَا صَارَ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا) فَيَكُونُ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ بِقَدْرِ مَا نَقَدَ مِنَ الثَّمَنِ، وَلَا خِيَارَ لَهُ، لِأَنَّ الْعَيْبَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ لَمْ يَنْقُدْ جَمِيعَ الثَّمَنِ. (فَإِنِ اسْتُحِقَّ بَعْضُ الْإِنَاءِ، فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عَيْبٌ فِي الْإِنَاءِ. (وَلَوِ اسْتُحِقَّ بَعْضُ الْقِطْعَةِ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ وَلَا خِيَارَ لَهُ) لِأَنَّ التَّشْقِيصَ لَا يَضُرُّ الْقِطْعَةَ فَلَمْ تَكُنِ الشَّرِكَةُ فِيهِ عَيْبًا. قَالَ: (وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْفُلُوسِ) لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ. (فَإِنْ كَانَتْ كَاسِدَةً عَيَّنَهَا) لِأَنَّهَا عُرُوضٌ. (وَإِنْ كَانَتْ نَافِقَةً لَمْ يُعَيِّنْهَا) لِأَنَّهَا مِنَ الْأَثْمَانِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (فَإِنْ بَاعَ ثُمَّ كَسَدَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ) خِلَافًا لَهُمَا لِأَنَّ الْبَيْعَ صَحَّ فَلَا يَفْسُدُ لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ بِالْكَسَادِ، كَمَا إِذَا اشْتَرَى بِشَيْءٍ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَانْقَطَعَ فَتَجِبُ قِيمَتُهَا، غَيْرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يُوجِبُهَا يَوْمَ الْبَيْعِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَضْمُونٌ بِهِ، وَمُحَمَّدًا: يَوْمَ الْكَسَادِ لِأَنَّ عِنْدَهُ تَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ثَمَنِيَّةَ الْفُلُوسِ بِالِاصْطِلَاحِ فَيَهْلَكُ بِالْكَسَادِ فَيَبْقَى الْمَبِيعُ بِلَا ثَمَنٍ فَيَبْطُلُ، فَيُرَدُّ الْمَبِيعُ أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ كَانَ هَالِكًا. قَالَ: (وَمَنْ أَعْطَى صَيْرَفِيًّا دِرْهَمًا، وَقَالَ أَعْطِنِي بِهِ فُلُوْسًا وَنِصْفًا إِلَّا حَبَّةً جَازَ) وَيُصْرَفُ النِّصْفُ إِلَّا حَبَّةً إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الدِّرْهَمِ وَالْبَاقِي إِلَى الْفُلُوسِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ جِنْسُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 كِتَابُ الشُّفْعَةِ وَلَا شُفْعَةَ إِلَّا فِي الْعَقَارِ، وَتَجِبُ فِي الْعَقَارِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُقْسَمُ أَوْ مِمَّا لَا يُقْسَمُ. وَتَجِبُ إِذَا مَلَكَ الْعَقَارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الشُّفْعَةِ] [ما تكون فيه الشُّفْعَةِ] ِ وَهِيَ الضَّمُّ، وَمِنْهُ الشَّفْعُ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ ضَمُّ رَكْعَةٍ إِلَى أُخْرَى. وَالشَّفْعُ: الزَّوْجُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْفَرْدِ، وَالشَّفِيعُ لِانْضِمَامِ رَأْيِهِ إِلَى رَأْيِ الْمَشْفُوعِ لَهُ فِي طَلَبِ النَّجَاحِ، وَشَفَاعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُذْنِبِينَ لِأَنَّهَا تَضُمُّهُمْ إِلَى الصَّالِحِينَ، وَالشُّفْعَةُ فِي الْعَقَارِ لِأَنَّهَا ضَمُّ مِلْكِ الْبَائِعِ إِلَى مِلْكِ الشَّفِيعِ، وَهِيَ تَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي بِيعَ بِهِ رَضِيَ الْمُتَبَايِعَانِ أَوْ سَخِطَا، وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، إِلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا ثُبُوتَهَا بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، «الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ» رَوَاهُ جَابِرٌ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الدَّارِ» وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ يُنْكِرُ هَذَا الْقَوْلَ، وَيَقُولُ: وُجُوبُ الشُّفْعَةِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الْمَقْطُوعِ بِهَا لَا يُقَالُ إِنَّهُ اسْتِحْسَانٌ. قَالَ: (وَلَا شُفْعَةَ إِلَّا فِي الْعَقَارِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا شُفْعَةَ إِلَّا فِي رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ» وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ وَجَبَتْ فِي الْعَقَارِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الدَّخِيلِ فِيمَا هُوَ مُتَّصِلٌ عَلَى الدَّوَامِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَنْقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُومُ دَوَامَ الْعَقَارِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ. (وَتَجِبُ فِي الْعَقَارِ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُقْسَمُ) كَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْقُرَى. (أَوْ مِمَّا لَا يُقْسَمُ) كَالْبِئْرِ وَالرَّحَى وَالطَّرِيقِ، لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُوجِبَةَ لِلشُّفْعَةِ لَا تُفَصَّلُ وَسَبَبُهَا الْمِلْكُ الْمُتَّصِلُ، وَالْمَعْنَى الَّذِي وَجَبَتْ لَهُ دَفْعُ ضَرَرِ الدَّخِيلِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ فِي النَّوْعَيْنِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ» . [متى تجب الشُّفْعَةِ ومتى تستقر ومتى تملك] (وَتَجِبُ إِذَا مَلَكَ الْعَقَارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ) حَتَّى لَوْ مَلَكَهُ بَعُوضٍ لَيْسَ بِمَالٍ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ، وَكَذَا لَوْ مَلَكَهُ لَا بَعِوَضٍ كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِرْثِ، لَأَنَّ الشَّفِيعَ إِنَّمَا يَأْخُذُهَا بِمِثْلِ مَا أَخَذَهَا بِهِ الدَّخِيلُ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا مِثْلَ لَهَا وَلَا قِيمَةَ، أَمَّا الْخَالِيَةُ عَنِ الْأَعْوَاضِ فَظَاهَرٌ. وَأَمَّا الْمُقَابَلَةُ بِالْأَعْوَاضِ الْمَذْكُورَةِ، أَمَّا عَدَمُ الْمُمَاثَلَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلِأَنَّ قِيمَتَهَا غَيْرُ مَعْلُومَةٍ حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْقِيمَةَ مَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُقَوَّمِ فِي الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا تَقَوَّمَتْ فِي النِّكَاحِ وَالْإِجَارَةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعَقْدِ فَلَا يَتَعَدَّاهُمَا، وَتَجِبُ فِي الْمَوْهُوبِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ بَيْعُ انْتِهَاءٍ عَلَى مَا يَأْتِيكَ فِي الْهِبَةِ، وَكَذَا تَجِبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 وَتَجِبُ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ، وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ، وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ سَوَاءٌ، وَتَجِبُ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ثُمَّ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ، ثُمَّ لِلْجَارِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الصُّلْحِ عَنْ إِقْرَارٍ أَوْ سُكُوتٍ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الصُّلْحِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَتَجِبُ بَعْدَ الْبَيْعِ) لِأَنَّ بِالرَّغْبَةِ عَنِ الْمِلْكِ تَجِبُ الشُّفْعَةُ، وَبِالْبَيْعِ يُعْرَفُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمَالِكُ بِالْبَيْعِ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُشْتَرِي، وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ الشُّفْعَةَ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ، وَخِيَارُ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُهُ لِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ. قَالَ: (وَتَسْتَقِرُّ بِالْإِشْهَادِ) لِأَنَّ بِالْإِشْهَادِ يُعْلَمُ طَلَبُهُ إِذْ لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ عَلَى مَا يَأْتِي، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ، فَإِذَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ اسْتَقَرَّتْ. قَالَ: (وَتُمْلَكُ بِالْأَخْذِ) إِذَا أَخَذَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ لَهُ بِهَا حَاكِمٌ، لِأَنَّ بِالْعَقْدِ تَمَّ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَّا بِرِضَاهُ أَوْ بِقَضَاءٍ كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ، حَتَّى لَوْ بَاعَ الشَّفِيعُ مَا يَشْفَعُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الطَّلَبِ بَعْدَ الطَّلَبِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بَطَلَتْ وَلَا تُورَثُ. قَالَ: (وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ سَوَاءٌ) لِعُمُومِ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ وَهُوَ الِاتِّصَالُ، وَالْمَعْنَى يَشْمَلُهُمْ وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ. قَالَ: (وَتَجِبُ لِلْخَلِيطِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ فِي حَقِّ الْمَبِيعِ، ثُمَّ لِلْجَارِ) أَمَّا الْخَلِيطُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشُّفْعَةُ لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ» وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمَبِيعِ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِشُفْعَةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ، وَيُنْتَظَرُ إِنْ كَانَ غَائِبًا إِذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا» وَأَمَّا الْجَارُ فَلِمَا تَقَدَّمَ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ» أَيْ بِسَبَبِ قُرْبِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سَقَبُهُ؟ قَالَ: شُفْعَتُهُ» وَلِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجَارِ مِنْ حَيْثُ إِيقَادُ النَّارِ، وَإِثَارَةُ الْغُبَارِ، وَإِعْلَاءُ الْجِدَارِ؛ وَتَجِبُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّرْتِيبِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنَ الْخَلِيطِ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنَ الْجَارِ» فَالشَّرِيكُ فِي الرَّقَبَةِ، وَالْخَلِيطُ فِي الْحُقُوقِ، وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ أَخَصُّ بِالضَّرَرِ، ثُمَّ الْخَلِيطَ، ثُمَّ الْجَارَ، لِأَنَّ الشَّرِيكَ شَارَكَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَزَادَ، وَكَذَلِكَ الْخَلِيطُ شَارَكَ الْجَارَ وَزَادَ عَلَيْهِ فَيَتَرَجَّحُ لِقُوَّةِ السَّبَبِ، فَإِنْ سَلَّمَ الشَّرِيكُ فِي الرَّقَبَةِ يَصِيرُ كَأَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وَتُقْسَمُ عَلَى عَدَدِ الرُّؤُوسِ، وَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ يَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ عَلَى الطَّلَبِ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ بَطَلَتْ، ثُمَّ يُشْهِدُ عَلَى الْبَائِعِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ   [الاختيار لتعليل المختار] لَمْ يَكُنْ فَيَأْخُذُهَا الشَّرِيكُ فِي الْحُقُوقِ، فَإِنْ سَلَّمَ أَخَذَهَا الْجَارُ؛ وَالْمُرَادُ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ وَإِنْ كَانَ بَابُهُ إِلَى سِكَّةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَضِرُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعَانِي. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا حَقَّ لَهُمَا مَعَ الشَّرِيكِ فِي الرَّقَبَةِ وَإِنْ سَلَّمَ؛ لِأَنَّهُ حَجَبَهُمَا فَلَا حَقَّ لَهُمَا مَعَهُ كَالْحَجْبِ فِي الْمِيرَاثِ، وَوَجْهُ الظَّاهِرِ مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُمُ اسْتَوَوْا فِي السَّبَبِ لَكِنَّهُ تَقَدَّمَ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِذَا سَلَّمَ عَمِلَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِمَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ كَالدَّيْنِ بِالرَّهْنِ وَبِغَيْرِ رَهْنٍ إِذَا أَسْقَطَ الْمُرْتَهِنُ حَقَّهُ، وَحُقُّ الْمَبِيعِ الطَّرِيقُ الْخَاصُّ وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ نَافِذًا، وَالنَّهْرُ الْخَاصُّ وَهُوَ مَا لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ. قَالَ: (وَتُقَسَّمُ عَلَى عَدَدِ الرُّؤُوسِ) وَصُورَتُهُ دَارَ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لِأَحَدِهِمُ النِّصْفُ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِلْآخَرِ السُّدُسُ، بَاعَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ فَالشُّفْعَةُ لِلْبَاقِينَ عَلَى السَّوَاءِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمْ أَخَذَ الْجَمِيعُ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ، وَكَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُهُمْ وَهُوَ لُحُوقُ الْأَذَى فَيَسْتَوُونَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لَهُمَا جَارَانِ أَحَدُهُمَا مُلَاصِقٌ مِنْ ثَلَاثِ جَوَانِبَ وَالْآخَرُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، فَهُمَا سَوَاءٌ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي لُحُوقِ الضَّرَرِ وَالسَّبَبِ. قَالَ: (وَإِذَا عُلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ عَلَى الطَّلَبِ) وَهَذَا طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ وَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّمَا الشُّفْعَةُ كَنَشِطَةِ عِقَالٍ، إِنْ قَيَّدْتَهَا ثَبَتَتْ وَإِلَّا ذَهَبَتْ» وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّرَوِّي وَالنَّظَرِ فَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ مَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ كَخِيَارِ الْقَبُولِ وَالْمُخَيَّرَةِ. (فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ بَطَلَتْ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ، وَلَا تَبْطُلُ إِذَا حَمِدَ اللَّهَ أَوْ سَبَّحَهُ أَوْ سَلَّمَ أَوْ شَمَّتَ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ؛ وَكَذَا إِذَا سَأَلَ عَنِ الْمُشْتَرِي وَكَمِّيَّةِ الْثَّمَنِ وَمَاهِيَّتِهِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الطَّلَبِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ أَوْ قَبْلَ الظُّهْرِ فَأَتَمَّهَا لَمْ تَبْطُلْ، وَلَوْ زَادَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّنَنِ بَطَلَتْ، ثُمَّ هَذَا الطَّلَبُ إِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِذَا أَخْبَرَهُ بِهِ رَجُلٌ عَدْلٌ، أَوْ رَجُلَانِ مَسْتُورَانِ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَعِنْدَهُمَا يَكْفِي خَبَرُ الْوَاحِدِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا إِذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا، وَتَمَامُهُ يَأْتِيكَ فِي الْوَكَالَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمُعْتَبَرُ الطَّلَبُ دُونَ الْإِشْهَادِ، وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ لِلْإِثْبَاتِ حَتَّى لَوْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى الطَّلَبِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الشُّهُودِ. قَالَ: (ثُمَّ يَشْهَدُ عَلَى الْبَائِعِ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ أَوْ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ عِنْدَ الْعَقَارِ) وَهَذَا طَلَبٌ التَّقْرِيرُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ الْإِشْهَادُ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ لِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الطَّلَبِ الثَّانِي لِلْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْقَاضِي، فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ لَمْ يُسَلِّمْهُ، فَإِنْ شَاءَ أَشْهَدَ عَلَيْهِ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمُ الْبَائِعُ بِالْيَدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 وَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ، وَإِذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ، أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، أَوْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِهِ ثَبَتَ مِلْكُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْمُشْتَرِي بِالْمِلْكِ، وَإِنْ شَاءَ عِنْدَ الْمَبِيعِ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ فُلَانًا بَاعَ هَذِهِ الدَّارَ وَيَذْكُرُ حُدُودَهَا الْأَرْبَعَةَ، وَأَنَا شَفِيعُهَا طَلَبْتُ شُفْعَتَهَا وَأَطْلُبُهَا الْآنَ فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ سَلَّمَهَا لَا يَجُوزُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ خَصْمًا، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ. (وَلَا تَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِنْ تَرَكَهُ مَجْلِسًا أَوْ مَجْلِسَيْنِ مِنْ مَجَالِسِ الْحُكْمِ بَطَلَ. وَعَنْهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ. وَقَدَّرَهُ مُحَمَّدٌ بِشَهْرٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَضَرَّرُ بِالتَّأْخِيرِ لِنَقْضِ تَصَرُّفَاتِهِ، فَقَدَّرَهُ بِالشَّهْرِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْآجِلِ وَأَكْثَرُ الْعَاجِلِ، وَمُرَادُهُمَا إِذَا تُرِكَ لِغَيْرِ عُذْرٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ فَلَا يَسْقُطُ بِالتَّأْخِيرِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، وَضَرَرُ الْمُشْتَرِي يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْمُرَافَعَةِ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يُوَقِّتَ لَهُ وَقْتًا يُوَفِّيهِ فِيهِ الثَّمَنَ وَإِلَّا يَبْطُلُ حَقُّهُ. قَالَ فِي الْهِدَايَةِ وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ قَدْ يَخْتَفِي الشَّفِيعُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْضَارِهِ إِلَى الْقَاضِي فَيَدْفَعُ الضَّرَرَ بِقَوْلِهِمَا. قَالَ: (وَإِذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ عِنْدَ الْحَاكِمِ سَأَلَ الْحَاكِمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ، أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، أَوْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِهِ ثَبَتَ مِلْكُهُ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ أَوَّلًا عَنْ مَوْضِعِ الدَّارِ وَحُدُودِهَا نَفْيًا لِلِاشْتِبَاهِ، ثُمَّ يَسْأَلَهُ عَنْ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِاخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ وَقَالَ أَنَا شَفِيعُهَا بِدَارٍ لِي تُلَاصِقُهَا صَحَّتْ دَعْوَاهُ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ تَحْدِيدَ دَارِهِ أَيْضًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْأَلُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِمِلْكِهِ الَّذِي يَشْفَعُ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْبَيِّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ طَلَبَ مِنَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَكْفِي لِلِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنْ أَقَامَهَا يَثْبُتُ وَإِلَّا اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِاللَّهِ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلدَّارِ الَّتِي ذَكَرَهَا يَشْفَعُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَزِمَهُ، فَإِذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ يَحْلِفُ وَيَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْغَيْرِ، فَإِذَا نَكَلَ ثَبَتَ الْمِلْكُ، ثُمَّ يَسْأَلُهُ الْقَاضِي عَنِ الشِّرَاءِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ بِهِ أَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ ثَبَتَ وَإِلَّا اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِيَ بِاللَّهِ مَا ابْتَاعَ أَوْ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شُفْعَةً مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ، وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ فِعْلُهُ، فَإِذَا نَكَلَ قَضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرِ الثَّمَنَ ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الثَّمَنَ إِنَّمَا يَجِبُ بِانْتِقَالِ الْمِلْكِ إِلَيْهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَّا بِالْقَضَاءِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْضَارُ قَبْلَهُ كَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْبَيْعِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي مَا لَمْ يُحْضِرِ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُفْلِسًا فَيَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا قَضَى لَهُ وَأَخَذَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ مِنْ خِيَارِ رُؤْيَةٍ وَعَيْبٍ وَغَيْرِهِمَا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا الْأَجَلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُخَاصِمَ الْبَائِعَ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ، وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَيَجْعَلُ الْعُهْدَةَ عَلَى الْبَائِعِ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُخَاصِمَ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرِ الثَّمَنَ، فَإِذَا قُضِيَ لَهُ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ خَصْمٌ فِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يُسَلِّمَ إِلَى الْمُوَكِّلِ، وَعَلَى الشَّفِيعِ مِثْلُ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلَّا قِيمَتُهُ، وَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ عَنِ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ سَقَطَ عَنِ الشَّفِيعِ، فَإِنْ حَطَّ النِّصْفَ ثُمَّ النِّصْفَ أَخَذَهَا بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ، وَإِنْ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ لَا يَلْزَمُ الشَّفِيعَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِعَدَمِ الشَّرْطِ. قَالَ: (وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُخَاصِمَ الْبَائِعَ إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ) لِأَنَّهُ خَصْمٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَفْسَخُ الْبَيْعَ وَيَجْعَلُ الْعُهْدَةَ عَلَى الْبَائِعِ) لِأَنَّ الْيَدَ لِلْبَائِعِ وَالْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وَالْقَاضِي يَقْضِي بِهَا لِلشَّفِيعِ فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَالْأَجْنَبِيِّ، فَإِذَا أَخَذَهَا مِنَ الْبَائِعِ تَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الشَّفِيعَ اشْتَرَاهَا مِنَ الْبَائِعِ، فَلِهَذَا تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَخَذَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَمَّ مِلْكُهُ بِالْقَبْضِ. قَالَ: (وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُخَاصِمَ وَإِنْ لَمْ يُحْضِرَ الثَّمَنَ، فَإِذَا قُضِيَ لَهُ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. قَالَ: (وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ خَصْمٌ فِي الشُّفْعَةِ حَتَّى يُسَلِّمَ إِلَى الْمُوَكِّلِ) لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تُرْجِعُ إِلَى الْوَكِيلِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْوَكَالَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالشُّفْعَةُ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، فَإِذَا أَسْلَمَهَا إِلَى الْمُوَكِّلِ لَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ وَلَا مِلْكٌ فَيَصِيرُ الْمُوَكِّلُ خَصْمًا. قَالَ: (وَعَلَى الشَّفِيعِ مِثْلُ الثَّمَنِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَإِلَّا قِيمَتُهُ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ لَهُ بِالْمِلْكِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ. وَإِنِ اشْتَرَى الذِّمِّيُّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَالشَّفِيعُ ذِمِّيٌّ أَخَذَهَا بِمِثْلِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ، وَقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَلِمَا مَرَّ، وَأَمَّا الْخَمْرُ فَلِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهَا وَتَمَلُّكِهَا فَاسْتَحَالَ الْمِثْلُ فِي حَقِّهِ فَيُصَارُ إِلَى الْقِيمَةِ. قَالَ: (وَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ عَنِ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ سَقَطَ عَنِ الشَّفِيعِ) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ. (فَإِنْ حَطَّ النِّصْفَ ثُمَّ النِّصْفَ أَخَذَهَا بِالنِّصْفِ الْأَخِيرِ) لِأَنَّهُ لَمَّا حَطَّ النِّصْفَ الْأَوَّلَ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الثَّمَنِ، فَلَمَّا حَطَّ النِّصْفَ الْآخَرَ كَانَ حَطًّا لِلْجَمِيعِ فَلَا يَسْقُطُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَطَّ الْجَمِيعَ ابْتِدَاءً لَا يَسْقُطُ عَنِ الشَّفِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بَلْ يَكُونُ هِبَةً فَلَا يَسْقُطُ عَنِ الشَّفِيعِ. (وَإِنْ زَادَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ لَا يَلْزَمُ الشَّفِيعَ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُمَا تَوَاضَعَا عَلَى ذَلِكَ إِضْرَارًا بِالشَّفِيعِ، بِخِلَافِ الْحَطِّ لِأَنَّهُ نَفْعٌ لَهُ. قَالَ: (وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ) لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ عِنْدَ أَدَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 فَصْلٌ وَتَبْطُلُ الشُّفْعَةُ بِمَوْتِ الشَّفِيعِ وَتَسْلِيمِهِ الْكُلَّ أَوِ الْبَعْضَ، وَبِصُلْحِهِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ، وَبِبَيْعِ الْمَشْفُوعِ بِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، وَبِضَمَانِ الدَّرَكِ عَنِ الْبَائِعِ، وَبِمُسَاوَمَتِهِ الْمُشْتَرِيَ بَيْعًا وَإِجَارَةً، وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي؛ وَلَا شُفْعَةَ لِوَكِيلِ الْبَائِعِ، وَلِوَكِيلِ الْمُشْتَرِي الشُّفْعَةُ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْأَقَلِّ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي، وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ. [فصل ما يبطل الشفعة] فَصْلٌ (وَتَبْطُلُ الشُّفْعَةُ بِمَوْتِ الشَّفِيعِ وَتَسْلِيمِهِ الْكُلَّ أَوِ الْبَعْضَ، وَبِصُلْحِهِ عَنِ الشُّفْعَةِ بِعِوَضٍ. وَبِبَيْعِ الْمَشْفُوعِ بِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، وَبِضَمَانِ الدَّرَكِ عَنِ الْبَائِعِ، وَبِمُسَاوَمَتِهِ الْمُشْتَرِيَ بَيْعًا وَإِجَارَةً) أَمَّا بُطْلَانُهَا بِالْمَوْتِ فَلِأَنَّ مِلْكَهُ زَالَ بِالْمَوْتِ وَانْتَقَلَ إِلَى الْوَارِثِ، وَبَعْدَ ثُبُوتِهِ لِلْوَارِثِ لَمْ يُوجَدِ الْبَيْعُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ، وَالْمُرَادُ إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ، أَمَّا إِذَا مَاتَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَزِمَ وَانْتَقَلَتْ إِلَى وَرَثَتِهِ وَلَزِمَهُمُ الثَّمَنُ؛ وَأَمَّا تَسْلِيمُهُ الْكُلَّ فَلِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْإِسْقَاطِ؛ وَأَمَّا الْبَعْضُ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتًا لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ كَمَا مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي، وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ الْبَعْضَ لِأَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَلَا يَتَجَزَّأُ إِسْقَاطًا فَيَكُونُ ذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ، وَأَمَّا الصُّلْحُ عَنْهَا لِأَنَّ الشُّفْعَةُ حَقُّ التَّمَلُّكِ وَلَيْسَ حَقًّا مُتَقَرِّرًا، فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَالْعِنِّينِ إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي تَرْكَ الْفَسْخِ بِأَلْفٍ، أَوْ قَالَ لِلْمُخَيَّرَةِ: اخْتَارِينِي بِأَلْفٍ فَاخْتَارَتْ سَقَطَ الْفَسْخُ وَلَا شَيْءَ لَهُمَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَابِلْهُ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ فَلَا يَكُونُ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ فَلَا يَحِلُّ؛ وَأَمَّا بَيْعُ الْمَشْفُوعِ بِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ لِزَوَالِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْتِ؛ وَأَمَّا ضَمَانُ الدَّرَكِ عَنِ الْبَائِعِ فَلِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي بَقَاءَهَا عَلَى مِلْكِهِ وَسَلَامَتَهَا لَهُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ؛ وَأَمَّا مُسَاوَمَةُ الْمُشْتَرِي بَيْعًا وَإِجَارَةً فَلِأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفِهِ فِيهِ بَيْعًا وَإِجَارَةً، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا طَلَبَهَا مِنْهُ تَوْلِيَةً أَوْ أَخَذَهَا مُزَارَعَةً أَوْ مُعَامَلَةً، وَكُلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالشِّرَاءِ. قَالَ: (وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي) لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ وَهُوَ الشَّفِيعُ قَائِمٌ، وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي حَتَّى لَا تُنَفَّذَ وَصِيَّتُهُ فِيهِ، وَلَا يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ. قَالَ: (وَلَا شُفْعَةَ لِوَكِيلِ الْبَائِعِ) لِأَنَّهُ سَعَى فِي نَقْضِ فِعْلِهِ وَهُوَ كَالْبَيْعِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَأَمْضَاهُ (وَلِوَكِيلِ الْمُشْتَرِي الشُّفْعَةُ) لِأَنَّهُ لَا يُنْقِضُ فِعْلَهُ لِأَنَّهُ مِثْلُ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي زَوَالِ مِلْكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 وَإِذَا قِيلَ لِلشَّفِيعِ: إِنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ إِنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَقَلَّ أَوْ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ، وَلَا تُكْرَهُ (م) الْحِيلَةُ فِي إِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا، وَمَنْ بَاعَ سَهْمًا ثُمَ بَاعَ الْبَاقِيَ فَالشُّفْعَةُ فِي السَّهْمِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ، وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَالشَّفِيعُ إِنْ شَاءَ أَدَّاهُ حَالًّا، وَإِنْ شَاءَ بَعْدَ الْأَجَلِ ثُمَّ يَأْخُذُ الدَّارَ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْبَائِعِ. قَالَ: (وَإِذَا قِيلَ لِلشَّفِيعِ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَسَلَّمَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ) لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْجِوَارِ. فَقَدْ يَرْضَى بِفُلَانٍ لِخَيْرِهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِغَيْرِهِ فَلَمْ يُوجَدِ التَّسْلِيمُ فِي حَقِّهِ؛ وَكَذَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اشْتَرَاهَا لِغَيْرِهِ؛ وَلَوْ قِيلَ إِنَّ الْمُشْتَرِيَ زَيْدٌ، فَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو فَلَهُ أَخْذُ نَصِيبِ عَمْرٍو. (وَإِذَا قِيلَ لَهُ: إِنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفٍ فَسَلَّمَ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَقَلَّ أَوْ بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ) ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الرِّضَا بِالْأَكْثَرِ لَا يَكُونُ رِضًا بِالْأَقَلِّ؛ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِاحْتِمَالِ تَعَذُّرِ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهِ وَتَيَسُّرِ مَا بِيعَ بِهِ مِنَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ؛ وَكَذَلِكَ الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا بِيعَ بِعَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَلْفٌ حَتَّى لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ لَمْ تَبْطُلْ شُفْعَتُهُ لَأَنَّ الْوَاجِبَ الْقِيمَةُ. وَلَوْ قِيلَ إِنَّهَا بِيعَتْ بِجَارِيَةٍ فَظَهَرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِعَبْدٍ أَوْ عَرْضٍ آخَرَ، نَنْظُرُ إِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَوِ الْعَرْضِ مِثْلَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ أَوْ أَكْثَرَ بَطَلَتْ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ لَمْ تَبْطُلْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْقِيمَةُ. وَلَوْ قِيلَ بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَظَهَرَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِمِائَةِ دِينَارٍ، قَالَ الْكَرْخِيُّ: إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ بَطَلَتْ؛ وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ لَمْ تَبْطُلْ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُمَا جُعِلَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِي الثَّمَنِيَّةِ. وَأَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ إِلَى بَقَاءِ الشُّفْعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ؛ وَلَوْ قِيلَ بِيعَتْ بِأَلْفٍ ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ عَنِ الْمُشْتَرِي فَلَهُ الشُّفْعَةُ، لِأَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهَا بِأَقَلَّ. قَالَ: (وَلَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ فِي إِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ قَبْلَ وُجُوبِهَا) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَيُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْحِيلَةُ تُنَافِيهِ. وَالْحِيلَةُ فِي إِسْقَاطِ الزَّكَاةِ عَلَى هَذَا. قَالَ: (وَمَنْ بَاعَ سَهْمًا ثُمَّ بَاعَ الْبَاقِيَ فَالشُّفْعَةُ فِي السَّهْمِ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُ) لِأَنَّ الشَّفِيعَ جَارٌ وَالْمُشْتَرِيَ شَرِيكٌ فِي الْمَبِيعِ ثَانِيًا، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ وَهَذِهِ حِيلَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الْأَوَّلَ بِثَمَنٍ كَثِيرٍ وَالْبَاقِيَ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ؛ وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِثَمَنٍ وَدَفَعَ عَنْهُ ثَوْبًا أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَبِيعَ بِمَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ، وَهَذِهِ أَيْضًا حِيلَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ الْعَقْدَ بِأَلْفٍ مَثَلًا، فَيَدْفَعَ عَنْهَا ثَوْبًا يُسَاوِي مِائَةً. قَالَ: (وَإِنِ اشْتَرَاهَا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَالشَّفِيعُ إِنْ شَاءَ أَدَّاهُ حَالًّا، وَإِنْ شَاءَ بَعْدَ الْأَجَلِ ثُمَّ يَأْخُذُ الدَّارَ) لِأَنَّ الرِّضَا بِالتَّأْجِيلِ عَلَى الْمُشْتَرِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 وَإِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ وَقَدْ بَنَى الْمُشْتَرِي فِيهَا، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَإِنْ شَاءَ كَلَّفَ الْمُشْتَرِي قَلْعَهُ؛ وَلَوْ بَنَى الشَّفِيعُ ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِالثَّمَنِ لَا غَيْرُ، وَإِذَا خَرِبَتِ الدَّارُ أَوْ جَفَّ الشَّجَرُ فَالشَّفِيعُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ السَّاحَةَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ؛   [الاختيار لتعليل المختار] لَا يَكُونُ رِضًا بِالتَّأْجِيلِ عَلَى الشَّفِيعِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ وَالْإِعْسَارِ، وَالْوَفَاءِ وَالْمَطْلِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ الشَّفِيعُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ، فَإِنْ أَدَّاهُ حَالًّا وَأَخَذَهَا مِنَ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنِ الْمُشْتَرِي لِوُصُولِهِ إِلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنَ الْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ عَلَى حَالِهِ مُؤَجَّلٌ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي عَمَلًا بِالشَّرْطِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا اشْتَرَاهُ مُؤَجَّلًا وَبَاعَهُ حَالًّا، وَإِنْ أَدَّاهُ بَعْدَ الْأَجَلِ فَلَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ زِيَادَةَ الضَّرَرِ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، فَإِذَا ثَبَتَ أَخَّرَ أَدَاءَ الثَّمَنِ. قَالَ: (وَإِذَا قُضِيَ لِلشَّفِيعِ، وَقَدْ بَنَى الْمُشْتَرِي فِيهَا، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ، وَإِنْ شَاءَ كَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ قَلْعَهُ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَمُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ زِيَادٍ أَنََّهُ يَأْخُذُهَا بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ أَوْ يَتْرُكُ؛ وَالْغَرْسُ مِثْلُ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ بَنَى فِي مِلْكِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهِ صَحِيحٌ حَتَّى لَوْ أَجَّرَهُ طَابَ لَهُ الْأَجْرُ، وَالْقَلْعُ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ فَلَا يُكَلَّفُهُ كَالزَّرْعِ وَكَالْمَوْهُوبِ لَهُ. وَلَنَا أَنَّهُ تَعَدَّى مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ بَنَى فِي مِلْكٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْرِ فَيَنْقُصُ صِيَانَةً لِحَقِّهِ، وَضَرَرُ الْقَلْعِ لِحَقِّ الْمُشْتَرِي بِفِعْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ، وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ اسْتَحَقَّهُ بِسَبَبٍ سَابِقٍ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَنْقُضُهُ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَلِهَذَا تُنْتَقَصُ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ، بِخِلَافِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ سَلَّطَهُ. وَأَمَّا الزَّرْعُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَقْلَعَهُ، لَكِنِ اسْتَحْسَنُوا أَنْ يَبْقَى فِي الْأَرْضِ بِالْأُجْرَةِ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً فَلَا ضَرَرَ فِيهِ كَالْبِنَاءِ. وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ الزَّرْعَ يُتْرَكُ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ فَقِيمَتُهُ مَقْلُوعًا وَيُعْرَفُ تَمَامُهُ فِي الْغَصْبِ. قَالَ: (وَلَوْ بَنَى الشَّفِيعُ ثُمَّ اسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِالثَّمَنِ لَا غَيْرُ) وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَا عَلَى الْبَائِعِ، لِأَنَّ الرُّجُوعَ إِنَّمَا ثَبَتَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَنَّ الْبَائِعَ خَدَعَ الْمُشْتَرِيَ وَضَمِنَ لَهُ التَّمَكُّنَ مِنَ التَّصَرُّفِ كَيْفَ شَاءَ، وَلَمْ يَضْمَنْ لِلشَّفِيعِ ذَلِكَ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ الْبَائِعِ وَلَا الْمُشْتَرِي فَلَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا وَلَا يَرْجِعُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتُحِقَّ ثَبَتَ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَمَّا الثَّمَنُ فَإِنَّهُ عِوَضٌ عَنِ الْمَبِيعِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمِ الْمَبِيعَ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ. قَالَ: (وَإِذَا خَرِبَتِ الدَّارُ أَوْ جَفَّ الشَّجَرُ، فَالشَّفِيعُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ السَّاحَةَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) وَكَذَلِكَ لَوِ احْتَرَقَتْ أَوْ غَرِقَتْ، لَأَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ وَوَصْفٌ لِلسَّاحَةِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ بِغَيْرِ ذِكْرٍ فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا كَأَطْرَافِ الْعَبْدِ، وَلَوْ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً بَاعَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وَإِنْ نَقَضَ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ فَالشَّفِيعُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَرْصَةَ بِحِصَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنِ اشْتَرَى نَخْلًا عَلَيْهِ ثَمَرٌ فَهُوَ لِلشَّفِيعِ، فَإِذَا جَذَّهُ الْمُشْتَرِي نَقَصَ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ. كِتَابُ الْإِجَارَةِ وَهِيَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ، جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِنْ نَقَضَ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ فَالشَّفِيعُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَرْصَةَ بِحِصَّتِهَا، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ كَأَطْرَافِ الْعَبْدِ، وَكَذَا إِذَا فَعَلَهُ أَجْنَبِيٌّ، وَكَذَا إِذَا نَزَعَ بَابَ الدَّارِ وَبَاعَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ النَّقْضِ لِأَنَّهُ صَارَ مَفْصُولًا فَلَمْ يَبْقَ تَبَعًا، أَوْ صَارَ نَقْلِيًّا فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ. قَالَ: (وَإِنِ اشْتَرَى نَخْلًا عَلَيْهِ ثَمَرٌ فَهُوَ لِلشَّفِيعِ) مَعْنَاهُ إِذَا شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِدُونِ الشَّرْطِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ، فَإِذَا شَرَطَهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ وَاسْتُحِقَّ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ صَارَ كَالنَّخْلِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا شُفْعَةَ فِيهِ لِعَدَمِ التَّبَعِيَّةِ حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ الشَّرْطِ. وَإِذَا دَخَلَ فِي الشُّفْعَةِ. (فَإِذَا جَذَّهُ الْمُشْتَرِي نَقَصَ حِصَّتَهُ مِنَ الثَّمَنِ) لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالذِّكْرِ فَقَابَلَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَرَةَ لِأَنَّهَا نَفْلِيَّةٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى النَّخْلِ ثَمَرٌ وَقْتَ الْبَيْعِ فَأَثْمَرَ فَلِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ بِالثَّمَرَةِ، لِأَنَّ الْبَيْعَ سَرَى إِلَيْهِ فَكَانَ تَبَعًا، فَإِذَا جَذَّهَا الْمُشْتَرِي، فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّخْلَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً وَقْتِ الْعَقْدِ فَلَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً، فَلَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنَ الثَّمَنِ. [كِتَابُ الْإِجَارَةِ] ِ (وَهِيَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ، جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ النَّاسِ ) . اعْلَمْ أَنَّ التَّمْلِيكَ نَوْعَانِ: تَمْلِيكُ عَيْنٍ، وَتَمْلِيكُ مَنَافِعَ. وَتَمْلِيكُ الْعَيْنِ نَوْعَانِ: بِعِوَضٍ وَهُوَ الْبَيْعُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْوَصِيَّةُ، وَسَيَأْتِيكَ أَبْوَابُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَتَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ نَوْعَانِ: بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهُوَ الْعَارِيَةُ وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَنَافِعِ عَلَى مَا يَأْتِيكَ؛ وَبِعِوَضٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ، وَسُمِّيَتْ بَيْعَ الْمَنَافِعِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ، وَهُوَ بَذْلُ الْأَعْوَاضِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَعْدُومَةٌ، وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ، إِلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهَا لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهَا، وَمَنَعَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ هَذَا وَقَالَ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ وَالْوُجُودُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَنَافِعِ، لِأَنَّهَا عَرْضٌ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِرَاطِ، فَأَقَمْنَا الْعَيْنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَنَافِعِ وَالْأُجْرَةِ مَعْلُومَةً، وَمَا صَلَحَ ثَمَنًا صَلَحَ أُجْرَةً، وَتَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ، وَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ وَالْعَيْبِ، وَتُقَالُ وَتُفْسَخُ، وَالْمَنَافِعُ تُعْلَمُ بِذِكْرِ الْمُدَّةِ كَسُكْنَى الدَّارِ، وَزَرْعِ الْأَرَضِينَ مُدَّةً مَعْلُومَةً أَوْ بِالتَّسْمِيَةِ كَصَبْغِ الثَّوْبِ، وَخِيَاطَتِهِ، وَإِجَارَةِ الدَّابَّةِ لِحَمْلِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ أَوْ لِيَرْكَبَهَا مَسَافَةً مَعْلُومَةً، أَوْ بِالْإِشَارَةِ كَحَمْلِ هَذَا الطَّعَامِ؛ وَإِنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ حَانُوتًا فَلَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا وَيُسْكِنَهَا مَنْ شَاءَ وَيَعْمَلَ فِيهَا مَا شَاءَ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْمُنْتَفَعَ بِهَا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَيْهَا لِيَتَرَتَّبَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ كَقِيَامِ الذِّمَّةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ جَوَازِ السَّلَمِ، وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ لِيَقْتَرِنَ الِانْعِقَادُ بِالِاسْتِيفَاءِ، فَيَتَحَقَّقَ بِهَذَا الطَّرِيقِ التَّمَكُّنُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقَوْله تَعَالَى: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] أَيْ بِالْعَمَلِ بِالْأَجْرِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» . وَبُعِثَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَلَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ، وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ مَنَافِعَ مَعْدُومَةٍ؛ وَيَبْدَأُ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ، لِأَنَّ عَيْنَ الْمَنْفَعَةِ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا، فَأَقَمْنَا التَّمْكِينَ مِنْ الِانْتِفَاعِ مَقَامَهُ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمَنَافِعِ وَالْأُجْرَةِ مَعْلُومَةً) قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ. قَالَ: (وَمَا صَلَحَ ثَمَنًا صَلَحَ أُجْرَةً) لِأَنَّهَا ثَمَنٌ أَيْضًا؛ فَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَالْمَزْرُوعُ وَالْمَعْدُودُ وَالْمُتَقَارِبُ يَصْلُحُ أُجْرَةً عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصْلُحُ ثَمَنًا، وَالْحَيَوَانُ يَصْلُحُ إِنْ كَانَ عَيْنًا، أَمَّا دَيْنًا فَلَا لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَالْمَنْفَعَةُ تَصْلُحُ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ إِذَا اخْتَلَفَ جِنْسَاهُمَا، وَلَا تَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ. قَالَ: (وَتَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ، وَيَثْبُتُ فِيهَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ وَالْعَيْبِ، وَتُقَالُ وَتُفْسَخُ) كَمَا فِي الْبَيْعِ. قَالَ: (وَالْمَنَافِعُ تُعْلَمُ بِذِكْرِ الْمُدَّةِ كَسُكْنَى الدَّارِ وَزَرْعِ الْأَرْضِينَ مُدَّةً مَعْلُومَةً) لِأَنَّ الْمُدَّةَ إِذَا عُلِمَتْ تَصِيرُ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً. (أَوْ بِالتَّسْمِيَةِ كَصَبْغِ الثَّوْبِ، وَخِيَاطَتِهِ، وَإِجَارَةِ الدَّابَّةِ لِحَمْلِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ أَوْ لِيَرْكَبَهَا مَسَافَةً مَعْلُومَةً) لِأَنَّهُ إِذَا بُيِّنَ لَوْنُ الصَّبْغِ وَقَدْرُهُ وَجِنْسُ الْخِيَاطَةِ وَقَدْرُ الْمَحْمُولِ وَجِنْسُهُ وَالْمَسَافَةُ تَصِيرُ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً. (أَوْ بِالْإِشَارَةِ كَحَمْلِ هَذَا الطَّعَامِ) لِأَنَّهُ إِذَا عَرَفَ مَا يَحْمِلُهُ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً. قَالَ: (وَإِنِ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ حَانُوتًا فَلَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا وَيُسْكِنَهَا مَنْ شَاءَ وَيَعْمَلَ فِيهَا مَا شَاءَ) مِنْ وَضْعِ الْمَتَاعِ، وَرَبْطِ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمُتَعَارَفَ مِنَ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ ذَلِكَ، وَمَنَافِعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 إِلَّا الْقِصَارَةَ وَالْحِدَادَةَ وَالطَّحْنَ؛ وَإِنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ بَيَّنَ مَا يُزْرَعُ فِيهَا، أَوْ يَقُولُ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا مَا شَاءَ، وَهَكَذَا رُكُوبُ الدَّابَّةِ وَلُبْسُ الثَّوْبِ إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ أَوْ رَكِبَ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ؛ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا فَارِغَةً كَمَا قَبَضَهَا، وَالرَّطْبَةُ كَالشَّجَرِ، فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِالْقَلْعِ يَغْرَمُ لَهُ الْآجِرُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكُهُ، وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ لَا تَنْقُصُ، فَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الْقِيمَةَ وَيَتَمَلَّكَهُ فَلَهُ ذَلِكَ بِرِضَا صَاحِبِهِ، أَوْ يَتَرَاضَيَانِ فَتَكُونُ الْأَرْضُ لِهَذَا وَالْبِنَاءُ لِهَذَا، وَإِنْ سَمَّى مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ كَقَفِيزِ حِنْطَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَخَفُّ كَالشَّعِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ أَثْقَلُ كَالْمِلْحِ،   [الاختيار لتعليل المختار] السُّكْنَى غَيْرُ مُتَفَاوِتَةٍ فِي ذَلِكَ. قَالَ: (إِلَّا الْقِصَارَةَ وَالْحِدَادَةَ وَالطَّحْنَ) لِأَنَّهَا تُوهِنُ الْبِنَاءَ وَفِيهِ ضَرَرٌ فَلَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ إِلَّا بِالتَّسْمِيَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ ضَيِّقَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْبُطَ الدَّابَّةَ فِيهَا لِعَدَمِ الْعَادَةِ. قَالَ: (وَإِنِ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ بَيَّنَ مَا يُزْرَعُ فِيهَا، أَوْ يَقُولُ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا مَا شَاءَ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الزِّرَاعَةِ مُخْتَلِفَةٌ وَكَذَلِكَ تَضَرُّرُ الْأَرْضِ بِالزِّرَاعَةِ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْمَزْرُوعَاتِ فَيُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَإِذَا بَيَّنَ مَا يُزْرَعُ، أَوْ قَالَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا مَا شَاءَ انْقَطَعَتِ الْمُنَازَعَةُ. (وَهَكَذَا رُكُوبُ الدَّابَّةِ، وَلُبْسُ الثَّوْبِ) وَكُلُّ مَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِينَ، لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ فَيُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، فَإِذَا عَيَّنَ أَوْ أَطْلَقَ فَلَا مُنَازَعَةَ. (إِلَّا أَنَّهُ إِذَا لَبِسَ أَوْ رَكِبَ وَاحِدٌ تَعَيَّنَ) فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ أَوْ يُلْبِسَ غَيْرَهُ كَمَا إِذَا عَيَّنَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَدْخُلُ فِي إِجَارَةِ الدُّورِ وَالْأَرْضِينَ الطَّرِيقُ وَالشُّرْبُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَنْفَعَةُ وَلَا مَنْفَعَةَ دُونَهُمَا. قَالَ: (وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فَانْقَضَتِ الْمُدَّةُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا فَارِغَةً كَمَا قَبَضَهَا) لِيَتَمَكَّنَ مَالِكُهَا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا فَيَقْلَعُ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا. (وَالرَّطْبَةُ كَالشَّجَرِ) لِطُولِ بَقَائِهِ فِي الْأَرْضِ؛ أَمَّا الزَّرْعُ فَلَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُتْرَكُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ إِلَى نِهَايَتِهِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ. (فَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَنْقُصُ بِالْقَلْعِ يَغْرَمُ لَهُ الْآجِرُ قِيمَةَ ذَلِكَ مَقْلُوعًا وَيَتَمَلَّكُهُ) تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَالْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ تَبَعٌ، وَإِنَّمَا يَغْرَمُ قِيمَتَهُ مَقْلُوعًا لِأَنَّهُ مُسْتَحِقُّ الْقَلْعِ، فَتُقَوَّمُ الْأَرْضُ بِدُونِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ، وَتُقَوَّمُ وَبِهَا بِنَاءٌ أَوْ شَجَرٌ، وَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِقَلْعِهِ فَيَضْمَنَ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا. (وَإِنْ كَانَتِ الْأَرْضُ لَا تَنْقُصُ، فَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ الْقِيمَةَ) كَمَا تَقَدَّمَ. (وَيَتَمَلَّكُهُ فَلَهُ ذَلِكَ بِرِضَا صَاحِبِهِ، أَوْ يَتَرَاضَيَانِ فَتَكُونُ الْأَرْضُ لِهَذَا وَالْبِنَاءُ لِهَذَا) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا. قَالَ: (وَإِنْ سَمَّى مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ كَقَفِيزِ حِنْطَةٍ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَخَفُّ كَالشَّعِيرِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا هُوَ أَثْقَلُ كَالْمِلْحِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى فَعَطِبَتْ ضَمِنَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ سَمَّى قَدْرًا مِنَ الْقُطْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا، وَإِنِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ آخَرَ ضَمِنَ النِّصْفَ، فَإِنْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَهَا (سم) . فَصْلٌ الْأُجَرَاءُ: مُشْتَرَكٌ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ، وَالْمَالُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى فَعَطِبَتْ ضَمِنَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ، وَإِنْ سَمَّى قَدْرًا مِنَ الْقُطْنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إِذَا خَالَفَ إِلَى مِثْلِ الْمَشْرُوطِ أَوْ أَخْفِّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الرِّضَا بِأَعْلَى الضَّرَرَيْنِ رِضًا بِالْأَدْنَى وَبِمِثْلِهِ دَلَالَةً، وَإِنْ خَلَفَ إِلَى مَا هُوَ فَوْقَهُ فِي الضَّرَرِ فَعَطِبَتِ الدَّابَّةُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمَشْرُوطِ ضَمِنَ الدَّابَّةَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْجَمِيعِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ ضَمِنَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ، لِأَنَّهَا هَلَكَتْ بِفِعْلِ الْمَأْذُونِ وَغَيْرِ مَأْذُونٍ، فَيُقْسَمُ عَلَى قَدْرِهِمَا إِلَّا إِذَا كَانَ قَدْرًا لَا تُطِيقُهُ فَيَضْمَنُ الْكُلَّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعْتَادٍ فَلَا يَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ، وَالْحَدِيدُ أَضَرُّ مِنَ الْقُطْنِ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَالْقُطْنُ يَنْبَسِطُ. قَالَ: (وَإِنِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فَأَرْدَفَ آخَرَ ضَمِنَ النِّصْفَ) وَهِيَ نَظِيرُ الزِّيَادَةِ مِنَ الْجِنْسِ تَعْلِيلًا وَتَفْصِيلًا. قَالَ: (فَإِنْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَهَا) وَكَذَلِكَ إِنْ كَبَحَهَا بِلِجَامِهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمُعْتَادَ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الضَّرْبِ الْمُعْتَادِ فِي السَّيْرِ، فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ كَالْمَشْرُوطِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّيْرَ يُمْكِنُ بِدُونِ ذَلِكَ بِتَحْرِيكِ الرِّجْلِ وَالصَّيْحَةِ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إِلَّا بِصَرِيحِ الْإِذْنِ؛ وَكَذَا لَوِ اسْتَأْجَرَ حِمَارًا بِسَرْجٍ فَأَوْكَفَهُ ضَمِنَ عِنْدَهُ، وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَثْقَلَ مِنَ السَّرْجِ فَيَضْمَنُ قَدْرَ الزِّيَادَةِ، أَوْ يَكُونَ لَا يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ فَيَضْمَنُ الْكُلَّ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يُوكَفُ بِمِثْلِهِ الْحُمُرُ صَارَ هُوَ وَالسَّرْجُ سَوَاءً فَيَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ دَلَالَةً. وَلَهُ أَنَّ الْإِكَافَ لِلْحَمْلِ وَالسَّرْجَ لِلرُّكُوبِ فَكَانَ خِلَافَ الْجِنْسِ، وَلِأَنَّهُ يَنْبَسِطُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِنَ السَّرْجِ فَكَانَ أَضَرَّ فَيَضْمَنُ لِلْمُخَالَفَةِ. [فصل أنواع الأجراء وحكم الأجير المشترك] فَصْلٌ (الْأُجَرَاءُ: مُشْتَرَكٌ كَالصَّبَّاغِ وَالْقَصَّارِ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إِمَّا الْعَمَلُ أَوْ أَثَرُهُ، وَالْمَنْفَعَةُ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْغَيْرِ فَكَانَ مُشْتَرَكًا. (وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ حَتَّى يَعْمَلَ) لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَالْمَالُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ) لِأَنَّهُ قَبَضَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 إِلَّا أَنْ يَتْلَفَ بِعَمَلِهِ، كَتَخْرِيقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ، وَزَلَقِ الْحَمَّالِ، وَانْقِطَاعِ الْحَبْلِ مِنْ شَدِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْآدَمِيَّ إِذَا غَرِقَ فِي السَّفِينَةِ مِنْ مَدِّهِ، أَوْ سَقَطَ مِنَ الدَّابَّةِ بِسَوْقِهِ وَقَوْدِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْفَصَّادِ وَالْبَزَّاغِ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ، وَخَاصٌّ كَالْمُسْتَأْجَرِ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ وَرَعْيِ الْغَنَمِ وَنَحْوِهِ، وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ، وَلَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ فِي يَدِهِ وَلَا بِعَمَلِهِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدِ الْفَسَادَ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَضْمَنُهُ. (إِلَّا أَنْ يَتْلَفَ بِعَمَلِهِ كَتَخْرِيقِ الثَّوْبِ مِنْ دَقِّهِ وَزَلَقِ الْحَمَّالِ وَانْقِطَاعِ الْحَبْلِ مِنْ شَدِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى فِعْلِهِ وَهُوَ لَمْ يُؤْمَرْ إِلَّا بِعَمَلٍ فِيهِ صَلَاحٌ، فَإِذَا أَفْسَدَهُ فَقَدْ خَالَفَ فَيَضْمَنُ. (إِلَّا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْآدَمِيَّ إِذَا غَرِقَ فِي السَّفِينَةِ مِنْ مَدِّهِ، أَوْ سَقَطَ مِنَ الدَّابَّةِ بِسَوْقِ وَقَوْدِهِ) لِأَنَّ الْآدَمِيَّ لَا يَضْمَنُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ، وَلَوْ غَرِقَتْ مِنْ مَوْجٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ صَدْمِ جَبَلٍ أَوْ زُوحِمَ الْحَمَّالُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ تَلَفَ بِفِعْلِ أَجِيرِ الْقَصَّارِ لَا مُتَعَمِّدًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ، لِأَنَّ فِعْلَ الْأَجِيرِ مُضَافٌ إِلَى أُسْتَاذِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ سَوَاءً هَلَكَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، إِلَّا مَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْمَوْتِ وَالْحَرِيقِ وَالْغَرَقِ الْغَالِبِ، وَالْعَدُوِّ الْمُكَابِرِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ عَمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَإِذَا تَرَكَهُ ضَمِنَ كَمَا إِذَا هَلَكَ بِفِعْلِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -؛ ثُمَّ إِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ مَعْمُولًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ وَغَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ الْمَالِكِ وَصَارَ كَأَجِيرِ الْوَاحِدِ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْفَصَّادِ وَالْبَزَّاغِ إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ) لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ الْمُعْتَادَ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنِ السِّرَايَةِ؛ لِأَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى قُوَّةِ الْمِزَاجِ وَضَعْفِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يُتَقَيَّدُ بِهِ، بِخِلَافِ دَقِّ الثَّوْبِ لِأَنَّ رِقَّتَهُ وَثَخَانَتَهُ تُعْرَفُ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ فَتُقَيَّدُ بِالصَّلَاحِ؛ وَلَوْ قَالَ لِلْخَيَّاطِ: إِنْ كَفَانِي هَذَا الثَّوْبُ قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ فَلَمْ يَكْفِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْقَطْعِ بِشَرْطِ الْكِفَايَةِ؛ وَلَوْ قَالَ لَهُ: هَلْ يَكْفِينِي؛ فَقَالَ نَعَمْ، قَالَ فَاقْطَعْ فَلَمْ يَكْفِهِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْقَطْعِ مُطْلَقًا. قَالَ: (وَخَاصٌّ كَالْمُسْتَأْجَرِ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ وَرَعْيِ الْغَنَمِ وَنَحْوِهِ) لِأَنَّ مَنَافِعَهُ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْمُسْتَأْجِرِ طُولَ الْمُدَّةِ فَلَا يُمْكِنُهُ صَرْفُهَا إِلَى غَيْرِهِ فَلِهَذَا كَانَ خَاصًّا، وَيُسَمَّى أَجِيرَ الْوَاحِدِ أَيْضًا. (وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ) . لِأَنَّهَا مُقَابَلَةٌ بِالْمَنَافِعِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْعَمَلَ لِصَرْفِ الْمَنْفَعَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ إِلَى تِلْكَ الْجِهَةِ، وَمَنَافِعُهُ صَارَتْ مُسْتَوْفَاةً بِالتَّسْلِيمِ تَقْدِيرًا حَيْثُ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ فَاسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ. قَالَ: (وَلَا يَضْمَنُ مَا تَلَفَ فِي يَدِهِ) لِمَا مَرَّ (وَلَا بِعَمَلِهِ إِذَا لَمْ يَتَعَمَّدِ الْفَسَادَ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ سَلِيمَةٌ، وَالْمَعِيبُ الْعَمَلُ الَّذِي هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وَمَنِ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشْرِطَهُ. وَالْأُجْرَةُ تُسْتَحَقُّ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ أَوْ بِتَعْجِيلِهَا، وَإِذَا تَسَلَّمَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا، فَإِنْ غُصِبَتْ مِنْهُ سَقَطَ الْأَجْرُ، وَلِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُطَالِبَ بِأُجْرَةِ كُلِّ يَوْمٍ   [الاختيار لتعليل المختار] تَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ إِذَا صَارَتْ مِلْكًا لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِذَا أَمَرَهُ بِالْعَمَلِ انْتَقَلَ عَمَلُهُ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ نَائِبًا عَنْهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ، وَمَا تَلَفَ مِنْ عَمَلِهِ ضَمَانُهُ عَلَى أُسْتَاذِهِ لِمَا أَنَّهُ أَجِيرٌ خَاصٌّ. قَالَ: (وَمَنِ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشْرِطَهُ) لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ أَشَقُّ فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْعَقْدُ إِلَّا بِشَرْطٍ، فَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ فَعَلَيْهِ خِدْمَتُهُ مِنَ السَّحَرِ إِلَى أَنْ يَنَامَ النَّاسُ بَعْدَ الْعِشَاءِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ فِي الْخِدْمَةِ، وَعَلَيْهِ خِدْمَةُ الْبَيْتِ وَالضَّيْفِ دُونَ الْخَبْزِ وَالطَّبْخِ وَالْخِيَاطَةِ وَعَلْفِ الدَّوَابِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَوْ آجَرَ عَبْدَهُ سَنَةً ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي خِلَالِهَا جَازَ الْعِتْقُ؛ وَالْعَبْدُ إِنْ شَاءَ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، وَأُجْرَةُ مَا مَضَى لِلسَّيِّدِ وَمَا بَقِيَ لِلْعَبْدِ، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ لَهُ فَيَكُونُ لَهُ بَدَلُهَا، وَإِذَا أَجَازَ فَلَيْسَ لَهُ فَسْخُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ قَبْضُ الْأُجْرَةِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى. [فصل ما تستحق به الأجرة] فَصْلٌ (وَالْأُجْرَةُ تُسْتَحَقُّ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، أَوْ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ أَوْ بِتَعْجِيلِهَا) لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» وَلَوْ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لَمَا جَازَ تَأْخِيرُهُ إِلَّا بِرِضَاهُ، وَالنَّصُّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ بَعْدَ الْفَرَاغِ، لِأَنَّ الْعَرَقَ إِنَّمَا يُوجَدُ بِالْعَمَلِ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا لِذِي الْعَقْدِ لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَهِيَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَتَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَلَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ اسْتَحَقَّ الْأُجْرَةَ عَمَلًا بِالْمُسَاوَاةِ، وَإِذَا اشْتَرَطَ التَّعْجِيلَ أَوْ عَجَّلَهَا فَقَدْ رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي التَّأْجِيلِ فَيَسْقُطُ. قَالَ: (وَإِذَا تَسَلَّمَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ فَعَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا) لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَنْفَعَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَأُقِيمَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ مَقَامَهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ. قَالَ: (فَإِنْ غُصِبَتْ مِنْهُ سَقَطَ الْأَجْرُ) لِأَنَّهُ زَالَ التَّمَكُّنُ فَبَطَلَتْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَلَوْ غَصَبَهَا فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ سَقَطَتْ حِصَّتُهُ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُطَالِبَ بِأُجْرَةِ كُلِّ يَوْمٍ) وَكَذَا جَمِيعُ الْعَقَارِ، لِأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ صَارَ مُنْتَفَعًا بِهِ مُدَّةً مَقْصُودَةً، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ الْآخَرُ كَذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ؛ وَقَضِيَّةُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ سَاعَةً فَسَاعَةً إِلَّا أَنَّ فِيهِ حَرَجًا عَظِيمًا وَضَرَرًا ظَاهِرًا فَقَدَّرْنَاهُ بِالْيَوْمِ تَيْسِيرًا، وَلِأَنَّا لَا نَعْرِفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 وَالْجَمَّالِ بِأُجْرَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ، وَتَمَامُ الْخَبْزِ إِخْرَاجُهُ مِنَ التَّنُّورِ، وَتَمَامُ الطَّبْخِ غَرْفُهُ، وَتَمَامُ ضَرْبِ اللَّبِنِ إِقَامَتُهُ (سم) ، وَمَنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالصَّبَّاغِ وَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ يَحْبِسُهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ، فَإِنْ حَبَسَهَا فَضَاعَتْ لَا شَيْءَ (سم) وَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ، وَمَنْ لَا أَثَرَ لِعَمَلِهِ كَالْحَمَّالِ وَالْغَسَّالِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، - وَإِذَا شُرِطَ عَلَى الصَّانِعِ الْعَمَلُ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] حِصَّةَ كُلِّ سَاعَةٍ. قَالَ: (وَالْجَمَّالِ بِأُجْرَةِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ) لِمَا بَيَّنَّا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا سَارَ ثُلُثَ الطَّرِيقِ أَوْ نِصْفَهُ لَزِمَهُ التَّسْلِيمُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ وَانْتَهَى السَّفَرُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ قَطْعُ هَذِهِ الْمَسَافَةِ أَوْ سُكْنَى هَذِهِ الْمُدَّةِ فَلَا يَنْقَسِمُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْزَائِهَا كَالْعَمَلِ، وَكَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَقَامَ الثُّلُثَ أَوِ النِّصْفَ مَقَامَ الْكُلِّ عَلَى أَصْلِهِ، وَجَوَابُهُ مَا بَيَّنَّا، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا. قَالَ: (وَتَمَامُ الْخَبْزِ إِخْرَاجُهُ مِنَ التَّنُّورِ) وَكَذَلِكَ الْآجُرُّ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، فَلَوِ احْتَرَقَ أَوْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا أَجْرَ لَهُ بِهَلَاكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَهُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ حَيْثُ وَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يَهْلَكْ بِفِعْلِهِ. قَالَ: (وَتَمَامُ الطَّبْخِ غَرْفُهُ) إِنْ كَانَ فِي وَلِيمَةٍ، وَإِنْ طَبَخَ قِدْرَ طَعَامٍ لِصَاحِبِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْغَرْفُ لِلْعُرْفِ. قَالَ: (وَتَمَامُ ضَرْبِ اللَّبِنِ إِقَامَتُهُ) وَقَالَا: تَشْرِيجُهُ لِأَنَّ بِالتَّشْرِيجِ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ، وَهُوَ مِنْ عَمَلِهِ عُرْفًا فَيَلْزَمُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَمَلَ تَمَّ بِالْإِقَامَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلَلٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ، وَالتَّشْرِيجُ فِعْلٌ آخَرُ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بِالشَّرْطِ، وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. فَمَا لَمْ يَشْرُجْهُ وَيُسَلِّمْهُ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا أَجْرَ لَهُ وَهُوَ فِي ضَمَانِهِ. قَالَ: (وَمَنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْعَيْنِ كَالصَّبَّاغِ وَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ يَحْبِسُهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ) لِأَنَّ لَهُ حَبْسَ صَبْغِهِ وَغَيْرِهِ بِحَبْسِ الْمَحَلِّ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ كَالْمَبِيعِ. (فَإِنْ حَبَسَهَا فَضَاعَتْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ. (وَلَا أَجْرَ لَهُ) وَعِنْدَهُمَا هُوَ مَضْمُونٌ بَعْدَ الْحَبْسِ كَقَبْلِهِ، فَإِنْ ضَمِنَهُ مَعْمُولًا فَلَهُ الْأَجْرُ وَغَيْرَ مَعْمُولٍ لَا أَجْرَ لَهُ. قَالَ: (وَمَنْ لَا أَثَرَ لِعَمَلِهِ كَالْحَمَّالِ وَالْغَسَّالِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَيْنٌ يَحْبِسُهَا وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ فَلَا يُتَصَوَّرُ حَبْسُهُ، فَإِنْ حَبَسَهُ فَهُوَ غَاصِبٌ، بِخِلَافِ رَدِّ الْآبِقِ حَيْثُ لَهُ حَبْسُهُ عَلَى الْجُعْلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ لِأَنَّهُ عُرِفَ نَصًّا، وَلِأَنَّهُ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ وَقَدْ أَحْيَاهُ بِالرَّدِّ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ. قَالَ: (وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الصَّانِعِ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ غَيْرَهُ) لِأَنَّ الْعَمَلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصُّنَّاعِ جَوْدَةً وَرَدَاءَةً، فَكَانَ الشَّرْطُ مُفِيدًا، فَيَتَعَيَّنُ كَمَا تَتَعَيَّنُ الْمَنْفَعَةُ فِي مَحَلٍّ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُ الْعَمَلَ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مُطْلَقُ الْعَمَلِ، وَيُمْكِنُهُ إِيفَاؤُهُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ فَافْتَرَقَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 وَإِنْ قَالَ: إِنْ سَكَنْتَ هَذَا الْحَانُوتَ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ، وَحَدَّادًا بِدِرْهَمَيْنِ جَازَ (سم) ، وَأَيَّ الْعَمَلَيْنِ عَمِلَ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى لَهُ. فَصْلٌ وَإِذَا فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: إِنْ سَكَّنْتُ هَذَا الْحَانُوتَ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ، وَحَدَّادًا بِدِرْهَمَيْنِ جَازَ، وَأَيَّ الْعَمَلَيْنِ عَمِلَ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى لَهُ) وَقَالَا: الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إِنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إِلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ وَإِلَى الْقَادِسِيَّةِ بِدِرْهَمَيْنِ، أَوْ إِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ شَعِيرٍ فَبِدِرْهَمٍ، وَكُرَّ حِنْطَةٍ بِدِرْهَمَيْنِ. لَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ، وَالْأَجْرُ أَحَدُ الْأَجْرَيْنِ، وَتَجِبُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ وَأَنَّهُ مَجْهُولٌ، بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ، لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تَجِبُ بِالْعَمَلِ، وَبِهِ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ فَافْتَرَقَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ صَحِيحَيْنِ، لِأَنَّ سُكْنَى الْعَطَّارِ تُخَالِفُ سُكْنَى الْحَدَّادِ حَتَّى لَا تَدْخُلَ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ، وَكَذَا بَقِيَّةُ الْمَسَائِلِ وَالْإِجَارَةُ تُعْقَدُ لِلْمَنْفَعَةِ، وَعِنْدَهُمَا تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ فَيَصِحُّ كَالْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ، وَإِنْ وَجَبَ الْأَجْرُ بِالتَّسْلِيمِ يَجِبُ أَقَلُّهُمَا لِلتَّيَقُّنِ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ فَارِسِيًّا فَبِدِرْهَمٍ وَرُومِيًّا فَبِدِرْهَمَيْنِ جَازَ، وَأَيَّ الْعَمَلَيْنِ عَمِلَ اسْتَحَقَّ أُجْرَتَهُ، وَقَدْ مَرَّ وَجْهُهُ. وَقَالَ زُفَرُ: الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْبَدَلِ فِي الْحَالِ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ. [فصل بيان ما يجب إذا فسِدَت الْإِجَارَةِ] فَصْلٌ اعْلَمْ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ كَمَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ تُفْسِدُ الْبَيْعَ تُفْسِدُ الْإِجَارَةَ مِنْ جَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوِ الْأُجْرَةِ أَوِ الْمُدَّةِ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْجَهَالَةَ مُفْضِيَةٌ إِلَى الْمُنَازَعَةِ. وَالْأَصْلُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنِ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» شَرَطَ أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً كَمَا شَرَطَهُ فِي الْبَيْعِ؛ وَلَوْ آجَرَ الدَّارَ عَلَى أَنْ يُعَمِّرَهَا أَوْ يُطَيِّنَهَا، أَوْ يَضَعَ فِيهَا جِذْعًا فَهُوَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ بَعْضَهَا مَجْهُولٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِمَارَةِ، وَيُعْرَفُ غَيْرُهَا مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا فَتُقَاسُ عَلَيْهَا. (وَإِذَا فَسَدَتِ الْإِجَارَةُ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ) لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إِنَّمَا تَجِبُ بِالْعُقُودِ الصَّحِيحَةِ. أَمَّا الْفَاسِدَةُ فَتَجِبُ فِيهَا قِيمَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ. «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ: فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ» فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْقِيمَةِ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وَلَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى، وَإِذَا اسْتَأْجَرُوا دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ وَفَسَدَ فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ إِلَّا أَنْ يُسَمِّيَ شُهُورًا مَعْلُومَةً، فَإِذَا تَمَّ الشَّهْرُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْضُ الْإِجَارَةِ، فَإِنْ سَكَنَ سَاعَةً فِي الشَّهْرِ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهْرٍ سَكَنَ أَوَّلَهُ؛ وَمَنِ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا لِيَحْمِلَ لَهُ مَحْمَلًا إِلَى مَكَّةَ جَازَ وَلَهُ الْمُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ الزَّادِ فَأَكَلَ مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ عِوَضَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَلَا يُزَادُ عَلَى الْمُسَمَّى) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا قِيمَةَ لَهَا إِلَّا بِعَقْدٍ أَوْ شُبْهَةِ عَقْدٍ ضَرُورَةً لِحَاجَةِ النَّاسِ، وَقَدْ قَوَّمَاهَا فِي الْعَقْدِ بِمَا سَمَّيَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ إِسْقَاطًا لِلزِّيَادَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْأَعْيَانَ مُتَقَوِّمَةً بِنَفْسِهَا، فَإِذَا بَطَلَ الْمُسَمَّى يَصِيرُ كَأَنَّهَا تَلِفَتْ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ. قَالَ: (وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ صَحَّ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ) لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ. (وَفَسَدَ فِي بَقِيَّةِ الشُّهُورِ) لِأَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ لِلْعُمُومِ وَأَنَّهُ مَجْهُولٌ. (إِلَّا أَنْ يُسَمِّيَ شُهُورًا مَعْلُومَةً) فَيَكُونُ صَحِيحًا فِي الْكُلِّ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا. قَالَ: (فَإِذَا تَمَّ الشَّهْرُ) فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى. (فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْضُ الْإِجَارَةِ) لِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ. (فَإِنْ سَكَنَ سَاعَةً فِي الشَّهْرِ الثَّانِي صَحَّ الْعَقْدُ فِيهِ) أَيْضًا. (وَكَذَلِكَ كُلُّ شَهْرٍ سَكَنَ أَوَّلَهُ) لِتَمَامِ الْعَقْدِ بِتَرَاضِيهِمَا بِالسُّكْنَى، وَقِيلَ يَبْقَى الْخِيَارُ لَهُمَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ فِي الشَّهْرِ وَيَوْمِهَا دَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُمَا، لِمَا فِيهِ مِنَ اللُّزُومِ بِغَيْرِ الْتِزَامِهِمَا. قَالَ: (وَمَنِ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا لِيَحْمِلَ لَهُ مَحْمَلًا إِلَى مَكَّةَ جَازَ وَلَهُ الْمُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَالْمَقْصُودُ الرَّاكِبُ وَالْمَحْمَلُ تَبَعٌ، وَالْجَهَالَةُ فِيهِ تَرْتَفِعُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْمُعْتَادِ فَلَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَإِنْ شَاهَدَ الْجَمَّالُ الْمَحْمَلَ فَهُوَ أَوْلَى قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَى. قَالَ: (وَإِنِ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِ الزَّادِ فَأَكَلَ مِنْهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ عِوَضَهُ) لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ حَمْلَ قَدْرٍ مَعْلُومٍ طُولَ الطَّرِيقِ، فَيَرُدُّ عِوَضَ مَا أَكَلَ، وَهُوَ مُعْتَادٌ عِنْدَ النَّاسِ إِذَا نَقَصَ عَلَيْهِمْ، وَهَكَذَا غَيْرُ الزَّادِ إِذَا أَكَلَهُ يَرُدُّ مِثْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَلَوِ اسْتَأْجَرَ بَعِيرَيْنِ لِيَحْمِلَ عَلَى أَحَدِهِمَا مَحْمَلًا فِيهِ رَجُلَانِ وَمَا لَهُمَا مِنَ الْوِطَاءِ وَالدِّثَارِ وَلَمْ يُعَايِنِ الْمُكَارِي ذَلِكَ، وَعَلَى الْآخَرِ زَامِلَةٌ فِيهِ قَدْرٌ مِنَ الزَّادِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَنَحْوِهِمَا، وَمَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ وَلَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَهُ، وَمَا يَصْلُحُ مِنَ الْقِرْبَةِ وَخَيْطِهَا وَالْمِيضَأَةِ وَالْمِطْهَرَةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَزْنَهُ، أَوْ شَرَطَ أَنْ يَحْمِلَ هَدَايَا مِنْ مَكَّةَ مَا يَحْمِلُهُ النَّاسُ، فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ عُرْفًا، وَالْمَعْلُومُ عُرْفَا كَالْمَشْرُوطِ، وَيَحْمِلُ قِرْبَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، وَيَجُوزُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا (سم) ، وَلَا يَمْنَعُ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا، وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى الطَّاعَاتِ كَالْحَجِّ وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ، وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ: يَجُوزُ   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِدَاوَتَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ، وَكَذَلِكَ إِذَا اكْتَرَى عُقْبَةً لِلتَّعَارُفِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَتَعَاقَبَا فِي الرُّكُوبِ يَنْزِلُ أَحَدُهُمَا وَيَرْكَبُ الْآخَرُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ مَا يَرْكَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَرَيَانِ التَّعَارُفِ بِذَلِكَ. قَالَ: (وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وَلِأَنَّ التَّعَامُلَ بِذَلِكَ جَارٍ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا) وَقَالَا: لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِلْجَهَالَةِ، فَإِنَّ طَعَامَهَا وَكِسْوَتَهَا مَجْهُولٌ، حَتَّى لَوْ شَرَطَ قَدْرًا مِنَ الطَّعَامِ كُلَّ يَوْمٍ، وَكِسْوَةَ ثَوْبٍ مَوْصُوفِ الْجِنْسِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْأَظْآرِ وَعَدَمِ الْمُمَاكَسَةِ مَعَهُنَّ، وَإِعْطَائِهِنَّ شَهَوَاتِهِنَّ شَفَقَةً عَلَى الْأَوْلَادِ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْقِيَامُ بِأَمْرِ الصَّبِيِّ مِمَّا يُصْلِحُهُ مِنْ رَضَاعِهِ، وَغَسْلِ ثِيَابِهِ، وَإِصْلَاحِ طَعَامِهِ، وَمَا يُدَاوَى بِهِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ مَشْرُوطَةٌ عَلَيْهَا عُرْفًا، وَلَوْ أَرْضَعَتْهُ جَارِيَتُهَا أَوِ اسْتَأْجَرَتْ مَنْ أَرْضَعَتْهُ فَلَهَا الْأَجْرُ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَلَوْ شَرَطَ أَنْ تُرْضِعَهُ بِنَفْسِهَا فَأَرْضَعَتْهُ جَارِيَتُهَا فَلَا أَجْرَ لَهَا لِلْمُخَالَفَةِ فِيمَا فِيهِ تَفَاوُتٌ، وَقِيلَ لَهَا الْأَجْرُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْإِرْضَاعِ حَيَاةُ الصَّبِيِّ وَهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ يَسِيرٌ لَا يُعْتَبَرُ؛ وَلَوْ أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ غَنَمٍ أَوْ بَقَرٍ فَلَا أَجْرَ لَهَا؛ لِأَنَّهُ إِيجَارٌ وَلَيْسَ بِإِرْضَاعٍ. قَالَ: (وَلَا يَمْنَعُ زَوْجَهَا مِنْ وَطْئِهَا) لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ بِالنِّكَاحِ قَبْلَ الْإِجَارَةِ، وَهُوَ قَائِمٌ بَعْدَهَا، وَلَهُمْ مَنْعُهُ مِنْ غِشْيَانِهَا فِي مَنْزِلِهِمْ مَخَافَةَ الْحَبَلِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الدُّخُولِ إِلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ حَبَلَتْ فَلَهُمْ فَسْخُ الْإِجَارَةِ؛ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ الصَّبِيُّ لَا يَرْضَعُ لَبَنَهَا أَوْ يَقْذِفُهُ أَوْ يَتَقَايَأُهُ، أَوْ تَكُونُ سَارِقَةً أَوْ فَاجِرَةً، أَوْ يُرِيدُونَ السَّفَرَ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَعْذَارٌ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ يَسْتَضِرُّ بِلَبَنِهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا مَرِضَتْ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ أَوِ الظِّئْرُ انْتَقَضَتِ الْإِجَارَةُ وَلِزَوْجِهَا نَقْضُ الْإِجَارَةِ إِذَا لَمْ يَرْضَ صِيَانَةً لِحَقِّهِ. قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى الطَّاعَاتِ كَالْحَجِّ وَالْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْفِقْهِ) لِمَا رُوِيَ «عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا يَأْخُذُ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا، وَلِأَنَّ الْقُرْبَةَ تَقَعُ مِنَ الْعَامِلِ» . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ مِنْ غَيْرِهِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى تَعْلِيمِ الصَّنَائِعِ، لِأَنَّ التَّعْلِيمَ لَا يَقُومُ بِالْمُعَلِّمِ بَلْ بِهِ وَبِالْمُتَعَلِّمِ وَهُوَ ذَكَاؤُهُ وَفِطْنَتُهُ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ، أَوْ نَقُولُ هُمَا شَرِيكَانِ، فَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا. (وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ: يَجُوزُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 عَلَى التَّعْلِيمِ وَالْإِمَامَةِ فِي زَمَانِنَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَا تَجُوزُ عَلَى الْمَعَاصِي كَالْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا عَلَى عَسْبِ التَّيْسِ، وَتَجُوزُ أُجْرَةُ الْحَجَّامِ وَالْحَمَّامِ؛ وَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَلَوْ قَالَ: أَمَرْتُكَ أَنْ تَخِيطَهُ قَبَاءً، وَقَالَ الْخَيَّاطُ قَمِيصًا، فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ وَيُحَلَّفُ، فَإِذَا حَلَفَ فَالْخَيَّاطَ ضَامِنٌ، وَلَوْ قَالَ: خِطْتَهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَقَالَ الصَّانِعُ بِأَجْرٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعَمَلِ يَتَحَالَفَانِ وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى التَّعْلِيمِ وَالْإِمَامَةِ فِي زَمَانِنَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَظُهُورِ التَّوَانِي فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَكَسَلِ النَّاسِ فِي الِاحْتِسَابِ، فَلَوِ امْتَنَعَ الْجَوَازُ يَضِيعُ حِفْظُ الْقُرْآنِ؛ وَلَوِ اسْتَأْجَرَ مُصْحَفًا أَوْ كِتَابًا لِيَقْرَأَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ لَهُ، لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ مَنْفَعَةٌ تَحْدُثُ مِنَ الْقَارِئِ لَا مِنَ الْكِتَابِ، فَصَارَ كَمَا لَوِ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ لَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ عَلَى الْمَعَاصِي كَالْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ وَنَحْوِهِمَا) لِأَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَلَا تَجُوزُ. قَالَ: (وَلَا عَلَى عَسْبِ التَّيْسِ) لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ التَّيْسَ لِيَنْزُوَ عَلَى غَنَمِهِ، وَيَدْخُلَ فِيهِ كُلُّ فَحْلٍ كَالْحِصَانِ وَالْحِمَارِ وَغَيْرِهِمَا. أَمَّا النَّزْوُ بِغَيْرِ أَجْرٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَأَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ حَرَامٌ. قَالَ: (وَتَجُوزُ أُجْرَةُ الْحَجَّامِ) فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ» وَالنَّهْيُ الْوَارِدُ فِيهِ لِلْإِشْفَاقِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّنَاءَةِ وَبِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: (وَالْحَمَّامِ) لِلتَّعَامُلِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلْجَهَالَةِ مَعَ اصْطِلَاحِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: (وَمَنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا طَعَامًا بِقَفِيزٍ مِنْهُ فَهُوَ فَاسِدٌ) لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَجْرَ بَعْضَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ فَصَارَ كَقَفِيزِ الطَّحَّانِ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَفِيزِ الطَّحَّانِ» ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ ثَوْرًا أَوْ رَحًى لِيَطْحَنَ لَهُ حِنْطَةً بِقَفِيزٍ مِنْهَا. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ: مِنْهَا إِذَا دَفَعَهُ إِلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ عَجَزَ عَنِ الْأُجْرَةِ وَهُوَ بَعْضُ الْمَنْسُوجِ وَالْمَطْحُونِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْأَجْرِ فَلَا يَكُونُ قَادِرًا بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ أَمَرْتُكَ أَنْ تَخِيطَهُ قَبَاءً، وَقَالَ الْخَيَّاطُ قَمِيصًا فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ) وَكَذَا إِذَا اخْتَلَفَا فِي صَبْغِ الثَّوْبِ أَصْفَرُ أَوْ أَحْمَرُ، أَوْ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ بِعُصْفُرٍ؛ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْخَيَّاطَ وَالصَّبَّاغَ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ وَصَاحَبُهُ يُنْكِرُ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الثَّوْبِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِذَلِكَ. (وَيُحَلَّفُ) لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لَزِمَهُ فَيُحَلَّفُ لِاحْتِمَالِ النُّكُولِ (فَإِذَا حَلَفَ فَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ) مَعْنَاهُ: إِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الثَّوْبَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ، أَوْ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِي رِوَايَةٍ. (وَلَوْ قَالَ خِطْتَهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ، وَقَالَ الصَّانِعُ بِأَجْرٍ) فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعَمَلِ يَتَحَالَفَانِ وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ. (لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ) لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَدَّعِي هِبَةَ الْعَمَلِ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي بَيْعَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَمَلِ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ، وَإِذَا خَرِبَتِ الدَّارُ أَوِ انْقَطَعَ شِرْبُ الضَّيْعَةِ أَوْ مَاءُ الرَّحَى انْفَسَخَ الْعَقْدُ، وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَقَدْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ انْفَسَخَتْ، وَإِنْ عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ تَنْفَسِخْ. فَصْلٌ وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْعُذْرِ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْعَمَلِ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْعَمَلِ بِدُونِ الْعَقْدِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ عَنْهُ فِي الْعُيُونِ إِنْ كَانَتِ الْخِيَاطَةُ حِرْفَتَهُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ، وَإِلَّا فَلَا أَجْرَ لَهُ وَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا لِمَا بَيَّنَّا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أَجْرَ لَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَامَلَةً فَيَكُونُ لَهُ الْأَجْرُ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنِ اتَّخَذَ حَانُوتًا وَانْتَصَبَ لِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ فَلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْأُجْرَةِ عُرْفًا، وَالْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُشَ اسْمَهُ عَلَى فَصِّهِ فَنَقَشَ اسْمَ غَيْرِهِ ضَمَّنَهُ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ غَرَضَهُ وَهُوَ الْخَتْمُ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ؛ وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَسَمَّى طُولَهَا وَعَرْضَهَا جَازَ؛ وَفِي الْقُبُورِ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عُرْفًا، فَإِنْ وَجَدَ بَاطِنَ الْأَرْضِ أَشَدَّ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْحَفْرُ فَهُوَ عُذْرٌ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ حَتَّى يَفْرَغَ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ وَاحِدٌ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ قَبْلَ التَّمَامِ. قَالَ: (وَإِذَا خَرِبَتِ الدَّارُ، أَوِ انْقَطَعَ شِرْبُ الضَّيْعَةِ أَوْ مَاءُ الرَّحَى، انْفَسَخَ الْعَقْدُ) لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَصَارَ كَمَوْتِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَقِيلَ لَا يَنْفَسِخُ لَكِنْ لَهُ الْفَسْخُ. قَالُوا: وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ نَصًّا: لَوِ انْهَدَمَ الْبَيْتُ الْمُسْتَأْجَرُ فَبَنَاهُ الْآجِرُ لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَذَلِكَ لَأَنَّ أَصْلَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَفُوتُ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْعَرْصَةِ مُمْكِنٌ بِدُونِ الْبِنَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ نَاقِصٌ فَصَارَ كَالْعَيْبِ فَيَسْتَحِقُّ الْفَسْخَ، وَلَوْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا يُخِلُّ بِالْمَنَافِعِ كَمَرَضِ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَنَدَبِهَا وَانْهِدَامِ بَعْضِ الْبِنَاءِ فَلَهُ الْخِيَارُ، إِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ مَعَ الْعَيْبِ، وَيُلْزِمُهُ جَمِيعَ الْبَدَلِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَيْبِ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْعَيْبَ قَبْلَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ لَهُ فَسْخُهُ، فَإِنْ زَالَ الْعَيْبُ أَوْ أَزَالَهُ الْمُؤَجِّرُ فَلَا خِيَارَ لَهُ. (وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَقَدْ عَقَدَهَا لِنَفْسِهِ انْفَسَخَتْ) لِمَا مَرَّ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَا تَبْقَى بِدُونِ الْعَاقِدِ. (وَإِنْ عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ تَنْفَسِخْ) كَالْوَصِيِّ وَالْوَلِيِّ وَقَيِّمِ الْوَقْفِ وَالْوَكِيلِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُمْ فَكَأَنَّهُ مُعَبِّرٌ. [فصل ما تنفسخ به الإجارة] فَصْلٌ (وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْعُذْرِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مَتَى تَحَقَّقَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْعَقْدِ إِلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِهِ يَكُونُ عُذْرًا تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 كَمَنِ اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا لِيَتَّجِرَ فَأَفْلَسَ، أَوْ آجَرَ شَيْئًا، ثُمَّ لَزِمَهُ دَيْنٌ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ؛ وَكَذَلِكَ إِنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلسَّفَرِ فَبَدَا لَهُ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ، وَإِنْ بَدَا لِلْمُكَارِي فَلَيْسَ بِعُذْرٍ. كِتَابُ الرَّهْنِ   [الاختيار لتعليل المختار] وَهَلْ يَشْتَرِطُ الْفَسْخُ قَضَاءَ الْقَاضِي؟ ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ إِنْ كَانَ عُذْرًا فِيهِ شُبْهَةٌ كَالدِّينِ يُشْتَرَطُ لَهُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا لَا. وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَيَنْفَرِدُ الْعَاقِدُ بِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَذَلِكَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ إِنْسَانًا لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ فَسَكَنَ وَجَعُهُ، أَوْ لِيَقْطَعَ يَدَهُ لِأَكِلَةٍ فَسَقَطَتِ الْآكِلَةُ فَإِنَّهُ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ، وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّهَا لَا تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ. وَ (كَمَنِ اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا لِيَتَّجِرَ فَأَفْلَسَ، أَوْ آجَرَ شَيْئًا ثُمَّ لَزِمَهُ دَيْنٌ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ) فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَفْسَخُهَا وَيَبِيعُهُ فِي الدَّيْنِ، لِأَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْفَسْخِ يَلْزَمُهُ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ، وَهُوَ حَبْسُهُ عَلَى الدَّيْنِ وَالْإِجَارَةُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِفْلَاسِ فَيُفْسَخُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ. (وَكَذَلِكَ إِنِ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلسَّفَرِ فَبَدَا لَهُ. تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ) لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ بِالْمُضِيِّ عَلَى الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَرَادَ التِّجَارَةَ فَأَفْلَسَ، أَوْ لِطَلَبِ غَرِيمٍ فَحَضَرَ. (وَإِنْ بَدَا لِلْمُكَارِي فَلَيْسَ بِعُذْرٍ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ إِنْفَاذُ الدَّوَابِّ مَعَ أَجِيرِهِ فَلَا يَتَضَرَّرُ. وَعَنِ الْكَرْخِيِّ: إِنْ مَرِضَ الْمُكَارِي فَهُوَ عُذْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ ضَرَرٍ فَيُعْذَرُ حَالَةَ الِاضْطِرَارِ لَا حَالَةَ الِاخْتِيَارِ، وَعَلَى رَبِّ الدَّارِ عِمَارَتُهَا وَإِصْلَاحُ مَيَازِيبِهَا وَبِئْرِ الْمَاءِ، وَتَنْظِيفُ الْبَالُوعَةِ الْمُمْتَلِئَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْمُسْتَأْجِرِ، وَكُلِّ مَا يَكُونُ مُضِرًّا بِالسُّكْنَى، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ؛ وَإِنْ رَأَى هَذِهِ الْعُيُوبَ وَقْتَ الْإِجَارَةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَيْبِ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَمْيُ التُّرَابِ وَالرَّمَادِ الْمُجْتَمِعِ فِي الدَّارِ مِنْ كَنْسِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ السُّكْنَى، كَرْيِ نَهْرِ رَحَا الْمَاءِ عَلَى الْآجِرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ. [كِتَابُ الرَّهْنِ] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْحَبْسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] . وَفِي الشَّرْعِ: الْحَبْسُ بِمَالٍ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ، شُرِعَ وَثِيقَةً لِلِاسْتِيفَاءِ لِيَضْجَرَ الرَّاهِنُ بِحَبْسِ عَيْنِهِ فَيُسَارِعَ إِلَى إِيفَاءِ الدَّيْنِ لِيَفْتِكَهَا فَيَنْتَفِعَ بِهَا وَيَصِلَ الْمُرْتَهِنُ إِلَى حَقِّهِ. ثَبَتَتْ شَرْعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَأَنَّهُ أَمْرٌ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ نَقْلًا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، مَعْنَاهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مُسَافِرِينَ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَارْتَهِنُوا رِهَانًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وَهُوَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ بِمَالٍ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ، وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ أَوْ بِالتَّخْلِيَةِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ سَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ لَا،   [الاختيار لتعليل المختار] مَقْبُوضَةً وَثِيقَةً بِأَمْوَالِكُمْ. وَالسُّنَّةُ مَا رُوِيَ " أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رَهَنَ دِرْعَهُ عِنْدَ أَبِي الشَّحْمِ الْيَهُودِيِّ بِالْمَدِينَةِ» وَبُعِثَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. قَالَ: (وَهُوَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ) لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ. قَالَ: (بِمَالٍ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ) أَيْ بِمِثْلِهِ. (يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ) عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالْقَبْضِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً فَلَا تَكُونُ إِلَّا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، فَيَكُونُ تَمَامُهُ بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ. (أَوْ بِالتَّخْلِيَةِ) لِقِيَامِهَا مَقَامَهُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ. (وَقَبْلَ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ سَلَّمَ وَإِنْ شَاءَ لَا) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَبَرُّعٌ؟ ثُمَّ الرَّهْنُ لَا يَخْلُو، إِمَّا إِنْ كَانَ بِدَيْنٍ وَهُوَ الْمِثْلِيُّ، أَوْ بِعَيْنٍ وَهُوَ غَيْرُ الْمِثْلِيِّ؛ فَإِنْ كَانَ بِدَيْنٍ جَازَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِأَيِّ وَجْهٍ ثَبَتَ، سَوَاءً كَانَ مِنَ الْأَثْمَانِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا؛ وَإِنْ كَانَ بِعَيْنٍ فَالْأَعْيَانُ عَلَى وَجْهَيْنِ: مَضْمُونَةٌ، وَغَيْرُ مَضْمُونَةٍ. فَالْمَضْمُونَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ: مَضْمُونَةٌ بِنَفْسِهَا، وَمَضْمُونَةٌ بِغَيْرِهَا؛ فَالْمَضْمُونُ بِنَفْسِهِ: مَا يَجِبُ عِنْدَ هَلَاكِهِ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ، وَالْمَهْرِ، وَبَدَلِ الْخُلْعِ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، فَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِهَا لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ ضَمَانًا صَحِيحًا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ؛ وَالْمَضْمُونَةُ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهَلَاكِهِ حَتَّى يُسْتَوْفَى مِنَ الرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ فَصَارَ كَمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ. وَالْأَعْيَانُ الْغَيْرُ الْمَضْمُونَةِ: وَهِيَ الْأَمَانَاتُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَةِ، وَمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْمُسْتَأْجَرِ وَنَحْوِهَا، لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهَا، لِأَنَّ الرَّهْنَ مُقْتَضَاهُ الضَّمَانُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ لَا يُوجَدُ فِيهِ مَعْنَى الرَّهْنِ، وَقَوْلُهُ فِي الْمُخْتَصَرِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُ احْتِرَازًا عَنْ هَذَا، وَلَا يَجُوزُ بِالشُّفْعَةِ وَلَا بِالدَّرْكِ وَلَا بِدَيْنٍ سَيَجِبُ؛ لِأَنَّهُ وَثِيقَةٌ بِمَعْدُومٍ، وَلَا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَيَجُوزُ بِجِنَايَةِ الْخَطَأِ، وَيَكُونُ رَهْنًا بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَلَا يَجُوزُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا بِأُجْرَةِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلرَّاهِنِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَيُفِيدُ الشَّرْطَ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَلَا يُفِيدُ، وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْحُرِّ، وَالْمُدَبَّرِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، وَالْمُكَاتَبِ، وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا فَلَا يَحْصُلُ التَّوَثُّقُ، وَكَذَا جِذْعٌ فِي سَقْفٍ، وَذِرَاعٌ مِنْ ثَوْبٍ، وَأَشْبَاهُهُ لِمَا مَرَّ. وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ رَهْنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَيَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ، لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالِارْتِهَانَ لِلْوَفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ ذَلِكَ مِنَ الْخَمْرِ وَيَجُوزُ لِلذِّمِّيِّ، ثُمَّ الرَّهْنُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: جَائِزٌ، وَبَاطِلٌ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمَا. وَفَاسِدٌ وَهُوَ رَهْنُ الْمَبِيعِ، وَرَهْنُ الْمُشَاعِ وَالْمَشْغُولِ بِحَقِّ الْغَيْرِ، أَوِ اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ خَلًّا، وَرَهَنَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا ثُمَّ ظَهَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وَلَا يَصِحُّ إِلَّا مَحُوزًا مُفْرَغًا مُتَمَيِّزًا، فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْعَبْدُ حُرًّا، وَالْخَلُّ خَمْرًا، أَوْ قَتَلَ عَبْدًا فَأَعْطَاهُ بِقِيمَتِهِ رَهْنًا ثُمَّ ظَهَرَ حَرًّا. قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ: يَهْلَكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، لِأَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ، وَالْقَبْضُ لَمْ يَتِمَّ فِي الْمُشَاعِ وَالْمَشْغُولِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْحُرِّ وَالْخَمْرِ كَمَا لَوْ رَهَنَهُ ابْتِدَاءً. وَنَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ: أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ رَهْنٍ فَاسِدٍ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الدَّيْنِ، لِأَنَّ الرَّهْنَ انْعَقَدَ لِمُقَابَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ، وَفِي الْبَعْضِ فِي ظَنِّهِمَا، لَكِنَّهُ فَسَدَ لِنُقْصَانٍ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنَ الرَّهْنِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْأَقَلِّ مِنْهُمَا، كَالْمَقْبُوضِ فِي الْبَيْعِ الْكَاسِدِ مَضْمُونٌ بِقِيمَتِهِ فَكَذَا هَذَا، إِلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْهُمَا هُنَا؛ أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ فَظَاهَرٌ؛ وَأَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا قَبَضَهُ لِيَكُونَ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ، وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ إِلَّا مَحُوزًا مُفْرَغًا مُتَمَيِّزًا) فَالْمَحُوزُ الْمَعْلُومُ الَّذِي يُمْكِنُ حِيَازَتُهُ، وَالْمُفْرَغُ الَّذِي لَا يَكُونُ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ، وَالْمُتَمَيِّزُ الْمَقْسُومُ الَّذِي قَدْ تَمَيَّزَ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَنْصِبَاءِ، لِأَنَّ قَبْضَ الْجُزْءِ الشَّائِعِ لَا يُتَصَوَّرُ بِانْفِرَادِهِ، وَقَبْضُ الْكُلِّ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَكَذَا كَوْنُهُ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَيْرِ يُخِلُّ بِقَبْضِهِ وَحَبْسِهِ، وَكَذَا الْمَجْهُولُ لَا يُمْكِنُ قَبْضُهُ، وَمَقْصُودُ الرَّهْنِ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْحَبْسِ الدَّائِمِ، وَالْحَبْسُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْقَبْضِ، وَالْقَبْضُ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِدُونِهَا. قَالَ: (فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا رَهَنَ فَرَسًا لَهُ بِدَيْنٍ فَنَفَقَ. فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمُرْتَهِنِ: " ذَهَبَ حَقُّكَ " وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " إِذَا عَمِيَ الرَّهْنُ فَهُوَ بِمَا فِيهِ» قَالُوا: مَعْنَاهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - إِذَا هَلَكَ فَاشْتَبَهَتْ قِيمَتُهُ؛ وَقَدْ نَقَلَ أَصْحَابُنَا إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ حَبْسَهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ الِاسْتِيفَاءُ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى حَقِّهِ مَخَافَةَ الْجُحُودِ، وَقَدْ تَأَكَّدَ هَذَا الِاسْتِيفَاءُ بِالْهَلَاكِ، فَلَوْ وَفَّاهُ ثَانِيًا يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا، وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُطَالَبَةُ بِحَقِّهِ إِلَّا أَنْ يَنْقُضَ الْقَبْضَ وَالْحَبْسَ وَيَرُدَّهُ إِلَى الرَّاهِنِ، وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَفَاتَ شَرْطُ الْمُطَالَبَةِ فَبَطَلَتْ؛ وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ أَمَانَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، وَتَعَلُّقُهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ، هُوَ لِصَاحِبِهِ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» لَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ الرَّهْنُ لِلْمُرْتَهِنِ بِدَيْنِهِ وَلَا يَحْبِسُهُ بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ، هَذَا مَعْنَاهُ، وَيَشْهَدُ لَهُ بَيْتُ ابْنِ زُهَيْرٍ: وَفَارَقَتْكَ بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ ... يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَضْحَى الرَّهْنُ قَدْ غُلِقَا أَيْ مَحْبُوسًا لَا فِكَاكَ لَهُ، وَكَذَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ذَلِكَ قَلْعًا لَهُمْ عَنِ الْعَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَلُّكِ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَوْلُهُ: «لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ» أَيْ إِذَا بِيعَ فَفَضَلَ مِنَ الثَّمَنِ شَيْءٌ فَهُوَ لَهُ، وَإِنْ نَقَصَ فَعَلَيْهِ، أَوْ لَهُ غُنْمُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وَيَهْلِكُ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ حَتَى يُكَفِّنَهُ، وَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا مِنْ مَالِيَّتِهِ قَدْرَ دَيْنِهِ حُكْمًا وَالْفَاضِلُ أَمَانَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ سَقَطَ مِنَ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيِمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ، فَإِنْ أَوْدَعَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ رَهْنٍ وَنَحْوِهِ ضَمِنَهُ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ، وَنَفَقَةُ الرَّهْنِ وَأَجْرَةُ الرَّاعِي عَلَى الرَّاهِنِ وَنَمَاؤُهُ لَهُ وَيَصِيرُ رَهْنًا مَعَ الْأَصْلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِسُقُوطِ الدَّيْنِ عَنْهُ بِهَلَاكِهِ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ، وَهُوَ قَضَاءٌ مَا بَقِيَ مِنَ الدَّيْنِ إِنْ لَمْ يَفِ بِهِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مِثْلِهِ، قَالَ يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ. قَالَ: (وَيَهْلِكُ عَلَى مِلْكِ الرَّاهِنِ حَتَّى يُكَفِّنَهُ) لِأَنَّهُ مِلْكُهُ حَقِيقَةً، وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَتَّى لَوِ اشْتَرَاهُ لَا يَنُوبُ قَبْضُ الرَّهْنِ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضُ أَمَانَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ مِلْكَهُ فَمَاتَ كَانَ عَلَيْهِ كَفَنُهُ. قَالَ: (وَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا مِنْ مَالِيَّتِهِ قَدْرَ دَيْنِهِ حُكْمًا، وَالْفَاضِلُ أَمَانَةٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ سَقَطَ مِنَ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ) لِأَنَّ الْمَضْمُونَ قَدْرُ مَا يَسْتَوْفِيهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَعِنْدَ زِيَادَةِ قِيمَتِهِ الزِّيَادَةُ أَمَانَةٌ، لِأَنَّهَا فَاضِلَةٌ عَنِ الدَّيْنِ وَقَدْ قَبَضَهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ، وَعِنْدَ النُّقْصَانِ قَدِ اسْتَوْفَى قِيمَتَهُ فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَيْهِ كَمَا كَانَ. قَالَ: (وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ) لِأَنَّهُ يَوْمَئِذٍ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ وَفِيهِ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ يَدًا ثُمَّ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ، فَالْقَوْلُ لِلْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ، وَالْبَيِّنَةُ لِلرَّاهِنِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُهَا. قَالَ: (فَإِنْ أَوْدَعَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِعَارَةٍ أَوْ رَهْنٍ وَنَحْوِهِ ضَمِنَهُ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ) . وَكَذَا إِذَا تَعَدَّى فِيهِ كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى وَالِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ إِذْ هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ، وَالزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ، وَالْأَمَانَاتُ تُضَمَّنُ بِالتَّعَدِّي، وَلَا يَنْفَسِخُ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالتَّعَدِّي، وَلِأَنَّهُ مَا رَضِيَ إِلَّا بِحِفْظِهِ وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَكَانَ مُخَالِفًا، بِخِلَافِ زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ الَّذِينَ فِي عِيَالِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَحْفَظُ مَالَهُ غَالِبًا بِهَؤُلَاءِ، فَيَكُونُ الرِّضَى بِحِفْظِهِ رِضًى بِحِفْظِهِمْ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ مُلَازَمَةُ الْبَيْتِ، وَلَا اسْتِصْحَابُ الرَّهْنِ، فَصَارَ الْحِفْظُ بِهَؤُلَاءِ مَعْلُومًا لَهُ فَلَا يُضَمَّنُ؛ وَلُبْسُ الْخَاتَمِ فِي خِنْصِرِهِ تَعَدٍّ، وَفِي غَيْرِهَا حِفْظٌ، وَالتَّقَلُّدُ بِالسَّيْفِ وَالسَّيْفَيْنِ تَعَدٍّ لِلْعَادَةِ وَبِالثَّلَاثِ لَا؛ وَوَضْعُ الْعِمَامَةِ وَالطَّيْلَسَانِ عَلَى الرَّأْسِ كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ تَعَدٍّ، وَوَضْعُهُمَا عَلَى الْعَاتِقِ أَوِ الْكَتِفِ لَا؛ وَالتَّعَمُّمُ بِالْقَمِيصِ لَيْسَ بِتَعَدٍّ؛ وَوَضْعُ الْخَلْخَالِ مَوْضِعَ السُّوَارِ وَبِالْعَكْسِ لَيْسَ بِتَعَدٍّ، وَلُبْسُهُمَا مَوْضِعَهُمَا تَعَدٍّ. قَالَ: (وَنَفَقَةُ الرَّهْنِ، وَأُجْرَةُ الرَّاعِي عَلَى الرَّاهِنِ) وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِبَقَاءِ الرَّهْنِ وَمَصْلَحَتِهِ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَذَلِكَ مَؤُونَةُ الْمِلْكِ، وَالرَّعْيُ مِنَ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ عَلْفُ الْحَيَوَانِ وَالْكِسْوَةُ وَالظِّئْرُ، وَإِصْلَاحُ شَجَرِ الْبُسْتَانِ وَسِقْيُهَا، وَجُذَاذُ الثَّمَرَةِ مِنَ النَّفَقَةِ. قَالَ: (وَنَمَاؤُهُ لَهُ) لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ وَالثَّمَرَةِ. (وَيَصِيرُ رَهْنًا مَعَ الْأَصْلِ) لِأَنَّ الرَّهْنَ حَقٌّ لَازِمٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 إِلَّا أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ بِقِيَ النَّمَاءُ وَهَلَكَ الْأَصْلُ افْتَكَّهُ بِحِصَّتِهِ، يُقْسَمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ الْفَكَاكِ وَقِيمَةِ الْأَصْلِ يَوْمَ الْقَبْضِ وَتَسْقُطُ حِصَّةُ الْأَصْلِ، وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ (ز) وَلَا تَجُوزُ فِي الدَّيْنِ (س) وَلَا يَصِيرُ الرَّهْنُ رَهْنًا بِهِمَا، وَأُجْرَةُ مَكَانِ الْحِفْظِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهُ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ الَّذِي فِي عِيَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَيَسْرِي إِلَى التَّبَعِ. (إِلَّا أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ يَهْلِكُ بِغَيْرِ شَيْءٍ) لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ مَقْصُودًا فَلَا يَكُونُ لَهُ قِسْطٌ مِنَ الدَّيْنِ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَمْ يَقْبِضْهَا بِجِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا الْتَزَمَ ضَمَانَهَا فَلَا يَلْزَمُهُ كَوَلَدِ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ مَبِيعٌ وَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ عَلَى الْبَائِعِ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ وَزِيَادَتِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ رَغَبَاتِ النَّاسِ، أَمَّا الْعَيْنُ فَلَمْ تَتَغَيَّرْ، وَالْقَبْضُ وَرَدَ عَلَى الْعَيْنِ دُونَ الْقِيمَةِ، وَغَلَّةُ الْعَقَارِ وَكَسْبُ الرَّهْنِ لَيْسَ بِرَهْنٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْهُ وَلَا بَدَلَ عَنْهُ كَكَسْبِ الْمَبِيعِ وَغَلَّتِهِ. قَالَ: (وَإِنْ بَقِيَ النَّمَاءُ وَهَلَكَ الْأَصْلُ افْتَكَّهُ بِحِصَّتِهِ) لِأَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ، وَالزِّيَادَةُ مَقْصُودَةٌ بِالْفَكَاكِ، وَمَتَى صَارَ التَّبَعُ مَقْصُودًا قَابَلَهُ شَيْءٌ مِنَ الْبَدَلِ كَوَلَدِ الْمَبِيعِ. قَالَ: (يُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهِ يَوْمَ الْفَكَاكِ، وَقِيمَةِ الْأَصْلِ يَوْمَ الْقَبْضِ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَتَسْقُطُ حِصَّةُ الْأَصْلِ) لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الرَّهْنِ وَلَا تَجُوزُ فِي الدَّيْنِ، وَلَا يَصِيرُ الرَّهْنُ رَهْنًا بِهِمَا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا، لِأَنَّ الدَّيْنَ وَالرَّهْنَ كَالثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ، فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِمَا بِجَامِعِ دَفْعِ الْحَاجَةِ، بِدَلِيلِ إِقْدَامِهِمَا وَصِحَّةِ تَصَرُّفِهِمَا. وَلَنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الرَّهْنِ تُوجِبُ شُيُوعَ الدَّيْنِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ تُوجِبُ شُيُوعَ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ مِنَ الرَّهْنِ وَشُيُوعُ الرَّهْنِ مَانِعٌ مِنْ صِحَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ فِيهِمَا، أَمَّا فِي الدَّيْنِ فَلِمَا قَالَا، وَأَمَّا فِي الرَّهْنِ فَلِأَنَّهُ جَعَلَهُ رَهْنًا بِبَعْضِ الدَّيْنِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا إِذَا جَعَلَهُ رَهْنًا بِكُلِّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَعَلَهُ رَهْنًا بِكُلِّهِ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَرُدَّ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ الْأَوَّلَ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَهَنَهُمَا مِنْ الِابْتِدَاءِ. قَالَ: (وَأُجْرَةُ مَكَانِ الْحِفْظِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ) لِأَنَّ الْحِفْظَ عَلَيْهِ لِيَرُدَّهُ إِلَى الرَّاهِنِ لِيُسَلِّمَ لَهُ حَقَّهُ فَيَكُونُ عَلَيْهِ بَدَلُهُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَافِظِ، وَجُعْلُ الْآبِقِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَةِ يَدِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ فَكَانَ مِنْ مَؤُونَةِ الرَّدِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنَ الدَّيْنِ فَعَلَى الرَّاهِنِ قَدْرُ الزِّيَادَةِ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فَتَكُونُ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ فَتَكُونُ الْمَؤُونَةُ عَلَى الْمَالِكِ، وَهَذَا فِي جُعْلِ الْآبِقِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ الضَّمَانِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ؛ أَمَّا أُجْرَةُ الْبَيْتِ فَالْجَمِيعُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ بِسَبَبِ الِاحْتِبَاسِ، وَالْحَبْسُ ثَابِتٌ لَهُ فِي الْكُلِّ، وَالْخَرَاجُ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ مَؤُونَةُ مِلْكِهِ. قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهُ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ الَّذِي فِي عِيَالِهِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فَهَلَكَ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ هَلَكَ أَمَانَةً. وَيَصِحُّ رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنْ رُهِنَتْ بِجِنْسِهَا فَهَلَكَتْ سَقَطَ مِثْلُهَا مِنَ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ؛ وَيَصِحُّ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ، فَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَصَارَ مُسْتَوْفِيًا، وَإِنَ افْتَرَقَا وَالرَّهْنُ قَائِمٌ بَطَلَا؛ وَيَصِحُّ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ، فَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ بِمَا سَمَّى وَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَ بِالثَّمَنِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَامْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ، وَالْبَائِعُ إِنْ شَاءَ تَرَكَ الرَّهْنَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْبَيْعَ، إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ حَالًّا،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَهُ وِلَايَةُ الْحَبْسِ لَا غَيْرُ. (فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الرَّاهِنُ فَهَلَكَ حَالَةَ الِاسْتِعْمَالِ هَلَكَ أَمَانَةً) لِأَنَّهُ عَارِيَةٌ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِهَا، وَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ هَلَكَ مَضْمُونًا لِبَقَاءِ يَدِ الرَّاهِنِ، وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ لِزَوَالِ يَدِ الْعَارِيَةِ وَعَوْدِ الرَّاهِنِ. [فصل صحة رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ] فَصْلٌ (وَيَصِحُّ رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ) لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهَا فَكَانَتْ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ. (فَإِنْ رُهِنَتْ بِجِنْسِهَا فَهَلَكَتْ سَقَطَ مِثْلُهَا مِنَ الدَّيْنِ) لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ حَصَلَ، وَلَا فَائِدَةَ فِي تَضْمِينِهِ بِالْمِثْلِ لِأَنَّهُ مِثْلِيٌّ ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ قَضَاءً. (وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ) لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ الْجَوْدَةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ. قَالَ: (وَيَصِحُّ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ) لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُجَانَسَةُ ثَابِتَةٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَلَا يَكُونُ اسْتِبْدَالًا. (فَإِنْ هَلَكَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَصَارَ مُسْتَوْفِيًا) لِتَحَقُّقِ الْقَبْضِ حُكْمًا. (وَإِنِ افْتَرَقَا وَالرَّهْنُ قَائِمٌ بَطَلَا) لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ لَا عَنْ قَبْضٍ وَأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهِمَا عَلَى مَا عُرِفَ. قَالَ: (وَيَصِحُّ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ، فَإِنْ هَلَكَ هَلَكَ بِمَا سَمَّى) لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلَى جِهَةِ الرَّهْنِ، فَيَكُونُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ. وَصُورَتُهُ أَنْ يَرْهَنَهُ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ دِرْهَمًا فَيَهْلِكُ قَبْلَ الْقَرْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ دِرْهَمًا، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ شَيْئًا وَلَمْ يُسَمِّ فَهَلَكَ أَعْطَاهُ مَا شَاءَ وَالْبَيَانُ إِلَيْهِ، لِأَنَّ بِالْهَلَاكِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الْهَلَاكِ: وَجَبَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ بِدَرَاهِمَ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ قَالَ أَقْرِضْنِي وَخُذْ هَذَا الرَّهْنَ، وَلَمْ يُسَمِّ فَأَخَذَهُ، وَضَاعَ وَلَمْ يُقْرِضْهُ قَالَ: عَلَيْهِ قِيمَةُ الرَّهْنِ. قَالَ: (وَمَنِ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَ بِالثَّمَنِ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فَامْتَنَعَ لَمْ يُجْبَرْ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ. (وَالْبَائِعُ إِنْ شَاءَ تَرَكَ الرَّهْنَ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْبَيْعَ) لِأَنَّهُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَقَدْ فَاتَهُ فَيَتَخَيَّرُ. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ حَالًّا) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 أَوْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا مِثْلَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِدَيْنٍ فَقَضَى حِصَّةَ أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ حَتَّى يَقْضِيَ بَاقِيَ الدَّيْنِ، وَإِنْ رَهَنَ عَيْنًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ جَازَ، وَالْمَضْمُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّةُ دَيْنِهِ، فَإِنْ أَوْفَى أَحَدُهُمَا فَجَمِيعُهَا رَهْنٌ عِنْدَ الْآخَرِ، وَلِلْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ وَحَبْسُهُ بِدَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ بَيْعِهِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ.   [الاختيار لتعليل المختار] (أَوْ يُعْطِيَهُ رَهْنًا مِثْلَ الْأَوَّلِ) لِحُصُولِ الْمَعْنَى، وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ بِمِثْلِهِ فِي الْقِيمَةِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا الْبَيْعُ لِأَنَّهُ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِهِمَا، وَأَنَّهُ يُفْسِدُ الْبَيْعَ لِمَا مَرَّ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ يُلَائِمُ الْعَقْدَ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لِلِاسْتِيثَاقِ، وَهُوَ مُلَائِمٌ لِلْوُجُوبِ فَلَا يُفْسِدُهُ. قَالَ: (وَإِنْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِدَيْنٍ فَقَضَى حِصَّةَ أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهُ حَتَّى يَقْضِيَ بَاقِيَ الدَّيْنِ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْكُلِّ لِلِاسْتِيثَاقِ بِالدَّيْنِ، وَبِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَصَارَ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ، وَكَذَلِكَ إِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنَ الدَّيْنِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ. وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ: لَهُ قَبْضُهُ إِذَا أَدَّى مَا سَمَّى لَهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِالْقَدْرِ الَّذِي سَمَّاهُ لَهُ، وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ هَلَكَ بِهِ. وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ، وَإِنْ عَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا، وَلِهَذَا لَوْ قَبِلَ الْعَقْدَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْبَيْعِ. قَالَ: (وَإِنْ رَهَنَ عَيْنًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ جَازَ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الرَّهْنَ إِلَى جَمِيعِهَا صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ مُحْتَبِسًا بِمَا رَهَنَهَا بِهِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّجَزِّيَ فَيَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِنْ تَهَايَآ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ كَالْعَدْلِ. قَالَ: (وَالْمَضْمُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّةُ دَيْنِهِ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهُ بِالْهَلَاكِ. (فَإِنْ أَوْفَى أَحَدُهُمَا فَجَمِيعُهَا رَهْنٌ عِنْدَ الْآخَرِ) لِأَنَّ جَمِيعَهَا رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ لِمَا بَيَّنَّا وَصَارَ كَحَبْسِ الْمَبِيعِ إِذْ أَدَّى أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ حِصَّتَهُ. قَالَ: (وَلِلْمُرْتَهِنِ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ وَحَبْسُهُ بِدَيْنِهِ وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ) لِبَقَاءِ حَقِّهِ فِي الدَّيْنِ، وَالرَّهْنُ لِلِاسْتِيثَاقِ فَلَا يَمْنَعُ الْمُطَالَبَةَ، فَإِذَا طَالَبَهُ وَمَطَلَهُ فَقَدْ ظَلَمَهُ، فَيَحْبِسُهُ الْقَاضِي جَزَاءً عَلَى الظُّلْمِ. (وَلَيْسَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ بَيْعِهِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ) لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي الْحَبْسِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِبْطَالُهُ بِالْبَيْعِ، إِلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَبْضَهُ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ، فَلَوْ قَبَضَ دَيْنَهُ مَعَ ذَلِكَ يَتَكَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى تَقْدِيرٍ مُحْتَمَلٍ، وَهُوَ الْهَلَاكُ فِي يَدِهِ، وَإِذَا أَحْضَرَهُ قِيلَ لِلرَّاهِنِ سَلِّمِ الدَّيْنَ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَ وَهُوَ نَظِيرُ بَيْعِ السِّلْعَةِ بِالثَّمَنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فَصْلٌ: فَإِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الرَّهْنَ نَفَذَ عِتْقُهُ، فَيُطَالَبُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ إِنْ كَانْ حَالًّا، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا رَهَنَ قِيمَةَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَالدَّيْنِ.   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل حكم الرهن إذا باعه الراهن] فَصْلٌ (فَإِذَا بَاعَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِ بِحَبْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَيَتَوَقَّفُ إِبْطَالُهُ عَلَى رِضَاهُ أَوْ زَوَالِ حَقِّهِ، فَإِذَا أَجَازَ فَقَدْ رَضِيَ بِزَوَالِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، وَإِذَا قَضَى دَيْنَهُ فَقَدْ زَالَ حَقُّهُ فِي الْحَبْسِ فَعَمِلَ الْمُقْتَضَى عَمَلُهُ، وَهُوَ صُدُورِ الرُّكْنِ مِنَ الْأَهْلِ مُضَافًا إِلَى الْمَحَلِّ، ثُمَّ إِذَا أَجَازَ الْبَيْعَ وَنَفَذَ انْتَقَلَ حَقُّهُ إِلَى بَدَلِهِ، لِأَنَّ لَهُ الْحُكْمَ الْمُبْدَلَ كَالْعَبْدِ الْمَدْيُونِ إِذَا بِيعَ بِرِضَا الْغُرَمَاءِ انْتَقَلَ حَقُّهُمْ إِلَى بَدَلِهِ، وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّهُ إِنَّمَا رَضِيَ بِالِانْتِقَالِ دُونَ السُّقُوطِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزِ الْبَيْعُ قِيلَ يَنْفَسِخُ كَعَقْدِ الْفُضُولِيِّ حَتَّى لَوِ اسْتَفَكَّهُ الرَّاهِنُ لَا سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَا يَنْفَسِخُ، قَالُوا: وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ إِنَّمَا كَانَ صِيَانَةً لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ عَنِ الْبُطْلَانِ، وَحَقِّهِ فِي الْحَبْسِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا إِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي صَبَرَ حَتَّى يَسْتَفِكَّهُ الرَّاهِنُ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْقَاضِي لِعَجْزِهِ عَنِ التَّسْلِيمِ، وَصَارَ كَإِبَاقِ الْعَبْدِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَخَيَّرُ كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الرَّهْنَ نَفَذَ عِتْقُهُ) لِصُدُورِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ مِنَ الْأَهْلِ مُضَافًا إِلَى الْمَحَلِّ، وَلَا خَفَاءَ فِيهِمَا عَنْ وِلَايَةٍ، وَهِيَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ، فَيُعْتِقُ كَمَا إِذَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْآبِقُ وَالْمَغْصُوبُ. وَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ عَنِ الرَّقَبَةِ بِالْإِعْتَاقِ زَالَ مِلْكُ الْمُرْتَهِنِ فِي الْيَدِ بِنَاءً عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ، وَثَمَّ يَزُولُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ فَلِأَنْ يَزُولَ هُنَا مِلْكُ الْيَدِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُوقَفُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلِأَنَّ فِي نَفَاذِ الْعِتْقِ تَحْصِيلَ مَنْفَعَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ غَيْرِ فَوَاتِ مَصْلَحَةِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ يَجِبُ لَهُ إِمَّا سِعَايَةُ الْعَبْدِ، أَوْ رَهْنِيَّةُ قِيمَتِهِ، أَوْ أَدَاءُ الدَّيْنِ حَالًّا، وَلَوْ لَمْ يَنْفُذِ الْعِتْقُ بَطَلَتْ مَصْلَحَةُ الْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ لَا إِلَى جَابِرٍ، فَكَانَ نَفَاذُهُ أَتَمَّ مَصْلَحَةً وَأَعَمَّ فَائِدَةً فَكَانَ أَوْلَى، وَإِذَا نَفَذَ الْعِتْقُ بَطَلَ الرَّهْنُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ (فَيُطَالَبُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ إِنْ كَانَ حَالًّا) إِذْ هُوَ الْوَاجِبُ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ، وَلَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِ الْقِيمَةِ فَإِنَّهُ مَتَى قَبَضَهَا وَالدَّيْنُ حَالٌّ وَقَعَتِ الْمَقَاصَّةُ. (وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا رَهَنَ قِيمَةَ الْعَبْدِ) لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَبْدِ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ اقْتَصَّ مِنْهُ بِقَدْرِهِ وَرَدَّ الْفَضْلَ. (وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَالدَّيْنِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 وَيَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى إِذَا أَيْسَرَ، وَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَالْمُرْتَهِنُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ هَلَكَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ (ف) بِالرَّهْنِ، فَإِنْ أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ فَقَبَضَهُ الرَّاهِنُ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِهِ، فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَضَعَاهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ جَازَ، وَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَخْذُهُ، وَيَهْلَكُ مِنْ ضْمَانِ الْمُرْتَهِنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ أَخْذُ الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الْمُعْتِقِ، فَيُؤْخَذُ مِمَّنْ حَصَلَتْ لَهُ فَائِدَةُ الْعِتْقِ وَهُوَ الْعَبْدُ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ، وَيَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الدَّيْنَ إِنْ كَانَ أَقَلَّ فَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ فَهُوَ إِنَّمَا حَصَلَ لَهُ هَذَا الْقَدْرُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ. (وَيَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى إِذَا أَيْسَرَ) لِأَنَّهُ اضْطُرَّ إِلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، خِلَافَ الْمُسْتَسْعَى؛ لِأَنَّهُ يَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِتَكْمِيلِهِ عِنْدَهُمَا، وَهَاهُنَا تَمَّ عِتْقُهُ، وَإِنَّمَا يَسْعَى فِي ضَمَانٍ عَلَى غَيْرِهِ فَيَرْجِعُ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ ; وَلَوْ دَبَّرَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا صَحَّ ; أَمَّا التَّدْبِيرُ فَلِمَا مَرَّ، وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَلِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ، وَقَدْ صَحَّ ثَمَّ فَهُنَا أَوْلَى، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ مَجْبُورٌ بِالسِّعَايَةِ أَوِ التَّضْمِينِ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى مُوسِرًا فَحُكْمُهُ مَا مَرَّ فِي الْعِتْقِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَيَا فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ، لِأَنَّ كَسْبَهُمَا لِلْمَوْلَى وَلِهَذَا لَا يَرْجِعَانِ عَلَيْهِ، وَإِذَا اسْتَهْلَكَ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ فَهُوَ كَالْعِتْقِ. قَالَ: (وَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَالْمُرْتَهِنُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ هَلَكَ) فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي حَبْسِ الْعَيْنِ، فَكَذَا فِي بَدَلِهِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ أَلْفًا وَضَمَّنَهُ خَمْسَمِائَةٍ سَقَطَ مِنَ الدَّيْنِ خَمْسُمِائَةٍ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ. قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ كَمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (فَإِنْ أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ فَقَبَضَهُ الرَّاهِنُ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِهِ، فَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ) لِزَوَالِ الْحَبْسِ الْمَضْمُونِ وَوُصُولِهِ إِلَى يَدِ الرَّاهِنِ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَرْجِعَهُ لِبَقَاءِ عَقْدِ الرَّاهِنِ ; وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ رَدِّهِ فَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ، وَإِذَا أَخَذَهُ عَادَ الضَّمَانُ بِعَوْدِ الْقَبْضِ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ فَتَعُودُ صِفَتُهُ. قَالَ: (وَإِنْ وَضَعَاهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ جَازَ) لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الرَّاهِنِ فِي الْحِفْظِ، وَعَنِ الْمُرْتَهِنِ فِي الْحَبْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْيَدُ الْوَاحِدَةُ فِي حُكْمِ يَدَيْنِ وَشَخْصٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ شَخْصَيْنِ، كَمَنْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ كَانَ السَّاعِي كَالْمَالِكِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ النِّصَابُ قَبْلَ الْحَوْلِ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ، وَفِي مَنْزِلَةِ الْفَقِيرِ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ سَقَطَتْ كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إِلَى الْفَقِيرِ. (وَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَخْذُهُ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا بِهِ الرَّاهِنُ فِي الْحِفْظِ وَالْمُرْتَهِنُ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا إِبْطَالَ حَقِّ الْآخَرِ. قَالَ: (وَيَهْلِكُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ) لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمُرْتَهِنِ وَهِيَ مَضْمُونَةٌ فِي حَقِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُرْتَهِنَ وَغَيْرَهُ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ، فَإِنْ شَرَطَهَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَلَا بِعَزْلِهِ ; وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ بَاعَ وَصِيُّهُ الرَّهْنَ وَقَضَى الدَّيْنَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ نَصَبَ الْقَاضِي مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ; وَمَنِ اسْتَعَارَ شَيْئًا لِيَرْهَنَهُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ مَا يَرْهَنُهُ بِهِ، فَإِنْ عَيَّنَ مَا يَرْهَنُهُ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصَ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْمَالِيَّةِ، وَلَوْ دَفَعَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مُودِعُ الرَّاهِنِ فِي الْعَيْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي الْمَالِيَّةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْآخَرِ فَيَضْمَنُ كَالْمُودِعِ إِذَا دَفَعَهُ إِلَى أَجْنَبِيٍّ، وَالْعَدْلُ يَبِيعُ وَلَدَ الْمَرْهُونَةِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيْعِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُرْتَهِنِ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْمُوَكِّلِ وَمَوْتِهِ، وَيَمْلِكُ مُصَارَفَةَ الثَّمَنِ إِذَا خَالَفَ جِنْسَ الدَّيْنِ، وَالْوَكِيلُ الْمُفْرَدُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ الْمُرْتَهِنَ وَغَيْرَهُ عَلَى بَيْعِ الرَّهْنِ) لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّوْكِيلِ، وَقَدْ وُكِّلَ بِبَيْعِ مَالِهِ. (فَإِنْ شَرَطَهَا فِي عَقْدِ الرَّهْنِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِمَوْتِ الرَّاهِنِ وَلَا بِعَزْلِهِ) لِأَنَّ الْوِكَالَةَ صَارَتْ وَصْفًا لِلرَّهْنِ بِالشَّرْطِ فَتَبْقَى بِبَقَاءِ أَصْلِهِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ، وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ إِبْطَالُهُ وَلَا لِلْوَرَثَةِ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ عَلَى حَقِّهِمْ وَبَقَاءِ الرَّهْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَوْ شَرَطَ الْبَيْعَ بَعْدَ الرَّهْنِ، قَالَ الْكَرْخِيُّ يَنْعَزِلُ بِالْعَزْلِ وَالْمَوْتِ لِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ. قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ بَاعَ وَصِيُّهُ الرَّهْنَ وَقَضَى الدَّيْنَ) لِأَنَّ الدَّيْنَ حَلَّ بِمَوْتِهِ وَالْوَصِيُّ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ حَيًّا كَانَ لَهُ بَيْعُهُ لِإِيفَاءِ الدَّيْنِ بِأَمْرِ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَا هَذَا. (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ نَصَبَ الْقَاضِي مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ نَصْبٌ لِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَالنَّظَرِ لَهُمْ عِنْدَ عَجْزِهِمْ، وَالنَّظَرِ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدُّيُونِ الْحَائِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ. قَالَ: (وَمَنِ اسْتَعَارَ شَيْئًا لِيَرْهَنَهُ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ مَا يَرْهَنُهُ بِهِ) لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْعَارِيَةِ مُعْتَبَرٌ لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَهُ بِأَيِّ قَدَرٍ شَاءَ وَأَيِّ نَوْعٍ شَاءَ مِمَّنْ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ. (فَإِنْ عَيَّنَ مَا يَرْهَنُهُ بِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ وَلَا يَنْقُصَ) أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلِأَنَّهُ رُبَّمَا احْتَاجَ الْمُعِيرُ إِلَى فَكَاكِ الرَّهْنِ فَيُؤَدِّي قَدْرَ الدَّيْنِ وَمَا رَضِيَ بِأَدَاءِ الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا عَيَّنَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ يَتَعَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ; وَأَمَّا النُّقْصَانُ فَلِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ يَكُونُ أَمَانَةً، وَمَا رَضِيَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا كُلُّهُ، فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَإِنْ رَهَنَهُ بِجِنْسٍ آخَرَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِهِ ; وَكَذَا لَوْ عَيَّنَ رَجُلًا فَرَهَنَ عِنْدَ غَيْرِهِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْحِفْظِ وَالْمَلَاءَةِ وَالْقَضَاءِ ; وَكَذَلِكَ لَوْ قَيَّدَهُ بِبَلْدَةٍ فَرَهَنَهُ بِأُخْرَى ضَمِنَ، وَالْمُعِيرُ إِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الرَّاهِنَ لِتَعَدِّيهِ حَيْثُ خَالَفَ، وَإِنْ شَاءَ الْمُرْتَهِنُ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الرَّاهِنُ مَلَكَ الرَّهْنَ فَصَارَ كَأَنَّهُ رَهَنَ مِلْكَهُ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُرْتَهِنُ رَجَعَ بِدَيْنِهِ وَبِمَا ضَمِنَ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ وَغُرُورِهِ، وَلَوْ رَهَنَهُ بِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 كِتَابُ الْقِسْمَةِ   [الاختيار لتعليل المختار] عَيَّنَ فَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَعَلَى الرَّاهِنِ لِلْمُعِيرِ مِثْلُهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَهُ فَيَرْجِعُ بِمِثْلِهِ: وَلَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ نَقَصَ مِنَ الدَّيْنِ بِحِسَابِهِ وَيَضْمَنُهُ لِرَبِّ الْعَارِيَةِ ; وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنَ الدَّيْنِ ضَمِنَ الرَّاهِنُ لِلْمُعِيرِ قِيمَتَهُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا مِنْ دَيْنِهِ بِقَدْرِهَا ; وَلَوْ هَلَكَ عِنْدَ الْمُسْتَعِيرِ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ بَعْدَ الْفَكَاكِ لَا يُضَمَّنُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَلَمْ يَقْضِ دَيْنَهُ مِنْهُ. وَإِذَا أَعْطَى الْمُعِيرُ الدَّيْنَ لِيَأْخُذَ الرَّهْنَ أُجْبِرَ الْمُرْتَهِنُ عَلَى دَفْعِهِ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ بِذَلِكَ عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِي ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إِلَى خَلَاصِ مِلْكِهِ وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَالْقَوْلُ لِلْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ يُسْتَفَادُ، أَلَا يَرَى أَنَّ لَهُ إِنْكَارَ الْأَصْلِ؟ فَكَذَا الْوَصْفُ. 1 - فَصْلٌ جِنَايَةُ الرَّاهِنِ عَلَى الرَّهْنِ مَضْمُونَةٌ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الْمَالِيَّةِ حَيْثُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ حَبْسًا وَاسْتِيفَاءً، وَجِنَايَةُ الْمُرْتَهِنِ يَسْقُطُ مِنَ الدَّيْنِ بِقَدْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَصَ لَا بِفِعْلِهِ يَسْقُطُ فَبِفِعْلِهِ أَوْلَى، وَجِنَايَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ وَمَالِهِ هَدْرٌ ; وَالْمُرَادُ جِنَايَةٌ تُوجِبُ الْمَالَ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ، وَكَذَلِكَ جِنَايَتُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّهَا لَوِ اعْتُبِرَتْ كَانَ عَلَيْهِ تَطْهِيرُهُ مِنْهَا لِحُدُوثِهَا فِي ضَمَانِهِ، وَلَا يَجِبُ لَهُ الضَّمَانُ، وَعَلَيْهِ الْخَلَاصُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هِيَ مُعْتَبَرَةٌ لِأَنَّهَا عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ، وَفِي اعْتِبَارِهَا فَائِدَةٌ وَهِيَ دَفْعُهُ إِلَى الْجِنَايَةِ، وَيَبْطُلُ الرَّهْنُ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبِ الْمُرْتَهِنُ الْجِنَايَةَ بَقِيَ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ جَنَى عَلَى مَالِهِ وَقِيمَتِهِ وَالدَّيْنِ سَوَاءٌ لَا يُعْتَبَرُ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ فَكَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِقَدْرِ الْأَمَانَةِ لِجِنَايَةِ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُسْتَوْدِعِ. [كِتَابُ الْقِسْمَةِ] وَهِيَ فِي الْأَصْلِ: رَفْعُ الشُّيُوعِ وَقَطْعُ الشَّرِكَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] أَيْ غَيْرُ شَائِعٍ وَلَا مُشْتَرَكٍ، بَلْ لَهُمْ يَوْمٌ وَلِلنَّاقَةِ يَوْمٌ ; وَمَعْنَى قِسْمَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَنَائِمَ أَنَّهُ أَفْرَزَهَا وَقَطَعَ الشَّرِكَةَ فِيهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَرْعِيٌّ فِي التَّبَرُّعِ، إِلَّا أَنَّهُ تَارَةً يَقَعُ إِفْرَزًا وَتَمْيِيزًا لِلْأَنْصِبَاءِ، وَتَارَةً مُبَادَلَةً وَمُعَاوَضَةً عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41]- الْآيَةَ، بَيْنَ الْأَنْصِبَاءِ وَهُوَ مَعْنَى الْقِسْمَةِ. وَالسُّنَّةِ وَهُوَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسَمَ الْغَنَائِمَ وَالْمَوَارِيثَ، وَقَسَمَ خَيْبَرَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَّبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَحْيَى لِيَقْسِمَ الدُّورَ وَالْأَرَضِينَ وَيَأْخُذَ عَلَيْهِ الْأَجْرَ، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ قَدْ لَا يُمْكِنُهُمَا الِانْتِفَاعُ بِهِ ; الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ أَظْهَرُ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، وَمْعَنَى الْمُبَادَلَةِ فِيمَا يَتَفَاوَتُ أَظْهَرُ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ، إِلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا عَلَى الْقِسْمَةِ إِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ، وَلَا يُجْبَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، وَلَوِ اقْتَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ جَازَ، وَيَقْسِمُ عَلَى الصَّبِيِّ وَصِيُّهُ أَوْ وَلَيُّهُ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْصِبَ قَاسِمًا عَدْلًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ يَرْزُقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ يُقَدِّرُ لَهُ أَجْرًا يَأْخُذُهُ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ، وَهُوَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْقِسْمَةِ لِيَصِلَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى الْمَنْفَعَةِ بِمِلْكِهِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ إِلَّا بِالتَّهَايُؤِ فَيَبْطُلُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ، فَكَانَتِ الْقِسْمَةُ مُتَمِّمَةً لِلْمَنْفَعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ إِفْرَازًا وَتَكُونُ مُبَادَلَةً فَنَقُولُ: (مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ أَظْهَرُ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ) وَسَائِرِ الْمِثْلِيَّاتِ حَتَّى كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ بِغَيْرِ رِضَى صَاحِبِهِ وَمَعَ غَيْبَتِهِ، وَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً عَلَى نِصْفِ الثَّمَنِ، وَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ أَيْضًا، لِأَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ كَانَ لَهُ بَعْضُهُ وَبَعْضُهُ لِشَرِيكِهِ، إِلَّا أَنَّهُ جَعَلَ وُصُولَ مِثْلِ حَقِّهِ إِلَيْهِ كَوُصُولِ عَيْنِ حَقِّهِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ. (وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ أَظْهَرُ فِيمَا يَتَفَاوَتُ كَالْحَيَوَانِ وَالْعَقَارِ) وَكُلِّ مَا لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَخْذُ نَصِيبِهِ مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ، وَلَوِ اقْتَسَمَا فَلَيْسَ لَهُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً، لِأَنَّ مَا أَخَذَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِمَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ. (إِلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا عَلَى الْقِسْمَةِ إِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ) كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ تَتْمِيمًا لِلْمَنْفَعَةِ وَتَكْمِيلًا لِثَمَرَةِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ الطَّالِبَ يَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَنْ يَخُصَّهُ بِنَصِيبِهِ وَيَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إِلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِلْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَظَالِمِ، وَالْإِجْبَارُ عَلَى الْمُبَادَلَةِ جَائِزٌ إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ كَالْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ، وَالْمَدْيُونُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مِلْكِهِ لِإِيفَاءِ الدَّيْنِ. (وَلَا يُجْبَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ) كَالْحَيَوَانِ مَعَ الْعَقَارِ، أَوِ الْبَقَرِ مَعَ الْخَيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ فِيهِ لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقْصُودِ، وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إِذَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا، وَالثَّوْبَانِ إِذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا. (وَلَوِ اقْتَسَمُوا بِأَنْفُسِهِمْ جَازَ) لِأَنَّهُ بِيعَ وَلَهُمَا ذَلِكَ. قَالَ: (وَيَقْسِمُ عَلَى الصَّبِيِّ وَصِيُّهُ أَوْ وَلِيُّهُ) كَالْبَيْعِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصَبَ لَهُ الْقَاضِي مَنْ يَقْسِمُ. قَالَ: (وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْصِبَ قَاسِمًا عَدْلًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ) لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا بِالْعِلْمِ بِهِ، وَلَا اعْتِمَادَ عَلَى قَوْلِهِ إِلَّا بِالْعَدَالَةِ، وَلَا وُثُوقَ إِلَى فِعْلِهِ إِلَّا بِالْأَمَانَةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِهِ فَأَشْبَهَ الْقَاضِيَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. قَالَ: (يَرْزُقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ) لِأَنَّ فِعْلَهُ يَقْطَعُ الْمُنَازَعَةَ كَالْقَضَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ رِزْقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَالْقَاضِي، وَلِأَنَّهُ أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ فَكَانَ أَفْضَلَ، وَلِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالْعَامَّةِ. قَالَ: (أَوْ يُقَدِّرُ لَهُ أَجْرًا يَأْخُذُهُ مِنَ الْمُتَقَاسِمِينَ) لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ وَإِنَّمَا يُقَدِّرُهُ لِئَلَّا يَطْلُبَ زِيَادَةً وَيَشْتَطَّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَجْرِ. قَالَ: (وَهُوَ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وَلَا يُجْبَرُ النَّاسُ عَلَى قَاسِمٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَتْرُكُ الْقُسَّامَ يَشْتَرِكُونَ. جَمَاعَةٌ فِي أَيْدِيهِمْ عَقَارٌ طَلَبُوا مِنَ الْقَاضِي قِسْمَتَهُ، وَادَّعَوْا أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَمْ يَقْسِمْهُ حَتَى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ (ف) عَلَى (سم) الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ، فَإِنْ حَضَرَ وَارِثَانِ فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ وَمَعَهُمَا وَارِثٌ غَائِبٌ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَنْ   [الاختيار لتعليل المختار] وَقَالَا: عَلَى الْأَنْصِبَاءِ لِأَنَّهَا مَئُونَةُ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، فَصَارَ كَحَافِرِ بِئْرٍ مُشْتَرَكَةٍ وَنَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ الْمُشْتَرَكِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَزَاءُ عَمِلِهِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ وَالْإِفْرَازُ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ. بَيَانُهُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ الْأَجْرَ عَلَى الْمِسَاحَةِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْحُدُودِ، حَتَّى لَوِ اسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِأَرْبَابِ الْمِلْكِ فَلَهُ الْأَجْرُ إِذَا قَسَّمَ وَمَيَّزَ، وَرُبَّمَا يَكْثُرُ عَمَلُهُ فِي الْقَلِيلِ لِأَنَّ الْحِسَابَ إِنَّمَا يَدِقُّ وَيَصْعُبُ عِنْدَ تَفَاوُتِ الْأَنْصِبَاءِ لَا عِنْدَ اسْتِوَائِهِمَا، بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ مُقَابَلَةٌ بِالْعَمَلِ وَهُوَ نَقْلُ التُّرَابِ، وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ لِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ وَحَاجَةُ صَاحِبِ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ، وَبِخِلَافِ الْكَيْلِيِّ وَالْوَزْنِيِّ لِأَنَّهُ أَجْرُ عَمَلِهِ، وَلِهَذَا لَوِ اسْتَعَانَ فِي ذَلِكَ بِأَرْبَابِ الْمِلْكِ لَا أَجْرَ لَهُ، وَكَيْلُ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ مِنْ كَيْلِ الْقَلِيلِ قَطْعًا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجْرَ عَلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ دُونَ الْمُمْتَنِعِ لِتَضَرُّرِهِ بِهِ. قَالَ: (وَلَا يُجْبَرُ النَّاسُ عَلَى قَاسِمٍ وَاحِدٍ) مَعْنَاهُ إِذَا لَمْ يُقَدَّرُ أَجْرُهُ لِأَنَّهُ يَتَعَدَّى أَجْرَ مِثْلِهِ وَيَتَحَكَّمُ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ وَأَنَّهُ ضَرَرٌ. قَالَ: (وَلَا يَتْرُكُ الْقُسَّامَ يَشْتَرِكُونَ) لِأَنَّ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ لَا يَخَافُونَ الْفَوْتَ فَيَتَغَالَوْنَ فِي الْأَجْرِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الِاشْتِرَاكِ يَخَافُ الْفَوْتَ بِسَبْقِ غَيْرِهِ فَيُبَادِرُ إِلَى الْعَمَلِ فَيُرَخِّصُ الْأَجْرَ. قَالَ: (جَمَاعَةٌ فِي أَيْدِيهِمْ عَقَارٌ طَلَبُوا مِنَ الْقَاضِي قِسْمَتَهُ، وَادَّعَوْا أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَمْ يَقْسِمْهُ حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ) وَقَالَا: يَقْسِمُهُ بِاعْتِرَافِهِمْ، وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ قَسَمَهُ بِقَوْلِهِمْ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ، وَالظَّاهِرُ صِدْقُهُمْ وَلَا مُنَازِعَ لَهُمْ كَمَا فِي غَيْرِ الْعَقَارِ ; وَكَمَا إِذَا ادَّعَوْا فِي الْعَقَارِ الشِّرَاءَ أَوْ مُطْلَقَ الْمِلْكِ، فَإِنَّهُ يَقْسِمُهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ بِالْإِجْمَاعِ ; وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ كَبِيرٌ غَائِبٌ أَوْ صَغِيرٌ وَالدَّارُ فِي أَيْدِي الْكِبَارِ الْحُضُورِ يَقْسِمُهَا بِقَوْلِهِمْ، وَيَعْزِلُ نَصِيبَ الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَقَارُ فِي يَدِ الْغَائِبِ أَوِ الصَّبِيِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِمَا لِئَلَّا يَكُونَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّبِيِّ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ أَنَّهُ قَسَمَهَا بِقَوْلِهِمْ لِئَلَّا يَتَعَدَّاهُمُ الْحُكْمُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّرِكَةَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الزَّوَائِدَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْهَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ وَتُنَفَّذَ وَصَايَاهُ، فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي قَطْعُ حُكْمِ مِلْكِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْحِفْظِ، فَكَانَتْ قِسْمَتُهُ لِلْحِفْظِ وَالْعَقَارُ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ، وَبِخِلَافِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ انْقَطَعَ عَنِ الْمَبِيعِ فَلَمْ تَكُنِ الْقِسْمَةُ قَضَاءً عَلَى الْغَيْرِ، وَكَذَا إِذَا أَطْلَقُوا الْمِلْكَ لِأَنَّهُمْ مَا اعْتَرَفُوا بِهِ لِغَيْرِهِمْ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ شَرْطُ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحِفْظِ لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الْعَقَارِ، وَقِسْمَةُ الْمِلْكِ تَفْتَقِرُ إِلَى ثُبُوتِهِ فَاحْتَاجَ إِلَى الْبَيِّنَةِ. قَالَ: (فَإِنْ حَضَرَ وَارِثَانِ فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ وَمَعَهُمَا وَارِثٌ غَائِبٌ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 يَكُونَ الْعَقَارُ فِي يَدِ الْغَائِبِ، وَفِي الشِّرَاءِ لَا يَقْسِمُهُ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْجَمِيعِ، وَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ وَاحِدٌ لَمْ يَقْسِمْ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ. وَإِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الْقِسْمَةَ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ قَسَمَ بَيْنَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا يَسْتَضِرُّونَ لَا يَقْسِمُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ وَالْآخَرُ يَسْتَضِرُّ قَسَمَ بِطَلَبِ الْمُنْتَفِعِ، وَلَا يُقْسَمُ الْجَوْهَرُ وَالرَّقِيقُ (ف سم) وَالْحَمَّامُ وَالْحَائِطُ وَالْبِئْرُ بَيْنَ دَارَيْنِ وَالرَّحَى إِلَّا بِتَرَاضِيهِمْ،   [الاختيار لتعليل المختار] يَكُونَ الْعَقَارُ فِي يَدِ الْغَائِبِ) لِمَا مَرَّ. (وَفِي الشِّرَاءِ لَا يَقْسِمُهُ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْجَمِيعِ) وَالْفَرْقُ أَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مِلْكُ خِلَافَةٍ حَتَّى يَنْتَقِلَ إِلَيْهِ خِيَارُ الْعَيْبِ وَالتَّعْيِينِ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوَرِّثُ أَوْ بَاعَهُ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا خَصْمًا عَنِ الْمَيِّتِ فِيمَا فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ، وَفِي الشِّرَاءِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ حَتَّى لَيْسَ لَهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِ بَائِعِهِ، وَلَا يَصْلُحُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنِ الْغَائِبِ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ وَاحِدٌ لَمْ يَقْسِمْ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ) لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ خَصْمًا وَمُقَاسِمًا مِنْ جِهَتَيْنِ وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ خَصْمَيْنِ. [فصل طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الْقِسْمَةَ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ] فَصْلٌ (وَإِذَا طَلَبَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ الْقِسْمَةَ وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ قَسَمَ بَيْنَهُمْ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَإِنْ كَانُوا يَسْتَضِرُّونَ لَا يَقْسِمُ) اعْلَمْ أَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: قِسْمَةٌ يَتَوَلَّاهَا الشُّرَكَاءُ بِأَنْفُسِهِمْ فَتَجُوزُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ضَرَرٌ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْإِنْسَانُ مُخَيَّرٌ فِي اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَإِبْطَالِهِ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَقِسْمَةٌ يَتَوَلَّاهَا الْحَاكِمُ أَوْ أَمِينُهُ فَتَجُوزُ فِيمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لَا فِيمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَلَا فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَالْحَائِطِ وَالْبِئْرِ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ لِإِقَامَةِ الْمَصَالِحِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُ الضَّرَرِ وَالِاشْتِغَالُ بِمَا لَا يُفِيدُ مِنْ قَبِيلِ الْهَزْلِ، وَمَنْصِبُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ، فَلَيْسَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ طَلَبَا الْقِسْمَةَ مِنَ الْقَاضِي فِي رِوَايَةٍ لَا يَقْسِمُ لِمَا بَيَّنَّا، وَفِي رِوَايَةٍ يَقْسِمُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا مَنْفَعَةٌ لَا تَظْهَرُ لَنَا فَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ. (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ وَالْآخَرُ يَسْتَضِرُّ قَسَمَ بِطَلَبِ الْمُنْتَفِعِ) لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ فَاعْتُبِرَ بِطَلَبِهِ، وَإِنْ طَلَبَ الْآخَرَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يُقَسَّمُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ لَا مُتَظَلِّمٌ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُقَسَّمُ أَيُّهُمَا طَلَبَ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ إِنَّمَا كَانَ لِلضَّرَرِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلضَّرَرِ مَعَ الرِّضَى كَمَا إِذَا اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا. قَالَ: (وَلَا يُقْسَمُ الْجَوْهَرُ وَالرَّقِيقُ وَالْحَمَّامُ وَالْحَائِطُ وَالْبِئْرُ بَيْنَ دَارَيْنِ وَالرَّحَى إِلَّا بِتَرَاضِيهِمْ) وَكَذَا كُلُّ مَا فِي قِسْمَتِهِ ضَرَرٌ كَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَالْبَابِ وَالْخَشَبَةِ وَالْقَمِيصِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ وَالرِّوَايَاتِ وَالتَّعْلِيلِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْقِسْمَةِ مِنَ التَّعْدِيلِ وَلَا يُمْكِنُ فِي الْبَعْضِ كَالْجَوْهَرِ وَالرَّقِيقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وَيُقْسَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدُّورِ وَالْأَرَاضِي وَالْحَوَانِيتِ وَحْدَهُ، وَتُقْسَمُ الْبُيُوتُ قِسْمَةً وَاحِدَةً،   [الاختيار لتعليل المختار] لِتَفَاوُتِهِمَا، وَقَالَا: يُقَسَّمُ الرَّقِيقُ لِأَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ كَغَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ وَكَرَقِيقِ الْمَغْنَمِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِتَفَاوُتِهِمْ فِي الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْعَقْلِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى تَعْلِيمِ الْحِرَفِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحَيَوَانِ يَقِلُّ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُمَا جِنْسَانِ فِي بَنِي آدَمَ؟ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّفَاوُتِ يُعْرَفُ بِالظَّاهِرِ وَالْجَسِّ وَالرُّكُوبِ وَالِاخْتِبَارِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بَلْ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ بَنُو آدَمَ ; وَأَمَّا رَقِيقُ الْمَغْنَمِ فَإِنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ فِي الْمَالِيَّةِ، وَلِهَذَا جَازَ لِلْإِمَامِ بَيْعُهَا وَقِسْمَةُ ثَمَنِهَا، وَهُنَا الْحَقُّ تَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ وَالْمَالِ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَيُقَسَّمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدُّورِ وَالْأَرَاضِي وَالْحَوَانِيتِ وَحْدَهُ) لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ نَظَرًا إِلَى اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ، وَإِنْ كَانَتْ دُورٌ مُشْتَرَكَةً فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ أَوْ أَرْضٍ مُتَفَرِّقَةٍ قُسِّمَ كُلُّ دَارٍ وَأَرْضٍ عَلَى حِدَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يُقَسَّمُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ إِنْ كَانَ أَصْلَحَ؛ لِأَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ صُورَةً وَمَعْنًى نَظَرًا إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ أَصْلُ السُّكْنَى وَالزَّرْعُ، وَهِيَ أَجْنَاسٌ مَعْنًى؛ نَظَرًا إِلَى وُجُوهِ السُّكْنَى وَاخْتِلَافِ الزَّرْعِ، فَكَانَ مُفَوَّضًا إِلَى نَظَرِ الْقَاضِي يُعْمِلُ مَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ. وَلَهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ فِيهَا؛ لِكَوْنِهَا مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْجِوَارِ وَالْقُرْبِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَالْمَاءِ وَالشُّرْبِ وَصَلَاحِيَتِهَا لِلزِّرَاعَةِ اخْتِلَافًا بَيِّنًا، وَلَوْ كَانَتْ دَارَانِ فِي مِصْرٍ قُسِّمَ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَحْدَهَا بِالْإِجْمَاعِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ كَانَتْ إِحْدَاهُمَا بِالرَّقَّةِ وَالْأُخْرَى بِالْبَصْرَةِ قُسِّمَتْ إِحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى. قَالَ: (وَتُقَسَّمُ الْبُيُوتُ قِسْمَةً وَاحِدَةً) أَمَّا إِذَا كَانَتْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ؛ فَلِأَنَّ قِسْمَةَ كُلِّ بَيْتٍ بِانْفِرَادِهِ ضَرَرٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ مَحَالٍّ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا يَسِيرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي السُّكْنَى ; وَالْمَنَازِلُ إِنْ كَانَتْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ مُتَلَازِقَةٍ كَالْبُيُوتِ وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً تُقَسَّمُ كَالدُّورِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي دَارٍ أَوْ مَحَالٍّ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ فِي السُّكْنَى، لَكِنْ دُونُ الدُّورِ فَكَانَ لَهَا شَبَهٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَإِذَا كَانَتْ مُلْتَزِقَةً أَلْحَقْنَاهَا بِالْبُيُوتِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَبَايِنَةً بِالدُّورِ ; وَإِذَا قَسَّمَ الدَّارَ تُقَسَّمُ الْعَرْصَةُ بِالذِّرَاعِ وَالْبِنَاءِ بِالْقِيمَةِ ; وَيَجُوزُ أَنْ يُفَضِّلَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ تَحْقِيقًا لِلْمُعَادَلَةِ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى أَوْ فِي الْمَعْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الصُّورَةِ ; وَلَوِ اخْتَلَفَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَجْعَلُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ بِذِرَاعٍ مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ الْآخَرُ بِالدَّرَاهِمِ، فَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَسِّمُ الْمِيرَاثَ، وَالدَّرَاهِمُ لَيْسَتْ مِنَ الْمِيرَاثِ، إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ بِأَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْبِنَاءِ أَضْعَافَ قِيمَةِ الْأَرْضِ، أَوْ يَقَعُ لِأَحَدِهِمَا جَمِيعُ الْبِنَاءِ فَيَجْعَلُ الْقِسْمَةَ فِي الْبِنَاءِ عَلَى الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّهُ تَثْبُتُ لَهُ الْقِسْمَةُ فَيَتَعَدَّى إِلَى مَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِهِ كَالْأَخِ وِلَايَتُهُ عَلَى النِّكَاحِ دُونَ الْمَالِ، وَلَهُ تَسْمِيَةُ الصَّدَاقِ لِمَا قُلْنَا، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْسَمُ الْكُلَّ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لِتَعَذُّرِ التَّعْدِيلِ إِلَّا بِالْقِيمَةِ. وَعَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وَيَقْسِمُ سَهْمَيْنِ مِنَ الْعُلُوِّ بِسَهْمٍ مِنَ السُّفْلِ (سم) ، وَلَا تَدْخُلُ الدَّرَاهِمُ فِي الْقِسْمَةِ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمْ.   [الاختيار لتعليل المختار] أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تُقَسَّمُ الْأَرْضُ بِالْمِسَاحَةِ عَلَى الْأَصْلِ فِي الْمُسُوحَاتِ، فَمَنْ كَانَ نَصِيبُهُ أَجْوَدَ أَوْ وَقَعَ لَهُ الْبِنَاءُ يَرُدُّ عَلَى الْآخَرِ دَرَاهِمَ حَتَّى يُسَاوِيَهُ فَتَدْخُلُ الدَّرَاهِمُ فِي الْقِسْمَةِ ضَرُورَةً كَوِلَايَةِ الْأَخِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَحْسَنُ وَأَوْفَقُ لِلْأُصُولِ ; وَلَوِ اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَرْفَعُ طَرِيقًا بَيْنَنَا وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، فَإِنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ طَرِيقٌ فِي نَصِيبِهِ قُسِمَ بَيْنَهُمْ بِغَيْرِ طَرِيقٍ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ رُفِعَ بَيْنَهُمْ طَرِيقٌ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى الْمُمْتَنِعِ؛ لِأَنَّهُ تَكْمِيلُ الْمَنْفَعَةِ وَتَوْفِيرُهَا، وَيُجْعَلُ الطَّرِيقُ عَلَى عَرْضِ بَابِ الدَّارِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ، وَهُوَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَطَرِيقُ الْأَرْضِ قَدْرُ مَا تَمُرُّ فِيهِ الْبَقَرُ لِلْحِرَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الزَّرْعِ، وَلَوْ وَقَعَتْ شَجَرَةٌ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا أَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، رَوَى ابْنُ رُسْتُمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ لَهُ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى قَطْعِهَا، وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ لَا يُجْبِرُهُ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الشَّجَرَةَ بِأَغْصَانِهَا وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَلِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَجْعَلَ فِي نَصِيبِهِ بِئْرًا وَبَالُوعَةً وَتَنُّورًا وَحَمَّامًا وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِحَائِطِ جَارِهِ، وَلَهُ أَنْ يَسُدَّ كُوَّةَ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا، وَضَرَرُ الْجَارِ حَصَلَ ضِمْنًا فَلَا يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا وَإِنْ تَأَذَّى جَارُهُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَالْكَفُّ عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ أَحْسَنُ. قَالَ: (وَيَقْسِمُ سَهْمَيْنِ مِنَ الْعُلُوِّ بِسَهْمٍ مِنَ السُّفْلِ) وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ سَهْمٌ بِسَهْمٍ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالْقِيمَةِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى؛ لِأَنَّهُمَا أَجْنَاسٌ بِالنَّظَرِ إِلَى اخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ، فَإِنَّ السُّفْلَ يَصْلُحُ إِصْطَبْلًا وَلِحَفْرِ الْبِئْرِ وَالسِّرْدَابِ، وَلَا كَذَلِكَ الْعُلُوُّ ; وَكَذَلِكَ تَخْتَلِفُ قِيمَتَاهُمَا بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ إِلَّا بِالْقِيمَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَزْرُوعِ أَنْ يُقْسَمَ بِالزَّرْعِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ السُّكْنَى، إِلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ: ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ نَظَرًا إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ السُّكْنَى، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِيهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ فِي نَصِيبِهِ مَا لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ، وَالْمَنْفَعَتَانِ مُتَمَاثِلَتَانِ، فَكَمَا أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ حَفْرَ الْبِئْرِ وَالسِّرْدَابِ، لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ فَوْقَ عُلُوِّهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالسُّفْلِ عَلَى أَصْلِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْفَعَةَ السُّفْلِ ضَعْفُ مَنْفَعَةِ الْعُلُوِّ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْعُلُوِّ، وَفِي السُّفْلِ مَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى، وَفِي الْعُلُوِّ السُّكْنَى لَا غَيْرُ، وَلَيْسَ لَهُ التَّعَلِّي إِلَّا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ عَلَى أَصْلِهِ، فَيَعْتَبِرُ ذِرَاعَيْنِ بِذِرَاعٍ نَظَرًا إِلَى اخْتِلَافِ الْمَنْفَعَةِ، ثُمَّ قِيلَ: أَبُو حَنِيفَةَ بَنَى عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى عُلُوِّهِ إِلَّا بِرِضَى صَاحِبِهِ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ. وَقِيلَ أَجَابَ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي اخْتِيَارِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ. قَالَ: (وَلَا تَدْخُلُ الدَّرَاهِمُ فِي الْقِسْمَةِ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمْ) ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْمُشْتَرَكِ وَلَا شَرِكَةَ فِي الدَّرَاهِمِ، فَإِذَا رَضِيَا جَازَ لِمَا بَيَّنَّا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْقَاسِمِ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ عَلَى سَهْمٍ أَخَذَهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمُ الرُّجُوعُ إِذَا قَسَمَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ، فَإِنْ كَانَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمْ مَسِيلٌ أَوْ طَرِيقٌ لِغَيْرِهِ لَمْ يُشْرَطْ، فَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُهُ عَنْهُ صَرَفَهُ وَإِلَّا فُسِخَتِ الْقِسْمَةُ، وَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِمْ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمْ أَنَّ مِنْ نَصِيبِهِ شَيْئًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاسِمِينَ (م ف) عَلَى ذَلِكَ،   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل ما ينبغي أن يفعله القاسم] فَصْلٌ (يَنْبَغِي لِلْقَاسِمِ أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، مِمَّنْ خَرَجَ اسْمُهُ عَلَى سَهْمٍ أَخَذَهُ) وَذَلِكَ بَعْدَ مَا يُصَوِّرُ مَا يُقَسِّمُهُ وَيَعْدِلُهُ عَلَى سِهَامِ الْقِسْمَةِ، وَيَذْرَعُ السَّاحَةَ وَيُقَوِّمُ الْبِنَاءَ لِحَاجَتِهِ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَيَفْرِزُ كُلَّ نَصِيبٍ بِحُقُوقِهِ عَنْ بَقِيَّةِ الْأَنْصِبَاءِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْقِسْمَةِ، وَيُلَقِّبُ الْأَنْصِبَاءَ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ، ثُمَّ يُخْرِجُ الْقُرْعَةَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَيُقَسِّمُ عَلَى أَقَلِّ الْأَنْصِبَاءِ، فَإِنْ كَانَ سُدُسًا جَعَلَهَا أَسْدَاسًا، أَوْ ثُمُنًا فَأَثْمَانًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا خَرَجَ أَقَلُّ الْأَنْصِبَاءِ خَرَجَ الْأَكْثَرُ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَلَوْ عَيَّنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ نَصِيبًا جَازَ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ فَيَصِحُّ إِلْزَامُهُ. أَمَّا الْقُرْعَةُ فَلِتَطْيِيبِ النُّفُوسِ وَنَفْيِ التُّهْمَةِ وَالْمَيْلِ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ الرُّجُوعُ إِذَا قَسَّمَ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ) ؛ لِأَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ وِلَايَةٍ تَامَّةٍ فَلَزِمَتْ كَالْقَضَاءِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ بَعْضُ السِّهَامِ، فَكَمَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَى إِبَائِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى رُجُوعِهِ بَعْدَهَا، وَكَذَلِكَ إِذَا حَصَلَ التَّرَاضِي وَبُيِّنَتِ الْحُدُودُ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ. وَقِيلَ يَصِحُّ رُجُوعُهُ إِذَا خَرَجَ بَعْضُ السِّهَامِ إِلَّا إِذَا بَقِيَ سَهْمٌ وَاحِدٌ لِتَعَيُّنِهِ لِلْبَاقِي. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمْ مَسِيلٌ أَوْ طَرِيقٌ لِغَيْرِهِ لَمْ يَشْرُطْ، فَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُهُ عَنْهُ صَرَفَهُ) تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْقِسْمَةِ وَهُوَ قَطْعُ الِاشْتِرَاكِ. (وَإِلَّا فُسِخَتِ الْقِسْمَةُ) لِاخْتِلَالِهَا، وَتُسْتَأْنَفُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَكْمِيلُ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا بِالطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ. قَالَ: (وَإِذَا شَهِدُوا عَلَيْهِمْ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمْ أَنَّ مِنْ نَصِيبِهِ شَيْئًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ) لِأَنَّهُ مُدَّعٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتُحْلِفَ شُرَكَاؤُهُ، فَمَنْ نَكَلَ جَمَعَ نَصِيبَهُ وَنَصِيبَ الْمُدَّعِي فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهِمَا؛ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ عَلَى مَا عُرِفَ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ لِلتَّنَاقُضِ. قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَاسِمِينَ عَلَى ذَلِكَ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى فِعْلِهِمَا. وَلَهُمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ وَبِهِ تَلْزَمُ الْقِسْمَةُ فَتُقْبَلُ، أَمَّا فِعْلُهُمَا الْإِفْرَازَ وَهُوَ غَيْرُ مُلْزِمٍ وَلَا حَاجَةَ إِلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ مِثْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 وَإِنْ قَالَ: قَبْضَتُهُ ثُمَّ أَخَذَهُ مِنِّي فَبَيِّنَتُهُ أَوْ يَمِينُ خَصْمِهِ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِشْهَادِ تَحَالَفَا وَفُسِخَتِ الْقِسْمَةُ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ بَعْضُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ رَجَعَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِقِسْطِهِ (س) . فَصْلٌ الْمُهَايَأَةُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا،   [الاختيار لتعليل المختار] قَوْلِهِمَا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بِأَجْرٍ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى إِيفَاءِ عَمَلٍ اسْتُؤْجِرَا عَلَيْهِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ أُجْرَتَهُمَا وَجَبَتْ بِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ عَلَى إِيفَاءِ الْعَمَلِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ فَلَمْ تَجُرَّ لَهُمَا مَغْنَمًا فَلَا تُهْمَةَ. (وَإِنْ قَالَ قَبْضَتُهُ ثُمَّ أَخَذَهُ مِنِّي فَبَيِّنَتُهُ أَوْ يَمِينُ خَصْمِهِ) كَسَائِرِ الدَّعَاوَى. (وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِشْهَادِ تَحَالَفَا وَفُسِخَتِ الْقِسْمَةُ) وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: لَمْ يُسَلَّمْ إِلَى بَعْضِ نَصِيبِي وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِ الْمَبِيعِ، وَسَنُبَيِّنُ التَّحَالُفَ وَأَحْكَامَهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ رَجَعَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بِقِسْطِهِ) كَمَا فِي الْبَيْعِ، هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ; وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَرَوَى أَبُو حَفْصٍ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي بَعْضٍ شَائِعٍ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا، أَمَّا الْمُعَيَّنُ لَا يُفْسَخُ بِالْإِجْمَاعِ ; وَلَوِ اسْتُحِقَّ نَصِيبٌ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ انْفَسَخَتْ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ شَرِيكٌ ثَالِثٌ وَلَا قِسْمَةَ بِدُونِ رِضَاهُ ; وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ يَبْطُلُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ، وَهُوَ التَّمْيِيزُ وَالْإِفْرَازُ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِجُزْءٍ شَائِعٍ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ، وَصَارَ كَاسْتِحْقَاقِ الشَّائِعِ فِي الْكُلِّ ; وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَجُوزُ ابْتِدَاءً بِأَنْ يَكُونَ نِصْفَ الدَّارِ الْمُقَدَّمَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ثَالِثٍ، وَالْمُؤَخَّرَ بَيْنَهُمَا عَلَى الْخُصُوصِ، فَاقْتَسَمَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا نَصِيبَهُمَا مِنَ الْمُقَدَّمِ وَرُبْعَ الْمُؤَخَّرِ، وَلِلْآخَرِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمُؤَخَّرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً جَازَ انْتِهَاءً، فَمَعْنَى الْقِسْمَةِ مَوْجُودٌ وَصَارَ كَالْجُزْءِ الْمُعَيَّنِ، بِخِلَافِ الشَّائِعِ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَوْ بَقِيَتْ يَتَفَرَّقُ نَصِيبُ الْمُسْتَحِقِّ فِي الْكُلِّ فَيَتَضَرَّرُ وَلَا ضَرَرَ هُنَا فَافْتَرَقَا. [فصل المهايأة] ُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا) وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا؛ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا نَسِيئَةً لِتَأَخُّرِ حَقِّ أَحَدِهِمَا، إِلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُسْتَحَقُّ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ كَالْأَعْيَانِ، وَالْقِسْمَةُ تَجُوزُ فِي الْأَعْيَانِ فَتَجُوزُ فِي الْمَنَافِعِ وَهِيَ مُبَادَلَةُ مَعْنَى إِفْرَازِ صُورَةٍ حَتَّى تَجْرِيَ فِي الْأَعْيَانِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالدُّورِ وَالْعَبِيدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِمَا وَلَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ بَطَلَتْ، وَتَجُوزُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ يَسْكُنَ كُلٌّ مِنْهُمَا طَائِفَةً أَوْ أَحَدُهُمَا عُلْوَهَا وَالْآخَرُ سُفْلَهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِجَارَةُ مَا أَصَابَهُ وَأَخْذُ غَلَّتِهِ، وَتَجُوزُ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ يَخْدُمُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، وَكَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، وَفِي عَبْدَيْنِ يَخْدُمُ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدًا، فَإِنْ شَرَطَا طَعَامَ الْعَبْدِ عَلَى مَنْ يَخْدُمُهُ جَازَ، وَفِي الْكُسْوَةِ لَا يَجُوزُ،   [الاختيار لتعليل المختار] دُونَ الْمِثْلِيَّاتِ، وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّالِبُ مُتَعَنِّتًا وَلَيْسَتْ كَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُسْتَحَقُّ هُنَا بِالْمِلْكِ، وَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ تَبَعٌ، وَلِهَذَا لَا تُشْتَرَطُ فِيهَا الْمَدَّةُ، وَفِي الْإِجَارَةِ بِالْعَقْدِ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ قَدْرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ إِلَّا بِذِكْرِهَا، وَلَيْسَتْ كَالْعَارِيَةِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِمَا وَلَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا) لِأَنَّا نَحْتَاجُ إِلَى إِعَادَتِهِمَا بِطَلَبِ الْوَارِثِينَ أَوْ أَحَدِهِمَا، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَةِ. قَالَ: (وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ بَطَلَتِ) الْمُهَايَأَةُ، مَعْنَاهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ أَقْوَى فِي اسْتِعْمَالِ الْمَنْفَعَةِ ; وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَالْآخَرُ الْمُهَايَأَةَ قَسَمَ لِمَا بَيَّنَّا وَبَلْ أَوْلَى. قَالَ: (وَتَجُوزُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ يَسْكُنَ كُلٌّ مِنْهُمَا طَائِفَةً، أَوْ أَحَدُهُمَا عُلُوَّهَا وَالْآخَرُ سُفْلَهَا) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ، فَكَذَا الْمُهَايَأَةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ غَيْرُ مُخْتَلِفَةٍ، وَبَيَانُ الْمَكَانِ يَقْطَعُ الْمُنَازَعَةَ، وَهَذِهِ إِفْرَازٌ لِلنَّصِيبِ وَلَيْسَتْ مُبَادَلَةً. (وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِجَارَةُ مَا أَصَابَهُ وَأَخْذُ غَلَّتِهِ) ؛ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقَدْ مَلَكَهَا فَلَهُ اسْتِغْلَالُهَا وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ فِي جَوَازِ الِاسْتِغْلَالِ أَنْ يَشْرُطَهُ فِي الْعَقْدِ كَالْعَارِيَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ، وَلَوْ تَهَايَآ فِي دَارَيْنِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ كُلُّ وَاحِدٍ دَارًا جَازَ جَبْرًا وَاخْتِيَارًا، وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ اعْتِبَارًا بِقِسْمَةِ الْأَصْلِ، أَمَّا عِنْدَهُ قِيلَ لَا يُجْبَرُ كَمَا فِي الْقِسْمَةِ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى، بِخِلَافِ الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ بَعْضِ أَحَدِهِمَا بِبَعْضِ الْأُخْرَى وَأَنَّهُ جَائِزٌ ; وَقِيلَ يَجُوزُ مُطْلَقًا لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَنَافِعِ وَيَكُونُ إِفْرَازًا. قَالَ: (وَتَجُوزُ فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ يَخْدِمُ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا، وَكَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ) ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ تَكُونُ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ اسْتِيفَاءً لِلْمَنْفَعَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْمَكَانُ فَيَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ. قَالَ: (وَفِي عَبْدَيْنِ يَخْدِمُ كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدًا) وَلَا إِشْكَالَ عَلَى أَصْلِهِمَا؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الرَّقِيقِ جَبْرًا وَاخْتِيَارًا فَكَذَا مَنْفَعَتُهُمْ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْقِيَاسُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْقِسْمَةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ الْجَوَازُ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الْخِدْمَةِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْأَعْيَانِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (فَإِنْ شَرَطَا طَعَامَ الْعَبْدِ عَلَى مَنْ يَخْدُمُهُ جَازَ، وَفِي الْكُسْوَةِ لَا يَجُوزُ) لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالْمُسَامَحَةِ فِي الطَّعَامِ دُونَ الْكُسْوَةِ، وَلِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ فِي الطَّعَامِ وَكَثْرَتِهَا فِي الْكُسْوَةِ، فَإِنْ وَقَّتَا شَيْئًا مِنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وَلَا تَجُوزُ فِي غَلَّةِ عَبْدٍ وَلَا عَبْدَيْنِ (سم) ، وَلَا فِي رُكُوبِ دَابَّةٍ وَلَا دَابَّتَيْنِ، وَلَا فِي ثَمَرَةِ الشَّجَرِ، وَلَا فِي لَبَنِ الْغَنَمِ وَأَوْلَادِهَا، وَتَجُوزُ فِي عَبْدٍ وَدَارٍ عَلَى السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مُخْتَلِفَيِ الْمَنْفَعَةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْكُسْوَةِ مَعْرُوفًا جَازَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَصْفِ يَنْعَدِمُ التَّفَاوُتُ أَوْ يَقِلُّ. قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ فِي غَلَّةِ عَبْدٍ وَلَا عَبْدَيْنِ) وَقَالَا: تَجُوزُ فِي الْعَبْدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَتَجُوزُ كَالْمَنْفَعَةِ؛ وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي اسْتِغْلَالِ الْعَبْدَيْنِ إِذَا اسْتَوَيَا فِي الْحِرْفَةِ وَالْمَنْفَعَةِ قَلِيلٌ، وَقِيلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْقِسْمَةِ، وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ فِي الْوَاحِدِ إِجْمَاعًا. وَلَهُ أَنَّ الْأُجْرَةَ تَجِبُ بِالْعَمَلِ حَتَّى لَوْ سَلَّمَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ لَا أَجْرَ لَهُ فَكَانَ فِيهِ خَطَرٌ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَجِدُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَلَا تَقَعُ الْمُعَادَلَةُ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فَاحِشٌ لِتَفَاوُتِهِمَا فِي الْأَمَانَةِ وَالْحَذَاقَةِ وَالْهِدَايَةِ إِلَى الْعَمَلِ فَتَكُونُ أُجْرَتُهُ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ فَلَا تُوجَدُ الْمُعَادَلَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ غَلَّةُ الدَّابَّتَيْنِ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَلَا فِي الدَّابَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَتَجُوزُ فِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ أَحَدَ النَّصِيبَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْآخَرِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، وَالِاعْتِدَالُ ثَابِتٌ وَقْتَ الْمُهَايَأَةِ، وَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ فِي الْعَقَارِ دُونَ الْحَيَوَانِ، لِتَوَالِي أَسْبَابِ التَّغْيِيرِ عَلَيْهِ دُونَ الْعَقَارِ فَتَفُوتُ الْمُعَادَلَةُ فِيهِ. (وَلَا) تَجُوزُ. (فِي رُكُوبِ دَابَّةٍ وَلَا دَابَّتَيْنِ) لِأَنَّ الرُّكُوبَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرَّاكِبِ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ الْحَاذِقَ وَالْجَاهِلَ فَلَا تَحْصُلُ الْمُعَادَلَةُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَخْدِمُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَتَحَمَّلُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ فِي اسْتِغْلَالِ الدَّوَابِّ أَيْضًا. قَالَ: (وَلَا) تَجُوزُ. (فِي ثَمَرَةِ الشَّجَرِ، وَلَا فِي لَبَنِ الْغَنَمِ وَأَوْلَادِهَا) لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ، وَفِي هَذَا تُسْتَحَقُّ الْأَعْيَانُ، وَمَا يَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ يَتَفَاوَتُ. وَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ إِلَّا بِالتَّعْدِيلِ؛ وَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ قَبْلَ وُجُودِهَا ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهَا بَعْدَ الْوُجُودِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْأَعْيَانِ. قَالَ: (وَتَجُوزُ فِي عَبْدٍ وَدَارٍ عَلَى السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا يَجُوزُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ، فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ أَوْلَى. قَالَ: (وَكَذَلِكَ كَلُّ مُخْتَلِفَيِ الْمَنْفَعَةِ) كَسُكْنَى الدَّارِ وَزَرْعِ الْأَرْضِ، وَكَذَا الْحَمَّامُ وَالدَّارُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَنْفَعَتَيْنِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْمُهَايَأَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ.   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي] الْأَدَبُ: هُوَ التَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ فِي مُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَمُعَامَلَتِهِمْ، وَأَدَبُ الْقَاضِي: الْتِزَامُهُ لِمَا نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ مِنْ بَسْطِ الْعَدْلِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ، وَتَرْكِ الْمَيْلِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِ الشَّرْعِ، وَالْجَرْيِ عَلَى سُنَنِ السُّنَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْقَضَاءُ فِي اللُّغَةِ لَهُ مَعَانٍ: يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وَبِمَعْنَى الْإِخْبَارِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] وَبِمَعْنَى الْفَرَاغِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] وَبِمَعْنَى التَّقْدِيرِ، يُقَالُ: قَضَى الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ: أَيْ قَدَّرَهَا، وَيُسْتَعْمَلُ فِي إِقَامَةِ شَيْءٍ مَقَامَ غَيْرِهِ، يُقَالُ: قَضَى فُلَانٌ دَيْنَهُ: أَيْ أَقَامَ مَا دَفَعَهُ إِلَيْهِ مَقَامَ مَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ. وَفِي الشَّرْعِ: قَوْلٌ مُلْزِمٌ يَصْدُرُ عَنْ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ، وَفِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ، فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ بِالْحُكْمِ وَأَخْبَرَهُ بِهِ، وَفَرَغَ مِنَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا أَوْ فَرَغَا مِنَ الْخُصُومَةِ، وَقَدَّرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَمَا لَهُ، وَأَقَامَ قَضَاءَهُ مَقَامَ صُلْحِهِمَا وَتَرَاضِيهِمَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ لِلْخُصُومَةِ. اعْلَمْ أَنَّ (الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ وَأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ) وَمَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا وَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالْقَضَاءِ، وَأَثْبَتَ لِآدَمَ اسْمَ الْخَلِيفَةِ، وَقَالَ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وَقَالَ لِدَاوُدَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] وَلِأَنَّ فِيهِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِظْهَارَ الْحَقِّ، وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَإِيصَالَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّرَائِعَ، وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَالْقَضَاءُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: وَاجِبٌ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَيَّنَ لَهُ، وَلَا يُوجَدَ مَنْ يَصِحُّ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ أَدَّى إِلَى تَضْيِيعِ الْحُكْمِ، فَيَكُونُ قَبُولُهُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِينَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ مَنْ يَصْلُحُ لَكِنْ هُوَ أَصْلَحُ وَأَقْوَمُ بِهِ. وَمُخَيَّرٌ فِيهِ، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ هُوَ وَغَيْرُهُ فِي الصَّلَاحِيَةِ وَالْقِيَامِ بِهِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ إِنْ شَاءَ قَبِلَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَا. وَمَكْرُوهٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ، لَكِنَّ غَيْرَهُ أَقْوَمُ بِهِ وَأَصْلَحُ. وَحَرَامٌ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْهُ، وَعَدَمَ الْإِنْصَافِ فِيهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ بَاطِنِهِ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى مَا لَا يَعْرِفُونَهُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ رِزْقُهُ وَكِفَايَتُهُ وَكِفَايَةُ أَهْلِهِ وَأَعْوَانِهِ وَمَنْ يُمَوِّنُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِحَقِّ الْعَامَّةِ، فَلَوْلَا الْكِفَايَةُ رُبَّمَا طَمِعَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالُوا: يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَلِّدَ الْقَضَاءَ مَنْ لَهُ ثَرْوَةٌ لِئَلَّا يَطْمَعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مَوْثُوقًا بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ، عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَإِنْ تَنَزَّهَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا وَلِيَ الْخِلَافَةَ خَرَجَ إِلَى السُّوقِ لِيَكْتَسِبَ ; فَرَدَّهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا لَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ، وَكَانَ عِنْدَهُ عَبَاءَةً قَدِ اشْتَرَاهَا مِنْ رِزْقِهِ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطِيهَا عُمَرَ لِيَرُدَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَى لَا يَأْخُذُ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ. [من يولى القضاء] قَالَ: (وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مُجْتَهِدًا) لِأَنَّ الْحَادِثَةَ إِذَا وَقَعَتْ يَجِبُ طَلَبُهَا مِنَ الْكِتَابِ ثُمَّ مِنَ السُّنَّةِ ثُمَّ مِنَ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اسْتَعْمَلَ الرَّأْيَ وَالِاجْتِهَادَ، وَيَشْهَدُ لَهُ «حَدِيثُ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ وَوَلَّاهُ الْحُكْمَ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: " كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ حُكْمٌ؟ " قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: " فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ " قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرِ الْإِجْمَاعَ؛ لِأَنَّهُ لَا إِجْمَاعَ مَعَ وُجُودِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مَوْثُوقًا بِهِ فِي دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ، عَالِمًا بِالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي) أَمَّا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ؛ فَلِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَالْقَضَاءِ أَقْوَى وَأَعَمُّ وِلَايَةً، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ، وَمَنْ لَا فَلَا ; وَلَا تَجُوزُ وِلَايَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ، وَلَا الْأَعْمَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلِوُجُودِ الِالْتِبَاسِ عَلَيْهِ فِي الصَّوْتِ وَغَيْرِهِ ; وَالْأُطْرُوشُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُمَيِّزُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَسْمَعُ الْإِقْرَارَ، فَرُبَّمَا يُنْكِرُ إِذَا اسْتَعَادَهُ فَتَضِيعُ حُقُوقُ النَّاسِ ; وَالْفَاسِقُ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ كَمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَلِّيَ كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِشَهَادَتِهِ. وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ، وَلَوْ فَسَقَ بَعْدَ الْوِلَايَةِ اسْتَحَقَّ الْعَزْلَ وَلَا يَنْعَزِلُ، وَقِيلَ يَنْعَزِلُ لِأَنَّ الَّذِي وَلَّاهُ مَا رَضِيَ بِهِ إِلَّا عَدْلًا، وَيُشْتَرَطُ دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ وَدِمَائِهِمْ وَلَا يُوثَقُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ. وَأَمَّا الْفَهْمُ فَلْتَفْهَمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالْحَدِيثِ وَمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْقَضَايَا وَالدَّعَاوَى وَكُتُبِ الْقُضَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ فَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ وَلَا يَعْلَمُ كَيْفَ يَقْضِي. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَأَنْ يَكُونَ الْقَاضِي وَرِعًا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا. وَقَالَ: إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْفَرَائِضِ يَكْفِي فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ. وَقِيلَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْجَاهِلِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالِاسْتِفْتَاءِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وَلَا يَطْلُبُ الْوِلَايَةَ، وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ بِهِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ أَدَاءَ فَرْضِهِ، وَمَنْ تَعَيَّنَ لَهُ تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ، وَيَجُوزُ التَّقْلِيدُ مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ. وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ (ف) فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ. فَإِذَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ يَطْلُبُ دِيوَانَ الْقَاضِي الَّذِي قَبْلَهُ، وَيَنْظُرُ فِي خَرَائِطِهِ وَسِجِلَّاتِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ قَلَّدَ إِنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَكَذَلِكَ الْمُفْتِي؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَرْجِعُونَ إِلَى فَتْوَاهُ فِي حَوَادِثِهِمْ وَيَقْتَدُونَ بِهِ وَيَعْتَمِدُونَ عَلَى قَوْلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ ; وَالْفَاسِقُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُفْتِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي أَخْبَارِ الدِّيَانَاتِ ; وَقِيلَ يَصْلُحُ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّزُ لِئَلَّا يُنْسَبَ إِلَى الْخَطَأِ. قَالَ: (وَلَا يَطْلُبُ الْوِلَايَةَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَا تَسْأَلِ الْوِلَايَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ سَأَلْتَهَا وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنَّ أُعْطِيتَهَا أُعِنْتَ عَلَيْهَا» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ طَلَبَ عَمَلًا فَقَدْ غَلَّ» وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا عَدَلَ مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ فِيهِ لِمَنْ يَخَافُ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ بِهِ) لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَحْذُورِ، وَقِيلَ يُكْرَهُ الدُّخُولُ لِمَنْ يَدْخُلُهُ مُخْتَارًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» قِيلَ مَعْنَاهُ إِذَا طَلَبَ، وَقِيلَ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ يَثِقُ مِنْ نَفْسِهِ أَدَاءَ فَرْضِهِ) لِأَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَّى عَلِيًّا وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمَا وَلَّاهُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ; وَقِيلَ الدُّخُولُ فِيهِ رُخْصَةٌ وَالتَّرْكُ عَزِيمَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ. (وَمَنْ تَعَيَّنَ لَهُ تَفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَلَوِ امْتَنَعَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ ; وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ وَامْتَنَعُوا وَالسُّلْطَانُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخُصُومِ لَمْ يَأْثَمُوا، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ أَثِمُوا، وَإِنِ امْتَنَعُوا حَتَّى قَلَّدَ جَاهِلًا أَثِمَ الْكُلُّ. قَالَ: (وَيَجُوزُ التَّقْلِيدُ مِنْ وُلَاةِ الْجَوْرِ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ تَقَلَّدُوهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ الْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالتَّابِعُونَ تَقَلَّدُوهُ مِنَ الْحَجَّاجِ مَعَ جَوْرِهِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ إِقَامَةَ الْحَقِّ وَدَفْعَ الظُّلْمِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْوِلَايَةُ مِنْهُ. [قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ] قَالَ: (وَيَجُوزُ قَضَاءُ الْمَرْأَةِ فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا فِيهِ) إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُحَادَثَةِ الرِّجَالِ وَمَبْنَى أَمْرِهِنَّ عَلَى السَّتْرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُتْرَكُ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ إِلَّا حَوْلًا، لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَغَلَ بِالْقَضَاءِ يَنْسَى الْعِلْمَ فَيَعْزِلُهُ السُّلْطَانُ بَعْدَ الْحَوْلِ وَيَسْتَبْدِلُ بِهِ حَتَّى يَشْتَغِلَ بِالدَّرْسِ. [ما ينبغي للقاضي أن يفعله بعد توليه] قَالَ: (فَإِذَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ) يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُؤْثِرَ طَاعَتَهُ وَيَعْمَلَ لِمَعَادِهِ وَيَقْصِدَ إِلَى الْحَقِّ بِجُهْدِهِ فِيمَا تَقَلَّدَهُ. وَ (يَطْلُبُ دِيوَانَ الْقَاضِي الَّذِي قَبَلَهُ وَيَنْظُرُ فِي خَرَائِطِهِ وَسِجِلَّاتِهِ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 وَعَمِلَ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ بِمَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أَوْ بِاعْتِرَافِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَلَا يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْمَعْزُولِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الَذِي سَلَّمَهَا إِلَيْهِ، وَيَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ، وَالْجَامِعِ أَوْلَى، وَيَتَّخِذُ مُتَرْجِمًا وَكَاتِبًا عَدْلًا مُسْلِمًا لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِتَكُونَ حُجَّةً عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَتُجْعَلُ فِي يَدِ الْمُتَوَلِّي؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَيْهَا لِيَعْمَلَ بِهَا. قَالَ: (وَعَمِلَ فِي الْوَدَائِعِ وَارْتِفَاعِ الْوُقُوفِ بِمَا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَةُ) لِأَنَّهَا حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ. (أَوْ بِاعْتِرَافِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ) لِأَنَّهُ أَمِينٌ. (وَلَا يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْمَعْزُولِ) لِأَنَّهُ شَاهِدٌ وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا عَمَلَ بِهَا. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي سَلَّمَهَا إِلَيْهِ) لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ فَيَكُونُ أَمِينًا فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْعَثَ رَجُلَيْنِ مِنْ ثِقَاتِهِ وَالْوَاحِدُ يَكْفِي، فَيَقْبِضَانِ مِنَ الْمَعْزُولِ دِيوَانَهُ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَرَائِطِ وَالسِّجِلَّاتِ، فَيَجْمَعَانِ كُلَّ نَوْعٍ فِي خَرِيطَةٍ حَتَّى لَا يَشْتَبِهَ عَلَى الْقَاضِي، وَيَسْأَلَانِ الْمَعْزُولَ شَيْئًا فَشَيْئًا لِيَنْكَشِفَ مَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمَا وَيَخْتِمَانِ عَلَيْهِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ لِلْإِلْزَامِ بَلْ لِيَنْكَشِفَ بِهِ الْحَالُ، فَإِنْ أَبَى الْمَعْزُولُ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِمَا النُّسَخَ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَيَاضُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مِنَ الْخُصُومِ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا فِي يَدِ الْعَامِلِ بِهَا، أَوْ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ تَدَيُّنًا لَا تَمَوُّلًا، وَيَأْخُذَانِ الْوَدَائِعَ وَأَمْوَالَ الْيَتَامَى وَيَكْتُبَانِ أَسْمَاءَ الْمَحْبُوسِينَ وَيَأْخُذَانِ نُسْخَتَهُمْ مِنَ الْمَعْزُولِ لِيَنْظُرَ الْمَوْلَى فِي أَحْوَالِهِمْ فَمَنِ اعْتَرَفَ بِحَقٍّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أُلْزِمَهُ عَمَلًا بِالْحُجَّةِ، وَإِلَّا نَادَى عَلَيْهِ فِي مَجْلِسِهِ مَنْ كَانَ يُطَالِبُ فُلَانًا الْمَحْبُوسَ بِحَقٍّ فَلْيَحْضُرْ، فَمَنْ حَضَرَ وَادَّعَى عَلَيْهِ اِبْتَدَأَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ، وَيُنَادِي أَيَّامًا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ لَا يُخَلِّيهِ حَتَّى يَسْتَظْهِرَ فِي أَمْرِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِحَقٍّ غَائِبٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَعْزُولِ لَا يَكُونُ عَبَثًا. قَالَ: (وَيَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ جُلُوسًا ظَاهِرًا فِي الْمَسْجِدِ) لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ، وَدَكَّةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ إِلَى الْآنَ مَعْرُوفَةٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّمَا بُنِيَتِ الْمَسَاجِدُ لِذِكْرِ اللَّهِ وَلِلْحُكْمِ» وَلِئَلَّا يُشْتَبَهَ عَلَى الْغُرَبَاءِ مَكَانُهُ. (وَالْجَامِعُ أَوْلَى) لِأَنَّهُ أَشْهَرُ، وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءً خَرَجَ الْقَاضِي إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَظَرَ فِي خُصُومَتِهَا أَوْ أَمَرَ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، كَمَا لَوْ كَانَتِ الْمُنَازَعَةُ فِي دَابَّةٍ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ لِاسْتِمَاعِ الدَّعْوَى وَالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ، وَإِنْ جَلَسَ فِي بَيْتٍ جَازَ، وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَيَجْلِسُ مَعَهُ مَنْ كَانَ يَجْلِسُ مَعَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَيَكُونُ الْأَعْوَانُ بِالْبُعْدِ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ لِلْخُصُومَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ قَرِيبًا مِنْهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالدِّيَانَةِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْلِسَ وَحْدَهُ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْقَضَاءِ. قَالَ: (وَيَتَّخِذُ مُتَرْجِمًا وَكَاتِبًا عَدْلًا مُسْلِمًا لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ) لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَدْلًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 وَيُسَوِّي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ وَالنَّظَرِ وَالْإِشَارَةِ، وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ، وَلَا يَضْحَكُ لِأَحَدِهِمَا، وَلَا يُمَازِحُهُمَا، وَلَا أَحَدَهُمَا، وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةَ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يُهْدِ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إِلَّا الْعَامَّةَ، وَيَعُودُ الْمَرْضَى، وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، فَإِنْ حَدَثَ لَهُ هَمٌّ، أَوْ نُعَاسٌ، أَوْ غَضَبٌ، أَوْ جُوعٌ، أَوْ عَطَشٌ، أَوْ حَاجَةٌ حَيَوَانِيَّةٌ كَفَّ عَنِ الْقَضَاءِ.   [الاختيار لتعليل المختار] لَا تُؤْمَنُ خِيَانَتُهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْتُبَ مَا لَا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَا يَعْرِفُ كَتَبَةَ السِّجِلَّاتِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْقَاضِي مِنَ الْأَحْكَامِ، وَيَجْلِسُ نَاحِيَةً عَنْهُ حَيْثُ يَرَاهُ حَتَّى لَا يُخْدَعَ بِالرَّشْوَةِ. قَالَ: (وَيُسَوِّي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي الْجُلُوسِ وَالْإِقْبَالِ وَالنَّظَرِ وَالْإِشَارَةِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ} [النساء: 135] أَيْ بِالْعَدْلِ وَالْعَدْلُ التَّسْوِيَةُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا ابْتُلِيَ أَحَدُكُمْ بِالْقَضَاءِ فَلْيُسَوِّ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمَجْلِسِ وَالْإِشَارَةِ وَالنَّظَرِ» وَفِي كِتَابِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: آسِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَجْلِسِكَ وَوَجْهِكَ وَعَدْلِكَ، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فَقَالَ: حَتَّى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ فِي حَيْفِكَ، وَلَا يَخَافُ ضَعِيفٌ جَوْرَكَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا فَضَّلَ أَحَدَهُمَا يَنْكَسِرُ قَلْبُ الْآخَرِ فَلَا يَنْشَرِحُ لِلدَّعْوَى وَالْجَوَابِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْلِسُوا بَيْنَ يَدَيِ الْقَاضِي جُثُوًّا وَلَا يُجْلِسُهُمَا فِي جَانِبٍ، وَلَا أَحَدَهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْخَصْمَانِ إِنْ شَاءَ بَدَأَهُمَا فَقَالَ مَا لَكُمَا، وَإِنْ شَاءَ سَكَتَ حَتَّى يَتَكَلَّمَا، فَإِذَا تَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا أَسْكَتَ الْآخَرَ لِيَفْهَمَ دَعْوَاهُ. قَالَ: (وَلَا يُسَارُّ أَحَدَهُمَا وَلَا يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ) لِمَا بَيَّنَّا ; وَلِمَا فِيهِ مِنَ التُّهْمَةِ. (وَلَا يَضْحَكُ لِأَحَدِهِمَا) لِأَنَّ ذَلِكَ يُجَرِّئُهُ عَلَى خَصْمِهِ. (وَلَا يُمَازِحُهُمَا وَلَا أَحَدَهُمَا) لِأَنَّهُ يُخِلُّ بِهَيْبَةِ الْقَضَاءِ. (وَلَا يُضَيِّفُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ) لِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ. قَالَ: " وَلَا يَقْبَلُ هَدِيَّةَ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يُهْدِ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ» وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا أَهْدَى لَهُ لِلْقَضَاءِ ظَاهِرًا فَكَانَ آكِلًا بِالْقَضَاءِ فَأَشْبَهَ الرَّشْوَةَ، بِخِلَافِ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِمُهَادَاتِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ جَرَى عَلَى عَادَتِهِ حَتَّى لَوْ زَادَ عَلَى الْعَادَةِ أَوْ كَانَ لَهُ خُصُومَةٌ لَا يَقْبَلُهَا، وَالْقَرِيبُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ. قَالَ: (وَلَا يَحْضُرُ دَعْوَةً إِلَّا الْعَامَةَ) كَالْعُرْسِ وَالْخِتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهَا وَالْإِجَابَةُ سُنَّةٌ، وَلَا يُجِيبُ الْخَاصَّةَ لِمَكَانِ التُّهْمَةِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَالْعَشَرَةُ فَمَا دُونَهَا خَاصَّةٌ وَمَا فَوْقَهَا عَامَّةٌ، وَقِيلَ الْخَاصَّةُ مَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَحْضُرُهَا لَا يَعْمَلُهَا. قَالَ: (وَيَعُودُ الْمَرْضَى وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ) لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ، وَلَا يُطِيلُ مُكْثَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنَ التَّكَلُّمِ فِيهِ بِشَيْءٍ مِنَ الْخُصُومَاتِ. قَالَ: (فَإِنْ حَدَثَ لَهُ هَمٌّ أَوْ نُعَاسٌ، أَوْ غَضَبٌ أَوْ جُوعٌ، أَوْ عَطَشٌ، أَوْ حَاجَةٌ حَيَوَانِيَّةٌ كَفَّ عَنِ الْقَضَاءِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي فِي الْمَجْلِسِ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْقَضَاءِ إِلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَا يَقْضِي عَلَى غَائِبٍ إِلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، أَوْ مَا يَكُونُ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ. وَإِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ قَضَاءُ قَاضٍ أَمْضَاهُ، إِلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ،   [الاختيار لتعليل المختار] غَضْبَانُ " وَفِي رِوَايَةٍ " وَهُوَ شَبْعَانُ» وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْفِكْرِ، وَهَذِهِ الْأَعْرَاضُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْفِكْرِ فَتُخِلُّ بِالْقَضَاءِ، وَيُكْرَهُ لَهُ صَوْمُ التَّطَوُّعِ يَوْمَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنِ الْجُوعِ، وَلَا يُتْعِبُ نَفْسَهُ بِطُولِ الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا ضَجِرَ وَمَلَّ وَيَقْعُدُ طَرَفَيِ النَّهَارِ ; وَإِذَا طَمِعَ فِي رِضَى الْخَصْمَيْنِ رَدَّهُمَا مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْمُوجِبِ لِلتَّأْخِيرِ. قَالَ: (وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي فِي الْمَجْلِسِ لِنَفْسِهِ) لِمَا فِيهِ مِنَ التُّهْمَةِ، وَلَا بَأْسَ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُكْرَهُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي مِمَّنْ لَا يَعْرِفُهُ وَلَا يُحَابِيهِ. قَالَ: (وَلَا يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْقَضَاءِ إِلَّا أَنْ يُفَوَّضَ إِلَيْهِ ذَلِكَ) لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ عَنِ الْإِمَامِ ; وَالْوَكِيلُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ. قَالَ: (وَلَا يَقْضِي عَلَى غَائِبٍ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا عَلِيُّ لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ» ؛ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ، وَلَا مُنَازَعَةَ بِدُونِ الْإِنْكَارِ فَلَا وَجْهَ إِلَى الْقَضَاءِ. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَحْضُرَ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ) إِمَّا بِإِنَابَتِهِ كَالْوَكِيلِ، أَوْ بِإِنَابَةِ الشَّرْعِ كَالْوَصِيِّ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي. (أَوْ مَا يَكُونُ مَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْغَائِبِ سَبَبًا لِمَا يَدَّعِيهِ عَلَى الْحَاضِرِ) كَمَنِ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَنْكَرَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبَ يَقْضِي بِهَا عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ، وَكَذَا لَوِ ادَّعَى شُفْعَةً وَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ الشِّرَاءَ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ اشْتَرَاهَا مِنَ الْغَائِبِ يَقْضِي عَلَى الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا، وَكَذَا إِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: هُمَا عَبْدَانِ، فَأَقَامَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُمَا أَعْتَقَهُمَا حَكَمَ بِعِتْقِهِمَا فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا. [فصل إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ قَضَاءُ قَاضٍ] فَصْلٌ (وَإِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ قَضَاءُ قَاضٍ أَمْضَاهُ إِلَّا أَنْ يُخَالِفَ الْكِتَابَ أَوِ السُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ أَوِ الْإِجْمَاعَ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ فَقَضَى بِقَضِيَّةٍ يَسُوغُ فِيهَا الِاجْتِهَادُ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ مِنَ الْقُضَاةِ نَقْضُهُ، لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ الثَّانِيَ مِثْلُهُ وَالْأَوَّلَ تَرْجِيحٌ بِالسَّبْقِ لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا قَضَى بِقَضَاءٍ خَالَفَ فِيهِ عُمَرَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَلَمْ يَفْسَخَاهُ لِوُقُوعِهِ مِنْ قَاضٍ جَائِزِ الْحُكْمُ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي الْجَدِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَيَجُوزُ لِمَنْ قَلَّدَهُ وَعَلَيْهِ ; وَإِذَا عَلِمَ بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ وَمَحَلِّهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ. وَالْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا (سم) فِي الْعُقُودِ، وَالْفُسُوخِ: كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ، وَالْإِرْثُ.   [الاختيار لتعليل المختار] بِقَضَايَا مُخْتَلِفَةٍ، فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ ذَاكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي، وَلَمْ يَفْسَخِ الْأَوَّلَ ; وَلَا اجْتِهَادَ مَعَ الْكِتَابِ وَلَا مَعَ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، إِذْ لَا اجْتِهَادَ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِهِمَا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَلَا مَعَ إِجْمَاعِ الْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ، وَالْمُرَادُ اخْتِلَافُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي تَرِدُ الشَّهَادَةُ لَهُ فِي الْقَضَاءِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمُ. قَالَ: (وَيَجُوزُ لِمَنْ قَلَّدَهُ وَعَلَيْهِ) لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا عَنْهُ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ. قَالَ: (وَإِذَا عَلِمَ بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فِي زَمَنِ وِلَايَتِهِ وَمَحَلِّهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ) لِأَنَّ عِلْمَهُ كَشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ وَبَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْيَقِينَ حَاصِلٌ بِمَا عَلِمَهُ بِالْمُعَايَنَةِ وَالسَّمَاعِ، وَالْحَاصِلُ بِالشَّهَادَةِ غَلَبَةُ الظَّنِّ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى الِانْفِرَادِ مَقْبُولٌ فِيمَا لَيْسَ خَصْمًا فِيهِ، وَمَتَى قَالَ حَكَمْتُ بِكَذَا نَفَذَ حُكْمُهُ. وَأَمَّا مَا عَلِمَهُ قَبْلَ وِلَايَتِهِ أَوْ فِي غَيْرِ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ لَا يَقْضِي بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَشُرَيْحٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: يَقْضِي كَمَا فِي حَالِ وِلَايَتِهِ وَمَحَلِّهَا لِمَا مَرَّ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ وَغَيْرِ وِلَايَتِهِ شَاهِدٌ لَا حَاكِمٌ، وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا تُقْبَلُ، وَصَارَ كَمَا إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ ثُمَّ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهَا. وَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهَا، لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ نَائِبُهُ إِلَّا فِي حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَإِلَّا فِي السُّكْرِ إِذَا وُجِدَ سَكْرَانَ، أَوْ مَنْ بِهِ أَمَارَاتُ السُّكْرِ فَإِنَّهُ يُعَزِّرُهُ. قَالَ: (وَالْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ كَالنِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْبَيْعِ، وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ، وَالْإِرْثُ) وَقَالَا: لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا. وَصُورَتُهُ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالزُّورِ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ لِرَجُلٍ فَقَضَى بِهَا الْقَاضِي نَفَذَ عِنْدَهُ حَتَّى حَلَّ لِلزَّوْجِ وَطْؤُهَا خِلَافًا لَهُمَا ; وَلَوْ شَهِدَا بِالزُّورِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَائِنًا فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا آخَرُ جَازَ ; وَعِنْدَهُمَا إِنْ جَهِلَ الزَّوْجُ الثَّانِي ذَلِكَ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا اتِّبَاعًا لِلظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ عِلْمَ الْبَاطِنِ وَإِنْ عَلِمَ بِأَنْ كَانَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَحِلُّ، وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ الْأَوُّلُ كَانَ زَانِيًا وَيُحَدُّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحِلُّ لَهُ؛ لِأَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْرَثَ شُبْهَةً فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ احْتِيَاطًا، وَلَا يَنْفُذُ فِي مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ وَمَنْكُوحَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُ النِّكَاحِ عَلَى الْقَضَاءِ، وَفِي الْأَجْنَبِيَّةِ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَيُقَدَّمُ تَصْحِيحًا لَهُ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَيَنْفُذُ بِبَيْعُ الْأَمَةِ عِنْدَهُ حَتَّى يَحِلَّ لِلْمُشْتَرِي وَطْؤُهَا، وَيَنْفُذُ فِي الْهِبَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي وَسَأَلَهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يَحْبِسْهُ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْإِرْثِ حَتَّى يَحِلَّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَكْلُ الْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ فِيهِمَا. لَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمُ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشْرٌ أَقْضِي بِمَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» وَأَنَّهُ عَامٌّ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْبَاطِنِ كَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الظَّاهِرُ فَالْحُكْمُ لَازِمٌ عَلَى مَا أَنْفَذَهُ الْقَاضِي. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَقْضِي بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» وَلَهُ مَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرَأَةً وَهُوَ دُونَهَا فِي الْحَسَبِ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، فَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَحُكِمَ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ، فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أَتَزَوَّجْهُ وَإِنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ وَأَمْضَى عَلَيْهَا النِّكَاحَ، وَلِأَنَّهُ قَضَى بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فَيُجْعَلُ إِنْشَاءً تَحَرُّزًا عَنِ الْحَرَامِ، وَحَدِيثُهُمَا فِي الْمَالِ صَرِيحٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، فَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ إِثْبَاتَ الْمِلْكِ بِدُونِ السَّبَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ مَالِ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو. أَمَّا الْعُقُودُ وَالْفُسُوخُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُمَا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ أَمَةِ زَيْدٍ وَغَيْرِهَا مِنْ عَمْرٍو حَالَ غَيْبَتِهِ وَخَوْفَ الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ لِلْحِفْظِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ وَلَا وَصِيَّ لَهُ، وَيَمْلِكُ إِنْشَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْفُرْقَةَ فِي الْعِنِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْإِنْشَاءِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، فَيُجْعَلُ الْقَضَاءُ إِنْشَاءً احْتِرَازًا عَنِ الْحَرَامِ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ بِغَيْرِ أَسْبَابٍ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ إِنْشَاءً فَبَطَلَ، ثُمَّ نَقُولُ: لَوْ لَمْ يَنْفُذْ بَاطِنًا، فَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ لَبَقِيَتْ حَلَالًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بَاطِنًا وَلِلثَّانِي ظَاهِرًا ; وَلَوِ ابْتُلِيَ الثَّانِي بِمِثْلِ مَا ابْتُلِيَ بِهِ الْأَوَّلُ حَلَّتْ لِلثَّالِثِ أَيْضًا، وَهَكَذَا رَابِعٌ وَخَامِسٌ، فَتَحِلُّ لِلْكُلِّ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ مِنَ الْفُحْشِ مَا لَا يَخْفَى ; وَلَوْ قُلْنَا بِنَفَاذِهِ بَاطِنًا لَا تَحِلُّ إِلَّا لِوَاحِدٍ وَلَا فُحْشَ فِيهِ. [فصل الدليل على وجوب حبس من عليه الدين ومتى يجوز] فَصْلٌ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْحَبْسِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وَالْعُقُوبَةُ: الْحَبْسُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ السَّلَفِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ لِإِيصَالِ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمَطْلُوبُ عَنِ الْأَدَاءِ فَعَلَى الْقَاضِي جَبْرُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُجْبِرُهُ بِالضَّرْبِ إِجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ الْحَبْسُ. قَالَ: (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي وَسَأَلَهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يَحْبِسْهُ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ ظُلْمَهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ ظَهَرَ ظُلْمُهُ وَجُحُودُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ حَبَسَهُ. قَالَ: (وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 مَا عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي: هُوَ مُوسِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا مُعْسِرٌ فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ يَسَارَهُ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَدَلَ مَالٍ كَالثَّمَنِ وَالْقَرْضِ، أَوِ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِ حَبَسَهُ، وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ، إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسُهُ، فَإِذَا حَبَسَهُ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَظْهَرَهُ، وَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خَلَّى سَبِيلَهُ ; وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى يَسَارِهِ أَبَّدَ حَبْسَهُ، وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ، وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ إِلَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] مَا عَلَيْهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ حَبَسَهُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ ظُلْمُهُ، وَهَذَا إِذَا ثَبَتَ حَقُّهُ بِالْإِقْرَارِ، أَمَّا إِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ حَبَسَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْجَحْدِ فَيَكُونُ ظَالِمًا، وَلَا يَسْأَلُهُ الْقَاضِي: أَلَكَ مَالٌ؟ وَلَا مِنَ الْمُدَّعِي إِلَّا أَنْ يَطْلُبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعِيَ فَيْسَأَلُهُ. (فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ) لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْإِنْظَارَ بِالنَّصِّ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنَ الْمُلَازَمَةِ. (وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي هُوَ مُوسِرٌ، وَهُوَ يَقُولُ أَنَا مُعْسِرٌ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ يَسَارَهُ، أَوْ كَانَ الدَّيْنُ بَدَلَ مَالٍ كَالثَّمَنِ وَالْقَرْضِ، أَوِ الْتَزَمَهُ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَنَحْوِهِ حَبَسَهُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاءُ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ وَالْتِزَامُهُ يَدُلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ. (وَلَا يَحْبِسُهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إِذَا ادَّعَى الْفَقْرَ) لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَذَلِكَ مِثْلُ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ وَإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ. (إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لَهُ مَالًا فَيَحْبِسَهُ) لِأَنَّهُ ظَالِمٌ. (فَإِذَا حَبَسَهُ مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَظْهَرَهُ وَسَأَلَ عَنْ حَالِهِ، فَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ خَلَّى سَبِيلَهُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ إِعْسَارُهُ فَيَسْتَحِقُّ الْإِنْظَارَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِإِعْسَارِهِ، وَتُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْإِعْسَارِ بَعْدَ الْحَبْسِ بِالْإِجْمَاعِ وَقَبْلَهُ لَا. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ وَجَدَ بَعْدَ الْحَبْسِ قَرِينَةً، وَهُوَ تَحَمُّلُ شِدَّةِ الْحَبْسِ وَمُضَايَقَتِهِ وَذَلِكَ دَلِيلُ إِعْسَارِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ قَبْلَ الْحَبْسِ، وَقِيلَ تُقْبَلُ فِي الْحَالَتَيْنِ. (وَإِنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ عَلَى يَسَارِهِ أَبَّدَ حَبْسَهُ) لِظُلْمِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الْحَبْسِ. قِيلَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَبَعْضُهُمْ قَدَّرَهُ بِشَهْرٍ، وَبَعْضُهُمْ بِأَرْبَعَةٍ وَبَعْضُهُمْ بِسِتَّةٍ. وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْتُ لَكَ أَوَّلًا، لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي احْتِمَالِ الْحَبْسِ وَيَتَفَاوَتُونَ تَفَاوُتًا كَثِيرًا فَيُفَوَّضُ إِلَى رَأْيِ الْقَاضِي. قَالَ: (وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحِقٌّ عَلَيْهِ وَقَدْ مَنَعَهُ فَيُحْبَسُ لِظُلْمِهِ. (وَلَا يُحْبَسُ وَالِدٌ فِي دَيْنِ وَلَدِهِ) وَكَذَا الْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُصَاحَبَةً بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ أُمِرَ بِهَا. (إِلَّا إِذَا امْتَنَعَ مِنَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 فَصْلٌ يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَفِي النِّكَاحِ وَالدَّيْنِ وَالْغَصْبِ وَالْأَمَانَةِ الْمَجْحُودَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَفِي النَّسَبِ وَفِي الْعَقَارِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَنْقُولَاتِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ الْمَنْقُولَاتِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ هَلَاكَهُ، كَمَا لَوْ صَالَ الْأَبُ عَلَى الْوَلَدِ فَلِلْوَلَدِ دَفْعُهُ بِالْقَتْلِ ; وَإِذَا مَرِضَ الْمَحْبُوسُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَنْ يَخْدُمُهُ فِي الْحَبْسِ لَمْ يُخْرِجْهُ، وَإِلَّا أَخْرَجَهُ لِئَلَّا يَهْلَكَ ; وَإِذَا امْتَنَعَ الْخَصْمُ مِنَ الْحُضُورِ عَزَّرَهُ الْقَاضِي بِمَا يَرَى مِنْ ضَرْبٍ أَوْ صَفْعٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ تَعْبِيسِ وَجْهٍ عَلَى مَا يَرَاهُ. [فصل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق لا يسقط بالشبهة] فَصْلٌ (يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَالشُّهُودِ، بِخِلَافِ مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِشُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ ; وَالْأَصْلُ فِي الْجَوَازِ أَنَّ الْكِتَابَ يَقُومُ مَقَامَ عِبَارَةِ الْمَكْتُوبِ عَنْهُ وَخِطَابِهِ، بِدَلَالَةِ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ قَامَ مَقَامَ خِطَابِهِ لَهُ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِمَا ; وَكَذَلِكَ كُتُبُ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى مَلِكِ الْفُرْسِ وَالرُّومِ وَإِلَى نُوَّابِهِ فِي الْبِلَادِ قَامَتْ مَقَامَ خِطَابِهِ لَهُمْ، حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي كُتُبِهِ كَمَا وَجَبَ بِخِطَابِهِ ; وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي كَخِطَابِهِ لَهُ، وَلَوْ خَاطَبَهُ بِذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ صَحَّ، فَكَذَلِكَ كِتَابُهُ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ لِهَذَا عَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ كَذَا، فَيَكْتُبُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي الَّذِي الْخَصْمُ فِي بَلَدِهِ، وَهُوَ نَقْلُ الشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا يَحْكُمُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى حَاضِرٍ حَكَمَ عَلَيْهِ وَكَتَبَ بِحُكْمِهِ، وَهُوَ السِّجِلُّ. (وَ) يَكْتُبُ (فِي النِّكَاحِ وَالدَّيْنِ وَالْغَصْبِ وَالْأَمَانَةِ الْمَجْحُودَةِ وَالْمُضَارَبَةِ) لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ. (وَفِي النَّسَبِ) لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْقَبِيلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (وَفِي الْعَقَارِ) لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْحُدُودِ. (وَلَا يُقْبَلُ فِي الْمَنْقُولَاتِ) لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الشَّهَادَةِ لِلْإِشَارَةِ. (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي جَمِيعِ الْمَنْقُولَاتِ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ بِأَوْصَافِهِ وَمِقْدَارِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي الْعَبْدِ دُونَ الْأَمَةِ لِكَثْرَةِ إِبَاقِهِ دُونَهَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقْبَلُ فِيهِمَا ; وَصُورَتُهُ: أَنْ يَكْتُبَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّ عَبْدًا لِفُلَانٍ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ وَحِلْيَتَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى مَعْلُومٍ، فَإِنْ شَاءَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا فَلَا، وَيَقْرَأُ الْكِتَابَ عَلَى الشُّهُودِ، وَيُعْلِمُهُمْ بِمَا فِيهِ، وَيَخْتِمُهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيَحْفَظُوا مَا فِيهِ، وَتَكُونُ أَسْمَاؤُهُمْ دَاخِلَ الْكِتَابِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ ; وَأَبُو يُوسُفَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمَّا ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ نَظَرَ فِي خَتْمِهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إِلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ وَفَتَحَهُ وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَجِنْسَهُ آبِقٌ مِنْهُ وَقَدْ أَخَذَهُ فُلَانٌ. قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي) لِأَنَّهُ لِلْإِلْزَامِ، وَلَا إِلْزَامَ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ، وَلِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَالْبَيِّنَةُ تُعِينُهُ، وَيَكْتُبُ اسْمَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَنْسُبُهُمَا إِلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْفَخِذِ وَالْقَبِيلَةِ، أَوْ إِلَى الصِّنَاعَةِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْجَدَّ لَمْ يَجُزْ إِلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَخِذِ مِثْلُهُ فِي النَّسَبِ لَمْ يَجُزْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شَيْءٍ يَخُصُّهُ وَيُعَيِّنُهُ حَتَّى يَزُولَ الِالْتِبَاسُ. (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى مَعْلُومٍ) بِأَنْ يَقُولَ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ إِلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ. (فَإِنْ شَاءَ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا فَلَا) حَتَّى يَصِيرَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ مَعْرُوفًا وَالْبَاقِي يَكُونُ تَبَعًا. (وَيَقْرَأُ الْكِتَابَ عَلَى الشُّهُودِ وَيُعْلِمَهُمْ بِمَا فِيهِ) لِيَعْلَمُوا بِمَا يَشْهَدُونَ. (وَيَخْتِمَهُ بِحَضْرَتِهِمْ وَيَحْفَظُوا مَا فِيهِ) حَتَّى لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي وَخَتْمُهُ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ لَا تُقْبَلُ، لَأَنَّ الْخَتْمَ يُشْبِهُ الْخَتْمَ، فَمَتَى كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي يُتَوَهَّمُ التَّبْدِيلُ. (وَتَكُونُ أَسْمَاؤُهُمْ دَاخِلَ الْكِتَابِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ) لِنَفْيِ الِالْتِبَاسِ. (وَأَبُو يُوسُفَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِمَا ابْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ) تَسْهِيلًا عَلَى النَّاسِ. (وَاخْتَارَهُ السَّرَخْسِيُّ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْعِيَانِ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: وَلَوْ كَتَبَ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ إِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامِهِمْ يَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ وَرَدَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ أَنْ يَقْبَلَهُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ جَائِزٌ لِقَوْمٍ مَجْهُولِينَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَمْ يُعَرِّفْهُمْ، وَكَذَلِكَ أَمَرَنَا وَنَهَانَا وَكُنَّا مَجْهُولِينَ عِنْدَهُ وَصَحَّ خِطَابُهُ وَلَزِمَنَا وَالْقُضَاةُ الْيَوْمَ عَلَيْهِ ; وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْكِتَابِ اسْمُ الْقَاضِي الْكَاتِبِ وَالْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، وَعَلَى الْعُنْوَانِ أَيْضًا، فَلَوْ كَانَ عَلَى الْعُنْوَانِ وَحْدَهُ لَمْ تُقْبَلْ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّ مَا لَيْسَ تَحْتَ الْخَتْمِ مُتَوَهَّمُ التَّبْدِيلِ. قَالَ: (فَإِذَا وَصَلَ إِلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ نُظِرَ فِي خَتْمِهِ، فَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي سَلَّمَهُ إِلَيْنَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَقَرَأَهُ عَلَيْنَا وَخَتَمَهُ وَفَتَحَهُ وَقَرَأَهُ عَلَى الْخَصْمِ وَأَلْزَمَهُ مَا فِيهِ) لِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ. (وَلَا يَقْبَلُهُ إِلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ) لِأَنَّهُ لِلْإِلْزَامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فَإِنْ مَاتَ الْكَاتِبُ، أَوْ عُزِلَ، أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِهِ بَطَلَ، وَإِنْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بَطَلَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ بَعْدَ اسْمِهِ: وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ مَاتَ الْخَصْمُ نَفَّذَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَصْمُ فِي بَلَدِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَطَلَبَ الطَّالِبُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ وَيَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَذِي فِيهِ خَصْمُهُ كَتَبَ لَهُ، وَيَكْتُبُ فِي كِتَابِهِ نُسْخَةَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَوْ مَعْنَاهُ. فَصْلٌ حَكَّمَا رَجُلًا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا جَازَ (ف) ، وَلَا يَجُوزُ التَّحْكِيمُ فِيمَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] كَالشَّهَادَةِ لَا يَسْمَعُهَا إِلَّا بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ، وَلَا يَفْتَحُهُ إِلَّا بِحَضْرَتِهِ. وَقِيلَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِحُضُورِهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ حَالَةَ الْفَتْحِ. قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ الْكَاتِبُ أَوْ عُزِلَ أَوْ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ) بِأَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. (قَبْلَ وُصُولِ كِتَابِهِ بَطَلَ) ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ كَالْخِطَابِ حَالَةَ وُصُولِهِ وَهُوَ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْخِطَابِ، وَبِالْعَزْلِ وَغَيْرِهِ صَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ الرَّعَايَا. (وَإِنْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ بَطَلَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ بَعْدَ اسْمِهِ: وَإِلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَإِنْ مَاتَ الْخَصْمُ نَفَذَ عَلَى وَرَثَتِهِ) لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ. (وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْخَصْمُ فِي بَلَدِ الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ وَطَلَبَ الطَّالِبُ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهُ وَيَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا إِلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ خَصْمُهُ كَتَبَ لَهُ) لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ. (وَيَكْتُبُ فِي كِتَابِهِ نُسْخَةَ الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَوْ مَعْنَاهُ) لِيَكْتُبَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ. [فصل ما يجوز فيه التحكيم وما لا يجوز] فصل (حكما رجلا ليحكم بينهما) لأن لهما ولاية على أنفسهما حتى كان كالقاضي في حقهما والمصالح في حق غيرهما؛ لأن غيرهما لم يرض بحكمه، وليس له عليه ولاية بخلاف القاضي. وصورته: إذا رد المشتري المبيع على البائع بعيب بالتحكيم لا يملك الرد، على بائعه لما ذكرنا، وكذلك إذا حكما في قتل خطأ فحكمه بالدية على العاقلة لا يلزمهم لعدم ولايته عليهم (ولا يجوز التحكيم فيما يسقط بالشبهة) كالحدود والقصاص؛ لأنه لا ولاية لهما على دمهما حتى لا يباح بإباحتهما. وقيل: يجوز في القصاص لأنهما يملكانه فيملكان تفويضه إلى غيرهما، والحدود حق الله تعالى فلا يجوز، ويجوز في تضمين السرقة دون القطع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْقَضَاءِ، وَلَهُ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيَقْضِيَ بِالنُّكُولِ وَالْإِقْرَارِ، فَإِذَا حَكَمَ لَزِمَهُمَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَإِنْ رُفِعَ حُكْمُهُ إِلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إِنْ وَافَقَ مَذْهَبَهُ، وَأَبْطَلَهُ إِنْ خَالَفَهُ، وَلَا يَجُوزُ حُكْمُهُ لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لُهُ. كِتَابُ الْحَجْرِ وَأَسْبَابُهُ: الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ وَالرِّقُ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَذِي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا، وَتَصَرُّفُ الَذِي يَعْقِلُ إِنْ أَجَازَهُ وَلِيُّهُ، أَوْ كَانَ أَذِنَ لَهُ يَجُوزُ، وَالْعَبْدُ كَالصَّبِيِّ الَذِي يَعْقِلُ ; وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَإِقْرَارُهُمَا وَطَلَاقُهُمَا وَعَتَاقُهُمَا،   [الاختيار لتعليل المختار] (ويشترط أن يكون من أهل القضاء) لأنه يلزمهما حكمه كالقاضي، وتعتبر أهليته وقت الحكم والتحكيم جميعا (وله أن يسمع البينة ويقضي بالنكول والإقرار) لأنه حكم شرعي (فإذا حكم لزمهما) لولايته عليهما (ولكل واحد منهما الرجوع قبل الحكم) لأنه إنما ولي الحكم عليهما برضاهما، فإذا زال الرضا زالت الولاية كالقاضي مع الإمام (وإن رفع حكمه إلى قاض أمضاه وإن وافق مذهبه) لعدم الفائدة في نقضه (وأبطله إن خالفه) لأنه لا ولاية له عليه، فلا يلزمه إنفاذ حكمه، بخلاف القاضي؛ لأن ولايته عامة (ولا يجوز حكمه لمن لا تقبل شهادته له) للتهمة، والله أعلم. [كِتَابُ الْحَجْرِ] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْمَنْعِ، وَمِنْهُ حِجْرُ الْكَعْبَةِ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الدُّخُولِ فِيهَا، وَسُمِّيَ الْحَرَامُ حَجْرًا؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ. وَفِي الشَّرْعِ: الْمَنْعُ عَنْ أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ بِأَوْصَافٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى مَا يَأْتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَسْبَابُهُ: الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ وَالرِّقُّ) لِأَنَّ الصَّغِيرَ وَالْمَجْنُونَ لَا يَهْتَدِيَانِ إِلَى الْمَصَالِحِ وَلَا يِعْرِفَانِهَا فَنَاسَبَ الْحَجْرُ عَلَيْهِمَا، وَالْعَبْدُ تَصَرُّفُهُ نَافِذٌ عَلَى مَوْلَاهُ فَلَا يَنْفُذُ إِلَّا بِإِذْنِهِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا) لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ. (وَتَصَرُّفُ الَّذِي يَعْقِلُ إِنْ أَجَازَهُ وَلِيُّهُ أَوْ كَانَ أَذِنَ لَهُ يَجُوزُ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلِيَّ مَا أَجَازَ ذَلِكَ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ نَظَرًا لَهُ وَإِلَّا لَمَا أَجَازَ. (وَالْعَبْدُ) مَعَ مَوْلَاهُ. (كَالصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ) مَعَ وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمَوْلَى فَإِذَا أَجَازَهُ جَازَ. قَالَ: (وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَإِقْرَارُهُمَا وَطَلَاقُهُمَا وَعَتَاقُهُمَا) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 وَإِنْ أَتْلَفَا شَيْئًا لَزِمَهُمَا، وَأَقْوَالُ الْعَبْدِ نَافِذَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَزِمَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قَصَاصٍ أَوْ طَلَاقٍ لَزِمَهُ فِي الْحَالِ، وَبُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ أَوِ الْإِحْبَالِ أَوِ الْإِنْزَالِ، أَوِ بُلُوغِ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ سَنَةً (سم) . وَالْجَارِيَةُ بِالِاحْتِلَامِ، أَوِ الْحَيْضِ، أَوِ الْحَبَلِ، أَوْ بُلُوغِ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً (سم) ;   [الاختيار لتعليل المختار] إِلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» وَالْعِتْقُ تَمَحَّضَ ضَرَرًا؛ وَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَلَيْسَا مَنْ أَهْلِهِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعُقُودِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الضَّرَرِ نَظَرًا إِلَى سَفَهِهِمَا وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمَا وَعَدَمِ قَصْدِهِمَا الْمَصَالِحِ. قَالَ: (وَإِنْ أَتْلَفَا شَيْئًا لَزِمَهُمَا) إِحْيَاءٌ لِحَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، وَالضَّمَانُ يَجِبُ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَجِنَايَةِ النَّائِمِ وَالْحَائِطِ الْمَائِلِ؛ وَلِأَنَّ الْإِتْلَافَ مَوْجُودٌ حِسًّا وَهُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ، فَلَا يُرَدُّ إِلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَيُجْعَلُ عَدَمُ الْقَصْدِ شُبْهَةً، وَيَنْقَلِبُ الْقَتْلُ فِي الْعَمْدِ إِلَى الدِّيَةِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَأَقْوَالُ الْعَبْدِ نَافِذَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لِأَهْلِيَّتِهِ. (فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَزِمَهُ بَعْدَ عِتْقِهِ) لِعَجْزِهِ فِي الْحَالِ وَصَارَ كَالْمُعْسِرِ. (وَإِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ طَلَاقٍ لَزِمَهُ فِي الْحَالِ) لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الدَّمِ مُبْقٍ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ إِقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَلَا يُسْتَبَاحُ بِإِبَاحَتِهِ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ إِلَّا الطَّلَاقَ» وَلِأَنَّهُ أَهْلٌ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَوْلَى فَيَقَعُ. قَالَ: (وَبُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ أَوِ الْإِحْبَالِ، أَوِ الْإِنْزَالِ، أَوْ بُلُوغِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَالْجَارِيَةُ بِالِاحْتِلَامِ، أَوِ الْحَيْضِ، أَوِ الْحَبَلِ، أَوْ بُلُوغِ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً) لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبُلُوغِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِنْزَالِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا» أَيْ بَالِغٍ وَبَالِغَةٍ، وَالْحَبَلُ وَالْإِحْبَالُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِهِ، وَالْحَيْضُ عَلَامَةُ الْبُلُوغِ أَيْضًا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ لِحَائِضٍ إِلَّا بِخِمَارٍ» أَيْ بَالِغٍ ; وَأَمَّا الْبُلُوغُ بِالسِّنِّ فَالْمَذْكُورُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: بُلُوغُهُمَا بِتَمَامِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ الْغَالِبُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «عُرِضْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَأَجَازَنِي» وَلَهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهِيَ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، فَأَخَذْنَا بِهِ احْتِيَاطًا، هَذَا أَشُدُّ الصَّبِيِّ، فَأَمَّا أَشُدُّ الرَّجُلِ فَأَرْبَعُونَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] وَالْأُنْثَى أَسْرَعُ بُلُوغًا فَنَقَصْنَاهَا سَنَةً ; فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُجِيزُ غَيْرَ الْبَالِغِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا عَرَضَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ابْنَهُ فَرَدَّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُرَدُّ ابْنِي وَتُجِيزُ رَافِعًا وَابْنِي يَصْرَعُ رَافِعًا؟ فَأَمَرَهُمَا فَاصْطَرَعَا فَصَرَعَهُ فَأَجَازَهُ» . وَأَدْنَى مُدَّةٍ يُصَدَّقُ الْغُلَامُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وَإِذَا رَاهَقَا، وَقَالَا: بَلَغْنَا، صُدِّقَا، وَلَا يُحْجَرُ عَلَى (سم) الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا يُنْفِقُ مَالَهُ فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ. ثُمَّ إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَا يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] فِيهَا عَلَى الْبُلُوغِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَالْجَارِيَةُ تِسْعُ سِنِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ. (وَإِذَا رَاهَقَا وَقَالَا بَلَغْنَا صُدِّقَا) لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِمَا، فَيُصَدَّقَانِ فِيهِ إِذَا احْتَمَلَ الصِّدْقُ. قَالَ: (وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ، وَإِنْ كَانَ سَفِيهًا يُنْفِقُ مَالَهُ فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ لَهُ فِيهِ) وَقَالَا: نَحْجُرُ عَلَيْهِ وَيُمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ نَظَرًا لَهُ، لِأَنَّا حَجَرْنَا عَلَى الصَّبِيِّ لِاحْتِمَالِ التَّبْذِيرِ، فَلَأَنْ نَحْجُرَ عَلَى السَّفِيهِ مَعَ تَيَقُّنِهِ كَانَ أَوْلَى، وَلِهَذَا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ بِدُونِ الْحَجَرِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّبْذِيرُ بِمَا يَعْقِدُهُ مِنَ الْبِيَاعَاتِ الظَّاهِرَةِ الْخُسْرَانُ، وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَاعَ عَلَى مُعَاذٍ مَالَهُ وَقَضَى دُيُونَهُ» وَبَاعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَالَ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ لِسَفَهِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ: أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ كَانَ يُغَبْنُ فِي الْبِيَاعَاتِ فَطَلَبَ أَوْلِيَاؤُهُ مِنَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: «إِذَا ابْتَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَفِي الْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» وَلَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ كَالرَّشِيدِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْهُ بِالْحَجْرِ فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِتْلَافِ أَمْوَالِهِ بِتَزْوِيجِ الْأَرْبَعِ وَتَطْلِيقِهِنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَوَقْتٍ، وَلَا مَعْنَى لِلْحَجْرِ عَلَيْهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَا يَنْدَفِعُ؛ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِهْدَارٌ لِآدَمِيَّتِهِ وَإِلْحَاقٌ لَهُ بِالْبَهَائِمِ، وَضَرَرُهُ بِذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِهِ بِالتَّبْذِيرِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ، وَهَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ ذَوُو الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ الْأَبِيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ تَحَمُّلُ الضَّرَرِ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ جَازَ كَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ لِعُمُومِ الضَّرَرِ مِنَ الْأَوَّلِ فِي الْأَدْيَانِ، وَمِنَ الثَّانِي فِي الْأَبْدَانِ، وَمِنَ الثَّالِثِ فِي الْأَمْوَالِ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ قُلْنَا: إِنَّمَا بَاعَ مَالَهُ بِرِضَاهُ؛ لِأَنَّ مُعَاذًا لَمْ يَكُنْ سَفِيهًا، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِهِ ذَلِكَ وَقَدِ اخْتَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْقَضَاءِ وَفَصْلِ الْحُكْمِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقِيلَ كَانَ يَبِيعُ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ أَبْلَغُ عُقُوبَةً مِنْ مَنْعِ الْمَالِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَمَنْعُ الْمَالِ عَنْهُ مُفِيدٌ؛ لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ يَكُونُ فِي الْهِبَاتِ وَالنَّفَقَاتِ فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ ; وَإِذَا حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَرُفِعَ إِلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَبْطَلَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَلَا قَضَاءَ فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَلَوْ أَمْضَاهُ الثَّانِي ثُمَّ رُفِعَ إِلَى ثَالِثٍ لَا يَنْقُضُهُ؛ لِأَنَّ الثَّانِي قَضَى فِي مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَلَا يُنْقَضُ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ كَانَ مُبَذِّرًا اسْتَحَقَّ الْحَجْرَ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي، فَإِذَا صَلَحَ لَا يَنْطَلِقُ إِلَّا بِإِطْلَاقِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَبْذِيرُهُ يَحْجُرُهُ وَإِصْلَاحُهُ يُطْلِقُهُ نَظَرًا إِلَى الْمُوجِبِ وَزَوَالِهِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَضَاءِ لِيَتَرَجَّحَ بِهِ. (ثُمَّ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. (إِذَا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَا يُسَلَّمُ إِلَيْهِ مَالُهُ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً سُلِّمَ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ (سم) وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ نَفَذَ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِعَدَمِ شَرْطِهِ، وَهُوَ إِينَاسُ الرُّشْدِ بِالنَّصِّ. (فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً سُلِّمَ إِلَيْهِ مَالُهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ نَفَذَ) وَقَالَا: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يُؤْنَسَ رُشْدُهُ بِالنَّصِّ، وَلَا يَجُوزَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ، فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ عَنْهُ إِذَا كَبِرَ، وَقَدَّرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ إِينَاسُ الرُّشْدِ فِيهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَدًّا. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: يَنْتَهِي لُبُّ الرَّجُلِ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَفَسَّرَ الْأَشُدَّ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] وَتَصَرُّفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ نَافِذٌ، لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْهُ لِلتَّأْدِيبِ لَا لِلْحَجْرِ، فَلِهَذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. ثُمَّ نُفَرِّعُ الْمَسَائِلَ عَلَى قَوْلِهِمَا فَنَقُولُ: إِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ صَارَ فِي حُكْمِ الصَّبِيِّ، إِلَّا فِي أَشْيَاءٍ فَإِنَّهَا تَصِحُّ مِنْهُ كَالْعَاقِلِ، وَهِيَ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، الِاسْتِيلَادُ، وَالتَّدْبِيرُ، وَالْوَصِيَّةُ مِثْلُ وَصَايَا النَّاسِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا. أَمَّا النِّكَاحُ فَهُوَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ، وَيُلْزَمُ بِمِثْلِ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ لَا غَبْنَ فِيهِ، وَيَبْطُلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْمَالِ مَالٌ وَصَارَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ سَفِيهَةً فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا يُقَالُ لِلزَّوْجِ: إِمَّا أَنْ تُتِمَّ لَهَا أَوْ تُفَارِقَهَا؛ لِأَنَّ رِضَاهَا بِالنُّقْصَانِ لَمْ يَصِحَّ، وَيُخَيَّرُ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا لَمْ يُخَيَّرْ وَوَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ. وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إِلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ النِّكَاحَ وَقَعَ طَلَاقُهُ، وَالْعِتْقُ لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ، وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ لِمَكَانِ الْحَجْرِ عَنِ التَّبَرُّعَاتِ بِالْمَالِ، إِلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَقُلْنَا بِنَفَاذِهِ، وَوُجُوبِ السِّعَايَةِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَسْعَى. وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فَلِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ، أَوْ هُوَ عِتْقٌ مِنْ وَجْهٍ، فَاعْتُبِرَ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى إِلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُؤْنَسْ رُشْدَهُ سَعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ. وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَإِنْ وَطِئَهَا فَوَلَدَتْ وَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ لِحَاجَتِهِ إِلَى بَقَاءِ النَّسْلِ فَلَا تَسْعَى إِذَا مَاتَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَقَرَّ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَمَعَهَا وَلَدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ سَعَتْ فِي قِيمَتِهَا بَعْدَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ فَصَارَ كَالْعِتْقِ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَهِبَةٌ، لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا ذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مِثْلَ وَصَايَا النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ؛ فَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لَا غَيْرُ وَهُوَ عَاقِلٌ بَالِغٌ فَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ فِيمَا لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَيَلْزَمُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْفَاسِقِ، وَلَا عَلَى الْمَدْيُونِ، فَإِنْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ، حَبَسَهُ حَتَّى يَبِيعَ وَيُوَفِّيَ الدَّيْنَ، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَالدَّيْنُ مِثْلُهُ قَضَاهُ الْقَاضِي بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ، وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ أَوْ بِالْعَكْسِ بَاعَهُ الْقَاضِي فِي الدَّيْنِ، وَلَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ وَلَا الْعَقَارَ، وَقَالَا: يَبِيعُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى،   [الاختيار لتعليل المختار] حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحَجِّ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ، وَلَا حَجْرَ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتُخْرَجُ عَنْهُ الزَّكَاةُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ احْتِرَازًا مِنْ أَنْ يَصْرِفَهَا فِي غَيْرِ مَصْرِفِهَا. وَأَمَّا الْكَفَّارَاتُ فَمَا لِلصَّوْمِ فِيهِ مَدْخَلٌ فَيُكَفِّرُهُ بِالصَّوْمِ لَا غَيْرُ كَابْنِ السَّبِيلِ الْمُنْقَطِعِ عَنْ مَالِهِ ; وَلَوْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارِهِ نَفَذَ الْعِتْقُ وَسَعَى فِي قِيمَتِهِ، وَلَا يَجْزِيهِ عَنِ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ بِبَدَلٍ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إِذَا أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارِهِ ثُمَّ مَاتَ يَسْعَى الْعَبْدُ لِلْغُرَمَاءِ وَلَا يَجْزِيهِ، وَكَذَا سَائِرُ الْكَفَّارَاتِ ; وَلَوْ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ ثُمَّ صَلَحَ قَبْلَ تَمَامِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ لِزَوَالِ الْعَجْزِ. وَأَمَّا الْحَجُّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُسَلِّمُ النَّفَقَةَ إِلَى ثِقَةٍ فِي الْحَاجِّ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ عُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ لِوُجُوبِهَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا مِنَ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ وَأَثْوَبُ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، فَكَذَا عَلَى الِاجْتِمَاعِ وَبَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ، وَلَهُ أَنْ يَسُوقَ الْبَدَنَةَ لِمَكَانِ الِاخْتِلَافِ، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَّرَ الْهَدْيَ بِالْبَدَنَةِ، وَيَلْزَمُهُ حُقُوقُ الْعِبَادِ إِذَا تَحَقَّقَتْ أَسْبَابُهَا عَمَلًا بِالسَّبَبِ، وَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَذَوِي أَرْحَامِهِ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ لَا يُبْطِلُ حُقُوقَ الْعِبَادِ؛ وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَالْأَوْلَادِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ. قَالَ: (وَلَا يَحْجُرُ عَلَى الْفَاسِقِ) أَمَّا عِنْدَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عِنْدُهُمَا إِنْ كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] الْآيَةَ، وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ وَهُوَ إِصْلَاحُ الْمَالِ فَيَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ؛ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ لِلْفَسَادِ فِي الْمَالِ لَا فِي الدِّينِ ; أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْفِسْقِ. قَالَ: (وَلَا) يُحْجَرُ. (عَلَى الْمَدْيُونِ) لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ. (فَإِنْ طَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ حَبَسَهُ حَتَّى يَبِيعَ وَيُوَفِّيَ الدَّيْنَ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي. (فَإِنْ كَانَ مَالُهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَالدَّيْنُ مِثْلُهُ قَضَاهُ الْقَاضِي بِغَيْرِ أَمْرِهِ) لِأَنَّ رَبَّ الدَّيْنِ لَهُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَالْقَاضِي يُعِينُهُ عَلَيْهِ. (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ أَوْ بِالْعَكْسِ بَاعَهُ الْقَاضِي فِي الدَّيْنِ) وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَبِيعُهُ كَالْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ نَظَرًا إِلَى الثَّمَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَعَدَمِ التَّعْيِينِ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّهَا مُبَايِنَةٌ لِلدُّيُونِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَالْغَرَضُ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْعُرُوضِ دُونَ الْأَثْمَانِ فَافْتَرَقَا. (وَلَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ وَلَا الْعَقَارَ) ؛ لِأَنَّهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ وَهُوَ تِجَارَةٌ لَا عَنْ تَرَاضٍ. (وَقَالَا: يَبِيعُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ فَالْحُكْمُ مَا مَرَّ فِي أَدَبِ الْقَاضِي، وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحَبْسِ يُلَازِمُونَهُ، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ، وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمُ بِالْحِصَصِ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْقَاضِي عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْإِقْرَارِ حَتَّى لَا يَضُرَّ بِالْغُرَمَاءِ نَظَرًا لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَلْجَأَ مَالَهُ فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ ; وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْبَيْعِ بِمِثْلِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغُرَمَاءِ، وَيَبِيعُ مَالَهُ إِنِ امْتَنَعَ الْمَدْيُونُ مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ؛ لِأَنَّ إِيفَاءَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، فَيُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْبَيْعُ لِإِيفَائِهِ، فَإِذَا امْتَنَعَ بَاعَ الْقَاضِي عَلَيْهِ نِيَابَةً كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا مَرَّ ; وَجَوَابُهُمَا أَنَّ التَّلْجِئَةَ مُتَوَهِّمَةٌ فَلَا يُبْتَنَى عَلَيْهَا حُكْمٌ مُتَيَقَّنٌ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ تَعْيِينَ الْبَيْعِ لَهُ، بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَإِنَّمَا يُحْبَسُ لِيُوفِّيَ دَيْنَهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ شَاءَ، ثُمَّ التَّفْرِيعُ عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ النُّقُودُ، ثُمَّ الْعُرُوضُ، ثُمَّ الْعَقَارُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُسَارَعَةِ إِلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَمُرَاعَاةِ الْمَدْيُونِ، وَيَتْرُكُ لَهُ ثِيَابُ بَدَنِهِ دَسْتٌ أَوْ دِسْتَانِ، وَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ الْحَجْرِ بِمَالٍ لَزِمَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْأَوَّلِينَ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ فِي الْحَالِ لَمَا كَانَ فِي الْحَجْرِ فَائِدَةٌ حَتَّى لَوِ اسْتَفَادَ مَالًا بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ إِقْرَارُهُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّهُمْ، وَلَوِ اسْتَهْلَكَ مَالًا لَزِمَهُ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لَا رَادَّ لَهُ، وَيُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَذَوِي أَرْحَامِهِ، لِأَنَّهَا مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّهِمْ، وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَهِيَ فِي مَهْرِ مِثْلِهَا أُسْوَةٌ بِالْغُرَمَاءِ. قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ، فَالْحُكْمُ مَا مَرَّ فِي أَدَبِ الْقَاضِي) إِلَى أَنْ قَالَ خَلَّى سَبِيلَهُ. قَالَ: (وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْحَبْسِ يُلَازِمُونَهُ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ، وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ يَقْتَسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ» أَيِ الْيَدُ بِالْمُلَازَمَةِ، وَاللِّسَانُ بِالِاقْتِضَاءِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا فَلَّسَهُ الْقَاضِي حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ، إِلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ حَصَلَ لَهُ مَالٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ فَيَصِحُّ عِنْدَهُمَا فَيَسْتَحِقُّ الْإِنْظَارَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْإِفْلَاسَ لَا يَتَحَقَّقُ، فَإِنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحُ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَهَادَةٌ عَلَى الْعَدَمِ حَقِيقَةً فَلَا تُقْبَلُ؛ وَلِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَتَحَقَّقُونَ بَاطِنَ أَحْوَالِ النَّاسِ وَأُمُورِهِمْ، فَرُبَّمَا لَهُ مَالٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَدْ أَخْفَاهُ خَوْفًا مِنَ الظَّلَمَةِ وَاللُّصُوصِ وَهُوَ يُظْهِرُ الْفَقْرَ وَالْعُسْرَةُ، فَإِذَا لَازَمُوهُ فَرُبَّمَا أَضْجَرُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، وَالْمُلَازَمَةُ أَنْ يَدُورَ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ، وَيَجْلِسَ عَلَى بَابِهِ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَدْيُونُ امْرَأَةً لَا يُلَازِمُهَا حِذَارًا مِنَ الْفِتْنَةِ وَيَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تُلَازِمُهَا، وَبَيِّنَةُ الْيَسَارِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ؛ لِأَنَّهَا مُثْبَتَةٌ؛ إِذِ الْأَصْلُ الْإِعْسَارُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 كتاب المأذون وَيَثْبُتُ بِالصَّرِيحِ وَبِالدَّلَالَةِ (ز) كَمَا لَوْ رَآهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ لِلْمَوْلَى أَوْ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا، وَيَصِيرُ مَأْذُونًا بِالْإِذْنِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ،   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ المأذون] ِ الْإِذْنُ فِي اللُّغَةِ: الْإِعْلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أَيْ أَعْلِمْ، وَمِنْهُ الْأَذَانُ؛ لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ. وَفِي الشَّرْعِ: فَكُّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ لِمَنْ كَانَ مَمْنُوعًا عَنْهُ شَرْعًا، فَكَأَنَّهُ أَعْلَمَهُ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَإِطْلَاقِ تَصَرُّفِهِ، وَأَعْلَمَ التُّجَّارَ بِذَلِكَ لِيُعَامِلُوهُ، وَفَائِدَتُهُ اهْتِدَاءُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ إِلَى إِصْدَارِ التَّصَرُّفَاتِ وَاكْتِسَابِ الْأَمْوَالِ وَاسْتِجْلَابِ الْأَرْبَاحِ، وَقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] أَيِ اخْتَبِرُوهُمْ بِشَيْءٍ تَدْفَعُونَهُ إِلَيْهِمْ لِيَتَصَرَّفُوا فِيهِ فَتَنْظُرُوا فِي تَصَرُّفِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ» وَلَا يُجَوِّزُ إِجَابَةَ دَعْوَةَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، ثُمَّ الْعَبْدُ بِالْإِذْنِ يَصِيرُ كَالْأَحْرَارِ فِي التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفَاتِ بِأَهْلِيَّتِهِ بِأَصْلِ الْفِطْرَةِ بِاعْتِبَارِ عَقْلِهِ وَنُطْقِهِ الَّذِي هُوَ مَلَاكُ التَّكْلِيفِ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْمَوْلَى لِاحْتِمَالِ لُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِكَسْبِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِلْكُ الْمَوْلَى، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فَقَدْ رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِ فَيَتَصَرَّفُ بِاعْتِبَارِ مَالِكِيَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ لَا تَتَوَقَّفُ حَتَّى لَوْ أَذِنَ لَهُ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا كَانَ مَأْذُونًا مُطْلَقًا مَا لَمْ يَنْهَهُ، وَكَذَلِكَ إِذْنُ الْقَاضِي وَالْوَصِيِّ لِعَبْدِ الْيَتِيمِ، وَكَذَلِكَ لِلصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ، فَإِنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ إِنَّمَا كَانَ خَوْفًا مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِهِ وَعَدَمِ هِدَايَتِهِ لِلْأَصْلَحِ، فَإِذْنُهُمَا لَهُمَا دَلِيلُ صَلَاحِيَةِ التَّصَرُّفِ فَجَازَ تَصَرُّفُهُ. قَالَ: (وَيَثْبُتُ بِالصَّرِيحِ وَبِالدَّلَالَةِ كَمَا لَوْ رَآهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ لِلْمَوْلَى أَوْ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا) لِأَنَّ سُكُوتَهُ عِنْدَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيلُ رِضَاهُ، كَسُكُوتِ الشَّفِيعِ عِنْدَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمَلٌ، وَصَارَ كَالْوَكِيلِ. وَلَنَا أَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ يَتَصَرَّفُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَالْمَوْلَى سَاكِتٌ يَعْتَقِدُونَ رِضَاهُ بِذَلِكَ، وَإِلَّا لَمَنَعَهُ فَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةَ الْمَأْذُونِ، فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ سُكُوتُهُ رِضًى يُفْضِي ذَلِكَ إِلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ رِضًى دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ. قَالَ: (وَيَصِيرُ مَأْذُونًا بِالْإِذْنِ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ) فَالْعَامُّ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ، وَأَذِنْتُ لَكَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 وَلَوْ أَذِنَ لَهُ بِشِرَاءِ طَعَامِ الْأَكْلِ وَثِيَابِ الْكُسْوَةِ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا، وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُوَكِّلَ وَيُبْضِعَ وَيُضَارِبَ وَيُعِيرَ وَيَرْهَنَ وَيَسْتَرْهِنَ وَيُؤَجِّرَ وَيَسْتَأْجِرَ وَيُسْلِمَ وَيَقْبَلَ السَّلَمَ وَيُزَارِعَ وَيَشْتَرِيَ طَعَامًا وَيَزْرَعَهُ وَيُشَارِكَ عِنَانًا، وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ جَازَ، وَلَا يَتَزَوَّجُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا يُقَيِّدُهُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: أَدِّ إِلَيَّ الْغَلَّةَ، أَوْ إِنْ أَدَّيْتَ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْكَسْبِ وَلَا كَسْبَ إِلَّا بِالتِّجَارَةِ وَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بِالْغَبْنِ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ إِذَا كَانَ غَبْنًا فَاحِشًا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ. وَلَهُ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ كَالْحُرِّ وَهَذِهِ تِجَارَةٌ فَتَجُوزُ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَالْخَاصُّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ أَذِنْتُ لَكَ فِي الْبَرِّ أَوْ فِي الصَّرْفِ أَوْ فِي الْخِيَاطَةِ أَوْ فِي الصِّيَاغَةِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ وَالْحِرَفِ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَهَاهُ عَنِ التِّجَارَةِ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فِي الْبَرِّ دُونَ الْبَحْرِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَخْتَصُّ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ التَّصَرُّفَ بِإِذْنِهِ كَالْوَكِيلِ. وَلَنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فَكَّ الْحَجْرَ وَرَفَعَ السَّبَبَ الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ مَحْجُورًا فَبَعْدَهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ كَمَا بَعْدَ الْكِتَابَةِ، وَفَكُّ الْحَجْرِ يُوجَدُ بِالْإِذْنِ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَلْحَقُ بِالْمَوْلَى لَا يَتَفَاوَتُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ فَيَلْغُو التَّقْيِيدُ وَيَبْقَى قَوْلُهُ اتَّجِرْ، وَلَيْسَ كَالْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ، وَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ. أَمَّا رَفْعُ الْحَجْرِ إِسْقَاطُهُ، وَالْجَهَالَةُ لَا تُبْطِلُهُ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِالْعُهْدَةِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ، وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ أَذِنْتُ لَكَ صَحَّ، وَفِي التَّوْكِيلِ لَا يَصِحُّ، وَالصَّبِيُّ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ فِي مَالِهِ فَلَا يَكُونُ نَائِبًا. قَالَ: (وَلَوْ أَذِنَ لَهُ بِشِرَاءِ طَعَامِ الْأَكْلِ وَثِيَابِ الْكُسْوَةِ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا) لِأَنَّهُ اسْتِخْدَامٌ وَلَيْسَ بِتِجَارَةٍ؛ لِأَنَّ التِّجَارَةَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ الرِّبْحُ؛ وَلِأَنَّهُ لَوِ اعْتَبَرْنَاهُ إِذْنًا أَدَّى إِلَى سَدِّ بَابِ الِاسْتِخْدَامِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى. قَالَ: (وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ) لِأَنَّهُ أَصْلُ التِّجَارَةِ. (وَيُوَكِّلَ) لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ مِنَ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ. (وَيُبْضِعَ وَيُضَارِبَ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ التِّجَارَةِ. (وَيُعِيرَ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ التُّجَّارِ. وَ (يَرْهَنَ وَيَسْتَرْهِنَ) لِأَنَّهُ وَفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ، وَهُمَا مِنْ تَوَابِعِ الْبَيْعِ. (وَيُؤَجِّرَ وَيَسْتَأْجِرَ وَيُسَلِّمَ وَيَقْبَلَ السَّلَمَ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ. (وَيُزَارِعَ وَيَشْتَرِيَ طَعَامًا وَيَزْرَعَهُ) لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ يَقْصِدُ بِهَا الرِّبْحَ. (وَيُشَارِكَ عِنَانًا) لِأَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ التُّجَّارِ، وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ الرِّبْحُ وَالِاكْتِسَابُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. (وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ جَازَ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ مُعَامَلَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْغَصْبَ مُبَادَلَةٌ. (وَلَا يَتَزَوَّجُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ، فَلَوْ تَزَوَّجَ أُخِذَ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وَلَا يُزَوِّجُ مَمَالِيكَهُ (س) ، وَلَا يُكَاتِبُ، وَلَا يَعْتِقُ، وَلَا يُقْرِضُ، وَلَا يَهَبُ، وَلَا يَتَصَدَّقُ، وَلَا يَتَكَفَّلُ، وَيُهْدِي الْقَلِيلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَيُضِيفُ مُعَامِلِيهِ وَيَأْذَنُ لِرَقِيقِهِ فِي التِّجَارَةِ، وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدُّيُونِ بِسَبَبِ الْإِذْنِ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِالدُّيُونِ، فَإِنْ فَدَاهُ الْمَوْلَى بِدُيُونِ الْغُرَمَاءِ انْقَطَعَ حَقُّهُمْ عَنْهُ، وَإِلَّا يُبَاعُ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَإِنْ حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لَمْ يَنْحَجِرْ حَتَّى يَعْلَمَ   [الاختيار لتعليل المختار] (وَلَا يُزَوِّجُ مَمَالِيكَهُ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُزَوِّجُ الْأَمَةَ لِأَنَّهُ نَوْعُ تِجَارَةٍ، وَهُوَ وُجُوبُ نَفَقَتِهَا عَلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ تِجَارَةً؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ فِي الْعَبْدِ، وَنَفَقَتُهَا لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ؛ وَلِأَنَّ الزَّوَاجَ عَيْبٌ فِي الْأَمَةِ. (وَلَا يُكَاتِبُ) لِأَنَّهُ إِطْلَاقٌ وَلَيْسَ بِتِجَارَةٍ. (وَلَا يُعْتِقُ) بِمَالٍ وَلَا بِغَيْرِ مَالٍ. (وَلَا يُقْرِضُ وَلَا يَهَبُ) بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ. (وَلَا يَتَصَدَّقُ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً، أَوِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَلَيْسَ مِنَ التِّجَارَاتِ. (وَلَا يَتَكَفَّلُ) بِنَفْسٍ وَلَا بِمَالٍ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ. قَالَ: (وَيُهْدِي الْقَلِيلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَيُضَيِّفُ مُعَامِلِيهِ) لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ، وَفِيهِ اسْتِمَالَةُ قُلُوبِ الْمُعَامِلِينَ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبِلَ هَدِيَّةَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَكَانَ عَبْدًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَصَدَّقُ بِالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يُقَدِّرْ مُحَمَّدٌ الضِّيَافَةَ الْيَسِيرَةَ، وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَالِ التِّجَارَةِ، إِنْ كَانَتْ نَحْوَ عَشَرَةِ آلَافٍ فَالضِّيَافَةُ بِعَشَرَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ تِجَارَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَدَانِقٌ كَثِيرٌ، وَلَهُ أَنْ يَحُطَّ مِنَ الثَّمَنِ بِعَيْبٍ كَعَادَةِ التُّجَّارِ؛ وَلَعَلَّهُ أَصْلَحُ مِنَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ، وَلَا يَحُطُّ بِغَيْرِ عَيْبٍ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ. قَالَ: (وَيَأْذَنُ لِرَقِيقِهِ فِي التِّجَارَةِ) ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تِجَارَةٍ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ التِّجَارَةِ يَصِحُّ إِذْنُهُ لِلْعَبْدِ فِيهَا كَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْمُضَارِبِ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْقَاضِي وَشَرِيكَيِ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعِنَانِ وَالْوَصِيِّ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ التِّجَارَةِ. قَالَ: (وَمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدُّيُونِ بِسَبَبِ الْإِذْنِ مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إِلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى) ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى رَضِيَ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ كَانَ تَصَرُّفُهُ نَفْعًا مَحْضًا فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِذْنِ، وَإِنَّمَا شَرَطَ إِذْنَ الْمَوْلَى لِيَصِيرَ رَاضِيًا بِهَذَا الضَّرَرِ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذَا الدَّيْنِ التِّجَارَةُ وَهِيَ بِإِذْنِهِ؛ وَلِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ مِمَّا يَدْعُو إِلَى مُعَامَلَتِهِ وَأَنَّهُ يُصْلِحُ مَقْصُودًا لِلْمَوْلَى فَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ فِي حَقِّهِ إِلَّا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِكَسْبِهِ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ. (فَإِنْ لَمْ يَفِ بِالدُّيُونِ، فَإِنْ فَدَاهُ الْمَوْلَى بِدُيُونِ الْغُرَمَاءِ انْقَطَعَ حَقُّهُمْ عَنْهُ، وَإِلَّا يُبَاعُ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ كَتَعَلُّقِهَا بِالتَّرِكَةِ. (فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ) لِأَنَّ الدَّيْنَ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ تَفِ بِهِ الرَّقَبَةُ، فَيَبْقَى عَلَيْهِ إِلَى وَقْتِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ. قَالَ: (وَإِنْ حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ لَمْ يَنْحَجِرْ حَتَّى يَعْلَمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 أَهْلُ سُوقِهِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْ وَلَدَتِ الْمَأْذُونَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَهُوَ حَجْرٌ (ز) ، وَالْإِبَاقُ حَجْرٌ؛ وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا صَارَ مَحْجُورًا، وَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ (سم) ، وَإِذَا اسْتَغْرَقَتِ الدُّيُونُ مَالَهُ وَرَقَبَتَهُ لَمْ يَمْلِكِ الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَهْلُ سُوقِهِ أَوْ أَكْثَرُهُمْ بِذَلِكَ) لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا يُبَايِعُونَهُ بِنَاءً عَلَى مَا عَرَفُوهُ مِنَ الْإِذْنِ، فَلَوِ انْحَجَرَ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِكَسْبِهِ وَبِرَقَبَتِهِ يَتَأَخَّرُ إِلَى مَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ، وَقَدْ لَا يُعْتَقُ فَيَتَضَرَّرُونَ إِمَّا بِالتَّأْخِيرِ أَوْ بِالْعَدَمِ، وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي السُّوقِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ لَا يَنْحَجِرُ، وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْتِ عِنْدَ أَهْلِ سُوقِهِ أَوْ أَكْثَرِهِمُ انْحَجَرَ، وَالْمُعْتَبَرُ اشْتِهَارُ الْحَجْرِ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ الْإِذْنُ مَشْهُورًا ; أَمَّا إِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِذْنِ غَيْرُ الْعَبْدِ ثُمَّ عَلِمَ بِالْحَجْرِ انْحَجَرَ، وَلَا يَزَالُ مَأْذُونًا حَتَّى يَعْلَمَ بِالْحَجْرِ كَالْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ لَوِ انْحَجَرَ بِدُونِ عِلْمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدُّيُونِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَأَنَّهُ ضَرَرٌ بِهِ. قَالَ: (وَإِنْ وَلَدَتِ الْمَأْذُونَةُ مِنْ مَوْلَاهَا فَهُوَ حَجْرٌ) خِلَافًا لِزُفَرَ. لَهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْإِذْنَ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءٌ. وَلَنَا أَنَّهُ يُحَصِّنُهَا عَادَةً فَيَمْنَعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فَكَانَ حَجْرًا دَلَالَةً، بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْإِذْنِ فَلَا تُعَارِضُهُ الدَّلَالَةُ. قَالَ: (وَالْإِبَاقُ حَجْرٌ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ كَسْبِهِ وَهُوَ مَا أُذِنَ لَهُ إِلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ مَقْصُودًا. قَالَ: (وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا صَارَ مَحْجُورًا) لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ وَاللَّحَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى مِلْكِ وَرَثَتِهِ وَهُوَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيَزُولُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ، وَبِالْجُنُونِ زَالَتِ الْأَهْلِيَّةُ فَيَبْطُلُ الْإِذْنُ اعْتِبَارًا بِالِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ يُعْتَبَرُ لِدَوَامِهِ الْأَهْلِيَّةُ كَمَا يُعْتَبَرُ لِابْتِدَائِهِ. قَالَ: (وَيَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ) سَوَاءٌ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصْبٌ أَوْ أَمَانَةٌ أَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ، وَقَالَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُصَحِّحَ كَانَ الْإِذْنَ وَقَدْ زَالَ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الرَّقَبَةِ وَصَارَ كَمَا إِذَا بَاعَهُ مِنْ آخَرَ، وَلَهُ أَنَّ الْمُصَحِّحَ الْيَدُ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِيمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى، وَبُطْلَانُهَا لِعَدَمِ الْحَاجَةِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ بِدَلِيلِ إِقْرَارِهِ، بِخِلَافِ الرَّقَبَةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي يَدِهِ، وَمِلْكُ الْمَوْلَى ثَابِتٌ فِيهَا فَلَا يَبْطُلُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ تَبَدَّلَ فَلَمْ يَبْقَ حُكْمُ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ. قَالَ: (وَإِذَا اسْتَغْرَقَتِ الدُّيُونُ مَالَهُ وَرَقَبَتَهُ لَمْ يَمْلِكِ الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ) وَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ لَوْ أَعْتَقَ عَبِيدَهُ لَا يَعْتِقُونَ، وَلَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ عَلَى السِّنِينَ، وَقَالَا: يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى وَيَعْتِقُونَ بِإِعْتَاقِهِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ فِي الْحَالِ. لَهُمَا أَنَّهُ مَلَكَ رَقَبَتَهُ حَتَّى جَازَ عِتْقُهُ فَيَمْلِكُ كَسْبَهُ، وَلِذَا يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ الْمَأْذُونَةِ، وَتَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ يَمْنَعُ الْمَوْلَى عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ وَنَقْضُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا فِي إِبْطَالِ مِلْكِهِ. وَلَهُ أَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لِلْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاكْتِسَابُ، فَيَكُونُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَوْلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 وَإِنْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ وَضَمِنَ قِيمَتَهُ لَلْغُرَمَاءِ وَمَا بَقِيَ فَعَلَى الْعَبْدِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مِنَ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ. كِتَابُ الْإِكْرَاهِ وَيُعْتَبَرُ فِيهِ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ عَلَى إِيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] إِذَا فَضَلَ عَنْ حَاجَتِهِ، وَالْحَاجَةُ قَائِمَةُ فِي الدَّيْنِ الْمُحِيطِ، وَالْمَأْذُونِ يَمْلِكُهُ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا مُكَلَّفًا لَكِنَّ مِلْكًا مُنْتَقِلًا لَا مُسْتَقِرًّا كَمِلْكِ الْمَقْتُولِ الدِّيَةَ وَالْجَنِينِ الْغُرَّةَ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ حَتَّى يَكُونَ مَوْرُوثًا عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرِقًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ مَا يَخْلُو عَنْ قَلِيلِ الدَّيْنِ سِيَّمَا التُّجَّارُ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَا الْقَلِيلَ مَانِعًا أَدَّى إِلَى سَدِّ بَابِ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى الْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ عَنِ الْإِذْنِ. قَالَ: (وَإِنْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ) لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِيهِ. (وَضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ، وَمَا بَقِيَ فَعَلَى الْعَبْدِ) ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ فَوَّتَهَا بِالْعِتْقِ فَيَغْرَمُ لَهُ قِيمَتَهَا، وَمَا فَضَلَ أَخَذُوهُ مِنَ الْمُعْتَقِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنُوا الْمُعْتَقَ جَمِيعَ دُيُونِهِمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ وَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ فَيَضْمَنُهَا وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضَمِنَ الدَّيْنَ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِيهِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ) لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ كَسْبِهِ إِذَا كَانَ مَدْيُونًا كَمَا بَيَّنَّا وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْعَبْدِ بِدُخُولِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ، فَإِنْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ وَلَمْ يَقْبِضِ الثَّمَنَ سَقَطَ إِنْ كَانَ دَيْنًا؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ لَهُ دَيْنٌ عَلَى عَبْدِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ عَرَضًا لَا يَسْقُطُ لِجَوَازِ بَقَاءِ حَقِّهِ فِي الْعَيْنِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ مِنَ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ) لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَا تُهْمَةَ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ بِأَقَلِّ مِنَ الْقِيمَةِ لَا يَجُوزُ لِلتُّهْمَةِ، وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَعَيَّبَهُ. فَالْغُرَمَاءُ إِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْبَائِعَ الْقِيمَةَ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّهُمْ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ بِالشِّرَاءِ وَالتَّعْيِيبِ، وَإِنْ شَاءُوا أَجَازُوا الْبَيْعَ وَأَخَذُوا الثَّمَنَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ كَالْمُرْتَهِنِ، فَإِنْ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِمَا ضَمِنَ وَعَادَ حَقُّهُمْ إِلَى الْعَبْدِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ. [كِتَابُ الْإِكْرَاهِ] ِ وَهُوَ الْإِلْزَامُ وَالْإِجْبَارُ عَلَى مَا يُكْرَهُ الْإِنْسَانُ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا، فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ مَا عَدِمَ الرِّضَا لِيَدْفَعَ عَنْهُ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ، ثُمَّ قِيلَ هُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْهَزْلِ الْمُنَافِي لِلرِّضَا، فَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ وَأَخَوَاتِهِ ; وَقِيلَ: هُوَ مُعْتَبَرٌ بِخِيَارِ الشَّرْطِ الْخَالِي عَنِ الرِّضَا بِمُوجِبِ الْعَقْدِ، فَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الشَّرْطُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ. قَالَ: (وَيُعْتَبَرُ فِيهِ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ عَلَى إِيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ) لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ لَا يَتَحَقَّقُ الْخَوْفُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وَخَوْفُ الْمُكْرَهِ عَاجِلًا، وَامْتِنَاعُهُ مِنَ الْفِعْلِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ لِحَقِّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ بِهِ نَفْسًا أَوْ عُضْوًا أَوْ مُوجِبًا غَمًّا يَنْعَدِمُ بِهِ الرِّضَا، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ أَوْ حَبْسٍ فَفَعَلَ ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ، وَإِنْ قَبَضَ الْعِوَضَ طَوْعًا فَهُوَ إِجَازَةٌ، وَإِنْ قَبَضَهُ مُكْرَهًا فَلَيْسَ بِإِجَازَةٍ، وَيَرُدُّهُ إِنْ كَانَ قَائِمًا، فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي   [الاختيار لتعليل المختار] وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا مِنْ سُلْطَانٍ، فَاخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ. (وَ) لَا بُدَّ مِنْ. (خَوْفِ الْمُكْرَهِ عَاجِلًا) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخَفْ فِعْلَهُ يَكُونُ رَاضِيًا فَلَا يَكُونُ مُكْرَهًا ; لَأَنَّ الْإِكْرَاهَ مَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يُفْسِدُ عَلَيْهِ اخْتِيَارَهُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْقَصْدِ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ فَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا، فَإِذَا فَعَلَ بِرِضَاهُ لَا يَكُونُ مُكْرَهًا. (وَ) لَا بُدَّ مِنْ (امْتِنَاعِهِ مِنَ الْفِعْلِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا عَلَى فِعْلٍ يَمْتَنِعُ عَنْهُ الْمُكْرَهُ. أَمَّا إِذَا كَانَ بِفِعْلِهِ فَلَا إِكْرَاهَ وَيَكُونُ الِامْتِنَاعُ. (لِحَقِّهِ) كَبَيْعِ مَالِهِ وَالشِّرَاءِ، وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ) كَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ وَنَحْوِهِ. (أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ) كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا لِأَحَدِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. (وَ) لَا بُدَّ (أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ بِهِ نَفْسًا أَوْ عُضْوًا) كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ. (أَوْ مُوجِبًا غَمًّا يَنْعَدِمُ بِهِ الرِّضَا) كَالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ ; وَأَحْكَامُهُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، فَتَارَةً يَلْزَمُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَتَارَةً يُبَاحُ لَهُ، وَتَارَةً يُرَخَّصُ، وَتَارَةً يَحْرُمُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ إِجَارَةٍ أَوْ إِقْرَارٍ بِقَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ أَوْ حَبْسٍ فَفَعَلَ ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ) لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ، إِلَّا أَنَّهُ فَقَدَ شَرْطَ الْحِلِّ وَهُوَ التَّرَاضِي فَصَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ، حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ كَالْعِتْقِ وَنَحْوِهِ يَنْفُذُ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَإِنْ أَجَازَهُ جَازَ لِوُجُودِ التَّرَاضِي بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِحَقِّ الشَّرْعِ يَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمَا، وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ هَاهُنَا وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، لِأَنَّ الْفَسَادَ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي حُقُّ الْعَبْدِ، وَهُنَا أَيْضًا الرَّدُّ حَقُّ الْعَبْدِ، وَهَمَا سَوَاءٌ، وَلَوْ أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ، أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ، أَوْ قِيدَ يَوْمٍ لَا يَكُونُ إِكْرَاهًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَالَى بِهِ عَادَةً، إِلَّا إِذَا كَانَ ذَا مَنْصِبٍ يَسْتَضِرُّ بِهِ، فَيَكُونُ إِكْرَاهًا فِي حَقِّهِ لِزَوَالِ الرِّضَى. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَلَيْسَ بِسَبَبٍ، لَكِنْ جُعِلَ حُجَّةً لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْكَذِبِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ. (وَإِنْ قَبَضَ الْعِوَضَ طَوْعًا فَهُوَ إِجَازَةٌ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ. (وَإِنْ قَبَضَهُ مُكْرَهًا فَلَيْسَ بِإِجَازَةٍ، وَيَرُدُّهُ إِنْ كَانَ قَائِمًا، فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَلِلْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَفَعَلَ وَقَعَ وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ، وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ. وَفِي الطَّلَاقِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ، إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَبِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْمُتْعَةِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ إِتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِالْحَبْسِ أَوِ الضَّرْبِ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ) لِأَنَّهُ بَيْعٌ فَاسِدٌ وَالْمَقْبُوضُ فِيهِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ. (وَلِلْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ) لِأَنَّهُ كَالْآلَةِ لَهُ فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَهُ إِلَى الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ صَارَ كَالْبَائِعِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي نَفَّذَ كُلَّ بَيْعٍ حَصَلَ بَعْدَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ، وَالْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْقَبْضِ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ. قَالَ: (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَفَعَلَ وَقَعَ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْهَزْلِ لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مَجْرًى وَاحِدًا فِي عَدَمِ الرِّضَا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَسْلُبُ الْقَصْدَ، فَقَدْ قُصِدَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ عَلَى مَنْكُوحَتِهِ وَعَبْدِهِ فَيَقَعُ. (وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ آلَةٌ لَهُ فَانْضَافَ إِلَيْهِ فَلَهُ تَضْمِينُهُ. (وَفِي الطَّلَاقِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْمُتْعَةِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ) لِأَنَّهُ أَكَّدَ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِأَنْ تَجِيءَ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا، فَكَانَ إِتْلَافًا لِهَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْمَالِ فَيُضَافُ إِلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الدُّخُولِ، لِأَنَّ الْمَهْرَ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ، وَهَكَذَا النَّذْرُ وَالْيَمِينُ وَالظِّهَارُ وَالرَّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ بِاللِّسَانِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَقْبَلُ الْفَسْخَ وَتَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ، وَالْخُلْعُ يَمِينٌ أَوْ طَلَاقٌ وَعَلَيْهَا الْبَدَلُ إِنْ كَانَتْ طَائِعَةً، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا وَجَبَ بِالنَّذْرِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا يَطْلُبُهُ فِيهَا، وَالنِّكَاحُ كَالطَّلَاقِ، فَإِنْ كَانَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَيْهِ عِوَضُ مَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بَطَلَتِ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الرِّضَا شَرْطٌ لِلُزُومِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ فَاتَتْ. وَإِنْ أُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفُؤًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ وَلَا تَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَالزَّوْجُ إِمَّا أَنْ يُتِمَّ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ أَوْ يُفَارِقَهَا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبِلِهَا حَيْثُ لَمْ تَرْضَ بِالْمُسَمَّى، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ مُكْرَهَةٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا حَيْثُ لَمْ تَرْضَ بِالْمُسَمَّى، وَإِنْ كَانَتْ طَائِعَةً فَهُوَ رِضًى بِالْمُسَمَّى، وَيَبْقَى الِاعْتِرَاضُ لِلْأَوْلِيَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ. قَالَ: (فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ إِتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِالْحَبْسِ أَوِ الضَّرْبِ فَلَيْسَ بِمُكْرَهٍ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْمَيْتَةِ وَمَالَ الْغَيْرِ مُبَاحٌ فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ، وَهُوَ خَوْفُ فَوْتِ النَّفْسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِإِتْلَافِ نَفْسِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ، وَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا،   [الاختيار لتعليل المختار] {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فَإِذَا أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَإِذَا لَمْ يَبُحْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِكْرَاهِ لَا يُبَاحُ الْكُفْرُ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ جَرِيمَةً وَأَشَدُّ حُرْمَةً وَأَقْبَحُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا بِالسَّمْعِ وَحُرْمَةُ الْكُفْرِ بِهِ وَبِالْعَقْلِ. (وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِإِتْلَافِ نَفْسِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ) أَمَّا شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَكْلُ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ فَلِمَا تَلَوْنَا مِنَ النَّصِّ. وَوَجْهُهُ أَنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنَ الْحُرْمَةِ، فَكَانَتِ الْمَيْتَةُ وَالْخَمْرُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ كَالْخُبْزِ وَالْمَاءِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْإِبَاحَةِ أَثِمَ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ؛ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَمَّا زَالَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] صَارَ كَالْمُمْتَنِعِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حَتَّى مَاتَ فَيَأْثَمُ. وَأَمَّا إِتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ فَكَذَلِكَ يُبَاحُ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ فَزَالَ الْإِثْمُ، وَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ أَكْرَهَهُ لِمَا مَرَّ. وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَعَّدُوهُ بِضَرْبٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْهُ وَلَوْ أُنْمُلَةٍ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَعْضَاءِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا لَا يُبَاحُ لَهُ الْقَتْلُ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ لَا يُبَاحُ لَهُ قَطْعُ الْعُضْوِ، وَلَوْ خَوَّفُوهُ بِالْجُوعِ لَا يَفْعَلُ حَتَّى يَجُوعَ جُوعًا يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ فَيَصِيرُ كَالْمُضْطَرِّ. وَأَمَّا الْكُفْرُ فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْرَهَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْكُفْرِ، فَأَعْطَاهُمْ بِلِسَانِهِ مَا أَرَادُوا، ثُمَّ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ: " مَا وَرَاءَكَ " ; فَقَالَ: شَرٌّ، نِلْتُ مِنْكَ، فَقَالَ: " كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ؟ " قَالَ: مُطَمْئِنًا بِالْإِيمَانِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَقُولُ: " مَا لَكَ، إِنْ عَادُوا فَعُدْ» وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] وَفِيهِ دَلِيلُ الْكِتَابِ ; وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنْ عَادُوا فَعُدْ» وَالْأَثَرُ فِعْلُ عَمَّارٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (وَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا) وَهُوَ الْعَزِيمَةُ «فَإِنَّ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ، وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ، وَقَالَ: هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ» وَلِأَنَّهُ بَذَلَ مُهْجَتَهُ وَجَادَ بِرُوحِهِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِعْلَاءً لِكَلِمَتِهِ لِئَلَّا يَأْتِيَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَكَانَ شَهِيدًا كَمَنْ بَارَزَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ فَإِنَّهُ يَكُونُ شَهِيدًا. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ سَبُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَرْكُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَكُلُّ مَا ثَبَتَتْ فَرَضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ ; وَلَوْ أُكْرِهَ الذِّمِّيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ صَحَّ إِسْلَامُهُ، كَمَا لَوْ قُوتِلَ الْحَرْبِيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] سَمَّى الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا، فَإِنْ رَجَعَ الذِّمِّيُّ لَا يُقْتَلُ لَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يُسْلِمَ لِأَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ فِي اعْتِقَادِهِ، فَاحْتَمَلَ أَنَّهُ صَحِيحٌ فَيُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ فَيَكُونُ ذِمِّيًا فَلَا يُقْبَلُ، إِلَّا أَنَّا رَجَّحْنَا جَانِبَ الْوُجُودِ حَالَةَ الْإِسْلَامِ تَصْحِيحًا لِإِسْلَامِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى الْقَتْلِ لَمْ يَفْعَلْ وَيَصْبِرُ حَتَّى يُقْتَلَ، فَإِنْ قَتَلَ أَثِمَ، وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ (ز س) ، وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنِ امْرَأَتُهُ مِنْهُ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ (ز)   [الاختيار لتعليل المختار] لِتَرْجِيحِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكُفْرِ. قَالَ: (وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى الْقَتْلِ لَمْ يَفْعَلْ وَيَصْبِرْ حَتَّى يُقْتَلَ) وَكَذَا قَطْعُ الْعُضْوِ، وَسَبُّ الْمُسْلِمِ وَأَذَاهُ، وَضَرْبُ الْوَالِدَيْنِ ضَرْبًا مُبَرِّحًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ حَرَامٌ شَرْعًا وَعَقْلًا، لَا يُسْتَبَاحُ بِحَالٍ وَلَا بِوَجْهٍ مَا، وَكَذَا قَتْلُ الْمُسْلِمِ الْبَرِيءِ لَا يُبَاحُ بِوَجْهٍ مَا. (فَإِنْ قُتِلَ أَثِمَ) لِقِيَامِ الْحُرْمَةِ. (وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ) لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً وَهُوَ الْقَتْلُ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً فِي الْإِثْمِ؛ لِأَنَّهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الدِّينِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَلَا يُبَاحُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَنْدَرِئُ بِالشُّبَهَاتِ وَقَدْ تَحَقَّقَتِ الشُّبْهَةُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا الْمُكْرَهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُكْرِهُ فَلِعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ مُوجِبَةٌ لِلْقَتْلِ وَلِهَذَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِثْمُ، وَلَهُمَا مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ آلَةٌ فِيمَا يَصْلُحُ، وَالْقَتْلُ يَصْلُحُ بِأَنْ يُلْقِيَهُ عَلَيْهِ وَصَارَ كَمَنْ أَكْرَهَ مَجُوسِيًّا عَلَى ذَبْحِ شَاةِ مُسْلِمٍ، فَالْفِعْلُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُكْرَهِ فِي الْإِتْلَافِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلَا يَنْتَقِلَ الْحُكْمُ حَتَّى لَا يَحِلَّ أَكْلُهَا. قَالَ: (وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنِ امْرَأَتُهُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ تُبْتَنَى عَلَى الرِّدَّةِ، وَالرِّدَّةُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ؛ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ، بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ ; وَلَوِ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي عَدَمِ الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ. قَالَ: (وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ) لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ وَيَأْثَمُ بِالْفِعْلِ، وَلَوْ صَبَرَ كَانَ مَأْجُورًا كَالْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُبَاحُ بِوَجْهٍ مَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ: يُحَدُّ لِأَنَّ انْتِشَارَ الْآلَةِ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ. قُلْنَا: وَقَدْ يَكُونُ طَبْعًا وَالشُّبْهَةُ مَوْجُودَةٌ، وَلَوْ أُكْرِهَتِ الْمَرْأَةُ وَسِعَهَا ذَلِكَ وَلَا تَأْثَمُ، نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الْفَاعِلَ الرَّجُلَ دُونَهَا؛ لِأَنَّ الْإِيلَاجَ فِعْلُهُ فَلَمْ يَتَحَقَّقِ الزِّنَا مِنْهَا، لَكِنَّ تَمْكِينَهَا وَسِيلَةٌ إِلَى فِعْلِهِ فَيُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ; وَلَوْ أَمَرَهُ وَلَمْ يُكْرِهْهُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا إِلَّا أَنَّهُ يَخَافُ الْقَتْلَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ بِاعْتِبَارِ الْخَوْفِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 كِتَابُ الدَّعْوَى الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ.   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الدَّعْوَى] الدَّعْوَى مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدُّعَاءِ وَهُوَ الطَّلَبُ. وَفِي الشَّرْعِ: قَوْلٌ يَطْلُبُ بِهِ الْإِنْسَانُ إِثْبَاتَ حَقٍّ عَلَى الْغَيْرِ لِنَفْيِهِ، وَالْبَيِّنَةُ مِنَ الْبَيَانِ، وَهُوَ الْكَشْفُ وَالْإِظْهَارُ؛ وَالْبَيِّنَةُ فِي الشَّرْعِ تُظْهِرُ صِدْقَ الْمُدَّعِي وَتَكْشِفُ الْحَقَّ. وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ تُرِكَ النَّاسُ وَدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالَهُمْ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ "؛ وَفِي رِوَايَةٍ: " وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَيُرْوَى «أَنَّ حَضْرَمِيًّا وَكِنْدِيًّا اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ، فَقَالَ لِلْمُدَّعِي: " أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا، فَقَالَ: " لَكَ يَمِينُهُ لَيْسَ غَيْرُ ذَلِكَ» . فَنَبْدَأُ بِمَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ وَنَبْنِي عَلَيْهِ عَامَّةَ مَسَائِلِهِ. قَالَ: (الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ) ، وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يُضِيفُ إِلَى نَفْسِهِ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ بِظَاهِرِ الْيَدِ، فَلَوِ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا فَادَّعَى الْوَفَاءَ أَوِ الْبَرَاءَةَ صَارَ مُدَّعِيًا لِدَعْوَاهُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ، وَهُوَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الشَّغْلِ، وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إِلَّا بِحُجَّةٍ كَالْخَارِجِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ؛ وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يُضِيفُ مَا عِنْدَ غَيْرِهِ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ: مَا يُضِيفُ مَا عِنْدَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَجَمِيعُ الْعِبَارَاتِ مُتَقَارِبَةٌ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَقَّقَ ذَلِكَ وَيُعْرَفَ بِالْمَعْنَى لَا بِالصُّورَةِ، فَإِنَّ الْمُودِعَ إِذَا ادَّعَى إِيصَالَ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ مُدَّعٍ صُورَةً مُنْكِرٌ مَعْنًى حَتَّى لَوْ تَرَكَ لَا يُتْرَكُ، وَالْفَقِيهُ إِذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ وَأَنْعَمَ الْفِكْرَ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ، وَلَا يَصِحُّ الدَّعْوَى إِلَّا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ. اعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى إِذَا صَحَّتْ عِنْدَ الْقَاضِي أَوْجَبَتْ عَلَى الْخَصْمِ الْحُضُورَ إِلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور: 48] ، ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ الْحُضُورِ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ الْإِجَابَةِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ امْرَأَةَ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْتَعْدِي عَلَى زَوْجِهَا، فَأَعْدَاهَا، فَقَالَتْ: أَبَى أَنْ يَجِيءَ، فَأَعْطَاهَا هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهِ فَجَاءَتْ بِهِ» وَلِأَنَّ الْحُكَّامَ يُحْضِرُونَ النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَإِذَا حَضَرَ وَادَّعَى عَلَيْهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ بِلَا أَوْ بِنِعَمٍ حَتَّى لَوْ سَكَتَ كَانَ إِنْكَارًا فَيَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا ذَكَرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا كُلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِحْضَارُهَا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا، وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ذَكَرَ حُدُودَهُ الْأَرْبَعَةَ، وَأَسْمَاءَ أَصْحَابِهَا وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْجَدِّ، وَذَكَرَ الْمَحَلَّةَ وَالْبَلَدَ، ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ، وَإِذَا صَحَّتِ الدَّعْوَى سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِنِ اعْتَرَفَ أَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً قَضَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا يُسْتَحْلَفُ،   [الاختيار لتعليل المختار] دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمُدَّعِي إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَخْرَسَ [شروط الدعوى وحكمها] قَالَ: (وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى بِشَيْءٍ مَعْلُومِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ) لِأَنَّ الدَّعْوَى لِلْإِلْزَامِ، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْمَجْهُولِ لَا تُقْبَلُ. (فَإِنْ كَانَ دَيْنًا ذَكَرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِأَنَّ فَائِدَةَ الدَّعْوَى إِجْبَارُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى إِيفَاءِ حَقِّ الْمُدَّعِي، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ إِلَّا إِذَا طَالَبَهُ بِهِ فَامْتَنَعَ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَصْفِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ. (وَإِنْ كَانَ عَيْنًا كَلَّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِحْضَارَهَا) لِيُشِيرَ إِلَيْهَا بِالدَّعْوَى وَالشُّهُودِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَالْمُنْكِرُ عِنْدَ الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ. (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً ذَكَرَ قِيمَتَهَا) لِأَنَّهُ إِذَا تَعَذَّرَ مُشَاهَدَةُ الْعَيْنِ فَالْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَهَا كَمَا فِي الِاسْتِهْلَاكِ، إِذْ هِيَ الْمَقْصُودُ غَالِبًا، وَيَذْكُرُ فِي الْقِيمَةِ شَيْئًا مُعَيَّنًا فِي قَدْرِهِ وَوَصْفِهِ وَجِنْسِهِ نَفْيًا لِلْجَهَالَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ حَيَوَانًا يَذْكُرُ الذُّكُورَةَ أَوِ الْأُنُوثَةَ. (وَإِنْ كَانَ عَقَارًا ذَكَرَ حُدُودَهُ الْأَرْبَعَةَ وَأَسْمَاءَ أَصْحَابِهَا وَنَسَبَهُمْ إِلَى الْجَدِّ وَذَكَرَ الْمَحَلَّةَ وَالْبَلَدَ) لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يُمْكِنُ إِحْضَارُهُ فَتَعَذَّرَ تَعْرِيفُهُ بِالْإِشَارَةِ فَيُعَرَّفُ بِالْحُدُودِ وَيَبْدَأُ بِذِكْرِ الْبَلْدَةِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ ثُمَّ بِالْمَحَلَّةِ الَّتِي فِيهَا الْعَقَارُ ثُمَّ يُبَيِّنُ الْحُدُودَ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَقَعُ بِذَلِكَ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ أَصْحَابِهَا وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ، وَفِي ذِكْرِ الْجَدِّ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا لَا يُحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ النَّسَبِ لِوُجُودِ التَّعْرِيفِ بِدُونِهِ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الشُّهُودِ ذِكْرُ الْحُدُودِ كَمَا مَرَّ. قَالَ: (ثُمَّ يَذْكُرُ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ لَا يَكُونُ خَصْمًا وَالْحَقُّ لَهُ فَلَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بِطَلَبِهِ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ فِي يَدِهِ رَهْنًا أَوْ مَحْبُوسًا بِالثَّمَنِ، فَإِذَا طَالَبَهُ زَالَ الِاحْتِمَالُ، وَلَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ عِلْمِ الْقَاضِي، وَلَا يَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ، لِأَنَّ الْيَدَ فِيهِ مُشَاهَدَةٌ. قَالَ: (وَإِذَا صَحَّتِ الدَّعْوَى سَأَلَ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) لِيَنْكَشِفَ وَجْهُ الْحُكْمِ وَلِوُجُوبِ الْجَوَابِ عَلَيْهِ، (فَإِنِ اعْتَرَفَ أَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً قَضَى عَلَيْهِ) ؛ أَمَّا الِاعْتِرَافُ فَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] أَيْ شَاهِدٌ، وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ فَلِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَيَانِ وَهُوَ الْإِظْهَارُ، فَهِيَ تُظْهِرُ الْحَقَّ وَتَكْشِفُ صِدْقَ الدَّعْوَى فَيَقْضِي بِهَا، وَعَلَى هَذَا إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: (وَإِلَّا يُسْتَحْلَفُ) لِقَوْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 فَإِنْ حَلَفَ انْقَطَعَتِ الْخُصُومَةُ إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ، وَإِنْ نَكَلَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، فَإِنْ قَضَى أَوَّلَ مَا نَكَلَ جَازَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثًا، وَيَثْبُتُ النُّكُولُ بِقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ، وَبِالسُّكُوتِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ خَرَسٌ أَوْ طَرَشٌ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي (ف) ،   [الاختيار لتعليل المختار] - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ " قَالَ: لَا، قَالَ: " فَلَكَ يَمِينُهُ» ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُدَّعِي وَاسْتِحْلَافِهِ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ. (فَإِنْ حَلَفَ انْقَطَعَتِ الْخُصُومَةُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ» فِيمَا رَوَيْنَا مِنَ الْحَدِيثِ. قَالَ: (إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ) فَتُقْبَلُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ تُرَدَّ مِنَ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ» ، وَلِأَنَّ طَلَبَ الْيَمِينِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْبَيِّنَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا غَائِبَةٌ أَوْ حَاضِرَةٌ فِي الْبَلَدِ وَلَمْ يَحْضُرْهَا؛ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ عَنِ الْبَيِّنَةِ، وَإِذَا قُدِرَ عَلَى الْأَصْلِ بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْفِ. قَالَ: (وَإِنْ نَكَلَ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ) لِأَنَّ النُّكُولَ اعْتِرَافٌ وَإِلَّا يَحْلِفُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ، فَكَانَ نُكُولُهُ إِقْرَارًا أَوْ بَدَلًا فَيُقْضَى بِهِ. (فَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ أَوَّلُ مَا نَكَلَ جَازَ) لِأَنَّهُ حُجَّةٌ كَالْإِقْرَارِ. (وَالْأَوْلَى أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثًا) وَيُخْبِرُهُ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ؛ لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ، فَرُبَّمَا يَخْفَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ، فَإِذَا عَرَضَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَأَبَى قَضَى عَلَيْهِ، هَكَذَا فَعَلَهُ أَبُو يُوسُفَ مَعَ وَكِيلِ الْخَلِيفَةِ وَأَلْزَمَهُ بِالْمَالِ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ النُّكُولِ: أَنَا أَحْلِفُ إِنْ كَانَ قَبْلَ الْقَضَاءِ حَلَّفَهُ لِكَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يُحَلِّفْهُ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ أَقَرَّ ثُمَّ قَالَ أَحْلِفُ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ كَذَا هَذَا. (وَيَثْبُتُ النُّكُولُ بِقَوْلِهِ لَا أَحْلِفُ) لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ. (وَبِالسُّكُوتِ) لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ وَإِلَّا يَحْلِفُ. (إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ خَرَسٌ أَوْ طَرَشٌ) فَيُعْذَرُ. قَالَ: (وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» جَعَلَ جِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ وَذَلِكَ يَنْفِي رَدَّهَا عَلَى الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهُ قَسْمٌ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ، فَلَا يَكُونُ لِلْمُدَّعِي يَمِينٌ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا عَدَمُ جَوَازِ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ مَا رَوَيْنَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ لِلْمُدَّعِي يَمِينٌ مُعْتَبَرَةٌ، فَيَبْقَى الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ فَرْدٍ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ الْحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ "؟ قَالَ: لَا، قَالَ: " لَكَ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ غَيْرُ ذَلِكَ» يَنْفِي الْجَوَازَ أَيْضًا لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ. وَمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ» فَمَرْدُودٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُدَّعِي بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَنَقَلَهُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا إِلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، فَالنَّقْلُ إِلَى غَيْرِهِ خِلَافُ الْكِتَابِ، أَوْ نَقُولُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ خِلَافُ الْكِتَابِ. الثَّانِي: أَنَّهُ وَرَدَ فِي حَادِثَةٍ عَامَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ بَيْنَ السَّلَفِ، فَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ، فَلَمَّا لَمْ يَرْتَفِعْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 وَإِنْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ (سم ف) وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا يُلَازِمُهُ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي، وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي النِّكَاحِ (سم) ، وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» مَشْهُورٌ قَرِيبٌ مِنَ التَّوَاتُرِ فَلَا يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْآحَادِ إِذَا وَرَدَ مُعَارِضًا لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ يُرَدُّ. الرَّابِعُ: رَدَّهُ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ. الْخَامِسُ: مَا رُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: الْقَضَاءُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ بِدْعَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: لِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فِي الْمِصْرِ وَطَلَبَ يَمِينَ خَصْمِهِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُسْتَحْلَفُ، لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ فَلَا يَبْطُلُ إِلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا بِالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَاعْتِرَافُهُ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَكُونُ اعْتِرَافًا بِسُقُوطِ الْيَمِينِ، وَلَهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ» ؛ رَتَّبَ الْيَمِينَ عَلَى عَدَمِ الْبَيِّنَةِ فَلَا يَجِبُ مَعَ وُجُودِهَا؛ وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ سَقَطَتِ الْيَمِينُ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أَنَا أَحْلِفُ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ، وَإِذَا كَانَتِ الْيَمِينُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا مَعَ الْبَيِّنَةِ، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِالْبَيِّنَةِ وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِقَامَتِهَا فَقَدِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ لَا يَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ: (وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) وَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إِلَى ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَغِيبُ قَبْلَ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَغِيبُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ فَيَكْفُلُهُ مُدَّةَ إِحْضَارِ الشُّهُودِ عَلَى مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى عِنْدَ الْقَاضِي يُعَدِّيهِ إِحْيَاءً لِلْحُقُوقِ كَذَا هَذَا، وَيَكْتَفِي بِالْكَفِيلِ أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا لِيَحْصُلَ التَّوَثُّقُ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَلِيًّا أَوْ تَاجِرًا، فَإِنِ امْتَنَعَ أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْمُلَازَمَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي. (وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا يُلَازِمُهُ مِقْدَارَ مَجْلِسِ الْقَاضِي) لِأَنَّ مُلَازَمَتَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ تَضُرُّهُ وَتَمْنَعُهُ مِنْ سَفَرِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، بِخِلَافِ الْمُقِيمِ إِذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا إِذَا كَانَ حَقًّا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ؛ أَمَّا الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا، وَقَالَا: يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَفِي السَّرِقَةِ إِنِ ادَّعَى الْمَالَ. قَالَ: (وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ وَالِاسْتِيلَادِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْحُدُودِ) ، وَقَالَا: يُسْتَحْلَفُ فِيهَا إِلَّا الْحُدُودَ وَاللَّعَانَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عِنْدَهُ، وَالْبَذْلُ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِقْرَارٌ عِنْدَهُمَا، وَالْإِقْرَارُ يَجْرِي فِيهَا. لَهُمَا أَنَّ النَّاكِلَ مُمْتَنِعٌ عَنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ظَاهِرًا، فَيَصِيرُ مُعْتَرِفًا بِالْمُدَّعَى دَلَالَةً، إِلَّا أَنَّهُ إِقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَاللِّعَانُ فِي مَعْنَى الْحُدُودِ. وَلَهُ أَنَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وَيُسْتَحْلَفُ فِي الْقِصَاصِ، فَإِنْ نَكَلَ اقْتُصَّ مِنْهُ (سم) فِي الْأَطْرَافِ، وَفِي النُّفُوسِ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ (سم) أَوْ يُقِرَّ، وَإِنِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اسْتُحْلِفَ، فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَالْيَمِينِ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ، وَتُغَلَّظُ بِأَوْصَافِهِ إِنْ شَاءَ الْقَاضِي،   [الاختيار لتعليل المختار] لَوِ اعْتَبَرْنَاهُ إِقْرَارًا يَكُونُ كَاذِبًا فِي إِنْكَارِهِ وَالْكَذِبُ حَرَامٌ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ بَذْلًا وَإِبَاحَةً لَا يَكُونُ كَاذِبًا فَيُجْعَلُ بَاذِلًا صِيَانَةً لَهُ عَنِ الْحَرَامِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِحْلَافِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ لَا يُقْضَى فِيهِ بِالنُّكُولِ لَا يُسْتَحْلَفُ، وَيُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ إِنِ ادَّعَى الْمَالَ فَيُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمَالُ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمَّنَهُ الْمَالَ لِثُبُوتِهِ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَلَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ، وَدَعْوَى الِاسْتِيلَادِ أَنْ تَدَّعِيَ الْأَمَةُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِ سَيِّدِهَا، وَهَذَا ابْنُهَا مِنْهُ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ، أَمَّا لَوِ ادَّعَى الْمَوْلَى لَا يَلْتَفِتُ إِلَى إِنْكَارِهَا؛ لَأَنَّ الِاسْتِيلَادَ وَالنَّسَبَ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ. وَاخْتَارَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا لِعُمُومِ الْبَلْوَى، ثُمَّ عِنْدَهُمَا كُلُّ نَسَبٍ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ كَالْبُنُوَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّةِ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ نَسَبٍ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِدَعْوَى الْمَالِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ لَا يُسْتَحْلَفُ إِلَّا إِذَا ادَّعَى بِسَبَبِهِ مَالًا أَوْ حَقًّا كَدَعْوَى الْإِرْثِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَنَحْوِهِ. قَالَ: (وَيُسْتَحْلَفُ فِي الْقِصَاصِ) بِالْإِجْمَاعِ. (فَإِنْ نَكَلَ اقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْأَطْرَافِ، وَفِي النُّفُوسِ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ) ، وَقَالَا: يَلْزَمُهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا، لِأَنَّ النُّكُولَ إِقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ، فَيَجِبُ الْمَالُ سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْعَمْدَ وَالْآخَرُ الْخَطَأَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَطْرَافَ تَجْرِي مَجْرَى الْأَمْوَالِ فَيَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ حَتَّى لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهَذَا دَلِيلُ الْبَذْلِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ الْقَطْعُ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِيهِ، وَالْبَذْلُ هَنَا مُفِيدٌ لِانْقِطَاعِ الْخُصُومَةِ، وَلَا كَذَلِكَ النَّفْسُ فَلَا يَجْرِي فِيهَا الْبَذْلُ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ وَالْيَمِينُ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ يُحْبَسُ بِهَا كَمَا فِي الْقَسَامَةِ. قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَتْ عَلَيْهِ طَلَاقًا قَبْلَ الدُّخُولِ اسْتُحْلِفَ) لِأَنَّهُ دَعْوَى مَالٍ. (فَإِنْ نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ) لِمَا مَرَّ، وَكَذَا إِذَا ادَّعَتِ الصَّدَاقَ فِي النِّكَاحِ يُسْتَحْلَفُ؛ لِأَنَّهَا دَعْوَى مَالٍ، وَيَثْبُتُ الْمَالُ بِالنُّكُولِ دُونَ النِّكَاحِ وَقَدْ مَرَّ. (وَالْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى لَا غَيْرُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَذَرَ» . (وَتُغَلَّظُ بِأَوْصَافِهِ إِنْ شَاءَ الْقَاضِي) ، وَقِيلَ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْحَالِفِ وَصَلَاحِهِ وَخَوْفِهِ وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقِيلَ يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعِظَ الْحَالِفَ قَبْلَ الْحَلِفِ، وَيُعَظِّمَ عِنْدَهُ حُرْمَةَ الْيَمِينِ، وَيَتْلُوَ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ، وَيَذْكُرُ لَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وَيُحْتَاطُ مِنَ التَّكْرَارِ، وَلَا تُغَلَّظُ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ، وَيُسْتَحْلَفُ الْيَهُودِيُّ بِاللَّهِ الَذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالنَّصْرَانِيُّ بِاللَّهِ الَذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَالْمَجُوسِيُّ بِاللَّهِ الَذِي خَلَقَ النَّارَ، وَالْوَثَنِيُّ بِاللَّهِ، وَلَا يُحَلَّفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَاتِهِمْ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَتَغْلِيظُ الْيَمِينِ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الطَّالِبِ الْغَالِبِ، الْمُدْرِكِ الْمُهْلِكِ، الَّذِي يَعْلَمُ مِنَ السِّرَّ مَا يَعْلَمُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ، الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ مَا يَشَاءُ وَيُنْقِصُ. (وَيَحْتَاطُ مِنَ التَّكْرَارِ) بِإِدْخَالِ الْحُرُوفِ الْعَاطِفَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ. (وَلَا تُغَلَّظُ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَانٍ) لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمُقْسَمِ بِهِ حَاصِلٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ لِلْحَدِيثِ. وَقِيلَ يَحْلِفُ فِي زَمَانِنَا لِقِلَّةِ مُبَالَاةِ النَّاسِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَكَثْرَةِ إِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَرَاهَتِهِمُ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ امْتِنَاعُهُمْ عَنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَجُحُودِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ فِيمَا يُعَظِّمُونَهُ أَكْثَرُ. قَالَ: (وَيُسْتَحْلَفُ الْيَهُودِيُّ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالنَّصْرَانِيُّ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَالْمَجُوسِيُّ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ) ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّفَ ابْنَ صُورِيَّا الْيَهُودِيَّ عَلَى حُكْمِ الزِّنَا فِي التَّوْرَاةِ فَقَالَ لَهُ: " أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى» ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الْيَهُودِيِّ فَالنَّصْرَانِيُّ مِثْلُهُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَالْمَجُوسِيُّ فِي النَّارِ، لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ يُعَظِّمُ الْإِنْجِيلَ، وَالْمَجُوسِيَّ يُعَظِّمُ النَّارَ كَتَعْظِيمِ الْيَهُودِيِّ التَّوْرَاةَ، فَيُحَلِّفُهُمْ بِمَا يَكُونُ أَعْظَمُ فِي صُدُورِهِمْ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْمَجُوسِيِّ قَوْلُ مُحَمَّدٍ. أَمَّا عِنْدَهُمَا يَحْلِفُ بِاللَّهِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ التَّغْلِيظَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ النَّارِ مَعَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْظِيمٌ لَهَا، وَلَا يَجُوزُ، إِلَّا أَنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ وَرَدَ فِيهِمَا نَصٌّ خَاصٌّ، وَلِأَنَّ كُتُبَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَظَّمَةٌ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَحَدٌ إِلَّا بِاللَّهِ خَالِصًا. (وَ) يَحْلِفُ. (الْوَثَنِيُّ بِاللَّهِ) لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اللَّهَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وَلَا يُسْتَحْلَفُ بِاللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْوَثَنَ وَالصَّنَمَ لِمَا مَرَّ، وَلَوِ اقْتَصَرَ فِي الْكُلِّ عَلَى قَوْلِهِ بِاللَّهِ فَهُوَ كَافٍ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لِلتَّأْكِيدِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمُسْلِمِ، وَإِنَّمَا يُغَلَّظُ لِيَكُونَ أَعْظَمَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَلَا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ. قَالَ: (وَلَا يُحَلَّفُونَ فِي بُيُوتِ عِبَادَاتِهِمْ) لِأَنَّ الْغَرَضَ الْيَمِينُ بِاللَّهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهَا وَلَا يَجُوزُ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ دُخُولِهَا. وَيُسْتَحْلَفُ الْأَخْرَسُ فَيَقُولُ لَهُ الْقَاضِي: عَلَيْكَ عَهْدُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لِهَذَا عَلَيْكَ هَذَا الْحَقُّ، وَيُشِيرُ الْأَخْرَسُ بِرَأْسِهِ: أَيْ نَعَمْ. ثُمَّ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى نَوْعَيْنِ: عَلَى الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ؛ فَالْعُقُودُ الشَّرْعِيَّةُ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 فَيُحَلِّفُهُ فِي الْبَيْعِ بِاللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيمَا ذُكِرَ، وَفِي النِّكَاحِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ، وَفِي الطَّلَاقِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْكَ السَّاعَةَ، وَفِي الْوَدِيعَةِ مَا لَهُ هَذَا الَذِي ادَّعَاهُ فِي يَدِكَ وَدِيَعَةٌ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، وَلَا لَهُ قِبَلَكَ حَقٌّ،   [الاختيار لتعليل المختار] يُحَلِّفُهُ الْقَاضِي عَلَى الْحَاصِلِ بِاللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَكَ مَا ادَّعَى مِنَ الْحَقِّ، وَلَا يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ الْعَقْدُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ رُبَّمَا انْفَسَخَ بِالتَّفَاسُخِ أَوْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ مُوجِبِهِ بِالْإِبْرَاءِ وَالْإِيفَاءِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنْ حَلَفَ كَذَبَ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ، وَلَا كَذَلِكَ إِذَا حَلَّفَهُ عَلَى الْحَاصِلِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُحِقًّا أَمْكَنَهُ الْحَلِفُ فَلَا يَتَضَرَّرُ، وَقِيلَ إِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ السَّبَبَ حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْحُكْمَ حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ تَرْكُ النَّظَرِ لِلْمُدَّعِي بِأَنْ يَدَّعِيَ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ أَوْ نَفَقَةِ الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَرَاهَا، فَحِينَئِذٍ يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْحَاصِلِ فَهُوَ يَعْتَقِدُ صِدْقَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْمُدَّعِي، فَيُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي سَمَّاهَا بِكَذَا، وَفِي الْمَبْتُوتَةِ بِاللَّهِ مَا هِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْكَ، وَمِثْلُهُ إِذَا ادَّعَتِ الْفُرْقَةَ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ يُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا آلَى مِنْهَا فِي وَقْتِ كَذَا وَلَا يُحَلِّفُهُ بِاللَّهِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُحَلِّفُهُ عَلَى الْعَقْدِ إِلَّا إِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فَيُحَلِّفُهُ عَلَى الْحَاصِلِ. وَالْأَفْعَالُ الْحِسِّيَّةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْحَاصِلِ أَيْضًا كَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ. وَالثَّانِي يُحَلِّفُهُ عَلَى السَّبَبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (فَيُحَلِّفُهُ فِي الْبَيْعِ بِاللَّهِ مَا بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ فِيمَا ذَكَرَ، وَفِي النِّكَاحِ مَا بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ فِي الْحَالِ) لِأَنَّهُ قَدْ يُطَلِّقُهَا أَوْ يُخَالِعُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ. (وَفِي الطَّلَاقِ مَا هِيَ بَائِنٌ مِنْكَ السَّاعَةَ، وَفِي الْوَدِيعَةِ مَا لَهُ هَذَا الَّذِي ادَّعَاهُ فِي يَدِكَ وَدِيعَةً وَلَا شَيْءَ مِنْهُ، وَلَا لَهُ قِبَلَكَ حَقٌّ) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَرِئَ مِنْ بَعْضِهَا أَوِ اسْتَهْلَكَهَا، وَفِي الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ إِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَائِمَةً بِاللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْكَ رَدُّهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَغْصِبُهُ ثُمَّ يُمَلِّكُهُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً يُسْتَحْلَفُ عَلَى قِيمَتِهَا، وَقِيلَ يَحْلِفُ عَلَى الثَّوْبِ وَالْقِيمَةِ جَمِيعًا. وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ وَضَعَ عَلَى حَائِطِهِ خَشَبَةً، أَوْ بَنَى عَلَيْهِ، أَوْ أَجْرَى مِيزَابًا عَلَى سَطْحِهِ أَوْ فِي دَارِهِ، أَوْ رَمَى تُرَابًا فِي أَرْضِهِ، أَوْ شَقَّ فِي أَرْضِهِ نَهْرًا، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى السَّبَبِ بِاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَا تَرْتَفِعُ، وَمِثْلُهُ إِذَا ادَّعَى الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ عَلَى مَوْلَاهُ الْعِتْقَ يَحْلِفُ عَلَى السَّيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ، وَفِي الْأَمَةِ وَالْعَبْدِ الْكَافِرِ يُحَلِّفُهُ عَلَى الْحَاصِلُ، لِأَنَّ الرِّقَّ يَتَكَرَّرُ عَلَى الْأَمَةِ بِالرِّدَّةِ وَاللَّحَاقِ، وَعَلَى الْعَبْدِ الْكَافِرِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَاللَّحَاقِ وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ، وَيُحَلِّفُهُ فِي الدَّيْنِ بِاللَّهِ مَا لَهُ عَلَيْكَ مِنَ الدَّيْنِ وَالْقَرْضِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَدَّى الْبَعْضَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ، أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي، أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ أَوْ أَعَارَنِي أَوْ آجَرَنِي وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَالًا، وَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ لَمْ تَنْدَفِعِ الْخُصُومَةُ. فَصْلٌ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَمَنِ افْتَدَى يَمِينَهُ مِنْ خَصْمِهِ بِمَالٍ صَالَحَهُ عَلَيْهِ جَازَ وَسَقَطَ حَقُّهُ فِي الِاسْتِحْلَافِ أَصْلًا. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - افْتَدَى يَمِينَهُ وَقَالَ: أَخَافُ أَنْ يُصِيبَ النَّاسَ بَلَاءٌ فَيَقُولُونَ هَذَا بِيَمِينِ عُثْمَانَ. قَالَ: (وَإِذَا قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ الْغَائِبُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدِي أَوْ غَصَبْتُهُ مِنْهُ أَوْ أَعَارَنِي أَوْ آجَرَنِي وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَالًا) وَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى دَعْوَاهُ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهِ فِي يَدِهِ هُوَ خَصْمٌ ثُمَّ هُوَ بِإِقْرَارِهِ يُرِيدُ دَفْعَ الْخُصُومَةِ عَنْهُ فَلَا تُقْبَلُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَالًا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعْرُوفًا بِالصَّلَاحِ فَالْجَوَابُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَا يَنْدَفِعُ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ قَدْ يَدْفَعُ مَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْغَيْرُ يُودِعُهُ إِيَّاهُ، وَيُسَافِرُ احْتِيَالًا لِدَفْعِ الْحَقِّ، فَإِذَا عَرَفَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَا يَقْبَلُهُ. (وَإِذَا قَالَ الشُّهُودُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ لَمْ تَنْدَفِعِ الْخُصُومَةُ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ الْمُدَّعِي وَلَوْ قَالُوا نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ انْدَفَعَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تَنْدَفِعُ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْمَجْهُولِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ فَيَتَضَرَّرُ، وَصَارَ كَالْفَصْلِ الْأَوَّلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْيَدَ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَتُوجِبُ الْخُصُومَةَ، فَإِنْ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَوْنَهُ مُودَعًا انْدَفَعَتِ الْخُصُومَةُ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْرِفُوهُ بِوَجْهِهِ احْتَمَلَ أَنَّهُ الْمُدَّعِي فَلَا تَنْدَفِعُ، وَإِذَا عَرَفُوهُ بِوَجْهِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ مُودَعٌ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعِي فَانْدَفَعَتِ الْخُصُومَةُ، كَمَا إِذَا عَايَنَ الْقَاضِي أَنَّهُ أَوْدَعَهُ غَيْرُ الْمُدَّعِي، إِذِ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ كَمُعَايَنَةِ الْقَاضِي، فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي أُودِعُهَا ثُمَّ أُوهَبُهَا مِنْكَ وَنَكَرَ يَسْتَحْلِفُهُ الْقَاضِي أَنَّهُ مَا وَهَبَهَا مِنْهُ وَلَا بَاعَهَا لَهُ، فَإِنْ نَكَلَ صَارَ خَصْمًا، وَلَوِ ادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ آخَرَ فَهُوَ خَصْمُهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ فَكَانَ خَصْمًا، وَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نِصْفُ الدَّارِ لِي وَنِصْفُهَا وَدِيعَةُ فُلَانٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ انْدَفَعَتِ الْخُصُومَةُ فِي الْكُلِّ لِتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ. [فصل بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ] ِ) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ، وَذُو الْيَدِ عَلَى مِلْكٍ أَسْبَقَ مِنْهُ تَأْرِيخًا فَذُو الْيَدِ أَوْلَى، وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ أَوْ عَلَى نَسْجِ ثَوْبٍ لَا يَتَكَرَّرُ نَسْجُهُ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنَ الْآخَرِ وَلَا تَارِيخَ لَهُمَا تَهَاتَرَتَا، إِنِ ادَّعَيَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ لَمْ يُقْضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا،   [الاختيار لتعليل المختار] لِلْخَارِجِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ بِالْيَدِ، وَإِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ إِثْبَاتًا كَانَتْ أَقْوَى. قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُؤَرَّخٍ، وَذُو الْيَدِ عَلَى مِلْكٍ أَسْبَقَ مِنْهُ تَأْرِيخًا فَذُو الْيَدِ أَوْلَى) لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ وَقْتَ التَّأْرِيخِ، وَالْخَارِجُ لَا يَدَّعِيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْهُ؛ إِذِ الْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ دَوَامُهُ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ فِي أَيْدِيهِمَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ أَوْ عَلَى نَسْجِ ثَوْبٍ لَا يَتَكَرَّرُ نَسْجُهُ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى) لِأَنَّ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْيَدُ فَتَعَارَضَتَا فَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ، وَكَذَا كُلُّ سَبَبٍ لَا يَتَكَرَّرُ كَغَزْلِ الْقُطْنِ وَعَمَلِ الْجُبْنِ وَاللُّبَدِ وَجَزِّ الصُّوفِ وَحَلْبِ اللَّبَنِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّتَاجُ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ كَالْبِنَاءِ وَزَرْعِ الْحُبُوبِ وَنَسْجِ الْخَزِّ وَنَحْوِهِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَإِنْ أَشْكَلَ قَضَى لِلْخَارِجِ، وَإِنْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ وَأَرَّخَا سِنَّ الدَّابَّةِ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ أُشْكِلَ فَهِيَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَإِنْ خَالَفَ سِنَّ الدَّابَّةِ التَّارِيخَيْنِ تَهَاتَرَتَا وَتُرِكَتْ فِي يَدِ مَنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ. قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنَ الْآخَرِ وَلَا تَارِيخَ لَهُمَا تَهَاتَرَتَا) . قَالَ مُحَمَّدٌ: يَقْضِي لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِأَنْ بَاعَهُ الْخَارِجُ وَقَبَضَ ثُمَّ بَاعَهُ ذُو الْيَدِ وَلَمْ يَقْبِضْ، وَلَا يَنْعَكِسْ لِعَدَمِ جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ عَقَارًا عِنْدَهُ، وَالْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ مِنَ الدَّلَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَإِنْ ذَكَرَتِ الْبَيِّنَتَانِ الْقَبْضَ عُمِلَ بِهِمَا وَيَكُونُ لِذِي الْيَدِ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَاعَ مِنَ الْخَارِجِ وَقَبَضَهَا الْخَارِجُ، ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَقَبَضَهَا ذُو الْيَدِ عَمَلًا بِالْبَيِّنَتَيْنِ. وَلَهُمَا أَنَّ شِرَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِ اعْتِرَافٌ بِكَوْنِ الْمِلْكِ لَهُ، فَكَأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى الِاعْتِرَافَيْنِ وَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلتَّهَاتُرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ بَائِعًا وَمُشْتَرِيًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى السَّبْقِ وَلَا تَرْجِيحَ فَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ أَصْلًا، ثُمَّ هَذَا شَيْءٌ بَنَاهُ عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ اشْتَرَاهُ أَوَّلًا ثُمَّ بَاعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِذِي الْيَدِ فَيَكُونُ لِذِي الْيَدِ، وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَإِنْ وَقَّتَا، فَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَوَّلًا قَضَى بِهِمَا وَيَكُونُ لِذِي الْيَدِ، وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ أَوَّلًا قَضَى بِهِمَا أَيْضًا وَالْمِلْكُ لِلْخَارِجِ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَيَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ لَمْ يَقْضِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا) لِتَعَذُّرِ الِاشْتِرَاكِ فِي النِّكَاحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 وَإِنْ وَقَّتَا فَهِيَ لِلْأَوَّلِ، وَإِنِ ادَّعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا، وَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ شَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، فَإِنْ تَرَكَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَخْذُ جَمِيعِهِ، وَإِنْ وَقَّتَا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ وَقَّتَ أَحَدُهُمَا أَوْ كَانَ مَعَهُ قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا أَوْ صَدَقَةً وَقَبْضًا وَلَا تَارِيخَ لَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى، وَإِنِ ادَّعَى الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ، أَوْ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنِ اثْنَيْنِ فَأَوَّلُهُمَا أَوْلَى، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ لَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَيَرْجِعُ إِلَى تَصْدِيقِهَا، فَمَنْ صَدَّقَتْهُ كَانَ زَوْجَهَا، لِأَنَّ النِّكَاحَ يُثْبُتُ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ. (وَإِنْ وَقَّتَا فَهِيَ لِلْأَوَّلِ) مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ فَتَرَجَّحَتْ عَلَى الثَّانِيَةِ. قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَيَا عَيْنًا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ. (وَإِنِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشِّرَاءَ مِنْ صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ شَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخَذَ نِصْفَ الْعَبْدِ) بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ. (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ) لِوُجُودِ الْعَيْبِ بِالشَّرِكَةِ. (فَإِنْ تَرَكَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَخْذُ جَمِيعِهِ) لِأَنَّ بَيْعَ الْكُلِّ انْفَسَخَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالنِّصْفِ حَتَّى لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ بَيْعُهُ فِي الْكُلِّ. (وَإِنْ وَقَّتَا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَإِنْ وَقَّتَ أَحَدُهُمَا أَوْ كَانَ مَعَهُ قَبْضٌ فَهُوَ أَوْلَى) أَمَّا الْوَقْتُ فَلِأَنَّهُ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِيهِ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي مِلْكِ الْآخَرِ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَأَمَّا الْقَبْضُ فَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّانِيَةُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ دَلِيلُ تَقَدُّمِ شِرَائِهِ فَكَانَ أَوْلَى. قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا شِرَاءً، وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا، أَوْ صَدَقَةً وَقَبْضًا وَلَا تَارِيخَ لَهُمَا فَالشِّرَاءُ أَوْلَى) لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ تَفْتَقِرُ إِلَى الْقَبْضِ فَكَانَ أَسْرَعَ ثُبُوتًا فَكَانَ أَوْلَى، وَإِنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْعًا وَالْآخَرُ رَهْنًا فَالْبَيْعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ حَقِيقَةً فِي الْحَالِ، وَالرَّهْنُ إِنَّمَا يُثْبِتُهُ عِنْدَ الْهَلَاكِ تَقْدِيرًا، وَكَذَا الْهِبَةُ بِعِوَضٍ أَوْلَى مِنَ الرَّهْنِ لِمَا بَيَّنَّا. (وَإِنِ ادَّعَى الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ فَهُمَا سَوَاءٌ) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَا مُعَاوَضَةٍ يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ، ثُمَّ تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الشِّرَاءُ أَوْلَى، وَعَلَى الزَّوْجِ الْقِيمَةُ عَمَلًا بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَقْدِيمِ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ جَائِزٌ، ثُمَّ تُرَدُّ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ. قَالَ: (وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ، أَوْ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ وَاحِدٍ أَوْ مِنَ اثْنَيْنِ) غَيْرِ ذِي الْيَدِ. (فَأَوَّلُهُمَا أَوْلَى، وَإِنْ أَرَّخَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ لَهُ) وَقَدْ مَرَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 وَإِنْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا أَوْ لَهُ عَلَيْهَا حِمْلٌ فَهُوَ أَوْلَى (ف) وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ رَاكِبًا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرُ رَدِيفُهُ أَوْ لَابِسَ الْقَمِيصِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ وَالنَّسْجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ مُطْلَقِ الْمِلْكِ، وَالْبَيِّنَةُ بِشَاهِدَيْنِ وَثَلَاثَةٍ (ف) وَأَكْثَرَ سَوَاءٌ. فَصْلٌ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِنْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا أَوْ لَهُ عَلَيْهَا حِمْلٌ فَهُوَ أَوْلَى) لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ أَظْهَرُ وَأَدَلُّ عَلَى الْمِلْكِ. (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ رَاكِبًا فِي السَّرْجِ وَالْآخَرُ رَدِيفُهُ، أَوْ لَابِسَ الْقَمِيصِ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ) لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَا رَاكِبَيْنِ فِي السَّرْجِ فَهِيَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا. سَفِينَةٌ فِيهَا رَاكِبٌ، وَالْآخَرُ مُتَمَسِّكٌ بِسُكَّانِهَا وَآخَرُ يُجَدِّفُ فِيهَا، وَآخَرُ يَمُدُّهَا، فَهِيَ بَيْنَهُمْ إِلَّا الْمَدَّادَ لَا شَيْءَ لَهُ. عَبْدٌ لِرَجُلٍ مُوسِرٍ عَلَى عُنُقِهِ بَدْرَةٌ فِيهَا عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فِي دَارِ رَجُلٍ مُعْسِرٍ لَا شَيْءَ لَهُ، فَادَّعَيَا الْبَدْرَةَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: هِيَ لِلْمُوسِرِ بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: قِطَارُ إِبِلٍ عَلَى الْبَعِيرِ الْأَوَّلِ رَاكِبٌ، وَعَلَى الْوَسَطِ رَاكِبٌ، وَعَلَى آَخِرِهَا رَاكِبٌ، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقِطَارَ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ الْبَعِيرُ الَّذِي هُوَ رَاكِبُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَتَصَرُّفِهِ، وَمَا بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَوْسَطِ لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ قَائِدٌ وَالْقِيَادَةُ تَصَرُّفٌ، وَمَا بَيْنَ الْأَوْسَطِ وَالْأَخِيرِ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَوْسَطِ نِصْفَانِ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ لِلْأَخِيرِ إِلَّا مَا رَكِبَهُ. (وَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ وَالنَّسْجِ) أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ مُطْلَقِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ فَلَا تَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِالتَّلَقِّي مِنْهُ. قَالَ: (وَالْبَيِّنَةُ بِشَاهِدَيْنِ وَبِثَلَاثٍ وَأَكْثَرَ سَوَاءٌ) لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْكُلَّ سَوَاءً فِي إِثْبَاتِ الْحَقِّ وَإِلْزَامِ الْقَاضِي الْحُكْمَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَيَسْتَوِيَانِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَكَذَا إِذَا كَانَتْ إِحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَعْدَلَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ أَصْلُ الْعَدَالَةِ وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا زَادَ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ لَهُ. [فصل اخْتِلَافُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي في الثمن أو المبيع] فَصْلٌ (اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمَبِيعِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَهُوَ أَوْلَى) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعٍ، وَقَدْ تَرَجَّحَتْ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ. (وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْمُثْبِتَةُ لِلزِّيَادَةِ أَوْلَى) لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ لِلْإِثْبَاتِ، فَمَهْمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ يُقَالُ لِلْبَائِعِ: إِمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ؛ وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي: إِمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ، فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا يَتَحَالَفَانِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُقَايَضَةً بَدَأَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ؛ وَمَنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] كَانَتْ أَكْثَرَ إِثْبَاتًا كَانَتْ أَقْوَى فَتَتَرَجَّحُ عَلَى الْأُخْرَى، وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَالْبَيْعِ جَمِيعًا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا، وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا. (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ يُقَالُ لِلْبَائِعِ: إِمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنَ الْمَبِيعِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ؛ وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي: إِمَّا أَنْ تُسَلِّمَ مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ مِنَ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخْنَا الْبَيْعَ) لِأَنَّهُمَا قَدْ لَا يَخْتَارَانِ الْفَسْخَ، فَإِذَا عَلِمَا بِذَلِكَ تَرَاضَيَا، فَتَرْتَفِعُ الْمُنَازَعَةُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ. (فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا يَتَحَالَفَانِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ) وَيُحَلِّفُ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاللَّهِ مَا بَاعَهُ بِأَلْفٍ كَمَا يَدَّعِيهِ الْمُشْتَرِي، وَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاللَّهِ مَا اشْتَرَاهُ بِأَلْفَيْنِ كَمَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ، فَإِذَا تَحَالَفَا قَالَ لَهُمَا الْقَاضِي: مَا تُرِيدَانِ؟ فَإِنْ لَمْ يَطْلُبَا الْفَسْخَ تَرَكَهُمَا حَتَّى يَصْطَلِحَا عَلَى شَيْءٍ، وَإِنْ طَلَبَا الْفَسْخَ أَوْ أَحَدُهُمَا فَسَخَ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنِ الثَّمَنُ وَلَا الْمَبِيعُ صَارَ مَجْهُولًا فَيُفْسَخُ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، وَلَا يَنْفَسِخُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ حَتَّى يَتَفَاسَخَا أَوْ يَفْسَخَ الْقَاضِي. قَالَ: (وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا قَالَهُ الْبَائِعُ» ، وَأَقَلُّ فَائِدَتِهِ تَقْدِيمُ قَوْلِهِ. وَقَوْلُهُ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي، لِأَنَّ الْبَائِعَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ أَوَّلًا وَهُوَ يُنْكِرُ، وَهُوَ لَا يُطَالِبُ الْبَائِعَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِلْحَالِ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ مُقَايَضَةً) أَوْ صَرْفًا. (بَدَأَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِنْكَارِ؛ وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا يُبْدَأُ بِيَمِينِ مَنْ بَدَأَ الدَّعْوَى؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِنْكَارِ فَيَتَرَجَّحُ بِالْبِدَايَةِ وَإِنِ ادَّعَيَا مَعًا يَبْدَأُ الْقَاضِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا؛ وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْعَقْدِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا بَيْعٌ، وَقَالَ الْآخَرُ هِبَةٌ، أَوْ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ، وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الثَّمَنِ وَجِنْسَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِجِنْسِهِ وَوَصْفِهِ، وَلَا وُجُودَ لَهُ بِدُونِهِمَا، وَلَا كَذَلِكَ الْأَجَلُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَصْفٍ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّهِ، وَقَالَا: لَا يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّ نَصَّ التَّحَالُفِ وَرَدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِهِ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَبِيعِ أَوِ الثَّمَنِ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ. قَالَ: (وَمَنْ نَكَلَ عَنِ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ فِي الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ. قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ أَوْ شَرْطِ الْخِيَارِ، أَوِ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ لَمْ يَتَحَالَفَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي، وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ لَمْ يَتَحَالَفَا إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِتَرْكِ حِصَّةِ الْهَالِكِ،   [الاختيار لتعليل المختار] : (وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ أَوْ شَرْطِ الْخِيَارِ، أَوِ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا) لِأَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَخْتَلُّ بِعَدَمِهِ، بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقَدْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْعَقْدِ بِدُونِهِ. (وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الشَّرْطَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. قَالَ: (وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ لَمْ يَتَحَالَفَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. (وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَحَالَفَانِ وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ عَلَى قِيمَةِ الْهَالِكِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا خَرَجَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي أَوْ صَارَ بِحَالٍ يَمْنَعُ الْفَسْخَ بِأَنِ ازْدَادَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً أَوْ مُنْفَصِلَةً. لِمُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا غَيْرَ مَا يَدَّعِيهِ الْآخَرُ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَيَتَحَالَفَانِ كَمَا إِذَا كَانَتْ قَائِمَةً؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْنِ عِنْدَ عَدَمِهَا. وَلَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُنْكِرِ حَقِيقَةً بِالنَّصِّ وَالْبَائِعُ لَيْسَ بِمُنْكِرٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَيْسَ بِمُدَّعٍ؛ لِأَنَّ السِّلْعَةَ سُلِّمَتْ لَهُ مِلْكًا وَيَدًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْبَائِعُ مُنْكِرًا لَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ لِفَائِدَةِ الْفَسْخِ، وَلَا فَسْخَ بَعْدَهَا لِعَدَمِ بَقَاءِ الْعَقْدِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَضَى بِهَا، وَإِنْ أَقَامَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ، وَإِنْ مَاتَا أَوْ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتِ الْوَرَثَةُ فَلَا تَحَالُفَ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مُتَبَايِعَيْنِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُمَا النَّصُّ. قَالَ: (وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِ الْمَبِيعِ لَمْ يَتَحَالَفَا إِلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِتَرْكِ حِصَّةِ الْهَالِكِ) ؛ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَحَالَفَانِ فِي الْحَيِّ وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِيهِ، وَالْقَوْلُ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فِي الْحَيِّ وَقِيمَةُ الْهَالِكِ وَعَلَى هَذَا إِذَا انْتَقَصَ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ. لِمُحَمَّدٍ أَنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ لِمَا مَرَّ، فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَبِيعَ إِذَا كَانَ قَائِمًا يَتَحَالَفَانِ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا لَا يَتَحَالَفَانِ، فَإِذَا هَلَكَ نِصْفُهُ وَبَقِيَ نِصْفُهُ يُعْطَى كُلُّ نِصْفٍ حُكْمَهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّصَّ وَرَدَ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِتَرْكِ حِصَّةِ الْهَالِكِ يَصِيرُ الْهَالِكُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَكَأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَرِدْ إِلَّا عَلَى الْبَاقِي؛ وَمِنَ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: يَأْخُذُ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي دُونَ الزِّيَادَةِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفٍ مَعَ قَوْلِهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَيَحْلِفُ الْمُشْتَرِي بِاللَّهِ مَا اشْتَرَيْتُهُمَا بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ نَكَلَ لَزِمَهُ، وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ مَا بِعْتُهُمَا بِأَلْفٍ، فَإِنْ حَلَفَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْقَائِمِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْهَالِكِ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ، وَيُقَسِّمُ الثَّمَنَ عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمَا يَوْمَ الْقَبْضِ؛ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ يَوْمَ الْقَبْضِ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ زِيَادَةَ السُّقُوطِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْبَدَلِ أَوْ فِي الْمُبْدَلِ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ؛ وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا وَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ؛ وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ يَتَحَالَفَانِ، وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ، وَالْقَوْلُ فِيمَا مَضَى قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ؛ وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ تَحَالَفَا وَعَادَ الْبَيْعُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَهْرِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ، وَإِنْ أَقَامَا فَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى الثَّمَنِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ، وَإِنْ أَقَامَا فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ. قَالَ: (وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْإِجَارَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْبَدَلِ أَوْ فِي الْمُبْدَلِ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ نَظِيرُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ فَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأُجْرَةِ بُدِئَ بِيَمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَنْفَعَةِ بُدِئَ بِيَمِينِ الْمُؤَجِّرِ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ؛ وَإِنْ أَقَامَا فَبَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَجْرِ فَبَيِّنَةُ الْآجِرِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا قَضَى بِالْبَيِّنَتَيْنِ، كَمَا إِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا شَهْرًا بِعَشَرَةٍ، وَالْآخَرُ شَهْرَيْنِ بِخَمْسَةٍ يَقْضِي بِشَهْرَيْنِ بِعَشْرٍ. (وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا) بِالْإِجْمَاعِ. (وَالْقَوْلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ إِنَّمَا يُفْسَخُ فِي الْهَالِكِ فَيَرُدُّ الْقِيمَةَ، وَالْهَالِكُ هُنَا لَا قِيمَةَ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَسْخِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْعَقْدِ، فَلَوْ تَحَالَفَا وَفُسِخَ الْعَقْدُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا عَقْدَ فَيَرْجِعُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ. (وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ يَتَحَالَفَانِ، وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ فِيهِ بَقِيَ وَالْقَوْلُ فِيهِ مَضَى قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ) ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عِنْدَنَا تَنْعَقِدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَمَا مَضَى صَارَ كَالْهَالِكِ وَمَا بَقِيَ لَمْ يَنْعَقِدْ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ جُمْلَةً وَاحِدَةً. قَالَ: (وَإِنِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ تَحَالَفَا وَعَادَ الْبَيْعُ) وَمَعْنَاهُ: اخْتَلَفَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ أَمَّا إِذَا قَبَضَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَا لَمْ يَتَحَالَفَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ لَا إِشْكَالَ إِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى أَنَّهَا فَسْخٌ، إِلَّا أَنَّا نَقُولُ إِنَّمَا أَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ فِيهَا قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يُوَافِقُهُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ، وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ، فَكَانَ التَّحَالُفُ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ قَبْلَ الْقَبْضِ، فَأَثْبَتْنَا التَّحَالُفَ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْقِيَاسِ لَا بِالنَّصِّ وَلَا كَذَلِكَ بَعْدَ الْقَبْضِ، فَإِنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ يُسَلِّمُ لِلْمُشْتَرِي، فَلَا يَدَّعِي شَيْئًا فَلَا يَكُونُ الْبَائِعُ مُنْكِرًا. قَالَ: (وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَهْرِ فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ، وَإِنْ أَقَامَا فَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إِثْبَاتًا. (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 تَحَالَفَا فَأَيُّهُمَا نَكَلَ قُضِيَ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَحَالَفَا يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا قَالَتْ أَوْ أَكْثَرَ قُضِيَ بِقَوْلِهَا، وَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ أَقَلَّ قُضِيَ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا قَالَتْ وَأَكْثَرَ مِمَّا قَالَ قُضِيَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؛ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَلِلْمَرْأَةِ، وَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَلِلرَّجُلِ وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ، فَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَلِلْبَاقِي،   [الاختيار لتعليل المختار] تَحَالَفَا، فَأَيُّهُمَا نَكَلَ قَضَى عَلَيْهِ وَإِذَا تَحَالَفَا) لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّ أَثَرَ التَّحَالُفِ فِي انْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ بِدَلِيلِ صِحَّتِهِ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى مَا عُرِفَ. لَكِنْ (يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا قَالَتْ أَوْ أَكْثَرَ قَضَى بِقَوْلِهَا) لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا. (وَإِنْ كَانَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ أَقَلَّ قَضَى بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِمَّا قَالَتْ وَأَكْثَرَ مِمَّا قَالَ قَضَى بِمَهْرِ الْمِثْلِ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتِ الزِّيَادَةُ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ نَظَرًا إِلَى يَمِينِهِ، وَلَا الْحَطِيطَةَ مِنْهُ نَظَرًا إِلَى يَمِينِهَا، فَإِذَا سَقَطَتِ التَّسْمِيَةُ بِالتَّحَالُفِ اعْتُبِرَ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَا إِذَا لَمْ تُوجَدِ التَّسْمِيَةُ حَقِيقَةً، وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الزَّوْجِ كَمَا فِي الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ؛ وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ بِحُكْمِ مُتْعَةِ مِثْلِهَا وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِهِمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ، إِلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ يُكَذِّبُهُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ مَا لَا يَصِحُّ مَهْرًا لَهَا، وَقِيلَ مَا دُونُ الْعَشَرَةِ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ. وَلَهُمَا أَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ مَهْرُ الْمِثْلِ نَظَرًا إِلَى الْمُعْتَادِ وَإِلَى إِنْكَارِ الْأَوْلِيَاءِ وَتَعْبِيرِهِمْ بِدُونِ ذَلِكَ، وَالْقَوْلُ فِي الدَّعْوَى قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ فَيُصَارُ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ) كَالْمِقْنَعَةِ وَالدُّولَابِ وَأَشْبَاهِهِ. (فَلِلْمَرْأَةِ) بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ. (وَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ) كَالْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَنَحْوِهِ. (فَلِلرَّجُلِ) وَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا كَالْأَوَانِي وَالْبُسُطِ وَنَحْوِهَا فَلِلرَّجُلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْبَيْتَ فِي يَدِ الرَّجُلِ، فَكَانَتِ الْيَدُ شَاهِدَةً بِالْمِلْكِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْيَدِ لَا أَنَّهُ عَارَضَهُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِهَا. (وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَاخْتَلَفَتْ وَرَثَتُهُ مَعَ الْآخَرِ فَمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَلِلْبَاقِي) ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْحَيِّ لَا لِلْمَيِّتِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا يَصْلُحُ لَهُمَا لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَهُ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَفَا حَالَةَ قِيَامِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَدْفَعُ إِلَى الْمَرْأَةِ مَا يُجَهِّزُ بِهِ مِثْلَهَا وَالْبَاقِي لِلزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا تَأْتِي بِالْجِهَازِ وَهَذَا أَقْوَى مِنْ ظَاهِرِ الزَّوْجِ فَيُبْطِلُهُ، وَمَا وَرَاءَهُ لَا يُعَارِضُ يَدَ الزَّوْجِ فَيَكُونُ لَهُ، وَالطَّلَاقُ وَالْمَوْتُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ تَقُومُ مَقَامَهُ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكًا فَالْكُلُّ لِلْحُرِّ حَالَةَ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ يَدَهُ أَقْوَى، وَلِلْحَيِّ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا. فَصْلٌ وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ فَهُوَ ابْنُهُ وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيُرَدُّ الثَّمَنُ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ لَا مُعَارِضَ لِيَدِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ؛ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا فِي الْخُصُومَاتِ وَغَيْرِهَا. قَالَ: (وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَتَحَالَفَا) ، وَقَالَا: يَتَحَالَفَانِ وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَالْمَوْلَى يَدَّعِي بَدَلًا زَائِدًا وَالْمُكَاتِبُ يُنْكِرُ، وَالْمُكَاتِبُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْعَبْدِ عِنْدَ أَدَاءِ مَا يَدَّعِيهِ مِنَ الْقَدْرِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُهُ فَيَتَحَالَفَانِ كَالْبَيْعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ فِي الْحَالِ بِفَكِّ الْحَجْرِ وَهُوَ سَالِمٌ لِلْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُقَابِلًا لِلْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ، فَكَانَ اخْتِلَافًا فِي قَدْرِ الْبَدَلِ لَا غَيْرُ، فَلَا يَتَحَالَفَانِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ. [فصل بَاعَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ] فَصْلٌ فِي دَعْوَى النَّسَبِ اعْلَمْ أَنَّ الدَّعْوَى ثَلَاثَةٌ: دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ، وَدَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَهِيَ دَعْوَةُ الْمِلْكِ وَدَعْوَةُ شُبْهَةِ الْمِلْكِ؛ فَالْأُولَى أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبَ وَلَدٍ عُلِّقَ فِي مِلْكِهِ يَقِينًا كَمَا إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَيَصِحُّ فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِ الْمِلْكِ كَمَا إِذَا بَاعَهُ، وَيَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ احْتِيَالًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ تَصْحِيحًا لِدَعْوَاهُ، وَيُوجِبُ فَسْخَ مَا جَرَى مِنَ الْعُقُودِ كَبَيْعِهِ أُمَّ الْوَلَدِ إِنْ كَانَ الْوَلَدُ مَحَلًّا لِلنَّسَبِ، وَيُجْعَلُ مُعْتَرِفًا بِالْوَطْءِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَأُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ لَا تَتْبَعُ النَّسَبَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ثُبُوتُ النَّسَبِ لَا أَمُوَمِيَّةُ الْوَلَدِ وَهُوَ تَبَعٌ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُضَافُ إِلَيْهِ فَيُقَالُ أُمُّ وَلَدِهِ، وَتَسْتَفِيدُ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» وَلِهَذَا ثَبَتَتْ لَهُ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَلَهَا حَقُّ الْحُرِّيَّةِ. وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَدَّعِيَ نَسَبَ وَلَدٍ عَلَقَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَيَصِحُّ فِي الْمِلْكِ خَاصَّةً، وَلَا يَجِبُ فَسْخُ الْعَقْدِ وَيُعْتَقُ إِنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فَلَا. وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَدَّعِيَ وَلَدَ جَارِيَةِ وَلَدِهِ، فَيَصِحُّ بِنَاءً عَلَى وِلَايَتِهِ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إِلَى وَقْتِ الدَّعْوَى، شَرْطُ صِحَّةِ هَذِهِ الدَّعْوَى قِيَامُ وِلَايَةِ تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إِلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيلَادِ مُقْتَضًى لِلْوَطْءِ السَّابِقِ، ثُمَّ الْأُولَى أَوْلَى لِأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، وَالثَّانِيَةُ تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ، وَالثَّانِيَةُ أَوْلَى مِنَ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيرَ مَتَى صَحَّ مِنَ الِابْنِ بَطَلَتْ وِلَايَةُ الْأَبِ لِلتَّمْلِيكِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ. جِئْنَا إِلَى مَسَائِلِ الْكِتَابِ. 1 - قَالَ: (وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ فَهُوَ ابْنُهُ وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ وَيُرَدُّ الثَّمَنُ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنَّ دَعْوَاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَةُ الْمُشْتَرِي مَعَهُ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ ثُمَّ ادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِيهَا، فَإِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ ثُمَّ ادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ، وَيُرَدُّ كُلُّ الثَّمَنِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ مَا بَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى سَنَتَيْنِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ النَّسَبُ وَفُسِخَ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ، وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ، وَلَا يُعْتَقُ الْوَلَدُ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] بَاطِلَةٌ لِوُجُودِ التَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ دَلِيلُ عُبُودِيَّةِ الْوَلَدِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ يَقِينًا، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الزِّنَا فَيَكُونُ مِنْهُ، وَمَبْنَى الْعُلُوقِ عَلَى الْخَفَاءِ فَلَا تَنَاقُضَ فَصَحَّتْ دَعَوَاهُ، فَيَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَيَفْسَخُ الْبَيْعَ لِمَا بَيَّنَّا وَيَرُدُّ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى فَسْخِ الْبَيْعِ. (وَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي مَعَهُ) لِسَبْقِهَا؛ لِأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَلَا كَذَلِكَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي. قَالَتْ: (فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ ثُمَّ ادَّعَاهُ) يَعْنِي الْبَائِعَ. لَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ فِيهَا، فَإِنْ مَاتَتِ الْأُمُّ ثُمَّ ادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ تَبَعٌ لِلنَّسَبِ. قَالَ: (وَيَرُدُّ كُلَّ الثَّمَنِ) وَقَالَا: يَرُدُّ حِصَّةَ الْوَلَدِ خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ فِي الْعَقْدِ وَالْغَصْبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوَّمَةٌ فَيَضْمَنُهَا، وَكَذَا لَوِ ادَّعَاهُ بَعْدَ مَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ وَبَعْدَ إِعْتَاقِهَا يَصِحُّ؛ لَأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْأُمِّ لَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي الْوَلَدِ كَوَلَدِ الْمَغْرُورِ الْمُسْتَوْلَدِ بِالنِّكَاحِ، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ؛ وَإِذَا صَحَّتِ الدَّعْوَةُ بَعْدَ إِعْتَاقِهَا ثَبَتَ النَّسَبُ وَفُسِخَ الْعَقْدُ وَرُدَّ الثَّمَنُ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنَّمَا كَانَ إِعْتَاقُ الْوَلَدِ مَانِعًا؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ كَحَقِّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ فَاسْتَوَيَا؛ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ مِنَ الْمُشْتَرِي حَقِيقَةُ الْإِعْتَاقِ، وَالثَّابِتَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الدَّعْوَةِ فِي الْوَلَدِ وَفِي الْأُمِّ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ، فَعَلَى هَذَا لَوِ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي أَوَّلًا لَا يَصِحُّ دَعْوَى الْبَائِعِ بَعْدَهُ؛ لَأَنَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي دَعْوَى تَحْرِيرٍ فَصَارَ كَمَا إِذَا أَعْتَقَهُ، وَالتَّدْبِيرُ كَالْعِتْقِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ. قَالَ: (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ مَا بَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إِلَى سَنَتَيْنِ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِيَ ثَبَتَ النَّسَبُ وَفُسِخَ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا) لِاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يُوجَدِ الْيَقِينُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي، فَإِذَا صَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا فَيَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا إِذَا أَمْكَنَ، وَالْوَلَدُ حُرٌّ وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ كَمَا مَرَّ، وَإِذَا ادَّعَيَاهُ فَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي أَوْلَى لِقِيَامِ مِلْكِهِ وَاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِيهِ. قَالَ: (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ) لِلتَّيَقُّنِ بِعَدَمِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ، لَكِنْ إِذَا صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي ثَبَتَ النَّسَبُ، وَيُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِيلَادِ بِالنِّكَاحِ لِتَصَادُقِهِمَا حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاةِ. (وَلَا يُفْسَخُ الْبَيْعُ وَلَا يُعْتَقُ الْوَلَدُ وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ مُدَّةُ الْوِلَادَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي وَقْتِ الْعُلُوقِ وَتَصِحُّ دَعْوَةُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ فَسْخَ الْبَيْعِ، وَلَا حُجَّةَ لِلْبَائِعِ، وَإِنِ ادَّعَيَاهُ لَا تَصِحُّ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لِلشَّكِّ، وَالْمُسْلِمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 وَمَنِ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَالذِّمِّيُّ وَالْحَرْبِيُّ وَالْمُكَاتَبُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِنِ ادَّعَى الْبَائِعُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ، فَإِنْ وُلِدَ حَيًّا صَحَّتْ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوِ اشْتَرَاهَا حُبْلَى ثُمَّ بَاعَهَا لَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ وَطْئِهَا؛ وَإِنْ حَبِلَتْ أَمَةٌ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَبَاعَهَا وَتَدَاوَلَتْهَا الْأَيْدِي ثُمَّ رَجَعَتْ إِلَى الْأَوَّلِ فَوَلَدَتْ فِي يَدِهِ وَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَبَطَلَتِ الْبُيُوعُ كُلُّهَا وَتَرَاجَعُوا الْأَثْمَانَ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْحَمْلِ عِنْدَهُ لَمْ تَبْطُلِ الْعُقُودُ. قَالَ: (وَمَنِ ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا مِنْهُ) لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِوَلَدَيْنِ وُلِدَا لَيْسَ بَيْنَهُمَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَاسْتَحَالَ انِعِلَاقُ الثَّانِي مِنْ مَاءٍ آخَرَ، فَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ، وَيَبْطُلُ مَا جَرَى فِيهِ مِنَ الْعُقُودِ مِنْ بَيْعٍ وَعِتْقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. 1 - فَصْلٌ كُلُّ قَوْلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ صَدَرَا مِنَ الْمُدَّعِي عِنْدَ الْحَاكِمِ إِنْ أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا قُبِلَتِ الدَّعْوَى صِيَانَةً لِكَلَامِهِ عَنِ اللَّغْوِ نَظَرًا إِلَى عَقْلِهِ وَدِينِهِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا لَمْ تُقْبَلْ، كَمَا إِذَا صَدَرَ مِنَ الشُّهُودِ، وَكُلُّ مَا أَثَّرَ فِي قَدْحِ الشَّهَادَةِ أَثَّرَ فِي مَنْعِ اسْتِمَاعِ الدَّعْوَى. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَالَ الْمُدَّعِي لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ عَلَى دَعْوَى هَذَا الْحَقِّ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ بَيِّنَتَهُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ نَسِيَهَا وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ لِي عَلَى فُلَانٍ شَهَادَةٌ ثُمَّ شَهِدَ لَهُ لَمْ تُقْبَلْ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِاحْتِمَالِ النِّسْيَانِ أَيْضًا. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: إِذَا قَالَ لَا شَهَادَةَ لِفُلَانٍ عِنْدِي فِي حَقٍّ بِعَيْنِهِ ثُمَّ جَاءَ وَشَهِدَ لَهُ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ نَسِيتُ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَعْلَمُ لِي حَقًّا، أَوْ لَا أَعْلَمُ لِي حُجَّةً ثُمَّ ادَّعَى حَقًّا أَوْ جَاءَ بِحُجَّةٍ قُبِلَتْ، وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ لِي حَقٌّ لَا تُقْبَلُ، وَلَوْ قَالَ: لَيْسَ لِي حُجَّةٌ قُبِلَتْ لِاحْتِمَالِ الْخَفَاءِ فِي الْبَيِّنَةِ دُونَ الْحَقِّ. وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لَيْسَتْ لِي ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَى لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ حَقًّا لِأَحَدٍ فَكَانَ سَاقِطًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُلَاعِنَ إِذَا ادَّعَى نَسَبَ الْوَلَدِ صَحَّ لِمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ مِنْ غَيْرِهِ بِاللَّعَانِ؟ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ قَالَ لَا حَقَّ لِي بِالرَّيِّ فِي دَارٍ وَلَا أَرْضٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي يَدِ إِنْسَانٍ بِالرَّيِّ قُبِلَتْ، وَلَوْ عَيَّنَ فَقَالَ: لَا حَقَّ لِي بِالرَّيِّ فِي رُسْتَاقَ كَذَا فِي يَدِ فُلَانٍ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: ادْفَعْ إِلَيَّ هَذِهِ الدَّارَ أَسْكُنُهَا، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ أَلْبَسُهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَأَبَى ثُمَّ ادَّعَى السَّائِلُ ذَلِكَ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّمَا طَلَبَتُهَا بِطَرِيقِ الْمِلْكِ لَا بِالْعَارِيَةِ. وَفِي الْفَتَاوَى: بَاعَ عَقَارًا وَابْنُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ حَاضِرَانِ وَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ ثُمَّ ادَّعَى الِابْنُ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِأَبِيهِ اتَّفَقَ مَشَايِخُنَا أَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 كِتَابُ الْإِقْرَارِ   [الاختيار لتعليل المختار] لَا تُسْمَعُ مِثْلُ هَذِهِ الدَّعْوَى وَهُوَ تَلْبِيسٌ مَحْضٌ، وَحُضُورُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ وَتَرْكُ الْمُنَازَعَةِ إِقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّهُ مِلْكُ الْبَائِعِ، وَجُعِلَ سُكُوتُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْإِيضَاحِ بِالْإِقْرَارِ قَطْعًا لِلْأَطْمَاعِ الْفَاسِدَةِ لِأَهْلِ الْعَصْرِ فِي الْإِضْرَارِ بِالنَّاسِ، وَلَوْ بَاعَ ضَيْعَةً ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ وَقْفًا عَلَيْهِ لَا تُسْمَعَ لِلتَّنَاقُضِ؛ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْبَيْعِ إِقْرَارٌ بِالْمِلْكِ، وَلَيْسَ لَهُ تَحْلِيفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، قِيلَ: تُقْبَلُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْوَقْفِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَيُنْقَضُ الْبَيْعُ، وَقِيلَ: لَا تُقْبَلُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَحَقًّا لِنَفْسِهِ فَلَا تُسْمَعْ لِلتَّنَاقُضِ، وَلَوْ رَدَّ الْجَارِيَةَ بِعَيْبٍ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ وَأَقَامَ الْبَائِعُ أَنَّهُ قَدْ بَرَأَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَيْبِ لَمْ تُقْبَلْ؛ لِأَنَّ جُحُودَهُ الْبَيْعَ إِنْكَارٌ لِلْبَرَاءَةِ فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شُهُودَهُ، وَلَوْ أَنْكَرَ النِّكَاحَ ثُمَّ ادَّعَاهُ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي الْبَيْعِ لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ بِالْإِنْكَارِ، وَالنِّكَاحُ لَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى تَزْوِيجًا عَلَى أَلْفٍ فَأَنْكَرَتْ فَأَقَامَتِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَلْفَيْنِ قُبِلَتْ، وَلَا يَكُونُ إِنْكَارُهَا تَكْذِيبًا لِلشُّهُودِ؟ وَفِي الْبَيْعِ لَا تُقْبَلُ وَيَكُونُ تَكْذِيبًا لِلشُّهُودِ. [كِتَابُ الْإِقْرَارِ] وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: التَّسْكِينُ وَالْإِثْبَاتُ، وَالْقَرَارُ: السُّكُونُ وَالثَّبَاتُ، يُقَالُ: قَرَّ فُلَانٌ بِالْمَنْزِلِ إِذَا سَكَنَ وَثَبَتَ، وَقَرَّرْتُ عِنْدَهُ كَذَا: أَيْ أَثْبَتُّهُ عِنْدَهُ، وَقَرَارُ الْوَادِي: مُطْمَئَنُّهُ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ الْمَاءُ، وَيُقَالُ: اسْتَمَرَّ الْأَمْرُ عَلَى كَذَا: أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ، وَسُمِّيَتْ أَيَّامُ مِنَى أَيَّامَ الْقَرِّ لِأَنَّهُمْ يَثْبُتُونَ بِهَا وَيَسْكُنُونَ عَنْ سَفَرِهِمْ وَحَرَكَتِهِمْ هَذِهِ الْأَيَّامَ، وَمِنْهُ الدُّعَاءُ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ إِذَا أَعْطَاهُ مَا يَكْفِيهِ فَسَكَنَتْ نَفْسُهُ وَلَا تَطْمَحُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ. وَفِي الشَّرْعِ: اعْتِرَافٌ صَادِرٌ مِنَ الْمُقِرِّ يَظْهَرُ بِهِ حَقٌّ ثَابِتٌ فَيَسْكُنُ قَلْبَ الْمُقَرِّ لَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ حُجَّةٌ شَرْعِيَّةٌ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَضَرْبٌ مِنَ الْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْسِ إِقْرَارٌ، فَلَوْلَا أَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ لَمَا أُمِرَ بِهِ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة: 282] وَأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ. وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَاغْدُ أَنْتَ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاعَزًّا وَالْغَامِدِيَّةَ بِالْإِقْرَارِ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ؛ وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ صَدَرَ عَنْ صِدْقٍ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، إِذِ الْمَالُ مَحْبُوبٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُقِرِّ إِذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا إِذَا أَقَرَّ لِمَعْلُومٍ، وَسَوَاءٌ أَقَرَّ بِمَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ وَيُبَيِّنُ الْمَجْهُولَ،   [الاختيار لتعليل المختار] طَبْعًا فَلَا يُكَذَّبُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ حَجَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ مُلْزِمَةٌ لِلْحَالِ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بَدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَزِمَ الْمَالُ وَبَطَلَ الْخِيَارُ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ وَالْفَسْخُ يُرَدُّ عَلَى الْعُقُودِ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَهُ ظُهُورُ الْحَقِّ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَشَرْطُهُ كَوْنُ الْمُقَرِّ بِهِ مِمَّا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إِلَى الْمُقَرِّ لَهُ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِكَفِّ تُرَابٍ أَوْ حَبَّةِ حِنْطَةٍ لَا يَصِحُّ، وَحُكْمُهُ ظُهُورُ الْمُقَرِّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ سَابِقٍ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ كَذِبَهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ. فَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً كَالْهِبَةِ. قَالَ: (وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُقِرِّ إِذَا كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا) ، وَيَصِحُّ إِقْرَارُ الْعَبْدِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْحَجْرِ. قَالَ: (إِذَا أَقَرَّ لِمَعْلُومٍ) لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِقْرَارِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَلَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ لِمَجْهُولٍ. قَالَ: (وَسَوَاءٌ أَقَرَّ بِمَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ وَيُبَيِّنُ الْمَجْهُولَ) أَمَّا الْمَعْلُومُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ حَقٌّ وَلَا يَدْرِي كَمِّيَّتَهُ كَغَرَامَةِ مُتْلَفٍ لَا يَدْرِي كَمْ قِيمَتُهُ أَوْ أَرْشِ جِرَاحَةٍ أَوْ بَاقِي دَيْنٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ أَوْ كَانَ يَعْلَمُهُ ثُمَّ أُنْسِيَ، وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ، وَالْبَيَانُ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فَيُبَيِّنُهُ، إِمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْجَبْرِ مِنَ الْقَاضِي إِيصَالًا لِلْحَقِّ إِلَى الْمُسْتَحِقِّ، بِخِلَافِ جَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَبِخِلَافِ الشُّهُودِ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَالْمُقِرُّ لَهُ حَاجَةٌ لِخَلَاصِ ذِمَّتِهِ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ تُبْتَنَى عَلَى الدَّعْوَى، وَالدَّعْوَى بِالْمَجْهُولِ لَا تُقْبَلُ؛ وَلِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْحَقَّ إِلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إِلَيْهَا، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْإِقْرَارُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ، وَلِهَذَا لَا يَعْمَلُ الرُّجُوعَ فِيهِ وَيَعْمَلُ فِي الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 فَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ، فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِيمَا بَيَّنَ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ قَالَ: مَالٌ عَظِيمٌ فَهُوَ نِصَابٌ مِنَ الْجِنْسِ الَذِي ذَكَرَ، وَقِيمَةُ النِّصَابِ فِي غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ قَالَ: أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَثَلَاثَةُ نُصُبٍ، وَإِنْ قَالَ: دَرَاهِمُ فَثَلَاثَةٌ، وَإِنْ قَالَ: كَثِيرَةٌ فَعَشَرَةٌ، وَلَوْ قَالَ: كَذَا دِرْهَمًا فَدِرْهَمٌ، وَكَذَا كَذَا أَحَدَ عَشَرَ، وَلَوْ ثَلَّثَ فَكَذَلِكَ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (فَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ لَزِمَهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْوُجُوبِ فِي ذِمَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ الْوُجُوبِ وَمَا لَا قِيمَةَ لَهُ لَا يَجِبُ فِيهَا. (فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِيمَا بَيَّنَ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ. قَالَ: (وَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ) لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ مَالًا عُرْفًا. (وَإِنْ قَالَ مَالٌ عَظِيمٌ فَهُوَ نِصَابٌ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي ذَكَرَ) مَعْنَاهُ إِنْ ذَكَرَ الدَّرَاهِمَ فَمِائَتَا دِرْهَمٍ، وَمِنَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، وَمِنَ الْغَنَمِ أَرْبَعُونَ شَاةً، وَمِنَ الْبَقَرِ ثَلَاثُونَ بَقَرَةً، وَمِنَ الْإِبِلِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى نِصَابٍ يَجِبُ فِيهِ مِنْ جِنْسِهِ، وَفِي الْحِنْطَةِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَدَّرُ بِالنِّصَابِ عِنْدَهُمَا، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى بَيَانِ الْمُقِرِّ. (وَقِيمَةُ النِّصَابِ فِي غَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ) لِأَنَّ النِّصَابَ عَظِيمٌ؛ لِأَنَّ مَالِكَهُ غَنِيٌّ، وَالْغَنِيُّ مُعَظَّمٌ عِنْدَ النَّاسِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهَا عَظِيمَةٌ حَتَّى يُسْتَبَاحَ بِهَا الْفَرْجُ وَقَطْعُ الْيَدِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. (وَإِنْ قَالَ أَمْوَالٌ عِظَامٌ فَثَلَاثَةُ نُصُبٍ) مِنَ النَّوْعِ الَّذِي سَمَّاهُ لِأَنَّهُ جَمْعٌ عَظِيمٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ. (وَإِنْ قَالَ دَرَاهِمُ فَثَلَاثَةٌ) لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ فَهِيَ مُتَيَقَّنَةٌ. (وَإِنْ قَالَ كَثِيرَةٌ فَعَشَرَةٌ) ، وَقَالَا: مِائَتَانِ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مَا يَصِيرُ بِهِ مُكْثِرًا وَذَلِكَ بِالنِّصَابِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْصَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْجَمْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَكُونُ هُوَ الْأَكْثَرَ فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ، وَفِي الدَّنَانِيرِ عِنْدَهُمَا نِصَابٌ عِشْرُونَ مِثْقَالًا، وَعِنْدَهُ عَشَرَةٌ أَيْضًا لِمَا مَرَّ، وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّقْدِيرَاتِ لَوْ زَادَ فِيهَا قُبِلَ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا أَجْمَلَ، وَيَلْزَمُهُ مِنَ الدَّرَاهِمِ الْمُعْتَادَةِ بِالْوَزْنِ الْمُعْتَادِ فِي الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ أَوْ نُقُودٌ وَجَبَ أَقَلُّهَا لِلتَّيَقُّنِ، وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ ثِيَابٌ كَثِيرَةٌ أَوْ وَصَائِفُ كَثِيرَةٌ يَلْزَمُهُ عِنْدَهُ عَشَرَةٌ وَعِنْدَهُمَا مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لِمَا مَرَّ. (وَلَوْ قَالَ كَذَا دِرْهَمًا فَدِرْهَمٌ) لِأَنَّهُ فَسَّرَ مَا أَبْهَمَ، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ عِشْرُونَ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ كَذَا يُذْكَرُ لِلْعَدَدِ عُرْفًا، وَأَقَلُّ عَدَدٍ غَيْرُ مُرَكَّبٍ يُذْكَرُ بَعْدَهُ الدِّرْهَمُ بِالنَّصْبِ عِشْرُونَ. (وَكَذَا كَذَا أَحَدَ عَشَرَ) دِرْهَمًا لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ فِي الْمُفَسَّرِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا. (وَلَوْ ثُلْثٌ) بِغَيْرِ وَاوٍ. (فَكَذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ سِوَاهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وَلَوْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا فَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ، وَلَوْ ثَلَّثَ بِالْوَاوِ تُزَادُ مِائَةٌ، وَلَوْ رَبَّعَ تُزَادُ أَلْفٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ فَالْكُلُّ دَرَاهِمُ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَوْبٌ يَلْزَمُهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَتَفْسِيرُ الْمِائَةِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَوْبَانِ، وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فَالْكُلُّ ثِيَابٌ (ف) ، وَإِنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَهُوَ دَيْنٌ وَعِنْدِي وَمَعِي وَفِي بَيْتِي أَمَانَةٌ، وَلَوْ قَالَ لَهُ آخَرُ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ فَقَالَ: اتَّزِنْهَا أَوِ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَضَيْتُكَهَا أَوْ أَجَّلْتُكَ بِهَا فَهُوَ إِقْرَارٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَلَوْ قَالَ كَذَا وَكَذَا فَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ) لِأَنَّهُ نَظِيرُهُ مِنَ الْمُفَسَّرِ. (وَلَوْ ثَلَّثَ بِالْوَاوِ تُزَادُ مِائَةٌ، وَلَوْ رَبَّعَ تُزَادُ أَلْفٌ) اعْتِبَارًا بِالنَّظِيرِ مِنَ الْمُفَسَّرِ. (وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ) وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا ذُكِرَ الدِّرْهَمُ بِالنَّصْبِ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بِالْخَفْضِ بِأَنْ قَالَ: كَذَا دِرْهَمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ يُذْكَرُ الدِّرْهَمُ عَقِيبَهُ بِالْخَفْضِ مِائَةٌ، فَإِنْ قَالَ: كَذَا كَذَا دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَلَوْ قَالَ: كَذَا كَذَا دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا فَعَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ مِنْهُمَا بِالسَّوِيَّةِ عَمَلًا بِالشَّرِكَةِ، وَلَوْ قَالَ: عَشَرَةٌ وَنَيِّفٌ فَالْبَيَانُ فِي النَّيِّفِ إِلَيْهِ، وَيُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ فِي أَقَلِّ مِنْ دِرْهَمٍ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُطْلَقِ الزِّيَادَةِ، يُقَالُ: نَيَّفَ عَلَى الشَّيْئَيْنِ إِذَا زَادَ عَلَيْهِمَا؛ وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَالْبِضْعُ ثَلَاثَةُ فَصَاعِدًا. (وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ فَالْكُلُّ دَرَاهِمُ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ، وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَوْبٌ يَلْزَمُهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَتَفْسِيرُ الْمِائَةِ إِلَيْهِ) وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الدِّرْهَمِ، لِأَنَّ الْمِائَةَ مُبْهَمَةٌ، وَالدِّرْهَمَ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا وَالتَّفْسِيرُ لَا يُذْكَرُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْوُجُوبِ التَّكْرَارَ فِي كُلِّ عَدَدٍ، وَاكْتَفَوْا بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ، وَذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ. أَمَّا الثِّيَابُ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ، فَهِيَ عَلَى الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا. (وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَوْبَانِ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَلَوْ قَالَ: مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ فَالْكُلُّ ثِيَابٌ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ مَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لَهُمَا وَهُوَ الثِّيَابُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا بِغَيْرِ عَاطِفٍ، فَانْصَرَفَ إِلَيْهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إِلَى التَّفْسِيرِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الصُّوَرِ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَهُوَ دَيْنٌ) لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْإِيجَابِ عُرْفًا، وَالذِّمَّةُ مَحَلُّ الْإِيجَابِ فَيَكُونُ دَيْنًا، إِلَّا أَنْ يُبَيِّنَ مَوْصُولًا أَنَّهَا وَدِيعَةٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَجَازًا فَلَا يُصَدَّقُ إِلَّا بِالْبَيَانِ مَوْصُولًا. (وَ) لَوْ قَالَ: (عِنْدِي وَمَعِي وَفِي بَيْتِي) فَهُوَ (أَمَانَةٌ) لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ؛ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ، وَالْأَمَانَةُ أَدْنَى مِنَ الضَّمَانِ فَيَثْبُتُ، وَكَذَا فِي كِيسِي أَوْ صُنْدُوقِي وَأَشْبَاهِهِ. (وَلَوْ قَالَ لَهُ آخَرُ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَقَالَ: اتَّزِنْهَا أَوِ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَضَيْتُكَهَا أَوْ أَجَّلْتُكَ بِهَا فَهُوَ إِقْرَارٌ) وَلَوْ تَصَادَقَا عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ هَاءَ الْكِنَايَةِ لَا يَكُونُ إِقْرَارًا، وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهُ حَالٌّ اسْتُحْلِفَ (ف) عَلَى الْأَجَلِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِخَاتَمٍ لَزِمَهُ الْحَلْقَةُ وَالْفَصُّ، وَبِسَيْفٍ النَّصْلُ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ، وَمَنْ أَقَرَّ بِثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ لَزِمَاهُ، وَمَنْ أَقَرَّ بِخَمْسَةٍ فِي خَمْسَةٍ لَزِمَهُ خَمْسَةٌ وَإِنْ أَرَادَ الضَّرْبَ، وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، أَوْ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ (سم ف) ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ لَا يَلْزَمُهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ نَعَمْ أَوْ خُذْهَا أَوْ لَمْ تَحِلَّ بَعْدُ أَوْ غَدًا، أَوْ وَكَّلَ مَنْ يَقْبِضُهَا، أَوْ أَجِّلْ بِهَا غَرِيمَكَ، أَوْ لَيْسَتْ مُيَسَّرَةً الْيَوْمَ، أَوْ مَا أَكْثَرَ مَا تَتَقَاضَانِيهَا فِيهَا، أَوْ غَمَمْتَنِي بِهَا، أَوْ حَتَّى يَقْدُمَ غُلَامِي أَوْ أَبْرَأْتَنِي مِنْهَا. (وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ هَاءَ الْكِنَايَةِ لَا يَكُونُ إِقْرَارًا) ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَوَابَ يَنْتَظِمُ إِعَادَةَ الْخِطَابِ لِيُفِيدَ الْكَلَامَ، فَكُلُّ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَلَا يَصْلُحُ ابْتِدَاءً يُجْعَلُ جَوَابًا، وَمَا يَصْلُحُ لِلِابْتِدَاءِ لَا لِلْبِنَاءِ أَوْ يَصْلُحُ لَهُمَا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ ابْتِدَاءً لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي كَوْنِهِ جَوَابًا، وَلَا يُجْعَلُ جَوَابًا لِئَلَّا يَلْزَمَهُ الْمَالُ بِالشَّكِّ، فَإِنْ ذَكَرَ هَاءَ الْكِنَايَةِ يَصْلُحُ جَوَابًا لَا ابْتِدَاءً، فَيَكُونُ مُنْتَظِمًا لِلسُّؤَالِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: اتَّزِنِ الْأَلِفَ الَّتِي ادَّعَيْتَهَا أَوْ قَضَيْتُكَ الْأَلْفَ الَّتِي لَكَ، وَطَلَبُ التَّأْجِيلِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِوَاجِبٍ، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ هَاءَ الْكِنَايَةِ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا، أَوْ يَصْلُحُ جَوَابًا وَابْتِدَاءً فَلَا يُجْعَلُ جَوَابًا فَلَا يَكُونُ إِقْرَارًا. قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ وَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّهُ حَالٌّ اسْتُحْلِفَ عَلَى الْأَجَلِ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمَالِ ثَمَّ ادَّعَى حَقًّا وَهُوَ التَّأْجِيلُ، وَالْمُقَرُّ لَهُ يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ. قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِخَاتَمٍ لَزِمَهُ الْحَلْقَةُ وَالْفَصُّ) لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمَا عُرْفًا. (وَ) إِنْ أَقَرَّ (بِسَيْفٍ) لَزِمَهُ (النَّصْلُ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ) لِمَا قُلْنَا. قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ) أَوْ فِي ثَوْبٍ. (لَزِمَاهُ) مَعْنَاهُ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ يُلَفُّ فِي مِنْدِيلٍ وَفِي ثَوْبٍ آخَرَ، فَكَانَ ذَلِكَ ظَرْفًا لَهُ. وَلَوْ قَالَ: ثَوْبِي فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ لِأَنَّ النَّفِيسَ مِنَ الثِّيَابِ يُلَفُّ فِي عَشَرَةٍ وَأَكْثَرَ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ يُحْمَلُ عَلَى الظَّرْفِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَلَا يَجِبُ، وَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنًى بَيِّنٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] . قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِخَمْسَةٍ فِي خَمْسَةٍ لَزِمَهُ خَمْسَةٌ، وَإِنْ أَرَادَ الضَّرْبَ) لِأَنَّ الضَّرْبَ لَا يُكْثِرُ الْمَالَ الْمَضْرُوبَ وَإِنَّمَا يُكْثِرُ الْأَجْزَاءَ، وَتَكْثِيرُ أَجْزَاءِ الدِّرْهَمِ تُوجِبُ تَعَدُّدَهُ. وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ لِعُرْفِ الْحِسَابِ. (وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، أَوْ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ) ، وَقَالَا: يَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ. وَقَالَ زُفَرُ: ثَمَانِيَةٌ يُسْقِطُ الْغَايَتَانِ وَيَبْقَى مَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ، كَقَوْلِهِ لَهُ: مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إِلَى هَذَا الْحَائِطِ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَائِطَيْنِ. وَلَهُمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ مِثْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 وَيَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِالْحَمْلِ، وَلَهُ إِذَا بَيَّنَ سَبَبًا صَالِحًا (ف) لِلْمِلْكِ. فَصْلٌ إِذَا اسْتَثْنَى بَعْضَ مَا أَقَرَّ بِهِ مُتَّصِلًا صَحَّ وَلَزِمَهُ الْبَاقِي،   [الاختيار لتعليل المختار] هَذَا الْكَلَامِ يُرَادُ بِهِ الْكُلُّ كَمَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ: خُذْ مِنْ دَرَاهِمِي مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشَرَةٍ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَشَرَةً وَتَدْخُلَ الْغَايَتَانِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُذْكَرُ لِإِرَادَةِ الْأَقَلِّ مِنَ الْأَكْثَرِ وَالْأَكْثَرِ مِنَ الْأَقَلِّ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ» وَالْمُرَادُ فَوْقَ السِّتِّينَ وَدُونَ السَّبْعِينَ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ تَقُولُ: عُمْرِي مِنْ سِتِّينَ إِلَى سَبْعِينَ، وَيُرِيدُونَ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ وَأَقَلَّ مِنْ سَبْعِينَ، وَالْجَمِيعُ إِنَّمَا يُرَادُ فِيمَا طَرِيقُهُ التَّكَرُّمُ وَالسَّمَاحَةُ إِظْهَارًا لَهُمَا كَمَا ذَكَرَاهُ مِنَ النَّظِيرِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دُخُولِ الْغَايَةِ الْأُولَى لِيُبْتَنَى الْحُكْمُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا ثُبُوتُهَا يَصِيرُ مَا بَعْدَهَا غَايَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ فَتَنْتَفِي أَيْضًا، فَاحْتَجْنَا إِلَى ثُبُوتِ الْغَايَةِ ابْتِدَاءً وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأَخِيرَةِ، بِخِلَافِ نَظِيرِ زُفَرَ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ غَايَةٌ مَوْجُودَةٌ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى غَيْرِهِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِالْحَمْلِ، وَلَهُ إِذَا بَيَّنَ سَبَبًا صَالِحًا لِلْمِلْكِ) أَمَّا الْإِقْرَارُ بِهِ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ أَوْصَى بِهِ آخَرُ، وَالْإِقْرَارُ مُظْهِرٌ لَهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَصْحِيحًا لِإِقْرَارِهِ. وَأَمَّا لَهُ، أَمَّا إِذَا ذَكَرَ سَبَبًا صَالِحًا كَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ صَحَّ الْإِقْرَارُ لِصَلَاحِيَةِ السَّبَبِ، وَإِنْ ذَكَرَ سَبَبًا غَيْرَ صَالِحٍ كَالْبَيْعِ مِنْهُ وَالْقَرْضِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا لَا يَصِحُّ لِلِاسْتِحَالَةِ، وَإِنْ سَكَتَ قَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ وَيُحْمَلُ عَلَى الْأَسْبَابِ الصَّالِحَةِ تَصْحِيحًا لِإِقْرَارِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْوَاجِبِ بِالْمُعَامَلَاتِ عَادَةً فَلَا يَصِحُّ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ. وَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ، فَإِنْ وُلِدَ فِي مُدَّةٍ يُعْلَمُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَزِمَ، وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ وُلِدَ مَيِّتًا فَالْمَالُ لِمُوَرِّثِهِ وَمَنْ أَوْصَى لَهُ وَيَكُونُ بَيْنَ وَرَثَتِهِمَا، لِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْجَنِينِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَلَمْ يَنْتَقِلْ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَبَقِيَ عَلَى مِلْكِ الْمُوَرِّثِ وَالْمُوصِي فَيُورَثُ عَنْهُمَا. [فصل الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْإِقْرَارِ] فَصْلٌ (إِذَا اسْتَثْنَى بَعْضَ مَا أَقَرَّ بِهِ مُتَّصِلًا صَحَّ وَلَزِمَهُ الْبَاقِي) ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَالِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ، وَيَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ كَمَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَقَلِّ، وَبِكُلِّهِ وَرَدَ النَّصُّ. قَالَ تَعَالَى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] الْمَعْنَى: لَبِثَ فِيهِمْ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً؛ فَهَذَا اسْتِثْنَاءُ الْأَقَلِّ مِنَ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وَهَذَا اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أَكْثَرُ الْعِبَادِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ بَاطِلٌ. وَإِنْ قَالَ مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَطَلَ إِقْرَارُهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا تُعْرَفُ مَشِيئَتُهُ كَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ أَقَرَّ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَّا دِينَارًا، أَوْ إِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ الْمِائَةُ إِلَّا قِيمَةَ الدِّينَارِ (م ز) أَوِ الْقَفِيزِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ (م) أَوْ يُعَدُّ (ز) ، وَلَوِ اسْتَثْنَى ثَوْبًا أَوْ شَاةً أَوْ دَارًا لَا يَصِحُّ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا بُدَّ مِنَ الِاتِّصَالِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَلَفَ وَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حَنْثَ عَلَيْهِ» ، شَرْطُ الِاتِّصَالِ فِي الْمَشِيئَةِ وَأَنَّهَا اسْتِثْنَاءٌ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ لُزُومُ الْإِقْرَارِ لِمَا بَيَّنَّا، إِلَّا أَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَثْنَى يَبْطُلُ بِالِاتِّصَالِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِآخِرِهِ، فَإِذَا انْقَطَعَ الْكَلَامُ فَقَدْ تَمَّ، وَلَا يُعْتَبَرُ الِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَهُ، وَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا دِرْهَمًا، فَيَلْزَمُهُ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ؛ وَلَوْ قَالَ: إِلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ يَلْزَمُهُ خَمْسُونَ، وَعَلَى هَذَا. (وَاسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ بَاطِلٌ) لِأَنَّهُ رُجُوعٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا وَلَا بَاقِيَ فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَا فُلَانُ إِلَّا عَشَرَةً صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ لِتَنْبِيهِ الْمُخَاطَبِ وَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِتَأْكِيدِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ فَاصِلًا، وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِذَلِكَ إِلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْإِقْرَارِ فَكَانَ الْإِشْهَادُ بَعْدَ التَّمَامِ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَطَلَ إِقْرَارُهُ) لِمَا رَوَيْنَا. (وَكَذَلِكَ إِنْ عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا تُعْرَفُ مَشِيئَتُهُ كَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ) لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ شَاءَ فُلَانٌ فَشَاءَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ فُلَانٍ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَاءَ الْمَطَرُ أَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ كَانَ كَذَا لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَّا دِينَارًا، أَوْ إِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ الْمِائَةُ إِلَّا قِيمَةَ الدِّينَارِ أَوِ الْقَفِيزِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ، وَلَوِ اسْتَثْنَى ثَوْبًا أَوْ شَاةً أَوْ دَارًا لَا يَصِحُّ) ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَصِحُّ فِي الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْإِيجَابِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاءً. وَلَهُمَا أَنَّ مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ كُلَّهُ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ نَظَرًا إِلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْأَعْيَانِ؛ أَمَّا الثَّوْبُ وَأَخَوَاتُهُ لَيْسَ بِثَمَنٍ أَصْلًا حَتَّى لَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الثَّوْبُ نَصًّا لَا قِيَاسًا، فَمَا يَكُونُ ثَمَنًا يَصْلُحُ مُقَدَّرًا لِلدِّرْهَمِ فَيَصِيرُ بِقَدْرِهِ مُسْتَثْنًى، وَمَا لَا فَلَا، فَيَبْقَى الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولًا فَلَا يَصِحُّ. وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا شَيْئًا لَزِمَهُ نِصْفُ الْأَلْفِ وَزِيَادَةٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمُقَرِّ بِهِ غَيْرُ مَانِعَةٍ، فَفِي الْمُسْتَثْنَى أَوْلَى، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ شَيْءٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْقَلِيلِ عُرْفًا فَيَكُونُ أَقَلَّ مِنَ الْبَاقِي؛ وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ أَحَدٌ وَخَمْسُونَ؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُهُ مِنْ زَيْدٍ لَا بَلْ مِنْ عَمْرٍو فَهُوَ لِزَيْدٍ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِعَمْرٍو (ف) ، وَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ فَاسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَبَعْضَ الْآخَرِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ (سم) وَإِنِ اسْتَثْنَى بَعْضَ أَحَدِهِمَا أَوْ بَعْضَ كَلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحَّ، وَيُصْرَفُ إِلَى جِنْسِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَوْ قَالَ: عَشَرَةٌ إِلَّا بَعْضَهَا فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنَ النِّصْفِ، وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إِلَّا قِيرَاطًا، لَزِمَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ إِلَّا قِيرَاطًا؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ صَحِيحٌ، وَاسْتِثْنَاءُ الْقِيرَاطِ مِنَ الْعَشَرَةِ صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ صَحِيحٌ وَيَلْحَقُ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] اسْتَثْنَى آلَ لُوطٍ مِنَ الْهَالِكِينَ، ثُمَّ اسْتَثْنَى امْرَأَتَهُ مِنَ النَّاجِينَ، فَكَانَتْ مِنَ الْهَالِكِينَ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُهُ مِنْ زَيْدٍ لَا بَلْ مِنْ عَمْرٍو فَهُوَ لِزَيْدٍ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِعَمْرٍو) لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ زَيْدٍ إِقْرَارٌ لَهُ، ثُمَّ قَوْلُهُ لَا رُجُوعٌ عَنْهُ لَا يُقْبَلُ، وَقَوْلُهُ بَلْ مِنْ عَمْرٍو إِقْرَارٌ مِنْهُ لِعَمْرٍو، وَقَدِ اسْتَهْلَكَهُ بِالْإِقْرَارِ لِزَيْدٍ فَيَجِبُ قِيمَتُهُ لِعَمْرٍو؛ وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا بَلْ أَلْفَانِ يَلْزَمُهُ أَلْفَانِ اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُهُ عَبْدًا أَسْوَدَ لَا بَلْ أَبْيَضَ لَزِمَهُ عَبْدٌ أَبْيَضُ، وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ ثَوْبًا هَرَوِيًّا لَا بَلْ مَرْوِيًّا لَزِمَاهُ، وَكَذَا: لَهُ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ كُرُّ شَعِيرٍ لَزِمَاهُ؛ وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ لَزِمَهُ الْمَالَانِ؛ وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَا بَلْ خَمْسُمِائَةٍ لَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ " لَا بَلْ " مَتَى تَخَلَّلَتْ بَيْنَ الْمَالَيْنِ مِنْ جِنْسَيْنِ لَزِمَاهُ، وَكَذَلِكَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِذَا كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ اثْنَيْنِ، وَإِذَا كَانَ وَاحِدًا وَالْجِنْسُ وَاحِدٌ لَزِمَ أَكْثَرُ الْمَالَيْنِ، لِأَنَّ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ، وَالْغَلَطُ إِنَّمَا يَقَعُ غَالِبًا فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلَيْنِ كَانَ رُجُوعًا عَنِ الْأَوَّلِ فَلَا يُقْبَلُ، وَيَثْبُتُ لِلثَّانِي بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي، وَإِذَا كَانَ الْإِقْرَارُ الثَّانِي أَكْثَرَ صَحَّ الِاسْتِدْرَاكُ وَيُصَدِّقُهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الِاسْتِدْرَاكِ وَالْمُقَرُّ لَهُ لَا يُصَدِّقُهُ فَيَلْزَمُهُ الْأَكْثَرُ؛ وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ فَيَلْزَمُهُ، وَقَوْلُهُ لَا رُجُوعَ فَلَا يُصَدَّقُ فِيهِ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَلْفَيْنِ فَصَحَّ الْإِقْرَارُ وَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ ثِنْتَيْنِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ إِخْبَارٌ يَجْرِي فِيهِ الْغَلَطُ فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِدْرَاكُ، فَيَلْزَمُهُ الْأَكْثَرُ وَالطَّلَاقُ إِنْشَاءٌ، وَلَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ مَا أَنْشَأَ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ فَاسْتَثْنَى أَحَدَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا وَبَعْضَ الْآخَرِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ، وَإِنِ اسْتَثْنَى بَعْضَ أَحَدِهِمَا أَوْ بَعْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحَّ وَيُصْرَفُ إِلَى جِنْسِهِ) . وَصُورَتُهُ إِذَا قَالَ: لَهُ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ وَكُرُّ شَعِيرٍ إِلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ، أَوْ قَالَ: إِلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ وَقَفِيزَ شَعِيرٍ فَهَذَا بَاطِلٌ، وَقَالَا: يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْقَفِيزِ، وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَحُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الِاسْتِثْنَاءُ عِنْدَهُ، وَيَقَعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وَاسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ مِنَ الدَّارِ بَاطِلٌ؛ وَلَوْ قَالَ: بِنَاؤُهَا لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ فَكَمَا قَالَ؛ وَلَوْ قَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ (سم) وَإِنْ عَيَّنَ   [الاختيار لتعليل المختار] الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ، وَعِنْدَهُمَا الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا كُرَّ حِنْطَةٍ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ لَفْظًا إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ، وَإِذَا كَانَ كَلَامًا مُتَّصِلًا كَانَ اسْتِثْنَاءُ الْقَفِيزِ مُتَّصِلًا فَيَصِحُّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكُرِّ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَ لَغْوًا وَكَانَ قَاطِعًا لِلْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا، وَهَكَذَا قَوْلُهُ وَثَلَاثَةٌ وَحُرٌّ لَغْوٌ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ؛ وَلَوْ قَالَ: إِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ، أَوْ إِلَّا قَفِيزَ شَعِيرٍ صَحَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لِعَدَمِ تَخَلُّلِ الْقَاطِعِ؛ وَكَذَا لَوْ قَالَ: إِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ وَقَفِيزَ شَعِيرٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ مُفِيدٌ فَلَا يَكُونُ قَاطِعًا، فَيَصِحُّ الْعَطْفُ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ كُرُّ حِنْطَةٍ وَكُرُّ شَعِيرٍ إِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ وَقَفِيزَ شَعِيرٍ. قَالَ: (وَاسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ مِنَ الدَّارِ بَاطِلٌ) مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إِلَّا بِنَاءَهَا، أَوْ قَالَ: وَبِنَاؤُهَا لِي؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ وَالِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ، وَعَلَى هَذَا النَّخْلُ وَالشَّجَرُ مَعَ الْبُسْتَانِ وَالظِّهَارَةُ وَالْبِطَانَةُ مِنَ الْجُبَّةِ، وَالْفَصُّ مِنَ الْخَاتَمِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلَا قِوَامَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِدُونِ مَا اسْتَثْنَاهُ فَيَكُونُ بَاطِلًا؛ وَلَوْ قَالَ: إِلَّا ثُلُثَهَا أَوْ إِلَّا بَيْتًا مِنْهَا صَحَّ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ لَفْظًا. (وَلَوْ قَالَ: بِنَاؤُهَا لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ، فَكَمَا قَالَ) لِأَنَّ الْعَرْصَةَ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ دُونَ الْبِنَاءِ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِحَائِطٍ لَزِمَهُ بِأَرْضِهِ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ اسْمٌ لِلْمَبْنَى وَلَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَقَرَّ لَهُ بِأُسْطُوَانَةٍ مِنْ آجُرٍّ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ خَشَبٍ لَا يَلْزَمُهُ الْأَرْضُ؛ لِأَنَّ الْخَشَبَةَ تُسَمَّى أُسْطُوَانَةً قَبْلَ الْبِنَاءِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ رَفْعُهَا بِغَيْرِ ضَرَرٍ رَفَعَهَا وَإِلَّا ضَمَنَ قِيمَتَهَا لِلْمُقِرِّ لَهُ كَمَا فِي غَصْبِ السَّاجَةِ؛ وَلَوْ أَقَرَّ بِثَمَرَةِ نَخْلٍ لَا تَدْخُلُ النَّخْلَةُ؛ وَلَوْ أَقَرَّ بِنَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ يَلْزَمُهُ مَوْضِعُهَا مِنَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى شَجَرَةً وَنَخْلًا إِلَّا وَهُوَ ثَابِتٌ وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ، وَلَا يَلْزَمُ الطَّرِيقُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْمِلْكِ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ لَمْ أَقْبِضْهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ) وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِ: مَا قَبَضْتُهُ؛ لِأَنَّ عَلَيَّ لِلْإِلْزَامِ، وَقَوْلُهُ: لَمْ أَقْبِضْهُ يُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ وَهُوَ غَيْرُ عَيْنٍ، فَأَيُّ عَبْدٍ أُحْضِرُهُ يَقُولُ: الْمَبِيعُ غَيْرُهُ، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ أَقْبِضْهُ جُحُودًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُقْبَلُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إِنْ صَدَّقَهُ فِي أَنَّهُ ثَمَنٌ صُدِّقَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَقَالَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ إِنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَإِلَّا فَلَا، وَوَجْهُهُ أَنَّهُمَا إِذَا تَصَادَقَا عَلَى الْجِهَةِ فَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ ثَمَنٌ فَلَا يَلْزَمُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُ الْقَبْضَ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ، وَمَتَى كَذَّبَهُ كَانَ تَغْيِيرًا لِإِقْرَارِهِ، فَإِنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: (وَإِنْ عَيَّنَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 الْعَبْدَ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ لَزِمَتْهُ الْأَلْفُ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ قَالَ: مِنْ ثَمَنِ خِنْزِيرٍ أَوْ خَمْرٍ لَزِمَتْهُ؛ وَلَوْ قَالَ: مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ أَوْ أَقْرَضَنِي ثُمَّ قَالَ: هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: جِيَادٌ فَهِيَ جِيَادٌ؛ وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُهَا مِنْهُ أَوْ أَوْدَعَنِيهَا صُدِّقَ فِي الزُّيُوفِ والنَبهْرَجَةِ، وَفِي الرَّصَاصِ وَالسَّتُوقَةِ إِنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَإِلَّا فَلَا. فَصْلٌ وَدُيُونُ الصِّحَّةِ وَمَا لَزِمَهُ فِي مَرَضِهِ بَسَبَبٍ مَعْرُوفٍ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْعَبْدَ، فَإِنْ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ لَزِمَتْهُ الْأَلْفُ وَإِلَّا فَلَا) وَهَذَا إِذَا صَدَّقَهُ لِأَنَّهُمَا إِذَا تَصَادَقَا عَلَى ذَلِكَ صَارَ كَابْتِدَاءِ الْبَيْعِ وَإِنْ قَالَ لَهُ: الْعَبْدُ فِي يَدِكَ وَمَا بِعْتُكَ غَيْرَهُ لَزِمَهُ الْمَالُ، لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِهِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ وَقَدْ سَلِمَ؛ وَلَوْ قَالَ: الْعَبْدُ عَبْدِي مَا بِعْتُكَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَقَرَّ بِالْمَالِ عِوَضًا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ فَلَا يَلْزَمُهُ دُونَهُ؛ وَلَوْ قَالَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ غَيْرَهُ يَتَحَالَفَانِ عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَزِمَتْهُ) وَقَالَا: لَا يَلْزَمُهُ إِنْ وَصَلَ؛ لِأَنَّ بِآخِرِ كَلَامِهِ ظَهَرَ أَنَّهُ مَا أَرَادَ الْإِيجَابَ كَقَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَهُ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ فَلَا يُقْبَلُ لِأَنَّ ثَمَنَهُمَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا، وَمَا ذَكَرَا فَهُوَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إِبْطَالٌ. (وَلَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ أَوْ أَقْرَضَنِي ثُمَّ قَالَ: هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: جِيَادٌ، فَهِيَ جِيَادٌ) وَقَالَا: يُصَدَّقُ إِنْ وَصَلَ، وَعَلَى هَذَا إِذَا قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ. لَهُمَا أَنَّهُ بَيَانٌ مُغَيِّرٌ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَمَا تَقَدَّمَ وَصَارَ كَقَوْلِهِ إِلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ، وَلَهُ أَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنِ الْعَيْبِ، فَإِقْرَارُهُ يَقْتَضِي الْجِيَادَ، ثُمَّ قَوْلُهُ هِيَ زُيُوفٌ إِنْكَارٌ فَلَا يُصَدَّقُ، فَصَارَ كَمَا إِذَا ادَّعَى الْجِيَادَ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي الزُّيُوفَ يَلْزَمُهُ الْجِيَادُ عَمَلًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَصْلِ، وَقَوْلُهُ وَزْنُ خَمْسَةٍ مِقْدَارٌ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْوَصْفِ لِمَا مَرَّ فِي الْبِنَاءِ. (وَلَوْ قَالَ: غَصَبْتُهَا مِنْهُ، أَوْ أَوْدَعَنِيهَا صُدِّقَ فِي الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ) لِأَنَّ الْغَصْبَ يَرِدُ عَلَى مَا يَجِدُهُ وَالْإِنْسَانُ يُودِعُ مَا يَمْلِكُهُ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنِ الْعُيُوبِ. (وَفِي الرَّصَاصِ وَالسَّتُّوقَةِ إِنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَإِلَّا فَلَا) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمَا مَجَازًا فَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْوَصْلُ؛ وَلَوْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ إِلَّا أَنَّهَا تَنْقُصُ كَذَا فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ إِنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَإِلَّا فَلَا. [فصل الْإِقْرَارُ حَالَ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ] فَصْلٌ (وَدُيُونُ الصِّحَّةِ وَمَا لَزِمَهُ فِي مَرَضِهِ بِسَبَبٍ مَعْرُوفٍ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وَمَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ، وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ، إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ. وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا وَمَاتَ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْمِيرَاثِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَمَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمِيرَاثِ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقْضِي دَيْنَ الصِّحَّةِ وَالدَّيْنَ الْمَعْرُوفَ السَّبَبِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ قُضِيَ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِلْوَرَثَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِمَالِهِ بِأَوَّلِ مَرَضِهِ حَتَّى يَنْتَقِضَ تَبَرُّعُهُ لِحَقِّهِمْ، فَفِي إِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِمْ إِبْطَالُ حَقِّهِمْ فَلَا يَصِحُّ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقِرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ الْقَاضِي حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكَافَّةِ فَكَانَ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَكَذَا الدُّيُونُ الْمَعْرُوفَةُ السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهَا، وَكَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ دُونَ الْبَعْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ، فَإِذَا قُضِيَتْ دُيُونُ الصِّحَّةِ وَالْمَعْرُوفَةِ الْأَسْبَابِ يَقْضِي مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ؛ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ، وَكَانَ أَحَقَّ مِنَ الْوَرَثَةِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ؛ لَأَنَّ مَالَهُ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ فَرَاغِ حَاجَتِهِ، وَفَرَاغُ ذِمَّتِهِ مِنْ أَهَمِّ الْحَوَائِجِ. قَالَ: (وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ إِلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ) . قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَا إِقْرَارَ بِدَيْنٍ» ، وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ، فَإِقْرَارُهُ لِبَعْضِهِمْ إِبْطَالٌ لِحَقِّ الْبَاقِينَ، وَفِيهِ إِيقَاعُ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إِيثَارِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ، وَأَنَّهُ مَنْشَأٌ لِلْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَقَضِيَّةُ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أَكْبَرُ شَاهِدٍ، وَكَذَا لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ إِنْ قَبَضَ مِنْهُ دَيْنَهُ أَوْ رَجَعَ فِيمَا وَهَبَهُ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ، أَوْ قَبَضَ مَا غَصَبَهُ مِنْهُ أَوْ رَهَنَهُ عِنْدَهُ، أَوِ اسْتَرَدَّ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِعَبْدِ وَارِثِهِ وَلَا مُكَاتِبِهِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ لِمَوْلَاهُ مِلْكًا أَوْ حَقًّا، وَلَوْ صَدَرَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْهُ لِلْوَارِثِ وَهُوَ مَرِيضٌ ثُمَّ بَرَأَ ثُمَّ مَاتَ جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَرَضَ الْمَوْتِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ؛ وَلَوْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَهُوَ وَارِثُهُ ثُمَّ جَاءَهُ ابْنٌ وَمَاتَ صَحَّ الْإِقْرَارُ لِأَخِيهِ، وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ وَلَهُ ابْنٌ فَمَاتَ الِابْنُ ثُمَّ مَاتَ الْمُقِرُّ بِطَلَ الْإِقْرَارُ لِلْأَخِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَارِثَ مَنْ يَرِثُهُ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِالْمَوْتِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَمْ يَرِثْ فَصَحَّ، وَفِي الثَّانِيَةِ وَرِثَ فَلَمْ يَصِحَّ. (وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا وَمَاتَ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْمِيرَاثِ) وَكَذَا لَوْ تَصَادَقَا عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا أَوْ أَوْصَى، وَقَالَا لَهَا فِي الثَّانِيَةِ مَا أَقَرَّ لَهَا أَوْ أَوْصَى؛ وَقَالَ زُفَرُ فِي الْأُولَى كَذَلِكَ أَيْضًا؛ لِكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَلَهُمَا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ بِالطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَصِحُّ لَهَا الْإِقْرَارُ وَالْوَصِيَّةُ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْعِدَّةِ دَلِيلُ التُّهْمَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ فَإِنَّهَا تَخْتَارُ الْفُرْقَةَ لِيَنْفَتِحَ عَلَيْهَا بَابُ الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ فَيَصِلُ إِلَيْهَا أَكْثَرُ مِنْ مِيرَاثِهَا وَيَصْطَلِحَانِ عَلَى الْبَيْنُونَةِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِذَلِكَ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ وَالْإِقْرَارُ أَكْثَرَ مِنْ مِيرَاثِهَا جَاءَتِ التُّهْمَةُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 وَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ قَالَ هُوَ ابْنِي بَطَلَ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ، وَيَصِحُّ إِقْرَارُ الرَّجُلِ بِالْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى إِذَا صَدَّقُوهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِلَّا فِي الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ الزَّوْجِ أَوْ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ، وَمَنْ مَاتَ أَبُوهُ فَأَقَرَّ بِأَخٍ شَارَكَهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَفِيهِ إِبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ أَكْثَرَ فَلَا تُهْمَةَ فَيَجُوزُ الْإِقْرَارُ وَالْوَصِيَّةُ. قَالَ: (وَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ قَالَ هُوَ ابْنِي بَطَلَ إِقْرَارُهُ، وَإِنْ أَقَرَّ لِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَبْطُلْ) لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ تَسْتَنِدُ إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ، فَكَانَ ابْنًا لَهُ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ وَارِثًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ، وَالزَّوْجِيَّةُ تَقْتَصِرُ عَلَى حَالَةِ الْعَقْدِ، فَصَحَّ الْإِقْرَارُ لِكَوْنِهَا أَجْنَبِيَّةً فَلَا يَبْطُلُ، حَتَّى لَوْ أَوْصَى لَهَا أَوْ وَهَبَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا يَصِحُّ؛ لَأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَصِحُّ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ وَارِثَةٌ وَالْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَكَانَتْ كَهِيَ. قَالَ: (وَيَصِحُّ إِقْرَارُ الرَّجُلِ بِالْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَوْلَى إِذَا صَدَّقُوهُ) إِذَا كَانَ الْوَلَدُ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِلَّا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّظَرِ لَهُ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِلَّا فِي الْوَلَدِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ الزَّوْجِ أَوْ شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ) وَأَصْلُهُ أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ هَذَا الْإِقْرَارِ تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ لَهُ لِيَصِيرَ حُجَّةً فِي حَقِّهِ فَيَلْزَمُهُمَا الْأَحْكَامُ بِتَصَادُقِهِمَا، وَتَصَوُّرُ كَوْنِهِ مِنْهُ لِئَلَّا يُكَذِّبَهُ الْعَقْلُ وَأَنْ لَا يَكُونَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ لِئَلَّا يُكَذِّبَهُ الشَّرْعُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى تَصْدِيقِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحَمُّلَ النَّسَبِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ إِلَّا بِتَصْدِيقِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ وَفِي شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ بِهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ إِذَا ثَبَتَ لَا يَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ وَلَهُ الرُّجُوعُ إِذَا أَقَرَّ بِمَنْ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ كَقَرَابَةِ غَيْرِ الْوِلَادِ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ مَعْنًى، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ النَّسَبُ بِغَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ بِالْإِقْرَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحَمُّلِ النَّسَبِ عَلَى الْغَيْرِ فَالْأَخُ نَسَبُهُ إِلَى الْأَبِ، وَالْعَمُّ إِلَى الْجَدِّ وَهَكَذَا، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ وَرِثَهُ، لِأَنَّ إِقْرَارَهُ تَضَمَّنَ أَمْرَيْنِ: تَحَمُّلَ النَّسَبِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ فَبَطَلَ، وَالْإِقْرَارَ لَهُ بِالْمَالِ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ فَيَصِحُّ. (وَمَنْ مَاتَ أَبُوهُ فَأَقَرَّ بِأَخٍ شَارَكَهُ فِي الْمِيرَاثِ) لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِنِصْفِ الْمِيرَاثِ. (وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ) لِمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ التَّصْدِيقُ يَصِحُّ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي النَّسَبِ لِبَقَائِهِ، وَكَذَا تَصْدِيقُ الزَّوْجَةِ لِبَقَاءِ أَحْكَامِهِ وَهُوَ غَسْلُهَا لَهُ وَالْعِدَّةُ، وَلَا يَصِحُّ تَصْدِيقُ الزَّوْجِ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ غَسْلُهَا، فَصَارَ كَالتَّصْدِيقِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ؛ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنَ الْأَحْكَامِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 كِتَابُ الشَّهَادَاتِ مَنْ تَعَيَّنَ لِتَحَمُّلِهَا لَا يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ إِذَا طُولِبَ، فَإِذَا تَحَمَّلَهَا وَطُلِبَ لِأَدَائِهَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَقُومَ الْحَقُّ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْحُدُودِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ، وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ، وَيَقُولُ فِي السَّرِقَةِ:   [الاختيار لتعليل المختار] [كتاب الشهادات] ِ أَصْلُ الشَّهَادَةِ الْحُضُورُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» أَيْ حَضَرَهَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ شَهِدَ الْحَرْبَ وَقَضِيَّةَ كَذَا إِذَا حَضَرَهَا، وَقَالَ: إِذَا عَلِمُوا أَنِّي شَهِدْتُ وَغَابُوا. أَيْ حَضَرْتُ وَلَمْ يَحْضُرُوا، وَالشَّهِيدُ: الَّذِي حَضَرَهُ الْوَفَاةُ فِي الْغَزْوِ حَتَّى لَوْ مَضَى عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ حَيٌّ لَا يُسَمَّى شَهِيدًا؛ لَأَنَّ الْوَفَاةَ لَمْ تَحْضُرْهُ فِي الْغَزْوِ. وَفِي الشَّرْعِ: الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ حَضَرَهُ الشُّهُودُ وَشَاهَدُوهُ، إِمَّا مُعَايَنَةً كَالْأَفْعَالِ نَحْوِ الْقَتْلِ وَالزِّنَا، أَوْ سَمَاعًا كَالْعُقُودِ وَالْإِقْرَارَاتِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ إِلَّا بِمَا حَضَرَهُ وَعَلِمَهُ عِيَانًا أَوْ سَمَاعًا، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ حَتَّى يَذْكُرَ الْحَادِثَةَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنْ عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» وَهِيَ حُجَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِلْحَقِّ مَشْرُوعَةٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وَقَالَ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ؛ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ إِلَّا ذَلِكَ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» وَالْبَيِّنَةُ: الشَّهَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَلِأَنَّ فِيهَا إِحْيَاءَ حُقُوقِ النَّاسِ، وَصَوْنَ الْعُقُودِ عَنِ التَّجَاحُدِ، وَحِفْظَ الْأَمْوَالِ عَلَى أَرْبَابِهَا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَكْرِمُوا شُهُودَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَسْتَخْرِجُ بِهُمُ الْحُقُوقَ» . قَالَ: (مَنْ تَعَيَّنَ لِتَحَمُّلِهَا لَا يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ إِذَا طُولِبَ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَهُوَ مُخَيَّرٌ، وَلَا بَأْسَ بِالتَّحَرُّزِ عَنِ التَّحَمُّلِ. (فَإِذَا تَحَمَّلَهَا وَطُلِبَ لِأَدَائِهَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] وَلِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ لِحُقُوقِ النَّاسِ فَيَحْرُمُ الِامْتِنَاعُ. (إِلَّا أَنْ يَقُومَ الْحَقُّ بِغَيْرِهِ) بِأَنْ يَكُونَ فِي الصَّكِّ سِوَاهُ مَنْ يَقُومُ الْحَقُّ بِهِ فَيَجُوزُ لَهُ الِامْتِنَاعُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَضِيعُ بِامْتِنَاعِهِ؛ وَلِأَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّهَا حَقُّهُ. قَالَ: (وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْحُدُودِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالسَّتْرِ) لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ حِسْبَةٌ، وَالسَّتْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ حِسْبَةٌ. (وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَّنَ مَاعَزًا الرُّجُوعَ وَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ سَتْرًا عَلَيْهِ؛ لِئَلَّا يُرْجَمَ وَيُشْتَهَرَ، وَكَفَى بِهِ قُدْوَةً؛ وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ. قَالَ: (وَيَقُولُ فِي السَّرِقَةِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 أَخَذَ الْمَالَ، وَلَا يَقُولُ: سَرَقَ؛ وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الزِّنَا إِلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَبَاقِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، وَمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْحُقُوقِ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ (ف) ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَالْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَخَذَ الْمَالَ) إِحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ. (وَلَا يَقُولُ: سَرَقَ) إِقَامَةً لِحِسْبَةِ السَّتْرِ. قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ عَلَى الزِّنَا إِلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] ؛ وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّذِي قَذَفَ زَوْجَتَهُ: «ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَضَرْبٌ فِي ظَهْرِكَ» . قَالَ: (وَبَاقِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) ، قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شَاهَدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» وَلَا تَقْبَلُ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. قَالَ: (وَمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْحُقُوقِ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] وَأَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي سِيَاقِ الْمُدَايَنَاتِ بِالْأَجَلِ فَتُقْبَلُ فِيهَا. وَعَنْ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ» وَلِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِالْآيَةِ، فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهَا لِوُجُودِ الْمُشَاهَدَةِ وَالْحِفْظِ وَالْأَدَاءِ كَالرَّجُلِ، وَزِيَادَةُ النِّسْيَانِ تُجْبَرُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة: 282] بَقِيَ شُبْهَةُ الْبَدَلِيَّةِ، فَلِهَذَا قُلْنَا لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ. قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ كَالْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةُ وَعُيُوبِ النِّسَاءِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ» وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَلَا يُمْكِنُ الرِّجَالَ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا وَإِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النِّسَاءُ عَلَى الِانْفِرَادِ فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ، وَتُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبِلَ شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْوِلَادَةِ» ؛ وَلِأَنَّ مَا يُقْبَلُ فِيهِ قَوْلُ النِّسَاءِ عَلَى الِانْفِرَادِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ كَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ، وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ، وَالثَّلَاثُ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ، وَبِالْأَرْبَعِ يُخْرَجُ عَنِ الْخِلَافِ. وَأَحْكَامُ الشَّهَادَةِ فِي الْوِلَادَةِ تُعْرَفُ فِي الطَّلَاقِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا الْبَكَارَةُ فَإِنَّ الْعِنِّينَ يُؤَجَّلُ سُنَّةً وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَهَا إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا بِكْرٌ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ؟ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ مَشَايِخِ خُرَاسَانَ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حَقًّا عَلَى الْغَيْرِ فَكَانَتْ شَهَادَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِي اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ دُونَ الْإِرْثِ (سم) ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَيُقْتَصَرُ فِي الْمُسْلِمِ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَتِهِ (سم ف) ، إِلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنْ طَعَنَ فِيهِ الْخَصْمُ سَأَلَ عَنْهُ. وَقَالَا: يُسْأَلُ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِي اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ دُونَ الْإِرْثِ) أَمَّا الصَّلَاةُ فَبِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَأَمَّا الْإِرْثُ فَمَذْهَبُهُ. وَقَالَا: تُقْبَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صَوْتٌ يَكُونُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ، وَتِلْكَ حَالَةٌ لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ، فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِنَّ لِمَا مَرَّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُمْ سَمَاعُ صَوْتِهِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالْإِرْثِ وَالْمَهْرِ، وَكَذَا لَا يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مُنْفَرِدَاتٍ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مَتَى ثَبَتَتْ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا زَوَالُ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ؛ وَلِأَنَّهُ مِمَّا يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الرِّجَالِ عَلَيْهِ فَلَا ضَرُورَةَ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ) أَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وَالْفَاسِقُ لَيْسَ بِمَرْضِيٍّ؛ وَلِأَنَّ الْحَاكِمَ يَحْكُمُ بِقَوْلِ الشَّاهِدِ وَيُنَفِّذُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْحَاكِمِ الصِّدْقُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْعَدَالَةِ، إِلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَنْفُذُ عِنْدَنَا. وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة: 282] فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي طَلَبِ الشَّهَادَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِهَا؛ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ عَلَى مَا يَأْتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَيْمَانِ، فَيَكُونُ الِامْتِنَاعُ عَنْهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْكَذِبِ أَكْثَرَ؛ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَنْفِي قَوْلَ الْإِنْسَانِ عَلَى الْغَيْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْزَامِهِ، إِلَّا أَنَّا قَبِلْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَأَنَّهُ وَرَدَ مَقْرُونًا بِالشَّهَادَةِ. وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ عَلَى غَيْرِهِ؟ وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] . قَالَ: (وَيُقْتَصَرُ فِي الْمُسْلِمِ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَتِهِ إِلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، فَإِنْ طَعَنَ فِيهِ الْخَصْمُ سَأَلَ عَنْهُ. وَقَالَا: يَسْأَلُ عَنْهُمْ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» ، وَفِي كِتَابِ عُمَرَ: الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا مَحْدُودًا حَقًّا أَوْ مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وَلَوِ اكْتَفَى بِالسِّرِّ جَازَ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُزَكِّي: هُوَ عَدْلٌ (ف) جَائِزُ الشَّهَادَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ قَرَابَةٍ؛ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ وُلِدَ غَيْرَ فَاسِقٍ، وَالْفِسْقُ أَمْرٌ طَارِئٌ مَظْنُونٌ، فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَصْلِ بِالظَّنِّ، وَلَا يَلْزَمُ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّاهِدِ الْعَدَالَةُ كَذَلِكَ الْأَصْلُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْعَدَالَةُ، وَالشَّاهِدُ وَصَفَهُ بِالزِّنَا وَالْقَتْلِ فَتَقَابَلَ الْأَصْلَانِ فَرَجَّحْنَا بِالْعَدَالَةِ الْبَاطِنَةِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِسْقَاطِ فَيُسْأَلُ عَنْهُمْ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْحَاكِمَ يَجِبُ أَنْ يَحْتَاطَ فِي حُكْمِهِ صِيَانَةً لَهُ عَنِ النَّقْضِ وَذَلِكَ بِسُؤَالِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ. (وَلَوِ اكْتَفَى بِالسِّرِّ جَازَ) . قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَفْتَى فِي زَمَانٍ كَانَتِ الْعَدَالَةُ فِيهِ ظَاهِرَةً، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَدَّلَ أَهْلَهُ وَقَالَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» وَاكْتَفَى بِتَعْدِيلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَفِي زَمَنِهِمَا فَشَا الْكَذِبُ فَاحْتَاجَا إِلَى السُّؤَالِ، وَلَوْ كَانَا فِي زَمَانِهِ مَا سَأَلَا، وَلَوْ كَانَ فِي زَمَنِهِمَا لَسَأَلَ، فَلِهَذَا قُلْنَا: الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا، وَلَقَدْ تَصَفَّحْتُ كَثِيرًا مِنْ كُتُبِ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ فَمَا رَأَيْتُهُ رَجَّحَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلَ غَيْرِهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ قَوْلَهُمَا لِمَا رَأَى مِنْ فَسَادِ أَهْلِ الزَّمَانِ، وَقِلَّةِ مُبَالَاتِهِمْ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَكَانَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنَقِّبَ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَى الشَّاهِدِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْمُزَكِّي هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ عَدْلٌ غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ؛ وَقِيلَ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ هُوَ عَدْلٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحُرِّيَّةُ تَبَعًا لِلدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا عِنْدَهُ قَالَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ، وَقَدْ كَانُوا يَكْتَفُونَ بِتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ، ثُمَّ انْضَمَّ إِلَيْهَا تَزْكِيَةُ السِّرِّ فِي زَمَانِنَا لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ، ثُمَّ قِيلَ يَكْتَفِي بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ تَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ، ثُمَّ لَا بُدَّ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُزَكِّي وَالشَّاهِدِ لِتَنْتَفِيَ شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ. وَتَزْكِيَةُ السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ رُقْعَةً مَخْتُومَةً إِلَى الْمُزَكِّي فِيهَا اسْمُ الشَّاهِدِ وَنَسَبُهُ وَحِلْيَتُهُ وَمُصَلَّاهُ، وَيَرُدُّهَا الْمُزَكِّي كَذَلِكَ سِرًّا، وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَخْتَارَ لِلْمَسْأَلَةِ عَنِ الشُّهُودِ أَوْثَقَ النَّاسِ وَأَوْرَعَهُمْ دِيَانَةً وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً وَأَكْثَرَهُمْ بِالنَّاسِ خِبْرَةً وَأَعْلَمَهُمْ بِالتَّمْيِيزِ، غَيْرَ مَعْرُوفِينَ بَيْنَ النَّاسِ لِئَلَّا يُقْصَدُوا بِسُوءٍ أَوْ يُخْدَعُوا، وَيَنْبَغِي لِلْمُزَكِّي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَيَتَعَرَّفَهَا مِنْ جِيرَانِهِمْ وَأَهْلِ سُوقِهِمْ، فَإِنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمْ عِنْدَهُ كَتَبَ ذَلِكَ فِي آخِرِ الرُّقْعَةِ: هُوَ عَدْلٌ عِنْدِي جَائِزُ الشَّهَادَةِ، وَإِلَّا كَتَبَ: إِنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ، وَخَتَمَ الرُّقْعَةَ وَرَدَّهَا، فَيَقُولُ الْقَاضِي لِلْمُدَّعِي زِدْ فِي شُهُودِكَ وَلَا يَقُولُ جُرِحُوا، وَيُقْبَلُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ قَوْلُ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَكُلِّ ذِي رَحِمٍ وَالْعَبْدِ وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَارٌ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَالشُّهُودُ الْكُفَّارُ يُعَدِّلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (سم) ، وَتَكْفِي تَزْكِيَةُ الْوَاحِدِ (ف) . وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ أَوْ أَبْصَرَهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهَدْ عَلَيْهِ إِلَّا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يُشْهِدْهُ (ف) . وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا لَمْ يُعَايِنْهُ إِلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالدُّخُولَ وَالنِّكَاحَ، وَوِلَايَةَ الْقَاضِي، وَأَصْلَ الْوَقْفِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْمُسْلِمُونَ سَأَلَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ عُدُولِ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ يَسْأَلُ أُولَئِكَ عَنِ الشُّهُودِ. قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ تَزْكِيَةُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ هُمْ عُدُولٌ إِلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا، أَمَّا لَوْ قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولُ صَدَّقَهُ فَقَدِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ فَيَقْضِي بِإِقْرَارِهِ لَا بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْجُحُودِ؛ وَقِيلَ يَجُوزُ تَعْدِيلُهُ. وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ وَالشُّهُودَ يَزْعُمُونَهُ كَاذِبًا فِي إِنْكَارِهِ مُبْطِلًا فِي جُحُودِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُزَكِّيًا. قَالَ: (وَتَكْفِي تَزْكِيَةُ الْوَاحِدِ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ اثْنَيْنِ وَهُوَ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْمُتَرْجِمُ وَرَسُولُ الْقَاضِي إِلَى الْمُزَكِّينَ. لِمُحَمَّدٍ أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَدَالَةِ وَذَلِكَ بِالتَّزْكِيَةِ، فَيُشْتَرَطُ الْإِتْيَانُ كَالشَّهَادَةِ، وَيُشْتَرَطُ عِنْدَهُ ذُكُورَةُ الْمُزَكِّي فِي الْحُدُودِ وَالْأَرْبَعَةُ فِي شُهُودِ الزِّنَا لِمَا بَيَّنَّا. وَلَهُمَا أَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ فِيهَا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْحُكْمِ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ تَعْبُّدِيٌّ فَلَا يَتَعَدَّاهَا. [فصل يجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ أَوْ أَبْصَرَهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ] فَصْلٌ (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ أَوْ أَبْصَرَهُ مِنَ الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ عَلِمَ الْمُوجِبَ وَتَيَقَّنَهُ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنْ عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» وَيَقُولُ أَشْهَدُ بِكَذَا لِأَنَّهُ عَلِمَهُ وَلَا يَقُولُ أَشْهَدَنِي فَإِنَّهُ كَذِبٌ. قَالَ: (إِلَّا الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ مَا لَمْ يُشْهِدْهُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ مُوجِبَةً إِلَّا بِالنَّقْلِ إِلَى مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِالتَّحَمُّلِ، وَلَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ غَيْرَهُ عَلَى شَهَادَتِهِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ مَا حَمَّلَهُ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُخْتَبِئِ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ الرَّجُلُ بِحَقٍّ وَالشُّهُودُ مُخْتَبِئُونَ فِي بَيْتٍ يَسْمَعُونَ إِقْرَارَهُ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُمُ الشَّهَادَةُ إِذَا كَانُوا يَرَوْنَ وَجْهَهُ وَيَعْرِفُونَهُ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ إِلَّا إِذَا عَلِمُوا أَنْ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ غَيْرُهُ فَيَحِلُّ لَهُمْ ذَلِكَ، وَكَذَا إِذَا سَمِعُوا صَوْتَ امْرَأَةٍ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا لَمْ يُعَايِنْهُ إِلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالدُّخُولَ وَالنِّكَاحَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي، وَأَصْلَ الْوَقْفِ) ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنَ الْمُشَاهَدَةِ وَهِيَ الْمُعَايَنَةُ وَلَمْ تُوجَدْ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُبَاشَرُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ مَخْصُوصِينَ وَتَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ مُسْتَمِرَّةٌ، فَأُقِيمَتِ الشُّهْرَةُ وَالِاسْتِفَاضَةُ مَقَامَ الْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ كَيْلَا تَتَعَطَّلَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ، وَعَلَى هَذَا النَّاسُ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، أَلَا تَرَى أَنَّا نَشْهَدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فِيمَا سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، وَإِذَا رَأَى الشَّاهِدُ خَطَّهُ لَا يَشْهَدْ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَادِثَةَ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَذَلِكَ سَائِرُ زَوْجَاتِهِ وَفَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زَوْجَةُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَنَشْهَدُ بِنَسَبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَنَشْهَدُ بِقَضَاءِ شُرَيْحٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي يُوسُفَ، وَنَشْهَدُ بِمَوْتِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالشُّهْرَةُ إِنَّمَا تَكُونُ إِمَّا بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ، حَتَّى لَوْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ يَثِقُ بِهِ جَازَ؛ وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ؛ وَقِيلَ يَكْتَفِي فِي الْمَوْتِ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَحْضُرُهُ غَيْرُ الْوَاحِدِ، وَإِذَا رَأَى رَجُلًا يَجْلِسُ لِلْقَضَاءِ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِوِلَايَتِهِ؛ وَكَذَا إِذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَيَتَعَاشَرَانِ مُعَاشَرَةَ الْأَزْوَاجِ حَلَّ لَهُ الشَّهَادَةُ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا كَمَا إِذَا رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ. وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى أَصْلِهِ دُونَ شَرْطِهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الَّذِي يُشْتَهَرُ، فَلَوْ لَمْ تَجُزِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ أَدَّى إِلَى اسْتِهْلَاكِ الْأَوْقَافِ الْقَدِيمَةِ، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي النَّسَبِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَلِأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِلَالًا مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُشْتَهَرُ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يُشْتَهَرُ غَالِبًا وَصَارَ كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ مِثْلُهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ، وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ أَنْ يُطْلِقَ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْقَاضِي حَتَّى لَوْ فَسَّرَهَا وَقَالَ إِنَّهُ شَهِدَ بِالتَّسَامُعِ لَا يَقْبَلُهَا، وَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ بِالْيَدِ لَا يُفَسِّرُهَا. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ) إِذَا رَآهُ فِي يَدِهِ. (فِيمَا سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ) لِأَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَهُوَ الْمَرْجِعُ فِي الْأَسْبَابِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِرْثِ وَغَيْرِهَا. وَاشْتَرَطَ أَبُو يُوسُفَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلْأَوَّلِ، وَاشْتَرَطَ الْخَصَّافُ التَّصَرُّفَ مَعَ الْيَدِ فَإِنَّ الْيَدَ تَتَنَوَّعُ. قُلْنَا وَالتَّصَرُّفُ أَيْضًا يَتَنَوَّعُ إِلَى أَمَانَةٍ وَمِلْكٍ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ إِذَا عَايَنَ الْمِلْكَ وَالْمَالِكَ، أَوْ عَايَنَ الْمِلْكَ وَحْدَهُ وَعُرِفَ الْمَالِكُ بِالِاشْتِهَارِ بِنَسَبِهِ. أَمَّا إِذَا عَايَنَ الْمَالِكَ وَحْدَهُ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ يُسْتَخْدَمُ كَمَا يُسْتَخْدَمُ الْعَبْدُ كَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ وَنَحْوِهِ، فَلَا تَكُونُ الْيَدُ دَلِيلًا حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ رَقِيقٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ بِالْيَدِ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ رِقُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا بِخِلَافِ الْكَبِيرَيْنِ. قَالَ: (وَإِذَا رَأَى الشَّاهِدُ خَطَّهُ لَا يَشْهَدُ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَادِثَةَ) وَهَكَذَا الْقَاضِي وَالرَّاوِي؛ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ، قَالُوا: وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقِيلَ هُوَ إِجْمَاعٌ؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إِذَا وَجَدَ الْقَاضِي الْقَضِيَّةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 وَشَاهِدُ الزُّورِ يُشَهَّرُ وَلَا يُعَزَّرُ (سم ف) ، وَتُعْتَبَرُ مُوَافَقَةُ الشَّهَادَةِ الدَّعْوَى، وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْلَّفْظِ وَالْمَعْنَى (سم) ، فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي دِيوَانِهِ تَحْتَ خَتْمِهِ، وَكَذَا إِذَا رَأَى الشَّاهِدُ رَقْمَ شَهَادَتِهِ عِنْدَهُ تَحْتَ خَتْمِهِ وَكَذَلِكَ الرَّاوِي فَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْحَادِثَةَ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. أَمَّا مَا كَانَ فِي الصَّكِّ بِيَدِ الْخَصْمِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ نُسْخَتُهُ لَا يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَذْكُرِ الْحَادِثَةَ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنْ عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» وَلَا عِلْمَ مَعَ النِّسْيَانِ، وَشَرْطُ حِلِّ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُ أَنْ يَحْفَظَ مِنْ حِينِ سَمِعَ إِلَى أَنْ يَرْوِيَ، وَلِهَذَا قَلَّتْ رِوَايَةُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَذَا إِذَا ذَكَرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْحَادِثَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ مَا لَمْ يَذْكُرْهَا. قَالَ: (وَشَاهِدُ الزُّورِ يُشَهَّرُ وَلَا يُعَزَّرُ) وَقَالَا: يُوجِعُهُ ضَرْبًا وَيَحْبِسُهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ؛ وَلِأَنَّهَا إِضْرَارٌ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فَيُعَزِّرُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزَّجْرَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ أَزْجَرَ لَكِنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الرُّجُوعِ، وَفِعْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ سِيَاسَةً وَلِهَذَا بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ وَسَخَّمَ. وَالتَّشْهِيرُ: أَنْ يَبْعَثَهُ الْقَاضِي إِلَى أَهْلِهِ أَوْ سُوقِهِ أَجْمَعَ مَا يَكُونُونَ وَيَقُولُ: الْقَاضِي يُقْرِئُكُمُ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إِنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ، مَنْقُولُ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ. وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ الضَّرْبِ. قَالَ: (وَتُعْتَبَرُ مُوَافَقَةُ الشَّهَادَةِ الدَّعْوَى) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إِلَّا بَعْدَ الدَّعْوَى، فَإِنْ لَمْ تُوَافِقْهَا فَقَدِ انْعَدَمَتْ. (وَيُعْتَبَرُ اتِّفَاقُ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، فَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ) وَقَالَا: تُقْبَلُ عَلَى الْأَلْفِ إِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ، وَتَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةٍ فَيَثْبُتُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْأَلْفِ، كَذَا هَذَا، وَعَلَى هَذَا الطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَتَيْنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ وَجَدَ الِاخْتِلَافَ لَفْظًا، وَأَنَّهُ دَلِيلُ الِاخْتِلَافِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَلْفِ غَيْرُ مَعْنَى الْأَلْفَيْنِ، وَهُمَا جُمْلَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ حَصَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَا يُقْبَلُ كَاخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَا، لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى، لِأَنَّهُ عَطَفَ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى الْأَلْفِ، وَالْعَطْفُ يُقَرِّرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ الطَّلْقَةُ وَالطَّلْقَةُ وَالنِّصْفُ بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَطْفٍ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ. وَالْعِشْرُونَ، وَالْخَمْسُ وَالْعِشْرُونَ نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفِ وَالْخَمْسِمِائَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي ادَّعَى الْأَقَلَّ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَلَوْ قَالَ: كَانَ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَقَبَضْتُ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَبْرَأَتُهُ عَنْهَا قَبْلَ التَّوْفِيقِ، وَإِنْ شَهِدَا بِأَلْفٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا قَضَاهُ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وَلَوْ شَهِدَا عَلَى سَرِقَةِ بَقَرَةٍ وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا قُطِعَ (سم) ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأُنُوثَةِ وَالذُّكُورَةِ لَمْ يُقْطَعْ. شَهِدَا بِقَتْلِ زَيْدٍ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَآخَرَانِ بِقَتْلِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ رُدَّتَا، فَإِنْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا وَقُضِيَ بِهَا بَطَلَتِ الْأُخْرَى. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى،   [الاختيار لتعليل المختار] قَضَى بِالْأَلْفِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَيْهَا، وَلَا يَثْبُتُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ شَهِدَ آخَرُ يَثْبُتُ، وَيَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ إِذَا عَلِمَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَشْهَدَ بِالْأَلْفِ حَتَّى يَعْتَرِفَ الْمُدَّعِي بِالْقَبْضِ لِيُظْهِرَ الْحَقَّ وَلَا يُعِينُ عَلَى الظُّلْمِ. قَالَ: (وَلَوْ شَهِدَا عَلَى سَرِقَةِ بَقَرَةٍ وَاخْتَلَفَا فِي لَوْنِهَا قُطِعَ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْأُنُوثَةِ وَالذُّكُورَةِ لَمْ يُقْطَعْ) ، وَقَالَا: لَا يُقْطَعُ فِيهِمَا لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاهِدَانِ وَصَارَ كَالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ. وَلَهُ أَنَّ اشْتِمَالَ الْبَقَرَةِ عَلَى اللَّوْنَيْنِ جَائِزٌ، فَيَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مَا رَأَى فِي جَانِبِهِ وَهِيَ حَالَةُ اشْتِبَاهٍ؛ لِأَنَّ السَّرِقَةَ تَكُونُ دَلِيلًا، وَالْعَمَلُ بِالْبَيِّنَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ فَتُقْبَلُ، بِخِلَافِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي بَقَرَةٍ فَكَانَا مُتَغَايِرَيْنِ. قَالَ: (شَهِدَا بِقَتْلِ زَيْدٍ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ، وَآخَرَانِ بِقَتْلِهِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ رُدَّتَا) لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ وَلَا تُدْرَى، وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى بِالرَّدِّ وَلَا بِالْقَبُولِ فَيُرَدَّانِ. (فَإِنْ سَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا وَقُضِيَ بِهَا بَطَلَتِ الْأُخْرَى) لِأَنَّ الْأُوْلَى تَرَجَّحَتْ بِالْقَضَاءِ فَلَا تُنْقَضُ بِمَا هُوَ دُونَهَا. [فصل ردت شهاته لمانع ثم زال هل تقبل شهادته] فَصْلٌ كُلُّ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِلرِّقِّ أَوِ الْكُفْرِ أَوْ لِلصِّبَا ثُمَّ زَالَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ فَأَدَّاهَا قُبِلَتْ، وَلَوْ رُدَّتْ لِفِسْقٍ أَوْ زَوْجِيَّةٍ أَوِ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ أَوِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ ثُمَّ زَالَتْ فَأَدَّاهَا لَمْ تُقْبَلْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأُولَى لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَمْ يَكُنِ الرَّدُّ تَكْذِيبًا شَرْعًا، وَالثَّانِيَةُ شَهَادَةٌ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فَكَانَ تَكْذِيبًا فَلَا تُقْبَلُ أَبَدًا، وَلَوْ تَحَمَّلَهَا الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ أَوْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ فَأَدَّاهَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ قُبِلَتْ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَحَمَّلَهَا وَهُوَ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ أَوْ صَبِيٌّ فَأَدَّاهَا بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الْأَدَاءِ لِمَا يَأْتِي وَلَا مَانِعَ حَالَتَئِذٍ. قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى) وَقَالَ زُفَرُ: تُقْبَلُ فِيمَا يُجْرَى فِيهِ التَّسَامُعُ لِأَنَّهُ يُسْمَعُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ تُقْبَلُ لِوُجُودِ الْعِلْمِ بِالنَّظَرِ، وَعِنْدَ الْأَدَاءِ يَحْتَاجُ إِلَى الْقَوْلِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَيَعْرِفُهُ بِالنِّسْبَةِ كَمَا فِي الْمَيِّتِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ وَلَا عَلَى الْإِشَارَةِ، وَالنِّسْبَةُ لِتَعْرِيفِ الْغَائِبِ دُونَ الْحَاضِرِ وَلَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا يَقْضِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وَلَا الْمَحْدُودِ (س ز) فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ، وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِلْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا لِلْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا، وَلَا لِعَبْدِهِ، وَلَا لِمُكَاتَبِهِ، وَلَا لِلزَّوْجِ (ف) وَالزَّوْجَةِ (ف) ، وَلَا أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا، وَلَا شَهَادَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ؛ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ وَلَا نَائِحَةٍ، وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ، وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِهَا عِنْدَهُمَا، لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِيَصِيرَ حُجَّةً، كَمَا إِذَا جُنَّ أَوْ فَسَقَ، بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ مِنْهُ لِلْأَهْلِيَّةِ وَالْغَيْبَةِ لَا تَفُوتُ بِهَا الْأَهْلِيَّةُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنُّطْقِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ. قَالَ: (وَلَا الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ وَإِنْ تَابَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ، وَلِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ لِأَنَّهُ مَانِعٌ فَيَبْقَى بَعْدَ التَّوْبَةِ. أَمَّا الْمَحْدُودُ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ فَالرَّدُّ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْفِسْقِ، وَقَدِ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الْآيَةِ مُنْقَطِعٌ أَوْ هُوَ مَصْرُوفٌ إِلَى الْأَقْرَبِ وَهُوَ الْفِسْقُ. (وَلَوْ حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ) لِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ حَدَثَتْ لَهُ شَهَادَةٌ أُخْرَى غَيْرَ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ، فَلَا يَكُونُ الْحَدُّ فِي إِسْقَاطِ الْأُولَى إِسْقَاطًا فِي الثَّانِيَةِ، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً. قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِلْوَلَدِ وَإِنْ سَفَلَ، وَلَا لِلْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ، وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ، وَلَا الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ، وَلَا الْأَجِيرِ لِمَنِ اسْتَأْجَرَهُ» رُوِيَ ذَلِكَ بِأَحَادِيثَ مُخْتَلِفَةٍ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ حَتَّى لَا يَجُوزَ دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِمْ فَيَكُونُ شَهَادَةً لِنَفْسِهِ مِنْ وُجُوهٍ، وَمَحْرَمِيَّةُ الرَّضَاعِ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ لَا جُزْئِيَّةَ بَيْنَهُمَا فَانْتَفَتِ التُّهْمَةُ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَرَابَاتِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَمَا سِوَى قَرَابَةِ الْوِلَادِ لِعَدَمِ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (وَلَا لِعَبْدِهِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ فَتَقَعُ الشَّهَادَةُ لِنَفْسِهِ. (وَلَا لِمُكَاتَبِهِ) لِأَنَّ أَكْسَابَهُ لَهُ مِنْ وَجْهٍ وَالْعَبْدُ الْمَدْيُونُ كَالْمُكَاتَبِ. قَالَ: (وَلَا لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمَا مُتَّصِلَةٌ عَادَةً فَتَقَعُ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ. (وَلَا أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِلْآخَرِ فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا) لِمَا رَوَيْنَا وَلِأَنَّهَا تَقَعُ لِنَفْسِهِ. (وَلَا شَهَادَةَ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ فِي مُدَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَصَارَ كَالْمُسْتَأْجِرِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ. قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مُخَنَّثٍ وَلَا نَائِحَةٍ، وَلَا مَنْ يُغَنِّي لِلنَّاسِ) لِأَنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ: " لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ: النَّائِحَةُ، وَالْمُغَنِّيَةُ» ، وَالْمُرَادُ الْمُخَنَّثُ الَّذِي يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الرَّدِيئَةَ، وَأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُؤَنَّثَاتِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْمُذَكَّرَاتِ مِنَ النِّسَاءِ» ، أَمَّا اللَّيِّنُ فِي الْكَلَامِ خِلْقَةً فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. قَالَ: (وَلَا مُدْمِنِ الشُّرْبِ عَلَى اللَّهْوِ) لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مُتَأَوِّلًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ يَسْكَرْ أَوْ يَكُنْ عَلَى اللَّهْوِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ، وَلَا مَنْ يَفْعَلُ كَبِيرَةً تُوجِبُ الْحَدَّ، وَلَا مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا، وَلَا مَنْ يُقَامِرُ بِالشَّطْرَنْجِ وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ، وَلَا مَنْ يَفْعَلُ الْأَفْعَالَ الْمُسْتَخَفَّةَ كَالْبَوْلِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَا مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ، وَلَا شَهَادَةُ الْعَدُوِّ إِنْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ بِسَبَبِ الدُّنْيَا، وَتُقْبَلُ إِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الدِّينِ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَلَا مَنْ يَلْعَبُ بِالطُّيُورِ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ غَفْلَةً وَيَطَّلِعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ بِالطُّلُوعِ عَلَى السُّطُوحَاتِ. قَالَ: (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ كَبِيرَةً تُوجِبُ الْحَدَّ) لِفِسْقِهِ. (وَلَا مَنْ يَأْكُلُ الرِّبَا) لِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمُ الْإِدْمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يَخْلُو عَنِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ. (وَلَا مَنْ يُقَامِرُ بِالشَّطْرَنْجِ) لِأَنَّهُ حَرَامٌ. أَمَّا نَفْسُ اللَّعِبِ لَا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ لِمَكَانِ الِاجْتِهَادِ إِلَّا أَنْ تَفُوتَهُ الصَّلَاةُ أَوْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ كَذِبًا. قَالَ: (وَلَا مَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ إِزَارٍ) لِفِسْقِهِ بِإِبْدَاءِ عَوْرَتِهِ. (وَلَا مَنْ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنَ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَخِفَّةِ كَالْبَوْلِ وَالْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ) لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الْمُرُوءَةَ فَلَا يَتَحَاشَى عَنِ الْكَذِبِ، وَكَذَا مَنْ يَمْشِي فِي السُّوقِ بِالسَّرَاوِيلِ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ الْمُنَاهَدَةُ مَعَ الِابْنِ فِي السَّفَرِ. قَالَ: (وَلَا مَنْ يُظْهِرُ سَبَّ السَّلَفِ) لِفِسْقِهِ بِخِلَافِ مَنْ يَكْتُمُهُ، وَلَا الشَّتَّامُ لِلنَّاسِ وَالْجِيرَانِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا أُجِيزُ شَهَادَةَ مَنْ شَتَمَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْأَسْقَاطِ وَأَوْضَاعِ النَّاسِ، وَأَقْبَلُ شَهَادَةَ الَّذِينَ تَبَرَّؤُوا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَدَيُّنًا وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا. (وَلَا شَهَادَةِ الْعَدُوِّ إِنْ كَانَتِ الْعَدَاوَةُ بِسَبَبِ الدُّنْيَا) لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ. (وَتُقْبَلُ إِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ الدِّينِ) لِأَنَّهُ لَا يَكْذِبُ لِدِينِهِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ تَارِكِ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ مَجَانَةً، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ لِذَلِكَ تَرْكَ الْجُمْعَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَقَالَ الْخَصَّافُ مَرَّةً. وَإِنْ تَرَكَهَا لِعُذْرِ مَرَضٍ أَوْ بُعْدٍ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ بِتَأْوِيلٍ بِأَنْ كَانَ يُفَسِّقُ الْإِمَامَ لَا تُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَجْلِسُ مَجَالِسَ الْفُجُورِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: الْعَدْلُ الَّذِي لَمْ يُظْهِرْ رِيبَةً. قَالَ مُحَمَّدٌ: مُوسِرٌ أَخَّرَ الزَّكَاةَ وَالْحَجَّ إِنْ كَانَ صَالِحًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُمَا لَا وَقْتَ لَهُمَا، وَمَا كَانَ لَهُ وَقْتٌ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِالتَّأْخِيرِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَقْبَلُ شَهَادَةَ الشَّاعِرِ مَا لَمْ يَقْذِفْ فِي شِعْرِهِ الْمُحْصَنَاتِ، وَقَالَ الْعَدْلُ: هُوَ الَّذِي غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ اشْتِرَاطُ السَّلَامَةِ عَنْ كُلِّ مَأْثَمٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ قَلَّ مَا يَسْلَمُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النَّخَّاسِينَ وَالدَّلَّالِينَ لِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ جَمِيعِ الصَّنَائِعِ كُلِّهَا إِذَا كَانُوا عُدُولًا إِلَّا إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ الْحَلِفِ وَالْأَيْمَانِ الْفَاجِرَةِ. وَمَنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ حَالَ إِفَاقَتِهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ إِلَّا الْخَطَّابِيَّةَ وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الرَّافِضَةِ يَسْتَجِيزُونَ الشَّهَادَةَ لِكُلِّ مَنْ يَحْلِفُ عِنْدَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ حُرْمَةَ الْكَذِبِ، وَقِيلَ يَرَوْنَ الشَّهَادَةَ لِشِيعَتِهِمْ وَاجِبَةً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ، وَتُقْبَلُ (ف) شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ، وَالْخَصِيِّ وَالْخُنْثَى وَوَلَدِ الزِّنَا، وَالْمُعْتَبَرُ حَالُ الشَّاهِدِ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ التَّحَمُّلِ. وَإِذَا كَانَتِ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُجَسِّمَةِ لِأَنَّهُمْ كَفَرَةٌ، وَمَنْ لَا يَكْفُرُ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ. أَلَا يَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا، وَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَتْ مَقْبُولَةً، وَلَيْسَ مَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنَ الِاخْتِلَافِ أَكْثَرَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ، بِخِلَافِ الْفَاسِقِ عَمَلًا؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورَ دِينِهِ فَيَرْتَكِبُ الْكَذِبَ، وَهَذَا يَعْتَقِدُ مَا يَفْعَلُهُ حَقًّا يُدِينُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى فَيَمْتَنِعُ عَنِ الْكَذِبِ. قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْوِلَايَةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِمْ عَلَيْهِ وَفِسْقِهِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ فَلَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ يَجْتَنِبُ مُحَرَّمَ دِينِهِ، وَالْكَذِبُ مُحَرَّمٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَالَ: اجْتَمَعَتْ أَقَاوِيلُ السَّلَفِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ النَّصَارَى بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا رَدَّ شَهَادَتَهُمْ غَيْرَ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَإِنِّي وَجَدْتُ عَنْهُ رِوَايَتَيْنِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ بِشَهَادَةِ الْيَهُودِ وَمِلَلُهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتَكْذِيبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجْمَعُهُمْ دَارٌ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الرُّومِ عَلَى الْهِنْدِ وَبِالْعَكْسِ لِانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَبِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ. (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ) لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ. (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ) لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ فِي دَارِنَا عَلَى نَفْسِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ فَتَكُونُ ثَابِتَةً فِي جِنْسِهِ. قَالَ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَقْلَفِ) لِأَنَّ تَرْكَ السُّنَّةِ لَا يُوجِبُ الْفِسْقَ إِلَّا إِذَا تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ، وَلَوْ تَرَكَهُ بَعْدَ مَا كَبُرَ لَا يَفْسُقُ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ صِيَانَةً لِمُهْجَتِهِ لَا رَغْبَةً عَنِ السُّنَّةِ. قَالَ: (وَالْخَصِيُّ) لِأَنَّهُ قُطِعَ عُضْوٌ مِنْهُ فَصَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَبِلَ شَهَادَةَ عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ. قَالَ: (وَالْخُنْثَى) لِأَنَّهُ إِمَّا رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ. قَالَ: (وَوَلَدُ الزِّنَا) لِأَنَّ فِسْقَ الْأَبَوَيْنِ لَا يُوجِبُ فِسْقَهُ كَكُفْرِهِمَا وَإِسْلَامِهِ، إِذِ الْكَلَامُ فِي الْعَدْلِ. قَالَ: (وَالْمُعْتَبَرُ حَالُ الشَّاهِدِ وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ التَّحَمُّلِ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِهَا وَالْإِلْزَامَ حَالَةُ الْأَدَاءِ فَتُعْتَبَرُ الْأَهْلِيَّةُ وَالْوِلَايَةُ عِنْدَهُ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَتِ الْحَسَنَاتُ أَكْثَرَ مِنَ السَّيِّئَاتِ قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ) لِمَا مَرَّ، وَلَا بُدَّ مِنِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ أَجْمَعَ غَيْرَ مُصِرٍّ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَيَكُونُ صَلَاحُهُ أَكْثَرَ مِنْ فَسَادِهِ، مُعْتَادَ الصِّدْقِ، مُجْتَنِبًا الْكَذِبَ، يَخَافُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 فَصْلٌ تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا لَا يَسْقُطُ (ف) بِالشُّبْهَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] هَتْكَ السِّتْرِ، صَحِيحَ الْمُعَامَلَةِ، فِي الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، مُؤَدِّيًا لِلْأَمَانَةِ، قَلِيلَ اللَّهْوِ وَالْهَذَيَانِ. قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَغُرَّنَّكُمْ طَنْطَنَةُ الرَّجُلِ فِي صِلَاتِهِ، وَانْظُرُوا إِلَى حَالِهِ عِنْدَ دِرْهَمِهِ وَدِينَارِهِ. أَمَّا الْإِلْمَامُ بِمَعْصِيَتِهِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ، لِمَا فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْ سَدِّ بَابِ الشَّهَادَةِ. 1 - فَصْلٌ اعْلَمْ أَنَّ الْجَرْحَ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ، لِأَنَّ الْجَارِحَ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ الْعِيَانُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ دِينِهِ، وَالْمُعَدِّلُ شَهِدَ بِالظَّاهِرِ وَلَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى دَلِيلٍ، وَلَوْ عَدَّلَهُ وَاحِدٌ وَجَرَحَهُ آخَرُ فَالْجَرْحُ أَوْلَى، فَإِنْ عَدَّلَهُ آخَرُ فَالتَّعْدِيلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ، وَلَوْ عَدَّلَهُ جَمَاعَةٌ وَجَرَحَهُ اثْنَانِ فَالْجَرْحُ أَوْلَى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَدَدِ لَا تُوجِبُ التَّرْجِيحَ، وَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عَلَى الْجَرْحِ قَصْدًا وَلَا يَحْكُمُ بِهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْإِلْزَامِ وَأَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ، وَلِأَنَّ فِيهِ هَتْكَهُ، وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى إِقْرَارِ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ سَمِعَهَا؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَأْجَرَ الشُّهُودَ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّهَا عَلَى الْجَرْحِ خَاصَّةً، إِذْ لَا خَصْمَ فِي إِثْبَاتِ الْإِجَارَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ اسْتَأْجَرَهُمْ بِدَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ مِنْ مَالِي الَّذِي فِي يَدِهِ قُبِلَتْ لِأَنَّهُ خَصْمٌ، ثُمَّ يُثْبِتُ الْجَرْحَ بِنَاءً عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: صَالَحْتُهُمْ عَلَى مَالٍ دَفَعْتُهُ إِلَيْهِمْ لِئَلَّا يَشْهَدُوا بِهَذَا الْبَاطِلِ وَطَالَبَهُمْ بِرَدِّ ذَلِكَ الْمَالِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ: لَمْ أُسَلِّمِ الْمَالَ إِلَيْهِمْ لَمْ تُقْبَلْ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاهِدَ عَبْدٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ أَوْ سَارِقٌ أَوْ شَرِيكُ الْمُدَّعِي أَوْ أَجِيرُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ قُبِلَتْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ حَقَّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْحُدُودُ أَوْ حَقُّ الْعَبْدِ. قَالَ الْخَصَّافُ: وَأَسْبَابُ الْجَرْحِ كَثِيرَةٌ: مِنْهَا الرُّكُوبُ فِي الْبَحْرِ، وَالتِّجَارَةُ إِلَى أَرْضِ الْكُفَّارِ، وَفِي قُرَى فَارِسَ وَأَشْبَاهِهِ؛ لِأَنَّهُ خَاطَرَ بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ حَيْثُ سَكَنَ دَارَ الْحَرْبِ وَكَثَّرَ سَوَادَهُمْ لِيَنَالَ بِذَلِكَ مَالًا فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْذِبَ بِأَخْذِ الْمَالِ وَقُرَى فَارِسَ يُطْعِمُونَهُمُ الرِّبَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. [فصل الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ] فَصْلٌ (تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيمَا لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ) وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهَا إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ. وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ: أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا، وَيَقُولُ الْفَرْعُ عِنْدَ الْأَدَاءِ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا، وَقَالَ لِي: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ،   [الاختيار لتعليل المختار] ذَلِكَ وَاحْتِيَاجُ النَّاسِ إِلَى إِحْيَاءِ الْحُقُوقِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْجِزُ عَنِ الْأَدَاءِ لِمَرَضٍ أَوْ مَوْتٍ أَوْ سَفَرٍ، فَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَطَلَ حُقُوقُ النَّاسِ، وَتَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنْ بَعُدَ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ تُقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ نُقِلَ خَبَرٌ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْمُدَّعِي فَيَجُوزُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ مَبْنَاهُمَا عَلَى الْإِسْقَاطِ وَالدَّرْءِ، وَفِي ذَلِكَ احْتِيَالٌ لِلثُّبُوتِ؛ وَلِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةً لِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ أَوِ الْبَدَلِيَّةِ، وَالْحُدُودُ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، وَتُقْبَلُ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَمَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْبَلُ، لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ» وَالْحَبْسُ تَعْزِيرٌ. قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَاحِدٍ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ) لِأَنَّهُ حَقٌّ فَلَا بُدَّ مِنَ النِّصَابِ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ إِلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلًا، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ أَصْلٍ حَقٌّ فَصَارَ كَمَا إِذَا شَهِدَا بِحَقَّيْنِ. (وَصِفَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ الْأَصْلُ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدِي بِكَذَا) لِأَنَّ الْفَرْعَ يَنْقُلُ شَهَادَةَ الْأَصْلِ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّحْمِيلِ لِمَا بَيَّنَّا، فَيَشْهَدُ كَمَا يَشْهَدُ عِنْدَ الْقَاضِي لِيَنْقُلَهَا إِلَيْهِ. قَالَ: (وَيَقُولُ الْفَرْعُ عِنْدَ الْأَدَاءِ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا، وَقَالَ لِيَ اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي بِذَلِكَ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شَهَادَتِهِ وَذِكْرِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَالتَّحْمِيلِ وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا، وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ثَمَانِي مَرَّاتٍ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِكَذَا وَأَشْهَدَهُ عَلَى إِقْرَارِهِ، وَقَالَ لِيَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي وَأَنَا أَشْهَدُ بِذَلِكَ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنِ اكْتَفَى بِخَمْسٍ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أَرْبَعٌ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي، وَقَالَ لِي: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَهُوَ أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا قَالَ لِيَ: اشْهَدْ عَلَى شَهَادَتِي، أَوْ أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا أَشْهَدَنِي عَلَى شَهَادَتِهِ. وَالْأَحْسَنُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَالْأَحْوَطُ مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحَرُّزًا عَنِ اخْتِلَافٍ كَثِيرٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ يَصْغُرُ كِتَابُنَا عَنِ اسْتِيعَابِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ حُضُورُ الْأُصُولِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ. فَإِنْ عَدَّلَهُمْ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُمْ جَازَ، وَإِذَا أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ، وَالتَّعْرِيفُ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ أَوِ الْفَخِذِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ إِلَّا إِذَا تَعَذَّرَ حُضُورُ الْأُصُولِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تُقْبَلُ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ الرَّجُلِ الثَّانِي نَظَرًا إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، وَأَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ وُجُودِ الرَّجُلِ الثَّانِي فَكَذَلِكَ هَذَا. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَاهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحَاجَةِ، وَلَا حَاجَةَ مَعَ حَضْرَةِ الْأُصُولِ؛ وَلِأَنَّ الْفُرُوعَ أَبَدَالٌ، وَلَا حُكْمَ لِلْبَدَلِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ كَمَا فِي النَّظَائِرِ، وَشَهَادَةُ الْمَرْأَتَيْنِ لَيْسَتْ بَدَلِيَّةً؛ لِأَنَّ الْآيَةَ خِطَابٌ لِلْحُكَّامِ، كَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ فَاطْلُبُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَجَاءَ رَجُلُ وَامْرَأَتَانِ تَرْضَوْنَهُمْ فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ. وَالْعُذْرُ مَوْتٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ سَفَرٌ، لِأَنَّ الْحَاجَةَ عِنْدَ تَعَذُّرِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا. أَمَّا الْمَوْتُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَالْمُرَادُ بِهِ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ حُضُورَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ. وَأَمَّا السَّفَرُ فَمُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ السَّفَرِ، لِأَنَّ بُعْدَ الْمَسَافَةِ عُذْرٌ، وَالشَّرْعُ قَدِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ الْمُدَّةَ حَتَّى رَتَّبَ عَلَيْهَا كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ وَيَعُودَ إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فَهُوَ عُذْرٌ، لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ مَشَقَّةٌ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: وَبِهِ نَأْخُذُ. قَالَ: (فَإِنْ عَدَّلَهُمْ شُهُودُ الْفَرْعِ جَازَ) لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ التَّزْكِيَةِ، وَمِثْلُهُ لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ فَزَكَّى أَحَدُهُمَا الْآخَرُ جَازَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تُهْمَةً فِي حَقِّهِ حَيْثُ إِنَّهُ سَبَبُ قَبُولِ قَوْلِهِ: فَإِنَّ الْعَدْلَ لَا يُتَّهَمُ بِمِثْلِهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي إِقَامَةِ شَهَادَتِهِ؟ (وَإِنْ سَكَتُوا عَنْهُمْ جَازَ) وَيَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْهُمْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهُمُ النَّقْلُ دُونَ التَّعْدِيلِ، فَإِذَا نَقَلُوهَا يَتَعَرَّفُ الْقَاضِي الْعَدَالَةَ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَعْتَمِدُ الْعَدَالَةَ فَإِذَا سَكَتُوا صَارُوا شَاكِّينَ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ فَلَا تُقْبَلُ. قَالَ: (وَإِذَا أَنْكَرَ شُهُودُ الْأَصْلِ الشَّهَادَةَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ) لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا التَّحْمِيلَ وَقَدْ وَقَعَ التَّعَارُضُ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ؛ وَلَوِ ارْتَدَّ شَاهِدَا الْأَصْلِ ثُمَّ أَسْلَمَا، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ بِالرِّدَّةِ بَطَلَ الْإِشْهَادُ؛ وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ لِتُهْمَةٍ فِي الْأُصُولِ، ثُمَّ تَابَ الْأُصُولُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ وَلَا الْفُرُوعِ؛ لِأَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ، فَالْمَرْدُودُ شَهَادَةُ الْأُصُولِ؛ وَيَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَبِ، لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِابْنِهِ فِي ذَلِكَ. قَالَ: (وَالتَّعْرِيفُ يَتِمُّ بِذِكْرِ الْجَدِّ أَوِ الْفَخِذِ) لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَا ذَكَرْنَا، لِأَنَّ النِّسْبَةَ إِلَى الْقَبِيلَةِ كَبَنِي تَمِيمٍ لَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْرِيفُ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، فَلَا بُدَّ مِنَ التَّعْرِيفِ بِالْفَخْذِ وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الْخَاصَّةُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْمِصْرِ وَالْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ عَامَّةٌ، وَإِلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ. بَابُ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ وَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَإِنْ رَجَعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ، وَبَعْدَهُ لَمْ يُفْسَخِ الْحُكْمُ، وَضَمِنُوا مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ، فَإِنْ شَهِدَا بِمَالٍ فَقُضِيَ بِهِ، وَأَخَذَهُ الْمُدَّعِي ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَاهُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَكَذَا ذِكْرُ الْأَبِ، لِأَنَّ كَثِيرًا مَا يَقَعُ الِاشْتِرَاكُ فِي اسْمِ الْإِنْسَانِ وَاسْمِ أَبِيهِ. أَمَّا الِاشْتِرَاكُ مَعَ ذَلِكَ فِي اسْمِ الْجَدِّ فَنَادِرٌ فَحَصَلَ بِهِ التَّعْرِيفُ. (وَالنِّسْبَةُ إِلَى الْمِصْرِ وَالْمَحَلَّةِ الْكَبِيرَةِ عَامَّةٌ) لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ. (وَإِلَى السِّكَّةِ الصَّغِيرَةِ خَاصَّةٌ) . [بَابُ الرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَةِ] الْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كِتَابِ الْقَاضِي: " فَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ وَرَاجَعْتَ فِيهِ نَفْسَكَ وَهُدِيتَ فِيهِ لِرُشْدِكَ أَنْ تَرْجِعَ فِيهِ إِلَى الْحَقِّ، فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا يَبْطُلُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ "، فَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا، لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنِ الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ رُجُوعٌ مِنَ الْبَاطِلِ إِلَى الْحَقِّ، وَالرُّجُوعُ قَوْلُهُ شَهِدْتُ بِزُورٍ وَمَا أَشْبَهَهُ، وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الشَّاهِدَ بِشَهَادَتِهِ تَسَبَّبَ إِلَى إِتْلَافِ الْمَالِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ يَدًا وَتَصَرُّفًا، فَإِنْ أَزَالَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ضَمِنَ الْجَمِيعَ، وَإِنْ كَانَ بِعِوَضٍ إِنْ كَانَ مِثْلًا لَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ ضَمِنَ النُّقْصَانَ، وَالْقَاضِي مُلْجَأٌ إِلَى الْقَضَاءِ مِنْ جِهَةِ الشُّهُودِ فَلَا يُضَافُ الْإِتْلَافُ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ) لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ بِمُقْتَضَى الرُّجُوعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، وَلِأَنَّهُ تَوْبَةٌ وَالشَّهَادَةُ جِنَايَةٌ، فَيُشْتَرَطُ اسْتِوَاؤُهَا فِي الْجَهْرِ وَالْإِخْفَاءِ؛ وَلَوْ أَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمَا رَجَعَا لَمْ تُقْبَلْ وَلَا يَحْلِفَانِ، فَإِنْ قَالَ رَجَعْتُ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ كَانَ هَذَا رُجُوعًا مُبْتَدَأً عِنْدَ الْقَاضِي. قَالَ: (فَإِنْ رَجَعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِالْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ وَقَدْ تَنَاقَضَتْ. قَالَ: (وَبَعْدَهُ لَمْ يُفْسَخِ الْحُكْمُ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَالرُّجُوعَ عَنْهَا سَوَاءٌ فِي احْتِمَالِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ تَرَجَّحَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يُنْقَضُ بِالثَّانِي. قَالَ: (وَضَمِنُوا مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ) لِإِقْرَارِهِمَا بِسَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ قَضَاهُ دَيْنَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِمَا مَرَّ. قَالَ: (فَإِنْ شَهِدَا بِمَالٍ فَقَضَى بِهِ وَأَخَذَهُ الْمُدَّعِي ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَاهُ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) لِوُجُودِ التَّسَبُّبِ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي، وَأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ، وَلَا وَجْهَ إِلَى تَضْمِينِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ، وَلَا يُضَمَّنُ الْقَاضِي لِمَا بَيَّنَّا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ، وَالْعِبْرَةُ فِي الرُّجُوعِ لِمَنْ بَقِيَ لَا لِمَنْ رَجَعَ، فَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ ضَمِنَا النِّصْفَ، وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهَا رُبُعُ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَهُ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى الرَّجُلِ السُّدُسُ وَعَلَيْهِنَّ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ (سم) ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ خَاصَّةً. شَهِدَا بِنِكَاحٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ضَمِنَا الزِّيَادَةَ لِلزَّوْجِ، وَفِي الطَّلَاقِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ضَمِنَا نِصْفَ (ف) الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَمْ يَضْمَنَا (ف)   [الاختيار لتعليل المختار] وَلِأَنَّ فِي تَضْمِينِهِ مَنْعَ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ خَوْفًا مِنَ الضَّمَانِ، وَلَوْ شَهِدَا بِعَيْنٍ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهَا أَقَبَضَهَا الْمَشْهُودُ لَهُ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ، وَالدَّيْنُ لَا يَمْلِكُهُ إِلَّا بِالْقَبْضِ. قَالَ: (فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ، وَالْعِبْرَةُ فِي الرُّجُوعِ لِمَنْ بَقِيَ لَا لِمَنْ رَجَعَ) أَلَا يَرَى أَنَّهُ إِذَا بَقِيَ مَنْ يَقُومُ بِهِ الْحَقُّ لَا اعْتِبَارَ بِرُجُوعِ مَنْ رَجَعَ؟ وَقَدْ بَقِيَ هُنَا مَنْ يَقُومُ بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْحَقِّ، فَيَضْمَنُ الرَّاجِعُ النِّصْفَ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ. (فَلَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِبَقَاءِ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ جَمِيعُ الْحَقِّ. (فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ ضَمِنَا النِّصْفَ) لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ وَاحِدَةٌ فَعَلَيْهَا رُبْعُ الْمَالِ، وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَهُ، وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعُوا، فَعَلَى الرَّجُلِ السُّدْسُ وَعَلَيْهِنَّ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ) وَقَالَا: عَلَيْهِ النِّصْفُ وَعَلَيْهِنَّ النِّصْفُ، لِأَنَّ النِّسَاءَ وَإِنْ كَثُرْنَ فَهُنَّ مَقَامُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِهِنَّ إِلَّا نِصْفُ الْحَقِّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامُ رَجُلٍ؛ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ كُلِّ اثْنَتَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» فَصَارَ كَشَهَادَةِ سِتَّةٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَلَوْ رَجَعَ النِّسَاءُ كُلُّهُنَّ فَعَلَيْهِنَّ النِّصْفُ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ رَجَعَ ثَمَانٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِنَّ، وَلَوْ رَجَعَتْ أُخْرَى فَعَلَى الرَّاجِعَاتِ الرُّبُعُ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَثَمَانِي نِسْوَةٍ فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْحَقِّ وَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاجِعَاتِ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهُنَّ مَنْ يَقُومُ بِهِ نِصْفُ الْحَقِّ. (وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ بِهِمَا دُونَهُمَا. قَالَ: (شَهِدَا بِنِكَاحٍ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ إِلَّا بِالتَّمْلِيكِ بِالْعَقْدِ، وَالضَّمَانُ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ، وَإِنَّمَا يُتَقَوَّمُ بِالتَّمْلِيكِ إِظْهَارًا لِخَطَرِ الْمَحَلِّ. (وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ضَمِنَا الزِّيَادَةَ لِلزَّوْجِ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ. قَالَ: (وَفِي الطَّلَاقِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ) لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ. (وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ لَمْ يَضْمَنَا) لِأَنَّ الْمَهْرَ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ فَلَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا. شَهِدَا بِالطَّلَاقِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنَ شُهُودُ الدُّخُولِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ وَشُهُودُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ ضَمِنُوا الدِّيَةَ، وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا، وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا: لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ لَمْ يَضْمَنُوا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ، وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْيَمِينِ، وَشُهُودُ الشَّرْطِ فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ وَإِذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ ضَمِنُوا.   [الاختيار لتعليل المختار] الطَّلَاقِ رُبُعَهُ، لِأَنَّ الْفَرِيقَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى النِّصْفِ، فَيَكُونُ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ رُبُعُهُ، وَانْفَرَدَ شُهُودُ الدُّخُولِ بِالنِّصْفِ فَيَنْفَرِدُونَ بِضَمَانِهِ، وَفِي الشَّهَادَةِ بِالْعِتْقِ يَضْمَنَانِ الْقِيمَةَ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَالْوَلَاءُ لَهُ، لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَتَحَوَّلْ إِلَيْهِمَا فَلَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ، وَلَوْ شَهِدَا بِالْبَيْعِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْقِيمَةَ لَا الثَّمَنَ، لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْمَبِيعَ لَا الثَّمَنَ؛ وَلَوْ شَهِدَا بِبَيْعِ عَبْدٍ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرُ مِنَ الثَّمَنِ ضَمِنَا الْفَضْلَ، وَلَوْ شَهِدَا بِالتَّدْبِيرِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا مَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ. قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْقِصَاصِ ضَمِنُوا الدِّيَةَ) وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً، وَالتَّسْبِيبُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ فِيهِ مُضْطَرٌّ إِلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَلِيُّ فَإِنَّهُ مُخْتَارٌ وَالِاخْتِيَارُ يَقْطَعُ التَّسْبِيبَ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ وَجَبَتِ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ، وَلَوْ شَهِدَا بِالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ. قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا) لِأَنَّ التَّلَفَ أُضِيفَ إِلَيْهِمْ فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ أَلْجَئُوا الْقَاضِي إِلَى الْحُكْمِ. (وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا: لَمْ نَشْهَدْ شُهُودَ الْفَرْعِ لَمْ يَضْمَنُوا) لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا التَّسْبِيبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ، وَالْقَضَاءُ مَاضٍ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ؛ وَلَوْ قَالُوا: أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُونَ لِأَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَتَهُمْ فَصَارُوا كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا. وَلَهُمَا أَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِمَا عَايَنَهُ مِنَ الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْفُرُوعِ فَيُضَافُ إِلَيْهِمْ، وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْفُرُوعِ عِنْدَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ لِمَا مَرَّ لَهُمَا، وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا. قَالَ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ) لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ مَحْضٌ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إِلَى الْعِلَّةِ لَا إِلَى الشَّرْطِ. قَالَ: (وَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الْيَمِينِ وَشُهُودُ الشَّرْطِ فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ) لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْيَمِينُ، وَالتَّلَفُ مُضَافٌ إِلَى مَنْ أَثْبَتَ السَّبَبَ دُونَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ. وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ: شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ أَوْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى شُهُودِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ. قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ ضَمِنُوا) وَقَالَا: لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ. وَلَهُ أَنَّ الْقَاضِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 كِتَابُ الْوَكَالَةِ وَلَا تَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ، وَالْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ، وَكُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] إِنَّمَا يَعْمَلُ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّزْكِيَةِ، فَهِيَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إِلَيْهَا، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كتاب الوكالة] وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ التَّفْوِيضِ وَالِاعْتِمَادِ، قَالَ تَعَالَى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أَيْ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ كَفَاهُ، وَرَجُلٌ وَكَلٌ إِذَا كَانَ قَلِيلَ الْبَطْشِ ضَعِيفَ الْحَرَكَةِ يَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى غَيْرِهِ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ؛ وَقِيلَ الْوَكَالَةُ فِي اللُّغَةِ: الْحِفْظُ، قَالَ تَعَالَى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] أَيْ نِعْمَ الْحَافِظُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا قَالَ وَكَّلْتُكَ فِي كَذَا فَهُوَ وَكِيلٌ فِي حِفْظِهِ بِقَضِيَّةِ اللَّفْظِ، وَلَا يَثْبُتُ مَا زَادَ عَلَيْهِ إِلَّا بِلَفْظٍ آخَرَ، وَأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى إِنْسَانٍ فِي شَيْءٍ وَفَوَّضَ فِيهِ أَمْرَهُ إِلَيْهِ كَانَ آمِرًا بِحِفْظِهِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَنْظُرَ مَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ، وَأَصْلَحُ الْأَشْيَاءِ حِفْظُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ تُبْتَنَى عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي الْوَكَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَى الْوَكِيلِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَوَثِقَ بِرَأْيِهِ لِيَتَصَرَّفَ لَهُ التَّصَرُّفَ الْأَحْسَنَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُبْتَنَى عَلَى الْحِفْظِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] وَبِالسُّنَّةِ، وَهُوَ مَا صَحَّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ عُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ» ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، وَوَكَّلَ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَعَلَيْهِ تَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ لَدُنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْجَزُ عَنْ مُبَاشَرَةِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى التَّوْكِيلِ، فَوَجَبَ أَنْ يُشْرَعَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ حَتَّى يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ، وَالْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ وَيَقْصِدُهُ) لِأَنَّ التَّوْكِيلَ اسْتِنَابَةٌ وَاسْتِعَانَةٌ، وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِتَمْلِيكِ الْمُوَكِّلِ، وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لِذَلِكَ لِيَصِحَّ تَمْلِيكُهُ، وَالْوَكِيلُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِمَا، فَلَوْ وَكَّلَ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونًا فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ وَكَّلَ صَبِيًّا عَاقِلًا مَأْذُونًا أَوْ عَبْدًا مَأْذُونًا أَوْ مَحْجُورًا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ جَازَ، وَكَذَلِكَ إِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَتْ: (وَكُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحَاجَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 فَيَجُوزُ بِالْخُصُومَةِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا إِلَّا الْحُدُودَ (س) وَالْقِصَاصَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ، وَلَا يَجُوزُ بِالْخُصُومَةِ إِلَّا بِرِضَاءِ الْخَصْمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا، وَكُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إِلَى نَفْسِهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ إِقْرَارٍ تَتَعَلَّقُ حُقُوقُهُ بِهِ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَنَقْدِ الثَّمَنِ وَالْخُصُومَةِ فِي الْعَيْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ الْمَحْجُورَيْنِ، فَتَجُوزُ عُقُودُهُمَا، وَتَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِمُوَكِّلِهِمَا   [الاختيار لتعليل المختار] (فَيَجُوزُ بِالْخُصُومَةِ فِي جَمِيعِ الْحُقُوقِ وَإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا) لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: «وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَّلَ أَخَاهُ عَقِيلًا وَابْنَ أَخِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ. قَالَ: (إِلَّا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ) لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ ثَابِتٌ لِلنَّدْبِ إِلَيْهِ وَلِلشَّفَقَةِ عَلَى الْجِنْسِ، وَأَنَّهُ شُبْهَةٌ وَأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَضَرَ لِانْتِفَاءِ هَذَا الِاحْتِمَالِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهَا نِيَابَةٌ، فَيُتَحَرَّزُ عَنْهَا فِي هَذَا الْبَابِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْجِنَايَةَ سَبَبُ الْوُجُوبِ وَالظُّهُورِ يُضَافُ إِلَى الشَّهَادَةِ، وَالْخُصُومَةُ شَرْطٌ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ، بِخِلَافِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بِالْخُصُومَةِ إِلَّا بِرِضَاءِ الْخَصْمِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا) ، وَقَالَا: يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْخَصْمِ إِلَّا الْوَكِيلُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ مُطْلَقًا، وَلِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِحَقٍّ فَيَجُوزُ كَالتَّوْكِيلِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَا عَلِيُّ لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى يَحْضُرَ الْآخَرُ. وَفِي رِوَايَةٍ: حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ» فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُ أَوِ اسْتِمَاعُ كَلَامِهِ، وَلِأَنَّ الْخُصُومَةَ تَلْزَمُ الْمَطْلُوبَ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ الْحُضُورُ وَالْجَوَابُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحِيلَهُ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَالدَّيْنِ، وَلِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ، فَلَعَلَّ الْوَكِيلَ يَكُونُ أَشَدَّ خِصَامًا وَأَكْثَرَ احْتِجَاجًا فَيَتَضَرَّرُ الْخَصْمُ بِذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا بِرِضَاهُ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنِ الْخُصُومَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْحُضُورُ، وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ، لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِهِ السَّفَرَ مَشَقَّةً فَلَا يَلْزَمُهُ الْحُضُورُ فَجَازَ لَهُمَا التَّوْكِيلُ، وَلَا فَرْقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ، وَاسْتَحْسَنَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا كَانَتْ مُخَدَّرَةً جَازَ تَوْكِيلُهَا بِغَيْرِ رِضَاءِ الْخَصْمِ لِعَجْزِهَا عَنِ الْخُصُومَةِ بِسَبَبِ الْحَيَاءِ وَالدَّهْشَةِ. قَالَ: (وَكُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إِلَى نَفْسِهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ إِقْرَارٍ تَتَعَلَّقُ حُقُوقُهُ بِهِ، مِنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَنَقْدِ الثَّمَنِ وَالْخُصُومَةِ فِي الْعَيْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ الْمَحْجُورَيْنِ فَتَجُورُ عُقُودُهُمَا، وَتَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِمُوَكِّلِهِمَا) لِأَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وَإِذَا سُلِّمَ الْمَبِيعُ إِلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَرُدُّهُ الْوَكِيلُ بِعَيْبٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْمُوَكِّلِ، فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ جَازَ، وَكُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ إِلَى مُوَكِّلِهِ فَحُقُوقُهُ تَتَعَلَّقُ بِمُوَكِّلِهِ: كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةِ وَالصُّلْحِ عَنْ إِنْكَارٍ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِقْرَاضِ وَالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا يَفْتَقِرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ إِلَى ذِكْرِ الْمُوَكِّلِ، وَالْعَاقِدُ الْآخَرُ اعْتَمَدَ رُجُوعَ الْحُقُوقِ إِلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ تَرْجِعْ إِلَيْهِ يَتَضَرَّرُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُوَكِّلِ مُفْلِسًا، أَوْ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُطَالَبَتِهِ وَاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مِنْهُ وَأَنَّهُ مُنْتَفٍ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَأَخَوَاتِهِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْمُوَكِّلِ وَإِسْنَادِ الْعَقْدِ إِلَيْهِ فَلَا ضَرَرَ حِينَئِذٍ، وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ لِأَنَّهُ يُضِيفُ الْعَقْدَ إِلَى مُرْسِلِهِ، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً بِكَلَامِهِ، وَحُكْمًا لِعَدَمِ إِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ أَصْلًا فِي الْحُقُوقِ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُوكِّلِ خِلَافَةً نَظَرًا إِلَى التَّوْكِيلِ السَّابِقِ كَالْعَبْدِ يَتَّهِبُ أَوْ يَصْطَادُ. أَمَّا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمَا لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى لَوْ كَانَا مَأْذُونَيْنِ جَازَ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْحَجْرِ، إِلَّا أَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعَاتِ وَالْتِزَامِ الْعُهْدَةِ لِقُصُورِ أَهْلِيَّةِ الصَّبِيِّ وَلِحَقِّ السَّيِّدِ فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ عَلِمَ الْعَاقِدُ الْآخَرُ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَهُ خِيَارُ الْعَيْبِ لِاعْتِقَادِهِ رُجُوعَ الْحُقُوقِ إِلَى الْعَاقِدِ، وَقَدْ فَاتَهُ فَيَتَخَيَّرُ. قَالَ: (وَإِذَا سُلِّمَ الْمَبِيعُ إِلَى الْمُوَكِّلِ لَا يَرُدُّهُ الْوَكِيلُ بِعَيْبٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمُوَكِّلِ وَانْتَقَلَ الْمِلْكُ إِلَيْهِ فَصَارَ كَمَا إِذَا بَاعَهُ مِنْ آخَرَ. قَالَ: (وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إِلَى الْمُوَكِّلِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحُقُوقَ رَاجِعَةٌ إِلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْعَقْدِ. (فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ جَازَ) لِأَنَّهُ حَقُّهُ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ يَدْفَعُهُ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهِمَا دَيْنٌ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ حَقُّهُ، وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْوَكِيلِ لَوْ كَانَ وَحْدَهُ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْهُ لَكِنْ يَضْمَنُهُ لِلْمُوَكِّلِ. قَالَ: (وَكُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ إِلَى مُوَكِّلِهِ فَحُقُوقُهُ تَتَعَلَّقُ بِمُوَكِّلِهِ: كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ) فَلَا يُطَالَبُ وَكِيلُ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ، وَلَا يَلْزَمُ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ تَسْلِيمُهَا، وَلَا بَدَلُ الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ سَفِيرٌ، وَلِهَذَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمُوَكِّلِ وَإِسْنَادِ الْعَقْدِ إِلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إِلَى نَفْسِهِ كَانَ النِّكَاحُ وَاقِعًا لَهُ لَا لِمُوَكِّلِهِ كَالرَّسُولِ. وَالْخُلْعُ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ إِسْقَاطٌ كَمَا يُوجَدُ يَتَلَاشَى فَلَا يُمْكِنُ صُدُورُهُ مِنْ شَخْصٍ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ لِغَيْرِهِ. (وَ) عَلَى هَذَا. (الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةُ وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِعَارَةُ وَالْإِيدَاعُ وَالرَّهْنُ وَالْإِقْرَاضُ وَالشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ) لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْقَبْضِ. وَأَنَّهُ يُلَاقِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْمُوَكِّلِ فَكَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ صِفَتَهُ وَجِنْسَهُ أَوْ مَبْلَغَ ثَمَنِهِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ ابْتَعْ لِي مَا رَأَيْتَ؛ وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ، فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ النَّقْدَيْنِ أَوْ بِخِلَافِ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ أَوْ وَكَّلَ آَخَرَ بِشِرَائِهِ وَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] سَفِيرًا، وَكَذَا لَوْ كَانَ وَكِيلًا مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يُضِيفُ الْعَقْدَ إِلَى الْمَالِكِ إِلَّا فِي الِاسْتِقْرَاضِ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِهِ بَاطِلٌ، وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ لِلْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ الرَّسُولِ. [ما يضيفه الموكل إلى نفسه وإلى الموكل ومتى ترجع الحقوق إليهما] فَصْلٌ الْجَهَالَةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: فَاحِشَةٌ، وَيَسِيرَةٌ، وَبَيْنَهُمَا. فَالْأُولَى جَهَالَةُ الْجِنْسِ كَالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْوَكِيلَ امْتِثَالُ مَا وَكَّلَهُ بِهِ لِتَفَاوُتِهِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا. وَالثَّانِيَةُ جَهَالَةُ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ كَالْحِمَارِ وَالْفَرَسِ وَقَفِيزِ حِنْطَةٍ وَثَوْبٍ هَرَوِيٍّ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرِ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَتَتَعَيَّنُ الصِّفَةُ بِحَالِ الْمُوَكِّلِ، وَاخْتِلَافُ الصِّفَةِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَقْصُودِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بِأَيِّ صِفَةٍ كَانَ وَبِالثَّمَنِ الْمُعْتَادِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَّلَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بِشِرَاءِ شَاةٍ لِلْأُضْحِيَةِ» . وَالثَّالِثَةُ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ أَوْ دَارٍ إِنْ سَمَّى الثَّمَنَ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا، لِأَنَّ الْجَمَالَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَيَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ الْهِنْدِيُّ وَالتُّرْكِيُّ، فَإِذَا سَمَّى الثَّمَنَ أَلْحَقْنَاهُ بِمَجْهُولِ النَّوْعِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ أَلْحَقْنَاهُ بِجَهَالَةِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ بِالتَّسْمِيَةِ يَصِيرُ مَعْلُومَ النَّوْعِ عَادَةً، فَإِنَّ ثَمَنَ كُلِّ نَوْعٍ مَعْلُومٌ عَادَةً. قَالَ: (وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ صِفَتَهُ وَجِنْسَهُ أَوْ مَبْلَغَ ثَمَنِهِ) لِأَنَّ بِذَلِكَ يَصِيرُ مَعْلُومًا فَيَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَيْهِ. (إِلَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ: ابْتَعْ لِي مَا رَأَيْتَ) لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى رَأْيِهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ اشْتَرَى كَانَ مُؤْتَمِرًا. قَالَ: (وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ) لِأَنَّ الْآمِرَ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي شِرَائِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَدْ خَدَعَهُ بِقَبُولِ الْوَكَالَةِ لِيَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. (فَإِنِ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ النَّقْدَيْنِ أَوْ بِخِلَافِ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ أَوْ وَكَّلَ آخَرَ بِشِرَائِهِ وَقَعَ الشِّرَاءُ لَهُ) لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فَوَقَعَ لَهُ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ، وَالْمَعْرُوفُ كَالْمَشْرُوطِ. وَقَالَ زُفَرُ: إِذَا اشْتَرَاهُ بِكَيْلِيٍّ أَوْ وَزْنِيٍّ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِتَعَلُّقِهِ بِالذِّمَّةِ كَالنَّقْدَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اشْتَرَاهُ بِعَيْنٍ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ وَشِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ. وَلَنَا أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ النَّقْدَانِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ، وَلَوْ عَقَدَ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ لَزِمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ فَهُوَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ أَوْ يَنْوِيَ الشِّرَاءَ لَهُ، وَالْوَكِيلُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ تُعْتَبَرُ مُفَارَقَتُهُ لَا مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا فَهُوَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا؛ وَقِيلَ إِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَعَلَى الْحِنْطَةِ، وَقَلِيلَةً فَعَلَى الْخُبْزِ، وَمُتَوَسِّطَةً فَعَلَى الدَّقِيقِ؛ وَإِنْ دَفَعَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ، فَإِنْ حَبَسَهُ وَهَلَكَ فَهُوَ كَالْمَبِيعِ (س ز) وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَى عِشْرِينَ   [الاختيار لتعليل المختار] الْمُوَكِّلَ؛ لِأَنَّهُ بِرَأْيِهِ فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ فَهُوَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ، أَوْ يَنْوِيَ الشِّرَاءَ لَهُ) ، وَهَذَا لَا يَخْلُو، إِمَّا أَنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إِلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ أَوْ نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِ الْآمِرِ فَيَقَعُ لِلْآمِرِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ كَانَ لِنَفْسِهِ عَمَلًا بِالْمُعْتَادِ، فَإِنَّ الشِّرَاءَ وَإِضَافَةَ الْعَقْدِ إِلَى دَرَاهِمِهِ مُعْتَادٌ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ شَرْعًا، وَإِنْ أَضَافَهُ إِلَى مُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ فَإِنْ نَوَاهُ لِلْآمِرِ فَلَهُ، وَإِنْ نَوَاهُ لِنَفْسِهِ فَلِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ وَلِلْآمِرِ، وَإِنْ تَكَاذَبَا فِي النِّيَّةِ يَحْكُمُ النَّقْضُ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ وَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى عَدَمِ النِّيَّةِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ لِلْعَاقِدِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْكُمُ النَّقْدُ لِاحْتِمَالِ الْوَجْهَيْنِ وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ يَقَعُ الْعَقْدُ وَالْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يُضِفِ الْعَقْدَ إِلَيْهِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ، وَهُوَ مَا إِذَا قَالَ لِعَبْدِ غَيْرِهِ: اشْتَرِ لِي نَفْسَكَ مِنْ مَوْلَاكَ، فَقَالَ لِمَوْلَاهُ: بِعْنِي نَفْسِي مِنْ فُلَانٍ، فَبَاعَهُ فَهُوَ لِلْآمِرِ؛ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ مَالِيَّتِهِ، وَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا إِنْ عَلِمَ بِهِ الْعَبْدُ لَا يَرُدُّهُ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْوَكِيلِ كَعِلْمِ الْمُوَكِّلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالرَّدُّ لِلْعَبْدِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ فُلَانٍ عَتَقَ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إِعْتَاقٌ. أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ كُرَّ حِنْطَةٍ مِنْ قَرْيَةِ كَذَا. فَالْحَمْلُ عَلَى الْآمِرِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ أَوِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ. قَالَ: (وَالْوَكِيلُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ تُعْتَبَرُ مُفَارَقَتُهُ لَا مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُقُوقَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَمُرَادُهُ الْوَكَالَةُ بِالْإِسْلَامِ لَا بِالْقَبُولِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الْوَكِيلَ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لِغَيْرِهِ. قَالَ: (وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ دَرَاهِمَ لِيَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا فَهُوَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا) اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ. (وَقِيلَ إِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَعَلَى الْحِنْطَةِ، وَقَلِيلَةً فَعَلَى الْخُبْزِ، وَمُتَوَسِّطَةً فَعَلَى الدَّقِيقِ) اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَتَعَارَفُونَ أَكْلَ غَيْرِ الْحِنْطَةِ وَخُبْزِهَا فَعَلَى مَا يَتَعَارَفُونَهُ. قَالَ: (وَإِنْ دَفَعَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ حَبْسُ الْمَبِيعِ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنَ الْمُوَكِّلِ حُكْمًا حَتَّى يَرُدَّهُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْعَيْبِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ تَحَالَفَا. (فَإِنْ حَبَسَهُ وَهَلَكَ فَهُوَ كَالْمَبِيعِ) لِمَا قُلْنَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: كَالرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ حَبَسَهُ لِلِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَحْبُوسًا وَهُوَ مَعْنَى الرَّهْنِ. قَالَ: (وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَى عِشْرِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 مِمَّا يُبَاعُ مِنْهُ عَشَرَةٌ بِدِرْهَمٍ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ عَشَرَةٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ. وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْقَلِيلِ (سم) وَبِالنَّسِيئَةِ (سم) وَبِالْعَرَضِ (سم) ، وَيَأْخُذُ بِالثَّمَنِ رَهْنًا (سم) وَكَفِيلًا. وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ الثَّمَنَ عَنِ الْمُشْتَرِي، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إِلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٍ يُتَغَابَنُ فِيهَا، وَمَا لَا يُتَغَابَنُ فِيهِ فِي الْعُرُوضِ، فِي الْعَشَرَةِ زِيَادَةُ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَفِي الْحَيَوَانِ دِرْهَمٌ، وَفِي الْعَقَارِ دِرْهَمَيْنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] مِمَّا يُبَاعُ مِنْهُ عَشَرَةٌ بِدِرْهَمٍ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ عَشَرَةٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ) وَقَالَا: يَلْزَمُهُ الْعِشْرُونَ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ بِدِرْهَمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سِعْرَ اللَّحْمِ عَشَرَةٌ بِدِرْهَمٍ فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا كَمَا إِذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ اللَّحْمُ لَا إِخْرَاجُ الدِّرْهَمِ، وَقَصْدُهُ تَعَلَّقَ بِعَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ فَتَبْقَى الزِّيَادَةُ لِلْوَكِيلِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيْعُهُ، وَالزَّائِدُ حَصَلَ بَدَلُ مِلْكِهِ فَيَكُونُ لَهُ، وَلَوِ اشْتَرَى مِنْ لَحْمٍ يُسَاوِي عِشْرِينَ رَطْلًا بِدِرْهَمٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ السَّمِينُ وَهَذَا هَزِيلٌ فَلَا يَلْزَمُهُ. قَالَ: (وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْقَلِيلِ وَبِالنَّسِيئَةِ وَبِالْعَرَضِ، وَيَأْخُذُ بِالثَّمَنِ رَهْنًا وَكَفِيلًا) وَقَالَا: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ حَالًّا أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا بِالْأَثْمَانِ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُعْتَادِ، كَمَا إِذَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ الْفَحْمِ يَتَقَيَّدُ بِالشِّتَاءِ وَبِالْجَمَدِ بِالصَّيْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُتَعَارَفُ هُوَ ثَمَنُ الْمِثْلِ وَبِالنَّقْدَيْنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ التُّهْمَةِ، عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِالْغَبْنِ مُتَعَارَفٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الثَّمَنِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِالْغَبْنِ عِنْدَ كَرَاهَةِ الْمَبِيعِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَنْعُ فِيمَا ذَكَرَا مِنَ الْمَسَائِلِ؛ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَتَّى يَحْنَثَ بِهِ فِي قَوْلِهِ لَا يَبِيعُ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ وَالْأَبُ مَعَ كَوْنِهِ بَيْعًا؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا نَظَرِيَّةٌ، وَلَا نَظَرَ فِي الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ الثَّمَنَ عَنِ الْمُشْتَرِي) ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا وَأَنَّهُ مُحَالٌ. قَالَ: (وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إِلَّا بِقِيمَةِ الْمِثْلِ وَزِيَادَةٌ يُتَغَابَنُ فِيهَا) لِاحْتِمَالِ التُّهْمَةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ وَجَدَهُ، أَوْ غَالِيَ الثَّمَنِ فَأَلْحَقَهُ بِالْمُوَكِّلِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَهُ لِنَفْسِهِ فَلَا تُهْمَةَ، وَلَوْ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ جَازَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ لِمَا مَرَّ فَانْتَفَتِ التُّهْمَةُ، وَكَذَا الْوَكِيلُ بِالنِّكَاحِ إِذَا زَوَّجَهُ بِأَكْثَرِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ، وَعِنْدَهُمَا يَتَقَيَّدُ فِي الْكُلِّ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ. (وَمَا لَا يُتَغَابَنُ فِيهِ فِي الْعُرُوضِ فِي الْعَشَرَةِ زِيَادَةُ نِصْفِ دِرْهَمٍ، وَفِي الْحَيَوَانِ دِرْهَمٌ، وَفِي الْعَقَارِ دِرْهَمَيْنِ) لِأَنَّ قِلَّةَ الْغَبْنِ وَكَثْرَتَهُ بِقِلَّةِ التَّصَرُّفِ وَكَثْرَتِهِ؛ وَالتَّصَرُّفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ (سم) جَازَ (ز) ، وَفِي الشِّرَاءِ يُتَوَقَّفُ، فَإِنِ اشْتَرَى بَاقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا جَازَ. وَلَا يَعْقِدُ الْوَكِيلُ مَعَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَبِيعَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ دُونَ رَفِيقِهِ (س) إِلَّا فِي الْخُصُومَةِ (ز) وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الْعُرُوضِ أَكْثَرُ، ثُمَّ فِي الْحَيَوَانِ، ثُمَّ فِي الْعَقَارِ. قَالَ: (وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ جَازَ) وَقَالَا: لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْيِيبِهِ بِالشَّرِكَةِ، وَلَهُ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ جَمِيعَهُ بِهَذَا الْقَدْرِ جَازَ عِنْدَهُ فَهَذَا أَوْلَى، وَلَوْ بَاعَ بَاقِيهِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا جَازَ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْبَعْضِ قَدْ يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى بَيْعِ الْبَاقِي بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَشْتَرِيهِ جُمْلَةً. (وَفِي الشِّرَاءِ يَتَوَقَّفُ، فَإِنِ اشْتَرَى بَاقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا جَازَ) وَقَالَ زُفَرُ: إِذَا اشْتَرَى نِصْفَهُ يَقَعُ لِلْوَكِيلِ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ صَارَ مُخَالِفًا بِشِرَاءِ النِّصْفِ فَيَقَعُ لَهُ، وَيَقَعُ الثَّانِي لَهُ أَيْضًا. وَلَنَا أَنَّ شِرَاءَ الْكُلِّ قَدْ يَتَعَذَّرُ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِأَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَيَشْتَرِي شِقْصًا شِقْصًا، فَإِنِ اشْتَرَى بَاقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ الْمُوَكِّلُ الْبَيْعَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْبَعْضَ لِيَتَوَسَّلَ بِهِ إِلَى شِرَاءِ الْبَاقِي فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ. أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَبَاعَ جَائِزًا جَازَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِلْمُخَالَفَةِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعٍ يَمْلِكُ نَقْضَهُ وَلَا يُزِيلُ مِلْكَهُ بِالْعَقْدِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَبَاعَهُ بَاتًّا. وَلَهُمَا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ، وَأَنْ يَشْتَرِطَ شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْأَمْرُ بِالْبَيْعِ صَحِيحٌ وَبِاشْتِرَاطِ شَرْطٍ فَاسِدٍ بَاطِلٌ، فَصَارَ أَمْرًا بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ فَيَنْصَرِفُ إِلَى الصَّحِيحِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ مُطْلَقًا؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ مِنْ قَرِيبِهِ وَقَبَضَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَدْ يَزُولُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي. قَالَ: (وَلَا يَعْقِدُ الْوَكِيلُ مَعَ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ إِلَّا أَنْ يَبِيعَهُ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ) وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إِلَّا مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ؛ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ إِذِ الْأَمْلَاكُ بَيْنَهُمْ مُنْقَطِعَةٌ. أَمَّا الْعَبْدُ فَيَقَعُ الْبَيْعُ لِنَفْسِهِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ حَالَ الْكِتَابَةِ وَحَقِيقَةً لِعَجْزِهِ. وَلَهُ أَنَّهُ مَوْضِعُ، تُهْمَةٍ بِدَلِيلِ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَمَوْضِعُ التُّهْمَةِ مُسْتَثْنًى مِنَ الْوَكَالَةِ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَشَابَهَ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِجَارَةُ فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ لَا تُهْمَةَ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ دُونَ رَفِيقِهِ إِلَّا فِي الْخُصُومَةِ) لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ إِلَّا بِرَأْيِهِمَا، وَاجْتِمَاعُ الرَّأْيِ لَهُ أَثَرٌ فِي تَوْفِيرِ الْمَصْلَحَةِ أَمَّا مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي اجْتِمَاعِ الرَّأْيِ فِيهِ وَمَا لَا يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا كَالْخُصُومَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَيْهَا. (وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَرَدُّ الْوَدِيعَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وَقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ أَوْ بِقَوْلِهِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، وَإِنْ وَكَّلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَقَدَ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ جَازَ، وَلِلْمُوَكِّلِ عَزْلُ وَكِيلِهِ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا، وَلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا. وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ أَوْ حُجِرَ   [الاختيار لتعليل المختار] وَقَضَاءُ الدَّيْنِ) لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الرَّأْيِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي ذَلِكَ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ إِلَّا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ أَوْ بِقَوْلِهِ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ) لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ إِلَّا بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْآرَاءِ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ أَوْ قَالَ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ فَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْكَ الْأَمْرَ مُطْلَقًا وَرَضِيَ بِذَلِكَ، فَإِذَا أَجَازَ كَانَ وَكِيلًا عَنِ الْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُ وَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ وَلَا بِمَوْتِهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْقَاضِي إِذَا اسْتَخْلَفَ قَاضِيًا، وَقَدْ مَرَّ. (وَإِنْ وَكَّلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَعَقَدَ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ جَازَ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مَا صَحَّ فَصَارَ كَمَا إِذَا عُقِدَ بِغَيْبَتِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا جَازَ بِرَأْيِهِ وَالْمُوَكِّلُ رَاضٍ بِهِ، وَكَذَا إِذَا عَقَدَ فِي غَيْبَةِ الْأَوَّلِ فَأَجَازَ، وَهَكَذَا كُلُّ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَمَا لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ لَا يَجُوزُ بِإِجَازَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ سَفِيرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ، بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ عُرِفَ. قَالَ: (وَلِلْمُوَكِّلِ عَزْلُ وَكِيلِهِ) لِأَنَّ الْوَكَالَةَ حَقُّهُ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَهَا، إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغَيْرِ كَالْوَكَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ، فَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ. (وَيَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ) اعْتِبَارًا بِنَهْيِ صَاحِبِ الشَّرْعِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوِ انْعَزَلَ بِدُونِ عِلْمِهِ يَتَضَرَّرُ، لَأَنَّ الْحُقُوقَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَيَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْمُوَكِّلِ بِنَاءً عَلَى الْوَكَالَةِ فَيَنْقُدُ الثَّمَنَ وَيُسَلِّمُ الْمَبِيعَ فَيَضْمَنُهُ، وَأَنَّهُ ضَرَرٌ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَزَلَ الْوَكِيلُ نَفْسَهُ لَا يَنْعَزِلُ بِدُونِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ تَمَّ بِهِمَا، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَفِي إِبْطَالِهِ بِدُونِ عِلْمِ أَحَدِهِمَا إِضْرَارٌ بِهِ؛ قَالَ: (وَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَجُنُونِهِ جُنُونًا مُطْبِقًا وَلَحَاقَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا) ؛ أَمَّا الْمَوْتُ فَلِإِبْطَالِ الْأَهْلِيَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ، وَكَذَلِكَ الْجُنُونُ، وَكَذَلِكَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ يَزُولُ بِمَوْتِهِ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَاللَّحَاقُ مَعَ الرِّدَّةِ مَوْتٌ حُكْمًا، وَلَوْ جُنَّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا لَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِغْمَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَجْزٌ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ كَالْعَجْزِ بِالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يُجَنَّ أَكْثَرَ السَّنَةِ، لِأَنَّهُ مَتَى دَامَ كَذَلِكَ لَا يَزُولُ غَالِبًا فَصَارَ كَالْمَوْتِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ سُنَّةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ " إِنْ كَانَ لِعِلَّةٍ أَوْ مَرَضٍ يَزُولُ أَوْ يَتَغَيَّرُ فِي سُنَّةٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَرَارَةِ الْهَوَاءِ وَبُرُودَتِهِ وَيُبْسِهِ وَرُطُوبَتِهِ، فَإِذَا لَمْ يَزَلْ فِيهَا فَالظَّاهِرُ دَوَامُهُ؛ وَلَوْ لَحِقَ الْمُوَكِّلُ أَوِ الْوَكِيلُ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا ثُمَّ عَادَ لَا تَعُودُ الْوَكَالَةُ لِلْحُكْمِ بِبُطْلَانِهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: تَعُودُ كَالْمَرِيضِ إِذَا بَرَأَ وَالْمَجْنُونِ إِذَا أَفَاقَ. قَالَ: (وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتِبُ أَوْ حُجِرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 عَلَى الْمَأْذُونِ أَوِ افْتَرَقَ الشَّرِيكَانِ بَطَلَ تَوْكِيلُهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ؛ وَإِذَا تَصَرَّفَ الْمُوَكِّلُ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ. وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ (سم) فِيهِ، وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ خِلَافًا لِزُفَرَ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى الْمَأْذُونِ أَوِ افْتَرَقَ الشَّرِيكَانِ بَطَلَ تَوْكِيلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْوَكِيلُ) ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ لَمْ يَبْقَ لِلْمُوَكِّلِ مَالٌ وَانْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ فَيَقَعُ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَجُوزُ وَصَارَ كَالْمَوْتِ؛ وَلَوْ وَكَّلَهُ وَقَالَ: كُلَّمَا عَزْلْتُكَ فَأَنْتَ وَكِيلِي صَحَّ وَيَكُونُ لَازِمًا، وَطَرِيقُ عَزْلِهِ أَنْ يَقُولَ: عَزَلْتُكَ كُلَّمَا وَكَّلْتُكَ؛ وَقِيلَ لَا يَنْعَزِلُ بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَزْلَ عَنِ الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ لَا يَصِحُّ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ: رَجَعْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ الْمُعَلَّقَةِ وَعَزَلْتُكَ عَنِ الْوَكَالَةِ الْمُنْجَزَةِ. قَالَ: (وَإِذَا تَصَرَّفَ الْمُوَكِّلُ فِيمَا وَكَّلَ بِهِ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ) ، وَالْمُرَادُ تَصَرُّفًا يُعْجِزُ الْوَكِيلَ عَنِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمًا، وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ مَعَ التَّسْلِيمِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفًا لَا يُعْجِزُهُ لَا يَنْعَزِلُ، كَمَا إِذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ آجَرَهُ، لِأَنَّهُ لَا يُعْجِزُهُ عَنْ عَقْدٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرَى، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ فَبَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بَطَلَتِ الْوَكَالَةُ وَلَوْ بَاعَاهُ مَعًا. قَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ لِلْمُشْتَرِي مِنَ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ فَكَانَ أَوْلَى. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْوَكِيلِ مِثْلُ بَيْعِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ بَطَلَ بِبَيْعِ الْمُوَكِّلِ كَمَا إِذَا تَقَدَّمَ بَيْعُ الْمُوَكِّلِ بَطَلَ بَيْعُ الْوَكِيلِ، وَإِذَا اسْتَوَيَا كَانَ بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ. قَالَ: (وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ) خِلَافًا لَهُمَا، وَبِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْقَبْضِ يَعْرِفُ الْخُصُومَةَ وَيَهْتَدِي إِلَى الْمُحَاكَمَةِ، فَلَا يَكُونُ الرِّضَى بِالْقَبْضِ رِضًا بِالْخُصُومَةِ. وَلَهُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِأَخْذِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِهِ؛ لِأَنَّ قَبْضَ نَفْسِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مَلَكَ الْمَطْلُوبَ حَقِيقَةً، وَبِالْقَبْضِ يَتَمَلَّكُهُ بَدَلًا عَنِ الدَّيْنِ، فَيَكُونُ وَكَيْلًا فِي حَقِّ التَّمْلِيكِ، وَلَا ذَلِكَ إِلَّا بِالْخُصُومَةِ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِأَخْذِ الشُّفْعَةِ، وَثَمَرَتُهُ إِذَا أَقَامَ الْخَصْمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْمُوَكِّلِ أَوْ إِبْرَائِهِ تُقْبَلُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا. أَمَّا فِي الْعَيْنِ فَهُوَ نَاقِلٌ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ بَاعَهُ إِيَّاهَا سُمِعَتْ فِي مَنْعِ الْوَكِيلِ مِنَ الْقَبْضِ دُونَ الْبَيْعِ، لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ بِخَصْمٍ إِلَّا أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ إِسْقَاطَ حَقِّهِ مِنَ الْقَبْضِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، وَنَظِيرُهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِنَقْلِ زَوْجَتِهِ أَوْ عَبْدِهِ فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ سُمِعَتْ فِي قَصْرِ يَدِهِ عَنْهُمَا، وَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ وَلَا الطَّلَاقُ لِمَا قُلْنَا، وَالْوَكِيلُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْقِسْمَةِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ، لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْخُصُومَةِ. قَالَ: (وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ خِلَافًا لِزُفَرَ) لِأَنَّهُ رَضِيَ بِخُصُومَتِهِ لَا بِقَبْضِهِ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخُصُومَةِ يُؤْتَمَنُ عَلَى الْقَبْضِ. وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْخُصُومَةِ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْوَكَالَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ زُفَرَ، وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى مُوَكِّلِهِ عِنْدَ الْقَاضِي نَفَذَ، وَإِلَّا فَلَا (س ف) . ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ وَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ أُمِرَ بِدَفْعِهِ (ف) إِلَيْهِ، فَإِنْ جَاءَ الْغَائِبُ فَإِنْ صَدَّقَهُ وَإِلَّا دَفَعَ إِلَيْهِ ثَانِيًا وَرَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا لَا يَرْجِعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] الِاسْتِيفَاءَ فَيَمْلِكُهُ. (وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ زُفَرَ) لِفَسَادِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ ظُهُورِ الْخِيَانَةِ فِي النَّاسِ، وَالْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلتَّقَاضِي بِدُونِ الْقَبْضِ. قَالَ: (وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى مُوَكِّلِهِ عِنْدَ الْقَاضِي نَفَذَ وَإِلَّا فَلَا) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَوَّلًا لَا يَنْفُذُ أَصْلًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: يَجُوزُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ. لِزُفَرَ أَنَّ الْإِقْرَارَ يُضَادُّ الْخُصُومَةَ، وَالشَّيْءُ لَا يَتَنَاوَلُ ضِدَّهُ كَمَا لَا يَتَنَاوَلُ الصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَيَجُوزُ إِقْرَارُهُ عِنْدَ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ كَالْمُوَكِّلِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَهُ فِي جَوَابٍ هُوَ خُصُومَةٌ فَيَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي، فَإِذَا أَقَرَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِهِ فَقَدْ أَقَرَّ فِي حَالَةٍ لَيْسَ وَكَيْلًا فِيهَا. وَجَوَابُ زُفَرَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ، وَالْجَوَابُ يَكُونُ بِالْإِنْكَارِ وَيَكُونُ بِالْإِقْرَارِ، وَكَمَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ يَمْلِكُ الْآخَرُ فَصَارَ كَمَا إِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ، وَالْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي خُصُومَةٌ مَجَازًا، لِأَنَّ الْخُصُومَةَ سَبَبٌ لَهُ، وَتَبْطُلُ وَكَالَتُهُ عِنْدَ مَنْ قَالَ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَضَمَّنَ إِبْطَالَ حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَلَا يَمْلِكُهُ، وَإِبْطَالُ حَقِّهِ فِي الْخُصُومَةِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُهُ فَيَبْطُلُ، وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُهُمَا عَلَى الصَّغِيرِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِقْرَارُ الصَّغِيرِ فَكَذَا نَائِبُهُ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَرَ فِيهِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الزِّيَادَاتِ: لَوْ وَكَّلَهُ عَلَى أَنْ لَا يُقِرَّ جَازَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ إِنْ كَانَ طَالِبًا، لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ فَيُوَكِّلُ بِمَا يَشَاءُ، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ فَلَا يُوَكَّلُ بِمَا فِيهِ إِضْرَارٌ بِالطَّالِبِ. قَالَ: (ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الْغَائِبِ فِي قَبْضِ دَيْنِهِ وَصَدَّقَهُ الْغَرِيمُ أُمِرَ بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ) لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ مَا يَقْبِضُهُ إِنَّمَا يَقْبِضُهُ مِنْ مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا. (فَإِنْ جَاءَ الْغَائِبُ فَإِنْ صَدَّقَهُ وَإِلَّا دَفَعَ إِلَيْهِ ثَانِيًا) لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ لَمْ يَثْبُتِ الِاسْتِيفَاءُ. (وَرَجَعَ عَلَى الْوَكِيلِ إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ) لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ غَرَضُهُ بِالدَّفْعِ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنَ الدُّيُونِ. (وَإِنْ كَانَ هَالِكًا لَا يَرْجِعُ) لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فِي الْوَكَالَةِ فَقَدِ اعْتَرَفَ أَنَّهُ قَبَضَهُ بِحَقٍّ وَأَنَّ الطَّالِبَ ظَالِمٌ لَهُ. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَهُ إِلَيْهِ وَلَمْ يُصَدِّقْهُ) لِأَنَّهُ دَفَعَهُ رَجَاءَ الْإِجَازَةِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ إِنْ أَعْطَاهُ مَعَ تَكْذِيبِهِ إِيَّاهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَعْطَاهُ مَعَ تَصْدِيقِهِ وَقَدْ ضَمِنَهُ عِنْدَ الدَّفْعِ: أَيْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ ثَانِيًا مَضْمُونٌ عَلَى الْوَكِيلِ فِي زَعْمِهِمَا فَيَضْمَنُهُ، وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُهُ فِي قَبْضِ الْوَدِيعَةِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ؛ وَلَوْ قَالَ: مَاتَ الْمُودِعُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَصَدَّقَهُ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ، وَلَوِ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنَ الْمُودِعِ وَصَدَّقَهُ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَيْهِ. كِتَابُ الْكَفَالَةِ وَهِيَ ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِلدَّافِعِ اسْتِرْدَادُ مَا دَفَعَ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْغَائِبُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حَقًّا لِلْغَائِبِ قَطْعًا أَوْ مُحْتَمَلًا. قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُهُ فِي قَبْضِ الْوَدِيعَةِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ) لِأَنَّهَا مَالُ الْغَيْرِ فَلَا يَصَّدَّقُ عَلَيْهِ فَلَوْ دَفَعَهَا ضَمِنَ. (وَلَوْ قَالَ: مَاتَ الْمُودِعُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَصَدَّقَهُ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ عَلَى الْمَوْتِ فَقَدِ انْتَقَلَ مَالُهُ إِلَى وَارِثِهِ، فَإِذَا صَدَّقَهُ أَنَّهُ الْوَارِثُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ تَعَيَّنَ مَالِكًا فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ. (وَلَوِ ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنَ الْمُودِعِ وَصَدَّقَهُ لَمْ يَدْفَعْهَا إِلَيْهِ) لِأَنَّهُ مَهْمَا كَانَ حَيًّا فَمِلْكُهُ بَاقٍ فَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَيْهِ فِي انْتِقَالِهِ بِالْبَيْعِ وَلَا بِغَيْرِهِ. [كِتَابُ الْكَفَالَةِ] ِ (وَهِيَ) فِي اللُّغَةِ: الضَّمُّ، قَالَ تَعَالَى {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران: 37] أَيْ ضَمَّهَا إِلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» أَيِ الَّذِي يَضُمُّهُ إِلَيْهِ فِي التَّرْبِيَةِ، وَيُسَمَّى النَّصِيبُ كِفْلًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ. وَفِي الشَّرْعِ: (ضَمُّ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ) هُوَ الصَّحِيحُ، وَلِهَذَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْمُطَالَبَةِ، وَلَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ بِبَرَاءَةِ الْكَفِيلِ لِبَقَاءِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ، وَهِيَ عَقْدُ وَثِيقَةٍ وَغَرَامَةٍ شُرِعَتْ لِدَفْعِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ وُصُولُ الْمَكْفُولِ لَهُ إِلَى إِحْيَاءِ حَقِّهِ، وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ أَوَّلُهَا مَلَامَةً وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةً وَآخِرُهَا غَرَامَةً دَلَّ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الزَّعِيمُ غَارِمٌ» أَيِ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ، وَبُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَتَكَفَّلُونَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ لَدُنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَرُكْنُهَا قَوْلُ الْكَفِيلِ: كَفَلْتُ لَكَ بِمَالِكَ عَلَى فُلَانٍ، وَقَوْلُ الْمَكْفُولِ لَهُ: قَبِلْتُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَبُولُ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا الْتِزَامُ مُطَالَبَةٍ لِلْحَالِ لَا غَيْرُ. وَعِنْدَهُمَا الْمُطَالَبَةُ لِلْحَالِ وَإِيجَابُ الْمِلْكِ فِي الْمُؤَدَّى عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ، وَشَرْطُهَا: كَوْنُ الْمَكْفُولِ بِهِ مَضْمُونًا عَلَى الْأَصِيلِ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ لِلْكَفِيلِ لِيَصِحَّ الِالْتِزَامُ بِالْمُطَالَبَةِ وَيُفِيدَ فَائِدَتَهَا، وَأَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ صَحِيحًا حَتَّى لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْكِتَابَةِ نَظَرًا لِلْعَبْدِ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى الْعِتْقِ. وَحُكْمُهَا: صَيْرُورَةُ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مَضْمُومَةً إِلَى ذِمَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وَلَا تَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ، وَتَجُوزُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَتَنْعَقِدُ بِالنَّفْسِ بِقَوْلِهِ: تَكَفَّلْتُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ، وَبِكُلِّ عُضْوٍ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْبَدَنِ، وَبِالْجُزْءِ الشَّائِعِ كَالْخُمْسِ وَالْعُشْرِ، وَبِقَوْلِهِ: ضَمِنْتُهُ، وَبِقَوْلِهِ: عَلَيَّ، وَإِلَيَّ، وَأَنَا: زَعِيمٌ، أَوْ قَبِيلٌ. وَالْوَاجِبُ إِحْضَارُهُ وَتَسْلِيمُهُ فِي مَكَانٍ يَقْدِرُ عَلَى مُحَاكَمَتِهِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَرِئَ، وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ بَرِئَ، فَإِنْ شَرَطَ تَسْلِيمَهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ فِيهِ إِذَا طَلَبَهُ مِنْهُ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْأَصِيلِ فِي حَقِّ الْمُطَالَبَةِ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ لِمَا مَرَّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ لُزُومِ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْكَفِيلِ وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ مُطَالَبٌ بِالثَّمَنِ وَهُوَ عَلَى الْمُوَكِّلِ حَتَّى لَوْ أَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُوَكِّلَ عَنِ الثَّمَنِ جَازَ وَسَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ عَنِ الْوَكِيلِ. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ) لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ تَبَرُّعًا. (وَتَجُوزُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ) لِمَا رُوِّينَا وَذَكَرْنَا مِنَ الْحَاجَةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ. أَمَّا الْمَالُ فَلِوِلَايَتِهِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ. وَأَمَّا النَّفْسُ بِأَنْ يَعْلَمَ الطَّالِبُ بِمَكَانِهِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُمَا وَبِأَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي فَيَصِحُّ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ. قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ بِالنَّفْسِ بِقَوْلِهِ تَكَفَّلْتُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِرَقَبَتِهِ وَبِكُلِّ عُضْوٍ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْبَدَنِ) لِأَنَّهُ صَرِيحٌ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ. (وَبِالْجُزْءِ الشَّائِعِ كَالْخُمُسِ وَالْعُشْرِ) لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَتَجَزَّأُ، فَذِكْرُ الْبَعْضِ ذِكْرُ الْكُلِّ. (وَبِقَوْلِهِ ضَمِنْتُهُ) لِأَنَّهُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ. (وَبِقَوْلِهِ: عَلَيَّ، وَإِلَيَّ) لِأَنَّهُمَا بِمَعْنَى الْإِيجَابِ؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ تَرَكَ كَلًّا أَوْ عِيَالًا فَإِلَيَّ» أَيْ عَلَيَّ؛ «وَمَاتَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ دِينَارَانِ فَامْتَنَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هُمَا عَلَيَّ، فَصَلَّى عَلَيْهِ» . (وَ) بِقَوْلِهِ. (أَنَا زَعِيمٌ) لِلنَّصِّ. (أَوْ قَبِيلٌ) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْكَفِيلِ لُغَةً وَعُرْفًا، وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنَا ضَمِينٌ، أَوْ لَكَ عِنْدِي هَذَا الرَّجُلُ، أَوْ عَلَيَّ أَنْ أُوَفِّيَكَ بِهِ، أَوْ أَنْ أَلْقَاكَ بِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي مَعْنَى الْكَفَالَةِ. قَالَ: (وَالْوَاجِبُ إِحْضَارُهُ وَتَسْلِيمُهُ فِي مَكَانٍ يَقْدِرُ عَلَى مُحَاكَمَتِهِ) لِيُفِيدَ تَسْلِيمَهُ. (فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَرِئَ) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا الْتَزَمَهُ وَحَصَلَ مَقْصُودُ الْمَكْفُولِ لَهُ؛ وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي بَرِّيَّةٍ لَا يَبْرَأُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مُحَاكَمَتِهِ، وَكَذَلِكَ فِي السَّوَادِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاكِمَ بِهَا؛ وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي السُّوقِ بَرِئَ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِأَعْوَانِ الْقَاضِي وَالْمُسْلِمِينَ، وَقِيلَ لَا يَبْرَأُ فِي زَمَانِنَا لِمُعَاوَنَتِهِمْ عَلَى مَنْعِهِ مِنْهُ عَادَةً. (وَلَوْ سَلَّمَهُ فِي مِصْرٍ آخَرَ بَرِئَ) لِقُدْرَتِهِ عَلَى مُخَاصَمَتِهِ فِيهِ، وَقَالَ: لَا يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ شُهُودَهُ قَدْ لَا يَكُونُونَ فِيهِ، قُلْنَا: وَقَدْ يَكُونُونَ فِيهِ. قَالَ: (فَإِنْ شَرَطَ تَسْلِيمَهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَزِمَهُ إِحْضَارُهُ فِيهِ إِذَا طَلَبَهُ مِنْهُ) إِلْزَامًا لَهُ بِمَا الْتَزَمَ. (فَإِنْ أَحْضَرَهُ وَإِلَّا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ) لِأَنَّهُ صَارَ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ الْحَقَّ، وَقِيلَ لَا يُحْبَسُ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ مَا ظَهَرَ ظُلْمُهُ؛ وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ حَاضِرًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ، وَإِذَا حَبَسَهُ وَثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي عَجْزُهُ عَنْ إِحْضَارِهِ خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ لَا يُطَالَبُ بِهِ، وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ بِهِ دُونَ الْمَكْفُولِ لَهُ وَإِنْ تَكَفَّلَ بِهِ إِلَى شَهْرٍ فَسَلَّمَهُ قَبْلَ الشَّهْرِ بَرَأَ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُوَفِّكَ بِهِ فَعَلَيَّ الْأَلْفُ الَّتِي عَلَيْهِ فَلَمْ يُوَفِّ بِهِ، فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ وَالْكَفَالَةُ بَاقِيَةٌ؛ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا حَتَّى لَا تَصِحُّ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالسِّعَايَةِ وَالْأَمَانَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَلَوْ كَانَ غَائِبًا أَمْهَلَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةَ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ. (فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُحْضِرْهُ حَبَسَهُ) لِامْتِنَاعِهِ مِنْ إِيفَاءِ الْحَقِّ. (وَإِذَا حَبَسَهُ وَثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي عَجْزُهُ عَنْ إِحْضَارِهِ خَلَّى سَبِيلَهُ) وَيُسَلِّمُهُ إِلَى الَّذِي حَبَسَهُ، وَإِنْ شَاءَ لَازَمَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُلَازَمَتِهِ تَفْوِيتُ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَيُخَلِّيهِ. (وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ مَكَانَهُ لَا يُطَالَبُ بِهِ) لِعَجْزِهِ عَنْ إِحْضَارِهِ فَصَارَ كَالْمَوْتِ، إِلَّا أَنَّ فِي الْمَوْتِ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ أَصْلًا لِلتَّيَقُّنِ بِالْعَجْزِ، وَهُنَا لَا لِاحْتِمَالِ الْقُدْرَةِ بِالْعِلْمِ بِمَكَانِهِ، وَلَوِ ارْتَدَّ الْمَكْفُولُ بِهِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ إِنْ عَلِمَ الْقَاضِي أَنَّهُ يُمْكِنُهُ دُخُولُ دَارِ الْحَرْبِ وَإِحْضَارُهُ فَهُوَ كَالْغَيْبَةِ الْمَعْلُومَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ فَكَالْغَيْبَةِ الْمَجْهُولَةِ، وَلَا تَبْطُلُ الْكَفَاءَةُ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالتَّوْبَةِ، وَالرُّجُوعُ مُمْكِنٌ، فَيُمْكِنُ الْكَفِيلُ إِحْضَارَهُ بَعْدَ رِدَّتِهِ كَالْغَيْبَةِ الْمَجْهُولَةِ. قَالَ: (وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ بِهِ دُونَ الْمَكْفُولِ لَهُ) أَمَّا الْكَفِيلُ فَلِعَجْزِهِ، وَالْوَرَثَةُ لَمْ يَتَكَفَّلُوهُ وَإِنَّمَا يَخْلُفُونَهُ فِيمَا لَهُ لَا فِيمَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَكْفُولُ بِهِ فَلِمَا مَرَّ، بِخِلَافِ الْمَكْفُولِ لَهُ، لِأَنَّ الْكَفِيلَ غَيْرُ عَاجِزٍ وَالْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَ الْمَكْفُولَ لَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّهُ حَقُّهُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ» . قَالَ: (وَإِنْ تَكَفَّلَ بِهِ إِلَى شَهْرٍ فَسَلَّمَهُ قَبْلَ الشَّهْرِ بَرَأَ) لِتَعْجِيلِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ حَقُّهُ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُوَفِّكَ بِهِ فَعَلَيَّ الْأَلْفُ الَّتِي عَلَيْهِ فَلَمْ يُوَفِّ بِهِ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ) لِصِحَّةِ التَّعْلِيقِ وَوُجُودِ الشَّرْطِ. (وَالْكَفَالَةُ بَاقِيَةٌ) لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْكَفَالَتَيْنِ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَقٌّ آخَرُ غَيْرُ الْأَلْفِ؛ وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَ الْمَكْفُولِ بِهِ فَعَلَى الْكَفِيلِ تَسْلِيمُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَصِيٌّ أَوْ وَكِيلٌ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا آخَرَ لَمْ يَبْرَأِ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ، وَإِذَا سَلَّمَهُ الْكَفِيلُ إِلَيْهِ بَرَأَ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهُ الطَّالِبُ كَإِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَكَذَا إِذَا سَلَّمَهُ وَكِيلُهُ أَوْ رَسُولُهُ لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُ، وَكَذَا إِذَا سَلَّمَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ عَنْ كَفَالَتِهِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مُطَالَبٌ بِالْخُصُومَةِ فَلَهُ الدَّفْعُ عَنْهُ كَالْمَكْفُولِ بِالْمَالِ. قَالَ: (وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ جَائِزَةٌ إِذَا كَانَ دَيْنًا صَحِيحًا حَتَّى لَا تَصِحُّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَالسِّعَايَةِ وَالْأَمَانَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ) لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، وَسَوَاءٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 وَإِذَا صَحَّتِ الْكَفَالَةُ فَالْمَكْفُولُ لَهُ إِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْأَصِيلَ وَلَوْ شَرَطَ عَدَمَ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ فَهِيَ حَوَالَةٌ كَمَا إِذَا شَرَطَ فِي الْحَوَالَةِ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ تَكُونُ كَفَالَةً، وَتَجُوزُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ بِأَمْرِهِ فَأَدَّى رَجَعَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ، وَإِذَا طُولِبَ الْكَفِيلُ وَلُوزِمَ، طَالَبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ وَلَازَمَهُ، وَإِنْ أَدَّى الْأَصِيلُ أَوْ أَبْرَأَهُ رَبُّ الدَّيْنِ بَرَأَ الْكَفِيلُ، وَإِنْ أُبْرِئَ الْكَفِيلُ لَمْ يَبْرَأِ الْأَصِيلُ، وَإِنْ أُخِّرَ عَنِ الْأَصِيلِ تَأَخَّرَ عَنِ الْكَفِيلِ وَبِالْعَكْسِ لَا؛ وَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ: بَرِئْتَ إِلَيَّ مِنَ الْمَالِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] كَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا كَقَوْلِهِ: تَكَفَّلْتُ بِمَالِكَ عَلَيْهِ، أَوْ بِمَا يُدْرِكُكَ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى التَّوَسُّعِ فَتُحْتَمَلُ فِيهَا هَذِهِ الْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ. (وَإِذَا صَحَّتِ الْكَفَالَةُ فَالْمَكْفُولُ لَهُ، إِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلِ، وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْأَصِيلِ) لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الضَّمِّ، وَلَهُ مُطَالَبَتُهُمَا جَمْعًا وَتَفْرِيقًا لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الضَّمِّ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ إِذَا اخْتَارَ الْمَالِكُ تَضْمِينَ أَحَدِ الْغَاصِبِينَ لَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْآخَرِ، لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ تَضْمِينَهُ فَقَدْ مَلَّكَهُ الْعَيْنَ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهَا لِلْآخَرِ. قَالَ: (وَلَوْ شَرَطَ عَدَمَ مُطَالَبَةِ الْأَصِيلِ فَهِيَ حَوَالَةٌ) لِوُجُودِ مَعْنَاهَا. (كَمَا إِذَا شَرَطَ فِي الْحَوَالَةِ مُطَالَبَةُ الْمُحِيلِ تَكُونُ كَفَالَةً) لِوُجُودِ مَعْنَى الْكَفَالَةِ، وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي. قَالَ: (وَتَجُوزُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ) لِأَنَّهُ إِلْزَامٌ عَلَى نَفْسِهِ لَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ فِيهِ ضَرَرٌ. (فَإِنْ كَانَتْ بِأَمْرِهِ فَأَدَّى رَجَعَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ. (وَإِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ. (قَالَ: وَإِذَا طُولِبَ الْكَفِيلُ وَلُوزِمَ طَالَبَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ وَلَازَمَهُ) وَيَقُولُ لَهُ أَدِّ إِلَيْهِ، وَلَا يَقُولُ لَهُ أَدِّ إِلَيَّ، وَكَذَا يَحْبِسُهُ إِذَا حَبَسَهُ؛ لِأَنَّ مَا لَحِقَهُ بِسَبَبِهِ فَيَأْخُذُهُ بِمِثْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَا لَزِمَهُ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ. قَالَ: (وَإِنْ أَدَّى الْأَصِيلُ أَوْ أَبْرَأَهُ رَبُّ الدَّيْنِ بَرَأَ الْكَفِيلُ) لِأَنَّهُ تَبَعٌ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالدَّيْنِ وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ. (وَإِنْ أُبْرِئَ الْكَفِيلُ لَمْ يَبْرَأِ الْأَصِيلُ) لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْأَصِيلِ، وَبَقَاؤُهُ عَلَيْهِ بِدُونِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ جَائِزٌ. (وَإِنْ أَخَّرَ عَنِ الْأَصِيلِ تَأَخَّرَ عَنِ الْكَفِيلِ وَبِالْعَكْسِ لَا) لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مُؤَقَّتٌ فَيُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ الْمُطْلَقِ؛ فَإِنْ صَالَحَ الْكَفِيلُ رَبَّ الدَّيْنِ مِنَ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بَرِئَ هُوَ وَالْأَصِيلُ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إِلَى الدَّيْنِ وَهُوَ عَلَى الْأَصِيلِ بَرِئَ الْأَصِيلُ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ إِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ، وَلَوْ صَالَحَ بِخِلَافِ جِنْسِ الدَّيْنِ رَجَعَ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَمَّا اسْتَوْجَبَ بِالْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ، لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ لَهُ عَنِ الْمُطَالَبَةِ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْتَ إِلَيَّ مِنَ الْمَالِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ) لِأَنَّهُ أَضَافَ الْبَرَاءَةَ إِلَى فِعْلِ الْمَطْلُوبِ وَلَا يَمْلِكُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وَإِنْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ لَمْ يَرْجِعْ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا بِشَرْطٍ، وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْمَبِيعِ فَاسِدًا وَلَا تَصِحُّ بِالْمَضْمُونَةِ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ (ف) فِي الْمَجْلِسِ (س) إِلَّا إِذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ: تَكَفَّلْ بِمَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَتَكَفَّلَ وَالْغَرِيمُ غَائِبٌ فَيَصِحُّ، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنِ الْمَيِّتِ (سم) الْمُفْلِسِ (ف)   [الاختيار لتعليل المختار] ذَلِكَ إِلَّا بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ. (وَإِنْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ لَمْ يَرْجِعْ) لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ حَتَّى لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِغَيْرِهِ؛ وَلَوْ قَالَ: بَرِئْتُ، رَجَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّهَا بَرَاءَةٌ ابْتِدَاؤُهَا مِنَ الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ بِالْإِيفَاءِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ فَلَا يَرْجِعُ بِالشَّكِّ، وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا غَابَ الطَّالِبُ أَمَّا إِذَا كَانَ حَاضِرًا يَرْجِعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمَلُ. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ مِنْهَا بِشَرْطٍ) كَمَا فِي سَائِرِ الْبَرَاءَاتِ وَقِيلَ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ إِنَّمَا عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ إِبْرَاؤُهُ بِالرَّدِّ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْإِبْرَاءَاتِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ فَلَا تَصِحُّ مَعَ التَّعْلِيقِ. وَبِخِلَافِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ حَتَّى تَرْتَدَّ بِالرَّدِّ. قَالَ: (وَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمَغْصُوبِ وَالْمَبِيعِ فَاسِدًا، لِأَنَّهُ يَجِبُ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ حَالَ بَقَائِهِ، وَقِيمَتِهِ حَالَ هَلَاكِهِ، فَكَانَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فَيَصِحُّ. (وَلَا تَصِحُّ بِالْمَضْمُونَةِ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ وَالْمَرْهُونِ) لِأَنَّهُ لَوْ هَلَكَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ بَلْ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ، وَقِيلَ يَصِحُّ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَتَبْطُلُ بِالْهَلَاكِ لِلْقُدْرَةِ قَبْلَ الْهَلَاكِ وَالْعَجْزِ بَعْدَهُ. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِقَبُولِ الْمَكْفُولِ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ: يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ. وَفِي رِوَايَةٍ: يَجُوزُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الطَّالِبِ فَيَسْتَبِدُّ الْكَفِيلُ بِهِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ لِانْضِمَامِ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ تَمْلِيكُ الْمُطَالَبَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَا فِي سَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ. قَالَ: (إِلَّا إِذَا قَالَ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ تَكَفَّلْ بِمَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ، فَتَكَفَّلَ وَالْغَرِيمُ غَائِبٌ فَيَصِحُّ) ثُمَّ قِيلَ هُوَ وَصِيَّةٌ حَتَّى لَا تَصِحَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَقِيلَ تَصِحُّ لِحَاجَتِهِ إِلَى إِبْرَاءِ ذِمَّتِهِ فَقَامَ مَقَامَ الطَّالِبِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِلطَّالِبِ. (وَلَوْ قَالَ) ذَلِكَ. (لِأَجْنَبِيٍّ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ) . قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عَنِ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ) وَقَالَا: تَصِحُّ لِأَنَّهُ دَيْنٌ ثَابِتٌ وَجَبَ لِلطَّالِبِ وَلَمْ يُسْقِطْهُ فَلَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ كَانَ كَفِيلًا بِهِ لَا يَسْقُطُ وَكَذَا لَوْ تَبَرَّعَ إِنْسَانٌ بِهِ صَحَّ، وَلَوْ سَقَطَ بِالْمَوْتِ لَمَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ. وَلَهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُطَالَبَةِ وَهِيَ فِعْلٌ، وَلِهَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ كَشَرْطِ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا بَايَعْتَ فُلَانًا فَعَلَيَّ، أَوْ مَا ذَابَ لَكَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ أَوْ مَا غَصَبَكَ فَعَلَيَّ، أَوْ بِشَرْطِ إِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ، كَقَوْلِهِ: إِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَعَلَيَّ وَهُوَ مَكْفُولٌ عَنْهُ، أَوْ بِشَرْطِ تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ كَقَوْلِهِ: إِنْ غَابَ فَعَلَيَّ، وَلَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إِنْ هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ، فَلَوْ جَعَلَهُمَا أَجَلًا بِأَنْ قَالَ: كَفَلْتُهُ إِلَى مَجِيءِ الْمَطَرِ أَوْ إِلَى هُبُوبِ الرِّيحِ لَا يَصِحُّ، وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًّا، فَإِنْ قَالَ: تَكَفَّلْتُ بِمَا لَكَ عَلَيْهِ فَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِشَيْءٍ لَزِمَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ، وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُ الْأَصِيلِ عَلَيْهِ؛ وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ عَلَى دَابَّةٍ بِعَيْنِهَا، وَتَصِحُّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] تُوصَفُ بِالْوُجُوبِ، إِلَّا أَنَّهُ يَؤُولُ إِلَى الْمَالِ وَقَدْ عَجَزَ بِنَفْسِهِ وَخَلَفِهِ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةَ فَوَاتِ عَاقِبَةِ الِاسْتِيفَاءِ. أَمَّا إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ بِهِ كَفِيلٌ فَهُوَ قَادِرٌ بِخَلَفِهِ، وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى الْأَدَاءِ فَلَا تَفُوتُ الْعَاقِبَةُ، وَالتَّبَرُّعُ لَا يَعْتَمِدُ بَقَاءَ الدَّيْنِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ مُلَائِمٍ كَشَرْطِ وُجُوبِ الْحَقِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا بَايَعْتُ فُلَانًا فَعَلَيَّ، أَوْ مَا ذَابَ لَكَ عَلَيْهِ فَعَلَيَّ، أَوْ مَا غَصَبَكَ فَعَلَيَّ، أَوْ بِشَرْطِ إِمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ كَقَوْلِهِ: إِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَعَلَيَّ وَهُوَ مَكْفُولٌ عَنْهُ، أَوْ بِشَرْطِ تَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ كَقَوْلِهِ: إِنْ غَابَ فَعَلَيَّ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى صِحَّةِ ضَمَانِ الدَّرْكِ، وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الشُّرُوطِ. (وَلَا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إِنْ هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ جَاءَ الْمَطَرُ) لِأَنَّهَا جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ. (فَلَوْ جَعَلَهُمَا أَجَلًا بِأَنْ قَالَ: كَفَلْتُهُ إِلَى مَجِيءِ الْمَطَرِ أَوْ إِلَى هُبُوبِ الرِّيحِ لَا يَصِحُّ) الْأَجَلُ. (وَيَجِبُ الْمَالُ حَالًّا) لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ؛ وَشَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْكَفَالَةِ جَائِزٌ، وَهِيَ أَقْبَلُ لِلْخِيَارِ مِنَ الْبَيْعِ حَتَّى يُقْبَلَ الْخِيَارُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ فَلَأَنْ يَصِحَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِيهِ أَوْلَى فَلَوْ أَقَرَّ بِكَفَالَةٍ مُؤَجَّلَةٍ لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْأَجَلِ إِلَّا بِتَصْدِيقِ الطَّالِبِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ. قَالَ: (فَإِنْ قَالَ: تَكَفَّلْتُ بِمَا لَكَ عَلَيْهِ فَقَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِشَيْءٍ لَزِمَهُ) لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمُعَايَنِ حُكْمًا (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ. (وَلَا يُسْمَعُ قَوْلُ الْأَصِيلِ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ وَيَلْزَمُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِمَا عُرِفَ. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ عَلَى دَابَّةٍ بِعَيْنِهَا، وَتَصِحُّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا) لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُ عَلَى أَيِّ دَابَّةٍ شَاءَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 عَلَيْهِمَا دَيْنٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنِ الْآخَرِ، فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ، فَإِنْ تَكَفَّلَا عَنْ رَجُلٍ وَكَّلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنِ الْآخَرِ، فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى الْآخَرِ، " وَإِنْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ خَرَاجَهُ وَقِسْمَتَهُ وَنَوَائِبَهُ، جَازَ إِنْ كَانَتِ النَّوَائِبُ بِحَقٍّ كَكَرْيِ النَّهْرِ، وَأُجْرَةِ الْحَارِسِ، وَتَجْهِيزِ الْجَيْشِ وَفِدَاءِ الْأُسَارَى، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِحَقٍّ كَالْجِبَايَاتِ، قَالُوا: تَصِحُّ فِي زَمَانِنَا.   [الاختيار لتعليل المختار] بِخِلَافِ الْمُعَيَّنَةِ، لِأَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ تَكَفَّلَ بِخِدْمَةِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِخِيَاطَةِ خَيَّاطٍ بِيَدِهِ؛ لَأَنَّ فِعْلَهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِ غَيْرِهِ، فَإِنْ تَكَفَّلَ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ أَوِ الْخَيَّاطِ أَوْ بِفِعْلِ الْخِيَاطَةِ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ مُطْلَقُ الْخِيَاطَةِ، فَأَيُّ خِيَاطَةٍ وُجِدَتْ حَصَلَ الْمَكْفُولُ بِهِ؛ وَلَوْ ضَمِنَ لِامْرَأَةٍ عَنْ زَوْجِهَا بِنَفَقَةِ كُلِّ شَهْرٍ جَازَ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنِ الضَّمَانِ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ وَلَوْ ضَمِنَ أُجْرَةَ كُلِّ شَهْرٍ فِي الْإِجَارَةِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ السَّبَبَ فِي النَّفَقَةِ لَمْ يَتَجَدَّدْ عَنْ رَأْسِ الشَّهْرِ بَلْ تَجِبُ فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا بِسَبَبٍ وَاحِدٍ، وَسَبَبُ الْأُجْرَةِ فِي الْإِجَارَةِ يَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ شَهْرٍ لِتَجَدُّدِ الْعَقْدِ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْكَفَالَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. قَالَ: (عَلَيْهِمَا دَيْنٌ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنِ الْآخَرِ، فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ فَيَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ) لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي النِّصْفِ كَفِيلٌ فِي النِّصْفِ، وَالْكَفَالَةُ تَبَعٌ فَتَقَعُ عَنِ الْأَصِيلِ إِذْ هُوَ الْأَوْلَى وَالْأَهَمُّ، ثُمَّ مَا يُؤَدِّيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ عَنِ الْكَفَالَةِ لِتَعَيُّنِهَا فَيَرْجِعُ بِهِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (فَإِنْ تَكَفَّلَا عَنْ رَجُلٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنِ الْآخَرِ، فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَى الْآخَرِ) لِأَنَّ مَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا لَزِمَهُ بِالْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْ شَرِيكِهِ بِالْجَمِيعِ وَعَنِ الْأَصِيلِ بِالْجَمِيعِ، فَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا وَقَعَ شَائِعًا عَنْهُمَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، إِذِ الْكُلُّ كَفَالَةٌ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُوْلَى ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْأَصِيلِ؛ لِأَنَّهُمَا أَدَّيَا عَنْهُ بِأَمْرِهِ، أَحَدُهُمَا بِنَفْسِهِ وَالْآخَرُ بِنَائِبِهِ. قَالَ: (وَإِنْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ خَرَاجَهُ وَقِسْمَتَهُ وَنَوَائِبَهُ جَازَ إِنْ كَانَتِ النَّوَائِبُ بِحَقٍّ، كَكَرْيِ النَّهْرِ، وَأُجْرَةِ الْحَارِسِ، وَتَجْهِيزِ الْجَيْشِ، وَفِدَاءِ الْأُسَارَى) أَمَّا الْخَرَاجُ فَلِأَنَّهُ دَيْنٌ مُطَالَبٌ بِهِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ فَيَصِحُّ؛ وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنَ النَّوَائِبِ فَقَدْ صَارَتْ كَالدَّيْنِ. وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فَهِيَ حِصَّةٌ مِنَ النَّوَائِبِ الَّتِي صَارَتْ مَعْلُومَةً لَهُمْ مُوَظَّفَةً عَلَيْهِمْ كَالدُّيُونِ، وَبَاقِي النَّوَائِبِ مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ. (وَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِحَقٍّ كَالْجِبَايَاتِ قَالُوا: تَصِحُّ فِي زَمَانِنَا) لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالدُّيُونِ حَتَّى قَالُوا: لَوْ أُخِذَ مِنَ الْمُزَارِعِ جَبْرًا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَالِكِ. وَالْكَفَالَةُ بِالدَّرْكِ جَائِزَةٌ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَهُوَ الْتِزَامُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَأْكِيدُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ وَتَقْرِيرُهَا، وَلَوِ اسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ لَمْ يُؤْخَذِ الْكَفِيلُ حَتَّى يُقْضَى عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُنْتَقَضُ إِلَّا بِالْقَضَاءِ، فَلَعَلَّ الْمُسْتَحِقَّ يُجِيزُهُ فَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ نَقْدُ الثَّمَنِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ، وَلَوْ قَضَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِالِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ عَنْهُ، فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ وَالضَّمَانُ بِالْعُهْدَةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ تَحْتَمِلُ الدَّرْكَ وَغَيْرَهُ فَكَانَ مَجْهُولًا. أَمَّا الدَّرْكُ فَيُسْتَعْمَلُ فِي ضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْعُهْدَةَ كَالدَّرْكِ؛ لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ اسْتِعْمَالُهَا فِي ضَمَانِ الدَّرْكِ عَادَةً وَعُرْفًا. تَمَّ الْجُزْءُ الثَّانِي مِنْ " الِاخْتِيَارِ لِتَعْلِيلِ الْمُخْتَارِ " وَيَلِيهِ: الْجُزْءُ الثَّالِثُ، وَأَوَّلُهُ: كِتَابُ الْحَوَالَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [حَدِيثٌ شَرِيفٌ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْحَوَالَةِ   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الْحَوَالَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْحَوَالَةِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّحَوُّلِ بِمَعْنَى الِانْتِقَالِ، يُقَالُ: تَحَوَّلَ مِنَ الْمَنْزِلِ إِذَا انْتَقَلَ عَنْهُ، وَمِنْهُ تَحْوِيلُ الْفِرَاشِ. وَفِي الشَّرْعِ: نَقْلُ الدَّيْنِ وَتَحْوِيلُهُ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إِذَا صَحَّتِ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ لِتَحَوُّلِهِ إِلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ بَقَاءَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي مَحَلَّيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أُحِيلَ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ، وَلَوْلَا الْجَوَازُ لَمَا أَمَرَ بِهِ، حَتَّى إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الِاتِّبَاعِ نَظَرًا إِلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْإِبَاحَةُ ; لِأَنَّ تَحَوُّلَ حَقِّهِ إِلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ ضَرَرٌ بِهِ، وَإِنَّمَا خَصَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْمَلِيءِ حُكْمًا لِلْغَالِبِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْحَوَالَاتِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ شَرْطُ الْجَوَازِ. ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْحَوَالَةُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ مِنَ الدَّيْنِ، وَالْمُطَالَبَةُ بَرَاءَةٌ مُؤَقَّتَةٌ إِلَى أَنْ يَتْوَى، مَا عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالُ الْمُحِيلَ صَحَّ، وَلَوْ أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ بِدَيْنِهِ اسْتَرَدَّ الرَّهْنَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ دُونَ الدَّيْنِ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ، وَلَا يَسْتَرِدُّ الرَّاهِنُ الرَّهْنَ. لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ نَقْلَ الدَّيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ; لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْمَالِ وَذَلِكَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ، وَمُوجِبُهُ الْمُطَالَبَةُ وَهِيَ تَقْبَلُ النَّقْلَ، وَلِهَذَا لَوْ أَدَّى الْمُحِيلُ الدَّيْنَ أُجْبِرَ الْمُحَالُ عَلَى قَبُولِهِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَوَالَةَ أُضِيفَتْ إِلَى الدَّيْنِ، وَلَوْ أُضِيفَتْ إِلَى الْمُطَالَبَةِ لَا تَكُونُ حَوَالَةً، فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِتَحْوِيلِ الدَّيْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَتَصِحُّ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَإِذَا تَمَّتِ الْحَوَالَةُ بَرِئَ (ز) الْمُحِيلُ حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يَأْخُذُ الْمُحْتَالُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لَكِنْ يَأْخُذُ كَفِيلًا مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ مِنَ الْغُرَمَاءِ مَخَافَةَ التَّوَى، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمُحْتَالُ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا (سم) ، أَوْ يَجْحَدَ (ف) وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ، فَإِنْ طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ فَقَالَ: إِنَّمَا أَحَلْتُ بِدَيْنٍ لِي عَلَيْكَ لَمْ يُقْبَلْ، وَإِنْ طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ: إِنَّمَا أَحَلْتَنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْكَ لَمْ يُقْبَلْ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ، وَإِنَّمَا صَحَّ الْأَدَاءُ مِنَ الْمُحِيلِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ بِالْحَوَالَةِ بَرَاءَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَبِالْأَدَاءِ تَثْبُتُ لَهُ بَرَاءَةٌ مُؤَبَّدَةٌ وَأَنَّهُ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ. قَالَ: (وَهِيَ جَائِزَةٌ بِالدُّيُونِ دُونَ الْأَعْيَانِ) لِمَا مَرَّ أَنَّهَا تُبْنَى عَلَى التَّحَوُّلِ، وَإِنَّمَا تَتَحَوَّلُ الدُّيُونُ دُونَ الْأَعْيَانِ. قَالَ: (وَتَصِحُّ بِرِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحْتَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ) أَمَّا الْمُحِيلُ فَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْحَوَالَةِ، وَمِنْهُ تُوجَدُ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ رِضَا الْمُحِيلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ يَتَصَرَّفُ فِي نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الدَّيْنِ وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمُحِيلِ بَلْ فِيهِ نَفْعُهُ ; لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِلَّا بِرِضَاهُ. وَأَمَّا الْمُحْتَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ، فَلِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْقَضَاءِ وَالِاقْتِضَاءِ، فَلَعَلَّ الْمُحَالَ عَلَيْهِ أَعْسَرَ وَأَفْلَسَ، وَالْمُحْتَالَ أَشَدُّ اقْتِضَاءً وَمُطَالَبَةً، فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُمَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمَا. قَالَ: (وَإِذَا تَمَّتِ الْحَوَالَةُ بَرِئَ الْمُحِيلُ) لِمَا مَرَّ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَبْرَأُ ; لِأَنَّهَا لِلِاسْتِيثَاقِ فَبَقِيَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ كَالْكَفَالَةِ. وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ أَنَّهَا مِنَ التَّحْوِيلِ، وَلَا بَقَاءَ مَعَ التَّحْوِيلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَيَبْرَأُ الْمُحِيلُ. (حَتَّى لَوْ مَاتَ لَا يَأْخُذُ الْمُحْتَالُ مِنْ تَرِكَتِهِ، لَكِنْ يَأْخُذُ كَفِيلًا مِنَ الْوَرَثَةِ أَوْ مِنَ الْغُرَمَاءِ مَخَافَةَ التَّوَى، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمُحْتَالُ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا أَوْ يَجْحَدَ وَلَا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْحَوَالَةِ سَلَامَةُ حَقِّهِ فَكَانَتْ مُقَيَّدَةً بِالسَّلَامَةِ، فَإِذَا فَاتَتِ السَّلَامَةُ انْفَسَخَتْ كَالْعَيْبِ فِي الْمَبِيعِ. وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ بِوَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِإِفْلَاسِهِ فِي حَيَاتِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِفْلَاسَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَعِنْدَهُ لَا. قَالَ: (فَإِنْ طَالَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْمُحِيلَ فَقَالَ: إِنَّمَا أَحَلْتُ بِدَيْنٍ لِي عَلَيْكَ لَمْ يُقْبَلْ) وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا أَحَالَ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ، لَكِنَّ الْمُحِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ دَيْنًا وَهُوَ يُنْكِرُ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ، وَالْحَوَالَةُ لَيْسَتْ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ فَإِنَّهَا تَكُونُ بِدُونِهِ. (وَإِنْ طَالَبَ الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ بِمَا أَحَالَهُ بِهِ فَقَالَ: إِنَّمَا أَحَلْتَنِي بِدَيْنٍ لِي عَلَيْكَ لَمْ يُقْبَلْ) ; لِأَنَّ الْمُحْتَالَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الدَّيْنَ وَهُوَ يُنْكِرُ، وَفِي الْحَوَالَةِ مَعْنَى الْوَكَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 كِتَابُ الصُّلْحِ وَيَجُوزُ مَعَ الْإِقْرَارِ وَالسُّكُوتِ (ف) وَالْإِنْكَارِ (ف) ; فَإِنْ كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ وَهُوَ بِمَالٍ عَنْ مَالٍ فَهُوَ كَالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ بِمَنَافِعَ عَنْ مَالٍ فَهُوَ كَالْإِجَارَةِ فَإِنِ اسْتُحِقَّ فِيهِ بَعْضُ الْمَصَالَحِ عَنْهُ رَدَّ حِصَّتَهُ مِنَ الْعِوَضِ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ الْجَمِيعُ رَدَّ الْجَمِيعَ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ كُلُّ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ رَجَعَ بِكُلِّ الْمُصَالَحِ عَنْهُ، وَفِي الْبَعْضِ بِحِصَّتِهِ، وَالصُّلْحُ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إِنْكَارٍ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقٍّ الْمُدَّعِي، وَفِي حَقَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ،   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الصُّلْحِ] ِ وَهُوَ ضِدُّ الْفَسَادِ، يُقَالُ: صَلَحَ الشَّيْءُ إِذَا زَالَ عَنْهُ الْفَسَادُ، وَصَلَحَ الْمَرِيضُ إِذَا زَالَ عَنْهُ الْمَرَضُ، وَهُوَ فَسَادُ الْمِزَاجِ، وَصَلَحَ فُلَانٌ فِي سِيرَتِهِ إِذَا أَقْلَعَ عَنِ الْفَسَادِ. وَفِي الشَّرْعِ: عَقْدٌ يَرْتَفِعُ بِهِ التَّشَاجُرُ وَالتَّنَازُعُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَهُمَا مَنْشَأُ الْفَسَادِ وَمَثَارُ الْفِتَنِ، وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، قَالَ - تَعَالَى -: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ حَلَّلَ حَرَامًا» ، وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (رُدُّوا الْخُصُومَ كَيْ يَصْطَلِحُوا) . قَالَ: (وَيَجُوزُ مَعَ الْإِقْرَارِ وَالسُّكُوتِ وَالْإِنْكَارِ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا مِنَ النُّصُوصِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَجْوَدُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ ; لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى جَوَازِهِ أَمَسُّ ; لِأَنَّ الصُّلْحَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ وَإِطْفَاءِ الثَّائِرَاتِ، وَهُوَ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْإِنْكَارِ أَبْلَغُ، وَلِلْحَاجَةِ أَثَرٌ فِي تَجْوِيزِ الْمُعَاقَدَاتِ، فَفِي إِبْطَالِهِ فَتْحُ بَابِ الْمُنَازَعَاتِ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ عَنْ إِقْرَارٍ وَهُوَ بِمَالٍ عَنْ مَالٍ فَهُوَ كَالْبَيْعِ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي، فَيَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ وَالشَّرْطِ وَالشُّفْعَةِ، وَيُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ، وَيُفْسِدُهُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ لِإِفْضَائِهَا إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَا تُفْسِدُهُ جَهَالَةُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ بِمَنَافِعَ عَنْ مَالٍ فَهُوَ كَالْإِجَارَةِ) لِوُجُودِ مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِمَالٍ حَتَّى تَبْطُلَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي الْمُدَّةِ كَمَا فِي صُورَةِ الْإِجَارَةِ (فَإِنِ اسْتُحِقَّ فِيهِ بَعْضُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ رَدَّ حِصَّتَهُ مِنَ الْعِوَضِ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ الْجَمِيعُ رَدَّ الْجَمِيعَ) ; لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ كَالْبَيْعِ، وَحُكْمُ الْبَيْعِ كَذَلِكَ (وَإِنِ اسْتُحِقَّ كُلُّ الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ رَجَعَ بِكُلِّ الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَفِي الْبَعْضِ بِحِصَّتِهِ) ; لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَالصُّلْحُ عَنْ سُكُوتٍ أَوْ إِنْكَارٍ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي) ; لِأَنَّ مِنْ زَعْمِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ مَالِهِ وَأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ (وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ لِافْتِدَاءِ الْيَمِينِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وَإِنِ اسْتُحِقَّ فِيهِ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى الدَّعْوَى فِي كُلِّهِ وَفِي الْبَعْضِ بِقَدْرِهِ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ الْمُصَالَحُ عَنْهُ رَدَّ الْعِوَضَ، وَإِنِ اسْتُحِقَّ بَعْضُهُ رَدَّ حِصَّتَهُ وَرَجَعَ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ، وَهَلَاكُ الْبَدَلِ كَاسْتِحْقَاقِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ مَجْهُولٍ (ف) ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَعْلُومٍ، وَيَجُوزُ عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ،   [الاختيار لتعليل المختار] ؛ لِأَنَّ مِنْ زَعْمِهِ أَنْ لَا حَقَّ عَلَيْهِ وَأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ، وَإِنَّمَا دَفَعَ الْمَالَ لِئَلَّا يَحْلِفَ وَلِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ. (وَإِنِ اسْتُحِقَّ فِيهِ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ رَجَعَ إِلَى الدَّعْوَى فِي كُلِّهِ وَفِي الْبَعْضِ بِقَدْرِهِ) ; لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ الدَّعْوَى إِلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ رَجَعَ إِلَى دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ الْبَدَلُ. (وَإِنِ اسْتُحِقَّ الْمُصَالَحُ عَنْهُ رَدَّ الْعِوَضَ) وَرَجَعَ بِالْخُصُومَةِ (وَإِنِ اسْتُحِقَّ بَعْضُهُ رَدَّ حِصَّتَهُ وَرَجَعَ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ) ; لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِنَّمَا بَذَلَ الْعِوَضَ لِيَدْفَعَ الْخُصُومَةَ عَنْهُ، فَإِذَا اسْتُحِقَّتِ الدَّارُ ظَهَرَ أَنْ لَا خُصُومَةَ فَبَطَلَ غَرَضُهُ فَيَرْجِعُ بِالْعِوَضِ، وَفِي الْبَعْضِ خَلَا الْمُعَوَّضَ عَنْ بَعْضِ الْعِوَضِ فَيَرْجِعُ بِقَدْرِهِ. (وَهَلَاكُ الْبَدَلِ) قَبْلَ التَّسْلِيمِ (كَاسْتِحْقَاقِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ) قَالَ: (وَيَجُوزُ الصُّلْحُ عَنْ مَجْهُولٍ) ; لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ (وَلَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى مَعْلُومٍ) ; لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ فَيُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ. وَالصُّلْحُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: مَعْلُومٌ عَلَى مَعْلُومٍ، وَمَجْهُولٌ عَلَى مَعْلُومٍ وَهُمَا جَائِزَانِ - وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِمَا -، وَمَجْهُولٌ عَلَى مَجْهُولٍ، وَمَعْلُومٌ عَلَى مَجْهُولٍ وَهُمَا فَاسِدَانِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا ; لِأَنَّ جَهَالَتَهُ تُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَمَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى قَبْضِهِ يَكُونُ إِسْقَاطًا وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى عِلْمِهِ بِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَلَوِ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ لِرَجُلٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ، وَادَّعَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَقًّا فِي أَرْضِهِ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ أَحَدُهُمَا مَالًا إِلَى الْآخَرِ لَا يَجُوزُ، وَإِنِ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَتْرُكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَعْوَاهُ جَازَ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّسْلِيمِ وَفِي الْأُولَى يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَلَوِ ادَّعَى دَارًا فَصَالَحَهُ عَلَى قَدْرٍ مَعْلُومٍ مِنْهَا جَازَ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَخَذَ بَعْضَ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ عَنْ دَعْوَى الْبَاقِي، وَالْبَرَاءَةُ عَنِ الْعَيْنِ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ لَكِنَّ الْبَرَاءَةَ عَنِ الدَّعْوَى تَصِحُّ، فَصَحَّحْنَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ) الصُّلْحُ (عَنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ) فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] نَزَلَتْ عَقِيبَ ذِكْرِ الْقِصَاصِ، وَمَعْنَاهُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ دَمِ أَخِيهِ شَيْءٌ: أَيْ تَرَكَ الْقِصَاصَ وَرَضِيَ بِالْمَالِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أَيْ يُتْبِعُ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ بِمَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِالدِّيَةِ، وَلَا يَطْلُبُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَيُؤَدِّي الْمَطْلُوبُ إِلَى الطَّالِبِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مُمَاطَلَةٍ، مَرْوِيٌّ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَغَيْرِهِ، وَهَذَا فِي الْعَمْدِ. وَأَمَّا الْخَطَأُ فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 وَلَا يَجُوزُ عَنِ الْحُدُودِ، وَلَوِ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَجَحَدَتْ ثُمَّ صَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ لِيَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ، وَلَوْ صَالَحَهَا عَلَى مَالٍ لِتُقِرَّ لَهُ بِالنِّكَاحِ جَازَ، وَلَوِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ فَصَالَحَهَا جَازَ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْمَالُ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الدُّيُونِ، إِلَّا أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ فِي الْعَمْدِ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ جَازَ ; لَأَنَّ الْوَاجِبَ الْقِصَاصُ وَلَيْسَ بِمَالٍ، وَفِي الْخَطَأِ لَوْ صَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ لَا يَجُوزُ ; لَأَنَّ الْوَاجِبَ الْمَالُ فَالزِّيَادَةُ رِبًا، وَهَذَا إِذَا صَالَحَهُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّيَةِ. أَمَّا إِذَا صَالَحَهُ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ; لِأَنَّهَا مِنْ خِلَافِ الْوَاجِبِ فَلَا رِبًا. وَكُلُّ مَا يَصْلُحُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَمَا لَا فَلَا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ وَلَا يَجِبُ شَيْءٌ ; لِأَنَّ الْمَالَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الصُّلْحِ فَلَغَى ذِكْرُ الْعِوَضِ فَيَبْقَى عَفْوًا. وَفِي الْخَطَأِ تَجِبُ الدِّيَةُ ; لِأَنَّهُ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ فَمَتَى فَسَدَ الْعِوَضُ رَجَعَ إِلَيْهِ كَمَا فِي النِّكَاحِ مَتَى فَسَدَ الْمُسَمَّى يَرْجِعُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ; لِأَنَّهُ مُوجِبٌ أَصْلِيٌّ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ النِّكَاحُ إِلَّا بِتَسْمِيَةِ غَيْرِهِ، فَإِذَا عُدِمَتِ التَّسْمِيَةُ أَوْ فَسَدَتْ رَجَعَ إِلَيْهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَمْدُ، وَلَوْ صَالَحَهُ بِعَفْوٍ عَنْ دَمٍ عَلَى عَفْوٍ عَنْ دَمٍ آخَرَ جَازَ كَالْخُلْعِ، وَلَوْ قَطَعَتْ يَدَهُ فَصَالَحَتْهُ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَقَدْ بَرَأَتْ يَدُهُ جَازَ ; لِأَنَّهُ صَالَحَهَا عَلَى أَرْشٍ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا وَسَقَطَ الْأَرْشُ، وَإِنْ مَاتَ مِنْهَا لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَعَلَيْهَا الدِّيَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ; لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ فَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ، وَلَوِ اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ فِي الْعَمْدِ وَبِالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ وَقَدْ عُرِفَ وَجْهُهُ، وَلَوْ وَجَدَ عَيْبًا يَسِيرًا رَدَّهُ فِي الْخَطَأِ وَلَا يَرُدُّ فِي الْعَمْدِ إِلَّا بِالْفَاحِشِ فَيَرُدُّهُ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهُ ; لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْخَطَأِ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لِوُقُوعِهِ عَنْ مَالٍ، وَفِي الْعَمْدِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ; لِأَنَّهُ عَنِ الْقِصَاصِ وَقَدْ سَقَطَ فَلَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِرْدَادِهِ فَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعِوَضِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ عَنِ الْحُدُودِ) ; لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْمُغَلَّبُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الشَّرْعِ عِنْدَنَا، وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَمَّا أَشْرَعَهُ إِلَى الطَّرِيقِ الْعَامِّ كَالظُّلَّةِ وَالرَّوْشَنِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَامَّةِ، وَلَا يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَفِعٍ بِهِ. وَلَوْ صَالَحَهُ الْإِمَامُ فِي الظُّلَّةِ وَنَحْوِهَا جَازَ إِذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَيَضَعُ بَدَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا إِذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. قَالَ: (وَلَوِ ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا فَجَحَدَتْ ثُمَّ صَالَحَتْهُ عَلَى مَالٍ لِيَتْرُكَ الدَّعْوَى جَازَ) ; لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى وَجْهِ الْخُلْعِ وَيَكُونُ فِي حَقِّهَا لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ دِيَانَةً إِذَا كَانَ مُبْطِلًا (وَهُوَ صَالَحَهَا عَلَى مَالٍ لِتُقِرَّ لَهُ بِالنِّكَاحِ جَازَ) وَيَجْعَلُ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ ; لِأَنَّهَا تَزْعُمُ أَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ ابْتِدَاءً بِالْمُسَمَّى وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ زَادَ فِي مَهْرِهَا (وَلَوِ ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ فَصَالَحَهَا) عَلَى مَالٍ (جَازَ) وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ، وَجْهُ الْجَوَازِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وَإِنِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ جَازَ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ. عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَصَالَحَهُ الْآخَرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَيَجُوزُ صُلْحُ الْمُدَّعِي الْمُنْكِرِ عَلَى مَالٍ لِيُقِرَّ لَهُ بِالْعَيْنِ، وَالْفُضُولِيُّ إِنْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ وَضَمِنَهُ أَوْ سَلَّمَهُ أَوْ قَالَ: عَلَى أَلْفِي هَذِهِ صَحَّ، وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَلْفٍ لِفُلَانٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ، وَالصُّلْحُ عَمَّا اسْتُحِقَّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ أَخْذٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِسْقَاطٌ لِلْبَاقِي وَلَيْسَ مُعَاوَضَةً،   [الاختيار لتعليل المختار] جَعْلُهُ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ، وَوَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهَا الْمَالَ لِتَتْرُكَ الدَّعْوَى، فَإِنْ تَرَكَتْهَا وَكَانَ فُرْقَةً فَهُوَ لَا يُعْطِي فِي الْفُرْقَةِ الْبَدَلَ، وَإِنْ لَمْ تَتْرُكِ الدَّعْوَى فَمَا حَصَلَ لَهُ غَرَضُهُ فَلَا يَصِحُّ. قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَى عَلَى شَخْصٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ جَازَ وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهِ) ; لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِجَعْلِهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي كَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِدَفْعِ الْخُصُومَةِ ; لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِإِنْكَارِهِ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةً بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ تُقْبَلْ ; لِأَنَّ مِنْ زَعْمِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ، وَأَنَّ الْعَبْدَ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِهَذَا الْمَالِ، لَكِنْ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَمَلًا بِالْبَيِّنَةِ. قَالَ: (عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ فَصَالَحَهُ الْآخَرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزِ) الْفَضْلُ ; لِأَنَّ الْقِيمَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قُوِّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ» فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى عِوَضٍ جَازَ لِعَدَمِ الْجِنْسِيَّةِ فَلَا رِبًا. قَالَ: (وَيَجُوزُ صُلْحُ الْمُدَّعِي الْمُنْكِرِ عَلَى مَالٍ لِيُقِرَّ لَهُ بِالْعَيْنِ) ، وَصُورَتُهُ: رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عَيْنًا فِي يَدِهِ فَأَنْكَرَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى مَالٍ لِيَعْتَرِفَ لَهُ بِالْعَيْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَيَكُونُ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ كَالْبَيْعِ، وَفِي حَقِّ الْمُدَّعِي كَالزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ. قَالَ: (وَالْفُضُولِيُّ إِنْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ وَضَمِنَهُ أَوْ سَلَّمَهُ، أَوْ قَالَ: عَلَى أَلْفِي هَذِهِ صَحَّ) وَلَزِمَهُ تَسْلِيمُ الْمَالِ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَإِنَّمَا صَحَّ الصُّلْحُ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ أَوْ إِلَى مَالِهِ. وَالْحَاصِلُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَرَاءَةُ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَيَصِحُّ، وَصَارَ كَالْكَفَالَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَدْيُونِ (وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَلْفٍ لِفُلَانٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ) إِنْ أَجَازَهُ جَازَ وَلَزِمَهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ بَطَلَ كَالْخُلْعِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ، وَلَوْ قَالَ: صَالَحْتُكَ عَلَى أَلْفٍ وَسَكَتَ قِيلَ: يَنْفُذُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إِلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: اشْتَرَيْتُ، وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْإِضَافَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ كَمَا يَقَعُ لِنَفْسِهِ يَقَعُ لِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ وَاقِعًا لَهُ إِذَا كَانَ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ، وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُ هُنَا وَإِنَّمَا الْمَنْفَعَةُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَاعْتُبِرَ وَاقِعًا لَهُ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ صَالِحْنِي ; لِأَنَّ الْيَاءَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمَفْعُولِ فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ مَفْعُولَ الصُّلْحِ فَيَقَعُ لَهُ. قَالَ: (وَالصُّلْحُ عَمَّا اسْتُحِقَّ بِعَقْدِ الْمُدَايَنَةِ أَخْذٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِسْقَاطٌ لِلْبَاقِي وَلَيْسَ مُعَاوَضَةً) لِأَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَاهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِخَمْسِمِائَةٍ، أَوْ عَنْ أَلْفٍ جِيَادٍ بِخَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ، أَوْ عَنْ حَالَّةٍ بِمِثْلِهَا مُؤَجَّلَةً جَازَ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ مُوَجَّلَةٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ سُودٍ بِخَمْسِمِائَةٍ بِيضٍ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَدِّ إِلَيَّ غَدًا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّكَ بَرِيءٌ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ، فَلَمْ يُؤَدِّهَا إِلَيْهِ فَالْأَلْفُ بِحَالِهَا (س) .   [الاختيار لتعليل المختار] مُعَاوَضَةً يَكُونُ رِبًا، وَتَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَارُ إِلَيْهِ. (فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِخَمْسِمِائَةٍ، أَوْ عَنْ أَلْفٍ جِيَادٍ بِخَمْسِمِائَةٍ زُيُوفٍ، أَوْ عَنْ حَالَّةٍ بِمِثْلِهَا مُؤَجَّلَةٍ جَازَ) فَفِي الْأُولَى أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْضَهُ وَالصِّفَةَ، وَفِي الثَّالِثَةِ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ مُعَاوَضَةَ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ لِحُرْمَتِهِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى تَأْجِيلِ نَفْسِ الْحَقِّ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَقُّهُ فَلَهُ إِسْقَاطُهُ. (وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ لَمْ يَجُزْ) ; لِأَنَّهُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ نَسِيئَةً، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِيَكُونَ إِسْقَاطًا لِبَعْضِهِ وَتَأْجِيلًا لِبَعْضِهِ فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ بِخَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنِ الْأَجَلِ، وَلَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ الْمُعَجَّلَةَ خَيْرٌ مِنَ الْمُؤَجَّلَةِ، فَيَكُونُ التَّعْجِيلُ بِإِزَاءِ مَا حَطَّ عَنْهُ فَلَا يَصِحُّ. قَالَ: (وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ سُودٍ بِخَمْسِمِائَةٍ بِيضٍ لَا يَجُوزُ) ; لِأَنَّ الْبِيضَ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ فَيَكُونُ مُعَاوَضَةً وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. (وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَدِّ إِلَيَّ غَدًا خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّكَ بَرِيءٌ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَلَمْ يُؤَدِّهَا إِلَيْهِ فَالْأَلْفُ بِحَالِهَا) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: سَقَطَ خَمْسُمِائَةٍ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ أَدَّى خَمْسَمِائَةٍ غَدًا بَرِئَ، لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِبْرَاءٌ مُطْلَقٌ ; لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَدَاءَ عِوَضًا عَنِ الْإِبْرَاءِ نَظَرًا إِلَى كَلِمَةِ عَلَى، وَالْأَدَاءُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لِوُجُوبِهِ عَلَيْهِ فَصَارَ ذِكْرُهُ كَعَدَمِهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ إِبْرَاءٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ غَرَضٌ صَالِحٌ حَذَرًا مِنْ إِفْلَاسِهِ أَوْ لِيَتَوَسَّلَ بِهَا إِلَى مَا هُوَ الْأَنْفَعُ مِنْ تِجَارَةٍ رَابِحَةٍ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ دَفْعِ حَبْسٍ، فَإِذَا فَاتَ الشَّرْطُ بَطَلَ الْإِبْرَاءُ، وَكَلِمَةُ عَلَى تَحْتَمِلُ الشَّرْطَ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُعَاوَضَةِ تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ وَعَمَلًا بِالْعُرْفِ. وَلَوْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْأَلْفِ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْخَمْسَمِائَةٍ غَدًا صَحَّ الْإِبْرَاءُ، أَعْطَى الْخَمْسَمِائَةٍ أَوْ لَمْ يُعْطِ ; لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْإِبْرَاءَ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي تَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَتَقَيَّدُ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا يَقَعُ مُطْلَقًا، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَصْلُحُ شَرْطًا لَا يَقَعُ مُطْلَقًا فَلَا يَثْبُتُ الْإِطْلَاقُ بِالشَّكِّ. وَلَوْ قَالَ: أَدِّ إِلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنَّكَ بَرِيءٌ مِنَ الْفَضْلِ وَلَمْ يُوَقِّتْ فَهُوَ إِبْرَاءٌ مُطْلَقٌ ; لِأَنَّ الْأَدَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ فَلَمْ يَصْلُحْ عِوَضًا فَلَمْ يَتَقَيَّدْ. وَلَوْ قَالَ: صَالَحْتُكَ مِنَ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ تَدْفَعُهَا إِلَيَّ غَدًا وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنَ الْبَاقِي عَلَى أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَدْفَعْهَا غَدًا فَالْأَلْفُ عَلَيْكَ فَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالتَّقْيِيدِ. وَلَوِ ادَّعَى عَبْدًا فَصَالَحَهُ عَلَى غَلَّتِهِ شَهْرًا لَمْ يَجُزْ، وَعَلَى خِدْمَتِهِ شَهْرًا يَجُوزُ ; لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَنْ نَصِيبِهِ بِثَوْبٍ، فَشَرِيكُهُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ الثَّوْبِ إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ رُبْعَ الدَّيْنِ، وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَدْيُونَ بِنِصْفِهِ، وَلَا يَجُوزُ صُلْحُ أَحَدِهِمَا فِي السَّلَمِ عَلَى أَخْذِ نَصِيبِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ صَالَحَ الْوَرَثَةُ بَعْضَهُمْ عَنْ نَصِيبِهِ بِمَالٍ أَعْطَوْهُ وَالتَّرِكَةُ عُرُوضٌ جَازَ قَلِيلًا أَعْطَوْهُ أَوْ كَثِيرًا، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ فَأَعْطَوْهُ خِلَافَهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ نَقْدَيْنِ فَأَعْطَوْهُ مِنْهُمَا، وَلَوْ كَانَتْ نَقْدَيْنِ وَعُرُوضًا   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْغَلَّةُ مَجْهُولَةٌ غَيْرُ مَقْدُورَةِ التَّسْلِيمِ ; لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إِلَّا بَعْدَ الْإِجَارَةِ وَالْعَمَلِ. قَالَ: (وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَنْ نَصِيبِهِ بِثَوْبٍ فَشَرِيكُهُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ الثَّوْبِ) ; لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُشَارَكَةِ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ دَيْنِهِ، فَإِذَا اخْتَارَ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَازَ فِعْلَ الشَّرِيكِ (إِلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ رُبْعَ الدَّيْنِ) لِأَنَّهُ حَقُّهُ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الثَّوْبِ (وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَدْيُونَ بِنِصْفِهِ) لِبَقَاءِ حِصَّتِهِ فِي ذِمَّتِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالدَّفْعِ إِلَى غَيْرِهِ، وَالدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ كَالْمَوْرُوثِ وَقِيمَةِ عَيْنٍ مُسْتَهْلَكَةٍ بَيْنَهُمَا وَثَمَنِ مَبِيعٍ وَنَحْوِهِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ صُلْحُ أَحَدِهِمَا فِي السَّلَمِ عَلَى أَخْذِ نَصِيبِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ شَرِيكِهِ، فَإِنْ رَدَّ بَطَلَ أَصْلًا وَبَقِيَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ بَيْنَهُمَا عَلَى حَالِهِ، وَإِنْ أَجَازَ نَفَذَ عَلَيْهِمَا فَيَكُونُ نِصْفُ رَأْسِ الْمَالِ بَيْنَهُمَا، وَبَاقِي الطَّعَامِ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّهُ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَلَا يَجُوزُ، كَمَا إِذَا كَانَ لَهُمَا عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ وَعَلَى آخَرَ دَنَانِيرُ، فَتَصَالَحَا عَلَى أَنَّ لِهَذَا الدَّرَاهِمَ وَلِهَذَا الدَّنَانِيرَ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَبَيَانُ كَوْنِهِ قِسْمَةً أَنَّهُ يَمْتَازُ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ عَنِ الْآخَرِ وَلِأَنَّهُ فَسَخَ عَلَى شَرِيكِهِ عَقْدَهُ، فَلَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ مِنْهُمَا، وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ إِذَا تَوَى الْبَاقِي عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جَازَ الصُّلْحُ وَلَهُ نِصْفُ رَأْسِ الْمَالِ، وَصَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِيمَا قَبَضَ وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَطْلُوبَ بِنِصْفِهِ، إِلَّا إِذَا تَوَى عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ، لَهُ الِاعْتِبَارُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ، وَبِمَا إِذَا اشْتَرَيَا عَبْدًا فَأَقَالَ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ. قَالَ: (وَإِنْ صَالَحَ الْوَرَثَةُ بَعْضُهُمْ عَنْ نَصِيبِهِ بِمَالٍ أَعْطَوْهُ وَالتَّرِكَةُ عُرُوضٌ جَازَ قَلِيلًا أَعْطَوْهُ أَوْ كَثِيرًا) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ، وَعُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَ تُمَاضِرَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ رُبْعِ الثَّمَنِ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفِ دِينَارٍ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ فَأَعْطَوْهُ خِلَافَهُ) ; لِأَنَّ بَيْعَ الْجِنْسِ بِخِلَافِهِ جَائِزٌ (وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ نَقْدَيْنِ فَأَعْطَوْهُ مِنْهُمَا) وَيَصْرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى خِلَافِ جِنْسِهِ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ، إِنْ كَانَ مُقِرًّا بِهِ يَكُونُ أَمَانَةً، فَلَا بُدَّ مِنْ تَجْدِيدِ الْقَبْضِ فِيهِ ; لِأَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ قَبْضِ الصُّلْحِ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ جَاحِدًا لَهُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الصُّلْحِ (وَلَوْ كَانَتْ نَقْدَيْنِ وَعُرُوضًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 فَصَالَحُوهُ عَلَى أَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، وَلَوْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ عَرَضًا جَازَ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ دُيُونٌ فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ شَرَطُوا بَرَاءَةَ الْغُرَمَاءِ جَازَ. كِتَابُ الشَّرِكَةِ   [الاختيار لتعليل المختار] فَصَالَحُوهُ عَلَى أَحَدِ النَّقْدَيْنِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ) لِيَكُونَ نَصِيبُهُ بِمِثْلِهِ وَالزِّيَادَةُ بِحَقِّهِ مِنْ بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ تَحَرُّزًا عَنِ الرِّبَا (وَلَوْ كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ عَرَضًا جَازَ مُطْلَقًا) لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الرِّبَا، وَكُلُّ مَوْضِعٍ يُقَابِلُ فِيهِ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ بِالْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ دُيُونٌ فَأَخْرَجُوهُ مِنْهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ لَا يَجُوزُ) ; لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ (وَإِنْ شَرَطُوا بَرَاءَةَ الْغُرَمَاءِ جَازَ) ; لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَا يُصَالِحُونَ وَلَا يُقَسِّمُونَ حَتَّى يَقْضُوا دَيْنَهُ لِتَقَدُّمِ حَاجَتِهِ، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وَإِنْ قَسَّمُوهَا، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا لِلتَّرِكَةِ بَطَلَتْ ; لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُمْ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُسْتَغْرِقٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الشَّرِكَةِ] ِ الشِّرْكُ: النَّصِيبُ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ» أَيْ نَصِيبًا. قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ: وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي تُقَاهَا ... وَفِي أَحْسَابِهَا شِرْكَ الْعِنَانِ أَيْ أَخَذْنَا نَصِيبًا مِنَ التُّقَى وَالْحَسَبِ مِثْلَ نَصِيبِ قُرَيْشٍ مِنْهُمَا، كَشَرِكَةِ الْعِنَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ نَصِيبٌ مِنَ الْمَالِ وَالْكَسْبِ، وَسُمِّيَ الشَّرِيكَانِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شِرْكًا فِي الْمَالِ: أَيْ نَصِيبًا. وَهِيَ فِي الشَّرْعِ: الْخُلْطَةُ وَثُبُوتُ الْحِصَّةِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِالنُّصُوصِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبُهُ رَفَعَهَا عَنْهُمَا» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشَّرِيكَانِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا مَا لَمْ يَخُونَا، فَإِذَا خَانَا مُحِيَتِ الْبَرَكَةُ بَيْنَهُمَا» وَكَانَ قَيْسُ بْنُ السَّائِبِ شَرِيكَ رَسُولِ اللَّهِ فِي تِجَارَةِ الْبَزِّ وَالْأَدَمِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي صِفَتِهِ: «كَانَ شَرِيكِي وَكَانَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا يُشَارِي وَلَا يُمَارِي وَلَا يُدَارِي» أَيْ لَا يُلِحُّ وَلَا يُجَادِلُ وَيُدَافِعُ عَنِ الْحَقِّ، وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ: شَرِكَةُ مِلْكٍ، وَشَرِكَةُ عَقْدٍ، فَشَرِكَةُ الْمِلْكِ نَوْعَانِ: جَبْرِيَّةٌ، وَاخْتِيَارِيَّةٌ، وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ نَوْعَانِ: شَرِكَةٌ فِي الْمَالِ، وَشَرِكَةٌ فِي الْأَعْمَالِ، فَالشَّرِكَةُ فِي الْأَمْوَالِ أَنْوَاعٌ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، وَوُجُوهٌ، وَشَرِكَةٌ فِي الْعُرُوضِ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْأَعْمَالِ نَوْعَانِ: جَائِزَةٌ وَهِيَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ، وَفَاسِدَةٌ وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْمُبَاحَاتِ، أَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَهُوَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي التَّصَرُّفِ وَالدَّيْنِ (س) وَالْمَالِ الَذِي تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ وَتَعَامَلُوا بِهَا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا. قَالَ: (الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ: شَرِكَةُ مِلْكٍ، وَشَرِكَةُ عَقْدٍ. فَشَرِكَةُ الْمِلْكِ نَوْعَانِ: جَبْرِيَّةٌ، وَاخْتِيَارِيَّةٌ. وَشَرِكَةُ الْعُقُودِ نَوْعَانِ: شَرِكَةٌ فِي الْمَالِ، وَشَرِكَةٌ فِي الْأَعْمَالِ. فَالشَّرِكَةُ فِي الْأَمْوَالِ أَنْوَاعٌ: مُفَاوَضَةٌ، وَعِنَانٌ، وَوُجُوهٌ، وَشَرِكَةٌ فِي الْعُرُوضِ. وَالشَّرِكَةُ فِي الْأَعْمَالِ نَوْعَانِ: جَائِزَةٌ وَهِيَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ، وَفَاسِدَةٌ وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْمُبَاحَاتِ) وَسَيَأْتِيكَ بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -. أَمَّا شَرِكَةُ الْأَمْلَاكِ، أَمَّا الْجَبْرِيَّةُ بِأَنْ يَخْتَلِطَ مَالَانِ لِرَجُلَيْنِ اخْتِلَاطًا لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا أَوْ يَرِثَانِ مَالًا. وَالِاخْتِيَارِيَّةُ أَنْ يَشْتَرِيَا عَيْنًا أَوْ يَتَّهِبَا أَوْ يُوصَى لَهُمَا فَيَقْبَلَانِ أَوْ يَسْتَوْلِيَا عَلَى مَالٍ أَوْ يَخْلِطَا مَالَهُمَا، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِعَدَمِ إِذْنِهِ لَهُ فِيهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُ نَصِيبِهِ مِنْ شَرِيكِهِ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ فَمَا ثَبَتَتِ الشَّرِكَةُ فِيهِ بِالْخَلْطِ أَوِ الِاخْتِلَاطِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ; لِأَنَّ الْخَلْطَ اسْتِهْلَاكُ مَعْنًى فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ زَوَالِ مِلْكِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ. وَفِيمَا يَثْبُتُ بِالْمِيرَاثِ وَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ بِغَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ ; لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ فِي نَصِيبِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعُقُودِ فَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: شَارَكْتُكَ فِي كَذَا وَكَذَا فَيَقُولُ الْآخَرُ: قَبِلْتُ. وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ عَلَى الِاحْتِطَابِ وَأَشْبَاهِهِ لِيَكُونَ الْحَاصِلُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إِذْ هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ. (أَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَهُوَ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي التَّصَرُّفِ وَالدَّيْنِ وَالْمَالِ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ) ; لِأَنَّهَا فِي اللُّغَةِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، يُقَالُ: فَاوَضَ يُفَاوِضُ: أَيْ سَاوَى يُسَاوِي، فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. أَمَّا الْمَالُ ; فَلِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الشَّرِكَةِ وَمِنْهُ يَكُونُ الرِّبْحُ. وَأَمَّا التَّصَرُّفُ ; فَلِأَنَّهُ مَتَى تَصَرَّفَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَا يَقْدِرُ الْآخَرُ عَلَيْهِ فَاتَتِ الْمُسَاوَاةُ، وَكَذَا فِي الدَّيْنِ ; لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يَمْلِكُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَشِرَائِهِمَا مَا لَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ فَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا، فَلِهَذَا قُلْنَا: لَا يَصِحُّ بَيْنَهُمَا مُفَاوَضَةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا ; لِأَنَّ مَا يَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ بِالتَّوْكِيلِ فَتَحَقَّقَتِ الْمُسَاوَاةُ، قُلْنَا: الذِّمِّيُّ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْبَالِغَيْنِ الْعَاقِلَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ أَوِ الذِّمِّيَّيْنِ، وَلَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ، أَوْ تَبْيِينِ جَمِيعِ مُقْتَضَاهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ الْمَالِ وَلَا خَلْطُهُمَا، وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، فَمَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ إِلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَإِدَامَهُمْ وَكِسْوَتَهُمْ وَكِسْوَتَهُ، وَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَبِنَائِبِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْلِمُ فَانْتَفَتِ الْمُسَاوَاةُ، فَإِذَا عَقَدَا الْمُفَاوَضَةَ صَارَتْ عِنَانًا عِنْدَهُمَا لِفَوَاتِ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ وَوُجُودِ شَرْطِ الْعِنَانِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فَاتَ شَرْطٌ مِنْ شَرَائِطِ الْمُفَاوَضَةِ يُجْعَلُ عِنَانًا إِذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْبَالِغَيْنِ الْعَاقِلَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ أَوِ الذِّمِّيَّيْنِ) وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا لِتَسَاوِيهِمَا فِي التَّصَرُّفِ وَلَا تَصِحُّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ ; وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْحُرَّ وَالْبَالِغَ يَمْلِكَانِ الْكَفَالَةَ وَالتَّبَرُّعَاتِ، وَلَا كَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ، أَوْ يَمْلِكَانِهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وَالْمَوْلَى، وَلَا تَصِحُّ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ ; لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَأَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْكَفَالَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ» ; وَلِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ وَالشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جَائِزٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ. قَالَ: (وَلَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ) ; لِأَنَّ الْعَوَامَّ قَلَّمَا يَعْلَمُونَ شَرَائِطَهَا، وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ تَتَضَمَّنُ شَرَائِطَهَا وَمَعْنَاهَا (أَوْ تَبْيِينُ جَمِيعِ مُقْتَضَاهَا) ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي. قَالَ: (وَلَا يُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ الْمَالِ) ; لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ. قَالَ: (وَلَا خَلْطُهُمَا) ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْخَلْطُ فِي الْمُشْتَرَى، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَرِي بِمَا فِي يَدِهِ بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّسْلِيمِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الشِّرَاءِ، وَيُشْتَرَطُ حُضُورَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَ الْمُشْتَرَى ; لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَتِمُّ بِالشِّرَاءِ لِأَنَّ الرِّبْحَ بِهِ يَحْصُلُ. قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ) ; لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بِذَلِكَ تَتَحَقَّقُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِمَا طُولِبَ بِهِ صَاحِبُهُ بِالتِّجَارَةِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ، وَأَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ فِي التِّجَارَةِ بِفِعْلِ أَيِّهِمَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَهِيَ الْوَكَالَةُ، فَكَانَ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ يَقْتَضِي الْكَفَالَةَ وَالْوَكَالَةَ، فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوَّضَ إِلَى الْآخَرِ أَمْرَ الشَّرِكَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَرَضِيَ بِفِعْلِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوَكَالَةَ وَالْكَفَالَةَ أَيْضًا. قَالَ: (فَمَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ) عَمَلًا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ (إِلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَإِدَامَهُمْ وَكِسْوَتَهُمْ وَكِسْوَتَهُ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشَّرِكَةِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، إِلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا ذَلِكَ لِلضَّرُورَةِ، فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ مِنَ اللَّوَازِمِ، وَلَا يُمْكِنُ إِيجَادُهَا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ فَيَجِبُ فِي مَالِهِ ضَرُورَةً. قَالَ: (وَلِلْبَائِعِ مُطَالَبَةُ أَيِّهِمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ) بِمُقْتَضَى الْكَفَالَةِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِنِصْفِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 وَإِنْ تَكَفَّلَ بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ (سم) ، فَإِنْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا مَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ صَارَتْ عِنَانًا، وَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَسَدَتْ فِيهِ الْمُفَاوَضَةُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعِنَانِ، وَلَا تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ وَالْعِنَانُ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَتِبْرَيْهِمَا إِنْ جَرَى التَّعَامُلُ بِهِ، وَبِالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] مَا أَدَّى لِأَنَّهُ كَفِيلٌ أَدَّى عَنْهُ بِأَمْرِهِ. قَالَ: (وَإِنْ تَكَفَّلَ بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ) وَقَالَا: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ حَتَّى لَا يَصِحَّ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَأْذُونِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ، وَلَهُ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً لِمَا ذُكِرَ مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً لِأَنَّهُ يَجِبُ لَهُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ حَتَّى لَوْ كَفَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَبِالنَّظَرِ إِلَى الْمُعَاوَضَةِ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَالْإِقْرَاضُ مَمْنُوعٌ أَوْ يَقُولُ هُوَ إِعَارَةٌ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْجِيلُ، وَلِلْمَرْدُودِ فِي الْإِعَارَةِ حُكْمُ الْعَيْنِ لَا حُكْمُ الْبَدَلِ، فَلَمْ تُوجَدِ الْمُعَاوَضَةُ وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكُ كَالْكَفَالَةِ ; لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً، وَكَذَا مَا يَلْزَمُ أَحَدَهُمَا مِنَ الدُّيُونِ بِسَبَبٍ تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ، وَمَا لَزِمَ بِسَبَبٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ لَا يَلْزَمُ كَالنِّكَاحِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَنَحْوِهِ. قَالَ: (فَإِنْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا مَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ صَارَتْ عِنَانًا) لِزَوَالِ الْمُسَاوَاةِ، وَذَلِكَ مِثْلَ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ وَالِاتِّهَابِ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْعِنَانِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَصِيرُ عِنَانًا لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا (وَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَسَدَتْ فِيهِ الْمُفَاوَضَةُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعِنَانِ) فَتَصِيرُ عِنَانًا وَإِنْ مَلَكَ شَيْئًا لَا تَصِحُّ فِيهِ الشَّرِكَةُ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ، فَالْمُفَاوَضَةُ بِحَالِهَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُهَا فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَا حَالَةُ الْبَقَاءِ. قَالَ: (وَلَا تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ وَالْعِنَانُ إِلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَتِبْرَيْهِمَا إِنْ جَرَى التَّعَامُلُ بِهِ وَبِالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ) ، أَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فَلِأَنَّهُمَا ثَمَنُ الْأَشْيَاءِ خِلْقَةً وَوَضْعًا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا التِّبْرُ فَقِيلَ: يَجُوزُ مُطْلَقًا ; لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ خُلِقَا ثَمَنَيْنِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِالتَّعَامُلِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّهُمَا وَإِنْ خُلِقَا لِلثَّمَنِيَّةِ لَكِنْ بِوَصْفِ الضَّرْبِ حَتَّى لَا يَنْصَرِفَ الِاسْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إِلَى التِّبْرِ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمَضْرُوبِ، إِلَّا أَنَّا أَجْرَيْنَا التَّعَامُلَ مَجْرَى الضَّرْبِ عَمَلًا بِالْعُرْفِ فَأَلْحَقْنَاهُ بِهِمَا عِنْدَ التَّعَامُلِ. وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ وَلِلْآخَرِ دَنَانِيرُ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا سُودٌ وَلِلْآخَرِ بِيضٌ جَازَتِ الْمُفَاوَضَةُ إِنِ اسْتَوَتْ قِيمَتُهُمَا ; لِأَنَّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ، وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْقِيمَةِ لَا تَصِحُّ مُفَاوَضَةً وَتَصِيرُ عِنَانًا لِمَا تَقَدَّمَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقِيمَةِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ; لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْخُلْطَةِ، وَلَا اخْتِلَاطَ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَجَوَابُهُ أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ نَظَرًا إِلَى الْمَقْصُودِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَأَمَّا الْفُلُوسُ فَلِأَنَّهَا إِذَا رَاجَتِ الْتَحَقَتْ بِالْأَثْمَانِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ثَمَنِيَّتَهَا تَتَعَيَّنُ بِالِاصْطِلَاحِ وَمُحَمَّدٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وَلَا تَصِحُّ بِالْعُرُوضِ (ف) إِلَّا أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ عُرُوضِهِ بِنِصْفِ عُرُوضِ الْآخَرِ إِذَا كَانَتْ قِيمَتَاهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، ثُمَّ يَعْقِدَانِ الشَّرِكَةَ، وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ تَصِحُّ مَعَ التَّفَاضُلِ فِي الْمَالِ، وَتَصِحُّ مَعَ التَّفَاضُلِ فِي الْمَالِ وَالتَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ إِذَا عَمِلَا أَوْ شَرَطَا زِيَادَةَ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فِي ثَمَنِيَّتِهَا حَتَّى لَا تَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ حَالَةَ النِّفَاقِ وَالرَّوَاجِ. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ بِالْعُرُوضِ) ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيْعِهَا، فَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا عُرُوضَهُ بِأَلْفٍ وَبَاعَ الْآخَرُ عُرُوضَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَمُقْتَضَى الْعَقْدِ الشَّرِكَةُ فِي الْكَيْلِ، فَمَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ الْأَلْفِ زِيَادَةً عَلَى الْأَلْفِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ، وَقَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ» . قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ عُرُوضِهِ بِنِصْفِ عُرُوضِ الْآخَرِ إِذَا كَانَتْ قِيمَتَاهُمَا عَلَى السَّوَاءِ) فَتَنْعَقِدُ شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ (ثُمَّ يَعْقِدَانِ الشَّرِكَةَ) عَلَى قِيمَتِهَا وَهَذِهِ شَرِكَةُ الْعُرُوضِ. وَإِنِ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَبِيعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُرُوضَهُ وَيَكُونُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ. وَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَفَاوِتِ إِذَا خَلَطَا وَاتَّحَدَ الْجِنْسُ، وَمَا رَبِحَا لَهُمَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هِيَ شَرِكَةُ أَمْلَاكٍ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَثْمَانٍ فَلَا يَصِحُّ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: تَصِحُّ شَرِكَةُ عَقْدٍ بِالْخَلْطِ ; لِأَنَّهَا تَصْلُحُ ثَمَنًا لِوُجُوبِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، إِلَّا أَنَّ قَبْلَ الْخَلْطِ لَا تَتَحَقَّقُ الْوَكَالَةُ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: اشْتَرِ بِحِنْطَتِكَ شَيْئًا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَنَا لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْغَيْرِ بِبَيْعِ مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ، وَبَعْدَ الْخَلْطِ تَتَحَقَّقُ الْوَكَالَةُ فَصَحَّتِ الشَّرِكَةُ. قَالَ: (وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ تَصِحُّ مَعَ التَّفَاضُلِ فِي الْمَالِ) إِلَّا أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ وَفِي خُصُوصِهَا وَبِبَعْضِ مَالِهِ ; لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنِ الْحَبْسِ، يُقَالُ: عَنَّ الرَّجُلُ إِذَا حُبِسَ، وَالْعِنِّينُ مَحْبُوسٌ عَنِ النِّسَاءِ، وَالْعِنَانِ يَحْبِسُ الدَّابَّةَ عَنْ بَعْضِ الْإِطْلَاقِ، فَكَأَنَّ شَرِيكَ الْعِنَانِ حَبَسَ بَعْضَ مَالِهِ عَنِ الشَّرِكَةِ، أَوْ حَبَسَ شَرِيكَهُ عَنْ بَعْضِ التِّجَارَاتِ فِي مَالِهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ يَوْمَ الشَّرِكَةِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ زِيَادَةَ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ يَوْمَ الشَّرِكَةِ، وَيَعْتَبِرُ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الشِّرَاءِ لِيَعْرِفَ مِقْدَارَ مِلْكِهِمَا فِي الْمُشْتَرَى ; لِأَنَّ حَقَّهُمَا يَنْتَقِلُ إِلَى الْمُشْتَرَى بِالشِّرَاءِ، وَيَعْتَبِرُ قِيمَتَهُمَا يَوْمَ الْقِسْمَةِ أَيْضًا ; لِأَنَّ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَظْهَرُ الرِّبْحُ. قَالَ: (وَتَصِحُّ مَعَ التَّفَاضُلِ فِي الْمَالِ وَالتَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ إِذَا عَمِلَا أَوْ شَرَطَا زِيَادَةَ الرِّبْحِ لِلْعَامِلِ) ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا تَصِحُّ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَالِ وَالتَّفَاوُتُ فِي الرِّبْحِ وَلَا عَلَى الْعَكْسِ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ كَالْمُفَاوَضَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْوَضِيعَةِ هَكَذَا فَكَذَا الرِّبْحُ. وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَ الْمُتَعَاقِدَانِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ. وَلِأَنَّ الرِّبْحَ كَمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 وَإِذَا تَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَشَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي الرِّبْحِ وَالْوَضِيعَةِ فَالرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْكَفَالَةِ وَلَا تَصِحُّ فِيمَا لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ بِهِ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ، وَمَا جَمَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ أَعَانَهُ الْآخَرُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَإِنْ هَلَكَ الْمَالَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ قَبْلَ الشِّرَاءِ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ. وَإِنِ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ فَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا، وَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ، وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا فَالْمُشْتَرَى لِصَاحِبِ الْمَالِ خَاصَّةً،   [الاختيار لتعليل المختار] كَالْمُضَارِبِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ أَعْرَفَ بِأُمُورِ التِّجَارَاتِ وَأَهْدَى إِلَى الْبَيَاعَاتِ فَلَا يَرْضَى بِالْمُسَاوَاةِ. (وَإِذَا تَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَشَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي الرِّبْحِ وَالْوَضِيعَةِ، فَالرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّا جَوَّزْنَا اشْتِرَاطَ زِيَادَةِ الرِّبْحِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ تَقْدِيرًا. أَمَّا زِيَادَةُ الْوَضِيعَةِ فَلَا وَجْهَ لَهَا، وَصَارَ كَمَا إِذَا شَرَطَا الْوَضِيعَةَ عَلَى الضَّارِبِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ كَذَلِكَ هُنَا. قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ) لِمَا مَرَّ (وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْكَفَالَةِ) ; لِأَنَّهَا إِنَّمَا ثَبَتَتْ فِي الْمُفَاوَضَةِ قَضِيَّةً لِلْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ هُنَا. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ فِيمَا لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ بِهِ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ) ; لِأَنَّ الْوَكَالَةَ فِي ذَلِكَ بَاطِلَةٌ ; لِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ ; لِأَنَّ الْآخِذَ يَمْلِكُهُ بِدُونِ التَّوْكِيلِ فَيَكُونُ فَاعِلًا لِنَفْسِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ اجْتِنَاءُ الثِّمَارِ مِنَ الْجِبَالِ وَالِاصْطِيَادُ وَحَفْرُ الْمَعَادِنِ وَأَخْذُ الْمِلْحِ وَالْجِصِّ وَالْكُحْلِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُبَاحَاتِ (وَمَا جَمَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ لَهُ) دُونَ صَاحِبِهِ ; لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ عَلَيْهِ (فَإِنْ أَعَانَهُ الْآخَرُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ) بَالِغًا مَا بَلَغَ ; لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مَتَى فَسَدَتْ صَارَتْ إِجَارَةً فَاسِدَةً، وَلَوِ اسْتَأْجَرَهُ فِي ذَلِكَ بِنِصْفِ الْمَجْمُوعِ كَانَ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ كَذَلِكَ هُنَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الثَّمَنِ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ، وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ. قَالَ: (وَإِنْ هَلَكَ الْمَالَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فِي شَرِكَةِ الْعِنَانِ قَبْلَ الشِّرَاءِ بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ) أَمَّا إِذَا هَلَكَا فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَالُ وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِيهَا كَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَقَدْ هَلَكَ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ كَالْبَيْعِ، وَأَمَّا إِذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا فَلِأَنَّ الْآخَرَ مَا رَضِيَ بِشَرِكَةٍ فِي مَالِهِ إِلَّا لِيُشْرِكَهُ فِي مَالِهِ أَيْضًا، وَقَدْ فَاتَتِ الشَّرِكَةُ فِي الْهَالِكِ فَيَفُوتُ الرِّضَى فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ. قَالَ: (وَإِنِ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِمَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ فَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا) ; لِانْعِقَادِ الشَّرِكَةِ وَقْتَ الشِّرَاءِ (وَيَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ) ; لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ بِالْوَكَالَةِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ. (وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا فَالْمُشْتَرَى لِصَاحِبِ الْمَالِ خَاصَّةً) ; لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَا لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً مِنَ الرِّبْحِ، وَلِشَرِيكِ الْعِنَانِ وَالْمُفَاوِضِ أَنْ يُوَكِّلَ وَيُبْضِعَ وَيُضَارِبَ وَيُودِعَ وَيَسْتَأْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ، وَهُوَ أَمِينٌ فِي الْمَالِ، وَشَرِكَةُ الصَّنَائِعِ: أَنْ يَشْتَرِكَ صَانِعَانِ اتَّفَقَا فِي الصَّنْعَةِ أَوِ اخْتَلَفَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْأَعْمَالَ وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ، وَمَا يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُمَا، فَيُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَمَلِ وَيُطَالَبُ بِالْأَجْرِ.   [الاختيار لتعليل المختار] مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَا نَصَّا عَلَى الْوَكَالَةِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا وَتَكُونُ شَرِكَةَ أَمْلَاكٍ ; لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَطَلَتْ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْمُشْتَرَى بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ الْمُصَرَّحِ بِهَا لَا بِحُكْمِ الشَّرِكَةِ الْمَعْقُودَةِ فَكَانَتْ شَرِكَةَ أَمْلَاكٍ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَا لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً مِنَ الرِّبْحِ) ; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَرْبَحُ مَا سَمَّيَا أَوْ يَرْبَحُ ذَلِكَ لَا غَيْرُ فَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ فَكَانَ شَرْطًا مُبْطِلًا لِلشَّرِكَةِ فَلَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَلِشَرِيكِ الْعِنَانِ وَالْمُفَاوِضِ أَنْ يُوَكِّلَ وَيُبْضِعَ وَيُضَارِبَ وَيُودِعَ وَيَسْتَأْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ) ; لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ التُّجَّارِ (وَهُوَ أَمِينٌ فِي الْمَالِ) ; لِأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنَ الْمَالِكِ بِإِذْنِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ ; لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَلَوْ شَارَكَ الْمُفَاوِضُ عِنَانًا جَازَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ دُونَ الْمُفَاوَضَةِ، وَلَوْ فَاوَضَهُ جَازَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ يَنْعَقِدُ عِنَانًا ; لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَإِذَا أَجَازَ الْمُفَاوَضَةَ كَانَتْ شَرِكَةً مُبْتَدَأَةً، وَإِلَّا فَهِيَ عِنَانٌ ; لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا دُونَهُ فَيَجُوزُ كَالْمُضَارِبِ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَارِبَ. قَالَ: (وَشَرِكَةُ الصَّنَائِعِ) وَتُسَمَّى شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ، وَهِيَ (أَنْ يَشْتَرِكَ صَانِعَانِ اتَّفَقَا فِي الصَّنْعَةِ أَوِ اخْتَلَفَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْأَعْمَالَ وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ) وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ مَعَ اخْتِلَافِ الْعَمَلِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تُنْبِئُ عَنِ الْخُلْطَةِ وَلَا اخْتِلَاطَ مَعَ الِاخْتِلَافِ. وَلَنَا أَنَّهَا شَرِكَةٌ فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ وَفِيمَا يُسْتَفَادُ بِهِ وَهُوَ الْأَجْرُ لَا فِي نَفْسِ الْعَمَلِ، وَالْوَكَالَةُ فِيهِ مُمْكِنَةٌ ; لِأَنَّ مَا يَتَقَبَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْعَمَلِ فَهُوَ أَصِيلٌ فِي نِصْفِهِ وَكِيلٌ فِي نِصْفِهِ، وَبِذَلِكَ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ، وَلَوِ اسْتَوَيَا فِي الْعَمَلِ وَتَفَاضَلَا فِي الْمَالِ جَازَ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بَدَلُ عَمَلِهِمَا، وَأَنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا أَجْوَدَ عَمَلًا وَأَحْسَنَ صِنَاعَةً فَيَجُوزُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ; لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ الْعَمَلِ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ زِيَادَةُ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ. قُلْنَا: الْمَأْخُوذُ هُنَا لَيْسَ بِرِبْحٍ ; لِأَنَّ الرِّبْحَ يَقْتَضِي الْمُجَانَسَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَالِ وَلَا مُجَانَسَةَ ; لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ الْعَمَلُ وَالرِّبْحُ مَالٌ، فَكَانَ بَدَلَ الْعَمَلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَمَا يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُهُمَا فَيُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَمَلِ وَيُطَالَبُ بِالْأَجْرِ) اسْتِحْسَانًا. وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ، وَالشَّرِكَةُ هُنَا مُطْلَقَةٌ ; وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الضَّمَانَ حَتَّى كَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ جَائِزَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا وَيَبِيعَا، وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ، وَإِنْ شَرَطَا أَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا فَالرِّبْحُ كَذَلِكَ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ، وَإِنِ اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ لَا يَصِحُّ، وَالْكَسْبُ لِلْعَامِلِ، وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ بَغْلِ الْآخَرِ أَوْ رَاوِيَتِهِ، وَالرِّبْحُ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ وَيَبْطُلُ شَرْطُ الزِّيَادَةِ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَأَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ، وَإِنْ أَدَّيَا مُتَعَاقِبًا ضَمِنَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ.   [الاختيار لتعليل المختار] مَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونًا عَلَى الْآخَرِ، وَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمَا تَقَبَّلَهُ شَرِيكُهُ فَكَانَ كَالْمُفَاوَضَةِ فِي ضَمَانِ الْأَعْمَالِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْأَبْدَالِ. قَالَ: (وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ جَائِزَةٌ) وَتُسَمَّى شَرِكَةَ الْمَفَالِيسِ (وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا وَيَبِيعَا) سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِالنَّسِيئَةِ إِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ، وَالتَّعَامُلُ بِذَلِكَ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ) ; لِأَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الْغَيْرِ إِنَّمَا يَجُوزُ بِوَكَالَتِهِ إِذْ لَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ وَهَذَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلَوْ شَرَطَ الْكَفَالَةَ أَيْضًا جَازَ وَتَكُونُ مُفَاوَضَةً لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ ذَلِكَ، لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُصْرَفُ إِلَى الْعِنَانِ لِأَنَّهُ أَدْنَى. قَالَ: (وَإِنْ شَرَطَا أَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا فَالرِّبْحُ كَذَلِكَ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ) ; لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ بِالضَّمَانِ، وَالضَّمَانُ يَتْبَعُ الْمِلْكَ فِي الْمُشْتَرَى فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ. قَالَ: (وَإِنِ اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي الْمَاءَ لَا يَصِحُّ، وَالْكَسْبُ لِلْعَامِلِ) ; لِأَنَّ الْمَاءَ مُبَاحٌ وَأَخْذُهُ لَا يُسْتَفَادُ بِالْوَكَالَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ (وَعَلَيْهِ أُجْرَةُ بَغْلِ الْآخَرِ أَوْ رَاوِيَتِهِ) ; لِأَنَّهُ قَدِ انْتَفَعَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أُجْرَتُهُ. قَالَ: (وَالرِّبْحُ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ وَيَبْطُلُ شَرْطُ الزِّيَادَةِ) ; لِأَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ لِرَأْسِ الْمَالِ فَيَتْبَعُهُ فِي الْمِلْكِيَّةِ، وَالزِّيَادَةُ إِنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ وَقَدْ بَطَلَ. قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا بَطَلَتِ الشَّرِكَةُ) لِتَضَمُّنِهَا الْوَكَالَةَ، وَهِيَ تَبْطُلُ بِذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ; لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ (فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فَأَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ، وَإِنْ أَدَّيَا مُتَعَاقِبًا ضَمِنَ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَنْهُ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يَضْمَنْ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا ; لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالدَّفْعِ إِلَى الْفَقِيرِ وَقَدْ فَعَلَ. وَلَهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ زَكَاةً، وَالْمَدْفُوعُ لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَكَانَ مُخَالِفًا، وَلِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَدَاءٍ يُخْرِجُهُ عَنِ الْعُهْدَةِ وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ مُخَالِفًا فَيَضْمَنُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ الْمُضَارِبُ شَرِيكُ رَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ، وَرَأْسُ مَالِهِ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، فَإِذَا سُلِّمَ رَأْسُ الْمَالِ إِلَيْهِ فَهُوَ أَمَانَةٌ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَهُوَ وَكِيلٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ] ِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الضَّرْبِ، وَهُوَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] الْآيَةَ، وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّصَرُّفِ مُضَارَبَةً ; لِأَنَّ فَائِدَتَهُ وَهُوَ الرِّبْحُ لَا تَحْصُلُ غَالِبًا إِلَّا بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ بِلُغَةِ الْحِجَازِ مُقَارَضَةٌ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الْمُضَارَبَةَ لِمُوَافَقَتِهِ نَصَّ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] أَيْ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ، وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ بِالْآيَةِ وَبِالسُّنَّةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ يَدْفَعُ مَالَهُ مُضَارَبَةً، وَيَشْتَرِطُ عَلَى مُضَارِبِهِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا وَأَنْ لَا يَنْزِلَ وَادِيًا وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاسْتَحْسَنَهُ وَأَجَازَهُ» ، وَبُعِثَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَهُ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَلِأَنَّ لِلنَّاسِ حَاجَةً إِلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ مِنْهُمُ الْغَنِيَّ الْغَبِيَّ عَنِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالْفَقِيرَ الذَّكِيَّ الْعَارِفَ بِأَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى شَرْعِيَّتِهِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَتِهَا. وَتَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ دَفَعْتُ هَذَا الْمَالَ إِلَيْكَ مُضَارَبَةً أَوْ مُقَارَضَةً أَوْ مُعَامَلَةً، أَوْ خُذْ هَذَا الْمَالَ وَاعْمَلْ فِيهِ عَلَى أَنَّ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ أَوْ ثُلُثَهُ، أَوْ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ وَاعْمَلْ بِهَا بِالنِّصْفِ أَوْ بِالثُّلُثِ اسْتِحْسَانًا ; لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ صَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْعَمَلِ، وَالنِّصْفُ مَتَى ذُكِرَ عَقِيبَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يُرَادُ بِهِ النِّصْفُ مِنَ الرِّبْحِ عُرْفًا وَأَنَّهُ كَالْمَشْرُوطِ، وَلَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ بِالنِّصْفِ كَانَ مُضَارَبَةً اسْتِحْسَانًا عَمَلًا بِالْعُرْفِ. وَشَرَائِطُهَا خَمْسَةٌ: أَحَدُهَا أَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِلَّا بِالنَّقْدَيْنِ. الثَّانِي: إِعْلَامُ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ، إِمَّا بِالْإِشَارَةِ أَوْ بِالتَّسْمِيَةِ، وَيَكُونُ مُسَلَّمًا إِلَى الْمَضَارِبِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ شَائِعًا بَيْنَهُمَا. الرَّابِعُ: إِعْلَامُ قَدْرِ الرِّبْحِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمَشْرُوطُ لِلْمُضَارِبِ مِنَ الرِّبْحِ، حَتَّى لَوْ شَرَطَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ مِنْهُمَا فَسَدَتْ عَلَى مَا يَأْتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (الْمُضَارِبُ شَرِيكُ رَبِّ الْمَالِ فِي الرِّبْحِ، وَرَأْسُ مَالِهِ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ) ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَرِيكُهُ فِي الرِّبْحِ لَا يَكُونُ مُضَارَبَةً عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ: (فَإِذَا سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ إِلَيْهِ فَهُوَ أَمَانَةٌ) ; لِأَنَّهُ قَبْضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ (فَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَهُوَ وَكِيلٌ) ; لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 فَإِذَا رَبِحَ صَارَ شَرِيكًا، فَإِنْ شُرِطَ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ (ف) ، وَإِنْ شُرِطَ لِرَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ بِضَاعَةٌ، وَإِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَهِيَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ، وَإِذَا خَالَفَ صَارَ غَاصِبًا، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مَشَاعًا، فَإِنْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُسَمَّاةٌ فَسَدَتْ، وَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَاشْتِرَاطُ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ بَاطِلٌ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُسَلَّمًا إِلَى الْمُضَارِبِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَيُوَكِّلَ وَيُسَافِرَ وَيُبْضِعَ، وَلَا يُضَارِبُ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ،   [الاختيار لتعليل المختار] فِيهِ بِأَمْرِهِ (فَإِذَا رَبِحَ صَارَ شَرِيكًا) ; لِأَنَّهُ مَلَكَ جُزْءًا مِنَ الرِّبْحِ. (فَإِنْ شُرِطَ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ قَرْضٌ) ; لِأَنَّ كُلَّ رِبْحٍ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِمِلْكِ رَأْسِ الْمَالِ، فَلَمَّا شَرَطَ لَهُ جَمِيعَ الرِّبْحِ فَقَدْ مَلَّكَهُ رَأْسَ الْمَالِ، ثُمَّ قَوْلُهُ مُضَارَبَةً شَرْطٌ لِرَدِّهِ فَيَكُونُ قَرْضًا (وَإِنْ شُرِطَ لِرَبِّ الْمَالِ فَهُوَ بِضَاعَةٌ) هَذَا مَعْنَاهَا عُرْفًا وَشَرْعًا (وَإِذَا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ فَهِيَ إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ) ; لِأَنَّهُ عَمِلَ لَهُ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ فَيَسْتَحِقُّ أَجْرَ مِثْلِهِ لِمَا مَرَّ (وَإِذَا خَالَفَ صَارَ غَاصِبًا) لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ غَاصِبًا، وَلَا تَصِحُّ إِلَّا بِمَا تَصِحُّ بِهِ الشَّرِكَةُ. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا مَشَاعًا، فَإِنْ شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُسَمَّاةٌ فَسَدَتْ) لِمَا مَرَّ فِي الشَّرِكَةِ، وَكَذَا كُلُّ شَرْطٍ يُوجِبُ الْجَهَالَةَ فِي الرِّبْحِ يُفْسِدُهَا لِاخْتِلَالِ الْمَقْصُودِ (وَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ) ; لِأَنَّ الرِّبْحَ تَبَعٌ لِلْمَالِ لِأَنَّهُ نَمَاؤُهُ (وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ) ; لِأَنَّهَا فَسَدَتْ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ، وَهَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ لَا تَصِحُّ فِيهِ الْمُضَارَبَةُ، وَتَجِبُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ وَقَدْ سَلَّمَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ حَتَّى يَرْبَحَ كَالصَّحِيحَةِ، وَالْمَالُ أَمَانَةٌ كَالصَّحِيحَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ خَاصٌّ. قَالَ: (وَاشْتِرَاطُ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ بَاطِلٌ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطُوا عَلَيْهِ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ " وَلِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ بِأَمْرِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مُسَلَّمًا إِلَى الْمُضَارِبِ) ; لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ إِلَّا بِالْيَدِ، فَيَجِبُ أَنْ تَخْلُصَ يَدُهُ فِيهِ وَتَنْقَطِعَ عَنْهُ يَدُ رَبِّ الْمَالِ. قَالَ: (وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَيُوَكِّلَ وَيُسَافِرَ وَيُبْضِعَ) ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ مَأْمُورٌ بِالتِّجَارَةِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ كُلُّ مَا هُوَ تِجَارَةٌ أَوْ مَا لَا بُدَّ لِلتِّجَارَةِ مِنْهُ: كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَاقِي مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ الْإِيدَاعُ؛ وَلِأَنَّهَا دُونَ الْمُضَارَبَةِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْأَمْرِ. قَالَ: (وَلَا يُضَارِبُ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ) ; لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ فَاحْتَاجَ إِلَى التَّنْصِيصِ أَوْ مُطْلَقِ التَّفْوِيضِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى الْبَلَدَ وَالسِّلْعَةَ وَالْمُعَامِلَ الَذِي عَيَّنَهُ رَبُّ الْمَالِ، وَإِنْ وَقَّتَ لَهَا وَقْتًا بَطَلَتْ بِمُضِيِّهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَا يَشْتَرِيَ مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَهُ الْإِقْرَاضُ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ فِيمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ لَا غَيْرُ. قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى الْبَلَدَ وَالسِّلْعَةَ وَالْمُعَامِلَ الَّذِي عَيَّنَهُ رَبُّ الْمَالِ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَقَالَ: لَا تُسْلِفْ مَالَنَا فِي الْحَيَوَانِ، وَلِأَنَّهَا وِكَالَةٌ، وَفِي التَّخْصِيصِ فَائِدَةٌ فَيَتَخَصَّصُ، وَلَوْ خَالَفَهُ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَرِبْحُهُ لَهُ ; لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ صَارَ غَاصِبًا فَأَخَذَ حُكْمَ الْغَصْبِ، ثُمَّ قِيلَ: يُضَمَّنُ بِنَفْسِ الْإِخْرَاجِ مِنَ الْبَلَدِ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ، وَقِيلَ: لَا يُضَمَّنُ مَا لَمْ يَشْتَرِ لِاحْتِمَالِ عَوْدِهِ إِلَى الْبَلَدِ قَبْلَ الشِّرَاءِ، فَإِذَا عَادَ زَالَ الضَّمَانُ وَصَارَ مُضَارَبَةً عَلَى حَالِهِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ كَالْمُودَعِ إِذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ. وَالْمُضَارَبَةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ. فَالْعَامَّةُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ إِلَيْهِ مُضَارَبَةً وَلَمْ يَقُلْ لَهُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، فَيَمْلِكُ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي التِّجَارَةِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الرَّهْنُ وَالِارْتِهَانُ وَالِاسْتِئْجَارُ وَالْحَطُّ بِالْعَيْبِ وَالِاحْتِيَالُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَكُلُّ مَا يَعْمَلُهُ التُّجَّارُ غَيْرَ التَّبَرُّعَاتِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْخَلْطِ وَالِاسْتِدَانَةِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ. وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: اعْمَلْ بِرَأْيِكَ، فَيَجُوزُ لَهُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْخَلْطِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ التُّجَّارُ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِقْرَاضُ وَالتَّبَرُّعَاتُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ. وَالْخَاصَّةُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَخُصَّهُ بِبَلَدٍ فَيَقُولَ: عَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِالْكُوفَةِ أَوْ بِالْبَصْرَةِ. وَالثَّانِي أَنْ يَخُصَّهُ بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ بِأَنْ يَقُولَ: عَلَى أَنْ تَبِيعَ مِنْ فُلَانٍ وَتَشْتَرِيَ مِنْهُ، فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ مَعَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قَيْدٌ مُفِيدٌ لِجَوَازِ وُثُوقِهِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ. الثَّالِثُ أَنْ يَخُصَّهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: عَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِهِ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ أَوْ فِي الطَّعَامِ أَوْ فِي الصَّرْفِ وَنَحْوِهِ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يَتَقَيَّدُ بِأَمْرِهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَتُهُ ; لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنْ تَعْمَلَ بِسُوقِ الْكُوفَةِ فَعَمِلَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهَا جَازَ ; لِأَنَّ أَمَاكِنَ الْمِصْرِ كُلَّهَا سَوَاءٌ فِي السَّفَرِ وَالنَّقْدِ وَالْأَمْنِ، وَلَوْ قَالَ: لَا تَعْمَلْ إِلَّا فِي سُوقٍ فَعَمِلَ فِي غَيْرِهِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ، وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً فِي الْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ أَهْلِهَا فَاشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا جَازَ ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَكَانُ عُرْفًا، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ مُضَارَبَةً فِي الصَّرْفِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنَ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَهُمْ فَاشْتَرَى مِنْ غَيْرِهِمْ جَازَ لِأَنَّ الْمُرَادَ النَّوْعُ عُرْفًا. قَالَ: (وَإِنْ وَقَّتَ لَهَا وَقْتًا بَطَلَتْ بِمُضِيِّهِ) ; لِأَنَّ التَّوْقِيتَ مُقَيَّدٌ وَهُوَ وَكِيلٌ فَيَتَقَيَّدُ بِمَا وَقَّتَهُ كَالتَّقْيِيدِ بِالنَّوْعِ وَالْبَلَدِ. قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدًا وَلَا أَمَةً مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ) وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي مَرَّ فِي الْمَأْذُونِ. قَالَ: (وَلَا يَشْتَرِي مَنْ يَعْتِقُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ) ; لِأَنَّهُ يَعْتِقُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَهُ، وَلَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَاشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ صَحَّ الْبَيْعُ، فَإِنْ رَبِحَ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ، فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَقَالَ: مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ وَأَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ مُضَارَبَةً، فَدَفَعَ إِلَى آخَرَ بِالثُّلُثِ فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، وَالسُّدُسُ لِلْأَوَّلِ، وَالثُّلُثُ لِلثَّانِي، وَإِنْ دَفَعَ الْأَوَّلُ إِلَى الثَّانِي بِالنِّصْفِ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ دَفَعَهُ عَلَى أَنَّ لِلثَّانِي الثُّلُثَيْنِ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي قَدْرَ السُّدُسِ مِنَ الرِّبْحِ، وَلَوْ قَالَ: مَا رَزَقَكَ اللَّهُ فَلِي نِصْفُهُ فَمَا شَرَطَهُ لِلثَّانِي فَهُوَ لَهُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ نِصْفَانِ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَيْهِ فَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ، وَهُوَ إِنَّمَا وَكَّلَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ لَا بِإِبْطَالِ الْعَقْدِ (فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَهُ) مَعْنَاهُ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَيُضَمَّنُ الثَّمَنَ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إِذَا خَالَفَ. قَالَ: (وَلَا مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ) لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ فَيُفْسِدُ الْبَاقِيَ أَوْ يَعْتِقُ فَيَمْتَنِعُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، فَإِنِ اشْتَرَاهُ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُ الثَّمَنَ ; لِأَنَّهُ أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ رِبْحٌ فَاشْتَرَى مَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ صَحَّ الْبَيْعُ) لِعَدَمِ الْمَانِعِ (فَإِنْ رَبِحَ عَتَقَ نَصِيبُهُ) ; لِأَنَّهُ مَلَكَ قَرِيبَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِالرِّبْحِ لَا بِصُنْعِهِ (وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ رَبِّ الْمَالِ) ; لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ صَارَتْ مَحْبُوسَةً عِنْدَهُ فَيَسْعَى كَالْعَبْدِ الْمَوْرُوثِ إِذَا عَتَقَ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ يَسْعَى فِي نَصِيبِ الْبَاقِينَ. قَالَ: (فَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَقَالَ: مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ وَأَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ مُضَارَبَةً، فَدَفَعَ إِلَى آخَرَ بِالثُّلُثِ، فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ بِالشَّرْطِ، وَالسُّدُسُ لِلْأَوَّلِ، وَالثُّلُثُ لِلثَّانِي) ; لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ رَبُّ الْمَالِ لِنَفْسِهِ النِّصْفَ بَقِيَ النِّصْفُ لِلْمُضَارِبِ، فَلَمَّا شَرَطَ الثُّلُثَ لِلثَّانِي انْصَرَفَ تَصَرُّفُهُ إِلَى نَصِيبِهِ فَيَبْقَى لَهُ السُّدُسُ وَيُطَيَّبُ لَهُ كَأَجِيرِ الْخَيَّاطِ. (وَإِنْ دَفَعَ الْأَوَّلُ إِلَى الثَّانِي بِالنِّصْفِ فَلَا شَيْءَ لَهُ) لِأَنَّهُ جَعَلَ نِصْفَهُ لِلثَّانِي فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ، كَمَنِ اسْتَأْجَرَهُ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ لِيَخِيطَهُ بِدِرْهَمٍ (وَإِنْ دَفَعَهُ عَلَى أَنَّ لِلثَّانِي الثُّلُثَيْنِ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي قَدْرَ السُّدُسِ مِنَ الرِّبْحِ) ; لِأَنَّهُ ضَمِنَ لِلثَّانِي ثُلْثَيِ الرِّبْحِ، وَبَعْضُهُ وَهُوَ النِّصْفُ مِلْكُهُ وَبَعْضُهُ وَهُوَ السُّدُسُ مِلْكُ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ إِبْطَالُ مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً فِي عَقْدٍ يَمْلِكُهُ، وَقَدْ ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ، وَصَارَ كَمَنِ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ بِدِرْهَمٍ فَاسْتَأْجَرَ الْخَيَّاطُ غَيْرَهُ لِيَخِيطَهُ بِدِرْهَمٍ وَنِصْفٍ. (وَلَوْ قَالَ: مَا رَزَقَكَ اللَّهُ فَلِي نِصْفُهُ، فَمَا شَرَطَهُ لِلثَّانِي فَهُوَ لَهُ) عَمَلًا بِالشَّرْطِ ; لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ (وَالْبَاقِي بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ نِصْفَانِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَدَفَعَهُ إِلَى آخَرَ بِالنِّصْفِ فَدَفَعَهُ الثَّانِي إِلَى ثَالِثٍ بِالثُّلُثِ فَالنِّصْفُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلثَّالِثِ الثُّلُثُ، وَلِلثَّانِي السُّدُسُ وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ جَعَلَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا رَزَقَهُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا رَزَقَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ; وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: مَا رَبِحْتَ أَوْ كَسَبْتَ أَوْ رُزِقْتَ أَوْ مَا كَانَ لَكَ فِيهِ مِنْ فَضْلٍ أَوْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ، فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ إِلَى مَا بَعْدَ مَا شَرَطَ لِلثَّانِي لِمَا بَيَّنَّا. (وَلَوْ قَالَ: عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَدَفَعَهُ إِلَى آخَرَ بِالنِّصْفِ فَدَفَعَهُ الثَّانِي إِلَى ثَالِثٍ بِالثُّلُثِ فَالنِّصْفُ لِرَبِّ الْمَالِ، وَلِلثَّالِثِ الثُّلُثُ، وَلِلثَّانِي السُّدُسُ وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ) ; لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ النِّصْفَ لِلثَّانِي وَانْصَرَفَ إِلَى نَصِيبِهِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ وَالْبَاقِي عَلَى مَا شَرَطَاهُ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِذَا لَمْ يُؤْذَنُ لِلْمُضَارِبِ فِي الدَّفْعِ مُضَارَبَةً فَدَفَعَهُ إِلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً ضَمِنَ عِنْدَ زُفَرَ لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ، وَقَالَا: لَا يُضَمَّنُ مَا لَمْ يَعْمَلْ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَا يَتَقَرَّرُ مُضَارَبَةً إِلَّا بِالْعَمَلِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُضَمَّنُ مَا لَمْ يَرْبَحْ لِمَا بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ الدَّفْعَ قَبْلَ الْعَمَلِ أَمَانَةٌ وَبَعْدَ الْعَمَلِ مُبَاضَعَةٌ وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ، فَإِذَا رَبِحَ صَارَ شَرِيكًا فِي الْمَالِ فَيُضَمَّنُ كَمَا إِذَا خَلَطَ بِمَالٍ آخَرَ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ فِعْلَهُ يُضَافُ إِلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ، فَإِنِ اسْتَهْلَكَهُ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ خَاصَّةً، وَعِنْدَهُمَا يُضَمَّنُ الثَّانِي وَهُوَ نَظِيرُ مُودِعِ الْمُودَعِ، وَالْأَشْهُرُ أَنَّهُ يُخَيَّرُ هَهُنَا فَيُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ الْأَوَّلَ لِمَا بَيَّنَّا وَالثَّانِيَ لِإِبْطَالِهِ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي حَقِّهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّانِيَ أَجِيرٌ فِيهِ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فَلَا يَكُونُ شَرِيكًا. وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ إِلَى رَجُلَيْنِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَقَالَ: اعْمَلَا بِرَأْيِكُمَا، أَوْ لَمْ يَقُلْ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ لِأَنَّ التِّجَارَةَ يُحْتَاجُ فِيهَا إِلَى الرَّأْيِ، فَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ ضَمِنَ النِّصْفَ، وَإِنْ عَمِلَ بِأَمْرِ الْآخَرِ لَمْ يُضَمَّنْ لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ عَنْهُ، وَمَا رَبِحَ نِصْفُهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَنِصْفُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. 1 - فَصْلٌ وَنَفَقَةُ الْمُضَارِبِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا دَامَ فِي سَفَرِهِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى مِصْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ إِذَا كَانَ لَا يَبِيتُ بِأَهْلِهِ، وَإِنْ كَانَ يَبِيتُ فَلَا نَفَقَةَ لَهُ، وَكَذَا لَا نَفَقَةَ لَهُ مَا دَامَ فِي مِصْرِهِ ; لِأَنَّ النَّفَقَةَ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ، فَإِذَا كَانَ فِي مِصْرِهِ لَا يَكُونُ مُحْتَبِسًا فِي الْمُضَارَبَةِ، وَفِي السَّفَرِ يَكُونُ مُحْتَبِسًا فِيهَا، وَإِذَا اتَّخَذَ مِصْرًا آخَرَ دَارًا أَوْ تَزَوَّجَ بِهِ فَهُوَ كَمِصْرِهِ، وَنَفَقَتُهُ فِي الْحَاجَةِ الدَّارَّةِ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِسْوَةِ وَفِرَاشِ النَّوْمِ وَدَابَّةِ الرُّكُوبِ وَعَلَفِهَا وَمَنْ يَطْبُخُ لَهُ وَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ وَأُجْرَةِ الْحَمَّامِ وَدُهْنِ السِّرَاجِ وَالْحَطَبِ، وَتَجِبُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ بِالْمَعْرُوفِ وَنَفَقَةُ غِلْمَانِهِ وَدَوَابِّهِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ مَعَهُ فِي الْمَالِ. وَتُحْتَسَبُ النَّفَقَةُ مِنَ الرِّبْحِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ: بِمَوْتِ الْمُضَارِبِ، وَبِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَبِرِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَحَاقِهِ مُرْتَدًّا، وَلَا تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْمُضَارِبِ، وَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ، فَلَوْ بَاعَ وَاشْتَرَى بَعْدَ الْعَزْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ نَفَذَ، فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَزْلِ وَالْمَالُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ جِنْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَصِيرَ مِنْ جِنْسِهِ، وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَلَيْسَ فِيهِ رِبْحٌ وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ عَلَى اقْتِضَائِهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ أُجْبِرَ عَلَى اقْتِضَائِهَا، وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمِنَ الرِّبْحِ، فَإِنْ زَادَ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوِ اسْتَدَانَ لِنَفَقَتِهِ رَجَعَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ، وَلَوْ ضَارَبَ لِرَجُلَيْنِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ بِضَاعَةً فَالْجَمِيعُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ; لِأَنَّ السَّفَرَ وَاقِعٌ لَهَا، وَلَوْ كَانَتِ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً لَا نَفَقَةَ لِلْمُضَارِبِ ; لِأَنَّهُ أَجِيرٌ وَنَفَقَةُ الْأَجِيرِ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ: (وَتَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ بِمَوْتِ الْمُضَارِبِ وَبِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ) ; لِأَنَّهَا وَكَالَةٌ وَأَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَبِرِدَّةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَحَاقِهِ مُرْتَدًّا) ; لِأَنَّهُ مَوْتٌ حُكْمًا عَلَى مَا عُرِفَ (وَلَا تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْمُضَارِبِ) ; لِأَنَّ مِلْكَ رَبِّ الْمَالِ بَاقٍ، وَعِبَارَةَ الْمُرْتَدِّ مُعْتَبَرَةٌ. قَالَ: (وَلَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ) كَالْوَكِيلِ (فَلَوْ بَاعَ وَاشْتَرَى بَعْدَ الْعَزْلِ قَبْلَ الْعِلْمِ نَفَذَ) لِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ (فَإِنْ عَلِمَ بِالْعَزْلِ وَالْمَالُ مِنْ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ) ; لِأَنَّهُ صَارَ أَجْنَبِيًّا بِالْعَزْلِ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ (وَإِنْ كَانَ خِلَافَ جِنْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَصِيرَ مِنْ جِنْسِهِ) ; لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الرِّبْحِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَظْهَرُ إِذَا عَلِمَ رَأْسَ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُ إِذَا نَضَّ، وَإِنَّمَا يَنِضُّ بِالْبَيْعِ، فَإِذَا نَضَّ لَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ، وَمَوْتُ أَحَدِهِمَا وَلَحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَالْعَزْلِ. قَالَ: (وَإِذَا افْتَرَقَا وَفِي الْمَالِ دُيُونٌ وَلَيْسَ فِيهِ رِبْحٌ وَكَّلَ رَبَّ الْمَالِ عَلَى اقْتِضَائِهَا) ; لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مُتَبَرِّعٌ بِالْعَمَلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاقْتِضَاءُ إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَاقِدًا وَالْحُقُوقُ تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ وَكَالَتِهِ (وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ أُجْبِرَ عَلَى اقْتِضَائِهَا) ، لِأَنَّ الرِّبْحَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ فَكَانَ أَجِيرًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَمَامُ الْعَمَلِ. قَالَ: (وَمَا هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَمِنَ الرِّبْحِ) ; لِأَنَّهُ تَبَعٌ كَالْعَفْوِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ (فَإِنْ زَادَ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ) ; لِأَنَّ الْمُضَارِبَ أَمِينٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، فَإِنِ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ وَالْمُضَارَبَةُ بِحَالِهَا ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ أَوْ بَعْضُهُ رَجَعَ فِي الرِّبْحِ حَتَّى يُسْتَوْفَى رَأْسُ الْمَالِ ; لِأَنَّ الرِّبْحَ فَضْلٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، وَلَا يُعْرَفُ الْفَضْلُ إِلَّا بَعْدَ سَلَامَةِ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَصِحُّ قِسْمَتُهُ فَيَنْصَرِفُ الْهَلَاكُ إِلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَيُبْتَدَأُ أَوَّلًا بِرَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ بِالنَّفَقَةِ ثُمَّ بِالرِّبْحِ الْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَلَوْ فَسَخَا الْمُضَارَبَةَ ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ ثُمَّ عَقَدَا الْمُضَارَبَةَ فَهَلَكَ رَأْسُ الْمَالِ لَمْ يَتَرَادَّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 كِتَابُ الْوَدِيعَةِ وَهِيَ أَمَانَةٌ إِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ، وَمَنْ فِي عِيَالِهِ وَإِنْ نَهَاهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] الرِّبْحَ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمُضَارَبَةَ جَدِيدَةٌ، وَالْأُولَى قَدِ انْتَهَتْ فَانْتَهَى حُكْمُهَا، وَلَوْ مَرَّ الْمُضَارِبُ عَلَى السُّلْطَانِ فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا كُرْهًا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا لِيَكُفَّ عَنْهُ ضَمِنَ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ الْعَاشِرُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْعُشْرَ فَصَالَحَهُ الْمُضَارِبُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَالِ حَتَّى كَفَّ عَنْهُ ضَمِنَ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْوَدِيعَةِ] ِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ، يُقَالُ: دَعْ هَذَا: أَيِ اتْرُكْهُ ; وَمِنْهُ الْمُوَادَعَةُ فِي الْحَرْبِ ; أَيْ أَنْ يَتْرُكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْحَرْبَ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجَمَاعَاتِ أَوْ لَيُخْتَمَنَّ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيُكْتَبُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ» أَيْ تَرْكِهِمُ الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْهُ الْوَدَاعُ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتْرُكُ صَاحِبَهُ وَيُفَارِقُهُ، أَوْ هِيَ مِنَ الْحِفْظِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ وَدَاعِ الْمُسَافِرِ: «أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ» ; أَيْ أَسَتَحْفِظُ اللَّهَ: أَيْ أَطْلُبُ مِنْهُ حِفْظَهُمَا، فَكَأَنَّ الْوَدِيعَةَ تُتْرَكُ عِنْدَ الْمُودَعِ لِلْحِفْظِ، وَلِهَذَا لَا يُودَعُ عَادَةً إِلَّا عِنْدَ مَنْ يُعْرَفُ بِالْأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ. وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ أَمَانَةً لَا غَرَامَةً، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» وَيَجِبُ حِفْظُهَا عَلَى الْمُودَعِ إِذَا قَبِلَهَا ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْحِفْظَ بِالْعَقْدِ، وَالْوَدِيعَةُ تَارَةً تَكُونُ بِصَرِيحِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَتَارَةً بِالدَّلَالَةِ، فَالصَّرِيحُ قَوْلُهُ أَوْدَعْتُكَ وَقَوْلُ الْآخَرِ قَبِلْتُ، وَلَا يَتِمُّ فِي حَقِّ الْحِفْظِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَيَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ فِي حَقِّ الْأَمَانَةِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِلْغَاصِبِ أَوْدَعْتُكَ الْمَغْصُوبَ بَرِئَ عَنِ الضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ ; لَأَنَّ صَيْرُورَةَ الْمَالِ أَمَانَةُ حُكْمٍ يَلْزَمُ صَاحِبَ الْمَالِ لَا غَيْرُ فَيَثْبُتُ بِهِ وَحْدَهُ ; فَأَمَّا وُجُوبُ الْحِفْظِ فَيَلْزَمُ الْمُودَعَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِهِ، وَالدَّلَالَةُ إِذَا وَضَعَ عِنْدَهُ مَتَاعًا وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، أَوْ قَالَ: هَذَا وَدِيعَةٌ عِنْدَكَ وَسَكَتَ الْآخَرُ صَارَ مُودَعًا حَتَّى لَوْ غَابَ الْمَالِكُ ثُمَّ غَابَ الْآخَرُ فَضَاعَ ضَمِنَ ; لِأَنَّهُ إِيدَاعٌ وَقَبُولٌ عُرْفًا. قَالَ: (وَهِيَ أَمَانَةٌ إِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ) ; لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الضَّمَانُ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِهَا وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَلِمَا رَوَيْنَا مِنَ الْحَدِيثِ. قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ وَمَنْ فِي عِيَالِهِ وَإِنْ نَهَاهُ) ; لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يَحْفَظَهَا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَهُ، وَذَلِكَ بِالْحِرْزِ وَالْيَدِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِغَيْرِهِمْ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْحَرِيقَ فَيُسَلِّمَهَا إِلَى جَارِهِ، أَوِ الْغَرَقَ فَيُلْقِيَهَا إِلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ ضَمِنَهَا، وَكَذَا إِنْ أَنْفَقَ بَعْضَهَا ثُمَ رَدَّ عِوَضَهُ وَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَمَّا الْحِرْزُ فَدَارُهُ وَمَنْزِلُهُ وَحَانُوتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِلْكًا لَهُ أَوْ إِجَارَةً أَوْ إِعَارَةً. وَأَمَّا الْيَدُ فَيَدُهُ وَزَوْجَتُهُ وَزَوْجُهَا وَأَمَتُهُ وَعَبْدُهُ وَأَجِيرُهُ الْخَاصُّ وَوَلَدُهُ الْكَبِيرُ إِنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الرَّهْنِ ; وَلِأَنَّ الْمُودِعَ رَضِيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُودَعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ لِمَعَاشِهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْوَدِيعَةِ مَعَهُ فَيَتْرُكُهَا فِي مَنْزِلِهِ عِنْدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ نَهْيُهُ لَوْ قَالَ لَا تَدْفَعْهَا إِلَى شَخْصٍ عَيَّنَهُ مِنْ عِيَالِهِ مِمَّنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ سِوَاهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ لَهُ سِوَاهُ يَضْمَنُ ; لِأَنَّ مِنَ الْعِيَالِ مَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ. قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِغَيْرِهِمْ) ; لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِحِفْظِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْأَمَانَاتِ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَلَا يُضَارِبَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْحَرِيقَ فَيُسَلِّمَهَا إِلَى جَارِهِ، أَوِ الْغَرَقَ فَيُلْقِيَهَا إِلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى) ; لِأَنَّ الْحِفْظَ تَعَيَّنَ بِذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ; لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ. قَالَ: (فَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ ضَمِنَهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِلْمُودِعِ عَلَيْهَا. وَالْخَلْطُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا الْجِنْسُ بِالْجِنْسِ كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ الْبِيضِ بِالْبِيضِ، وَالسُّودِ بِالسُّودِ. وَالثَّانِي خَلْطُ الْجِنْسِ بِغَيْرِهِ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالْخَلِّ بِالزَّيْتِ وَنَحْوِهِمَا. وَالثَّالِثُ خَلْطُ الْمَائِعِ بِجِنْسِهِ ; فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ اسْتِهْلَاكٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَيَضْمَنُهَا وَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُودِعِ عَنْهَا، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ صُورَةً وَمَعْنًى ; وَالْأَوَّلُ عِنْدَهُمَا إِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِيهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ عَيْنِ حَقِّهِ لَمْ يَتَعَذَّرِ الْمَعْنَى فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَجْعَلُ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: هُوَ شَرِكَةٌ بَيْنَهُمَا بِكُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِ فِي الرَّضَاعِ، وَخَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ بِالدَّنَانِيرِ إِذَابَةٌ مِنَ الْوَجْهِ الثَّالِثِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَائِعًا بِالْإِذَابَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إِلَى عَيْنِ حَقِّهِ، وَالْقِسْمَةُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا تَكُونُ مُوجِبَةً لَهَا، فَلَوْ أَبْرَأَ الْمُودِعُ الْخَالِطَ بَرِئَ أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فَتَتَعَيَّنُ الشَّرِكَةُ فِي الْمَخْلُوطِ. (وَكَذَا إِنْ أَنْفَقَ بَعْضَهَا ثُمَّ رَدَّ عِوَضَهُ وَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي) فَهُوَ اسْتِهْلَاكٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلَوِ اخْتَلَطَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَتَتَعَيَّنُ الشَّرِكَةُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 وَلَوْ تَعَدَّى فِيهَا بِالرُّكُوبِ أَوِ اللُّبْسِ أَوِ الِاسْتِخْدَامِ أَوْ أَوْدَعَهَا ثُمَّ زَالَ التَّعَدِّي لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ أَوْدَعَهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ (سم) فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَجَحَدَهَا ثُمَّ عَادَ اعْتَرَفَ ضَمِنَ، وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْوَدِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمَئُونَةٌ مَا لَمْ يَنْهَهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَلَوْ أَوْدَعَا عِنْدَ رَجُلٍ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ثُمَّ حَضَرَ أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ نَصِيبَهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْآخَرُ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَلَوْ تَعَدَّى فِيهَا بِالرُّكُوبِ أَوِ اللُّبْسِ أَوِ الِاسْتِخْدَامِ أَوْ أَوْدَعَهَا ثُمَّ زَالَ التَّعَدِّي لَمْ يَضْمَنْ) لِزَوَالِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ، وَيَدُ الْأَمَانَةِ بَاقِيَةٌ بِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرْتَفِعْ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ، لَكِنِ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ لِوُجُودِ مَا يُنَافِيهِ ثُمَّ زَالَ الْمُنَافِي فَعَادَ حُكْمُ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ. (وَلَوْ أَوْدَعَهَا فَهَلَكَتْ عِنْدَ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ) خَاصَّةً. وَقَالَا: يُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَالَفَ لِمَا بَيَّنَّا، وَالثَّانِيَ تَعَدَّى حَيْثُ قَبَضَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ ضَمِنَ الْأَوَّلُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الثَّانِي ; لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مُسْتَنِدًا فَيَكُونُ مُودَعًا مِلْكَهُ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَحِقَهُ ذَلِكَ بِسَبَبِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ التَّفْرِيطَ إِنَّمَا جَرَى مِنَ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّفْعِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ وَالْأَوَّلُ حَاضِرٌ لَا يَضْمَنُ، فَإِذَا غَابَ الْأَوَّلُ فَقَدْ تَرَكَ الْحِفْظَ فَيَضْمَنُ وَالثَّانِي لَمْ يَتْرُكْ. قَالَ: (فَإِنْ طَلَبَهَا صَاحِبُهَا فَجَحَدَهَا ثُمَّ عَادَ اعْتَرَفَ ضَمِنَ) ; لِأَنَّ بِالطَّلَبِ ارْتَفَعَ عَقْدُ الْوَدِيعَةِ فَصَارَ غَاصِبًا بَعْدَهُ، وَبِالِاعْتِرَافِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُوجَدِ الرَّدُّ إِلَى نَائِبِ الْمَالِكِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُخَالَفَةِ ثُمَّ الْمُوَافَقَةِ ; لِأَنَّ يَدَ الْوَدِيعَةِ لَمْ تَرْتَفِعْ فَوَجَدَ الرَّدَّ إِلَى يَدِ النَّائِبِ، وَلَوْ جَحَدَهَا عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ لَمْ يَضْمَنُ. وَقَالَ زُفَرُ: يَضْمَنُ لِأَنَّهُ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ. وَلَنَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ الْأَطْمَاعِ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِمَّنْ جَحَدَهَا عِنْدَهُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ إِذَا جَحَدَهَا عِنْدَ الْمَالِكِ، فَإِنْ جَحَدَهَا ثُمَّ جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهَا دَعْهَا وَدِيعَةً عِنْدَكَ فَهَلَكَتْ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُهَا فَلَمْ يَأْخُذْهَا لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ إِيدَاعٌ جَدِيدٌ كَأَنَّهُ أَخَذَهَا ثُمَّ أَوْدَعَهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَخْذُهَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ الرَّدُّ. قَالَ: (وَلِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْوَدِيعَةِ وَإِنْ كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمَئُونَةٌ مَا لَمْ يَنْهَهُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا) لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ، وَالْغَالِبُ السَّلَامَةُ إِذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا، وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْوَصِيُّ وَالْأَبُ، بِخِلَافِ الرُّكُوبِ فِي الْبَحْرِ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الْعَطَبُ. وَقَالَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمَئُونَةٌ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَدَمُ الرِّضَا لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ مَئُونَةِ الْحَمْلِ. قُلْنَا: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ضَرُورَةَ امْتِثَالِ أَمْرِهِ، فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ سِيَّمَا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. قَالَ: (وَلَوْ أَوْدَعَا عِنْدَ رَجُلٍ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ثُمَّ حَضَرَ أَحَدُهُمَا يَطْلُبُ نَصِيبَهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَحْضُرِ الْآخَرُ) وَقَالَا: يَدْفَعُ إِلَيْهِ نَصِيبَهُ لِأَنَّهُ سَلَّمَهُ إِلَيْهِ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إِلَيْهِ عِنْدَ الطَّلَبِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 فَإِنْ قَالَ الْمُودَعُ: أَمَرْتَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَى فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَنْكُلَ الْمَالِكُ عَنِ الْيَمِينِ، وَلَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ اقْتَسَمَاهُ وَحَفِظَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْسَمُ حَفِظَهُ أَحَدُهُمَا بِأَمْرِ الْآخَرِ، وَلَوْ قَالَ احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ فِي الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ، وَلَوْ خَالَفَهُ فِي الدَّارِ ضَمِنَ، وَلَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى دَارِ مَالِكِهَا وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ ضَمِنَ.   [الاختيار لتعليل المختار] حَتَّى كَانَ لَهُ أَخْذُهُ كَالدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَهُ أَنَّ نَصِيبَهُ فِي الْمَشَاعِ وَلَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الدَّفْعَ يَقَعُ فِي الْمُعَيَّنِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَشَاعِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنُ دَفْعُهُ إِلَيْهِ كَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ، وَوِلَايَةُ الْأَخْذِ لَا تَقْتَضِي جَوَازَ الدَّفْعِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ لَوْ كَانَ لَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَلِرَبِّ الدَّيْنِ أَخْذُهَا، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُودِعِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمُشْتَرَكُ فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّيهِ الْمَدْيُونُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِمَا عُرِفَ، وَلَا اعْتِبَارَ بِضَرَرِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ لَحِقَهُ بِصُنْعِهِ حَيْثُ أَوْدَعَهُ مَشَاعًا، وَغَيْرُ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ نَصِيبُهُ بِالْإِجْمَاعِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ الْخِلَافَ مُطْلَقًا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَغَابَ فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَخْذُ نَصِيبِهِ فَمِنَ الْمُودَعِ أَوْلَى. قَالَ: (فَإِنْ قَالَ الْمُودَعُ أَمَرْتَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَى فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ ضَمِنَ، إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَنْكُلَ الْمَالِكُ عَنِ الْيَمِينِ) ; لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى الدَّفْعِ وَتَجَاحَدَا فِي الْإِذْنِ فَيُضَمَّنُ بِالدَّفْعِ إِلَّا بِحُجَّةٍ. قَالَ: (وَلَوْ أَوْدَعَ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ اقْتَسَمَاهُ وَحَفِظَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُقْسَمُ حَفِظَهُ أَحَدُهُمَا بِأَمْرِ الْآخَرِ) وَقَالَا: لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَحْفَظَهُ بِأَمْرِ الْآخَرِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا، فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُسَلِّمَهَا إِلَى الْآخَرِ كَالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَهُ أَنَّ الدَّافِعَ أَوْدَعَ نِصْفَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُودِعِ فَيُضَمَّنُهُ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إِنَّمَا رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا فَكَانَ رَضِيَ بِأَمَانَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ ; لِأَنَّ إِضَافَةَ الْفِعْلِ إِلَيْهِمَا تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ كَالتَّمْلِيكَاتِ، إِلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزِّي وَعَدَمِ إِمْكَانِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ قِسْمَتُهَا وَلَا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهَا دَائِمًا كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ دَلَالَةً، وَعَلَى هَذَا الْوَكِيلَانِ وَالْوَصِيَّانِ وَالْمُرْتَهِنَانِ وَالْعَدْلَانِ فِي الرَّهْنِ وَالْمُسْتَبْضِعَانِ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ فِي الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ) لِعَدَمِ تَفَاوُتِهِمَا فِي الْحِرْزِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ دَارًا كَبِيرَةً مُتَبَاعِدَةَ الْأَطْرَافِ وَالْبَيْتُ الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ عَوْرَةٌ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُفِيدٌ. قَالَ: (وَلَوْ خَالَفَهُ فِي الدَّارِ ضَمِنَ) ; لِأَنَّ الدُّورَ تَخْتَلِفُ فِي الْحِرْزِ فَكَانَ مُفِيدًا. قَالَ: (وَلَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إِلَى دَارِ مَالِكِهَا وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إِلَيْهِ ضَمِنَ) ; لِأَنَّ الْمَالِكَ مَا رَضِيَ بِدَفْعِهَا إِلَى دَارِهِ وَلَا إِلَى مَنْ فِي عِيَالِهِ ظَاهِرًا إِذْ لَوْ رَضِيَ بِهِمْ لَمَا أَوْدَعَهَا، وَلَوْ وَضَعَ الثِّيَابَ فِي الْحَمَّامِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 كِتَابُ اللَّقِيطِ وَهُوَ حُرٌّ وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَدَخَلَ الْحَمَّامَ يَنْظُرُ إِنْ كَانَ فِي الْحَمَّامِ ثِيَابِيٌّ يَحْفَظُ الثِّيَابَ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْحَمَّامِيِّ ; لِأَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ دَلَالَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَ الْحَمَّامِيُّ، وَلَوْ قَالَ لِلْحَمَّامِيِّ: أَيْنَ أَضَعُ الثِّيَابَ؟ فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ، يَضْمَنُ الْحَمَّامِيُّ دُونَ الثِّيَابِيِّ لِأَنَّ الْحَمَّامِيَّ صَارَ مُودَعًا، وَلَوْ وَضَعَ الثِّيَابَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْحَمَّامِيِّ فَخَرَجَ آخَرُ وَلَبِسَهَا وَالْحَمَّامِيُّ لَا يَدْرِي أَنَّهَا ثِيَابُهُ أَمْ لَا ضَمِنَ الْحَمَّامِيُّ، وَإِنْ نَامَ الْحَمَّامِيُّ فَسُرِقَتِ الثِّيَابُ إِنْ نَامَ قَاعِدًا لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكِ الْحِفْظَ، وَإِنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ضَمِنَ. وَالْخَانُ كَالْحَمَّامِ، وَالدَّابَّةُ كَالثِّيَابِ، وَالْخَانِيُّ كَالْحَمَّامِيِّ. قَامَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَجْلِسِ وَتَرَكَ كِتَابَهُ أَوْ مَتَاعَهُ فَالْبَاقُونَ مُودَعُونَ حَتَّى لَوْ تَرَكُوهُ فَهَلَكَ ضَمِنُوا ; فَإِنْ قَامَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ فَالضَّمَانُ عَلَى آخِرِهِمْ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ حَافِظًا. [كِتَابُ اللَّقِيطِ] وَهُوَ فَعِيلٌ مِنَ اللَّقْطِ وَالِالْتِقَاطِ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، وَمَعْنَاهُ الْعُثُورُ عَلَى الشَّيْءِ مُصَادَفَةً مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَلَا قَصْدٍ. قَالَ الرَّاجِزُ يَصِفُ مَاءً آجِنًا: وَمَنْهَلٍ وَرَدْتُهُ الْتِقَاطَا ... أَخْضَرَ مِثْلَ الزَّيْتِ لَمَّا شَاطَا أَيْ وَرَدْتُهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ وَلَا قَصْدٍ، شَاطَ الزَّيْتُ إِذَا نَضِجَ حَتَّى احْتَرَقَ، وَكَذَلِكَ اللَّقِيطُ يُوجَدُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ. وَالْتِقَاطُ صِغَارِ بَنِي آدَمَ مَفْرُوضٌ إِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَهْلِكُ إِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ بِأَنْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ مَسْبَعَةٍ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْهُ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْهَلَاكِ بِأَنْ كَانَ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ فَأَخْذُهُ مَنْدُوبٌ لِمَا فِيهِ مِنَ السَّعْيِ فِي إِحْيَاءِ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ، قَالَ اللَّهُ - تَبَارَكَ وتَعَالَى -: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُلْتَقِطِ: " لَأَنْ أَكُونَ وَلِيتُ مِنْهُ مِثْلَ مَا وَلِيتَ أَنْتَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا ". قَالَ: (وَهُوَ حُرٌّ) تَبَعًا لِلدَّارِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَنِي آدَمَ الْحُرِّيَّةُ (وَنَفَقَتُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ) لِمَا رَوَى عَنْ سُنَيْنٍ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ: وَجَدْتُ مَنْبُوذًا عَلَى بَابِي: أَيْ لَقِيطًا، فَأَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لِي: " عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا، نَفَقَتُهُ عَلَيْنَا وَهُوَ حُرٌّ ". وَهَذَا مَثَلٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَجِنَايَتُهُ عَلَيْهِ، وَدِيَتُهُ لَهُ وَوَلَاؤُهُ، وَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْقَاضِي بِشَرْطِ الرُّجُوعِ، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَاهُ اثْنَانِ مَعًا ثَبَتَ مِنْهُمَا إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] يُقَالُ عِنْدَ التُّهْمَةِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: إِنَّمَا عَرَّضَ عُمَرُ بِالرَّجُلِ: أَيْ لَعَلَّكَ صَاحِبُ اللَّقِيطِ، يُرِيدُ أَنَّكَ زَنَيْتَ بِأُمِّهِ وَادَّعَيْتَهُ لَقِيطًا، فَشَهِدَ لَهُ جَمَاعَةٌ بِالْخَيْرِ فَتَرَكَهُ. قَالَ: (وَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَجِنَايَتُهُ عَلَيْهِ، وَدِيَتُهُ لَهُ وَوَلَاؤُهُ) لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ، وَلَوْ قُتِلَ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ اقْتَصَّ وَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لَا غَيْرُ لِاحْتِمَالِ الْوَلِيِّ وَهُوَ الظَّاهِرُ إِلَّا أَنَّهُ غَائِبٌ وَلَا يُقْتَصُّ دُونَهُ. وَلَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي لَا يُعْرَفُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ كَالْعَدَمِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالَ حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحَدُّ قَاذِفُ اللَّقِيطِ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ أُمِّهِ ; لِأَنَّ فِي حِجْرِهَا وَلَدًا لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ فَكَانَتْ تُهْمَةُ الزِّنَا قَائِمَةً كَالْمُلَاعَنَةِ. قَالَ: (وَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِهِ) لَسَبْقِ يَدِهِ عَلَيْهِ كَالْمُبَاحَاتِ، فَإِنْ سَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يَقْبَلَهُ إِنْ شَاءَ قَبِلَهُ وَإِنْ شَاءَ لَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَلَدُهُ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَقِيطٌ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حِفْظَهُ وَتَرْبِيَتَهُ، فَإِنْ دَفَعَهُ الْمُلْتَقِطُ إِلَى آخَرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ; لِأَنَّهُ رَضِيَ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ. قَالَ: (وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ) لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ (إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْقَاضِي بِشَرْطِ الرُّجُوعِ) لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَشْتَرِطِ الرُّجُوعَ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ; لِأَنَّهُ قَضَى حَقًّا عَلَيْهِ وَاجِبًا بِأَمْرِ الْقَاضِي فَصَارَ كَقَضَاءِ دَيْنِهِ بِأَمْرِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ حَقٍّ وَاجِبٍ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَرْغِيبًا لَهُ فِي إِتْمَامِ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنَ التَّبَرُّعِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا قَالَ لَهُ أَدِّ عَنِّي زَكَاةَ مَالِي فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ إِلَّا بِالشَّرْطِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ ; لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بِعِوَضٍ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْقَاضِي، لَكِنْ صَدَّقَهُ اللَّقِيطُ بَعْدَ بُلُوغِهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِحَقِّهِ. قَالَ: (وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ) لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْعِ الصَّغِيرِ ; لِأَنَّ النَّاسَ يَتَشَرَّفُونَ بِالْأَنْسَابِ وَيُعَيَّرُونَ بِعَدَمِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ فَتَبْطُلُ يَدُ الْمُلْتَقِطِ. (وَإِنِ ادَّعَاهُ اثْنَانِ مَعًا ثَبَتَ مِنْهُمَا) لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ (إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ) فَيَكُونَ أَوْلَى بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ أَوْ لِسَبْقٍ فِي الدَّعْوَى ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فِي زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 وَالْحُرُّ وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ، وَانَ ادَّعَاهُ عَبْدٌ فَهُوَ ابْنُهُ وَهُوَ حُرٌّ، وَإِنِ ادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ فَهُوَ ابْنُهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ، إِلَّا أَنْ يَلْتَقِطَهُ مِنْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَيَكُونُ ذِمِّيًّا، وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِذَا كَانَ عَلَى اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ فَهُوَ لَهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي، وَيَقْبَلُ لَهُ الْهِبَةَ، وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ، وَلَا يُزَوِّجُهُ، وَلَا يُؤَاجِرُهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِلَّا إِذَا أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ ; لِأَنَّهَا أَقْوَى. قَالَ: (وَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ) وَمَعْنَاهُ إِذَا ادَّعَى نَسَبَهُ حُرٌّ وَعَبْدٌ أَوْ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ فَالْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ، وَالْمُسْلِمُ أَوْلَى مِنَ الذِّمِّيِّ ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ لَهُ (وَإِنِ ادَّعَاهُ عَبْدٌ فَهُوَ ابْنُهُ) ; لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ أَنْفَعُ لَهُ (وَهُوَ حُرٌّ) لِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ رِقِّ أَبِيهِ أَنْ يَكُونَ رَقِيقًا ; لِأَنَّ الْعَبْدَ يَتَزَوَّجُ الْحُرَّةَ (وَإِنِ ادَّعَاهُ ذِمِّيٌّ فَهُوَ ابْنُهُ) لِمَا مَرَّ (وَهُوَ مُسْلِمٌ) ; لِأَنَّ الْإِسْلَامَ ثَبَتَ لَهُ بِالدَّارِ وَإِبْطَالُهُ إِضْرَارٌ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْأَبِ كَافِرًا كُفْرُ الْوَلَدِ لِاحْتِمَالِ إِسْلَامِ الْأُمِّ. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَلْتَقِطَهُ مِنْ بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَيَكُونُ ذِمِّيًّا) ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ أَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُونَ فِي مَوَاضِعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَكَانَ دُونَ الْوَاجِدِ كَاللَّقِيطِ إِذَا وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَرَوَى أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْوَاجِدَ دُونَ الْمَكَانِ ; لِأَنَّ الْيَدَ أَقْوَى ; وَفِي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ الْإِسْلَامَ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ. قَالَ: (وَمَنِ ادَّعَى أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ يُقْبَلْ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ) عَمَلًا بِالْأَصْلِ، وَإِقْرَارُهُ بِالرِّقِّ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَا يُقْبَلُ، وَبَعْدَ الْبُلُوغِ إِنْ أَجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْأَحْرَارِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحَدِّ قَاذِفِهِ لَمْ يَصِحَّ وَقَبْلَ ذَلِكَ يَصِحُّ، وَلَوِ الْتَقَطَهُ مُسْلِمٌ فَادَّعَى نَصْرَانِيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ فَهُوَ ابْنُهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ النَّصَارَى كَالصَّلِيبِ وَالزُّنَّارِ فَهُوَ نَصْرَانِيٌّ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْمَكَانِ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ عَلَى اللَّقِيطِ مَالٌ مَشْدُودٌ فَهُوَ لَهُ) عَمَلًا بِالظَّاهِرِ (وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي) لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ وَيَصَّدَّقُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ ; وَقِيلَ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَمْرِ الْقَاضِي ; لِأَنَّ الْمَالَ لَهُ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ فَيَشْتَرِي لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْكِسْوَةِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ: (وَيَقْبَلُ لَهُ الْهِبَةَ) لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ (وَيُسَلِّمُهُ فِي صِنَاعَةٍ) ; لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّثْقِيفِ وَفِيهِ مَنْفَعَتُهُ (وَلَا يُزَوِّجُهُ) ; لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَوِلَايَةُ التَّزْوِيجِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلسُّلْطَانِ لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ، فَإِنْ زَوَّجَهُ السُّلْطَانُ وَلَا مَالَ لَهُ فَالْمَهْرُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي النَّوَادِرِ: إِذَا أَمَرَ الْمُلْتَقِطُ بِخِتَانِ الصَّبِيِّ فَهَلَكَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ. قَالَ: (وَلَا يُؤَاجِرُهُ) وَهُوَ الْأَصَحُّ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِتْلَافَ مَنَافِعِهِ كَالْعَمِّ بِخِلَافِ الْأُمِّ ; لِأَنَّهَا تَمْلِكُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا إِجَارَتُهُ لِنَفَقَتِهَا وَاسْتِخْدَامُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 كِتَابُ اللُّقَطَةِ وَأَخْذُهَا أَفْضَلُ، وَإِنْ خَافَ ضَيَاعَهَا فَوَاجِبٌ، وَهِيَ أَمَانَةٌ إِذَا أَشْهَدَ أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ ضَمِنَهَا وَيُعَرِّفُهَا مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ.   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ اللُّقَطَةِ] وَهِيَ كَاللَّقِيطِ فِي الِاشْتِقَاقِ وَالْمَعْنَى، وَهِيَ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ: اسْمٌ لِلْمَالِ الْمَلْقُوطِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ اسْمُ الْمُلْتَقِطِ كَالضُّحَكَةِ وَاللُّمَزَةِ وَالْهُمَزَةِ. فَأَمَّا الْمَالُ الْمَلْقُوطُ فَهُوَ بِسُكُونِ الْقَافِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. قَالَ: (وَأَخْذُهَا أَفْضَلُ) لِئَلَّا تَصِلَ إِلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ (وَإِنْ خَافَ ضَيَاعَهَا فَوَاجِبٌ) صِيَانَةً لِحَقِّ النَّاسِ عَنِ الضَّيَاعِ، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّمَعَ فِيهَا وَتَرْكَ التَّعْرِيفِ وَالرَّدِّ فَالتَّرْكُ أَوْلَى صِيَانَةً لَهُ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ. وَاللُّقَطَةُ: مَا يُوجَدُ مَطْرُوحًا عَلَى الْأَرْضِ مَا سِوَى الْحَيَوَانِ مِنَ الْأَمْوَالِ لَا حَافِظَ لَهُ. وَالضَّالَّةُ: الدَّابَّةُ تَضِلُّ الطَّرِيقَ إِلَى مَرْبِطِهَا وَأَخْذُهَا أَفْضَلُ ; لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي زَمَانِنَا الضَّيَاعُ، فَإِنْ أَخَذَهَا وَأَشْهَدَ وَعَرَّفَهَا ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا لَمْ يَضْمَنْ. وَذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي مُخْتَصَرِهِ، أَوْ رَدَّهَا بَعْدَ مَا حَوَّلَهَا ضَمِنَ ; لِأَنَّ بِالتَّحْوِيلِ الْتَزَمَ الْحِفْظَ، فَبِالرَّدِّ صَارَ مُضَيِّعًا وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ التَّحْوِيلِ. قَالَ: (وَهِيَ أَمَانَةٌ إِذَا أَشْهَدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا) وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَ الْأَخْذِ أَنَّهُ يَأْخُذُهَا لِلرَّدِّ أَوْ يَقُولَ: مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ (فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ ضَمِنَهَا) خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلرَّدِّ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ الْحِسْبَةُ لَا الْمَعْصِيَةُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مُتَصَرِّفٍ عَاقِلٍ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِالْأَخْذِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يُصَدَّقُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ قَالَ أَخَذْتُهُ لِنَفْسِي ضَمِنَ بِالْإِجْمَاعِ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيَرُدَّهَا لَمْ يَضْمَنْ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا كَالْبَيِّنَةِ. قَالَ: (وَيُعَرِّفُهَا مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ صَاحِبَهَا لَا يَطْلُبُهَا بَعْدَ ذَلِكَ) هُوَ الْمُخْتَارُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا أَيَّامًا، وَإِنْ كَانَتْ عَشَرَةً فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلًا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: التَّقْدِيرُ بِالْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنِ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ حَوْلًا» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَجْهُ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: «وَجَدْتُ مِائَةَ دِينَارٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا، فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلًا» ، وَالْعَشَرَةُ وَمَا فَوْقَهَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ وُجُوبِ الْقَطْعِ فِي سَرِقَةٍ وَاسْتِبَاحَةِ الْفَرْجِ بِهَا وَلَا كَذَلِكَ مَا دُونَهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا إِنْ شَاءَ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، فَإِنْ جَاءَ وَأَمْضَى الصَّدَقَةَ فَلَهُ ثَوَابُهُ، وَإِلَّا لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، أَوْ يُضَمِّنَ الْمِسْكِينَ، أَوْ يَأْخُذَهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى غَنِيٍّ، وَيَنْتَفِعُ بِهَا إِنْ كَانَ فَقِيرًا، وَإِنْ كَانَتْ شَيْئًا لَا يَبْقَى عَرَّفَهُ إِلَى أَنْ يَخَافَ فَسَادَهُ، وَيُعَرِّفُهَا فِي مَكَانِ الِالْتِقَاطِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَتْ حَقِيرَةً كَالنَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ، وَلِلْمَالِكِ أَخْذُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهَا يُعَرِّفُهَا حَوْلًا، وَفَوْقَ الْعَشَرَةِ إِلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ شَهْرًا، وَفِي الْعَشَرَةِ جُمُعَةً، وَفِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِي دِرْهَمٍ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً وَنَحْوَهَا تَصَدَّقَ بِهَا مَكَانَهَا، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا أَكَلَهَا مَكَانَهَا قُدِّرَ لِكُلِّ لُقَطَةٍ عَلَى قَدْرِهَا فَكَأَنَّهُ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ. وَالتَّعْرِيفُ أَنْ يُنَادِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَالشَّوَارِعِ وَالْمَسَاجِدِ: مَنْ ضَاعَ لَهُ شَيْءٌ فَلْيَطْلُبْ عِنْدِي. قَالَ: (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا إِنْ شَاءَ) إِيصَالًا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ إِيصَالُهُ إِلَى مَالِكِهِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَإِذَا تَعَذَّرَتِ الصُّورَةُ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ مَعْنًى وَهُوَ الثَّوَابُ. (وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا) لِاحْتِمَالِ مَجِيءِ صَاحِبِهَا (فَإِنْ جَاءَ وَأَمْضَى الصَّدَقَةَ فَلَهُ ثَوَابُهُ) لِأَنَّهُ مَالُهُ (وَإِلَّا لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ أَوْ يَضْمَنَ الْمِسْكِينَ أَوْ يَأْخُذَهَا إِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً) ، أَمَّا تَضْمِينُهُ فَلِأَنَّهُ سَلَّمَ مَالَهُ إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَإِذْنُ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الضَّمَانَ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ. وَأَمَّا تَضْمِينُ الْمِسْكِينِ فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. وَأَمَّا أَخْذُهَا فَلِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ. قَالَ: (وَأَيُّهُمَا ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ) أَمَّا الْمُلْتَقِطُ فَلِأَنَّهُ مَلَكَهَا مِنْ وَقْتِ التَّصَدُّقِ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ، وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلِأَنَّهُ عِوَضُ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى غَنِيٍّ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِنْ لَمْ يَأْتِ صَاحِبُهَا فَلْيَتَصَدَّقْ بِهَا» ، وَالصَّدَقَةُ لَا تَكُونُ عَلَى الْغَنِيِّ كَالْوَاجِبَاتِ. قَالَ: (وَيَنْتَفِعُ بِهَا إِنْ كَانَ فَقِيرًا) كَغَيْرِهِ مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَيُعْطِيهَا أَهْلَهُ إِنْ كَانُوا فَقُرَاءَ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ شَيْئًا لَا يَبْقَى) كَاللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ وَنَحْوِهَا (عَرَّفَهُ إِلَى أَنْ يَخَافَ فَسَادَهُ) ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهِ خَوْفًا مِنَ الْفَسَادِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِصَاحِبِهَا بِالثَّوَابِ دُنْيَا وَأُخْرَى. (وَيُعَرِّفُهَا فِي مَكَانِ الِالْتِقَاطِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ) فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ يَصِلَ صَاحِبُهَا. وَسَأَلَ رَجُلٌ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: اذْهَبْ حَيْثُ وَجَدْتَهَا فَإِنْ وَجَدْتَ صَاحِبَهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ وَإِلَّا فَتَصَدَّقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَخَيَّرَهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَالْقِيمَةِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ حَقِيرَةً كَالنَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ يَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ) ; لِأَنَّ رَمْيَهَا إِبَاحَةٌ لِلْأَخْذِ دَلَالَةً. قَالَ: (وَلِلْمَالِكِ أَخْذُهُ) ; لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا تُسْقِطُ الْمِلْكَ عَنِ الْعَيْنِ خُصُوصًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لَمْ يَجُزْ لِلْمُلْتَقِطِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 وَالسُّنْبُلُ بَعْدَ الْحَصَادِ إِذَا جَمَعَهُ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً، وَيَجُوزُ الْتِقَاطُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لَهَا مَنْفَعَةٌ آجَرَهَا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ بَاعَهَا إِنْ كَانَ أَصْلَحَ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَهُ حَبْسُهَا حَتَّى يُعْطِيَهُ النَّفَقَةَ، فَإِنِ امْتَنَعَ بِيعَتْ فِي النَّفَقَةِ، فَإِنْ هَلَكَتْ بَعْدَ الْحَبْسِ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ وَقَبْلَ الْحَبْسِ لَا، وَلَيْسَ فِي رَدِّ اللُّقَطَةِ وَالضَّالَّةِ وَالصَّبِيِّ الْحُرِّ شَيْءٌ وَاجِبٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] الِانْتِفَاعُ بِهِ. قَالَ: (وَالسُّنْبُلُ بَعْدَ الْحَصَادِ إِذَا جَمَعَهُ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً) بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ النَّاسِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ أَلْقَى شَاةً مَيْتَةً فَجَاءَ آخَرُ فَأَخَذَ صُوفَهَا وَجِلْدَهَا وَدَبَغَهُ فَهُوَ لَهُ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَهُ أَخْذُ الصُّوفِ وَالْجِلْدِ وَعَلَيْهِ مَا زَادَ الدَّبَّاغُ كَالْغَاصِبِ. غَرِيبٌ مَاتَ فِي دَارِ رَجُلٍ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مَعْرُوفٌ وَخَلَّفَ مَالًا وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ فَقِيرٌ فَلَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ الْتِقَاطُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ) ; لِأَنَّهُ مَالٌ يُتَوَهَّمُ ضَيَاعُهُ فَيُسْتَحَبُّ أَخْذُهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ، وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ فَقَالَ: " مَا لَكَ وَلَهَا عَلَيْهَا حِذَاؤُهَا وَمَعَهَا سِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشَّجَرَ» . «وَسُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ: " هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ» فَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ كَانَ الْخَوْفُ مِنَ الِافْتِرَاسِ لَا مِنْ أَخْذِ النَّاسِ ; أَمَّا الْيَوْمُ كَثُرَ الْفَسَادُ وَالْخِيَانَةُ وَقِلَّةُ الْأَدْيَانِ وَالْأَمَانَةِ فَكَانَ أَخْذُهُ أَوْلَى. قَالَ: (وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا) لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى مَالِكِهَا إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْقَاضِي فَيَكُونُ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهَا لِعُمُومِ وِلَايَتِهِ وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ لِلْمَالِكِ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ لَهَا مَنْفَعَةٌ آجَرَهَا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا) ; لِأَنَّ فِيهِ بَقَاءَ الْمِلْكِ عَلَى مَالِكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْآبِقِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَنْفَعَةٌ بَاعَهَا إِنْ كَانَ أَصْلَحَ) ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ الْإِنْفَاقَ عَلَيْهَا أَمَرَ بِذَلِكَ وَجَعَلَهَا دَيْنًا عَلَى مَالِكِهَا ; لِأَنَّ وِلَايَتَهُ نَظَرِيَّةٌ. وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهَا يَوْمَيْنِ وَثَلَاثَةً رَجَاءَ مَجِيءِ صَاحِبِهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَبِيعُهَا لِئَلَّا تَسْتَأْصِلَهَا النَّفَقَةُ فَلَا نَظَرَ حِينَئِذٍ فِي حَقِّهِ. قَالَ: (فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَهُ حَبْسُهَا حَتَّى يُعْطِيَهُ النَّفَقَةَ) ; لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ صَارَ هَالِكًا مَعْنًى وَقَدْ أَحْيَاهُ بِنَفَقَتِهِ فَصَارَ كَالْبَائِعِ (فَإِنِ امْتَنَعَ بِيعَتْ فِي النَّفَقَةِ) كَالرَّهْنِ ; لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي كَأَمْرِهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهَا وَحَبَسَهَا بِأَمْرِهِ (فَإِنْ هَلَكَتْ بَعْدَ الْحَبْسِ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ) كَالرَّهْنِ (وَقَبْلَ الْحَبْسِ لَا) ; لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ. قَالَ: (وَلَيْسَ فِي رَدِّ اللُّقَطَةِ وَالضَّالَّةِ وَالصَّبِيِّ الْحُرِّ شَيْءٌ وَاجِبٌ) ; لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الرَّدِّ فَإِنْ أَعْطَاهُ الْمَالِكُ شَيْئًا فَحَسَنٌ، بِخِلَافِ الْآبِقِ لِأَنَّ جَعْلَهُ وَاجِبٌ نَصًّا لَا قِيَاسًا. وَعَنِ الْكَرْخِيِّ فِي اللُّقَطَةِ: إِذَا قَالَ مَنْ وَجَدَهَا فَلَهُ كَذَا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ; لِأَنَّهَا إِجَارَةٌ فَاسِدَةٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 وَمَنِ ادَّعَى اللُّقَطَةَ يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ وَلَا يُجْبَرُ، وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ. كِتَابُ الْآبِقِ أَخْذُهُ أَفْضَلُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الضَّالُّ وَيَدْفَعُهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ، وَيُحْبَسُ الْآبِقُ دُونَ الضَّالِّ، وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَبِحِسَابِهِ إِنْ نَقَصَتِ الْمُدَّةُ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَوْ ضَاعَتِ اللُّقَطَةُ فَوَجَدَهَا آخَرُ لَا يَكُونُ الْأَوَّلُ خِصْمًا فِيهَا ; لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الِالْتِقَاطِ وَلَيْسَ كَالْمُسْتَوْدَعِ ; لِأَنَّ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ عَلَيْهِ فَلَهُ أَخْذُهَا. قَالَ: (وَمَنِ ادَّعَى اللُّقَطَةَ يَحْتَاجُ إِلَى الْبَيِّنَةِ) ; لِأَنَّهَا دَعْوَى (فَإِنْ أَعْطَى عَلَامَتَهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ وَلَا يُجْبَرَ) لِجَوَازِ أَنَّهُ عَرَفَهَا مِنْ صَاحِبِهَا أَوْ رَآهَا عِنْدَهُ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْيَدِ كَالْمِلْكِ فَلَا تُسْتَحَقُّ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ كَالْمِلْكِ إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ عِنْدَ الْعَلَامَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَّفَ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ» فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» ، وَلَوْ صَدَّقَهُ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَلَا يَرْجِعَ الْقَابِضُ عَلَى الدَّافِعِ، وَإِنْ دَفَعَهَا بِقَضَاءٍ فَهُوَ مَجْبُورٌ فَيَرْجِعُ عَلَى الْقَابِضِ لَا غَيْرُ. قَالَ: (وَلُقَطَةُ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ سَوَاءٌ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً» مُطْلَقًا، وَلِأَنَّهَا لُقَطَةٌ، وَفِي التَّصَدُّقِ بَعْدَ سَنَةِ إِيصَالِهَا إِلَى مَالِكِهَا بِقَدْرِ الْوُسْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيُشْرَعُ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَرَمِ: «لَا تَحِلُّ لُقَطَتُهُ إِلَّا لِمُنْشِدٍ» أَيْ لِمُعَرِّفٍ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْحَرَمِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ السُّقُوطُ طَمَعًا أَنَّهَا لِلْغُرَبَاءِ. [كِتَابُ الْآبِقِ] وَهُوَ الْعَبْدُ الْهَارِبُ، أَبَقَ الْعَبْدُ إِذَا هَرَبَ وَتَأَبَّقَ إِذَا اسْتَتَرَ، وَيُقَالُ: احْتَبَسَ الْآبِقُ إِذَا هَرَبَ وَاسْتَتَرَ عَنْ مَوْلَاهُ احْتَبَسَ عَنْهُ. قَالَ: (أَخْذُهُ أَفْضَلُ إِذَا قَدَرَ عَلَيْهِ) ; لِأَنَّهُ إِحْيَاءٌ لَهُ وَإِبْقَاءٌ لَهُ عَلَى مِلْكِهِ (وَكَذَلِكَ الضَّالُّ) ، وَقِيلَ: تَرْكُ الضَّالِّ أَوْلَى ; لِأَنَّهُ يَقِفُ مَكَانَهُ فَيَجِدُهُ صَاحِبُهُ بِخِلَافِ الْآبِقِ. قَالَ: (وَيَدْفَعُهُمَا إِلَى السُّلْطَانِ) لِعَجْزِهِ عَنْ حِفْظِهِمَا (وَيَحْبِسُ الْآبِقَ دُونَ الضَّالِّ) ; لِأَنَّهُ يَخَافُ إِبَاقَ الْآبِقِ دُونَ الضَّالِّ. قَالَ: (وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَبِحِسَابِهِ إِنْ نَقَصَتِ الْمُدَّةُ) لِمَا رُوِيَ عَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَلَهُ قِيمَتُهُ إِلَّا دِرْهَمًا (س) ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ كَالْقِنِّ وَالصَّبِيُّ كَالْبَالِغِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ، وَلَوْ أَبَقَ مِنْ يَدِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَإِنْ كَانَ جَانِيًا فَعَلَى مَوْلَاهُ إِنْ فَدَاهُ، وَعَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إِنْ أَعْطَاهُ لَهُ، وَحُكْمُهُ فِي النَّفَقَةِ كَاللُّقَطَةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: «جُعْلُ الْآبِقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا» . وَاجْتَمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى وُجُوبِ الْجُعْلِ لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَرْبَعُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ دُونَهَا، فَقُلْنَا بِوُجُوبِ الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فَمَا دُونَ تَوْفِيقًا بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّ ذَلِكَ حَامِلٌ عَلَى رَدِّ الْآبِقِ وَصِيَانَةٌ لَهُ عَنِ الضَّيَاعِ إِذِ الْحِسْبَةُ قَلِيلَةٌ، وَقَوْلُهُ فِي نُقْصَانِ الْمُدَّةِ بِحِسَابِهِ أَنَّهُ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ، وَقِيلَ: يَقْسِطُ لِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَثُلُثًا فَيُقَدِّرُ الرَّضْخَ بِقَدْرِهِ وَقِيلَ بِاصْطِلَاحِهِمَا. قَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَلَهُ قِيمَتُهُ إِلَّا دِرْهَمًا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهُ الْجُعْلُ كَامِلًا لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ إِنَّمَا شُرِعَ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِكِ فَيَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ لِتَحْصُلَ لَهُ الْفَائِدَةُ. قَالَ: (وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ كَالْقَنِّ) ; لِأَنَّهُمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمِلْكِ (وَالصَّبِيُّ كَالْبَالِغِ) ; لِأَنَّهُ مَئُونَةُ الْمِلْكِ، وَلَوْ رَدَّهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهِ فَلَا جُعْلَ لَهُمَا ; لِأَنَّ الْحِفْظَ عَلَيْهِمَا وَهُمَا يَتَوَلَّيَانِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ الِابْنُ ; لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالرَّدِّ مِنْ هَؤُلَاءِ تَبَرُّعًا وَاصْطِنَاعًا، وَلَوْ رَدَّ عَبْدَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ أَوْ سَائِرِ قَرَابَتِهِ لَا جُعْلَ لَهُ إِنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَهُ الْجُعْلُ، وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَبَقَ عَبْدِي إِنْ وَجَدْتَهُ فَخُذْهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَرَدَّهُ لَا جُعْلَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ وَعَدَهُ بِرَدِّهِ فَصَارَ مُتَبَرِّعًا. رَدَّ أَمَةً وَمَعَهَا وَلَدُهَا فَلَهُ جُعْلٌ وَاحِدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا فَيَجِبُ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا، وَلَوْ صَالَحَ عَنِ الْجُعْلِ عَلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَحُطُّ الْفَضْلَ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ أَرْبَعُونَ فَالزِّيَادَةُ رِبًا. قَالَ: (وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ) عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي اللُّقَطَةِ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعْلِيلِ. قَالَ: (وَلَوْ أَبَقَ مِنْ يَدِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ) ; لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي أَخْذِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ لِأَنَّهُ مَا رَدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ) لِأَنَّهُ وَجَبَ بِجِنَايَةِ الرَّهْنِ وَهِيَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ وَلِأَنَّهُ أَحْيَا مَالِيَّتَهُ وَهِيَ حَقُّهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ خَالِيًا عَنِ الدَّيْنِ فَعَلَى الْمَالِكِ بِقَدْرِهِ مِنَ الْجُعْلِ كَمَا فِي الْفِدَاءِ فِي الْجِنَايَةِ، وَلِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَدْرِ الْمَضْمُونِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فَالْجُعْلُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ ; لِأَنَّهُ مَئُونَةُ الْمِلْكِ (وَإِنْ كَانَ جَانِيًا فَعَلَى مَوْلَاهُ إِنْ فَدَاهُ، وَعَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إِنْ أَعْطَاهُ لَهُ) ; لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِمَنْ يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لَهُ وَالْجُعْلُ يَتْبَعُ الْمَنْفَعَتَيْنِ. قَالَ: (وَحُكْمُهُ فِي النَّفَقَةِ) فِي التَّبَرُّعِ وَإِذْنِ الْقَاضِي وَحَبْسِهِ بِهَا بَعْدَ الرَّدِّ (كَاللُّقَطَةِ) اشْتَرَى آبِقًا فَرَدَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 كِتَابُ الْمَفْقُودِ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَمَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَيُقِيمُ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَسْتَوْفِي غَلَّاتِهِ فِيمَا لَا وَكِيلَ لَهُ فِيهِ، وَيَبِيعُ مِنْ أَمْوَالِهِ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ، وَيُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ حَالَ حُضُورِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَا جُعْلَ لَهُ ; لِأَنَّهُ عَمِلَ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَقْدِرْ عَلَى رَدِّهِ إِلَّا بِالشِّرَاءِ وَإِنَّمَا اشْتَرَيْتُهُ لِأَرُدَّهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ الْجُعْلُ ; لِأَنَّهُ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي الثَّمَنِ، وَإِذَا حَبَسَ السُّلْطَانُ الْآبِقَ مُدَّةً وَلَمْ يَجِئْ لَهُ طَالِبٌ إِنْ شَاءَ بَاعَهُ وَإِنْ شَاءَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَجَعَلَهَا دَيْنًا عَلَى الْمَالِكِ أَوْ فِي ثَمَنِهِ، وَلَا يُؤَاجِرُهُ خَوْفَ الْإِبَاقِ. أَمَّا الضَّالُّ يُؤَاجِرُهُ وَلَا يَبِيعُهُ. [كِتَابُ الْمَفْقُودِ] الْمَفْقُودُ: الْمَعْدُومُ، وَفَقَدْتَ الشَّيْءَ: إِذَا طَلَبْتَهُ فَلَمْ تَجِدْهُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 72] أَيْ طَلَبْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ فَقَدَ عُدِمَ. وَفِي الشَّرْعِ: الَّذِي غَابَ عَنْ أَهْلِهِ وَبَلَدِهِ أَوْ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ وَلَمْ يُدْرَ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُ مَكَانٌ وَمَضَى عَلَى ذَلِكَ زَمَانٌ فَهُوَ مَعْدُومٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ (وَحُكْمُهُ أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ) لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ وَلَا يُقَسَّمُ مَالُهُ وَلَا تُفْسَخُ إِجَارَتُهُ ; لِأَنَّ مِلْكَهُ كَانَ ثَابِتًا فِي مَالِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنَافِعِ مَا اسْتَأْجَرَهُ، وَغَيْبُوبَتُهُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ، وَالْمَوْتُ مُحْتَمَلٌ، فَلَا يَزُولُ الثَّابِتُ بِالْيَقِينِ بِالِاحْتِمَالِ. «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: " هِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ» رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّهَا امْرَأَةٌ ابْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَأْتِيَهَا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُ سِنِينَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ عَلِيٍّ. قَالَ (و) هُوَ (مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ) لَا يَرِثُ مِمَّنْ مَاتَ حَالَ غَيْبَتِهِ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ بِبَقَائِهِ بِنَاءً عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ. قَالَ: (وَيُقِيمُ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَسْتَوْفِي غَلَّاتِهِ فِيمَا لَا وَكِيلَ لَهُ فِيهِ، وَيَبِيعُ مِنْ أَمْوَالِهِ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ) ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ نَظَرًا لِمَنْ عَجَزَ عَنِ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَالْمَفْقُودُ عَاجِزٌ بِنَفْسِهِ فَيَتَصَرَّفُ لَهُ الْقَاضِي، وَالنَّظَرُ لَهُ فِيمَا ذَكَرْنَا، فَيَقْبِضُ دَيْنًا أَقَرَّ بِهِ الْغَرِيمُ وَلَا يُخَاصِمُ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِي الْقَبْضِ مِنْ جِهَتِهِ وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَلِي الْحِفْظَ دُونَ الْخُصُومَةِ، وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ لَا فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا إِذْ لَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ. قَالَ: (وَيُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ حَالَ حُضُورِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ) كَزَوْجَتِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 فَإِنْ مَضَى لَهُ مِنَ الْعُمُرِ مَا لَا يَعِيشُ أَقْرَانُهُ حُكِمَ بِمَوْتِهِ. كِتَابُ الْخُنْثَى إِذَا كَانَ لَهُ آلَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَإِنْ بَالَ مِنْ أَحَدِهِمَا اعْتُبِرَ بِهِ، فَإِنْ بَالَ مِنَ الذَّكَرِ فَهُوَ غُلَامٌ، وَإِنْ بَالَ مِنَ الْفَرْجِ فَهُوَ أُنْثَى، وَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا اعْتُبِرَ بِأَسْبَقِهِمَا،   [الاختيار لتعليل المختار] وَأَوْلَادِهِ وَأَبَوَيْهِ لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ لَهُمْ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِحَضْرَتِهِ إِلَّا بِقَضَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَنَحْوِهِمَا لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْ مَالِهِ النَّقْدَانِ لِأَنَّهُمَا قِيمَةُ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنَ الْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ دَيْنًا أَوْ وَدِيعَةً، فَإِنِ اعْتَرَفَ الْمَدْيُونُ وَالْمُوَدَعُ بِالْمَالِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالنَّسَبِ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ثَابِتًا عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا حَاجَةَ إِلَى اعْتِرَافِهِمْ، وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَ الْقَاضِي بَعْضُ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ اعْتِرَافُهُمَا بِالْبَاقِي، وَلَوْ أَنْفَقَ الْمَدْيُونُ وَالْمُودَعُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِ الْقَاضِي ضَمِنَا لِأَنَّهُمَا مَا أَوْصَلَا الْحَقَّ إِلَى مَالِكِهِ وَلَا نَائِبِهِ. قَالَ: (فَإِنْ مَضَى لَهُ مِنَ الْعُمُرِ مَا لَا يَعِيشُ أَقْرَانُهُ حُكِمَ بِمَوْتِهِ) وَهُوَ الْأَقْيَسُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لِاخْتِلَافِ الْأَعْمَارِ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمَانِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِائَة سَنَةٍ، وَقِيلَ: تِسْعِينَ سَنَةً، وَهُوَ غَايَةُ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ أَعْمَارُ أَهْلِ زَمَانِنَا فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، وَهُوَ الْأَرْفَقُ لِأَنَّ فِي التَّفَحُّصِ عَنْ مَوْتِ الْأَقْرَانِ حَرَجًا، وَبَاقِي مَسَائِلِ الْمَفْقُودِ تَأْتِي فِي الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [كِتَابُ الْخُنْثَى] وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّخَنُّثِ وَهُوَ التَّكَسُّرُ، يُقَالُ: اطْوِ الثَّوْبَ عَلَى أَخْنَاثِهِ: أَيْ عَلَى تَكَسُّرِهِ وَمَطَاوِيهِ، وَسُمِّيَ الْخُنْثَى ; لِأَنَّهُ تَكَسَّرَ وَتَنَقَّصَ حَالُهُ عَنْ حَالِ الرِّجَالِ، وَيَفُوقُ عَلَى حَالِ النِّسَاءِ حَيْثُ كَانَ لَهُ آلَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَقَالَ عُمَرُ النَّسَفِيُّ: أَوَلَيْسَ لَهُ هَذَا وَلَا هَذَا وَيُخْرِجُ حَدَثَهُ مِنْ دُبُرِهِ أَوْ مِنْ سُرَّتِهِ. وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ: إِذَا خَرَجَ الْبَوْلُ مِنْ سُرَّتِهِ وَلَيْسَ لَهُ قُبُلٌ وَلَا ذَكَرٌ لَا أَدْرِي مَا يَقُولُ فِي هَذَا. (إِذَا كَانَ لَهُ آلَةُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَإِنْ بَالَ مِنْ أَحَدِهِمَا اعْتُبِرَ بِهِ، فَإِنْ بَالَ مِنَ الذَّكَرِ فَهُوَ غُلَامٌ، وَإِنْ بَالَ مِنَ الْفَرْجِ فَهُوَ أُنْثَى) ; لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآلَةَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا هِيَ الْأَصْلُ وَالْأُخْرَى عَيْبٌ، «وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ كَيْفَ يُوَرَّثُ؟ فَقَالَ: " مِنْ حَيْثُ يَبُولُ» وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهَكَذَا كَانَ حُكْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهُ الْإِسْلَامُ. قَالَ: (وَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا اعْتُبِرَ بِأَسْبَقِهِمَا) ; الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا مَعًا فَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْكَثْرَةِ (سم) ، فَإِذَا بَلَغَ فَظَهَرَتْ لَهُ أَمَارَاتُ الرِّجَالِ فَهُوَ رَجُلٌ، وَإِنْ ظَهَرَتْ لَهُ أَمَارَاتُ النِّسَاءِ فَهُوَ امْرَأَةٌ، فَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الْأَمَارَتَانِ أَوْ تَعَارَضَتَا فَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ. فَإِذَا حُكِمَ بِكَوْنِهِ خُنْثَى مُشْكِلًا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَوْثَقِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَيُوَرَّثُ أَخَسَّ السَّهْمَيْنِ وَيَقِفُ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ صَلَّى فِي صَفِّ النِّسَاءِ أَعَادَ، وَلَوْ صَلَّى فِي صَفِّ الرِّجَالِ يُعِيدُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَمَنْ خَلْفَهُ بِحِذَائِهِ، وَيُصَلِّي بِقِنَاعٍ، وَلَا يَلْبَسُ الْحُلِيَّ وَالْحَرِيرَ، وَلَا يَخْلُو بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ، وَلَا يُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ، وَتُبْتَاعُ لَهُ أَمَةٌ تَخْتِنُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ الْعُضْوُ الْأَصْلِيُّ (فَإِنْ بَالَ مِنْهُمَا مَعًا فَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْكَثْرَةِ) ، وَقَالَ: يُعْتَبَرُ أَكْثَرُهُمَا بَوْلًا ; لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ وَلِأَنَّهُ عَلَامَةٌ أُخْرَى عَلَى الْأَصَالَةِ وَالْقُوَّةِ، وَلَهُ أَنَّ الْكَثْرَةَ تَكُونُ لِاتِّسَاعِ الْمَخْرَجِ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْأَصَالَةِ، فَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقَدْرِ فَهُوَ مُشْكِلٌ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ. قَالَ: (فَإِذَا بَلَغَ فَظَهَرَتْ لَهُ أَمَارَاتُ الرِّجَالِ فَهُوَ رَجُلٌ) وَذَلِكَ كَاللِّحْيَةِ وَمُجَامَعَةِ النِّسَاءِ وَالِاحْتِلَامِ مِنَ الذَّكَرِ ; لِأَنَّ هَذِهِ عَلَامَةٌ تَخُصُّ الرِّجَالَ (وَإِنْ ظَهَرَتْ لَهُ أَمَارَاتُ النِّسَاءِ فَهُوَ امْرَأَةٌ) كَالْحَيْضِ وَالْحَبَلِ وَنُزُولِ الثَّدْيِ وَاللَّبَنِ فِيهِ وَالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ ; لِأَنَّ هَذِهِ عَلَامَاتٌ تَخُصُّ النِّسَاءَ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الْأَمَارَتَانِ أَوْ تَعَارَضَتَا فَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ) قَالَ الطَّحَاوِيُّ: قَالَ مُحَمَّدٌ: الْإِشْكَالُ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَإِذَا بَلَغَ فَلَا إِشْكَالَ. قَالَ النَّسَفِيُّ: وَلَيْسَ يَخْلُو إِذَا بَلَغَ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْعَلَائِمِ. [فصل أحكام الْخُنْثَى] فَصْلٌ (فَإِذَا حُكِمَ بِكَوْنِهِ خُنْثَى مُشْكِلًا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَوْثَقِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ) فَلَا يُحْكَمُ بِمَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ، وَيُرَجَّحُ الْمُحَرِّمُ عَلَى الْمُبِيحِ (فَيُوَرَّثُ أَخَسَّ السَّهْمَيْنِ) ، وَيُعْرَفُ بَيَانُهُ فِي الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَيَقِفُ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ) ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا لَا يَجُوزُ وُقُوفُهُ فِي صَفِّ النِّسَاءِ لِئَلَّا تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً لَا يَجُوزُ وُقُوفُهَا فِي صَفِّ الرِّجَالِ لِئَلَّا تَفْسُدَ صَلَاتُهُمْ، فَيَقِفُ بَيْنَهُمَا. قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى فِي صَفِّ النِّسَاءِ أَعَادَ) لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَجُلًا (وَلَوْ صَلَّى فِي صَفِّ الرِّجَالِ يُعِيدُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَمَنْ خَلْفَهُ بِحِذَائِهِ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ. قَالَ: (وَيُصَلِّي بِقِنَاعٍ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ، وَيَجْلِسُ كَمَا تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ (وَلَا يَلْبَسُ الْحُلِيَّ وَالْحَرِيرَ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ (وَلَا يَخْلُو بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ، وَلَا يُسَافِرُ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ) احْتِيَاطًا. قَالَ: (وَتُبْتَاعُ لَهُ أَمَةٌ تَخْتِنُهُ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتِنَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 فَإِذَا خَتَنَتْهُ بَاعَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَسْتَبِنْ حَالُهُ يُمِّمَ، ثُمَّ يُكَفَّنُ وَيُدْفَنُ كَالْجَارِيَةِ. كِتَابُ الْوَقْفِ وَهُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ وَلَا يَلْزَمُ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ حَاكِمٌ (سم ف) ، أَوْ يَقُولَ: إِذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْتُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَيَجُوزُ لِجَارِيَتِهِ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهِ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً (فَإِذَا خَتَنَتْهُ بَاعَهَا) لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْهَا (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ) ; لِأَنَّهُ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَشْتَهِي جَازَ خِتَانُهُ لِلرَّجُلِ وَلِلْمَرْأَةِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُزَوَّجُ امْرَأَةً، فَإِنْ كَانَ رَجُلًا صَحَّ النِّكَاحُ وَحَلَّ لَهَا النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ زَوْجِهَا، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَلَا نِكَاحَ، لَكِنْ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ لِلضَّرُورَةِ، وَلَا يَرِثُ الْخُنْثَى مِنْ مَوْلَى أَبِيهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى وَلَوْ أَوْصَى لِحَمْلِ فُلَانَةَ بِأَلْفٍ إِنْ كَانَ ذَكَرًا وَبِخَمْسِمِائَةٍ إِنْ كَانَ أُنْثَى فَوَلَدَتْ خُنْثَى فَلَهُ خَمْسُمِائَةٍ احْتِيَاطًا إِلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ خَطَأً وَقَالَ إِنَّهُ أُنْثَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَلَا قِصَاصَ فِي أَطْرَافِهِ أَصْلًا، وَلَوِ ارْتَدَّ لَا يُقْتَلُ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ وَلَا تُقَرَّرُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَوْ كَانَ كَافِرًا، وَلَوْ أُسِرَ لَا يُقْتَلُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أُنْثَى، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَجُلًا فَهُوَ كَالْمَجْبُوبِ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَهِيَ كَالرَّتْقَاءِ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُمَا لِأَنَّ الْحَدَّ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْهُمَا، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَوَلَدَتْ خُنْثَى لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ أَمْرُهُ. وَلَوْ قَالَ: كُلُّ عَبْدٍ لَهُ حُرٌّ، أَوْ كُلُّ أَمَةٍ لَهُ حُرَّةٌ لَا يَعْتِقُ الْخُنْثَى حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ، وَلَوْ بَانَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ عَتَقَ لِلتَّيَقُّنِ. (وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يَسْتَبِنْ حَالُهُ يُمِّمَ ثُمَّ يُكَفَّنُ) ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ غُسْلُهُ لِلرِّجَالِ وَلَا لِلنِّسَاءِ احْتِيَاطًا فَقَدْ تَعَذَّرَ غُسْلُهُ فَيُمِّمَ، وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْجَنَائِزُ جُعِلَتْ جِنَازَتُهُ بَيْنَ جِنَازَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِمَا مَرَّ فِي الصَّلَاةِ فِي حَيَاتِهِ (وَيُدْفَنُ كَالْجَارِيَةِ) احْتِيَاطًا. [كِتَابُ الْوَقْفِ] الْوَقْفُ فِي اللُّغَةِ: الْحَبْسُ، يُقَالُ: وَقَفْتَ الدَّابَّةَ إِذَا حَبَسْتَهَا عَلَى مَكَانِهَا، وَمِنْهُ الْمَوْقِفُ لِأَنَّ النَّاسَ يُوقَفُونَ فِيهِ: أَيْ يُحْبَسُونَ لِلْحِسَابِ. وَفِي الشَّرْعِ: حَبْسُ شَيْءٍ مَعْلُومٍ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَهُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَنْفَعَةِ، وَلَا يَلْزَمُ إِلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ حَاكِمٌ، أَوْ يَقُولَ: إِذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْتُهُ) . وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ أَصْلِ الْوَقْفِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَصَدَّقَ بِسَبْعِ حَوَائِطَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الْمَدِينَةِ» ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ وَقَفُوا، وَالْخَلِيلُ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - وَقَفَ وُقُوفًا هِيَ بَاقِيَةٌ جَارِيَةٌ إِلَى يَوْمِنَا. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ جَوَازِهِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: شَرْطُ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ مُوصًى بِهِ، أَوْ يَقُولَ: إِذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْتُهُ حَتَّى لَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ لَا يَصِحُّ وَيَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيُوَرَّثُ عَنْهُ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ فَيَصِيرَ جَائِزًا وَيَتَأَبَّدَ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِلُزُومِهِ لَزِمَ وَنَفَذَ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي مُجْتَهِدٍ وَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ إِبْطَالُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عِنْدَهُ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ وَقَفْتُ وَالتَّصَدُّقِ بِثَمَرَتِهِ وَغَلَّتِهِ الْمَعْدُومَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، وَلَا يَصِحُّ التَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ إِلَّا بِالْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ إِزَالَةُ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَجَعْلُهُ مَحْبُوسًا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى وَجْهٍ يَصِلُ نَفْعُهُ إِلَى عِبَادِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ مِلْكِهِ وَيَخْلُصَ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَيَصِيرَ مُحَرَّرًا عَنِ التَّمْلِيكِ لِيَسْتَدِيمَ نَفْعُهُ وَيَسْتَمِرَّ وَقْفُهُ لِلْعِبَادِ. لَهُمَا أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى لُزُومِ الْوَقْفِ لِيَصِلَ ثَوَابُهُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ بِإِسْقَاطِ مِلْكِهِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَالْمَسْجِدِ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ. قَالَ النَّسَفِيُّ: وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى دَخَلَ بَغْدَادَ فَسَمِعَ حَدِيثَ عُمَرَ فَرَجَعَ عَنْهُ وَقَالَ: لَوْ بَلَغَ هَذَا أَبَا حَنِيفَةَ لَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ لَهُ أَرْضٌ تُدْعَى ثَمْغًا وَكَانَتْ نَخْلًا نَفِيسًا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي اسْتَفَدْتُ مَالًا نَفِيسًا أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُوَرَّثُ، وَلَكِنْ تُنْفَقُ ثَمَرَتُهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ» ، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَذَوِي الْقُرْبَى، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُؤَكِّلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ» ، وَعَنْ شُرَيْحٍ جَاءَ مُحَمَّدٌ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ. «وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِضَيْعَةٍ لَهُ، فَشَكَاهُ أَبُوهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ: " ارْجِعْ فِي صَدَقَتِكَ» ، وَلِأَنَّ شَرَائِطَ الْوَاقِفِ تُرَاعَى فِيهِ، وَلَوْ زَالَ عَنْ مِلْكِهِ لَمْ تُرَاعَ كَالْمَسْجِدِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا، وَلَا ذَلِكَ إِلَّا بِبَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ، ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ أَرْبَعَةُ شَرَائِطَ: التَّسْلِيمُ إِلَى الْمُتَوَلِّي، وَأَنْ يَكُونَ مُفْرَزًا، وَأَلَّا يَشْتَرِطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ، وَأَنْ يَكُونَ مُؤَبَّدًا بِأَنْ يَجْعَلَ آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ. لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ إِلَّا مَحُوزَةً مَقْبُوضَةً، وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ حَقِيقَةٌ مِنَ اللَّهِ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ ضِمْنًا لِلتَّسْلِيمِ إِلَى الْعَبْدِ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ مَتَى كَانَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِ الْوَقْفِ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ - تَعَالَى -. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ وَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ، وَأَخَذَ مَشَايِخُ خُرَاسَانَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَرْغِيبًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ (س) ، وَإِنْ حُكِمَ بِهِ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ (س) أَبَدًا، وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ، وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ (س) ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ جَوَازُ وَقْفِ مَا جَرَى فِيهِ التَّعَامُلُ كَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْقُدُورِ وَالْجِنَازَةِ وَالْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ. قَالَ الْخَصَّافُ: ذِكْرُ الْوَقْفِ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ: قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَقْوَى لِمُقَارَبَةٍ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْمِلْكِ إِذْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقْرَبُ إِلَى مُوَافَقَةِ الْآثَارِ، وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ بُخَارَى. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمُشَاعِ) عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَثَرِ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ عِنْدَهُ شَرْطٌ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ (وَإِنْ حُكِمَ بِهِ جَازَ) بِالْإِجْمَاعِ لِمَا مَرَّ، وَإِنْ طَلَبَ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ يُقَسَّمُ ; لِأَنَّهَا إِفْرَازٌ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ، إِلَّا أَنَّا غَلَّبْنَا جِهَةَ الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ، فَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ غَيْرَ الْوَاقِفِ يُقَاسِمُهُ ; لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي لِئَلَّا يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الدَّرَاهِمِ لِلْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعًا لِلْوَقْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ دَرَاهِمَ مِنَ الْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِلْوَقْفِ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَجُوزُ مَعَ الشُّيُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ، وَلَا يَجُوزُ الشُّيُوعُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تُنَافِي الْخُلُوصَ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالتَّهَايُؤُ فِيهَا قَبِيحٌ بِأَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ يَوْمًا وَيَسْكُنَ يَوْمًا وَيَدْفِنَ فِيهِ شَهْرًا وَيَزْرَعَ شَهْرًا، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنَ الْوُقُوفِ لِأَنَّ الِاسْتِغْلَالَ مُمْكِنٌ غَيْرُ مُسْتَبْشَعٍ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِجِهَةٍ تَنْقَطِعُ. وَلَهُمَا أَنَّ مُوجِبَهُ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَذَلِكَ بِالتَّأْبِيدِ كَالْعِتْقِ، فَإِذَا لَمْ يَتَأَبَّدْ لَمْ يَتَوَفَّرْ عَلَيْهِ مُوجِبُهُ وَلِهَذَا يُبْطِلُهُ التَّوْقِيتُ كَمَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ. ثُمَّ قِيلَ: التَّأْبِيدُ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا اشْتَرَطَ ذِكْرَهُ ; لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ أَوْ بِالْغَلَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا وَيَكُونُ مُؤَبَّدًا كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ التَّأْبِيدُ إِلَّا بِالتَّنْصِيصِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِهِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْوَقْفِ يُنْبِئُ عَنْهُ كَمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ. قَالَ: (وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ) لِمَا مَرَّ مِنَ النُّصُوصِ وَالْآثَارِ (وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْمَنْقُولِ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ لِلتَّبَعِيَّةِ وَكَذَلِكَ وَقْفُ الدُّولَابِ وَمَعَهُ سَانِيَتُهُ وَعَلَيْهَا حَبْلٌ وَدَلْوٌ. وَلَوْ وَقَفَ بَيْتًا فِيهِ كُوَّارَةُ عَسَلٍ جَازَ وَصَارَ النَّحْلُ تَابِعًا لِلْعَسَلِ. وَلَوْ وَقَفَ دَارًا فِيهَا حَمَّامٌ صَارَ الْحَمَّامُ تَبَعًا لَهُ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ تَبَعًا وَلَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشِّرْبِ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ فِي الشُّفْعَةِ. (وَعَنْ مُحَمَّدٍ جَوَازُ وَقْفِ مَا جَرَى فِيهِ التَّعَامُلُ كَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْقُدُورِ وَالْجِنَازَةِ وَالْمَصَاحِفِ وَالْكُتُبِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَيَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ وَلَا تَمْلِيكُهُ، وَيَبْدَأُ مِنِ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهَا الْوَاقِفُ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَنِيٍّ عَمَّرَهُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى فُقَرَاءَ فَلَا تُقَدَّرُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَى أَوْ كَانَ فَقِيرًا آجَرَهَا الْقَاضِي وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى، وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صُرِفَ فِي عِمَارَتِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِوُجُودِ التَّعَامُلِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَبِالتَّعَامُلِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» ، (بِخِلَافِ مَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ) كَالثِّيَابِ وَالْأَمْتِعَةِ ; لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْوَقْفِ التَّأْبِيدَ كَمَا بَيَّنَّا تَرَكْنَاهُ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ بِالنَّصِّ، وَفِيمَا جَرَى فِيهِ التَّعَامُلُ بِالتَّعَامُلِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ (وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ) لِحَاجَةِ النَّاسِ وَتَعَامُلِهِمْ بِذَلِكَ. قَالَ: (وَيَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ) أَيْ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ; لِأَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَقَفَ دُرُوعًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «وَجَعَلَ رَجُلٌ نَاقَتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَرَادَ آخَرُ أَنْ يَحُجَّ عَلَيْهَا فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " الْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ» ، وَطَلْحَةُ حَبَسَ سِلَاحَهُ وَكُرَاعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: أَيْ خَيْلَهُ، وَالْإِبِلُ كَالْخَيْلِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تُقَاتِلُ عَلَيْهَا وَتَحْمِلُ عَلَيْهَا السِّلَاحَ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ وَلَا تَمْلِيكُهُ) لِمَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّهُ يُبْطِلُ التَّأْبِيدَ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ. قَالَ: (وَيَبْدَأُ مِنِ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهَا الْوَاقِفُ) تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِ، فَإِنَّهُ قَصْدُهُ وُصُولُ الثَّوَابِ إِلَيْهِ بِوُصُولِ الْمَنْفَعَةِ أَوِ الْغَلَّةِ إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ وَذَلِكَ بِبَقَاءِ أَصْلِهِ وَإِنَّهُ بِالْعِمَارَةِ فَكَانَتِ الْعِمَارَةُ شَرْطًا لِمُقْتَضَى الْوَقْفِ (فَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى غَنِيٍّ عَمَّرَهُ مِنْ مَالِهِ) لِيَكُونَ الْغُنْمُ بِالْغُرْمِ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ (وَإِنْ كَانَ عَلَى فُقَرَاءَ فَلَا تُقَدَّرُ عَلَيْهِمْ) وَغَلَّةُ الْوَقْفِ أَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ فَيَجِبُ فِيهَا، وَإِنْ وَقَفَ دَارَهُ عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى ; لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ (فَإِنْ أَبَى أَوْ كَانَ فَقِيرًا آجَرَهَا الْقَاضِي وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى) رِعَايَةً لِلْحَقَّيْنِ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ فِي السُّكْنَى وَحَقُّ الْوَاقِفِ فِي الثَّوَابِ، وَلَا يُكْرَهُ الْمُمْتَنِعُ عَنِ الْعِمَارَةِ لِأَنَّهُ يُتْلِفُ مَالَ نَفْسِهِ، وَلَا يَكُونُ بِامْتِنَاعِهِ رَاضِيًا بِبُطْلَانِ حَقِّهِ ; لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ، ثُمَّ الْمُسْتَحَقُّ مِنَ الْعِمَارَةِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرِبَ يُبْنَى كَمَا كَانَ ; لَأَنَّ بِتِلْكَ الصِّفَةِ كَانَتْ غَلَّتُهُ مَصْرُوفَةً إِلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى الزِّيَادَةِ، وَمَنْ لَهُ السُّكْنَى لَا يَجُوزُ إِجَارَتُهُ لَعَدَمُ مَالِكِيَّتِهِ. قَالَ: (وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صُرِفَ فِي عِمَارَتِهِ) مِثْلَ الْآجُرِّ وَالْخَشَبِ وَالْقَارِ وَالْأَحْجَارِ لِيَبْقَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 فَإِنِ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ حُبِسَ لِوَقْتِ حَاجَتِهِ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إِعَادَةُ عَيْنِهِ بِيعَ، وَيُصْرَفُ الثَّمَنُ إِلَى عِمَارَتِهِ، وَلَا يَقْسِمُهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ أَوْ بَعْضَهَا لَهُ وَالْوِلَايَةَ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ نَزَعَهُ الْقَاضِي مِنْهُ وَوَلَّى غَيْرَهُ، وَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ وَيَأْذَنَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ (س) .   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى التَّأْبِيدِ (فَإِنِ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ حُبِسَ لِوَقْتِ حَاجَتِهِ) فَيُصْرَفُ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْعِمَارَةِ فَيَحْبِسُهُ كَيْلَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ وَقْتَ الْحَاجَّةِ (وَإِنْ تَعَذَّرَ إِعَادَةُ عَيْنِهِ بِيعَ وَيُصْرَفُ الثَّمَنُ إِلَى عِمَارَتِهِ) صَرْفًا لَهُ إِلَى مَصْرِفِ الْأَصْلِ (وَلَا يَقْسِمُهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ) لِأَنَّ الْعَيْنَ حَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا مِنْهَا فَلَا يُصْرَفُ إِلَيْهِمْ غَيْرُ حَقِّهِمْ. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ أَوْ بَعْضَهَا لَهُ وَالْوِلَايَةَ إِلَيْهِ) وَقَدْ مَرَّ وَجْهُهُ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ (فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ نَزَعَهُ الْقَاضِي مِنْهُ وَوَلَّى غَيْرَهُ) نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ كَإِخْرَاجِ الْوَصِيِّ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ، وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِلْقَاضِي عَزْلُهُ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِمُخَالَفَتِهِ حُكْمَ الشَّرْعِ، وَإِنْ مَاتَ الْقَيِّمُ فِي حَيَاةِ الْوَاقِفِ نَصَّبَ غَيْرَهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ وَوَصِيُّهُ بِمَنْزِلَتِهِ ; لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لِلْوَقْفِ نَظَرِيَّةٌ وَهِيَ فِيمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يُوصِ إِلَى أَحَدٍ فَالرَّأْيُ لِلْقَاضِي، وَلَا يَجْعَلُ الْقَيِّمَ مِنَ الْأَجَانِبِ مَا دَامَ يَجِدُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْوَاقِفِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ؛ إِمَّا لِأَنَّهُ أَشْفَقَ أَوْ لِأَنَّ مِنْ قَصْدِ الْوَاقِفِ نِسْبَةَ الْوَقْفِ إِلَيْهِ وَذَلِكَ فِيمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَمِنَ الْأَجَانِبِ مَنْ يَصْلُحُ، فَإِنْ أَقَامَ أَجْنَبِيًّا ثُمَّ صَارَ مِنْ وَلَدِهِ مَنْ يَصْلُحُ صَرَفَهُ إِلَيْهِ كَمَا فِي حَقِيقَةِ الْمِلْكِ. أَرْبَابُ الْوَقْفِ الْمَعْدُودُونَ إِذَا نَصَّبُوا مُتَوَلِّيًا بِدُونِ رَأْيِ الْقَاضِي صَحَّ إِذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ كَمَا إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ مَسْجِدٍ عَلَى نَصْبِ مُتَوَلٍّ جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ. قَالَ: (وَمَنْ بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ) ; لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ - تَعَالَى - إِلَّا بِهِ. قَالَ: (وَيَأْذَنُ بِالصَّلَاةِ فِيهِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ; لِأَنَّهُ تَسْلِيمٌ وَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَسْجِدًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا ; لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ كَالْإِعْتَاقِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَلَا كَذَلِكَ الْمَسْجِدُ، وَالتَّسْلِيمُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ جَمَاعَةً فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ ; لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ بُنِيَتْ لِلْجَمَاعَةِ، وَلَوْ صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ وُحْدَانًا فِي رِوَايَةٍ لَا يَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِمَا بَيَّنَّا، وَفِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْمَسَاجِدِ وَبِهَا يَتَحَرَّرُ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] أَضَافَهَا إِلَى نَفْسِهِ إِضَافَةَ اخْتِصَاصٍ كَالْكَعْبَةِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ وَلَا تَعْيِينُهُ الْإِمَامَ وَلَا مَنْ يُصَلِّي فِيهِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَسَاجِدِ حَيْثُ بَقِيَ مَمْلُوكًا يَنْتَفِعُ بِهِ كَسَائِرِ الْمَمْلُوكَاتِ سُكْنَى وَزِرَاعَةً حَتَّى لَوْ لَمْ يَخْلُصِ الْمَسْجِدُ لِلَّهِ - تَعَالَى - بِأَنْ كَانَ تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ، أَوْ جَعَلَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا وَيُورَثُ عَنْهُ، إِلَّا إِذَا كَانَ السِّرْدَابُ أَوِ الْعُلُوُّ لِمَصَالِحِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا أَوْ حَوْضًا أَوْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبُرَةً أَوْ طَرِيقًا لِلنَّاسِ لَا يَلْزَمُ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ أَوْ يُعَلِّقْهُ بِمَوْتِهِ، وَالْوَقْفُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ. رِبَاطٌ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ يُصْرَفُ وَقْفُهُ إِلَى أَقْرَبِ رِبَاطٍ إِلَيْهِ، وَلَوْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ وَبِجَنْبِهِ طَرِيقُ الْعَامَّةِ يُوَسَّعُ مِنْهُ الْمَسْجِدُ، وَلَوْ ضَاقَ الطَّرِيقُ وُسِّعَ مِنَ الْمَسْجِدِ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْمَسْجِدِ أَوْ كَانَا وَقْفًا عَلَيْهِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الرَّيَّ أَجَازَ ذَلِكَ بِكُلِّ حَالٍ لِضِيقِ الْمَنَازِلِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلَهُ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ، وَلَوْ خُرِّبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْهُ يَعُودُ مِلْكًا، وَيُورَثُ عَنْهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَبَعْضُهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ. قَالَ: (وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا أَوْ حَوْضًا أَوْ حَفَرَ بِئْرًا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً أَوْ طَرِيقًا لِلنَّاسِ) فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِهِ حَاكِمٌ أَوْ يُعَلِّقْهُ بِمَوْتِهِ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَصْلِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُ عَنْهُ حَتَّى جَازَ لَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ وَيَسْكُنَ وَيَدْفِنَ وَيَشْرَبَ مِنَ الْحَوْضِ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ لِمَا تَقَدَّمَ إِذِ التَّسْلِيمُ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُشْتَرَطُ التَّسْلِيمُ، وَهُوَ الِاسْتِقَاءُ مِنَ السِّقَايَةِ وَالْبِئْرِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالنُّزُولِ فِي الْخَانِ وَالرِّبَاطِ وَالشُّرْبِ مِنَ الْحَوْضِ وَيُكْتَفَى فِيهِ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ الْجِنْسِ، وَلَوْ نَصَّبَ لَهُ مُتَوَلٍّ وَسَلَّمَهُ إِلَيْهِ جَازَ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ سَلَّمَ الْمَسْجِدَ إِلَى مُتَوَلٍّ يَقُومُ بِمَصَالِحِهِ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَصُلِّ فِيهِ هُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَا إِنْ سَلَّمَهُ إِلَى الْقَاضِي أَوْ نَائِبِهِ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْفُقَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ عُرْفًا لِحَاجَةِ الْكُلِّ إِلَى ذَلِكَ. قَالَ: (وَالْوَقْفُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ) ; لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فَصَارَ كَسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ. قَالَ: (رِبَاطٌ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ يُصْرَفُ وَقْفُهُ إِلَى أَقْرَبِ رِبَاطٍ إِلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَصْلَحُ. رِبَاطٌ عَلَى بَابِهِ قَنْطَرَةٌ وَلَا يُنْتَفَعُ بِالرِّبَاطِ إِلَّا بِالْعُبُورِ عَلَيْهَا وَلَيْسَ لَهَا وَقْفٌ يَجُوزُ أَنْ تُعَمَّرَ بِمَا فَضَلَ مِنْ وَقْفِ الرِّبَاطِ ; لِأَنَّهَا مَصْلَحَةُ الْعَامَّةِ (وَلَوْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ وَبِجَنْبِهِ طَرِيقُ الْعَامَّةِ يُوَسَّعُ مِنْهُ الْمَسْجِدُ) ; لِأَنَّ كِلَيْهِمَا لِلْمُسْلِمِينَ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ (وَلَوْ ضَاقَ الطَّرِيقُ وُسِّعَ مِنَ الْمَسْجِدِ) عَمَلًا بِالْأَصْلَحِ، وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ عَلَى الْوَقْفِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَلَا تَحْتَاجُ إِلَى مُدَّعٍ وَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ فَيَنْفُذُ بِالْإِجْمَاعِ. 1 - فَصْلٌ وَقَفَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَهُ بِنْتٌ فَقِيرَةٌ صَغِيرَةٌ إِنْ وَقَفَ فِي صِحَّتِهِ يَجُوزُ الصَّرْفُ إِلَيْهَا وَفِي مَرَضِهِ لَا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ. اشْتَرَى الْقَيِّمُ ثَوْبًا وَأَعْطَى الْمَسَاكِينَ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الدَّرَاهِمِ. إِذَا غَرَسَ الْقَيِّمُ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ لِلْمَسْجِدِ كَالْبِنَاءِ، وَإِنْ غَرَسَ عَلَى نَهْرِ الْعَامَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] فَهُوَ لَهُ، وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْعَامَّةِ، وَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَحْدَهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَلَا يَسْتَجْلِبُ الثَّوَابَ وَصَارَ كَالصَّدَقَةِ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَهُمْ يُحْصَوْنَ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ، وَيَكُونُ كَمَا شَرَطَ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنِ انْقَرَضَ الْأَغْنِيَاءُ. وَلَوْ قَالَ: أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ قَرَابَتِهِ وَأَوْلَادُهُ، وَصَرْفُ الْغَلَّةِ إِلَيْهِمْ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهَا إِلَى الْأَجَانِبِ لِأَنَّهُ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ، ثُمَّ الصَّرْفُ إِلَى وَلَدِهِ أَفْضَلُ لِأَنَّ الصِّلَةَ فِي حَقِّهِ أَوْجَبُ وَأَجْزَلُ، ثُمَّ إِلَى قَرَابَتِهِ، ثُمَّ إِلَى مَوَالِيهِ، ثُمَّ إِلَى جِيرَانِهِ ثُمَّ إِلَى أَهْلِ مِصْرِهِ أَقْرَبِهِمْ مَنْزِلًا إِلَى الْوَاقِفِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ هِلَالُ بْنُ يَحْيَى الرَّازِيُّ ; وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى الْكُلُّ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ; لِأَنَّهُ إِذَا صَرَفَ الْكُلَّ إِلَيْهِمْ دَائِمًا وَقَدُمَ الْعَهْدُ رُبَّمَا اتَّخَذُوهُ مِلْكًا لِأَنْفُسِهِمْ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُعْطَى كُلُّ فَقِيرٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ; لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ فَأَشْبَهَتِ الزَّكَاةَ، وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ إِذَا قَالَ عَلَى فُقَرَاءِ قَرَابَتِهِ لِأَنَّهُ كَالْوَصِيَّةِ. وَإِذَا وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ يَدْخُلُ فِيهِ وَلَدُ صُلْبِهِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ الْمَوْجُودِينَ يَوْمَ الْوَقْفِ وَبَعْدَهُ، وَيَشْتَرِكُ الْبَطْنَانِ فِي الْغَلَّةِ، وَلَا يَدْخُلُ مَنْ كَانَ أَسْفَلَ مِنْ هَذَيْنِ الْبَطْنَيْنِ لِأَنَّهُ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ ; وَفِي دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ رِوَايَتَانِ تُذْكَرُ فِي الْوَصَايَا - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. وَلَوْ قَالَ: عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي وَأَوْلَادِهِمْ تَدْخُلُ الْبُطُونُ كُلُّهَا وَإِنْ سَفُلُوا، الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَوْلَادَهُمْ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَوْلَادِي يَدْخُلُ فِيهِ الْبُطُونُ كُلُّهَا لِعُمُومِ اسْمِ الْأَوْلَادِ، وَلَكِنْ يُقَدَّمُ الْبَطْنُ الْأَوَّلُ فَإِذَا انْقَرَضَ فَالثَّانِي، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ يَشْتَرِكُ جَمِيعُ الْبُطُونِ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ قَرِيبُهُمْ وَبَعِيدُهُمْ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ صِلَةُ أَوْلَادِهِ وَبِرُّهُمْ، وَالْإِنْسَانُ يَقْصِدُ صِلَةَ وَلَدِهِ لِصُلْبِهِ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ إِيَّاهُ أَكْثَرُ وَهُمْ إِلَيْهِ أَقْرَبُ فَكَانَ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُهُ أَرْجَحَ، ثُمَّ النَّافِلَةُ قَدْ يَخْدُمُونَ الْجَدَّ فَكَانَ قَصْدُ صِلَتِهِمْ أَكْثَرَ، وَمَنْ عَدَا هَذَيْنِ قَلَّ مَا يُدْرِكُ الرَّجُلُ خِدْمَتَهُمْ فَيَكُونُ قَصْدُهُ بِرَّهُمْ وَصِلَتَهُمْ لِنِسْبَتِهِمْ إِلَيْهِ لَا لِخِدْمَتِهِمْ لَهُ، وَهُمْ فِي النِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ فَاسْتَوَوْا فِي غَلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ. وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ قَرَابَتِهِ فَمَنْ أَثْبَتَ الْقَرَابَةَ وَالْفَقْرَ بِالْبَيِّنَةِ يَسْتَحِقُّ وَإِلَّا فَلَا، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْقَرَابَةِ إِنْ لَمْ يُفَسِّرُوهَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِتَنَوُّعِ الْقَرَابَةِ وَاخْتِلَافِهَا، كَمَا إِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثٌ لَا تُقْبَلُ مَا لَمْ يُفَسِّرُوا جِهَةَ الْإِرْثِ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْفَقْرِ لَا تُسْمَعُ مَا لَمْ يَقُلِ الشُّهُودُ: إِنَّهُ فَقِيرٌ مُعْدَمٌ لَا نَعْلَمُ لَهُ مَالًا وَلَا أَحَدًا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ; لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ نَفَقَةٌ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَا حَظَّ لَهُ فِي هَذَا الْوَقْفِ كَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ النَّفَقَةَ فَيَصِيرُونَ بِهَا أَغْنِيَاءَ، وَمَنْ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ إِلَّا بِقَضَاءٍ كَالْإِخْوَةِ وَنَحْوِهِمْ لَهُ حَظٌّ فِي هَذَا الْوَقْفِ، وَالْقَضَاءُ بِفَقْرِهِ فِي الْوَقْفِ لَا يَكُونُ قَضَاءً بِفَقْرِهِ فِي حَقِّ الدَّيْنِ، وَالْقَضَاءُ لِفَقْرِهِ فِي حَقِّ الدَّيْنِ قَضَاءٌ بِفَقْرِهِ فِي حَقِّ الْوَقْفِ ; لِأَنَّ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَخَادِمٌ وَعُرُوضُ الْكِفَايَةِ فَقِيرٌ فِي حَقِّ الْوَقْفِ دُونَ الدَّيْنِ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَقْرَبِ قَرَابَتِي فَبِنْتُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] بِنْتِ الْبِنْتِ أَوْلَى مِنَ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ ; لِأَنَّهَا مِنْ صُلْبِهِ وَالْأُخْتُ مِنْ صُلْبِ أَبِيهِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْإِرْثُ. 1 - فَصْلٌ لَا تَجُوزُ إِجَارَةُ الْوَقْفِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُدَّةِ الَّتِي شَرَطَهَا الْوَاقِفُ ; لِأَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُ شَرْطِ الْوَاقِفِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ أَخْرَجَهُ بِشَرْطٍ مَعْلُومٍ وَلَا يَخْرُجُ إِلَّا بِشَرْطِهِ، فَإِنْ لَمْ يَشْرُطْ مُدَّةً فَالْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا: يَجُوزُ إِجَارَتُهُ أَيَّ مُدَّةٍ كَانَتْ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ لِئَلَّا يُتَّخَذَ مِلْكًا بِطُولِ الْمُدَّةِ فَتَنْدَرِسَ سِمَةُ الْوَقْفِيَّةِ وَيَتَّسِمَ بِسِمَةِ الْمِلْكِيَّةِ لِكَثْرَةِ الظَّلَمَةِ فِي زَمَانِنَا وَتَغَلُّبِهِمْ وَاسْتِحْلَالِهِمْ، وَقِيلَ: يَجُوزُ فِي الضِّيَاعِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَفِي غَيْرِ الضِّيَاعِ سَنَةً وَهُوَ الْمُخْتَارُ ; لِأَنَّهُ لَا يُرْغَبُ فِي الضِّيَاعِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا تَجُوزُ إِجَارَتُهُ إِلَّا بِأَجْرِ الْمِثْلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْفُقَرَاءِ، فَلَوْ آجَرَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ ثُمَّ ازْدَادَتْ لِكَثْرَةِ الرَّغَبَاتِ لَا تَنْقُضُ الْإِجَارَةُ ; لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَجْرُ الْمِثْلِ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إِجَارَةُ الْوَقْفِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ أَوْ نَائِبًا عَنِ الْقَاضِي، وَإِذَا آجَرَهُ الْقَاضِي أَوْ نَائِبُهُ أَوِ الْوَلِيُّ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ ; لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ عَنِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ، وَالْعُقُودُ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْوَكِيلِ. وَلَوْ سَكَنَهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ إِنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ السُّكْنَى لَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَرَطَ الْغَلَّةَ لَهُ، قِيلَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَهُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا غَيْرَهُ بِالْإِجَارَةِ فَهُوَ أَوْلَى، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا الْقَيِّمُ مِنْ غَيْرِهِ وَيُعْطِيَهُ الْأُجْرَةَ، وَلَا يَجُوزُ إِعَارَةُ الْوَقْفِ وَإِسْكَانُهُ لِأَنَّ فِيهِ إِبْطَالَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَلَا يَصِحُّ رَهْنُهُ فَإِنْ سَكَنَهُ الْمُرْتَهِنُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُتَوَلِّي مَنْزِلًا مَوْقُوفًا فَسَكَنَهُ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ فَسَخَ الْبَيْعَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَجْرُ مِثْلِهِ وَالْفَتْوَى فِي غَصْبِ عَقَارِ الْوَقْفِ وَإِتْلَافِ مَنَافِعِهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَوِ اسْتَدَانَ الْقَيِّمُ لِلْخَرَاجِ وَالْجِنَايَاتِ إِنْ أَمَرَهُ الْوَاقِفُ بِذَلِكَ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهُ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يَأْمُرَهُ بِالِاسْتِدَانَةِ ثُمَّ يَرْجِعَ فِي الْغَلَّةِ. قَيِّمٌ اشْتَرَى مِنْ غَلَّةِ الْمَسْجِدِ حَانُوتًا لِلْمَسْجِدِ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ وَلَيْسَ بِوَقْفٍ ; لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَقْفِ تَعْتَمِدُ الشَّرَائِطَ وَلَمْ تُوجَدْ فِيهِ. رَجُلٌ وَقَفَ عَلَى سَاكِنِي مَدْرَسَةٍ كَذَا مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فَسَكَنَهَا مُتَعَلِّمٌ لَا يَبِيتُ فِيهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ يَأْوِي فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهَا، وَلَهُ فِيهِ آلَةُ السُّكْنَى لِأَنَّهُ يُعَدُّ سَاكِنًا فِيهِ، وَلَوِ اشْتَغَلَ بِاللَّيْلِ بِالْحِرَاسَةِ وَبِالنَّهَارِ يُقَصِّرُ فِي التَّعْلِيمِ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِعَمَلٍ آخَرَ لَا يُعَدُّ بِهِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَغِلْ وَهُوَ يُعَدُّ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ حَلَّ. وَلَوْ وَقَفَ عَلَى سَاكِنِي مَدْرَسَةٍ كَذَا وَلَمْ يَقُلْ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فَهُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّعَارُفَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ طَلَبَةُ الْعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَمَنْ كَانَ يَكْتُبُ الْفِقْهَ لِنَفْسِهِ وَلَا يَتَعَلَّمُ فَلَهُ الْوَظِيفَةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 كِتَابُ الْهِبَةِ وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، فَإِنْ قَبَضَهَا فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَازَ، وَبَعْدَ الِافْتِرَاقِ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ مُتَعَلِّمٌ، وَإِنْ كَتَبَ لِغَيْرِهِ بِأُجْرَةٍ لَا يَحِلُّ لَهُ، وَإِنْ خَرَجَ مِنَ الْمِصْرِ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا لَا وَظِيفَةَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَاكِنًا، وَإِنْ خَرَجَ مَا دُونَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الْقُرَى وَأَقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلَا وَظِيفَةَ لَهُ، فَإِنْ أَقَامَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ كَطَلَبِ الْقُوتِ وَنَحْوِهِ فَلَهُ الْوَظِيفَةُ، وَإِنْ خَرَجَ لِلتَّنَزُّهِ لَا يَحِلُّ لَهُ. [كِتَابُ الْهِبَةِ] وَهِيَ الْعَطِيَّةُ الْخَالِيَةُ عَنْ تَقَدُّمِ الِاسْتِحْقَاقِ، يُقَالُ: وَهَبْتُهُ وَوَهَبْتُ مِنْهُ، قَالَ - تَعَالَى -: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] ) وَالِاتِّهَابُ: قَبُولُ الْهِبَةِ، وَلِهَذَا شُرِطَ فِيهَا الْقَبْضُ ; لِأَنَّ تَمَامَ الْإِعْطَاءِ بِالدَّفْعِ وَالتَّسْلِيمِ. وَهُوَ أَمْرٌ مَنْدُوبٌ وَصَنِيعٌ مَحْمُودٌ مَحْبُوبٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَهَادُوا تَحَابُّوا " وَفِي رِوَايَةٍ: " تَهَابَوْا» وَقَبُولُهَا سُنَّةٌ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قَبِلَ هَدِيَّةَ الْعَبْدِ "، وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ: «هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ طَعَامٌ لَقَبِلْتُ، وَلَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ» ، وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] أَيْ طَابَتْ نُفُوسُهُنَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَوَهَبْنَهُ مِنْكُمْ {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وَهِيَ نَوْعَانِ: تَمْلِيكٌ، وَإِسْقَاطٌ، وَعَلَيْهَا الْإِجْمَاعُ. قَالَ: (وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ) أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْهُمَا. وَأَمَّا الْقَبْضُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَوْ ثَبَتَ بِدُونِهِ لَلَزِمَ الْمُتَبَرِّعَ شَيْءٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ التَّسَلُّمُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّهُ لَا إِلْزَامَ لِلْمَيِّتِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ وَلَا لِلْوَارِثِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِالتَّبَرُّعِ ضَعِيفٌ لَا يَلْزَمُ، وَمِلْكُ الْوَاهِبِ كَانَ قَوِيًّا فَلَا يَلْزَمُ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا «لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ إِلَّا مَقْبُوضَةً مَحُوزَةً» ، وَالْمُرَادُ الْمِلْكُ لِأَنَّ الْجَوَازَ ثَابِتٌ بِدُونِهِ إِجْمَاعًا. قَالَ: (فَإِنْ قَبَضَهَا فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَازَ، وَبَعْدَ الِافْتِرَاقِ يَفْتَقِرُ إِلَى إِذْنِهِ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْوَجْهَيْنِ إِلَّا بِإِذْنِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّمْلِيكَ بِالْهِبَةِ تَسْلِيطٌ عَلَى الْقَبْضِ وَإِذْنٌ لَهُ فَصَارَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَأْذُونًا فِي الْقَبْضِ ضِمْنًا لِلْإِيجَابِ وَاقْتِضَاءً، وَالْإِيجَابُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ فَكَذَا مَا ثَبَتَ ضِمْنًا لَهُ وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا نَهَاهُ عَنِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ; لِأَنَّ الثَّابِتَ ضِمْنًا لَا يُعَارِضُ الصَّرِيحَ. أَوْ نَقُولُ: النَّهْيُ رُجُوعٌ وَالْقَبْضُ كَالْقَبُولِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ مَلَكَهَا بِمُجَرَّدِ الْهِبَةِ، وَهِبَةُ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ تَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَيَمْلِكُ الصَّغِيرُ الْهِبَةَ بِقَبْضِ وَلِيِّهِ وَأُمِّهِ وَبِقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ: وَهَبْتُ وَنَحَلْتُ وَأَعْطَيْتُ وَأَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ وَأَعْمَرْتُكَ، وَحَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إِذَا نَوَى الْهِبَةَ، وَكَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ، وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ جَائِزَةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَبْلَ الْقَبْضِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ) كَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْغَاصِبِ (مَلَكَهَا بِمُجَرَّدِ الْهِبَةِ) ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ قَبَضَهَا أَمَانَةً فَيَنُوبُ عَنِ الْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ ضَمَانًا فَهُوَ أَقْوَى مِنْ قَبْضِ الْهِبَةِ، وَالْأَقْوَى يَنُوبُ عَنِ الْأَدْنَى، وَلَوْ وَهَبَ مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا فَقَالَ: قَبَضْتُهُ صَارَ قَابِضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَعَلَ تَمَكُّنَهُ مِنَ الْقَبْضِ كَالتَّخْلِيَةِ فِي الْبَيْعِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بُدَّ مِنَ الْقَبْضِ بِيَدِهِ، وَلَوْ قَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْهِبَةَ وَلَمْ يَقُلْ: قَبِلْتُ صَحَّتِ الْهِبَةُ. قَالَ: (وَهِبَةُ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ تَتِمُّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ) ; لِأَنَّهَا فِي يَدِ الْأَبِ وَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُ لَهُ فَكَانَ قَبْضُهُ كَقَبْضِهِ، وَكُلُّ مَنْ يَعُولُهُ فِي هَذَا كَالْأَبِ، وَلَوْ وَهَبَ لِابْنِهِ الْكَبِيرِ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِهِ ; لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يَقْبِضُ لَهُ. قَالَ: (وَيَمْلِكُ الصَّغِيرُ الْهِبَةَ بِقَبْضِ وَلَيِّهِ وَأُمِّهِ وَبِقَبْضِهِ بِنَفْسِهِ) مَعْنَاهُ: إِذَا وَهَبَهُ أَجْنَبِيٌّ فَالْوَلِيُّ كَالْأَبِ وَوَصِّيهِ وَالْجَدِّ وَوَصِّيهِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَ الْأَبِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ كَاللَّقِيطِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَالْأُمُّ لَهَا وِلَايَةُ حِفْظِهِ، وَهَذَا مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهُ بِدُونِ الْمَالِ فَاحْتَاجَتْ إِلَى وِلَايَةِ التَّحْصِيلِ وَهَذَا مِنْهُ. وَأَمَّا قَبْضُهُ بِنَفْسِهِ فَمَعْنَاهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ نَافِعٌ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَجُوزُ قَبْضُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ مَا زُفَّتْ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ الْأَبَ فَوَّضَ أَمْرَهَا إِلَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَ الزِّفَافِ لَا قَبْلَهُ حَتَّى يَمْلِكَهُ بِحَضْرَةِ الْأَبِ. قَالَ: (وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ: وَهَبْتُ) ; لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ (وَنَحَلْتُ) لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا فِيهِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَكُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَهُ هَكَذَا» (وَأَعْطَيْتُ) صَرِيحٌ أَيْضًا (وَأَطْعَمْتُكَ هَذَا الطَّعَامَ) ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ صَرِيحٌ فِي الْهِبَةِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمَطْعُومِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْعِمُهُ إِلَّا بِالْأَكْلِ وَلَا أَكْلَ إِلَّا بِالْمِلْكِ، وَلَوْ قَالَ: أَطْعَمْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ. فَهُوَ عَارِيَّةٌ ; لِأَنَّهَا لَا تُطْعَمُ (وَأَعْمَرْتُكَ) هَذَا الشَّيْءَ وَجَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ عُمْرَى، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ» (وَحَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إِذَا نَوَى الْهِبَةَ) ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْهِبَةِ، يُقَالُ: حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسٍ: أَيْ وَهَبَهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عَقْدُ الْهِبَةِ (وَكَسَوْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ) قَالَ - تَعَالَى -: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] أَرَادَ تَمْلِيكَهُمُ الْكِسْوَةَ، وَيُقَالُ: كَسَاهُ ثَوْبًا إِذَا وَهَبَهُ، وَلَوْ قَالَ: مَنَحْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَهِيَ عَارِيَةٌ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْهِبَةَ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَهُوَ هِبَةٌ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَطْعُومِ وَالْمَشْرُوبِ. قَالَ: (وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ جَائِزَةٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 وَفِيمَا يُقْسَمُ لَا تَجُوزُ (ف) ، فَإِنْ قَسَمَ وَسَلَّمَ جَازَ كَسَهْمٍ فِي دَارٍ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ، وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ، وَالتَّمْرِ عَلَى النَّخْلِ، وَالزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ، وَلَوْ وَهَبَهُ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ، أَوْ سَمْنًا فِي لَبَنٍ، أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ فَاسْتَخْرَجَهُ وَسَلَّمَهُ لَا يَجُوزُ، وَلَوْ وَهَبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ جَازَ، وَبِالْعَكْسِ لَا يَجُوزُ (سم) وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرَيْنِ جَازَ، وَعَلَى غَنِيَّيْنِ لَا يَجُوزُ، وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إِلَّا حَمْلَهَا صَحَّتِ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَفِيمَا يُقَسَّمُ لَا تَجُوزُ) ; لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ فِي الْهِبَةِ لِمَا رَوَيْنَا وَأَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْمُشَاعِ، وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ لَكَانَ لَهُ إِجْبَارُ الْوَاهِبِ عَلَى الْقِسْمَةِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ فَيَكُونُ إِضْرَارًا بِهِ، وَمَا لَا يُقَسَّمُ الْمُمْكِنُ فِيهِ الْقَبْضُ النَّاقِصُ فَيُكْتَفَى بِهِ ضَرُورَةً، وَلَا يَلْزَمُ ضَرَرُ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِسْمَةِ بِبَقَاءِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْمُهَايَأَةِ. قُلْنَا: الْمُهَايَأَةُ فِي الْمَنَافِعِ وَلَمْ يَتَبَرَّعْ بِهَا؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ صَادَفَتِ الْعَيْنَ لَا الْمَنَافِعَ. قَالَ: (فَإِنْ قَسَمَ وَسَلَّمَ جَازَ) ; لِأَنَّ بِالْقَبْضِ لَمْ يَبْقَ شُيُوعٌ وَذَلِكَ (كَسَهْمٍ فِي دَارٍ وَ) مِثْلُهُ (اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفِ عَلَى الظَّهْرِ وَالتَّمْرِ عَلَى النَّخْلِ وَالزَّرْعِ فِي الْأَرْضِ) ; لِأَنَّ اتِّصَالَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالشُّيُوعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَمْنَعُ الْقَبْضَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْقَبْضِ. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَهُ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ، أَوْ سَمْنًا فِي لَبَنٍ، أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ فَاسْتَخْرَجَهُ وَسَلَّمَهُ لَا يَجُوزُ) ; لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْدُومٌ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ فَيَحْتَاجُ إِلَى عَقْدٍ جَدِيدٍ أَمَّا الْمُشَاعُ فَمَحَلُّ التَّمْلِيكِ حَتَّى جَازَ بَيْعُهُ دُونَ ذَلِكَ. قَالَ: (وَلَوْ وَهَبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ جَازَ، وَبِالْعَكْسِ لَا يَجُوزُ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُمَا سَلَّمَاهَا وَالْمَوْهُوبَ لَهُ قَبَضَهَا جُمْلَةً وَلَا شُيُوعَ وَلَا ضَرَرَ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: يَصِحُّ أَيْضًا ; لِأَنَّهَا هِبَةٌ وَاحِدَةٌ وَالتَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا شُيُوعَ، وَصَارَ كَالرَّهْنِ مِنِ اثْنَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَهَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكُ فِي النِّصْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ، فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ فِي النِّصْفِ فَكَانَ تَمْلِيكًا لِلنِّصْفِ وَأَنَّهُ شَائِعٌ، وَأَمَّا الرَّهْنُ فَالْمُسْتَحَقُّ فِيهِ الْحَبْسُ، وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ كَامِلًا وَتَمَامُهُ مَرَّ فِي الرَّهْنِ. قَالَ: (وَلَوْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرَيْنِ جَازَ) وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ لَهُمَا (وَعَلَى غَنِيَّيْنِ لَا يَجُوزُ) وَقَالَا: تَجُوزُ فِي الْغَنِيَّيْنِ أَيْضًا لِمَا مَرَّ وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إِعْطَاءَ الْفَقِيرِ يُرَادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ - تَعَالَى - فَهُوَ وَاحِدٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الصَّدَقَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ فَقِيرًا وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، وَالْإِعْطَاءُ لِلْغَنِيِّ يُرَادُ بِهِ وَجْهُ الْغَنِيِّ وَهُمَا اثْنَانِ فَكَانَ مُشَاعًا، وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّ هِبَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ. قَالَ: (وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إِلَّا حَمْلَهَا صَحَّتِ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ، وَالْهِبَةُ لَا تَصِحُّ فِي الْحَمْلِ فَكَذَا الِاسْتِثْنَاءُ فَكَانَ شَرْطًا فَاسِدًا ; وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ شَرْطَ الْمُعَمِّرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 فَصْلٌ وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيمَا يَهَبُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ (ف) وَيُكْرَهُ، فَإِنْ عَوَّضَهُ أَوْ زَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا رُجُوعَ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» ، وَلَوْ دَبَّرَ الْجَنِينَ ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَ ; وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُدَبَّرَ مَمْلُوكُ الْوَاهِبِ وَأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْأُمِّ اتِّصَالَ خِلْقَةٍ، فَمَنَعَ صِحَّةَ الْقَبْضِ كَالْمُشَاعِ، وَفِي الْحُرِّ لَمْ يَبْقَ مِلْكًا لَهُ، فَالْمَوْهُوبُ غَيْرُ مَشْغُولٍ بِحَقِّهِ وَلَا مُتَّصِلٍ بِهِ فَلَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، وَلَوْ وَهَبَهُ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا أَوْ يَسْتَوْلِدَهَا، أَوْ عَلَى أَنْ يُدَبِّرَهَا، أَوْ دَارًا عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا شَيْئًا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ، ; لِأَنَّهَا شُرُوطٌ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَتْ فَاسِدَةً، وَأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ الْهِبَةَ لِمَا مَرَّ. [فصل الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ] فَصْلٌ الْمَعَانِي الْمَانِعَةُ مِنَ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ: الْمَحْرَمِيَّةُ مِنَ الْقَرَابَةِ، وَالزَّوْجِيَّةُ، وَالْمُعَاوَضَةُ، وَخُرُوجُهَا مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَحُدُوثُ الزِّيَادَةِ أَوِ التَّغْيِيرِ فِي عَيْنِهَا، وَمَوْتُ الْوَاهِبِ أَوِ الْمَوْهُوبِ لَهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. قَالَ: (وَيَجُوزُ الرُّجُوعُ فِيمَا يَهَبُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا» أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ عَنْهَا (وَيُكْرَهُ) ذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَسَاسَةِ وَالدَّنَاءَةِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» شَبَّهَهُ لَهُ لِخَسَاسَةِ الْفِعْلِ وَدَنَاءَةِ الْفَاعِلِ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إِلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ» أَيْ لَا يَحِلُّ لَهُ الرُّجُوعُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًى إِلَّا الْوَالِدُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، فَهَذَا الْحَمْلُ أَوْلَى جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. قَالَ: (فَإِنْ عَوَّضَهُ أَوْ زَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً) فِي نَفْسِهَا (أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ خَرَجَتْ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَا رُجُوعَ) أَمَّا إِذَا عَوَّضَهُ فَلِمَا رَوَيْنَا مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْهِبَةِ التَّعْوِيضُ عَادَةً وَقَدْ حَصَلَ. وَأَمَّا الزِّيَادَةُ كَالسِّمَنِ وَالْكِبَرِ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَالصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ مَعَ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَرَدَ عَلَيْهَا. وَأَمَّا مَوْتُ الْوَاهِبِ فَلَا سَبِيلَ لِلْوَارِثِ عَلَيْهَا إِذْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ مِنَ الْعَقْدِ. وَأَمَّا مَوْتُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِلِانْتِقَالِ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَالتَّمْلِيكُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ وَصَارَ كَمَا إِذَا انْتَقَلَ مِنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَأَمَّا إِذَا خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْرَجَهَا بِتَسْلِيطِهِ فَلَا يَمْلِكُ نَقْضَهُ كَالْوَكِيلِ، وَنُقْصَانُ الْمَوْهُوبِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِأَنِ انْتَقَصَتْ قِيمَتُهُ أَوِ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ أَوْ وَلَدَتِ الْجَارِيَةُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 وَلَا رُجُوعَ فِيمَا يَهَبُهُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ زَوْجٍ، وَلَوْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ خُذْ هَذَا بَدَلًا عَنْ هِبَتِكَ أَوْ عِوَضَهَا أَوْ مُقَابِلَهَا أَوْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ مُتَبَرِّعًا فَقَبَضَهُ سَقَطَ الرُّجُوعُ، وَلَوِ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ رَجَعَ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِنِصْفِ الْعِوَضِ، وَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْعِوَضِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ (ز) ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا وَلَدُهَا، وَلَوْ وَهَبَهُ عَبْدًا فَشَبَّ فَازْدَادَتْ قِيمَتُهُ ثُمَّ شَاخَ فَنَقَصَتْ لَا يَرْجِعُ فِيهِ لِأَنَّهُ ازْدَادَ فِي بَدَنِهِ وَطَالَ فِي جُثَّتِهِ ثُمَّ انْتَقَصَ بِوَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ شَيْخُوخَتُهُ فَلَا يَرْجِعُ. قَالَ: (وَلَا رُجُوعَ فِيمَا يَهَبُهُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ زَوْجٍ) ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ صِلَةُ الرَّحِمِ وَزِيَادَةُ الْأُلْفَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وَفِي الرُّجُوعِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَالْأُلْفَةِ ; لِأَنَّهَا تُورِثُ الْوَحْشَةَ وَالنُّفْرَةَ فَلَا يَجُوزُ صِيَانَةً لِلرَّحِمِ عَنِ الْقَطِيعَةِ وَإِبْقَاءً لِلزَّوْجِيَّةِ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ لَمْ يُرْجَعْ فِيهَا» ، وَسَوَاءٌ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لِشُمُولِ الْمَعْنَى، وَلَوْ وَهَبَهَا ثُمَّ أَبَانَهَا لَمْ يَرْجِعْ، وَلَوْ وَهَبَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَهُ الرُّجُوعُ، وَالْمُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَإِنْ وَهَبَ لِأَخِيهِ وَهُوَ عَبْدٌ لَهُ الرُّجُوعُ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَهَبَ لِعَبْدِ أَخِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: لَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ وَقَعَ لِلْمَوْلَى فَكَانَ هِبَةً لِلْأَخِ، وَلَهُ أَنَّ الْهِبَةَ وَقَعَتْ لِلْعَبْدِ حَتَّى اعْتَبَرَ قَبُولَهُ وَرَدَّهُ، وَالْمِلْكُ يَقَعُ لَهُ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى مَوْلَاهُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَدْيُونًا لَا يَنْتَقِلُ إِلَى مَوْلَاهُ وَلَا صِلَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ: خُذْ هَذَا بَدَلًا عَنْ هِبَتِكَ أَوْ عِوَضَهَا أَوْ مُقَابِلَهَا أَوْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ مُتَبَرِّعًا فَقَبَضَهُ سَقَطَ الرُّجُوعُ) ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: خُذْ هَذَا مَكَانَ هِبَتِكَ، أَوْ ثَوَابًا مِنْهَا، أَوْ كَافَأْتُكَ بِهِ، أَوْ جَازَيْتُكَ عَلَيْهِ، أَوْ أَثَبْتُكَ، أَوْ نَحَلْتُكَ هَذَا عَنْ هِبَتِكَ، أَوْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْكَ بَدَلًا عَنْ هِبَتِكَ فَهَذَا كُلُّهُ عِوَضٌ وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْهِبَةِ، يَصِحُّ بِمَا تَصِحُّ بِهِ الْهِبَةُ، وَيَبْطُلُ بِمَا تَبْطُلُ بِهِ، وَيَتَوَقَّفُ الْمِلْكُ فِيهِ عَلَى الْقَبْضِ وَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يُضِفِ الْعِوَضَ إِلَى الْهِبَةِ بِأَنْ أَعْطَاهُ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ عِوَضًا عَنْ هِبَتِكَ لَا يَكُونُ عِوَضًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّجُوعُ، فَإِنْ عَوَّضَهُ عَنْ جَمِيعِ الْهِبَةِ بَطَلَ الرُّجُوعُ فِي الْجَمِيعِ قَلَّ الْعِوَضُ أَوْ كَثُرَ، وَإِنْ عَوَّضَهُ عَنْ نِصْفِهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّ الْمَانِعَ التَّعْوِيضُ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ. قَالَ: (وَلَوِ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ) لِأَنَّهُ مَا عَوَّضَهُ بِهَذَا الْعِوَضِ إِلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعَ الْمَوْهُوبِ وَلَمْ يُسَلِّمْ إِلَّا نَصِفَهُ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَا عَوَّضَهُ (وَإِنِ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْعِوَضِ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ) وَقَالَ زُفَرُ: يَرْجِعُ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْمَوْهُوبِ اعْتِبَارًا بِالْعِوَضِ الْآخَرِ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ ظَهَرَ أَنَّهُ مَا عَوَّضَهُ إِلَّا بِالْبَاقِي وَهُوَ يَصْلُحُ عِوَضًا عَنِ الْكُلِّ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَّا أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِي ثُمَّ يَرْجِعُ ; لِأَنَّهُ مَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ إِلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعَ الْعِوَضِ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَلَهُ رَدُّهُ، وَإِذَا رَدَّهُ بَطَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 وَإِنِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْعِوَضِ رَجَعَ بِالْهِبَةِ، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يُرَاعَى فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالْبَيْعِ بَعْدَهُ، وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَإِنْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَضْمَنْ. فَصْلٌ الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِلْمُعْمَرِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ دَارَهُ لَهُ عُمْرَهُ، فَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَيْهِ، وَالرُّقْبَى بَاطِلَةٌ (س) ، وَهِيَ أَنْ تَقُولَ: إِنْ مِتَّ فَهِيَ لِي، وَإِنْ مِتُّ فَهِيَ لَكَ.   [الاختيار لتعليل المختار] التَّعْوِيضُ فَعَادَ حَقُّ الرُّجُوعِ. قَالَ: (وَإِنِ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْعِوَضِ رَجَعَ بِالْهِبَةِ) لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ يُرَاعَى فِيهَا حُكْمُ الْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ) فَلَا يَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ (وَ) حُكْمُ (الْبَيْعِ بَعْدَهُ) رِعَايَةً لِلَّفْظِ وَالْمَعْنَى. وَصُورَتُهُ: أَنْ يَهَبَهُ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهُ ثَوْبًا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِامْتِنَاعُ مَا لَمْ يَتَقَابَضَا كَمَا فِي الْهِبَةِ، فَإِذَا تَقَابَضَا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ يَرُدَّانِ بِالْعَيْبِ وَتَجِبُ الشُّفْعَةُ، وَإِنِ اسْتَحَقَّ مَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا رَجَعَ بِعِوَضِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا، وَبِقِيمَتِهِ إِنْ كَانَ هَالِكًا. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ) ; لِأَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَلَهُ الِامْتِنَاعُ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ لِلْقَاضِي، وَإِنْ تَرَاضَيَا فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ فَيَجُوزُ (وَإِنْ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ) بِالرَّدِّ (لَمْ يَضْمَنْ) ; لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ حَيْثُ قَبَضَهُ لَا عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ. [فصل الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى] فَصْلٌ (الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِلْمُعْمَرِ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ) مِنْ (بَعْدِ مَمَاتِهِ) وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ (وَهِيَ أَنْ يَجْعَلَ دَارَهُ لَهُ عُمُرَهُ، فَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَيْهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ شَرْطَ الْمُعْمِرِ» ، وَلَوْ قَالَ: دَارِي لَكَ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ نُحْلَى سُكْنَى أَوْ سُكْنَى صَدَقَةً أَوْ صَدَقَةً عَارِيَةً أَوْ عَارِيَةً هِبَةً أَوْ هِبَةً سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةً فَهِيَ عَارِيَةٌ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ السُّكْنَى حَقِيقَةٌ فِي الْعَارِيَةِ ; لِأَنَّ الْعَارِيَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَتَحْتَمِلُ الْهِبَةَ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى، وَلَوْ قَالَ: هِبَةٌ تَسْكُنُهَا فَهِيَ هِبَةٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ سُكْنَى. قَالَ: (وَالرُّقْبَى بَاطِلَةٌ، وَهِيَ أَنْ تَقُولَ) دَارِي لَكَ رُقْبَى، وَمَعْنَاهُ: (إِنْ مِتَّ فَهِيَ لِي، وَإِنْ مِتُّ فَهِيَ لَكَ) ، كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ الْآخَرِ لِمَا رَوَى شُرَيْحٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَجَازَ الْعُمْرَى وَرَدَّ الرُّقْبَى» وَمُرَادُهُ الرُّقْبَى مِنَ التَّرَقُّبِ، أَمَّا مِنَ الْإِرْقَابِ وَمَعْنَاهُ رَقَبَةُ دَارِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِيهَا، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ فَهُوَ عَلَى جِنْسِ مَالِ الزَّكَاةِ (ز) ، وَبِمِلْكِهِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُمْسِكُ مَا يُنْفِقُهُ حَتَى يَكْتَسِبَ ثُمَ يَتَصَدَّقُ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ.   [الاختيار لتعليل المختار] لَكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ مَحْمَلُ حَدِيثِ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى» إِلَّا أَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَلَا تَثْبُتُ الْهِبَةُ بِالشَّكِّ فَتَكُونَ عَارِيَةً. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: دَارِي لَكَ تَمْلِيكٌ، وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ لَا يُبْطِلُ الْهِبَةَ. وَلَهُمَا حَدِيثُ شُرَيْحٍ، وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْمِلْكِ بِالْخَطَرِ فَلَا يَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ يَكُونُ عَارِيَةً عِنْدَهُمَا ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَالِي أَوْ كُلُّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ أَوْ جَمِيعُ مَا أَمْلِكُهُ لِفُلَانٍ فَهُوَ هِبَةٌ ; لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَصِيرُ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِتَمْلِيكِهِ، وَلَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَا يُعْرَفُ بِي أَوْ يُنْسَبُ إِلَيَّ لِفُلَانٍ فَهُوَ إِقْرَارٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَهُوَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ يُعْرَفُ بِهِ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ) فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ (إِلَّا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِيهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ، وَكَذَا الْهِبَةُ لِلْفَقِيرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ، وَكَذَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّهُ قَدْ يَطْلُبُ مِنْهُ الثَّوَابَ بِأَنْ يُعِينَهُ عَلَى النَّفَقَةِ لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَبَّرَ بِالصَّدَقَةِ عَنْهَا. قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ فَهُوَ عَلَى جِنْسِ مَالِ الزَّكَاةِ) ; لِأَنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَإِيجَابُ اللَّهِ - تَعَالَى - الصَّدَقَةَ الْمُضَافَةَ إِلَى الْمَالِ يَتَنَاوَلُ أَمْوَالَ الزَّكَاةِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] الْآيَةَ، فَكَذَا إِيجَابُ الْعَبْدِ، فَيَتَصَدَّقُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ وَالْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ الْعُشْرِيَّةِ وَالْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرِ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الزَّكَاةِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْوَالَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَالِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ فَهُوَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي الِاسْتِحْسَانِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ وَالْمِلْكِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ النَّسَفِيُّ عَنْهُمَا. قَالَ: وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: لَفْظَةُ الْمِلْكِ أَعَمُّ عُرْفًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا أَضَافَ الصَّدَقَةَ إِلَى الْمَالِ لَا إِلَى الْمِلْكِ وَذَلِكَ مُوجِبُ تَخْصِيصِ الْمَالِ فَبَقِيَ الْمِلْكُ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِوَى مَالِ الزَّكَاةِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ. (وَيُمْسِكُ مَا يُنْفِقُهُ حَتَّى يَكْتَسِبَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ) ; لِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ احْتَاجَ أَنْ يَسْأَلَ أَوْ يَمُوتَ جُوعًا وَأَنَّهُ ضَرَرٌ فَاحِشٌ، فَيُمْسِكُ قَدْرَ حَاجَتِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَمْ نُقَدِّرْهُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي النَّفَقَاتِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُمْسِكُ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ فِي نَفَقَتِهِ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَدَاءِ مِثْلِهِ، وَلَوْ قَالَ: دَارِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا أَجْزَأَهُ، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: كُلُّ مَا يَصِلُ إِلَيَّ مِنْ مَالِكَ فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ فَوَهَبَهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ ; لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا يَمْلِكُهُ إِلَّا بِالْأَكْلِ، وَبَعْدَ الْأَكْلِ لَا يُمْكِنُ التَّصَدُّقُ بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 كِتَابُ الْعَارِيَةِ وَهِيَ هِبَةُ الْمَنَافِعِ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا فٍيمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الْعَارِيَةِ] وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ التَّعَاوُرِ: وَهُوَ التَّدَاوُلُ وَالتَّنَاوُبُ، يُقَالُ: تَعَاوَرْنَا الْكَلَامَ بَيْنَنَا: أَيْ تَدَاوَلْنَاهُ. وَسَمَّى الْعَقْدَ بِهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَدَاوَلُونَ الْعَيْنَ وَيَتَدَافَعُونَهَا مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ. أَوْ مِنَ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ، إِلَّا أَنَّ الْعَرِيَّةَ اخْتَصَّتْ بِالْأَعْيَانِ، وَالْعَارِيَةَ بِالْمَنَافِعِ. وَسُمِّيَتْ بِهِ؛ لِتَعَرِّيهِ عَنِ الْعِوَضِ. وَهِيَ عَقْدٌ مُسْتَحَبٌّ شَرْعًا، مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَزَالُ اللَّهُ فِي عَوْنِ الْمُسْلِمِ مَا دَامَ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» . وَذَمَّ تَعَالَى عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] ، أَيِ الْعَوَارِي مِنَ الْقِدْرِ وَالْفَأْسِ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَارِيَةُ مَرْدُودَةٌ» . وَاسْتَعَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ، وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ نَوْعَانِ: بِعِوَضٍ، وَغَيْرِ عِوَضٍ. وَالْأَعْيَانُ قَابِلَةٌ لِلنَّوْعَيْنِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، فَكَذَا الْمَنَافِعُ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ. قَالَ: (وَهِيَ هِبَةُ الْمَنَافِعِ) ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: إِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُسْتَعِيرُ إِجَارَةَ مَا اسْتَعَارَ، وَلَوْ مَلَكَ الْمَنَافِعَ لَمَلَكَ إِجَارَتَهَا، وَالْأَوَّلُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَهُ أَنْ يُعِيرَ. وَلَوْ كَانَتْ إِبَاحَةً لَمَا مَلَكَ ذَلِكَ، كَمَنْ أُبِيحَ لَهُ الطَّعَامُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ، وَلِأَنَّ الْعَارِيَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ. وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزِ الْإِجَارَةُ ; لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مُؤَقَّتٌ يَنْقَطِعُ حَقُّهُ عَنْهَا إِلَى انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ، وَالْعَارِيَةُ تَمْلِيكٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقَطِعُ عَنْهَا مَتَى شَاءَ. فَلَوْ جَازَتِ الْإِجَارَةُ يَلْزَمُ الْمُعِيرُ مِنَ الضَّرَرِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلَا رَضِيَ بِهِ - فَلَا يَجُوزُ. أَوْ نَقُولُ: الْإِجَارَةُ أَقْوَى وَأَلْزَمُ مِنَ الْإِعَارَةِ، وَالشَّيْءُ لَا يَسْتَتْبِعُ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ. قَالَ: (وَلَا تَكُونُ إِلَّا فِيمَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ) . اعْلَمْ أَنَّ الْإِعَارَةَ نَوْعَانِ: حَقِيقَةٌ، وَمَجَازٌ. فَالْحَقِيقَةُ: إِعَارَةُ الْأَعْيَانِ الَّتِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ. وَالْمَجَازُ: إِعَارَةُ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إِلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ، فَيَكُونُ إِعَارَةً صُورَةً قَرْضًا مَعْنًى ; لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِهْلَاكِهِ بِبَدَلٍ، فَكَانَ تَمْلِيكًا بِبَدَلٍ وَهُوَ الْقَرْضُ. وَلَوِ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ؛ لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانَهُ، أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا حَانُوتَهُ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى مَا سَمَّى مِنَ الْمَنْفَعَةِ. وَلَا يَكُونُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وَهِيَ أَمَانَةٌ، وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ: أَعَرْتُكَ وَأَطْعَمْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ، وَأَخْدَمْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ، وَمَنَحْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ، وَحَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَةِ- إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِمَا الْهِبَةَ. وَدَارِي لَكَ سُكْنَى أَوْ سُكْنَى عُمْرَى، وَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَهَا إِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِينَ، وَلَيْسَ لَهُ إِجَارَتُهَا؛ فَإِنْ آجَرَهَا، فَهَلَكَتْ - ضَمِنَ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَرْضًا كَاسْتِعَارَةِ الْحُلِيِّ. قَالَ: (وَهِيَ أَمَانَةٌ) لَا يَضْمَنُهَا مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ» ، وَلِأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ ; لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ لُغَةً وَشَرْعًا؛ لِمَا بَيَّنَّا، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا. وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اسْتَعَارَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ، فَقَالَ: أَغَصْبًا تَأْخُذُهَا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: لَا، بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ مَضْمُونَةٌ» أَيْ وَاجِبَةُ الرَّدِّ مَضْمُونَةٌ بِمَئُونَةِ الرَّدِّ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ. قَالَ: (وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ: أَعَرْتُكَ) ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ. (وَأَطْعَمْتُكَ هَذِهِ الْأَرْضَ) ؛ لِلِاسْتِعْمَالِ فِيهِ، (وَأَخْدَمْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ) ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَبْدِ خِدْمَتُهُ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي اسْتِخْدَامِهِ. (وَمَنَحْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ، وَحَمْلَتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهِمَا الْهِبَةَ) ؛ لِمَا مَرَّ فِي الْهِبَةِ. (وَدَارِي لَكَ سُكْنَى) ; لِأَنَّ مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا لَكَ، (أَوْ سُكْنَى عُمْرَى) ، أَيْ سُكْنَاهَا لَكَ عُمُرَكَ. قَالَ: (وَلِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَهَا إِنْ لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِينَ، وَلَيْسَ لَهُ إِجَارَتُهَا) ; لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَنَافِعَ، فَيُمَلِّكُهَا غَيْرَهُ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ عَلَى مَا مَرَّ. ثُمَّ الْعَارِيَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ وَالِانْتِفَاعِ، كَمَنِ اسْتَعَارَ دَابَّةً أَوْ ثَوْبًا، وَلَمْ يُبَيِّنْ وَقْتًا مَعْلُومًا وَلَا عَيَّنَ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ - فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ، فِي أَيِّ مَنْفَعَةٍ شَاءَ. وَيُرْكِبَ وَيُلْبِسَ غَيْرَهُ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ، فَلَوْ رَكِبَ هُوَ، أَوْ لَبِسَ - لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ وَلَا يُلْبِسَهُ. وَكَذَا لَوْ رَكِبَ غَيْرُهُ لَا يَرْكَبُ هُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْإِجَارَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِيهِمَا بِأَنِ اسْتَعَارَهُ يَوْمًا؛ لِيَسْتَعْمِلَهُ بِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ وَلَا يُلْبِسَهُ غَيْرَهُ؛ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِينَ، وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهَا لِلْحَمْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ. وَكَذَا لَهُ أَنْ يُعِيرَ الْعَبْدَ وَالدَّارَ؛ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ. وَالثَّالِثُ: إِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ مُقَيَّدَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِأَنِ اسْتَعَارَهَا؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً - فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ الْحِنْطَةَ مَتَى شَاءَ. وَالرَّابِعُ: إِذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً فِي الْوَقْتِ مُطْلَقَةً فِي الِانْتِفَاعِ، بِأَنِ اسْتَعَارَ دَابَّةً يَوْمًا، وَلَمْ يُسَمِّ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا - فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ مَا شَاءَ فِي الْيَوْمِ. فَإِنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ الْوَقْتِ ضَمِنَ إِنِ انْتَفَعَ بِهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَقِيلَ: يَضْمَنُ بِمُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا - فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعِيرِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْهُ يُسْتَفَادُ، فَيَثْبُتُ بِقَدْرِ مَا أَقَرَّ بِهِ، وَمَا زَادَ فَالْمُسْتَعِيرُ مُسْتَعْمِلٌ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَيَضْمَنُ. قَالَ: (فَإِنْ آجَرَهَا، فَهَلَكَتْ - ضَمِنَ) ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَعِيرَ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ. فَإِنْ قَيَّدَهَا بِوَقْتٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ أَوْ مَكَانٍ ضَمِنَ بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ مَنْفَعَتِهَا مَا شَاءَ مَا لَمْ يُطَالِبْهُ بِالرَّدِّ. وَلَوْ أَعَارَ أَرْضَهُ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَيُكَلِّفَهُ قَلْعَهُمَا، وَإِنْ وَقَّتَ وَأَخَذَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَيَضْمَنُ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَتَهُ وَيَمْلِكُهُ. وَلِلْمُسْتَعِيرِ قَلْعُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ كَثِيرٌ بِالْأَرْضِ، فَإِنْ قَلَعَهُمَا فَلَا ضَمَانَ، فَإِنْ أَعَارَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا قَبْلَ حَصْدِهِ وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ حَيْثُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ غَاصِبًا. (وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَعِيرَ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا. (وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ) ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَهُ مِلْكَهُ. وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَأْجِرَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، (وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ) إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَارِيَةٌ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغَرَرِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إِذَا عَلِمَ. قَالَ: (فَإِنْ قَيَّدَهَا بِوَقْتٍ، أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ مَكَانٍ - ضَمِنَ بِالْمُخَالَفَةِ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ) ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ بِتَمَامِهِ فِي الْإِجَارَةِ. (وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ مَنْفَعَتِهَا مَا شَاءَ مَا لَمْ يُطَالِبْهُ بِالرَّدِّ) عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ. قَالَ: (وَلَوْ أَعَارَ أَرْضَهُ لِلْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ) ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَتُمْلَكُ كَذَلِكَ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ لَمْ يُقْبَضْ، فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَارِيَةُ مَرْدُودَةٌ» . قَالَ: (وَيُكَلِّفَهُ قَلْعَهُمَا) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الرُّجُوعُ بَقِيَ الْمُسْتَعِيرُ شَاغِلًا مِلْكَ الْمُعِيرِ، فَعَلَيْهِ تَفْرِيغُهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَّتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا أَصَابَ الْمُسْتَعِيرَ إِنَّمَا أَصَابَهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ. (وَإِنْ وَقَّتَ، وَأَخَذَهَا قَبْلَ الْوَقْتِ - كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ) ؛ لِأَنَّهُ أَخْلَفَ وَعْدَهُ (وَيَضْمَنُ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَتَهُ وَيَمْلِكُهُ) نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْأَخْذِ فَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ. وَلَنَا: أَنَّهُ غَرَّهُ بِالتَّأْقِيتِ؛ إِذِ الظَّاهِرُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ فَيَرْجِعُ إِلَيْهِ إِذَا أَخْلَفَ؛ لِأَنَّ مَا أَصَابَهُ إِنَّمَا أَصَابَهُ مِنْ جِهَتِهِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُؤَقَّتِ. (وَلِلْمُسْتَعِيرِ قَلْعُهُ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ كَثِيرٌ بِالْأَرْضِ) فَيُخَيَّرُ الْمُعِيرُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ عَلَى التَّبَعِ. (فَإِنْ قَلَعَهُمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) ، وَقِيلَ: إِذَا كَلَّفَهُ الْمُعِيرُ قَلْعَهُمَا قَلَعَهُمَا، وَيُضَمَّنُ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَا بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ خَدَعَهُ حَيْثُ ضَمِنَ لَهُ الْوَفَاءَ إِلَى آخِرِ الْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتَهُ وَلَمْ يَفِ لَهُ. قَالَ: (فَإِنْ أَعَارَهَا؛ لِلزِّرَاعَةِ - فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا قَبْلَ حَصْدِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ) فَتَبْقَى بِالْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُرَاعَاةَ الْجَانِبَيْنِ وَدَفْعَ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْتَعِيرِ وَمُرَاعَاةَ حَقِّ الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ مُدَّةً قَلِيلَةً بِخِلَافِ الْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا فَيُقْلَعُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمُعِيرِ. دَخَلَ الْحَمَّامَ، وَاسْتَعْمَلَ قِصَاعَ الْحَمَّامِيِّ، فَانْكَسَرَتْ. أَوْ أَخَذَ كُوزَ الْفُقَّاعِ؛ لِيَشْرَبَ، فَانْكَسَرَ. أَوْ دَخَلَ مَنْزِلَ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ إِنَاءً بِغَيْرِ إِذْنِهِ؛ لِيَنْظُرَ إِلَيْهِ أَوْ لِيَشْرَبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْآجِرِ. وَإِذَا رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى اصْطَبْلِ مَالِكِهَا بَرِئَ، وَكَذَا رَدُّ الثَّوْبِ إِلَى دَارِهِ، وَمَعَ مَنْ فِي عِيَالِهِ أَوْ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ الْخَاصِّ بَرِئَ. كِتَابُ الْغَصْبِ وَهُوَ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي،   [الاختيار لتعليل المختار] فَوَقَعَ مِنْ يَدِهِ، فَانْكَسَرَ - فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً. اسْتَعَارَ كِتَابًا؛ لِيَقْرَأَ فِيهِ، فَوَجَدَ فِيهِ خَطَأً، إِنْ عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَكْرَهُ إِصْلَاحَهُ أَصْلَحَهُ، وَإِلَّا فَلَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، فَلَا بَأْسَ بِهِ. قَالَ: (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ) ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ؛ لِمَنْفَعَتِهِ، فَوَجَبَ الرَّدُّ عَلَيْهِ. وَالْأُجْرَةُ مَئُونَةُ الرَّدِّ (وَ) أُجْرَةُ رَدِّ (الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى الْآجِرِ) ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْقَبْضِ حَصَلَتْ لَهُ وَهِيَ الْأُجْرَةُ، فَلَا يَكُونُ الرَّدُّ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، فَلَا يَلْزَمُهُ الْأُجْرَةُ. قَالَ: (وَإِذَا رَدَّ الدَّابَّةَ إِلَى اصْطَبْلِ مَالِكِهَا بَرِئَ) اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ؛ لِعَدَمِ الرَّدِّ إِلَى الْمَالِكِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِالرَّدِّ إِلَى الِاصْطَبْلِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَلَّمَهَا إِلَيْهِ رَدَّهَا إِلَى الِاصْطَبْلِ، وَالْمُعْتَادُ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَلَوْ كَانَ عَبْدًا، وَرَدَّهُ إِلَى دَارِ مَالِكِهِ - فَكَذَلِكَ. (وَكَذَا رَدُّ الثَّوْبِ إِلَى دَارِهِ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا. (وَ) لَوْ رَدَّ الْعَارِيَةَ (مَعَ مَنْ فِي عِيَالِهِ، أَوْ عَبْدِهِ، أَوْ أَجِيرِهِ الْخَاصِّ - بَرِئَ) ; لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ، فَصَارَتْ كَالْوَدِيعَةِ. وَكَذَا لَوْ رَدَّهَا إِلَى عَبْدِ الْمُعِيرِ، أَوْ مَنْ فِي عِيَالِهِ - بَرِئَ ; لَأَنَّ الْمَالِكَ يَحْفَظُهَا بِهَؤُلَاءِ عَادَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَبْدِ: الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا. وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى: لَوْ كَانَتِ الْعَارِيَةُ شَيْئًا نَفِيسًا كَالْجَوْهَرِ وَنَحْوِهِ لَا يَبْرَأُ بِالرَّدِّ إِلَى هَؤُلَاءِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِطَرْحِهِ فِي الدَّارِ وَتَسْلِيمِهِ إِلَى غِلْمَانِهِ، وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَفِي الْغَصْبِ لَا يَبْرَأُ فِي الْجَمِيعِ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى مَالِكِهِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَاجِبٌ فَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى الْمَالِكِ أَوْ نَائِبِهِ حَقِيقَةً، بِخِلَافِ الْعَارِيَةِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. [كِتَابُ الْغَصْبِ] ِ (وَهُوَ) فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا، يُقَالُ: غَصَبْتُهُ مِنْهُ، وَغَصَبْتُهُ عَلَيْهِ بِمَعْنًى، قَالَ تَعَالَى: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] أَيْ ظُلْمًا. وَيُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، يُقَالُ: غَصَبْتُ وَلَدَهُ وَزَوْجَتَهُ. وَفِي الشَّرْعِ: (أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرِمٍ مَمْلُوكٍ لِلْغَيْرِ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي) ، وَاشْتَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ كَوْنَ الْمَغْصُوبِ قَابِلًا لِلنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ. وَلَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ. وَيَظْهَرُ فِي غَصْبِ الْعَقَارِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَوِ اسْتَخْدَمَ مَمْلُوكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، أَوْ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ، أَوْ رَكِبَ دَابَّتَهُ، أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ فِي مَكَانِ غَصْبِهِ. فَإِنْ هَلَكَ وَهُوَ مِثْلِيٌّ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ. وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ النُّقْصَانَ، وَإِذَا انْقَطَعَ تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَضَاءَ (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ سَاقَهَا، فَهَلَكَتْ - كَانَ غَاصِبًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْيَدَ الْمُبْطِلَةَ الْمُفَوِّتَةَ. وَلَوْ جَلَسَ عَلَى بِسَاطِ الْغَيْرِ، أَوْ هَبَّتِ الرِّيحُ بِثَوْبِ إِنْسَانٍ، فَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ - لَا يَكُونُ غَاصِبًا مَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَوْ يُمْسِكْهُ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ حَرَامٌ؛ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» ، وَعَلَى حُرْمَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَقْلًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ حَرَامٌ عَقْلًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ. وَالْغَصْبُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إِثْمٌ، وَهُوَ مَا وَقَعَ عَنْ جَهْلٍ كَمَنْ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِلْكُهُ. أَوْ مَلَكُهُ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَتَصَرَّفَ فِيهِ، وَاسْتَهْلَكَهُ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ - فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» ، الْحَدِيثَ. مَعْنَاهُ الْإِثْمُ. وَالثَّانِي: يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِثْمُ، وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِأَخْذِهِ وَإِمْسَاكِهِ. قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ فِي مَكَانِ غَصْبِهِ) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذْتَ حَتَّى تَرُدَّ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَا جَادًّا وَلَا لَاعِبًا، فَإِذَا أَخَذَ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ» ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ رَفْعُ الظُّلْمِ، وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا. وَيَرُدُّهُ فِي مَكَانِ غَصْبِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْأَمَاكِنِ، وَالْأَعْدَلُ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (فَإِنْ هَلَكَ، وَهُوَ مِثْلِيٌّ - فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ) ، قَالَ تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . وَلِأَنَّ الْمِثْلَ أَعْدَلُ؛ لِوُجُودِ الْمَالِيَّةِ وَالْجِنْسِ. (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلِيًّا) كَالْحَيَوَانِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَفَاوِتِ وَالْمَزْرُوعِ (فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصْبِهِ) ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ وَإِيصَالًا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَسَوَاءٌ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، أَوْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ بِالْغَصْبِ صَارَ مُتَعَدِّيًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَقَدِ امْتَنَعَ فَيَجِبُ الضَّمَانُ، وَتَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ السَّبَبُ، وَبِهِ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ. (وَإِنْ نَقَصَ ضَمِنَ النُّقْصَانَ) اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ. (و) أَمَّا الْمِثْلِيُّ (إِذَا انْقَطَعَ تَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَضَاءِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَوْمَ الْغَصْبِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَوْمَ الِانْقِطَاعِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ، وَيَنْتَقِلُ إِلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ فَيُعْتَبَرُ يَوْمَئَذٍ. وَلِأَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِذَوَاتِ الْقِيَمِ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ؛ إِذْ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِانْتِقَالَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا بِالِانْقِطَاعِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَخَاصَمَا حَتَّى عَادَ الْمِثْلُ وَجَبَ. فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَهُ بِخِلَافِ ذَوَاتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 وَإِنِ ادَّعَى الْهَلَاكَ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةً يَعْلَمُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً أَظْهَرَهَا، ثُمَّ يَقْضِي عَلَيْهِ بِبَدَلِهَا. وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِذَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مَلَكَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْغَصْبِ، وَتَسْلَمُ لَهُ الْأَكْسَابُ وَلَا تَسْلَمُ لَهُ الْأَوْلَادُ. فَإِذَا ظَهَرَتِ الْعَيْنُ وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ وَقَدْ ضَمِنَهَا بِنُكُولِهِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ، أَوْ بِقَوْلِ الْمَالِكِ - سَلِمَتْ لِلْغَاصِبِ. وَإِنْ ضَمِنَهَا بِيَمِينِهِ فَالْمَالِكُ إِنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ، وَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ الْعَقَارُ بِفِعْلِهِ وَلَا يَضْمَنُهُ لَوْ هَلَكَ (م) .   [الاختيار لتعليل المختار] الْقِيَمِ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهَا مِنْ وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَصْبُ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ السَّبَبِ. قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَى الْهَلَاكَ حَبَسَهُ الْحَاكِمُ مُدَّةً يَعْلَمُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً أَظْهَرَهَا، ثُمَّ يَقْضِي عَلَيْهِ بِبَدَلِهَا) ; لَأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاؤُهَا، وَقَدِ ادَّعَى خِلَافَهُ. وَنَظِيرُهُ إِذَا طُولِبَ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ، فَادَّعَى الْإِفْلَاسَ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْحَجْرِ، فَإِذَا حُبِسَ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ قَضَى عَلَيْهِ بِالْبَدَلِ؛ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَالْقَوْلُ فِي الْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ) ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ، وَإِنْ أَقَامَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ قَضَى بِهَا؛ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ. قَالَ: (فَإِذَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ مَلَكَهُ مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْغَصْبِ) ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إِلَى مِلْكٍ، وَقَدْ مَلَكَ الْمَالِكُ بَدَلَهُ فَيَمْلِكُ الْغَاصِبُ الْمُبْدَلَ؛ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ. (وَتَسْلَمُ لَهُ الْأَكْسَابُ) ؛ لِلتَّبَعِيَّةِ، (وَلَا تَسْلَمُ لَهُ الْأَوْلَادُ) ؛ لِأَنَّ تَبَعِيَّتَهُمْ فَوْقَ تَبَعِيَّةِ الْأَكْسَابِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتِبِ مُدَبَّرٌ وَمَكَاتِبٌ، وَلَا تَكُونُ أَكْسَابُهُمَا مُدَبَّرًا وَمُكَاتِبًا؟ قَالَ: (فَإِذَا ظَهَرَتِ الْعَيْنُ، وَقِيمَتُهَا أَكْثَرُ، وَقَدْ ضَمِنَهَا بِنُكُولِهِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِقَوْلِ الْمَالِكِ - سَلِمَتْ لِلْغَاصِبِ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِرِضَى الْمَالِكِ حَيْثُ ادَّعَى هَذَا الْقَدْرَ. (وَإِنْ ضَمِنَهَا بِيَمِينِهِ فَالْمَالِكُ إِنْ شَاءَ أَمْضَى الضَّمَانَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعَيْنَ وَرَدَّ الْعِوَضَ) ; لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِهِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ؛ لِعَجْزِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى كَمَالِ حَقِّهِ كَالْمُكْرَهِ. وَكَذَا لَوْ ظَهَرَ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ مَا ضَمِنَ أَوْ أَقَلُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ حَيْثُ لَمْ يُعْطِهِ مَا ادَّعَاهُ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ. قَالَ: (وَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ الْعَقَارُ بِفِعْلِهِ، وَلَا يَضْمَنُهُ لَوْ هَلَكَ) . وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ الْعَقَارَ بِالْغَصْبِ. وَصُورَتُهُ: أَنَّ مَنْ سَكَنَ دَارَ غَيْرِهِ، أَوْ زَرَعَ أَرْضَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، ثُمَّ خَرِبَتِ الدَّارُ أَوْ غَرِقَ الْعَقَارُ - لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَحَقَّقَتِ الْيَدُ الْعَادِيَةُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْيَدَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ، فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ. وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَتَعَلَّقُ بِالنَّقْلِ فِيمَا يُنْقَلُ يَتَعَلَّقُ بِالتَّخْلِيَةِ فِيمَا لَا يُنْقَلُ كَدُخُولِ الْمَبِيعِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي. وَلَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْجَزَاءَ فِي غَصْبِ الْعَقَارِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الضَّمَانَ، وَلَوْ وَجَبَ لَذَكَرَهُ. وَلِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي الْمَالِكِ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ لَمْ يَزُلْ عَنْ مَكَانِهِ الَّذِي كَانَتْ يَدُ الْمَالِكِ ثَابِتَةً عَلَيْهِ، وَالتَّصَرُّفُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 فَإِنْ نَقَصَ بِالزِّرَاعَةِ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ، وَيَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ، وَكَذَا الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ إِذَا تَصَرَّفَا وَرَبِحَا تَصَدَّقَا بِالْفَضْلِ (س) .   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الْمَالِكِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا لَوْ مَنَعَهُ عَنْ حِفْظِ مَالِهِ حَتَّى هَلَكَ، وَلِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ضَمَانُ الْغَصْبِ كَالْحُرِّ. وَأَمَّا إِذَا هَدَمَ الْبِنَاءَ، وَحَفَرَ الْأَرْضَ - فَيَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُ النَّقْلُ وَالتَّحْوِيلُ، وَأَنَّهُ إِتْلَافٌ. وَيَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ مَا لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْحُرِّ. وَمَا انْهَدَمَ بِسُكْنَاهُ فَقَدْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَإِنْ لَمْ يُضْمَنْ بِالْغَصْبِ، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْعَيْنِ. (فَإِنْ نَقَصَ بِالزِّرَاعَةِ يَضْمَنُ النُّقْصَانَ) ؛ لِمَا مَرَّ، (وَيَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ) . مَعْنَاهُ: يَأْخُذُ مِنَ الزَّرْعِ مَا أَخْرَجَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَذْرِ وَغَيْرِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ. (وَكَذَا الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ إِذَا تَصَرَّفَا، وَرَبِحَا - تَصَدَّقَا بِالْفَضْلِ) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي ضَمَانِهِ؛ لِمِلْكِهِ الْأَصْلَ ظَاهِرًا؛ فَإِنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَلَهُمَا أَنَّهُ حَصَلَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ، وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ، وَالْفَرْعُ يَحْصُلُ عَلَى صِفَةِ الْأَصْلِ، وَالْمِلْكُ الْخَبِيثُ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ، وَلَوْ صَرَفَهُ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ جَازَ. ثُمَّ إِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَتَصَدَّقُ. وَلَوْ لَقِيَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ فِي غَيْرِ بَلَدِ الْغَصْبِ، فَطَالَبَهُ بِالْمَغْصُوبِ - فَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ دَفَعَهَا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا وَهِيَ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ أُمِرَ بِتَسْلِيمِهَا إِلَيْهِ إِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاءً؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَالِكِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ بَلَدِ الْغَصْبِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ، وَإِنْ شَاءَ طَالَبَهُ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ؛ لِيَأْخُذَهُ فِي بَلَدِهِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ بِنَقْلِهِ فَيُخَيَّرُ الْمَالِكُ، بِخِلَافِ تَغَيُّرِ السِّعْرِ فِي بَلَدِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا بِصُنْعِهِ بَلْ بِقِلَّةِ الرَّغَبَاتِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ وَقِيمَتِهِ أَقَلَّ فَالْمَالِكُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ مِثْلَهُ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا أَوْ قِيمَتَهُ بِبَلَدِ الْغَصْبِ، أَوْ يَصْبِرُ؛ لِيَأْخُذَ مِثْلَهُ فِي بَلَدِهِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ هُنَا أَكْثَرَ فَالْغَاصِبُ إِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَضَرَّرُ بِالدَّفْعِ. وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ سَوَاءً فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ. وَلَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ رَدَّهُ مَعَ قِيمَةِ النُّقْصَانِ، فَيُقَوَّمُ صَحِيحًا، وَيُقَوَّمُ وَبِهِ عَيْبٌ - فَيَضْمَنُ ذَلِكَ، هَذَا فِي غَيْرِ الرِّبَوِيَّاتِ؛ لِأَنَّ لِلْجَوْدَةِ قِيمَةً فِيهَا. فَأَمَّا الرِّبَوِيَّاتُ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَيْبِهِ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَتَرَكَهُ؛ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَآنِيَةُ الصُّفْرِ وَالرَّصَاصِ إِنْ بِيعَتْ وَزْنًا مِنَ الرِّبَوِيَّاتِ وَعَدَدًا لَا. وَلَوْ غَصَبَ عِنَبًا فَصَارَ زَبِيبًا، أَوْ عَصِيرًا فَصَارَ خَلًّا، أَوْ رُطَبًا فَصَارَ تَمْرًا - فَالْمَالِكُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ عَيْنَهُ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ مِثْلَهُ. وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً صَغِيرَةً، فَكَبِرَ - أَخَذَهُ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ مِنَ النَّفَقَةِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» . وَلَوْ كَانَ شَابًّا فَصَارَ شَيْخًا، أَوْ شَابَّةً فَصَارَتْ عَجُوزًا - ضَمِنَ النُّقْصَانَ. وَالشَّلَلُ وَالْعَرَجُ وَذَهَابُ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَنِسْيَانُ الْحِرْفَةِ وَالْقُرْآنِ وَالسَّرِقَةُ وَالْإِبَاقُ وَالْجُنُونُ وَالزِّنَا عَيْبٌ يُوجِبُ النُّقْصَانَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وَإِذَا تَغَيَّرَ الْمَغْصُوبُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهُ وَأَكْثَرُ مَنَافِعِهِ مَلَكَهُ وَضَمِنَهُ، وَذَلِكَ كَذَبْحِ الشَّاةِ وَطَبْخِهَا أَوْ شَيِّهَا أَوْ تَقْطِيعِهَا، وَطَحْنِ الْحِنْطَةِ أَوْ زَرْعِهَا، وَخَبْزِ الدَّقِيقِ، وَجَعْلِ الْحَدِيدِ سَيْفًا وَالصُّفْرِ آنِيَةً، وَالْبِنَاءِ عَلَى السَّاجَةِ، وَاللَّبِنِ حَائِطًا. وَعَصْرِ الزَّيْتُونِ وَالْعِنَبِ وَغَزْلِ الْقُطْنِ وَنَسْجِ الْغَزْلِ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهُ (ز) . وَلَوْ غَصَبَ تِبْرًا، فَضَرَبَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً - لَمْ يَمْلِكْهُ (سم) . وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ، فَأَبْطَلَ عَامَّةَ مَنْفَعَتِهِ - ضَمِنَهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِنْ حَدَثَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ضَمِنَهَا. قَالَ: (وَإِذَا تَغَيَّرَ الْمَغْصُوبُ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حَتَّى زَالَ اسْمُهُ وَأَكْثَرُ مَنَافِعِهِ مَلَكَهُ وَضَمِنَهُ. وَذَلِكَ كَذَبْحِ الشَّاةِ وَطَبْخِهَا أَوْ شَيِّهَا أَوْ تَقْطِيعِهَا، وَطَحْنِ الْحِنْطَةِ أَوْ زَرْعِهَا، وَخَبْزِ الدَّقِيقِ، وَجَعْلِ الْحَدِيدِ سَيْفًا وَالصُّفْرِ آنِيَةً، وَالْبِنَاءِ عَلَى السَّاجَةِ، وَاللَّبِنِ حَائِطًا، وَعَصْرِ الزَّيْتُونِ وَالْعِنَبِ، وَغَزْلِ الْقُطْنِ وَنَسْجِ الْغَزْلِ) . وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا مِنْ وَجْهٍ؛ لِفَوَاتِ مُعْظَمِ الْمَقَاصِدِ وَتَبَدُّلِ الِاسْمِ، وَحَقُّهُ فِي الصَّنْعَةِ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَرَجَّحَ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ وَجْهٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذَبَحَ شَاةً وَسَلَخَهَا ; لِأَنَّ الِاسْمَ بَاقٍ. (وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ بَدَلَهُ) «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ الْمَصْلِيَّةِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهَا: " أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى» ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى زَوَالِ مِلْكِ الْمَالِكِ، وَحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ، وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ قَبْلَ الْإِرْضَاءِ فَتَحَ بَابَ الْغَصْبِ. وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ مَعَ الْحُرْمَةِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ. فَإِذَا أَدَّى بَدَلَهُ، أَوْ أَبْرَأَهُ الْمَالِكُ - جَازَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِالْإِبْرَاءِ وَأَخْذِ الْبَدَلِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ لَهُ الِانْتِفَاعُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ الْمِلْكُ، فَيَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ، وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَزُولُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهُ، لَكِنَّهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ بَاقِي الْغُرَمَاءِ. وَوَجْهٌ آخَرَ فِي السَّاجَةِ وَاللَّبِنِ أَنَّ ضَرَرَ الْمَالِكِ صَارَ مُنْجَبِرًا بِالْقِيمَةِ، وَضَرَرَ الْغَاصِبِ بِالْهَدْمِ لَا يَنْجَبِرُ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ، فَكَانَ أَوْلَى. وَلَوْ غَصَبَ خَيْطًا، فَخَاطَ بِهِ بَطْنَ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ، أَوْ لَوْحًا فَأَدْخَلَهُ فِي سَفِينَةٍ - انْقَطَعَ مِلْكُ الْمَالِكِ إِلَى الضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ. (وَلَوْ غَصَبَ تِبْرًا، فَضَرَبَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ آنِيَةً - لَمْ يَمْلِكْهُ) ، فَيَأْخُذُهَا الْمَالِكُ، وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ. وَقَالَا: يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا؛ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ بِصُنْعِهِ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ بِالْكَسْرِ فَاتَ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ نَظَرًا إِلَى بَقَاءِ الِاسْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ وَالْوَزْنِ، وَجَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِ، وَالصُّنْعِ فِيهَا غَيْرَ مُتَقَوِّمَةٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ. قَالَ: (وَمَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ، فَأَبْطَلَ عَامَّةَ مَنْفَعَتِهِ - ضَمِنَهُ) ; لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ مَعْنًى كَمَا إِذَا أَحْرَقَهُ. فَإِذَا ضَمَّنَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ تَرَكَ الثَّوْبَ لِلْغَاصِبِ؛ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلَانِ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ. وَإِنْ أَمْسَكَ الثَّوْبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ، أَوْ قَطَعَ يَدَهَا - فَإِنْ شَاءَ الْمَالِكُ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا وَأَخَذَهَا، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهَا وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا. وَفِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا بِقَطْعِ الطَّرَفِ. وَمَنْ بَنَى فِي أَرْضِ غَيْرِهِ أَوْ غَرَسَ لَزِمَهُ قَلْعُهُمَا وَرَدُّهَا، وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ، أَوْ سَوِيقًا، فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ - فَالْمَالِكُ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا، وَرَدَّ زِيَادَةَ الصَّبْغِ وَالسَّوِيقِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ.   [الاختيار لتعليل المختار] ضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ؛ لِبَقَاءِ الْعَيْنِ وَبَعْضِ الْمَنَافِعِ. وَإِنْ كَانَ خَرْقًا قَلِيلًا يُضَمَّنُ نُقْصَانَهُ؛ لِمَا أَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ شَيْئًا، بَلْ عَيَّبَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَيْبِ الْفَاحِشِ، قِيلَ: هُوَ أَنْ يُوجِبَ نُقْصَانَ رُبْعِ الْقِيمَةِ فَمَا زَادَ، وَقِيلَ: مَا يُنْتَقَصُ بِهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ، وَالصَّحِيحُ مَا يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ الْمَنَافِعِ. وَالْيَسِيرُ مَا لَا يَفُوتُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَنْفَعَةِ، بَلْ يَدْخُلُهُ نُقْصَانُ الْعَيْبِ. قَالَ: (وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ، أَوْ قَطَعَ يَدَهَا - فَإِنْ شَاءَ الْمَالِكُ ضَمَّنَهُ نُقْصَانَهَا وَأَخَذَهَا، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَهُ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا) ؛ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِتَفْوِيتِ بَعْضِ الْمَنَافِعِ مِنَ اللَّبَنِ وَالنَّسْلِ وَغَيْرِهِمَا، وَبَقَاءُ الْبَعْضِ وَهُوَ الْأَكْلُ، فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ كَمَا فِي الثَّوْبِ فِي الْخَرْقِ الْفَاحِشِ. قَالَ: (وَفِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ يُضَمَّنُ قِيمَتَهَا بِقَطْعِ الطَّرَفِ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَوْ غَصَبَ دَابَّةً، فَقَطَعَ رِجْلَهَا - ضَمِنَ قِيمَتَهَا. وَرَوَى هِشَامٌ: إِنْ أَخَذَهَا الْمَالِكُ لَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا، وَأَخَذَ الْقِيمَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ خِلَافًا لَهُمَا. وَإِنْ قَلَعَ عَيْنَ الدَّابَّةِ فَعَلَيْهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ اسْتِحْسَانًا، وَقِيمَةُ النُّقْصَانِ قِيَاسًا. وَفِي جِنَايَاتِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ فَقَأَ عَيْنَ بِرْذَوْنٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ عَلَيْهِ رُبْعُ قِيمَتِهِ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ، وَمَا لَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ. وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَفِي عَيْنِ بَقَرِ الْجَزَّارِ وَجَزُورِهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ، وَفِي عَيْنِ شَاةِ الْقَصَّابِ مَا نَقَصَهَا، وَالْحَمَلُ وَالطَّيْرُ وَالدَّجَاجَةُ وَالْكَلْبُ مَا نَقَصَهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ مَا نَقَصَهُ فِي جَمِيعِ الْبَهَائِمِ اعْتِبَارًا بِالشَّاةِ. وَلَنَا: مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ» ، وَكَذَا قَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالْعَمَلِ، وَلَا تَقُومُ هَذِهِ الْمَصَالِحُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ أَعْيُنٍ: عَيْنَيْهَا، وَعَيْنَيِ الْمُسْتَعْمِلِ، فَصَارَتْ كَذَاتِ أَرْبَعَةِ أَعْيُنٍ، فَيَجِبُ فِي أَحَدِهَا رُبْعُ الْقِيمَةِ كَمَا قُلْنَا فِي أَحَدِ الْأَهْدَابِ رُبْعُ الدِّيَةِ لَمَّا كَانَتْ أَرْبَعَةً. قَالَ: (وَمَنْ بَنَى فِي أَرْضِ غَيْرِهِ، أَوْ غَرَسَ - لَزِمَهُ قَلْعُهُمَا وَرَدُّهَا) عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» ، وَلِأَنَّهُ أَشْغَلَ مِلْكَ الْغَيْرِ، فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِهِ دَفْعًا لِلظُّلْمِ وَرَدًّا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ. قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ، أَوْ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ - فَالْمَالِكُ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا، وَرَدَّ زِيَادَةَ الصَّبْغِ وَالسَّوِيقِ. وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 وَمِثْلَ السَّوِيقِ وَسَلَّمَهُمَا. فَصْلٌ زَوَائِدُ الْغَصْبِ أَمَانَةٌ، مُتَّصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُنْفَصِلَةً، وَيَضْمَنُهَا بِالتَّعَدِّي أَوْ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ. وَمَا نَقَصَتِ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ مَضْمُونٌ، وَتُجْبَرُ بِوَلَدِهَا وَبِالْغُرَّةِ. وَمَنَافِعُ الْغَصْبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ اسْتَوْفَاهَا أَوْ عَطَّلَهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] وَمِثْلَ السَّوِيقِ وَسَلَّمَهُمَا) ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَصَاحِبُ الثَّوْبِ صَاحِبُ الْأَصْلِ فَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ. وَقَالَ فِي الْأَصْلِ: تَجِبُ قِيمَةُ السَّوِيقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بِالْقَلْيِ، فَلَمْ يَصِرْ مِثْلِيًّا، وَسَمَّاهُ هَهُنَا مِثْلِيًّا؛ لِقِيَامِ الْقِيمَةِ مَقَامَهُ، وَالْأَلْوَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: السَّوَادُ نُقْصَانٌ، قِيلَ: هُوَ اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ، وَقِيلَ: إِنْ نَقَصَهُ السَّوَادُ فَهُوَ نُقْصَانٌ. [فصل زوائد الْغَصْبِ] فَصْلٌ (زَوَائِدُ الْغَصْبِ أَمَانَةٌ مُتَّصِلَةً كَانَتْ) كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ وَالْحُسْنِ (أَوْ مُنْفَصِلَةً) كَالْوَلَدِ وَالْعُقْرِ وَالثَّمَرَةِ وَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ إِزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ - فَلَا يُضَمَّنُ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ، وَلَا غَصْبَ - مُحَالٌ. قَالَ: (وَيَضْمَنُهَا بِالتَّعَدِّي) بِأَنْ أَتْلَفَهُ أَوْ أَكَلَهُ أَوْ ذَبَحَهُ أَوْ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ، (أَوْ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لِلْغَيْرِ، وَقَدْ تَعَدَّى فِيهِ فَيَضْمَنُهُ؛ لِمَا مَرَّ. وَإِنْ طَلَبَ الْمُتَّصِلَةَ لَا يَضْمَنُ بِالْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِعَدَمِ إِمْكَانِ رَدِّ الزَّوَائِدِ بِدُونِ الْأَصْلِ. وَقَالَا: يَضْمَنُهَا بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ كَالْمُنْفَصِلَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ إِخْرَاجُ الْمَحَلِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ فِي حَقِّ الْمَالِكِ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ مَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهَا فِي حَقِّ الْمَالِكِ؛ لِعَدَمِ يَدِهِ عَلَيْهَا، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ. وَلَوْ زَادَتْ قِيمَتُهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الضَّمَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ: (وَمَا نَقَصَتِ الْجَارِيَةُ بِالْوِلَادَةِ مَضْمُونٌ) ؛ لِفَوَاتِ بَعْضِهَا. (وَيُجْبَرُ بِوَلَدِهَا وَبِالْغُرَّةِ) ؛ لِانْعِدَامِ النُّقْصَانِ حُكْمًا، وَلِأَنَّ الْعُلُوقَ أَوِ الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِلزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ كَمَا إِذَا سَقَطَتْ سِنُّهَا، ثُمَّ نَبَتَتْ، أَوْ هَزِلَتْ ثُمَّ سَمِنَتْ. أَوْ رَدَّ أَرْشَ الْيَدِ فَإِنَّهُ يَنْجَبِرُ بِهِ نَقْصُ الْقَطْعِ، كَذَا هُنَا، وَصَارَ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْوَلَدِ وَفَاءٌ انْجَبَرَ بِقَدْرِهِ، وَضَمِنَ الْبَاقِيَ. وَالْغُرَّةُ كَالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَهُ؛ لِوُجُوبِهَا بَدَلًا عَنْهُ. وَلَوْ مَاتَتْ، وَبِالْوَلَدِ وَفَاءٌ بِقِيمَتِهَا - لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَهَا يَوْمَ الْغَصْبِ مَلَكَهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ النُّقْصَانَ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْجَابِرِ. قَالَ: (وَمَنَافِعُ الْغَصْبِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ اسْتَوْفَاهَا أَوْ عَطَّلَهَا) ، أَوِ اسْتَغَلَّ؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الْغَصْبِ عَلَيْهَا، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَعْيَانِ؛ لِبَقَاءِ الْأَعْيَانِ، وَهِيَ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ، وَلِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وَمَنِ اسْتَهْلَكَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَلَوْ كَانَا لِمُسْلِمٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيَجِبُ فِي كَسْرِ الْمَعَازِفِ قِيمَتُهَا (سم) لِغَيْرِ اللَّهْوِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِنَّمَا تَقَوَّمَتْ بِالْإِجَارَةِ ضَرُورَةَ وُرُودِ الْعِقْدِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُوجَدْ. وَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ بِاسْتِعْمَالِهِ؛ لِاسْتِهْلَاكِهِ بَعْضَ أَجْزَائِهِ. قَالَ: (وَمَنِ اسْتَهْلَكَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَوْ خِنْزِيرَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَلَوْ كَانَا لِمُسْلِمٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» ، وَإِنَّهُمْ يَدِينُونَ بِمَالِيَّتِهِمَا؛ فَإِنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ وَالشَّاةِ، بَلْ هُمَا مِنْ أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ عِنْدَهُمْ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا قَبِلُوهَا ": يَعْنِي الْجِزْيَةَ " فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» ، وَلِلْمُسْلِمِينَ التَّضْمِينُ بِإِتْلَافِ مَا يَعْتَقِدُونَهُ مَالًا، فَكَذَا يَكُونُ الذِّمِّيُّ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مَالًا فِي حَقِّهِ أَصْلًا، وَحُرْمَةُ بَدَلِهِمَا عَلَيْهِ كَحُرْمَتِهِمَا. وَالْخَمْرُ وَإِنْ كَانَ مِثْلِيًّا فَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمَلُّكِهِ، فَوَجَبَتِ الْقِيمَةُ، أَمَّا الرِّبَا فَحَرَامٌ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مُسْتَثْنًى عَنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ. قَالَ: (وَيَجِبُ فِي كَسْرِ الْمَعَازِفِ قِيمَتُهَا لِغَيْرِ اللَّهْوِ) ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ كَالْبَرْبَطِ وَالطَّبْلِ وَالدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ وَالْجُنْكِ وَالْعُودِ وَنَحْوِهَا. وَيَجُوزُ بَيْعُهَا. وَقَالَا: لَا يَضْمَنُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا ; لِأَنَّهَا أَعُدِّتْ لِلْمَعَاصِي فَلَا تُضْمَنُ كَالْخَمْرِ. وَمُتْلِفُهَا يَتَأَوَّلُ فِيهَا النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا - فَلَا يَضْمَنُ كَإِذْنِ الْقَاضِي، وَبَلْ أَوْلَى. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَمْوَالٌ صَالِحَةٌ؛ لِلِانْتِفَاعِ فِي جِهَةٍ مُبَاحَةٍ، وَتَصْلُحُ لِمَا يَحِلُّ - فَيَضْمَنُ، وَالْفَسَادُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، فَلَا يَسْقُطُ التَّقَوُّمُ وَجَوَازُ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُمَا بِنَاءً عَلَى الْمَالِيَّةِ، وَصَارَ كَالْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ. وَتَجِبُ قِيمَتُهَا لِغَيْرِ اللَّهْوِ كَالْجَارِيَةِ الْمُغَنِّيَةِ، وَالْكَبْشِ النَّطُوحِ، وَالْحَمَامَةِ الطَّيَّارَةِ، وَالدِّيكِ الْمُقَاتِلِ، وَالْعَبْدِ الْخَصِيِّ؛ فَإِنَّهُ تَجِبُ قِيمَتُهَا غَيْرَ صَالِحَةٍ لِهَذِهِ الْأُمُورِ، كَذَا هَذَا. وَلَوْ أَحْرَقَ بَابًا مَنْحُوتًا عَلَيْهِ تَمَاثِيلُ مَنْقُوشَةٌ ضَمِنَ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَنْقُوشٍ؛ لِأَنَّ نَقْشَ التَّمَاثِيلِ حَرَامٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ. وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَنْقُوشًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ حَرَامٍ. وَالتَّمَاثِيلُ عَلَى الْبِسَاطِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ، فَيَجِبُ قِيمَتُهُ مَنْقُوشًا. وَلَوْ غَصَبَ ثَوْبًا فَكَسَاهُ لِلْمَالِكِ، أَوْ طَعَامًا فَقَدَّمَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَكَلَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ - بَرِئَ مِنَ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ أَعَادَ الشَّيْءَ إِلَى يَدِهِ، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ حَقِيقَةً، فَيَبْرَأُ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ» . وَلَوْ جَاءَ الْغَاصِبُ بِقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ إِلَى الْمَالِكِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ عَلَى قَبُولِهَا، فَإِنْ وَضَعَهَا فِي حِجْرِهِ بَرِئَ، وَإِنْ وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَبْرَأُ. بِخِلَافِ مَا إِذَا وَضَعَ الْمَغْصُوبَ أَوِ الْوَدِيعَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَيْثُ يَبْرَأُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رَدُّ الْعَيْنِ، وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِالتَّخْلِيَةِ. وَالْوَاجِبَ فِي الدَّيْنِ الْقَبْضُ؛ لِتَتَحَقَّقَ الْمُعَاوَضَةُ وَالْمُقَاصَّةُ، وَالْقَبْضُ لَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ. وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنَ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ إِذَا كَانَ الْمَالِكُ غَائِبًا، وَيَحْفَظَهُ عَلَيْهِ. فَإِنْ ضَاعَ، فَجَاءَ الْمَالِكُ - فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ وَالسَّارِقَ، وَلَا يَبْرَأَ بِأَخْذِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْغَائِبِ فِيمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 كِتَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ الْمَوَاتُ: مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْأَرَاضِي، وَلَيْسَ مِلْكَ مُسْلِمٍ وَلَا ذِمِّيٍّ، وَهُوَ بَعِيدٌ مِنَ الْعُمْرَانِ. إِذَا وَقَفَ إِنْسَانٌ بِطَرَفِ الْعُمْرَانِ وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَا يُسْمَعُ. مَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ (سم) مَلَكَهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا.   [الاختيار لتعليل المختار] يُؤَدِّي إِلَى حِفْظِهِ لَا فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى إِبْرَاءِ حُقُوقِهِ. وَلَوْ حَلَّ دَابَّةَ رَجُلٍ، أَوْ قَيْدَ عَبْدِهِ، أَوْ فَتَحَ قَفَصَهُ وَفِيهِ طُيُورٌ - لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ فِعْلِهِ، وَالتَّلَفُ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَهُوَ ذَهَابُ الدَّابَّةِ وَالْعَبْدِ وَطَيَرَانُ الطَّيْرِ، وَاخْتِيَارُهُمْ صَحِيحٌ، وَتَرْكُهُ مِنْهُمْ مُتَصَوَّرٌ، وَالِاخْتِيَارُ لَا يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ الْعَقْلِ ; أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْنُونَ يَضْمَنُ مَا يُتْلِفُهُ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومَ الْعَقْلِ، فَيُضَافُ التَّلَفُ إِلَى الْمُبَاشَرَةِ دُونَ السَّبَبِ كَالْحَافِرِ وَالدَّافِعِ. وَلَوْ حَلَّ فَمَ زِقٍّ، وَفِيهِ دُهْنٌ، فَسَالَ - ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِتَلَفِهِ بِإِزَالَةِ الْمُمْسِكِ، فَلَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّلَفِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ. وَلَوْ كَانَ جَامِدًا، فَشَقَّهُ، فَذَابَ بِالشَّمْسِ، ثُمَّ سَالَ - لَمْ يُضَمَّنْ؛ لِأَنَّ الْجَامِدَ يَسْتَمْسِكُ بِنَفْسِهِ لَا بِالزِّقِّ، فَلَمْ يَكُنِ الشَّقُّ إِتْلَافًا، وَإِنَّمَا صَارَ مَائِعًا بِالشَّمْسِ لَا بِفِعْلِهِ. ذَهَبَتْ دَابَّةُ رَجُلٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا بِغَيْرِ إِرْسَالِ صَاحِبِهَا، فَأَفْسَدَتْ زَرْعَ رَجُلٍ - لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا ذَهَبَتْ بِاخْتِيَارِهَا، وَفِعْلُهَا هَدَرٌ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» ، وَإِنْ أَرْسَلَهَا ضَمِنَ. رَجُلٌ وَجَدَ فِي زَرْعِهِ أَوْ دَارِهِ دَابَّةً، فَأَخْرَجَهَا، فَهَلَكَتْ أَوْ أَكَلَهَا الذِّئْبُ - لَمْ يُضَمَّنْ، نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ فِي الْمُنْتَقَى. قَالُوا: وَالصَّحِيحُ إِنْ أَخْرَجَهَا، وَلَمْ يَسْقِهَا - لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْإِخْرَاجِ، وَإِنْ سَاقَهَا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ ضَمِنَ. رَجُلٌ أَدْخَلَ دَابَّةً فِي دَارِ رَجُلٍ، فَأَخْرَجَهَا صَاحِبُ الدَّارِ، فَهَلَكَتْ - لَا يَضْمَنُ. وَإِنْ وَضَعَ ثَوْبًا فِي دَارِهِ، فَرَمَى بِهِ، فَضَاعَ - ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَضُرُّ الدَّارَ، وَكَانَ الْإِخْرَاجُ إِتْلَافًا، وَالدَّابَّةُ تَضُرُّ بِالدَّارِ فَلَمْ يَكُنْ إِتْلَافًا. [كِتَابُ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ] ِ (الْمَوَاتُ: مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْأَرَاضِي) ؛ لِانْقِطَاعِ الْمَاءِ عَنْهُ، أَوْ لِغَلَبَتِهِ عَلَيْهِ، أَوْ كَوْنِهَا حَجَرًا أَوْ سَبْخَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الزِّرَاعَةَ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهَا كَالْمَيِّتِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. فَمَا كَانَ كَذَلِكَ (وَلَيْسَ مِلْكَ مُسْلِمٍ وَلَا ذِمِّيٍّ، وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْعُمْرَانِ، إِذَا وَقَفَ إِنْسَانٌ بِطَرَفِ الْعُمْرَانِ وَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ لَا يُسْمَعُ - مَنْ أَحْيَاهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ مَلَكَهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا) ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ قَرِيبًا مِنَ الْعُمْرَانِ يَرْتَفِقُ النَّاسُ بِهِ عَادَةً، فَيَطْرَحُونَ بِهِ الْبَيَادِرَ، وَيَرْعُونَ فِيهِ الْمَوَاشِيَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ لَا يَرْتَفِقَ بِهِ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا، وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ حَقِيقَةً أَوْ دَلَالَةً، فَلَا يَكُونُ مَوَاتًا. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُحْتَطَبًا لَهُمْ لَا يَجُوزُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ. وَمَنْ حَجَّرَ أَرْضًا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَمْ يَزْرَعْهَا - دَفَعَهَا الْإِمَامُ إِلَى غَيْرِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِحْيَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ. وَيُشْتَرَطُ فِي الْإِحْيَاءِ إِذْنُ الْإِمَامِ، وَقَالَا: لَا يُشْتَرَطُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ» ، وَلِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إِلَيْهِ كَالصَّيْدِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ» ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الْمُبَاحَاتِ، إِلَّا أَنَّ الْحَطَبَ وَالْحَشِيشَ وَالْمَاءَ خُصَّ عَنْهُ بِالْحَدِيثِ، فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ. وَحَدِيثُهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِذْنِ لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَلِأَنَّهُ وَصَلَ إِلَى يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ وَالْغَلَبَةِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ بِدُونِ إِذْنِ الْإِمَامِ كَسَائِرِ الْغَنَائِمِ. وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ ; لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ، فَيََسْتَوِيَانِ فِيهِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ. وَيَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالْخَرَاجُ عَلَى الذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ وَضْعٍ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَلِيقُ بِهِ. وَإِنْ سَقَاهُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ يُعْتَبَرُ بِالْمَاءِ. وَالْإِحْيَاءُ أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا بِنَاءً، أَوْ يَزْرَعَ فِيهَا زَرْعًا، أَوْ يَجْعَلَ لِلْأَرْضِ مُسَنَّاةً وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيَكُونُ لَهُ مَوْضِعُ الْبِنَاءِ وَالزَّرْعُ دُونَ غَيْرِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ عَمَّرَ أَكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ كَانَ إِحْيَاءً لِجَمِيعِهَا، وَإِنْ عَمَّرَ نِصْفَهَا لَهُ مَا عَمَّرَ دُونَ الْبَاقِي. وَذَكَرَ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ حَفَرَ فِيهَا بِئْرًا، أَوْ سَاقَ إِلَيْهَا مَاءً - فَقَدْ أَحْيَاهَا زَرَعَ، أَوْ لَمْ يَزْرَعْ. وَلَوْ شَقَّ فِيهَا أَنْهَارًا لَمْ يَكُنْ إِحْيَاءً إِلَّا أَنْ يَجْرِيَ فِيهَا مَاءٌ فَيَكُونَ إِحْيَاءً. (وَلَا يَجُوزُ إِحْيَاءُ مَا قَرُبَ مِنَ الْعَامِرِ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا. وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا، ثُمَّ أَحَاطَ الْإِحْيَاءَ بِجَوَانِبِهِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى التَّعَاقُبِ - فَطَرِيقُ الْأَوَّلِ فِي الْأَرْضِ مِنَ الرَّابِعَةِ؛ لِتَعَيُّنِهَا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ. وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا، ثُمَّ تَرَكَهَا، فَزَرَعَهَا آخَرُ - قِيلَ: هِيَ لِلثَّانِي؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَلَكَ اسْتِغْلَالَهَا لَا رَقَبَتَهَا، وَقِيلَ: هِيَ لِلْأَوَّلِ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ بِلَامِ الْمِلْكِ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ: (وَمَنْ حَجَّرَ أَرْضًا ثَلَاثَ سِنِينَ، فَلَمْ يَزْرَعْهَا - دَفَعَهَا الْإِمَامُ إِلَى غَيْرِهِ) ؛ لِأَنَّ التَّحْجِيرَ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ، وَالْإِمَامُ دَفَعَهَا؛ لِتَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ دَفَعَهَا إِلَى غَيْرِهِ لِيَحْصُلَ. وَسُمِّيَ تَحْجِيرًا؛ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنَ الْحَجْرِ، وَهُوَ الْمَنْعُ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ غَيْرَهُ عَنْهَا. الثَّانِي: أَنَّهُمْ يَضَعُونَ الْأَحْجَارَ حَوْلَهَا تَعْلِيمًا لِحُدُودِهَا؛ لِئَلَّا يَشْرَكَهُمْ فِيهَا أَحَدٌ. وَالتَّحْجِيرُ أَنْ يُعَلِّمَهَا بِعَلَامَةٍ، بِأَنْ وَضَعَ الْحِجَارَةَ أَوْ غَرَسَ حَوْلَهَا أَغْصَانًا يَابِسَةً، أَوْ قَلَعَ الْحَشِيشَ أَوْ أَحْرَقَ الشَّوْكَ وَنَحْوَهُ، فَإِنَّهُ تَحْجِيرٌ. وَهُوَ اسْتِيَامٌ وَلَيْسَ بِإِحْيَاءٍ، وَلِهَذَا لَوْ أَحْيَاهَا غَيْرُهُ قَبْلَ ثَلَاثِ سِنِينَ مَلَكَهَا؛ لِأَنَّهُ أَحْيَاهَا. كَمَا يُكْرَهُ السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلَوْ عَقَدَ جَازَ الْعَقْدُ. وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلنَّاضِحِ (سم) وَالْعَطَنِ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ، وَحَرِيمُ الْعَيْنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَالْقَنَاةُ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَاءِ كَالْعَيْنِ، وَلَا حَرِيمَ لِلنَّهْرِ الطَّاهِرِ (سم) إِذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَكَذَا لَوْ حَفَرَهُ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ لَا حَرِيمَ لَهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَيْسَ لِلْمُحْجِرِ بَعْدَ ثَلَاثٍ حَقٌّ. قَالَ: (وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَوَاتٍ فَحَرِيمُهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلنَّاضِحِ وَالْعَطَنِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. (فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ فِي حَرِيمِهَا مُنِعَ) ؛ لِأَنَّ فِي الْأَرَاضِي الرَّخْوَةِ يَتَحَوَّلُ الْمَاءُ إِلَى مَا يُحْفَرُ دُونَهَا، فَيُؤَدِّي إِلَى اخْتِلَالِ حَقِّهِ. وَلِأَنَّهُ مَلَكَ الْحَرِيمَ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَسِتُّونَ؛ لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهَا إِلَى سَيْرِ الدَّابَّةِ؛ لِلِاسْتِقَاءِ. وَقَدْ يَطُولُ الرِّشَا، وَبِئْرُ الْعَطَنِ يَسْتَقِي مِنْهَا بِيَدِهِ، فَكَانَتِ الْحَاجَةُ أَقَلَّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مَا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِحْيَاءِ وَهُوَ الْحَفْرُ. وَإِنَّمَا تَرَكْنَاهُ فِي مَوْضِعٍ اتَّفَقَ الْحَدِيثَانِ فِيهِ، وَمَا اخْتَلَفَا فِيهِ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ. وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُدِيرَ الدَّابَّةَ حَوْلَ الْبِئْرِ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى زِيَادَةِ مَسِيرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: جَعَلَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ سِتِّينَ ذِرَاعًا حَرِيمًا؛ لِمَدِّ الْحَبْلِ، لَا أَنَّهُ يَمْلِكُ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ. وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى سَبْعِينَ يَمُدُّ الْحَبْلَ إِلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ مَدُّ الْحَبْلِ لَا أَنَّهُ يَمْلِكُهُ. وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ حَرِيمَ بِئْرِ النَّاضِحِ بِقَدْرِ الْحَبْلِ سَبْعُونَ كَانَ أَوْ أَكْثَرَ. وَالْعَطَنُ: مَبْرَكُ الْإِبِلِ حَوْلَ الْمَاءِ، يُقَالُ: عَطَنَتِ الْإِبِلُ فَهِيَ عَاطِنَةٌ وَعَوَاطِنُ إِذَا سُقِيَتْ، وَتُرِكَتْ عِنْدَ الْحِيَاضِ؛ لِتُعَادَ إِلَى الشُّرْبِ، وَالنَّوَاضِحُ: الْإِبِلُ الَّتِي تُسْقِي الْمَاءَ، وَالْوَاحِدُ نَاضِحٌ، وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّ مَا سُقِيَ مِنَ الزَّرْعِ نَضْحًا فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ» . قَالَ: (وَحَرِيمُ الْعَيْنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ) ؛ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ؛ لِلزِّرَاعَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعِ حَوْضٍ يُجْمَعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَسَاقِيَةٍ يَجْرِي فِيهَا الْمَاءُ إِلَى الْمَزَارِعِ، فَاحْتَاجَ إِلَى مَسَافَةٍ أَكْثَرَ مِنَ الْبِئْرِ. قَالَ: (وَالْقَنَاةُ عِنْدَ خُرُوجِ الْمَاءِ كَالْعَيْنِ) ، وَقَبْلَهُ قِيلَ: هُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْقَنَاةِ مِنَ الْحَرِيمِ؛ لِمُلْقَى طِينِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ، فَإِذَا ظَهَرَ فَهُوَ كَالْعَيْنِ الْفَوَّارَةِ. قِيلَ: هُوَ قَوْلُهُمَا. أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا حَرِيمَ لِلْقَنَاةِ مَا لَمْ يَظْهَرِ الْمَاءُ؛ لِأَنَّهُ نَهْرٌ مَطْوِيٌّ - فَيُعْتَبَرُ بِالنَّهْرِ الظَّاهِرِ. (وَلَا حَرِيمَ لِلنَّهْرِ الظَّاهِرِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ (إِذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ. وَكَذَا لَوْ حَفَرَهُ فِي أَرْضِ مَوَاتٍ لَا حَرِيمَ لَهُ) خِلَافًا لَهُمَا. وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا: لِلنَّهْرِ حَرِيمٌ بِقَدْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وَلَوْ غَرَسَ شَجَرَةً فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَحَرِيمُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ، وَمَا عَدَلَ عَنْهُ الْفُرَاتُ وَدَجْلَةُ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ إِنْ لَمْ يُحْتَمَلْ عَوْدُهُ إِلَيْهِ، وَإِنِ احْتُمِلَ عَوْدُهُ لَا يَجُوزُ. كِتَابُ الشِّرْبِ وَهُوَ النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءَ، وَقِسْمَةُ الْمَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ.   [الاختيار لتعليل المختار] مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ لِإِلْقَاءِ الطِّينِ وَنَحْوِهِ بِالِاتِّفَاقِ. ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: حَرِيمُهُ مِقْدَارُ عَرْضِ نِصْفِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْحَاجَةُ الْغَالِبَةُ، وَذَلِكَ بِنَقْلِ تُرَابِهِ إِلَى حَافَّتَيْهِ فَيَكْفِي مَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَرْضُ جَمِيعِ النَّهْرِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُمْكِنُهُ إِلْقَاءُ التُّرَابِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى إِلْقَائِهِ فِي أَحَدِهِمَا، فَيُقَدِّرُ فِي كُلِّ طَرَفٍ بِبَطْنِ النَّهْرِ وَالْحَوْضِ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ. لَهُمَا أَنَّهُ لَا انْتِفَاعَ بِالنَّهْرِ وَالْحَوْضِ إِلَّا بِالْحَرِيمِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى الْمَشْيِ فِيهِ؛ لِتَسْيِيلِ الْمَاءِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَادَةً فِي بَطْنِهِ وَإِلَى إِلْقَاءِ الطِّينِ، وَأَنَّهُ يُحَرَّجُ بِنَقْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَرِيمٌ كَالْبِئْرِ. وَلَهُ أَنَّ الْحَرِيمَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِمَا مَرَّ، تَرَكْنَاهُ فِي الْبِئْرِ بِالْحَدِيثِ. وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ فِي الْبِئْرِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِمَاءِ الْبِئْرِ بِدُونِ الِاسْتِسْقَاءِ، وَلَا اسْتِسْقَاءَ إِلَّا بِالْحَرِيمِ. أَمَّا النَّهْرُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِمَائِهِ بِدُونِ الْحَرِيمِ. ثُمَّ قَالَ: (وَلَوْ غَرَسَ شَجَرَةً فِي أَرْضِ مَوَاتٍ فَحَرِيمُهَا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ) ، لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَغْرِسَ فِيهِ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا غَرَسَ شَجَرَةً فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ، فَجَاءَ آخَرُ وَأَرَادَ أَنْ يَغْرِسَ شَجَرَةً إِلَى جَانِبِ شَجَرَتِهِ، فَشَكَا الْأَوَّلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ شَجَرَتِهِ جَرِيدَةً فَتُذْرَعَ، فَبَلَغَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، فَجَعَلَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَرِيمَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ، وَأَطْلَقَ لِلْآخَرِ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ". هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةٍ " سَبْعَةَ أَذْرُعٍ» . قَالَ فِي الْمُحِيطِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. قَالَ: (وَمَا عَدَلَ عَنْهُ الْفُرَاتُ وَدِجْلَةُ يَجُوزُ إِحْيَاؤُهُ إِنْ لَمْ يُحْتَمَلْ عَوْدُهُ إِلَيْهِ) ; لِأَنَّهُ كَالْمَوَاتِ، وَهُوَ فِي يَدِ الْإِمَامِ إِذَا لَمْ يَكُنْ حَرِيمًا لِعَامِرٍ. (وَإِنِ احْتَمَلَ عَوْدُهُ لَا يَجُوزُ) ؛ لِحَاجَةِ الْعَامَّةِ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الشِّرْبِ] (وَهُوَ النَّصِيبُ مِنَ الْمَاءِ) لِلْأَرَاضِي وَغَيْرِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155] . قَالَ: (وَقِسْمَةُ الْمَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ جَائِزَةٌ) . وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَفْعَلُونَهُ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ. وَتَعَامَلَهُ النَّاسُ إِلَى يَوْمِنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهُوَ قِسْمَةٌ بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ دُونَ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ فِي النَّهْرِ. وَالْقِسْمَةُ تَارَةً تَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 وَيَجُوزُ دَعْوَى الشِّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ، وَيُورَثُ، وَيُوصِي بِمَنْفَعَتِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ. وَلَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُتَصَدَّقُ بِهِ، وَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا وَلَا بَدَلًا فِي الْخُلْعِ، وَلَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ عَنْ دَعْوَى الْمَالِ، وَلَا فِي الْقِصَاصِ. وَالْمِيَاهُ أَنْوَاعٌ: مَاءُ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَامٌّ، لِجَمِيعِ الْخَلْقِ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِالشَّفَةِ وَسَقْيِ الْأَرَاضِي، وَشَقِّ الْأَنْهَارِ. وَالْأَوْدِيَةُ وَالْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ، وَالنِّيلِ، وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ - فَالنَّاسُ مُشْتَرِكُونَ فِيهِ فِي الشَّفَةِ، وَسَقْيِ الْأَرَاضِي، وَنَصْبِ الْأَرْحِيَةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ كَقِسْمَةِ الْغَنَائِمِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ دَعْوَى الشِّرْبِ بِغَيْرِ أَرْضٍ) اسْتِحْسَانًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الشِّرْبُ حَقًّا لَهُ بِدُونِ الْأَرْضِ، بِأَنِ اشْتَرَى الْأَرْضَ وَالشِّرْبَ، ثُمَّ بَاعَ الْأَرْضَ، وَبَقِيَ الشِّرْبُ أَوْ وَرِثَهُ. وَقَدْ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ مَا لَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ كَالْقِصَاصِ وَالْخَمْرِ. وَإِذَا شَهِدُوا بِشِرْبِ يَوْمٍ مِنَ النَّهْرِ لَا تُقْبَلُ إِذَا لَمْ يَقُولُوا مِنْ كَمْ يَوْمٍ. وَلَوِ ادَّعَى أَرْضًا عَلَى نَهْرٍ شِرْبُهَا مِنْهُ، فَشَهِدُوا لَهُ بِالْأَرْضِ - قَضَى بِهَا وَبِحِصَّتِهَا مِنَ الشِّرْبِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَنْفَكُّ عَنِ الشِّرْبِ. وَلَوِ ادَّعَى الشِّرْبَ وَحْدَهُ، فَشَهِدُوا لَهُ - لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ: (وَيُورَثُ، وَيُوَصِي بِمَنْفَعَتِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ) ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ مَالِيٌّ، فَيَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ. وَجَهَالَةُ الْمُوصَى بِهِ لَا تَمْنَعُ الْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِنْ أَوْسَعِ الْعُقُودِ حَتَّى جَازَتْ لِلْمَعْدُومِ وَبِالْمَعْدُومِ. قَالَ: (وَلَا يُبَاعُ، وَلَا يُوهَبُ، وَلَا يُتَصَدَّقُ بِهِ) ؛ لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ، وَعَدَمِ تَصَوُّرِ الْقَبْضِ. وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ حَتَّى لَوْ سَقَى بِهِ غَيْرَهُ لَا يَضْمَنُ. (وَلَا يَصْلُحُ مَهْرًا) ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. (وَلَا بَدَلًا فِي الْخُلْعِ) حَتَّى تَرُدَّ مَا قَبَضَتْ مِنَ الْمَهْرِ، (وَلَا بَدَلًا فِي الصُّلْحِ) عَنْ دَعْوَى الْمَالِ، (وَلَا فِي الْقِصَاصِ) ، وَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَتَجِبُ الدِّيَةُ. (وَالْمِيَاهُ أَنْوَاعٌ) : الْأَوَّلُ: (مَاءُ الْبَحْرِ، وَهُوَ عَامٌّ، لِجَمِيعِ الْخَلْقِ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِالشَّفَةِ، وَسَقْيِ الْأَرَاضِي وَشَقِّ الْأَنْهَارِ) . لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ وَالْهَوَاءِ. (وَ) الثَّانِي: (الْأَوْدِيَةُ وَالْأَنْهَارُ الْعِظَامُ كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَالنِّيلِ وَالْفُرَاتِ وَدِجْلَةَ، فَالنَّاسُ مُشْتَرِكُونَ فِيهِ فِي الشَّفَةِ، وَسَقْيِ الْأَرَاضِي، وَنَصْبِ الْأَرْحِيَةِ) وَالدَّوَالِي إِذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْعَامَّةِ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُحْيِيَ مَوَاتًا وَيَشُقَّ نَهْرًا؛ لِسَقْيِهَا، لَيْسَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ. وَغَلَبَةُ الْمَاءِ تَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ وَاسْتِيلَاءَهُ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَاجِبٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكْسِرَ ضَفَّتَهُ فَيَمِيلَ الْمَاءُ إِلَى جَانِبِهَا فَيُغْرِقَ الْأَرَاضِيَ وَالْقُرَى، وَكَذَا شَقُّ السَّاقِيَةِ لِلرَّحَى وَالدَّالِيَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 وَمَا يَجْرِي فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لِقَرْيَةٍ فَلِغَيْرِهِمْ فِيهِ شَرِكَةٌ فِي الشَّفَةِ، وَمَا أُحْرِزَ فِي جُبٍّ وَنَحْوِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، وَلَهُ بَيْعُهُ. وَلَوْ كَانَتِ الْبِئْرُ أَوِ الْعَيْنُ أَوِ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ لَهُ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَةَ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إِنْ كَانَ يَجِدُ غَيْرَهُ بِقُرْبِهِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؛ فَإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ، أَوْ يُخْرِجَ الْمَاءَ إِلَيْهِ. فَإِنْ مَنَعَهُ وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَطِيَّتِهِ قَاتَلَهُ بِالسِّلَاحِ، وَفِي الْمُحْرَزِ بِالْإِنَاءِ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ. وَالطَّعَامُ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ بِالْإِنَاءِ.   [الاختيار لتعليل المختار] (وَ) الثَّالِثُ: (مَا يَجْرِي فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لِقَرْيَةٍ، فَلِغَيْرِهِمْ فِيهِ شَرِكَةٌ فِي الشَّفَةِ) ، وَهُوَ الشِّرْبُ وَالسَّقْيُ لِلدَّوَابِّ. وَلَهُمْ أَخْذُ الْمَاءِ؛ لِلْوُضُوءِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَالْخُبْزِ وَالطَّبْخِ لَا غَيْرُ، وَإِنْ أَتَى عَلَى الْمَاءِ كُلِّهِ. رُوِيَ أَنَّهُ وَرَدَتْ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ مَسَائِلُ مِنْ خُرَاسَانَ، فَدَفَعَهَا إِلَى زُفَرَ؛ لِيَكْتُبَ فِيهَا. مِنْهَا: رَجُلٌ لَهُ مَاءٌ يَجْرِي إِلَى مَزَارِعِهِ، فَيَجِيءُ رَجُلٌ، فَيَسْقِي إِبِلَهُ وَدَوَابَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُنْفِذَهُ كُلَّهُ - هَلْ لَهُ ذَلِكَ؟ فَكَتَبَ زُفَرُ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ. فَعَرَضَهَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، فَغَلَّطَهُ، وَقَالَ: لِصَاحِبِ الْإِبِلِ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ. وَالْحَدِيثُ يَشْمَلُ الشِّرْبَ وَالشُّرْبَ، إِلَّا أَنَّ الشِّرْبَ خُصَّ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ أَهْلِهِ، وَبَقِيَ حَقُّ الشَّفَةِ لِلضَّرُورَةِ إِمَّا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَالْبِئْرُ وَالْحَوْضُ حُكْمُهُمَا حُكْمُ النَّهْرِ الْخَاصِّ. (وَ) الرَّابِعُ: (مَا أُحْرِزَ فِي جُبٍّ وَنَحْوِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بِدُونِ إِذْنِ صَاحِبِهِ، وَلَهُ بَيْعُهُ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِحْرَازِ، وَصَارَ كَالصَّيْدِ وَالْحَشِيشِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَتِهِ؛ لِقِيَامِ شُبْهَةِ الشَّرِكَةِ فِيهِ بِالْحَدِيثِ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَتِ الْبِئْرُ أَوِ الْعَيْنُ أَوِ النَّهْرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ لَهُ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ الشَّفَةَ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ إِنْ كَانَ يَجِدُ غَيْرَهُ بِقُرْبِهِ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِإِمَّا أَنْ يَتْرُكَهُ يَأْخُذُ بِنَفْسِهِ) ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكْسِرَ ضَفَّتَهُ، (أَوْ يُخْرِجَ الْمَاءَ إِلَيْهِ. فَإِنْ مَنَعَهُ، وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَطِيَّتِهِ - قَاتَلَهُ بِالسِّلَاحِ) ؛ لِمَا رُوِيَ أَنْ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً، فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ، فَأَبَوْا. فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا، فَأَبَوْا، فَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ تَنْقَطِعُ، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: هَلَّا وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلَاحَ؟ وَلِأَنَّهُ مَنْعُ الْمُضْطَرِّ عَنْ حَقِّهِ ; لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي الشَّفَةِ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ. (وَفِي الْمُحْرَزِ بِالْإِنَاءِ يُقَاتِلُهُ بِغَيْرِ سِلَاحٍ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْإِحْرَازِ حَتَّى كَانَ لَهُ تَضْمِينُهُ، إِلَّا أَنَّهُ مَأْمُورٌ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ قَدْرَ حَاجَتِهِ، فَبِالْمَنْعِ خَالَفَ الْأَمْرَ فَيُؤَدِّبُهُ. (وَالطَّعَامُ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ كَالْمَاءِ الْمُحْرَزِ بِالْإِنَاءِ) فِي الْإِبَاحَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ وَالضَّمَانِ؛ لِمَا بَيَّنَّا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 فَصْلٌ [كَرْيُ الْأَنْهَارِ] كَرْيُ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْعَامَّةِ فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَوْ كَانَ النَّهْرُ أَوِ الْبِئْرُ فِي مَوَاتٍ قَدْ أَحْيَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ الشَّفَةِ مِنَ الدُّخُولِ إِذَا كَانَ لَا يَكْسِرُ الْمُسَنَّاةَ؛ لِأَنَّ الْمَوَاتَ كَانَ مُشْتَرَكًا، وَالْإِحْيَاءَ لِحَقٍّ مُشْتَرَكٍ، فَلَا يَقْطَعُ حَقَّ الشَّفَةِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " الْمُسْلِمُونَ "، وَفِي رِوَايَةٍ: «النَّاسُ مُشْتَرِكُونَ فِي ثَلَاثٍ: فِي الْمَاءِ، وَالْكَلَأِ، وَالنَّارِ» . أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ فِيهَا لِلنَّاسِ كَافَّةً، الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ فِيهِ سَوَاءٌ، فَحُكْمُ الْمَاءِ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا الْكَلَأُ إِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَالنَّاسُ فِيهِ شُرَكَاءُ فِي الِاحْتِشَاشِ وَالرَّعْيِ كَاشْتِرَاكِهِمْ فِي مَاءِ الْبَحْرِ. وَإِنْ كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ، وَقَدْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ - فَهُوَ كَالنَّهْرِ فِي أَرْضِهِ لَا يُمْنَعُ عَنْهُ، وَلَهُ الْمَنْعُ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ. وَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ فَعَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْمَاءِ. وَإِنْ أَنْبَتَهُ فِي أَرْضِهِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ. وَالْكَلَأُ مَا انْبَسَطَ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَا سَاقَ لَهُ كَالْإِذْخِرِ وَنَحْوِهِ. أَمَّا مَا لَهُ سَاقٌ فَهُوَ شَجَرٌ وَهُوَ مِلْكٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ فِي الْكَلَأِ لَا فِي الشَّجَرِ، وَالْعَوْسَجُ مِنَ الشَّجَرِ. وَأَمَّا النَّارُ فَلَوْ أَوْقَدَ نَارًا فِي مَفَازَةٍ فَالْجَمْرُ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنَ الِاسْتِضَاءَةِ وَالِاصْطِلَاءِ، وَأَنْ يَتَّخِذَ مِنْهَا سِرَاجًا؛ لِأَنَّ الْجَمْرَ مِنَ الْحَطَبِ وَأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَالنُّورَ جَوْهَرُ الْجَمْرِ. وَلِأَنَّا لَوْ أَطْلَقْنَا النَّاسَ فِي أَخْذِ الْجَمْرِ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَصْطَلِي بِهِ وَلَا مَا يَخْبِزُ وَيَطْبُخُ بِهِ. وَإِنْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ لَا مِنَ النَّارِ كَمَا مَرَّ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَأِ. [فصل كرى الأنهار العظام على بيت المال] فَصْلٌ [كَرْيُ الْأَنْهَارِ] (كَرْيُ الْأَنْهَارِ الْعِظَامِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ) ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَدْخُلُ فِي الْمَقَاسَمِ كَسَيْحُونَ وَإِخْوَتِهِ جَيْحُونَ وَالنِّيلِ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ، وَمَا شَابَهَهَا؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهَا لِلْعَامَّةِ فَيَكُونُ فِي مَالِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ أُجْبِرَ النَّاسُ عَلَى كَرْيِهِ إِذَا احْتَاجَ إِلَى الْكَرْيِ إِحْيَاءً؛ لِحَقِّ الْعَامَّةِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ، لَكِنْ يُخْرِجُ الْإِمَامُ مَنْ يُطِيقُ الْعَمَلَ، وَيَجْعَلُ مَئُونَتَهُمْ عَلَى الْمَيَاسِيرِ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَهُ. (وَمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْعَامَّةِ فَكَرْيُهُ عَلَى أَهْلِهِ) ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَهُمْ. (وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ يُجْبَرُ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ الْعَامِّ، وَهُوَ ضَرَرُ الشُّرَكَاءِ بِالضَّرَرِ الْخَاصِّ، كَيْفَ وَفِيهِ مَنْفَعَتُهُ؟ فَلَا يُعَارِضُهُ. وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ بِأَنْ خَافُوا أَنْ يَنْشَقَّ النَّهْرُ، فَيَخْرُجَ الْمَاءُ إِلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَرَاضِيهِمْ - فَعَلَيْهِمْ تَحْصِينُهُ بِالْحِصَصِ. وَالنَّهْرُ الْمَمْلُوكُ لِجَمَاعَةٍ مَخْصُوصِينَ فَكَرْيُهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ قِيلَ: يُجْبَرُ؛ لِمَا مَرَّ، وَقِيلَ: لَا يُجْبَرُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الضَّرَرَيْنِ خَاصٌّ. وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالْكَرْيِ بِأَمْرِ الْقَاضِي، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْآبِي، وَلَا كَذَلِكَ الْأَوَّلُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وَمَئُونَةُ الْكَرْيِ إِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ تُرْفَعُ عَنْهُ (سم) ، وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ شَيْءٌ مِنَ الْكَرْيِ. نَهْرٌ لِرَجُلٍ يَجْرِي فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَنْعُهُ. نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ اخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ، وَلَيْسَ لِلْأَعْلَى أَنْ يُسْكِرَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمْ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَمَئُونَةُ الْكَرْيِ إِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ تُرْفَعُ عَنْهُ) . وَقَالَا: الْكَرْيُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ وَالْأَرَاضِي؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى يَحْتَاجُ إِلَى مَا وَرَاءَ أَرْضِهِ؛ لِتَسْيِيلِ مَا فَضَلَ مِنْ مَائِهِ كَيْ لَا يَغْرَقَ أَهْلُهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَهُ تَمَكَّنَ مِنْ سَقْيِهَا، وَانْدَفَعَتْ حَاجَتُهُ - فَلَا يَلْزَمُهُ مَا بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ أَمْكَنَهُ السَّقْيُ بِدُونِ الْكَرْيِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَرْيُ. وَمَا ذُكِرَ مِنَ الْحَاجَةِ يَنْدَفِعُ بِسَدِّهِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْمَسِيلِ عِمَارَتُهُ كَمَنْ لَهُ عَلَى سَطْحِ آخَرَ مَسِيلُ مَاءٍ. وَإِذَا جَاوَزَ الْكَرْيُ أَرْضَ رَجُلٍ هَلْ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءَ؟ قِيلَ: لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَرْيَ قَدِ انْتَهَى فِي حَقِّهِ، وَقِيلَ: لَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ. وَلِهَذَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْكَرْيِ مِنْ أَسْفَلِ النَّهْرِ، أَوْ بِتَرْكِ بَعْضِهِ مِنْ أَعْلَاهُ. قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشَّفَةِ شَيْءٌ مِنَ الْكَرْيِ) ؛ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ عَامَّةٌ. قَالَ: (نَهْرٌ لِرَجُلٍ يَجْرِي فِي أَرْضِ غَيْرِهِ لَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مَنْعُهُ) ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ عَمَلًا بِالْبَيِّنَةِ، وَعَلَى هَذَا الْمَصَبُّ فِي نَهْرٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ، وَالْمِيزَابُ وَالطَّرِيقُ فِي دَارِ غَيْرِهِ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ فِي الدَّعْوَى: مَصَبُّ مَاءِ الْوُضُوءِ أَوِ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِمَكَانِ التَّفَاوُتِ. قَالَ: (نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ اخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ فَهُوَ بَيْنُهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشِّرْبِ سَقْيُ الْأَرْضِ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ التَّطَرُّقَ إِلَى الدَّارِ الْوَاسِعَةِ وَالضَّيِّقَةِ سَوَاءٌ. وَلَوْ كَانَ لِبَعْضِ الْأَرَاضِي سَاقِيَةٌ، وَلِلْبَعْضِ دَالِيَةٌ، وَلَا شَيْءَ لِلْبَعْضِ، وَلَيْسَ لَهَا شِرْبٌ مَعْلُومٌ - فَالشِّرْبُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمُ الَّتِي عَلَى حَافَّةِ النَّهْرِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ النَّهْرِ سَقْيُ الْأَرْضِ لَا اتِّخَاذُ السَّوَاقِي وَالدَّوَالِي، فَيَسْتَوِي حَالُهُمْ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ. وَلِأَنَّ الْأَرَاضِيَ فِي الْأَصْلِ لَا بُدَّ لَهَا مَنْ شِرْبٍ، وَإِنْ كَانَ لَهَا شِرْبٌ مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا النَّهْرِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي هَذَا النَّهْرِ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْأَعْلَى أَنْ يُسْكِرَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ، إِلَّا بِتَرَاضِيهِمْ) ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْبَاقِينَ، وَهُوَ مَنْعُ الْمَاءِ عَنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِحْدَاثِ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ، وَرُبَّمَا يَنْكَبِسُ مَا يُحْدِثُ فِيهِ عِنْدَ السَّكْرِ. وَرَقَبَتُهُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ، فَلَا يَجُوزُ، لَكِنْ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ. فَإِذَا رَضُوا بِذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ. وَكَذَلِكَ لَوِ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي نَوْبَتِهِ جَازَ؛ لِمَا قُلْنَا. لَكِنْ لَا يَسْكُرُ إِلَّا بِلَوْحٍ أَوْ بَابٍ، وَلَا يَسْكُرُ بِالطِّينِ وَالتُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ يَكْبِسُ النَّهْرَ، وَفِيهِ ضَرَرٌ. وَإِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَشُقَّ مِنْهُ نَهْرًا، أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى، أَوْ يَتَّخِذَ عَلَيْهِ جِسْرًا، أَوْ يُوَسِّعَ فَمَهُ. أَوْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ لَهَا شِرْبٌ - إِلَّا بِتَرَاضِيهِمْ. وَلَوْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقْسِمَ بِالْأَيَّامِ، وَلَا مُنَاصَفَةً، وَلَا يَزِيدُ كَوَّةً، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْبَاقِينَ. كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ وَهِيَ عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَمْ يَسْكُرْ بِاللَّوْحِ فَبِالتُّرَابِ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَشُقَّ مِنْهُ نَهْرًا، أَوْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًى، أَوْ يَتَّخِذَ عَلَيْهِ جِسْرًا أَوْ يُوَسِّعَ فَمَهُ، أَوْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إِلَى أَرْضٍ لَيْسَ لَهَا شِرْبٌ إِلَّا بِتَرَاضِيهِمْ) . أَمَّا شَقُّ النَّهْرِ وَنَصْبُ الرَّحَى فَلِأَنَّ فِيهِ كَسْرَ ضَفَّةِ النَّهْرِ وَشَغْلَ مِلْكِ الْغَيْرِ بِبُنْيَانِهِ، إِلَّا أَنْ لَا تَضُرَّ الرَّحَى بِالنَّهْرِ وَلَا بِالْمَاءِ. وَيَكُونَ مَكَانُهَا لَهُ خَاصٌّ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالْغَيْرِ. وَأَمَّا اتِّخَاذُ الْجِسْرِ فَهُوَ كَطَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ، وَالْقَنْطَرَةُ كَالْجِسْرِ. وَأَمَّا تَوْسِعَةُ فَمِهِ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ ضَفَّةَ النَّهْرِ، وَيَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ. وَأَمَّا سَوْقُ شِرْبِهِ إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى فَلِأَنَّهُ رُبَّمَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ، فَيَدَّعِيهِ، وَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ لَهُ، فَإِذَا رَضُوا بِذَلِكَ جَازَ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَتِ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقْسِمَ بِالْأَيَّامِ، وَلَا مُنَاصَفَةً) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ ظَهَرَ بِذَلِكَ، فَيُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا. قَالَ: (وَلَا يَزِيدُ كُوَّةً وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْبَاقِينَ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا، بِخِلَافِ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَشُقَّ فِيهِ نَهْرًا مُبْتَدَأً، فَزِيَادَةُ الْكُوَّةِ أَوْلَى. [كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ] (وَهِيَ) مُفَاعَلَةٌ مِنَ الزِّرَاعَةِ، وَهِيَ الْحَرْثُ وَالْفِلَاحَةُ. وَتُسَمَّى مُخَابَرَةً، مُشْتَقَّةٌ مِنْ خَيْبَرَ «فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَفَعَ خَيْبَرَ مُزَارَعَةً» ، فَسُمِّيَتِ الْمُزَارَعَةُ مُخَابَرَةً؛ لِذَلِكَ. أَوْ مِنَ الْخَيْبَرِ وَهُوَ الْإِكَّارُ، أَوْ مِنَ الْخُبْرَةِ بِالضَّمِّ: النَّصِيبُ، أَوْ مِنَ الْخَبَارِ: الْأَرْضُ اللَّيِّنَةُ. وَتُسَمَّى الْمُحَاقَلَةَ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحَقْلِ، وَهُوَ الزَّرْعُ إِذَا تَشَعَّبَ قَبْلَ أَنْ يَغْلُظَ سُوقُهُ، وَقِيلَ: الْحَقْلُ: الْأَرْضُ الطَّيِّبَةُ الْخَالِصَةُ مِنْ شَائِبَةِ السَّبْخِ، الصَّالِحَةُ لِلزِّرَاعَةِ، وَتُسَمِّيهِ أَهْلُ الْعِرَاقِ الْقِرَاحُ. وَفِي الشَّرْعِ (عَقْدٌ عَلَى الزَّرْعِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ) ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٍ وَزَرْعٍ» ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ قَدْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ بِنَفْسِهِ، وَلَا يَجِدُ مَا يَسْتَأْجِرُ بِهِ. وَالْقَادِرُ عَلَى الْعَمَلِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ فَاسِدَةٌ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا. وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّأْقِيتِ، وَمِنْ صَلَاحِيَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، وَمِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْبَذْرِ، وَمَعْرِفَةِ جِنْسِهِ، وَنَصِيبِ الْآخَرِ، وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ. وَأَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا حَتَّى لَوْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مَعْلُومَةً، أَوْ مَا عَلَى السَّوَاقِي. أَوْ أَنْ يَأْخُذَ رَبُّ الْبَذْرِ بَذْرَهُ أَوِ الْخَرَاجَ فَسَدَتْ. وَإِنْ شَرَطَ رَفْعَ الْعُشْرِ جَازَ.   [الاختيار لتعليل المختار] لَا يَجِدُ أَرْضًا، وَلَا مَا يَعْمَلُ بِهِ. فَدَعَتِ الْحَاجَةُ إِلَى جَوَازِهَا دَفْعًا لِلْحَاجَةِ كَالْمُضَارَبَةِ. (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هِيَ فَاسِدَةٌ) ؛ لِمَا رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، نَهَانَا إِذَا كَانَ لِأَحَدِنَا أَرْضٌ أَنْ نُعْطِيَهَا بِبَعْضِ الْخَارِجِ ثُلُثِهِ أَوْ نِصْفِهِ. وَقَالَ: " مَنْ كَانَتِ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ يَمْنَحْهَا أَخَاهُ» . وَهَذَا مُتَأَخِّرٌ عَمَّا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ مِنَ الْإِبَاحَةِ، وَيَعْمَلُونَهُ - فَاقْتَضَى نَسْخَهُ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُخَابَرَةِ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْمُخَابَرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَأْخُذَ أَرْضًا بِثُلُثٍ، أَوْ نِصْفٍ، أَوْ رُبْعٍ» . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كُنَّا نُخَابِرُ، وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى ذَكَرَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنِ الْمُخَابَرَةِ "، فَتَرَكْنَاهُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِهِ» . وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ مَعْدُومَةٍ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ. وَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ بِبَعْضِ مَا يَحْصُلُ مِنْ عَمَلِهِ فَلَا يَجُوزُ كَقَفِيزِ الطِّحَانِ. وَحَدِيثُ خَيْبَرَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ خَرَاجُ مُقَاسَمَةٍ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا فَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً تَرَكَ خَيْبَرَ عَلَى أَهْلِهَا بِوَظِيفَةٍ وَظَّفَهَا عَلَيْهِمْ، وَهِيَ نِصْفُ مَا يَخْرُجُ مِنْ نَخِيلِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ. (وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا) ؛ لِحَاجَةِ النَّاسِ. وَقَدْ تَعَامَلَ بِهَا السَّلَفُ، فَصَارَتْ شَرِيعَةً مُتَوَارَثَةً، وَقَضِيَّةً مُتَعَارَفَةً. قَالَ الْحَصِيرِيُّ: وَأَبُو حَنِيفَةَ هُوَ الَّذِي فَرَّعَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى أُصُولِهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ لَا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ التَّأْقِيتِ) ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ إِجَارَةً ابْتِدَاءً، وَشَرِكَةً انْتِهَاءً. وَلِأَنَّهَا تُرَدُّ عَلَى مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ الْمُدَّةِ كَالْإِجَارَةِ. قَالَ: (وَمِنْ صَلَاحِيَةِ الْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ) ؛ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ؛ إِذْ هِيَ الْمَحَلُّ. قَالَ: (وَمِنْ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْبَذْرِ) قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ، (وَمَعْرِفَةِ جِنْسِهِ) ؛ لِأَنَّهُ الْأُجْرَةُ، (وَنَصِيبِ الْآخَرِ) ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عِوَضًا بِالشَّرْطِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا. قَالَ: (وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ) ؛ لِمَا مَرَّ فِي الْمُضَارَبَةِ. (وَأَنْ يَكُونَ الْخَارِجُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا) ؛ لِمَا مَرَّ فِي الْمُضَارَبَةِ. فَكُلُّ شَرْطٍ يُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ يُفْسِدُهَا، (حَتَّى لَوْ شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مَعْلُومَةً، أَوْ مَا عَلَى السَّوَاقِي، أَوْ أَنْ يَأْخُذَ رَبُّ الْبَذْرِ بَذْرَهُ، أَوِ الْخَرَاجَ - فَسَدَتْ) ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْمُضَارَبَةِ. قَالَ: (وَإِنْ شَرَطَ رَفْعَ الْعُشْرِ جَازَ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى بَعْدَهُ تِسْعَةُ أَعْشَارٍ، فَتَبْقَى الشَّرِكَةُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْخَرَاجِ وَالْبَذْرِ ; لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَخْرُجُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 وَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ، وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرُ لِآخَرَ. أَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ وَالْبَاقِي لِآخَرَ، أَوْ كَانَ الْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ وَالْبَاقِي لِآخَرَ - فَهِيَ صَحِيحَةٌ. وَإِذَا صَحَّتِ الْمُزَارَعَةُ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ، وَمَا عَدَا هَذِهِ الْوُجُوهَ فَاسِدَةٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ أَوْ أَقَلُّ مِنْهُ، فَيُؤَدِّي إِلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فَيَبْطُلُ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَتِ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ لِوَاحِدٍ، وَالْعَمَلُ وَالْبَقَرُ لِآخَرَ. أَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ لِوَاحِدٍ، وَالْبَاقِي لِآخَرَ. أَوْ كَانَ الْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْبَاقِي لِآخَرَ - فَهِيَ صَحِيحَةٌ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِلْأَرْضِ أَوْ لِلْعَامِلِ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِلْعَامِلِ، وَالْبَقَرُ آلَةُ الْعَمَلِ، فَكَانَتْ تَابِعَةً لَهُ لَا يُقَابِلُهَا أُجْرَةٌ كَإِبْرَةِ الْخَيَّاطِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضٍ مَعْلُومٍ، فَصَارَ كَالدَّرَاهِمِ الْمَعْلُومَةِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ اسْتِئْجَارٌ لِلْعَامِلِ؛ لِيَعْمَلَ بِآلَةِ الْمُسْتَعْمِلِ، كَمَا إِذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنْ يَخِيطَ بِإِبْرَةِ صَاحِبِ الثَّوْبِ. (وَإِذَا صَحَّتِ الْمُزَارَعَةُ فَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ) عَمَلًا بِالْتِزَامِهِمَا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» . (فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ) ؛ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَا خَارِجَ، وَصَارَ كَالْمُضَارِبِ إِذَا لَمْ يَرْبَحْ. وَإِنْ كَانَتْ إِجَارَةً فَقَدْ عَيَّنَ الْأُجْرَةَ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرَهَا، بِخِلَافِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، فَلَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْخَارِجِ. قَالَ: (وَمَا عَدَا هَذِهِ الْوُجُوهَ فَاسِدَةٌ) ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ أَيْضًا: وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْبَقَرُ وَالْآلَاتُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، وَالْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ. أَوْ يَكُونَ الْبَذْرُ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَالْبَاقِي مِنَ الْآخَرِ. أَوْ تَكُونَ الْأَرْضُ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْبَقَرُ مِنْ آخَرَ وَالْبَذْرُ مِنْ آخَرَ وَالْعَمَلُ مِنْ آخَرَ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَذْكُورُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ، فَيَجُوزُ، وَيُجْعَلُ الْبَقَرُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ كَمَا تُجْعَلُ تَبَعًا لِلْعَامِلِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَقَرِ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ عَمَلٌ، فَأَمْكَنَ جَعْلُهَا تَبَعًا لِلْعَامِلِ، وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ قُوَّةٌ فِي طَبْعِهَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى يَحْصُلُ بِهَا النَّمَاءُ، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا تَبَعًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ شَرِكَةٌ بَيْنَ الْبَذْرِ وَالْعَمَلِ، وَلَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ أَرْبَعَةً اشْتَرَكُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ قِبَلِ أَحَدِهِمُ الْأَرْضُ، وَمِنْ قِبَلِ الْآخَرِ الْبَذْرُ، وَمِنْ قِبَلِ الْآخَرِ الْبَقَرُ، وَمِنْ قِبَلِ الْآخَرِ الْعَمَلُ - فَأَبْطَلَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَرْحِ الْآثَارِ: فَزَرَعُوا، ثُمَّ حَصَدُوا، ثُمَّ أَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَجَعَلَ الزَّرْعَ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ أَجْرًا مَعْلُومًا، وَجَعَلَ لِصَاحِبِ الْفَدَّانِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، وَأَلْغَى الْأَرْضَ فِي ذَلِكَ» . وَوَجْهٌ آخَرُ فَاسِدٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ وَالْبَقَرُ مِنْ جَانِبٍ، وَالْعَمَلُ وَالْأَرْضُ مِنْ جَانِبٍ؛ لِمَا مَرَّ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وَإِذَا فَسَدَتْ فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ، وَلِلْآخَرِ أَجْرُ عَمَلِهِ أَوْ أَجْرُ أَرْضِهِ لَا يُزَادُ عَلَى قَدْرِ الْمُسَمَّى (م) . وَلَوْ شَرَطَا التِّبْنَ لِرَبِّ الْبَذْرِ صَحَّ، وَإِنْ شَرَطَاهُ لِلْآخَرِ لَا يَصِحُّ. وَإِنْ عَقَدَاهَا، فَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ - لَمْ يُجْبَرْ. وَإِنِ امْتَنَعَ الْآخَرُ أُجْبِرَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ عُذْرٌ تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ، فَتُفْسَخُ بِهِ الْمُزَارَعَةُ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِذَا فَسَدَتْ فَالْخَارِجُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ) ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَالْآخَرُ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالتَّسْمِيَةِ، وَقَدْ فَسَدَتْ. (وَلِلْآخَرِ أَجْرُ عَمَلِهِ) إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ، (أَوْ أَجْرُ أَرْضِهِ) إِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ. (لَا يُزَادُ عَلَى قَدْرِ الْمُسَمَّى) ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِقَدْرِ الْمُسَمَّى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْإِجَارَةِ. وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ لِرَبِّ الْأَرْضِ فِي الْمُزَارَعَةِ الْفَاسِدَةِ طَابَ لَهُ جَمِيعُهُ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ فِي أَرْضِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامِلِ طَابَ لَهُ قَدْرُ بَذْرِهِ وَقَدْرُ أَجْرِ الْأَرْضِ، وَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مِنْ بَذْرِهِ لَكِنْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ أَوْجَبَ خُبْثًا، فَمَا كَانَ عِوَضَ مَالِهِ طَابَ لَهُ وَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ. وَإِنْ شَرَطَا عَمَلَهُمَا جَمِيعًا فَهِيَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ إِنْ كَانَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَقَدْ شَرَطَ عَمَلَهُ، لَمْ تُوجَدِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالْعَامِلِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا شَرْطٌ. وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامِلِ فَالْعَامِلُ قَدِ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ، فَإِذَا شَرَطَ عَمَلَ صَاحِبِهَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ مَا اسْتَأْجَرَ فَيَبْطُلُ. وَلَوْ شَرَطَا الْخَارِجَ كُلَّهُ لِأَحَدِهِمَا، وَالْبَذْرَ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ - جَازَ، فَإِنْ شَرَطَاهُ لَهُ يَكُونُ مُسْتَعِينًا بِالْعَامِلِ؛ لِيَزْرَعَ أَرْضَهُ، وَإِنْ شَرَطَاهُ لِلْعَامِلِ يَكُونُ إِجَارَةً لِلْأَرْضِ وَإِقْرَاضًا لِلْبَذْرِ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنَ الْعَامِلِ، فَإِنْ شَرَطَاهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ فَسَدَتْ. وَالْخَارِجُ لِرَبِّ الْبَذْرِ، وَعَلَيْهِ مِثْلُ أَجْرِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ بِجَمِيعِ الْخَارِجِ، وَأَنَّهُ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ. وَإِنْ شَرَطَاهُ لِلْعَامِلِ جَازَ، وَيَكُونُ مُعِيرًا أَرْضَهُ مِنْهُ. قَالَ: (وَلَوْ شَرَطَا التِّبْنَ لِرَبِّ الْبَذْرِ صَحَّ) ، مَعْنَاهُ بَعْدَ شَرْطِ الْحَبِّ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ التِّبْنَ مِنَ الْبَذْرِ. (وَإِنْ شَرَطَاهُ لِلْآخَرِ لَا يَصِحُّ) ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَخْرُجُ إِلَّا التِّبْنُ، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْطِ. وَلَوْ شَرَطَا الْحَبَّ نِصْفَيْنِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِلتِّبْنِ - صَحَّتِ الشَّرِكَةُ فِي الْمَقْصُودِ، وَالتِّبْنُ لِرَبِّ الْبَذْرِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ بَذْرِهِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا تَبَعًا لِلْحَبِّ. وَلَوْ شَرَطَا التِّبْنَ لِأَحَدِهِمَا، وَالْحَبَّ لِلْآخَرِ - فَهِيَ فَاسِدَةٌ ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُصِيبُهُ آفَةٌ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْحَبُّ. قَالَ: (وَإِنْ عَقَدَاهَا، فَامْتَنَعَ صَاحِبُ الْبَذْرِ - لَمْ يُجْبَرْ) ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلِ الْكِرَابِ فِي الْقَضَاءِ. وَيَلْزَمُهُ دِيَانَةً أَنْ يُرْضِيَهُ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمُزَارَعَةَ غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْبَذْرِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوَفَاءُ بِالْعَقْدِ إِلَّا بِإِتْلَافِ مَالِهِ وَهُوَ الْبَذْرُ، وَهِيَ لَازِمَةٌ فِي حَقِّ الْآخَرِ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَامِلِ أَوْ مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْآخَرِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا. قَالَ: (وَإِنِ امْتَنَعَ الْآخَرُ أُجْبِرَ) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ كَالْإِجَارَةِ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي الْوَفَاءِ بِهِ، (إِلَّا أَنْ يَكُونَ عُذْرٌ تُفْسَخُ بِهِ الْإِجَارَةُ، فَتُفْسَخُ بِهِ الْمُزَارَعَةُ) ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ. وَإِذَا لَزِمَ رَبُّ الْأَرْضِ دَيْنٌ، وَاحْتَاجَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ الْكِرَابِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَأُجْرَةُ الْحَصَادِ وَالرِّفَاعِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ عَلَيْهِمَا بِالْحِصَصِ. وَلَوْ شَرَطَا ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَجُوزُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ جَوَازُهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَطَلَتْ.   [الاختيار لتعليل المختار] إِلَى بَيْعِهَا فِيهِ بَاعَهَا الْحَاكِمُ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ. (وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِأُجْرَةِ الْكِرَابِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ) ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ إِنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ، وَإِنَّمَا قُوِّمَتْ بِالْخَارِجِ وَقَدِ انْعَدَمَ. وَلَوْ نَبَتَ الزَّرْعُ، وَلَمْ يُحْصَدْ؛ لِاتِّبَاعِ الْأَرْضِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْمُزَارِعِ، وَتَأْخِيرُ حَقِّ رَبِّ الدَّيْنِ أَهْوَنُ. وَلَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِظَالِمٍ، وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ. قَالَ: (وَأُجْرَةُ الْحَصَادِ وَالرِّفَاعِ وَالدِّيَاسِ وَالتَّذْرِيَةِ عَلَيْهِمَا بِالْحِصَصِ) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بِانْتِهَاءِ الزَّرْعِ؛ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، فَبَقِيَ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ عَقْدٍ، فَتَكُونُ مَئُونَتُهُ عَلَيْهِمَا. فَإِنْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِ الْآخَرِ وَلَا أَمْرِ الْقَاضِي فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ؛ إِذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ. (وَلَوْ شَرَطَا ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لَا يَجُوزُ) ، وَأَصْلُهُ أَنَّهُ مَتَى شُرِطَ فِي الْمُزَارَعَةِ مَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِهَا فَسَدَتْ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِهِمَا، فَصَارَ كَاشْتِرَاطِ الْحَمْلِ عَلَيْهِ. (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ جَوَازُهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) ؛ لِلتَّعَامُلِ كَالِاسْتِصْنَاعِ. وَلَوْ شَرَطَا ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ. وَإِنْ شَرَطَا مَا هُوَ مِنْ أَعْمَالِ الزِّرَاعَةِ لَا يُفْسِدُهَا، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ يُنْبِتُ وَيَزِيدُ فِي الْخَارِجِ، وَمَا لَا يُنْبِتُ وَلَا يَزِيدُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهَا. وَكُلُّ شَرْطٍ يَنْتَفِعُ بِهِ رَبُّ الْأَرْضِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يُفْسِدُهَا، كَكَرْيِ الْأَنْهَارِ، وَطَرْحِ السِّرْقِينَ فِي الْأَرْضِ، وَبِنَاءِ الْحَائِطِ، وَتَثْنِيَةِ الْكِرَابِ. وَقِيلَ: إِنْ كَانَتِ الْمُزَارَعَةُ سَنَتَيْنِ لَا تَفْسُدُ فِي التَّثْنِيَةِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَا تَبْقَى، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ فِي الْخُضْرَةِ لَا تَفْسُدُ أَيْضًا ; لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لَا تَبْقَى بَعْدَهَا، فَإِنَّهُ لَوْ كَرَبَ مِرَارًا لَا تَبْقَى مَنْفَعَتُهُ بِسَقْيٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ بَقِيَتْ فَسَدَتْ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّثْنِيَةِ، قِيلَ: هُوَ أَنْ يَكْرِبَهَا مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَفِيهِ الْكَلَامُ. وَقِيلَ: أَنْ يَكْرِبَهَا بَعْدَ الْحَصَادِ، وَيُسَلِّمَ الْأَرْضَ مَكْرُوبَةً، وَهَذَا فَاسِدٌ بِكُلِّ حَالٍ. فَكُلُّ عَمَلٍ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ كَالْحِفْظِ وَالسَّقْيِ عَلَى الْعَامِلِ ; لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ الْعَمَلُ، وَمَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِمَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَالْحَصَادِ وَإِخْوَتِهِ، وَمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ كَالْحَمْلِ وَالطِّحْنِ عَلَيْهِمَا بِالْإِجْمَاعِ. وَلَوْ أَرَادَ فَصْلَ الزَّرْعِ قَصِيلًا، أَوْ جِذَاذَ الثَّمَرَةِ بُسْرًا، أَوِ الْتِقَاطَ الرُّطَبِ - فَهُوَ عَلَيْهِمَا ; لِأَنَّهُمَا أَنْهَيَا الْعَقْدَ بِعَزْمِهِمَا، فَصَارَ كَمَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ. قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدِينَ بَطَلَتْ) ؛ لِمَا مَرَّ فِي الْإِجَارَةِ. وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالزَّرْعُ لَمْ يُسْتَحْصَدْ تُرِكَ حَتَّى يُحْصَدَ مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ، وَيَنْتَقِضُ فِيمَا بَقِيَ إِنْ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ؛ لِأَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 وَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يُدْرِكِ الزَّرْعُ - فَعَلَى الْمُزَارِعِ أُجْرَةُ نَصِيبِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ، وَنَفَقَةُ الزَّرْعِ عَلَيْهِمَا حَتَّى يُسْتَحْصَدَ. كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ وَهِيَ كَالْمُزَارَعَةِ فِي الْخِلَافِ وَالْحُكْمِ، وَفِي الشُّرُوطِ إِلَّا الْمُدَّةَ.   [الاختيار لتعليل المختار] بَقَاءَهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْعُذْرِ وَقَدْ زَالَ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْعَامِلِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مَا كَرَبَ، وَحَفَرَ - انْتَقَضَتْ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ، وَقَدْ مَرَّ. قَالَ: (وَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ، وَلَمْ يُدْرِكِ الزَّرْعُ - فَعَلَى الْمُزَارِعِ أُجْرَةُ نَصِيبِهِ مِنَ الْأَرْضِ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ) ؛ لِأَنَّ إِبْقَاءَ الزَّرْعِ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ. قَالَ: (وَنَفَقَةُ الزَّرْعِ عَلَيْهِمَا حَتَّى يُسْتَحْصَدَ) ؛ لِانْتِهَاءِ الْعَقْدِ، فَصَارَ عَمَلًا فِي مَالٍ مُشْتَرَكٍ، فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا. وَلَوْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ، وَالزَّرْعُ بَقْلٌ - فَالْعَمَلُ عَلَى الْعَامِلِ؛ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ بِبَقَاءِ مُدَّتِهِ. 1 - فَصْلٌ [التَّعَدِّي بِالسَّقْيِ] وَمَنْ سَقَى أَرْضَهُ، فَسَالَ مِنْ مَائِهِ إِلَى أَرْضِ غَيْرِهِ، فَغَرَّقَهَا أَوْ نَزَّتْ إِلَيْهَا - فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. مَعْنَاهُ: إِذَا سَقَاهُ سَقْيًا مُعْتَادًا، أَمَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَادٍ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ لِتَغْرِيقِ أَرْضِ الْغَيْرِ غَالِبًا. وَلَوْ كَانَ فِي أَرْضِهِ جُحْرُ فَأْرَةٍ، فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَاءُ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ، فَغَرِقَتْ - إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِعَدَمِ التَّعَدِّي، وَإِنْ عَلِمَ ضَمِنَ؛ لِلتَّعَدِّي. وَعَلَى هَذَا إِذَا فَتَحَ رَأْسَ نَهْرِهِ، فَسَالَ إِلَى أَرْضِ جَارِهِ، فَغَرِقَتْ - إِنْ كَانَ مُعْتَادًا لَا يَضْمَنُ، وَإِلَّا ضَمِنَ. وَكَذَا لَوْ أَحْرَقَ الْكَلَأَ وَالْحَصَائِدَ فِي أَرْضِهِ، فَذَهَبَتِ النَّارُ، فَأَحْرَقَتْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ - إِنْ كَانَ إِيقَادًا مُعْتَادًا لَا يَضْمَنُ، وَإِلَّا ضَمِنَ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ يَوْمَ رِيحٍ، وَعَلِمَ أَنَّ النَّارَ تَتَعَدَّى - ضَمِنَ. [كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ] وَتُسَمَّى مُعَامَلَةً، مُفَاعَلَةٌ مِنَ السَّقْيِ وَالْعَمَلِ، وَهِيَ أَنْ يَقُومَ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الشَّجَرُ مِنْ تَلْقِيحٍ وَعَسْفٍ، وَتَنْظِيفِ السَّوَاقِي وَسَقْيٍ وَحِرَاسَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (وَهِيَ كَالْمُزَارَعَةِ فِي الْخِلَافِ وَالْحُكْمِ) وَقَدْ مَرَّ. قَالَ: (وَفِي الشُّرُوطِ إِلَّا الْمُدَّةَ) ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تُذْكَرَ الْمُدَّةُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْإِجَارَةِ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا. وَتَقَعُ عَلَى أَوَّلِ ثَمَرَةٍ تَخْرُجُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ إِدْرَاكِ الثَّمَرَةِ مَعْلُومٌ، وَالتَّفَاوُتَ فِيهِ قَلِيلٌ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُتَيَقَّنُ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، رَبِيعًا وَخَرِيفًا وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَفِي الرَّطْبَةِ إِدْرَاكُ بَذْرِهَا؛ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً، مَعْنَاهُ: إِذَا دَفَعَهَا بَعْدَ مَا تَنَاهَى نَبَاتُهَا، وَلَمْ تُخْرِجِ الْبَذْرَ فَيَقُومُ عَلَيْهَا؛ لِيَخْرُجَ الْبَذْرُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وَإِنْ سَمَّيَا مُدَّةً لَا تَخْرُجُ الثَّمَرَةُ فِي مِثْلِهَا فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَإِنْ دَفَعَ نَخْلًا أَوْ أَصُولَ رَطْبَةٍ؛ لِيَقُومَ عَلَيْهَا، وَأَطْلَقَ - لَا يَجُوزُ فِي الرَّطْبَةِ إِلَّا بِمُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ. وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالرِّطَابِ وَأُصُولِ الْبَاذِنْجَانِ إِذَا كَانَتْ تَزِيدُ بِالسَّقْيِ وَالْعَمَلِ وَتَبْطُلُ بِالْمَوْتِ.   [الاختيار لتعليل المختار] أَمَّا إِذَا دَفَعَهَا وَقَدْ نَبَتَتْ، أَوْ دَفَعَ الْبَذْرَ؛ لِيَبْذُرَهُ - فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ جَزِّهَا مَعْلُومًا جَازَ. وَيَقَعُ عَلَى الْجِزَّةِ الْأُولَى كَالثَّمَرَةِ فِي الشَّجَرِ. وَلَوْ دَفَعَ غَرْسَ شَجَرٍ أَوْ كَرْمٍ قَدْ عَلِقَ، وَلَمْ تَبْلُغِ الثَّمَرَةُ عَلَى أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ، وَالْخَارِجُ نِصْفَانِ - فَهِيَ فَاسِدَةٌ؛ لِجَهَالَةِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ وَضَعْفِهَا، وَلَا يَدْرِي مَتَى تَحْمِلُ. فَإِنْ سَمَّيَا مُدَّةً يُعْلَمُ أَنَّهَا تُثْمِرُ فِيهِ جَازَ. قَالَ: (وَإِنْ سَمَّيَا مُدَّةً لَا تَخْرُجُ الثَّمَرَةُ فِي مِثْلِهَا فَهِيَ فَاسِدَةٌ) ؛ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ، وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الْخَارِجِ. وَإِنَّ شَرَطَا وَقْتًا قَدْ تُدْرِكُ الثَّمَرَةُ فِيهِ، وَقَدْ تَتَأَخَّرُ عَنْهُ - فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ. فَإِنْ أَدْرَكَتْ فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ جَائِزَةً، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ فَفَاسِدَةٌ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ؛ لِفَسَادِ الْعَقْدِ. وَكَذَلِكَ إِنْ أَخْرَجَتْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مَا لَا يَرْغَبُ فِيهِ، وَإِنْ أَحَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، فَلَمْ تُخْرِجْ شَيْئًا - فَهِيَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَتَى كَانَ خُرُوجُ الثَّمَرَةِ مَوْهُومًا انْعَقَدَتْ مَوْقُوفَةً فَلَا تَنْقَلِبُ فَاسِدَةً. قَالَ: (وَإِنْ دَفَعَ نَخْلًا أَوْ أُصُولَ رَطْبَةٍ؛ لِيَقُومَ عَلَيْهَا، وَأَطْلَقَ - لَا يَجُوزُ فِي الرَّطْبَةِ إِلَّا بِمُدَّةِ مَعْلُومَةٍ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ ; لِأَنَّهَا تَنْمُو مَا تُرِكَتْ فِي الْأَرْضِ فَجُهِلَتِ الْمُدَّةُ، وَمَعْنَاهُ إِذَا لَمْ يُعْلَمُ وَقْتُ جَوَازِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ: (وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ فِي الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ وَالرِّطَابِ وَأُصُولِ الْبَاذِنْجَانِ) ؛ لِأَنَّ لِعَمَلِهِ تَأْثِيرًا فِي نَمَائِهِ وَجَوْدَتِهِ؛ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ فِي الْكُلِّ. وَأَهْلُ خَيْبَرَ كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي الْأَشْجَارِ وَالرِّطَابِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ (إِذَا كَانَتْ تَزِيدُ بِالسَّقْيِ وَالْعَمَلِ) كَالطَّلْعِ وَالْبَلَحِ وَالْبُسْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا مِنَ الْخَارِجِ. حَتَّى لَوْ دَفَعَهَا، وَقَدِ انْتَهَتِ الثَّمَرَةُ فِي الْعَظْمِ، وَلَا تَزِيدُ بِعَمَلِهِ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِعَمَلِهِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ. وَمَتَى فَسَدَتِ الْمُسَاقَاةُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَعَلَى هَذَا الزَّرْعِ إِنْ دَفَعَهُ، وَهُوَ بَقْلٌ - جَازَ، وَإِنْ كَانَ قَدِ اسْتَحْصَدَ لَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَتَبْطُلُ بِالْمَوْتِ) ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْإِجَارَةِ، وَقَدْ مَرَّ. فَإِنْ مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ، وَالْخَارِجُ بُسْرٌ - فَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ حَتَّى تُدْرِكَ الثَّمَرَةُ. وَإِنْ أَبَى الْوَرَثَةُ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ. وَلَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ قَطْعَهُ، وَإِدْخَالَ الضَّرَرِ عَلَى نَفْسِهِ - فَالْوَرَثَةُ بِالْخِيَارِ؛ إِمَّا أَنْ يُقَسِّمُوا الْبُسْرَ عَلَى الشَّرْطِ، أَوْ يُعْطُوهُ قَيمَةَ نَصِيبِهِ بُسْرًا، أَوْ يُنْفِقُوا عَلَى الْبُسْرِ، وَيَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْعَامِلِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِمْ، وَدَفْعُهُ مُتَعَيِّنٌ بِمَا ذَكَرْنَا. وَإِنْ مَاتَ الْعَامِلُ فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ، وَإِنْ كَرِهَ رَبُّ الْأَرْضِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْجَانِبَيْنِ. وَإِنْ أَرَادُوا قَطْعَهُ بُسْرًا فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ الْخِيَارَاتُ الثَّلَاثُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَإِنْ مَاتَا فَوَرَثَةُ كُلِّ وَاحِدٍ كَالْمُوَرِّثِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ إِذَا مَاتَ الْمُزَارِعُ وَقَدْ نَبَتَ الزَّرْعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 كِتَابُ النِّكَاحِ   [الاختيار لتعليل المختار] فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يَقُومُوا مَقَامَهُ، وَإِنْ أَبَى رَبُّ الْأَرْضِ؛ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ أَرَادُوا قَلْعَهُ فَلِلْمَالِكِ الْخِيَارَاتُ الثَّلَاثُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْمُسَاقَاةِ فَهُوَ كَالْمَوْتِ، وَلِلْعَامِلِ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا حَتَّى تُدْرِكَ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الشَّجَرِ. وَالْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ، بِخِلَافِ الْمُزَارَعَةِ حَيْثُ تَكُونُ عَلَيْهِمَا ; لِأَنَّهُ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ هُنَا، فَيَكُونُ الْعَمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْتَهِيَ. أَمَّا فِي الْمُزَارَعَةِ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْأَرْضِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعَمَلَ، وَتُفْسَخُ بِالْأَعْذَارِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ. وَمِمَّا يَخْتَصُّ بِهَا مِنَ الْأَعْذَارِ كَوْنُ الْعَامِلِ سَارِقًا يَسْرِقُ السَّعَفَ وَالْخَشَبَ وَالثَّمَرَةَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَالِكَ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ. وَمِنْهَا مَرَضُ الْعَامِلِ إِذَا أَعْجَزَهُ عَنِ الْعَمَلِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْجَارُ بِزِيَادَةِ أَجْرٍ، وَأَنَّهُ ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْفَسْخُ بِغَيْرِ عُذْرٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُزَارَعَةِ أَنَّ الْمُسَاقَاةَ تَلْزَمُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. [كِتَابُ النِّكَاحِ] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: أَنْكَحْنَا الْفَرَا فَسَنَرَى: أَيْ جَمَعْنَا بَيْنَ حِمَارِ الْوَحْشِ وَالْأَتَانِ؛ لِنَنْظُرَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا، يُضْرَبُ مَثَلًا لِقَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ عَلَى أَمْرٍ لَا يَدْرُونَ مَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ. وَحَكَى الْمُبَرِّدُ عَنِ الْبَصْرِيِّينَ وَغُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنِ الْكُوفِيِّينَ أَنَّ النِّكَاحَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمْعِ وَالضَّمِّ. وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ ضَمٍّ وَجَمْعٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْوَطْءُ ; لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ حَالَةَ الْوَطْءِ يَجْتَمِعَانِ، وَيَنْضَمُّ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يَصِيرَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ. وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْعَقْدِ مَجَازًا؛ لِمَا أَنَّهُ يَئُولُ إِلَى الضَّمِّ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ. فَمَتَى أُطْلِقَ النِّكَاحُ فِي الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ» أَيْ مِنْ وَطْءٍ حَلَالٍ، وَقَوْلِهِ: «يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنِ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ» ، وَقَدْ وَرَدَ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى الْوَطْءِ أَيْضًا. قَالَ الْأَعْشَى: وَمَنْكُوحَةٍ غَيْرِ مَمْهُورَةٍ ... وَأُخْرَى يُقَالُ لَهُ فَادِهَا يَعْنِي مَسْبِيَّةً مَوْطُوءَةً بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا مَهْرٍ. وَقَالَ آخَرُ: وَمِنْ أَيِّمٍ قَدْ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... وَأُخْرَى عَلَى عَمٍّ وَخَالٍ تَلَهَّفُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 النِّكَاحُ حَالَةَ الِاعْتِدَالِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ مَرْغُوبَةٌ، وَحَالَةَ التَّوَقَانِ وَاجِبٌ، وَحَالَةَ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ مَكْرُوهٌ. وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ. وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ مَاضِيَيْنِ، أَوْ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا مَاضٍ وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلٌ. كَقَوْلِهِ: زَوِّجْنِي، فَيَقُولُ: زَوَّجْتُكَ.   [الاختيار لتعليل المختار] يَعْنِي وَطْءَ الْمَسْبِيَّةِ بِالرِّمَاحِ. إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْعَارِ الْكَثِيرَةِ. وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْعَقْدُ بِقَرِينَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إِذْنِ الْأَهْلِ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] الْآيَةَ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُوَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعَدَدِ دُونَ الْوَطْءِ، وَكَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِشُهُودٍ» ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَكُونُونَ عَلَى الْوَطْءِ، وَلِأَنَّهُمَا حَالَةَ الْعَقْدِ مُفْتَرِقَانِ. وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ؛ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الضَّمِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] . وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ مُسْتَحَبٌّ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، ثَبَتَتْ شَرْعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ، وَقَوْلُهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] . وَبِالسُّنَّةِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا؛ فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَقَالَ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وَالنُّصُوصُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْآثَارُ فِيهِ غَزِيرَةٌ، وَعَلَى شَرْعِيَّتِهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. قَالَ: (النِّكَاحُ حَالَةَ الِاعْتِدَالِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ مَرْغُوبَةٌ، وَحَالَةَ التَّوَقَانِ وَاجِبٌ، وَحَالَةَ الْخَوْفِ مِنَ الْجَوْرِ مَكْرُوهٌ) . أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ النُّصُوصِ، فَبَعْضُهَا أَمْرٌ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّرْغِيبَ وَالتَّأْكِيدَ عَلَى فِعْلِهِ. وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الثَّانِي نَاطِقٌ بِكَوْنِهِ سُنَّةً، ثُمَّ أَكَّدَهُ حَيْثُ عَلَّقَ بِتَرْكِهِ أَمْرًا مَحْذُورًا، وَأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ التَّأْكِيدِ كَمَا فِي سُنَّةِ الْفَجْرِ، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاظَبَ عَلَيْهِ مُدَّةَ عُمُرِهِ وَأَنَّهُ آيَةُ التَّأْكِيدِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ حَالَةَ التَّوَقَانِ يُخَافُ عَلَيْهِ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُقُوعُهُ فِي مُحَرَّمِ الزِّنَا، وَالنِّكَاحُ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَانَ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ الْحَرَامِ فَرْضٌ وَاجِبٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ إِنَّمَا شُرِعَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِينِ النَّفْسِ، وَمَنْعِهَا عَنِ الزِّنَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِمَالِ، وَتَحْصِيلِ الثَّوَابِ الْمُحْتَمَلِ بِالْوَلَدِ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُوَحِّدُهُ. وَالَّذِي يَخَافُ الْجَوْرَ وَالْمَيْلَ يَأْثَمُ بِالْجَوْرِ وَالْمَيْلِ، وَيَرْتَكِبُ الْمَنْهِيَّاتِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَيَنْعَدِمُ فِي حَقِّهِ الْمَصَالِحُ؛ لِرُجْحَانِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عَلَيْهَا، وَقَضِيَّتُهُ الْحُرْمَةُ إِلَّا أَنَّ النُّصُوصَ لَا تُفَصِّلُ، فَقُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ فِي حَقِّهِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ. (وَرُكْنُهُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُوجَدُ بِهِمَا، وَرُكْنُ الشَّيْءِ مَا يُوجَدُ بِهِ كَأَرْكَانِ الْبَيْتِ. قَالَ: (وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ مَاضِيَيْنِ) كَقَوْلِهِ: زَوَّجْتُكَ، وَقَوْلِ الْآخَرِ: تَزَوَّجْتُ، أَوْ قَبِلْتُ ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِنْشَاءِ شَرْعًا؛ لِلْحَاجَةِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ. (أَوْ بِلَفْظَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَاضٍ، وَالْآخَرُ مُسْتَقْبَلٌ، كَقَوْلِهِ: زَوِّجْنِي، فَيَقُولُ: زَوَّجْتُكَ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: زَوِّجْنِي - تَوْكِيلٌ، وَالْوَكِيلُ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ النِّكَاحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. وَرَوَى الْمُعَلَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ (ف) . وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِحُضُورِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَلَا بُدَّ فِي الشُّهُودِ مِنْ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ (ف) .   [الاختيار لتعليل المختار] عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَوْ قَالَ: جِئْتُكَ خَاطِبًا ابْنَتَكَ، أَوْ لِتُزَوِّجَنِي ابْنَتَكَ، أَوْ زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ. فَقَالَ الْأَبُ: قَدْ زَوَّجْتُكَ - فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ، وَلَيْسَ لِلْخَاطِبِ أَنْ لَا يَقْبَلَ. وَلَا يُشْبِهُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَةِ، وَالْبَيْعُ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُسَاوَمَةِ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنَا أَتَزَوَّجُكِ، فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ - جَازَ، وَلَزِمَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَتَزَوَّجُكِ، بِمَعْنَى تَزَوَّجْتُكِ عُرْفًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ. وَلَوْ قَالَ: أَتُزَوِّجُنِي؟ فَقَالَ الْآخَرُ: زَوَّجْتُكَ - لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْبَارٌ وَاسْتِيعَادٌ، لَا أَمْرٌ وَتَوْكِيلٌ. وَلَوْ أَرَادَ بِهِ التَّحْقِيقَ دُونَ الِاسْتِخْبَارِ وَالسَّوْمِ يَنْعَقِدُ بِهِ. قَالَ: (وَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ) ؛ لِأَنَّهُمَا صَرِيحٌ فِيهِ. قَالَ: (وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالتَّمْلِيكُ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُفِيدُ الْمِلْكَ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، وَالسَّبَبِيَّةُ مِنْ طُرُقِ الْمَجَازِ. وَأَمَّا لَفْظُ الْإِجَارَةِ فَرَوَى ابْنُ رُسْتَمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ، وَلِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنِ التَّأْقِيتِ، وَلَا تَأْقِيتَ فِي النِّكَاحِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَهْرَ أَجْرًا، فَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ كَالْإِجَارَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ قَالَ: أَوْصَيْتُ لَكَ بِابْنَتِي - لِلْحَالِ يَنْعَقِدُ، وَإِنْ أَوْصَى بِهَا مُطْلَقًا لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الْمَوْتِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا: كُلُّ لَفْظٍ يَصِحُّ لِتَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ مُطْلَقًا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتَمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ لَفْظٍ يَكُونُ فِي الْأَمَةِ تَمْلِيكًا لِلرِّقِّ فَهُوَ نِكَاحٌ فِي الْحُرَّةِ. [ما يشترط في الشهود في النكاح] قَالَ: (وَلَا يَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِحُضُورِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ. وَلَا بُدَّ فِي الشُّهُودِ مِنْ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ) فَالشُّهُودُ شَرْطٌ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِشُهُودٍ» . وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الزَّانِيَةُ الَّتِي تُنْكِحُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ» . وَأَمَّا صِفَةُ الشُّهُودِ قَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ مَنْ مَلَكَ الْقَبُولَ بِنَفْسِهِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ بِحُضُورِهِ، وَمَنْ لَا فَلَا. وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّهَادَةِ وَالْقَبُولِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فَجَازَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنِ اعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ وَالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فِي الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ؛ لِمَا مَرَّ فِي الشَّهَادَاتِ، وَلَا يَمْلِكُونَ الْقَبُولَ بِأَنْفُسِهِمْ. وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ الْإِسْلَامِ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِعَدَمِ وِلَايَةِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيَجُوزُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الشَّهَادَاتِ. وَيَنْعَقِدُ بِحُضُورِ الْفَاسِقِينَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَا يَفْصِلُ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبُولَ بِنَفْسِهِ كَالْعَدْلِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَسْلُوبِ الْوِلَايَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُسْلَبُهَا عَنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَلِأَنَّهُ تَحَمَّلَ فَيَجُوزُ ; لِأَنَّ الْفِسْقَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْعُمْيَانِ. وَإِذَا تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ جَازَ (م) ، وَلَا يَظْهَرُ عِنْدَ جُحُودِهِ. [مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ] وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ نِكَاحُ أُمِّهِ، وَجَدَّاتِهِ، وَبِنْتِهِ، وَبَنَاتِ وَلَدِهِ، وَأُخْتِهِ وَبِنْتِهَا، وَبِنْتِ أَخِيهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ، وَأُمِّ امْرَأَتِهِ وَبِنْتِهَا إِنْ دَخَلَ بِهَا، وَامْرَأَةِ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ وَبَنِيهِ وَبَنِي أَوْلَادِهِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا وَوَطْئًا بِمِلْكِ يَمِينٍ. وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ النَّسَبِ   [الاختيار لتعليل المختار] يُؤَثِّرُ فِي الشَّهَادَةِ؛ لِلتُّهْمَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ. أَمَّا التَّحَمُّلُ فَأَمْرٌ مُشَاهَدٌ لَا تُهْمَةَ فِيهِ. وَانْعِقَادُ النِّكَاحِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ كَمَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَلَا يُعْلَمُ بَاطِنُهُ، وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِمَا وَابْنَيْهَا مِنْ غَيْرِهَا. وَلَا يَظْهَرُ بِشَهَادَتِهِمْ عِنْدَ دَعْوَى الْقَرِيبِ؛ لِمَا أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَوَقَّفُ إِلَّا عَلَى الْحُضُورِ لَا عَلَى مَنْ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ. قَالَ: (وَيَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْعُمْيَانِ) ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ حَتَّى لَوْ حَكَمَ بِهَا حَاكِمٌ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ؛ فَإِنَّ مَالِكًا يُجَوِّزُ شَهَادَتَهُ، وَأَبَا يُوسُفَ يُجِيزُهَا إِذَا تَحَمَّلَهَا بَصِيرًا. وَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ صَارَ كَالْبَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَبُولَ بِنَفْسِهِ. وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ إِنْ تَابَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، حَتَّى لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِ حَاكِمٌ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ فَاسِقٌ، وَقَدْ مَرَّ. قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً بِشَهَادَةِ ذِمِّيَّيْنِ جَازَ، وَلَا يَظْهَرُ عِنْدَ جُحُودِهِ) . وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَالسَّمَاعُ فِي النِّكَاحِ شَهَادَةٌ، فَصَارَ كَأَنَّهُمْ سَمِعُوا كَلَامَ الْمَرْأَةِ وَحْدَهَا. وَلَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا لَوْ جَحَدَتْ. وَإِذَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَتِهِمَا فَلَأَنْ يَنْعَقِدَ بِحَضْرَتِهِمَا أَوْلَى، وَلِأَنَّ الِانْعِقَادَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَمَاعِ مَنْ يَثْبُتُ بِهِ الْعَقْدُ؛ لِمَا مَرَّ. وَلِأَنَّ سَمَاعَ الْكُفَّارِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَا بَعْدَ مَا سَمِعَا ذِمِّيَّيْنِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ شُرِطَتْ فِي الِانْعِقَادِ؛ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ إِظْهَارًا لِخَطَرِ الْمَحَلِّ لَا لِوُجُوبِ الْمَهْرِ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ وُجِدَتْ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَسْمَعَا كَلَامَهُ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ إِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِكَلَامِهِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْعَقْدِ شَرْطٌ. [فَصْلُ مُحَرَّمَاتُ النِّكَاحِ] فَصْلٌ فِي الْمُحَرَّمَاتِ (وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ نِكَاحُ أُمِّهِ وَجَدَّاتِهِ، وَبِنْتِهِ، وَبَنَاتِ وَلَدِهِ، وَأُخْتِهِ وَبِنْتِهَا، وَبِنْتِ أَخِيهِ، وَعَمَّتِهِ، وَخَالَتِهِ، وَأُمِّ امْرَأَتِهِ وَبِنْتِهَا إِنْ دَخَلَ بِهَا، وَامْرَأَةِ أَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ وَبَنِيهِ وَبَنِي أَوْلَادِهِ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا وَوَطْئًا بِمِلْكِ يَمِينٍ. وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَنْ ذَكَرْنَا) مَا يَحْرُمُ (مِنَ النَّسَبِ) . اعْلَمْ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعَةُ أَقْسَامٍ: بِالْقَرَابَةِ، وَبِالصِّهْرِيَّةِ، وَبِالرَّضَاعِ، وَبِالْجَمْعِ، وَبِالتَّقْدِيمِ، وَبِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، وَبِالْمِلْكِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَبِالْكُفْرِ، وَبِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ. فَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْقَرَابَةِ سَبْعَةُ أَنْوَاعٍ: الْأُمَّهَاتُ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَالْبَنَاتُ وَإِنْ سَفُلْنَ، وَالْأَخَوَاتُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كُنَّ، وَالْخَالَاتُ وَالْعَمَّاتُ جَمِيعُهُنَّ. وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَإِنْ سَفُلْنَ فَهُنَّ مُحَرَّمَاتٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ نِكَاحًا وَوَطْئًا. وَدَوَاعِيهِ عَلَى التَّأْبِيدِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] . نَصَّ عَلَى التَّحْرِيمِ مُطْلَقًا، فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ فِي الْمَحَلِّ الْمُضَافِ إِلَيْهِ التَّحْرِيمُ إِلَّا فِعْلًا فِيهِ تَعْظِيمٌ وَتَكْرِيمٌ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْإِرَادَةِ؛ إِمَّا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِالنُّصُوصِ الْمُوجِبَةِ لِصِلَةِ الرَّحِمِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْإِحْسَانِ بِهِمَا. أَوْ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَقْلًا، أَوْ بِالْإِجْمَاعِ. وَمَا عَدَاهُنَّ مِنَ الْقَرَابَاتِ مُحَلَّلَاتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالصِّهْرِيَّةِ أَرْبَعَةٌ: أُمُّ امْرَأَتِهِ وَبَنَاتُهَا، فَتَحْرُمُ أُمُّهَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] مُطْلَقًا. وَلَا تَحْرُمُ الْبِنْتُ حَتَّى يَدْخُلَ بِالْأُمِّ، قَالَ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] الْآيَةَ. وَتَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ، وَذِكْرُ الْحِجْرِ فِي الْآيَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ لَا لِلشَّرْطِ. وَكَذَا بَنَاتُ بِنْتِ الْمَرْأَةِ وَبَنَاتُ ابْنِهَا؛ لِدُخُولِهِنَّ تَحْتَ اسْمِ الرَّبِيبَةِ. وَحَلِيلَةُ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ وَابْنِ الْبِنْتِ وَإِنْ سَفُلَ حَرَامٌ عَلَى الْأَبِ دَخَلَ الِابْنُ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ حَلِيلَةُ الِابْنِ الْمُتَبَنَّى. وَحَلِيلَةُ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَإِنْ عَلَا حَرَامٌ عَلَى الِابْنِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحْرُمُ بِالْعَقْدِ إِنَّمَا يَحْرُمُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّكَاحِ وَالزَّوْجَةِ وَالْحَلِيلَةِ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَاسْمُ الْحَلِيلَةِ يَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ وَالْمَمْلُوكَةَ، غَيْرَ أَنَّ الزَّوْجَةَ تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَالْأَمَةَ لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِالْوَطْءِ؛ لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَطْءِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ يَطَأْ. وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ إِذَا لَمْ يَطَأْهُمَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ فَقَالَ: وَطِئْتُهَا - حُرِّمَتْ عَلَى أَبِيهِ وَابْنِهِ. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي جَارِيَةِ الْغَيْرِ لَا تَحْرُمُ أَخْذًا بِالظَّاهِرِ فِيهِمَا. وَلَوِ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ وَسِعَهُ وَطْؤُهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْأَبَ وَطِئَهَا. وَلَوْ قَصَدَ امْرَأَتَهُ لِيُجَامِعَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ مَعَ بِنْتِهَا الْمُشْتَهَاةِ، فَوَقَعَتْ يَدُهُ عَلَى الْبِنْتِ، فَقَرَصَهَا بِشَهْوَةٍ يَظُنُّ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ - حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ. وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالرَّضَاعِ كُلُّ مَنْ تَحْرُمُ بِالْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِيَّةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» . وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْجَمْعِ: لَا يُحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] . نَصَّ عَلَى الْأَرْبَعِ، فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِنَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا. وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ، وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهُمَا أُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا. وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَلَا رَابِعَةً حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] وَرُوِيَ «أَنَّ غَيْلَانَ الدَّيْلَمِيَّ أَسْلَمَ، وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ، فَأَمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يُمْسِكَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا، وَيُفَارِقَ الْبَاقِيَ» . وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحَرَائِرُ وَالْإِمَاءُ الْمَنْكُوحَاتُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَفْصِلْ. وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِمَاءِ مِلْكًا وَوَطْئًا حَلَالٌ وَإِنْ كَثُرْنَ، قَالَ تَعَالَى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ خَرَجَ عَنْهُ الزَّوْجَاتُ بِمَا ذَكَرْنَا، فَبَقِيَ الْإِمَاءُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَلَا يَجْمَعُ الْعَبْدُ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنْصِفٌ، فَيَنْتَصِفُ مِلْكُ النِّكَاحِ أَيْضًا إِظْهَارًا لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ. وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا، وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ وَطْئًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْمَعَنَّ مَاءَهَ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ دُونَ الْوَطْءِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ حُرْمَةُ الْوَطْءِ إِجْمَاعًا. فَإِنْ كَانَ لَهُ أَمَةٌ قَدْ وَطِئَهَا، فَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا - جَازَ النِّكَاحُ؛ لِصُدُورِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَإِضَافَتِهِ إِلَى مَحَلِّهِ. وَلَا يَطَأُ الْأَمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَوْطُوءَةٌ حُكْمًا. وَلَا يَطَأُ الْمَنْكُوحَةَ حَتَّى يُحَرِّمَ الْأَمَةَ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَرَّمَهَا وَطِئَ الْمَنْكُوحَةَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ الْمَمْلُوكَةَ وَطِئَ الْمَنْكُوحَةَ، وَحُرِّمَتِ الْمَمْلُوكَةُ حَتَّى يُفَارِقَ الْمَنْكُوحَةَ. قَالَ: (وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا) ؛ لِعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ جَوَازِ نِكَاحِ إِحْدَاهُمَا. (وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَيْنِ فِي عُقْدَتَيْنِ، وَلَا يَدْرِي أَيَّتُهُمَا أُولَى - فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا) ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ إِحْدَاهُمَا بَاطِلٌ بِيَقِينٍ، وَلَا وَجْهَ إِلَى التَّيَقُّنِ؛ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ. وَلَهُمَا نِصْفُ الْمَهْرِ بَيْنَهُمَا؛ لِجَهَالَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهِ. فَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَسَدَ نِكَاحُ الْأَخِيرَةِ وَيُفَارِقُهَا، وَإِنْ عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا. (وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَلَا رَابِعَةَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) ، وَسَوَاءٌ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا؛ لِبَقَاءِ نِكَاحِ الْأُولَى مِنْ وَجْهٍ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى، وَالْفِرَاشِ الْقَائِمِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ النَّسَبِ، وَالْمَنْعِ مِنَ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَالتَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْحُرْمَةِ. وَالْمُعْتَدَّةُ إِذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدَّةً يَحِلُّ لِلزَّوْجِ نِكَاحُ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا؛ لِسُقُوطِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَنْهَا. وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إِذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا تَمْنَعُ نِكَاحَ أُخْتِهَا دُونَ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهَا قَائِمٌ، فَيَكُونُ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ، وَأَنَّهُ حَرَامٌ بِالْحَدِيثِ. وَحُرْمَةُ الْأَرْبَعَةِ وَرَدَ فِي النِّكَاحِ، وَقَالَا: لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ، فَكَذَا بَعْدَهُ. لَكِنْ إِذَا عَقَدَ عَلَيْهَا لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ. وَجَوَابُهُ أَنَّ فِرَاشَهَا قَبْلَ الْعِتْقِ ضَعِيفٌ يَقْبَلُ النَّقْلَ إِلَى غَيْرِهِ بِالنِّكَاحِ، وَبَعْدَهُ لَا، فَافْتَرَقَا. وَالْعَقْدُ قَائِمٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا، وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ، وَلَا مَعَهَا وَلَا فِي عِدَّتِهَا (سم) . وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى الْأَمَةِ وَمَعَهَا وَفِي عِدَّتِهَا، وَيَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنَ الْإِمَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُرَّةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ زَوْجَةَ الْغَيْرِ وَلَا مُعْتَدَّتَهُ. وَلَا يَتَزَوَّجُ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ إِلَّا الزَّانِيَةَ (س ف) ، فَإِنْ فَعَلَ لَا يَطَؤُهَا حَتَى تَضَعَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَتَهُ وَلَا الْمَرْأَةَ عَبْدَهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] مَقَامَ الْوَطْءِ حَتَّى يَثْبُتَ النِّسَبُ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا) ؛ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا، وَلَا عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا وَلَا عَلَى بِنْتِ أُخْتِهَا؛ فَإِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَهُنَّ» . وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ امْرَأَةٍ وَابْنَةِ زَوْجٍ كَانَ لَهَا مِنْ قَبْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا. (وَ) الْمُحَرَّمَاتُ بِالتَّقْدِيمِ (لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ وَلَا مَعَهَا وَلَا فِي عِدَّتِهَا، وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى الْأَمَةِ وَمَعَهَا فِي عِدَّتِهَا) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ، وَتُنْكَحُ الْحُرَّةُ عَلَيْهَا» ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي عِدَّةِ الْحُرَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنِكَاحٍ عَلَيْهَا حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا لَا يَحْنَثُ بِهَذَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّةِ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْيَمِينُ مَبْنَاهَا عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ عَدَمُ الْمُزَاحَمَةِ فِي الْقَسْمِ وَقَدْ وُجِدَ. وَلَوْ تَزَوَّجَ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ أَرْبَعًا مِنَ الْإِمَاءِ، وَخَمْسًا مِنَ الْحَرَائِرِ - جَازَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنَ الْحَرَائِرِ؛ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُنَّ، فَلَمْ تُوجَدِ الْمُزَاحَمَةُ. (وَيَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنَ الْإِمَاءِ) ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَرُبَاعَ} [النساء: 3] لَا يُفَصِّلُ. (وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُرَّةِ) ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ لَا تُفَصِّلُ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. (وَ) الْمُحَرَّمَاتُ بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ فَـ (لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ زَوْجَةَ الْغَيْرِ وَلَا مُعْتَدَّتَهُ) ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَلْعُونٌ مَنْ سَقَى مَاءَهَ زَرْعَ غَيْرِهِ» ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ. وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعِ الْجَمْعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ. قَالَ: (وَلَا يَتَزَوَّجُ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ) ؛ لِمَا ذَكَرْنَا (إِلَّا الزَّانِيَةَ، فَإِنْ فَعَلَ لَا يَطَؤُهَا حَتَّى تَضَعَ) . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ حَمْلٌ مُحْتَرَمٌ حَتَّى لَا يَجُوزَ إِسْقَاطُهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ؛ لِئَلَّا يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ فِي ثَابِتِ النَّسَبِ؛ لِحَقِّ صَاحِبِ الْمَاءِ، وَلَا حُرْمَةَ لِلزَّانِي، فَدَخَلَتْ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] . فَإِنْ كَانَ الْحَمْلُ ثَابِتَ النَّسَبِ كَالْحَامِلِ مِنَ السَّبْيِ، وَحِمْلِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ مَوْلَاهَا وَنَحْوِهِ - فَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ؛ لِمَا بَيَّنَّا. (وَ) الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمِلْكِ فَـ (لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَتَهُ، وَلَا الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا) . وَمِلْكُ بَعْضِ الْعَبْدِ فِي هَذَا كَمِلْكِ كُلِّهِ، وَكَذَا حَقُّ الْمِلْكِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمَجُوسِيَّاتِ وَالْوَثَنِيَّاتِ وَلَا وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ يَمِينٍ، وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ وَالصَّابِئِيَّاتِ (سم) . وَالزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَكَذَا الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَالنَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَيْضًا.   [الاختيار لتعليل المختار] كَمَمْلُوكِ الْمُكَاتِبِ وَالْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ النِّكَاحِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي إِثْبَاتِ الْأَضْعَفِ مَعَ ثُبُوتِ الْأَقْوَى. وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ يُوجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ حُقُوقًا، وَالرِّقُّ يُنَافِي ذَلِكَ. (وَ) الْمُحَرَّمَاتُ بِالْكُفْرِ فَـ (لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمَجُوسِيَّاتِ وَالْوَثَنِيَّاتِ، وَلَا وَطْؤُهُنَّ بِمِلْكِ يَمِينٍ) ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» . (وَيَجُوزُ تَزْوِيجُ الْكِتَابِيَّاتِ) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ، وَالذِّمِّيَّةُ وَالْحَرْبِيَّةُ سَوَاءٌ؛ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ، وَالْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ سَوَاءٌ؛ لِإِطْلَاقِ الْمُقْتَضَى. (وَ) يَجُوزُ نِكَاحُ (الصَّابِئِيَّاتِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَعَلَى هَذَا حَلَّ ذَبَائِحَهُمْ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اشْتِبَاهِ مَذْهَبِهِمْ، فَعِنْدَهُ هُمْ أَهْلُ كِتَابٍ يُعَظِّمُونَ الْكَوَاكِبَ، وَلَا يَعْبُدُونَهَا، فَصَارُوا كَالْكِتَابِيَّاتِ. وَعِنْدَهُمَا يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ. وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. قَالَ: (وَالزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ) ، فَمَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَوْ وَطِئَهَا بِشُبْهَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُصُولُهَا وَفُرُوعُهَا، وَتَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ عَلَى أُصُولِ الْوَاطِئِ وَفُرُوعِهِ. (وَكَذَا الْمَسُّ بِشَهْوَةٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَالنَّظَرُ إِلَى الْفَرْجِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَيْضًا) ، وَالْمُعْتَبَرُ النَّظَرُ إِلَى فَرْجِهَا الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَحَكَى الطَّحَاوِيُّ إِجْمَاعَ السَّلَفِ فِي أَنَّ التَّقْبِيلَ وَاللَّمْسَ عَنْ شَهْوَةٍ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْوَطْءِ أَوْلَى؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةً هُوَ الْوَطْءُ، أَوْ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى وَأَعَمَّ فَائِدَةً، فَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَةِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: وَلَا تَطَئُوا مَا وَطِئَ آبَاؤُكُمْ مُطْلَقًا، فَيَدْخُلُ فِيهِ النِّكَاحُ وَالسِّفَاحُ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَابْنَتُهَا وَحَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ وَأَبِيهِ» . وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ فِي مَوْطُوءَةِ الْأَبِ ثَبَتَ فِي مَوْطُوءَةِ الِابْنِ، وَفِي وَطْءِ أُمِّ امْرَأَتِهِ، وَسَائِرِ مَا يَثْبُتُ بِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالنِّكَاحِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا. وَلِأَنَّ الْوَطْءَ سَبَبٌ لِلْجُزْئِيَّةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ، وَلِهَذَا يُضَافُ إِلَيْهَا كَمَا يُضَافُ إِلَيْهِ، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِالْجُزْءِ حَرَامٌ. وَالْمَسُّ وَالنَّظَرُ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ، فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا لِلْحُرْمَةِ. وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ: إِنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] الْوَطْءُ دُونَ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْعَقْدَ؛ لِاسْتِحَالَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا صَحَّ نِكَاحُ الْأُخْرَى، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُحْرِمُ حَالَةَ الْإِحْرَامِ. وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ (ز) بَاطِلٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] كَوْنِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. وَالتَّحْرِيمُ بِالْعَقْدِ ثَبَتَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَحَدُّ الشَّهْوَةِ أَنْ تَنْتَشِرَ آلَتُهُ بِالنَّظَرِ وَالْمَسِّ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْتَشِرَةً فَتَزْدَادُ شِدَّةً، وَالْمَجْبُوبُ وَالْعَنِّينُ يَتَحَرَّكُ قَلْبُهُ بِالِاشْتِهَاءِ، أَوْ يَزْدَادُ اشْتِهَاءً. وَلَوْ مَسَّهَا، وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ - إِنْ مَنَعَ وُصُولَ حَرَارَتِهَا إِلَى يَدِهِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ لَمْ تَمْنَعْ تَثْبُتُ. وَلَوْ أَخَذَ يَدَهَا؛ لِيُقَبِّلَهَا بِشَهْوَةٍ، فَلَمْ يَفْعَلْ - حَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ. وَلَوْ مَسَّ شَعْرَ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ بَدَنِهَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا جَامَعَ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا، فَأَفْضَاهَا - لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَحْرُمُ. وَلَوْ كَانَتْ مِمَّنْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ أُمُّهَا بِالْإِجْمَاعِ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ وَطِئَ فِي قُبُلٍ فَتَحْرُمُ كَوَطْءِ الْكَبِيرَةِ، وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْوَلَدِ، فَصَارَ كَاللِّوَاطَةِ، أَمَّا الْكَبِيرَةُ يُحْتَمَلُ الْعُلُوقُ. قَالَ: (وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا - صَحَّ نِكَاحُ الْأُخْرَى) مَعْنَاهُ: إِذَا تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ نِكَاحِ الْأُخْرَى؛ لِاخْتِصَاصِ الْمُبْطِلِ بِتِلْكَ. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُحْرِمَ حَالَةَ الْإِحْرَامِ) ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ» . وَالْمَحْظُورُ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ، لَا الْعَقْدُ. وَهُوَ مَحْمَلُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ - الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْرِمُ» . [فصل نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ] قَالَ: (وَنِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَالنِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ بَاطِلٌ) ، أَمَّا الْمُتْعَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً وَلَا زَوْجَةً. أَمَّا الْمَمْلُوكَةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِعَدَمِ أَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ الْإِرْثِ، وَانْقِطَاعِ الْحِلِّ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مَانِعٍ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حَرَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُتْعَةَ النِّسَاءِ، وَلُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» . وَمَا رُوِيَ فِي إِبَاحَتِهَا ثَبَتَ نَسْخُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَصَحَّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِمْ. وَأَمَّا النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ فَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْمُتْعَةِ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي، وَسَوَاءٌ طَالَتِ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ؛ لِأَنَّ التَّأْقِيتَ هُوَ الْمُبْطِلُ، وَهُوَ الْمُغَلِّبُ؛ لِجِهَةِ الْمُتْعَةِ. وَصُورَةُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ: مَتِّعِينِي نَفْسَكِ بِكَذَا مِنَ الدَّرَاهِمِ مُدَّةَ كَذَا، فَتَقُولُ لَهُ: مَتَّعْتُكَ نَفْسِي. أَوْ يَقُولَ: أَتَمَتَّعُ بِكِ. وَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ التَّمَتُّعِ فِيهِ. وَأَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ مُدَّةً مَعْلُومَةً. وَقَالَ زُفَرُ: النِّكَاحُ الْمُؤَقَّتُ صَحِيحٌ وَيَبْطُلُ التَّأْقِيتُ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 وَعِبَارَةُ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ زَوَّجَتِ الْحُرَّةُ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا بِالْوِلَايَةِ أَوِ الْوَكَالَةِ، وَكَذَا إِذَا وَكَّلَتْ غَيْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا، أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُهَا فَأَجَازَتْ (م) .   [الاختيار لتعليل المختار] [فَصْلٌ: عِبَارَةُ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ] فَصْلٌ (وَعِبَارَةُ النِّسَاءِ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ حَتَّى لَوْ زَوَّجَتِ الْحُرَّةُ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ نَفْسَهَا جَازَ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَتْ غَيْرَهَا بِالْوِلَايَةِ أَوِ الْوِكَالَةِ، وَكَذَا إِذَا وَكَّلَتْ غَيْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا، أَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُهَا فَأَجَازَتْ) . وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَالْحَسَنِ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إِلَّا بِإِجَازَةِ الْوَلِيِّ. فَإِنْ مَاتَا قَبْلَهَا لَا يَتَوَارَثَانِ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُ وَلَا ظِهَارُهُ، وَوَطْؤُهُ حَرَامٌ. فَإِنِ امْتَنَعَ الْوَلِيُّ مِنَ الْإِجَازَةِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ يُجَدِّدُ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا. وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ الْوَلِيُّ أُجِيزُهُ أَنَا، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ قَاضِيًا، فَصَارَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ. وَحَكَى الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى مُحَمَّدٍ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَتْ: إِنَّ لِي وَلِيًّا وَهُوَ لَا يُزَوِّجُنِي إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَأْخُذَ مِنِّي مَالًا كَثِيرًا، فَقَالَ لَهَا مُحَمَّدٌ: اذْهَبِي، فَزَوِّجِي نَفْسَكِ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا رُوِيَ مِنْ رُجُوعِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ لَا يَتَوَقَّفُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَلِيِّ. وَجْهُ عَدَمِ الْجَوَازِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ» ، وَلِأَنَّهَا كَانَتْ مُوَلَّيًا عَلَيْهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْعَقْدِ وَالنَّفَاذِ؛ لِعَدَمِ رَأْيِهَا. فَلَوْ زَالَ إِنَّمَا يَزُولُ بِمَا حَدَثَ لَهَا مِنَ الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ بِالْبُلُوغِ، وَإِنَّمَا حَدَثَ لَهَا رَأْيٌ وَعَقْلٌ نَاقِصٌ. وَمَنْ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ رَأْيٌ أَصْلًا كَمَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا لَا تَزُولُ عَنْهُ الْوِلَايَةُ أَصْلًا. وَمَنْ حَدَثَ لَهُ عَقْلٌ كَامِلٌ وَرَأْيٌ وَافِرٌ كَالرَّجُلِ تَزُولُ وِلَايَتُهُ أَصْلًا، فَإِذَا حَدَثَ النَّاقِصُ فَكَأَنَّهُ حَدَثَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، فَثَبَتَتْ بِهَا إِحْدَى الْوِلَايَتَيْنِ، وَهُوَ الِانْعِقَادُ دُونَ النَّفَاذِ؛ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ. وَوَجْهُ الْفَسْخِ إِذَا لَمْ يُجِزِ الْوَلِيُّ أَنَّ النِّكَاحَ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ بِالْحَدِيثِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِ كَمَا إِذَا عَقَدَ وَتَوَقَّفَ عَلَى إِجَازَتِهَا، فَإِذَا بَطَلَ يُجَدِّدُ الْقَاضِي النِّكَاحَ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ أَنَّهُ عَقْدٌ صَدَرَ مِنَ الْمَالِكِ، وَتَوَقَّفَ عَلَى إِجَازَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ - فَلَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ كَالرَّاهِنِ إِذَا بَاعَ الرَّهْنَ وَرَدَّهُ الْمُرْتَهِنُ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ حَتَّى لَوْ صَبَرَ الْمُشْتَرِي إِلَى حِينِ انْفِكَاكِ الرَّهْنِ نَفَذَ. وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ أَجَازَهُ الْقَاضِي إِنِ امْتَنَعَ الْوَلِيُّ؛ لِظُلْمِهِ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْمَالِكَةُ، فَتَبْطُلُ بِرَدِّهَا كَمَا إِذَا بَاعَ الْمُرْتَهِنُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَرَدَّ الرَّاهِنُ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] ، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى {مِنْ مَعْرُوفٍ} [البقرة: 240] أَضَافَ النِّكَاحَ وَالْفِعْلَ إِلَيْهِنَّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عِبَارَتِهِنَّ وَنَفَاذِهَا؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَيْهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ؛ إِذْ لَمْ يَذْكُرْ مَعَهَا غَيْرَهَا. وَهِيَ إِذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَقَدْ فَعَلَتْ فِي نَفْسِهَا بِالْمَعْرُوفِ، فَلَا جُنَاحَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فِي ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ «أَنَّ فَتَاةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي زَوَّجَنِي مِنِ ابْنِ أَخٍ لَهُ؛ لِيَرْفَعَ خَسِيسَتَهُ، وَأَنَا لَهُ كَارِهَةٌ! فَقَالَ لَهَا: أَجِيزِي مَا صَنَعَ أَبُوكِ، فَقَالَتْ: لَا رَغْبَةَ لِي فِيمَا صَنَعَ أَبِي! قَالَ: فَاذْهَبِي، فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ! فَقَالَتْ: لَا رَغْبَةَ لِي عَمَّا صَنَعَ أَبِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أُعْلِمَ النِّسَاءَ أَنْ لَيْسَ لِلْآبَاءِ مِنْ أُمُورِ بَنَاتِهِمْ شَيْءٌ» . وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ» . الثَّانِي: قَوْلُهَا ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا، فَعُلِمَ أَنَّهُ ثَابِتٌ؛ إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: «أَجِيزِي مَا صَنَعَ أَبُوكِ» - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَهُ غَيْرُ نَافِذٍ عَلَيْهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَتَوَقَّفُ أَيْضًا. وَفِي الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ خَنْسَاءَ بِنْتَ خِذََامٍ أَنْكَحَهَا أَبُوهَا، وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَرَدَّهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» . وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَتْ بِنْتَهَا بِرِضَاهَا، فَجَاءَ الْأَوْلِيَاءُ وَخَاصَمُوهَا إِلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَأَجَازَ النِّكَاحَ. وَهَذَا دَلِيلُ الِانْعِقَادِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا غَائِبِينَ ; لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِغَيْرِهَا، فَيَنْفُذُ كَتَصَرُّفِهَا فِي مَالِهَا. وَالْوِلَايَةُ فِي النِّكَاحِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْهَا فِي الْمَالِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ فِي الْمَالِ. وَلِأَنَّ النِّكَاحَ خَالِصُ حَقِّهَا حَتَّى يُجْبَرَ الْوَلِيُّ عَلَيْهِ عِنْدَ طَلَبِهَا وَبَذْلِهِ لَهَا، وَهِيَ أَهْلٌ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهَا، إِلَّا أَنَّ الْكَفَاءَةَ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ، فَلَا تَقْدِرُ عَلَى إِسْقَاطِ حَقِّهِمْ. وَأَمَّا مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فَمُعَارَضَةٌ بِمَا رَوَيْنَا؛ فَإِمَّا أَنْ يُرْجَعَ إِلَى الْقِيَاسِ - وَهُوَ لَنَا - عَلَى الْمَالِ وَالرَّجُلِ، أَوْ يُوَفَّقَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، فَيُحْمَلُ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَى الْحُرَّةِ الْعَاقِلَةِ الْبَالِغَةِ، وَمَا رَوَيْتُمُوهُ عَلَى الْأَمَةِ تَوْفِيقًا. كَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَيُّمَا أَمَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا» ؟ فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، أَوْ يُرَجَّحُ، وَالتَّرْجِيحُ مَعَنَا؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ سَالِمٌ عَنِ الطَّعْنِ، وَمَا رَوَاهُ مَطْعُونٌ فِيهِ؛ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ لَمْ تَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، «وَمَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» ، «وَلَا نِكَاحَ إِلَّا بَوَلِيٍّ، وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ» . وَوَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ. عَلَى أَنَّا نَقُولُ: الْمَرْأَةُ وَلِيَّةُ نَفْسِهَا، فَلَا يَكُونُ نِكَاحًا بِلَا وَلِيٍّ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهَا لَيْسَتْ وَلِيًّا؟ وَلَوْ قُلْتُمْ ذَلِكَ اسْتَغْنَيْتُمْ عَنِ الْحَدِيثِ. وَكَذَا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وَلَا إِجْبَارَ عَلَى الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ فِي النِّكَاحِ، وَالسُّنَّةُ: لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَأْمِرَ الْبِكْرَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَيَذْكُرَ لَهَا الزَّوْجَ فَيَقُولُ: إِنَّ فُلَانًا يَخْطُبُكِ أَوْ يَذْكُرُكِ، فَإِذَا سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ، وَلَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ إِذْنٌ، وَلَوْ بَكَتْ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ صَوْتٍ فَهُوَ رِضًا.   [الاختيار لتعليل المختار] ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ، وَأَسْقَطَ رِوَايَتَهُ. وَرُوِيَ أَنَّ مَالِكًا وَابْنَ جُرَيْجٍ سَأَلَا الزُّهْرِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَالرَّاوِي إِذَا أَنْكَرَ الْخَبَرَ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهِ كَالْأُصُولِ مَعَ الْفُرُوعِ. وَلِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جَوَازَ النِّكَاحِ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ؛ فَإِنَّهَا زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ حِينَ غَابَ بِالشَّامِ. دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ، وَرِوَايَتِهَا لَهُ، أَوْ عَلَى نَسْخِهِ، أَوْ عَلَى رُجْحَانِ مَا ذَكَرْنَا. وَقَوْلُهُ: الْحَادِثُ لَهَا رَأْيٌ نَاقِصٌ، قُلْنَا: الْمُعْتَبَرُ فِي بَابِ الْوِلَايَةِ مُطْلَقُ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ دُونَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ فِي بَابِ الْوِلَايَةِ، فَإِنَّ كَامِلَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ وِلَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ كَوِلَايَةِ نَاقِصِهِمَا. وَكَمْ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ يَكُونُ أَوْفَرَ عَقْلًا وَأَشَدَّ رَأْيًا مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الرِّجَالِ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ حَرَجًا عَظِيمًا، وَهُوَ حَرَجُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَصْلُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ، وَقَدْ وُجِدَا فِي الْمَرْأَةِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا فِي الرَّجُلِ قِيَاسًا عَلَى الْمَالِ. قَالَ: (وَلَا إِجْبَارَ عَلَى الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ فِي النِّكَاحِ) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ صَمَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا. وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شَاوِرُوا النِّسَاءَ فِي أَبْضَاعِهِنَّ "، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْبِكْرَ لَتَسْتَحِي! قَالَ: " إِذْنُهَا صُمَاتُهَا» . (وَالسُّنَّةُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَسْتَأْمِرَ الْبِكْرَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَيَذْكُرَ لَهَا الزَّوْجَ فَيَقُولَ: إِنَّ فُلَانًا يَخْطُبُكِ أَوْ يَذْكُرُكِ، فَإِذَا سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ) ؛ لِمَا رَوَيْنَا. فَإِذَا زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ، فَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَ فَاطِمَةَ مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دَنَا إِلَى خِدْرِهَا، فَقَالَ: إِنَّ عَلِيًّا يَذْكُرُكِ، ثُمَّ خَرَجَ فَزَوَّجَهَا» . (وَلَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ إِذْنٌ) ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا، إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ. (وَلَوْ بَكَتْ) فِيهِ رِوَايَتَانِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ عَنْ سُرُورٍ وَعَنْ حُزْنٍ، وَالْمُخْتَارُ (إِنْ كَانَ بِغَيْرِ صَوْتٍ فَهُوَ رِضًا) ، وَيَكُونُ بُكَاءً عَلَى فِرَاقِ الْأَهْلِ. وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا ثُمَّ بَلَغَهَا - يُعْتَبَرُ السُّكُوتُ كَمَا ذَكَرْنَا. وَالْبُلُوغُ إِلَيْهَا أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا وَلِيُّهَا رَسُولًا يُخْبِرُهَا بِذَلِكَ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ، فَإِنْ أَخْبَرَهَا فُضُولِيٌّ فَلَا بُدَّ مِنَ الْعَدَدِ أَوِ الْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ يُشْبِهُ الشَّهَادَةَ مِنْ وَجْهٍ، فَيُشْتَرَطُ أَحَدُ وَصْفَيِ الشَّهَادَةِ. وَعِنْدَهُمَا: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ كَسَائِرِ الْأَخْبَارِ. وَإِنْ قَالَ الْوَلِيُّ: أُزَوِّجُكِ مِنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ، فَسَكَتَتْ - فَأَيَّهُمَا زَوَّجَهَا جَازَ. وَلَوْ سَمَّى جَمَاعَةً إِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَهُوَ رِضًا، وَإِلَّا لَا يَكُونُ رِضًا. وَلَوِ اسْتَأْمَرَهَا، فَقَالَتْ: غَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ - لَا يَكُونُ إِذْنًا. وَلَوْ قَالَتْ ذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُونُ إِذْنًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 وَلَوِ اسْتَأْذَنَهَا غَيْرُ الْوَلِيِّ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ. وَإِذْنُ الثَّيِّبِ بِالْقَوْلِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ لَهَا الزَّوْجُ بِمَا تَعْرِفُهُ. فَإِنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ جِرَاحَةِ أَوْ تَعْنِيسٍ أَوْ حَيْضٍ فَهِيَ بِكْرٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ زَالَتْ بِزِنًا (سم) . وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: بَلَغَكِ النِّكَاحُ فَسَكَتِّ، فَقَالَتْ: بَلْ رَدَدْتُ - فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ يَحْتَمِلُ الْإِذْنَ وَعَدَمَهُ، فَلَا نُثْبِتُ الْإِذْنَ قَبْلَ الْعَقْدِ بِالشَّكِّ، وَلَا نُبْطِلُ الْعَقْدَ بِالشَّكِّ. (وَلَوِ اسْتَأْذَنَهَا غَيْرُ الْوَلِيِّ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ) ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ إِنَّمَا جُعِلَ رِضًا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَهُوَ اسْتِئْمَارُ الْوَلِيِّ وَعَجْزُهَا عَنِ الْمُبَاشَرَةِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْحَاجَةِ، وَهُوَ مَنْ لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى كَلَامِهِ. قَالَ: (وَإِذْنُ الثَّيِّبِ بِالْقَوْلِ) ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الثَّيِّبُ تُسْتَأْمَرُ» ، أَيْ يُطْلَبُ أَمْرُهَا، وَالْأَمْرُ بِالْقَوْلِ. وَقَالَ فِي حَقِّ الْبِكْرِ: «تُسْتَأْذَنُ» أَيْ يَطْلُبُ الْإِذْنَ مِنْهَا، وَالْإِذْنُ وَالرِّضَا يَكُونُ بِالسُّكُوتِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» ، وَلِأَنَّ السُّكُوتَ إِنَّمَا جُعِلَ إِذْنًا لِمَكَانِ الْحَيَاءِ الْمَانِعِ مِنَ النُّطْقِ الْمُخْتَصِّ بِالْأَبْكَارِ، وَيَكُونُ فِيهِنَّ أَكْثَرَ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا الثَّيِّبُ. قَالَ: (وَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ لَهَا الزَّوْجَ بِمَا تَعْرِفُهُ) ؛ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الرِّضَا بِالْمَجْهُولِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ قَدْرِ الصَّدَاقِ أَيْضًا؛ لِاخْتِلَافِ الرَّغَبَاتِ بِاخْتِلَافِهِ. قَالَ: (فَإِنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ تَعْنِيسٍ أَوْ حَيْضٍ فَهِيَ بِكْرٌ) ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْأَبْكَارِ حَتَّى تَدْخُلَ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ لَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ، وَمُصِيبُهَا أَوَّلُ مُصِيبٍ. (وَكَذَلِكَ إِنَّ زَالَتْ بِزِنًا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تُزَوَّجُ كَمَا تُزَوَّجُ الثَّيِّبُ؛ لِأَنَّ مُصِيبَهَا عَائِدٌ إِلَيْهَا؛ إِذْ هُوَ مِنَ التَّثْوِيبِ وَهُوَ الْعَوْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. وَلَهُ: أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَطَ نُطْقَهَا، فَإِنْ لَمْ تَنْطِقْ تَفُوتُهَا مَصْلَحَةُ النِّكَاحِ، وَإِنْ نَطَقَتْ وَالنَّاسُ يَعْرِفُونَهَا بِكْرًا، فَتَتَضَرَّرُ بِاشْتِهَارِ الزِّنَا عَنْهَا، فَيَكُونُ حَيَاؤُهَا أَكْثَرَ، فَتَتَضَرَّرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُشْتَهِرَةً بِذَلِكَ، بِأَنْ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ، أَوِ اعْتَادَتْهُ وَتَكَرَّرَ مِنْهَا. أَوْ قَضَى عَلَيْهَا بِالْعِدَّةِ تُسْتَنْطَقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِزَوَالِ الْحَيَاءِ، وَعَدَمِ التَّضَرُّرِ بِالنُّطْقِ. وَلَوْ مَاتَ زَوْجُ الْبِكْرِ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تُزَوَّجُ كَالْأَبْكَارِ؛ لِبَقَاءِ الْبَكَارَةِ وَالْحَيَاءِ. (وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ: بَلَغَكِ النِّكَاحُ فَسَكَتِّ، فَقَالَتْ: بَلْ رَدَدْتُ - فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا) ؛ لِأَنَّهَا مُنْكِرَةٌ تَمْلِكُ بُضْعَهَا، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ. (وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَقَدْ مَرَّ فِي الدَّعْوَى. وَلَوِ ادَّعَتْ رَدَّ النِّكَاحِ حِينَ أَدْرَكَتْ، وَادَّعَى الزَّوْجُ السُّكُوتَ - فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْهَا. وَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا، وَزَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِرِضَاهَا؛ فَأَيُّهُمَا قَالَتْ: هُوَ الْأَوَّلُ - صَحَّ؛ لِصِحَّةِ إِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا دُونَ إِقْرَارِ الْأَبِ. وَإِنْ قَالَتْ: لَا أَدْرِي - لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا؛ لِعَدَمِ إِمْكَانِ الْجَمْعِ، وَعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ، فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا - يَجِبُ جَمِيعُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ لَا تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِالنِّكَاحِ. وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 وَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إِنْكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ. ثُمَ إِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ أَبًا أَوْ جَدًّا فَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَإِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُهُمَا فَلَهُمَا الْخِيَارُ (س) .   [الاختيار لتعليل المختار] فَبَلَغَهَا فَرَدَّتْ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: إِنَّ جَمَاعَةً يَخْطُبُونَكِ، فَقَالَتْ: أَنَا رَاضِيَةٌ بِمَا تَفْعَلُ، فَزَوَّجَهَا الْأَوَّلَ - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا: أَنَا رَاضِيَةٌ بِمَا تَفْعَلُ - يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِهِ دَلَالَةً، وَمِثْلُهُ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: كَرِهْتُ صُحْبَةَ فُلَانَةَ، فَطَلَّقْتُهَا، فَزَوِّجْنِي امْرَأَةً، فَزَوَّجَهُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ - لَا يَجُوزُ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ عَبْدَهُ، ثُمَّ أَمَرَ إِنْسَانًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا، فَاشْتَرَى ذَلِكَ الْعَبْدَ - لَا يَجُوزُ. قَالَ: (وَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ إِنْكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَا، لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إِلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «النِّكَاحُ إِلَى الْعَصَبَاتِ» ، وَالْبَالِغَاتُ خَرَجْنَ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَبَقِيَ الصِّغَارُ ". «وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَزَوَّجَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهِيَ بِنْتُ سَبْعِ سِنِينَ، وَبَنَى بِهَا وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ» ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَوَّجَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ مِنْ عُمَرَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ. وَلِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ، وَذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَ الْمُتَكَافِئِينَ، وَالْكُفْءُ لَا يَتَّفِقُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الصِّغَارِ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ وَإِعْدَادًا لِلْكُفْءِ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْقَرَابَةُ مُوجِبَةٌ لِلنَّظَرِ وَالشَّفَقَةِ، فَيَنْتَظِمُ الْجَمِيعُ، إِلَّا أَنَّ شَفَقَةَ الْأَبِ وَالْجَدِّ أَكْثَرُ، فَيَكُونُ عَقْدُهُمَا مِمَّا لَا خِيَارَ فِيهِ، وَشَفَقَةَ غَيْرِهِمَا لَمَّا قَصَّرَتْ عَنْهُمَا قُلْنَا بِالِانْعِقَادِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ عِنْدَ الْبُلُوغِ، فَإِنْ رَآهُ غَيْرَ مَصْلَحَةٍ فَسَخَهُ. (ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ أَبًا أَوْ جَدًّا فَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ) ؛ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِمَا، وَشِدَّةِ حِرْصِهِمَا عَلَى نَفْعِهِمْ، فَكَأَنَّهُمْ بَاشَرُوهُ بِأَنْفُسِهِمْ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا خَيَّرَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ بَلَغَتْ. (وَإِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُهُمَا فَلَهُمَا الْخِيَارُ) ؛ إِنْ شَاءَا أَقَامَا عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ شَاءَا فَسَخَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا خِيَارَ لَهُمَا كَالْأَبِ وَالْجَدِّ. وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قُصُورِ شَفَقَتِهِمْ عَنْ شَفَقَةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ وُقُوعِ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَاحِ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ؛ لِدَفْعِ الْخَلَلِ لَوْ كَانَ. ثُمَّ سُكُوتُ الْبِكْرِ عِنْدَ بُلُوغِهَا رِضًا إِذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ، وَلَا يَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ. وَلَوْ بَلَغَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّصْرِيحِ بِالرِّضَا أَوْ بِالرَّدِّ؛ لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَا الْغُلَامُ. وَلَا بُدَّ فِي الْفَسْخِ مِنَ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ تَمَّ، وَثَبَتَتْ أَحْكَامُهُ، فَلَا يَرْتَفِعُ إِلَّا بِرَفْعِ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِيهِمَا. وَلِأَنَّهُ لِرَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ، وَهُوَ وُقُوعُ الْخَلَلِ فِي الْعَقْدِ، فَيَكُونُ إِلْزَامًا، فَاحْتَاجَ إِلَى الْقَضَاءِ. وَيَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى؛ لِشُمُولِ الْمَعْنَى لَهُمَا. وَيُشْتَرَطُ عِلْمُهُمَا بِالنِّكَاحِ دُونَ الْحَكَمِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَرِدُ بِهِ الْوَلِيُّ فَيُعْذَرَانِ فِي الْجَهْلِ. أَمَّا الْحَكَمُ فَالدَّارُ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا عُذْرَ فِي الْجَهْلِ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ دَفْعُ ضَرَرٍ ظَاهِرٍ، وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ. وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمِلْكِ فِي حَقِّهَا دُونَهُ، وَيَمْتَدُّ إِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ التَّمْلِيكِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وَلَا خِيَارَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي عَيْبٍ إِلَّا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْخِصَاءِ. [تَرْتِيبُ الْأَوْلِيَاءِ] وَالْوَلِيُّ الْعَصَبَةُ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْإِرْثِ وَالْحَجْبِ، ثُمَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ. وَلِلْأُمِّ وَأَقَارِبِهَا التَّزْوِيجُ، ثُمَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، ثُمَّ الْقَاضِي (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] «مَلَكْتِ بُضْعَكِ، فَاخْتَارِي» . وَتَعَذَّرَ فِي الْجَهْلِ بِحُكْمِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى فَلَا تَتَفَرَّغُ لِلْعِلْمِ. وَإِذَا اخْتَارَتِ الْفَسْخَ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ، فَفَرَّقَ الْقَاضِي - فَهِيَ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَلِأَنَّهُ فَسْخٌ ثَبَتَ ضَرُورَةَ دَفْعِ اللُّزُومِ، فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهَا. وَلَا مَهْرَ لَهَا إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْفَسْخِ رَفْعُ مَئُونَاتِ الْعَقْدِ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ. وَكَذَا لَوِ اخْتَارَ الْغُلَامُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا مَهْرَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَنَا فُرْقَةٌ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إِلَّا هَذِهِ. وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْمَهْرُ لَمَا كَانَ فِي الْخِيَارِ فَائِدَةٌ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ، فَلَمَّا ثَبَتَ الْخِيَارُ عَلِمْنَا أَنَّهُ ثَبَتَ؛ لِفَائِدَةٍ وَهِيَ سُقُوطُ الْمَهْرِ. وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ التَّفْرِيقِ وَرِثَهُ الْآخَرُ؛ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَثُبُوتِ الْمِلْكِ بِهِ، وَقَدِ انْتَهَى بِالْمَوْتِ. (وَلَا خِيَارَ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي عَيْبٍ إِلَّا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْخِصَاءِ) عَلَى مَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [تَرْتِيبُ الْأَوْلِيَاءِ] قَالَ: (وَالْوَلِيُّ الْعَصَبَةُ) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «النِّكَاحُ إِلَى الْعَصَبَاتِ» . وَهُمْ (عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الْإِرْثِ وَالْحَجْبِ ثُمَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ) ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْفَرَائِضِ. قَالَ: (وَلِلْأُمِّ وَأَقَارِبِهَا التَّزْوِيجُ، ثُمَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، ثُمَّ الْقَاضِي) ؛ أَمَّا الْأُمُّ وَأَقَارِبُهَا فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ عَنْهُ - وَهُوَ قَوْلُهُمَا - لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ دَفْعًا لِلْعَارِ بِعَدَمِ الْكُفْءِ. وَذَلِكَ إِلَى الْعَصَبَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يُعَيِّرُونَ بِذَلِكَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ إِنَّمَا هُوَ الْقَرَابَةُ الدَّاعِيَةُ إِلَى الشَّفَقَةِ وَالنَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي كُلٍّ مَنْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْقَرَابَةِ. وَشَفَقَةُ الْأُمِّ أَكْثَرُ مِنْ شَفَقَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْأَبَاعِدِ مِنْ أَبْنَاءِ الْأَعْمَامِ، وَكَذَلِكَ شَفَقَةُ الْجَدِّ لِأُمٍّ وَالْأَخْوَالِ، وَلِأَنَّ الْأُمَّ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فَتَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لَهَا كَالْآخَرِ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ. وَابْنُ الْمَجْنُونَةِ يُقَدَّمُ عَلَى أَبِيهَا (م) ، وَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يَنْتَظِرُ الْكُفْءُ الْخَاطِبُ حُضُورَهُ زَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ (ز) .   [الاختيار لتعليل المختار] وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ قَرَابَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْوَارِثُ يَتَعَلَّقُ بِهَا ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ وَالنَّظَرِ كَالْعَصَبَاتِ، إِلَّا أَنَّهُمْ تَأَخَّرُوا عَنِ الْعَصَبَاتِ؛ لِضَعْفِ الرَّأْيِ وَبُعْدِ الْقَرَابَةِ كَمَا فِي الْإِرْثِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي النِّكَاحَ إِلَى الْعَصَبَاتِ عِنْدَ وُجُودِهِمْ، أَمَّا عِنْدَ عَدِمِهِمْ فَالْحَدِيثُ سَاكِتٌ عَنْهُ، فَنَقُولُ: يَنْتَقِلُ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْعَصَبَاتِ فِي الشَّفَقَةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْنَا بَلْ لَنَا. وَتَمَامُهُ يُعْرَفُ فِي الْفَرَائِضِ فِي فَصْلِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَأَمَّا مَوْلَى الْعَتَاقةِِ فَلِأَنَّهُ وَارِثٌ مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، فَكَذَا فِي الْوِلَايَةِ، وَلِأَنَّهُ عَصَبَةٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْفَرَائِضِ. وَأَمَّا الْقَاضِي فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» . قَالَ: (وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا كَافِرٍ عَلَى مُسْلِمَةٍ) ; أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَلِي غَيْرَهُ؟ وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا نَظَرَ لَهُمَا وَلَا خِبْرَةَ، وَهَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ. وَأَمَّا الْكَافِرُ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ تَقْتَضِي نُفُوذَ قَوْلِ الْوَلِيِّ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، وَلَا نَفَاذَ لِقَوْلِ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] . وَثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى وَلَدِهِ الْكَافِرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ: (وَابْنُ الْمَجْنُونَةِ يُقَدَّمُ عَلَى أَبِيهَا) فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقَدَّمُ الْأَبُ؛ لِأَنَّهُ أَشْفَقُ. وَلَهُمَا أَنَّ التَّقْدِيمَ هُنَا بِالْعُصُوبَةِ، وَالِابْنُ مُقَدَّمٌ فِي الْعُصُوبَةِ كَمَا فِي الْإِرْثِ. قَالَ: (وَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يَنْتَظِرُ الْكُفْءُ الْخَاطِبُ حُضُورَهُ زَوَّجَهَا الْأَبْعَدُ) . وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الرَّيِّ، خَمْسَ عَشْرَةَ مَرْحَلَةً. وَعَنْهُ: مِنْ بَغْدَادَ إِلَى الرَّيِّ، عِشْرُونَ مَرْحَلَةً. وَفَصَّلَ ابْنُ شُجَاعٍ ذَلِكَ، فَقَالَ: إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ الْقَوَافِلُ وَالرُّسُلُ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَهِيَ غَيْبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ. قَالَ الْقُدُورِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْخَاطِبَ لَا يَنْتَظِرُ سَنَةً، وَلَا يَعْلَمُ هَلْ يُجِيبُ الْوَلِيُّ أَمْ لَا؟ وَقَدْ يَنْتَظِرُ بَعْضَ السَّنَةِ، فَلِذَلِكَ قَدَّرَهُ بِهَذَا. وَقَالَ زُفَرُ: إِذَا كَانَ فِي مَكَانٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ فَهُوَ غَيْبَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَهَذَا حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَدْرِي أَيْنَ هُوَ لَا يُمْكِنُ اسْتِطْلَاعُ رَأْيِهِ فَتَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ. وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ تَفُوتُ الْمَصْلَحَةُ بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِهِ وَانْتِظَارِهِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُزَوِّجُهَا الْأَبْعَدُ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ جَازَ. وَلَنَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْتَقَلْ إِلَى الْأَبْعَدِ تَتَضَرَّرُ الصَّغِيرَةُ؛ لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ الْكُفْءَ الْحَاضِرَ، وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ الْكُفْءُ مَرَّةً أُخْرَى، فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ. وَلِأَنَّ الْغَائِبَ عَاجِزٌ عَنْ تَدْبِيرِ مَصَالِحِ النِّكَاحِ، فَيَفُوتُ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ ; لِأَنَّهَا نَظَرِيَّةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَا مَعًا بَطَلَا. وَيَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَابْنَتَهُ بِأَقَلَّ (سم) ، وَمِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمَا. وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ وَلِيًّا كَانَ أَوْ وَكِيلًا، أَوْ وَلِيًّا وَوَكِيلًا، أَوْ أَصِيلًا وَوَكِيلًا، أَوْ وَلِيًّا وَأَصِيلًا.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا إِذَا زَوَّجَهَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، قِيلَ: لَا يَجُوزُ؛ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ؛ لِظُهُورِ الِانْتِفَاعِ بِرَأْيِهِ. وَلِأَنَّا إِنَّمَا أَسْقَطْنَا وِلَايَتَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الصَّغِيرَةِ. فَإِذَا زَوَّجَهَا ارْتَفَعَ الضَّرَرُ، فَعَادَتِ الْوِلَايَةُ بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا. وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّهُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ بِالْحَدِيثِ. وَهَذِهِ لَهَا أَوْلِيَاءُ؛ إِذِ الْكَلَامُ فِيهِ. قَالَ: (وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا أَنْكَحَ الْوَلِيَّانِ فَالْأَوَّلُ أَوْلَى» ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ فَقَدْ صَحَّ، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الثَّانِي. وَهَذَا؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ الْقَرَابَةُ، وَهِيَ لَا تَتَجَزَّأُ. وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِهِ أَيْضًا لَا يَتَجَزَّأُ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ، فَأَيُّهُمَا عَقَدَ جَازَ كَالْأَمَانِ. (وَإِنْ كَانَا مَعًا بَطَلَا) ؛ لَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ، وَعَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ أَحَدِهِمَا. قَالَ: (وَيَجُوزُ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَابْنَتَهُ بِأَقَلَّ وَمِنْ غَيْرِ كُفْءٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمَا) . وَقَالَا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ أَيْضًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ نُقْصَانًا يَتَغَابَنُ فِي مِثْلِهِ. وَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ، وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ. وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَالِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ عُمْرٍ، وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَقَاصِدَ وَأَغْرَاضٍ وَمَصَالِحَ بَاطِنَةٍ؛ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَبَ مَعَ وُفُورِ شَفَقَتِهِ وَكَمَالِ رَأْيِهِ مَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا النَّقْصِ إِلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَرْبُو وَتَزِيدُ عَلَيْهِ هِيَ أَنْفَعُ مِنَ الْقَدْرِ الْفَائِتِ مِنَ الْمَالِ وَالْكَفَاءَةِ، بِخِلَافِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَالِيَّةُ لَا غَيْرُ. وَبِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ؛ لِأَنَّهُمْ أَنْقَصُ شَفَقَةً. وَبِخِلَافِ مَا إِذَا زَوَّجَ أَمَةَ الصَّغِيرِ؛ لِعَدَمِ الْجَابِرِ فِي حَقِّهِ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ لَمْ تَحْصُلْ لِلصَّغِيرِ. وَبِخِلَافِ مَا إِذَا تَزَوَّجَتِ الْمَرْأَةُ، وَقَصَّرَتْ فِي مَهْرِهَا حَيْثُ لِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ حَتَّى يَتِمَّ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، أَوْ يُفَارِقَهَا؛ لِأَنَّهَا سَرِيعَةُ الِانْخِدَاعِ ضَعِيفَةُ الرَّأْيِ، فَتَفْعَلُ ذَلِكَ مُتَابَعَةً لِلْهَوَى لَا لِتَحْصِيلِ الْمَقَاصِدِ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ قَلَّمَا يَنْظُرْنَ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ حَقُّهَا، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تَهَبَهُ، فَلِأَنْ تَنْقُصَهُ أَوْلَى. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَهْرَ إِلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ حَقُّ الشَّرْعِ، فَلَا يَجُوزُ التَّنْقِيصُ مِنْهُ شَرْعًا حَتَّى لَوْ سَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ فَلَهَا عَشَرَةٌ، وَإِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ يُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ، فَلَهُمْ مُخَاصَمَتُهَا إِلَى تَمَامِهِ. وَالِاسْتِيفَاءُ حَقُّهَا؛ فَإِنْ شَاءَتْ قَبَضَتْهُ، وَإِنْ شَاءَتْ وَهَبَتْهُ. قَالَ: (وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيِ الْعَقْدِ وَلِيًّا كَانَ أَوْ وَكِيلًا، أَوْ وَلِيًّا وَوَكِيلًا، أَوْ أَصِيلًا وَوَكِيلًا، أَوْ وَلِيًّا وَأَصِيلًا) . أَمَّا الْوَلِيُّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَمَنْ زَوَّجَ ابْنَ ابْنِهِ بِنْتَ ابْنٍ لَهُ آخَرَ، أَوْ بِنْتَ أَخِيهِ ابْنَ أَخٍ لَهُ آخَرَ، أَوْ أَمَتَهُ عَبْدَهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَالْوَكِيلُ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الْوَلِيُّ وَالْوَكِيلُ بِأَنْ وَكَّلَهُ رَجُلٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفًا كَالْبَيْعِ إِذَا كَانَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ. أَمَّا مِنْ جَانِبَيْنِ (س) ، أَوْ فُضُولِيًّا مِنْ جَانِبٍ أَصِيلًا مِنْ جَانِبٍ - فَلَا. وَالْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ فِي النِّكَاحِ فِي النَّسَبِ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَنْ يُزَوِّجَهُ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ، أَوْ وَكَّلَتْهُ امْرَأَةٌ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ. وَأَمَّا الْوَكِيلُ وَالْأَصِيلُ بِأَنْ وَكَّلَتْهُ امْرَأَةٌ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ. وَأَمَّا الْوَلِيُّ وَالْأَصِيلُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَةَ عَمِّهِ الصَّغِيرَةَ مِنْ نَفْسِهِ. وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: اشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانَةَ مِنِّي، أَوْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ تَضَمَّنَ الشَّطْرَيْنِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مُمَلِّكًا مُمْتَلِكًا كَالْبَيْعِ. وَلَنَا: أَنَّهُ مَعْبَرٌ وَسَفِيرٌ، وَالْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ رُجُوعُ الْحُقُوقِ إِلَى الْعَاقِدِ فَيَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ مُطَالِبًا وَمُطَالَبًا فِي حَقٍّ وَاحِدٍ، وَهُنَا الْحُقُوقُ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِ فَلَا تَمَانُعَ. قَالَ: (وَيَنْعَقِدُ نِكَاحُ الْفُضُولِيِّ مَوْقُوفًا كَالْبَيْعِ إِذَا كَانَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ. أَمَّا مِنْ جَانِبَيْنِ، أَوْ فُضُولِيًّا مِنْ جَانِبٍ أَصِيلًا مِنْ جَانِبٍ - فَلَا) . أَمَّا الْفُضُولِيُّ مِنْ جَانِبٍ بِأَنْ يُزَوِّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ أَمْرِهَا رَجُلًا، وَقَبِلَ الرَّجُلُ. أَوْ رَجُلًا بِغَيْرِ أَمْرِهِ امْرَأَةً، فَقَبِلَتْ - فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْغَائِبِ. وَأَمَّا مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ: اشْهَدُوا أَنِّي زَوَّجْتُ فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ، وَهُمَا غَائِبَانِ بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا، فَهَذَا لَا يَنْعَقِدُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى إِجَازَتِهِمَا. وَالْفُضُولِيُّ مِنْ جَانِبٍ أَصِيلٌ مِنْ جَانِبٍ بِأَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُ فُلَانَةَ، وَهِيَ غَائِبَةٌ، وَلَمْ يَقْبَلْ عَنْهَا أَحَدٌ. فَهَذَا أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ. وَلَوْ جَرَى بَيْنَ فُضُولِيَّيْنِ جَازَ بِاتِّفَاقِنَا. وَذَكَرْنَا فِي الْبُيُوعِ الدَّلِيلَ عَلَى انْعِقَادِ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ. لِأَبِي يُوسُفَ فِي الْخِلَافِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَكِيلًا انْعَقَدَ وَنَفَذَ، فَإِذَا كَانَ فُضُولِيًّا يَنْعَقِدُ وَيَقِفُ. وَلَهُمَا أَنَّ هَذَا شَطْرُ الْعَقْدِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَمَا إِذَا كَانَ أَصِيلًا، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُعَبِّرٌ، فَيَنْقُلُ كَلَامَهُ إِلَيْهِمَا. وَكَلَامُ الْفُضُولِيَّيْنِ عَقْدٌ تَامٌّ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ. وَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَهُ الْكَبِيرَ، فَجُنَّ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، فَأَجَازَهُ الْأَبُ - جَازَ وَنَفَذَ؛ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ وَقْتَ الْإِجَازَةِ. [فصل الكفاءة في النكاح] ِ] (وَالْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ فِي النِّكَاحِ) ، وَتُعْتَبَرُ فِي الرِّجَالِ لِلنِّسَاءِ؛ لِلُزُومِهِ فِي حَقِّهِنَّ، وَلِأَنَّ الشَّرِيفَةَ تُعَيَّرُ وَيَغِيظُهَا كَوْنُهَا مُسْتَفْرَشَةً لِلْخَسِيسِ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَفْرِشُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَا، لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إِلَّا الْأَوْلِيَاءُ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إِلَّا مِنَ الْأَكْفَاءِ» ، وَلِأَنَّ الْمَصَالِحَ إِنَّمَا تَتِمُّ بَيْنَ الْمُتَكَافِئِينَ غَالِبًا فَيُشْتَرَطُ؛ لِيَتِمَّ الْمَقْصُودُ مِنْهُ. قَالَ: وَتُعْتَبَرُ (فِي النَّسَبِ) فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، لَا يُكَافِئُهُمْ غَيْرُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ. وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وَفِي الدِّينِ وَالتَّقْوَى، وَفِي الصَّنَائِعِ، وَفِي الْحُرِّيَّةِ، وَفِي الْمَالِ. وَمَنْ لَهُ أَبٌ فِي الْإِسْلَامِ أَوِ الْحُرِّيَّةِ لَا يُكَافِئُ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ. وَالْأَبَوَانِ (س) وَالْأَكْثَرُ سَوَاءٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِبَعْضٍ، لَا يُكَافِئُهُمُ الْمَوَالِي، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ» . وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِي قُرَيْشٍ، وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ؛ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - زَوَّجَ ابْنَتَهُ عُثْمَانَ وَكَانَ عَبْشَمِيًّا أُمَوِيًّا، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَوَّجَ ابْنَتَهُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ عَدَوِيًّا. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِلَّا أَنْ يَكُونَ نَسَبًا مَشْهُورًا كَبَيْتِ الْخِلَافَةِ تَعْظِيمًا لَهَا. قَالَ: (وَفِي الدِّينِ وَالتَّقْوَى) حَتَّى إِنَّ بِنْتَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ لَوْ تَزَوَّجَتْ فَاسِقًا كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ الرَّدُّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْجَرِ الْأَشْيَاءِ، وَأَنَّهَا تُعَيَّرُ بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» - إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَقْصُودِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يُعْتَبَرُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا، كَمَنْ يُصْفَعُ وَيُسْخَرُ مِنْهُ، أَوْ يَخْرُجُ سَكْرَانَ وَيَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا. وَلِأَنَّ الْأَمِيرَ النَّسِيبَ كُفْءٌ لِلدَّنِيَّةِ، إِنْ كَانَ لَا يُبَالِي بِمَا يَقُولُونَ فِيهِ، وَلَا يَلْحَقُهَا بِهِ شَيْنٌ، بِخِلَافِ الْفَاحِشِ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهَا بِهِ شَيْنٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا كَانَ الْفَاسِقُ ذَا مُرُوءَةٍ فَهُوَ كُفْءٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَسَتِّرًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ، فَلَا يَلْتَحِقُ بِهَا الشَّيْنُ. قَالَ: (وَفِي الصَّنَائِعِ) ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُعَيَّرُونَ بِالدَّنِيءِ مِنْهَا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِقَالُ عَنْهَا، فَلَيْسَتْ وَصْفًا لَازِمًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُعْتَبَرُ، إِلَّا أَنْ يُفْحِشَ كَالْحَائِكِ وَالْحَجَّامِ وَالْكَنَّاسِ وَالدَّبَّاغِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كُفْؤًا لِبِنْتِ الْبَزَّازِ وَالْعَطَّارِ وَالصَّيْرَفِيِّ وَالْجَوْهَرِيِّ. قَالَ: (وَفِي الْحُرِّيَّةِ) فَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ كُفْؤًا لِلْحُرَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُعَيَّرُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ نَقْصٌ وَشَيْنٌ. قَالَ: (وَفِي الْمَالِ) وَهُوَ مِلْكُ الْمَهْرِ الْمُعَجَّلِ وَالنَّفَقَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَكُونُ كُفْؤًا ; لَأَنَّ بِالنَّفَقَةِ تَقُومُ مَصَالِحُ النِّكَاحِ، وَيَدُومُ الِازْدِوَاجُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَالْمَهْرُ بَدَلُ الْبُضْعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِيفَائِهِ. وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَعَارَفَ النَّاسُ تَعْجِيلَهُ حَتَّى يُسَمُّونَهُ نَقْدًا، وَالْبَاقِي بَعْدَهُ تَعَارَفُوهُ مُؤَجَّلًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ كَانَ يَمْلِكُ الْمَهْرَ دُونَ النَّفَقَةِ لَيْسَ بِكُفْءٍ، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ النَّفَقَةَ دُونَ الْمَهْرِ فَهُوَ كُفْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ تَجْرِي فِيهِ الْمُسَاهَلَةُ، وَيُعَدُّ الرَّجُلُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِقُدْرَةِ أَبِيهِ. أَمَّا النَّفَقَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَوْمٍ. وَفِي النَّوَادِرِ: عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: امْرَأَةٌ فَائِقَةٌ فِي الْيَسَارِ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ رُدَّ عَقْدُهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِيفَاءِ مَا يُعَجِّلُ، وَيَكْتَسِبُ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ - كَانَ كْفُؤًا لَهَا، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ. قَالَ: (وَمَنْ لَهُ أَبٌ فِي الْإِسْلَامِ أَوِ الْحُرِّيَّةِ لَا يُكَافِئُ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ) ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ بِالْأَبِ وَتَمَامَهُ بِالْجَدِّ. (وَالْأَبَوَانِ وَالْأَكْثَرُ سَوَاءٌ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْوَاحِدُ وَالْأَكْثَرُ سَوَاءٌ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الدَّعْوَى. وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ كُفْؤًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 وَإِذَا تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ قَبَضَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ، أَوْ جَهَّزَ بِهِ، أَوْ طَالَبَ بِالنَّفَقَةِ - فَقَدْ رَضِيَ. وَإِنْ سَكَتَ لَا يَكُونُ رِضًى، وَإِنْ رَضِيَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ فَلَيْسَ (س) لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُ الِاعْتِرَاضُ. وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُ فَلَهُ ذَلِكَ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ بِالْإِسْلَامِ، وَالْكَفَاءَةُ فِي الْعَقْلِ - قِيلَ: لَا تُعْتَبَرُ، وَقِيلَ: تُعْتَبَرُ، فَلَا يَكُونُ الْمَجْنُونُ كُفْؤًا لِلْعَاقِلَةِ. قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَتْ غَيْرَ كُفْءٍ فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا) دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْهُ، وَالتَّفْرِيقُ إِلَى الْقَاضِي كَمَا تَقَدَّمَ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ، وَمَا لَمْ يُفَرِّقْ فَأَحْكَامُ النِّكَاحِ ثَابِتَةٌ، وَلَا يَكُونُ الْفَسْخُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ فِي النِّكَاحِ، وَهَذَا فَسْخٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ. وَلِأَنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ طَلَاقًا إِذَا فَعَلَهُ الْقَاضِي نِيَابَةً عَنِ الزَّوْجِ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ. وَلِهَذَا لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِمَا بَيَّنَّا. وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمُسَمَّى، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ لِلدُّخُولِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ. قَالَ: (فَإِنْ قَبَضَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ، أَوْ جَهَّزَ بِهِ، أَوْ طَالَبَ بِالنَّفَقَةِ - فَقَدْ رَضِيَ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقْرِيرٌ لِلنِّكَاحِ، وَأَنَّهُ رَضِيَ كَمَا إِذَا زَوَّجَهَا فَمَكَّنَتِ الزَّوْجَ مِنْ نَفْسِهَا. (وَإِنْ سَكَتَ لَا يَكُونُ رِضًى) ، وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ مَا لَمْ تَلِدْ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَنِ الْحَقِّ الْمُتَأَكِّدِ لَا يُبْطِلُهُ؛ لِاحْتِمَالِ تَأَخُّرِهِ إِلَى وَقْتٍ يَخْتَارُ فِيهِ الْخُصُومَةَ. (وَإِنْ رَضِيَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُ الِاعْتِرَاضُ، وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُ فَلَهُ ذَلِكَ) . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِلْبَاقِينَ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ لِجَمَاعَتِهِمْ، فَإِذَا رَضِيَ أَحَدُهُمْ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ، وَبَقِيَ حَقُّ الْبَاقِينَ. وَلَنَا: أَنَّ هَذَا فِيمَا يَتَجَزَّأُ، وَهَذَا لَا يَتَجَزَّأُ، وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ، فَجُعِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُنْفَرِدِ كَمَا مَرَّ. وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ صَحَّ الْإِسْقَاطُ فِي حَقِّهِ، فَيَسْقُطُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزِّي كَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ، وَصَارَ كَالْأَمَانِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا رَضِيَتْ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا غَيْرُ حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا صِيَانَةُ نَفْسِهَا عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ، وَحَقَّهُمْ فِي دَفْعِ الْعَارِ، فَسُقُوطُ أَحَدِهِمَا لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ الْآخَرِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ كُفْءٍ لَمْ يَجُزْ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: وَهُوَ أَحْوَطُ، فَلَيْسَ كُلُّ وَلِيٍّ يُحْسِنُ الْمُرَافَعَةَ إِلَى الْقَاضِي، وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، فَكَانَ الْأَحْوَطُ سَدَّ هَذَا الْبَابِ. وَلَوِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ نَسَبِهِ، فَتَزَوَّجَتْهُ إِنْ كَانَ النَّسَبُ الْمَكْتُومُ أَفْضَلَ لَا خِيَارَ لَهَا وَلَا لِلْأَوْلِيَاءِ، كَمَا إِذَا اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ. وَإِنْ كَانَ دُونَهُ فَلَهَا وَلَهُمُ الْخِيَارُ، وَإِنْ رَضِيَتْ فَلَهُمُ الْخِيَارُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَإِنْ كَانَ دُونَهُ إِلَّا أَنَّهُ كُفْءٌ بِالنَّسَبِ الْمَكْتُومِ فَلَا خِيَارَ لِلْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ كُفْءٌ لَهُمْ، فَلَا عَارَ عَلَيْهِمْ، وَلَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ وَقَدْ فَاتَتْ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ كَمَا إِذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ خَبَّازٌ أَوْ كَاتِبٌ فَوَجَدَهُ لَا يُحْسِنُهُ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْرَاشَ ذُلٌّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 وَإِنْ نَقَصَتْ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا أَوْ يُتَمِّمَهُ. [أَقَلُّ الْمَهْرِ وَأَكْثَرُهُ] الْمَهْرُ أَقَلُّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مَالًا،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي جَانِبِهَا، وَهِيَ إِنَّمَا رَضِيَتْ بِاسْتِفْرَاشِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ فَلَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَصَالِحِ. وَالْكَفَاءَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ مِنْ جَانِبِهَا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الطَّلَاقِ، وَصَارَ كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالرَّتْقِ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] إِلَى أَنْ قَالَ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «لَوْ كَانَ لِي بِنْتٌ لَزَوَّجْتُكَ» . وَرُوِيَ «أَنَّ بِلَالًا خَطَبَ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " قُلْ لَهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي» ، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ. وَلِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ حُكْمُ الْآخِرَةِ لَا الدُّنْيَا ; لِأَنَّ التَّقْوَى لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا إِلَّا اللَّهُ وَثَوَابَهَا فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُرَادُ بِهِ الْفَضْلُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ جَوَابُ الْحَدِيثِ، وَيَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. قَالَ: (وَإِنْ نَقَصَتْ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا، أَوْ يُتَمِّمَهُ) . وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلِهِمَا؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا، أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا عَلَى رِوَايَةِ رُجُوعِهِ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِ فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ. قَالُوا: صُورَتُهُ إِذَا أَكْرَهَ الْوَلِيُّ الْمَرْأَةَ عَلَى النِّكَاحِ بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ، ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ، فَأَجَازَتِ النِّكَاحَ فَلِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ. [فصل أَقَلُّ الْمَهْرِ وَأَكْثَرُهُ] ُ] (الْمَهْرُ أَقَلُّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ مَا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مَالًا) ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] . عَلَّقَ الْحِلَّ بِشَرْطِ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ فَلَا يَحِلُّ دُونَهُ، وَسُقُوطُهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ ; لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْفَسْخَ، وَسُقُوطُ الْعِوَضِ عِنْدَ وُجُودِ الْفَسْخِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ سُقُوطَهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ؛ إِذْ لَا يَسْقُطُ إِلَّا مَا ثَبَتَ وَلَزِمَ. وَالتَّنْصِيفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثَبَتَ نَصًّا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مُطْلَقُ الْمَالِ فَكَانَ مُجْمَلًا، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَسَّرَهُ بِالْعَشَرَةِ، فَقَالَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ جَابِرٌ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: «لَا مَهْرَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» . وَلِأَنَّ الْمَهْرَ ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يَكُونَ النِّكَاحُ بِدُونِهِ. وَلَوْ نَفَاهُ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ، وَأَنَّهُ يَبْتَنِي عَلَى وُجُودِ الْأَصْلِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 فَإِنْ سَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ فَلَهَا عَشَرَةٌ (ز) . وَمَنْ سَمَّى مَهْرًا لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ وَالْمَوْتِ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَهُ نِصْفُهُ. وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا - فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ وَالْمَوْتِ، وَالْمُتْعَةُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَلَا تَجِبُ إِلَّا لِهَذِهِ، وَتُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ سِوَاهَا. وَالْمُتْعَةُ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِحَالِهِ، وَلَا تُزَادُ عَلَى قَدْرِ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَمَا ثَبَتَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَدْخُلُهُ التَّقْدِيرُ كَالزَّكَاةِ. قَالَ: (فَإِنْ سَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ فَلَهَا عَشَرَةٌ) ، وَقَالَ زُفَرُ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا، فَصَارَ كَعَدَمِ التَّسْمِيَةِ. وَلَنَا: أَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تَتَبَعَّضُ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ، فَتَسْمِيَتُهُ بَعْضُهُ كَتَسْمِيَتِهِ كُلِّهِ كَالطَّلْقَةِ. وَكَمَا إِذَا تَزَوَّجَ نِصْفَهَا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَهُ إِظْهَارًا لِخَطَرِ النِّكَاحِ، وَلَا يَظْهَرُ بِأَصْلِ الْمَالِ؛ لِتَنَاوُلِهِ الْحَقِيرَ مِنْهُ. وَمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ تَوَلَّى بَيَانَ مِقْدَارِهِ كَالزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهَا حَطَّتْ عَنْهُ مَا تَمْلِكُهُ وَمَا لَا تَمْلِكُهُ، فَيَسْقُطُ مَا تَمْلِكُهُ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ، وَلَا يَسْقُطُ مَا لَا تَمْلِكُهُ وَهُوَ تَمَامُ الْعَشَرَةِ، كَمَا إِذَا أَسْقَطَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الدَّيْنَ الْمُشْتَرَكَ يَصِحُّ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً. قَالَ: (وَمَنْ سَمَّى مَهْرًا لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ وَالْمَوْتِ) ، أَمَّا الدُّخُولُ فَلِأَنَّهُ تَحَقَّقَ بِهِ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ، وَبِالْمَوْتِ يَتَقَرَّرُ النِّكَاحُ بِانْتِهَائِهِ، فَيَجِبُ الْبَدَلُ. (وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَهُ نِصْفُهُ) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا - فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ وَالْمَوْتِ، وَالْمُتْعَةِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ) ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحَّ، فَيَجِبُ الْعِوَضُ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ. وَالْمَهْرُ وَجَبَ حَقًّا لِلشَّرْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَالْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ أَعْدَلُ، فَيُصَارُ إِلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ، بِخِلَافِ حَالَةِ التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِهِ. فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالنُّقْصَانِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَقَدْ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمَهْرُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ» . وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ» ، وَقَدْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ، وَمَاتَ عَنْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ. وَأَمَّا وُجُوبُ الْمُتْعَةِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] . قَالَ: (وَلَا تَجِبُ إِلَّا لِهَذِهِ) ؛ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مَقَامَ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَهِيَ خَلَفٌ عَنْهُ، فَلَا تَجْتَمِعُ مَعَ الْأَصْلِ فِي حَقِّ غَيْرِهَا. وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَجَبَ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ. (وَتُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ سِوَاهَا) ، قَالَ: (وَالْمُتْعَةُ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ) ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (يُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِحَالِهِ) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] (وَلَا تُزَادُ عَلَى قَدْرِ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ) ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الَّذِي سُمِّيَ فِيهِ أَقْوَى، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْأَقْوَى أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ لَا يَجِبُ فِي الْأَضْعَفِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وَإِنْ زَادَهَا فِي الْمَهْرِ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ، وَتَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ (س) . وَإِنْ حَطَّتْ مِنْ مَهْرِهَا صَحَّ الْحَطُّ، وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ كَالدُّخُولِ. وَكَذَلِكَ الْعِنِّينُ وَالْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ (سم) ، وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ مَانِعٌ مِنَ الْوَطْءِ طَبْعًا وَشَرْعًا. فَالْمَرَضُ الْمَانِعُ مِنَ الْوَطْءِ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ جِهَتِهَا مَانِعٌ طَبْعًا، وَكَذَلِكَ الرَّتْقُ وَالْقَرْنُ وَالْحَيْضُ وَالْإِحْرَامُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَصَلَاةُ الْفَرْضِ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِنْ زَادَهَا فِي الْمَهْرِ لَزِمَتْهُ الزِّيَادَةُ) ؛ لِمَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ فِي الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، (وَتَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ) . وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْمَفْرُوضَ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْمَفْرُوضِ فِيهِ. وَعِنْدَهُمَا: التَّنْصِيفُ يَخْتَصُّ بِالْمَفْرُوضِ فِيهِ. وَأَصْلُهُ أَنَّهُ إِذَا تَزَوَّجَهَا، وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى تَسْمِيَةٍ - فَهِيَ لَهَا إِنْ دَخَلَ بِهَا، أَوْ مَاتَ عَنْهَا. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَالْمُتْعَةُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَتَنَصَّفُ مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] . وَلَهُمَا: أَنَّ هَذَا تَعْيِينٌ لِمَا وَجَبَ بِالْعَقْدِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ، فَكَذَا مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَالْفَرْضُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْمَفْرُوضُ فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّصِّ. قَالَ: (وَإِنْ حَطَّتْ مِنْ مَهْرِهَا صَحَّ الْحَطُّ) ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا بَقَاءً وَاسْتِيفَاءً، فَتَمْلِكُ حَطَّهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. قَالَ: (وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ كَالدُّخُولِ) ؛ لِمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ، وَنَظَرَ إِلَيْهَا - فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ» . وَرَوَى زُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَنَّهُ إِذَا أَرْخَى سِتْرًا، أَوْ أَغْلَقَ الْبَابَ - فَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهِ: مَا ذَنْبُهُنَّ إِذَا جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ. وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ، فَيَسْتَقِرُّ بِالتَّخْلِيَةِ كَالْإِجَارَةِ، وَلِأَنَّهَا سَلَّمَتِ الْمُبْدَلَ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ لَهَا الْبَدَلُ كَالْبَيْعِ. (وَكَذَلِكَ الْعِنِّينُ وَالْخَصِيُّ) ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. (وَ) كَذَلِكَ (الْمَجْبُوبُ) ، وَقَالَا: يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِوُجُودِ الْمَانِعِ قَطْعًا، وَهُوَ أَعْجَزُ مِنَ الْمَرِيضِ. وَلَهُ: أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ إِنَّمَا هُوَ السَّحْقُ، وَقَدْ سَلَّمَتْ إِلَيْهِ ذَلِكَ. (وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ مَانِعٌ مِنَ الْوَطْءِ طَبْعًا وَشَرْعًا، فَالْمَرَضُ الْمَانِعُ مِنَ الْوَطْءِ مِنْ جِهَتِهِ أَوْ جِهَتِهَا مَانِعٌ طَبْعًا، وَكَذَلِكَ الرَّتْقُ وَالْقَرْنُ) . وَكَذَا إِذَا كَانَ يَخَافُ زِيَادَةَ الْمَرَضِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ فُتُورٍ. (وَالْحَيْضُ) مَانِعٌ شَرْعًا وَطَبْعًا؛ إِذِ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَنْفِرُ مِنْهُ. (وَالْإِحْرَامُ) بِالْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا، (وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَصَلَاةُ الْفَرْضِ) مَانِعٌ شَرْعًا. أَمَّا الْإِحْرَامُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِالدُّخُولِ حَقِيقَةً، وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى، وَيَثْبُتُ فِيهِ النَّسَبُ. وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنَ الْخَلِّ (سم) فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ، أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا حُرٌّ، أَوْ عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً (س) ، أَوْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ - جَازَ النِّكَاحُ (م) ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَلِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الدَّمِ، وَفِي الصَّوْمِ؛ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَالْقَضَاءِ، بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إِفْطَارُهُ بِعُذْرٍ يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ الْآدَمِيِّ كَالضِّيَافَةِ. وَلَا كَذَلِكَ رَمَضَانُ وَالْمَنْذُورُ وَالْقَضَاءُ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَقِيلَ: فِي صَوْمِ يَوْمِ التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ. وَكَذَلِكَ السُّنَنُ إِلَّا رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ؛ لِشِدَّةِ تَأْكِيدِهِمَا بِالْوَعِيدِ عَلَى تَرْكِهِمَا. وَالْمَكَانُ الَّذِي تَصِحُّ فِيهِ الْخَلْوَةُ أَنْ يَأْمَنَا فِيهِ اطِّلَاعَ غَيْرِهِمَا عَلَيْهِمَا حَتَّى لَوْ خَلَا بِهَا فِي مَسْجِدٍ أَوْ حَمَّامٍ أَوْ طَرِيقٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ لَا حِجَابَ لَهُ فَلَيْسَتْ صَحِيحَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُمَا أَعْمَى أَوْ صَبِيٌّ يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ كَلْبٌ عَقُورٌ أَوْ مَنْكُوحَةٌ لَهُ أُخْرَى أَوْ أَجْنَبِيَّةٌ. وَفِي الْأَمَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ. قَالَ: (وَفِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يَجِبُ إِلَّا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَا يَجِبُ إِلَّا بِالدُّخُولِ حَقِيقَةً) ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ، وَأَنَّهَا مَانِعَةٌ شَرْعًا، فَلَا يَجِبُ إِلَّا بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْمُسَمَّى صِرْنَا إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ إِذْ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ؛ لِمَا مَرَّ. (وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى) ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى لَيْسَ بِمَالٍ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالتَّسْمِيَةِ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِمَا؛ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، وَإِنْ زَادَتْ لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ؛ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ حَيْثُ تَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ، فَيَتَقَدَّرُ بَدَلُهُ بِقِيمَتِهِ. (وَيَثْبُتُ فِيهِ النَّسَبُ) ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إِثْبَاتِهِ، وَأَوَّلُ مُدَّتِهِ وَقْتُ الدُّخُولِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ دَاعٍ إِلَى الْوَطْءِ، فَأُقِيمَ الْعَقْدُ مَقَامَهُ. وَالْفَاسِدُ لَيْسَ بِدَاعٍ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنَ الْحُرْمَةِ، فَلَا يُقَامُ الْعَقْدُ مَقَامَهُ. وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ احْتِيَاطًا وَتَحَرُّزًا عَنِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ، وَأَوَّلُهَا يَوْمُ التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ؛ لِشُبْهَةِ النِّكَاحِ، وَالشُّبْهَةُ إِنَّمَا تَرْتَفِعُ بِالتَّفْرِيقِ. [فصل مَهْرُ الْمِثْلِ] فَصْلٌ (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنَ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ، أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ، أَوْ عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً، أَوْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ - جَازَ النِّكَاحُ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ) . أَمَّا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَلْغُو، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ. وَإِذَا بَطَلَتِ التَّسْمِيَةُ صَارَتْ كَالْعَدَمِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الدَّنُّ فَكَذَلِكَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً جَازَ وَلَهَا الْخِدْمَةُ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَإِنْ وَفَّى فَلَهَا الْمُسَمَّى،   [الاختيار لتعليل المختار] عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنَ التَّسْمِيَةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْخَمْرِ، وَقَالَا: لَهَا مِثْلُ وَزْنِهِ خَلًّا. وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِمَا مَرَّ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجِبُ فِيهِ مِثْلُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا؛ لِأَنَّهُ أَطْمَعَهَا فِي مَالٍ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ، فَيَجِبُ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ كَمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمُسَمَّى إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَوْجُودٌ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ ذَاتًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ، فَإِذَا هُوَ أَخْضَرُ انْعَقَدَ الْعَقْدُ؛ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ. وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى ; لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوْجُودًا فِيهِ لَا ذَاتًا وَلَا صِفَةً؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنِ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ لَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ. وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ كَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى حُرٍّ فَيَلْزَمُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ. أَمَّا الْخَلُّ وَالْخَمْرُ جِنْسَانِ؛ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا، فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ الْخَلُّ فَيَلْزَمُهُ. وَأَمَّا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً، أَوْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ - فَمَذْهَبُهُمَا وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا قِيمَةُ خِدْمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ، إِلَّا أَنَّهُ عَجَزَ عَنِ التَّسْلِيمِ؛ لِلْمُنَاقَضَةِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ تَجِبُ الْقِيمَةُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْخِدْمَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ ; لِأَنَّهَا لَا تُسْتَحَقُّ بِحَالٍ، فَصَارَ كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَنَافِعِ بِالْعَقْدِ. فَإِذَا لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُهَا فِيهِ لَمْ يَظْهَرْ تَقَوُّمُهَا، فَيُصَارُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِمَا بَيَّنَّا. أَوْ نَقُولُ: الْمَشْرُوعُ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ، وَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ بِمَالٍ وَكَذَا الْمَنَافِعُ؛ لِمَا بَيَّنَّا. أَوْ نَقُولُ: تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا كَتَعْلِيمِ الشَّهَادَتَيْنِ، بِخِلَافِ خِدْمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ رَقَبَتِهِ، وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزَّوْجَةِ خِدْمَةَ الزَّوْجِ قَلْبُ الْمَوْضُوعِ ; لِأَنَّ تَوْقِيرَ الزَّوْجِ وَاجِبٌ عَلَيْهَا، وَفِي اسْتِخْدَامِهِ إِهَانَتُهُ. قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً جَازَ، وَلَهَا الْخِدْمَةُ) ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَا مُنَاقَضَةَ؛ فَإِنَّهُ يَخْدِمُ الْمَوْلَى مَعْنًى حَيْثُ كَانَ بِأَمْرِهِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خِدْمَةِ حُرٍّ آخَرَ، الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَصِحُّ؛ إِذْ لَا مُنَاقَضَةَ. وَتَرْجِعُ بِقِيمَةِ خِدْمَتِهِ عَلَى الزَّوْجِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا، أَوْ يَزْرَعَ أَرْضَهَا فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَالْفَرْقُ عَلَى إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا مُنَاقَضَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الزَّوْجِيَّةِ. وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَ مَا هُوَ مَالٌ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ، فَإِنْ وَفَى الْمَالُ بِالْعَشَرَةِ فَهُوَ لَهَا لَا غَيْرُ. وَإِنْ لَمْ يَفِ فَلَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ - فَلَهَا الْعَشَرَةُ، وَلَا يُكْمِلُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَيْبِ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ مِنْهَا جَازَ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَيْبِ عَشَرَةً فَهُوَ لَهَا، وَإِلَّا يُكْمِلُ عَشَرَةً. قَالَ: (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، فَإِنْ وَفَى فَلَهَا الْمُسَمَّى) ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 وَإِلَّا فَمَهْرُ مِثْلِهَا، وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَلْفٍ إِنْ أَقَامَ بِهَا، وَأَلْفَيْنِ إِنْ أَخْرَجَهَا؛ فَإِنْ أَقَامَ فَلَهَا الْأَلْفُ، وَإِنْ أَخْرَجَهَا فَمَهْرُ مِثْلِهَا (سم ز) . وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ، أَوْ هَذَا فَلَهَا أَشْبَهُهُمَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ (سم) . وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ بَيْنَهُمَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ (سم) . وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى حَيَوَانٍ، فَإِنْ سَمَّى نَوْعَهُ كَالْفَرَسِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ وَلَهَا الْوَسَطُ؛ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ قِيمَتَهُ. وَالثَّوْبُ مِثْلُ الْحَيَوَانِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَ وَصْفَهُ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] يَصْلُحُ مَهْرًا وَقَدْ تَرَاضَيَا بِهِ. (وَإِلَّا فَمَهْرُ مِثْلِهَا) ؛ لِأَنَّهَا مَا رَضِيَتْ بِالْأَلْفِ إِلَّا مَعَ مَا ذَكَرَ لَهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ، فَيُكْمِلُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَرْضَ بِهِ، فَكَأَنَّهُ مَا سَمَّى. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَكَرَامَتِهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ ; لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنَ الْمُتْعَةِ. (وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَلْفٍ إِنْ أَقَامَ بِهَا، وَأَلْفَيْنِ إِنْ أَخْرَجَهَا - فَإِنْ أَقَامَ فَلَهَا الْأَلْفُ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا، (وَإِنْ أَخْرَجَهَا فَمَهْرُ مِثْلِهَا) لَا يُزَادُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ أَلْفٍ. وَقَالَا: الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ، وَعِنْدَ زُفَرَ فَاسِدَانِ، وَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْوَجْهَيْنِ. وَعَلَى هَذَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ عَلَيْهَا، وَأَلْفَيْنِ إِنْ تَزَوَّجَ. لِزُفَرَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، فَكَانَ الْمَهْرُ مَجْهُولًا. وَلَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ سَمَّى فِيهِ بَدَلًا مَعْلُومًا، فَصَارَ كَالْخِيَاطَةِ الْفَارِسِيَّةِ وَالرُّومِيَّةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ صَحَّ وَمُوجِبُهُ الْمُسَمَّى؛ لِمَا بَيَّنَّا. وَالشَّرْطُ الثَّانِي يَنْفِي مُوجِبَ الْأَوَّلِ، وَالتَّسْمِيَةُ مَتَى صَحَّتْ لَا يَجُوزُ نَفْيُ مُوجِبِهَا، فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ الثَّانِي. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ إِنْ كَانَتْ قَبِيحَةً، وَأَلْفَيْنِ إِنْ كَانَتْ جَمِيلَةً - صَحَّ الشَّرْطَانِ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَا مُخَاطَرَةَ هُنَا؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَنَّ الزَّوْجَ يَجْهَلُهَا. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمُخَاطَرَةُ مَوْجُودَةٌ فِي التَّسْمِيَةِ الثَّانِيَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَنَّ الزَّوْجَ هَلْ يَفِي بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَمْ لَا؟ (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ أَوْ هَذَا فَلَهَا أَشْبَهُهُمَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ بَيْنَهُمَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ) . وَقَالَا: لَهَا الْأَوْكَسُ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْأَوْكَسِ بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ الْأَوْكَسَ مُسَمًّى بِيَقِينٍ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ، وَلَا يُصَارُ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ مَعَ الْمُسَمَّى. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَصْلَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا يُتْرَكُ عِنْدَ صِحَّةِ الْمُسَمَّى، وَأَنَّهُ مَجْهُولٌ لِدُخُولِ كَلِمَةِ أَوْ فَيَكُونُ فَاسِدًا، إِلَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ إِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنَ الْأَرْفَعِ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْحَطِّ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَقَدْ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ. وَمَتَى جَهِلَ الْمُسَمَّى تَجِبُ الْمُتْعَةُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، إِلَّا أَنَّ نَصِفَ الْأَوْكَسِ يَزِيدُ عَلَيْهَا عَادَةً فَيَجِبُ؛ لِاعْتِرَافِهِ بِهِ. قَالَ: (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى حَيَوَانٍ؛ فَإِنْ سَمَّى نَوْعَهُ كَالْفَرَسِ جَازَ، وَإِنْ لَمْ يَصِفْهُ وَلَهَا الْوَسَطُ؛ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ قِيمَتَهُ. وَالثَّوْبُ مِثْلُ الْحَيَوَانِ، إِلَّا أَنَّهُ إِنْ ذَكَرَ وَصْفَهُ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ) . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لَا تَصِحُّ مَعَ جَهَالَةِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ؛ لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى الْمُنَازَعَةِ، وَتَصِحُّ مَعَ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَحْتَمِلُ ضَرْبًا مِنَ الْجَهَالَةِ ; لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ مَعَ جَهَالَتِهِ؛ لِمَا أَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْمُنَازَعَةَ كَذَلِكَ جَهَالَةُ الْوَصْفِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُضَايَقَةِ. ثُمَّ الْجَهَالَةُ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا جَهَالَةُ النَّوْعِ وَالْوَصْفِ كَقَوْلِهِ: ثَوْبٌ أَوْ دَابَّةٌ أَوْ دَارٌ - فَلَا تَصِحُّ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ؛ لِتَفَاوُتِهَا تَفَاوُتًا فَاحِشًا فِي الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي، فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَكَذَا التَّسْمِيَةُ مَعَ الْخَطَرِ كَقَوْلِهِ عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ غَنَمِهِ أَوْ مَا يَحْمِلُهُ نَخْلُهُ هَذِهِ السَّنَةَ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُومُ النَّوْعِ مَجْهُولُ الصِّفَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: عَبْدٌ أَوْ فَرَسٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ؛ فَإِنَّهُ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ، وَيَجِبُ الْوَسَطُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَعْلُومَ النَّوْعِ كَانَ لَهُ جَيِّدٌ وَرَدِيءٌ وَوَسَطٌ وَالْوَسَطُ أَعْدَلُ؛ لِأَنَّهُ ذُو حَظٍّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ. وَعِنْدَ جَهَالَةِ النَّوْعِ لَا وَسَطَ؛ لِاخْتِلَافِ مَعَانِي الْأَنْوَاعِ؛ فَإِنَّ مَعْنَى الْفَرَسِ غَيْرُ مَعْنَى الْجَمَلِ، وَمَعْنَى الشَّاةِ غَيْرُ مَعْنَى الْجَامُوسِ. وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِ الثِّيَابِ كَالْأَطْلَسِ وَالْقُطْنِ وَغَيْرِهِمَا. وَإِنَّمَا يَتَخَيَّرُ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِالْقِيمَةِ، فَكَانَتْ أَصْلًا فِي حَقِّ الْإِيفَاءِ، وَالْعَيْنُ أَصْلٌ مِنْ حَيْثُ التَّسْمِيَةِ، فَيَتَخَيَّرُ وَتُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْقَبُولِ. وَقَالَ زُفَرُ: إِذَا كَانَ الْمَهْرُ ثَوْبًا مَوْصُوفًا لَا تُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتِ الثَّوْبَ بِالتَّسْمِيَةِ، فَلَا تُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ غَيْرِهِ كَمَا فِي السَّلَمِ. وَجَوَابُهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَهُوَ وَقِيمَتُهُ سَوَاءٌ فِي الْجَهَالَةِ، فَتُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي الْحَيَوَانِ. وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ قَوْلَ زُفَرَ، وَقَالَ: هُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا كَالسَّلَمِ، وَلَا كَذَلِكَ الْحَيَوَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وُجُوبًا مُسْتَقِرًّا فِي السَّلَمِ، فَكَذَا هُنَا. ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِيمَةُ الْعَبْدِ الْوَسَطِ أَرْبَعُونَ دِينَارًا، وَإِنْ سَمَّى أَبْيَضَ فَخَمْسُونَ وَهُوَ قِيمَةُ الْغُرَّةِ، وَالْمَهْرُ بِمَعْنَى الْغُرَّةِ. وَعِنْدَهُمَا عَلَى قَدْرِ الرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ، وَقِيلَ: هَذَا اخْتِلَافُ زَمَانٍ لَا بُرْهَانٍ. وَمِنْهَا مَا هُوَ مَعْلُومُ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ كَمَا إِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ، وَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا، فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ كَالنُّقُودِ. وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ مُطْلَقًا، وَلَمْ يَصِفْهُ - يُخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ الْوَسَطِ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْكُرِّ. وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى أَلْفٍ قُسِّمَتِ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا رُجُوعًا إِلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ إِلَيْهِمَا فَقَدْ أَضَافَ إِلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا تَسْتَحِقُّهُ. وَاسْتِحْقَاقُهُمَا فِي الْأَصْلِ مَهْرُ الْمِثْلِ كَمَنْ دَفَعَ إِلَى رَبَّيْ دَيْنٍ أَلْفًا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهَا عَلَى قَدْرِ دَيْنَيْهِمَا كَذَلِكَ هَذَا. فَإِنْ طَلَّقَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَنِصْفُ الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا. فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ إِحْدَاهُمَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 وَمَهْرُ مِثْلِهَا يُعْتَبَرُ بِنِسَاءِ عَشِيرَةِ أَبِيهَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مِثْلُ حَالِهَا فَمِنَ الْأَجَانِبِ، وَيُعْتَبَرُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهَا فِي السِّنِّ وَالْحُسْنِ وَالْبَكَارَةِ وَالْبَلَدِ وَالْعَصْرِ وَالْمَالِ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ كُلُّهُ فَالَّذِي يُوجَدُ مِنْهُ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، وَأَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَى يُعْطِيَهَا مَهْرَهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] صَحَّ نِكَاحُ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ اخْتَصَّ بِهَا فَلَا يَتَعَدَّاهَا، وَالْأَلْفُ كُلُّهَا لِلَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا. وَقَالَا: يُقَسَّمُ عَلَى مَهْرِ مِثْلَيْهِمَا كَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَيْهِمَا كَهِيَ، فَمَا أَصَابَ الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا فَهُوَ لَهَا، وَيَسْقُطُ الْبَاقِي. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ إِضَافَةَ النِّكَاحِ إِلَى مَنْ لَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا لَغْوٌ، فَصَارَ كَمَا إِذَا ضَمَّ إِلَيْهَا أُسْطُوَانَةً أَوْ دَابَّةً. وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يَنْقَسِمُ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَالدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ، وَلَا مُعَاوَضَةَ فِي الْمُحَرَّمَةِ، وَلَا مُسَاوَاةَ وَلَا دُخُولَ فِي الْعَقْدِ - فَصَارَتْ عَدَمًا. وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى اثْنَيْنِ وَاخْتِصَاصُهُ بِأَحَدِهِمَا جَائِزٌ، قَالَ تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] أَضَافَ الرُّسُلَ إِلَيْهِمَا، وَالرُّسُلُ مُخْتَصَّةٌ بِالْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ. فَإِنْ دَخَلَ بِالَّتِي لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ وَطْءٌ حَرَامٌ سَقَطَ فِيهِ الْحَدُّ؛ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَعِنْدَهُمَا الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَمِمَّا يَخُصُّهَا. قَالَ: (وَمَهْرُ مِثْلِهَا يُعْتَبَرُ بِنِسَاءِ عَشِيرَةِ أَبِيهَا) كَأَخَوَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا وَبَنَاتِ عَمِّهَا دُونَ أُمِّهَا وَخَالَتِهَا، إِلَّا أَنْ يَكُونَا مِنْ قَبِيلَةِ أَبِيهَا. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَرْوَعَ حِينَ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ مَهْرٍ، فَقَالَ: «لَهَا مَهْرٌ مِثْلُ نِسَائِهَا» ، وَنِسَاؤُهَا أَقَارِبُ الْأَبِ. وَلِأَنَّ قِيمَةَ الشَّيْءِ تُعْرَفُ بِقِيمَةِ جِنْسِهِ، وَجِنْسُهُ قَوْمُ أَبِيهِ. (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ مِثْلُ حَالِهَا فَمِنَ الْأَجَانِبِ) تَحْصِيلًا؛ لِلْمَقْصُودِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ. قَالَ: (وَيُعْتَبَرُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهَا فِي السِّنِّ وَالْحُسْنِ وَالْبَكَارَةِ وَالْبَلَدِ وَالْعَصْرِ وَالْمَالِ) ؛ فَإِنَّ الْمَهْرَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ؛ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ تَخْتَلِفُ بِهَا. (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ كُلُّهُ فَالَّذِي يُوجَدُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي امْرَأَتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْمَوْجُودِ مِنْهَا ; لِأَنَّهَا مِثْلُهَا. وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْجَمَالَ لَا يُعْتَبَرُ إِذَا كَانَتْ ذَاتَ حَسَبٍ وَشَرَفٍ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْأَوْسَطِ؛ لِأَنَّ الرَّغْبَةَ حِينَئِذٍ فِي الْجَمَالِ. قَالَ: (وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، وَأَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَّى يُعْطِيَهَا مَهْرَهَا) ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ فِي الْمُبْدَلِ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا. وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ كُلُّهُ مُؤَجَّلًا لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِ حَقِّهَا. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا سَلَّمَتْ إِلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ بَعْدَهُ كَالْبَائِعِ إِذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ لَيْسَ لَهُ حَبْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَهُ أَنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ الْوَطَآتِ؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْوَطْءُ عَنِ الْعِوَضِ إِظْهَارًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ، إِلَّا أَنَّهُ تَأَكَّدَ بِوَطْأَةِ الْأُولَى لِجَهَالَةِ مَا وَرَاءَهَا. وَالْمَجْهُولُ لَا يُزَاحِمُ الْمَعْلُومَ، فَإِذَا وُجِدَ بَعْدَهُ وَطْءٌ آخَرُ صَارَ مَعْلُومًا، فَتَحَقَّقَتِ الْمُزَاحَمَةُ، فَصَارَ الْمَهْرُ مُقَابَلًا بِالْكُلِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 فَإِذَا أَوْفَاهَا مَهْرَهَا نَقَلَهَا إِلَى حَيْثُ شَاءَ، وَقِيلَ: لَا يُسَافِرُ بِهَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. فَصْلٌ [نِكَاحُ الْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى] وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى، وَيَمْلِكُ إِجْبَارَهُمْ عَلَى النِّكَاحِ. وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ   [الاختيار لتعليل المختار] وَنَظِيرُهُ الْعَبْدُ الْجَانِي إِذَا جَنَى جِنَايَةً يُدْفَعُ بِهَا، فَإِنْ لَمْ يُدْفَعْ حَتَّى جَنَى أُخْرَى وَأُخْرَى دُفِعَ بِالْكُلِّ. قَالَ: (فَإِذَا أَوْفَاهَا مَهْرَهَا نَقَلَهَا إِلَى حَيْثُ شَاءَ) ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] . (وَقِيلَ: لَا يُسَافِرُ بِهَا، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى) ؛ لِفَسَادِ أَهْلِ الزَّمَانِ، وَالْغَرِيبُ يُؤْذَى. وَقِيلَ: يُسَافِرُ بِهَا إِلَى قُرَى الْمِصْرِ الْقَرِيبَةِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِغُرْبَةٍ. وَإِذَا ضَمِنَ الْوَلِيُّ الْمَهْرَ صَحَّ ضَمَانُهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تُطَالِبَ أَيَّهُمَا شَاءَتْ كَسَائِرِ الْكَفَالَاتِ، وَحُكْمُهَا فِي الرُّجُوعِ كَغَيْرِهَا مِنَ الْكَفَالَاتِ. وَلَوْ ضَمِنَ الْمَهْرَ عَنِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ صَحَّ؛ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إِذَا أَدَّى؛ لِأَنَّهُ صِلَةٌ عُرْفًا. فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَأَخَذَ مِنْ تَرَكِتِهِ - رَجَعَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ عَلَى الِابْنِ مِنْ حِصَّتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا عَنْهُ دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَرْجِعُونَ كَمَا إِذَا كَفَلَ عَنِ ابْنِهِ الْكَبِيرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ عَنْ أَجْنَبِيٍّ. قُلْنَا: الْكَفَالَةُ هُنَا بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ حُكْمًا لِوِلَايَةِ الْأَبِ، فَكَانَتْ كَفَالَتُهُ دَلِيلَ الْأَمْرِ مِنْ جِهَتِهِ؛ لِيَرْجِعَ، بِخِلَافِ الْكَبِيرِ وَالْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا. وَبِخِلَافِ مَا إِذَا أَدَّى حَالَ حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ؛ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَبَرُّعِ الْآبَاءِ بِمَهْرِ الْأَبْنَاءِ. [فصل نِكَاحُ الْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى] فَصْلٌ [نِكَاحُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ] (وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ إِلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى) ، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهَا فَهِيَ عَاهِرَةٌ» ، وَقَوْلُهُ: «أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ» ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَيْبٌ فِي الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ؛ لِتَعَلُّقِ النَّفَقَةِ بِكَسْبِهِمَا، وَالْمَهْرِ بِرَقَبَتِهِمَا، فَلَا يَمْلِكُ غَيْرُ الْمَوْلَى ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لِلْمَوْلَى فَلَا يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ. (وَيَمْلِكُ إِجْبَارَهُمْ عَلَى النِّكَاحِ) صِيَانَةً لِمِلْكِهِ، وَتَحْصِينًا لَهُ عَنِ الزِّنَا الَّذِي هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِمْ أَوْ نُقْصَانِهِمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَ الْمُكَاتِبَ وَالْمُكَاتِبَةَ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا؛ لِخُرُوجِهِمَا عَنْ يَدِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْمُكَاتِبِ. وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُمَا إِلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى؛ لِلرِّقِّ الثَّابِتِ فِيهِمَا بِالْحَدِيثِ. وَيَمْلِكُ الْمُكَاتِبُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الِاكْتِسَابِ، وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ خُسْرَانٌ لَا اكْتِسَابٌ. وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ جَازَ وَلَا مَهْرَ لَهَا، وَقِيلَ: يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ، ثُمَّ يَسْقُطُ. قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 مَوْلَاهُ فَالْمَهْرُ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ، وَالْمُدَبَّرُ يَسْعَى. وَإِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ أَوِ الْمُكَاتَبَةُ وَلَهَا زَوْجُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ فَلَهَا الْخِيَارُ، وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا بَيْتَ الزَّوْجِ لَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى، وَيُقَالُ لَهُ: مَتَى ظَفِرْتَ بِهَا وَطِئْتَهَا. وَإِنْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَقَالَ لَهُ الْمَوْلَى: طَلِّقْهَا - فَلَيْسَ بِإِجَازَةٍ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً - فَهُوَ إِجَازَةٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] مَوْلَاهُ فَالْمَهْرُ دَيْنٌ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ) ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ فِي رَقَبَتِهِ بِفِعْلِهِ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى حَيْثُ وَقَعَ بِإِذْنِهِ، فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمَرْأَةِ، كَمَا فِي دُيُونِ الْمَأْذُونِ لِلتِّجَارَةِ. (وَالْمُدَبَّرُ يَسْعَى) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَيُؤَدِّي مِنْ كَسْبِهِ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا. قَالَ: (وَإِذَا أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ أَوِ الْمُكَاتِبَةُ، وَلَهَا زَوْجٌ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ - فَلَهَا الْخِيَارُ) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِبَرِيرَةَ حِينَ أُعْتِقَتْ: «مَلَكْتِ بُضْعَكِ، فَاخْتَارِي» . جَعَلَ الْعِلَّةَ الْمُثْبِتَةَ لِلْخِيَارِ مَعْنًى فِيهَا، وَهُوَ مِلْكُ الْبُضْعِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ؛ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ. عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ حُرًّا، وَهِيَ رَاجِحَةٌ عَلَى رِوَايَةِ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ، وَلِأَنَّهُ ازْدَادَ الْمِلْكُ عَلَيْهَا فِي الْفَصْلَيْنِ، فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ فِيهِمَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا. قَالَ: (وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَوِّئَهَا بَيْتَ الزَّوْجِ لَكِنَّهَا تَخْدِمُ الْمَوْلَى، وَيُقَالُ لَهُ: مَتَى ظَفِرْتَ بِهَا وَطِئْتَهَا) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْخِدْمَةِ بَاقٍ، وَالتَّبْوِئَةُ إِبْطَالٌ لَهُ - فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ. وَلَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنْ لَا يَسْتَخْدِمَهَا بَطَلَ الشَّرْطُ، فَإِنْ بَوَّأَهَا بَيْتًا مَعَهُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا وَتَبْطُلُ التَّبْوِئَةُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْخِدْمَةِ الْمِلْكُ، وَهُوَ بَاقٍ؛ فَلَا تُبْطِلُهُ التَّبْوِئَةُ. قَالَ: (وَإِنْ تَزَوَّجَ عَبْدٌ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوْلَاهُ فَقَالَ لَهُ الْمَوْلَى: طَلِّقْهَا - فَلَيْسَ بِإِجَازَةٍ) ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ هُنَا حَيْثُ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَافْتَاتَ عَلَيْهِ. وَرَدُّ هَذَا الْعَقْدِ يُسَمَّى طَلَاقًا، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: فَارِقْهَا، وَبَلْ أَوْلَى. (وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً - فَهُوَ إِجَازَةٌ) ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ إِنَّمَا يَكُونُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ النَّافِذِ. وَلَوْ أَذِنَ الْعَبْدُ فِي النِّكَاحِ يَنْتَظِمُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ. وَقَالَا: هُوَ عَلَى الصَّحِيحِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النِّكَاحِ الْإِعْفَافُ، وَذَلِكَ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ فِي الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ. وَلِأَنَّ الِاسْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ عَلَى الصَّحِيحِ كَمَا فِي الْيَمِينِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّفْظَ يَجْرِي عَلَى إِطْلَاقِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ. وَلَئِنْ قَالَ: الْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُفِيدُ بَعْضَ التَّصَرُّفَاتِ كَالْعِتْقِ وَالْمِلْكِ وَغَيْرِهِ - قُلْنَا: وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ أَيْضًا يُفِيدُ بَعْضَ التَّصَرُّفَاتِ كَالنَّسَبِ وَالْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ. وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ مَمْنُوعَةٌ، وَلَئِنْ سَلِمَتْ فَالْأَيْمَانُ مَبْنَاهَا عَلَى الْعُرْفِ. وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا فَاسِدًا انْتَهَى الْأَمْرُ عِنْدَهُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْرَى. وَعِنْدَهُمَا: لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْأَمْرِ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا امْرَأَةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ لِمَوْلَى الْأَمَةِ (سم) . وَإِذَا تَزَوَّجَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ أُعْتِقَا - نَفَذَ النِّكَاحُ، وَلَا خِيَارَ لِلْأَمَةِ. فَصْلٌ [نِكَاحُ الذِّمِّيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ] تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا أَوْ عَلَى مَيْتَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَائِزٌ - جَازَ، وَلَا مَهْرَ لَهَا (سم) . وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ، أَوْ فِي عِدَّةِ (سم) كَافِرٍ آخَرَ - جَازَ إِنْ دَانُوهُ، وَلَوْ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَاحِدَةً؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا يَقْتَضَي التَّكْرَارَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَزَوَّجْ مَا شِئْتَ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ثِنْتَيْنِ. قَالَ: (وَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ لِمَوْلَى الْأَمَةِ) وَقَالَا: إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّهَا، وَالْعَزْلَ تَنْقِيصٌ لَهُ؛ فَيُشْتَرَطُ رِضَاهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَزْلَ يُخِلُّ بِحَقِّ الْمَوْلَى وَهُوَ حُصُولُ الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ مِلْكُهُ، فَيُشْتَرَطُ رِضَاهُ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ وَالْوَطْءَ حَقُّهَا. قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ أُعْتِقَا - نَفَذَ النِّكَاحُ) ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ، وَالتَّوَقُّفُ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ. (وَلَا خِيَارَ لِلْأَمَةِ) ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا نَفَذَ بَعْدَ الْعِتْقِ، فَصَارَ كَأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ. وَلَوْ تَزَوَّجَتْ، وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ، ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى - جَازَ النِّكَاحُ؛ لِمَا بَيَّنَّا، وَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى. وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ مَهْرٌ آخَرُ، إِلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا: يَجِبُ مَهْرٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ اسْتَنَدَ إِلَى أَصْلِ الْعَقْدِ. وَلَوْ أَعْتَقَهَا، ثُمَّ دَخَلَ بِهَا - فَالْمَهْرُ لَهَا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَةً مَمْلُوكَةً لَهَا. [فصل نِكَاحُ الذِّمِّيَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ] فَصْلٌ [زَوَاجُ الذِّمِّيِّ وَالْمَجُوسِيِّ] (تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ ذِمِّيَّةً عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا، أَوْ عَلَى مَيْتَةٍ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ جَائِزٌ - جَازَ، وَلَا مَهْرَ لَهَا) . وَقَالَا: لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ مَاتَ عَنْهَا، أَوْ دَخَلَ بِهَا. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ؛ لِأَنَّهُمُ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ، فَصَارَ كَالرِّبَا. وَلَهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» ، وَمَا الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا فِيمَا يَعْتَقِدُونَ خِلَافَهُ، وَعَقْدُ الذِّمَّةِ مَنَعَ إِلْزَامَهُمْ بِالسَّيْفِ. وَالْحُجَّةُ بِخِلَافِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ عَقْدِهِمْ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ» ، وَكَذَلِكَ الزِّنَا فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ. (وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ، أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ آخَرَ - جَازَ إِنْ دَانُوهُ، وَلَوْ أَسْلَمَا أُقِرَّا عَلَيْهِ) . وَقَالَا: إِذَا تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَهُوَ فَاسِدٌ. فَإِنْ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا، أَوْ تَرَافَعَا إِلَيْنَا - فُرِّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُعْتَدَّةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَحُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَهُمُ الْتَزَمُوا أَحْكَامَنَا، وَلَمْ يَلْتَزِمُوهَا بِجَمِيعِ الِاخْتِلَافَاتِ. وَلَهُ: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ حَقًّا لِلشَّرْعِ وَلَا لِلْمُطَلِّقِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهَا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا - فَلَهَا ذَلِكَ (سم) إِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ، وَإِلَّا فَقِيمَةُ الْخَمْرِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْخِنْزِيرِ. وَإِذَا أَسْلَمَ الْمَجُوسِيُّ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَزَوَّجَ مِنْ مَحَارِمِهِ. وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ. وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا. وَالْكِتَابِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمَجُوسِيِّ.   [الاختيار لتعليل المختار] بِخِلَافِ الْعِدَّةِ مِنَ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُهَا. وَحَالَةُ الْمُرَافَعَةِ أَوِ الْإِسْلَامِ حَالَةُ الْبَقَاءِ، وَالْعِدَّةُ لَا تُنَافِيهَا كَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا حَالَةَ الْبَقَاءِ. قَالَ: (وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَحَدُهُمَا - فَلَهَا ذَلِكَ إِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ، وَإِلَّا فَقِيمَةُ الْخَمْرِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْخِنْزِيرِ) . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ فِي الْحَالَيْنِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْقِيمَةُ فِيهِمَا. لَهُمَا: أَنَّ الْمِلْكَ يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ، فَأَشْبَهَ الْعَقْدَ. وَالْإِسْلَامُ مَانِعٌ مِنْهُ، فَصَارَا كَمَا إِذَا كَانَا دِينَيْنِ. وَإِذَا امْتَنَعَ الْقَبْضُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ كَانَا مُسْلِمَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، فَكَذَا عِنْدَ الْقَبْضِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: صَحَّتِ التَّسْمِيَةُ، وَعَجَزَ عَنِ التَّسْلِيمِ بِالْإِسْلَامِ، فَتَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا إِذَا كَانَ عَبْدًا فَهَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمِلْكَ تَمَّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فِي الْمُعَيَّنِ حَتَّى جَازَ لَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَبِالْقَبْضِ يَنْتَقِلُ إِلَى ضَمَانِهَا مِنْ ضَمَانِهِ، وَالْإِسْلَامُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ ذَلِكَ كَاسْتِرْدَادِ الْخَمْرِ الْمَغْصُوبِ، وَخَمْرِ الْمُكَاتَبِ الذِّمِّيِّ إِذَا عَجَزَ، وَالْمَأْذُونِ إِذَا حُجِرَ عَلَيْهِ. وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ إِنَّمَا يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ، وَالْإِسْلَامُ مَانِعٌ مِنْهُ. وَإِذَا امْتَنَعَ الْقَبْضُ فَالْخَمْرُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالْخِنْزِيرُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ، فَتَكُونُ الْقِيمَةُ مَقَامَهُ فَلَا يَجِبُ، فَتَعَيَّنَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَتَجِبُ الْقِيمَةُ فِي الْخَمْرِ ; لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَهَا. قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَ الْمَجُوسِيُّ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ تَزَوَّجَ مِنْ مَحَارِمِهِ) ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ إِذَا طَرَأَتْ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ تُبْطِلُهُ، وَلِأَنَّهَا تُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ وَلَا كَذَلِكَ الْعِدَّةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُفَرَّقُ بِمُرَافَعَةِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] ، وَلِأَنَّ مُرَافَعَةَ أَحَدِهِمَا لَا يُبْطِلُ حَقَّ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا اتَّفَقَا حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمْ؛ لِمَا تَلَوْنَا، وَلِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِحُكْمِنَا فَيَلْزَمُهُمَا. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُرْتَدِّ وَالْمُرْتَدَّةِ) بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِ النِّكَاحِ مَصَالِحُهُ، وَلَا تُوجَدُ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ يُقْتَلُ، وَالْمُرْتَدَّةُ تُحْبَسُ. أَوْ نَقُولُ: لَا مِلَّةَ لَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا خَرَجَا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقَرَّانِ عَلَى مَا انْتَقَلَا إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ نِكَاحُ النَّصْرَانِيِّ الْمَجُوسِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّةَ، وَالْيَهُودِيِّ النَّصْرَانِيَّةَ وَالْمَجُوسِيَّةَ وَالْمَجُوسِيِّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، كَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَا كَفَاءَةَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ. قَالَ: (وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا) نَظَرًا لَهُ حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا كَانَ مُسْلِمًا. وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، وَلَهُمَا وَلَدٌ صَغِيرٌ - صَارَ مُسْلِمًا. (وَالْكِتَابِيُّ خَيْرٌ مِنَ الْمَجُوسِيِّ) حَتَّى يَجُوزَ أَكْلُ ذَبِيحَةِ الْكِتَابِيِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 وَإِذَا أَسْلَمَتِ امْرَأَةُ الْكَافِرِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ؛ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَتَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا (س) . وَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْمَجُوسِيَّةِ؛ فَإِنْ أَسْلَمَتْ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ. وَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَتَوَقَّفُ الْبَيْنُونَةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ قَبْلَ إِسْلَامِ الْآخَرِ، وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إِلَيْنَا مُسْلِمًا وَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا إِنْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا، وَلَوْ سُبِيَا مَعًا لَمْ تَقَعْ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَمُنَاكَحَتُهُ دُونَ الْمَجُوسِيِّ. قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَتِ امْرَأَةُ الْكَافِرِ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ) تَحْصِيلًا لِمَصَالِحِ النِّكَاحِ بِالْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهَا قَدْ فَاتَتْ بِإِسْلَامِهَا. (فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ) كَمَا إِذَا أَسْلَمَا مَعًا، (وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا) ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ؛ لِمَا أَنَّهُ طَاعَةٌ وَعِبَادَةٌ، فَيُجْعَلُ إِبَاؤُهُ سَبَبًا لِفَوَاتِ مَصَالِحِ النِّكَاحِ عُقُوبَةً. (وَتَكُونُ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَكُونُ طَلَاقًا؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ، فَلَا يَكُونُ طَلَاقًا كَمَا إِذَا مَلَكَهَا أَوْ مَلَكَتْهُ. وَلَهُمَا: أَنَّ الزَّوْجَ تَرَكَ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَيَنُوبُ عَنْهُ الْقَاضِي فِي التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَقَوْلِ الزَّوْجِ، فَيَكُونُ طَلَاقًا كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ. قَالَ: (وَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْمَجُوسِيَّةِ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ) ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ، فَلَا يَنْتَقِلُ قَوْلُ الْقَاضِي إِلَيْهَا. ثُمَّ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ. (وَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَتَوَقَّفُ الْبَيْنُونَةُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ قَبْلَ إِسْلَامِ الْآخَرِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْعَرْضِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَجَعَلْنَا ثَلَاثَ حِيَضٍ وَهُوَ شَرْطُ الْفُرْقَةِ مَقَامَ السَّبَبِ وَهُوَ الْعَرْضُ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَغَيْرِهِ. ثُمَّ إِذَا بَانَتْ بِثَلَاثِ حِيَضٍ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ طَلَاقٌ عِنْدَهُمَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ فُرْقَةٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ كَأَبِي يُوسُفَ. وَلَوْ أَسْلَمَ الْآخَرُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثِ حِيَضٍ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ، وَإِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ فَلَا عَرْضَ وَلَا فُرْقَةَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا ابْتِدَاءً، فَلِأَنْ يَبْقَى أَوْلَى. وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، وَهُمَا صَبِيَّانِ عَاقِلَانِ - عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُخَاطَبُ بِالْإِسْلَامِ حَقًّا لِلْعِبَادِ حَتَّى إِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ. فَإِنْ أَبَى فُرِّقَ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا إِيفَاءً لِحَقِّ صَاحِبِهِ، وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ. قَالَ: (وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ إِلَيْنَا مُسْلِمًا وَقَعَتِ الْبَيْنُونَةُ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا إِنْ سُبِيَ أَحَدُهُمَا. وَلَوْ سُبِيَا مَعًا لَمْ تَقَعْ) ، فَسَبَبُ الْبَيْنُونَةِ هُوَ التَّبَايُنُ دُونَ السَّبْيِ؛ لِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ لَا تَحْصُلُ مَعَ التَّبَايُنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ لِأَنَّ مَصَالِحَهُ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِالِاجْتِمَاعِ، وَالتَّبَايُنُ مَانِعٌ مِنْهُ. أَمَّا السَّبْيُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي مِلْكَ الرَّقَبَةِ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً فَكَذَا بَقَاءً. وَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَقَصْدُهُ الرُّجُوعُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 وَإِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَيْنَا مُهَاجِرَةً لَا عِدَّةَ (سم) عَلَيْهَا. وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ (م) ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ الزَّوْجَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمَهْرُ، وَقَبْلَهُ لَا شَيْءَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ. وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَ فَالْكُلُّ بَعْدَهُ وَالنِّصْفُ قَبْلَهُ. وَإِنِ ارْتَدَّا مَعًا، ثُمَّ أَسْلَمَا مَعًا - فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا.   [الاختيار لتعليل المختار] فَلَمْ يُوجِدْ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا. قَالَ: (وَإِذَا خَرَجَتِ الْمَرْأَةُ إِلَيْنَا مُهَاجِرَةً لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا) ، وَقَالَا: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَالْفُرْقَةُ حَصَلَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَهُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَقْلًا عَنْ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ، وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ إِظْهَارًا لِخَطَرِ النِّكَاحِ، وَلَا خَطَرَ لِنِكَاحِ الْحَرْبِيِّ. وَلِهَذَا قُلْنَا: لَا عِدَّةَ عَلَى الْمَسْبِيَّةِ. قَالَ: (وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ) ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ الزَّوْجَ فَهِيَ طَلَاقٌ؛ لِمَا مَرَّ فِي الْإِبَاءِ، وَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَيْضًا. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي الْمَحَلِّيَّةَ كَالْمَحْرَمِيَّةِ، وَالطَّلَاقُ رَافِعٌ، فَتَعَذَّرَ أَنْ تَكُونَ الْفُرْقَةُ طَلَاقًا، وَلِهَذَا لَا يُحْتَاجُ فِي الْفُرْقَةِ هُنَا إِلَى الْقَضَاءِ. أَمَّا الْإِبَاءُ لَا يُنَافِي الْمَحَلِّيَّةَ وَالنِّكَاحَ، وَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ الْفُرْقَةُ عَلَى الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا بِالْإِبَاءِ امْتَنَعَ عَنِ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ، فَنَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ الزَّوْجَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمَهْرُ، وَقَبْلَهُ لَا شَيْءَ لَهَا وَلَا نَفَقَةَ) وَقَدْ مَرَّ. (وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ فَالْكُلُّ بَعْدَهُ وَالنِّصْفُ قَبْلَهُ) ، وَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى: لَوِ ارْتَدَّتِ الْمَرْأَةُ قِيلَ: لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ؛ زَجْرًا لَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَفْسُدُ، وَتُجْبَرُ عَلَى تَجْدِيدِ النِّكَاحِ زَجْرًا لَهَا أَيْضًا. (وَإِنِ ارْتَدَّا مَعًا، ثُمَّ أَسْلَمَا مَعًا - فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا) ؛ لِأَنَّ بَنِي حَنِيفَةَ ارْتَدُّوا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ أَسْلَمُوا، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا. فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الرِّدَّةِ فَسَدَ النِّكَاحُ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ. وَلَوْ قَبَّلَهَا ابْنُ زَوْجِهَا أَوْ وَطِئَهَا حُرِّمَتْ عَلَى أَبِيهِ؛ لِمَا تَقَدَّمَ، وَسَقَطَ مَهْرُهَا إِذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ إِنْ كَانَتْ مُطَاوِعَةً؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، فَقَدِ امْتَنَعَتْ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ، فَتُمْنَعُ الْبَدَلَ كَمَا فِي الْبَيْعِ. وَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً لَا يَسْقُطُ. وَفِي الصَّغِيرَةِ لَا يَسْقُطُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَإِنْ كَانَ يُجَامَعُ مِثْلُهَا؛ لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِفِعْلِهَا حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدٌّ وَلَا تَعْزِيرٌ وَلَا غُسْلٌ وَلَا مَأْثَمٌ؛ لِعَدَمِ الْخِطَابِ، فَكَذَا هَذَا. وَإِنِ ارْتَدَّتِ الصَّغِيرَةُ سَقَطَ مَهْرُهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا حُكِمَ بِرِدَّتِهَا بَطَلَتْ مَحَلِّيَّةُ النِّكَاحِ، فَصَارَتْ كَالْكَبِيرَةِ؛ إِذِ الْكَلَامُ فِي الَّتِي تَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَالرِّدَّةَ عَلَى مَا يَأْتِيكَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وَإِذَا كَانَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَيْبٌ فَلَا خِيَارَ لِلْآخَرِ (م) إِلَّا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْخَصْيِ.   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل عيوب الزوجية] فَصْلٌ (وَإِذَا كَانَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَيْبٌ فَلَا خِيَارَ لِلْآخَرِ إِلَّا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْخَصْيِ) ، أَمَّا عُيُوبُ الْمَرْأَةِ فَبِإِجْمَاعِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ التَّمْكِينُ، وَإِنَّهُ مَوْجُودٌ. وَالِاسْتِيفَاءُ مِنَ الثَّمَرَاتِ، وَاخْتِلَالُهُ بِالْعُيُوبِ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ بِالْمَوْتِ لَا يُوجِبُهُ، فَهَذَا أَوْلَى. وَأَمَّا عُيُوبُ الرَّجُلِ وَهِيَ الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ فَكَذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهَا الْخِيَارُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ بَيْنَهُمَا الْمَصَالِحُ، فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، بِخِلَافِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ بِالطَّلَاقِ، وَصَارَ كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ. وَلَهُمَا: أَنَّ الْخِيَارَ يُبْطِلُ حَقَّ الزَّوْجِ، فَلَا يَثْبُتُ. وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ؛ لِإِخْلَالِهِمَا بِالْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَاحِ، وَالْعُيُوبُ لَا تُخِلُّ بِهِ. وَالْعِنِّينُ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَى النِّسَاءِ، أَوْ يَصِلُ إِلَى الثَّيِّبِ دُونَ الْأَبْكَارِ، أَوْ يَصِلُ إِلَى غَيْرِ زَوْجَتِهِ وَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا. وَتَكُونُ الْعُنَّةُ لَمَرِضٍ أَوْ ضَعْفٍ أَوْ كِبَرِ سِنٍّ، أَوْ مِنْ أَخْذٍ بِسِحْرٍ ; فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا، وَخَاصَمَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ - أَجَّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً، فَإِنْ وَصَلَ إِلَيْهَا وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا إِنْ طَلَبَتِ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَهَا حَقًّا فِي الْوَطْءِ، فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَرَضٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ، فَجُعِلَتِ السَّنَةُ مُعَرِّفَةً لِذَلِكَ؛ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ؛ فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ مِنْ بُرُودَةٍ أَزَالَهُ حَرُّ الصَّيْفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رُطُوبَةٍ أَزَالُهُ يُبْسُ الْخَرِيفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَرَارَةٍ أَزَالَهُ بَرْدُ الشِّتَاءِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يُبْسٍ أَزَالَهُ رُطُوبَةُ الرَّبِيعِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. فَإِذَا مَضَتِ السَّنَةُ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا - عُلِمَ أَنَّهُ لِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ، فَتُخَيَّرُ؛ فَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: بَانَتْ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا تَبِينُ إِلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ. لَهُمَا: أَنَّ الشَّرْعَ خَيَّرَهَا عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي كَمَا إِذَا خَيَّرَهَا الزَّوْجُ. وَلَهُ: أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لَازِمٌ، وَمِلْكُ الزَّوْجِ فِيهِ مَعْصُومٌ؛ فَلَا يَزُولُ إِلَّا بِإِزَالَتِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ. لَكِنْ لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، وَقَدْ عَجَزَ عَنِ الْأَوَّلِ بِالْعُنَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَاضِيَ النِّيَابَةُ فِيهِ - فَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ، فَلَا تَبِينُ بِدُونِ تَفْرِيقِ الْقَاضِي. فَإِذَا فَرَّقَ يَصِيرُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ، فَتَكُونُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً؛ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهَا، وَهُوَ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا بِمِلْكِهَا نَفْسَهَا. وَيُشْتَرَطُ طَلَبُهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ حَقُّهَا. وَالْمُرَادُ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهَا سَنَةٌ شَمْسِيَّةٌ، وَتُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ، وَتَزِيدُ عَلَى الْقَمَرِيَّةِ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا، وَيُحْسَبُ مِنْهَا أَيَّامُ الْحَيْضِ وَشَهْرُ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ لَا تَخْلُو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 فَصْلٌ وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْبَيْتُوتَةِ، وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ وَالْجَدِيدَةُ وَالْعَتِيقَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ - سَوَاءٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] عَنْ ذَلِكَ، وَيُحْسَبُ مَرَضُهُ وَمَرَضُهَا إِنْ كَانَ نِصْفَ شَهْرٍ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ عَوَّضَهُ عَنْهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِنْ حَجَّتْ أَوْ هَرَبَتْ أَوْ غَابَتْ لَمْ تُحْتَسَبْ تِلْكَ الْمُدَّةُ مِنَ السَّنَةِ، وَإِنْ حَجَّ هُوَ أَوْ هَرَبَ أَوْ غَابَ احْتُسِبَ عَلَيْهِ مِنَ السَّنَةِ. وَالتَّأْجِيلُ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ دَعْوَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ الْقَاضِي؛ فَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ خِيَارٌ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِبُطْلَانِ حَقِّهَا. وَلَوْ خَيَّرَهَا الْقَاضِي، فَقَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ - فَلَا خِيَارَ لَهَا كَالْمُخَيَّرَةِ مِنْ زَوْجِهَا. فَإِنْ طَلَبَ الْعِنِّينُ أَنْ يُؤَجِّلَهُ الْقَاضِي سَنَةً أُخْرَى لَمْ يُؤَجِّلْهُ إِلَّا بِرِضَاهَا؛ فَإِنْ رَضِيَتْ جَازَ، وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ وَتَخْتَارَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ الْأُخْرَى. فَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا - فَلَا خِيَارَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْعُنَّةِ. وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْوُصُولِ إِلَيْهَا؛ فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حَقَّ التَّفْرِيقِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ، وَالْعَيْبُ عَارِضٌ. فَإِنْ حَلَفَ بَطَلَ حَقُّهَا، وَإِنْ نَكَلَ أُجِّلَ سَنَةً كَسَائِرِ الْحُقُوقِ. وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَهَا النِّسَاءُ؛ فَإِنْ قُلْنَ: هِيَ بِكْرٌ - أُجِّلَ سَنَةً، وَإِنْ قُلْنَ: هِيَ ثَيِّبٌ - حَلَفَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا. وَالْمَجْبُوبُ، وَهُوَ الَّذِي قُطِعَ ذَكَرُهُ أَصْلًا - فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِلْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْجِيلِ. وَالْخَصِيُّ كَالْعِنِّينِ؛ لِأَنَّ لَهُ آلَةً تَنْتَصِبُ وَيُجَامِعُ بِهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُحْبِلُ، وَهُوَ الَّذِي سُلَّتْ أُنْثَيَاهُ. وَإِذَا أُجِّلَ سَنَةً، وَادَّعَى الْوُصُولَ إِلَيْهَا، وَأَنْكَرَتْ - فَالْحُكْمُ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَا قَبْلَ التَّأْجِيلِ. وَإِذَا كَانَ زَوْجُ الْأَمَةِ عِنِّينًا فَالْخِيَارُ لِلْمَوْلَى كَالْعَزْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ فَلَا وِلَايَةَ لَهَا فِي الطَّلَبِ؛ إِذْ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ، وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ عُنَّ، أَوْ جُبَّ - فَلَا طَلَبَ لَهَا، وَلَا خِيَارَ. [فصل الْعَدْلُ فِي الْقَسْمِ] فَصْلٌ (وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِي الْبَيْتُوتَةِ) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " مَنْ «كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا - جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ» . (وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ وَالْجَدِيدَةُ وَالْعَتِيقَةُ وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ سَوَاءٌ) ؛ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُنَّ فِيهَا. وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسَاوِي بَيْنَهُنَّ فِي الْوَطْءِ وَالْمَحَبَّةِ؛ أَمَّا الْوَطْءُ فَلِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى النَّشَاطِ، وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ فَلِأَنَّهَا فِعْلُ الْقَلْبِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ نِسَائِهِ، وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ» ، يَعْنِي زِيَادَةَ الْمَحَبَّةِ لِبَعْضِهِنَّ. ثُمَّ إِنْ شَاءَ جَعَلَ الدَّوْرَ بَيْنَهُنَّ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 وَلِلْحُرَّةِ ضِعْفُ الْأَمَةِ. وَمَنْ وَهَبَتْ نَصِيبَهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ، وَلَهَا الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ. وَيُسَافِرُ بِمَنْ شَاءَ، وَالْقُرْعَةُ أَوْلَى. كِتَابُ الرَّضَاعِ وَحُكْمُ الرَّضَاعِ يَثْبُتُ بِقَلِيلِهِ (ف) ، وَكَثِيرِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ، وَقَدْ وُجِدَتْ. قَالَ: (وَلِلْحُرَّةِ ضِعْفُ الْأَمَةِ) ؛ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الرِّقَّ مُنْصِفٌ كَمَا فِي الْعِدَّةِ وَغَيْرِهَا. (وَمَنْ وَهَبَتْ نَصِيبَهَا لِصَاحِبَتِهَا جَازَ) ؛ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: " اعْتَدِّي ". فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أَنْ يُرَاجِعَهَا، وَتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَأَنْ تُحْشَرَ مَعَ نِسَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَفَعَلَ» . وَلِأَنَّهُ حَقُّهَا، وَقَدْ أَبْطَلَتْهُ بِرِضَاهَا. (وَلَهَا الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ) ؛ لِأَنَّهَا وَهَبَتْ حَقًّا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ. وَإِنْ أَقَامَ عِنْدَ الْوَاحِدَةِ أَيَّامًا بِإِذْنِ الْأُخْرَى جَازَ مِنْ غَيْرِ مُسَاوَاةٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا مَرِضَ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، فَأَذِنَّ لَهُ. فَكَانَ فِي بَيْتِهَا حَتَّى قُبِضَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَسْمَ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا، وَيُؤْمَرُ الصَّائِمُ بِالنَّهَارِ وَالْقَائِمُ بِاللَّيْلِ أَنْ يَبِيتَ مَعَهَا إِذَا طَلَبَتْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَجْعَلُ لَهَا يَوْمًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَلَيْسَ هَذَا بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى فَوَاتِ النَّوَافِلِ أَصْلًا عَلَى مَنْ لَهُ أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ. وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِإِيفَاءِ حَقِّهَا مِنْ نَفْسِهِ أَحْيَانًا، وَيَصُومُ وَيُصَلِّي مَا أَمْكَنَهُ. وَلَوْ أَعْطَتْ زَوْجَهَا مَالًا، أَوْ حَطَّتْهُ؛ لِيَزِيدَ فِي قَسْمِهَا - لَمْ يَجُزْ، وَتَرْجِعُ بِمَا أَعْطَتْهُ. وَكَذَا لَوْ زَادَهَا الزَّوْجُ فِي مَهْرِهَا؛ لِتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِغَيْرِهَا، وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَيُسَافِرُ بِمَنْ شَاءَ، وَالْقُرْعَةُ أَوْلَى) ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُنَّ حَالَ السَّفَرِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ لَا يُسَافِرَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَصْلًا، وَيُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ. وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَمَنْ سَافَرَ بِهَا لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَقِّ الْبَاقِيَاتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَبَرِّعًا لَا مُوفِيًا حَقًّا. وَإِنْ ظَلَمَ بَعْضَهُنَّ يُوعَظُ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ يُوجَعُ عُقُوبَةً زَجْرًا لَهُ عَنِ الظُّلْمِ. [كِتَابُ الرَّضَاعِ] وَهُوَ وَاجِبٌ إِحْيَاءً لِلْوَلَدِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] أَيْ لِيُرْضِعْنَ. (وَحُكْمُ الرَّضَاعِ يَثْبُتُ بِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ) ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] مُطْلَقًا، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الرَّضَاعُ مَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيَنْشُزُ الْعَظْمَ» ، وَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مَتَى وَصَلَ إِلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 إِذَا وُجِدَ فِي مُدَّتِهِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ (سم) شَهْرًا. وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ إِلَّا أُخْتَ ابْنِهِ وَأُمَّ أُخْتِهِ. وَإِذَا أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ صَبِيَّةً حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (إِذَا وُجِدَ فِي مُدَّتِهِ، وَهِيَ ثَلَاثُونَ شَهْرًا. وَقَالَا: سَنَتَانِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، وَأَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَبَقِيَ لِلْفِصَالِ سَنَتَانِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْآيَةُ الثَّانِيَةُ، وَالتَّمَسُّكُ بِهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْحَمْلَ وَالْفِصَالَ، وَضَرَبَ لَهُمَا مُدَّةَ ثَلَاثِينَ شَهْرًا، فَتَكُونُ مُدَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، كَمَا إِذَا بَاعَهُ عَبْدًا وَأَمَةً إِلَى شَهْرٍ، فَإِنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ أَجَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ شَيْئًا، وَأَجَرَهُ شَيْئًا آخَرَ صَفْقَةً وَاحِدَةً إِلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ - كَانَتِ الْمُدَّةُ أَجَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُونَ شَهْرًا أَجَلًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ. خَرَجَ الْحَمْلُ عَنْ ذَلِكَ، فَبَقِيَ الْفِصَالُ عَلَى مُقْتَضَاهُ. وَالْآيَةُ الْأُولَى مَحْمُولَةٌ عَلَى مُدَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْأُمِّ الْمَبْتُوتَةِ الْمُطَالَبَةُ بِأُجْرَةِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، فَعَمِلْنَا بِالْآيَةِ الْأُولَى فِي نَفْيِ الْأُجْرَةِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ، وَبِالثَّانِيَةِ فِي الْحُرْمَةِ إِلَى ثَلَاثِينَ شَهْرًا أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا. أَوْ نَقُولُ: الْمُرَادُ الْحَمْلُ عَلَى الْأَكُفِّ فِي الْحِجْرِ حَالَةَ الْإِرْضَاعِ ; لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِثَلَاثِينَ شَهْرًا بِالْإِجْمَاعِ. فَإِذَا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ لَا اعْتِبَارَ بِالرَّضَاعِ بَعْدَهُ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ» . وَالْمُرَادُ حُكْمُهُ. وَهَلْ يُبَاحُ الْإِرْضَاعُ بَعْدَ الْمُدَّةِ؟ فِيهِ خِلَافٌ. وَالْمُحَرَّمُ مِنَ الْإِرْضَاعِ مَا وَقَعَ فِي الْمُدَّةِ، سَوَاءٌ فُطِمَ أَوْ لَمْ يُفْطَمْ. وَقَالَ الْخَصَّافُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنِ اسْتَغْنَى بِالْفِطَامِ عَنِ اللَّبَنِ، ثُمَّ رَضَعَ فِي الْمُدَّةِ - لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْنِ تَثْبُتُ. قَالَ: (وَيَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ) ؛ لِمَا رَوَيْنَا (إِلَّا أُخْتَ ابْنِهِ، وَأُمَّ أُخْتِهِ) فَإِنَّهَا تَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ دُونَ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ فِي النَّسَبِ لَمَّا وَطِئَ أُمَّ ابْنِهِ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا. وَأُمُّ أُخْتِهِ مَوْطُوءَةُ أَبِيهِ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الرَّضَاعِ. قَالَ: (وَإِذَا أَرْضَعَتِ الْمَرْأَةُ صَبِيَّةً حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَآبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ) ، فَتَكُونُ الْمُرْضِعَةُ أُمَّ الرَّضِيعِ وَأَوْلَادُهَا إِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتُهُ مَنْ تَقَدَّمَ وَمَنْ تَأَخَّرَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ شَيْئًا مِنْ وَلَدِهَا وَوَلَدِ وَلَدِهَا وَإِنْ سَفُلُوا، وَآبَاؤُهَا أَجْدَادُهُ وَأُمَّهَاتُهَا جَدَّاتُهُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ. وَإِخْوَتُهَا وَأَخَوَاتُهَا أَخْوَالُهُ وَخَالَاتُهُ. وَيَكُونُ زَوْجُهَا الَّذِي نَزَلَ مِنْهُ اللَّبَنُ أَبَ الْمُرْضِعَةِ، وَأَوْلَادُهُ إِخْوَتَهَا، وَآبَاؤُهُ وَأُمَّهَاتُهُ أَجْدَادَهَا وَجَدَّاتِهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَإِخْوَتُهُ وَأَخَوَاتُهُ أَعْمَامَهَا وَعَمَّاتِهَا، لَا تَحِلُّ مُنَاكَحَةُ أَحَدٍ مِنْهُنَّ كَمَا فِي النَّسَبِ، «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَائِشَةَ: " لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ؛ فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنَ الرَّضَاعَةِ» . وَلَوْ وَلَدَتْ مِنْ رَجُلٍ، وَأَرْضَعَتْ، ثُمَّ يَبِسَ اللَّبَنُ، ثُمَّ دَرَّ، فَأَرْضَعَتْ بِهِ صَبِيًّا - يَجُوزُ لِذَلِكَ الصَّبِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِهَا. وَكَذَا لَوْ لَمْ تَلِدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 وَإِذَا رَضَعَ صَبِيَّانِ مِنْ ثَدْيِ امْرَأَةٍ فَهُمَا أَخَوَانِ، وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى لَبَنِ شَاةٍ فَلَا رَضَاعَ بَيْنَهُمَا. وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ كَالْمَاءِ وَالدُّهْنِ وَالنَّبِيذِ وَالدَّوَاءِ وَلَبَنِ الْبَهَائِمِ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، وَكَذَلِكَ إِنِ اخْتَلَطَ بِجِنْسِهِ بِأَنِ اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ (م ز) . وَإِنِ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ فَلَا حُكْمَ لَهُ. وَإِنْ غَلَبَ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْهُ قَطُّ، فَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ. وَكَذَا لَبَنُ الْبِكْرِ إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ إِذَا أَرْضَعَتْ بِهِ صَبِيًّا حَرُمَ عَلَيْهَا لَا غَيْرُ. وَلَوْ أَرْضَعَتْ صَبِيَّةً لَا تَحْرُمُ عَلَى وَلَدِ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَحِلُّ لِلرَّضِيعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَطِئَهَا زَوْجُ الْمُرْضِعَةِ؛ لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةُ الْأَبِ، وَلَا لِلزَّوْجِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً وَطِئَهَا الرَّضِيعُ؛ لِأَنَّهَا مَوْطُوءَةُ الِابْنِ كَمَا فِي النَّسَبِ. قَالَ: (وَإِذَا رَضَعَ صَبِيَّانِ مِنْ ثَدْيِ امْرَأَةٍ فَهُمَا أَخَوَانِ) ؛ لِأَنَّ أُمَّهُمَا وَاحِدَةٌ. فَلَوْ كَانَا بِنْتَيْنِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَكَذَا لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ زَوْجَتَانِ، وَلَدَتَا مِنْهُ، ثُمَّ أَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ صَغِيرَةً - صَارَ الرَّضِيعَانِ أَخَوَيْنِ مِنْ أَبٍ. (وَإِنِ اجْتَمَعَا عَلَى لَبَنِ شَاةٍ فَلَا رَضَاعَ بَيْنَهُمَا) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَثْبُتِ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأُمِّ لِتَنْتَقِلَ إِلَى الْأَخِ؛ إِذْ هِيَ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ فِي الْأُمِّ، ثُمَّ تَتَعَدَّى. رَجُلٌ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، وَلَهَا لَبَنٌ. فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ، وَحَبِلَتْ، وَنَزَلَ لَهَا لَبَنٌ - فَهُوَ لِلْأَوَّلِ مَا لَمْ تَلِدْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ مِنْهُمَا إِلَّا أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ مِنَ الثَّانِي وَإِنَّهُ يُعْرَفُ بِالْغِلَظِ وَالرِّقَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ مِنْهُمَا مَا لَمْ تَضَعْ، فَإِذَا وَضَعَتْ فَمِنَ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ. وَاحْتُمِلَ كَوْنُهُ مِنَ الثَّانِي فَيُجْعَلُ مِنْهُمَا احْتِيَاطًا لِلْمُحَرَّمَاتِ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ، إِلَّا إِذَا عَرَفْنَا أَنَّهُ مِنَ الثَّانِي، فَيُجْعَلُ مِنْهُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: هُوَ مِنَ الْأَوَّلِ بِيَقِينٍ، وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي كَوْنِهِ مِنَ الثَّانِي، وَالشَّكُّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ. فَإِذَا وَلَدَتْ تَيَقَّنَّا أَنَّهُ مِنَ الثَّانِي، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْغِلَظِ وَالرِّقَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَغْذِيَةِ. قَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ كَالْمَاءِ وَالدُّهْنِ وَالنَّبِيذِ وَالدَّوَاءِ وَلَبَنِ الْبَهَائِمِ فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ) ؛ فَإِنْ غَلَبَ اللَّبَنُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَإِلَّا فَلَا. (وَكَذَلِكَ إِنِ اخْتَلَطَ بِجِنْسِهِ بِأَنِ اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَتَيْنِ) . وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِجِنْسِهِ، بَلْ يَتَقَوَّى بِهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ. وَلَنَا: أَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَغْلُوبِ لَا تَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ؛ فَإِنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَحْرِ لَا يَبْقَى لِأَجْزَائِهِ مَنْفَعَةٌ؛ لِكَثْرَةِ التَّفَرُّقِ، وَإِذَا فَاتَتِ الْمَنْفَعَةُ بِسَبَبِ الْغَلَبَةِ بَقِيَ حُكْمُ الرَّضَاعِ لِلْكَثِيرِ. (وَإِنِ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ فَلَا حُكْمَ لَهُ، وَإِنْ غَلَبَ) ، وَقَالَا: إِنْ غَلَبَ تَعَلَّقَ بِهِ التَّحْرِيمُ. وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْمَطْبُوخِ. أَمَّا الْمَطْبُوخُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا: أَنَّ حُكْمَ الْمَغْلُوبِ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ، فَصَارَ الْحُكْمُ لِلَّبَنِ. وَلَهُ: أَنَّ الطَّعَامَ يَسْلُبُ قُوَّةَ اللَّبَنِ، وَلَا يَكْتَفِي الصَّبِيُّ بِشُرْبِهِ. وَالتَّغَذِّي يَحْصُلُ بِالطَّعَامِ؛ إِذْ هُوَ الْأَصْلُ، فَكَانَ اللَّبَنُ تَبَعًا، بِخِلَافِ الدَّوَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُقَوِّي اللَّبَنَ وَيَزِيدُ فِي قُوَّتِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وَتَتَعَلَّقُ الْحُرْمَةُ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ بِلَبَنِ الْبِكْرِ، وَلَا تَتَعَلَّقُ بِلَبَنِ الرَّجُلِ وَلَا بِالِاحْتِقَانِ، وَتَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِعَاطِ وَالْإِيجَارِ. وَإِذَا أَرْضَعَتِ امْرَأَتُهُ الْكَبِيرَةُ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ حَرُمَتَا عَلَى الزَّوْجِ، وَلَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ. وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ إِنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتِ الْفَسَادَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي التَّعَمُّدِ مَعَ يَمِينِهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] (وَتَتَعَلَّقُ الْحُرْمَةُ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا) ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ، وَمَعْنَى الْغِذَاءِ لَا يَزُولُ بِالْمَوْتِ، وَصَارَ كَمَا إِذَا حَلَبَ مِنْهَا حَالَ حَيَاتِهَا. (وَكَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ بِلَبَنِ الْبِكْرِ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا. (وَلَا تَتَعَلَّقُ بِلَبَنِ الرَّجُلِ) لَوْ نَزَلَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَبَنٍ حَقِيقَةً ; لَأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ، كَذَا قَالُوا. قَالَ: (وَلَا بِالِاحْتِقَانِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ النُّشُوُّ وَالنُّشُوزُ، وَكَذَا إِذَا أَقْطَرَ فِي إِحْلِيلِهِ أَوْ أُذُنِهِ أَوْ جَائِفَةٍ أَوْ آمَّةٍ؛ لِمَا قُلْنَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الِاحْتِقَانَ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ قِيَاسًا عَلَى فَسَادِ الصَّوْمِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُفْسِدَ فِي الصَّوْمِ التَّغَذِّي أَوِ التَّدَاوِي، وَأَنَّهُ حَاصِلٌ بِالِاحْتِقَانِ. أَمَّا الرَّضَاعُ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِمَعْنَى النُّشُوِّ، وَأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الِاحْتِقَانِ. قَالَ: (وَتَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِعَاطِ وَالْإِيجَارِ) ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إِلَى الْمَعِدَةِ، فَيَحْصُلُ بِهِ النُّشُوُّ. امْرَأَةٌ أَدْخَلَتْ حَلَمَةَ ثَدْيِهَا فِي فَمِ رَضِيعٍ، وَلَا يُدْرَى أَدَخَلَ اللَّبَنُ فِي حَلْقِهِ أَمْ لَا - لَا يَحْرُمُ النِّكَاحُ. وَكَذَا صَبِيَّةٌ أَرْضَعَهَا بَعْضُ أَهْلِ الْقَرْيَةِ، وَلَا يُدْرَى مَنْ هُوَ، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ - يَجُوزُ؛ لِأَنَّ إِبَاحَةَ النِّكَاحِ أَصْلٌ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. وَيَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ لَا يُرْضِعْنَ كُلَّ صَبِيٍّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَلْيَحْفَظْنَهُ أَوْ يَكْتُبْنَهُ احْتِيَاطًا. قَالَ: (وَإِذَا أَرْضَعَتِ امْرَأَتُهُ الْكَبِيرَةُ امْرَأَتَهُ الصَّغِيرَةَ حَرُمَتَا عَلَى الزَّوْجِ) ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا، وَالرَّضَاعُ الطَّارِئُ عَلَى النِّكَاحِ كَالْمُقَارَنِ فِي التَّحْرِيمِ كَحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مَعَ الْمُنَافِي. (وَلَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ إِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا، (وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَيْسَتْ مِنْ قِبَلِهَا. وَلَا اعْتِبَارَ بِاخْتِيَارِهَا الْإِرْضَاعَ؛ لِأَنَّهَا مَجْبُولَةٌ عَلَيْهِ طَبْعًا. (وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكَبِيرَةِ إِنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتِ الْفَسَادَ) ؛ لِأَنَّهَا مُسَبِّبَةٌ لِلْفُرْقَةِ؛ لِأَنَّ إِلْقَاءَ الثَّدْيِ فِي فَمِهَا سَبَبٌ لِوُصُولِ اللَّبَنِ إِلَى جَوْفِهَا، وَالتَّسْبِيبُ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعَدِّي كَحَافِرِ الْبِئْرِ. وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدِ الْفَسَادَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَإِنْ عَلِمَتْ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا مُسَبِّبَةٌ. وَالتَّعَدِّي يَثْبُتُ إِذَا عَلِمَتْ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ، وَقَصَدَتْ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ لَكِنْ قَصَدَتْ بِالْإِرْضَاعِ دَفْعَ الْجُوعِ وَالْهَلَاكِ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِذَلِكَ. وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ دُونَ الْفَسَادِ لَا تَكُونُ مُتَعَدِّيَةً. (وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي التَّعَمُّدِ مَعَ يَمِينِهَا) ؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ الضَّمَانَ. وَلَوْ أَرْضَعَتْ زَوْجَةُ الْأَبِ امْرَأَةَ ابْنِهِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 كِتَابُ الطَّلَاقِ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحْسَنُ، وَحَسَنٌ، وَبِدْعِيُّ. فَأَحْسَنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ، وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] أُخْتَهُ مِنَ الْأَبِ. تَزَوَّجَ صَغِيرَتَيْنِ، فَأَرْضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبًا حَرُمَتَا عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ؛ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهَا مَجْبُورَةٌ عَلَى الْإِرْضَاعِ بِحُكْمِ الطَّبْعِ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إِنْ تَعَمَّدَتِ الْفَسَادَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ عَلَى التَّعَاقُبِ حُرِّمَتِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ دُونَ الثَّالِثَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ أُخْتًا لَهُمَا لَمْ يَبْقَ الْجَمْعُ فِي النِّكَاحِ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا، بِأَنْ أَلْقَتْ ثَدْيَهَا فِي فَمِ اثْنَتَيْنِ وَكَانَتْ حَلَبَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَوْجَرَتِ الثَّالِثَةَ وَاتَّفَقَ وُصُولُ اللَّبَنِ إِلَيْهِنَّ مَعًا حَرُمْنَ جَمِيعًا، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ جَمِيعُ مَسَائِلِ هَذَا الْجِنْسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الطَّلَاقِ] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: إِزَالَةُ الْقَيْدِ وَالتَّخْلِيَةُ، تَقُولُ: أَطْلَقْتُ إِبِلِي وَأَطْلَقْتُ أَسِيرِي. وَفِي الشَّرْعِ: إِزَالَةُ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ قَيْدٌ مَعْنًى، وَهُوَ قَضِيَّةٌ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَضَرْبٌ مِنَ الْمَعْقُولِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وَقَوْلُهُ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَبْغَضُ الْمُبَاحَاتِ إِلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» وَعَلَى وُقُوعِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ، وَلِأَنَّ اسْتِبَاحَةَ الْبُضْعِ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَالْمَالِكُ الصَّحِيحُ الْقَوْلِ يَمْلِكُ إِزَالَةَ مِلْكِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْلَاكِ، وَلِأَنَّ مَصَالِحَ النِّكَاحِ قَدْ تَنْقَلِبُ مَفَاسِدَ، وَالتَّوَافُقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَدْ يَصِيرُ تَنَافُرًا، فَالْبَقَاءُ عَلَى النِّكَاحِ حِينَئِذٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مَفَاسِدَ مِنَ التَّبَاغُضِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْمَقْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَشُرِعَ الطَّلَاقُ دَفْعًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ، وَمَتَى وَقَعَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ مُبَاحٌ مَبْغُوضٌ لِأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلْمَصَالِحِ، وَإِنَّمَا أُبِيحَتِ الْوَاحِدَةُ لِلْحَاجَةِ وَهُوَ الْخَلَاصُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى مُبَاحًا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَتَاقِ، وَلَا خَلَقَ مُبَاحًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ» . (وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحْسَنُ، وَحَسَنٌ، وَبِدْعِيٌّ. فَأَحْسَنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ، وَيَتْرُكَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا) لِمَا رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ لَا يُطَلِّقُوا لِلسُّنَّةِ إِلَّا وَاحِدَةً، ثُمَّ لَا يُطَلِّقُوا غَيْرَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ ذَلِكَ أَحْسَنَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَامَعَهَا لَا يُؤْمَنُ الْحَبَلُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ، فَإِذَا ظَهَرَ نَدِمَ فَكَانَ مَا ذَكَرْنَاهُ أَبْعَدَ مِنَ النَّدَمِ فَكَانَ أَوْلَى. وَفِي الَّتِي لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ يُطَلِّقُهَا أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ لِعَدَمِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 وَحَسَنُهُ: أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَلَا جِمَاعَ فِيهَا، وَالشَّهْرُ لِلْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْحَامِلِ كَالْحَيْضَةِ، وَيَجُوزُ طَلَاقُهُنَّ عَقِيبَ الْجِمَاعِ. وَالْبِدْعَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ ثِنْتَيْنِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي طُهْرٍ لَا رَجْعَةَ فِيهِ، أَوْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ فَيَقَعُ وَيَكُونُ عَاصِيًا،   [الاختيار لتعليل المختار] مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّهُ أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ. (وَحَسَنُهُ) طَلَاقُ السُّنَّةِ، وَهُوَ (أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ لَا جِمَاعَ فِيهَا) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَا هَكَذَا أَمَرَ رَبُّكَ يَا ابْنَ عُمَرَ، إِنَّمَا أَمَرَكَ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً» . وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لِعُمَرَ: «أَخْطَأَ ابْنُكَ السُّنَّةَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، فَإِنْ طَهُرَتْ فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» . (وَالشَّهْرُ لِلْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْحَامِلِ كَالْحَيْضَةِ) لِقِيَامِهِ مَقَامَهَا فِي الْعِدَّةِ بِنَصِّ الْكِتَابِ. (وَيَجُوزُ طَلَاقُهُنَّ عَقِيبَ الْجِمَاعِ) لِمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا الْحَامِلُ فَإِنَّهُ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِي الْوَطْءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّقٍ، وَيُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ تَطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُطَلَّقُ لِلسُّنَّةِ إِلَّا وَاحِدَةً، لِأَنَّ الشَّهْرَ إِنَّمَا قَامَ مَقَامَ الْحَيْضَةِ فِي الصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ، وَالْحَامِلُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُمَا لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ فَصَارَتْ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا. وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهْرَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ لِأَنَّهُ زَمَانُ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ فَصَارَتْ فِي مَعْنَى الْآيِسَةِ، وَالْإِبَاحَةُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَصَلُحَ الشَّهْرُ دَلِيلًا، بِخِلَافِ الْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا، لِأَنَّ دَلِيلَ تَجَدُّدِ الرَّغْبَةِ الطُّهْرُ، وَهُوَ مَرْجُوٌّ فِي حَقِّهَا دُونَ الْحَامِلِ فَافْتَرَقَا. وَطَلَاقُ السُّنَّةِ فِي الْعَدَدِ وَالْوَقْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالسُّنَّةُ فِي الْعَدَدِ يَسْتَوِي فِيهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا وَالصَّغِيرَةُ وَالْآيِسَةُ، وَالْحَامِلُ وَالْحَائِلُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْحَاجَةِ وَالْكُلُّ فِيهِ سَوَاءٌ، وَالسُّنَّةُ فِي الْوَقْتِ تَخْتَصُّ بِالْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ طُهْرًا لَا جِمَاعَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَلِأَنَّ الْمَحْظُورَ هُوَ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ لَوْ وَقَعَ فِي الْحَيْضِ فَإِنَّهَا لَا تُحْتَسَبُ مِنَ الْعِدَّةِ، وَلَا عِدَّةَ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا. (وَالْبِدْعَةُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ ثِنْتَيْنِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ فِي طُهْرٍ لَا رَجْعَةَ فِيهِ، أَوْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ فَيَقَعُ وَيَكُونُ عَاصِيًا) أَمَّا الثَّلَاثُ وَالثِّنْتَانِ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ وَالْمَشْرُوعِيَّةِ لِلْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ. وَأَمَّا حَالَةُ الْحَيْضِ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «قَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ» ، وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعُمَرَ: «مُرِ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا» ، وَكَانَ طَلَّقَهَا حَالَةَ الْحَيْضِ، وَلَوْلَا الْوُقُوعُ لَمَا رَاجَعَهَا. وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَتْ تَحِلُّ لِي؟ قَالَ: " لَا وَيَكُونُ مَعْصِيَةً» . وَرُوِيَ «أَنَّ بَعْضَ أَبْنَاءِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا، فَذَكَرَ عُبَادَةُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَقَالَ: " بَانَتْ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةٍ، وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وَطَلَاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا حَالَةَ الْحَيْضِ لَيْسَ بِبِدْعِيٍّ، وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَالَةَ الْحَيْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا، فَإِذَا طَهُرَتْ فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ، وَقَعَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةٌ، وَإِنْ نَوَى وُقُوعَهُنَّ السَّاعَةَ وَقَعْنَ (ز) ، وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ، وَالْأَمَةِ ثِنْتَانِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالرَّجُلِ فِي عَدَدِ الطَّلَاقِ،   [الاختيار لتعليل المختار] ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ» الْحَدِيثَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ عَاصِيًا فَلِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلُهُ: (فِي طُهْرٍ لَا رَجْعَةَ فِيهِ) إِشَارَةٌ إِلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ فَرَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَا يُكْرَهُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ثُمَّ رَاجَعَهَا فَطَهُرَتْ فَطَلَّقَهَا، وَكَذَا لَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَعْنَ لِلْحَالِ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْأُولَى وَقَعَتْ فَصَارَ مُرَاجِعًا بِاللَّمْسِ بِشَهْوَةٍ فَوَقَعَتْ أُخْرَى، ثُمَّ صَارَ مُرَاجِعًا فَوَقَعَتِ الثَّالِثَةُ. وَالشَّهْرُ الْوَاحِدُ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ عَلَى الْخِلَافِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّجْعَةَ فَاصِلَةٌ بَيْنَ الطَّلَاقَيْنِ عِنْدَهُ، وَالنِّكَاحُ فَاصِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ بِالطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَقْتًا لِطَلَاقِ السُّنَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ أَوْقَعَهُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ يُكْرَهُ. وَلَهُ أَنَّ بِالْمُرَاجَعَةِ ارْتَفَعَ حُكْمُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ فَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، فَإِذَا ارْتَفَعَ لَا يَصِيرُ جَامِعًا وَالْكَرَاهَةُ بِاعْتِبَاره، وَلِأَنَّهَا عَادَتْ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَبَانَهَا فِي الطُّهْرِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا. قَالَ: (وَطَلَاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا حَالَةَ الْحَيْضِ لَيْسَ بِبِدْعِيٍّ) لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَالَةَ الْحَيْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرَاجِعَهَا) لِوُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْفِعْلِ الْحَرَامِ بِرَفْعِ أَثَرِهِ (فَإِذَا طَهُرَتْ فَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا) لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَعَ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةٌ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ لِوَقْتِ السُّنَّةِ، وَوَقْتُهَا طُهْرٌ لَا جِمَاعَ فِيهِ لِمَا مَرَّ، (وَإِنْ نَوَى وُقُوعَهُنَّ السَّاعَةَ وَقَعْنَ) خِلَافًا لَزُفَرَ لِأَنَّ الْجَمْعَ بِدْعَةٌ فَلَا يَكُونُ سُنَّةً. وَلَنَا أَنَّهُ سُنِّيٌّ وُقُوعًا لَا إِيقَاعًا، لِأَنَّا إِنَّمَا عَرَفْنَا وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً بِالسُّنَّةِ فَكَانَ مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ فَيَنْتَظِمُهُ عِنْدَ النِّيَّةِ دُونَ الْإِطْلَاقِ. قَالَ: (وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ وَالْأَمَةِ ثِنْتَانِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالرَّجُلِ فِي عِدَدِ الطَّلَاقِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ لِأَطْهَارِ عِدَّتِهِنَّ، فَتَكُونُ الطَّلْقَاتُ عَلَى عَدَدِ الْأَطْهَارِ، وَأَطْهَارُ الْحُرَّةِ فِي الْعِدَّةِ ثَلَاثَةٌ وَالْأَمَةِ ثِنْتَانِ، فَيَكُونُ التَّطْلِيقُ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْحُرَّ لَوْ مَلَكَ عَلَى الْأَمَةِ ثَلَاثًا لَمَلَكَ تَفْرِيقَهُنَّ عَلَى أَوْقَاتِ السَّنَةِ وَلَا يَمْلِكُ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» فَمَعْنَاهُ وُجُودُ الطَّلَاقِ أَوْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ، كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ مُسْتَيْقِظٍ. وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ (ف) وَاقِعٌ، وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ، وَيَقَعُ طَلَاقُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ، وَكَذَلِكَ اللَّاعِبُ بِالطَّلَاقِ وَالْهَازِلُ بِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِالنِّسَاءِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُطَلِّقُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنَ اثْنَتَيْنِ» يَعْنِي زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ وَالدَّلَائِلِ، أَوْ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ، فَخَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهَا، وَالرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي تَنْصِيفِ النِّعَمِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ بِرِقِّهَا، وَقَضِيَّتُهُ طَلْقَةٌ وَنِصْفُ، لَكِنْ لَمَّا لَمْ تَتَنَصَّفُ الطَّلْقَةُ كُمِّلَتَا. قَالَ: (وَيَقَعُ طَلَاقُ كُلِّ زَوْجٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ مُسْتَيْقِظٍ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٍ إِلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ» ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُمَا عَدِيمَا الْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ وَالْأَهْلِيَّةِ بِهِمَا، وَلَوْ طَلَّقَ الصَّبِيُّ أَوِ النَّائِمُ ثُمَّ بَلَغَ أَوِ اسْتَيْقَظَ وَقَالَ: أَجَزْتُ ذَلِكَ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ، وَلَوْ قَالَ: أَوْقَعْتُهُ وَقَعَ. [حكم طلاق المكره والسكران والأخرس والهازل] (وَطَلَاقُ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ امْرَأَةً اعْتَقَلَتْ زَوْجَهَا وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ وَمَعَهَا شَفْرَةٌ وَقَالَتْ: لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا أَوْ لَأَقْتُلَنَّكَ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ أَنْ لَا تَفْعَلَ فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» . وَلِأَنَّهُ قَصَدَ الطَّلَاقَ وَلَمْ يَرْضَ بِالْوُقُوعِ فَصَارَ كَالْهَازِلِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَالطَّوْعُ كَالرَّضَاعِ، ثُمَّ عِنْدَنَا كُلُّ مَا صَحَّ فِيهِ شَرْطُ الْخِيَارِ فَالْإِكْرَاهُ يُؤَثِّرُ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَمَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الشَّرْطُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهَا. قَالَ: (وَطَلَاقُ السَّكْرَانِ وَاقِعٌ) ، وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا يَقَعُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ اعْتِبَارًا بِزَوَالِ عَقْلِهِ بِالْبَنْجِ وَالدَّوَاءِ. وَلَنَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَيَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقَوْدِ بِالْقَتْلِ، وَطَلَاقُ الْمُكَلَّفِ وَاقِعٌ كَغَيْرِ السَّكْرَانِ، بِخِلَافِ الْمُبَنَّجِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ التَّكْلِيفِ، وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ بِالْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ زَالَ عَقْلُهُ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَيُجْعَلُ بَاقِيًا زَجْرًا حَتَّى لَوْ شَرِبَ فَصَدَعَ رَأْسُهُ وَزَالَ عَقْلُهُ بِالصُّدَاعِ. نَقُولُ: لَا يَقَعُ، وَالْغَالِبُ فِيمَنْ شَرِبَ الْبَنْجَ وَالدَّوَاءَ التَّدَاوِي لَا الْمَعْصِيَةُ، وَلِذَلِكَ انْتَفَى التَّكْلِيفُ عَنْهُمْ. (وَيَقَعُ طَلَاقُ الْأَخْرَسِ بِالْإِشَارَةِ) وَالْمُرَادُ إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ مَعْلُومَةً. وَقَدْ عُرِّفَ فِي مَوْضِعِهِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ اللَّاعِبُ بِالطَّلَاقِ وَالْهَازِلُ بِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعَتَاقُ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ طَلَّقَ لَاعِبًا جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ» ، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ لَزِمَهُ، قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَ: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ غَيْرَ الطَّلَاقِ فَسَبَقَ لِسَانُهُ بِالطَّلَاقِ وَقَعَ، لِأَنَّهُ عَدَمُ الْقَصْدِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيهِ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ اسْقِنِي الْمَاءَ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَعَ. وَيَعُمُّ هَذِهِ الْفُصُولَ كُلَّهَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ» الْحَدِيثَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 وَمَنْ مَلَكَ امْرَأَتَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهَا أَوْ مَلَكَتْهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا. وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَّقْتُكِ. وَالثَّانِي أَنْتِ الطَّلَاقُ، وَأَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، فَالْأَوَّلُ تَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ. وَالثَّانِي تَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَتَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ دُونَ الثِّنْتَيْنِ (ز) وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَبِقَوْلِهِ طَلَاقًا أُخْرَى وَقَعَتَا،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَمَنْ مَلَكَ امْرَأَتَهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهَا، أَوْ مَلَكَتْهُ أَوْ شِقْصًا مِنْهُ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا) لِأَنَّ الْمِلْكِيَّةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ لِمَا سَبَقَ فِي النِّكَاحِ فَتَمْنَعُهُ بَقَاءً كَالْمَحْرَمِيَّةِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالرَّضَاعِ. [فصل صَرِيحُ الطَّلَاقِ] فَصْلٌ (وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ) لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ شَرْعًا فَكَانَ حَقِيقَةً، وَالْحَقِيقَةُ لَا تَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، وَيُعْقِبُ الرَّجْعَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وَلَوْ نَوَى الْإِبَانَةَ فَهُوَ رَجْعِيٌّ لِأَنَّهُ نَوَى ضِدَّ مَا وُضِعَ لَهُ شَرْعًا. (وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْتِ طَالِقٌ وَمُطَلَّقَةٌ وَطَلَّقْتُكِ. وَالثَّانِي أَنْتِ الطَّلَاقُ، وَأَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا. فَالْأَوَّلُ تَقَعُ بِهِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَلَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ) لِأَنَّهُ نَعْتُ فَرْدٍ. يُقَالُ لِلْوَاحِدَةِ طَالِقٌ وَلِلثِّنْتَيْنِ طَالِقَانِ وَلِلثَّلَاثِ طَوَالِقٌ، وَنَعْتُ الْفَرْدِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ، وَلَئِنْ قَالَ قَائِلٌ: ذِكْرُ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِلطَّلَاقِ حَتَّى صَحَّ ذِكْرُ الْعَدَدِ تَفْسِيرًا لَهُ، وَأَنَّهُ دَلِيلُ الْمَصْدَرِيَّةِ، وَالْمَصْدَرُ يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ. قُلْنَا هُوَ ذِكْرٌ لِطَلَاقٍ تَتَّصِفُ بِهِ الْمَرْأَةُ، وَالْعَدَدُ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبْتُهُ وَجِيعًا وَأَعْطَيْتُهُ جَزِيلًا. (و) النَّوْعُ (الثَّانِي تَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَتَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ دُونَ الثِّنْتَيْنِ) لِأَنَّهُ ذِكْرُ الْمَصْدَرِ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ لِأَنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَيَحْتَمِلُ الْأَدْنَى، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ وَقَعْنَ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ، وَإِنَّمَا لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ لِأَنَّهَا جِنْسُ الطَّلَاقِ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَدَدِيَّةِ حَتَّى لَوْ كَانَتِ الزَّوْجَةُ أَمَةً صَحَّتْ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْجِنْسِيَّةِ. وَقَالَ زُفَرُ: تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ لِأَنَّهَا بَعْضُ الثَّلَاثِ. وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا. (وَلَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَاحِدَةً، وَبِقَوْلِهِ: طَلَاقًا أُخْرَى وَقَعَتَا) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ اللَّفْظَيْنِ يَحْتَمِلُ الْإِيقَاعَ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَلَاقًا فَإِنَّهُ يَقَعُ ثِنْتَانِ كَذَا هَاهُنَا، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ الطَّلَاقَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَالَ: عَنَيْتُ بِهِ عَنْ وِثَاقٍ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً، وَلَوْ قَالَ عَنِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 وَإِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى جُمْلَتِهَا أَوْ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ كَالرَّقَبَةِ وَالْوَجْهِ وَالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، أَوْ إِلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهَا وَقَعَ، وَنِصْفُ الطَلْقَةِ تَطْلِيقَةٌ، وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ، وَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ثَلَاثٌ، وَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَةٍ ثِنْتَانِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْعَمَلِ يَدِينُ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وِثَاقٍ أَوْ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي الْقَضَاءِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ وَقَعَ قَضَاءً لَا دِيَانَةً، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا مِنْ هَذَا الْعَمَلِ طُلِّقَتْ ثَلَاثًا، وَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ. قَالَ: (وَإِذَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى جُمْلَتِهَا أَوْ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْجُمْلَةِ كَالرَّقَبَةِ وَالْوَجْهِ وَالرُّوحِ وَالْجَسَدِ، أَوْ إِلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْهَا وَقَعَ) لِأَنَّهَا مَحَلُّ الطَّلَاقِ، فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَقَدْ أَضَافَ الطَّلَاقَ إِلَى مَحَلِّهِ فَيَصِحُّ. وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جُمْلَةِ الْبَدَنِ. قَالَ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] وَالْمُرَادُ الْجُمْلَةُ. وَيُقَالُ يَا وَجْهَ الْعَرَبِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ» ، وَيُقَالُ: أَنَا بِخَيْرٍ مَا سَلَمَ رَأْسُكَ وَمَا بَقِيَتْ رُوحُكَ. وَيُرَادُ الْجَمِيعُ. وَالْجَسَدُ عِبَارَةٌ عَنِ الْجَمِيعِ، وَكَذَلِكَ الْعُنُقُ. قَالَ تَعَالَى: {فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ} [الشعراء: 4] وَكَذَلِكَ الدَّمُ يُقَالُ: دَمُهُ هَدَرٌ، وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّهُ لَوْ تَكَفَّلَ بِدَمِهِ يَصِحُّ، وَأَشَارَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ قَالَ: لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ دَمُكَ حُرٌّ لَا يُعْتَقُ. وَفِي الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ رِوَايَتَانِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ لَا بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا حَتَّى لَوْ قَالَ: الرَّأْسُ مِنْكِ طَالِقٌ أَوِ الْوَجْهُ، أَوْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الرَّأْسِ أَوِ الْعُنُقِ وَقَالَ: هَذَا الْعُضْوُ طَالِقٌ لَا يَقَعُ. وَأَمَّا الْجُزْءُ الشَّائِعُ كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَلِأَنَّهُ قَابِلٌ لِسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ بَيْعًا وَإِجَارَةً وَغَيْرَهُمَا، وَلِهَذَا يَصِحُّ إِضَافَةُ النِّكَاحِ إِلَيْهِ فَكَذَا الطَّلَاقُ، لَكِنْ لَا يَتَجَزَّأُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ فَيَثْبُتُ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ أَضَافَهُ إِلَى الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْبَدَنِ لَا يَقَعُ كَالْأُصْبُعِ وَالشَّعَرِ، لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إِلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ فَصَارَ كَإِضَافَتِهِ إِلَى الرِّيقِ وَالظُّفْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ رَفَعَ الْقَيْدَ وَلَا قَيْدَ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إِضَافَةُ النِّكَاحِ إِلَيْهَا، بِخِلَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ تَعَارَفَ قَوْمٌ أَنَّ الْيَدَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْبَدَنِ عُرْفًا ظَاهِرًا يَقَعُ الطَّلَاقُ. قَالَ: (وَنِصْفُ الطَّلْقَةِ تَطْلِيقَةٌ وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ) فَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ أَوْ ثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ، لِأَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ جُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ التَّطْلِيقَةِ لِمَا قُلْنَا. (وَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَتَيْنِ ثَلَاثٌ) لِأَنَّ نِصْفَ التَطْلِيقَتَيْنِ وَاحِدَةٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا. (وَثَلَاثَةُ أَنْصَافِ تَطْلِيقَةٍ ثِنْتَانِ) لِأَنَّ ثَلَاثَةَ أَنْصَافِ تَطْلِيقَةٍ تَطْلِيقَةٌ وَنِصْفٌ وَأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيُكَمَّلُ النِّصْفُ فَيَصِيرُ تَطْلِيقَتَيْنِ، وَقِيلَ: ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ يُكَمَّلُ كُلُّ نِصْفٍ فَيَكُونُ ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ: نِصْفَيْ تَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ كَنِصْفَيْ دِرْهَمٍ يَكُونُ دِرْهَمًا، وَلَوْ قَالَ: نِصْفَيْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَثِنْتَانِ كَنِصْفَيْ دِرْهَمَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثَ تَطْلِيقَةٍ وَسُدُسَ تَطْلِيقَةٍ يَقَعُ ثَلَاثٌ. وَلَوْ قَالَ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى ثَلَاثٍ يَقَعُ ثِنْتَانِ (سم) وَإِلَى ثِنْتَيْنِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ (سم) ، وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةٌ فِي ثِنْتَيْنِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَثِنْتَيْنِ فِي ثِنْتَيْنِ اثْنَتَانِ وَإِنْ نَوَى الْحِسَابَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إِلَى الشَّامِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا تَقَعُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَوْ نَوَى آَخِرَ النَّهَارِ صُدِّقَ دِيَانَةً،   [الاختيار لتعليل المختار] نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَسُدُسُهَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْأَجْزَاءَ إِلَى تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي الْأُولَى أَضَافَ كُلَّ جُزْءٍ إِلَى تَطْلِيقَةٍ مُنَكَّرَةٍ، فَاقْتَضَى كُلُّ جُزْءٍ تَطْلِيقَةً عَلَى حِدَةٍ، فَإِنْ جَاوَزَ الْمَجْمُوعُ الْأَجْزَاءَ كَقَوْلِهِ: نِصْفُ تَطْلِيقَةٍ وَثُلُثُهَا وَرُبُعُهَا. قِيلَ: وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: ثِنْتَانِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْوَاحِدَةِ مِنْ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى، فَكَأَنَّهُ أَوْقَعَ وَاحِدَةً وَبَعْضَ أُخْرَى فَتَتَكَامَلُ. وَلَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ وَهُنَّ أَرْبَعٌ: بَيْنَكُنَّ تَطْلِيقَةٌ، تَقَعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ تَطْلِيقَةٌ، لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ إِذَا قُسِّمَتْ بَيْنَهُنَّ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ رُبُعُهَا فَتَكْمُلُ، وَكَذَلِكَ ثِنْتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ أَوْ أَرْبَعٌ، لِأَنَّ الثِّنْتَيْنِ إِذَا قُسِّمَتَا بَيْنَهُنَّ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدَةٍ نِصْفٌ، وَمِنَ الثَّلَاثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ فَتَكْمُلُ، وَمِنَ الْأَرْبَعِ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةٌ، وَلَا يُقَسَّمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ وَحْدَهَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْجِنْسِ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ يَقَعُ عَلَى جُمْلَتِهِ، وَإِنَّمَا يُقَسَّمُ الْآحَادُ إِذَا كَانَ مُتَفَاوِتًا، فَإِنْ نَوَى قِسْمَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِانْفِرَادِهَا وَقَعَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَوْ قَالَ: خَمْسٌ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثِنْتَيْنِ، وَكَذَلِكَ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، وَلَوْ قَالَ: تِسْعُ تَطْلِيقَاتٍ، طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا لِمَا مَرَّ، وَلَوْ قَالَ: فُلَانَةٌ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَفُلَانَةٌ مَعَهَا، أَوْ قَالَ: أَشْرَكْتُ فُلَانَةً مَعَهَا فِي الطَّلَاقِ طُلِّقَتَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ: أَنْتُنَّ طَوَالِقُ ثَلَاثًا طُلِّقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثًا. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إِلَى ثَلَاثٍ يَقَعُ ثِنْتَانِ، وَإِلَى ثِنْتَيْنِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ) وَقَالَا: يَقَعُ فِي الْأُولَى ثَلَاثٌ، وَفِي الثَّانِيَةِ ثِنْتَانِ وَقَدْ مَرَّتْ فِي الْإِقْرَارِ. (وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةٌ فِي ثِنْتَيْنِ، وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَثِنْتَيْنِ فِي ثِنْتَيْنِ اثْنَتَانِ، وَإِنْ نَوَى الْحِسَابَ) وَقَدْ مَرَّ فِي الْإِقْرَارِ أَيْضًا. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ هُنَا إِلَى الشَّامِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ) لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْهَا وَصْفًا بِقَوْلِهِ: إِلَى الشَّامِ لِأَنَّهَا مَتَى طَلُقَتْ يَقَعُ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بِمَكَّةَ أَوْ فِي مَكَّةَ طَلُقَتْ فِي الْحَالِ فِي جَمِيعِ الْبِلَادِ) لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ عَنَى بِهِ إِذَا أَتَيْتُ مَكَّةَ لَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً لِأَنَّ الْإِضْمَارَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَلَوْ قَالَ: فِي دُخُولِكِ مَكَّةَ تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِالدُّخُولِ لِأَنَّهُ تَعَذُّرُ الظَّرْفِيَّةِ وَالشَّرْطُ قَرِيبٌ مِنَ الظَّرْفِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا تَقَعُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالطَّالِقِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْغَدِ، فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ طَالِقًا فِي جَمِيعِهِ، وَلَا ذَلِكَ إِلَّا بِوُقُوعِهِ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ (وَلَوْ نَوَى آخِرَ النَّهَارِ صُدِّقَ دِيَانَةً) لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وَلَوْ قَالَ: فِي غَدٍ صَحَّتْ قَضَاءً (سم) أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا، أَوْ غَدًا الْيَوْمَ يُؤْخَذُ بِأَوَّلِهِمَا ذِكْرًا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ وَسَكَتَ طَلُقَتْ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ إِذَا لَمْ (سم) أُطَلِّقْكِ، أَوْ إِذَا مَا لَمْ (سم) أُطَلِّقْكِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمُوتَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ هَذِهِ الْوَاحِدَةَ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَلَوْ قَالَ: فِي غَدٍ صَحَّتْ قَضَاءً أَيْضًا) لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ لِأَنَّ الظَّرْفَ لَا يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الْمَظْرُوفِ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِعَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ، وَقَالَا: هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا الظَّرْفِيَّةُ لِأَنَّ نَصْبَ (غَدًا) عَلَى الظَّرْفِيَّةِ فَلَا فَرْقَ. وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: (غَدًا) لِلِاسْتِيعَابِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَا أُكَلِّمُكَ شَهْرًا وَفِي الشَّهْرِ، وَدَهْرًا وَفِي الدَّهْرِ، وَإِذَا كَانَ لِلِاسْتِيعَابِ فَإِذَا نَوَى الْبَعْضَ فَقَدْ نَوَى التَّخْصِيصَ كَمَا بَيَّنَّا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي رَمَضَانَ وَنَوَى آخِرَهُ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ غَدًا، أَوْ غَدًا الْيَوْمَ يُؤْخَذُ بِأَوَّلِهِمَا ذِكْرًا) ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ تَنْجِيزٌ فَلَا يَتَأَخَّرُ، وَقَوْلَهُ غَدًا إِضَافَةٌ، وَالتَّنْجِيزُ إِبْطَالٌ لِلْإِضَافَةِ فَيَلْغُو. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) وَكَذَا أَمْسِ وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ، لِأَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ كَقَوْلِهِ: قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ، وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا أَوَّلَ مِنْ أَمْسِ وَقَعَ السَّاعَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي مِلْكِهِ فَيَقَعُ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ مَتَى مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْكِ وَسَكَتَ طَلُقَتْ) لِوُجُودِ شَرْطِ الْوُقُوعِ بِالسُّكُوتِ، وَهُوَ زَمَانٌ خَالٍ عَنِ التَّطْلِيقِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِلْوَقْتِ، أَمَّا " مَتَى " و" مَتَى مَا " فَحَقِيقَةٌ فِيهِ، وَأَمَّا " مَا " فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] أَيْ وَقْتَ الْحَيَاةِ، (وَإِنْ قَالَ: إِنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ إِذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ، أَوْ إِذَا مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَمُوتَ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لِلشَّرْطِ فَكَانَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِعَدَمِ التَّعْلِيقِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَدَمُ إِلَّا بِالْمَوْتِ، أَمَّا " إِن " فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا " إِذَا " و" إِذَا مَا " فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ، وَقَالَا: هُمَا بِمَعْنَى " مَتَى "، قَالَ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] وَأَمْثَالُهَا وَالْمُرَادُ الْوَقْتُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ أَيْضًا، قَالَ: وَإِذَا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَحَمَّلِ جَزَمَ بِهَا وَهِيَ دَلِيلُ الشَّرْطِيَّةِ. وَإِذَا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْأَمْرَيْنِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ لِاحْتِمَالِ إِرَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَكِ إِذَا شِئْتِ، حَيْثُ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنِ الْمَجْلِسِ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَهُمَا وَقَدْ مَلَكَهَا فَلَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِالشَّكِّ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا مَا لَمْ أُطَلِّقْكِ أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ طَالِقٌ هَذِهِ الْوَاحِدَةُ) لِأَنَّهُ وُجِدَ شَرْطُ الْبِرِّ، وَهُوَ عَدَمُ الْوَقْتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى، وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْكِ بَائِنٌ أَوْ عَلَيْكِ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ فَثَلَاثٌ، وَبِالْوَاحِدَةِ وَاحِدَةٌ، وَبِالثِّنْتَيْنِ ثِنْتَانِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْمَنْشُورَةُ، وَإِنْ أَشَارَ بِظُهُورِهَا فَالْمُعْتَبَرُ الْمَضْمُومَةُ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْخَالِي عَنِ التَّطْلِيقِ. (وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْكِ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى، وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْكِ بَائِنٌ أَوْ عَلَيْكِ حَرَامٌ وَنَوَى الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّلَاقَ إِزَالَةُ الْقَيْدِ، وَالْقَيْدُ قَائِمٌ بِالْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، أَوْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَهِيَ الْمَمْلُوكَةُ وَهُوَ الْمَالِكُ، أَمَّا الْإِبَانَةُ فَلِقَطْعِ الْوُصْلَةِ وَالتَّحْرِيمُ لِرَفْعِ الْحِلِّ وَالْوُصْلَةِ، وَالْحِلُّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَصَحَّ إِضَافَتُهُمَا إِلَيْهِمَا دُونَ الطَّلَاقِ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ هَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ فَثَلَاثٌ، وَبِالْوَاحِدَةِ وَاحِدَةٌ، وَبِالثِّنْتَيْنِ ثِنْتَانِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْمَنْشُورَةٌ) لِأَنَّهَا لِلْإِعْلَامِ بِالْعَدَدِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الشَهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَخَنَسَ إِبْهَامَهُ» . وَأَرَادَ فِي النَّوْبَةِ الثَّالِثَةِ التِّسْعَةَ وَعَلَيْهِ الْعُرْفُ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَضْمُومَتَيْنِ أَوِ الْكَفَّ لَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. (وَإِنْ أَشَارَ بِظُهُورِهَا فَالْمُعْتَبَرُ الْمَضْمُومَةُ) لِأَنَّهُ يُرِيدُ إِعْلَامَ الْعَدَدِ بِقَدْرِ الْمَضْمُومَةِ رُجُوعًا إِلَى الْعَادَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَقُلْ هَكَذَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرِ الْعَدَدَ بَقِيَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، أَوْ قَالَ: ثِنْتَيْنِ، أَوْ قَالَ: ثَلَاثًا فَمَاتَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، لِأَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ الْعَدَدَ فَالْوَاقِعُ هُوَ الْعَدَدُ، فَإِذَا مَاتَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ فَاتَ الْمَحَلُّ قَبْلَ الْإِيقَاعِ فَبَطَلَ. وَفِي الْفَتَاوَى: إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَذَا كَذَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا، لِأَنَّهُ إِذَا أَقَرَّ بِكَذَا كَذَا لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ عَلَى مَا عُرِفَ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَحَدَ عَشَرَ، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا كَذَلِكَ هُنَا. [فصل وصف الطَّلَاقِ] فَصْلٌ فِي وَصْفِ الطَّلَاقِ أَصْلُهُ أَنَّهُ مَتَى وَصَفَ الطَّلَاقَ بِوَصْفٍ لَا يُوصَفُ بِهِ وَلَا يَحْتَمِلُهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَبَطَلَ الْوَصْفُ، كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا لَمْ يَقَعْ، فَإِنَّهُ يَقَعُ وَاحِدَةً لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يُوصَفْ بِذَلِكَ، وَمَتَى وَقَعَ الطَّلَاقُ لَا يَرْتَفِعُ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَقَعُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ، وَمَتَى وَصَفَهُ بِوَصْفٍ يُوصَفُ بِهِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ شِدَّةٍ وَغِلْظَةٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ رَجْعِيٌّ، وَإِنْ كَانَ يُنْبِئُ فَهُوَ بَائِنٌ، مِثَالُ الْأَوَّلِ: أَنْتِ طَالِقٌ أَفْضَلُ الطَّلَاقِ أَوْ أَكْمَلُهُ أَوْ أَحْسَنُهُ أَوْ أَعْدَلُهُ أَوْ أَسَنُّهُ أَوْ خَيْرُهُ، فَإِنَّهُ تَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، لِأَنَّهُ لَا وَصْفَ لَهَا يُنْبِئُ عَنِ الشِّدَّةِ، وَالْبَيْنُونَةُ وَصْفُ شِدَّةٍ فَلَا يَقَعُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ أَوْ أَخْبَثَهُ أَوْ أَشَدَّهُ أَوْ أَعْظَمَهُ أَوْ أَكْبَرَهُ أَوْ أَشَرَّهُ أَوْ أَسْوَأَهُ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ أَوِ الْبِدْعَةِ أَوْ كَالْجَبَلِ أَوْ مِلْءَ الْبَيْتِ، أَوْ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ طَوِيلَةً أَوْ عَرِيضَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] (و) مِثَالُ الثَّانِي: (لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَفْحَشَ الطَّلَاقِ أَوْ أَخْبَثَهُ أَوْ أَشَدَّهُ أَوْ أَعْظَمَهُ أَوْ أَكْبَرَهُ أَوْ أَشَرَّهُ أَوْ أَسْوَأَهُ أَوْ طَلَاقَ الشَّيْطَانِ أَوِ الْبِدْعَةِ أَوْ كَالْجَبَلِ أَوْ مِلْءَ الْبَيْتِ، أَوْ تَطْلِيقَةً شَدِيدَةً أَوْ طَوِيلَةً أَوْ عَرِيضَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْصَافَ تُنْبِئُ عَنِ الشِّدَّةِ، وَالْبَائِنُ: هُوَ الشَّدِيدُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى رَجْعَتِهَا، بِخِلَافِ الرَّجْعِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَدِيدٍ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْلِكَ رَجْعَتَهَا بِدُونِ أَمْرِهَا. قَالَ: (وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ) لِأَنَّ الشِّدَّةَ وَالْبِدْعَةَ وَطَلَاقَ الشَّيْطَانِ يَتَنَوَّعُ إِلَى نَوْعَيْنِ: شِدَّةٌ ضَعِيفَةٌ وَقَوِيَّةٌ، فَالضَّعِيفَةُ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ، فَعِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهَا لِلتَّيَقُّنِ، وَإِذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ نَوْعَيْهِ فَيُصَدَّقُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ كَأَلْفٍ لِأَنَّهُ يُشَبِّهُ بِهَا فِي الْقُوَّةِ. قَالَ: وَوَاحِدٌ كَالْأَلْفِ إِنْ أَمْرٌ عَنَى وَيُشَبِّهُ بِهَا فِي الْعَدَدِ فَأَيُّهُمَا نَوَى صَحَّ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا يَثْبُتُ الْأَقَلُّ لِمَا مَرَّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ عَدَدٌ فَالظَّاهِرُ هُوَ التَّشْبِيهُ فِي الْعَدَدِ. ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ مَتَّى شَبَّهَ الطَّلَاقَ فَهُوَ بَائِنٌ، لِأَنَّ التَّشْبِيهَ يَقْتَضِي زِيَادَةَ الْوَصْفِ وَذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ، لِأَنَّ عِنْدَ عَدَمِ التَّشْبِيهِ يَكُونُ رَجْعِيًّا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - إِنْ ذَكَرَ الْعِظَمَ كَانَ بَائِنًا وَإِلَّا فَلَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُشَبَّهُ بِهِ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ لَا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ فِي نَفْسِ التَّوْحِيدِ، فَإِذَا ذَكَرَ الْعِظَمَ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ الزِّيَادَةَ. وَعِنْدَ زُفَرَ إِنْ شَبَّهَهُ بِمَا هُوَ عَظِيمٌ فِي نَفْسِهِ كَانَ بَائِنًا وَإِلَّا فَهُوَ رَجْعِيٌّ، وَالْخِلَافُ يَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ رَأْسِ الْإِبْرَةِ، مِثْلَ عِظَمِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ، مِثْلَ الْجَبَلِ، مِثْلَ عِظَمِ الْجَبَلِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ بَائِنٌ فِي الْجَمِيعِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ بَائِنٌ فِي الثَّانِيَةِ وَالرَّابِعَةِ، رَجْعِيٌّ فِي الْبَاقِي، وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ بَائِنٌ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، رَجْعِيٌّ فِي الْبَاقِي، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مِثْلَ عَدَدِ كَذَا. لِشَيْءٍ لَا عَدَدَ لَهُ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، رَجْعِيَّةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ قَالَ كَالنُّجُومِ فَوَاحِدَةٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ كَالنُّجُومِ ضِيَاءً إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْعَدَدَ فَثَلَاثٌ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا قَلِيلَ وَلَا كَثِيرَ، يَقَعُ ثَلَاثًا، وَلَوْ قَالَ: لَا كَثِيرَ وَلَا قَلِيلَ، تَقَعُ وَاحِدَةٌ، فَيَثْبُتُ ضِدُّ مَا نَفَاهُ أَوَّلًا، لِأَنَّ بِالنَّفْيِ ثَبَتَ ضِدُّهُ فَلَا يَرْتَفِعُ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً ثُمَّ قَالَ: جَعَلْتُهَا بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا يَكُونُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَصِيرُ بَائِنًا لَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ الْعَدَدَ وَتَحْتَمِلُ التَّبْدِيلَ إِلَى صِفَةٍ أُخْرَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ بَائِنًا وَلَا ثَلَاثًا لِأَنَّهُ إِذَا وَقَعَ بِصِفَةٍ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ لِأَنَّ تَغْيِيرَ الْوَاقِعِ لَا يَصِحُّ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِبَانَةَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَمْلِكُ إِثْبَاتَهَا بَعْدَ الْإِيقَاعِ وَيَمْلِكُ إِيقَاعَ الْعَدَدِ فَيَمْلِكُ إِلْحَاقَ الثِّنْتَيْنِ بِالْوَاحِدَةِ وَضَمِّهِمَا إِلَيْهَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ ثَلَاثًا وَقَعْنَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ طَالِقٌ، أَوْ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً، أَوْ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ، أَوْ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَثِنْتَانِ، وَلَوْ قَالَ: مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ فَثِنْتَانِ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ (سم) ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ.   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ] فَصْلٌ (وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ ثَلَاثًا وَقَعْنَ) لِأَنَّ قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِيقَاعٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ طَلَاقًا ثَلَاثًا فَيَقَعْنَ جُمْلَةً، وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إِيقَاعًا عَلَى حِدَةٍ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ طَالِقٌ، أَوْ وَاحِدَةُ وَوَاحِدَةً، أَوْ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ، أَوْ بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُعَلِّقِ الْكَلَامَ بِشَرْطٍ أَوْ يَذْكُرْ فِي آخِرِهِ مَا يُغَيِّرُ صَدْرَهُ كَانَ كُلُّ لَفْظٍ إِيقَاعًا عَلَى حِدَةٍ، فَيَقَعُ الْأَوَّلُ وَتَبِينُ لَا إِلَى عِدَّةٍ فَتُصَادِفُهَا الثَّانِيَةُ وَهِيَ بَائِنٌ فَلَا تَقَعُ. وَأَمَّا الْقَبْلِيَّةُ وَالْبَعْدِيَّةُ فَالْأَصْلُ فِيهَا أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ حَرْفَ الظَّرْفِ مَقْرُونًا بِهَاءِ الْكِنَايَةِ بَيْنَ طَلَاقَيْنِ كَانَ الظَّرْفُ صِفَةً لِلْمَذْكُورِ آخِرًا، وَإِنْ لَمْ يَقْرِنُهُ بِهَاءِ الْكِنَايَةِ فَهُوَ صِفَةٌ لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا، مِثَالُهُ جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَهُ عَمْرٌو، وَجَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو، فَالْقَبْلِيَّةُ فِي الْأَوَّلِ صِفَةٌ لِعَمْرٍو، وَفِي الثَّانِي صِفَةٌ لِزَيْدٍ، فَقَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ، فَالْقَبْلِيَّةُ صِفَةٌ لِلْأُولَى، وَالْإِيقَاعُ فِي الْمَاضِي إِيقَاعٌ لِلْحَالِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَاتِ إِنْشَاءَاتٌ شَرْعًا فَوَقَعَتِ الْوَاحِدَةُ فَبَانَتْ بِهَا فَلَا يَقَعُ مَا بَعْدَهَا، وَقَوْلُهُ: بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ. فَالْبَعْدِيَّةُ صِفَةٌ لِلْأَخِيرَةِ وَقَدْ حَصَلَتِ الْإِبَانَةُ قَبْلَهَا فَلَا يَقَعُ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ، أَوْ بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَثِنْتَانِ) لِأَنَّ الْقِبْلِيَّةَ صِفَةٌ لِلْأُخْرَى فَاقْتَضَى إِيقَاعَهَا فِي الْمَاضِي وَإِيقَاعَ الْأُولَى فِي الْحَالِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمَاضِي إِيقَاعٌ فِي الْحَالِ فَيَقْتَرِنَانِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الْبَعْدِيَّةُ صِفَةٌ لِلْأُولَى فَاقْتَضَى إِيقَاعَ الْوَاحِدَةِ فِي الْحَالِ وَإِيقَاعَ أُخْرَى قَبْلَهَا فَيَقْتَرِنَانِ. (وَلَوْ قَالَ: مَعَ وَاحِدَةٍ أَوْ مَعَهَا وَاحِدَةٌ فَثِنْتَانِ أَيْضًا) لِأَنَّ كَلِمَةَ (مَعَ) لِلْمُقَارَنَةِ. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ) وَقَالَا: ثِنْتَانِ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَدَخَلَتْ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ) بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ، وَالْجَمْعُ بِحِرَفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إِذَا أَخَّرَ الْجَزَاءَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 وَكِنَايَاتُ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهَا إِلَّا بِنِيَّةٍ أَوْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَيَقَعُ بَائِنًا إِلَّا اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ فَيَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِحِرَفِ الْجَمْعِ. وَلَهُ أَنَّ الشَّرْطَ إِذَا تَأَخَّرَ بِغَيْرِ صَدْرِ الْكَلَامِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْكَلَامِ فَتَقَعُ جُمْلَةً، أَمَّا إِذَا تَقَدَّمَ لَا مُغَيِّرَ لَهُ فَلَا يَتَوَقَّفُ، وَالْجَمِيعُ يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ وَيَحْتَمِلُ الْقِرَانَ، فَعَلَى تَقْدِيرِ احْتِمَالِ التَّرْتِيبِ لَا تَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ كَمَا إِذَا صَرَّحَ بِهِ فَلَا يَقَعُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ بِالشَّكِّ، وَلَوْ عَطَفَ بِحَرْفِ الْفَاءِ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: هُوَ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ، قَالُوا: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِالثَّانِيَةِ، وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِلْحَالِ وَتَتَعَلَّقُ الثَّانِيَةُ بِالدُّخُولِ. [فصل كِنَايَاتُ الطَّلَاقِ] فَصْلٌ (وَكِنَايَاتُ الطَّلَاقِ لَا يَقَعُ بِهَا إِلَّا بِنِيَّةٍ أَوْ بِدَلَالَةِ الْحَالِ) لِاحْتِمَالِهَا الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لَهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِالتَّعْيِينِ، وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَهُ أَوْ تَدُلَّ عَلَيْهِ الْحَالُ فَتَتَرَجَّحُ إِرَادَتُهُ. قَالَ: (وَيَقَعُ بَائِنًا) لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إِيقَاعَ الْبَائِنِ وَأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْبَيْنُونَةِ فَيَمْلِكُهُ كَالثَّلَاثِ وَقَدْ أَوْقَعَهُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ بَائِنٌ أَوْ أَبَنْتُكِ بِطَلْقَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تَدُلُّ عَلَى الْبَيْنُونَةِ بِصَرِيحِهَا وَمَعْنَاهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ بَائِنٌ صَرِيحٌ. وَبَتَّةٌ وَبَتْلَةٌ يُنْبِئَانِ عَنِ الْقَطْعِ وَذَلِكَ فِي الْبَائِنِ دُونَ الرَّجْعِيِّ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَلْفَاظِ إِذَا تَأَمَّلْتَ مَعْنَاهَا. قَالَ: (إِلَّا اعْتَدِّي وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ وَأَنْتِ وَاحِدَةٌ فَيَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةُ) لِأَنَّ قَوْلَهُ: اعْتَدِّي يَحْتَمِلُ اعْتَدِّي نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَحْتَمِلُ اعْتَدِّي عِدَّةَ الطَّلَاقِ فَإِذَا نَوَاهَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: طَلَّقْتُكِ فَاعْتَدِّي، وَذَلِكَ يُوجِبُ الرَّجْعَةَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: اسْتَبْرِئِي رَحِمَكِ فَلِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْعِدَّةِ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، وَيَحْتَمِلُ اسْتَبْرِئِي لِأُطَلِّقَكِ، فَإِنْ نَوَى الْأَوَّلَ كَانَ فِي مَعْنَاهُ فَيَكُونُ رَجْعِيًّا لِمَا مَرَّ. وَقَوْلُهُ: أَنْتِ وَاحِدَةٌ يَصْلُحُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَيَصْلُحُ وَصْفًا لَهَا بِالتَّوْحِيدِ عِنْدَهُ، فَإِذَا نَوَى الطَّلَاقَ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ وَمِثْلُهُ جَائِزٌ كَقَوْلِهِ: أَعْطَيْتُكَ جَزِيلًا أَيْ عَطَاءً جَزِيلًا، وَإِذَا احْتَمَلَهُ فَإِذَا نَوَاهُ تَعَيَّنَ مُجْمَلًا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ رَجْعِيًّا فَكَذَا هَذَا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إِذَا أَعْرَبَ الْوَاحِدَةَ بِالرَّفْعِ لَا يَقَعُ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى؛ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِشَخْصِهَا، وَإِنْ أَعْرَبَ بِالنَّصْبِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّهُ نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وَإِنْ سَكَّنَ يُحْتَاجُ إِلَى نِيَّتِهِ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ قَالُوا: الْكُلُّ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْعَامَّةَ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ ذَلِكَ فَلَا يُبْنَى حُكْمٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ عَلَيْهِ. وَلَا يَقَعُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ طَالِقٌ مُضْمَرٌ فِيهَا أَوْ مُقْتَضًى، وَلَوْ أَظْهَرَ لَا يَقَعُ إِلَّا وَاحِدَةٌ لِمَا بَيَّنَّا، كَذَا هَذَا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 وَأَلْفَاظُ الْبَائِنِ قَوْلُهُ: أَنْتِ بَائِنٌ، بَتَّةٌ، بَتْلَةٌ، حَرَامٌ، حَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ، خَلِيَّةٌ، بَرِيَّةٌ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ، سَرَّحْتُكِ، فَارَقْتُكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، تَقَنَّعِي، اسْتَتِرِي، أَنْتِ حُرَّةٌ، اغْرُبِي، اخْرُجِي، ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ. وَيَصِحُّ فِيهَا نِيَّةُ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ، وَلَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ فَوَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي يَنْوِي الطَّلَاقَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا، وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالْقِيَامِ، وَبِتَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَأَلْفَاظُ الْبَائِنِ قَوْلُهُ: أَنْتِ بَائِنٌ، بَتَّةٌ، بَتْلَةٌ، حَرَامٌ، حَبْلُكُ عَلَى غَارِبِكِ، خَلِيَّةٌ، بَرِيَّةٌ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ، وَهَبْتُكِ لِأَهْلِكِ، سَرَّحْتُكِ، فَارَقْتُكِ، أَمْرُكِ بِيَدِكِ، تَقَنَّعِي، اسْتَتِرِي، أَنْتِ حُرَّةٌ، اغْرُبِي، اخْرُجِي، ابْتَغِي الْأَزْوَاجَ. وَيَصِحُّ فِيهَا نِيَّةُ الْوَاحِدَةِ وَالثَّلَاثِ) لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ خَفِيفَةٌ وَغَلِيظَةٌ فَأَيُّهُمَا نَوَى صَحَّ، وَإِنْ نَوَى نَفْسَ الطَّلَاقِ فَوَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ الْأَدْنَى. (وَلَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ فَوَاحِدَةٌ) لِأَنَّهُمَا عَدَدٌ وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَلَا يَقَعُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ أَوْ فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَيَقَعُ فِي الْقَضَاءِ وَلَا يَقَعُ دِيَانَةً إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ أَدْنَى. ثُمَّ هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَا غَيْرُ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، اخْتَارِي، اعْتَدِّي. وَمِنْهَا مَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا لَا غَيْرُ، وَهِيَ سَبْعَةٌ: اخْرُجِي، اذْهَبِي، اغْرُبِي، قُومِي، تَقَنَّعِي، اسْتَتِرِي، تَخَمَّرِي. وَمِنْهَا مَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا وَشَتِيمَةً، وَهِيَ خَمْسَةٌ: خَلِيَّةٌ، بَرِيَّةٌ، بَتَّةٌ، بَائِنٌ، حَرَامٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَلْحَقَ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ خَمْسَةً أُخْرَى: خَلَّيْتُ سَبِيلَكِ، سَرَّحْتُكِ، لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكِ، لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ. وَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ: حَالَةٌ مُطْلَقَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الرِّضَا، وَحَالَةُ مُذَاكَرَةِ طَلَاقِهَا، وَحَالَةُ غَضَبٍ. أَمَّا حَالَةُ الرِّضَا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالنِّيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يُطْلِعُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ وَالْحَالُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَفِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ يَقَعُ الطَّلَاقُ قَضَاءً وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا وَرَدًّا لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَهُوَ الْأَدْنَى فَيُصَدَّقُ فِيهِ. وَفِي حَالَةِ الْغَضَبِ يُصَدَّقُ إِلَّا فِيمَا يَصْلُحُ جَوَابًا لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلطَّلَاقِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْغَضَبُ فَيُجْعَلُ طَلَاقًا. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي. يَنْوِي الطَّلَاقَ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا) فَإِنْ كَانَتْ حَاضِرَةً فَبِسَمَاعِهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً فَبِالْإِخْبَارِ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا الْمَجْلِسُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّهُ مَلَّكَهَا فِعْلَ الِاخْتِيَارِ، وَالتَّمْلِيكَاتُ تَقْتَضِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا. (وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالْقِيَامِ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ (وَبِتَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ) حَقِيقَةً بِالِانْتِقَالِ إِلَى مَجْلِسٍ آخَرَ، وَمَعْنًى بِتَبَدُّلِ الْأَفْعَالِ، فَمَجْلِسُ الْأَكْلِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْقِتَالِ، وَمَجْلِسُ الْقِتَالِ غَيْرُ مَجْلِسِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَيَبْطُلُ بِتَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ كَانَتْ مَعْذُورَةً؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 فَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَاهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ - النَّفْسِ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ أَوْ كَلَامِهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ: إِذَا أَخَذَ الزَّوْجُ بِيَدِهَا وَأَقَامَهَا مِنَ الْمَجْلِسِ بَطَلَ خِيَارُهَا، وَلَوْ كَانَتْ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ أَوْ وِتْرٍ فَأَتَمَّتْهَا لَا يَبْطُلُ، وَكَذَا فِي التَّطَوُّعِ إِنْ تَمَّتْ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ قَطْعِهَا، وَإِنْ تَمَّتْ أَرْبَعًا بَطَلَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى رَكْعَتَيْنِ فِي النَّفْلِ كَالدُّخُولِ فِي صَلَاةٍ أُخْرَى. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا تُبْطِلُ وَإِنْ أَتَمَّتْهَا أَرْبَعًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَقَعَدَتْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا لِأَنَّهُ دَلِيلُ التَّرَوِّي، فَإِنَّ الْقُعُودَ أَجْمَعُ لِلرَّأْيِ، وَكَذَا إِذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ، أَوْ مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ، لِأَنَّهُ انْتِقَالٌ مِنْ جِلْسَةٍ إِلَى جِلْسَةٍ وَلَيْسَ بِإِعْرَاضٍ، كَمَا إِذَا تَرَبَّعَتْ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُحْتَبِيَةً. وَقِيلَ إِذَا كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا لِأَنَّهُ إِظْهَارٌ لِلتَّهَاوُنِ بِالْأَمْرِ فَكَانَ إِعْرَاضًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَلَوْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاضْطَجَعَتْ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ، وَإِنْ كَانَتْ تَسِيرُ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فِي مَحْمَلٍ فَوَقَفَتْ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا، وَإِنْ سَارَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا، إِلَّا أَنْ تَخْتَارَ مَعَ سُكُوتِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ وَوُقُوفَهَا مُضَافٌ إِلَيْهَا، فَإِذَا سَارَتْ كَانَ كَمَجْلِسٍ آخَرَ. (فَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا يُوجِبُ اخْتِصَاصَهَا بِهَا دُونَ غَيْرِهَا وَذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ. (وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ نَوَاهَا) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ. (وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي كَلَامِهِ أَوْ كَلَامِهَا) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: اخْتَارِي نَفْسَكِ فَتَقُولُ: اخْتَرْتُ، أَوْ يَقُولُ لَهَا: اخْتَارِي فَتَقُولُ: اخْتَرْتُ نَفْسِي لِأَنَّ ذَلِكَ عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَأَنَّهُ الْمُفَسَّرُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي، فَقَالَتِ اخْتَرْتُ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ وَضْعًا، وَإِنَّمَا جُعِلَ بِالسُّنَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَ مُفَسَّرًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ اخْتَارِي، وَقَوْلَهَا اخْتَرْتُ، لَيْسَ لَهُ مُخَصِّصٌ بِهَا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، فَإِذَا ذُكِرَتِ النَّفْسُ تَخَصَّصَ الِاخْتِيَارُ لَهَا فَيَقَعُ. وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ أَوِ التَّطْلِيقَةِ أَوِ الِاخْتِيَارَةِ فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، أَمَّا ذِكْرُ النَّفْسِ فَلِمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا ذِكْرُ التَّطْلِيقَةِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الِاخْتِيَارَةُ فَلِأَنَّ الْهَاءَ تُنْبِئُ عَنِ التَّفَرُّدِ، وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا هُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ مَرَّةً وَيَتَعَدَّدُ أُخْرَى، فَصَارَ مُفَسَّرًا مِنْ جَانِبِهِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ بِالتَّخْيِيرِ طَلَاقٌ وَإِنْ نَوَى، لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إِلَى غَيْرِهِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهَا: أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي يَحْتَمِلُ الْوَعْدَ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا مَعَ الِاحْتِمَالِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ هَذَا إِيجَابًا وَجَوَابًا لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] الْآيَةَ، " بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَقَالَ: إِنِّي أُخْبِرُكِ بِشَيْءٍ، فَمَا عَلَيْكِ أَلَّا تُجِيبِينِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ ثُمَّ أَخْبَرَهَا بِالْآيَةِ "، فَقَالَتْ: " أَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي، فَقَالَتِ: اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً، أَوْ قَالَتِ: اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوِ الْوُسْطَى أَوِ الْأَخِيرَةَ فَهِيَ ثَلَاثٌ (سم) ، وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِيَ أَوِ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ، وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي نَفْسَكِ أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ بِتَطْلِيقَةٍ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَوْ خَيَّرَهَا فَقَالَتِ: اخْتَرْتُ نَفْسِي لَا بَلْ زَوْجِي لَا يَقَعُ، وَلَوْ قَالَتْ: نَفْسِي أَوْ زَوْجِي لَا يَقَعُ، وَلَوْ قَالَتْ: نَفْسِي وَزَوْجِي طَلُقَتْ، وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ كَالتَّخْيِيرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجْلِسِ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَنَوَى الثَّلَاثَ صَحَّ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَبَوَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ لَا، بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَأَرَادَتْ بِذَلِكَ الِاخْتِيَارَ لِلْحَالِ، وَعَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَابًا وَإِيجَابًا، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ النِّكَاحَ وَلَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا، فَلَهُ أَنْ يُقِيمَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي، فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ اخْتِيَارَةً، أَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ الْأُولَى أَوِ الْوُسْطَى أَوِ الْأَخِيرَةَ فَهِيَ ثَلَاثٌ) وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ، لِأَنَّ تَكْرَارَ هَذَا الْكَلَامِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الطَّلَاقِ دُونَ غَيْرِهِ. أَمَّا قَوْلُهَا اخْتِيَارَةً فَلِأَنَّهَا لِلْمَرَّةِ، وَلَوْ صَرَّحَتْ بِالْمَرَّةِ كَانَتْ ثَلَاثًا فَكَذَا هَذَا، وَلِأَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْكِيدُ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ. وَأَمَّا قَوْلُهَا الْأُولَى أَوِ الْوُسْطَى أَوِ الْأَخِيرَةَ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: تَقَعُ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْأُولَى أَوِ الْوُسْطَى أَوِ الْأَخِيرَةِ إِنْ كَانَ لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ يُفِيدُ الْإِفْرَادَ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ. وَلَهُ أَنَّهَا إِنَّمَا تَتَصَرَّفُ فِيمَا مَلَكَتْهُ، إِذِ الْمُجْتَمِعُ فِي الْمِلْكِ كَالْمُجْتَمِعِ فِي الْمَكَانِ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ، فَإِنَّ الْقَوْمَ الْمُجْتَمِعِينَ فِي مَكَانٍ لَا يُقَالُ: هَذَا أَوَّلٌ وَهَذَا آخِرُ، وَيُقَالُ: هَذَا جَاءَ أَوَّلًا وَهَذَا آخِرًا، فَيَكُونُ التَّرْتِيبُ فِي مَجِيئِهِمَا لَا فِي ذَاتِهِمَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَغَا قَوْلُهَا: الْأُولَى أَوِ الْوُسْطَى، فَبَقِيَ قَوْلُهَا: اخْتَرْتُ، وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْتُ وَسَكَتَتْ وَقَعَتِ الثَّلَاثُ كَذَا هَذَا. (وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي أَوِ اخْتَرْتُ نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ) لِأَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ الِانْطَلَاقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. (وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي نَفْسَكِ، أَوْ أَمْرُكِ بِيَدِكِ بِتَطْلِيقَةٍ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ) لِأَنَّ ذِكْرَ الطَّلَاقِ يُعَقِّبُ الرَّجْعَةَ، وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ. (وَلَوْ خَيَّرَهَا فَقَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي لَا بَلْ زَوْجِي لَا يَقَعُ) لِأَنَّهُ لِلْإِضْرَابِ عَنِ الْأَوَّلِ فَلَا يَقَعُ. (وَلَوْ قَالَتْ: نَفْسِي أَوْ زَوْجِي لَا يَقَعُ) لِأَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ، وَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لِاشْتِغَالِهَا بِشَيْءٍ آخَرَ. (وَلَوْ قَالَتْ: نَفْسِي وَزَوْجِي طَلُقَتْ) وَلَا يَصِحُّ الْعَطْفُ (وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ كَالتَّخْيِيرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجْلِسِ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا، (إِلَّا أَنَّهُ إِذَا قَالَ: أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَنَوَى الثَّلَاثَ صَحَّ) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ، وَالِاخْتِيَارُ لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 وَلَوْ قَالَتْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ: اخْتَرْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا يَقَعُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ فِي الْمَجْلِسِ وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ، وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَهَا الزَّوْجُ وَقَعْنَ، وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ (ز) إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَيَصِحُّ، وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً وَقَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ وَلَوْ قَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي طَلُقَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَقَالَتْ: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ أَنْتَ مِنِّي بَائِنٌ، أَوْ أَنَا عَلَيْكَ حَرَامٌ، أَوْ أَنَا مِنْكَ بَائِنٌ، فَهُوَ جَوَابٌ وَطَلُقَتْ،   [الاختيار لتعليل المختار] يُنْبِئُ عَنِ التَّمْلِيكِ وَضْعًا، قَالَ تَعَالَى: {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] وَالِاخْتِيَارُ عُرْفٌ تَمْلِيكًا شَرْعًا لَا وَضْعًا، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ فِي الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ لَا غَيْرُ، فَلِهَذَا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ دُونَ التَّخْيِيرِ. (وَلَوْ قَالَتْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ: اخْتَرْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ) لِأَنَّهَا صِفَةُ الِاخْتِيَارَةِ، لِأَنَّ الِاخْتِيَارَةَ تَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ لِكَوْنِهِ تَمْلِيكًا كَالتَّخْيِيرِ فَصَارَ كَمَا إِذَا قَالَتْ: اخْتَرْتُ نَفْسِي مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِذَلِكَ يَقَعُ الثَّلَاثُ. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا) قِيلَ: لَا يَقَعُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ (يَقَعُ) وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ إِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا كَمَا وَقَعَتْ قَدَمُهَا فِيهَا طَلُقَتْ، وَإِنْ طَلُقَتْ بَعْدَمَا مَشَتْ خُطْوَتَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ فِي الْمَجْلِسِ) لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ وَكِيلَةً فِي حَقِّ نَفْسِهَا فَكَانَ تَمْلِيكًا، (وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِتَطْلِيقِهَا، وَكَذَا قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شِئْتِ أَوْ أَحْبَبْتِ أَوْ هَوَيْتِ أَوْ أَرَدْتِ أَوْ رَضِيتِ، لِأَنَّ كُلَّهُ تَعْلِيقٌ بِفِعْلِ الْقَلْبِ فَهُوَ كَالْخِيَارِ. (وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَهَا الزَّوْجُ وَقَعْنَ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ افْعَلِي الطَّلَاقَ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ فَيَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى مَعَ الْجَمِيعِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ وَيَنْصَرِفُ إِلَى الْأَدْنَى عِنْدَ عَدَمِهَا عَلَى مَا مَرَّ (وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ) لِأَنَّهُ عَدَدٌ؛ خِلَافًا لَزُفَرَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، (إِلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَيَصِحُّ) لِأَنَّهُ الْجِنْسُ فِي حَقِّهَا (وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً وَقَدْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجِنْسٍ فِي حَقِّهَا. (وَلَوْ قَالَتْ: أَبَنْتُ نَفْسِي طَلُقَتْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً) لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ، إِلَّا أَنَّهَا زَادَتْ فِيهَا وَصْفَ الْإِبَانَةِ فَيَلْغُو، كَمَا إِذَا قَالَتْ طَلَّقْتُ نَفْسِي بَائِنَةً. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فُوِّضَ إِلَيْهَا، وَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ أَيْضًا. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُكِ بِيَدِكِ، فَقَالَتْ: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ أَنْتَ مِنِّي بَائِنٌ، أَوْ أَنَا عَلَيْكَ حَرَامٌ، أَوْ أَنَا مِنْكَ بَائِنٌ، فَهُوَ جَوَابٌ وَطَلُقَتْ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُفِيدُ الطَّلَاقَ كَمَا إِذَا قَالَتْ طَلَّقْتُ نَفْسِي، وَلَوْ قَالَتْ: أَنْتَ مِنِّي طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 وَلَوْ قَالَتْ: أَنَا مِنْكَ طَالِقٌ، أَوْ أَنَا طَالِقٌ وَقَعَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ مَتَى شِئْتِ، أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ، أَوْ إِذَا شِئْتِ، أَوْ إِذَا مَا شِئْتِ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَلَوْ رَدَّتْهُ لَا يَرْتَدُّ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: طَلِّقِ امْرَأَتِي، وَلَوْ قَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ. اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ (ز) ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ كُلَّمَا شِئْتِ فَلَهَا أَنْ تُفَرِّقَ الثَّلَاثَ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَجْمَعَهَا، وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] شَيْءٌ. (وَلَوْ قَالَتْ: أَنَا مِنْكَ طَالِقٌ أَوْ أَنَا طَالِقٌ، وَقَعَ) لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُوصَفُ بِالطَّلَاقِ دُونَ الرِّجَالِ، (وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ مَتَى شِئْتِ، أَوْ مَتَى مَا شِئْتِ، أَوْ إِذَا شِئْتِ، أَوْ إِذَا مَا شِئْتِ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ) لِأَنَّهَا لِعُمُومِ الْأَوْقَاتِ كَأَنَّهُ قَالَ: فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْتِ، وَهَذَا فِي " مَتَى " و" مَتَى مَا " ظَاهِرٌ، وَأَمَّا " إِذَا " و" إِذَا مَا " فَقَدَ سَبَقَ الْكَلَامُ فِيهِ وَالْعُذْرُ عَنْهُ، (وَلَوْ رَدَّتْهُ لَا يَرْتَدُّ) لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ فَلَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا قَبْلَ الْمَشِيئَةِ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، (وَكَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: طَلِّقِ امْرَأَتِي) لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ. (وَلَوْ قَالَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ، اقْتَصَرَ عَلَى الْمَجْلِسِ) ، وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ كَمَا إِذَا سَكَتَ عَنِ الْمَشِيئَةِ. وَلَنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ حَيْثُ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ، وَالْمَالِكُ يَتَصَرَّفُ بِالْمَشِيئَةِ، وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِمَا عُرِفَ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ أَحْبَبْتِ، فَقَالَتْ: شِئْتُ، وَقَعَ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ شِئْتِ فَقَالَتْ أَحْبَبْتُ لَا يَقَعُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَشِيئَةَ إِرَادَةٌ وَإِيجَابٌ وَفِيهَا مَعْنَى الْمَحَبَّةِ وَزِيَادَةٌ، فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي الْأُولَى وَزِيَادَةٌ، وَالْمَحَبَّةُ لَيْسَ فِيهَا إِيجَابٌ فَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ الْمَشِيئَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ كُلَّمَا شِئْتِ فَلَهَا أَنْ تُفَرِّقَ الثَّلَاثَ) لِأَنَّ (كُلَّمَا) تَقْتَضِي تَكْرَارَ الْفِعْلِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَمْلُوكِ مِنَ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْقَائِمِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَعَادَتْ إِلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لَا تَمْلِكُ التَّطْلِيقَ (وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَجْمَعَهَا) لِأَنَّهَا تُوجِبُ عُمُومَ الِانْفِرَادِ لَا عُمُومَ الِاجْتِمَاعِ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَمْلُوكِ فِي النِّكَاحِ حَتَّى كَانَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ كَلِمَةِ (كُلَّمَا) وَلَنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ فَلَا يَصِحُّ إِلَّا فِيمَا هُوَ فِي مِلْكِهِ، وَلَا يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلَاثِ، وَعَلَى هَذَا، الْإِيلَاءُ إِذَا وَقَعَ بِهِ ثَلَاثُ طَلْقَاتٍ ثُمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَعُودُ. (وَلَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّهَا أَوْقَعَتْ بَعْضَ مَا مَلَكَتْ، (وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا مَلَكَتِ الْوَاحِدَةَ، وَقَدْ أَتَتْ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا فَتَلْغُو كَمَا إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَرْبَعًا، فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ وَيَلْغُو الزَّائِدُ. وَلَهُ أَنَّ الْوَاحِدَةَ غَيْرُ الثَّلَاثِ لَفْظًا وَمَعْنًى، فَقَدْ أَتَتْ بِغَيْرِ مَا مَلَّكَهَا فَكَانَ كَلَامًا مُبْتَدَأً فَلَا يَقَعُ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الثَّلَاثَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً أَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً بَائِنَةً فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ، وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً بَائِنَةً، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ رَجْعِيَّةً فَهِيَ بَائِنَةٌ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ لَمْ تَشَأْ، فَإِنْ شَاءَتْ بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَقَعَ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَشِيئَتُهَا وَإِرَادَتُهُ فَوَاحِدَةٌ (سم) رَجْعِيَّةٌ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا شِئْتِ أَوْ كَمْ شِئْتِ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا شَاءَتْ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْتِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ ثَلَاثًا وَتُطَلِّقَ مَا دُونَهَا (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] فَيَتَصَرَّفُ فِيهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ، وَالزَّائِدُ عَلَيْهَا لَغْوٌ فَبَطَلَ. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ وَاحِدَةً أَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي وَاحِدَةً بَائِنَةً فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ) لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالْأَصْلِ فَصَحَّ وَوَقَعَ مَا أَمَرَهَا بِهِ، ثُمَّ أَتَتْ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ فَيَلْغُو إِذْ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. (وَلَوْ قَالَ: وَاحِدَةً بَائِنَةً، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ رَجْعِيَّةً، فَهِيَ بَائِنَةٌ) لِمَا قُلْنَا. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْتِ وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ لَمْ تَشَأْ، فَإِنْ شَاءَتْ بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَقَعَ) لِلِاتِّفَاقِ بَيْنَ إِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهَا، (وَإِنِ اخْتَلَفَتْ مَشِيئَتُهَا وَإِرَادَتُهُ فَوَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ) لِأَنَّهَا لَمَّا خَالَفَتْهُ لَغَا تَصَرُّفُهَا فَبَقِيَ أَصْلُ الْإِيقَاعِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَقَعُ شَيْءٌ مَا لَمْ تُوقِعِ الْمَرْأَةُ فَتَشَاءُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً وَالْعِتْقُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. لَهُمَا أَنَّهُ فَوَّضَ إِلَيْهَا التَّطْلِيقَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شَاءَتْ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا أَصْلُ الطَّلَاقِ حَتَّى تَمْلِكَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَلَوْ وَقَعَ بِمُجَرَّدِ إِيقَاعِهِ لَا يَمْلِكُ قَبْلَ الدُّخُولِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَيْفَ لِلِاسْتِيصَافِ فَتَقْتَضِي ثُبُوتَ أَصْلِ الطَّلَاقِ، وَيَكُونُ التَّفْوِيضُ إِلَيْهَا فِي الصِّفَةِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ كَلِمَةِ كَيْفَ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ مَا شِئْتِ أَوْ كَمْ شِئْتِ فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا شَاءَتْ) لِأَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ لِلْعَدَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إِلَيْهَا أَيَّ شَيْءٍ شَاءَتْ مِنَ الْعَدَدِ. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْتِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ ثَلَاثًا وَتُطَلِّقَ مَا دُونَهَا) وَقَالَا: لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ ثَلَاثًا إِنْ شَاءَتْ، لِأَنَّ (مَا) لِلْعُمُومِ و (مَنْ) تُسْتَعْمَلُ لِلتَّمْيِيزِ فَيُحْمَلُ عَلَى تَمْيِيزِ الْجِنْسِ كَقَوْلِهِ: كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْتَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ (مِنْ) حَقِيقَةٌ لِلتَّبْعِيضِ، و (مَا) لِلتَّعْمِيمِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا، فَجَعَلْنَا الْمُفَوَّضَ إِلَيْهَا بَعْضَ الثَّلَاثِ، لَكِنَّ بَعْضًا لَهُ عُمُومٌ وَهُوَ ثِنْتَانِ، وَإِنَّمَا تُرِكَ التَّبْعِيضُ فِي النَّظِيرِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَهُوَ إِظْهَارُ السَّمَاحَةِ وَالْكَرَمِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ شِئْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِذَا شِئْتِ، فَهُمَا مَشِيئَتَانِ: إِحْدَاهُمَا عَلَى الْمَجْلِسِ، وَالثَّانِيَةُ مُطْلَقَةٌ مُعَلَّقَةٌ بِالْوَقْتِ، فَإِنْ قَامَتْ بَطَلَتَا، أَمَّا الْمُؤَقَّتَةُ فَلِتَوَقُّتِهَا بِالْمَجْلِسِ، وَأَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَلِتَعَلُّقِهَا بِهَا، وَإِنْ شَاءَتْ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] شِئْتِ، وَلَوْ قِيلَ لَهُ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ فَقَالَ: لَا وَنَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ، ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ وَقَالَ: هُوَ الصَّحِيحُ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: لَسْتَ لِي بِزَوْجٍ، فَقَالَ الزَّوْجُ: صَدَقْتِ وَنَوَى الطَّلَاقَ. وَكَذَا قَوْلُهُ: لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ، أَوْ مَا أَنْتِ لِي بِامْرَأَةٍ، أَوْ لَسْتُ لَكِ بِزَوْجٍ، أَوْ مَا أَنَا لَكِ بِزَوْجٍ وَنَوَى الطَّلَاقَ يَقَعُ، وَقَالَا: لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ إِخْبَارٌ كَذِبٌ فَلَا يَقَعُ وَإِنْ نَوَى. وَلَهُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ بِالْإِضْمَارِ تَقْدِيرُهُ: لَسْتِ لِي بِامْرَأَةٍ لِأَنِّي طَلَّقْتُكِ، وَإِذَا احْتَمَلَ ذَلِكَ وَنَوَاهُ صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَوْ قَالَ لَهُ آخَرُ: هَلِ امْرَأَتُكَ إِلَّا طَالِقٌ؟ فَقَالَ الزَّوْجُ: لَا، طَلُقَتْ، وَلَوْ قَالَ: نَعَمْ، لَا تَطْلُقُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: نَعَمْ مَعْنَاهُ نَعَمْ، امْرَأَتِي غَيْرُ طَالِقٍ، وَقَوْلُهُ: لَا، مَعْنَاهُ لَيْسَ امْرَأَتِي إِلَّا طَالِقٌ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: قُولِي أَنَا طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَقُولَ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْإِنْشَاءِ. وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ: قُلْ لِامْرَأَتِي إِنَّهَا طَالِقٌ طَلُقَتْ قَالَ أَوْ لَمْ يَقُلْ، لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْإِخْبَارِ وَأَنَّهُ يَسْتَدْعِي سَبْقَ الْمُخْبَرِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ لَهُ آخَرُ: إِنْ لَمْ تَقْضِ حَقِّي الْيَوْمَ فَامْرَأَتُكَ طَالِقٌ، قَالَ: نَعَمْ. وَأَرَادَ جَوَابَهُ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ، لِأَنَّ الْجَوَابَ يَسْتَدْعِي إِعَادَةَ السُّؤَالِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَعَم، امْرَأَتِي طَالِقٌ إِنْ لَمْ أَقْضِ حَقَّكَ. وَلَوْ قَالَ لَهَا: اعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي، وَقَالَ: نَوَيْتُ وَاحِدَةً صُدِّقَ دِيَانَةً وَيَقَعُ ثَلَاثًا فِي الْقَضَاءِ، وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ بِالثَّانِيَةِ الْعِدَّةَ صُدِّقَ قَضَاءً، وَلَوْ قَالَ: نَوَيْتُ بِالْأُولَى طَلَاقًا وَلَمْ أَنْوِ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ شَيْئًا فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّهُمَا فِي حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَتَتَعَيَّنُ لَهُ. وَمِنَ الْكِنَايَاتِ الْكِتَابَةُ، فَإِذَا كَتَبَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ لَوْحٍ أَوْ عَلَى حَائِطٍ أَوْ أَرْضٍ لَا يَقَعُ إِلَّا بِنِيَّةٍ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ حُرُوفٌ مَنْظُومَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَعَانٍ مَفْهُومَةٍ كَالْكَلَامِ، وَكُتُبُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَتْ مَقَامَ قَوْلِهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى وَجَبَ عَلَى كُلِّ ممنْ بَلَغَتْهُ، فَنَقُولُ: إِذَا كَتَبَ مَا لَا يَسْتَبِينُ أَوْ كَتَبَ فِي الْهَوَاءِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ مَا لَا يَسْتَبِينُ فِي الْكِتَابَةِ كَالْمَجْمَجَةِ وَالْكَلَامِ الْغَيْرِ الْمَفْهُومِ. وَإِذَا كَتَبَ مَا يَسْتَبِينُ فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبَةِ مِثْلَ أَنْ يَكْتُبَ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ. فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْكَلَامِ كَالْكِتَابَةِ مَعَ الصَّرِيحِ، وَإِنْ كَتَبَ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ وَالرِّسَالَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: يَا فُلَانَةُ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِذَا وَصَلَ إِلَيْكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ مَا نَوَى لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِيهِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ بِغَيْرِ تَعْلِيقٍ وَقَعَ لِلْحَالِ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ، وَإِنْ كَانَ مُعَلَّقًا بِأَنْ كَتَبَ: إِذَا جَاءَكِ كِتَابِي فَأَنْتِ طَالِقٌ لَا يَقَعُ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا، لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِشَرْطٍ فَلَا يَقَعُ قَبْلَهُ، كَمَا إِذَا عَلَّقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ، فَإِنْ وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى أَبِيهَا فَمَزَّقَهُ وَلَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهَا إِنْ كَانَ هُوَ الْمُتَصَرِّفَ فِي أُمُورِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ كَالْوُصُولِ إِلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْمُتَصَرِّفَ فِي أُمُورِهَا لَا يَقَعُ وَإِنْ أَخْبَرَهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وَأَلْفَاظُ الشَّرْطِ: " إِنْ " و" إِذَا " و" إِذَا مَا " و" مَتَى " و" مَتَى مَا " و" كُلُّ " و" كُلَّمَا "، فَإِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ وَقَعَ عَقِيبَهُ وَانْحَلَّتِ الْيَمِينُ وَانْتَهَتْ إِلَّا فِي " كُلَّمَا "، وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مَالِكًا كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: إِنْ كَلَّمْتَ زَيْدًا فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ يُضِيفُهُ إِلَى مِلْكٍ كَقَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ أَوْ كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ. وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُ الْيَمِينَ، فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي مِلْكٍ انْحَلَّتْ وَوَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ انْحَلَّتْ وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الشَّرْطِ فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ وَالْبَيِّنَةُ لِلْمَرْأَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] مَا لَمْ يَدْفَعْهُ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ. [تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ] قَالَ: (وَأَلْفَاظُ الشَّرْطِ: " إِن " و" إِذَا " و" إِذَا مَا " و" مَتَى " و" مَتَى مَا " و" كُلُّ " و" كُلَّمَا ") لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ وَضْعًا. أَمَّا (إِنْ) فَشَرْطٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْوَقْتِ وَمَا وَرَاءَهَا فِيهَا مَعْنَى الْوَقْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَكَلِمَةُ (كُلُّ) لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَنَّهَا يَلِيهَا الِاسْمُ، وَالشَّرْطُ مَا يَلِيهِ الْفِعْلُ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَزَاءُ وَهُوَ فِعْلٌ، إِلَّا أَنَّهُ لِتَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ الَّذِي يَلِيهَا أُلْحِقَ بِالشَّرْطِ، مِثْلَ قَوْلِهِ: كُلُّ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ. قَالَ: (فَإِذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ وَقَعَ عَقِيبَهُ وَانْحَلَّتِ الْيَمِينُ وَانْتَهَتْ) لِأَنَّ الْفِعْلَ إِذَا وُجِدَ ثُمَّ الشَّرْطُ فَلَا تَبْقَى الْيَمِينُ (إِلَّا فِي كُلَّمَا) فَإِنَّهَا لِعُمُومِ الْأَفْعَالِ، قَالَ تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} [النساء: 56] الْآيَةَ، وَإِذَا كَانَتْ لِلْعُمُومِ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ ضَرُورَةً حَتَّى تَقَعَ الثَّلَاثُ الْمَمْلُوكَاتُ فِي النِّكَاحِ الْقَائِمِ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آَخَرَ وَوُجِدَ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ خِلَافًا لَزُفَرَ لِمُقْتَضَى الْعُمُومِ. وَلَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا عَلَّقَ مَا يَمْلِكُهُ مِنَ الطَّلْقَاتِ، وَقَدِ انْتَهَى ذَلِكَ وَهُوَ الْجَزَاءُ فَتَنْتَهِي الْيَمِينُ ضَرُورَةً. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيقُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مَالِكًا كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ يَقُولُ لِعَبْدِهِ: إِنْ كَلَّمْتَ زَيْدًا فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ يُضِيفُهُ إِلَى مِلْكٍ كَقَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ: إِنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ ظَاهِرًا لِيَكُونَ مَخُوفًا لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْقُوَّةُ عَلَى الْمَنْعِ أَوِ الْحَمْلِ، وَلَا ظُهُورَ لَهُ إِلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ. قَالَ: (وَزَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُ الْيَمِينَ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ، (فَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ فِي مِلْكٍ انْحَلَّتْ) الْيَمِينُ (وَوَقَعَ الطَّلَاقُ) ، لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجِدَ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْجَزَاءِ فَيَنْزِلُ وَيَنْتَهِي الْيَمِينُ لِمَا مَرَّ. (وَإِنْ وُجِدَ فِي غَيْرِ مِلْكٍ انْحَلَّتْ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ (وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحِلِّ، وَفِي (كُلَّمَا) لَا تَنْحَلُّ الْيَمِينُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ حَتَّى يَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، (وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي وُجُودِ الشَّرْطِ فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَمُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعَدَمُ، (وَالْبَيِّنَةُ لِلْمَرْأَةِ) لِأَنَّهَا مُدَّعِيَةٌ مُثْبِتَةٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وَمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا، كَقَوْلِهِ: إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةٌ، فَقَالَتْ حِضْتُ طَلُقَتْ هِيَ خَاصَّةً، وَكَذَا التَّعْلِيقُ بِمَحَبَّتِهَا، وَلَوْ قَالَ: إِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَكِ اللَّهُ بِنَارِ جَهَنَّمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَعَبْدِي حُرٌّ، فَقَالَتْ أُحِبُّ طَلُقَتْ وَلَمْ يَعْتِقِ الْعَبْدُ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ وَلَدْتِ جَارِيَةً فَثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْهُمَا وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَوَّلًا طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَفِي التَّنَزُّهِ ثِنْتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ جَامَعْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَأَوْلَجَهُ وَلَبِثَ سَاعَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَزَعَهُ ثُمَّ أَوْلَجَهُ فَعَلَيْهِ مَهْرٌ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا تَحْصُلُ الْمُرَاجَعَةُ بِالْإِيلَاجِ الثَّانِي.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَمَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا، كَقَوْلِهِ: إِنْ حِضْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةٌ، فَقَالَتْ حِضْتُ طَلُقَتْ هِيَ خَاصَّةً) ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تُطَلَّقَ لِأَنَّهُ شَرْطٌ كَغَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ وَلَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَتِهَا، وَقَدِ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ قَوْلَهَا فِي ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ وَالْوَطْءِ، فَكَذَا هَذَا إِلَّا أَنَّهُ فِي حَقِّ ضَرَّتِهَا شَهَادَةٌ وَهِيَ مُتَّهَمَةٌ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَحْدَهَا. قَالَ: (وَكَذَا التَّعْلِيقُ بِمَحَبَّتِهَا) وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كُنْتِ تُحِبِّينِي فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةٌ، فَقَالَتْ أُحِبُّكَ طَلُقَتْ وَحْدَهَا. (وَلَوْ قَالَ: إِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أَنْ يُعَذِّبَكِ اللَّهُ بِنَارِ جَهَنَّمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ، فَقَالَتْ أُحِبُّ طَلُقَتْ وَلَمْ يَعْتِقِ الْعَبْدُ) لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا يُتَيَقَّنُ كَذِبُهَا لِأَنَّهَا قَدْ تُؤْثِرُ الْعَذَابَ عَلَى صُحْبَتِهِ لِبُغْضِهَا إِيَّاهُ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ كُنْتِ تُحِبِّينِي بِقَلْبِكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَالَتْ أُحِبُّكَ وَهِيَ كَاذِبَةٌ طَلُقَتْ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا تُطَلَّقُ لِأَنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا عُلِّقَتْ بِالْقَلْبِ يُرَادُ بِهَا حَقِيقَةُ الْحُبِّ وَلَمْ يُوجَدْ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمَحَبَّةَ فِعْلُ الْقَلْبِ فَيَلْغُو ذِكْرُ الْقَلْبِ فَصَارَ كَمَا إِذَا أَطْلَقَ، وَلَوْ أَطْلَقَ تَعَلَّقَ بِالْإِخْبَارِ عَنِ الْمَحَبَّةِ كَذَا هَذَا. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: إِنْ وَلَدْتِ غُلَامًا، فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ وَلَدْتِ جَارِيَةً فَثِنْتَيْنِ فَوَلَدَتْهُمَا وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَوَّلًا طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَفِي التَّنَزُّهِ ثِنْتَيْنِ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مُتَيَقَّنَةٌ وَفِي الثَّانِيَةِ شَكٌّ فَلَا يَقَعُ فِي الْقَضَاءِ، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَأْخُذَ بِوُقُوعِ الثِّنْتَيْنِ وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِيَقِينٍ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَانْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِالثَّانِي. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ جَامَعْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَأَوْلَجَهُ وَلَبِثَ سَاعَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ نَزَعَهُ ثُمَّ أَوْلَجَهُ فَعَلَيْهِ مَهْرٌ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا تَحْصُلُ الْمُرَاجَعَةُ بِالْإِيلَاجِ الثَّانِي) ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَجِبُ الْمَهْرُ بِاللُّبْثِ فِي الثَّلَاثِ وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِهِ فِي الْوَاحِدَةِ لِوُجُودِ الْجِمَاعِ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِلِاتِّحَادِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْجِمَاعَ إِدْخَالُ الْفَرْجِ وَلَا دَوَامَ لِلْإِدْخَالِ. أَمَّا إِذَا أَخْرَجَ ثُمَّ أَدْخَلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ، أَوْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ إِنْ وَصَلَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا ثِنْتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ وَبَطُلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إِلَّا أَرْبَعًا وَقَعَ ثَلَاثٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَقَدْ وُجِدَ الْإِدْخَالُ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ لِشُبْهَةِ الِاتِّحَادِ مِنْ حَيْثُ الْمَجْلِسِ وَالْمَقْصُودِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ يَجِبُ الْعَقْرُ، لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا. [فصل الطَّلَاقُ بِالْمَشِيئَةِ] ِ] (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ، أَوْ مَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ، أَوْ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ إِنْ وَصَلَ) ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِهِ لَا حِنْثَ عَلَيْهِ» وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ لَا يُعْلَمُ وَجُودُهُ فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، إِذِ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَهُ، وَكَذَا إِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا تُعْلَمُ مَشِيئَتُهُ مِنَ الْخَلْقِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالشَّيْطَانِ وَالْجِنِّ، وَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ إِذَا سَكَتَ ثَبَتَ حُكْمُ الْأَوَّلِ، فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ أَوِ التَّعْلِيقُ بَعْدَهُ رُجُوعًا عَنْهُ فَلَا يُقْبَلُ، وَلَوْ سَكَتَ قَدْرَ مَا تَنَفَّسَ أَوْ عَطَسَ أَوْ تَجَشَّأَ أَوْ كَانَ بِلِسَانِهِ ثِقَلٌ فَطَالَ تَرَدُّدُهُ ثُمَّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِنْ تَنَفَّسَ بِاخْتِيَارِهِ بَطَلَ، وَلَوْ حَرَّكَ لِسَانَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ صَحَّ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا. وَقَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ: لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا يَقَعُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ فَجَرَى لِسَانُهُ أَوْ غَيْرُ طَالِقٍ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، وَثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ ثَلَاثًا وَوَاحِدَةً إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَقَالَا: هُوَ صَحِيحٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَحُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِآخِرِهِ وَأَنَّهُ مُتَّصِلٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً أَوْ حُرٌّ لَغْوٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَكَانَ قَاطِعًا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَحَّ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ لَغْوٌ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً طَلُقَتْ ثِنْتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا ثِنْتَيْنِ طَلُقَتْ وَاحِدَةً) وَأَصْلُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا لِأَنَّهُ بَيَانُ أَنَّهُ أَرَادَ بِمَا تَكَلَّمَ مَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى. (وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنَ الْكُلِّ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا وَقَعَ الثَّلَاثُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا إِلَّا أَرْبَعًا وَقَعَ ثَلَاثٌ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً بَطَلَ الْاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرَةً إِلَّا تِسْعَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا ثَمَانِيَةً فَثِنْتَانِ. وَمَنْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ وَرِثَتْهُ إِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ تَرِثْ.   [الاختيار لتعليل المختار] عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ) لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْكُلَّ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَشْرَةً إِلَّا تِسْعَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا ثَمَانِيَةً فَثِنْتَانِ) وَأَصْلُهُ أَنَّهُ إِذَا أَوْقَعَ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلَاثِ ثُمَّ اسْتَثْنَى وَالْكَلَامُ كُلُّهُ صَحِيحٌ فَالِاسْتِثْنَاءُ عَامِلٌ فِي جُمْلَةِ الْكَلَامِ وَلَا يَكُونُ مُسْتَثْنِيًا مِنْ جُمْلَةِ الثَّلَاثِ الَّتِي يَصِحُّ وُقُوعُهَا، فَيَقَعُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ، وَيَقَعُ مَا بَقِيَ إِنْ كَانَ ثَلَاثًا أَوْ أَقَلَّ، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَتْبَعُ اللَّفْظَ وَلَا يَتْبَعُ الْحُكْمَ. وَالْجُمْلَةُ الْمُتَلَفَّظُ بِهَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَدْخُلُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهَا فَيُسْقِطُ مَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَتَقَعُ بَقِيَّةُ الْجُمْلَةِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ اسْتِثْنَاءٍ مِمَّا يَلِيهِ، فَإِذَا اسْتَثْنَيْتَ الْوَاحِدَةَ مِنَ الثَّلَاثَةِ بَقِيَتْ ثِنْتَانِ، وَإِذَا اسْتَثْنَيْتَهُمَا مِنَ الثَّلَاثِ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ، فَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا إِلَّا اثْنَتَيْنِ إِلَّا وَاحِدَةً تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْوَاحِدَةَ مِنَ الثِّنْتَيْنِ فَتَبْقَى وَاحِدَةٌ فَيَسْتَثْنِيهَا مِنَ الثَّلَاثِ يَبْقَى ثِنْتَانِ يَسْتَثْنِيهِمَا مِنَ الثَّلَاثِ تَبْقَى وَاحِدَةٌ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: عَشْرَةٌ إِلَّا تِسْعَةً إِلَّا ثَمَانِيَةً إِلَّا سَبْعَةً تَقَعُ ثِنْتَانِ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى السَّبْعَةَ مِنَ الثَّمَانِيَةِ تَبْقَى وَاحِدَةٌ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الْوَاحِدَةَ مِنَ التِّسْعَةِ تَبْقَى ثَمَانِيَةٌ، ثُمَّ اسْتَثْنَى الثَّمَانِيَةَ مِنَ الْعَشْرَةِ تَبْقَى ثِنْتَانِ، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ هَذَا النَّوْعِ، وَتَقْرِيبُهُ أَنْ تَعْقِدَ الْعَدَدَ الْأَوَّلَ بِيَمِينِكَ وَالثَّانِيَ بِيَسَارِكَ وَالثَّالِثَ بِيَمِينِكَ وَالرَّابِعَ بِيَسَارِكَ، ثُمَّ أَسْقِطْ مَا اجْتَمَعَ فِي يَسَارِكَ مِمَّا اجْتَمَعَ بِيَمِينِكَ فَمَا بَقِيَ فَهُوَ الْمُوقَعُ. [فصل أبان امرأته في مرضه ثم مات] فَصْلٌ (وَمَنْ أَبَانَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثُمَّ مَاتَ وَرِثَتْهُ إِنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ، وَإِنِ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا لَمْ تَرِثْ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 وَإِنْ أَبَانَهَا بِأَمْرِهَا، أَوْ جَاءَتِ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ تَرِثْ كَالْمُخَيَّرَةِ، وَالْمُخَيَّرَةُ بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ، وَلَوْ فَعَلَتْ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخِيَارَاتِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ وَرِثَهَا إِذَا مَاتَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ، وَمَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ الَذِي أَضْنَاهُ وَأَعْجَزَهُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ، فَأَمَّا مَنْ يَجِيءُ وَيَذْهَبُ بِحَوَائِجِهِ وَيُحَمُّ فَلَا، وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِفِعْلِهِ وَفَعَلَهُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ فِي الْمَرَضِ مِثْلُ قَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ   [الاختيار لتعليل المختار] وَأَصْلُهُ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ سَبَبٌ يُفْضِي إِلَى الْإِرْثِ غَالِبًا، فَإِبْطَالُهُ يَكُونُ ضَرَرًا بِصَاحِبِهِ، فَوَجَبَ رَدُّهُ دَفْعًا لِهَذَا الضَّرَرِ فِي حَقِّ الْإِرْثِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَتَعَذَّرَ إِبْقَاءُ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ وَلَا حُكْمٌ. قَالَ: (وَإِنْ أَبَانَهَا بِأَمْرِهَا، أَوْ جَاءَتِ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا فِي مَرَضِهِ لَمْ تَرْثِ كَالْمُخَيَّرَةِ، وَالْمُخَيَّرَةُ بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ) لِأَنَّا إِنَّمَا اعْتَبَرْنَا قِيَامَ الزَّوْجِيَّةِ مَعَ الْمُبْطِلِ نَظَرًا لَهَا، فَإِذَا رَضِيَتْ بِالْمُبْطِلِ لَمْ تَبْقَ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّظَرِ فَعَمِلَ الْمُبْطِلُ وَهُوَ الطَّلَاقُ عَمَلُهُ. (وَلَوْ فَعَلَتْ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخِيَارَاتِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ وَرِثَهَا إِذَا مَاتَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ) لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّهِ فَبَقَّيْنَا النِّكَاحَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ إِلَّا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهَا لِأَنَّهُ طَلَاقٌ وَهُوَ مُضَافٌ إِلَى الزَّوْجِ. (وَمَرَضُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي أَضْنَاهُ وَأَعْجَزَهُ عَنِ الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ، فَأَمَّا مَنْ يَجِيءُ وَيَذْهَبُ بِحَوَائِجِهِ وَيُحَمُّ فَلَا) وَقِيلَ: إِنْ أَمْكَنَهُ الْقِيَامُ بِحَوَائِجِهِ فِي الْبَيْتِ وَعَجَزَ عَنْهَا خَارِجَ الْبَيْتِ فَهُوَ مَرِيضٌ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا كَانَ مُضْنًى لَا يَقُومُ إِلَّا بِشِدَّةٍ وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ جَالِسًا فَهُوَ مَرِيضٌ، وَالْمَحْصُورُ وَالْوَاقِفُ فِي صَفِّ الْقِتَالِ وَالْمَحْبُوسُ لِلرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ وَرَاكِبُ السَّفِينَةِ وَالنَّازِلُ فِي مَسْبَعَةٍ يَخَافُ الْهَلَاكَ كَالصَّحِيحِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ السَّلَامَةُ، وَمَنْ قُدِّمَ لِلْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ أَوْ بَارَزَ رَجُلًا أَوِ انْكَسَرَتِ السَّفِينَةُ وَبَقِيَ عَلَى لَوْحٍ أَوْ وَقَعَ فِي فَمِ سَبْعٍ كَالْمَرِيضِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ. أَمَّا الْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ كَالصَّحِيحِ، وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِمَّنْ لَا يَرِثُ الْآخَرَ كَالْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ مَعَ الْحُرَّةِ، وَالْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ مَعَ الْمُسْلِمِ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِهِ ثُمَّ صَارَ فِي حَالٍ يَتَوَارَثَانِ لَوْ لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ لَا تَرِثُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهَا بِمَالِهِ حَالَةَ الطَّلَاقِ فَلَمْ يَكُنْ فَارًّا فَلَا يُتَّهَمُ. (وَلَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِفِعْلِهِ وَفَعَلَهُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ) سَوَاءٌ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إِضْرَارَهَا حَيْثُ بَاشَرَ شَرْطَ الْحِنْثِ فِي الْمَرَضِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لَهُ بُدٌّ مِنَ الْفِعْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، أَمَّا إِذَا كَانَ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فَلِأَنَّ لَهُ بُدًّا مِنَ التَّعْلِيقِ فَكَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ. (وَإِنْ عَلَّقَهُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أَوْ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ فِي الْمَرَضِ مِثْلَ قَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ أَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ لَمْ تَرِثْ (ز) ، وَإِنْ عَلَّقَهُ بِفِعْلِهَا وَلَهَا مِنْهُ بُدٌّ لَمْ تَرِثْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَالصَّلَاةِ وَكَلَامِ الْأَقَارِبِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ وَاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَرِثَتْ (م) .   [الاختيار لتعليل المختار] فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ دَخَلَ فُلَانٌ الدَّارَ أَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ وَرِثَتْ) لِأَنَّهُ قَصَدَ إِضْرَارَهَا بِمُبَاشَرَةِ التَّعْلِيقِ فِي الْمَرَضِ حَالَ تَعَلُّقِ حَقِّهَا بِمَالِهِ. (وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ وَالشَّرْطُ فِي الْمَرَضِ لَمْ تَرِثْ) خِلَافًا لِزُفَرَ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ الشَّرْطِ فَصَارَ كَالْمُنَجَّزِ فِي الْمَرَضِ. وَلَنَا أَنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ حُكْمًا لَا قَصْدًا وَلَا ظُلْمًا إِلَّا عِنْدَ الْقَصْدِ. (وَإِنْ عَلَّقَهُ بِفِعْلِهَا وَلَهَا مِنْهُ بُدٌّ لَمْ تَرِثْ عَلَى كُلِّ حَالٍ) لِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْهُ بُدٌّ كَالصَّلَاةِ وَكَلَامِ الْأَقَارِبِ وَأَكْلِ الطَّعَامِ وَاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَرِثَتْ) ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا كَانَ التَّعْلِيقُ فِي الصِّحَّةِ لَا تَرِثُ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي إِبْطَالِ الشَّرْطِ فَلَمْ يَقْصِدْ إِبْطَالَ حَقِّهَا. وَلَهُمَا أَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إِلَى الْمُبَاشَرَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِتَرْكِهَا مِنَ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ وَالضَّرَرِ فِي الدُّنْيَا، وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَلْجَأَهَا إِلَى الْمُبَاشَرَةِ فَيَنْتَقِلُ فِعْلُهَا إِلَيْهِ وَتَصِيرُ كَالْآلَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَرَضُ الْمَوْتِ إِذَا مَاتَ مِنْهُ، أَمَّا لَوْ بَرِئَ ثُمَّ مَاتَ انْقَطَعَ حُكْمُ الْمَرَضِ الْأَوَّلِ. 1 - فَصْلٌ فِي طَلَاقِ الْمَجْهُولَةِ أَصْلُهُ أَنَّ إِضَافَةَ الطَّلَاقِ إِلَى مَجْهُولَةٍ لَيْسَ إِلَّا تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ فِي الْمُعَيَّنَةِ بِالْبَيَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَى مَجْهُولَةٍ وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ بِالْبَيَانِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَكَانَ لِلْبَيَانِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنَةِ، وَالْإِنْشَاءُ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِمِلْكِ الْمَحَلِّ، فَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ طَلُقَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي مُعَيَّنَةٍ مِنْهُمَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ» الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ مَعَ الْخَطَأِ أُجْرَيَا مَجْرًى وَاحِدًا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَمْنَعَانِ الْبَيْعَ، ثُمَّ الطَّلَاقُ يَقَعُ مَعَ الْحَظْرِ فَكَذَا مَعَ الْجَهَالَةِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَ ضَعْفِهِ يَصِحُّ مَعَ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْجَهَالَةِ حَتَّى جَازَ بَيْعُ قَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ فَلَأَنْ يَصِحَّ الطَّلَاقُ مَعَهُ أَوْلَى، وَلِلنِّسَاءِ أَنْ يُخَاصِمْنَهُ وَيَسْتَعْدِينَ عَلَيْهِ إِلَى الْقَاضِي حَتَّى يُبَيِّنَ إِذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَقًّا فِي اسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ، أَوِ التَّوَصُّلِ إِلَى التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَكَانَ عَلَى الزَّوْجِ الْبَيَانُ. وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ كَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ عَلَى مُعَيَّنَةٍ لِتَحْصُلَ الْفَائِدَةُ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ حِينِ بَيَّنَ لِمَا تَقَدَّمَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى مَاتَتْ إِحْدَاهُمَا طُلِّقَتِ الْبَاقِيَةُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الطَّلَاقَ غَيْرُهَا. وَإِنْ قَالَ: أَرْدَتُ الْمَيِّتَةَ لَمْ يَرِثْهَا وَطُلِّقَتِ الْبَاقِيَةُ، فَيُصَدَّقُ فِي الْمَيِّتَةِ عَلَى نَفْسِهِ فِي إِسْقَاطِ إِرْثِهِ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْبَاقِيَةِ فِي صَرْفِ الطَّلَاقِ عَنْهَا، فَإِنْ مَاتَتَا وَاحِدَةٌ بَعْدَ الْأُخْرَى فَقَالَ: أَرَدْتُ الْأُولَى، لَمْ يَرِثْ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ سَقَطَ مِنَ الثَّانِيَةِ بِطَرِيقِ الْحُكْمِ وَمِنَ الْأُولَى بِاعْتِرَافِهِ، وَلَوْ مَاتَتَا مَعًا وَرِثَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مِيرَاثٍ، فَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ إِحْدَاهُمَا سَقَطَ حَقُّهُ مِنْ مِيرَاثِهَا وَيَرِثُ مِنَ الْأُخْرَى نِصْفَ مِيرَاثِهَا لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي زِيَادَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ جَامَعَ إِحْدَاهُمَا تَعَيَّنَتِ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْجِمَاعَ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَطَأَ الْمُطَلَّقَةَ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَهَا أَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِهَا أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مِنْ خَوَاصِّ الزَّوْجِيَّةِ فَصَارَتْ كَالْجِمَاعِ، وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا وَعَنَى بِهِ الْبَيَانَ صُدِّقَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْبَيَانَ تَعَيَّنَتِ الْأُخْرَى لِلطَّلَاقِ الْأَوَّلِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً لَمْ يَكُنْ وَطْءُ إِحْدَاهُمَا بَيَانًا لِلْأُخْرَى، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ الْبَيَانِ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا الرُّبُعُ أَوِ الثُّمُنُ، لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا زَوْجَةٌ قَطْعًا وَلَيْسَتْ إِحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنَ الْأُخْرَى. وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ ثَلَاثًا ثُمَّ اشْتَبَهَتْ وَأَنْكَرَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُطَلَّقَةَ لَا يَقْرُبُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ لِأَنَّهُ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ إِحْدَاهُنَّ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ. وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: كُلُّ مَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهِ وَالْفُرُوجُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِذَا اخْتَلَطَتِ الْمَيِّتَةُ بِالْمَذْبُوحَةِ إِنَّهُ يَتَحَرَّى لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ تُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَإِنِ اسْتَعْدَيْنَ عَلَيْهِ إِلَى الْحَاكِمِ فِي النَّفَقَةِ وَالْجِمَاعِ أَعْدَى عَلَيْهِ وَحَبَسَهُ حَتَّى يُبَيِّنَ الَّتِي طَلَّقَ مِنْهُنَّ، وَيُلْزِمُهُ نَفَقَتَهُنَّ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ، فَكَانَ عَلَى الْحَاكِمِ إِلْزَامُهُ إِيفَاءً لِلْحَقِّ، وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِنَفَقَتِهِنَّ لِأَنَّهَا تَجِبُ لِلْمُعْتَدَّةِ وَلِلزَّوْجَةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُطَلِّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ طَلْقَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا تَزَوَّجْنَ بِغَيْرِهِ جَازَ لَهُ التَّزَوُّجُ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ يَتَزَوَّجْنَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ بِوَاحِدَةٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِالثَّلَاثِ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ وَتَعَيَّنَتِ الرَّابِعَةُ لِلطَّلَاقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْكُلِّ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بِزَوْجٍ آخَرَ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِزَوْجٍ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ الْكُلَّ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُ الْكُلِّ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُتَزَوَّجَةِ إِنَّمَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا حَيْثُ أَقْدَمَتْ عَلَى النِّكَاحِ لِلتَّحْلِيلِ، وَلَوِ ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا يَحْلِفُ الزَّوْجُ فَإِنْ نَكَلَ وَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ الثَّلَاثُ، لِأَنَّهُ بِالنُّكُولِ صَارَ بَاذِلًا أَوْ مُقِرًّا لَهَا بِالثَّلَاثِ، وَإِنْ حَلَفَ لَهُنَّ فَالْحُكْمُ كَمَا قُلْنَا قَبْلَ الْيَمِينِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إِذَا حَلَفَ لِإِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ طُلِّقَتِ الْأُخْرَى، وَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لِلْأُولَى طُلِّقَتْ. وَإِنْ تَشَاحَّا عَلَى الْيَمِينِ حَلَفَ لَهُمَا بِاللَّهِ مَا طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا، فَإِنْ حَلَفَ فَالْأَمْرُ عَلَى مَا كَانَ، وَإِنْ نَكَلَ طُلِّقَتَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِنْ وَطِئَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 بَابُ الرَّجْعَةِ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ، وَلِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِقَوْلِهِ: رَاجَعْتُكِ، وَرَجَعْتُكِ، وَرَدَدْتُكِ وَأَمْسَكْتُكِ، وَبِكُلِّ فِعْلٍ تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] إِحْدَاهُمَا فَالَّتِي لَمْ يَطَأْهَا مُطَلَّقَةٌ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصَّلَاحِ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْهَا حَرَامًا. [بَابُ الرَّجْعَةِ] وَهِيَ مَصْدَرُ رَجَعَهُ يُرْجِعُهُ رَجْعًا وَرَجْعَةً: إِذَا أَعَادَهُ وَرَدَّهُ، يُقَالُ: رَجَعْتُ الْأَمْرَ إِلَى أَوَائِلِهِ: إِذَا رَدَدْتَهُ إِلَى ابْتِدَائِهِ. قَالَ: عَسَى الْأَيَّامُ أَنْ يُرْجِعْ ... نَ قَوْمًا كَالَّذِي كَانُوا وَفِي الشَّرْعِ: رَدُّ الزَّوْجَةِ إِلَى زَوْجِهَا وَإِعَادَتُهَا إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا. قَالَ: (الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ) وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَ الْحُرَّةَ وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وَالْبَعْلُ هُنَا الزَّوْجُ، وَلَا زَوْجَ إِلَّا بِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَقِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ حَلَّ الْوَطْءِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلزَّوْجِ حَقَّ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا، وَالْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَمْلِكُ رَدَّ الْمَنْكُوحَةِ إِلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ، فَلَا يَكُونُ النِّكَاحُ زَائِدًا مَا دَامَتِ الْعِدَّةُ بَاقِيَةً فَيَحِلُّ الْوَطْءُ. قَالَ: (وَلِلزَّوْجِ مُرَاجَعَتُهَا فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا) لِمَا تَلَوْنَا وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] أَيْ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ قَبْلَهُ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] وَالْمُرَادُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ، ثُمَّ قَالَ: {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعُمَرَ: «مُرِ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا» . قَالَ: (وَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِقَوْلِهِ: رَاجَعْتُكِ، وَرَجَعْتُكِ، وَرَدَدْتُكِ، وَأَمْسَكْتُكِ) لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ. قَالَ: (وَبِكُلِّ فِعْلٍ تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ، وَالْإِمْسَاكُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْقَوْلِ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ وَاسْتِبْقَاؤُهُ، وَهَذِهِ الْأَفْعَالُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَتِ الرَّجْعَةُ بِابْتِدَاءِ نِكَاحٍ عَلَى مَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَلَا يَجِبُ فِيهَا مَهْرٌ وَلَا عِوَضٌ، لِأَنَّ الْعِوَضَ إِنَّمَا يَجِبُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْبُضْعِ، وَالْبُضْعُ فِي مِلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ نِكَاحًا مُبْتَدَأً لَوَجَبَ، وَالْخَلْوَةُ لَيْسَتْ بِرَجْعَةٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَا يَدُلُّ عَلَى الرَّجْعَةِ لَا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا. وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ اسْتِدْرَاكٌ فَلَا يَصِحُّ بِالتَّعْلِيقِ كَإِسْقَاطِ الْخِيَارِ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْتِ أَوْ أَنْتِ امْرَأَتِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ، فَإِنْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ: كُنْتُ رَاجَعْتُكِ فِي الْعِدَّةِ فَصَدَّقَتْهُ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لَمْ تَصِحَّ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا (سم) وَإِنْ قَالَ لَهَا: رَاجَعْتُكِ، فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ: انْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا رَجْعَةَ (سم) ، وَإِذَا قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ: رَاجَعْتُهَا فِي الْعِدَّةِ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى (سم) ، وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ أَوْ بِالْعَكْسِ فَلَا رَجْعَةَ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَنَوَى الرَّجْعَةَ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا بِالرَّجْعَةِ لِتَتَخَلَّصَ مِنْ قَيْدِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهَا جَازَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَدَّةِ الْخُرُوجُ مِنْ مَنْزِلِهَا، فَإِذَا رَاجَعَهَا لَمْ تَبْقَ مُعْتَدَّةً فَيَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ) لِأَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى الرَّجْعَةِ خَالِيَةٌ عَنْ قَيْدِ الشَّهَادَةِ، وَلِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ حَالَةَ الِاسْتِدَامَةِ، وَإِنَّمَا اسْتَحْبَبْنَاهُ تَحَرُّزًا عَنِ التَّجَاحُدِ، وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْله تَعَالَى عَقِيبَ ذِكْرِ الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وَهَكَذَا هُوَ مَحْمُولٌ فِي الطَّلَاقِ أَيْضًا تَوْفِيقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى جَوَازِ الرَّجْعَةِ وَوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْخَالِيَةِ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ. (فَإِنْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ: كُنْتُ رَاجَعْتُكِ فِي الْعِدَّةِ فَصَدَّقَتْهُ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لَمْ تَصِحَّ) لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ كَذَّبَتْهُ فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَإِذَا صَدَّقَتْهُ ارْتَفَعَتِ التُّهْمَةُ، (وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ فِي الدَّعْوَى بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَإِنْ قَالَ لَهَا: رَاجَعْتُكِ، فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ: انْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا رَجْعَةَ) ، وَقَالَا: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا، فَلَمَّا قَالَ: رَاجَعْتُكِ صَحَّتِ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاءُ الْعِدَّةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ، فَقَالَتْ قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَعَ الطَّلَاقُ فَصَارَ كَمَا إِذَا سَكَتَتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَالظَّاهِرُ تَقَدُّمُ انْقِطَاعِ الدَّمِ عَلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِلَفْظِ الْمَاضِي، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا صَادِقَةٌ، وَأَقْرَبُ أَوْقَاتِ الْمَاضِي وَقْتُ قَوْلِهِ، وَمَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَئِنْ سَلَمَتْ فَنَقُولُ: الطَّلَاقُ يَقَعُ بِنَاءً عَلَى إِقْرَارِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حُكِمَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَكَتَتْ سَاعَةً لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الرَّجْعَةَ بِسُكُوتِهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ: (وَإِذَا قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ: رَاجَعْتُهَا فِي الْعِدَّةِ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ أَوْ بِالْعَكْسِ فَلَا رَجْعَةَ) ، وَقَالَا: إِذَا صَدَّقَهُ الْمَوْلَى صَحَّتِ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ فَصَارَ كَمَا إِذَا أَقَرَّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي الْعِدَّةِ وَالرَّجْعَةُ تَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَأَمَّا إِذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى وَصَدَّقَتْهُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ، وَالْفَرْقُ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْعِدَّةَ مُنْقَضِيَةٌ فِي الْحَالِ وَصَارَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلْمَوْلَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ، وَإِنِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَطِعْ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أَوْ تَتَيَمَّمَ وَتُصَلِّيَ (م ز) ، وَفِي الْكِتَابِيَّةِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ، فَإِنِ اغْتَسَلَتْ وَنَسِيَتْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ، وَإِنْ كَانَ عُضْوًا لَمْ تَنْقَطِعْ، وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ وَقَالَ: لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَلَا تَمْلِكُ إِبْطَالَهُ. قَالَ: (وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ) لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، (وَإِنِ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَطِعْ حَتَّى تَغْتَسِلَ، أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ أَوْ تَتَيَمَّمَ وَتُصَلِّيَ) لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الدَّمِ فَلَا بُدَّ مِنْ دُخُولِهَا فِي حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ وَذَلِكَ بِالْغُسْلِ، أَوْ بِمُضِيِّ وَقْتِ صَلَاةٍ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُخَاطَبَةً بِهَا، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ، وَكَذَا إِذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَنْقَطِعَ بِمُجَرَّدِ التَّيَمُّمِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ كَالْغُسْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّيَمُّمَ إِنَّمَا اعْتُبِرَ طَهَارَةً ضَرُورَةً كَيْلَا تَتَضَاعَفَ عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتُ، أَمَّا إِنَّهُ مُطَهِّرٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا بَلْ هُوَ مُلَوِّثٌ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَتَحَقَّقُ إِذَا أَرَادَتِ الصَّلَاةَ لَا قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا كَذَلِكَ الْغُسْلُ، وَلَوْ تَيَمَّمَتْ وَقَرَأَتِ الْقُرْآنَ أَوْ مَسَّتِ الْمُصْحَفَ أَوْ دَخَلَتِ الْمَسْجِدَ. قَالَ: الْكَرْخِيُّ: انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ. وَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيِّ: لَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَلَوِ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ انْقَطَعَتْ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ. (وَفِي الْكِتَابِيَّةِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ بِمُجَرَّدِ انْقِطَاعِ الدَّمِ) لِأَنَّهُ لَا غُسْلَ عَلَيْهَا فَصَارَتْ كَالْمُسْلِمَةِ إِذَا اغْتَسَلَتْ. (فَإِنِ اغْتَسَلَتْ وَنَسِيَتْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتِ الرَّجْعَةُ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ) لِأَنَّهُ قَلِيلٌ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْجَفَافُ فَلَمْ نَتَيَقَّنْ بِعَدَمِ غَسْلِهِ، فَقُلْنَا بِانْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ وَعَدَمِ حِلِّ التَّزَوُّجِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ، (وَإِنْ كَانَ عُضْوًا لَمْ تَنْقَطِعْ) لِأَنَّهُ كَثِيرٌ لَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْجَفَافُ فَافْتَرَقَا، وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ كَالْعُضْوِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْحَدَثَ بَاقٍ فِي عُضْوٍ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي فَرْضِيَّتِهِمَا فَيَنْقَطِعُ حَقُّ الرَّجْعَةِ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ احْتِيَاطًا. قَالَ: (وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ، وَقَالَ: لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ) ، وَكَذَا إِذَا وَلَدَتْ مِنْهُ لِأَنَّ الْحَبَلَ وَالْوِلَادَةَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ حَبَلُهَا مِنْهُ يُجْعَلُ مِنْهُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ، وَإِذَا كَانَ مِنْهُ كَانَ وَاطِئًا، وَالطَّلَاقُ بَعْدَ الْوَطْءِ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ. (وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ) لِأَنَّ الرَّجْعَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ عَقِيبَ الطَّلَاقِ فِي مِلْكٍ مُتَأَكَّدٍ بِالْوَطْءِ، وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِ الْوَطْءِ فَيَثْبُتُ فِيمَا لَهُ وَالرَّجْعَةُ حَقُّهُ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وَإِذَا قَالَ لَهَا: إِذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ مِنْ بَطْنٍ أُخْرَى فَهِيَ رَجْعَةٌ، وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ وَيُسْتَحَبُّ لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا حَتَى يُؤْذِنَهَا، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُطَلَّقَتَهُ الْمُبَانَةَ بِدُونِ الثَّلَاثِ فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا، وَالْمُبَانَةُ بِالثَّلَاثِ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا، وَيَدْخُلُ بِهَا ثُمَّ تَبِينُ مِنْهُ، وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا بِوَطْءِ الْمَوْلَى. وَالشَّرْطُ هُوَ الْإِيلَاجُ دُونَ الْإِنْزَالِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِنَاءٌ عَلَى تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ لَا عَلَى قَبْضِهِ. قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لَهَا: إِذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ مِنْ بَطْنٍ أُخْرَى فَهِيَ رَجْعَةٌ) لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ، وَالْوَلَدُ الْآخَرُ يَكُونُ مِنْ عُلُوقٍ آخَرَ فِي الْعِدَّةِ حَمْلًا لِحَالِهِمَا عَلَى الصَّلَاحِ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالْوَطْءِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا. قَالَ: (وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ) لِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةُ وَالزِّينَةُ حَامِلَةٌ عَلَيْهَا فَتَجُوزُ. (وَيُسْتَحَبُّ لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا حَتَّى يُؤْذِنَهَا) إِذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الرَّجْعَةَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقَعَ نَظَرُهُ عَلَيْهَا وَهِيَ مُتَجَرِّدَةٌ فَتَحْصُلُ الرَّجْعَةُ، ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ. قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُطَلَّقَتَهُ الْمُبَانَةَ بِدُونِ الثَّلَاثِ فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَهَا) لِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ بَاقٍ إِذْ زَوَالُهُ بِالثَّالِثَةِ وَلَمْ تُوجَدْ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ فِي الْعِدَّةِ تَحَرُّزًا عَنِ اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ. (وَالْمُبَانَةُ بِالثَّلَاثِ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَيَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ تَبِينَ مِنْهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] يَعْنِي الثَّالِثَةَ، {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَالنِّكَاحُ الْمُطْلَقُ فِي الشَّرْعِ يَنْصَرِفُ إِلَى الصَّحِيحِ حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِهَا فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ: {حَتَّى تَنْكِحَ} [البقرة: 230] يَقْتَضِي الدُّخُولَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النِّكَاحَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْوَطْءُ، وَلِقَوْلِهِ (زَوْجًا) وَنِكَاحُ الزَّوْجِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْوَطْءِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتِيكٍ الْقُرَظِيِّ كَانَتْ تَحْتَ ابْنِ عَمِّهَا رِفَاعَةَ بْنِ وَهْبٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ، فَتَبَسَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ وَتَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» . وَسَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ إِحْرَامٍ لِحُصُولِ الدُّخُولِ. (وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَا بِوَطْءِ الْمَوْلَى) لِأَنَّ الشَّرْطَ نِكَاحُ زَوْجٍ غَيْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ، (وَالشَّرْطُ هُوَ الْإِيلَاجُ دُونَ الْإِنْزَالِ) لِحُصُولِ نِكَاحِ زَوْجٍ غَيْرِهِ، وَالْحَدِيثُ وَرَدَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 وَأَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ يُجَامِعُ مِثْلُهُ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ كَرِهَ (س) وَحَلَّتْ لِلْأَوَّلِ (سم) ، وَالزَّوْجُ الثَّانِي يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ (م ز) ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَالَتْ: قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَحَلَّلْتُ وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. بَابُ الْإِيلَاءِ   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى غَالِبِ الْحَالِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ فِي الْجِمَاعِ الْإِنْزَالُ أَوْ نَقُولُ الْكِتَابُ عَرِيَ عَنْ ذِكْرِ الْإِنْزَالِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَأَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ يُجَامِعُ مِثْلُهُ) سَوَاءٌ كَانَ مُرَاهِقًا أَوْ بَالِغًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِيلَاجُ، وَلَا يَجُوزُ صَغِيرٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِيلَاجِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ الْمُرَادِ مِنَ النِّكَاحِ. قَالَ: (فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ كُرِهَ وَحَلَّتْ لِلْأَوَّلِ) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ كَالْمُؤَقَّتِ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ لِفَسَادِهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ جَائِزٌ لِشُرُوطِ الْجَوَازِ وَلَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَجَّلَ مَا أَخَّرَهُ الشَّرْعُ فَيُعَاقَبُ بِالْمَنْعِ كَقَتْلِ الْمُوَرِّثِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ، وَمُرَادُهُ النِّكَاحُ بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ فَيُكْرَهُ لِلْحَدِيثِ، وَتَحِلُّ لِلثَّانِي لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَهُوَ الْمُثْبِتُ لِلْحِلِّ، أَوْ نَقُولُ وُجِدَ الدُّخُولُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ فَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بِقَصْدِ التَّحْلِيلِ وَلَمْ يَشْرُطْهُ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالطَّلْقَتَانِ فِي الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي الْحُرَّةِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَالزَّوْجُ الثَّانِي يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ) ، وَصُورَتُهُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً أَوْ طَلْقَتَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ عَادَتْ إِلَيْهِ بِثَلَاثِ طَلْقَاتٍ، وَهَدَمَ الزَّوْجُ الثَّانِي الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ كَمَا هَدَمَ الثَّلَاثَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ: تَعُودُ إِلَى الْأَوَّلِ بِمَا بَقِيَ مِنَ الثَّلَاثِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ إِنَّمَا يُثْبِتُ الْحِلَّ إِذَا انْتَهَى، وَالْحِلُّ لَمْ يَنْتَهِ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ بِالْعَقْدِ قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ مُثْبِتًا لَهُ. وَلَنَا أَنَّهُ وَطْءٌ مِنْ زَوْجٍ ثَانٍ فَرَفَعَ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالطَّلَاقِ كَمَا فِي الثَّلَاثِ. قَالَ: (وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَالَتْ: قَدِ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَحَلَّلْتُ وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا) لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَمْرًا دِينِيًّا فَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ مَقْبُولٌ كَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْقِبْلَةِ وَطَهَارَةِ الْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ مُعَامَلَةً فَقَوْلُ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَتَمَامُهُ يُعْرَفُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [بَابُ الْإِيلَاءِ] ِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: مُطْلَقُ الْيَمِينِ، قَالَ: قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلْيَةُ بَرَّتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، أَوْ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ، فَإِنْ قَرَبَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ حَنِثَ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَبَطَلَ الْإِيلَاءُ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا وَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَفِي الشَّرْعِ: الْيَمِينُ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ مُدَّةً مَخْصُوصَةً، وَقِيلَ الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ الْمُكْسِبِ لِلطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَالِاسْمُ الشَّرْعِيُّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ. وَأَلْفَاظُهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ مِثْلُ قَوْلِهِ: لَا أَقْرَبُكِ، لَا أُجَامِعُكِ، لَا أَطَؤُكِ، لَا أَغْتَسِلُ مِنْكِ مِنْ جَنَابَةٍ، لَا أَفْتَضُّكِ، إِنْ كَانَتْ بِكْرًا. وَالْكِنَايَةُ: لَا أَمَسُّكِ، لَا آتِيكِ، لَا أَدْخُلُ بِكِ، لَا أَغْشَاكِ، لَا يَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَكِ شَيْءٌ، لَا أَبِيتُ مَعَكِ عَلَى فِرَاشٍ، لَا أُضَاجِعُكِ، لَا أَقْرَبُ فِرَاشَكِ. وَنَحْوَهُ، وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ النِّيَّةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَمَسُّ جِلْدِي جِلْدَكِ. لَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى جِمَاعِهَا بِغَيْرِ مُمَاسَّةٍ بِأَنْ يَلُفَّ عَلَى ذَكَرِهِ حَرِيرَةً وَلِأَنَّهُ يَحْنَثُ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ، وَالْمُولِي مَنْ يَقِفُ حِنْثُهُ عَلَى الْجِمَاعِ خَاصَّةً. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُ امْرَأَتِهِ إِلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ إِنَّمَا تَنْتَهِي بِالْحِنْثِ، وَالْحِنْثُ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ أَوْ بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَلَا يَكُونُ الْإِيلَاءُ إِلَّا بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فَيَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ. قَالَ: (إِذَا قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ، أَوْ لَا أَقْرَبُكِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ) ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] الْآيَةَ، فَتَكُونُ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، إِذْ لَوْ كَانَتِ الْمُدَّةُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ فَائِدَةٌ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ قَرَبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ الْحَجُّ، أَوْ يَقُولُ: فَلِلَّهِ عَلِيَّ صَوْمُ كَذَا، أَوْ يَجْعَلُ الْجَزَاءَ صَدَقَةً، أَوْ عِتْقَ عَبْدٍ، أَوْ طَلَاقَهَا أَوْ طَلَاقَ غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْيَمِينَ مَوْجُودَةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْحَمْلُ أَوِ الْمَنْعُ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تُوجِبُ ذَلِكَ لِمَا تَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا إِلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ، وَإِذَا وُجِدَتِ الْيَمِينُ فَقَدْ وُجِدَ الْإِيلَاءُ فَدَخَلَ تَحْتَ النَّصِّ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ قَرَبْتُكِ فَعَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَغْزُوَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ مُولٍ لِأَنَّهُ يَصِحُّ إِيجَابُهَا بِالنَّذْرِ كَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ حَتَّى لَا يَحْلِفَ بِهَا عَادَةً فَصَارَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ. (فَإِنْ قَرَبَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ حَنِثَ) لِوُجُودِ شَرْطِهِ، (وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ) لِأَنَّ الْحِنْثَ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ، (وَبَطَلَ الْإِيلَاءُ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ تَنْحَلُّ بِالْحِنْثِ. (وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا وَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ) ، هَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَتَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] أَيْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ بِالْإِيلَاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَقَدِ انْحَلَّتْ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا عَادَ الْإِيلَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الَذِي بَيَّنَّا، فَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ حَنِثَ وَإِلَّا وَقَعَتْ أُخْرَى، فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا فَكَذَلِكَ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَلَا إِيلَاءَ، فَإِنْ وَطِئَ كَفَّرَ لِلْحِنْثِ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فِي الْحُرَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، وَمُدَّةُ إِيلَاءِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ، وَإِنْ آلَى مِنَ الْمُطَلَّقَةِ الرَجْعِيَّةِ فَهُوَ مُولٍ، وَمِنَ الْبَائِنَةِ لَا،   [الاختيار لتعليل المختار] السَّابِقِ وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: عَزْمُ الطَّلَاقِ انْقِضَاءُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ غَيْرِ فَيْءٍ. وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ - أَيْ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة: 226] ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] ، {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] وَهَذه الْفَاءُ لِلتَّقْسِيمِ، فَأَحَدُ الْقِسْمَيْنِ يَكُونُ فِي الْمُدَّةِ وَهُوَ الْفَيْءُ، وَالْآخَرُ بَعْدَهَا وَهُوَ الطَّلَاقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة: 231] ، ثُمَّ قَالَ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} [البقرة: 231] لَمَّا ذَكَرَ الْمُدَّةَ وَجَاءَ بِالْفَاءِ كَانَ لِلتَّقْسِيمِ، وَكَانَ الْإِمْسَاكُ وَهُوَ الرَّجْعَةُ، فِي الْمُدَّةِ وَالتَّسْرِيحُ وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ بَعْدَهَا فَكَذَلِكَ هُنَا. قَالَ: (فَإِنْ كَانَتِ الْيَمِينُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَقَدِ انْحَلَّتْ) لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ (وَإِنْ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً، فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا عَادَ الْإِيلَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا) لِبَقَاءِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْتَهِي إِلَّا بِالْحِنْثِ أَوْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقَعْ طَلَاقٌ آخَرُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُضَافَةٌ إِلَى الْبَيْنُونَةِ لَا إِلَى الْإِيلَاءِ، فَلَمْ يُوجَدِ الْمَنْعُ بِالْيَمِينِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا ارْتَفَعَتِ الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ بِالْبَيْنُونَةِ، وَبَقِيَتْ حُرْمَةُ الْإِيلَاءِ، فَوُجِدَ مَنْعُ الْحَقِّ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ. (فَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ حَنِثَ وَإِلَّا وَقَعَتْ أُخْرَى) لِمَا بَيَّنَّا (فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا فَكَذَلِكَ) لِمَا مَرَّ (فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آَخَرَ فَلَا إِيلَاءَ) مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ لِانْتِهَاءِ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ مِنَ الطَّلَاقِ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَقَدْ تَقَدَّمَ، إِلَّا أَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ لِعَدَمِ الْحِنْثِ (فَإِنْ وَطِئَ كَفَّرَ لِلْحِنْثِ) . قَالَ: (وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فِي الْحُرَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ) فَلَوْ آلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا يَكُونُ مُولِيًا، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لَا إِيلَاءَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلِمَا مَرَّ (وَمُدَّةُ إِيلَاءِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ) لِمَا عُرِفَ أَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ، وَأَنَّهَا مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِلْبَيْنُونَةِ فَتَتَنَصَّفُ كَالْعِدَّةِ، وَالْآيَةُ تَنَاوَلَتِ الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ، لِأَنَّ اسْمَ النِّسَاءِ وَالزَّوْجَاتِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَزْوَاجِ فِي الْإِمَاءِ نَاقِصٌ، لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا وَلَا يُبَوِّئَهَا بَيْتَ الزَّوْجِ، وَالِاسْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِلِ، فَإِنْ أعتقت فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ تَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَمَا فِي الْعِدَّةِ. قَالَ: (وَإِنْ آلَى مِنَ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ فَهُوَ مُولٍ، وَمِنَ الْبَائِنَةِ لَا) لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وَإِنْ قَالَ: لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ بَعْدَ شَهْرَيْنِ فَهُوَ مُولٍ، وَلَوْ قَالَ: لَا أَقْرَبُكِ سَنَةً إِلَّا يَوْمًا فَلَيْسَ بِمُولٍ (ز) .   [الاختيار لتعليل المختار] وَحِلِّ الْوَطْءِ فِي الْأُولَى عَلَى مَا بَيَّنَّا دُونَ الثَّانِيَةِ، فَكَانَتِ الْأُولَى مِنْ نِسَائِهِمْ دُونَ الثَّانِيَةِ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ، أَوْ زَوْجَتَهُ وَأَجْنَبِيَّةً لَا يَصِيرُ مُولِيًا مَا لَمْ يَقْرَبِ الْأَجْنَبِيَّةَ أَوْ أَمَتَهُ، فَإِذَا قَرَبَهَا صَارَ مُولِيًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْكَفَّارَةِ. وَلَوْ قَالَ لَهُمَا: لَا أَقْرَبُ إِحْدَاكُمَا لَا يَكُونُ مُولِيًا كَمَا إِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ: إِحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَإِنْ قَرَبَ إِحْدَاهُمَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ لِلْحِنْثِ. وَلَوْ قَالَ لَهُمَا: لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُمَا كَانَ مُولِيًا مِنِ امْرَأَتِهِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ فِي النَّفْيِ تَعُمُّ، وَلَوْ قَرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا حَنِثَ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ امْرَأَةِ فُلَانٍ، وَقَدْ كَانَ فُلَانٌ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ، فَإِنْ نَوَى الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ وَنَوَى الْيَمِينَ يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ، وَلَوْ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى: أَشْرَكْتُكِ فِي إِيلَاءِ هَذِهِ، لَا يَصِيرُ مُولِيًا، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ، لِأَنَّهُ لَوِ اشْتَرَكَا فِي الْإِيلَاءِ يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ وَهُوَ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِقُرْبَانِ الْأُولَى وَحْدَهَا، وَإِذَا صَحَّ الِاشْتِرَاكُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ مَا لَمْ يَقْرَبْهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُ الْيَمِينِ بَعْدَ انْعِقَادِهَا، وَلَا كَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ. وَعَنِ الْكَرْخِيِّ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى: أَشْرَكْتُكِ مَعَهَا كَانَ مُولِيًا مِنْهُمَا، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الشَّرِكَةِ هُنَا لَا يُغَيِّرُ مُوجِبَ الْيَمِينِ وَهُوَ إِثْبَاتُ الْحُرْمَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ، وَيُلْزِمُهُ بِوَطْءِ كُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةً، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا لِأَنَّهُ إِيلَاءٌ لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِقُرْبَانِهِمَا، وَإِذَا آلَى الْعَبْدُ مِنِ امْرَأَتِهِ فَمَلَكَتْهُ لَا يَبْقَى الْإِيلَاءُ، فَلَوْ بَاعَتْهُ أَوْ أَعْتَقَتْهُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَادَ الْإِيلَاءُ كَمَا إِذَا حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ إِنْ وَطِئَهَا فَبَاعَهُ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ عَادَ الْإِيلَاءُ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ قَرَبْتُكِ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ حُرٌّ فَهُوَ مُولٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يُلْزِمُهُ بِأَنْ يَقْرَبَهَا وَلَا يَتَمَلَّكُ مَمْلُوكًا أَصْلًا. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ جَمِيعِ أَسْبَابِ التَّمْلِيكَاتِ كَالْإِرْثِ، إِذْ فِي الِامْتِنَاعِ عَنِ الْجَمِيعِ مَشَقَّةٌ وَمَضَرَّةٌ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ، وَعَلَى هَذَا إِذَا عَلَّقَ وَطْأَهَا بِعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ، لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى وَطْئِهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ يُلْزِمُهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ ثُمَّ يَطَأَهَا. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِالْحِنْثِ غَالِبًا أَوْ بِالْبَيْعِ وَأَنَّهُ مَشَقَّةٌ أَيْضًا. (وَإِنْ قَالَ: لَا أَقْرَبُكِ شَهْرَيْنِ بَعْدَ شَهْرَيْنِ فَهُوَ مُولٍ) لِأَنَّ الْجَمْعَ بِحِرَفِ الْجَمْعِ كَالْجَمْعِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَلَوْ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ: وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا يَكُونُ مُولِيًا، لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ حِينَ حَلَفَ فَقَدْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَقْتٌ لَيْسَ مُولِيًا فِيهِ فَلَمْ تُوجَدْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: لَا أَقْرَبُكِ سَنَةً إِلَّا يَوْمًا فَلَيْسَ بِمُولٍ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ، أَوْ هُوَ مَجْبُوبٌ، أَوْ هِيَ رَتْقَاءُ أَوْ صَغِيرَةٌ، أَوْ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ مَحْبُوسًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَقَالَ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ: فِئْتُ إِلَيْهَا. سَقَطَ الْإِيلَاءُ إِنِ اسْتَمَرَّ الْعُذْرُ مِنْ وَقْتِ الْحَلِفِ إِلَى آَخِرِ الْمُدَّةِ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ لَزِمَهُ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ،   [الاختيار لتعليل المختار] خِلَافًا لِزُفَرَ، وَهُوَ يَصْرِفُ الْيَوْمَ إِلَى آخِرِ السَّنَةِ، كَالْإِجَارَةِ فَصَارَ كَمَا إِذَا تَلَفَّظَ بِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يُلْزِمُهُ وَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الْمُسْتَثْنَى وَهُوَ يَوْمٌ مُنَكَّرٌ، لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ، فَإِنْ قَرَبَهَا وَقَدْ بَقِيَ مِنَ السَّنَةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ صَارَ مُولِيًا لِسُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ إِلَى آخِرِ السَّنَةِ تَصْحِيحًا لَهَا لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ التَّنْكِيرِ. [فصل الْفَيْءُ أَوْ سُقُوطُ الْإِيلَاءِ] فَصْلٌ (وَإِذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ، أَوْ هُوَ مَجْبُوبٌ، أَوْ هِيَ رَتْقَاءُ، أَوْ صَغِيرَةٌ، أَوْ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ مَحْبُوسًا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا، فَقَالَ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ: فِئْتُ إِلَيْهَا سَقَطَ الْإِيلَاءُ إِنِ اسْتَمَرَّ الْعُذْرُ مِنْ وَقْتِ الْحَلِفِ إِلَى آخِرِ الْمُدَّةِ) ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. اعْلَمْ أَنَّ الْفَيْءَ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّجُوعِ، يُقَالُ: فَاءَ الظِّلُّ: إِذَا رَجَعَ، وَلَمَّا قَصَدَ الْمُولِي بِالْيَمِينِ مَنْعَ حَقِّهَا مِنَ الْوَطْءِ سُمِّيَ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَيْئًا، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] أَيْ رَجَعُوا عَنْ قَصْدِهِمْ، وَالْفَيْءُ نَوْعَانِ بِالْجِمَاعِ وَالْقَوْلِ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَالْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ يُبْطِلُ الْإِيلَاءَ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَالْحِنْثِ جَمِيعًا، وَالْفَيْءُ بِاللِّسَانِ بَدَلٌ عَنِ الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ فِي إِبْطَالِ الطَّلَاقِ دُونَ الْحِنْثِ، حَتَّى لَوْ قَرَبَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ. وَالْبَدَلُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ حَالَةَ الْعَجْزِ عَنِ الْأَصْلِ فَيُعْتَبَرُ لِعَجْزٍ عَنِ الْجِمَاعِ مُسْتَدَامًا مِنْ وَقْتِ الْإِيلَاجِ إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ، حَتَّى لَوْ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَفَيْؤُهُ الْجِمَاعُ لَا غَيْرُ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَالتَّقْصِيرُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ عَاجِزًا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَصِفَةُ الْفَيْءِ أَنْ يَقُولَ: فِئْتُ إِلَيْكِ أَوْ رَجَعْتُ إِلَيْكِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقُولُ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ فِئْتُ إِلَى امْرَأَتِي وَأَبْطَلْتُ إِيلَاءَهَا، وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ احْتِيَاطًا احْتِرَازًا عَنِ التَّجَاحُدِ لَا شَرْطًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالْكَلَامِ بِذِكْرِ الْمَنْعِ فَيُرْضِيهَا بِالرُّجُوعِ عَنْهُ حَقِيقَةً بِالْوَطْءِ، فَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ يُرْضِيهَا بِغَايَةِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَعْدُ بِاللِّسَانِ فَيَرْتَفِعُ الظُّلْمُ. (فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُدَّةِ لَزِمَهُ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ) لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْحَلِفِ، وَلَوْ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إِلَّا أَنَّهُ يَمْنَعُهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَإِنْ أَرَادَ الْكَذِبَ صُدِّقَ، وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ، وَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ فَظِهَارٌ (م) ، وَإِنْ أَرَادَ التَحْرِيمَ أَوْ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا فَهُوَ إِيلَاءٌ. بَابُ الْخَلْعِ وَهُوَ أَنْ تَفْتَدِيَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِمَالٍ لِيَخْلَعَهَا بِهِ، فَإِذَا فَعَلَا لَزِمَهَا الْمَالُ وَوَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] السُّلْطَانُ أَوِ الْعَدُوُّ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا وَاسْتَمَرَّ الْإِحْرَامُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَا يَصِحُّ فَيْؤُهُ إِلَّا بِالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ زُفَرُ فِي الْإِحْرَامِ: فَيْؤُهُ الْقَوْلُ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ فَكَانَ عُذْرًا. قُلْنَا: الْحُرْمَةُ حَقُّ الشَّرْعِ، وَالْوَطْءُ حَقُّهَا، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِأَمْرِهِ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَإِنْ أَرَادَ الْكَذِبَ صُدِّقَ) لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ، وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ يَمِينٌ ظَاهِرًا (وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّهُ مِنَ الْكِنَايَاتِ، (وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ) وَقَدْ مَرَّ، (وَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ فَظِهَارٌ) لِأَنَّ فِي الظِّهَارِ نَوْعُ حُرْمَةٍ وَقَدْ نَوَاهُ بِالْمُطْلَقِ فَيُصَدَّقُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ ظِهَارًا لِعَدَمِ التَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ (وَإِنْ أَرَادَ التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا فَهُوَ إِيلَاءٌ) لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَمَوْضِعُهُ كِتَابُ الْأَيْمَانِ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا صَرَفُوا لَفْظَةَ التَّحْرِيمِ إِلَى الطَّلَاقِ حَتَّى قَالُوا: يَقَعُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَأَلْحَقُوهُ بِالصَّرِيحِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ وَالْعُرْفِ. [بَابُ الْخَلْعِ] ِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَلْعُ وَالْإِزَالَةُ، قَالَ تَعَالَى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] ، وَمِنْهُ خَلْعُ الْقَمِيصِ: إِذَا أَزَالَهُ عَنْهُ، وَخَلَعَ الْخِلَافَةَ: إِذَا تَرَكَهَا وَأَزَالَ عَنْهُ كُلَفَهَا وَأَحْكَامَهَا. وَفِي الشَّرْعِ: إِزَالَةُ الزَّوْجِيَّةِ بِمَا تُعْطِيهِ مِنَ الْمَالِ، وَهُوَ فِي إِزَالَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِضَمِّ الْخَاءِ، وَإِزَالَةِ غَيْرِهَا بِفَتْحِهَا، كَمَا اخْتُصَّ إِزَالَةُ قَيْدِ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ وَفِي غَيْرِهِ بِالْإِطْلَاقِ. قَالَ: (وَهُوَ أَنْ تَفْتَدِيَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِمَالٍ لِيَخْلَعَهَا بِهِ، فَإِذَا فَعَلَا لَزِمَهَا الْمَالُ وَوَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ) وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ، وَإِنَّمَا تَقَعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ» وَلِأَنَّهُ كِنَايَةٌ فَيَقَعُ بِهِ بَائِنًا لِمَا مَرَّ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، إِمَّا لِدَلَالَةِ الْحَالِ، أَوْ لِأَنَّهَا مَا رَضِيَتْ بِبَذْلِ الْمَالِ إِلَّا لِتَمْلِكَ نَفْسَهَا وَتَخْرُجَ مِنْ نِكَاحِهِ، وَذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَالْخُلْعُ مِنْ جَانِبِهِ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِقَبُولِهَا فَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْهَا، وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ مِنَ الْمَجْلِسِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إِنْ كَانَ هُوَ النَّاشِزَ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ النَّاشِزَةَ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَإِنْ أَخَذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا حَلَّ لَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ بِالْتِزَامِهَا، وَمَا صَلُحَ مَهْرًا صَلُحَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ، فَإِذَا بَطَلَ الْبَدَلُ فِي الْخُلْعِ كَانَ بَائِنًا وَفِي الطَّلَاقِ يَكُونُ رَجْعِيًّا،   [الاختيار لتعليل المختار] وَيَصِحُّ مَعَ غِيبَتِهَا، فَإِذَا بَلَغَهَا كَانَ لَهَا خِيَارُ الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا. وَيَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إِلَى الْوَقْتِ كَقَوْلِهِ: إِذَا قَدِمَ فُلَانٌ أَوْ إِذَا جَاءَ فُلَانٌ فَقَدْ خَالَعْتُكِ عَلَى أَلْفٍ، يَصِحُّ، وَالْقَبُولُ إِلَيْهَا إِذَا قَدُمَ فُلَانٌ أَوْ جَاءَ غَدًا، وَالْخُلْعُ مِنْ جَانِبِهَا تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ كَالْبَيْعِ فَيَصِحُّ رُجُوعُهَا قَبْلَ قَبُولِهِ وَيَبْطُلُ بِقِيَامِهَا مِنَ الْمَجْلِسِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ حَالَ غَيْبَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيقُ مِنْهَا بِشَرْطٍ وَلَا الْإِضَافَةُ إِلَى وَقْتٍ، وَلَوْ خَالَعَهَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ، وَإِنْ قَالَ: عَلَى أَنَّهَا بِالْخِيَارِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَيَمِينٌ وَلَا خِيَارَ فِيهِمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْخِيَارُ لَهَا صَحِيحٌ، فَإِنْ رَدَّتْهُ فِي الثَّلَاثِ بَطَلَ الْخُلْعُ، لِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ مِنْ جَانِبِهِ تَمْلِيكٌ مِنْ جَانِبِهَا فَيَجُوزُ الْخِيَارُ لَهَا دُونَهُ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إِنْ كَانَ هُوَ النَّاشِزَ) قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ عَمَلًا بِالنَّصِّ الْأَوَّلِ، وَقِيلَ هِيَ نَهْيُ تَوْبِيخٍ لَا تَحْرِيمٍ، (وَإِنْ كَانَتْ هِيَ النَّاشِزَةَ كُرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولٍ، وَقِيلَ حَبِيبَةُ بِنْتُ سَهْلٍ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَنَا وَلَا هُوَ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى ثَابِتٍ، فَقَالَ: قَدْ أَعْطَيْتُهَا حَدِيقَةً، فَقَالَ لَهَا: " أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ وَتَمْلِكِينَ أَمْرَكِ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةٌ، قَالَ: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: يَا ثَابِتُ خُذْ مِنْهَا مَا أَعْطَيْتَهَا وَلَا تَزْدَدْ وَخَلِّ سَبِيلَهَا. فَفَعَلَ وَأَخَذَ الْحَدِيقَةَ، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] إِلَى قَوْلِهِ: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] » . (وَإِنْ أَخَذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا حَلَّ لَهُ) بِمُطْلَقِ الْآيَةِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا) لِمَا قُلْنَا، (وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ بِالْتِزَامِهَا) وَلِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالطَّلَاقِ إِلَّا لِيُسَلَّمَ لَهُ الْمَالُ الْمُسَمَّى، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فَيَلْزَمُهَا. قَالَ: (وَمَا صَلُحَ مَهْرًا صَلُحَ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ) لِأَنَّ الْبُضْعَ حَالَ الدُّخُولِ مُتَقَوِّمٌ دُونَ حَالِ الْخُرُوجِ، فَإِذَا صَلُحَ بَدَلًا لِلْمُتَقَوِّمِ فَلِأَنْ يَصْلُحَ لِغَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ أَوْلَى. قَالَ: (فَإِذَا بَطَلَ الْبَدَلُ فِي الْخُلْعِ كَانَ بَائِنًا، وَفِي الطَّلَاقِ يَكُونُ رَجْعِيًّا) وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُخَالِعَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ مَيْتَةٍ وَنَحْوِهِ، أَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ فَلِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا وَقَدْ وُجِدَ، وَأَمَّا الْبَيْنُونَةُ فِي الْخُلْعِ فَلِأَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَالرَّجْعِيُّ فِي الطَّلَاقِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وَإِنْ قَالَتْ: خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي وَلَيْسَ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَلَوْ قَالَتْ: عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ مَالٍ، أَوْ عَلَى مَا فِي بَيْتِي مِنْ مَتَاعٍ وَلَا شَيْءَ فِي يَدِهَا وَلَا مَتَاعَ فِي بَيْتِهَا رَدَّتْ عَلَيْهِ مَهْرَهَا، وَلَوْ خَلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَا لَهَا لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ، وَفِي الْكَبِيرَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا، وَلَوْ ضَمِنَ الْمَالَ لَزِمَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ صَرِيحٌ وَلَا يَجِبُ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ وَهِيَ مَا سَمَّتْ لَهُ مَالًا فَيَغْتَرُّ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى الْمُسَمَّى لِلْإِسْلَامِ وَلَا إِلَى غَيْرِهِ لِعَدَمِ الِالْتِزَامِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَةَ الدُّخُولِ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ كَالْمُسَمَّى شَرْعًا، وَبِخِلَافِ مَا إِذَا خَالَعَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنَ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ لِأَنَّهَا سَمَّتْ لَهُ مَالًا فَاغْتَرَّ بِهِ، وَبِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ عَلَى خَمْرٍ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُتَقَوِّمٌ وَمَا رَضِيَ بِخُرُوجِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا كَذَلِكَ الْبُضْعُ حَالَةَ الْخُرُوجِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى عَبْدٍ فَإِذَا هُوَ حُرٌّ رَجَعَ بِالْمَهْرِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِقِيمَتِهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا. وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ وَلَمْ يُسَمِّ جِنْسَهُ، أَوْ عَلَى دَابَّةٍ فَلَهُ الْمَهْرُ، وَفِي الْعَبْدِ الْوَسَطُ كَمَا فِي الْمَهْرِ، وَكَذَا عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ فَطَلَعَ مَرَوِيًّا يَرْجِعُ بِهَرَوِيٍّ وَسَطٍ، وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ فَإِذَا هِيَ سَتُّوقَةٌ رَجَعَ بِالْجِيَادِ، وَلَا يُرَدُّ بَدَلُ الْخُلْعِ إِلَّا بِعَيْبٍ فَاحِشٍ كَمَا فِي الْمَهْرِ، وَلَوْ خَلَعَهَا بِغَيْرِ مَالٍ وَقَالَ: لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ صُدِّقَ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ، وَلَا يُصَدَّقُ إِذَا كَانَ عَلَى مَالٍ، لِأَنَّ الْبَدَلَ لَا يَجِبُ إِلَّا بِالْبَيْنُونَةِ. (وَإِنْ قَالَتْ: خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي وَلَيْسَ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا) وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: عَلَى مَا فِي بَيْتِي وَلَا شَيْءَ فِي بَيْتِهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُسَمِّ الْمَالَ فلم تَغُرَّهُ. (وَلَوْ قَالَتْ: عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ مَالٍ، أَوْ عَلَى مَا فِي بَيْتِي مِنْ مَتَاعٍ، وَلَا شَيْءَ فِي يَدِهَا وَلَا مَتَاعَ فِي بَيْتِهَا رَدَّتْ عَلَيْهِ مَهْرَهَا) ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى أَطْمَعَتْهُ فِي مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ لِفَقْدِهِ وَعَدَمِهِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ حَيْثُ أَطْمَعَتْهُ فِي مَالٍ، وَالْمَغْرُورُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بِالْمُبْدَلِ، فَإِذَا فَاتَ الْمَشْرُوطُ الْمُطْمَعُ فِيهِ زَالَ مِلْكُهُ مَجَّانًا فَيَلْزَمُهَا أَدَاءُ الْمُبْدَلِ وَهُوَ مِلْكُ الْبُضْعِ، وَقَدْ عَجَزَتْ عَنْ رَدِّهِ فَيَلْزَمُهَا رَدُّ قِيمَتِهِ وَهُوَ الْمَهْرُ، وَلَوْ خَالَعَهَا بِمَا لَهَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَهْرِ وَلَمْ يَبْقَ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَهْرِ لَزِمَهَا رَدُّ الْمَهْرِ، وَإِنْ عَلِمَ الزَّوْجُ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ وَلَا مَتَاعَ لَهَا فِي الْبَيْتِ لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَتْ: عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ مِنَ الدَّرَاهِمِ وَلَا شَيْءَ فِي يَدِهَا لَزِمَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ لِأَنَّهَا سَمَّتِ الدَّرَاهِمَ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ. قَالَ: (وَلَوْ خَلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ عَلَى مَا لَهَا لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ) لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ لَهَا فِيهِ، إِذِ الْبَدَلُ مُتَقَوِّمٌ وَالْمُبْدَلُ لَا قِيمَةَ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، (وَفِي الْكَبِيرَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهَا) لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا فَصَارَ كَالْفُضُولِيِّ، (وَلَوْ ضَمِنَ الْمَالَ لَزِمَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ) لِأَنَّ شَرْطَ بَدَلِ الْخُلْعِ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ جَائِزٌ فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى، وَلَوِ اخْتَلَعَتِ الصَّغِيرَةُ نَفْسَهَا عَلَى صَدَاقِهَا وَقَعَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَلَوْ قَالَتْ عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا (سم) وَهِيَ رَجْعِيَّةٌ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ فَطُلِّقَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا (سَمٌّ) ،   [الاختيار لتعليل المختار] الطَّلَاقُ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا، وَلَا يَسْقُطُ الصَّدَاقُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ لِمَا فِيهِ مِنَ الضُّرِّ، وَلَوْ خَلَعَهَا أَبُوهَا عَلَى صَدَاقِهَا لَا يَسْقُطُ، ثُمَّ إِنْ قَبِلَتِ الصَّغِيرَةُ الْخُلْعَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ قَبِلَ الْأَبُ فِيهِ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ إِذَا لَمْ يُضِفِ الْبَدَلَ إِلَى نَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْخُلْعَ مَضَرَّةٌ بِهَا فَلَا يَقُومُ قَبُولُهُ مَقَامَ قَبُولِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ يَقَعُ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ بِالْخَلَاصِ عَنْ عُهْدَتِهِ فَصَارَ كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَلَوْ ضَمِنَ الْأَبُ الصَّدَاقَ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ لِأَنَّهُ مَتَى ضَمِنَ الْبَدَلَ فَالْخُلْعُ يَتِمُّ بِقَبُولِهِ لَا بِقَبُولِهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ الْبَدَلُ عَلَيْهِ بِالْتِزَامِهِ مِنْ مِلْكِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إِلَّا إِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ مَعَهُ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعَلَيْهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ، وَلَوْ قَالَتْ: عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا وَهِيَ رَجْعِيَّةٌ) ، وَقَالَا: هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ " عَلَى " كَالْبَاءِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ احْمِلْ هَذَا بِدِرْهَمٍ وَعَلَى دِرْهَمٍ سَوَاءٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ لِلْمُعَاوَضَةِ وَهِيَ تَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَيَنْقَسِمُ الْعِوَضُ عَلَى الْمُعَوَّضِ، وَإِذَا وَجَبَ الْمَالُ كَانَتْ بَائِنَةً، أَمَّا " عَلَى " فَإِنَّهَا لِلشَّرْطِ قَالَ تَعَالَى: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] أَيْ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ كَانَ شَرْطًا، وَالْمَشْرُوطُ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الشَّرْطِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَلْفِ صَارَ مُعَلَّقًا بِالتَّطْلِيقِ ثَلَاثًا فَلَا يَلْزَمُ قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَدَمٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِذَا لَمْ يَجِبِ الْمَالُ فَقَدْ طَلَّقَهَا بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَكَانَتْ رَجْعِيَّةً. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ أَوْ عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِالْبَيْنُونَةِ إِلَّا لِيُسَلَّمَ لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا لَمَّا رَضِيَتْ بِالْبَيْنُونَةِ بِالْأَلْفِ فَلِأَنْ تَرْضَى بِبَعْضِهَا كَانَ أَوْلَى. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ فَقَبِلَتْ طَلُقَتْ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا) وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ تَقْبَلْ، وَقَالَا: إِنْ قَبِلَتْ فَعَلَيْهَا الْأَلْفُ، وَإِلَّا لَا شَيْءَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يُسْتَعْمَلُ لِلْمُعَاوَضَةِ، يُقَالُ: اعْمَلْ هَذَا وَلَكَ دِرْهَمٌ كَقَوْلِهِ بِدِرْهَمٍ، وَلَهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَيْكِ أَلْفٌ لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِمَا قَبْلَهُ، إِذِ الْأَصْلُ ذَلِكَ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الِارْتِبَاطِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ يُوجَدُ بِدُونِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُمَا لَا يَنْفَكَّانِ عَنْ وُجُوبِ الْمَالِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَعَلَيْكَ أَلْفٌ فَعَلَى الْخِلَافِ. وَلَوْ قَالَتْ لَهُ: اخْلَعْنِي عَلَى أَلْفٍ فَقَالَ مُجِيبًا لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَانَ كَقَوْلِهِ خَلَعْتُكِ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكِ طَلَاقَكِ بِمَهْرِكِ، فَقَالَتْ: طَلَّقْتُ نَفْسِي بَانَتْ مِنْهُ بِمَهْرِهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا اشْتَرَيْتُ، وَلَوْ قَالَ: بِعْتُ مِنْكِ تَطْلِيقَةً، فَقَالَتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ يُسْقِطَانِ كُلَّ (سَمِّ) حَقٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَبَضَتِ الْمَهْرَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ وَيُعْتَبَرُ خُلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنَ الثُّلُثِ.   [الاختيار لتعليل المختار] اشْتَرَيْتُ تَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ مَجَّانًا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ. قَالَ: (وَالْمُبَارَأَةُ كَالْخُلْعِ يُسْقِطَانِ كُلَّ حَقٍّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ قَبَضَتِ الْمَهْرَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ) وَلَوْ لَمْ تَقْبِضْ شَيْئًا لَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ آخَرَ لَزِمَهَا وَسَقَطَ الصَّدَاقُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسْقُطُ فِيهِمَا إِلَّا مَا سَمَّيَاهُ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي الْخُلْعِ وَمَعَ شَيْخِهِ فِي الْمُبَارَأَةِ. لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي فَجُعِلَا كِنَايَةً عَنِ الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ فَلَا يَجِبُ إِلَّا مَا سَمَّيَاهُ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُبَارَأَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْبَرَاءَةِ وَقَضِيَّتُهَا الْبَرَاءَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ مُطْلَقًا، إِلَّا أَنَّا اقْتَصَرْنَا عَلَى مَا وَقَعَتِ الْمُبَارَأَةُ لِأَجْلِهِ وَهُوَ حُقُوقُ النِّكَاحِ. أَمَّا الْخُلْعُ فَيَقْتَضِي الِانْخِلَاعَ، وَقَدْ حَصَلَ الِانْخِلَاعُ مِنَ النِّكَاحِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى حُقُوقِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخُلْعَ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْخِلَاعِ وَالِانْتِزَاعِ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَالْمُبَارَأَةُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ تَقْتَضِي الِانْخِلَاعَ وَالْبَرَاءَةَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَنَفْسُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْخِلَاعَ وَالْبَرَاءَةَ، وَحُقُوقُهُ تَقْبَلُ ذَلِكَ فَتَقَعُ الْبَرَاءَةُ عَنْهَا لِيَحْصُلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخُلْعِ وَهُوَ انْقِطَاعُ الْمُشَاجَرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ نَقُولُ: يُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِمَا فِي النِّكَاحِ وَأَحْكَامِهِ وَحُقُوقِهِ بِدَلَالَةِ الْعِوَضِ. وَلَوْ وَقَعَ الْخُلْعُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَوِ اخْتَلَعَا وَلَمْ يَذْكُرَا الْمَهْرَ وَلَا بَدَلًا آخَرَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَسْقُطُ مَا بَقِيَ مِنَ الْمَهْرِ وَمَا قَبَضَتْهُ فَهُوَ لَهَا، وَإِنْ ذَكَرَا نَفَقَةَ الْعِدَّةِ سَقَطَتْ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بَعْدُ، وَلَا تَقَعُ الْبَرَاءَةُ عَنْ نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَهِيَ مَئُونَةُ الرَّضَاعِ إِلَّا بِالشَّرْطِ لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ لَهَا، فَإِنْ شَرَطَا الْبَرَاءَةَ مِنْهَا فِي الْخُلْعِ وَوَقَّتَا بِأَنْ قَالَ: إِلَى سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ سَقَطَتْ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا بَقِيَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الرَّضَاعِ إِلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ، وَالْحِيلَةُ لِعَدَمِ الرُّجُوعِ أَنْ يَقُولَ: خَالَعْتُكِ عَلَى كَذَا، أَوْ عَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ إِلَى سَنَتَيْنِ، فَإِنْ مَاتَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَلَا رُجُوعَ لِي عَلَيْكِ. قَالَ: (وَيُعْتَبَرُ خُلْعُ الْمَرِيضَةِ مِنَ الثُّلُثِ) لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْبُضْعِ عِنْدَ الْخُرُوجِ، وَلَيْسَ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَ كَالْوَصِيَّةِ، وَهَذَا إِذَا مَاتَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَأَمَّا إِذَا مَاتَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلِلزَّوْجِ الْأَقَلُّ مِنَ الْمِيرَاثِ وَمِنَ الْمَهْرِ إِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهَا وَمِنَ الثُّلُثِ. فَصْلٌ إِذَا اخْتَلَعَتِ الْمُكَاتَبَةُ لَزِمَهَا الْمَالُ بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ بِغَيْرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 بَابُ الظِّهَارِ وَهُوَ أَنْ يُشَبِّهَ امْرَأَتَهُ أَوْ عُضْوًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ بَدَنِهَا أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا بِعُضْوٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ أَعْضَاءِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ. وَحُكْمُهُ: حُرْمَةُ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ حَتَّى يُكَفِّرَ،   [الاختيار لتعليل المختار] إِذْنِهِ؛ لِأَنَّهَا مَحْجُورَةٌ عَنِ التَّبَرُّعَاتِ، وَلَوِ اخْتَلَعَتِ الْأَمَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَزِمَهَا لِلْحَالِ، وَإِذَا خَلَعَ الْأَمَةَ مَوْلَاهَا مِنْ زَوْجِهَا الْحُرِّ عَلَى رَقَبَتِهَا صَحَّ الْخُلْعُ بِغَيْرِ شَيْءٍ. وَلَو كَانَ الزَّوْجُ مكاتَبًا عَبْدًا أَوْ مُدَبَّرًا جَازَ الْخُلْعُ وَصَارَتْ أَمَةً لِلسَّيِّدِ، وَالْفَرْقُ أَنَّهَا تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى فَلَا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ، وَفِي الْحُرِّ لَوْ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ بَطَلَ النِّكَاحُ فَيَبْطُلُ الْخُلْعُ. أَمَتَانِ تَحْتَ حُرٍّ خَلَعَهُمَا الْمَوْلَى عَلَى رَقَبَةِ إِحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا بَطَلَ الْخُلْعُ فِيهَا وَصَحَّ فِي الْأُخْرَى وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى مَهْرِهِمَا، فَمَا أَصَابَ مَهْرَ الَّتِي صَحَّ خُلْعُهَا فَهُوَ لِلزَّوْجِ مِنْ رَقَبَةِ الْأُخْرَى، وَلَوْ خَلَعَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى رَقَبَةِ الْأُخْرَى وَقَعَ الطَّلَاقَانِ بَائِنَيْنِ بِغَيْرِ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ قَارَنَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ وُقُوعَ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهَا فَتَعَذَّرَ إِيجَابُ الْعِوَضِ، وَلَوْ طَلَّقَ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَلَى رَقَبَةِ صَاحِبَتِهَا يَقَعُ رَجْعِيًّا. [بَابُ الظِّهَار] ِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ لَفْظِ الظَّهْرِ، يُقَالُ: ظَاهَرَ يُظَاهِرُ ظِهَارًا، وَأَصْلُهُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَإِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ. (وَهُوَ أَنْ يُشَبِّهَ امْرَأَتَهُ أَوْ عُضْوًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ بَدَنِهَا) كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ، (أَوْ جُزْءًا شَائِعًا مِنْهَا) كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، (بِعُضْوٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ) كَالظَّهْرِ وَالْفَخْذِ وَالْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، لِأَنَّ الْكُلَّ فِي مَعْنَى الظَّهْرِ فِي الْحُرْمَةِ (مِنْ أَعْضَاءِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ) كَأُمِّهِ وَبِنْتِهِ وَجَدَّتِهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ وَأُخْتِهِ وَغَيْرِهِنَّ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّ الْكُلَّ كَالْأُمِّ فِي تَأْبِيدِ الْحُرْمَةِ. (وَحُكْمُهُ: حُرْمَةُ الْجِمَاعِ وَدَوَاعِيهِ حَتَّى يُكَفِّرَ) تَحَرُّزًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيهِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ، بِخِلَافِ الْحَيْضِ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ وُقُوعُهُ فَيُحْرِجُ وَلَا كَذَلِكَ الظِّهَارُ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ طَلَاقًا فَجَعَلَهُ الشَّرْعُ مُوجِبًا حُرْمَةً مُتَنَاهِيَةً بِالْكَفَّارَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ «حَدِيثُ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَقِيلَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَا مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَرَادَهَا فَأَبَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَكَانَ أَوَّلَ ظِهَارٍ فِي الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نَدِمَ وَكَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: مَا أَظُنُّكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيَّ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ بِطَلَاقٍ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إِنَّ أَوْسًا تَزَوَّجَنِي وَأَنَا شَابَّةٌ غَنِيَّةٌ ذَاتُ مَالٍ وَأَهْلٍ، حَتَّى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى، وَالْعَوْدُ الَذِي تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى وَطْئِهَا، وَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ وَتُطَالِبَهُ بِالْكَفَّارَةِ وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَيْهَا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي،   [الاختيار لتعليل المختار] إِذَا أَكَلَ مَالِي وَأَفْنَى شَبَابِي وَتَفَرَّقَ أَهْلِي وَكَبُرَتْ سِنِّيِ ظَاهَرَ مِنِّي وَقَدْ نَدِمَ، فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ يَجْمَعُنِي وَإِيَّاهُ تُنْعِشُنِي بِهِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فَجَعَلَتْ تُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِذَا قَالَ لَهَا: حَرُمْتِ عَلَيْهِ هَتَفَتْ وَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَشِدَّةَ حَالِي، وَإِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا، وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا، وَجَعَلَتْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ فَأَنْزِلْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكَ، فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوَحْيُ كَمَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ: يَا خَوْلَةُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي أَوْسٍ قُرْآنًا وَتَلَا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] الْآيَاتِ» ، وَالظِّهَارُ جَائِزٌ مِمَّنْ يَجُوزُ طَلَاقُهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الزَّوْجَةِ، وَلَا يَكُونُ مِنَ الْمُطَلَّقَةِ بَائِنًا لِأَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ. قَالَ: (فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ التَّكْفِيرِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فَرَأَى خَلْخَالَهَا فِي الْقَمَرِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: اسْتَغْفِرِ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَالْأَفْعَالُ الْمُحَرَّمَةُ تُوجِبُ الِاسْتِغْفَارَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَبَيَّنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا يَحِلُّ قُرْبَانُهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَلَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى يُكَفِّرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] . قَالَ: (وَالْعَوْدُ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ أَنْ يَعْزِمَ عَلَى وَطْئِهَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ» ، نَهَى عَنِ الْوَطْءِ إِلَى غَايَةِ التَّكْفِيرِ فَتَنْتَهِيَ حُرْمَةُ الْوَطْءِ بِالتَّكْفِيرِ، (وَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ وَتُطَالِبَهُ بِالْكَفَّارَةِ وَيَجْبِرَهُ الْقَاضِي عَلَيْهَا) إِيفَاءً لِحَقِّهَا، وَكُلُّ مَا لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِيهِ لَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُصَدِّقَهُ فِيهِ، فَلَوْ قَالَ: أَرَدْتُ الْإِخْبَارَ عَمَّا مَضَى بِكَذِبٍ لَمْ يُصَدَّقْ قَضَاءً وَصُدِّقَ دِيَانَةً، وَلَوْ قَالَ: أَنَا مِنْكِ مُظَاهِرٌ، أَوْ ظَاهَرْتُ مِنْكِ يَصِيرُ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ زَنَى بِهَا أَبُوهُ أَوِ ابْنُهُ أَوْ بِابْنَةِ مَزْنِيَّتِهِ فَهُوَ مُظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إِذَا قَضَى بِجَوَازِ نِكَاحِهَا يُنَفَّذُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ. وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَنِ الْمَرْأَةِ تَقُولُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، قَالَ: لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ التَّحْرِيمَ كَالطَّلَاقِ. وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ فَقَالَ: عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ يَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَصَحَّ أَنْ تُوجِبَهَا عَلَى نَفْسِهَا. وَسُئِلَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فَقَالَ: هُمَا شَيْخَا الْفِقْهِ أَخْطَئا، عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، لِأَنَّ الظِّهَارَ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ حَرَامٌ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِذَا وَطِئَهَا. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ أُمِّي أَوْ كَأُمِّي) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 فَإِنْ أَرَادَ الْكَرَامَةَ صُدِّقَ، وَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ فَظِهَارٌ، وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ، وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْهَا مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي مَجَالِسَ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ. وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ يُجْزِئُ فِيهَا مُطْلَقُ الرَّقَبَةِ السَّلِيمَةِ، وَلَا يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ   [الاختيار لتعليل المختار] فَهُوَ كِنَايَةٌ يَرْجِعُ إِلَى نِيَّتِهِ (فَإِنْ أَرَادَ الْكَرَامَةَ صُدِّقَ) لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ وَهُوَ مَشْهُورٌ بَيْنَ النَّاسِ (وَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ فَظِهَارٌ) لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِجَمِيعِهَا، وَفِي ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْعُضْوِ الْمُحَرَّمِ فَيَصِحُّ عِنْدَ نِيَّتِهِ، (وَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) وَيَصِيرُ تَشْبِيهًا لَهَا فِي الْحُرْمَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ) لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهَا إِلَّا بِمُرَجِّحٍ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: هُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ حَقِيقَةً وَالتَّشْبِيهُ بِالْعُضْوِ ظِهَارٌ، فَالتَّشْبِيهُ بِالْكُلِّ أَوْلَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِنْ كَانَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ فَهُوَ ظِهَارٌ، وَإِنْ عَنَى بِهِ التَّحْرِيمَ فَهُوَ إِيلَاءٌ إِثْبَاتًا لِأَدْنَى الْحُرْمَتَيْنِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ، وَقِيلَ ظِهَارٌ بِالْإِجْمَاعِ. وَإِنْ نَوَى الْكَذِبَ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ: يَدِينُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي وَنَوَى ظِهَارًا فَظِهَارٌ لِلتَّشْبِيهِ، وَإِنْ نَوَى طَلَاقًا فَطَلَاقٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَإِنْ نَوَى التَّحْرِيمَ فَظِهَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِيلَاءٌ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ظِهَارٌ، وَقَدْ مَرَّ وَجْهُهَا. (وَلَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ كَفَّارَةٌ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُظَاهِرًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِإِضَافَةِ الظِّهَارِ إِلَيْهِنَّ، كَمَا إِذَا قَالَ: أَنْتُنَّ طَوَالِقُ تَطْلُقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَإِذَا كَانَ مُظَاهِرًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْكَفَّارَةُ لِإِنْهَاءِ الْحُرْمَةِ فَتَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْحُرْمَةِ. (وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْهَا مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي مَجَالِسَ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ) كَمَا فِي تَكْرَارِ الْيَمِينِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي مِائَةَ مَرَّةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ كَفَّارَةٍ وَهُوَ حَالِفٌ مِائَةَ مَرَّةٍ. [فصل كفارة الظِّهَار] فَصْلٌ (وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ) قَبْلَ الْمَسِيسِ لِلنَّصِّ (يُجْزِئُ فِيهَا مُطْلَقُ الرَّقَبَةِ السَّلِيمَةِ) فَيَنْطَلِقُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ، وَالرَّقَبَةُ عِبَارَةٌ عَنِ الذَّاتِ الْمَرْقُوقَةُ الْمَمْلُوكَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إِلَى السَّلِيمَةِ، فَمَنْ قَيَّدَهَا بِوَصْفٍ زَائِدٍ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَلَا يُجْزِئُ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ) لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِمْ نَاقِصٌ لِاسْتِحْقَاقِهِمُ الْعِتْقَ بِجِهَةٍ أُخْرَى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 وَالْمُكَاتَبُ الَذِي أَدَّى بَعْضَ كِتَابَتِهِ، وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوْ إِبْهَامَيْهِمَا أَوِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا الْأَعْمَى وَلَا الْأَصَمُّ وَلَا الْأَخْرَسُ وَلَا الْمَجْنُونُ الْمُطْبَقُ وَلَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ، وَإِنِ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ يَنْوِي الْكَفَّارَةَ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ جَامَعَهَا ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيَهُ لَمْ يُجْزِهِ (سم) وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْ بَيْنَ الْإِعْتَاقَيْنِ أَجْزَأَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] (و) لَا (الْمُكَاتَبُ الَّذِي أَدَّى بَعْضَ كِتَابَتِهِ) لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْعِتْقَ بِبَدَلٍ، وَيَجُوزُ الْمُكَاتَبُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا، لِأَنَّ الرِّقَّ قَائِمٌ بِهِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْمَعْنَى فِيمَنْ أَدَّى الْبَعْضَ مُنْتَفٍ، عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ مَنْ أَدَّى الْبَعْضَ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَبْدٌ بِالْحَدِيثِ حَتَّى لَوْ فُسِخَتِ الْكِتَابَةُ عَادَ رَقِيقًا، بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُفْسَخُ أَصْلًا. قَالَ: (وَلَا مَقْطُوعُ الْيَدَيْنِ أَوْ إِبْهَامَيْهِمًا أَوِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا الْأَعْمَى وَلَا الْأَصَمُّ وَلَا الْأَخْرَسُ وَلَا الْمَجْنُونُ الْمُطْبِقُ) لِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ تَفُوتُ فِي هَؤُلَاءِ، وَهُوَ الْبَطْشُ وَالسَّعْيُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالِانْتِفَاعُ بِالْجَوَارِحِ بِالْعَقْلِ، وَالْمَجْنُونُ فَائِتُ الْمَنْفَعَةِ، وَبَطْشُ الْيَدَيْنِ بِالْإِبْهَامَيْنِ فَبِفَوْتِهِمَا تَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهُ مَانِعٌ، لِأَنَّ قِيَامَ الرَّقَبَةِ بِقِيَامِ الْمَنْفَعَةِ وَإِذَا فَاتَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ صَارَتِ الرَّقَبَةُ هَالِكَةً مِنْ وَجْهٍ فَكَانَتْ نَاقِصَةً فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ، أَمَّا إِذَا اخْتَلَّتِ الْمَنْفَعَةُ فَلَيْسَ بِمَانِعٍ، لِأَنَّ الْعَيْبَ الْقَلِيلَ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَذَلِكَ كَالْأَعْوَرِ وَمَقْطُوعِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ مِنْ خِلَافٍ، وَلَا يَجُوزُ إِذَا قُطِعَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لِفَوَاتِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الشَّيْءِ، وَلَا يَجُوزُ الْمَعْتُوهُ وَالْمَفْلُوجُ الْيَابِسُ الشِّقِّ لِمَا بَيَّنَّا، وَثَلَاثَةُ أَصَابِعَ مِنَ الْيَدِ لَهَا حُكْمُ الْكُلِّ، وَيَجُوزُ عِتْقُ الْخَصِيِّ وَالْمَجُبُوبِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ الْقِيمَةَ لَا يُنْقِصُهَا، وَيَجُوزُ مَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ، وَيَجُوزُ مَقْطُوعُ الشَّفَتَيْنِ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْأَكْلِ وَإِلَّا فَلَا. (وَلَا) يَجُوزُ (مُعَتَقُ الْبَعْضِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ كَامِلَةٍ. قَالَ: (وَإِنِ اشْتَرَى أَبَاهُ أَوِ ابْنَهُ يَنْوِي الْكَفَّارَةَ أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إِعْتَاقٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَنْ يجْزِئ وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» ، أَخْبَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الِابْنَ قَادِرٌ عَلَى إِعْتَاقِ الْأَبِ فَيَكُونُ قَادِرًا تَصْدِيقًا لَهُ فِيمَا أَخْبَرَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْتَاقِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَلَا بَعْدَ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ، فَيَكُونُ نَفْسُ الشِّرَاءِ إِعْتَاقًا، فَإِذَا نَوَى بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَةَ يَصِيرُ إِعْتَاقًا عَنِ الْكَفَّارَةِ فَيَصِحُّ وَيُجْزِئُهُ. (وَإِنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ جَامَعَهَا ثُمَّ أَعْتَقَ بَاقِيَهُ لَمْ يُجْزِهِ) عِنْدَهُ. وَعِنْدَهُمَا يُجْزِئُهُ بِنَاءً عَلَى تَجْزِيءِ الْإِعْتَاقِ، فَعِنْدَهُمَا لَمَّا أَعْتَقَ نِصْفَهُ كَانَ إِعْتَاقًا لِلْجَمِيعِ، وَعِنْدَهُ لَا، فَقَدْ أَعْتَقَ النِّصْفَ قَبْلَ الْمَسِيسِ وَالنِّصْفَ بَعْدَهُ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا يُجْزِئُهُ فَيَسْتَأْنِفُ عِتْقَ رَقَبَةٍ أُخْرَى. (وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْ بَيْنَ الْإِعْتَاقَيْنِ أَجْزَأَهُ) بِالْإِجْمَاعِ، أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 وَالْعَبْدُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الظِّهَارِ إِلَّا الصَّوْمُ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَعْتِقُ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا رَمَضَانُ وَيَوْمَا الْعِيدِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ جَامَعَهَا فِي الشَّهْرَيْنِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَقْبَلَ (س) ، فَإِنَّ لَمْ يَسْتَطِعِ الصِّيَامَ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَيُطْعِمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ أَوْ قِيمَةَ ذَلِكَ، فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِكَلَامَيْنِ، وَمَا حَصَلَ فِيهِ مِنَ النَّقْصِ حَصَلَ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ لِلْكَفَّارَةِ وَأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ، كَمَا إِذَا أَصَابَتِ السِّكِّينُ عَيْنَ شَاةِ الْأُضْحِيَّةِ وَقَدْ أَضْجَعَهَا لِلذَّبْحِ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ لَا يُجْزِئُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ، وَعِنْدَهُمَا إِنْ كَانَ مُوسِرًا أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالضَّمَانِ وَكَانَ مُعْتِقًا لِلْكُلِّ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ السِّعَايَةَ وَجَبَتْ لِلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ عِتْقُ الْجَمِيعِ. قَالَ: (وَالْعَبْدُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الظِّهَارِ إِلَّا الصَّوْمُ) لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنِ الْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ إِلَّا الطَّلَاقَ» . قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) الْمُظَاهِرُ (مَا يَعْتِقُ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] . قَالَ: (لَيْسَ فِيهِمَا رَمَضَانُ وَيَوْمَا الْعِيدِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ) ، أَمَّا رَمَضَانُ فَلِأَنَّهُ يَقَعُ عَنِ الْفَرْضِ لِتَعَيُّنِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الصَّوْمِ فَلَا يَقَعُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَلِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهَا حَرَامٌ فَكَانَ نَاقِصًا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ. قَالَ: (فَإِنْ جَامَعَهَا فِي الشَّهْرَيْنِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ اسْتَقْبَلَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ جَامَعَ لَيْلًا عَامِدًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا لَمْ يَسْتَأْنِفْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ التَّتَابُعَ حَتَّى لَا يَفْسَدَ بِهِ الصَّوْمُ. وَجَوَابُهُ أَنَّ النَّصَّ شَرَطَ كَوْنَهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ، وَأَنَّهُ يَنْعَدِمُ بِالْمَسِيسِ فَيَسْتَأْنِفُ. وَلَوْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ فِي كَفَّارَةِ الصَّوْمِ لَا تَسْتَقْبِلُ، وَإِنْ أَفْطَرَتْ لِمَرَضٍ اسْتَقْبَلَتْ، وَلَوْ حَاضَتْ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ اسْتَقْبَلَتْ، لِأَنَّ الْحَيْضَ يَتَكَرَّرُ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَلَا كَذَلِكَ الْمَرَضُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ صَامَتْ شَهْرًا ثُمَّ حَاضَتْ ثُمَّ أَيِسَتِ اسْتَقْبَلَتْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ حَبِلَتْ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي بَنَتْ، وَمَنْ لَهُ دَيْنٌ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْلَاصِهِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ، وَلَوْ حَنِثَ مُوسِرًا ثُمَّ أَعْسَرَ أَوْ بِالْعَكْسِ فَالْمُعْتَبَرُ حَالَةُ التَّكْفِيرِ، وَلَوْ أَيْسَرَ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ أَعْتَقَ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعِ الصِّيَامَ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . (وَيُطْعِمُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ صَخْرٍ أَوْ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: «لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ» وَلِأَنَّهُ لِحَاجَةِ الْمِسْكِينِ فِي الْيَوْمِ فَاعْتُبِرَتْ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ. قَالَ: (أَوْ قِيمَةُ ذَلِكَ) لِمَا مَرَّ فِي دَفْعِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ. قَالَ: (فَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ جَازَ) قَالَ تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] وَهُوَ التَّمْكِينُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 وَلَا بُدَّ مِنْ شِبَعِهِمْ فِي الْأَكْلَتَيْنِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِدَامِ فِي خُبْزِ الشَّعِيرِ دُونَ الْحِنْطَةِ، وَلَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ، وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عَنِ الْكُلِّ أَجْزَأَهُ عَنْ يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ جَامَعَهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَمْ يَسْتَأْنِفْ، وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ أَوْ صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَطْعَمَ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِسْكِينًا عَنْ كَفَارَتَيْ ظِهَارٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ، وَإِنْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ بُرٍّ عَنْ كَفَارَتَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ (م) ،   [الاختيار لتعليل المختار] مِنَ الطَّعْمِ (وَلَا بُدَّ مِنْ شِبَعِهِمْ فِي الْأَكْلَتَيْنِ) اعْتِبِارًا لِلْعَادَةِ (وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِدَامِ فِي خُبْزِ الشَّعِيرِ دُونَ الْحِنْطَةِ) لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الشِّبَعِ فِي خُبْزِ الشَّعِيرِ دُونَ الْإِدَامِ فَإِنَّهُ قَلَّمَا يَنْسَاغُ دُونَهُ، وَلَا كَذَلِكَ خُبْزُ الْحِنْطَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ خُبْزًا وَإِدَامًا أَوْ خُبْزًا بِغَيْرِ إِدَامٍ أَوْ خُبْزَ الشَّعِيرِ أَوْ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا - جَازَ، وَلَوْ غَدَّى سِتِّينَ وَعَشَّى سِتِّينَ غَيْرَهُمْ لَمْ يُجْزِهِ إِلَّا أَنْ يُعِيدَ عَلَى سِتِّينَ مِنْهُمْ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً، وَيَجُوزُ غَدَاءَانِ أَوْ عَشَاءَانِ أَوْ عَشَاءٌ وَسَحُورٌ، وَكَذَا لَوْ غَدَّاهُمْ يَوْمًا وَعَشَّاهُمْ يَوْمًا آخَرَ لِوُجُودِ أَكْلَتَيْنِ مُشْبِعَتَيْنِ، وَلَوْ عَشَّاهُمْ فِي رَمَضَانَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ لَيْلَتَيْنِ أَجْزَأَهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ، وَلَوْ أَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مُدًّا آخَرَ، وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهُمْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَيْئَانِ: مُرَاعَاةُ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ، وَالْمِقْدَارُ فِي الْوَظِيفَةِ لِكُلِّ الْمَسَاكِينِ. قَالَ: (وَلَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا) وَاحِدًا (سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ) لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ دَفْعُ حَاجَةِ الْمِسْكِينِ وَأَنَّهَا تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْيَوْمِ، (وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ عَنِ الْكُلِّ أَجْزَأَهُ عَنْ يَوْمٍ وَاحِدٍ) لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِالْمَرَّةِ الْأُولَى، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ فِي الْإِبَاحَةِ، فَأَمَّا التَّمْلِيكُ مِنْهُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِي دُفْعَاتٍ، قِيلَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَقِيلَ: يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى التَّمْلِيكِ تَتَجَدَّدُ فِي الْيَوْمِ مَرَّاتٍ، وَلَوْ دَفَعَ الْكُلَّ إِلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ. قَالَ: (فَإِنْ جَامَعَهَا فِي خِلَالِ الْإِطْعَامِ لَمْ يَسْتَأْنِفْ) لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَشْرُطْ فِي الْإِطْعَامِ قَبْلَ الْمَسِيسِ، إِلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَاهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ لِاحْتِمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعْتَاقِ أَوِ الصَّوْمِ فَيَقَعَانِ بَعْدَ الْمَسِيسِ، وَالْمَنْعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا يُنَافِي الْمَشْرُوعِيَّةَ. قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَتَيْنِ، أَوْ صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، أَوْ أَطْعَمَ مِائَةً وَعِشْرِينَ مِسْكِينًا عَنْ كَفَارَتَيْ ظِهَارٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ) لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّعْيِينِ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَجُوزُ عَنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتِقْ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَ عَنْهُمَا انْقَسَمَ كُلُّ إِعْتَاقٍ عَلَيْهِمَا فَيَقَعُ الْعِتْقُ أَشْقَاصًا عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَجُوزُ كَمَا إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ. وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ تَكْمِيلُ الْعَدَدِ دُونَ التَّعْيِينِ، إِذِ التَّعْيِينُ لَا يُفِيدُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ عَلَى مَا عُرِفَ، بِخِلَافِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ التَّعْيِينَ مُفِيدٌ فِيهِ فَيُشْتَرَطُ. (وَإِنْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ بُرٍّ عَنْ كَفَّارَتَيْنِ لَمْ يُجْزهِ إِلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَنْهُمَا، وَإِنْ أَطْعَمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 وَإِنْ أَعْتَقَ وَصَامَ عَنْ كَفَّارَتَيْ ظِهَارٍ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. بَابُ اللِّعَانِ وَيَجِبُ بِقَذْفِ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا أَوْ بِنَفْيِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا وَطَالَبَتْهُ بِذَلِكَ،   [الاختيار لتعليل المختار] ذَلِكَ عَنْ ظِهَارٍ وَإِفْطَارٍ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا بِالْإِجْمَاعِ، وَعَلَيْهِ قِيَاسُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْمُؤَدَّى وَفَاءً بِهِمَا، وَالْمَصْرُوفُ إِلَيْهِ مَحَلٌّ لَهُمَا فَيَقَعُ عَنْهُمَا وَصَارَ كَمَا إِذَا فَرَّقَ الدَّفْعَ. وَلَهُمَا أَنَّ النِّيَّةَ تُعْتَبَرُ فِي الْجِنْسَيْنِ لَا فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا لَغَتِ النِّيَّةُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بَقِيَ أَصْلُ النِّيَّةِ فَيُجْزِي عَنِ الْوَاحِدَةِ كَمَا إِذَا قَالَ عَنْ كَفَّارَةِ ظِهَارٍ. (وَإِنْ أَعْتَقَ وَصَامَ عَنْ كَفَارَتَيْ ظِهَارٍ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ) لِأَنَّ النِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ. [بَابُ اللِّعَانِ] وَهُوَ مَصْدَرُ لَاعَنَ يُلَاعِنُ مُلَاعَنَةً كَقَاتَلَ يُقَاتِلُ مُقَاتَلَةً، وَالْمُلَاعَنَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ اللَّعْنِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا الْوَزْنُ إِلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، إِلَّا مَا شَذَّ كَرَاهَقْتُ الْحُلُمَ وَطَارَقْتُ النَّعْلَ وَعَاقَبْتُ اللِّصَّ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ لَفْظٌ عَامٌّ. وَفِي الشَّرْعِ: هُوَ مُخْتَصٌّ بِمُلَاعَنَةٍ تَجْرِي بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِسَبَبٍ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى مَا يَأْتِيكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَاتٌ بِالْأَيْمَانِ مُوَثَّقَةٌ بِاللَّعْنِ وَالْغَضَبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ، وَقَدْ كَانَ مُوجَبُ الْقَذْفِ فِي الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّةِ وَالزَّوْجَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ؛ فَنُسِخَ فِي الزَّوْجَاتِ إِلَى اللِّعَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الْآيَةَ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ خَوْلَةَ بِشُرَيْكِ ابْنِ سَحْمَاءَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: الْآنَ يُضْرَبُ هِلَالٌ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ، ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ، فَجَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] إِلَى قَوْلِهِ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] فَلَاعَنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَيْنَهُمَا، وَقَالَ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّعْنَةِ وَالْغَضَبِ: آمِينَ، وَقَالَ الْقَوْمُ: آمِينَ» ، قَالَ: (وَيَجِبُ بِقَذْفِ الزَّوْجَةِ بِالزِّنَا) لِمَا تَلَوْنَا (أَوْ بِنَفْيِ الْوَلَدِ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ: (إِذَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا وَطَالَبَتْهُ بِذَلِكَ) لِأَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الشَّهَادَةُ. قَالَ تَعَالَى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ حُبِسَ حَتَى يُلَاعِنَ أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فَيُحَدَّ، فَإِذَا لَاعَنَ وَجَبَ عَلَيْهَا اللِّعَانُ، وَتُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُصَدِّقَهُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ وَيُعَزَّرُ.   [الاختيار لتعليل المختار] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] . وَالشَّهَادَةُ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةٌ إِلَّا إِذَا صَدَرَتْ مِنْ أَهْلِهَا، فَوُجُوبُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا اشْتِرَاطُ كَوْنِهِمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا، لِأَنَّ اللِّعَانَ فِي حَقِّهَا كَحَدِّ الْقَذْفِ لِمَا أَنَّ اللِّعَانَ عُقُوبَةٌ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا الْتَحَقَ بِهِ كَالْحَدِّ حَتَّى لَا نقْبَلَ شَهَادَتهُ بَعْدَ اللِّعَانِ أَبَدًا، وَهُوَ فِي حَقِّهَا كَحَدِّ الزِّنَا لِأَنَّ الْغَضَبَ فِي حَقِّهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عُقُوبَةٌ شَدِيدَةٌ يَلْتَحِقُ بِهَا إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَقَامَ مَقَامَ حَدِّ الزِّنَا، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ اللِّعَانُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَلَا بِكِتَابِ الْقَاضِي، وَلَا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ كَالْحُدُودِ، وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا لَهَا لِأَنَّ الْحَقَّ كَمَا فِي حَدِّ الْقَذْفِ. وَشَرْطُ اللِّعَانِ قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ دُونَ الْفَاسِدِ، لِأَنَّ مُطْلَقَ الزَّوْجِيَّةِ يَنْصَرِفُ إِلَى الصَّحِيحِ. قَالَ: (فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهُ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ) لِأَنَّهُ حَدٌّ وَجَبَ عَلَيْهِ فَيُحْبَسُ فِيهِ لِقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ (أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فَيُحَدَّ) لِأَنَّهُ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ سَقَطَ اللِّعَانُ، وَإِذَا سَقَطَ اللِّعَانُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَخْلُو عَنْ مُوجَبٍ، فَإِذَا سَقَطَ اللِّعَانُ صِرْنَا إِلَى حَدِّ الْقَذْفِ، إِذْ هُوَ الْأَصْلُ. (فَإِذَا لَاعَنَ وَجَبَ عَلَيْهَا اللِّعَانُ) بِالنَّصِّ، (وَتُحْبَسُ حَتَّى تُلَاعِنَ) لِمَا بَيَّنَّا، (أَوْ تُصَدِّقَهُ) فَلَا حَاجَةَ إِلَى اللِّعَانِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَا، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْأَقَارِيرُ الْأَرْبَعَةُ عِنْدَنَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تُحَدُّ لِأَنَّ الزَّانِيَ يُحَدُّ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَبْتَدِئُ فِي اللِّعَانِ بِالزَّوْجِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَدَأَ بِالزَّوْجِ، فَلَمَّا الْتَعنَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا، فَإِنِ الْتَعَنَتِ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا ثُمَّ الزَّوْجُ أَعَادَتْ لِيَكُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَشْرُوعِ، فَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْإِعَادَةِ جَازَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَلَاعُنُهُمَا وَقَدْ وُجِدَ. قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ) بِأَنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ كَافِرًا (فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) لِأَنَّ اللِّعَانَ امْتَنَعَ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ، فَيَرْجِعُ إِلَى الْمُوجَبِ الْأَصْلِيِّ (وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَهِيَ مِمَّنْ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا) بِأَنْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ كَافِرَةً أَوْ مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ أَوْ صَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَوْ زَانِيَةٍ (فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ) لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهَا فَصَارَ كَمَا إِذَا صَدَّقَتْهُ، (وَيُعَزَّرُ) لِأَنَّهُ آذَاهَا وَأَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهَا وَلَمْ يَجِبِ الْحَدُّ فَيَجِبُ التَّعْزِيرُ حَسْمًا لِهَذَا الْبَابِ، وَلَوْ كَانَا مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ حُدَّ لِأَنَّ اللِّعَانَ امْتَنَعَ مِنْ جِهَتِهِ لِأَنَّهُ يُبْدَأُ بِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: " وَالْمُسْلِمُ تَحْتَهُ كَافِرَةٌ، وَالْكَافِرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وَصِفَةُ اللِّعَانِ أَنْ يَبْتَدِئَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِ فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ يَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ يَقُولُ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَ بِهِمَا يَقُولُ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنَ الزِّنَا وَمِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ. ثُمَ تَشْهَدُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَفِي نَفْيِ الْوَلَدِ تَذْكُرُهُ، فَإِذَا الْتَعَنَا فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا، فَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً (س) ،   [الاختيار لتعليل المختار] تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ "، وَصُورَتُهُ: إِذَا كَانَا كَافِرَيْنِ فَأَسْلَمَتْ فَقَذَفَهَا قَبْلَ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ. (وَصِفَةُ اللِّعَانِ أَنْ يَبْتَدِئَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِ فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ يَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُكَ بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَيَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ يَقُولُ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ بِهِمَا يَقُولُ: فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنَ الزِّنَا وَمِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ) لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ. (ثُمَّ تَشْهَدُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ تَقُولُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَفِي نَفْيِ الْوَلَدِ تَذْكُرُهُ) كَمَا تَقَدَّمَ. (فَإِذَا الْتَعنَا فَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا) وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الْحُكْمِ حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ وَرِثَهُ الْآخَرُ. وَقَالَ زُفَرُ: تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالتَّلَاعُنِ لِوُقُوعِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ بَيْنَهُمَا بِالنَّصِّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْفُرْقَةِ. وَلَنَا مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَهُمَا قَالَ الزَّوْجُ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا إِنْ أَمْسَكْتُهَا هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا» . قَالَ الرَّاوِي: فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِفِرَاقِهَا، فَأَمْضَى عَلَيْهِ ذَلِكَ فَصَارَ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَلَوْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِتَلَاعُنِهِمَا لَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ، وَلَمَا أَمْضَاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَبَيَّنَ لَهُ بُطَلَانَ اعْتِقَادِهِ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الِاسْتِمْتَاعِ تَثْبُتُ بِاللِّعَانِ، لِأَنَّ اللَّعْنَ وَالْغَضَبَ نَزَلَ بِأَحَدِهِمَا بِيَقِينٍ وَأَثَرُهُ بُطَلَانُ النِّعْمَةِ، وَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ نِعْمَةٌ وَالزَّوْجِيَّةُ نِعْمَةٌ، وَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ أَقَلُّهُمَا فَيَحْرُمُ، وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهِ لِأَنَّهَا بِسَبَبِ قَذْفِهِ، فَقَدْ فَوَّتَ عَلَيْهَا الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ، فَإِذَا لَمْ يُسَرِّحْهَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ كَانَ ظَالِمًا لَهَا فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ دَفْعًا لِلظُّلْمِ. (فَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً) لِأَنَّهُ كَفِعْلِ الزَّوْجِ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ، وَثَمَرَتُهُ إِذَا أَكْذَبَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ نَفَى الْقَاضِي نَسَبَهُ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ، وَإِذَا قَالَ: حَمْلُكِ لَيْسَ مِنِّي فَلَا لِعَانَ (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] نَفْسَهُ حَدَّهُ الْقَاضِي وَعَادَ خَاطِبًا، وَعِنْدَهُ لَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانَ أَبَدًا» ، وَلَنَا أَنَّهُ إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَمْ يَصِيرَا مُتَلَاعِنَيْنِ وَلَا يَبْقَى حُكْمُهُ، وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالْإِكْذَابِ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَهِيَ تَبْطُلُ بِتَكْذِيبِ الشَّاهِدِ نَفْسَهُ فَلَمْ يَبْقَيَا مُتَلَاعِنَيْنِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُمَا النَّصُّ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ نَفَى الْقَاضِي نَسَبَهُ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَفَى وَلَدَ امْرَأَةِ هِلَالٍ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ. وَإِذَا قَذَفَ الْأَعْمَى امْرَأَتَهُ الْعَمْيَاءَ أَوِ الْفَاسِقُ امْرَأَتَهُ يَجِبُ اللِّعَانُ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخْرَسَ لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا أَوِ ارْتَدَّ أَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ أَوْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا إِنْسَانًا فَحُدَّ لِلْقَذْفِ، أَوْ وُطِئَتْ حَرَامًا بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ بَطَلَ اللِّعَانُ وَلَا حَدَّ وَلَا تَفْرِيقَ، لِأَنَّ مَا مَنَعَ الْوُجُوبَ مَنَعَ الْإِمْضَاءَ لِوُجُودِ الشُّبْهَةِ، وَلَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَقَذَفَهَا زَوْجُهَا لَا لِعَانَ عَلَيْهِ وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ رَجَعَ وَقَالَ: يَجِبُ اللِّعَانُ وَالْحَدُّ لِأَنَّهُ وَطْءٌ يَجِبُ فِيهِ الْمَهْرُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ وَطْءٌ فِي غَيْرِ مِلْكٍ فَأَشْبَهَ الزِّنَا وَصَارَ شُبْهَةً فِي إِسْقَاطِ الْحَدِّ عَنِ الْقَاذِفِ. وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ وُطِئَتْ حَرَامًا لَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ لَمْ يُفَرِّقِ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا حَتَّى عُزِلَ أَوْ مَاتَ فَالْحَاكِمُ الثَّانِي يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَسْتَقْبِلُ لِأَنَّ اللِّعَانَ قَائِمٌ مُقَامَ الْحَدِّ فَصَارَ كَإِقَامَةِ الْحَدِّ حَقِيقَةً، وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ عَزْلُ الْحَاكِمِ وَمَوْتُهُ. وَلَهُمَا أَنَّ تَمَامَ الْإِمْضَاءِ فِي التَّفْرِيقِ وَالْإِنْهَاءِ فَلَا يَتَنَاهَى قَبْلَهُ فَيَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ، وَلَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ ثَلَاثًا أَوْ بَائِنًا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، وَلَوْ كَانَ رَجْعِيًّا لَاعَنَ لِقِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ بِذَلِكَ الْقَذْفِ. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ دُونَ اللِّعَانِ لِأَنَّهُ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً، وَلَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ، لِأَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ وُجُوبِ اللِّعَانِ فَسَقَطَ بِالْبَيْنُونَةِ، وَلَوْ قَذَفَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ لَاعَنَ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَلَوْ قَذَفَ أَرْبَعَ أَجْنَبِيَّاتٍ حُدَّ لَهُنَّ حَدًّا وَاحِدًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الثَّانِيَةِ الزَّجْرُ، وَهُوَ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمَقْصُودُ بِاللِّعَانِ دَفْعُ الْعَارِ عَنِ الْمَرْأَةِ وَإِبْطَالُ نِكَاحِهَا عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِلِعَانٍ وَاحِدٍ. قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: لَيْسَ حَمْلُكِ مِنِّي فَلَا لِعَانَ) وَقَالَا: إِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْقَذْفِ يَجِبُ اللِّعَانُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِقِيَامِ الْحَمْلِ يَوْمَئِذٍ، وَلَهُ أَنَّهُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِقِيَامِ الْحَمْلِ فَلَمْ يَصِرْ قَاذِفًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا فِي الْحَالِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ بِكِ حَمْلٌ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْقَذْفِ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْحَمْلِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَيْهِ وَلَا حُكْمَ عَلَى الْجَنِينِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ كَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلَوْ نَفَى وَلَدَ زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ فَصَدَّقَتْهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وَيَصِحُّ نَفْيُ الْوَلَدِ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ وَفِي حَالَةِ التَّهْنِئَةِ وَابْتِيَاعِ آلَةِ الْوِلَادَةِ فَيُلَاعِنُ وَيَنْفِيهِ الْقَاضِي، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيُلَاعِنُ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَعَلِمَ فَكَأَنَّهَا وَلَدَتْ حَالَ عِلْمِهِ، وَمَنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَاعْتَرَفَ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِيَ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا وَلَاعَنَ، وَإِنْ عَكَسَ فَنَفَى الْأَوَّلَ وَاعْتَرَفَ بِالثَّانِي ثَبَتَ نَسَبُهُمَا وَحُدَّ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ وَهُوَ ابْنُهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ عَلَى نَفْيِهِ، لِأَنَّ النَّسَبَ حَقُّ الْوَلَدِ وَالْأُمُّ لَا تَمْلِكُ إِسْقَاطَ حَقِّ وَلَدِهَا فَلَا يَنْتَفِي بِتَصْدِيقِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ وَاللِّعَانُ لِتَصْدِيقِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَقَدْ قَالَتْ إِنَّهُ لَصَادِقٌ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اللِّعَانُ لَا يَنْتَفِي النَّسَبُ. قَالَ: (وَيَصِحُّ نَفْيُ الْوَلَدِ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ وَفِي حَالَةِ التَّهْنِئَةِ وَابْتِيَاعِ آلَةِ الْوِلَادَةِ فَيُلَاعِنُ وَيَنْفِيهِ الْقَاضِي، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيُلَاعِنُ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّ أَثَرَ الْوِلَادَةِ وَالتَّهْنِئَةِ فِيهَا اعْتِبَارًا بِالْعَقِيقَةِ، وَقَالَا: يَصِحُّ نَفْيُهُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْوِلَادَةِ، وَلَهُ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ نَفَاهُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ انْتَفَى بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ لَمْ يَنْفِهِ حَتَّى طَالَتِ الْمُدَّةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَدٍّ فَاصِلٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُشْهَدُ عَلَيْهِ بِنَسَبِ وَلَدِهِ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِقَبُولِهِ التَّهْنِئَة وَابْتِيَاعِ مَتَاعِ الْوِلَادَةِ وَقَبُولِ هَدِيَّةِ الْأَصْدِقَاءِ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ مَضَى مُدَّةٌ يُفْعَلُ فِيهِ ذَلِكَ عَادَةً وَهُوَ مُمْسِكٌ كَانَ اعْتِرَافًا ظَاهِرًا فَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بَعْدَهُ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَعَلِمَ فَكَأَنَّهَا وَلَدَتْ حَالَ عِلْمِهِ) مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُهُ عِنْدَهُمَا فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ بَعْدَ الْعِلْمِ. وَعِنْدَهُ مُدَّةُ التَّهْنِئَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ النَّسَبُ مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ فَصَارَ حَالَ عِلْمِهِ كَحَالَةِ الْوِلَادَةِ عَلَى الْأَصْلَيْنِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِنْ عَلِمَ قَبْلَ الْفِصَالِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ وَبَعْدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ، لِأَنَّ قَبْلَ الْفِصَالِ كَمُدَّةِ النِّفَاسِ حَيْثُ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ غِذَائِهِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَهُ يَنْتَقِلُ وَيَخْرُجُ عَنْ حَالَةِ الصِّغَرِ فَيَقْبُحُ نَفْيُهُ كَمَا لَوْ بَقِيَ شَيْخًا. قَالَ: (ومَنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَاعْتَرَفَ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِيَ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا وَلَاعَنَ، وَإِنْ عَكَسَ فَنَفَى الْأَوَّلَ وَاعْتَرَفَ بِالثَّانِي ثَبَتَ نَسَبُهُمَا وَحُدَّ) أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، فَمَتَى ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا بِاعْتِرَافِهِ ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً. وَأَمَّا اللِّعَانُ فِي الْأُولَى وَالْحَدُّ فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ لَمَّا نَفَى الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ فَيُلَاعِنُ، وَفِي الثَّانِيَةِ لَمَّا نَفَى الْأَوَّلَ صَارَ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ بِاعْتِرَافِهِ الثَّانِي فَيُحَدُّ، وَلَوْ قَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ: هُمَا ابْنَايَ لَا يُحَدُّ وَلَا يَكُونُ تَكْذِيبًا لِأَنَّهُ صَادِقٌ لِأَنَّهُمَا لَزِمَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَكَانَ مُخْبِرًا عَمَّا ثَبَتَ بِالْحُكْمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 بَابُ الْعِدَّةِ عِدَّةُ الْحُرَّةِ الَّتِي تَحِيضُ فِي الطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ بَعْدَ الدُّخُولِ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَالصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَعِدَّتُهُنَّ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَعِدَّةُ الْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ حَيْضَتَانِ، وَفِي الصِّغَرِ وَالْإِيَاسِ شَهْرٌ وَنِصْفٌ، وَعِدَّتُهَا فِي الْوَفَاةِ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيِّامٍ، وَعِدَّةُ الْكُلِّ فِي الْحَمْلِ وَضْعُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ الْعِدَّةِ] وَهُوَ مَصْدَرُ عَدَّهُ يَعُدُّهُ، «وَسُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَتَى تَكُونُ الْقِيَامَةُ؟ قَالَ: إِذَا تَكَامَلَتِ الْعِدَّتَانِ» أَيْ عِدَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعِدَّةُ أَهْلِ النَّارِ: أَيْ عَدَدُهُمْ، وَسُمِّيَ الزَّمَانُ الَّذِي تَتَرَبَّصُ فِيهِ الْمَرْأَةُ عَقِيبَ الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ عِدَّةٌ لِأَنَّهَا تَعُدُّ الْأَيَّامَ الْمَضْرُوبَةَ عَلَيْهَا وَتَنْتَظِرُ أَوَانَ الْفَرَجِ الْمَوْعُودِ لَهَا. وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] ، وَقَوْلُهُ: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] . وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْحَيْضُ، وَالشُّهُورُ، وَوَضْعُ الْحَمْلِ، وَبِكُلِّ ذَلِكَ نَطَقَ الْكِتَابِ. وَتَجِبُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بِالطَّلَاقِ، وَبِالْوَفَاةِ، وَبِالْوَطْءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (عِدَّةُ الْحُرَّةِ الَّتِي تَحِيضُ فِي الطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ بَعْدَ الدُّخُولِ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَالصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَعِدَّتُهُنَّ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ) لِمَا تَلَوْنَا مِنَ الْآيَاتِ، وَالْفُرْقَةُ بِالْفَسْخِ كَالطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ لِلتَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَأَنَّهُ يَشْمَلُهُمَا. (وَعِدَّةُ الْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ حَيْضَتَانِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» ، (وَفِي الصِّغَرِ وَالْإِيَاسِ شَهْرٌ وَنِصْفٌ) لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصَّفٌ إِلَّا أَنَّ الْحَيْضَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فَكُمِّلَتِ احْتِيَاطًا، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوِ اسْتَطَعْتُ لَجَعَلْتُهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا. أَمَّا الشَّهْرُ فَيَتَجَزَّأُ فَجَعَلْنَاهُ شَهْرًا وَنِصْفًا، (وَعِدَّتُهَا فِي الْوَفَاةِ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ) لِمَا بَيَّنَّا. (وَعِدَّةُ الْكُلِّ فِي الْحَمْلِ وَضْعُهُ) لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَلَا بَرَاءَةَ مَعَ وُجُودِ الْحَمْلِ وَلَا شُغْلَ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَحَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى - يَعْنِي سُورَةَ الطَّلَاقِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]- نَزَلَتْ بَعْدَ الَّتِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 وَلَا عِدَّةَ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَا عَلَى الذِّمِّيَّةِ فِي طَلَاقِ الذِّمِّيِّ، وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ مَوْتِ سَيِّدِهَا وَالْإِعْتَاقِ ثَلَاثُ حِيَضٍ أَوْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرِ، وَالْعِدَّةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ بِالْحَيْضِ فِي الْمَوْتِ وَالْفُرْقَةِ، وَعِدَّةُ امْرَأَةِ الْفَارِّ أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ فِي الْبَائِنِ (سُ) ، وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي الرَّجْعِيِّ، وَلَوْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إِلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ وَفِي الْبَائِنِ لَا، وَلَوِ اعْتَدَّتِ الْآيِسَةُ بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ   [الاختيار لتعليل المختار] فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: يَعْنِي {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ} [البقرة: 234] الْآيَةَ. وَإِنْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ إِذَا اسْتَبَانَ فَهُوَ وَلَدٌ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا وَغَيْرَ وَلَدٍ فَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالشَّكِّ. قَالَ: (وَلَا عِدَّةَ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِ: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، قَالَ: (وَلَا عَلَى الذِّمِّيَّةِ) وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ، وَلَا عِدَّةَ فِي نِكَاحِ الْفُضُولِيِّ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ فَلَمْ يَنْعَقِدْ فِي حَقِّ حُكْمِهِ فَلَا يُوَرِّثُ شُبْهَةَ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ، وَالْعِدَّةُ وَجَبَتْ صِيَانَةً لِلْمَاءِ الْمُحْتَرَمِ عَنِ الْخَلْطِ وَاحْتِرَازًا عَنِ اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ. قَالَ: (وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ مَوْتِ سَيِّدِهَا وَالْإِعْتَاقِ ثَلَاثُ حِيَضٍ أَوْ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةَ أُمَّ وَلَدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اعْتَدَّتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَإِمَّا أَنَّهَا نَقَلَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثُ حِيَضٍ، وَلَوْ زَوَّجَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْفِرَاشَ انْتَقَلَ إِلَى الزَّوْجِ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِأَنَّ الْفِرَاشَ عَادَ إِلَيْهِ وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ. قَالَ: (وَالْعِدَّةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ بِالْحَيْضِ فِي الْمَوْتِ وَالْفُرْقَةِ) لِأَنَّهُ لِلتَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَلَا تَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ. قَالَ: (وَعِدَّةُ امْرَأَةِ الْفَارِّ أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ فِي الْبَائِنِ وَعِدَّةُ الْوَفَاةِ فِي الرَّجْعِيِّ) وَهِيَ إِذَا طَلَّقَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ فَوَرِثَتْ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ فِي الْبَائِنِ لِأَنَّ النِّكَاحَ انْقَطَعَ بِالطَّلَاقِ وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ، إِلَّا أَنَّهُ بَقِيَ أَثَرُهُ فِي الْإِرْثِ لِمَا بَيَّنَّا لَا فِي تَغْيِيرِ الْعِدَّةِ، وَبِخِلَافِ الرَّجْعِيِّ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَلَهُمَا أَنَّهُ بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ فَلَأَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ الْعِدَّةِ أَوْلَى، لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا فَيَجِبُ أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ. قَالَ: (وَلَوْ أُعْتِقَتِ الْأَمَةُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إِلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ، وَفِي الْبَائِنِ لَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي الرَّجْعِيِّ دُونَ الْبَائِنِ، وَمَوْتُهُ كَالْبَيْنُونَةِ. قَالَ: (وَلَوِ اعْتَدَّتِ الْآيِسَةُ بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ الصَّغِيرَةُ ثُمَ رَأَتْهُ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ اسْتَأْنَفَتْ بِالْحَيْضِ، وَلَوِ اعْتَدَّتْ بِحَيْضَةٍ أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتِ اسْتَأْنَفَتْ بِالشُّهُورِ. وَابْتِدَاءُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ عَقِيبَهُ وَالْوَفَاةِ عَقِيبَهَا، وَتَنْقَضِي بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِهِمَا.   [الاختيار لتعليل المختار] بَعْدَ ذَلِكَ أَوِ الصَّغِيرَةُ ثُمَّ رَأَتْهُ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ اسْتَأْنَفَتْ بِالْحَيْضِ) أَمَّا الْآيِسَةُ فَلِأَنَّ بِالْعَوْدِ عَلِمْنَا أَنَّهَا غَيْرُ آيِسَةٍ وَأَنَّ عِدَّتَهَا الْحَيْضُ وَصَارَتْ كَالْمُمْتَدِّ طُهْرُهَا فَتَسْتَأْنِفُ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالْأَشْهُرِ مُمْتَنِعٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ أَثَرٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ بَشَرٌ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ فَتَعَيَّنَ الْحَيْضُ، أَوْ نَقُولُ: الْأَشْهُرُ خَلَفٌ عَنِ الْحَيْضِ وَقَدْ قُدِّرَتْ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخُلْفِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي صَلَاتِهِ (وَلَوِ اعْتَدَّتْ بِحَيْضَةٍ أَوْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتِ اسْتَأْنَفَتْ بِالشُّهُورِ) لِمَا بَيَّنَّا. [فصل في الأقراء وهي الحيض] فَصْلٌ الْأَقْرَاءُ: الْحيضُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءَ وَابْنِ الصَّامِتِ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: إِنَّهَا الْأَطْهَارُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ اسْمَ الْقُرْءِ يَقَعُ عَلَى الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ جَمِيعًا لُغَةً حَقِيقَةً، يُقَالُ: أَقَرَأَتِ الْمَرْأَةُ: إِذَا حَاضَتْ، وَأَقْرَأَتْ: إِذَا طَهُرَتْ، وَأَصْلُهُ الْوَقْتُ لِمَجِيءِ الشَّيْءِ وَذَهَابِهِ، يُقَالُ: رَجَعَ فُلَانٌ لِقُرْئِهِ: أَيْ لِوَقْتِهِ الَّذِي يَرْجِعُ فِيهِ. وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا الْحيضُ يَقُولُ: لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِاسْتِكْمَالِ ثَلَاثِ حِيَضٍ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا الْأَطْهَارُ يَقُولُ: إِذَا شَرَعَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحيضِ أَوْلَى بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ. أَمَّا النَّصُّ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمُسْتَحَاضَةِ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» ، وَإِنَّمَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ الْحَيْضِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ» ، وَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، فَمَنْ قَالَ إِنَّهُ للْحيضِ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثِ حِيَضٍ فَيَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ، وَمَنْ قَالَ إِنَّهُ الْأَطْهَارُ لَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ عَلَى قَوْلِهِ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَوْ وَقَعَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ بِطُهْرَيْنِ آخَرَيْنِ وَبِالشُّرُوعِ فِي الثَّالِثِ فَلَا يُوجَدُ الْجَمْعُ، وَالْعَمَلُ بِمَا يُوَافِقُ لَفْظَ النَّصِّ أَوْلَى. قَالَ: (وَابْتِدَاءُ عِدَّةِ الطَّلَاقِ عَقِيبَهُ وَالْوَفَاةِ عَقِيبهَا وَتَنْقَضِي بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِهِمَا) لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْوَفَاةَ هُوَ السَّبَبُ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ مِنْ وَقْتِ كَذَا فَكَذَّبَتْهُ أَوْ قَالَتْ لَا أَدْرِي وَجَبَتِ الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ وَيُجْعَلُ هَذَا إِنْشَاءً احْتِيَاطًا، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ فَمِنْ وَقْتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 وَابْتِدَاءُ عِدَّةٍ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَقِيبَ التَّفْرِيقِ أَوْ عَزْمِهِ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ (ز) ، وَإِذَا وُطِئَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِشُبْهَةٍ فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ وَأُخْرَى وَيَتَدَاخَلَانِ، فَإِنْ حَاضَتْ حَيْضَةً ثُمَّ وُطِئَتْ كَمَّلَهَا بِثَلَاثٍ أُخَرَ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْعِدَّةِ شَهْرَانِ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] الطَّلَاقِ. وَاخْتِيَارُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ يَجِبُ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ تَحَرُّزًا عَنِ الْمُوَاضَعَةِ وَزَجْرًا لَهُ عَنْ كِتْمَانِ طَلَاقِهَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسَبِّبًا لِوُقُوعِهَا فِي الْمُحَرَّمِ وَلَا تَجِبُ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ مَهْرًا ثَانِيًا إِنْ وُجِدَ الدُّخُولُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ إِلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَقَدْ صَدَّقَتْهُ. قَالَ: (وَابْتِدَاءُ عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَقِيبَ التَّفْرِيقِ أَوْ عَزْمِهِ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ) ، وَقَالَ زُفَرُ: مِنْ آَخِرِ الْوَطْئَاتِ لِأَنَّ الْوَطْءَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ. وَلَنَا أَنَّ التَّمْكِينَ مِنَ الْوَطْءِ عَلَى وَجْهِ الشُّبْهَةِ أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ لِخَفَائِهِ فَيُجْعَلُ وَاطِئًا حُكْمًا إِلَى حَالَةِ التَّفْرِيقِ أَوْ عَزْمِ التَّرْكِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ مِنْ حِينِ انْقِطَاعِ الْوَطْءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ. قَالَ: (وَإِذَا وُطِئَتِ الْمُعْتَدَّةُ بِشُبْهَةٍ فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ أُخْرَى) لِوُجُودِ السَّبَبِ (وَيَتَدَاخَلَانِ، فَإِنْ حَاضَتْ حَيْضَةً ثُمَّ وُطِئَتْ كَمَّلَتْهَا بِثَلَاثٍ أُخَرَ) ، وَتُحْسَبُ حَيْضَتَانِ مِنَ الْعِدَّتَيْنِ وَتُكَمَّلُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ تَتِمَّةً لِلثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِدَّةِ التَّعَرُّفُ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَأَنَّهُ حَاصِلٌ بِالْعِدَّةِ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثِ حِيَضٍ بَعْدَ الْوَطْءِ الثَّانِي وَبِهِ تُتَعَرَّفُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَلِلثَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْأُولَى لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ، وَلَوْ وُطِئَتِ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ تَمَّمَتْهَا، وَمَا تَرَاهُ مِنَ الْحَيْضِ فِيهَا يُحْتَسَبُ مِنَ الثَّانِيَةِ، فَإِنِ اسْتَكْمَلَتْ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ فَقَدِ انْقَضَتَا مَعًا وَإِلَّا تَمَّمَتِ الثَّانِيَةَ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَيْضِهَا لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْعِدَّةِ شَهْرَانِ) أَيْ مُدَّةٌ تَنْقَضِي فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ. وَقَالَا: أَقَلُّهَا تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَثَلَاثُ سَاعَاتٍ لِأَنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَقَلُّ الطُّهْرِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمَّ يُقَدَّرُ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ قَبْلَ أَوَانِ الْحَيْضِ بِسَاعَةٍ فَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ حَيْضٌ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرٌ، ثُمَّ ثَلَاثَةٌ حَيْضٌ، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرٌ، ثُمَّ ثَلَاثَةٌ حَيْضٌ فَكَمُلَتِ الْعِدَّةُ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يُخْرِجُهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ، أَحَدُهُمَا: يَعْتَبِرُ أَكْثَرَ الْحَيْضِ احْتِيَاطًا، فَيَبْدَأُ بِالْحَيْضِ عَشْرَةً، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرٌ، ثُمَّ عَشْرَةٌ حَيْضٌ، ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ طُهْرٌ، ثُمَّ عَشْرَةٌ حَيْضٌ فَذَلِكَ سِتُّونَ يَوْمًا، وَهَذِهِ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ، وَالْآخَرُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْوَسَطَ مِنَ الْحَيْضِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَيَّامٍ، وَيَجْعَلُ مَبْدَأَ الطَّلَاقِ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ عَمَلًا بِالسُّنَّةِ، فَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرٌ وَخَمْسَةٌ حَيْضٌ، هَكَذَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ يَكُونُ سِتِّينَ يَوْمًا، وَالْأَمَةُ تُصَدَّقُ عِنْدَهُمَا فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا، سِتَّةُ أَيَّامٍ حَيْضَتَانِ، وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا طُهْرٌ بَيْنَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَعَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ خَمْسَةٌ وَثَلَاثِينَ. وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا وَقَدْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالْوِلَادَةِ، فَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا، وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ مِائَةُ يَوْمٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخْطَبَ الْمُعْتَدَّةُ، وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ، وَفِي الْأَمَةِ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ، وَرِوَايَةِ الْحَسَنِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَثَلَاثُ سَاعَاتٍ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ لِمَنْ يَتَأَمَّلُهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ إِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِلْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ أَوِ الْمَوْتُ غُرَّةَ الشَّهْرِ اعْتَبَرَتِ الشُّهُورَ بِالْأَهِلَّةِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ نَقُصَ عَدَدُهَا، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ تَعْتَبِرُ بِالْأَيَّامِ فَتَعْتَدُّ فِي الطَّلَاقِ بِتِسْعِينَ يَوْمًا، وَفِي الْوَفَاةِ مِائَةٌ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَرُوِيَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ: تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ وَتُكَمِّلُهُ مِنَ الشَّهْرِ الرَّابِعِ، وَتَعْتَدُّ بِشَهْرَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِالْأَهِلَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ الشُّهُورِ بِالْأَهِلَّةِ إِلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ فِي الْأَوَّلِ فَيُعْمَلُ فِيهِ بِالْأَيَّامِ لِأَنَّهَا كَالْبَدَلِ عَنِ الْأَهِلَّةِ، وَيُعْمَلُ فِي الْبَاقِي بِالْأَصْلِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُدْخَلُ الشَّهْرُ الثَّانِي وَلَا يُعَدُّ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَوَّلِ، وَلَا انْقِضَاءَ لِلْأَوَّلِ إِلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِهِ فَيُكَمَّلُ الْأَوَّلُ مِنَ الثَّانِي، وَهَكَذَا الثَّانِي مَعَ الثَّالِثِ فَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ فِي الْكُلِّ، وَعَلَى هَذَا مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ إِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا سَنَةً وَالْإِجَارَاتُ وَنَحْوُهَا. وَإِذَا قَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي صُدِّقَتْ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فَإِنْ كَذَّبَهَا الزَّوْجُ حَلَفَتْ كَالْمُودَعِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حَدِّ الْإِيَاسِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُعْتَبَرُ بِأَقْرَانِهَا مِنْ قَرَابَتِهَا، وَقِيلَ يُعْتَبَرُ بِتَرْكِيبِهَا لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِسِتِّينَ سَنَةٍ. وَعَنْهُ فِي الرُّومِيَّاتِ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ، وَفِي الْمُوَلَّدَاتِ سِتِّينَ، وَقِيلَ خَمْسِينَ سَنَةً، وَالْفَتْوَى عَلَى خَمْسٍ وَخَمْسِينَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْهُ أَيْضًا مَا بَيْنَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ إِلَى سِتِّينَ. وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ: الْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ إِذَا رَأَتِ الدَّمَ مُدَّةَ الْحَيْضِ فَهُوَ حَيْضٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ آفَةٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيُّ: هَذَا إِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِإِيَاسِهَا، فَأَمَّا إِذَا حُكِمَ بِإِيَاسِهَا ثُمَّ رَأَتِ الدَّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ. وَالْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ تَحِضْ أَبَدًا حَتَّى بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَا يَحِيضُ فِيهِ أَمْثَالُهَا غَالِبًا حُكِمَ بِإِيَاسِهَا. وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: إِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَلَمْ تَحِضْ حُكِمَ بِإِيَاسِهَا. قَالَ: (وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخْطَبَ الْمُعْتَدَّةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] الْمُرَادُ بِهِ الْمُعْتَدَّاتُ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَفَى الْجُنَاحَ فِي التَّعْرِيضِ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى فَيَلْزَمُ كَرَاهَةُ التَّصْرِيحِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. (وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ) لِأَنَّهُ تَعَالَى نَفَى الْجُنَاحَ فَإِنَّهُ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ. وَرُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَذَكَرَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُتَحَامِلٌ عَلَى يَدِهِ حَتَّى أَثَّرَ الْحَصِيرُ عَلَى يَدِهِ مِنْ شِدَّةِ تَحَامُلِهِ عَلَيْهَا» وَأَنَّهُ تَعْرِيضٌ. وَالتَّعْرِيضُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَأَوَدُّ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ، وَإِنْ تَزَوَّجْتُكِ لَأُحْسِنَنَّ إِلَيْكِ، وَمِثْلُكِ مَنْ يُرْغَبُ فِيهِ وَيَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَنَحْوِهِ. وَعَنِ النَّخَعِيِّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَهْدِيَ إِلَيْهَا وَيَقُومَ بِشُغْلِهَا فِي الْعِدَّةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 وَعَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ إِذَا كَانَتْ بَالِغَةً مُسْلِمَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً الْحِدَادُ، وَهُوَ تَرْكُ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ وَالْكُحْلِ وَالدُّهْنِ وَالْحِنَّاءِ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] إِنْ كَانَتْ مِنْ شَأْنِهِ، وَالتَّصْرِيحُ قَوْلُهُ: أَنْكِحُكِ، وَأَتَزَوَّجُ بِكِ وَنَحْوُهُ. وَأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «السِّرُّ النِّكَاحُ» ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا. أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ وَلَا التَّلْوِيحُ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَوَّلِ قَائِمٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. [فصل في الحداد] فَصْلٌ (وَعَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ عَنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ إِذَا كَانَتْ بَالِغَةً مُسْلِمَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً الْحِدَادُ) وَيُقَالُ الْإِحْدَادُ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ امْرَأَةً مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْتَأْذِنُهُ فِي الِانْتِقَالِ فَقَالَ: كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ فِي أَشَرِّ أَحْلَاسِهَا إِلَى الْحَوْلِ، أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا؟» ، فَدَلَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهَا أَنْ تُقِيمَ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» ، وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ: الْحِنَّاءُ طِيبٌ» ، وَأَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُعْتَدَّةٍ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَرُمَ عَلَيْهَا النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ أُمِرَتْ بِتَجَنُّبِ الزِّينَةِ حَتَّى لَا تَكُونَ بِصِفَةِ الْمُلْتَمِسَةِ لِلْأَزْوَاجِ وَأَنَّهُ يَعُمُّ الْفَصْلَيْنِ، وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ إِظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ مَئُونَتِهَا وَكِفَايَتِهَا مِنَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا. قَالَ: (وَهُوَ تَرْكُ الطِّيبِ وَالزِّينَةِ وَالْكُحْلِ وَالدُّهْنِ وَالْحِنَّاءِ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ) لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ الْحِنَّاءِ، وَقَوْلِهِ: «الْحِنَّاءُ طِيبٌ» ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الطِّيبَ مَحْظُورٌ عَلَيْهَا، وَيَدْخُلُ فِيهِ الثَّوْبُ الْمُطَيَّبُ وَالْمُعَصْفَرُ وَالْمُزَعْفَرُ حَتَّى قَالُوا: لَوْ كَانَ غَسِيلًا لَا يَنْفَضُّ جَازَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ رَائِحَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ مَصْبُوغٌ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ عُذْرٌ، وَلَا تَمْتَشِطُ لِأَنَّهُ زِينَةٌ، فَإِنْ كَانَ فَالْأَسْنَانُ الْمُنْفَرِجَةُ دُونَ الْمَضْمُومَةِ، وَلَا تَلْبَسُ حُلِيًّا لِأَنَّهُ زِينَةٌ، وَلَا تَلْبَسُ قَصَبًا وَلَا خَزًّا لِأَنَّهُ زِينَةٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِالْقَصَبِ وَالْخَزِّ الْأَحْمَرِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ ذَلِكَ يُلْبَسُ لِلْحَاجَةِ وَيُلْبَسُ لِلزِّينَةِ فَيُعْتَبَرُ الْقَصْدُ فِي لُبْسِهِ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَأْذَنْ لِلْمَبْتُوتَةِ فِي الِاكْتِحَالِ» بِخِلَافِ حَالَةِ التَّدَاوِي لِأَنَّهُ عُذْرٌ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وَلَا تَخْرُجُ الْمَبْتُوتَةُ مِنْ بَيْتِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ تَخْرُجُ نَهَارًا وَبَعْضَ اللَّيْلِ وَتَبِيتُ فِي مَنْزِلَهَا، وَالْأَمَةُ تَخْرُجُ لِحَاجَةِ الْمَوْلَى فِي الْعِدَّتَيْنِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا، وَتَعْتَدُّ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ إِلَّا أَنْ يَنْهَدِمَ أَوْ تُخْرَجَ مِنْهُ أَوْ لَا تَقْدِرَ عَلَى أُجْرَتِهِ فَتَنْتَقِلَ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَكَانَ ضَرُورَةً دُونَ التَّزَيُّنِ، وَكَذَا إِذَا خَافَتْ مِنْ تَرْكِ الدُّهْنِ وَالْكُحْلِ حُدُوثَ مَرَضٍ بِأَنْ كَانَتْ مُعْتَادَةً لِذَلِكَ يُبَاحُ لَهَا ذَلِكَ. وَلَا إِحْدَادَ عَلَى صَغِيرَةٍ وَلَا مَجْنُونَةٍ لِعَدَمِ الْخِطَابِ وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرَةِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ لِأَنَّهَا أَهْلٌ لِلْعِبَادَاتِ وَلَيْسَ فِيهَا إِبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى، وَلَيْسَ فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إِحْدَادٌ لِأَنَّهُ لَا يُتَأَسَّفُ عَلَى زَوَالِهِ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الزَّوَالِ وَلِأَنَّهُ نِقْمَةٌ فَزَوَالُهُ نِعْمَةٌ. قَالَ: (وَلَا تَخْرُجُ الْمَبْتُوتَةُ مِنْ بَيْتِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] ، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ فَلَا حَاجَةَ لَهَا إِلَى الْخُرُوجِ كَالزَّوْجَةِ، حَتَّى لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا قِيلَ تَخْرُجُ نَهَارًا لِمَعَاشِهَا، وَقِيلَ لَا وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهَا اخْتَارَتْ إِسْقَاطَ نَفَقَتِهَا فَلَا يُؤَثِّرُ فِي إِبْطَالِ حَقِّ الْمُخْتَلِعَةِ عَلَيْهَا عَلَى أَنْ لَا سُكْنَى لَهَا لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ. قَالَ: (وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ تَخْرُجُ نَهَارًا وَبَعْضَ اللَّيْلِ وَتَبِيتُ فِي مَنْزِلِهَا) لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فَتَضْطَرُّ إِلَى الْخُرُوجِ لِإِصْلَاحِ مَعَاشِهَا وَرُبَّمَا امْتَدَّ ذَلِكَ إِلَى اللَّيْلِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ تَبِيتَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ لِمَا بَيَّنَّا. (وَالْأَمَةُ تَخْرُجُ لِحَاجَةِ الْمَوْلَى فِي الْعِدَّتَيْنِ فِي الْوَقْتَيْنِ جَمِيعًا) لِمَا فِي الْمَنْعِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّهِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى بَوَّأَهَا لَمْ تَخْرُجْ مَا دَامَتْ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يُخْرِجَهَا الْمَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ وَالْكِتَابِيَّةُ تَخْرُجُ إِلَّا إِذَا مَنَعَهَا الزَّوْجُ لِصِيَانَةِ مَائِهِ، وَالْمَجْنُونَةُ وَالْمَعْتُوهَةُ كَالذِّمِّيَّةِ، وَالصَّبِيَّةُ تَخْرُجُ لِأَنَّهَا لَا يَلْزَمُهَا الْعِبَادَاتُ، وَلَا حَقَّ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُ لِحِفْظِ الْوَلَدِ، وَلَا وَلَدَ إِلَّا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، فَلَا تَخْرُجُ إِلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ لِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ. (وَتَعْتَدُّ فِي الْبَيْتِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ) لِأَنَّهُ الْبَيْتُ الْمُضَافُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي تَسْكُنُهُ، «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلَّتِي قُتِلَ زَوْجُهَا: اسْكُنِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» . قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَنْهَدِمَ أَوْ تَخْرُجَ مِنْهُ أَوْ لَا تَقْدِرَ عَلَى أُجْرَتِهِ فَتَنْتَقِلُ) لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الضَّرَرِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا إِذَا انْهَدَمَ فَلِأَنَّ السُّكْنَى فِي الْخَرِبَةِ لَا تَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهَا وَمَالِهَا، ثُمَّ قِيلَ تَنْتَقِلُ حَيْثُ شَاءَتْ إِلَّا أَنْ تَكُونَ مَبْتُوتَةً فَتَنْتَقِلُ إِلَى حَيْثُ شَاءَ الرَّجُلَ لِأَنَّهُ الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] وَإِذَا حَوَّلَهَا الْوَرَثَةُ أَوْ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ فَهِيَ مَعْذُورَةٌ فِي ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ نَقَلَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ لَمَّا قُتِلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ، وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَقَلَتْ أُخْتَهَا لَمَّا قُتِلَ طَلْحَةُ رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 فَصْلٌ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَكْثَرُهَا سَنَتَانِ، وَإِذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ، وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا، وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَجْعِيَّةِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لَأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بَانَتْ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ رَجْعَةً، وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَنْهُ، وَلَوْ طُلِبَ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ فَلِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الضَّرَرِ، وَصَارَ كَثَمَنِ الْمَاءِ لِلْمُسَافِرِ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ إِذَا كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ، وَلَوْ أَبَانَهَا وَالْمَنْزِلٌ وَاحِدٌ يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سِتْرَةً، وَكَذَلِكَ الْوَرَثَةُ فِي الْوَفَاةِ، فَإِنْ لَمْ يَجْعَلُوا انْتَقَلَتْ تَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ، وَإِذَا كَانَ الْمُطَلِّقُ غَائِبًا وَطَلَبَ أَهْلُ الْمَنْزِلِ الْأُجْرَةَ أَعْطَتْهُمْ بِإِذْنِ الْقَاضِي وَيَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ. [فصل أَقَلُّ الْحَمْلِ وَأَكْثَرُهُ] فَصْلٌ (أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ عُثْمَانُ بِرَجْمِهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ لَخَصِمَتكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، وَقَالَ: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فَبَقِيَ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. . قَالَ: (وَأَكْثَرُهَا سَنَتَانِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: لَا يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِفَرْكَةِ مَغْزِلٍ، وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا تَوْقِيفًا إِذْ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ مَجَالٌ، فَكَأَنَّهَا رَوَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ: (وَإِذَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهَا بِيَقِينٍ فَصَارَ كَأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِهِ، (و) إِنْ جَاءَتْ بِهِ (لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا) يَثْبُتُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهَا فَيَكُونُ مِنْ حَمْلٍ حَادِثٍ بَعْدَهُ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ. قَالَ: (وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ) لِاحْتِمَالِ الْوَطْءِ وَالْعُلُوقِ فِي الْعِدَّةِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ، (فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بَانَتْ) لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، (وَيَثْبُتُ النَّسَبُ) لِوُجُودِ الْعُلُوقِ فِي النِّكَاحِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ، (وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا) لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْعُلُوقُ قَبْلَ الطَّلَاقِ، وَيُحْتَمَلُ بَعْدَهُ فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ. (وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ رَجْعَةً) لِأَنَّ الْعَلُوقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْهُ وَأَنَّهُ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ حَمْلًا لِحَالِهِمَا عَلَى الْأَحْسَنِ وَالْأَصْلَحِ. قَالَ: (وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ) لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْحَمْلَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وَلَا يَثْبُتُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ (ز) ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُعْتَدَّةِ إِلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ (سم) ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ حَبَلٍ ظَاهِرٍ، أَوِ اعْتِرَافِ الزَّوْجِ، أَوْ تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الصَّغِيرَةِ رَجْعِيَّةً (س) كَانَتْ أَوْ مَبْتُوتَةً (س) إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ بِسَاعَةٍ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ وَلَدْتِ فَأَنَتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتِ امْرَأَةٌ بِالْوِلَادَةِ لَمْ تَطْلُقْ (سَمِّ) ،   [الاختيار لتعليل المختار] كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ الْفِرَاشُ زَائِلًا بِيَقِينٍ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ احْتِيَاطًا. (وَلَا يَثْبُتُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ) لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُدُوثِ الْحَمْلِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةِ الْعِدَّةِ. وَقَالَ زُفَرُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ: إِذَا جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ انْقِضَائِهَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا يَثْبُتُ، لِأَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ بِانْقِضَائِهَا بِالْأَشْهُرِ فَصَارَ كَإِقْرَارِهَا. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ وَضْعُ الْحَمْلِ، بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحَمْلِ فِيهَا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْبُلُوغِ. قَالَ: (وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُعْتَدَّةِ إِلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، أَوْ حَبَلٍ ظَاهِرٍ، أَوِ اعْتِرَافِ الزَّوْجِ، أَوْ تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ) ، وَقَالَا: يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْفِرَاشَ قَائِمٌ لِقِيَامِ الْعِدَّةِ، وَهُوَ مُلْزِمٌ لِلنَّسَبِ كَقِيَامِ النِّكَاحِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِوَضْعِ الْحَمْلِ انْقَضَتِ الْعِدَّةُ، وَالْمُنْقَضِي لَا يَكُونُ حُجَّةً فَيُحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ النَّسَبِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ كَامِلَةٍ. أَمَّا إِذَا ظَهَرَ الْحَبَلُ أَوِ اعْتَرَفَ بِهِ الزَّوْجُ فَالنَّسَبُ ثَابِتٌ قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَالْحَاجَةِ إِلَى التَّعْيِينِ وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهَا، وَكَذَا إِذَا اعْتَرَفَ بِهِ الْوَرَثَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَهَذَا فِي حَقِّ الْإِرْثِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ حَقُّهُمْ. وَأَمَّا النَّسَبُ فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمْ، وَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ بِاعْتِرَافِهِمْ وَيَثْبُتُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ تَبَعًا لِلثُّبُوتِ فِي حَقِّهِمْ. قَالَ: (وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الصَّغِيرَةِ رَجْعِيَّةً كَانَتْ أَوْ مَبْتُوتَةً إِلَّا أَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةِ أَيَّامٍ بِسَاعَةٍ) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمَبْتُوتَةِ: يَثْبُتُ إِلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَصَارَتْ كَالْبَالِغَةِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ تَعَيَّنَ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا جِهَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الْأَشْهُرُ، فَإِذَا مَضَتْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِانْقِضَائِهَا وَهُوَ أَقْوَى مِنَ الْإِقْرَارِ لِاحْتِمَالِ الْخُلْفِ فِي الْإِقْرَارِ دُونَهُ. وَأَمَّا الرَّجْعِيُّ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَثْبُتُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا لِأَنَّهُ يُجْعَلُ وَاطِئًا فِي آخِرِ الْعِدَّةِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ تَأْتِي بِهِ لِأَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهِيَ سَنَتَانِ، وَلَوِ ادَّعَتِ الصَّغِيرَةُ الْحَبَلَ فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ كَالْكَبِيرَةِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بُلُوغُهَا بِإِقْرَارِهَا. (وَلَوْ قَالَ لَهَا: إِنْ وَلَدْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَهِدَتِ امْرَأَةٌ بِالْوِلَادَةِ لَمْ تَطْلُقْ) وَقَالَا: تَطْلُقُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْحَبَلِ تَطْلُقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا (سم) ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتِ امْرَأَةٌ بِالْوِلَادَةِ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ» فَكَانَتْ شَهَادَتُهَا حُجَّةً فِي الْوِلَادَةِ، فَتَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا ادَّعَتْ عَلَى زَوْجِهَا الْحِنْثَ فَلَا يَثْبُتُ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ كَامِلَةٍ، وَشَهَادَتُهَا ضَرُورِيَّةٌ فِي الْوِلَادَةِ فَلَا تَتَعَدَّى إِلَى الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ. قَالَ: (وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْحَبَلِ تَطْلُقُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا) ، وَقَالَا: لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ امْرَأَةٍ تَشْهَدُ بِالْوِلَادَةِ لِأَنَّهَا ادَّعَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ حُجَّةٍ. وَلَهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْحَبَلِ فَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالْوِلَادَةِ لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِكَوْنِهَا أَمِينَةً فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي رَدِّ الْأَمَانَةِ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ وَلَدٌ فَهُوَ مِنِّي فَشَهِدَتِ امْرَأَةٌ بِالْوِلَادَةِ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ الْوَلَدِ، وَأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالْقَابِلَةِ إِجْمَاعًا. . تَمَّ الْجُزْءُ الثَّالِثُ مِنْ " الِاخْتِيَارِ لِتَعْلِيلِ الْمُخْتَارِ " وَيَلِيهِ: الْجُزْءُ الرَّابِعُ، وَأَوَّلُهُ: بَابُ النَّفَقَةِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [حَدِيثٌ شَرِيفٌ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ النَّفَقَة ِ [نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ] وَتَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا سَلَّمَتْ إِلَيْهِ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا وَسُكْنَاهَا   [الاختيار لتعليل المختار] [بَابُ النَّفَقَةِ] [نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ النَّفَقَةِ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِهَا قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] ، ثُمَّ قَالَ: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ) وَقِرَاءَتُهُ كَرِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، وَقَالَ تَعَالَى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] ، ثُمَّ قَالَ: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، وَرَوَى أَبُو حَمْزَةَ الرَّقَاشِيُّ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: «كُنْتُ آخِذٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ إِذْ وَدَّعَهُ النَّاسُ فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ» وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ: «خُذِي مِنْ مَالِ زَوْجِكِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» ، وَلَوْلَا وُجُوبُهَا عَلَيْهِ لَمَا أَمَرَهَا بِذَلِكَ. وَسَبَبُ وُجُوبِهَا احْتِبَاسُهَا عِنْدَ الزَّوْجِ إِذَا كَانَ يَتَهَيَّأُ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ وَطْئًا أَوْ دَوَاعِيَهُ أَوِ التَّحْصِينَ لِمَائِهِ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ مَحْبُوسَةً عِنْدَهُ فِي حَقِّهِ عَجَزَتْ عَنِ الِاكْتِسَابِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهَا، فَلَوْ لَمْ تَسْتَحِقَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ لَمَاتَتْ جُوعًا. قَالَ: (وَتَجِبُ لِلزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا سَلَّمَتْ إِلَيْهِ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ نَفَقَتُهَا وَكِسْوَتُهَا وَسُكْنَاهَا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 تُعْتَبَرُ بِقَدْرِ حَالِهِ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِكِفَايَتِهَا بِلَا تَقْتِيرٍ وَلَا إِسْرَافٍ، وَيُفْرَضُ لَهَا نَفَقَةُ كُلِّ شَهْرٍ وَتُسَلَّمُ إِلَيْهَا، وَالْكِسْوَةُ كُلُّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَيُفْرَضُ لَهَا نَفَقَةُ خَادِمٍ وَاحِدٍ (س) ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِمَا مَرَّ مِنَ الدَّلَائِلِ (تُعْتَبَرُ بِقَدْرِ حَالِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] كَذَا اخْتَارَهُ الْكَرْخِيُّ، وَاخْتَارَ الْخَصَّافُ الِاعْتِبَارَ بِحَالِهِمَا، فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَهَا نَفَقَةُ الْمُوسِرِ، وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ فَنَفَقَةُ الْمُعْسِرِ، وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً وَهُوَ مُعْسِرٌ فَلَهَا فَوْقَ نَفَقَةِ الْمُعْسِرَةِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَدُونَ نَفَقَةِ الْمُوسِرَةِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُفْرِطًا فِي الْيَسَارِ وَالْآخَرُ مُفْرِطًا فِي الْإِعْسَارِ يُقْضَى عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ الْوَسَطِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إِعْسَارِهِ فِي حَقِّ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهَا لِأَنَّهَا مُدَّعِيَةٌ. قَالَ: (وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِكِفَايَتِهَا بِلَا تَقْتِيرٍ وَلَا إِسْرَافٍ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ هِنْدٍ، وَلَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ لَازِمٌ لِاخْتِلَافِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالطِّبَاعِ وَالرُّخْصِ وَالْغَلَاءِ، وَالْوَسَطُ خُبْزُ الْبُرِّ وَالْإِدَامُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهَا. (وَيُفْرَضُ لَهَا نَفَقَةُ كُلِّ شَهْرٍ وَتُسَلَّمُ إِلَيْهَا) لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ بِهَا كُلَّ سَاعَةٍ، وَيَتَعَذَّرُ لِجَمِيعِ الْمُدَّةِ فَقَدَّرْنَاهُ بِالشَّهْرِ لِأَنَّهُ الْوَسَطُ وَهُوَ أَقْرَبُ الْآجَالِ. (وَالْكِسْوَةُ كُلَّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ) لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بِاخْتِلَافِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَلِيَ الْإِنْفَاقَ بِنَفْسِهِ، إِلَّا أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهَا فَيَفْرِضُ لَهَا كُلَّ شَهْرٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَيُقَدِّرُ النَّفَقَةَ بِقَدْرِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَا يُقَدِّرُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَلَوْ صَالَحَتْهُ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى مَا لَا يَكْفِيهَا كَمَّلَهَا الْقَاضِي إِنْ طَلَبَتْ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَائِدَةٍ لَا يَفْرِضُ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ وَيَفْرِضُ الْكِسْوَةَ. قَالَ: (وَيُفْرَضُ لَهَا نَفَقَةُ خَادِمٍ وَاحِدٍ) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا مِنْ خَدَمِهُ مَنْ يَخْدُمُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُفْرَضُ لِخَادِمَيْنِ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدِهِمَا لِدَاخِلِ الْبَيْتِ وَالْآخَرِ لِخَارِجِهِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْوَاحِدَ يَكْفِي لِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إِلَى اثْنَيْنِ حَتَّى قِيلَ لَوْ كَفَاهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ نَفَقَةُ خَادِمٍ، وَقِيلَ إِنْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ فَلَهَا نَفَقَةُ خَادِمَيْنِ أَحَدُهُمَا لِلْخِدْمَةِ وَالْآخَرُ لِلرِّسَالَةِ وَأُمُورِ خَارِجِ الْبَيْتِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ الزَّوْجُ مُعْسِرًا لَا يُفْرَضُ لَهَا نَفَقَةُ خَادِمٍ أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ لَا يُفْرَضُ لَهَا نَفَقَةُ خَادِمٍ، وَكَذَا إِذَا كَانَتْ فَقِيرَةً وَتَخْدُمُ نَفْسَهَا، رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكِسْوَةُ الصَّيْفِ قَمِيصٌ وَمُقَنَّعَةٌ وَمِلْحَفَةٌ، وَفِي الشِّتَاءِ مَعَ ذَلِكَ جُبَّةٌ وَسَرَاوِيلُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَعَلَى الْمُوسِرِ دِرْعٌ سَابُورِيٌّ وَخِمَارٌ إِبْرَيْسَمٌ وَمِلْحَفَةٌ كِتَّانٌ، وَتُزَادُ فِي الشِّتَاءِ جُبَّةً وَلِحَافًا، وَإِنْ طَلَبَتْ فِرَاشًا تَنَامُ عَلَيْهِ لَهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّوْمَ عَلَى الْأَرْضِ رُبَّمَا يُؤْذِيهَا وَيُمْرِضُهَا، وَمَا تُغَطَّى بِهِ دَفْعًا لِلْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ وَالْبِقَاعِ، وَلِخَادِمِهَا قَمِيصٌ كِرْبَاسٌ وَإِزَارٌ فِي الصَّيْفِ، وَفِي الشِّتَاءِ قَمِيصٌ وَإِزَارٌ وَجُبَّةٌ وَكِسَاءٌ وَخُفَّانِ، فَإِنِ امْتَنَعَتِ الْخَادِمَةُ عَنِ الْخِدْمَةِ لَا نَفَقَةَ لَهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 فَإِنْ نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا حَتَّى يُوَفِّيَهَا مَهْرَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَالزَّوْجُ صَغِيرٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَبِالْعَكْسِ لَا، وَلَوْ كَانَا صَغِيرَيْنِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَلَوْ حَجَّتْ أَوْ حُبِسَتْ بِدَيْنٍ أَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ فَذَهَبَ بِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ حَجَّ مَعَهَا فَلَهَا نَفَقَةُ الْحَضَرِ، وَإِنْ مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهَا مُقَابَلَةٌ بِالْخِدْمَةِ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا مُقَابَلَةٌ بِالْحَبْسِ لَا غَيْرُ. وَلَا تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ إِذَا امْتَنَعَتْ، وَيَأْتِيهَا بِمَنْ يَخْبِزُ وَيَطْبُخُ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ، قَالُوا: وَهَذَا إِذَا كَانَتْ لَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الْأَشْرَافِ، وَإِنْ كَانَتْ تَقْدِرُ وَتَخْدُمُ نَفْسَهَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مُتَعَنِّتَةٌ. قَالَ: (فَإِنْ نَشَزَتِ الْمَرْأَةُ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ نَشَزَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا فَنَقَلَهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى» ، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلنَّفَقَةِ الِاحْتِبَاسُ وَقَدْ زَالَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا امْتَنَعَتْ مِنَ التَّمْكِينِ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ الِاحْتِبَاسُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ كَرْهًا، فَإِنْ عَادَتْ إِلَى مَنْزِلِهِ عَادَتِ النَّفَقَةُ لِعَوْدِ الِاحْتِبَاسِ. (وَإِنْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا حَتَّى يُوَفِّيَهَا مَهْرَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ) لِأَنَّ لَهَا الِامْتِنَاعَ لِتَسْتَوْفِيَ حَقَّهَا، فَلَوْ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ تَتَضَرَّرُ، وَالضَّرَرُ يَجِبُ إِلْحَاقُهُ بِالزَّوْجِ الظَّالِمِ الْمُمْتَنِعِ عَنْ إِيفَاءِ حَقِّهَا، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَالْعَدَمِ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَقَالَا: إِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّهَا سَلَّمَتِ الْمُعَوَّضَ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَهُ لِقَبْضِ الْعِوَضِ كَالْبَائِعِ إِذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا سَلَّمَتْ بَعْضَ الْمُعَوَّضِ لِأَنَّ الْمَهْرَ مُقَابَلٌ بِجَمِيعِ الْوَطْئَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، فَالْبَائِعُ إِذَا سَلَّمَ بَعْضَ الْمَبِيعِ لَهُ حَبْسُ الْبَاقِي، كَذَا هَذَا. (وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَالزَّوْجُ صَغِيرٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَبِالْعَكْسِ لَا) ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا سَلَّمَتْ نَفْسَهَا وَالْعَجْزُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَالْمَجْبُوبِ وَالْعِنِّينِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَالْمَرْأَةُ صَغِيرَةٌ لَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الِاحْتِبَاسِ مَا يَكُونُ وَسِيلَةً إِلَى الْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَاحِ وَأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ بِسَبَبٍ مِنْهَا فَصَارَ كَالْعَدَمِ. (وَلَوْ كَانَا صَغِيرَيْنِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِمَا مَرَّ، وَلَوْ سَكَنَ دَارًا غَصْبًا فَامْتَنَعَتْ أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ فَلَيْسَتْ بِنَاشِزَةٍ لِأَنَّهَا امْتَنَعَتْ بِحَقٍّ، وَإِنْ كَانَتْ سَاكِنَةً فِي دَارِهَا فَمَنَعَتْهُ مِنْ دُخُولِهَا وَقَالَتْ: حَوِّلْنِي إِلَى مَنْزِلِكَ أَوِ اكْتَرِ لِي دَارًا فَلَهَا النَّفَقَةُ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلَوْ حَجَّتْ أَوْ حُبِسَتْ بِدَيْنٍ أَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ فَذَهَبَ بِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا) لِزَوَالِ الِاحْتِبَاسِ لَا مِنْ جِهَتِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْحَجَّ الْفَرْضَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ، ذَكَرَهُ فِي الْأَمَالِي لِأَنَّهُ عُذْرٌ، لَكِنْ تَجِبُ نَفَقَةُ الْحَضَرِ لِأَنَّهَا الْمُسْتَحِقَّةُ فَيُعْطِيهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَالْبَاقِي إِذَا رَجَعَتْ. (وَإِنْ حَجَّ مَعَهَا فَلَهَا نَفَقَةُ الْحَضَرِ) لِأَنَّهَا كَالْمُقِيمَةِ فِي مَنْزِلِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ. (وَإِنْ مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ) وَكَذَلِكَ إِذَا جَاءَتْ إِلَيْهِ مَرِيضَةً لِأَنَّ الِاحْتِبَاسَ مَوْجُودٌ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِسُ بِهَا وَتَحْفَظُ مَتَاعَهُ وَيَسْتَمْتِعُ بِهَا لَمْسًا وَغَيْرَهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 وَلِلْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ النَّفَقَةُ إِنْ بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا بَيْتَ الزَّوْجِ وَإِلَا فَلَا، فَإِنْ بَوَّأَهَا ثُمَّ اسْتَخْدَمَهَا سَقَطَتْ، وَمَنْ أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَتُؤْمَرُ بِالِاسْتِدَانَةِ، وَإِذَا قُضِيَ لَهَا بِنَفَقَةِ الْإِعْسَارِ ثُمَّ أَيْسَرَ تَمَّمَ لَهَا نَفَقَةَ الْمُوسِرِ، وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا سَقَطَتْ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُضِيَ بِهَا أَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى مِقْدَارِهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] وَمَنْعُ الْوَطْءِ لِعَارِضٍ كَالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا كَانَ مَرَضًا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ كَالصَّغِيرَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِنْ مَرِضَتْ عِنْدَهُ لَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ صَحَّ التَّسْلِيمُ، وَلَوْ سُلِّمَتْ إِلَيْهِ مَرِيضَةً لَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مَا صَحَّ، وَقَوْلُهُ: مَرِضَتْ فِي مَنْزِلِهِ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ، وَإِذَا طَالَبَتْهُ بِالنَّفَقَةِ قَبْلَ أَنْ يُحَوِّلَهَا إِلَى مَنْزِلِهِ وَهِيَ بَالِغَةٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ إِذَا لَمْ يُطَالِبْهَا بِالنُّقْلَةِ، لِأَنَّ النُّقْلَةَ حَقُّهُ وَالنَّفَقَةَ حَقُّهَا، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا بِتَرْكِهِ حَقَّهُ، فَإِنْ طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ فَامْتَنَعَتْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلِلْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ النَّفَقَةُ إِنْ بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا بَيْتَ الزَّوْجِ) لِوُجُودِ الِاحْتِبَاسِ (وَإِلَّا فَلَا) لِعَدَمِهِ (فَإِنْ بَوَّأَهَا ثُمَّ اسْتَخْدَمَهَا سَقَطَتِ) النَّفَقَةُ لِفَوَاتِ الِاحْتِبَاسِ. قَالَ: (وَمَنْ أَعْسَرَ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا وَتُؤْمَرُ بِالِاسْتِدَانَةِ) لِتُحِيلَ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي التَّفْرِيقِ إِبْطَالَ حَقِّهِ وَفِي الِاسْتِدَانَةِ تَأْخِيرَ حَقِّهَا، وَالْإِبْطَالُ أَضَرُّ فَكَانَ دَفْعُهُ أَوْلَى، فَإِذَا فَرَضَ لَهَا الْقَاضِي وَأَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنَ الْإِحَالَةِ عَلَيْهِ وَالرُّجُوعِ فِي تَرِكَتِهِ لَوْ مَاتَ، وَلَوِ اسْتَدَانَتْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي تَكُونُ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهَا وَلَا يُمْكِنُهَا الْإِحَالَةُ عَلَيْهِ وَلَا تَرْجِعُ فِي تَرِكَتِهِ لِأَنَّهَا لَا وَلَايَةَ لَهَا عَلَيْهِ، فَلِهَذَا قَالَ: تُؤْمَرُ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى الِاسْتِدَانَةِ أَنْ تَشْتَرِيَ بِالدَّيْنِ. قَالَ: (وَإِذَا قُضِيَ لَهَا بِنَفَقَةِ الْإِعْسَارِ ثُمَّ أَيْسَرَ تَمَّمَ لَهَا نَفَقَةَ الْمُوسِرِ) لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَمَا فُرِضَ تَقْدِيرٌ لِنَفَقَةٍ لَمْ تَجِبْ بَعْدُ، فَإِذَا تَبَدَّلَتْ حَالُهُ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِقَدْرِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ قُضِيَ بِنَفَقَةِ الْيَسَارِ ثُمَّ أَعْسَرَ فُرِضَ لَهَا نَفَقَةُ الْمُعْسِرِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا سَقَطَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قُضِيَ بِهَا أَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى مِقْدَارِهَا) فَيُقْضَى لَهَا بِنَفَقَةِ مَا مَضَى لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمْ تَجِبْ عِوَضًا عَنِ الْبُضْعِ، لِأَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ عِوَضًا عَنْهُ، وَالْعَقْدُ الْوَاحِدُ لَا يُوجِبُ عِوَضَيْنِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَلَا عِوَضًا عَنِ الِاسْتِمْتَاعِ، لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، فَبَقِيَ وُجُوبُهُ جَزَاءً عَنِ الِاحْتِبَاسِ صِلَةً وَرِزْقًا لَا عِوَضًا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ رِزْقًا بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] ، وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يُذْكَرُ صِلَةً، وَالصِّلَاتُ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ حَقِيقَةً أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا فِي الْهِبَةِ أَوْ بِالْتِزَامِهِ بِالتَّرَاضِي، لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَأَنْ يَلْزَمَهُ بِالْتِزَامِهِ كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ وَلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوِ الِاصْطِلَاحِ قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَتْ، وَإِنْ أَسْلَفَهَا النَّفَقَةَ أَوِ الْكِسْوَةَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ وَإِذَا كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ أَوْ دَيْنٌ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِهِ وَبِالنِّكَاحِ، أَوِ اعْتَرَفَ بِهِمَا مَنِ الْمَالُ فِي يَدِهِ يُفْرَضُ فِيهِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ وَوَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ وَيُحَلِّفُهَا أَنَّهَا مَا أَخَذَتْهَا وَيَأْخُذُ مِنْهَا كَفِيلًا بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَأَنْكَرَ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ الزَّوْجِيَّةَ أَوِ الْمَالَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهَا عَلَيْهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوِ الِاصْطِلَاحِ قَبْلَ الْقَبْضِ سَقَطَتْ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا صِلَةٌ، وَالصِّلَةُ تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ. قَالَ: (وَإِنْ أَسْلَفَهَا النَّفَقَةَ أَوِ الْكِسْوَةَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحْتَسَبُ لَهَا نَفَقَةُ مَا مَضَى وَمَا بَقِيَ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهَا اسْتَعْجَلَتْ عِوَضًا عَمَّا تَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ بِالِاحْتِبَاسِ، وَقَدْ بَطَلَ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْمَوْتِ فَيَبْطُلُ مِنَ الْعِوَضِ بِقَدْرِهِ. وَلَهُمَا مَا بَيَّنَّا أَنَّهَا صِلَةٌ، وَقَدِ اتَّصَلَ الْقَبْضُ بِهَا فَيَبْطُلُ الرُّجُوعُ بِالْمَوْتِ كَمَا فِي الْهِبَةِ، أَلَا تَرَى لَوْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ فِي مَنْزِلِهِ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ أَوْ دَيْنٌ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ وَبِالنِّكَاحِ أَوِ اعْتَرَفَ بِهِمَا مِنَ الْمَالِ فِي يَدِهِ يَفْرِضُ فِيهِ نَفَقَةَ زَوْجَتِهِ وَوَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ) لِأَنَّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ أَوْ عَلَيْهِ لَمَّا أَقَرَّ بِالزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِثُبُوتِ حَقِّهَا فِيهِ، لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا حَقًّا مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ، وَإِقْرَارُ صَاحِبِ الْيَدِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيَقْضِي الْقَاضِي عَلَيْهِ بِاعْتِرَافِهِ، فَيَقَعُ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ أَوَّلًا ثُمَّ يَسْرِي إِلَى الْغَائِبِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا جَحَدَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لِأَنَّهُ إِنْ جَحَدَ الزَّوْجِيَّةَ لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ جَحَدَ الْمَالَ فَهِيَ لَيْسَتْ خَصْمًا فِي إِثْبَاتِهِ، وَعَلِمَ الْقَاضِي حُجَّةً يَجُوزُ لَهُ الْقَضَاءُ بِهِ فِي مَحَلِّ وَلَايَتِهِ عَلَى مَا عُرِفَ. وَنَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَقَارِبِ حَيْثُ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ إِلَّا بِالْقَضَاءِ لِمَا أَنَّ وُجُوبَهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. قَالَ: (وَهَذَا إِذَا كَانَ الْمَالُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ) كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، أَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا لَا يُفْرَضُ فِيهِ النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى بَيْعِهِ وَلَا بَيْعَ عَلَى الْغَائِبِ. أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْحَاضِرِ فَكَذَا عَلَى الْغَائِبِ. وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يُبَاعُ عَلَى الْحَاضِرِ لِظُهُورِ ظُلْمِهِ بِامْتِنَاعِهِ وَلَا كَذَلِكَ فِي الْغَائِبِ. قَالَ: (وَيُحَلِّفُهَا أَنَّهَا مَا أَخَذَتْهَا وَيَأْخُذُ مِنْهَا كَفِيلًا بِهَا) نَظَرًا لِلْغَائِبِ وَاحْتِيَاطًا لَهُ لِاحْتِمَالِ حُضُورِهِ فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَسْلَفَهَا. (وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَأَنْكَرَ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ الزَّوْجِيَّةَ أَوِ الْمَالَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهَا عَلَيْهِ) لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، وَأَرَادَتْ أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لِيَفْرِضَ لَهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 وَعَلَيْهِ أَنْ يُسْكِنَهَا دَارًا مُفْرَدَةً لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَهَا وَوَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ الدُّخُولَ عَلَيْهَا، وَلَا يَمْنَعُهُمْ كَلَامَهَا وَالنَّظَرَ إِلَيْهَا، وَلَا يَمْنَعُهُمَا مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا كُلَّ جُمُعَةٍ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ كُلَّ سَنَةٍ. وَلِلْمُطَلَّقَةِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا بَائِنًا كَانَ أَوْ رَجْعِيًّا،   [الاختيار لتعليل المختار] الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَيَأْمُرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ. وَقَالَ زُفَرُ: تُقْبَلُ وَيَقْضِي بِالنَّفَقَةِ، وَاسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ، وَعَلَيْهِ الْقُضَاةُ الْيَوْمَ وَهُوَ مُجْتَهِدٌ فِيهِ فَيُنَفَّذُ. قَالَ: (وَعَلَيْهِ أَنْ يُسْكِنَهَا دَارًا مُفْرَدَةً لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ) ، أَمَّا وُجُوبُ السُّكْنَى فَلِأَنَّهَا مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَهِيَ مِنَ الْكِفَايَةِ فَتَجِبُ كَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فَكَانَ وَاجِبًا حَقًّا لَهَا، وَتَكُونُ بَيْنَ قَوْمٍ صَالِحِينَ لِيُعِينُوهَا عَلَى مَصَالِحِ دُنْيَاهَا وَيَمْنَعُوهُ مِنْ ظُلْمِهَا لَوْ أَرَادَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُشْرِكَ مَعَهَا غَيْرَهَا، لِأَنَّهُ قَدْ لَا تَأْمَنُ عَلَى مَتَاعِهَا وَلَا تَتَخَلَّى لِاسْتِمْتَاعِهَا إِلَّا أَنْ تَخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِنَقْصِ حَقِّهَا، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ بُيُوتٌ وَأَبَتْ أَنْ تَسْكُنَ مَعَ ضَرَّتِهَا أَوْ مَعَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ إِنْ أَخْلَى لَهَا بَيْتًا مِنْهَا وَجَعَلَ لَهُ مَرَافِقَ وَغَلْقًا عَلَى حِدَةٍ - لَيْسَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ بَيْتًا آخَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَلَهَا ذَلِكَ. قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَهَا وَوَلَدَهَا مِنْ غَيْرِهِ الدُّخُولَ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الْمَنْزِلَ مِلْكُهُ، (وَلَا يَمْنَعُهُمْ كَلَامَهَا وَالنَّظَرَ إِلَيْهَا) أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ إِنَّمَا الضَّرَرُ فِي الْمَقَامِ. وَقِيلَ لَا يَمْنَعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَقِيلَ يَمْنَعُ (وَلَا يَمْنَعُهُمَا مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهَا كُلَّ جُمُعَةٍ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْأَقَارِبِ كُلَّ سُنَّةٍ) وَهُوَ الْمُخْتَارُ. [فصل نَفَقَةُ المطلقة] فَصْلٌ (وَلِلْمُطَلَّقَةِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا بَائِنًا كَانَ أَوْ رَجْعِيًّا) أَمَّا الرَّجْعِيُّ فَلَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَحِلَّ لَهُ الْوَطْءُ وَغَيْرُهُ. وَأَمَّا الْبَائِنُ فَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ صِيَانَةُ الْوَلَدِ بِحِفْظِ الْمَاءِ عَنِ الِاخْتِلَاطِ، وَالْحَبْسُ لِحَقِّهِ مُوجِبٌ لِلنَّفَقَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَمَّا حَدِيثُ «فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهَا قَالَتْ: طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَفْرِضْ لِي رَسُولُ اللَّهِ سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ» رَدَّهُ عُمَرُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَجَابِرٌ وَعَائِشَةُ، قَالَ عُمَرُ: لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ، حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: «لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» ". وَيُرْوَى: «الْمَبْتُوتَةُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى» ، وَلِأَنَّهُ وَرَدَ مُخَالِفًا قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] وَمُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فِي السُّكْنَى، فَإِنِ ادَّعَتْ أَنَّهَا حَامِلٌ أَنْفَقَ عَلَيْهَا إِلَى سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا احْتِيَاطًا لِلْعِدَّةِ، فَإِنْ قَالَتْ: كُنْتُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِمَعْصِيَةٍ كَالرِّدَّةِ وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ كَخِيَارِ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَلَهَا النَّفَقَةُ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَ ارْتَدَّتْ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ، وَإِنْ مَكَّنَتِ ابْنَ زَوْجِهَا لَمْ تَسْقُطْ.   [الاختيار لتعليل المختار] أَتَوَهَّمُ أَنِّي حَامِلٌ وَلَمْ أَحِضْ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ، يَعْنِي أَنَّهَا مُمْتَدَّةُ الطُّهْرِ وَطَلَبَتِ النَّفَقَةَ - فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ تَدْخُلْ فِي حَدِّ الْإِيَاسِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ، فَإِذَا دَخَلَتْ فِي حَدِّ الْإِيَاسِ اسْتَأْنَفَتِ الْعِدَّةَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ. قَالَ: (وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا) لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا لِلزَّوْجِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْحَيْضُ الَّذِي تُعْرَفُ بِهِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ وَالْحَمْلُ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ، وَلِأَنَّ الْمَالَ انْتَقَلَ إِلَى الْوَرَثَةِ فَلَا تَجِبُ فِي مَالِهِمْ. قَالَ: (وَكُلُّ فُرْقَةٍ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِمَعْصِيَةٍ كَالرِّدَّةِ وَتَقْبِيلِ ابْنِ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا، وَإِنْ جَاءَتْ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ كَخِيَارِ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ كَانَتِ) الْفُرْقَةُ (مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ فَلَهَا النَّفَقَةُ بِكُلِّ حَالٍ) لِأَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ عَلَى مَا مَرَّ، وَبِعِصْيَانِ الزَّوْجِ لَا تُحْرَمُ مِنَ النَّفَقَةِ وَتُحْرَمُ بِعِصْيَانِهَا مُجَازَاةً وَعُقُوبَةً، وَلِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ النَّفَقَةَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ أَوِ الْإِيلَاءِ أَوْ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوِ الْخَلْوَةِ لَهَا النَّفَقَةُ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِذَا طُلِّقَتِ الْأَمَةُ الْمُبَوَّأَةُ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ، فَإِنِ اسْتَخْدَمَهَا الْمَوْلَى سَقَطَتْ، وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَا نَفَقَةَ لَهَا يَوْمَ الطَّلَاقِ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَالْأَمَةُ إِذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا الْمَوْلَى بَيْتًا إِلَّا النَّاشِزَةَ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ فِي حَقِّهِ، وَالْمُطَلَّقَةُ إِذَا لَمْ تَطْلُبْ نَفَقَتَهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا سَقَطَتْ كَالْمَنْكُوحَةِ. (وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّتْ سَقَطَتِ النَّفَقَةُ) لِأَنَّهَا صَارَتْ مَحْبُوسَةً فِي حَقِّ الشَّرْعِ، وَهَذَا إِذَا خَرَجَتْ مَنْ بَيْتِ الزَّوْجِ لِلْحَبْسِ، وَمَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ، (وَإِنْ مَكَّنَتِ ابْنَ زَوْجِهَا لَمْ تَسْقُطْ) لِأَنَّ الْفُرْقَةَ تَثْبُتُ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، وَلَا أَثَرَ لِلتَّمْكِينِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مَحْبُوسَةٌ فِي حَقِّهِ فَتَجِبُ النَّفَقَةُ، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِالتَّمْكِينِ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ صَالَحَ امْرَأَتَهُ عَلَى نَفَقَةِ الْعِدَّةِ إِنْ كَانَتْ بِالشُّهُورِ جَازَ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْحَيْضِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةُ الْمُدَّةِ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ مَجْهُولَةً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 فَصْلٌ وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ، وَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ إِرْضَاعُ الصَّبِيِّ إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَتْ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا، وَيَسْتَأْجِرُ الْأَبُ مَنْ تُرْضِعُهُ عِنْدَهَا، فَإِنِ اسْتَأْجَرَ زَوْجَتَهُ أَوْ مُعْتَدَّتَهُ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا لَمْ يَجُزْ، وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ هِيَ أَوْلَى مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ إِلَّا أَنْ تَطْلُبَ زِيَادَةَ أُجْرَةٍ، وَنَفَقَةُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ عَلَى الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ؛   [الاختيار لتعليل المختار] [فَصْلٌ: نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ] فَصْلٌ (وَنَفَقَةُ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ عَلَى الْأَبِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . (وَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ إِرْضَاعُ الصَّبِيِّ) لِأَنَّ أُجْرَةَ الْإِرْضَاعِ مِنْ نَفَقَتِهِ وَهِيَ عَلَى الْأَبِ. قَالَ: (إِلَّا إِذَا تَعَيَّنَتْ) بِأَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا أَوْ لَا يَأْخُذُ مِنْ لَبَنِ غَيْرِهَا، (فَيَجِبُ عَلَيْهَا) حِينَئِذٍ صِيَانَةً لِلصَّغِيرِ عَنِ الْهَلَاكِ. قَالَ: (وَيَسْتَأْجِرُ الْأَبُ مَنْ تُرْضِعُهُ عِنْدَهَا) لِأَنَّ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ وَالْحَضَانَةَ لَهَا (فَإِنِ اسْتَأْجَرَ زَوْجَتَهُ أَوْ مُعْتَدَّتَهُ لِتُرْضِعَ وَلَدَهَا لَمْ يَجُزْ) لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا بِالْأَصْلِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَجْزِ فَجَعَلْنَاهُ عُذْرًا، فَإِذَا أَقْدَمَتْ عَلَيْهِ بِالْأَجْرِ عَلِمْنَا قُدْرَتَهَا فَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَخَذُ الْأَجْرِ عَلَى فِعْلٍ وَجَبَ عَلَيْهَا، وَلَا خِلَافَ فِي الْمُعْتَدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ. وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَكَذَلِكَ فِي رِوَايَةٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ، وَقِيلَ يَجُوزُ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ زَالَ بَيْنَهُمَا فَصَارَتْ أَجْنَبِيَّةً. وَذَكَرَ الْخَصَّافُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ وَلَا لِأَبِيهِ مَالٌ أُجْبِرَتِ الْأُمُّ عَلَى الْإِرْضَاعِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا ذَاتُ يَسَارٍ فِي اللَّبَنِ، فَإِنْ طَلَبَتْ مِنَ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهَا بِنَفَقَةِ الْإِرْضَاعِ حَتَّى تَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْأَبِ إِذَا أَيْسَرَ فَعَلَ، كَمَا لَوْ كَانَ مُعْسِرًا وَهِيَ مُوسِرَةٌ تُجْبَرُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الصَّغِيرِ ثُمَّ تَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ إِذَا أَيْسَرَ، وَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُفْرَضُ لَهَا نَفَقَةُ الْإِرْضَاعِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ. قَالَ: (وَبَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ هِيَ أَوْلَى مِنَ الْأَجْنَبِيَّةِ) فَإِنَّهَا أَشْفَقُ وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ لِلصَّغِيرِ، (إِلَّا أَنْ تَطْلُبَ زِيَادَةَ أُجْرَةٍ) لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الْأَبِ، وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] هُوَ أَنْ تَرْضَى بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَلَا يُدْفَعُ إِلَيْهَا: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ. قَالَ: (وَنَفَقَةُ الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ إِذَا كَانُوا فُقَرَاءَ عَلَى الْأَوْلَادِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ) قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] نَهَاهُ عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِمَا بِهَذَا الْقَدْرِ وَتَرْكُ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا أَكْثَرُ إِضْرَارًا مِنْ ذَلِكَ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ، وَقَالَ: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إِلَّا لِلزَّوْجَةِ وَقَرَابَةِ الْوِلَادِ أَعْلَى وَأَسْفَلُ، وَنَفَقَةُ ذِي الرَّحِمِ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ تَجِبُ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانَ فَقِيرًا بِهِ زَمَانَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ، أَوْ تَكُونُ أُنْثَى فَقِيرَةً، وَكَذَا مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكَسْبَ لِخُرْقِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مِنَ الْبُيُوتَاتِ، أَوْ طَالِبَ عِلْمٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ» ، فَإِذَا كَانَ مَالُ الِابْنِ يُضَافُ إِلَى الْأَبِ بِأَنَّهُ كَسْبُهُ صَارَ غَنِيًّا بِهِ فَتَجِبُ نَفَقَتُهُ فِيهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] أَيْ يُحْسِنُ إِلَيْهِمَا، وَلَيْسَ إِحْسَانًا تَرْكُهُمَا مُحْتَاجَيْنِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى دَفْعِ حَاجَتِهِمَا، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] ، وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْرُوفِ تَرْكُهُمَا جَائِعَيْنِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِشْبَاعِهِمَا، وَهُوَ عَلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ عَلَى السَّوَاءِ فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَالْخِطَابِ، وَقِيلَ عَلَى قَدْرِ الْإِرْثِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] ، وَيُشْتَرَطُ فَقْرُهُمْ لِأَنَّ إِيجَابَ نَفَقَةِ الْغَنِيِّ فِي مَالِهِ أَوْلَى. رَجُلٌ مُعْسِرٌ لَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ مَحَاوِيجُ وَلَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ مُوسِرٌ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِمْ. قَالَ: (وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ إِلَّا لِلزَّوْجَةِ وَقَرَابَةِ الْوِلَادِ أَعْلَى وَأَسْفَلَ) لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ كَمَا مَرَّ أَوْ بِالْعَقْدِ كَالْمَهْرِ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلِهَذَا تَجِبُ مَعَ يَسَارِهَا، وَأَمَّا قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَلِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ، إِذِ الْجُزْئِيَّةُ فِي مَعْنَى النَّفْسِ، وَنَفَقَةُ النَّفْسِ تَجِبُ مَعَ الْكُفْرِ فَكَذَا الْجُزْءُ، وَهَذَا إِذَا كَانُوا ذِمَّةً، فَإِنْ كَانُوا حَرْبًا لَا تَجِبُ وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 9] الْآيَةَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، لِأَنَّ الْإِرْثَ مُنْقَطِعٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِهِ بِالنَّصِّ. قَالَ: (وَنَفَقَةُ ذِي الرَّحِمِ سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ تَجِبُ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ) كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، وَلَا تَجِبُ لِرَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ "، فَذِكْرُهُ الْوَارِثَ إِشَارَةٌ إِلَى اعْتِبَارِ قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلِيَكُونَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ. (وَإِنَّمَا تَجِبُ إِذَا كَانَ فَقِيرًا بِهِ زَمَانَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ) أَمَّا الْفَقْرُ فَلِمَا مَرَّ، وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنِ الْكَسْبِ فَلِأَنَّهُ يَكُونُ غَنِيًّا بِكَسْبِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَالِدَانِ حَيْثُ تَجِبُ نَفَقَتُهُمَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ لِمَا يَلْحَقُهُمَا فِيهِ مِنَ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ، وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُمَا ضَرَرَ الِاكْتِسَابِ وَذَلِكَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا. قَالَ: (أَوْ تَكُونُ أُنْثَى فَقِيرَةً) لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الْحَاجَةِ، (وَكَذَا مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكَسْبَ لِخَرْقِهِ أَوْ لِكَوْنِهِ مِنَ الْبُيُوتَاتِ أَوْ طَالِبَ عِلْمٍ) لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنِ الِاكْتِسَابِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ ثَابِتٌ، لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْكَبِيرِ الْعَجْزُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وَنَفَقَةُ زَوْجَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ، وَنَفَقَةُ زَوْجَةِ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ إِنْ كَانَ صَغِيرًا فَقِيرًا أَوْ زَمِنًا، وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى فَقِيرٍ إِلَّا لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْغِنَى الْمُحَرِّمُ لِلصَّدَقَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَنِ الْكَسْبِ حَقِيقَةً كَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَنَحْوِهِمَا، أَوْ مَعْنًى كَمَنَ بِهِ خَرْقٌ وَنَحْوُهُ. (وَنَفَقَةُ زَوْجَةِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ) رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ (وَنَفَقَةُ زَوْجَةِ الِابْنِ عَلَى أَبِيهِ إِنْ كَانَ صَغِيرًا فَقِيرًا أَوْ زَمِنًا) لِأَنَّهُ مِنْ كِفَايَةِ الصَّغِيرِ. وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ لَا يُجْبَرُ الْأَبُ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَةِ الِابْنِ، وَيَجِبُ عَلَى الِابْنِ نَفَقَةُ خَادِمِ الْأَبِ إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الِابْنِ فَكَذَا نَفَقَةُ مَنْ يَخْدُمُهُ، وَلَا كَذَلِكَ زَوْجَةُ الِابْنِ. قَالَ: (وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى فَقِيرٍ إِلَّا لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] . وَقَالَ: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] وَلِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُجَازَاةٌ وَذَلِكَ يَجِبُ مَعَ الْفَقْرِ، وَلَا تَجِبُ لِغَيْرِهِمْ مَعَ الْفَقْرِ لِأَنَّهَا صِلَةٌ، فَلَوْ وَجَبَتْ لِلْفَقِيرِ عَلَى الْفَقِيرِ لَمْ يَكُنْ إِيجَابُهَا عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ إِيجَابِهَا لَهُ. (وَالْمُعْتَبَرُ الْغِنَى الْمُحَرِّمُ لِلصَّدَقَةِ) هُوَ الْمُخْتَارُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَدَّرَهُ بِالنِّصَابِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِذَا فَضَلَ عَنْ نَفَقَةِ شَهْرٍ لَهُ وَلِعِيَالِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَقَارِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ وَيَكْتَسِبُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا يَكْفِيهِ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ فَإِنَّهُ يُنْفِقُ الْفَضْلَ عَلَى أَقْرِبَائِهِ، وَمَنْ لَهُ مَسْكَنٌ وَخَادِمٌ وَهُوَ مُحْتَاجُ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى أَقَارِبِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي مَسْكَنِهِ فَضْلٌ يَكْفِيهِ بَعْضُهُ يُؤْمَرُ بِبَيْعِ الْبَعْضِ وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ، وَكَذَا إِذَا كَانَتْ لَهُ دَابَّةٌ نَفِيسَةٌ يُؤْمَرُ بِبَيْعِهَا وَيَشْتَرِي الْأَوْكَسَ وَيُنْفِقُ الْفَضْلَ، وَمَنْ كَانَ يَأْكُلُ مِنَ النَّاسِ تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ عَنِ الْقَرِيبِ، وَإِنْ أَعْطَوْهُ قَدْرَ نِصْفِ كِفَايَتِهِ يَسْقُطُ نِصْفُ النَّفَقَةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا كَانَ الِابْنُ فَقِيرًا كَسُوبًا وَالْأَبُ زَمِنٌ شَارَكَهُ فِي الْقُوتِ بِالْمَعْرُوفِ. وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَسْبِ لِلزَّمَانَةِ أَوْ كَانَ مُقْعَدًا يَتَكَفَّفُ النَّاسَ فَنَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ وَلَدِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ مُعْسِرًا وَالْأُمُّ مُوسِرَةً تُؤْمَرُ الْأُمُّ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ ثُمَّ تَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ إِذَا أَيْسَرَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لِلْأَبِ الْمُعْسِرِ أَخٌ مُوسِرٌ يُؤْمَرُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الصَّغِيرِ ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُعْسِرَةُ إِذَا كَانَ زَوْجُهَا مُعْسِرًا وَلَهَا ابْنٌ مِنْ غَيْرِهِ مُوسِرٌ أَوْ أَخٌ مُوسِرٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَيُؤْمَرُ الِابْنُ أَوِ الْأَخُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا وَتَرْجِعُ عَلَى زَوْجِهَا إِذَا أَيْسَرَ، وَيُحْبَسُ الِابْنُ أَوِ الْأَخُ إِذَا امْتَنَعَ لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا كَانَ لِلْفَقِيرِ أَبٌ غَنِيٌّ وَابْنٌ غَنِيٌّ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الِابْنِ لِأَنَّ شُبْهَتَهُ فِي مَالِ الِابْنِ أَكْثَرُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ، وَيُعْتَبَرُ فِي نَفَقَةِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ دُونَ الْإِرْثِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ وَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوِلَادِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ وَالْبَعْضِيَّةُ بِاعْتِبَارِ التَّوَلُّدِ وَالتَّفَرُّعِ عَنْهُ. وَفِي نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ أَهْلَ الْإِرْثِ، وَيَجِبُ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لِأَنَّهُ تَعَالَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 وَإِذَا بَاعَ الْأَبُ مَتَاعَ ابْنِهِ فِي نَفَقَتِهِ جَازَ (سم) ، وَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِي يَدِهِ جَازَ، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي أَمَرَ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى رَقِيقِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ اكْتَسَبُوا وَأَنْفَقُوا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كَسْبٌ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِمْ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْجَبَهَا بِاسْمِ الْوِرَاثَةِ. فَقِيرٌ لَهُ ابْنٌ وَبِنْتٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتٌ وَأَخٌ فَنَفَقَتُهُ عَلَى بِنْتِهِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ. لَهُ بِنْتٌ وَابْنُ ابْنٍ مُوسِرَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْبِنْتِ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بِنْتُ بِنْتٍ وَابْنُ بِنْتٍ وَأَخٌ مُوسِرُونَ فَنَفَقَتُهُ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ دُونَ الْأَخِ لِمَا بَيَّنَّا. فَقِيرٌ لَهُ أَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، وَلَوْ كَانَ لَهُ أُخْتٌ وَعَمٌّ فَعَلَيْهِمَا نِصْفَانِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدٌّ فَعَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كُلُّهَا عَلَى الْجَدِّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدٌّ وَأَخٌ فَالثُّلُثُ عَلَى الْأُمِّ وَالْبَاقِي عَلَى الْجَدِّ، وَعِنْدَهُمَا الْبَاقِي عَلَى الْأَخِ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ. لَهُ عَمٌّ وَخَالٌ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَمِّ. لَهُ خَالٌ وَابْنُ عَمٍّ النَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ وَالْمِيرَاثُ لِابْنِ الْعَمِّ، وَفِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ ثُلُثَانِ وَثُلُثٌ. قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ الْأَبُ مَتَاعَ ابْنِهِ فِي نَفَقَتِهِ جَازَ) ، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ، وَفِي الْعَقَارِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. (وَلَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ فِي يَدِهِ جَازَ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ وَاجِبَةٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْأُمُّ فِي هَذَا كَالْأَبِ. لَهُمَا أَنَّ بِالْبُلُوغِ انْقَطَعَتْ وَلَايَتُهُ عَنْهُ وَعَنْ مَالِهِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ ذَلِكَ فِي حَضْرَتِهِ وَلَا فِي دَيْنٍ غَيْرِ النَّفَقَةِ وَصَارَ كَالْأُمِّ. وَلَهُ - وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ - أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَحْفَظَ مَالَ ابْنِهِ الْغَائِبِ كَالْوَصِيِّ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَوْفَرُ شَفَقَةً. وَبَيْعُ النَّقْلِيِّ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ، فَإِذَا بَاعَهُ فَالثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَهُوَ نَفَقَتُهُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ حَقَّهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَقَارُ فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ وَبِخِلَافِ الْأُمِّ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَقَارِبِ لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لَهُمْ حَالَ صِغَرِهِ، وَلَا وَلَايَةَ الْحِفْظِ حَالَةَ الْغَيْبَةِ مَعَ الْكِبَرِ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةٌ سَقَطَتْ) لِأَنَّهَا إِنَّمَا وَجَبَتْ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ وَقَدِ انْدَفَعَتْ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ إِذَا قُضِيَ لَهَا لِأَنَّهَا وَجَبَتْ مَعَ الْيَسَارِ لَا لِدَفْعِ الْحَاجَةِ فَلَا تَسْقُطُ بِحُصُولِ الِاسْتِغْنَاءِ. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي أَمَرَ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ) لِأَنَّ وَلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ، فَكَأَنَّ الْغَائِبَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَتَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَسْقُطُ. قَالَ: (وَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى رَقِيقِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَقِّهِمْ: «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ» وَلِأَنَّهُمْ مَشْغُولُونَ بِخِدْمَتِهِمْ مَحْبُوسُونَ فِي مِلْكِهِمْ فَيَجِبُ عَلَيْهِمُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يَهْلِكُوا جُوعًا. (فَإِنِ امْتَنَعَ اكْتَسَبُوا وَأَنْفَقُوا) لِأَنَّ فِيهِ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ: جَانِبُهُ بِبَقَاءِ مِلْكِهِ، وَجَانِبُهُمْ بِدَفْعِ حَاجَتِهِمْ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ كَسْبٌ) كَالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالْجَارِيَةِ الْمُسْتَحْسَنَةِ الَّتِي لَا تُؤَجَّرُ (أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِمْ) لِأَنَّ الرَّقِيقَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَفِي بَيْعِهِمْ إِيفَاءُ حَقِّهِمْ وَإِيفَاءُ حَقِّ الْمَوْلَى بِنَقْلِهِ إِلَى الْخُلْفِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ يُجْبَرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. فَصْلٌ فِي الْحَضَانَةِ وَإِذَا اخْتَصَمَ الزَّوْجَانِ فِي الْوَلَدِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَالْأُمُّ أَحَقُّ، ثُمَّ أُمُّهَا ثُمَّ أُمُّ الْأَبِ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأَبَوَيْنِ ثُمَّ لِأُمٍّ   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْإِعْسَارُ بِنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ نَفَقَتَهَا تَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَتَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَتِهِ وَحَبْسِهِ، وَلَا دَيْنَ لِلْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ، وَلِأَنَّهُ يُفَوِّتُ مِلْكَهُ فِي النِّكَاحِ لَا إِلَى خُلْفٍ، وَهَاهُنَا يُفَوَّتُ إِلَى الثَّمَنِ، عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ هُنَا يَقَعُ بِاخْتِيَارِهِ وَعَقْدِهِ وَالْفَسْخُ لَا بِفِعْلِهِ. قَالَ: (وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ يُجْبَرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى) لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْمَالِ وَتَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُمَا، وَلَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ لِيُقْضَى لَهَا بِجَبْرِ الْمَوْلَى عَلَى نَفَقَتِهَا أَوْ بَيْعِهَا. [فَصْلٌ فِي الْحَضَانَةِ] ِ وَهِيَ مِنَ الْحِضْنِ، وَهُوَ مَا دُونُ الْإِبِطِ إِلَى الْكَشْحِ، وَحِضْنَا الشَّيْءِ: جَانِبَاهُ، وَحَضَنَ الطَّائِرُ بَيْضَهُ يَحْضُنُهُ: إِذَا ضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ تَحْتَ جَنَاحِهِ، فَكَأَنَّ الْمُرَبِّيَ لِلْوَلَدِ يَتَّخِذُهُ فِي حِضْنِهِ وَإِلَى جَنْبِهِ، وَلَمَّا كَانَ الصَّغِيرُ عَاجِزًا عَنِ النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ إِلَى مَنْ يَلِي عَلَيْهِمْ، فَفَوَّضَ الْوَلَايَةَ فِي الْمَالِ وَالْعُقُودِ إِلَى الرِّجَالِ، لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ أَقْوَمُ وَعَلَيْهِ أَقْدَرُ، وَفَوَّضَ التَّرْبِيَةَ إِلَى النِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ أَشْفَقُ وَأَحْنَى وَأَقْدَرُ عَلَى التَّرْبِيَةِ مِنَ الرِّجَالِ وَأَقْوَى. قَالَ: (وَإِذَا اخْتَصَمَ الزَّوْجَانِ فِي الْوَلَدِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَالْأُمُّ أَحَقُّ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَزَعَمَ أَبُوهُ أَنَّهُ يَنْتَزِعُهُ مِنِّي، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» . وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طَلَّقَ زَوْجَتَهُ أُمَّ ابْنِهِ عَاصِمٍ، فَتَنَازَعَا وَارْتَفَعَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: " رِيقُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ شَهْدٍ وَعَسَلٍ عِنْدَكَ يَا عُمَرُ "، وَدَفَعَهُ إِلَيْهَا وَالصَّحَابَةُ حَاضِرُونَ مُتَكَاثِرُونَ، وَلِأَنَّهَا أَقْوَمُ بِالتَّرْبِيَةِ وَأَقْدَرُ عَلَيْهَا مِنَ الْأَبِ فَكَانَ الدَّفْعُ إِلَيْهَا أَنْظَرَ لِلصَّبِيِّ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ حَضَانَةٌ لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ الْوَلَدُ مَا لَمْ يَطْلُبْهُ فَعَسَاهُ يَعْجِزُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْأَبِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَخْذِهِ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْحَضَانَةِ حَيْثُ يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ إِذَا امْتَنَعَ، لِأَنَّ الصِّيَانَةَ عَلَيْهِ. قَالَ: (ثُمَّ أُمُّهَا ثُمَّ أُمُّ الْأَبِ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأَبَوَيْنِ ثُمَّ لِأُمٍّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 ثُمَّ لِأَبٍ، ثُمَّ الْخَالَاتُ كَذَلِكَ، ثُمَّ الْعَمَّاتُ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنْ بَنَاتِ الْأَخِ، وَهُنَّ أَوْلَى مِنَ الْعَمَّاتِ، وَمَنْ لَهَا الْحَضَانَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ بِأَجْنَبِيٍّ سَقَطَ حَقُّهَا، فَإِنْ فَارَقَتْهُ عَادَ حَقُّهَا، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْيِ الزَّوْجِ، وَيَكُونُ الْغُلَامُ عِنْدَهُنَّ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنِ الْخِدْمَةِ، وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا حَتَّى تَسْتَغْنِيَ،   [الاختيار لتعليل المختار] ثُمَّ لِأَبٍ، ثُمَّ الْخَالَاتُ كَذَلِكَ، ثُمَّ الْْعَمَّاتُ كَذَلِكَ أَيْضًا، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ أَوْلَى مِنْ بَنَاتِ الْأَخِ، وَهُنَّ أَوْلَى مِنَ الْعَمَّاتِ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْوَلَايَةَ تُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، فَكَانَتْ جِهَةُ الْأُمِّ مُقَدَّمَةً عَلَى جِهَةِ الْأَبِ، وَلِأَنَّ الْجَدَّاتِ أَقْرَبُ مِنَ الْأَخَوَاتِ، وَالْأَخَوَاتِ أَقْرَبُ مِنَ الْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْخَالَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ، لِأَنَّ الْخَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْخَالَةُ وَالِدَةٌ» ، وَالْخَالَاتُ مُسَاوِيَاتٌ لِلْعَمَّاتِ فِي الْقُرْبِ، وَإِنَّمَا تُقَدَّمُ الْخَالَاتُ لِأَنَّ قَرَابَتَهُنَّ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، وَتُقَدَّمُ مَنْ كَانَتْ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِجِهَتَيْنِ فَتَكُونُ أَوْلَى ثُمَّ مِنَ الْأُمِّ ثُمَّ مِنَ الْأَبِ تَرْجِيحًا لِقَرَابَةِ الْأُمِّ، وَلَا حَقَّ لِمَنْ لَهُنَّ رَحِمٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ كَبَنَاتِ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَبَنَاتِ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ. قَالَ: (وَمَنْ لَهَا الْحَضَانَةُ إِذَا تَزَوَّجَتْ بِأَجْنَبِيٍّ سَقَطَ حَقُّهَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» ، وَفِي رِوَايَةٍ: " مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي "، وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ: «أُمُّهُ أَوْلَى بِهِ مَا لَمْ يَشُبَّ أَوْ تَتَزَوَّجْ» ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ يَلْحَقُهُ مِنْ زَوْجِ أُمِّهِ جَفَاءٌ فَيَسْقُطُ حَقُّهَا لِلْمَضَرَّةِ، لِأَنَّ حَقَّهَا إِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْحَضَانَةِ لِشَفَقَتِهَا نَظَرًا لَهُ، فَإِذَا زَالَتْ زَالَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا تَزَوَّجَتْ بِذِي رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنَ الصَّبِيِّ حَيْثُ لَا تَسْقُطُ لِشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ، كَمَا إِذَا تَزَوَّجَتِ الْأُمُّ بِعَمِّهِ وَالْجَدَّةُ بِالْجَدِّ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ جَفَاءٌ مِنْ جَدِّهِ وَعَمِّهِ. قَالَ: (فَإِنْ فَارَقَتْهُ عَادَ حَقُّهَا) لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ، (وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي نَفْيِ الزَّوْجِ) لِأَنَّهَا تُنْكِرُ بُطْلَانَ حَقِّهَا فِي الْحَضَانَةِ. قَالَ: (وَيَكُونُ الْغُلَامُ عِنْدَهُنَّ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنِ الْخِدْمَةِ) فَيَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ وَيَلْبَسُ وَحْدَهُ وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ، وَقَدَّرَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِتِسْعِ سِنِينَ، وَالْخَصَّافُ بِسَبْعٍ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: " هِيَ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يَشُبَّ "، وَلِأَنَّهُ إِذَا اسْتَغْنَى يَحْتَاجُ إِلَى التَّأَدُّبِ بِآدَابِ الرِّجَالِ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِهِمْ وَتَعْلِيمِ الْقُرْآَنِ وَالْعِلْمِ وَالْحِرَفِ، وَالْأَبُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ فَكَانَ أَوْلَى وَأَجْدَرَ. قَالَ: (وَتَكُونُ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ حَتَّى تَحِيضَ وَعِنْدَ غَيْرِهِمَا حَتَّى تَسْتَغْنِيَ) وَقِيلَ حَتَّى تُشْتَهَى، لِأَنَّ الْجَارِيَةَ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ تَحْتَاجُ إِلَى التَّأَدُّبِ بِآدَابِ النِّسَاءِ وَتَعَلُّمِ أَشْغَالِهِنَّ، وَالْأُمُّ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا بَلَغَتِ احْتَاجَتْ إِلَى الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ، وَالْأَبُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ فَلِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْدَامِهَا فَلَا يَحْصُلُ التَّأَدُّبُ، وَلَا كَذَلِكَ الْأُمُّ وَالْجَدَّةُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِذَا بَلَغَتْ حَدًّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ امْرَأَةٌ أَخَذَهُ الرِّجَالُ، وَأَوْلَاهُمْ أَقْرَبُهُمْ تَعْصِيبًا وَلَا تُدْفَعُ الصَّبِيَّةُ إِلَى غَيْرِ مَحْرَمٍ، وَلَا إِلَى مَحْرَمٍ مَاجِنٍ فَاسِقٍ، وَإِذَا اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّو الْحَضَانَةِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَوْرَعُهُمْ أَوْلَى ثُمَّ أَكْبَرُهُمْ، وَلَا حَقَ لِلْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِي الْحَضَانَةِ، وَالذِّمِّيَّةُ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ الْكُفْرُ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَخْرُجَ بِوَلَدِهِ مِنْ بَلَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الِاسْتِغْنَاءِ، وَلَيْسَ لِلْأُمِّ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تُخْرِجَهُ إِلَى وَطَنِهَا وَقَدْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ وَطَنُهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] تُشْتَهَى يَأْخُذُهَا الْأَبُ مِنَ الْأُمِّ لِلْحَاجَةِ إِلَى الْحِفْظِ. وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ: إِذَا اجْتَمَعَ النِّسَاءُ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ، قَالَ: يَضَعُهُ الْقَاضِي حَيْثُ شَاءَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُنَّ كَمَنْ لَا قَرَابَةَ لَهُ. قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ امْرَأَةٌ أَخَذَهُ الرِّجَالُ) صَوْنًا لَهُ، (وَأَوْلَاهُمْ أَقْرَبُهُمْ تَعْصِيبًا) لِأَنَّ الْوَلَايَةَ عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَغْنَى عَنِ الْحَضَانَةِ، فَالْأَوْلَى بِالْحِفْظِ أَقْرَبُهُمْ تَعْصِيبًا. قَالَ: (وَلَا تُدْفَعُ الصَّبِيَّةُ إِلَى غَيْرِ مَحْرَمٍ) كَابْنِ الْعَمِّ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ (وَلَا إِلَى مَحْرَمٍ مَاجِنٍ فَاسِقٍ) لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ فِسْقُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا ابْنُ عَمٍّ فَإِنْ شَاءَ الْقَاضِي ضَمَّهَا إِلَيْهِ إِنْ كَانَ أَصْلَحَ، وَإِلَّا وَضَعَهَا عِنْدَ أَمِينِةِ، وَلَوْ كَانَ الْأَخُ مَخُوفًا عَلَيْهَا يَضَعُهَا الْقَاضِي عِنْدَ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ. الثَّيِّبُ الْمَأْمُونَةُ لَهَا حَقُّ التَّفَرُّدِ بِالسُّكْنَى، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَأْمُونَةً فَالْأَبُ يَضُمُّهَا إِلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْبِكْرِ حَقُّ التَّفَرُّدِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي السَّنِّ وَكَانَ لَهَا رَأْيٌ فَلَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ. قَالَ: (وَإِذَا اجْتَمَعَ مُسْتَحِقُّو الْحَضَانَةِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَوْرَعُهُمْ أَوْلَى ثُمَّ أَكْبُرُهُمْ، وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِي الْحَضَانَةِ) لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْوَلَايَةِ وَلَيْسَتَا مِنْ أَهْلِهَا، فَإِذَا أُعْتِقَتَا فَهُمَا كَالْحُرَّةِ (وَالذِّمِّيَّةُ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا الْمُسْلِمِ مَا لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ الْكُفْرُ) لِأَنَّ النَّظَرَ لَهُ فِي حَضَانَتِهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ عَلَيْهِ فِيهِ الضَّرَرُ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَخْرُجَ بِوَلَدِهِ مِنْ بَلَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الِاسْتِغْنَاءِ) لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْأُمِّ مِنَ الْحَضَانَةِ، (وَلَيْسَ لِلْأُمِّ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ تُخْرِجَهُ إِلَى وَطَنِهَا وَقَدْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهِ) لِأَنَّ التَّزَوُّجَ فِيهِ دَلِيلُ الْمُقَامِ فِيهِ ظَاهِرٌ فَقَدِ الْتَزَمَ الْمُقَامَ فِي بَلَدِهَا، وَإِنَّمَا لَزِمَهَا اتِّبَاعَهُ بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِذَا زَالَتِ الزَّوْجِيَّةُ جَازَ لَهَا أَنْ تَعُودَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِذَلِكَ، (إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ وَطَنُهَا) لِأَنَّهُ ضَرَرٌ بِالصَّبِيِّ لِأَنَّهُ يَتَعَوَّدُ أَخْلَاقَ الْكُفَّارِ وَرُبَّمَا يَأْلَفُهُمْ، وَإِذَا أَرَادَتْ أَنْ تُخْرِجَهُ إِلَى بَلَدِهَا وَلَمْ يَقَعِ الْعَقْدُ فِيهِ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهَا الْمَقَامَ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامِهِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ: إِذَا تَفَرَّقَتِ الدَّارُ فَالْعُصْبَةُ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي غَيْرِ وَطَنِهَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَهُ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ، لِأَنَّهُ دَارُ غُرْبَةٍ كَالْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الزَّوْجُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 كتاب العتق   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِذَا تَسَاوَيَا لَمْ يَجُزْ لَهَا نَقْلُهُ، وَقِيلَ لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ فِيهِ فَيُوجِبُ أَحْكَامَهُ فِيهِ فَلَا بُدَّ فِي النُّقْلَةِ مِنَ الْوَطَنِ وَوُقُوعِ الْعَقْدِ فِيهِ. وَهَذَا إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ مَسَافَةٌ، أَمَّا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مَا يُمْكِنُ الْأَبَ الِاطَّلَاعَ عَلَيْهِ وَيَبِيتُ فِي مَنْزِلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ، وَصَارَ كَالنُّقْلَةِ مِنْ مَحَلَّةٍ إِلَى أُخْرَى فِي الْمِصْرِ الْمُتَبَاعِدِ الْأَطْرَافِ، وَالْقَرْيَتَانِ كَالْمِصْرَيْنِ، وَكَذَا لَوِ انْتَقَلَتْ مِنَ الْقَرْيَةِ إِلَى الْمِصْرِ، لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ حَيْثُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الْمِصْرِ، وَبِالْعَكْسِ لَا، لِأَنَّ أَخْلَاقَ أَهْلِ السَّوَادِ أَجْفَى فَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ بِالصَّبِيِّ فَلَا يَجُوزُ. [كتاب العتق] ِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقُوَّةُ، يُقَالُ: عَتَقَ الطَّائِرُ: إِذَا قَوِيَ عَلَى الطَّيَرَانِ، وَعِتَاقُ الطَّيْرِ: كَوَاسِبُهَا لِقُوَّتِهَا عَلَى الْكَسْبِ، وَعَتَقَتِ الْخَمْرُ: قَوِيَتْ وَاشْتَدَّتْ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلْجَمَالِ، يُقَالُ: فَرَسٌ عَتِيقٌ: أَيْ رَائِعٌ جَمِيلٌ، وَسُمِّيَ الصَّدِيقُ عَتِيقًا لِجَمَالِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلْكَرَمِ، وَمِنْهُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ: أَيِ الْكَرِيمُ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلسَّعَةِ وَالْجَوْدَةِ، وَمِنْهُ رِزْقٌ عَاتِقٌ: أَيْ جَيِّدٌ وَاسِعٌ. وَفِي الشَّرْعِ: زَوَالُ الرِّقِّ عَنِ الْمَمْلُوكِ وَفِيهِ هَذِهِ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةُ فَإِنَّهُ بِالْعِتْقِ يَقْوَى عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَيْهِ قَبْلَهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَيُورِثُهُ جَمَالًا وَكَرَامَةً بَيْنَ النَّاسِ وَيَزُولُ عَنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ ضِيقِ الْحَجْرِ وَالْعُبُودِيَّةِ فَيَتَّسِعُ رِزْقُهُ بِسَبَبِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ. وَالْحُرِّيَّةُ: الْخَلَاصُ، وَالْحُرُّ: الْخَالِصُ، وَمِنْهُ طِينٌ حُرٌّ: خَالِصٌ لَا رَمْلَ فِيهِ، وَأَرْضٌ حُرَّةٌ: خَالِصَةٌ مِنَ الْخَرَاجِ وَالنَّوَائِبِ. وَالتَّحْرِيرُ: إِثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ الْخُلُوصُ فِي الذَّاتِ عَنْ شَائِبَةِ الرِّقِّ. وَالرِّقُّ فِي اللُّغَةِ: الضَّعْفُ، وَمِنْهُ ثَوْبٌ رَقِيقٌ، وَصَوْتٌ رَقِيقٌ: أَيْ ضَعِيفٌ. وَفِي الشَّرْعِ: ضَعْفٌ مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْحُرُّ مِنَ الْوَلَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْجَنَائِزِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَبِالْإِعْتَاقِ وَالتَّحْرِيرِ تَثْبُتُ لَهُ الْقُوَّةُ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَتُخَلِّصُهُ عَنْ شَوَائِبِ الرِّقِّ وَالْإِذْلَالِ. وَقَالَ الْقُدُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْعِتْقُ إِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنِ الرِّقِّ، وَالْحُقُوقُ تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ، فَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنِ الرِّقِّ عِتْقٌ، وَعَنِ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ طَلَاقٌ، وَعَنِ الدُّيُونِ بَرَاءَةٌ، فَإِنَّهُ إِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ يَحْتَاجُ إِلَى النَّقْلِ فَيَسْقُطُ، وَلَا كَذَلِكَ الْأَعْيَانُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنْهَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ تَبْقَى غَيْرَ مُتَنَقِّلَةً فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ. وَهُوَ قَضِيَّةٌ مَشْرُوعَةٌ وَقُرْبَةٌ مَنْدُوبَةٌ. أَمَّا شَرْعِيَّتُهَا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] ، وَقَالَ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] كُلِّفْنَا بِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ، وَلَوْلَا شَرْعِيَّتُهُ لَمَا كُلِّفْنَاهُ، إِذْ تَكْلِيفُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وَلَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ مَالِكٍ قَادِرٍ عَلَى التَّبَرُّعَاتِ وَأَلْفَاظُهُ: صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحُ يَقَعُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ مُحَرَّرٌ، أَوْ عَتِيقٌ، أَوْ مُعْتَقٌ، وَأَعْتَقْتُكَ، أَوْ حَرَّرْتُكَ، وَهَذَا مَوْلَايَ، أَوْ يَا مَوْلَايَ، أَوْ هَذِهِ مَوْلَاتِي، وَيَا حُرُّ، وَيَا عَتِيقُ، إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ فَلَا يَعْتِقُ، وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ الْحُرِّيَّةِ إِلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْبَدَنِ.   [الاختيار لتعليل المختار] مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ قَبِيحٌ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابُهُ أَعْتَقُوا، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى شَرْعِيَّتِهِ، وَأَمَّا النَّدْبِيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] وَالنَّدْبِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ أَيْضًا. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا مُؤْمِنٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنَ النَّارِ» «وَسَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ: لَئِنْ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ عَرَّضْتَ الْمَسْأَلَةَ، أَعْتِقِ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ "، قَالَ: أَلَيْسَا وَاحِدًا، قَالَ: " لَا، عِتْقُ الرَّقَبَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا» . ثُمَّ الْعِتْقُ قَدْ يَقَعُ قُرْبَةً وَمُبَاحًا وَمَعْصِيَةً، فَإِنْ أَعْتَقَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَنْ كَفَّارَةٍ فَهُوَ قُرْبَةٌ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ أَوْ أَعْتَقَهُ لِفُلَانٍ فَهُوَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ لِلصَّنَمِ أَوْ لِلشَّيْطَانِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِالْعِتْقِ وَيُشْهِدَ عَلَيْهِ بِهِ تَوَثُّقًا وَخَوْفًا مِنَ التَّجَاحُدِ. (وَلَا يَقَعُ إِلَّا مِنْ مَالِكٍ قَادِرٍ عَلَى التَّبَرُّعَاتِ) ، أَمَّا الْمِلْكُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَضَافَهُ إِلَى مِلْكِهِ كَمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى التَّبَرُّعَاتِ فَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ. قَالَ: (وَأَلْفَاظُهُ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ يَقَعُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ) كَمَا قُلْنَا فِي الطَّلَاقِ، (وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ مُحَرَّرٌ، أَوْ عَتِيقٌ، أَوْ مُعْتَقٌ) وَإِنْ نَوَى بِهِ الْخُلُوصَ وَالْقِدَمَ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَهُوَ يَحْتَمِلُهُ، (وَ) قَوْلُهُ (أَعْتَقْتُكَ، أَوْ حَرَّرْتُكَ) صَرِيحٌ أَيْضًا، (وَ) كَذَلِكَ (هَذَا مَوْلَايَ، أَوْ يَا مَوْلَايَ، أَوْ هَذِهِ مَوْلَاتِي) لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُعْتَقِ وَالْمُعْتِقِ فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا ثَبَتَ الْآخَرُ ضَرُورَةً، وَلَوْ نَوَى النُّصْرَةَ وَالْمَحَبَّةَ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ عُتِقَ قَضَاءً لِأَنَّهُ مَتَى صَارَ حُرًّا فِي شَيْءٍ صَارَ حُرًّا فِي كُلِّ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لَا تَتَجَزَّأُ (وَيَا حُرُّ، وَيَا عَتِيقُ) صَرِيحٌ أَيْضًا (إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ اسْمًا لَهُ فَلَا يَعْتِقُ) إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْإِنْشَاءَ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إِضَافَةُ الْحُرِّيَّةِ إِلَى مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْبَدَنِ) وَهُوَ كَالطَّلَاقِ فِي التَّفْصِيلِ وَالْحُكْمِ وَالْخِلَافِ وَالْعِلَّةِ، وَلَوْ أَعْتَقَ جُزْءًا شَائِعًا كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ عُتِقَ ذَلِكَ الْجُزْءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي الْبَاقِي، وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَلَوْ قَالَ: بَعْضُكَ حُرٌّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 وَالْكِنَايَاتُ تَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ، وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكَ، وَلَا رِقَّ، وَخَرَجْتَ مِنْ مِلْكِي، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَطْلَقْتُكِ، وَلَوْ قَالَ طَلَّقْتُكِ لَا تَعْتِقُ وَإِنْ نَوَى، وَإِنْ قَالَ: هَذَا ابْنِي أَوْ أَبِي أَوْ أُمِّي عَتَقَ (سم)   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ جُزْؤُكَ عُتِقَ كُلُّهُ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ. وَلَوْ قَالَ: دَمُكَ حُرٌّ؛ فِيهِ رِوَايَتَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: فَرْجُكِ حُرٌّ مِنَ الْجِمَاعِ عُتِقَتْ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: فَرْجُكَ حُرٌّ يُعْتَقُ، وَقِيلَ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّ فَرْجَ الْمَرْأَةِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ لَا فَرْجَ الرَّجُلِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْفُرُوجَ عَلَى السُّرُوجِ» وَالْمُرَادُ النِّسَاءُ، وَفِي الِاسْتِ وَالدُّبُرِ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْبَدَنِ، وَفِي الْعِتْقِ رِوَايَتَانِ. وَمِمَّا يُلْحَقُ بِالصَّرِيحِ قَوْلُهُ لِعَبْدِهِ: وَهَبْتُ لَكَ نَفْسَكَ، أَوْ بِعْتُكَ نَفْسَكَ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ قَبِلَ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي زَوَالَ الْمِلْكِ إِلَى الْعَبْدِ فَيَزُولُ مِلْكُهُ بِإِزَالَتِهِ صَرِيحًا، فَلَمْ يَكُنْ صَرِيحًا فِي الْعِتْقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ لُغَةً، لَكِنَّهُ مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَقَعُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ النَّفْسِيَّةَ دُونَ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَكُونُ إِعْتَاقًا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْقَبُولِ، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهُ: بِعْتُ مِنْكَ نَفْسَكَ بِكَذَا افْتَقَرَ إِلَى الْقَبُولِ لِمَكَانِ الْعِوَضِ. (وَالْكِنَايَاتُ تَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ) لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ الْعِتْقَ وَغَيْرَهُ فَلَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِالنِّيَّةِ كَمَا قُلْنَا فِي الطَّلَاقِ، (وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ، وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكَ، وَلَا رِقَّ، وَخَرَجْتَ مِنْ مِلْكِي) لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ لِأَنِّي بِعْتُكَ أَوْ وَهَبْتُكَ، وَيَحْتَمِلُ لِأَنِّي أَعْتَقْتُكَ، وَكَذَا سَائِرُهَا فَاحْتَاجَ إِلَى النِّيَّةِ، وَكَذَا خَلَّيْتُ سَبِيلَكَ، وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْكَ، لِأَنَّ نَفْيَ السَّبِيلِ يَكُونُ بِالْبَيْعِ وَيَكُونُ بِالْكِتَابَةِ وَيَكُونُ بِالْعِتْقِ فَلَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، (وَكَذَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَطْلَقْتُكِ) لِأَنَّهُ بِمَعْنَى خَلَّيْتُ سَبِيلَكَ. (وَلَوْ قَالَ: طَلَّقْتُكِ لَا تُعْتَقُ وَإِنْ نَوَى) وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَلْفَاظِ صَرِيحِ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتِهِ، لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَمَا يُزِيلُ الْأَقْوَى يُزِيلُ الْأَضْعَفَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، أَمَّا مَا يَكُونُ مُزِيلًا لِلْأَضْعَفِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُزِيلًا لِلْأَقْوَى، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ إِثْبَاتٌ لِلْقُوَّةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَالطَّلَاقُ رَفْعُ الْقَيْدِ، وَبَيْنَ الْإِثْبَاتِ وَالرَّفْعِ تَضَادٌّ، وَلِأَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتِهِ مُسْتَعْمَلَةٌ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ، وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ تُنَافِي النِّكَاحَ وَلَا تُنَافِي الْمَمْلُوكِيَّةَ فَلَا يَقَعُ كِنَايَةً عَنْهُ، وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ لِعَبْدِهِ: أَنْتِ حُرَّةٌ لَا تُعْتَقُ إِلَّا بِالنِّيَّةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِيهِ، وَلَوْ قَالَ: لَا حَقَّ لِي عَلَيْكَ يُعْتَقُ إِذَا نَوَى، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْحَقَّ عِبَارَةٌ عَنِ الْمِلْكِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا مِلْكَ لِي عَلَيْكَ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ لِلَّهِ، أَوْ جَعَلْتُكَ خَالِصًا لِلَّهِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى بِحُكْمِ التَّخْلِيقِ، وَعَنْهُمَا أَنَّهُ يُعْتَقُ لِأَنَّ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْعِتْقِ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ هَذَا ابْنِي أَوْ أَبِي أَوْ أُمِّي عُتِقَ) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 وَلَوْ قَالَ: هَذَا أَخِي لَمْ يَعْتِقْ، وَلَوْ قَالَ: يَا بُنَيَّ أَوْ يَا أَخِي لَمْ يَعْتِقْ، وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ مِثْلُ الْحُرِّ لَمْ يَعْتِقْ، وَلَوْ قَالَ: مَا أَنْتَ إِلَّا حُرٌّ عَتَقَ، وَلَوْ قَالَ: لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْكَ   [الاختيار لتعليل المختار] وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: هَذَا عَمِّيَ أَوْ خَالِي، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ يَصْلُحُ وَالِدًا أَوْ وَلَدًا وَهُوَ مَجْهُولُ النَّسَبِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ أَيْضًا، لِأَنَّ لَهُ وَلَايَةَ الدَّعْوَةِ وَالْعَبْدُ مُحْتَاجٌ إِلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ وَيُعْتَقُ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ وَالِدًا فِي قَوْلِهِ هَذَا أَبِي بِأَنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْهُ، وَلَا وَلَدًا فِي قَوْلِهِ: هَذَا ابْنِي بِأَنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ، أَوْ مُقَارَنَةَ - عَتَقَ أَيْضًا عَمَلًا بِمَجَازِ اللَّفْظِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِتَعَذُّرِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ كَذِبٌ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ أَعْتَقْتُكَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمَجَازِهِ، لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُلَازِمَةٌ لِلْبُنُوَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ، وَالْمُلَازَمَةُ مِنْ طَرِيقِ الْمَجَازِ تَحَرُّزًا عَنْ إِلْغَاءِ كَلَامِ الْعَاقِلِ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْمَجَازِ فِيهِ فَتَعَيَّنَ الْإِلْغَاءُ، ثُمَّ قِيلَ لَا يُشْتَرَطُ تَصْدِيقُ الْعَبْدِ لِأَنَّ إِقْرَارَ الْمَالِكِ عَلَى مَمْلُوكِهِ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقِهِ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ التَّصْدِيقُ فِيمَا سِوَى دَعْوَةِ الْبُنُوَّةِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْبُنُوَّةِ حَمْلُ النَّسَبِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ دَعْوَى عَلَى الْعَبْدِ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَيُشْتَرَطُ تَصْدِيقُهُ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ لِلتَّعَذُّرِ، وَيُعْتَقُ عَمَلًا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَجَازِ. (وَلَوْ قَالَ: هَذَا أَخِي لَمْ يَعْتِقْ) فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْأَخُ فِي الدِّينِ عُرْفًا وَشَرْعًا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَقُ لِأَنَّ مِلْكَ الْأَخِ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ، وَالْأُخُوَّةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ إِلَى النَّسَبِ. (وَلَوْ قَالَ: يَا بُنَيَّ أَوْ يَا أَخِي لَمْ يَعْتِقْ) فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِالنِّدَاءِ إِلَّا بِخَمْسَةِ أَلْفَاظٍ: يَا ابْنِي، يَا بِنْتِي، يَا عَتِيقُ، يَا حُرُّ، يَا مَوْلَايَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ: لَا يُعْتَقُ إِلَّا بِالثَّلَاثَةِ الْأَخِيرَةِ، لِأَنَّ النِّدَاءَ وُضِعَ لِإِعْلَامِ الْمُنَادَى لَا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى النِّدَاءِ فِي الْمُنَادَى حَتَّى يُقَالَ لِلْبَصِيرِ يَا أَعْمَى، وَلِلْأَبْيَضِ يَا أَسْوَدُ، إِلَّا فِيمَا تَعَارَفَ النَّاسُ إِثْبَاتُ الْعِتْقِ بِهِ وَهِيَ الْأَلْفَاظُ الثَّلَاثَةُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ جَعْلُهُ إِعْلَامًا لِأَنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ بِاسْمٍ لَهُ وَضْعًا فَجَعَلْنَاهُ لِإِثْبَاتِ مَعْنَى النِّدَاءِ فِي الْمُنَادَى وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ صَوْنًا لِكَلَامِهِ عَنِ الْإِلْغَاءِ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: هَذِهِ بِنْتِي، أَوْ لِأَمَتِهِ: هَذَا ابْنِي. عُتِقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَمَلًا بِالْإِشَارَةِ، وَقِيلَ لَا يُعْتَقُ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ وَالتَّسْمِيَةَ اجْتَمَعَا فِي جِنْسَيْنِ فَكَانَتِ الْعِبْرَةُ لِلتَّسْمِيَةِ وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ. (وَلَوْ قَالَ: أَنْتَ مِثْلُ الْحُرِّ لَمْ يَعْتِقْ) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُرَادُ بِهِ الْمُشَارَكَةُ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي عُرْفًا وَقَدْ وُجِدَ فَلَا يُعْتَقُ بِالشَّكِّ. وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يُعْتَقُ إِذَا نَوَى كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ مِثْلُ امْرَأَةِ فُلَانٍ - وَفُلَانٌ قَدْ آلَى مِنِ امْرَأَتِهِ - إِنْ نَوَى الْإِيلَاءَ يَصِيرُ مُولِيًا. (وَلَوْ قَالَ: مَا أَنْتَ إِلَّا حُرٌّ عَتَقَ) لِأَنَّ هَذَا إِثْبَاتٌ مِنَ النَّفْيِ فَهُوَ أَبْلَغُ فِي التَّأْكِيدِ كَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ، (وَلَوْ قَالَ: لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 لَمْ يَعْتِقْ وَإِنْ نَوَى، وَعِتْقُ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَاقِعٌ. وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا، وَالْمُكَاتَبُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ لَا غَيْرُ (سم) ، وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ لِلصَّنَمِ أَوْ لِلشَّيْطَانِ عَتَقَ وَكَانَ عَاصِيًا، وَمَنْ أَعْتَقَ حَامِلًا عَتَقَ حَمْلُهَا مَعَهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] لَمْ يَعْتِقْ وَإِنْ نَوَى) لِأَنَّ السُّلْطَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الْيَدِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَدَ لِي عَلَيْكَ وَنَوَى لَا يَعْتِقُ، لِأَنَّ نَفْيَ الْيَدِ الْمُفْرَدَةِ بِالْكِتَابَةِ لَا بِالْعِتْقِ، (وَعِتْقُ الْمُكْرَهِ وَالسَّكْرَانِ وَاقِعٌ) لِمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ. [فصل من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه] فَصْلٌ (وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمِ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: " عَتَقَ عَلَيْهِ "، فَيَنْتَظِمُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالْعَاقِلَ وَالْمَجْنُونَ وَالْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ عَمَلًا بِعُمُومِ كَلِمَةِ " مَنْ " وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعِبَادِ وَهُمُ الْأَقْرِبَاءُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْمَجْنُونُ كَالنَّفَقَاتِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي رَحِمِ مَحْرَمٍ وِلَادٌ وَغَيْرُهُ كَالْإِخْوَةِ وَبَنِيهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ، وَذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ كُلُّ شَخْصَيْنِ يُدْلِيَانِ إِلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالْأَخَوَيْنِ. أَوْ أَحَدُهُمَا بِوَاسِطَةٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَالْعَمِّ وَابْنِ الْأَخِ إِلَى الْجَدِّ، وَلَا يَعْتِقُ بِالْمِلْكِ ذُو رَحِمٍ غَيْرُ مَحْرَمٍ، كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَبَنِي الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ، وَلَا مَحْرَمٌ غَيْرُ ذِي رَحِمٍ كَالْمُحَرَّمَاتِ بَالصِّهْرِيَّةِ وَالرَّضَاعِ، لِأَنَّ الْعِتْقَ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ ضَرَرٌ إِلَّا أَنَّا خَالَفْنَاهُ فِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِالنَّصِّ فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ. قَالَ: (وَالْمُكَاتَبُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ قَرَابَةُ الْوِلَادِ لَا غَيْرُ) ، وَقَالَا: يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ الْأَخُ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُرًّا عَتَقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مُكَاتَبًا يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ كَقَرَابَةِ الْوِلَادِ. وَلَهُ أَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ نَاقِصٌ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْإِعْتَاقِ. وَالْوُجُوبُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَقَرَابَةُ الْوِلَادِ الْعِتْقُ فِيهِمْ مِنْ مَقَاصِدِ الْكِتَابَةِ، فَامْتَنَعَ الْبَيْعُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الْكِتَابَةِ. أَمَّا حُرِّيَّةُ الْأَخِ وَالْعَمِّ لَيْسَتْ مِنْ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَظْهَرُ فِيهِمَا. قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ لِلصَّنَمِ أَوْ لِلشَّيْطَانِ عَتَقَ وَكَانَ عَاصِيًا) لِصُدُورِ الْإِعْتَاقِ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إِلَى مَحَلِّهِ عَنْ وَلَايَةٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتَ حُرٌّ صَرِيحٌ فِي الْعِتْقِ فَيَقَعُ، وَيَلْغُو قَوْلُهُ لِلصَّنَمِ أَوْ لِلشَّيْطَانِ وَيَكُونُ عَاصِيًا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْكَفَرَةِ وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ. قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ حَامِلًا عَتَقَ حَمْلُهَا مَعَهَا) لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهَا فَصَارَ كَبَعْضِ أَجْزَائِهَا، وَلَيْسَ الْقَبْضُ وَالتَّسْلِيمُ فِيهِ شَرْطًا فَيَصِحُّ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 وَإِنْ أَعْتَقَ حَمْلَهَا عَتَقَ خَاصَّةً، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالتَّدْبِيرِ، وَوَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ مَوْلَاهَا حُرٌّ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ، وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَ عَتَقَ وَلَزِمَهُ الْمَالُ، وَإِنْ قَالَ: إِنْ أَدَّيْتَ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ صَارَ مَأْذُونًا وَيَعْتِقُ بِالتَّخْلِيَةِ (ز) بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَلْفِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْمَالِ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ أَوِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، (وَإِنْ أَعْتَقَ حَمْلَهَا عَتَقَ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا لِتُعْتَقَ أَصَالَةً وَلَا تُعْتَقُ تَبَعًا لِأَنَّهَا أَصْلٌ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ عَتَقَ وَبَطَلَ الْمَالُ، لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَلْزَمُ الْحَمْلَ لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ الْأُمَّ لِعَدَمِ الْتِزَامِهَا، ثُمَّ إِنَّمَا يُعْرَفُ قِيَامُ الْحَمْلِ وَقْتَ الْعِتْقِ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْعِتْقِ لِمَا عُرِفَ. قَالَ: (وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ وَالتَّدْبِيرِ) لِأَنَّ جَانِبَ الْأُمِّ رَاجِحٌ اعْتِبَارًا لِلْحَضَانَةِ، (وَوَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ مَوْلَاهَا حُرٌّ) لِأَنَّهُ انْخَلَقَ مِنْ مَائِهِ وَقَدِ انْعَلَقَ عَلَى مِلْكِهِ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ. (وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ) وَهُوَ مَا إِذَا تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ، فَأَوْلَادُهُ مِنْهَا أَحْرَارٌ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ لِمَوْلَاهَا، عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْرُورُ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ عَبْدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ مَا نُقِلَ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا يُفَصِّلُ، وَقَالَ: أَوْلَادُهُمْ أَرِقَّاءُ لِحُصُولِهِمْ بَيْنَ رَقِيقَيْنِ فَلَا وَجْهَ إِلَى حُرِّيَّتِهِمْ، بِخِلَافِ الْأَبِ الْحُرِّ فَإِنَّهُ أَمْكَنَ جَعْلُ الْوَلَدِ حُرًّا تَبَعًا لِأَبِيهِ، وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لَمْ يَرِدْ قَوْلًا بَلْ حَكَمُوا بِذَلِكَ فِي صُورَةٍ كَانَ الْأَبُ حُرًّا فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُعَيَّرُ بِكَوْنِ وَلَدِهِ عَبْدًا وَالْحُرُّ يُعَيَّرُ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَ عَتَقَ وَلَزِمَهُ الْمَالُ) ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ بِأَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَلْفٍ، أَوْ عَلَى أَنَّ لِي عَلَيْكَ أَلْفًا، أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفًا، أَوْ عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَيَّ أَلْفًا، وَإِنَّمَا شُرِطَ قَبُولُهُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ، وَمِنْ شَرْطِهَا ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَبُولِ الْعِوَضِ فِي الْحَالِ كَالْبَيْعِ، وَلِهَذَا قُلْنَا يَعْتِقُ إِذَا قَبِلَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْقَبُولِ لَا بِالْأَدَاءِ، وَقَوْلُهُ: لَزِمَهُ الْمَالُ مَعْنَاهُ يَصِيرُ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى تَصِحَّ بِهِ الْكَفَالَةُ، وَاللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ يَنْتَظِمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَالِ: النُّقُودِ وَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ كَالنِّكَاحِ وَأَخَوَاتِهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِقَبُولِهِ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ حَضَرَهُ وَإِنْ غَابَ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيقُ بِإِذَا فَهُوَ كَالتَّعْلِيقِ بِمَتَى لَا يَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ وَقَدْ عُرِفَ فِي الطَّلَاقِ. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ: إِنْ أَدَّيْتَ إِلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ صَارَ مَأْذُونًا وَيَعْتِقُ بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَلْفِ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْمَالِ) ، أَمَّا صَيْرُورَتُهُ مَأْذُونًا فَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ أَدَاءَ الْمَالِ وَطَرِيقُهُ الِاكْتِسَابُ بِالتِّجَارَةِ غَالِبًا، فَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ دَلَالَةً. وَأَمَّا جَوَازُ الْبَيْعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْمَالِ، فَمَا لَمْ يُؤَدِّهِ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهُ فَلَا يَعْتِقُ وَلَيْسَ بِمُكَاتَبٍ فَلَهُ بَيْعُهُ، وَأَمَّا عِتْقُهُ بِالتَّخْلِيَةِ فَمَذْهَبُنَا. وَقَالَ زُفَرُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 وَمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ عَتَقَ وَسَعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ (سَمِّ) ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَا يَعْتِقُ إِلَّا بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الشَّرْطُ فَلَا يَعْتِقُ قَبْلَهُ. وَلَنَا أَنَّ هَذَا تَعْلِيقٌ لَفْظًا مُعَاوَضَةٌ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْأَلْفَ يَصْلُحُ عِوَضًا عَنِ الْعِتْقِ حَتَّى لَوْ نَصَّ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ يَصِيرُ عِوَضًا، فَيَنْعَقِدُ مُعَاوَضَةً بَيْنَ الْأَلْفِ وَالْعِتْقِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِ، فَبِاعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ يَنْزِلُ الْمَوْلَى قَابِلًا لِلْبَدَلِ مَتَى وَصَلَ إِلَيْهِ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ الْعَبْدُ بِهِ، وَقَدْ رَضِيَ الْمَوْلَى بِنُزُولِ الْعِتْقِ عِنْدَ وُصُولِ الْأَلْفِ إِلَيْهِ، وَبِالتَّخْلِيَةِ قَدْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ فَجَعَلْنَاهُ تَعْلِيقًا ابْتِدَاءً عَمَلًا بِاللَّفْظِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْمَوْلَى لِئَلَّا يَخْرُجَ مِنْ مِلْكِهِ وَلَا يَسْرِيَ إِلَى الْوَلَدِ قَبْلَ الْأَدَاءِ مُعَاوَضَةً عِنْدَ الْأَدَاءِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ الْعَبْدِ حَتَّى يَعْتِقَ بِالْأَدَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَنَظِيرُهُ الْهِبَةُ بِعِوَضٍ: هِبَةٌ ابْتِدَاءً بَيْعٌ انْتِهَاءً، وَلَوْ أَدَّى الْبَعْضَ أُجْبِرَ الْمَوْلَى عَلَى قَبُولِهِ وَلَا يَعْتِقُ لِمَا قُلْنَا، فَإِنْ أَدَّى أَلْفًا اكْتَسَبَهَا قَبْلَ التَّعْلِيقِ عَتَقَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمَوْلَى بِمِثْلِهَا لِأَنَّهُ أَدَّاهَا مِنْ مَالِ الْمَوْلَى، وَإِنْ أَدَّاهَا مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ بَعْدَ التَّعْلِيقِ عَتَقَ وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْأَدَاءِ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. [فصل من أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ] فَصْلٌ (وَمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ عَتَقَ وَسَعَى فِي بَقِيَّةِ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهُ) ، وَقَالَا: يَعْتِقُ كُلُّهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا، فَإِضَافَةُ الْعِتْقِ إِلَى بَعْضِهِ كَإِضَافَتِهِ إِلَى كُلِّهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَجَزَّأُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا أَعْتَقَ. لَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ شَرِيكٌ» ، وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إِثْبَاتُ الْعِتْقِ وَهُوَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ وَالْقُوَّةُ لَا تَتَجَزَّأُ، إِذْ لَا يَكُونُ بَعْضُهُ قَوِيًّا وَبَعْضُهُ ضَعِيفًا، أَوْ نَقُولُ: هُوَ إِزَالَةُ الرِّقِّ الَّذِي هُوَ ضَعْفٌ حُكْمِيٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَصَارَ كَالْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ. وَلَهُ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُ كُلِّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: كُلِّفَ عِتْقَ مَا بَقِيَ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَ مَا بَقِيَ» ، وَلَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الْإِعْتَاقِ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِعْتَاقُهُ وَلَمَا كُلِّفَ ذَلِكَ، لِأَنَّ إِعْتَاقَ الْمُعْتَقِ مُحَالٌ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ وَأَعْطَى شُرَكَاءَهَ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ، وَإِلَّا فَقَدَ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ» ، وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِأَعْلَى الْقِيمَةِ، ثُمَّ يَغْرُمُ ثَمَنَهُ، ثُمَّ يَعْتِقُ الْعَبْدُ، وَعَائِشَةُ تَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إِزَالَةُ مِلْكِهِ، وَالْمُتَصَرِّفُ إِنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ وَلَايَتِهِ وَهُوَ إِزَالَةُ مِلْكِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِهِ. وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّصَرُّفَ يَقْتَصِرُ عَلَى مَوْضِعِ الْإِضَافَةِ وَالتَّعَدِّي فِي الطَّلَاقِ وَالْقِصَاصِ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ، أَمَّا الْمِلْكُ فَلِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، وَيُسَمَّى إِعْتَاقًا مَجَازًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وَالْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ (سم) ، وَلَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ عَتَقَ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى قِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَاضِلًا عَنْ مَلْبُوسِهِ وَقُوتِ يَوْمِهِ وَعِيَالِهِ، فَشَرِيكُهُ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ، وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَكَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُ (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى الْعِتْقِ. فَيُحْمَلُ حَدِيثُهُمَا عَلَى ذَلِكَ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ، وَتَجِبُ السِّعَايَةُ فِي الْبَاقِي عَلَى الْعَبْدِ، لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْبَاقِي صَارَتْ مُحْتَبَسَةً عِنْدَ الْعَبْدِ، وَلِأَنَّ مَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَى مِلْكِهِ، وَوَجَبَ إِخْرَاجُهُ إِلَى الْحُرِّيَّةِ بِمَا رَوَيْنَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إِزَالَتُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ، وَلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ لِمَا رَوَيْنَا كَالْمُكَاتَبِ. قَالَ: (وَالْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْمَالِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يَتَزَوَّجُ، وَيُفَارِقُ الْمُكَاتَبَ فِي خَصْلَةٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ فِي الرِّقِّ لَوْ عَجَزَ، لِأَنَّ الَّذِي أَوْجَبَ السِّعَايَةَ وُقُوعُ الْحُرِّيَّةِ فِي بَعْضِهِ وَهُوَ مَوْجُودٌ بَعْدَ الْعَجْزِ، وَقَالَا: هُوَ حُرٌّ مَدْيُونٌ، لِأَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ فِي جَمِيعِهِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَصْلِ فِي التَّجَزُّؤِ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَحْرَارِ عِنْدَهُمَا، وَهَذَا كَمَا إِذَا أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ، أَوْ أَعْتَقَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ أَوْ بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَوِ الْغُرَمَاءُ أَوِ الْمَرِيضُ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ. أَمَّا الْعَبْدُ الرَّهْنُ إِذَا أَعْتَقَهُ الرَّاهِنُ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَسَعَى الْعَبْدُ فَهُوَ حُرٌّ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الرَّاهِنِ لَا فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى الرَّاهِنِ بِمَا سَعَى. قَالَ: (وَلَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ عَتَقَ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى قِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَاضِلًا عَنْ مَلْبُوِسِهِ وَقُوتِ يَوْمِهِ وَعِيَالِهِ، فَشَرِيكُهُ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ، وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُعْتَقَ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَكَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ) ، وَقَالَا: لَيْسَ لَهُ إِلَّا الضَّمَانُ مَعَ الْيَسَارِ وَالسِّعَايَةُ مَعَ الْإِعْسَارِ. وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوَاضِعَ: أَحَدُهَا الضَّمَانُ فِي حَالَةِ الْيَسَارِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَى الْمُعْتِقِ الْمُوسِرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَصِيبَ السَّاكِتِ حَيْثُ أَعْجَزَهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالتَّمْلِيكِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ، فَإِذَا ضَمَّنَهُ فَالْمُعْتِقُ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ بِالضَّمَانِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَيْهِ بِمَا كَانَ لِشَرِيكِهِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَالْوَلَاءُ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَهُ أَوْ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَيَرْجِعُ بِمَا أَدَّى عَلَى الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى صَارَ كَالشَّرِيكِ السَّاكِتِ، لِلسَّاكِتِ ذَلِكَ بِالسِّعَايَةِ فَكَذَا هَذَا. وَالثَّانِي لِلسَّاكِتِ وَلَايَةُ الْإِعْتَاقِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يَعْتِقَ تَسْوِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، فَإِذَا أَعْتَقَ كَانَ وَلَاءُ نَصِيبِهِ لَهُ. وَالثَّالِثُ لِلسَّاكِتِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتِقَهُ كُلَّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ» ، وَلِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الْعَبْدِ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِذَا اسْتَسْعَى فَوَلَاءُ نَصِيبِهِ لَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ. وَالرَّابِعُ لَهُ أَنْ يُدَبِّرَ أَوْ يُكَاتِبَ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ فِيهِ كَانَ قَابِلًا لِلتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ نَوْعُ إِعْتَاقٍ وَالْكِتَابَةَ اسْتِسْعَاءٌ مُنَجَّمٌ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ أَيْضًا، وَفِي حَالَةِ الْإِعْسَارِ إِنْ شَاءَ السَّاكِتُ أَعْتَقَ أَوْ دَبَّرَ أَوْ كَاتَبَ أَوِ اسْتَسْعَى لِمَا بَيَّنَّا، وَالْوَلَاءُ لَهُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا عِتْقٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُبْتَنَى عَلَى تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ، فَلَمَّا كَانَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ تَفَرَّعَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ عِنْدَهُمَا عَتَقَ كُلُّهُ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَتَعَيَّنُ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا تَعَذَّرَ ضَمَانُهُ فَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ مُحْتَبَسَةٌ عِنْدَهُ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ كَغَاصِبِ الْغَاصِبِ وَنَحْوِهِ، وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ بِمَا يُؤَدِّي بِإِجْمَاعٍ بَيْنَنَا، لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ حَصَلَتْ لِلْعَبْدِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى فَكَانَ ضَمَانًا بِعِوَضٍ حَصَلَ لَهُ، وَلِأَنَّهُ يَسْعَى لِفِكَاكِ رَقَبَتِهِ لَا لِقَضَاءِ دَيْنٍ عَلَى الْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ لَمْ يَلْحَقْهُ شَيْءٌ. وَلَهُمَا أَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ إِنْ كَانَ غَنِيًّا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يَسْعَى الْعَبْدُ» قُسِمَ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ. وَيُعْتَبَرُ الْإِعْسَارُ وَالْيَسَارُ يَوْمَ الْإِعْتَاقِ، حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ وَهُوَ مُوسِرٌ فَأَعْسَرَ لَا يَبْطُلُ التَّضْمِينُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَأَيْسَرَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ لِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِنَفْسِ الْعِتْقِ فَلَا يَتَغَيَّرُ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ يُحَكَّمُ الْحَالُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخُصُومَةِ وَالْعِتْقِ مُدَّةٌ تَخْتَلِفُ فِيهَا الْأَحْوَالُ، فَالْقَوْلُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْعِتْقِ، فَإِنْ كَانَ قَائِمًا يُقَوَّمُ لِلْحَالِ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَالْقَوْلُ لِلْمُعْتِقِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ الْإِعْتَاقُ سَابِقًا عَلَى الِاخْتِلَافِ فَالْقَوْلُ لَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي الْقِيمَةِ وَوَقْتِ الْإِعْتَاقِ يُحْكَمُ بِالْعِتْقِ لِلْحَالِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ لَوِ اخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالسَّاكِتُ فِي الْقِيمَةِ، وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ السَّاكِتُ شَيْئًا لَيْسَ لَهُ إِلَّا التَّضْمِينُ، لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالسِّعَايَةَ فَاتَا بِالْمَوْتِ، فَإِذَا ضَمِنَ رَجَعَ الْمُعْتِقُ عَلَى كَسْبِ الْعَبْدِ إِنْ كَانَ لَهُ كَسْبٌ. وَلَوْ كَانَ الْمُعَتَقُ مُعْسِرًا فَلِلسَّاكِتِ أَنْ يَرْجِعَ فِي أَكْسَابِهِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ تَجِبُ بِنَفْسِ الْعِتْقِ، وَلَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ يُؤْخَذُ الضَّمَانُ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ الْعِتْقُ فِي الصِّحَّةِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَرَضِ فَلَا شَيْءَ فِي تَرِكَتِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ ضَمَانَ التَّمْلِيكِ لَا يَخْتَلِفُ بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَلَوْ مَاتَ السَّاكِتُ فَلِلْوَرَثَةِ أَحَدُ الِاخْتِيَارَاتِ، فَإِنِ اخْتَارَ بَعْضُهُمُ الْعِتْقَ وَبَعْضُهُمُ الضَّمَانَ فَلَهُمْ ذَلِكَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُمْ إِلَّا الِاجْتِمَاعُ عَلَى أَحَدِهِمَا. أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَهُوَ مُوسِرٌ وَشَرِيكُهُ عَبْدٌ مَأْذُونٌ إِنْ كَانَ مَدْيُونًا فَلَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ أَوِ السِّعَايَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْيُونًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 وَإِذَا اشْتَرَيَا ابْنَ أَحَدِهِمَا عَتَقَ نَصِيبُ الْأَبِ، وَشَرِيكُهُ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ (سم) وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا أَوْ عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ مَاتَ عَتَقَ الْآخَرُ، وَكَذَا إِذَا اسْتَوْلَدَ إِحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَالْخِيَارُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ كَانَ شَرِيكُهُ صَبِيًّا فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلِيٌّ أَوْ وَصِيٌّ إِنْ شَاءَ ضَمِنَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ أَوْ يُنَصِّبُ لَهُ الْقَاضِي وَلِيًّا، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ يُبْتَنَى عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعِتْقِ وَغَيْرِهِ. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَيَا ابْنَ أَحَدِهِمَا عَتَقَ نَصِيبُ الْأَبِ، وَشَرِيكُهُ إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ) وَكَذَا إِذَا مَلَكَاهُ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، وَقَالَا: يَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إِنْ كَانَ مُوسِرًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا يَسْعَى الِابْنُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِ أَبِيهِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا اشْتَرَيَاهُ وَقَدْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا بِعِتْقِهِ إِنِ اشْتَرَى نِصْفَهُ، وَإِنْ مَلَكَاهُ بِالْإِرْثِ فَكَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إِعْتَاقٌ عَلَى أَصْلِنَا، فَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ بِالْإِعْتَاقِ فَصَارَ كَعَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إِعْتَاقٌ كَمَا قَالَا وَقَدْ شَارَكَهُ فِيهِ فَقَدْ شَارَكَهُ فِي عِلَّةِ الْإِعْتَاقِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ فَلَا يُضَمَّنُ، كَمَا إِذَا أَذِنَ لَهُ بِالْقَوْلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ، لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ الشِّرَاءُ، كَمَا إِذَا أَمَرَ رَجُلًا بِأَكْلِ طَعَامٍ مَمْلُوكٍ لِلْآمِرِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ، وَلَوِ اشْتَرَى الْأَجْنَبِيُّ نِصْفَهُ أَوَّلًا ثُمَّ اشْتَرَى الْأَبُ النِّصْفَ الْآخَرَ وَهُوَ مُوسِرٌ، فَالْأَجْنَبِيُّ إِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِإِفْسَادِ نَصِيبِهِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ فِي نَصِيبِهِ لِاحْتِبَاسِ مَالِيَّتِهِ عِنْدَهُ، وَقَالَا: يَضْمَنُ الْأَبُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لَا غَيْرُ لِمَا عُرِفَ، وَلَوِ اشْتَرَى نِصْفَ ابْنِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ مِمَّنْ يَمْلِكُ جَمِيعَهُ لَمْ يَضْمَنْ لِلْبَائِعِ شَيْئًا، وَقَالَا: يَضْمَنُ وَالْأَصْلُ مَا مَرَّ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا أَوْ عَرَضَهُ عَلَى الْبَيْعِ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ مَاتَ عَتَقَ الْآخَرُ) لِأَنَّهُ خَرَجَ بِالْمَوْتِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْعِتْقِ، وَبِالْبَيْعِ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ، وَبِالْعَرْضِ قَصَدَ الْوُصُولَ إِلَى الثَّمَنِ وَأَنَّهُ يُنَافِي الْحُرِيَّةَ وَذَلِكَ بِالْبَيْعِ، وَإِذَا خَرَجَ عَنْ مَحَلِّيَّةِ الْعِتْقِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ، وَبِالتَّدْبِيرِ قُصِدَ بَقَاءُ الِانْتِفَاعِ بِهِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَأَنَّهُ يُنَافِي الْعِتْقَ الْمُنَجَّزَ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ. قَالَ: (وَكَذَا إِذَا اسْتَوْلَدَ إِحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ) لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ كَالتَّدْبِيرِ فِيمَا ذَكَرْنَا بَلْ أَقْوَى، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ: أَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَعْتَقْتُكَ، فَإِنْ نَوَى الْبَيَانَ صُدِّقَ دِيَانَةً وَالْآخَرُ عَبْدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ عَتَقَا، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ: أَحَدُكُمَا حُرٌّ، فَقِيلَ لَهُ: أَيُّهُمَا نَوَيْتَ؟ ، فَقَالَ: لَمْ أَعْنِ هَذَا عَتَقَ الْآخَرُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 وَلَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا حُرَّةٌ. ثُمَّ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا لَا تَعْتِقُ الْأُخْرَى (سم) ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ أَوْ إِحْدَى أَمَتَيْهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] فَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: لَمْ أَعْنِ هَذَا عَتَقَ الْأَوَّلُ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ طَلَاقُ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَالَ: لِأَحَدِ هَذَيْنِ عَلِيَّ أَلْفٌ، فَقِيلَ لَهُ: هُوَ هَذَا؟ فَقَالَ: لَا، لَا يَجِبُ لِلْآخَرِ شَيْءٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّعْيِينَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقِ، فَإِذَا نَفَاهُ عَنْ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ إِقَامَةً لِلْوَاجِبِ، أَمَّا الْإِقْرَارُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ فِيهِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْمَجْهُولِ لَا يَلْزَمُ حَتَّى لَا يُجْبَرَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ نَفْيُ أَحَدِهِمَا تَعْيِينًا لِلْآخَرِ، وَلَوْ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا فِي الصِّحَّةِ ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْمَرَضِ يَعْتِقُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَنْشَأَ عِتْقًا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَالْكَفَّارَةِ. وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ عَتَقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَلَا يَقُومُ الْوَارِثُ مَقَامَهُ فِي الْبَيَانِ. (وَلَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ: إِحْدَاكُمَا حُرَّةٌ ثُمَّ وَطِئَ إِحْدَاهُمَا لَا تُعْتَقُ الْأُخْرَى) وَقَالَا: تُعْتَقُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إِلَّا فِي الْمِلْكِ، وَإِحْدَاهُمَا حُرَّةٌ فَكَانَ بِالْوَطْءِ مُسْتَبْقِيًا لِلْمِلْكِ فِي الْمَوْطُوءَةِ فَتَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى كَمَا فِي طَلَاقِ إِحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِيقَاعَ فِي الْمُنَكَّرَةِ وَالْوَطْءَ فِي الْمُعَيَّنَةِ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ فَلَا يُجْعَلُ بَيَانًا، ثُمَّ قِيلَ: الْعِتْقُ غَيْرُ نَازِلٍ قَبْلَ الْبَيَانِ لِتَعَلُّقِهِ بِهِ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى كَسْبَهُمَا وَعَقْرَهُمَا وَأَرْشَهُمَا، وَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهُمَا عِنْدَهُ وَلَا يُفْتَى بِهِ، وَيَنْزِلُ الْعِتْقُ فِي إِحْدَاهُمَا عِنْدَ الْبَيَانِ، وَمَا دَامَ الْخِيَارُ لِلْمَوْلَى فِيهِمَا فَهُمَا كَأَمَتَيْنِ. وَقِيلَ إِنَّهُ نَازِلٌ فِي الْمُنَكَّرَةِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يَقْبَلُهُ وَالْوَطْءُ يَقَعُ فِي الْمُعَيَّنَةِ فَلَا تَتَعَيَّنُ الْأُخْرَى، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنَ النِّكَاحِ الْوَلَدُ، فَبِالْوَطْءِ قَصَدَ الْوَلَدَ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فِي الْمَوْطُوءَةِ صِيَانَةً لِلْوَلَدِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمَةِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِبْقَاءِ، وَلَوْ وَطِئَ وَطْئًا مُعَلَّقًا فَهُوَ بَيَانٌ، وَلَوِ اسْتَخْدَمَ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَا يَكُونُ بَيَانًا بِالْإِجْمَاعِ. (وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ أَوْ إِحْدَى أَمَتَيْهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ) ، وَقَالَا: تُقْبَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى إِيقَاعِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَفِي طَلَاقِ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ، وَيُجْبَرُ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ إِحْدَاهُمَا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ دَعْوَى الْعَبْدِ شَرْطٌ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِهِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَا يُشْتَرَطُ دَعْوَى الْأَمَةِ وَالْمَرْأَةِ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهَا وَطَلَاقِهَا بِالْإِجْمَاعِ. لَهُمَا أَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّيَّةِ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا الدَّعْوَى كَالْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ، وَلَهُ أَنَّهَا شَهَادَةٌ قَامَتْ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيُشْتَرَطُ لَهَا الدَّعْوَى كَسَائِرِ حُقُوقِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعِتْقِ وَنَفْعِهِ يَقَعُ لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَتَأَهَّلُ بِهِ لِلْوَلَايَاتِ وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَاتِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ بِذَلِكَ ذُلُّ الْمِلْكِيَّةِ وَيَصِيرُ مَالِكًا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَالزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 بَابُ التَّدْبِيرِ وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي، أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ، أَوْ قَدْ دَبَّرْتُكَ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ مَعَ مَوْتِي، أَوْ عِنْدَ مَوْتِي، أَوْ فِي مَوْتِي، أَوْ أَوْصَيْتُ لَكَ بِنَفْسِكَ أَوْ بِرَقَبَتِكَ، أَوْ بِثُلُثِ مَالِي، فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا،   [الاختيار لتعليل المختار] وَأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَضَمَّنْ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ لَا يُقْبَلُ بِأَنْ كَانَتِ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ إِحْدَى الْأَمَتَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَافْتَرَقَا، فَإِذَا كَانَتِ الدَّعْوَى شَرْطًا لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ وَهَذَا الشَّرْطُ لَمْ يُوجَدْ هُنَا لَا تُقْبَلُ، لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ مَجْهُولٌ وَالدَّعْوَى مِنَ الْمَجْهُولِ لَا تَتَحَقَّقُ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ شَرْطًا عِنْدَهُمَا قُبِلَتِ الشَّهَادَةُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى التَّعْيِينِ. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ إِحْدَى الْأَمَتَيْنِ فَلِأَنَّ الدَّعْوَى وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا فِي عِتْقِ الْأَمَةِ، فَإِنَّمَا لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهَا لَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَ الْفَرْجِ فَصَارَتْ كَالشَّهَادَةِ عَلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ، وَهَذَا إِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ فِي صِحَّتِهِ، أَمَّا إِذَا شَهِدَ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ أَوْ دَبَّرَهُ وَأَدَّيَا الشَّهَادَةَ فِي مَرَضِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ قُبِلَتِ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ وَصِيَّةٌ وَالْخَصْمُ مَعْلُومٌ، لِأَنَّ الْعِتْقَ يَشِيعُ بِالْمَوْتِ فِيهِمَا فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَيَّنًا. [بَابُ التَّدْبِيرِ] ِ وَهُوَ الْعِتْقُ الْوَاقِعُ عَنْ دُبُرِ الْإِنْسَانِ: أَيْ بَعْدَهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْهُ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُعَلِّقَ عِتْقَ مَمْلُوكِهِ بِمَوْتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِهِ أَنَّهُ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ فَصَارَ كَالْمُعَلَّقِ بِدُخُولِ الدَّارِ، وَلِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ لِلْعَبْدِ بِرَقَبَتِهِ فَصَارَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْوَصَايَا، وَهُوَ إِيجَابُ الْعِتْقِ لِلْحَالِ، وَتَأْخِيرُ ثُبُوتِهِ إِلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْتَدْعِي إِعْتَاقًا، وَالْمَيِّتُ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْعَقِدَ التَّدْبِيرُ سَبَبًا لِلْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ لِيُسْتَفَادَ مِنْهُ الْحُرِيَّةُ فِي الْمَآلِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْحُرِّيَّةِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، لِأَنَّ عِتْقَهُ مُعَلَّقٌ بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وَأَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ فَلَا يُفْضِي إِلَى الْمَوْتِ قَطْعًا فَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا. أَمَّا الْمَوْتُ الْمُطْلَقُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ مُفْضِيًا إِلَى الْمَوْتِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا لِلْحَالِ. قَالَ: (وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إِذَا مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي، أَوْ أَنْتَ مُدَبَّرٌ، أَوْ قَدْ دَبَّرْتُكَ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ مَعَ مَوْتِي، أَوْ عِنْدَ مَوْتِي، أَوْ فِي مَوْتِي، أَوْ أَوْصَيْتُ لَكَ بِنَفْسِكَ، أَوْ بِرَقَبَتِكَ، أَوْ بِثُلُثِ مَالِي - فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا) أَمَّا لَفْظُ التَّدْبِيرِ فَهُوَ صَرِيحٌ فِيهِ كَلَفْظِ الْعِتْقِ فِي الْإِعْتَاقِ، وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْحُرِّيَّةِ بِالْمَوْتِ فَلِأَنَّهُ مَعْنَى التَّدْبِيرِ، وَأَمَّا مَعَ مَوْتِي فَلِأَنَّهَا لِلْقِرَانِ وَالشُّرُوطُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَعْدَ مَوْتِي وَأَنَّهُ تَدْبِيرٌ، وَعِنْدَ مَوْتِي تَعْلِيقُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 وَتَجُوزُ كِتَابَتُهُ، وَإِذَا وَلَدَتِ الْمُدَبَّرَةُ مِنْ مَوْلَاهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَسَقَطَ عَنْهَا التَّدْبِيرُ وَلَا تَسْعَى فِي شَيْءٍ أَصْلًا، وَلَهُ اسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَوَطْؤُهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ، وَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ أَوَّلًا. وَفِي مَوْتِي، لِأَنَّ حَرْفَ الظَّرْفِ إِذَا دَخَلَ عَلَى الْفِعْلِ جَعَلَهُ شَرْطًا، وَكَذَلِكَ إِذَا ذَكَرَ مَكَانَ الْمَوْتِ الْوَفَاةَ أَوِ الْهَلَاكَ لِأَنَّ الْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالرَّقَبَةِ وَنَحْوِهَا فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ نَفْسِهِ، وَالْوَصِيَّةُ تَقْتَضِي زَوَالَ مِلْكِ الْمُوصِي وَانْتِقَالَهُ إِلَى الْمُوصَى لَهُ، وَأَنَّهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ حُرِّيَّةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: بِعْتُ نَفْسَكَ مِنْكَ، أَوْ وَهَبْتُهَا لَكَ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ فَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي مِلْكَهُ ثُلُثَ جَمِيعِ مَالِهِ وَرَقَبَتِهِ مِنْ مَالِهِ فَيَمْلِكُهَا فَيَعْتِقُ، وَكَذَلِكَ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ السُّدُسِ، وَلَوْ قَالَ: بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ لَا يَكُونُ تَدْبِيرًا، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ جُزْءٍ مُبْهَمٍ وَالتَّعْيِينُ إِلَى الْوَرَثَةِ فَلَا تَكُونُ رَقَبَتُهُ دَاخِلَةً فِي الْوَصِيَّةِ لَا مَحَالَةَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِذَا قَالَ: إِذَا مِتُّ وَدُفِنْتُ أَوْ غُسِّلْتُ أَوْ كُفِّنْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ لَيْسَ بِتَدْبِيرٍ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِمَعْنًى آخَرَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعْتَقَ بِالْمَوْتِ، لِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقٌ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهَذَا تَعْلِيقٌ بِالْمَوْتِ وَمَعْنًى آخَرَ، فَصَارَ كَمَا إِذَا قَالَ: إِذَا مِتُّ وَدَخَلْتُ الدَّارَ، لَكِنِ اسْتُحْسِنَ أَنْ يُعْتَقَ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِصِفَةٍ تُوجَدُ عِنْدَ الْمَوْتِ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْوَرَثَةِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا عَلَّقَهُ بِالْمَوْتِ بِصِفَةٍ، بِخِلَافِ دُخُولِ الدَّارِ، لِأَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَوْتِ فَصَارَتْ يَمِينًا فَتَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَفِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ إِذَا قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ إِنْ مِتُّ أَوْ قُتِلْتُ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَيْسَ بِمُدَبَّرٍ. وَقَالَ زُفَرُ: هُوَ مُدَبَّرٌ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْمَوْتِ لَا مَحَالَةَ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِنْ مِتُّ أَوْ مَاتَ زَيْدٌ، وَإِذَا صَحَّ التَّدْبِيرُ لَا يَجُوزُ لَهُ إِخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ إِلَّا بِالْعِتْقِ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَهُوَ حُرٌّ مِنَ الثُّلُثِ» ، وَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْحُرِّيَّةِ فِي الْحَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، وَفِي الْهِبَةِ وَالْبَيْعِ إِبْطَالُهُ فَلَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ حَقًّا فِي الْحُرِّيَّةِ فَيَمْنَعُ الْبَيْعَ كَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِيلَادِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: كُلُّ تَصَرُّفٍ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْحُرِّ يَجُوزُ فِي الْمُدَبَّرِ كَالِاسْتِخْدَامِ وَالْإِجَارَةِ وَالْوَطْءِ، لِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يَجُوزُ فِي الْحُرِّ لَا يَجُوزُ فِي الْمُدَبَّرِ إِلَّا الْكِتَابَةَ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ. أَمَّا الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الرَّهْنُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ، وَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ. قَالَ: (وَتَجُوزُ كِتَابَتُهُ) لِأَنَّهَا تَعْجِيلُ الْحُرِّيَّةِ الْمُؤَجَّلَةِ، وَلَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ نَجَزَ الْعِتْقُ، (وَإِذَا وَلَدَتِ الْمُدَبَّرَةُ مِنْ مَوَلَاهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَسَقَطَ عَنْهَا التَّدْبِيرُ) لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهَا فَإِنَّهُ زِيَادَةُ وَصْفٍ وَتَأْكِيدٍ، لِأَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرِّيَّةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ (وَلَا تَسْعَى فِي شَيْءٍ أَصْلًا، وَلَهُ اسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَوَطْؤُهَا) لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فِيهَا فَتَنْفُذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ وَلِمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 وَكَسْبُهَا وَأَرْشُهَا لِلْمَوْلَى، وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ فَبِحِسَابِهِ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ سَعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ، وَلَوْ دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَضَمِنَ نِصْفَ شَرِيكِهِ ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ نِصْفُهُ (سم) ، بِالتَّدْبِيرِ وَسَعَى فِي نِصْفِهِ، وَإِنْ قَالَ لَهُ: إِنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا، أَوْ إِنْ مِتُّ إِلَى عِشْرِينَ سَنَةٍ فَهُوَ تَعْلِيقٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ عَتَقَ. بَابُ الِاسْتِيلَادِ   [الاختيار لتعليل المختار] (وَكَسْبُهَا وَأَرْشُهَا لِلْمَوْلَى) لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْحُرِّيَّةَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَقَبْلَهُ هِيَ كَالْأَمَةِ، وَلِلْمَوْلَى تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَنَافِعَ بُضْعِهَا، وَيَمْلِكُ وَطْأَهَا وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْحُرَّةِ أَيْضًا، وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ وَصْفٌ لَازِمٌ فِيهَا فَيَتْبَعُهَا فِيهِ كَالْكِتَابَةِ. قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ) لِمَا رُوِّينَا مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْمَوْتِ فَكَانَ وَصِيَّةً، وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ، (فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ) مِنَ الثُّلُثِ (فَبِحِسَابِهِ) مَعْنَاهُ: يَحْسِبُ ثُلُثَ مَالِهِ فَيَعْتِقُ مِنْهُ بِقَدْرِهِ وَيَسْعَى فِي بَاقِيهِ، (وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ سَعَى فِي كُلِّ قِيمَتِهِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ وَصِيَّةٌ وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَالْمُرَادُ دَيْنٌ يُحِيطُ بِالتَّرِكَةِ، وَالْحُرِّيَّةُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهَا فَوَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ. قَالَ: (وَلَوْ دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَضَمِنَ نِصْفَ شَرِيكِهِ ثُمَّ مَاتَ عَتَقَ نِصْفُهُ بِالتَّدْبِيرِ وَسَعَى فِي نِصْفِهِ) لِأَنَّ نِصْفَهُ عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَدْبِيرٍ، وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ جَمِيعُهُ بِالتَّدْبِيرِ، لِأَنَّ تَدْبِيرَ بَعْضِهِ تَدْبِيرُ الْجَمِيعِ وَهُوَ فَرْعُ تَجَزِّي الْإِعْتَاقَ (وَإِنْ قَالَ لَهُ: إِنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ فِي سَفَرِي هَذَا، أَوْ إِنْ مِتُّ إِلَى عِشْرِينَ سَنَةٍ فَهُوَ تَعْلِيقٌ) ، وَهُوَ التَّدْبِيرُ الْمُقَيَّدُ (يَجُوزُ بَيْعُهُ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْحَالِ فَلَا يَكُونُ الْبَيْعُ وَالتَّصَرُّفَاتُ إِبْطَالًا لِلسَّبَبِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا مَحَالَةَ فَأَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ إِبْطَالًا لِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ فَيَجُوزُ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ، (فَإِنْ مَاتَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ عَتَقَ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ مِنَ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ فِي النَّوَازِلِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُنْتَقَى: لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ مِتُّ إِلَى مِائَتَيْ سَنَةٍ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَهُوَ مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ: هُوَ مُدَبَّرٌ مُطْلَقٌ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ مُدَّةً لَا يَعِيشُ إِلَيْهَا غَالِبًا فَهُوَ مُدَبَّرٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ كَالْكَائِنِ لَا مَحَالَةَ. [بَابُ الِاسْتِيلَادِ] وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: طَلَبُ الْوَلَدِ مُطْلَقًا، فَإِنَّ الِاسْتِفْعَالَ طَلَبُ الْفِعْلِ. وَفِي الشَّرْعِ: طَلَبُ الْوَلَدِ مِنَ الْأَمَةِ، وَكُلُّ مَمْلُوكَةٍ ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ مَالِكٍ لَهَا أَوْ لِبَعْضِهَا فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْأَمَةِ مِنْ مَوْلَاهَا إِلَّا بِدَعْوَاهُ، فَإِذَا اعْتَرَفَ بِهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ، فَإِذَا وَلَدَتْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَبُتَ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ، وَيَنْتَفِي بِمُجَرَدِ نَفْيِهِ بِغَيْرِ لِعَانٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ فَرْعٌ لِثُبُوتِ الْوَلَدِ، فَإِذَا ثَبَتَ الْأَصْلُ ثَبَتَ فَرْعُهُ. قَالَ: (لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْأَمَةِ مِنْ مَوْلَاهَا إِلَّا بِدَعْوَاهُ) لِأَنَّهُ لَا فِرَاشَ لَهَا، فَإِنَّ غَالِبَ الْمَقْصُودِ مِنْ وَطْءِ الْأَمَةِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ دُونَ الْوَلَدِ، فَإِنَّ أَشْرَافَ النَّاسِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ وَطْءِ الْإِمَاءِ تَحَرُّزًا عَنِ الْوَلَدِ لِئَلَّا يُعَيَّرَ وَلَدُهُ بِكَوْنِهِ وَلَدَ أَمَةٍ، فَيُشْتَرَطُ لِثُبُوتِهِ دَعْوَاهُ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَلِهَذَا جَازَ لَهُ الْعَزْلُ فِي الْأَمَةِ دُونَ الزَّوْجَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ وَطْءِ الزَّوْجَةِ طَلَبُ الْوَلَدِ غَالِبًا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَنَاكَحُوا تَكْثُرُوا» إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَرْعِيَّةِ النِّكَاحِ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ يَطَؤُهَا وَلَا يَعْزِلُ عَنْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ نَفْيُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا وَلَمْ يُحَصِّنْهَا جَازَ لَهُ النَّفْيُ لِتَعَارُضِ الظَّاهِرَيْنِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانَ يَطَؤُهَا وَلَمْ يُحَصِّنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَدَّعِيَهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَعْتِقَ وَلَدُهَا وَيَسْتَمْتِعَ بِهَا فَإِذَا مَاتَ أَعْتَقَهَا. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَلَا يَنْفِيهِ بِالشَّكِّ. وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ الْتِزَامُهُ بِالشَّكِّ. أَمَّا الْعِتْقُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُرًّا فَلَا يَسْتَرِقُّهُ بِالشَّكِّ، وَيَسْتَمْتِعُ بِالْأُمِّ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُ وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ، فَإِذَا مَاتَ أَعْتَقَهَا حَتَّى لَا تُسْتَرَقَّ بِالشَّكِّ. (فَإِذَا اعْتَرَفَ بِهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ، فَإِذَا وَلَدَتْ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ثَبَتَ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ) لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْأَوَّلَ وَثَبَتَ نَسَبُهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَصَدَ الْوَلَدَ فَصَارَتْ فِرَاشًا فَيَثْبُتُ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ كَالْمَنْكُوحَةِ. (وَيَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ نَفْيِهِ بِغَيْرِ لِعَانٍ) لِأَنَّ فِرَاشَهَا ضَعِيفٌ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى إِبْطَالِهِ بِالتَّزْوِيجِ وَبِالْعِتْقِ فَيَنْفَرِدُ بِنَفْيِهِ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ فِرَاشَهُ قَوِيٌّ لَا يَمْلِكُ إِبْطَالَهُ فَلَا يَنْتَفِي وَلَدُهُ إِلَّا بِاللِّعَانِ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ أَمَتَهُ حُبْلَى مِنْهُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلَدُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَوْ سِقْطًا قَدِ اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أَوْ بَعْضُ خَلْقِهِ إِذَا أَقَرَّ بِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ لِأَنَّ السِّقْطَ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ وَأَلْقَتْهُ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً فَادَّعَاهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دَمًا أَوْ لَحْمًا فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَادُ بِالشَّكِّ. وَلَوْ حَرُمَ وَطْؤُهَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَطْءِ أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، أَوْ بِوَطْئِهِ أُمِّهَا أَوْ بِنْتِهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ مَا تَلِدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا بِالدَّعْوَةِ لِأَنَّ فِرَاشَهَا انْقَطَعَ، وَإِذَا وَلَدَتِ الْأَمَةُ مِنْ رَجُلٍ وَلَدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ بِأَنْ زَنَى بِهَا ثُمَّ مَلَكَهَا وَوَلَّدَهَا عَتَقَ الْوَلَدُ وَجَازَ لَهُ بَيْعُ الْأُمِّ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ لِلْوَلَدِ بِالْوِلَادَةِ فَيَثْبُتُ لِأُمِّهِ الِاسْتِيلَادُ كَالثَّابِتِ النَّسَبِ. وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَتْبَعُ النَّسَبَ وَلِهَذَا يُضَافُ إِلَيْهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَّا بِالْعِتْقِ، وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَكِتَابَتُهَا، وَتَعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَا تَسْعَى فِي دُيُونِهِ، وَحُكْمُ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ حُكْمُهَا، وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ سَعَتْ فِي قِيمَتِهَا وَهِيَ كَالْمُكَاتَبَةِ (ز) ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَيُقَالُ: أُمُّ وَلَدِهِ، وَهُوَ الَّذِي يُثْبِتُ لَهَا الْحُرِّيَّةَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» ، وَلَمْ يَثْبُتِ النَّسَبَ فَلَا يَثْبُتُ التَّبَعُ. وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ فَلِأَنَّهَا تَثْبُتُ بِحُكْمِ الْجُزْئِيَّةِ، وَصَارَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ بِالْعِتْقِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَّا بِالْعِتْقِ) فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا هِبَتُهَا وَلَا تَمْلِيكُهَا بِوَجْهٍ مَا. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَقَالَ: لَا يُعَرْنَ وَلَا يُبَعْنَ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُنَادِي عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا إِنَّ بَيْعَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ حَرَامٌ، وَلَا رِقَّ عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ حِينَ وَلَدَتْ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَلَا يَسْعَيْنَ فِي الدَّيْنِ، وَلَا يُجْعَلْنَ مِنَ الثُّلُثِ» . وَرَوَى عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدُ أَنْ يُبَعْنَ فِي الدَّيْنِ، فَقَالَ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: رَأْيُكَ وَرَأْيُ عُمَرَ فِي جَمَاعَةٍ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ رَأْيِكَ فِي الْفُرْقَةِ، قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّ السَّلْمَانِيَّ لَفَقِيهٌ، وَرَجَعَ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ: (وَلَهُ وَطْؤُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَإِجَارَتُهَا وَكِتَابَتُهَا) لِأَنَّ الْمِلْكَ قَائِمٌ فِيهَا كَالْمُدَبَّرَةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِتْقٌ مُعَلَّقٌ بِالْمَوْتِ، وَالْكِتَابَةُ تَعْجِيلُ الْعِتْقِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُدَبَّرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُفَارِقْ مَارِيَةَ بَعْدَ مَا وَلَدَتْ. قَالَ: (وَتُعْتَقُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَا تَسْعَى فِي دُيُونِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، (وَحُكْمُ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ بَعْدَ الِاسْتِيلَادِ حُكْمُهَا) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَقِرَّ فِي الْأُمِّ يَسْرِي إِلَى الْوَلَدِ. قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَتْ أُمُّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ سَعَتْ فِي قِيمَتِهَا وَهِيَ كَالْمُكَاتَبَةِ) لَا تُعْتَقُ حَتَّى تُؤَدِّيَ. وَقَالَ زُفَرُ: تُعْتَقُ لِلْحَالِ وَالسِّعَايَةُ دَيْنٌ عَلَيْهَا، لِأَنَّ زَوَالَ رِقِّهِ عَنْهَا وَاجِبٌ بِالْإِسْلَامِ إِمَّا بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْإِعْتَاقِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْبَيْعُ بِالِاسْتِيلَادِ فَتَعَيَّنَ الْعِتْقُ. وَلَنَا أَنَّ مَا قُلْنَاهُ نَظَرٌ لَهُمَا، لِأَنَّ ذُلَّ الرِّقِّ يَنْدَفِعُ عَنْهَا بِجَعْلِهَا مُكَاتَبَةً لِأَنَّهَا تَصِيرُ حُرَّةً يَدًا، وَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنِ الذِّمِّيِّ فَتَسْعَى فِي الْأَدَاءِ لِتَنَالَ الْحُرِّيَّةَ، وَلَوْ قُلْنَا بِعِتْقِهَا فِي الْحَالِ وَهِيَ مُعْسِرَةٌ تَتَوَانَى عَنِ الِاكْتِسَابِ وَالْأَدَاءِ إِلَى الذِّمِّيِّ فَيَتَضَرَّرُ، وَهِيَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً فَهِيَ مُحْتَرَمَةٌ وَهُوَ يَكْفِي لِلضَّمَانِ، كَمَا إِذَا عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ عَنِ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَجِبُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 وَلَوْ مَاتَ سَيِّدُهَا عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ وَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا دُونَ عُقْرِهَا وَقِيمَةُ وَلَدِهَا، وَالْجَدُّ كَالْأَبِ عِنْدَ انْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ. جَارِيَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَدَتْ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَيْهَا إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَأَبَى حَتَّى يَجِبَ زَوَالُ مِلْكِهِ عَنْهَا، أَمَّا إِذَا أَسْلَمَ فَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ عَلَى حَالِهَا كَمَا قُلْنَا فِي النِّكَاحِ. (وَلَوْ مَاتَ سَيِّدُهَا عَتَقَتْ بِلَا سِعَايَةٍ) لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ. قَالَ: (وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) ، وَكَذَا لَوِ اسْتَوْلَدَهَا بِمِلْكِ يَمِينٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ ثُمَّ عَادَتْ إِلَى مِلْكِهِ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ ثَابِتٌ مِنْهُ فَتَثْبُتُ أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ لِأَنَّهَا تَتْبَعُهُ عَلَى مَا مَرَّ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ حُرِّيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُثْبِتَ النَّسَبَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ جَازَ أَنْ يُثْبِتَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْضًا تَبَعًا لَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا وَلَدَتْ مِنْهُ مِنْ زِنًا عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَلَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَوَلَدَتْ وَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا دُونَ عَقْرِهَا وَقِيمَةُ وَلَدِهَا) لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَتَمَلَّكَ مَالَ ابْنِهِ لِلْحَاجَةِ إِلَى الْبَقَاءِ لِلْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، فَلَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ جَارِيَتَهُ لِلْحَاجَةِ إِلَى صِيَانَةِ مَائِهِ وَبَقَاءِ نَسْلِهِ، لِأَنَّ كِفَايَةَ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ لِمَا مَرَّ فِي النَّفَقَاتِ، إِلَّا أَنَّ حَاجَتَهُ إِلَى صِيَانَةِ مَائِهِ وَبَقَاءِ نَسْلِهِ دُونَ حَاجَتِهِ إِلَى بَقَاءِ نَفْسِهِ، فَلِهَذَا قُلْنَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ بِقِيمَتِهَا، وَالطَّعَامَ بِغَيْرِ قِيِمَةٍ، وَيَثْبُتُ لَهُ هَذَا الْمِلْكُ قُبَيْلَ الِاسْتِيلَادِ لِيَثْبُتَ الِاسْتِيلَادُ، وَلِأَنَّ الْمُصَحِّحَ لِلِاسْتِيلَادِ إِمَّا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ أَوْ حَقُّهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهِ قَبْلَ الْعُلُوقِ لِيُلَاقِيَ مِلْكَهُ فَيَصِحُّ الِاسْتِيلَادُ، وَإِذَا صَحَّ فِي مِلْكِهِ لَا عَقْرَ عَلَيْهِ وَلَا قِيمَةَ الْوَلَدِ لِمَا أَنَّ الْعُلُوقَ حَدَثَ عَلَى مِلْكِهِ، وَلَوْ أَنَّ الِابْنَ زَوَّجَهَا مِنَ الْأَبِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ لَمْ تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّ مَاءَهُ صَارَ مَصُونًا بِالنِّكَاحِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْمِلْكِ وَلَا قِيمَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهَا، وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِالنِّكَاحِ وَوَلَدُهَا حُرٌّ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ أَخُوهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَاهُ، وَأَصْلُهُ أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْأَبِ فِيهَا، لِأَنَّ الِابْنَ يَمْلِكُ فِيهَا جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ وَطْئًا وَبَيْعًا وَإِجَارَةً وَعِتْقًا وَكِتَابَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالْأَبُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ دَلِيلُ انْتِفَاءِ مِلْكِ الْأَبِ وَعَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْأَبِ بِوَطْئِهَا لِلشُّبْهَةِ، وَإِذَا انْتَفَى مِلْكُ الْأَبِ جَازَ نِكَاحُهُ كَمَا إِذَا تَزَوَّجَ الِابْنُ جَارِيَةَ الْأَبِ. قَالَ: (وَالْجَدُّ كَالْأَبِ عِنْدَ انْقِطَاعِ وَلَايَتِهِ) لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَمَعَ وِلَايَتِهِ لَا وَلَايَةَ لِلْجَدِّ، وَالْوَلَايَةُ تَنْقَطِعُ بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ وَالرِّدَّةِ وَاللَّحَاقِ وَالْمَوْتِ. قَالَ: (جَارِيَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَلَدَتْ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ) لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ فِي نِصْفِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكِهِ ثَبَتَ فِي الْبَاقِي لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ، لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ الْعُلُوقُ لَا يَتَجَزَّأُ، فَإِنَّ الْوَلَدَ الْفَرْدُ لَا يَنْعَلِقُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا وَنِصْفُ عُقْرِهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ وَلَدِهَا، وَإِنِ ادَّعَيَاهُ مَعًا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ عُقْرِهَا، وَيَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَابْنٍ، وَيَرِثَانِ مِنْهُ كَأَبٍ وَاحِدٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَنَصِيبُهُ يَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ وَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ فَيُكَمَّلُ لَهُ فَيَصِيرُ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ، (وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَهُ، (وَ) عَلَيْهِ (نِصْفُ عُقْرِهَا) لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً لِأَنَّ الْمِلْكَ يَتَعَقَّبُ الِاسْتِيلَادَ حُكْمًا لَهُ، (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ وَلَدِهَا) لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إِلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَلَمْ يَنْعَلِقْ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى مِلْكِ شَرِيكِهِ. قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَيَاهُ مَعًا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا) لِصِحَّةِ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ فِي الْوَلَدِ، وَالِاسْتِيلَادُ يَتْبَعُ الْوَلَدَ (وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إِلَى شُرَيْحٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ: " لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا، وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا، هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا "، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا، وَلِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. وَمَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ الْمُدْلِجِيِّ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَفَرَحِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قُلْنَا: لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِ الْقَائِفِ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَكِنِ الْمُشْرِكُونَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِ أُسَامَةَ، فَكَانَ قَوْلُ الْقَائِفِ قَاطِعًا لِطَعْنِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَلِذَلِكَ فَرِحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا كَوْنُ النَّسَبِ لَا يَتَجَزَّأُ فَتَعَلَّقَ بِهِ أَحْكَامٌ مُتَجَزِّئَةٌ، فَمَا لَا يَتَجَزَّأُ يَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلاً، وَمَا يَقْبَلُهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِمَا مُتَجَزِّئًا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. (وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ عُقْرِهَا) وَيَسْقُطُ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَى الْآخَرِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي قَبْضِهِ وَإِعْطَائِهِ (وَيَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَابْنٍ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُهُ فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِمِيرَاثِ ابْنٍ، (وَيَرِثَانِ مِنْهُ كَأَبٍ وَاحِدٍ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا إِذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ بَيْنَ أَبٍ وَابْنٍ فَهُوَ لِلْأَبِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِهِ لِمَا لَهُ مِنَ الْحَقِّ فِي نَصِيبِ الِابْنِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِ تَرْجِيحًا لِلْإِسْلَامِ. وَقَالَ زُفَرُ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمِلْكِ الْمُوجِبِ. قُلْنَا: دَعْوَةُ الْأَبِ رَاجِحَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الِابْنِ يَصِحُّ وَبِالْعَكْسِ لَا، وَالْمُسْلِمُ رَاجِحٌ بِالْإِسْلَامِ وَلِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلصَّغِيرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 كِتَابُ الْمُكَاتَبِ وَمَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَ صَارَ مُكَاتَبًا، وَالصَغِيرُ الَذِي يَعْقِلُ كَالْكَبِيرِ، وَسَوَاءٌ شَرَطَهُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا أَوْ مُنَجَّمًا، وَإِذَا صَحَّتِ الْكِتَابَةُ يَخْرُجُ عَنْ يَدِ الْمَوْلَى دُونَ مِلْكِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الْمُكَاتَبِ] ِ الْكِتَابَةُ مُسْتَحَبَّةٌ مَنْدُوبَةٌ، قَالَ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وَالْمُرَادُ النَّدْبُ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ غَيْرُ مُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْجَوَازِ يَلْزَمُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهَا جَائِزَةٌ بِدُونِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَوْلُهُ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] خَرَجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ، أَوْ نَقُولُ: إِنْ لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ خَيْرًا فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُكَاتِبَهُ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ السَّعْيِ فِي حُصُولِ الْحُرِّيَّةِ وَمَصَالِحِهَا، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِمَا تَلَوْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَبِالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ كَاتَبَ عَبْدًا عَلَى مِائَةِ أُوقِيَةٍ فَأَدَّاهَا كُلَّهَا إِلَّا عَشَرَةَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدُهُ» ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» ، وَعَلَى جَوَازِهَا الْإِجْمَاعُ. قَالَ: (وَمَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ فَقَبِلَ صَارَ مُكَاتَبًا) ، أَمَّا الْجَوَازُ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا شَرْطُ الْقَبُولِ فَلِأَنَّهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ فَلَا بُدَّ مِنِ الْتِزَامِهِ وَذَلِكَ بِالْقَبُولِ، وَلَا يَعْتِقُ إِلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ لِمَا رَوَيْنَا مِنَ الْحَدِيثِ، فَإِذَا أَدَّاهُ عَتَقَ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ الْمَوْلَى إِنْ أَدَّيْتَهُ فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّهُ مُوجَبُ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ. (وَالصَّغِيرُ الَّذِي يَعْقِلُ كَالْكَبِيرِ) وَهِيَ ذَرِيعَةُ الْإِذْنِ لِلصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، قَالَ: (وَسَوَاءٌ شَرَطَهُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا أَوْ مُنَجَّمًا) لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ، وَقَيْدُ التَّأْجِيلِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ فَيُرَدُّ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ، بِخِلَافِ السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَهُوَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي السَّلَمِ، فَلَا بُدَّ مِنْ زَمَانٍ يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِهِ، أَمَّا هُنَا الْبَدَلُ مَعْقُودٌ بِهِ فَلَا يَشْتَرِطُ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ إِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا أَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْتَرِضَ الْبَدَلَ وَيُوَفِّيَهُ فِي الْحَالِ، أَمَّا الْمُسَلَّمُ فِيهِ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ لَهُ أَوِ اقْتَرَضَهُ لَمَا بَاعَهُ بِأَوْكَسِ الثَّمَنَيْنِ وَلَبَاعَهُ فِيمَنْ يَزِيدُ بِقِيمَةِ الْوَقْتِ، وَإِذَا كَاتَبَهُ حَالًّا فَكَمَا امْتَنَعَ مِنَ الْأَدَاءِ يُرَدُّ فِي الرِّقِّ لِأَنَّهُ عَجَزَ، وَعَجْزُ الْمُكَاتَبِ يُوجِبُ رَدَّهُ إِلَى الرِّقِّ. قَالَ: (وَإِذَا صَحَّتِ الْكِتَابَةُ يَخْرُجُ عَنْ يَدِ الْمَوْلَى دُونَ مِلْكِهِ) حَتَّى يَصِيرَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَأَكْسَابِهِ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنَ الْكِتَابَةِ وُصُولُ الْمَوْلَى إِلَى الْبَدَلِ وَوُصُولُ الْعَبْدِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ بِأَدَاءِ بَدَلِهَا، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَثُبُوتِ حُرِّيَّةِ الْيَدِ حَتَّى يَتَّجِرَ وَيَكْتَسِبَ وَيُؤَدِّيَ الْبَدَلَ، فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ بِعِتْقِهِ وَخَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى أَيْضًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 وَإِذَا أَتْلَفَ الْمَوْلَى مَالَهُ غَرِمَهُ، وَإِنْ وَطِئَ الْمُكَاتَبَةَ فَعَلَيْهِ عُقْرُهَا، وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا أَوْ عَلَى وَلَدِهَا لَزِمَهُ الْأَرْشُ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَ نَفَذَ عِتْقُهُ وَسَقَطَ عَنْهُ مَالُ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ كَالْمَأْذُونِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ بِمَنْعِ الْمَوْلَى، وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ وَيُزَوِّجَ الْأَمَةَ وَيُكَاتِبَ عَبْدَهُ، فَإِنْ أَدَّى قَبْلَهُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى،   [الاختيار لتعليل المختار] عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ كَمَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِذَا أَتْلَفَ الْمَوْلَى مَالَهُ غَرِمَهُ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَكْسَابَهُ لَهُ، فَيَكُونُ الْمَوْلَى فِيهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَضْمَنْهُ لَتَسَلَّطَ عَلَى إِتْلَافِهِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ، (وَإِنْ وَطِئَ الْمُكَاتَبَةَ فَعَلَيْهِ عُقْرُهَا) لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا وَهِيَ أَخَصُّ بِهَا تَحْقِيقًا لِلْمَقْصُودِ وَهُوَ وُصُولُهَا إِلَى الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ جُنِيَ عَلَيْهَا كَانَ عُقَرُهَا وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ لَهَا. قَالَ: (وَلَوْ جَنَى عَلَيْهَا أَوْ عَلَى وَلَدِهَا لَزِمَهُ الْأَرْشُ) لِمَا بَيَّنَّا، قَالَ: (وَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَ نَفَذَ عِتْقُهُ) لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ رَقَبَةٌ، (وَسَقَطَ عَنْهُ مَالُ الْكِتَابَةِ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ وَهُوَ الْعِتْقُ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبْرَأَهُ عَنِ الْبَدَلِ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ قَبِلَ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْعِتْقِ وَهُوَ إِبْرَاؤُهُ مِنَ الْبَدَلِ وَإِسْقَاطُهُ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا قَالَ لَا أَقْبَلُ عَتَقَ وَبَقِيَ الْبَدَلُ دَيْنًا عَلَيْهِ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَالْعِتْقَ لَا. قَالَ: (وَهُوَ كَالْمَأْذُونِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ) وَيُمْنَعُ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ إِلَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ كَمَا عُرِفَ ثَمَّ، لِأَنَّ مُقْتَضَاهَا إِطْلَاقُ تَصَرُّفِهِ فِي التِّجَارَاتِ لِلِاكْتِسَابِ كَالْمَأْذُونِ (إِلَّا أَنَّهُ لا يَمْتَنِعُ بِمَنْعِ الْمَوْلَى) لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى فَسْخِ الْكِتَابَةِ، وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِهِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ فَلَا يَمْلِكُ فَسْخَهُ وَالرُّجُوعَ عَنْهُ. قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ) لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ، وَإِنْ شَرَطَ الْمَوْلَى أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَلَدِهِ فَلَهُ السَّفَرُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُوجَبَ الْعَقْدِ، وَهُوَ حُرِّيَّةُ الْيَدِ وَالتَّفَرُّدُ بِالتَّصَرُّفِ فَيَبْطُلُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِهِ، وَمِثْلُهُ لَا يُفْسِدُ الْكِتَابَةَ (وَيُزَوَّجَ الْأَمَةَ) لِأَنَّهُ مِنَ الِاكْتِسَابِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ لَهَا النَّفَقَةَ وَالْمَهْرَ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُوجِبُهُمَا فِي رَقَبَتِهِ. قَالَ: (وَيُكَاتِبُ عَبْدَهُ) لِأَنَّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الِاكْتِسَابِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ بَلْ هُوَ أَنْفَعُ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْهُ إِلَّا بَعْدَ وُصُولِ الْبَدَلِ إِلَيْهِ، وَفِي الْبَيْعِ يَزُولُ الْمِلْكُ بِالْعَقْدِ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَآلَهُ إِلَى الْعِتْقِ فَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا، بِخِلَافِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، فَإِنَّهُ بِالْعِتْقِ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ، وَقَدْ لَا يَصِلُ إِلَى الْبَدَلِ لِإِفْلَاسِ الْعَبْدِ وَعَجْزِهِ عَنِ الِاكْتِسَابِ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ لِلْمُعْتَقِ أَكْثَرَ مَا وَجَبَ لَهُ، وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلثَّانِي مِثْلُ مَا ثَبَتَ لَهُ وَفِيهِ احْتِيَاطٌ. قَالَ: (فَإِنْ أَدَّى قَبْلَهُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى) ، مَعْنَاهُ: إِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ الثَّانِي قَبْلَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ نَوْعَ مِلْكٍ فَيَصِحُّ إِضَافَةُ الْإِعْتَاقِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عِنْدَ تَعَذُّرِ إِضَافَتِهَا إِلَى الْمُبَاشِرِ كَالْوَكِيلِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 وَإِنْ أَدَّى الْأَوَّلُ قَبْلَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ، وَإِنْ وُلِدَ لَهُ مِنْ أَمَتِهِ وَلَدٌ فَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِ وَكَسْبُهُ لَهُ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ مَعَهَا وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ ثُمَّ كَاتَبَهُمَا فَوَلَدَتْ دَخَلَ فِي كِتَابَةِ الْأُمِّ، وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ مَوْلَاهَا إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ، وَإِنْ شَاءَتْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَجَّزَتْ نَفْسَهَا، وَإِنْ كَاتَبَ أُمَّ وَلَدِهِ جَازَ، فَإِذَا مَاتَ سَقَطَ عَنْهَا مَالُ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً جَازَ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ إِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ أَوْ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] فَإِذَا أَدَّى الْأَوَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَتَقَ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ الْوَلَاءُ، لِأَنَّ الْمَوْلَى جُعِلَ مُعْتَقًا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ (وَإِنْ أَدَّى الْأَوَّلُ قَبْلَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ) لِأَنَّهُ إِذَا أَدَّى الْأَوَّلُ عَتَقَ وَصَارَ أَهْلًا فَيُضَافُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ. قَالَ: (وَإِنْ وُلِدَ لَهُ مِنْ أَمَتِهِ وَلَدٌ فَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِ وَكَسْبُهُ لَهُ) لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُرًّا عَتَقَ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ مُكَاتَبًا يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَإِذَا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ كَانَ كَسْبُهُ لَهُ، لِأَنَّ كَسْبَ وَلَدِهِ كَسْبُ كَسْبِهِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ مَعَهَا) لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهَا صِفَةُ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ فَيَسْرِي إِلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ وَنَحْوِهِ. قَالَ: (وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ ثُمَّ كَاتَبَهُمَا فَوَلَدَتْ دَخَلَ فِي كِتَابَةِ الْأُمِّ) لِرُجْحَانِ جَانِبِ الْأُمِّ كَمَا مَرَّ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ. قَالَ: (وَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ مَوْلَاهَا إِنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَتْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَعَجَّزَتْ نَفْسَهَا) لِأَنَّهَا صَارَ لَهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ: عَاجِلٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَآجِلٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَهِيَ أُمَيَّةُ الْوَلَدِ فَتَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَتْ، وَوَلَدُهَا ثَابِتُ النَّسَبِ مِنَ الْمَوْلَى لِأَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ فِي الْأُمِّ وَهُوَ كَافٍ لِلِاسْتِيلَادِ وَهُوَ حُرٌّ، لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إِعْتَاقَ وَلَدِهَا، فَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ فَحُكْمُهَا مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَلَهَا أَخْذُ الْعُقْرِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ وَتَرَكَتْ مَالًا يُؤَدَّى مِنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ، وَمَا بَقِيَ يَرِثُهُ ابْنُهَا كَمَا عُرِفَ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ حُرٌّ، فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ لَمْ يَلْزَمِ الْمَوْلَى إِلَّا بِدَعْوَةٍ لِحُرْمَةِ وَطْئِهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ حَتَّى مَاتَتْ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ سَعَى الْوَلَدُ الثَّانِي لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ تَبَعًا لَهَا، فَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَهَا عَتَقَ وَبَطَلَتْ عَنْهُ السِّعَايَةُ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ أُمِّ الْوَلَدِ. قَالَ: (وَإِنْ كَاتَبَ أُمَّ وَلَدِهِ جَازَ) لِمَا مَرَّ فِي الِاسْتِيلَادِ (فَإِذَا مَاتَ سَقَطَ عَنْهَا مَالُ الْكِتَابَةِ) لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ، وَالْبَدَلُ وَجَبَ لِتَحْصِيلِ الْعِتْقِ وَقَدْ حَصَلَ، وَيُسَلِّمُ لَهَا الْأَوْلَادَ وَالْأَكْسَابَ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ أَدَّتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْكِتَابَةِ، (وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً جَازَ) لِمَا مَرَّ فِي التَّدْبِيرِ، (فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ إِنْ شَاءَ سَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ أَوْ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 وَإِذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ (س) ، أَوْ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ يَرُدَ إِلَيْهِ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ (ز) ،   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، فَالتَّخْيِيرُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ، وَمُحَمَّدٌ وَحْدَهُ خَالَفَ فِي الْمِقْدَارِ، فَخِلَافُهُمْ فِي التَّخْيِيرِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا تَجَزَّأَ عِتْقُ ثُلُثِهِ بِالْمَوْتِ وَبَقِيَ ثُلُثَاهُ فَقَدْ تَوَجَّهَ لَهُ وَجْهَا عِتْقٍ: مُعَجَّلٌ وَهُوَ السِّعَايَةُ بِالتَّدْبِيرِ، وَمُؤَجَّلٌ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ، وَعِنْدَهُمَا عَتَقَ كُلُّهُ لَمَّا عَتَقَ بَعْضُهُ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَحَدُ الْمَالَيْنِ فَيُؤَدِّي أَقَلَّهُمَا لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ، وَلِمُحَمَّدٍ فِي الْمِقْدَارِ أَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِالْكُلِّ، وَقَدْ سُلِّمَ لَهُ الثُّلُثَ بِالتَّدْبِيرِ فَيَسْقُطُ بِقَدْرِهِ، لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الْبَدَلَ فِي مُقَابَلَةِ الثُّلُثَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ مِنَ الثُّلُثِ سَقَطَ عَنْهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ، فَإِذَا خَرَجَ ثُلُثُهُ سَقَطَ الثُّلُثُ وَصَارَ كَمَا إِذَا دَبَّرَ مُكَاتَبَهُ وَمَاتَ فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيِ الْقِيمَةِ وَثُلُثَيِ الْبَدَلِ كَذَا هَذَا. وَلَهُمَا أَنَّهُ قَابَلَ جَمِيعَ الْبَدَلِ بِثُلُثَيْ رَقَبَتِهِ فَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ اسْتَحَقَّ حُرِّيَّةَ الثُّلُثِ ظَاهِرًا، وَالْعَاقِلُ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ حُرِّيَّتِهِ وَصَارَ كَمَا إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ كَانَتِ الْأَلْفُ مُقَابَلَةً بِالْوَاحِدَةِ الْبَاقِيَةِ لِدَلَالَةِ الْإِرَادَةِ كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا دَبَّرَ مُكَاتَبُهُ لِأَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِالْجَمِيعِ إِذْ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهُ فِي شَيْءٍ بِالْكِتَابَةِ فَافْتَرَقَا. [فصل الكِتَابة الفاسدة] فَصْلٌ (وَإِذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ، أَوْ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ، أَوْ عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ) لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَيْسَا بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَصْلُحَا بَدَلًا، وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةُ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، فَصَارَ كَالْكِتَابَةِ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ، كَذَا هَذَا. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ جَائِزَةٌ وَيُقَسَّمُ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَعَلَى قِيمَةِ عَبْدٍ وَسَطٍ فَيَبْطُلُ مِنْهَا حِصَّةُ الْعَبْدِ وَيَصِيرُ مُكَاتَبًا بِالْبَاقِي، لِأَنَّهُ لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَبْدٍ صَحَّ وَانْصَرَفَ إِلَى عَبْدٍ وَسَطٍ فَكَذَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مَجْهُولٌ فَيُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصِحُّ مُسْتَثْنًى مِنَ الْأَلْفِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَثْنَى قِيمَتُهُ، وَالْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ بَدَلًا فَلَا تَصْلُحُ مُسْتَثْنًى. قَالَ: (فَإِنْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ) بِاعْتِبَارِ التَّعْلِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى التَّعْلِيقِ، لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ كَالْبَيْعِ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَعْتِقُ إِلَّا بِأَدَاءِ قِيمَةِ الْخَمْرِ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الْبَدَلُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَعْتِقُ بِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَمَّا الْخَمْرُ فَلِأَنَّهُ بَدَلٌ صُورَةً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 وَإِذَا عَتَقَ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ لَا يَنْقُصُ عَنِ الْمُسَمَّى وَيُزَادُ عَلَيْهِ، وَفِيمَا إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ. وَالْكِتَابَةُ عَلَى الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ بَاطِلَةٌ، وَعَلَى الْحَيَوَانِ وَالثَّوْبِ كَالنِّكَاحِ وَلَوْ كَاتَبَ الذِّمِّيُّ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ جَازَ، وَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ فَلِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْخَمْرِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَأَمَّا الْبَدَلُ فَبَدَلٌ مَعْنًى. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِنَّمَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ إِذَا قَالَ: إِنْ أَدَّيْتَهَا فَأَنْتَ حُرٌّ. لِلتَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْلِيقِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يُفَصِّلْ عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِذَا عَتَقَ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ نَفْسِهِ) كَمَا قُلْنَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إِذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ، (لَا يَنْقُصُ عَنِ الْمُسَمَّى وَيُزَادُ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ الْهَلَاكِ بَالِغَةٌ مَا بَلَغَتْ كَالْمَبِيعِ فَاسِدًا، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ خَوْفًا مِنْ بُطَلَانِ الْعِتْقِ فَتَجِبُ الزِّيَادَةُ. قَالَ: (وَفِيمَا إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ) لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ فَيَعْتِقُ كَالْخَمْرِ، وَأَثَرُ الْجَهَالَةِ فِي الْفَسَادِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ حَيْثُ لَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ ثَوْبٍ لِفُحْشِ الْجَهَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَّ ثَوْبٍ أَرَادَ الْمَوْلَى، وَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِدُونِ إِرَادَتِهِ. قَالَ: (وَالْكِتَابَةُ عَلَى الدَّمِ وَالْمَيْتَةِ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ أَصْلًا وَلَا مُوجِبَ لَهَا، وَلَوْ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِأَدَائِهِمَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ. قَالَ: (وَ) الْكِتَابَةُ (عَلَى الْحَيَوَانِ وَالثَّوْبِ كَالنِّكَاحِ) إِنْ عَيَّنَ النَّوْعَ صَحَّ، وَإِنْ أَطْلَقَ لَا يَصِحُّ وَتَمَامُهُ عُرِفَ فِي النِّكَاحِ، وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ حَيَوَانٍ فَأَدَّى لَا يَعْتِقُ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى حَيَوَانٍ مَوْصُوفٍ فَأَدَّى الْقِيمَةَ أُجْبَرَ عَلَى قَبُولِهَا كَمَا قُلْنَا فِي الْمَهْرِ. قَالَ: (وَلَوْ كَاتَبَ الذِّمِّيُّ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ جَازَ) إِذَا ذَكَرَ قَدْرًا مَعْلُومًا، وَكَذَلِكَ إِذَا كَاتَبَهُ عَلَى خِنْزِيرٍ لِأَنَّهُ مَالٌ فِي حَقِّهِمْ (وَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ فَلِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْخَمْرِ) لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْمُسْلِمَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى فَهُوَ مَمْنُوعٌ مَنْ تَمَلُّكِهَا فَوَجَبَتِ الْقِيمَةُ، وَأَيُّهُمَا أَدَّى عَتَقَ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَصْلُحُ بَدَلًا كَالْكِتَابَةِ عَلَى حَيَوَانٍ مَوْصُوفٍ فَيَعْتِقُ بِأَيِّهِمَا كَانَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدَيْهِ كِتَابَةً وَاحِدَةً إِنْ أَدَّيَا عَتَقَا، وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا إِلَى الرِّقِّ، وَلَا يَعْتِقَانِ إِلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، وَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا بِأَدَاءِ نَصِيبِهِ، فَإِنْ عَجَزَ أَحَدُهَا فَرُدَّ إِلَى الرِّقِّ ثُمَّ أَدَّى الْآخَرُ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ عَتَقَا، وَلَوْ كَانَا لِرَجُلَيْنِ فَكَاتَبَاهُمَا كَذَلِكَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبٌ بِحِصَّتِهِ يَعْتِقُ بِأَدَائِهَا، وَإِنْ كَاتَبَهُمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنِ الْآخَرِ جَازَ، فَأَيُّهُمَا أَدَّى عَتَقَا، وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى.   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل كاتب عبديه كتابة واحدة] فَصْلٌ (وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدَيْهِ كِتَابَةً وَاحِدَةً إِنْ أَدَّيَا عَتَقَا. وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا إِلَى الرِّقِّ وَلَا يُعْتَقَانِ إِلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَاحِدَةٌ وَشَرْطُهُ فِيهَا مُعْتَبَرٌ، (وَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا بِأَدَاءِ نَصِيبِهِ) لِمَا قُلْنَا، (فَإِنْ عَجَزَ أَحَدُهُمَا فَرُدَّ إِلَى الرِّقِّ) إِمَّا بِتَصَالُحِهِمَا أَوْ رَدَّهُ الْقَاضِي وَلَمْ يَعْلَمِ الْآخَرُ بِذَلِكَ (ثُمَّ أَدَّى الْآخَرُ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ عَتَقَا) لِأَنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَعْتِقَانِ إِلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ، فَكَذَا لَا يُرَدَّانِ إِلَّا بِعَجْزِهِمَا، وَلِأَنَّ الْغَائِبَ يَتَضَرَّرُ بِهَذَا الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ مِنَ الْبَدَلِ وَلَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ، وَالْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِيمَا يَضُرُّهُ، وَكَذَا لَوْ سَعَى بَعْدَ ذَلِكَ وَأَدَّى نَجْمًا أَوْ نَجْمَيْنِ ثُمَّ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ رَدَّهُ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ صَارَ كَالْعَدَمِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ لِاحْتِمَالِ قُدْرَةِ الْأَوَّلِ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَا لِرَجُلَيْنِ فَكَاتَبَاهُمَا كَذَلِكَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبٌ بِحِصَّتِهِ يَعْتِقُ بِأَدَائِهَا) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِنَّمَا اسْتَوْجَبَ الْبَدَلَ عَلَى مَمْلُوكِهِ، وَيُعْتَبَرُ شَرْطُهُ فِي مَمْلُوكِهِ لَا فِي مَمْلُوكِ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ شَرْطَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمَا لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَاهُ. قَالَ: (وَإِنْ كَاتَبَهُمَا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنِ الْآخَرِ جَازَ) اسْتِحْسَانًا، وَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلًا فِي وُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ عِتْقُهُمَا مُعَلَّقًا بِأَدَائِهِ وَيُجْعَلُ كَفِيلًا بِالْأَلْفِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِمْ لِحَاجَتِهِمْ إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الرِّقِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (فَأَيُّهُمَا أَدَّى عَتَقَا) لِوُجُودِ الشَّرْطِ، (وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى) لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ أَوْ رَجَعَ بِالْجَمِيعِ لَا تَحْصُلُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا قَبْلَ الْأَدَاءِ عَتَقَ لِمَا بَيَّنَّا وَسَقَطَتْ حِصَّتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ وَيَبْقَى عَلَى الْآخَرِ النِّصْفُ لِأَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِرَقَبَتَيْهِمَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا احْتِيالًا لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ وَبِعِتْقِ أَحَدِهِمَا اسْتَغْنَيَا عَنْ ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ مُقَابَلًا بِالرَّقَبَتَيْنِ تَنَصَّفَ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ بِالنِّصْفِ الْبَاقِي أَيَّهُمَا شَاءَ الْمُعْتَقَ بِالْكَفَالَةِ وَصَاحِبَهُ بِالْأَصَالَةِ، وَلَوْ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ جَازَ وَصَارَ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا، وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ كُلُّهُ مُكَاتَبًا بِنَاءً عَلَى تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ وَعَدَمِهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً أُدِّيَتْ مُكَاتَبَتُهُ وَحُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آَخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَيَعْتِقُ أَوْلَادُهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِوَرَثَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَتَرَكَ وَلَدًا وُلِدَ فِي الْكِتَابَةِ سَعَى كَالْأَبِ، وَإِنْ تَرَكَ وَلَدًا مُشْتَرًى فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ حَالًّا وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ (سم) ، وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى أَدَّى الْكِتَابَةَ إِلَى وَرَثَتِهِ عَلَى نُجُومِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ لَمْ يَعْتِقْ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَيَصِيرُ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا وَنِصْفُهُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يَتَجَزَّأُ، وَنِصْفُ أَكْسَابِهِ لَهُ وَنَصِفُهَا لِلْمَوْلَى، فَإِذَا أَدَّى عَتَقَ نِصْفُهُ وَسَعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي أَكْسَابِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ مُسْتَسْعًى وَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي أَكْسَابِ الْمُكَاتَبِ. [فصل موت المكاتب قبل وفاء ديونه] فَصْلٌ (وَإِذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَفَاءً أُدِّيَتْ مُكَاتَبَتُهُ وَحُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَيَعْتِقُ أَوْلَادُهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِوَرَثَتِهِ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمَوْلَى فَلَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْآخَرِ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَلِأَنَّ الْبَدَلَ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ تَبْقَ صَالِحَةً لِذَلِكَ بِالْمَوْتِ، وَلِهَذَا حَلَّ بِهِ الْأَجَلُ فَيَنْتَقِلُ إِلَى التَّرِكَةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَخَلَتِ الذِّمَّةُ، وَخُلُوُّ الذِّمَّةِ يُوجِبُ الْعِتْقَ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِالْعِتْقِ حَتَّى يَصِلَ الْمَالُ إِلَى الْمَوْلَى مُرَاعَاةً لِحَقِّهِ، وَلِيَتَحَقَّقَ خُلُوُّ ذِمَّتِهِ لِاحْتِمَالِ هَلَاكِ تَرِكَتِهِ قَبْلَ الْأَدَاءِ، فَإِذَا وَصَلَ حُكْمٌ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَمُوتُ حُرًّا وَيَعْتِقُ أَوْلَادُهُ تَبَعًا لَهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ وَهُمْ أَحْرَارٌ. (فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَتَرَكَ وَلَدًا وُلِدَ فِي الْكِتَابَةِ سَعَى كَالْأَبِ) مَعْنَاهُ عَلَى نُجُومِهِ، فَإِذَا أَدَّى حُكِمَ بِعِتْقِ ابْنِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَعَتَقَ الْوَالِدُ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ، لِأَنَّهُ وَقْتَ الْعَقْدِ كَانَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَبِ مُتَّصِلًا بِهِ فَوَرَدَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَدَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ وَكَسْبُهُ كَكَسْبِهِ فَيَخْلُفُهُ فِي الْأَدَاءِ وَصَارَ كَمَا إِذَا تَرَكَ وَفَاءً. قَالَ: (وَإِنْ تَرَكَ وَلَدًا مُشْتَرًى فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ حَالًا وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ) ، وَقَالَا: هُوَ كَالْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ فَاسْتَوَيَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُشْتَرَى لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُضَفْ إِلَيْهِ لِانْفِصَالِهِ عَنِ الْأَبِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَلَا يَسْرِي إِلَيْهِ حُكْمُهُ، بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ، لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ فَسَرَى الْعَقْدُ إِلَيْهِ وَدَخَلَ فِي حُكْمِهِ فَسَعَى فِي نُجُومِهِ، إِلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إِذَا أَدَّى فِي الْحَالِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ آخِرَ عُمُرِهِ فَيَعْتِقُ وَلَدُهُ تَبَعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى أَدَّى الْكِتَابَةَ إِلَى وَرَثَتِهِ عَلَى نُجُومِهِ) لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ، (وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمْ لَمْ يَعْتِقْ) لِعَدَمِ الْمِلْكِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وَإِنْ أَعْتَقُوهُ جَمِيعًا عَتَقَ، وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ نَجْمٍ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَرْجُو وُصُولَهُ أَنْظَرَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جِهَةٌ عَجَّزَهُ (س) وَعَادَ إِلَى أَحْكَامِ الرِّقِّ. كِتَابُ الْوَلَاءِ وَهُوَ نَوْعَانِ: وَلَاءُ عَتَاقَةٍ، وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، وَسَبَبُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ الْإِعْتَاقُ، وَعِتْقُ الْقَرِيبِ بِالشِّرَاءِ، وَالْمُكَاتَبِ بِالْأَدَاءِ، وَالْمُدَبَّرِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَكَذَا بِالْإِرْثِ. (وَإِنْ أَعْتَقُوهُ جَمِيعًا عَتَقَ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِبْرَاءً عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِي الْبَدَلِ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْهُ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ الْمَوْلَى إِلَّا أَنَّ إِعْتَاقَ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ إِسْقَاطَ نَصِيبٍ مِنَ الْبَدَلِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ إِبْرَاءً مُقْتَضًى لِلْعِتْقِ وَلَا عِتْقَ، فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ الْبَعْضُ لَا يَعْتِقُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهُ إِبْرَاءً عَنِ الْكُلِّ لَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ. قَالَ: (وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ نَجْمٍ نَظَرَ الْحَاكِمُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَرْجُو وُصُولَهُ أَنْظَرَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ، وَالثَّلَاثُ مُدَّةٌ تُضْرَبُ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَمَا فِي إِمْهَالِ الْمَدْيُونِ لِلْقَضَاءِ وَنَحْوِهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جِهَةٌ عَجَّزَهُ وَعَادَ إِلَى أَحْكَامِ الرِّقِّ) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يُعَجِّزُهُ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ. وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَلَهُمَا أَنَّ الْعَجْزَ سَبَبٌ لِلْفَسْخِ وَقَدْ تَحَقَّقَ، فَإِنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ نَجْمٍ كَانَ عَنْ نَجْمَيْنِ أَعْجَزَ، وَلِأَنَّهُ فَاتَ مَقْصُودُ الْمَوْلَى وَهُوَ وُصُولُ الْمَالِ إِلَيْهِ عِنْدَ حُلُولِ النَّجْمِ فَلَمْ يَكُنْ رَاضِيًا فَيُفْسَخُ، وَالْيَوْمَانِ وَالثَّلَاثَةُ لَا بُدَّ مِنْهُمَا لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ وَلَيْسَ بِتَأْخِيرٍ، وَالْأَثَرُ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَجَّزَ مُكَاتَبَةً لَهُ حِينَ عَجَزَتْ عَنْ نَجْمٍ وَاحِدٍ وَرَدَّهَا إِلَى الرِّقِّ فَتَعَارَضَا. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ نَجْمٍ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي فَرَدَّهُ مَوْلَاهُ بِرِضَاهُ جَازَ، لِأَنَّ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَبِعُذْرٍ أَوْلَى، وَإِنْ أَبَى الْعَبْدُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ فَلَا بُدَّ فِي فَسْخِهِ مِنَ الْقَاضِي أَوِ الرِّضَا كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَإِذَا فَسَخَهُ عَادَ إِلَى أَحْكَامِ الرِّقِّ، لِأَنَّ بِالْفَسْخِ تَصِيرُ الْكِتَابَةُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ، وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ أَكْسَابِهِ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهَا كَسْبُ عَبْدِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْوَلَاءِ] ِ (وَهُوَ نَوْعَانِ: وَلَاءُ عَتَاقَةٍ) وَيُسَمَّى وَلَاءُ نِعْمَةٍ، (وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، وَسَبَبُ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ الْإِعْتَاقُ) لِإِضَافَتِهِ إِلَيْهِ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إِلَى سَبَبِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ بِبَدَلٍ أَوْ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ لِلْكَفَّارَةِ أَوْ لِلْيَمِينِ أَوْ بِالنَّذْرِ، (وَعِتْقُ الْقَرِيبِ بِالشِّرَاءِ، وَالْمُكَاتَبِ بِالْأَدَاءِ، وَالْمُدَبَّرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 وَأُمِّ الْوَلَدِ بِالْمَوْتِ إِعْتَاقٌ، وَيَثْبُتُ لِلْمُعْتِقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَإِنْ شَرَطَهُ لِغَيْرِهِ أَوْ سَائِبَةً وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ أَبَدًا، فَإِذَا مَاتَ فَهُوَ لِأَقْرَبِ عَصَبَتِهُ فَيَكُونُ لِابْنِهِ دُونَ أَبِيهِ إِذَا اجْتَمَعَا، وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ فَهُمْ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْوَلَاءِ إِلَّا وَلَاءُ مَنْ أَعَتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ جَرَّ وَلَاءَ مُعْتِقِهِنَّ بِأَنْ زَوَّجَتْ عَبْدَهَا مُعْتَقَةَ الْغَيْرِ فَوَلَدَتْ فَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الزَّوْجَةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَأُمِّ الْوَلَدِ بِالْمَوْتِ إِعْتَاقٌ) لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ يُضَافُ إِلَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ جِهَتِهِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ التَّنَاصُرُ، وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ يَتَنَاصَرُونَ بِأَشْيَاءَ: مِنْهَا الْحِلْفُ وَغَيْرُهُ، فَقَرَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَاصُرَهُمْ بِنَوْعَيِ الْوَلَاءِ فَقَالَ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» ، وَقَالَ: «حَلِيفُ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» وَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا عَقَدُوا عَقْدَ الْوَلَاءِ أَكَّدُوهَا بِالْحَلِفِ. قَالَ: (وَيَثْبُتُ لِلْمُعْتِقِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَإِنْ شَرَطَهُ لِغَيْرِهِ أَوْ سَائِبَةً) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا (وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ أَبَدًا) لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ وَتَأَكَّدَ السَّبَبُ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ، (فَإِذَا مَاتَ فَهُوَ لِأَقْرَبِ عَصَبَتِهِ فَيَكُونُ لِابْنِهِ دُونَ أَبِيهِ إِذَا اجْتَمَعَا) وَفِيهِ اخْتِلَافٌ ذَكَرْتُهُ وَدَلَائِلَهُ فِي الْفَرَائِضِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: (وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ فَهُمْ سَوَاءٌ) لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَرَابَةُ وَالْعُصُوبَةُ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْوَلَاءِ إِلَّا وَلَاءُ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ جَرَّ وَلَاءَ مُعْتِقِهِنَّ) لِأَنَّهُنَّ لَسْنَ بِعَصَبَةٍ، أَوْ لِأَنَّ السَّبَبَ النُّصْرَةُ وَلَسْنَ مِنْ أَهْلِهَا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْوَلَاءِ إِلَّا مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ، أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ، أَوْ جَرَّ وَلَاءَ مُعْتِقِهِنَّ أَوْ مُعْتِقِ مُعْتِقِهِنَّ» ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُنَّ إِذَا أَعْتَقْنَ أَوْ كُنَّ سَبَبًا فِي الْإِعْتَاقِ، وَيَنْفِي ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لَهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا حَدِيثُ ابْنَةِ حَمْزَةَ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْفَرَائِضِ أَيْضًا، وَلِأَنَّهَا سَاوَتِ الرَّجُلَ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ، فَإِذَا اسْتَحَقَّتْ مِيرَاثَ مُعْتِقِهَا فَكَذَا مُعْتِقُ مُعْتِقِهَا لِأَنَّهَا تَسَبَّبَتْ إِلَى عِتْقِهِ، وَلِأَنَّ مُعْتَقَهُ يُنْسَبُ إِلَيْهَا بِالْوَلَاءِ، وَصُورَةُ جَرِّ وَلَاءِ مُعْتِقِهِنَّ (بِأَنْ زَوَّجَتْ عَبْدَهَا مُعْتَقَةَ الْغَيْرِ فَوَلَدَتْ فَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الزَّوْجَةِ) لِأَنَّ الْأَبَ عَبْدٌ لَا وَلَاءَ لَهُ، فَإِذَا أَعْتَقَ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إِلَى مَوَالِيهِ، وَصُورَةُ مُعْتِقِ مُعْتَقِهِنَّ إِذَا أَعْتَقَتْ عَبْدًا فَاشْتَرَى عَبْدًا وَزَوَّجَهُ مُعْتَقَةَ الْغَيْرِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَوَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا لِمَا بَيَّنَّا، فَإِذَا أَعْتَقَ مُعْتِقُ الْمَرْأَةِ الْعَبْدَ جَرَّ وَلَاءَ أَوْلَادِهِ إِلَيْهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 وَسَبَبُ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ الْعَقْدُ. وَصُورَتُهُ: إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ عَلَى أَنْ يَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ فَقَالَ: أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إِذَا مِتُّ، وَتَعْقِلُ عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ فَيَقْبَلُ الْآخَرُ فَذَلِكَ صَحِيحٌ، فَإِذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ وَرِثَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَيَكُونُ ذَلِكَ الْوَلَاءُ لِمُعْتِقِهِ، فَذَلِكَ جَرُّ وَلَاءِ مُعْتِقِ مُعْتَقِهَا. وَلَوْ أَعْتَقَتِ الْأُمُّ وَهِيَ حَامِلٌ فَوَلَدَتْ لَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ عَنْ مَوَالِيهَا أَبَدًا لِأَنَّ الْعِتْقَ وَرَدَ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا مُتَّصِلًا بِهَا وَقْتَ الْعِتْقِ فَلَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ كَمَا إِذَا أَعْتَقَهُ قَصْدًا، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ إِذَا وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الْعِتْقِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَكَذَا إِذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ. وَالْأَصْلُ فِي جَرِّ الْوَلَاءِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ، وَالنَّسَبُ إِلَى الْآبَاءِ فَكَذَا الْوَلَاءُ، فَإِذَا امْتَنَعَ إِثْبَاتُهُ إِلَى الْأَبِ لِمَانِعٍ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ عَادَ الْوَلَاءُ إِلَى الْأَبِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ كَوَلَدِ الْمُلَاعِنَةِ يُنْسَبُ إِلَى أُمِّهِ، فَإِذَا أَكْذَبَ الْأَبُ نَفْسَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَأَى بِخَيْبَرَ فِتْيَةً لُعْسًا أَعْجَبَهُ ظُرْفُهُمْ، وَأُمُّهُمْ مَوْلَاةٌ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَأَبُوهُمْ عَبْدٌ لِبَعْضِ جُهَيْنَةَ أَوْ لِبَعْضِ أَشْجَعَ فَاشْتَرَى أَبَاهُمْ فَأَعْتَقَهُ وَقَالَ لَهُمُ انْتَسِبُوا إِلَيَّ، فَقَالَ رَافِعٌ: بَلْ هُمْ مَوَالِيَّ، فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ فَقَضَى بِالْوَلَاءِ لِلزُّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ مِنْ غَيْرِهِ. وَلَوْ أَعْتَقَ الْجَدُّ لَا يَجُرُّ الْوَلَاءَ، وَلَا يَكُونُ الصَّغِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّهِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَجْعَلُوا الصِّغَارَ مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ آدَمَ وَنُوحٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُمَا جَدَّانِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَكُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِلْجَدِّ، وَيَجُرُّ الْجِدُّ وَلَاءَهُ لِأَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ. قَالَ: (وَسَبَبُ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ الْعَقْدُ) وَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ التَّنَاصُرُ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ شَرَائِطَ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مُعْتِقٌ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى فَيَمْنَعُ ثُبُوتَ الْأَضْعَفِ. الثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا يُسْتَرَقُّونَ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ أَوْلَى. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَنْتَسِبَ إِلَى أَحَدٍ وَلَا يَكُونَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا «سُئِلَ عَمَّنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَ: " هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتُهُ إِنْ وَالَاهُ» أَيْ بِمِيرَاثِهِ لَا بِشَخْصِهِ. وَرُوِيَ «أَنْ رَجُلًا أَسْلَمَ عَلَى يَدِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَوَالَاهُ، فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: هُوَ أَخُوكَ وَمَوْلَاكَ تَعْقِلُ عَنْهُ وَتَرِثُهُ» . (وَصُورَتُهُ: إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ عَلَى أَنْ يَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ فَقَالَ: أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إِذَا مِتُّ، وَتَعْقِلُ عَنِّي إِذَا جَنَيْتُ فَيَقْبَلُ الْآخَرُ فَذَلِكَ صَحِيحٌ) ، وَكَذَا إِذَا أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَى غَيْرَهُ صَحَّ، (فَإِذَا مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ وَرِثَهُ) لِمَا رَوَيْنَا، وَتَمَامُهُ يُعْرَفُ فِي الْفَرَائِضِ، وَيَدْخُلُ فِي عَقْدِ الْوَلَاءِ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ لِلتَّبَعِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ يُولَدُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْوَلَاءِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، فَإِنْ عَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَنْ وَلَدِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَإِذَا أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ وَوَالَتْ أَوْ أَقَرَّتْ بِالْوَلَاءِ وَفِي يَدِهَا ابْنٌ صَغِيرٌ تَبِعَهَا (سم) فِي الْوَلَاءِ. كِتَابُ الْأَيْمَانِ   [الاختيار لتعليل المختار] يَتْبَعُونَهُ فِي النَّسَبِ فَكَذَا فِي الْوَلَاءِ، فَإِنْ أَسْلَمَ لَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ عَلَى يَدِ آخَرَ وَوَالَاهُ صَحَّ لِانْقِطَاعِ وَلَايَتِهِ عَنْهُ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَالِي عَاقِلًا بَالِغًا حُرًّا حَتَّى لَا يَصِحَّ مُوَالَاةُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَجْنُونِ، وَلَوْ وَالَى الصَّبِيُّ بِإِذْنِ الْأَبِ أَوِ الْوَصِيِّ جَازَ وَالْوَلَاءُ لِلصَّبِيِّ، وَإِنْ وَالَى الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ جَازَ وَكَانَ وَكِيلًا عَنْ مَوْلَاهُ، وَيَقَعُ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى، لِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْوَلَاءِ وَالْعَبْدَ لَا، لِأَنَّ حُكْمَ الْوَلَاءِ الْعَقْلُ وَالْإِرْثُ وَالْعَبْدُ لَيْسَ أَهْلًا لِذَلِكَ فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهُ وَهُوَ الْمَوْلَى. قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَ الْوَلَاءِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْأَعْلَى مُتَبَرِّعٌ بِالْقِيَامِ بِنُصْرَتِهِ وَعَقْلِ جِنَايَتَهِ، وَالْأَسْفَلُ مُتَبَرِّعٌ بِجَعْلِهِ خَلِيفَتَهُ فِي مَالِهِ، وَالتَّبَرُّعُ غَيْرُ لَازِمٍ مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ الْقَبْضُ أَوِ الْعِوَضُ كَالْهِبَةِ. وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ بِالْقَوْلِ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ وَبِالْفِعْلِ مَعَ غَيْبَتِهِ بِأَنْ يُوَالِيَ غَيْرَهُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ بِالْقَوْلِ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ لِأَنَّهُ عُزِلَ قَصْدًا وَبِالْفِعْلِ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ عُزِلَ حُكْمًا. قَالَ: (فَإِنْ عَقَلَ عَنْهُ أَوْ عَنْ وَلَدِهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ) لِحُصُولِ الْعِوَضِ كَالْهِبَةِ، وَكَذَا إِذَا كَبُرَ أَحَدُ أَوْلَادِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ بَعْدَ مَا عَقَلَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ دَخَلَ فِي عَقْدِهِ وَوَلَائِهِ، قَالَ: (وَإِذَا أَسْلَمَتِ الْمَرْأَةُ وَوَالَتْ أَوْ أَقَرَّتْ بِالْوَلَاءِ وَفِي يَدِهَا ابْنٌ صَغِيرٌ تَبِعَهَا فِي الْوَلَاءِ) ، وَقَالَا: لَا يَتْبَعُهَا لِأَنَّهُ لَا وَلَايَةَ لَهَا عَلَى مَالِهِ فَعَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى، وَلَهُ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ وَهُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ فَيَمْلِكُهُ عَلَيْهِ كَقَبْضِ الْهِبَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْأَيْمَانِ] وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ، وَالْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ: الْقُوَّةُ، قَالَ تَعَالَى: {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] أَيْ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ مِنَّا، وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أَيْ تَتَقَوَّوْنَ عَلَيْنَا، وَقَالَ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِالْيَمِينِ وَهِيَ الْجَارِحَةُ أَيْضًا. وَهِيَ مُطْلَقُ الْحَلِفِ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وقَوْله تَعَالَى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93] يَحْتَمِلُ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ: أَيْ بِيَدِهِ الْيُمْنَى أَوْ بِقُوَّتِهِ أَوْ بِحَلِفِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57] . وَفِي الشَّرْعِ نَوْعَانِ، أَحَدُهُمَا: الْقَسَمُ، وَهُوَ مَا يَقْتَضِي تَعْظِيمَ الْمُقْسَمِ بِهِ، فَلِهَذَا قُلْنَا لَا يَجُوزُ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» ، وَفِيهَا الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ، لِأَنَّ فِيهَا الْحَلِفَ، وَفِيهَا مَعْنَى الْقُوَّةِ لِأَنَّهُمْ يُقَوُّونَ كَلَامَهُ وَيُوَثِّقُونَهُ بِالْقَسَمِ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَكَانُوا إِذَا تَحَالَفُوا أَوْ تَعَاهَدُوا يَأْخُذُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةٌّ: غَمُوسٌ، وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ أَوْ حَالٍ يَتَعَمَّدُ فِيهَا الْكَذِبَ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَلَغْوٌ: وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ، فَنَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهَا وَمُنْعَقِدَةٌ: وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِيَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِالْيَمِينِ الَّتِي هِيَ الْجَارِحَةُ. الثَّانِي: الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ عَلَى وَجْهٍ يُنَزِّلُ الْجَزَاءَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إِنْ لَمْ آتِكَ غَدًا فَعَبْدِي حُرٌّ، وَهَذَا النَّوْعُ ثَبَتَ بِالِاصْطِلَاحِ الشَّرْعِيِّ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَفِيهِ مَعْنَى الْقُوَّةِ وَالتَّوَثُّقِ أَيْضًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْحَمْلِ عَلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْمَنْعِ عَنْ فِعْلِهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَعْلَمُ كَوْنَ الْفِعْلِ مَصْلَحَةً وَلَا يَفْعَلُهُ لِنُفُورِ الطَّبْعِ عَنْهُ، وَيَعْلَمُ كَوْنَهُ مَفْسَدَةً وَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ لِمَيْلِهِ إِلَيْهِ وَغَلَبَةِ شَهْوَتِهِ، فَاحْتَاجَ فِي تَأْكِيدِ عَزْمِهِ عَلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ إِلَى الْيَمِينِ، وَكَمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاللَّهِ تَعَالَى تَحْمِلُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ لِمَا يُلَازِمُهَا مِنَ الْإِثْمِ بِهَتْكِ الِاسْمِ الْمُعَظَّمِ وَالْكَفَّارَةِ، فَكَذَلِكَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ يَحْمِلُهُ وَيَمْنَعُهُ لِمَا يُلَازِمُهُ مِنْ زَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ الْمَنْعُ وَالْحَمْلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْيَمِينَيْنِ فَأَلْحَقْنَاهَا بِهَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ فِي الْمُعَاهَدَاتِ وَالْخُصُومَاتِ تَوْكِيدًا وَتَوْثِيقًا لِلْقَوْلِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُقَلِّلَ الْحَلِفَ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى قِيلَ: يُكْرَهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَلْعُونٌ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَحَلَّفَ بِهِ» ، وَقِيلَ إِنْ أُضِيفَ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُكْرَهُ وَإِلَى الْمَاضِي يُكْرَهُ، وَهَذَا حَسَنٌ لِأَنَّهَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَاضِي بِالْإِجْمَاعِ، وَهِيَ مِنْ أَيْمَانِ السَّفَلَةِ. قَالَ: (الْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةٌ: غَمُوسٌ، وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ أَوْ حَالٍ يَتَعَمَّدُ فِيهَا الْكَذِبَ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا. وَلَغْوٌ: وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ، فَنَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهَا. وَمُنْعَقِدَةٌ: وَهِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِيَفْعَلَهُ أَوْ يَتْرُكَهُ) فَإِذَا حَنِثَ فِيهَا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى الْمَاضِي أَوْ عَلَى الْحَالِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمَاضِي أَوْ عَلَى الْحَالِ، فَإِمَّا أَنْ يَتَعَمَّدَ الْكَذِبَ فِيهَا وَهِيَ الْأُولَى، أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ وَهِيَ الثَّانِيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَهِيَ الثَّالِثَةُ، سَوَاءٌ كَانَ عَمْدًا أَوْ نَاسِيًا، مُكْرَهًا أَوْ طَائِعًا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا الْغَمُوسُ فَلَيْسَتْ يَمِينًا حَقِيقَةً، لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَهَذِهِ كَثِيرَةٌ فَلَا تَكُونُ مَشْرُوعَةً، وَتَسْمِيَتُهَا يَمِينًا مَجَازٌ لِوُجُودِ صُورَةِ الْيَمِينِ. كَمَا نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الْحُرِّ، سَمَّاهُ بَيْعًا مَجَازًا، قَالُوا: وَسُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَا كَفَّارَةَ فِيهَا، وَالْيَمِينُ عَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وَهِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْبِرُّ كَفِعْلِ الْفَرَائِضِ وَمَنْعِ الْمَعَاصِي، وَنَوْعٌ يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ كَفِعْلِ الْمَعَاصِي وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، وَنَوْعٌ الْحِنْثُ فِيهِ خَيْرٌ   [الاختيار لتعليل المختار] الْمَاضِي مِثْلُ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَهُ، أَوْ وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، وَالْحَالُ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْيَمِينُ لَا تَنْعَقِدُ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَإِنَّمَا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَمْسٌ مِنَ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَبَهْتُ الْمُسْلِمِ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْكَفَّارَةَ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَذَكَرَهَا تَعْلِيمًا، أَوْ نَقُولُ: لَوْ كَانَ لَهَا كَفَّارَةٌ لَمَا دَعَتِ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ اسْمٌ لِمَا يَسْتُرُ الذَّنْبَ فَتَرْفَعُ إِثْمَهُ وَعُقُوبَتَهُ كَغَيْرِهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَلِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ بِالْحَدِيثِ، وَالْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ وَيُشْتَرَطُ فِيهَا النِّيَّةُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِقَوْلِهِ: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] وَالْعَقْدُ مَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْحَلُّ وَالْعَقْدُ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَاضِي. وَأَمَّا اللَّغْوُ كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ مَا دَخَلْتُ الدَّارَ، أَوْ مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا يَظُنُّهُ كَذَلِكَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ، وَيَكُونُ فِي الْحَالِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ إِنَّ الْمُقْبِلَ لَزَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] . وَحَكَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا وَاللَّهِ وَبَلَى وَاللَّهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ الْحَلِفُ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهَا وَاللَّهُ تَعَالَى نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ قَطْعًا؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَسَّرَهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا غَيْرُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ الرَّجَاءَ عَلَى وَجْهَيْنِ: رَجَاءُ طَمَعٍ، وَرَجَاءُ تَوَاضُعٍ، فَجَازَ أَنَّ مَحَمَّدًا ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ. وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَا يَكُونُ اللَّغْوُ إِلَّا فِي الْيَمِينِ بِاللَّهِ. وَقَدْ عَبَّرَ عَنْهُ الْكَرْخِيُّ فَقَالَ: مَا كَانَ الْمَحْلُوفُ بِهِ هُوَ الَّذِي يُلْزِمُهُ بِالْحِنْثِ فَلَا لَغْوَ فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ بِاللَّهِ عَلَى أَمْرٍ يَظُنُّهُ كَمَا قَالَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَغَا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَبَقِيَ قَوْلُهُ وَاللَّهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَلْغُو الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَيَبْقَى قَوْلُهُ: امْرَأَتُهُ طَالِقٌ أَوْ عَبْدُهُ حُرٌّ أَوْ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَيَلْزَمُهُ. (وَ) أَمَّا الْمُنْعَقِدَةُ (فَهِيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا مَا يَجِبُ فِيهِ الْبِرُّ كَفِعْلِ الْفَرَائِضِ وَمَنْعِ الْمَعَاصِي) لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ فَيَتَأَكَّدُ بِالْيَمِينِ، (وَنَوْعٌ يَجِبُ فِيهِ الْحِنْثُ كَفِعْلِ الْمَعَاصِي وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ) ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنَ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يَعْصِهِ» . (وَنَوْعٌ الْحِنْثُ فِيهِ خَيْرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 مِنَ الْبِرِّ كَهِجْرَانِ الْمُسْلِمِ وَنَحْوِهِ، وَنَوْعٌ هُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَحِفْظُ الْيَمِينِ فِيهِ أَوْلَى، وَإِذَا حَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ: إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كَسَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَلَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ،   [الاختيار لتعليل المختار] مِنَ الْبِرِّ كَهِجْرَانِ الْمُسْلِمِ وَنَحْوِهِ) ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَلِأَنَّ الْحِنْثَ يَنْجَبِرُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَا جَابِرَ لِلْمَعْصِيَةِ. (وَنَوْعٌ هُمَا عَلَى السَّوَاءِ، فَحِفْظُ الْيَمِينِ فِيهِ أَوْلَى) ، قَالَ تَعَالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] أَيْ: عَنِ الْحِنْثِ. قَالَ: (وَإِذَا حَنِثَ) يَعْنِي فِي الْأَيْمَانِ الْمُسْتَقْبَلَةِ (فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] . قَالَ: (إِنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ كَسَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) ، قَالَ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] خُيِّرَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَحَدَهَا، ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89] . قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ، وَقِرَاءَتُهُ مَشْهُورَةٌ فَكَانَتْ كَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، وَالْكَلَامُ فِي الرَّقَبَةِ وَالطَّعَامِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي ذَلِكَ مَرَّ فِي الظِّهَارِ. وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُكْتَسَى بِهِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا رَدُّ الْعُرْيِ، وَكُلُّ ثَوْبٍ يَصِيرُ بِهِ مُكْتَسِيًا يُسَمَّى كِسْوَةً وَإِلَّا فَلَا، فَإِذَا اخْتَارَ الْحَانِثُ الْكِسْوَةَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكِسْوَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ أَدْنَاهُ مَا يَسْتُرُ عَامَّةَ بَدَنِهِ فَلَا يَجُوزُ السَّرَاوِيلُ لِأَنَّ لَابِسَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا عُرْفًا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: أَدْنَاهُ مَا تَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلَا يَجُوزُ الْخُفُّ وَلَا الْقَلَنْسُوَةُ لِأَنَّ لَابِسَهُمَا لَا يُسَمَّى مُكْتَسِيًا وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ فِيهَا الصَّلَاةُ، وَقِيلَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ وَقَمِيصٌ، وَقِيلَ كِسَاءٌ وَقِيلَ مِلْحَفَةٌ، وَقِيلَ يَجُوزُ الْإِزَارُ إِنْ كَانَ يَتَوَشَّحُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ دُونَ الْبَدَنِ لَا يَجُوزُ كَالسَّرَاوِيلِ. وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ الصَّلَاةُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِمَامَةِ إِنْ كَانَتْ سَابِغَةً قَدْرَ الْإِزَارِ السَّابِغِ أَوْ مَا يُقْطَعُ مِنْهُ قَمِيصٌ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا، وَمَا لَا يَجْزِيهِ فِي الْكِسْوَةِ يَجْزِيهِ عَنِ الْإِطْعَامِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إِذَا نَوَاهُ. وَلَا تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ إِلَّا بِفِعْلٍ يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنِ الْعَيْنِ لِيَكُونَ زَاجِرًا وَرَادِعًا لَهُ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّمْلِيكِ، وَلَوْ أَعَارَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَنِ الْعَيْنِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ حَيْثُ يَجُوزُ فِيهِ الْإِبَاحَةُ، لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ عَنِ الطَّعَامِ بِالْإِبَاحَةِ كَمَا يَزُولُ بِالتَّمْلِيكِ، وَلَوْ كَفَّرَ عَنْهُ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ جَازَ، وَبِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الزَّكَاةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ أَوْ عُقُوبَةٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبِهِ وَذَلِكَ بِالْإِذْنِ لِيَنْتَقِلَ فِعْلُهُ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وَالْقَاصِدُ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّاسِي فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ. فَصْلٌ وَحُرُوفُ الْقَسَمِ: الْبَاءُ، وَالْوَاوُ، وَالتَاءُ،   [الاختيار لتعليل المختار] مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» ، وَرُوِيَ: «ثُمَّ لْيُكَفِّرْهُ يَمِينَهُ» أَمْرٌ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحِنْثِ، أَوْ نَقُولُ: إِذَا حَنِثَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالْأَمْرِ، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ سَاتِرَةٌ وَالسِّتْرُ يَعْتَمِدُ ذَنْبًا أَوْ جِنَايَةً، وَلَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ هِيَ الْحِنْثُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَكُونُ سَبَبًا مُفْضِيًا إِلَى الْحِنْثِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَفَّرَ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ، لِأَنَّ الْجُرْحَ سَبَبٌ مُفْضٍ إِلَى الزُّهُوقِ غَالِبًا، وَبِخِلَافِ مَا إِذَا أَدَّى الزَّكَاةَ بَعْدَ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمَالُ. قَالَ: (وَالْقَاصِدُ وَالْمُكْرَهُ وَالنَّاسِي فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْأَيْمَانُ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرْبَعَةٌ لَا رِدِّيدَى فِيهِنَّ. وَعَدَّ مِنْهَا الْأَيْمَانَ. وَرُوِيَ: «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اسْتَحْلَفُوا حُذَيْفَةَ وَأَبَاهُ أَنْ لَا يُعِينَا رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: يَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» ، فَحَكَمَ بِصِحَّةِ الْيَمِينِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَالْكَلَامُ فِي الْإِكْرَاهِ مَضَى فِي بَابِهِ، وَلِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ هُوَ الْفِعْلُ، وَوُجُودُ الْفِعْلِ حَقِيقَةً لَا يَعْدِمُهُ الْإِكْرَاهُ وَالنِّسْيَانُ، وَلَا يَصِحُّ يَمِينُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ لِمَا مَرَّ فِي الطَّلَاقِ. [فصل حُرُوفُ الْقَسَمِ وفيما يكون به اليمين] فَصْلٌ (وَحُرُوفُ الْقَسَمِ: الْبَاءُ، وَالْوَاوُ، وَالتَّاءُ) هُوَ الْمَعْهُودُ الْمُتَوَارَثُ، وَقَدْ وَرَدَ بِهَا الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا} [الأنعام: 23] ، وَقَالَ: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} [النساء: 62] ، وَقَالَ: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا} [النحل: 63] ، وَلِلَّهِ يَمِينٌ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّامَ تُبْدَلُ مِنَ الْبَاءِ، قَالَ تَعَالَى: {آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] وَ {آمَنْتُمْ لَهُ} [طه: 71] ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ لِلْإِلْصَاقِ وَضْعًا وَالْوَاوُ بَدَلٌ عَنْهُ فَإِنَّهُ لِلْجَمْعِ، وَفِي الْإِلْصَاقِ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَالتَّاءُ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ، وَكَقَوْلِهِمْ: تُرَاثٌ، وَتُجَاهٌ، فَلَمَّا كَانَتِ الْبَاءُ أَصْلًا صَلَحَتْ لِلْقَسَمِ فِي اسْمِ اللَّهِ وَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ وَفِي الْكِنَايَةِ كَقَوْلِهِمْ: بِكَ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا، وَكَوْنُ الْوَاوِ بَدَلًا عَنْهَا نَقَصَتْ عَنْهَا فَصَلَحَتْ فِي الْأَسْمَاءِ الصَّرِيحَةِ دُونَ الْكِنَايَةِ، وَكَوْنُ التَّاءِ بَدَلَ الْبَدَلِ اخْتُصَّتْ بِسْمِ اللَّهِ وَحْدَهُ، وَلَمْ تَصْلُحْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَلَا فِي الْكِنَايَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 وَتُضْمَرُ الْحُرُوفُ فَتَقُولُ: اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، وَالْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِأَسْمَائِهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ إِلَّا فِيمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ كَالْحَكِيمِ وَالْعَلِيمِ، وَبِصِفَاتِ ذَاتِهِ كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، إِلَّا وَعِلْمِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَكَذَلِكَ وَرَحْمَةِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ وَغَضَبِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَتُضْمَرُ الْحُرُوفُ فَتَقُولُ: اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا) ثُمَّ قَدْ يُنْصَبُ لِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَقَدْ يُخْفَضُ دَلَالَةً عَلَيْهِ وَهُوَ خِلَافٌ بَيْنَ الْبَصْرِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ، «وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَلَّفَ الَّذِي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ اللَّهِ مَا أَرَدْتَ بِالْبَتَّةِ إِلَّا وَاحِدَةً» ، وَالْحَذْفُ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ تَخْفِيفًا، وَالْحَلِفُ فِي الْإِثْبَاتِ أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا، أَوْ وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. مَقْرُونًا بِالتَّأْكِيدِ وَهُوَ اللَّامُ وَالنُّونُ، حَتَّى لَوْ قَالَ: وَاللَّهِ لَأَفْعَلُ كَذَا الْيَوْمَ فَلَمْ يَفْعَلْهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ الْحَلِفَ فِي الْإِثْبَاتِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لُغَةً، أَمَّا فِي النَّفْيِ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، أَوْ وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا. قَالَ: (وَالْيَمِينُ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِأَسْمَائِهِ) لِأَنَّهُ يَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَلَا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِهِ أَصْلًا، وَلِأَنَّهُ مُتَعَاهَدٌ مُتَعَارَفٌ، وَالْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ، فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّ قَصْدَهُمْ وَنِيَّتَهُمْ تَنْصَرِفُ إِلَى الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ كَمَا يَنْصَرِفُ عِنْدَ عَدَمِ الْعُرْفِ إِلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعُرْفِيَّةَ قَاضِيَةٌ عَلَى اللُّغَوِيَّةِ لِسَبْقِ الْفَهْمِ إِلَيْهَا. قَالَ: (وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ إِلَّا فِيمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُهُ كَالْحَكِيمِ وَالْعَلِيمِ) فَيَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ، وَقِيلَ لَا يَحْتَاجُ فِي جَمِيعِ أَسْمَائِهِ وَيَكُونُ حَالِفًا، لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ يَمِينًا صَحِيحَةً فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ حَالِفًا، إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَوَى مُحْتَمَلَ كَلَامِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: وَأَمَانَةِ اللَّهِ، يَمِينٌ، فَلَمَّا سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ قَالَ: لَا أَدْرِي. كَأَنَّهُ وَجَدَ الْعَرَبَ يَحْلِفُونَ بِذَلِكَ عَادَةً فَجَعَلَهُ يَمِينًا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِيَمِينٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَرَائِضَ، ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ. قَالَ: (وَبِصِفَاتِ ذَاتِهِ كَعِزَّةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، إِلَّا: وَعِلْمِ اللَّهِ، فَلَا يَكُونُ يَمِينًا، وَكَذَلِكَ: وَرَحْمَةِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ وَغَضَبِهِ) لَيْسَ بِيَمِينٍ. اعْلَمْ أَنَّ الصِّفَاتِ ضَرْبَانِ: صِفَاتُ الذَّاتِ، وَصِفَاتُ الْفِعْلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ مَا يُوصَفُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ، كَالْقُدْرَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْعَظَمَةِ، وَكُلُّ مَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ وَبِضِدِّهِ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ كَالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالسَّخَطِ وَالْغَضَبِ، فَمَا كَانَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ إِذَا حَلَفَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا إِلَّا وَعِلْمِ اللَّهِ، لِأَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَدِيمَةٌ كَذَاتِهِ، فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ صَارَ مُلْحَقًا بِالِاسْمِ وَالذَّاتِ فَيَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا، وَعِلْمُ اللَّهِ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ حَتَّى قَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ: لَا يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ نَوَاهُ لِعَدَمِ التَّعَارُفِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَكُونُ يَمِينًا كَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ، وَلِأَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَعْنًى غَيْرَ الذَّاتِ كَانَ ذِكْرُهَا كَذِكْرِ الذَّاتِ فَكَانَ قَوْلُهُ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِيَمِينٍ كَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ وَالْكَعْبَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهُ يَمِينٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَقُدْرَةِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ الْقَادِرِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ إِلَّا أَنَّهُ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ الْعِلْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ، وَمَعْلُومُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُهُ. قَالَ النَّسْفِيُّ: وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّهَا صِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَالْحَلِفُ بِهَا حَلِفٌ بِاللَّهِ، وَالْفَرْقُ الصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ يُرَادُ بِهَا غَيْرُ الصِّفَةِ، فَلِهَذَا لَمْ يَصِرْ بِهِ حَالِفًا بِالشَّكِّ، فَالرَّحْمَةُ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهَا الْمَطَرُ وَالنِّعْمَةُ وَيُرَادُ بِهَا الْجَنَّةُ، قَالَ تَعَالَى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 107] . وَالسَّخَطُ وَالْغَضَبُ يُرَادُ بِهِمَا مَا يَقَعُ مِنَ الْعَذَابِ فِي النَّارِ، وَالرِّضَا يُرَادُ بِهِ مَا يَقَعُ مِنَ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ فَصَارَ حَالِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ: (وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ بِيَمِينٍ كَالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ وَالْكَعْبَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهُ يَمِينٌ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لِمَا رَوَيْنَا، وَرُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمِعَ عُمَرَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمُ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ فَلْيَصْمُتْ» ، وَرُوِيَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» ، وَلِأَنَّ الْحَلِفَ تَعْظِيمُ الْمَحْلُوفِ بِهِ وَلَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى. وَإِذَا لَمْ يَجُزِ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَلْزَمُهُ بِهِ كَفَارَّةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَمْ يَهْتِكْ حُرْمَةً مُنِعَ مِنْ هَتْكِهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا، أَمَّا النَّبِيُّ وَالْكَعْبَةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَهُوَ الْمَجْمُوعُ الْمَكْتُوبُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّهُ مِنَ الْقَرْءِ وَهُوَ الْجَمْعُ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الضَّمَّ وَالتَّرْكِيبَ وَذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْحَادِثِ فَيَكُونُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرَ صِفَاتِهِ، لِأَنَّ صِفَاتِهِ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ أَزَلِيَّةٌ كَهُوَ، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِكَلَامِ اللَّهِ كَانَ يَمِينًا لِأَنَّ كَلَامَهُ صِفَةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنَ اللُّغَاتِ، لِأَنَّ اللُّغَاتِ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ أَوِ اصْطِلَاحِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةً، بَلْ هِيَ عِبَارَةً عَنِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى. هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَكَذَلِكَ دِينُ اللَّهِ وَطَاعَةُ اللَّهِ وَشَرَائِعُهُ وَأَنْبِيَاؤُهُ وَمَلَائِكَتُهُ وَعَرْشُهُ وَحُدُودُهُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْبَيْتُ وَالْكَعْبَةُ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَالْقَبْرُ وَالْمِنْبَرُ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ وَلَا بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ وَلَا تَحْلِفُوا إِلَّا بِاللَّهِ» قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَحْلِفُ إِلَّا بِاللَّهِ مُتَجَرِّدًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ. وَأَمَّا الْبَرَاءَةُ مِنْ ذَلِكَ فَيَمِينٌ كَقَوْلِهِ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا بَرِيءٌ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ مِنَ الْكَعْبَةِ أَوْ مِنْ هَذِهِ الْقِبْلَةِ أَوْ مِنَ النَّبِيِّ، لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُفْرٌ، وَكَذَا إِذَا قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا فِي الْمُصْحَفِ أَوْ مِنْ صَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ مِنَ الصَّلَاةِ أَوْ مِنَ الْحَجِّ، وَأَصْلُهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ اعْتِقَادُهُ كُفْرًا وَلَا تُحِلُّهُ الشَّرِيعَةُ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ إِذَا حَنِثَ، لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا تَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ كَحُرْمَةِ اسْمِهِ، وَمِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وَحَقُّ اللَّهِ لَيْسَ بِيَمِينٍ، وَالْحَقُّ يَمِينٌ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، أَوْ هُوَ زَانٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ، وَلَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَهُوَ يَمِينٌ، وَلَوْ قَالَ: لَعَمْرُ اللَّهِ، أَوْ وَايْمِ اللَّهِ، أَوْ وَعَهْدِ اللَّهِ، أَوْ وَمِيثَاقِهِ، أَوْ عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَلَوْ قَالَ: أَحْلِفُ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ زَادَ فِيهَا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَمِينٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] هَذَا: أَنَا أَعْبُدُ الصَّلِيبَ أَوْ أَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ فَعَلْتُ كَذَا، وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ الْغَالِبُ: إِنْ فَعَلْتَ كَذَا، فَهُوَ يَمِينٌ لِلْعُرْفِ. وَلَوْ قَالَ: (وَحَقِّ اللَّهِ، لَيْسَ بِيَمِينٍ) ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَمِينٌ، لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ حَقِيقَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ الْحَقِّ، وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِهِ مُعْتَادٌ وَهُوَ الْمُخْتَارُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ، فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ وَالطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ لَيْسَ يَمِينًا. قَالَ: (وَالْحَقِّ يَمِينٌ) لِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ تَأْكِيدُ الْكَلَامِ وَتَحْقِيقُ الْوَعْدِ. وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: حَقًّا كَقَوْلِهِ وَاجِبًا عَلَيَّ فَهُوَ يَمِينٌ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ أَوْ هُوَ زَانٍ أَوْ شَارِبُ خَمْرٍ، فَلَيْسَ بِيَمِينٍ) ، وَكَذَلِكَ غَضَبُ اللَّهِ وَسَخَطُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الْأَيْمَانِ، (وَلَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ فَهُوَ يَمِينٌ) لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ حَلَفَ بِالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ فَهُوَ يَمِينٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ دَلِيلًا عَلَى الْكُفْرِ فَقَدِ اعْتَقَدَ الشَّرْطَ وَاجِبَ الِامْتِنَاعِ، وَقَدْ أَمْكَنَ جَعْلُهُ وَاجِبًا لِغَيْرِهِ بِجَعْلِهِ يَمِينًا كَمَا قُلْنَا فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ فَعَلَهُ فَهُوَ غَمُوسٌ، ثُمَّ قِيلَ: لَا يُكَفِّرُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَقِيلَ: يُكَفِّرُ كَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ. إِذِ التَّعْلِيقُ بِالْمَاضِي بَاطِلٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَمِينٌ لَا يُكَفِّرُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُكَفِّرُ بِالْحِنْثِ يُكَفِّرُ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى الْحِنْثِ فَقَدْ رَضِيَ بِالْكُفْرِ، وَعَلَى هَذَا هُوَ مَجُوسِيٌّ أَوْ كَافِرٌ وَنَحْوُهُ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: لَعَمْرُ اللَّهِ، أَوْ وَايْمُ اللَّهِ، أَوْ وَعَهْدِ اللَّهِ، أَوْ وَمِيثَاقِهِ، أَوْ عَلَيَّ نَذْرٌ، أَوْ نَذْرُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ) ، أَمَّا عَمْرُ اللَّهِ فَهُوَ بَقَاءٌ، وَالْبَقَاءُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ فَقَالَ: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] ، وَأَمَّا وَايْمُ اللَّهِ فَمَعْنَاهُ أَيْمَنُ اللَّهِ وَهُوَ جَمْعُ يَمِينٍ وَأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ، وَأَمَّا عَهْدُ اللَّهِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] ، ثُمَّ قَالَ: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ} [النحل: 91] سَمَّى الْعَهْدَ يَمِينًا، وَالْمِيثَاقُ هُوَ الْعَهْدُ عُرْفًا وَالنَّذْرُ يَمِينٌ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّاهُ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمَنْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» . قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: أَحْلِفُ، أَوْ أُقْسِمُ، أَوْ أَشْهَدُ، أَوْ زَادَ فِيهَا ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَمِينٌ) وَكَذَا قَوْلُهُ أَعْزِمُ، أَوْ أَعْزِمُ بِاللَّهِ، أَوْ عَلَيَّ يَمِينٌ، أَوْ يَمِينُ اللَّهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إِذَا قَالَ أَعْزِمُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَمْلِكُهُ فَإِنِ اسْتَبَاحَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُمَا،   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ أَعْزِمُ بِاللَّهِ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ زُفَرُ: أَحْلِفُ وَأُقْسِمُ وَأَشْهَدُ لَا يَكُونُ يَمِينًا إِلَّا أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ احْتَمَلَ الْحَلِفَ وَالْقَسَمَ بِاللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ بِغَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِالشَّكِّ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} [التوبة: 96] ، وَقَالَ: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] ، ثُمَّ قَالَ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16] ، وَقَالَ: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] ، قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ، وَلِأَنَّ حَذْفَ بَعْضِ الْكَلَامِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعَرَبِ تَخْفِيفًا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ كَالْمَعْلُومِ لِأَنَّ الْحَلِفَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّهِ فَكَأَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ، وَأَمَّا أَعْزِمُ أَوْ أَعْزِمُ بِاللَّهِ فَالْعَزْمُ هُوَ الْإِيجَابُ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227] ، وَالْإِيجَابُ هُوَ الْيَمِينُ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا أَعْرِفُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَدْ رَوَاهُ عَنْهُ الْحَسَنُ، وَأَمَّا عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ فَلِأَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِإِيجَابِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ، وَالْيَمِينُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاللَّهِ، وَهُوَ مُعْتَادٌ عِنْدَ الْعَرَبِ، قَالَ: فَقَالَتْ يَمِينُ اللَّهِ مَا لَكَ حِيلَةُ وَوَجْهِ اللَّهِ يَمِينٌ، رَوَاهُ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الذَّاتُ، قَالَ تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] ، وَقَالَ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] . وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ لِعَدَمِ الْعُرْفُ بِذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى، يُقَالُ: فَعَلَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى: أَيْ ثَوَابِهِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِالشَّكِّ. وَرَوَى ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا مِنْ أَيْمَانِ السَّفَلَةِ. يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْجَارِحَةَ فَيَكُونُ يَمِينًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: (وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا يَمْلِكُهُ فَإِنِ اسْتَبَاحَهُ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ) وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: مَالِي عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ ثَوْبِي، أَوْ جَارِيَتِي فُلَانَةٌ، أَوْ رُكُوبُ هَذِهِ الدَّابَّةِ وَنَحْوُهُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَحْرِيمُ الْحَلْالِ يَمِينٌ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» ، وَلِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حُرْمَتِهِ عَلَيْهِ فَقَدْ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْهُ، وَأَمْكَنَ جَعْلُهُ حَرَامًا لِغَيْرِهِ بِإِثْبَاتِ مُوجَبِ الْيَمِينِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ أَيْضًا يَمْنَعُهُ عَنْهُ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ تَحَرُّزًا عَنْ إِلْغَاءِ كَلَامِهِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ، لِأَنَّ لَهُ نَظِيرًا فِي الشَّرْعِ وَهُوَ أَرْفَقُ، ثُمَّ الْحُرْمَةُ تَتَنَاوَلُ الْكُلَّ جُزْءًا جُزْءًا، فَأَيُّ جُزْءٍ اسْتَبَاحَ مِنْهُ حَنِثَ، كَقَوْلِهِ: لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ، وَلَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقُ بِهِ لَا حَنِثَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ حُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ عُرْفًا لَا حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: كُلُّ حَلَالٍ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُمَا) ، وَقَالَ زُفَرُ: يَحْنَثُ كَمَا فَرَغَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ فِعْلًا حَلَالًا وَهُوَ التَّنَفُّسُ. وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْبِرُّ وَلَا يَحْصُلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْعُمُومِ فَيَسْقُطُ الْعُمُومُ فَيَنْصَرِفُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُتَنَاوَلُ عَادَةً، وَلَوْ نَوَى امْرَأَتَهُ دَخَلَتْ مَعَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَصَارَ مُولِيًا، وَإِنْ نَوَى امْرَأَتَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 وَمَنْ حَلَفَ حَالَةَ الْكُفْرِ لَا كَفَّارَةَ فِي حِنْثِهِ، وَمَنْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ. فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ، فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَا يَحْنَثُ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَحْدَهَا صُدِّقَ وَلَا يَحْنَثُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ. قَالَ مَشَايِخُنَا هَذَا فِي عُرْفِهِمْ، أَمَّا فِي عُرْفِنَا يَكُونُ طَلَاقًا عُرْفًا، وَيَقَعُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوهُ فَصَارَ كَالصَّرِيحِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى، وَلَوْ قَالَ: مَالُ فُلَانٍ عَلَيَّ حَرَامٌ فَأَكَلَهُ أَوْ أَنْفَقَهُ حَنِثَ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِيَ لِأَنَّهُ حَرَامٌ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرْتَكِبُ حَرَامًا فَهُوَ عَلَى الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبًا فَعَلَى الْقُبْلَةِ الْحَرَامِ وَأَشْبَاهِهَا، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ حَرَامًا فَوَطِئَ امْرَأَتَهُ حَالَةَ الْحَيْضِ وَالظِّهَارِ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِعَارِضٍ لَا أَنَّ الْوَطْءَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ. قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ حَالَةَ الْكُفْرِ لَا كَفَّارَةَ فِي حِنْثِهِ) لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْيَمِينِ لِأَنَّهَا تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا تَعْظِيمَ مَعَ الْكُفْرِ وَلَيْسَ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَتَبْطُلُ الْيَمِينُ بِالرِّدَّةِ، فَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَهَا لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُهَا لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ الْأَعْمَالَ. قَالَ: (وَمَنْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِيَمِينِهِ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ) وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الِاتِّصَالِ لِأَنَّ بِالسُّكُوتِ يَتِمُّ الْكَلَامُ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَعْدَهُ يَكُونُ رُجُوعًا وَلَا رُجُوعَ فِي الْيَمِينِ. [فصل في الْخُرُوجِ] فَصْلٌ الْخُرُوجُ: هُوَ الِانْفِصَالُ مِنَ الدَّاخِلِ إِلَى الْخَارِجِ، وَالدُّخُولُ: الِانْفِصَالُ مِنَ الْخَارِجِ إِلَى الدَّاخِلِ، فَعَلَى أَيِّ وَصْفٍ وُجِدَ كَانَ خُرُوجًا، سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا مِنَ الْبَابِ أَوْ مِنَ السَّطْحِ أَوْ مِنْ ثُقْبٍ فِي الْحَائِطِ أَوْ تَسَوَّرَ الْحَائِطَ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ مِنْ بَابِ الدَّارِ، فَلَا يَحْنَثُ إِلَّا بِالْخُرُوجِ مِنَ الْبَابِ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَخْرُجُ فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَخْرَجَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ الْفِعْلَ مُضَافٌ إِلَيْهِ بِالْأَمْرِ كَمَا إِذَا رَكِبَ دَابَّةً فَخَرَجَتْ بِهِ. (وَإِنْ أَخْرَجَهُ مُكْرَهًا لَا يَحْنَثُ) لِعَدَمِ إِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ لِعَدَمِ الْأَمْرِ وَهُوَ مُخْرَجٌ وَلَيْسَ بِخَارِجٍ. وَقِيلَ إِنْ قَدَرَ عَلَى الِامْتِنَاعِ حَنِثَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ مَعَ الْقُدْرَةِ صَارَ كَأَنَّهُ فَعَلَ الدُّخُولَ كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ. وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ حَمَلَهُ بِرِضَاهُ لَا بِأَمْرِهِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَاعِلٍ لِلدُّخُولِ، وَالْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الرِّضَا وَالْإِرَادَةُ، أَوْ نَقُولُ: الْفِعْلُ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَيْهِ بِأَمْرِهِ. وَقِيلَ: يَحْنَثُ وَالْحَلِفُ عَلَى الدُّخُولِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا إِلَى جِنَازَةٍ فَخَرَجَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَتَى حَاجَةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ الذَّهَابُ فِي الْأَصَحِّ، وَفِي الْإِتْيَانِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا حَلَفَ لَا تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ يَكْفِيهِ إِذْنٌ وَاحِدٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا إِلَى جِنَازَةٍ فَخَرَجَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَتَى حَاجَةً أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْخُرُوجُ لِغَيْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا خَرَجَ إِلَى الْجِنَازَةِ وَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْيَمِينِ، وَالْإِتْيَانُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِخُرُوجٍ. (حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ حَنِثَ) لِوُجُودِ الْخُرُوجِ قَاصِدًا إِلَيْهَا. قَالَ: (وَكَذَلِكَ الذَّهَابُ فِي الْأَصَحِّ) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الِانْتِقَالِ وَالذَّهَابِ مِنْ مَوْضِعِهِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] أَيْ يُزِيلَهُ عَنْكُمْ فَأَشْبَهَ الْخُرُوجَ، (وَفِي الْإِتْيَانِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَدْخُلَهَا) لِأَنَّ الْإِتْيَانَ الْوُصُولُ، قَالَ تَعَالَى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ} [الشعراء: 16] وَالْمُرَادُ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ: خَرَجْتُ إِلَى بَلَدِ كَذَا وَلَمْ آتِهِ، أَيْ قَصَدْتُهُ بِالْخُرُوجِ وَلَمْ أَصِلْ إِلَيْهِ، وَالذَّهَابُ كَالْخُرُوجِ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَيْضًا. حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ وَهُوَ قَاعِدٌ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خَارِجًا، وَلَوْ كَانَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ أَوْ عَلَى جَنْبِهِ يَحْنَثُ بِخُرُوجِ أَكْثَرِ جَسَدِهِ إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَخْرُجُ مِنْ دَارِ كَذَا فَهُوَ عَلَى الْخُرُوجِ بِبَدَنِهِ، وَلَوْ قَالَ: مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى النُّقْلَةِ بِبَدَنِهِ وَأَهْلِهِ، هَذَا هُوَ الْعُرْفُ. وَلَوْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ فِي غَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ حَقًّا فِي اسْتِعْمَالِهِمْ دُونَ الْوَاجِبِ كَزِيَارَةِ الْوَالِدَيْنِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَأَعْرَاسِهِمْ وَعِيَادَتِهِمْ وَنَحْوِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ حَلَفَ لَا تَخْرُجُ إِلَّا إِلَى أَهْلِهَا فَأَبَوَاهَا لَا غَيْرُ، فَإِنْ عُدِمَا فَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا وَأُمُّهَا الْمُطَلَّقَةُ أَهْلُهَا، فَإِنْ كَانَ أَبُوهَا مُتَزَوِّجًا بِغَيْرِ أُمِّهَا وَأُمُّهَا كَذَلِكَ فَأَهْلُ مَنْزِلِ أَبِيهَا لَا مَنْزِلِ أُمِّهَا. حَلَفَ لَا يَخْرُجُ إِلَى بَغْدَادَ فَخَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُجَاوِزِ الْعِمْرَانَ قَاصِدًا بَغْدَادَ، بِخِلَافِ الْخُرُوجِ إِلَى الْجِنَازَةِ حَيْثُ يَحْنَثُ بِنَفْسِ الْخُرُوجِ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ إِلَى بَغْدَادَ سَفَرٌ، وَلَا سَفَرَ حَتَّى يُجَاوِزَ الْعُمْرَانَ، وَلَا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ إِلَى الْجِنَازَةِ. (حَلَفَ لَا تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِذْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) لِأَنَّ النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ عُمُومَ الدَّخَلَاتِ إِلَّا دَخْلَةً مَقْرُونَةً بِإِذْنِهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: إِلَّا رَاكِبَةً، وَإِلَّا مُنْتَقِبَةً فَإِنَّهُ يَشْتَرِطُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ كَذَا هَذَا، وَلَوْ نَوَى الْإِذْنَ مَرَّةً صُدِّقَ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلُ كَلَامِهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَكَذَلِكَ الْيَمِينُ عَلَى الْخُرُوجِ، وَلَوْ قَالَ: كُلَّمَا أَرَدْتِ. فَخَرَجَتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ نَهَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَخَرَجَتْ حَنِثَ. (وَلَوْ قَالَ: إِلَّا أَنْ آذَنَ لَكِ يَكْفِيهِ إِذْنٌ وَاحِدٌ) وَكَذَلِكَ حَتَّى آذَنَ لَكِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَصَارَتْ صَحْرَاءَ وَدَخَلَهَا حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ: دَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَفِي الْبَيْتِ لَا يَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لَمْ يَحْنَثْ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ وَالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَقَامَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ، وَلَوْ دَخَلَ دِهْلِيزَهَا إِنْ كَانَ لَوْ أُغْلِقَ الْبَابُ   [الاختيار لتعليل المختار] الْإِذْنَ غَايَةً لِيَمِينِهِ لِأَنَّهَا كَلِمَةُ الْغَايَةِ فَانْتَهَتِ الْيَمِينُ لِوُجُودِ الْغَايَةِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ صَحَّ كَمَا لَوْ كَانَتْ صَمَّاءَ، وَقِيلَ: لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ حُصُولِ الْعِلْمِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ فَدَخَلَتْ حَنِثَ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِذْنَ إِطْلَاقٌ وَإِنَّهُ يَتِمُّ الْإِذْنُ كَالرِّضَا. وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِعْلَامُ وَلَمْ يُوجَدْ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِعْلَامُ بِدُونِ الْعِلْمِ وَالْإِفْهَامِ، بِخِلَافِ الرِّضَا فِيمَا إِذَا قَالَ: إِلَّا بِرِضَايَ، ثُمَّ قَالَ: رَضِيتُ وَلَمْ تَسْمَعْ، لِأَنَّ الرِّضَا إِزَالَةُ الْكَرَاهَةِ، وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ السَّمَاعِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَلَوْ قَالَ: إِلَّا بِأَمْرِي فَأَمَرَهَا وَلَمْ تَسْمَعْ فَدَخَلَتْ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِلْزَامُ الْمَأْمُورِ فَلَا بُدَّ مِنَ السَّمَاعِ كَأَوَامِرِ الشَّرْعِ. حَلَفَ لَا تَخْرُجُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَخَرَجَتْ وَهُوَ يَرَاهَا فَلَمْ يَمْنَعْهَا لَمْ يَحْنَثْ، فَإِنْ أَذِنَ لَهَا بِالْخُرُوجِ فَخَرَجَتْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهَا فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهَا تَخْرُجُ فَكَانَ الْخُرُوجُ بِعِلْمِهِ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَصَارَتْ صَحْرَاءَ وَدَخَلَهَا حَنِثَ، وَلَوْ قَالَ دَارًا لَمْ يَحْنَثْ، وَفِي الْبَيْتِ لَا يَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ) لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ حَقِيقَةً وَعُرْفًا، وَالْبِنَاءُ صِفَةٌ فِيهَا، لِأَنَّ قِوَامَ الْبِنَاءِ بِالْعَرْصَةِ، وَلِهَذَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الدَّارِ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَهَابِ الْبِنَاءِ، وَفِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ فِي نَدْبِهِمُ الدُّورَ الدَّارِسَةَ أَقْوَى شَاهِدٍ، غَيْرَ أَنَّ الْوَصْفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْغَائِبِ وَهُوَ مُنْكَرُ لَغْوٌ فِي الْحَاضِرِ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَأَمَّا الْبَيْتُ فَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ، وَالْعَرْصَةُ إِنَّمَا تَصِيرُ صَالِحَةً لِلْبَيْتُوتَةِ بِالْبِنَاءِ وَأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِهِ حَتَّى قَالُوا: لَوْ خَرِبَ السَّقْفُ وَبَقِيَتِ الْحِيطَانُ يَحْنَثُ لِإِمْكَانِ الْبَيْتُوتَةِ فِيهِ، وَلَوْ بُنِيَ الْبَيْتُ بَعْدَ مَا انْهَدَمَ لَمْ يَحْنَثْ بِدُخُولِهِ. وَفِي الدَّارِ يَحْنَثُ لِزَوَالِ اسْمِ الْبَيْتِ بَعْدَ الِانْهِدَامِ، وَبَقَاءِ اسْمِ الدَّارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَوْ جُعِلَتِ الدَّارُ بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ مَسْجِدًا أَوْ بَيْتًا فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ لِتَبَدُّلِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ بِاعْتِرَاضِ اسْمٍ آخَرَ وَصِفَةٍ أُخْرَى، وَكَذَا لَوْ صَارَتْ بَحْرًا أَوْ نَهْرًا، وَكَذَا لَوْ بُنِيَتْ دَارًا أُخْرَى بَعْدَ الْبُسْتَانِ وَالْحَمَّامِ لَا يَحْنَثُ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لَمْ يَحْنَثْ بِالْكَعْبَةِ وَالْمَسْجِدِ وَالْبَيْعَةِ وَالْكَنِيسَةِ) لِعَدَمِ إِطْلَاقِ اسْمِ الْبَيْتِ عَلَيْهَا عُرْفًا، وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ وَأُعِدَّ لِلْبَيْتُوتَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ فِيهَا. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ وَهُمَا فِي سَفَرٍ عَلَى الْخَيْمَةِ وَالْفُسْطَاطِ وَالْقُبَّةِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ، فَإِنْ نَوَى أَحَدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَقَامَ عَلَى سَطْحِهَا حَنِثَ) لِأَنَّهُ مِنَ الدَّارِ كَسَطْحِ الْمَسْجِدِ فِي حَقِّ الْمُعْتَكِفِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ إِذَا أُغْلِقَ الْبَابُ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ فَهُوَ مِنَ الدَّارِ. (وَلَوْ دَخَلَ دِهْلِيزَهَا إِنْ كَانَ لَوْ أَغْلَقَ الْبَابَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 كَانَ دَاخِلًا حَنِثَ وَإِلَا فَلَا، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ. فَصْلٌ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ لِلْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَبِثَ سَاعَةً حَنِثَ، وَكَذَلِكَ رُكُوبُ الدَّابَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَلَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ أَجْمَعَ.   [الاختيار لتعليل المختار] كَانَ دَاخِلًا حَنِثَ) لِأَنَّهُ مِنَ الدَّارِ (وَإِلَّا فَلَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدَّارِ، وَلَوْ أَدْخَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ دُونَ الْأُخْرَى إِنِ اسْتَوَى الْجَانِبَانِ أَوْ كَانَ الْجَانِبُ الْآخَرُ أَسْفَلَ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ الْجَانِبُ الدَّاخِلُ أَسْفَلَ حَنِثَ، لِأَنَّ اعْتِمَادَ جَمِيعِ بَدَنِهِ يَكُونُ عَلَى رِجْلِهِ الدَّاخِلَةِ فَيَكُونُ دَاخِلًا. (وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْقُعُودِ) لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الدُّخُولُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بَعْدَ الْيَمِينِ. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتَ فُلَانٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَدَخَلَ بَيْتًا هُوَ سَاكِنُهُ حَنِثَ، سَوَاءٌ كَانَ مِلْكَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُ يُضَافُ إِلَيْهِ عُرْفًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ أَوْ لَا يَسْتَخْدِمُ عَبْدَهُ حَيْثُ لَا يَحْنَثُ بِالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ الْمُسْتَأْجَرَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُضَافُ إِلَيْهِ عَادَةً. وَلَوْ دَخَلَ دَارًا هِيَ مِلْكُ فُلَانٍ يَسْكُنُهَا غَيْرُهُ فِي رِوَايَةٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِالسُّكْنَى، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى الْمَالِكِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَإِلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ، وَفُلَانٌ سَاكِنُهَا لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَزْرَعُ أَرْضَهُ فَزَرَعَ أَرْضًا مُشْتَرَكَةً حَنِثَ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْأَرْضِ أَرْضٌ وَلَيْسَ بَعْضُ الدَّارِ دَارًا تَسْمِيَةً وَعُرْفًا. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانَةٍ فَدَخَلَ دَارَهَا وَزَوْجُهَا يَسْكُنُهَا لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الدَّارَ تُنْسَبُ إِلَى السَّاكِنِ. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ وَلَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا وَدَارُ غَلَّةٍ فَدَخَلَ دَارَ الْغَلَّةِ لَا يَحْنَثُ. حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارًا فَدَخَلَ بُسْتَانًا فِي تِلْكَ الدَّارِ، إِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ كَانَ فِي وَسَطِهَا حَنِثَ. [فصل الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ] فَصْلٌ (حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الثَّوْبَ وَهُوَ لَابِسُهُ فَنَزَعَهُ لِلْحَالِ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ لَبِثَ سَاعَةً حَنِثَ، وَكَذَلِكَ رُكُوبُ الدَّابَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ) وَقَالَ زُفَرُ: يَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِوُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ. وَلَنَا أَنَّ زَمَانَ تَحَقُّقِ الْبِرِّ مُسْتَثْنًى لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْقَدُ لِلْبِرِّ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَبِثَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَابِسًا وَرَاكِبًا وَسَاكِنًا فَيَتَحَقَّقُ الشَّرْطُ فَيَحْنَثُ. (حَلَفَ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ فَلَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ بِأَهْلِهِ وَمَتَاعِهِ أَجْمَعَ) لِأَنَّ السُّكْنَى الْكَوْنُ فِي الْمَكَانِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِقْرَارِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ جَلَسَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ خَانٍ أَوْ بَاتَ فِيهِمَا لَا يُعَدُّ سَاكِنًا، وَالسُّكْنَى عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْرَارِ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَهْلِ وَالْمَتَاعِ وَالْأَثَاثِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يُعَدُّ سَاكِنًا فِي الدَّارِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 قَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَتَغَدَّ عِنْدِي، فَقَالَ: إِنْ تَغَدَيْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَرَجَعَ وَتَغَدَّى فِي بَيْتِهِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ أَرَادَتِ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا: إِنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ تَطْلُقْ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِاعْتِبَارِ أَهْلِهِ، يُقَالُ: فُلَانٌ يَسْكُنُ فِي مَحَلَّةِ كَذَا أَوْ سِكَّةِ كَذَا أَوْ دَارِ كَذَا وَأَكْثَرُ نَهَارِهِ فِي السُّوقِ فَمَهْمَا بَقِيَ فِي الدَّارِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَالسُّكْنَى بَاقِيَةٌ، لِأَنَّ السُّكْنَى تَثْبُتُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَلَا تَنْتَفِي إِلَّا بِنَفْيِ الْكُلِّ حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ بَقِيَ وَتَدٌ حَنِثَ لِمَا قُلْنَا، وَعَنْهُ لَوْ بَقِيَ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالْمِكْنَسَةِ وَالْوَتَدِ لَمْ يَحْنَثْ لِانْتِفَاءِ اسْمِ السُّكْنَى بِذَلِكَ. وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْأَكْثَرَ إِقَامَةً لَهُ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ نَقْلُ الْكُلِّ. وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ نَقْلَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ آلَاتِ الِاسْتِعْمَالِ دُونَ مَا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَقَدِ اسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ. وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا فَأَخَذَ فِي نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ مِنْ حِينِ حَلَفَ حَتَّى بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ شَهْرًا لَمْ يَحْنَثْ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ آخَرَ أَيَّامًا حَتَّى وَجَدَهُ لَمْ يَحْنَثْ إِذَا لَمْ يَتْرُكِ الطَّلَبَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ بِلَا تَأْخِيرٍ، وَلَوِ انْتَقَلَ إِلَى السِّكَّةِ أَوْ إِلَى الْمَسْجِدِ قِيلَ يَبَرُّ كَمَا فِي مَنْزِلٍ آخَرَ، وَقِيلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ بَقِيَ وَطَنُهُ الْأَوَّلُ كَالْمُسَافِرِ إِذَا خَرَجَ بِعِيَالِهِ مِنْ مِصْرِهِ، فَمَا لَمْ يَتَّخِذْ وَطَنًا آخَرَ حَتَّى مَرَّ بِمِصْرِهِ أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّ وَطَنَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ كَذَا هَذَا. وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ: لَوِ انْتَقَلَ إِلَى السِّكَّةِ وَسَلَّمَ الدَّارَ إِلَى صَاحِبِهَا أَوْ آجَرَهَا وَسَلَّمَهَا بَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّخِذْ دَارًا أُخْرَى لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ سَاكِنًا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ فِي هَذَا الْمِصْرِ فَانْتَقَلَ بِنَفْسِهِ وَتَرَكَ أَهْلَهُ وَمَتَاعَهُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ أَهْلُهُ فِي مِصْرٍ وَهُوَ سَاكِنٌ فِي مِصْرٍ آخَرَ، وَالْقَرْيَةُ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ. (قَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَتَغَدَّ عِنْدِي، فَقَالَ: إِنْ تَغَدَّيْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَرَجَعَ وَتَغَدَّى فِي بَيْتِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ أَرَادَتِ الْخُرُوجَ فَقَالَ لَهَا: إِنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَجَلَسَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ لَمْ تَطْلُقْ) ، وَكَذَا لَوْ أَرَادَ ضَرْبَ عَبْدِهِ فَقَالَ لَهُ آَخَرُ: إِنْ ضَرَبْتَهُ فَعَبْدِي حُرٌّ، فَتَرَكَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ لَمْ يَعْتِقْ، وَهَذِهِ تُسَمَّى يَمِينُ الْفَوْرِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِامْتِنَاعُ عَنِ الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إِلَيْهِ وَهُوَ الْغَدَاءُ عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْجَوَابَ يُطَابِقُ السُّؤَالَ، وَكَذَلِكَ قَصْدُهُ مَنْعُهَا عَنِ الْخُرُوجِ الَّذِي هَمَّتْ بِهِ وَالضَّرْبِ الَّذِي هَمَّ وَبِذَلِكَ يَشْهَدُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ قَالَ: إِنْ ضَرَبْتَنِي فَلَمْ أَضْرِبْكَ، أَوْ إِنْ لَقَيْتُكَ فَلَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْكَ، أَوْ إِنْ كَلَّمْتَنِي فَلَمْ أُجِبْكَ، أَوْ إِنِ اسْتَعَرْتُ دَابَّتَكَ فَلَمْ تُعِرْنِي، أَوْ إِنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَلَمْ أَقْعُدْ، أَوْ إِنْ رَكِبْتُ دَابَّتَكَ فَلَمْ أُعْطِكَ دَابَّتِي - فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي نَظَائِرِهِ. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُجَامِعَ امْرَأَتَهُ فَلَمْ تُطَاوِعْهُ فَقَالَ: إِنْ لَمْ تَدْخُلِي مَعِي الْبَيْتَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَدَخَلَتْ بَعْدَ مَا سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ طَلُقَتْ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الدُّخُولُ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَقَدْ فَاتَ فَصَارَ شَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَمْ يَحْنَثْ مَدْيُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَدْيُونٍ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ لَمْ يَحْنَثْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَمِنْ حِينِ حَلَفَ. حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إِلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ،   [الاختيار لتعليل المختار] الدُّخُولِ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَقَدْ وُجِدَ. قَالَ: (وَمَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَمْ يَحْنَثْ مَدْيُونًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَدْيُونٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، أَمَّا إِذَا كَانَ مُسْتَغْرَقًا بِالدُّيُونِ فَلِأَنَّ عِنْدَهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى فِيهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي بَابِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَغْرَقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى فَإِنَّهُ يُضَافُ إِلَى الْعَبْدِ فَلَا يَحْنَثُ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ لِاخْتِلَالِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَوْلَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إِذَا نَوَاهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ بِدُونِ النِّيَّةِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُمَا لِلْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا، إِلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ: الْإِضَافَةُ إِلَى الْمَوْلَى اخْتَلَّتْ فَاحْتَاجَ إِلَى النِّيَّةِ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ فُلَانٍ فَهُوَ مَالُهُ صَنَعَ فِي اكْتِسَابِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا مَلَكَهُ بِفِعْلِهِ كَالْقَبُولِ فِي الْعُقُودِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَوِ الْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِهَا وَأَخْذِ الْمُبَاحَاتِ. فَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَيَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَلَا يَكُونُ كَسْبَهُ. وَلَوْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَانْتَقَلَ كَسْبُهُ إِلَى وَارِثِهِ فَأَكَلَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ لِأَنَّهُ كَسَبَهُ وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ كَسْبٌ، وَلَوِ انْتَقَلَ إِلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ صَارَ كَسْبَ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لَا آكُلُ مِمَّا تَمْلِكُ أَوْ مِمَّا مَلَكْتَ أَوْ مِنْ مِلْكِكَ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ الْحَالِفُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الْمِلْكَ إِذَا تَجَدَّدَ عَلَى عَيْنٍ بَطَلَتِ الْإِضَافَةُ الْأُولَى وَصَارَ مِلْكًا لِلثَّانِي، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مِيرَاثِ فُلَانٍ فَمَاتَ فَأَكَلَ مِنْ مِيرَاثِهِ حَنِثَ، وَإِنْ مَاتَ وَارِثُهُ فَانْتَقَلَ إِلَى وَارِثِهِ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الْمِيرَاثَ الْآخَرَ نَسَخَ الْمِيرَاثَ الْأَوَّلَ فَبَطَلَتِ الْإِضَافَةُ إِلَى الْأَوَّلِ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ مَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ، يُقَالُ: مَا تَكَلَّمَ وَإِنَّمَا قَرَأَ أَوْ سَبَّحَ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَحْنَثَ فِيهِمَا لِأَنَّهُ كَلَامٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَا يُنَافِي الْخَرَسَ وَالسُّكُوتَ، وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا، وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ فِي الصَّلَاةِ وَيَحْنَثُ خَارِجَهَا، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّلَاةِ مُفْسِدٌ فَلَمْ يُجْعَلْ كَلْامًا ضَرُورَةً، وَلَا ضَرُورَةَ خَارِجِ الصَّلَاةِ. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: إِنْ حَلَفَ بِالْعَرَبِيَّةِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ حَلَفَ بِالْفَارِسِيَّةِ لَا يَحْنَثُ فِيهِمَا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا. قَالَ: (حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ شَهْرًا فَمِنْ حِينِ حَلَفَ) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الشَّهْرَ تَأَبَّدَتِ الْيَمِينُ، فَلَمَّا ذَكَرَ الشَّهْرَ خَرَجَ مَا وَرَاءَهُ عَنِ الْيَمِينِ وَبَقِيَ الشَّهْرُ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرِ الشَّهْرَ لَا يَتَأَبَّدُ فَكَانَ التَّعْيِينُ إِلَيْهِ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ إِلَّا أَنَّهُ نَائِمٌ حَنِثَ) وَكَذَا لَوْ كَانَ أَصَمَّ لِأَنَّهُ كَلَّمَهُ وَوَصَلَ إِلَى سَمْعِهِ، وَعَدَمُ فَهْمِهِ لِنَوْمِهِ وَصَمَمِهِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا كَانَ مُتَغَافِلًا أَوْ مَجْنُونًا. وَفِي رِوَايَةٍ: اشْتَرَطَ أَنْ يُوقِظَهُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 وَلَوْ كَلَّمَ غَيْرَهُ وَقَصَدَ أَنْ يَسْمَعَ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ، وَإِنْ نَوَاهُمْ دُونَهُ لَمْ يَحْنَثْ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ إِذَا أَيْقَظَهُ فَقَدْ أَسْمَعُهُ، وَلَوْ نَادَاهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَسْمَعُ فِي مِثْلِهِ الصَّمْتُ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ بَعِيدًا لَوْ أَصْغَى إِلَيْهِ لَا يَسْمَعُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْمُكَالَمَةَ عِبَارَةٌ عَنِ الِاسْتِمَاعِ إِلَّا أَنَّهُ بَاطِنٌ فَأُقِيمَ السَّبَبُ الْمُفْضِي إِلَى السَّمَاعِ مَقَامَهُ، وَهُوَ مَا لَوْ أَصْغَى إِلَيْهِ سَمِعَ، وَلَوْ دَخَلَ دَارًا لَيْسَ فِيهَا غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا، أَوْ مِنْ أَيْنَ هَذَا، حَنِثَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ لَهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ، وَلَوْ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مُخَاطِبٌ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ آخَرُ لَا يَحْنَثُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ. (وَلَوْ كَلَّمَ غَيْرَهُ وَقَصَدَ أَنْ يَسْمَعَ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ حَقِيقَةً (وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ) لِأَنَّ السَّلَامَ كَلَامٌ لِلْجَمِيعِ. (وَإِنْ نَوَاهُمْ دُونَهُ لَمْ يَحْنَثْ) دِيَانَةً لِعَدَمِ الْقَصْدِ وَلَا يُصَدَّقُ قَضَاءً، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لِلْجَمَاعَةِ، وَالنِّيَّةُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ، وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ أَوْ أَشَارَ أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ اسْمٌ لِحُرُوفٍ مَنْظُومَةٍ مَفْهُومَةٍ بِأَصْوَاتٍ مَسْمُوعَةٍ وَلَمْ تُوجَدْ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ إِمَامًا فَسَلَّمَ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ خَلْفَهُ لَا يَحْنَثُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَيْسَ بِكَلَامٍ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ هُوَ الْمُؤْتَمَّ فَكَذَلِكَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَارِجًا عَنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ بِسَلَامِهِ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَوْ سَبَّحَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ يَحْنَثُ، وَلَوْ قَرَعَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ الْبَابَ، فَقَالَ الْحَالِفُ: مَنْ هَذَا؟ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ يَحْنَثُ. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ: إِنْ قَالَ بِالْفَارِسِيَّةِ: كيست لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخِطَابٍ لَهُ، وَإِنْ قَالَ: كي تو يَحْنَثُ لِأَنَّهُ خِطَابٌ لَهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. وَلَوْ قَالَ لَيْلًا: لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا يَوْمًا فَهُوَ مِنْ حِينِ حَلَفَ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنَ الْغَدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ نَهَارًا: لَا أُكَلِّمُهُ لَيْلَةً فَمِنْ حِينِ حَلَفَ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنَ الْغَدِ، لِأَنَّ الْيَمِينَ إِذَا تَعَلَّقَتْ بِوَقْتٍ مُطْلَقٍ فَابْتِدَاؤُهَا عَقِيبَ الْيَمِينِ كَالْإِيلَاءِ، وَلِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِمُدَّةٍ لَا عَلَى طَرِيقِ الْقُرْبَةِ اخْتَصَّ بِعَقِيبِ السَّبَبِ كَالْإِجَارَةِ، وَلَوْ حَلَفَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ لَا يُكَلِّمُهُ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى بَقِيَّةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ إِلَى مَثَلِ تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ الْغَدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ لَا يُكَلِّمُهُ لَيْلَةً فَمِنْ حِينِ حَلَفَ إِلَى مَثْلِ تِلْكَ السَّاعَةِ مِنَ اللَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ، لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى يَوْمٍ مُنَكَّرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِهِ، وَذَلِكَ مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ فَتَدْخُلُ اللَّيْلَةُ ضَرُورَةً تَبَعًا، وَلَوْ قَالَ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ: لَا أُكَلِّمُهُ الْيَوْمَ فَعَلَى بَاقِي الْيَوْمِ، وَكَذَا فِي اللَّيْلَةِ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى زَمَانٍ مُعَيَّنٍ فَتَعَلَّقَ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ، إِذْ هُوَ الْمُرَادُ ظَاهِرًا وَعُرْفًا، لِأَنَّ مَا مَضَى مِنْهُ خَرَجَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ يُعْتَبَرُ مِلْكُهُ يَوْمَ الْحِنْثِ لَا يَوْمَ الْحَلِفِ، وَكَذَا الثَّوْبُ وَالدَّارُ، وَلَوْ قَالَ: عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا، أَوْ دَارَهُ هَذِهِ لَا يَحْنَثُ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَفِي الصَّدِيقِ وَالزَوْجِ وَالزَّوْجَةِ يَحْنَثُ بَعْدَ الْمُعَادَاةِ وَالْفِرَاقِ.   [الاختيار لتعليل المختار] عَنِ الْإِرَادَةِ ضَرُورَةً. قَالَ: (حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ. يُعْتَبَرُ مِلْكُهُ يَوْمَ الْحِنْثِ لَا يَوْمَ الْحَلِفِ، وَكَذَا الثَّوْبُ وَالدَّارُ) لِأَنَّ الْيَمِينَ عُقِدَتْ عَلَى مِلْكٍ مُضَافٍ إِلَى فُلَانٍ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْإِضَافَةُ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ لِلْمَنْعِ عَنِ الْحِنْثِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتَ الْحِنْثِ (وَلَوْ قَالَ: عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا أَوْ دَارَهُ هَذِهِ لَا يَحْنَثُ بَعْدَ الْبَيْعِ) لِانْقِطَاعِ الْإِضَافَةِ، وَلَا تَعَادِيَ لِذَاتِهَا لِسُقُوطِ عِبْرَتِهَا إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَيْنَهَا لِلتَّشَاؤُمِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ. (وَفِي الصَّدِيقِ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ يَحْنَثُ بَعْدَ الْمُعَادَاةِ وَالْفِرَاقِ) لِأَنَّ الزَّوْجَةَ وَالصَّدِيقَ يُقْصَدَانِ بِالْهِجْرَةِ لِأَذًى مِنْ جِهَتِهِمَا، فَكَانَتِ الْإِضَافَةُ لِلتَّعْرِيفِ وَكَانَتِ الْإِشَارَةُ أَوْلَى. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَحْنَثُ فِي الْعَبْدِ أَيْضًا إِذَا كَانَ مُعَيَّنًا، لِأَنَّ الْمَنْعَ قَدْ يَكُونُ لِعَيْنِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَالِكِهِ فَيَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِهِمَا، وَإِنْ أَطْلَقَ الْيَمِينَ فِي الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَحَنِثَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ أَذًى مِنْ جِهَتِهِمَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ الْإِضَافَةَ تَحْتَمِلُ التَّعْرِيفَ دُونَ الْهِجْرَانِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَيِّنْهُ فَلَا يَحْنَثُ، وَيَحْتَمِلُ الْهِجْرَانَ فَيَحْنَثُ، فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ وَلَا صَدِيقٌ فَاسْتَحْدَثَ ثُمَّ كَلَّمَهُ حَنِثَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ. حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْيَوْمَ شَهْرًا أَوِ الْيَوْمَ سَنَةً، فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ الشَّهْرِ وَتِلْكَ السَّنَةِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ شَهْرًا وَلَا سَنَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً. وَلَوْ قَالَ: لَا أُكَلِّمُكَ يَوْمَ السَّبْتِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ فَهُوَ عَلَى سَبْتَيْنِ، لِأَنَّ يَوْمَ السَّبْتِ لَا يَدُورُ فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَا أُكَلِّمُكَ يَوْمَ السَّبْتِ يَوْمَيْنِ كَانَ عَلَى سَبْتَيْنِ لِأَنَّ السَّبْتَ لَا يَكُونُ يَوْمَيْنِ فَكَانَ مُرَادُهُ سَبْتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَانَتْ كُلُّهَا يَوْمَ السَّبْتِ لِمَا بَيَّنَّا. حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ بِنْتَ فُلَانٍ فَوُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ بِتَزْوِيجِهَا، لِأَنَّ الْيَمِينَ انْصَرَفَتْ إِلَى الْمَوْجُودِ فِي الْحَالِ، وَلَوْ قَالَ: بِنْتًا لِفُلَانٍ، أَوْ بِنْتًا مِنْ بَنَاتِ فُلَانٍ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ. حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إِخْوَةَ فُلَانٍ فَهُوَ عَلَى الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْيَمِينِ لَا غَيْرُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يُكَلِّمْ كُلَّهُمْ، وَلَوْ قَالَ: لَا يُكَلِّمُ عَبِيدَ فُلَانٍ، أَوْ لَا يَرْكَبُ دَوَابَّ فُلَانٍ، أَوْ لَا يَلْبَسُ ثِيَابَ فُلَانٍ حَنِثَ بِفِعْلِ ثَلَاثَةٍ مِمَّا سَمَّى إِلَّا إِذَا نَوَى الْكُلَّ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَوَّلَ إِضَافَةُ تَعْرِيفٍ فَتَعَلَّقَتِ الْيَمِينُ بِأَعْيَانِهِمْ، فَمَا لَمْ يُكَلِّمِ الْكُلَّ لَا يَحْنَثُ، وَفِي الثَّانِيَةِ إِضَافَةُ مِلْكٍ لِأَنَّهَا لَا تُقْصَدُ بِالْهِجْرَانِ لِكَوْنِهَا جَمَادًا أَوْ لِخِسَّةِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَالِكُ فَتَنَاوَلَتِ الْيَمِينُ أَعْيَانًا مَنْسُوبَةً إِلَيْهِ وَقْتَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 فَصْلٌ [الْحِينُ وَالزَّمَانُ] الْحِيِنُ وَالزَّمَانُ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ فِي التَعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ وَالدَّهْرُ: الْأَبَدُ، وَدَهْرًا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالسُّنُونُ عَشَرَةٌ، وَفِي الْمُنَكَّرِ ثَلَاثَةٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْحِنْثِ، وَقَدْ ذَكَرَ النِّسْبَةَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ: كُلُّ شَيْءٍ سِوَى بَنِي آدَمَ فَهُوَ عَلَى وَاحِدٍ، وَإِذَا كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى بَنِي آدَمَ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةٍ. [فصل الْحِينُ وَالزَّمَانُ] ُ] (الْحِينُ وَالزَّمَانُ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ) مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَلِأَنَّهُ الْوَسَطُ مِمَّا فُسِّرَ بِهِ الْحِينُ فَكَانَ أَوْلَى، وَالزَّمَانُ كَالْحِينِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ. يُقَالُ: مَا رَأَيْتُكَ مُنْذُ حِينٍ وَمُنْذُ زَمَانٍ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنْ نَوَى شَيْئًا فَعَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ، وَقِيلَ: يُصَدَّقُ فِي الْحِينِ فِي الْوَقْتِ الْيَسِيرِ دُونَ الزَّمَانِ لِأَنَّهُ اسْتُعْمِلَ فِي الْحِينِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] . وَالْمُرَادُ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ، وَلَا عُرْفَ فِي الزَّمَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. قَالَ: (وَالدَّهْرُ: الْأَبَدُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صِيَامَ لِمَنْ صَامَ الدَّهْرَ» يَعْنِي جَمِيعَ الْعُمُرِ. (وَدَهْرًا، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَدْرِي مَا هُوَ) وَعِنْدَهُمَا هُوَ كَالزَّمَانِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَهُ. وَلَهُ أَنَّهُ لَا عُرْفَ فِيهِ فَيُتَّبَعُ، وَاللُّغَاتُ لَا تُعْرَفُ قِيَاسًا وَالدَّلَائِلُ فِيهِ مُتَعَارِضَةٌ فَتَوَقَّفَ فِيهِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ دَهْرًا وَالدَّهْرَ سَوَاءٌ، وَهَذَا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَ مَا نَوَى. قَالَ: (وَالْأَيَّامُ وَالشُّهُورُ وَالسُّنُونَ عَشْرَةٌ) وَكَذَا الْأَزْمِنَةُ. (وَ) الْجَمْعُ (فِي الْمُنَكَّرِ ثَلَاثَةٌ) وَقَالَا فِي الْأَيَّامِ سَبْعَةٌ، وَالشُّهُورِ اثْنَا عَشَرَ وَغَيْرِهِمَا جَمِيعُ الْعُمُرِ، لِأَنَّ اللَّامَ لِلْمَعْهُودِ، وَهِيَ أَيَّامُ الْأُسْبُوعِ وَشُهُورُ السَّنَةِ، وَلِأَنَّ الْأَيَّامَ تَنْتَهِي بِالسَّبْعَةِ وَالْأَشْهُرَ بِالِاثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ تَعُودُ، وَلَا مَعْهُودَ فِي غَيْرِهِمَا فَتَنَاوَلَتِ الْعُمُرَ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَكْثَرُهُ عَشْرَةٌ، وَمَا زَادَ يَتَغَيَّرُ لَفْظُهُ فَلَا يُزَادُ عَلَى الْعَشْرَةِ. أَمَّا الْمُنَكَّرُ يَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَفِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ: عَشْرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُخْتَارُ مَا ذَكَرْنَا. حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إِلَى كَذَا فَعَلَى مَا نَوَى، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ فَيَوْمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْعَدَدِ، وَإِنْ قَالَ: كَذَا وَكَذَا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَيَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إِلَى الْحَصَادِ فَحَصَدَ أَوَّلُ النَّاسِ بَرَّ، وَكَذَلِكَ إِلَى قُدُومِ الْحَاجِّ فَقَدِمَ وَاحِدٌ انْتَهَتِ الْيَمِينُ. حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ قَرِيبًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْضَمْهَا وَمِنْ هَذَا الدَّقِيقِ يَحْنَثُ بِخُبْزِهِ دُونَ سَفِّهِ، وَالْخُبْزُ مَا اعْتَادَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ، وَالشِّوَاءُ مِنَ اللَّحْمِ، وَالطَّبِيخُ مَا يُطْبَخُ مِنَ اللَّحْمِ بِالْمَاءِ، وَيَحْنَثُ بِأَكْلِ مَرَقِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْ سِتَّةٍ فَهُوَ عَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمٍ، وَلَوْ قَالَ: لَا يُكَلِّمُهُ قَرِيبًا فَهُوَ أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ بِيَوْمٍ، وَلَوْ قَالَ إِلَى بَعِيدٍ فَأَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ هُوَ مِثْلُ الْحِينِ، وَآجِلًا أَكْثَرُ مِنْ شَهْرٍ، وَعَاجِلًا أَقَلُّ مِنْ شَهْرٍ لِأَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى الْأَجَلِ، وَلَوْ قَالَ بِضْعًا فَثَلَاثَةٌ، لِأَنَّ الْبِضْعَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى تِسْعَةٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَقَلِّ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ. [فصل الْحلف على الطعام] فَصْلٌ [الْحَلِفُ عَلَى الطَّعَامِ] (حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْضِمْهَا) ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ سَوِيقِهَا لَمْ يَحْنَثْ، وَقَالَا: يَحْنَثُ بِالْخُبْزِ لِلْعُرْفِ. وَلَهُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فَإِنَّهُ يُقْلَى وَيُسْلَقُ وَيُؤْكَلُ بَعْدَهُ قَضْمًا، وَالْحَقِيقَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ قَاضِيَةٌ عَلَى الْمَجَازِ. قَالَ: (وَمِنْ هَذَا الدَّقِيقِ يَحْنَثُ بِخُبْزِهِ دُونَ سَفِّهِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ فَانْصَرَفَ إِلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ وَهُوَ الْخَبْزُ، وَكَذَا إِنْ أَكَلَ مِنْ عَصِيدَتِهِ أَوِ اتَّخَذَهُ خَبِيصًا أَوْ قَطَايِفَ حَنِثَ، إِلَّا إِذَا نَوَى أَكْلَ عَيْنِهِ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَكَذَلِكَ مَا لَا يُؤْكَلُ عَادَةً تَقَعُ الْيَمِينُ عَلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ، لِأَنَّ الْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ رَاجِحٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ. قَالَ: (وَالْخُبْزُ مَا اعْتَادَهُ أَهْلُ الْبَلَدِ) لِأَنَّ الْيَمِينَ مَبْنَاهَا عَلَى الْعَادَةِ، وَالْمَنْعُ إِنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُعْتَادِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْيَمِينِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا فَأَكَلَ ثَرِيدًا. قَالَ أَبُو اللَّيْثِ: لَا يَحْنَثُ لِلْعُرْفِ. وَالطَّعَامُ حَقِيقَةُ مَا يُطْعَمُ وَيُؤْكَلُ، وَفِي الْعُرْفِ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَدْوِيَةَ لَا تُسَمَّى طَعَامًا، وَإِنْ كَانَتْ تُؤْكَلُ وَيُتَغَذَّى بِهَا كَمَعْجُونِ الْوَرْدِ وَنَحْوِهِ، وَالْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَالْمِلْحُ طَعَامٌ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِأَكْلِهِ مَعَ الْخُبْزِ إِدَامًا لَهُ، وَالنَّبِيذُ شَرَابٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ طَعَامٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَالْفَاكِهَةُ طَعَامٌ. حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِشِرَاءِ الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ وَالْخُبْزِ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ، وَفِي عُرْفِنَا يَحْنَثُ بِالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ وَنَحْوِهِمَا أَيْضًا. قَالَ: (وَالشِّوَاءُ مِنَ اللَّحْمِ) خَاصَّةً لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّوَّاءَ اسْمٌ لِبَائِعِ الْمَشْوِيِّ مِنَ اللَّحْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَصِحُّ قَوْلُهُمْ: لَمْ يَأْكُلِ الشِّوَاءَ وَإِنْ أَكَلَ الْبَاذِنْجَانَ وَالسَّمَكَ الْمَشْوِيَّ وَغَيْرَهُ مَا لَمْ يَأْكُلِ الشِّوَاءَ مِنَ اللَّحْمِ، وَإِنْ نَوَى كُلَّ شَيْءٍ يُشْوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّ الشِّوَاءَ مَا يُجْعَلُ فِي النَّارِ لِيَسْهُلَ أَكْلُهُ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا أَنَّ الْعُرْفَ اخْتُصَّ بِاللَّحْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَالطَّبِيخُ مَا يُطْبَخُ مِنَ اللَّحْمِ بِالْمَاءِ) لِلْعُرْفِ، وَإِنْ نَوَى كُلَّ مَا يُطْبَخُ صُدِّقَ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ، (وَيَحْنَثُ بِأَكْلِ مَرَقِهِ) لِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءَ اللَّحْمِ، وَفِي النَّوَادِرِ: حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا فَأَكَلَ قِلِّيَّةً يَابِسَةً لَا مَرَقَ فِيهَا لَا يَحْنَثُ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 وَالرُّءُوسُ: مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي السُّوقِ، وَالرُّطَبُ وَالْعِنَبُ وَالرُّمَّانُ وَالْخِيَارُ وَالْقِثَّاءُ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ بِدُونِ الْمَرَقِ لَا يُسَمَّى طَبِيخًا، فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَحْمٌ مَقْلِيٌّ وَلَا يُقَالُ مَطْبُوخٌ إِلَّا لِمَا طُبِخَ فِي الْمَاءِ. وَلَوْ أَكَلَ سَمَكًا مَطْبُوخًا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ الِاسْمَ لَا يَتَنَاوَلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ. وَعَنِ ابْنِ سِمَاعَةَ: الطَّبِيخُ يَكُونُ عَلَى الشَّحْمِ، فَإِنْ طَبَخَ عَدْسًا أَوْ أُرْزًا بِوَدْكٍ فَهُوَ طَبِيخٌ، وَإِنْ كَانَ بِسَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ فَلَيْسَ بِطَبِيخٍ، وَالْمُعْتَبَرُ الْعُرْفُ، وَالطَّابِخُ: هُوَ الَّذِي يُوقِدُ النَّارَ دُونَ الَّذِي يَنْصِبُ الْقِدْرَ وَيَصُبُّ الْمَاءَ وَاللَّحْمَ وَحَوَائِجَهُ فِيهِ، وَالْخَابِزُ: الَّذِي يَضْرِبُ الْخُبْزَ فِي التَّنُّورِ دُونَ مَنْ عَجَنَهُ وَبَسَطَهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَبِيخِ فُلَانٍ فَطَبَخَ هُوَ وَآخَرُ وَأَكَلَ الْحَالِفُ مِنْهُ حَنِثَ، لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ يُسَمَّى طَبِيخًا، وَكَذَلِكَ مِنْ خُبْزِ فُلَانٍ فَخَبَزَ هُوَ وَآخَرُ، وَكَذَلِكَ مِنْ رُمَّانٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَاشْتَرَى هُوَ وَآخَرُ، وَكَذَا لَا أَلْبَسُ مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ فَنَسَجَ هُوَ وَآخَرُ، وَلَوْ قَالَ: مِنْ قِدْرٍ طَبَخَهَا فُلَانٌ فَأَكَلَ مَا طَبَخَاهُ لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنَ الْقَدْرِ لَيْسَ بِقِدْرٍ، وَكَذَلِكَ مِنْ قُرْصٍ يَخْبِزُهُ فُلَانٌ، أَوْ رُمَّانَةٍ يَشْتَرِيهَا فُلَانٌ، أَوْ ثَوْبًا يَنْسِجُهُ فُلَانٌ لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِ فُلَانَةٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ مِنْ غَزْلِهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِ جُزْءٌ مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِنْ غَزْلِ غَيْرِهَا لَمْ يَحْنَثْ، رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ مَا دَامَ فِي مِلْكِهِ، فَبَاعَ بَعْضَهُ وَأَكَلَ الْبَاقِيَ لَا يَحْنَثُ، ذَكَرَهُ الْحَسَنُ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ فَتَنَاهَدَ وَأَكَلَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالَ نَفْسِهِ عُرْفًا، رَوَاهُ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ فُلَانٍ وَبَيْنَهُمَا دَرَاهِمُ فَأَخَذَ مِنْهَا دِرْهَمًا فَاشْتَرَى بِهِ شَيْئًا وَأَكَلَ لَمْ يَحْنَثْ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِ شَرِيكِهِ فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَكَلَ حِصَّتَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ حِصَّتِهِ. قَالَ: (وَالرُّءُوسُ مَا يُكْبَسُ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعُ فِي السُّوقِ) جَرْيًا عَلَى الْعُرْفِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْيَمِينِ رُءُوسُ الْبَقَرِ وَالْجَزُورِ، وَعِنْدَهُمَا يَخْتَصُّ بِرُءُوسِ الْغَنَمِ وَهُوَ اخْتِلَافُ عَادَةٍ وَعَصْرٍ. قَالَ: (وَالرُّطَبُ وَالْعِنَبُ وَالرُّمَّانُ وَالْخِيَارُ وَالْقِثَّاءُ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ) ، وَقَالَا: الرُّطَبُ وَالرُّمَّانُ وَالْعِنَبُ فَاكِهَةٌ، لِأَنَّهُ يُتَفَكَّهُ بِهَا عَادَةً كَسَائِرِ الْفَاكِهَةِ حَتَّى يُسَمَّى بَائِعُهَا فَاكِهَانِيُّ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] . وَلِذَلِكَ عَطَفَ الْفَاكِهَةَ عَلَى الْعِنَبِ فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَالْمَعْطُوفُ يُغَايِرُ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ لُغَةً، وَلِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ وَالْكَرِيمُ الْحَكِيمُ لَا يُعِيدُ الْمِنَّةَ بِالشَّيْءِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّ الْفَاكِهَةَ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ، وَيُتَفَكَّهُ بِرُطَبِهِ وَيَابِسِهِ دُونَ الشِّبَعِ، وَالْعِنَبُ وَالرُّطَبُ يُسْتَعْمَلَانِ لِلْغِذَاءِ وَالشِّبَعِ، وَالرُّمَّانُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 وَالْإِدَامُ مَا يُصْطَبَغُ بِهِ: كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْمِلْحِ،   [الاختيار لتعليل المختار] يُسْتَعْمَلُ لِلْأَدْوِيَةِ فَكَانَ مَعْنَى الْفَاكِهَةِ قَاصِرًا عَنْهَا، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ حَتَّى لَوْ نَوَاهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّهُ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ، وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَحَبُّ الرُّمَّانِ إِدَامٌ وَلَيْسَ بِفَاكِهَةٍ بِالْإِجْمَاعِ، وَالتُّفَّاحُ وَالسَّفَرْجَلُ وَالْكُمِّثْرَى وَالْإِجَّاصُ وَالْمِشْمِشُ وَالْخَوْخُ وَالتِّينُ فَاكِهَةٌ لِأَنَّهَا تُؤْكَلُ لِلتَّفَكُّهِ دُونَ الشِّبَعِ، وَالْبِطِّيخُ فَاكِهَةٌ، وَالْيَابِسُ مِنْ أَثْمَارِ الشَّجَرِ فَاكِهَةٌ، وَيَابِسُ الْبِطِّيخِ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَالْقِثَّاءُ وَالْخِيَارُ وَالْجَزَرُ وَالْبَاقِلَاءُ الرَّطْبُ بُقُولٌ. قَالَ مُحَمَّدٌ: التُّوتُ فَاكِهَةٌ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْفَاكِهَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: قَصَبُ السُّكَّرِ وَالْبُسْرُ الْأَحْمَرُ فَاكِهَةٌ، وَالْجَوْزُ فِي عُرْفِنَا لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُتَفَكَّهُ بِهِ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ: الْجَوْزُ الْيَابِسُ لَيْسَ بِفَاكِهَةٍ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا، فَأَمَّا رُطَبُهُ لَا يُؤْكَلُ إِلَّا لِلتَّفَكُّهِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: اللَّوْزُ وَالْعُنَّابُ فَاكِهَةٌ، رُطَبُهُ مِنَ الْفَاكِهَةِ الرَّطْبَةِ، وَيَابِسُهُ مِنْ يَابِسِهَا، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةَ الْعَامِ أَوْ مِنْ ثَمَرَةِ الْعَامِ إِنْ كَانَ زَمَانُ الرَّطْبَةِ فَهِيَ عَلَى الرَّطْبَةِ، وَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ الْيَابِسِ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ زَمَانِهَا فَهِيَ عَلَى الْيَابِسِ لِلتَّعَارُفِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ بِالْيَابِسِ وَالرَّطْبِ إِذَا كَانَ فِي زَمَانِ الرَّطْبَةِ، لِأَنَّ اسْمَ الْفَاكِهَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا إِلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي قَوْلِهِمْ: فَاكِهَةُ الْعَامِ إِذَا كَانَ زَمَانُ الرَّطْبَةِ يُرِيدُونَهَا دُونَ الْيَابِسِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ رَطْبَةً تَعَيَّنَتِ الْيَابِسَةُ فَحُمِلَتْ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَالْإِدَامُ مَا يُصْطَبَغُ بِهِ: كَالْخَلِّ وَالزَّيْتِ وَالْمِلْحِ) ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُؤَادَمَةِ وَهِيَ الْمُوَافَقَةُ وَهِيَ بِالْمُلَازَقَةُ فَيَصِيرَانِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ، أَمَّا الْمُجَاوَرَةُ فَلَيْسَتْ بِمُوَافَقَةٍ حَقِيقَةً، يُقَالُ: وَأَدَمَ اللَّهُ بَيْنَكُمَا: أَيْ وَفَّقَ بَيْنَكُمَا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمُغِيرَةِ وَقَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً: «لَوْ نَظَرْتَ إِلَيْهَا كَانَ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» ، فَكُلُّ مَا احْتَاجَ فِي كُلِّهِ إِلَى مُوَافَقَةِ غَيْرِهِ فَهُوَ إِدَامٌ، وَمَا أَمْكَنَ إِفْرَادُهُ بِالْأَكْلِ فَلَيْسَ بِإِدَامٍ، وَإِنْ أُكِلَ مَعَ الْخُبْزِ كَمَا لَوْ أَكَلَ الْخُبْزَ مَعَ الْخُبْزِ، فَالْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَاللَّبَنُ وَالْعَسَلُ وَالْمَرَقُ إِدَامٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ مُنْفَرِدًا وَلِأَنَّهُ يَذُوبُ فَيَخْتَلِطُ بِالْخُبْزِ وَيَصِيرُ تَبَعًا. وَاللَّحْمُ وَالشِّوَاءُ وَالْبَيْضُ وَالْجُبْنُ لَيْسَ بِإِدَامٍ لِأَنَّهَا تُفْرَدُ بِالْأَكْلِ وَلَا تَمْتَزِجُ بِالْخُبْزِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: كُلُّ مَا يُؤْكَلُ بِالْخُبْزِ عَادَةً فَهُوَ إِدَامٌ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عَمَلًا بِالْعُرْفِ. وَعَنْ أَبَى يُوسُفَ: الْجَوْزُ الْيَابِسُ إِدَامٌ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: التَّمْرُ وَالْجَوْزُ وَالْعِنَبُ وَالْبِطِّيخُ وَالْبُقُولُ وَسَائِرُ الْفَوَاكِهِ لَيْسَ بِإِدَامٍ، لِأَنَّهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 وَالْغَدَاءُ: مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى الظُّهْرِ، وَالْعَشَاءُ: مِنَ الظُّهْرِ إِلَى نِصْفِ الْلَيْلِ، وَالسُّحُورُ: مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالشُّرْبُ مِنَ النَّهْرِ: الْكَرْعُ مِنْهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] تُفْرَدُ بِالْأَكْلِ وَلَا تَكُونُ تَبَعًا لِلْخُبْزِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْضِعًا تُؤْكَلُ تَبَعًا لِلْخُبْزِ مُعْتَادًا يَكُونُ إِدَامًا عِنْدَهُمُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ. قَالَ: (وَالْغَدَاءُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى الظُّهْرِ) لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ أَكْلِ الْغَدْوَةِ، وَمَا بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ لَا يَكُونُ غَدْوَةٌ. (وَالْعَشَاءُ: مِنَ الظُّهْرِ إِلَى نِصْفِ اللَّيْلِ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَكْلِ الْعَشَاءِ وَأَوَّلُهُ بَعْدَ الزَّوَالِ. وَرُوِيَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى إِحْدَى صَلَاتَيِ الْعَشَاءِ رَكْعَتَيْنِ» يُرِيدُ بِهِ الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ. (وَالسُّحُورُ: مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ السَّحَرِ فَيَنْطَلِقُ إِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ، ثُمَّ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَكْلِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ الشِّبَعُ عَادَةً، فَلَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى نِصْفِ الشِّبَعِ فَإِنَّهُ يُقَالُ: لَمْ أَتَغَدَّ وَإِنَّمَا أَكَلْتُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، وَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ عَادَتُهُمْ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَشَرِبَ اللَّبَنَ إِنْ كَانَ حَضَرِيًّا لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ بَدَوِيًّا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا لِلْعَادَةِ. قَالَ الْكَرْخِيُّ: إِذَا حَلَفَ لَا يَتَغَدَّى فَأَكَلَ تَمْرًا أَوْ أُرْزًا أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى شَبِعَ لَا يَحْنَثُ، وَلَا يَكُونُ غَدَاءً حَتَّى يَأْكُلَ الْخَبْزَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَكَلَ لَحْمًا بِغَيْرِ خُبْزٍ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ. قَالَ: (وَالشُّرْبُ مِنَ النَّهْرِ: الْكَرْعُ مِنْهُ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ دِجْلَةَ أَوْ مِنَ الْفُرَاتِ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكْرَعَ مِنْهَا كَرْعًا يُبَاشِرُ الْمَاءَ بِفِيهِ، فَإِنْ شَرِبَ مِنْهُ بِيَدِهِ أَوْ بِإِنَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ، وَقَالَا: يَحْنَثُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. أَصْلُهُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ لِلْيَمِينِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ وَمَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ: الْعِبْرَةُ لِلْحَقِيقَةِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِهْدَارُ الْحَقِيقَةِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ مَهْجُورَةً مُهْمَلَةً كَمَا قُلْنَا فِي سَفَّ الدَّقِيقِ. وَعِنْدَهُمَا الْعِبْرَةُ لِلْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ جَمْعًا لِمَكَانِ الِاسْتِعْمَالِ وَالْعُرْفِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْكَرْعُ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُمَا يَقُولَانِ: اسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ أَكْثَرُ فَيُعْتَبَرُ أَيْضًا، لِأَنَّ الْكَرْعَ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ عَادَةً عِنْدَ عَدَمِ الْأَوَانِي فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ شَاهَدَ الْعَرَبَ بِالْكُوفَةِ يَكْرَعُونَ ظَاهِرًا مُعْتَادًا فَحَمَلَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ، وَهُمَا شَاهَدَا النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُونَهُ إِلَّا نَادِرًا فَلَمْ يَخُصَّا الْيَمِينَ بِهِ، وَلَوْ شَرِبَ مِنْ نَهْرٍ يَأْخُذُ مِنْ دِجْلَةَ أَوْ مِنَ الْفُرَاتِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ قَدْ زَالَتْ بِالِانْتِقَالِ إِلَى غَيْرِهِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْكُوزِ فَصَبَّ فِي كُوزٍ آَخَرَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْهَدُ لِأَبِي حَنِيفَةَ لِاخْتِصَاصِ الْيَمِينِ عِنْدَهُمْ بِدِجْلَةَ دُونَ مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ مَاؤُهَا وَهَذَا إِذَا لَمْ يَذْكُرِ الْمَاءَ، وَأَمَّا إِذَا قَالَ: مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْكَرْعِ وَبِالْإِنَاءِ وَبِالْغَرْفِ وَمِنْ نَهْرٍ آخَرَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنَ الحِبِّ أَوِ الْبِئْرِ يَحْنَثُ بِالْإِنَاءِ، وَالسَّمَكُ وَالْأَلْيَةُ لَيْسَا بِلَحْمٍ، وَالْكَرِشُ وَالْكَبِدُ وَالرِّئَةُ وَالْفُؤَادُ وَالْكُلْيَةُ وَالرَأْسُ وَالْأَكَارِعُ وَالْأَمْعَاءُ وَالطِّحَالُ لَحْمٌ، وَالشَّحْمُ شَحْمُ الْبَطْنِ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ الْيَمِينَ عُقِدَتْ عَلَى الْمَاءِ دُونَ النَّهْرِ وَقَدْ وُجِدَ. قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنَ الْجُبِّ أَوِ الْبِئْرِ يَحْنَثُ بِالْإِنَاءِ) وَهَذَا فِي الْبِئْرِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الشُّرْبُ مِنْهَا إِلَّا بِإِنَاءٍ حَتَّى قَالُوا: لَوْ نَزَلَ الْبِئْرَ وَكَرَعَ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يَجْتَمِعَانِ تَحْتَ لَفْظٍ وَاحِدٍ وَالْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةٌ، وَأَمَّا الْجُبُّ إِنْ كَانَ مَلْآنَ يُمْكِنُ الشُّرْبُ مِنْهُ لَا يَحْنَثُ بِالِاغْتِرَافِ. وَالْإِنَاءُ لِتَعَيُّنِهُ. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْإِنَاءِ فَهُوَ عَنِ الشُّرْبِ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ فِيهِ. قَالَ: (وَالسَّمَكُ وَالْأَلْيَةُ لَيْسَا بِلَحْمٍ) فَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأَيُّ لَحْمٍ أَكَلَ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ غَيْرُ السَّمَكِ حَنِثَ سَوَاءٌ أَكَلَهُ طَبِيخًا أَوْ مَشْوِيًّا أَوْ قَدِيدًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا: كَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ، وَمَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ وَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ وَصَيْدِ الْحَرَمِ، لِأَنَّ اسْمَ اللَّحْمِ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ اللَّحْمِ وَصِفَةِ الذَّابِحِ. فَأَمَّا السَّمَكُ وَمَا يَعِيشُ فِي الْمَاءِ لَا يَحْنَثُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ إِطْلَاقِ اسْمِ اللَّحْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَا أَكَلْتُ لَحْمًا وَقَدْ أَكَلَ السَّمَكَ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْحَقِيقَةُ دُونَ لَفْظِ الْقُرْآنِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا لَا يَحْنَثُ وَإِنْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى دَابَّةً فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال: 55] ، وَكَذَا لَوْ خَرَّبَ بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ لَا يُخَرِّبُ بَيْتًا، وَكَذَا لَا يَحْنَثُ بِالْقُعُودِ فِي الشَّمْسِ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ فِي السِّرَاجِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ الْمُتَعَارَفُ، وَكَذَلِكَ الْأَلْيَةُ وَشَحْمُ الْبَطْنِ لَيْسَا بِلَحْمٍ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ، وَلَا يُتَّخَذُ مِنْهُمَا مَا يُتَّخَذُ مِنَ اللَّحْمِ، وَلَا يُسَمَّيَانِ لَحْمًا عُرْفًا، وَإِنْ نَوَاهُ أَوْ نَوَى السَّمَكَ يَحْنَثُ، لِأَنَّهُ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ. قَالَ: (وَالْكَرِشُ وَالْكَبِدُ وَالرِّئَةُ وَالْفُؤَادُ وَالْكُلْيَةُ وَالرَّأْسُ وَالْأَكَارِعُ وَالْأَمْعَاءُ وَالطِّحَالُ لَحْمٌ) لِأَنَّهَا تُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ، وَهَذَا فِي عُرْفِهِمْ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي زَمَنِهِ بِالْكُوفَةِ. وَأَمَّا الْبِلَادُ الَّتِي لَا تُبَاعُ فِيهَا مَعَ اللَّحْمِ فَلَا يَحْنَثُ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ فِي كُلِّ بَلْدَةِ وَكُلِّ زَمَانٍ. وَأَمَّا شَحْمُ الظَّهْرِ فَهُوَ لَحْمٌ، وَيُقَالُ لَهُ: لَحْمٌ سَمِينٌ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللَّحْمُ. قَالَ: (وَالشَّحْمُ شَحْمُ الْبَطْنِ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مِنَ اللَّحْمِ، وَيُقَالُ لَهُ: لَحْمٌ سَمِينٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَقَالَا: يَحْنَثُ لِأَنَّ اسْمَ الشَّحْمِ يَتَنَاوَلُهُ وَهَذَا فِي عُرْفِهِمْ، وَفِي عُرْفِنَا: اسْمُ الشَّحْمِ لَا يَقَعُ عَلَى شَحْمِ الظَّهْرِ بِحَالٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَحْمًا فَاشْتَرَى شَحْمَ الظَّهْرِ لَا يَلْزَمُ الْآمِرَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الشَّحْمِ لَا يَتَنَاوَلُهُ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمَ شَاةٍ فَأَكَلَ لَحْمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَأَكَلَهُ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا الرُّطَبُ إِذَا صَارَ تَمْرًا وَاللَّبَنُ شِيرَازًا، حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْحَمَلِ فَصَارَ كَبْشًا فَأَكَلَهُ حَنِثَ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرِهَا وَدُبْسِهَا غَيْرِ الْمَطْبُوخِ، وَمِنْ هَذِهِ الشَّاةِ فَعَلَى اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ، وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ فِي الْبَيْضِ، وَالشَّرَاءُ كَالْأَكْلِ.   [الاختيار لتعليل المختار] عَنْزٍ حَنِثَ، لِأَنَّ اسْمَ الشَّاةِ يَتَنَاوَلُ الْعَنْزَ وَغَيْرَهُ. وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْعُرْفَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَكَذَا لَا يَدْخُلُ لَحْمُ الْجَامُوسِ فِي يَمِينِ الْبَقَرِ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَأَكَلَهُ رُطَبًا لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا الرُّطَبُ إِذَا صَارَ تَمْرًا وَاللَّبَنُ شِيرَازًا) لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ دَاعِيَةٌ إِلَى الْيَمِينِ فَتَتَقَيَّدُ بِهِ، أَوْ نَقُولُ: اللَّبَنُ مَا يُؤْكَلُ عَيْنُهُ فَلَا يَنْصَرِفُ إِلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْحَمَلِ فَصَارَ كَبْشًا فَأَكَلَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ صِفَةَ الْحَمْلِيَّةِ لَيْسَتْ دَاعِيَةً إِلَى الْيَمِينِ، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ لَحْمِهِ أَقَلُّ مِنَ الِامْتِنَاعِ عَنْ لَحْمِ الْكَبْشِ، وَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ تَكُونَ صِفَةً دَاعِيَةً تَعَيَّنَتِ الذَّاتُ وَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ فَهُوَ عَلَى ثَمَرَتِهَا وَدُبْسِهَا غَيْرِ الْمَطْبُوخِ) يُقَالُ لَهُ: سَيَلَانٌ، لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إِلَى مَا لَا يُؤْكَلُ فَيَنْصَرِفُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهُ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ فَيَصْلُحُ مَجَازًا، وَيَحْنَثُ بِالْجِمَارِ لِأَنَّهُ مِنْهَا وَلَا يَحْنَثُ بِمَا يَتَغَيَّرُ بِالصَّنْعَةِ: كَالنَّبِيذِ وَالْخَلِّ وَالدُّبْسِ الْمَطْبُوخِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا مَا يُوجَدُ كَذَلِكَ مُتَّصِلًا بِهَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَطْبُوخِ وَعَصِيرِ الْعِنَبِ لِأَنَّهُ كَذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِهَا إِلَّا أَنَّهُ مُنْكَتِمٌ فَزَالَ الِانْكِتَامُ بِالْعَصِيرِ، وَلَوْ أَكَلَ مِنْ عَيْنِ النَّخْلَةِ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ مَهْجُورَةٌ. (وَ) لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ (مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ فَعَلَى اللَّحْمِ وَاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ) لِمَا مَرَّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً، لِأَنَّ عَيْنَ الشَّاةِ مَأْكُولٌ فَانْصَرَفَتِ الْيَمِينُ إِلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً، وَلَا يَحْنَثُ بِاللَّبَنِ وَالزُّبْدِ وَالسَّمْنِ. قَالَ: (وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ فِي الْبَيْضِ) لِلْعُرْفِ، فَإِنَّ اسْمَ الْبَيْضِ عُرْفًا يَتَنَاوَلُ بَيْضَ الطَّيْرِ كَالدَّجَاجِ وَالْأُوَّزِ مِمَّا لَهُ قِشْرٌ، فَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ إِلَّا بِنِيَّةٍ لِأَنَّهُ بَيْضٌ حَقِيقَةً وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَى نَفْسِهِ. (وَالشِّرَاءُ كَالْأَكْلِ) فَالْيَمِينُ عَلَى الشِّرَاءِ كَالْيَمِينِ عَلَى الْأَكْلِ. حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَرَامًا فَاضْطَرَّ إِلَى الْمِيتَةِ وَالْخَمْرِ فَأَكَلَ، رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَرْفُوعُ الْإِثْمِ عَنِ الْمُضْطَرِّ كَفِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ، وَالْحَرَامُ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ لَهُمَا وَإِنْ وُضِعِ الْإِثْمُ عَنْهُمَا. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْإِكْرَاهِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ الْمَيْتَةَ حَالَةَ الضَّرُورَةِ، فَإِذَا امْتَنَعَ عَنِ الْأَكْلِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ أَثِمَ، وَلَوْ أَكَلَ طَعَامًا مَغْصُوبًا حَنِثَ، وَلَوِ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ مَغْصُوبٍ لَا يَحْنَثُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَيَطِيرَنَّ فِي الْهَوَاءِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ لِلْحَالِ. حَلَفَ لِيَأْتِيَنَّهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَهِيَ عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ. حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ فَلَمْ يَأْتِهِ حَتَى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل انعقاد اليمين] فَصْلٌ (حَلَفَ لَيَصْعَدَنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَيَطِيرَنَّ فِي الْهَوَاءِ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَحَنِثَ لِلْحَالِ) ، وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً فَصَارَ كَالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً. وَلَنَا أَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ فَتَنْعَقِدُ إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَوْجُودًا أَوْ مُتَوَهَّمًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَلَا مُتَوَهَّمًا لَمْ يَنْعَقِدْ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ مُنْعَقِدٌ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَوْجُودٌ، وَبَيْعَ الْمُدَبَّرِ مُنْعَقِدٌ لِأَنَّهُ مُتَوَهَّمٌ دُخُولُهُ تَحْتَ الْعَقْدِ بِالْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْعَاقِدِ، وَبَيْعَ الْحُرِّ لَيْسَ بِمُنْعَقِدٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعَقْدِ وَلَا مُتَوَهَّمُ الدُّخُولِ فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ يَنْعَقِدُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَقْدُورِ وَالْمَوْهُومِ، وَلَا يَنْعَقِدُ عَلَى غَيْرِ الْمَقْدُورِ وَالْمَوْهُومِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مَقْدُورٌ مَوْهُومٌ يَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ قَادِرٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَنْ صَعَدَ السَّمَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ يَصْعَدُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَنْزِلُونَ، وَإِذَا كَانَ مُتَوَهَّمًا انْعَقَدَتِ الْيَمِينُ ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ حُكْمًا لِلْعَجْزِ الثَّابِتِ عَادَةً كَمَوْتِ الْحَالِفِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَخْرُجُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ لِمَنْ يَتَأَمَّلُهَا. قَالَ: (حَلَفَ لَيَأْتِيَّنَهُ إِنِ اسْتَطَاعَ فَهِيَ عَلَى اسْتِطَاعَةِ الصِّحَّةِ) ، مَعْنَاهُ: إِذَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ أَمْرٌ يَمْنَعُهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سُلْطَانٍ أَوْ نَحْوِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ حَنِثَ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ فِي الْعُرْفِ الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةِ الْآلَةِ وَعَدَمِ الْمَوَانِعِ، وَإِنْ عَيَّنَ اسْتِطَاعَةَ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ صُدِّقَ دِيَانَةً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَفِي رِوَايَةٍ: تَصِحُّ قَضَاءً أَيْضًا لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ، لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْآلِيَّةَ تَقُومُ بِالِاسْتِطَاعَةِ التَّقْدِيرِيَّةِ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ. قَالَ: (حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ فَلَمْ يَأْتِهِ حَتَّى مَاتَ حَنِثَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ) لِأَنَّ الْحِنْثَ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ إِذِ الْبِرُّ مَرْجُوٌّ قَبْلَهُ. حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ فَهُوَ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ مَنْزِلَهُ أَوْ حَانُوتَهُ لَقِيَهُ أَوْ لَمْ يَلْقَهُ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ الْوُصُولُ إِلَى مَكَانِهِ دُونَ مُلَاقَاتِهِ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَأُوَافِيَنَّكَ غَدًا فَهُوَ عَلَى اللِّقَاءِ، فَإِنْ أَتَاهُ فَلَمْ يَلْقَهُ حَنِثَ. حَلَفَ لَا تَأْتِي زَوْجَتُهُ الْعُرْسَ فَذَهَبَتْ قَبْلَ الْعُرْسِ وَأَقَامَتْ حَتَّى مَضَى الْعُرْسُ لَا يَحْنَثُ، لِأَنَّ الْعُرْسَ أَتَاهَا لَا أَتَتْهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: لَأَعُودَنَّ فُلْانًا غَدًا فَعَادَهُ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بَرَّ، وَكَذَلِكَ الْإِتْيَانُ إِذَا أَتَاهُ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ. حَلَفَ لَا تَذْهَبُ زَوْجَتُهُ إِلَى بَيْتِ وَالِدِهَا فَذَهَبَتْ إِلَى بَابِ الدَّارِ وَلَمْ تَدْخُلْ لَمْ يَحْنَثْ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: حَلَفَ لَا أُرَافِقُ فُلْانًا فَهُوَ عَلَى الِاجْتِمَاعِ فِي الطَّعَامِ أَوْ شَيْءٍ يَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ بِأَنْ كَانَ مَقَامُهُمَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَا فِي سَفِينَةِ وَطَعَامُهُمَا لَيْسَ بِمُجْتَمِعٍ وَلَا يَأْكُلَانِ عَلَى خِوَانٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِمُرَافَقَةٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إِنْ كَانَ مَعَهُ فِي مَحْمَلٍ أَوْ كَانَ كِرَاهُمَا وَاحِدًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ، أَوْ شَرِبْتُ، أَوْ لَبِسْتُ، أَوْ كَلَّمْتُ، أَوْ تَزَوَّجْتُ، أَوْ خَرَجْتُ وَنَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ طَعَامًا، أَوْ شَرِبْتُ شَرَابًا، أَوْ لَبِسْتُ ثَوْبًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنَوَى شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ صُدِّقَ دِيَانَةً خَاصَّةً، وَالرَّيْحَانُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ فَلَا يَحْنَثُ بِالْيَاسَمِينِ وَالْوَرْدِ وَالْوَرْدُ وَالْبَنَفْسِجُ هُوَ الْوَرَقُ وَالْخَاتَمُ النُّقْرَةُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ، وَالذَّهَبُ حُلِيٌّ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ قِطَارُهُمَا وَاحِدًا فَهِيَ مُرَافَقَةٌ، وَإِنْ كَانَ كِرَاهُمَا مُخْتَلِفًا وَالْمَسِيرُ وَاحِدٌ فَلَيْسَ بِمُرَافَقَةٍ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ أَوْ شَرِبْتُ، أَوْ لَبِسْتُ أَوْ كَلَّمْتُ أَوْ تَزَوَّجْتُ أَوْ خَرَجْتُ وَنَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَمْ يُصَدَّقْ، وَلَوْ قَالَ: إِنْ أَكَلْتُ طَعَامًا أَوْ شَرِبْتُ شَرَابًا أَوْ لَبِسْتُ ثَوْبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنَوَى شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ صُدِّقَ دِيَانَةً خَاصَّةً) ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ لَفْظًا عَامًّا وَنَوَى تَخْصِيصَ مَا فِي لَفْظِهِ صُدِّقَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعُمُومِ قَدْ يُرِيدُ الْخُصُوصَ، فَإِذَا نَوَى صَارَتْ نِيَّتُهُ دَلَالَةً عَلَى التَّخْصِيصِ كَالدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ، إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنَ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ، فَأَمَّا إِذَا نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ لَا يُصَدَّقُ أَصْلًا، لِأَنَّ الْخُصُوصَ يَتْبَعُ الْأَلْفَاظَ دُونَ الْمَعَانِي، فَمَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ لَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهُ، فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الطَّعَامُ وَالثَّوْبُ وَنَحْوُهُمَا لَيْسَ مَذْكُورًا فَقَدْ نَوَى تَخْصِيصَ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ فَلَا يُصَدَّقُ، الْفَصْلُ الثَّانِي: إِذَا قَالَ: عَنَيْتُ الْخُبْزَ أَوِ اللَّحْمَ فَقَدْ نَوَى تَخْصِيصَ مَا فِي لَفْظِهِ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِمَا بَيَّنَّا. وَلَوْ قَالَ: لَا أَشْرَبُ الْمَاءَ وَلَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ حَنِثَ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ وَتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُ الْجِنْسِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَدْنَى، وَلَوْ نَوَى الْجِنْسَ صُدِّقَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَحَدُ الظَّاهِرَيْنِ فَيُصَدَّقُ فِيهَا إِذَا نَوَاهَا. قَالَ: (وَالرَّيْحَانُ اسْمٌ لِمَا لَا سَاقَ لَهُ) لُغَةً، (فَلَا يَحْنَثُ بِالْيَاسَمِينِ وَالْوَرْدِ) وَقِيلَ يَحْنَثُ فِي عُرْفِنَا، فَإِنَّ الرَّيْحَانَ اسْمٌ لِمَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ مِنَ النَّبَاتِ عُرْفًا فَيَحْنَثُ بِهِمَا وَبِالشاهسبرم، وَالْعَنْبَرُ وَالْآسُ لَا يُسَمَّى رَيْحَانًا عُرْفًا. قَالَ: (وَالْوَرْدُ وَالْبَنَفْسَجُ هُوَ الْوَرَقُ) عُرْفًا، وَأَصْحَابُنَا قَالُوا: لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَاشْتَرَى دُهْنَهُ حَنِثَ، وَلَوِ اشْتَرَى وَرَقَهُ لَا يَحْنَثُ، وَكَذَا كَانَ عُرْفُ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَمَّا عُرْفُنَا فَكَمَا ذَكَرْتُ؛ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ طِيبًا فَدَهَنَ لِحْيَتَهُ بِدُهْنٍ طَيِّبٍ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ شَمًّا عُرْفًا. قَالَ: (وَالْخَاتَمُ النَّقْرَةُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ، وَالذَّهَبُ حُلِيٌّ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حُلَيًّا لَا يَحْنَثُ بِخَاتَمِ النَّقْرَةِ، لِأَنَّ النَّقْرَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 وَالْعِقْدُ اللُّؤْلُؤُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ حَتَّى يَكُونَ مُرَصَّعًا. حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَجَعَلَ عَلَيْهِ فِرَاشًا آخَرَ وَنَامَ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ جَعَلَ قِرَامًا فَنَامَ حَنِثَ، وَالضَّرْبُ وَالْكَلَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِحَالِ الْحَيَاةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] تُلْبَسُ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ وَلِلْخَتْمِ لَا لِلتَّزَيُّنِ، وَالْحُلِيُّ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الذَّهَبُ فَإِنَّهُ يُتَزَيَّنُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْخَاتَمُ مِمَّا يَلْبَسُهُ النِّسَاءُ مِنَ الْحَجَرِ أَوِ الْفِضَّةِ قِيلَ يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لِلزِّينَةِ، وَقِيلَ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لِلرِّجَالِ وَلَا يَحِلُّ لَهُمُ التَّزَيُّنُ بِالْحُلِيِّ. قَالَ: (وَالْعِقْدُ اللُّؤْلُؤُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ حَتَّى يَكُونَ مُرَصَّعًا) وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْيَمِينِ الْعُرْفُ لَا الْحَقِيقَةُ، وَلَفْظُ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: هُوَ حُلِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرَصَّعًا لِأَنَّهُ حُلِيٌّ حَقِيقَةً بِدَلِيلِ تَسْمِيَةِ الْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَادًا فَهُوَ اخْتِلَافُ عَادَةٍ وَزَمَانٍ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِلرَّجُلِ لُبْسُ الْعِقْدِ الْغَيْرِ الْمُرَصَّعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُلَيٍّ؛ وَلَوْ عَلَّقَتِ الْمَرْأَةُ فِي عُنُقِهَا ذَهَبًا غَيْرَ مَصْنُوعٍ لَا يَحْنَثُ، وَالْمَنْطِقَةُ الْمُفَضَّضَةُ وَالسَّيْفُ الْمُحَلَّى لَيْسَ بِحُلِيٍّ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَجَعَلَ عَلَيْهِ فِرَاشًا آخَرَ وَنَامَ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِنْ جَعَلَ عَلَيْهِ قِرَامًا فَنَامَ حَنِثَ) لِأَنَّ الْقِرَامَ تَبَعٌ لِلْفِرَاشِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِرَامُ ثَوْبًا طَبَرَيًّا وَالْفِرَاشُ دِيبَاجًا، يُقَالُ: نَامَ عَلَى فِرَاشِ دِيبَاجٍ، وَلَوْ كَانَ الْأَعْلَى دِيبَاجًا وَالْأَسْفَلُ خَزًّا يُقَالُ: نَامَ عَلَى الدِّيبَاجِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْفِرَاشِ أَيْضًا لِأَنَّهُ نَائِمٌ عَلَى الْفِرَاشَيْنَ حَقِيقَةً، وَصَارَ كَمَا إِذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ رَجُلًا فَكَلَّمَهُ وَآخَرَ بِخِطَابٍ وَاحِدٍ. جَوَابُهُ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، وَفِي الْعُرْفِ لَا يُنْسَبُ إِلَّا إِلَى الْأَعْلَى، وَفِي الْكَلَامِ هُوَ مُخَاطِبٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقِيقَةً وَعُرْفًا وَشَرْعًا وَالسَّرِيرُ وَالدُّكَّانُ وَالسَّطْحُ كَالْفِرَاشِ إِنْ جَعَلَ عَلَيْهِ سَرِيرًا آخَرَ وَبَنَى عَلَى السَّطْحِ سَطْحًا آخَرَ فَنَامَ عَلَى الْأَعْلَى لَا يَحْنَثُ لِمَا بَيَّنَّا؛ وَإِنْ جَعَلَ عَلَى السَّرِيرِ أَوِ السَّطْحِ أَوِ الدُّكَّانِ بِسَاطًا أَوْ فِرَاشًا أَوْ نَحْوَهُ وَنَامَ عَلَيْهِ حَنِثَ لِأَنَّهُ يُعَدُّ نَائِمًا عَلَى السَّطْحِ وَالسَّرِيرِ وَالدُّكَّانِ، وَمَتَى جَلَسَ عَلَى مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ فَلَيْسَ بِجَالِسٍ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ يَجْلِسَ عَلَى ثِيَابِهِ فَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لَهُ فَلَا يُعَدُّ حَائِلًا، وَلِهَذَا يُقَالُ هُوَ جَالِسٌ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ: (وَالضَّرْبُ وَالْكَلَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالدُّخُولُ عَلَيْهِ يَتَقَيَّدُ بِحَالِ الْحَيَاةِ) لِأَنَّ الضَّرْبَ هُوَ الْفِعْلُ الْمُؤْلِمُ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَيِّتِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْحَيِّ، وَالْمُرَادُ بِالْكِسْوَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ التَّمْلِيكُ كَمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَلَا تَمْلِيكَ مِنَ الْمَيِّتِ، وَإِنْ نَوَى بِهِ السَّتْرَ صَحَّ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ، وَأَمَّا الدُّخُولُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الزِّيَارَةُ عُرْفًا فِي مَوْضِعٍ يَجْلِسُ فِيهِ لِلزِّيَارَةِ وَالتَّعْظِيمِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالدُّخُولِ بِأَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ حَتَّى يَقْتُلَهُ فَهُوَ عَلَى أَشَدِّ الضَّرْبِ. حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَخَنَقَهَا أَوْ مَدَّ شَعْرَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ. حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى وَصَامَ سَاعَةً حَنِثَ، وَإِنْ قَالَ صَوْمًا لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِتَمَامِ الْيَوْمِ. حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يَسْجُدْ؛ وَلَوْ قَالَ: صَلَاةً لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِتَمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيْتًا عَتَقَتْ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ لِحَاجَةٍ أُخْرَى، أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَجْلِسُ فِيهِ لِلزِّيَارَةِ لَا يَكُونُ دُخُولًا عَلَيْهِ، وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ وَالظُّلَّةِ وَالدِّهْلِيزِ لَا يَكُونُ دُخُولًا عَلَيْهِ إِلَّا إِنِ اعْتَادُوا الْجُلُوسَ فِيهِ لِلزِّيَارَةِ. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنِ ابْنِ سَمَاعَةَ ضِدَّ هَذَا فَقَالَ: لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ فَدَخَلَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. رَجُلَانِ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهِ فَدَخَلَا فِي الْمَنْزِلِ مَعًا لَا يَحْنَثَانِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ غَسَّلْتُكَ فَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ حَالَتَيِ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِسَالَةِ لِلتَّطْهِيرِ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ. قَالَ: (حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ حَتَّى يَقْتُلَهُ فَهُوَ عَلَى أَشَدِّ الضَّرْبِ) لِأَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْعُرْفِ؛ وَلَوْ قَالَ: حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ أَوْ حَتَّى يَبْكِيَ أَوْ يَبُولَ أَوْ يَسْتَغِيثَ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَقِيقَةً؛ وَلَوْ قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ بِالسِّيَاطِ حَتَّى تَمُوتَ فَهُوَ عَلَى الْمُبَالَغَةِ. وَلَوْ قَالَ: لَأَضْرِبَنَّكَ بِالسَّيْفِ حَتَّى تَمُوتَ فَهُوَ عَلَى الْمَوْتِ حَقِيقَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: إِنْ لَمْ أَضْرِبْكِ حَتَّى أَتْرُكَكِ لَا حَيَّةً وَلَا مَيِّتَةً فَهُوَ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا يُوجِعُهَا (حَلَفَ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ فَخَنَقَهَا أَوْ مَدَّ شَعْرَهَا أَوْ عَضَّهَا حَنِثَ) لِأَنَّ الضَّرْبَ اسْمٌ لِفِعْلٍ مُؤْلِمٍ. [فصل الحنث في اليمين] فَصْلٌ (حَلَفَ لَا يَصُومُ فَنَوَى وَصَامَ سَاعَةً حَنِثَ) لِأَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ مَعَ النِّيَّةِ وَقَدْ وُجِدَ (وَإِنْ قَالَ صَوْمًا لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِتَمَامِ الْيَوْمِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّوْمُ التَّامُّ، وَذَلِكَ صَوْمُ الْيَوْمِ لِأَنَّ مَا دُونَهُ نَاقِصٌ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَقَامَ وَقَرَأَ وَرَكَعَ لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يَسْجُدْ) لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَرْكَانِ، فَمَا لَمْ يَأْتِ بِهَا لَا تُسَمَّى صَلَاةً، بِخِلَافِ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِمْسَاكِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ الْيَوْمِ وَفِي الْجُزْءِ الثَّانِي يَتَكَرَّرُ (وَلَوْ قَالَ صَلَاةً لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِتَمَامِ رَكْعَتَيْنِ) لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الصَّلَاةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا وَأَقَلُّ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ. قَالَ: (وَمَنْ قَالَ لِأَمَتِهِ: إِنْ وَلَدْتِ وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا عَتَقَتْ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ) لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا، وَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيَّتًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 وَلَوْ قَالَ: فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ مَيْتًا ثُمَّ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ (سم) ؛ وَمَنْ قَالَ: مَنْ بَشَّرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ جَمَاعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ عَتَقَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ بَشَّرُوهُ جَمِيعًا عَتَقُوا؛ وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي عَتَقُوا فِي الْوَجْهَيْنِ قَالَ: إِنْ تَسَرَّيْتُ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا وَتَسَرَّى بِهَا لَمْ تَعْتِقْ. حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَزَوَّجَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ أَجَازَ بِالْقَوْلِ حَنِثَ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَلَوْ قَالَ: فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ مَيَّتًا ثُمَّ حَيًّا عَتَقَ الْحَيُّ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَقَالَا: لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْحَلَّتْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ لَا إِلَى جَزَاءٍ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْحُرِّيَّةِ. وَلَهُ أَنَّ الشَّرْطَ وِلَادَةُ الْحَيِّ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَمِنْ ضَرُورَتِهَا الْحَيَاةُ فَصَارَ كَقَوْلِهِ إِذَا وَلَدْتِ وَلَدًا حَيًّا فَهُوَ حُرٌّ، وَلَوْ قَالَ كَذَلِكَ عَتَقَ الْحَيُّ فَكَذَا هُنَا، بِخِلَافِ حُرِّيَّةِ الْأُمِّ وَالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَيَاةِ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَمَنْ قَالَ: مَنْ بَشَّرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ جَمَاعَةٌ مُتَفَرِّقُونَ عَتَقَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ بَشَّرُوهُ جَمِيعًا عَتَقُوا، وَلَوْ قَالَ: مَنْ أَخْبَرَنِي عَتَقُوا فِي الْوَجْهَيْنِ) لِأَنَّ الْبِشَارَةَ عُرْفًا اسْمٌ لِخَبَرٍ سَارٍّ صِدْقٍ لَيْسَ عِنْدَ الْمُبَشِّرِ عِلْمُهُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَغَيُّرِ بَشَرَةِ الْوَجْهِ مِنَ الْفَرَحِ عَادَةً، وَالسُّرُورُ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالصِّدْقِ لَا بِالْكَذِبِ وَبِخَبَرٍ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمُهُ، وَالْخَبَرُ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْخَبَرِ سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَيَقَعُ عَلَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْبِشَارَةُ حَصَلَتْ بِالْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا فَعَتَقَ وَلَمْ تَحْصُلْ بِالْبَاقِي لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ بِهِ فَلَمْ تَكُنْ بِشَارَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ حَصَلَتْ بِإِخْبَارِ الْكُلِّ فَيَعْتِقُونَ؛ أَمَّا الْخَبَرُ فَإِنَّهُ وُجِدَ مِنَ الْكُلِّ سَوَاءٌ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ أَوْ مُجْتَمِعِينَ فَيَعْتِقُونَ فِي الْحَالَيْنِ، وَالْإِعْلَامُ كَالْبِشَارَةِ يَعْتِقُ الْأَوَّلُ لَا غَيْرَ لِأَنَّهُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْأَوَّلِ، وَالْبِشَارَةُ وَالْخَبَرُ يَكُونُ بِالْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ كَمَا يَكُونُ بِالْمُشَافَهَةِ، وَالْمُحَادَثَةُ بِالْمُشَافَهَةِ لَا غَيْرَ، وَلِهَذَا يُقَالُ: أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُقَالُ: حَدَّثَنَا. فَإِذَا قَالَ: أَيُّ غُلَامٍ بَشَّرَنِي بِقُدُومِ فُلَانٍ فَهُوَ حُرٌّ فَكَتَبَ إِلَيْهِ غُلَامُهُ بِذَلِكَ عَتَقَ؛ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا لَهُ أَرْسَلَ عَبْدًا لَهُ آخَرَ بِالْبِشَارَةِ فَجَاءَ الرَّسُولُ وَقَالَ لِلْمَوْلَى: إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَكَ: قَدْ قَدِمَ فُلَانٌ عَتَقَ الْمُرْسِلُ دُونَ الرَّسُولِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابِ؛ وَلَوْ قَالَ الرَّسُولُ: إِنَّ فُلَانًا قَدِمَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَرْسَلَنِي فُلَانٌ عَتَقَ الرَّسُولُ خَاصَّةً. (قَالَ: إِنْ تَسَرَّيْتُ جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَتَسَرَّى جَارِيَةً كَانَتْ فِي مِلْكِهِ عَتَقَتْ، وَلَوِ اشْتَرَاهَا وَتَسَرَّى بِهَا لَمْ تَعْتِقْ) وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَنَاوَلَتْهَا الْيَمِينُ لِكَوْنِهَا فِي مِلْكِهِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهَا الْيَمِينُ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَعْتِقُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ ذِكْرَ التَّسَرِّي ذِكْرٌ لِلْمِلْكِ، لِأَنَّ التَّسَرِّيَ لَا يَصِحُّ إِلَّا فِي الْمِلْكِ. قُلْنَا الْمِلْكُ يَصِيرُ مَذْكُورًا ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّسَرِّي فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ وَهُوَ الْجَزَاءُ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ فَزَوَّجَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، فَإِنْ أَجَازَ بِالْقَوْلِ حَنِثَ) لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وَإِنْ أَجَازَ بِالْفِعْلِ لَا يَحْنَثُ، وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ حَنِثَ، وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعِتَاقُ. حَلَفَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ يَحْنَثُ بِالتَّوْكِيلِ وَالْإِجَازَةِ وَكَذَلِكَ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ الصَّغِيرَيْنِ، وَفِي الْكَبِيرَيْنِ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ. حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَوَكَّلَ بِهِ حَنِثَ، وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ صُدِّقَ قَضَاءً. وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ؛ وَذَبْحُ الشَّاةِ كَضَرْبِ الْعَبْدِ. حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَوَكَّلَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ. (وَإِنْ أَجَازَ بِالْفِعْلِ) كَإِعْطَاءِ الْمَهْرِ وَنَحْوِهِ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ (لَا يَحْنَثُ) لِأَنَّ الْعُقُودَ تَخْتَصُّ بِالْأَقْوَالِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ عَقْدًا وَإِنَّمَا يَكُونُ رِضًا، وَشَرْطُ الْحَنْثِ الْعَقْدُ لَا الرِّضَا. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ، لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَيْسَتْ بِإِنْشَاءٍ لِلْعَقْدِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ تَنْفِيذٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ بِالرِّضَا بِهِ. (وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ حَنِثَ) لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ. وَلَوْ قَالَ: عَنَيْتُ أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ بِهِ صَدَقَ دِيَانَةً لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ. (وَكَذَلِكَ) الْحُكْمُ فِي (الطَّلَاقِ وَالْعِتَاقُ) وَكُلِّ عَقْدٍ لَا تُرْجَعُ حُقُوقُهُ إِلَى الْوَكِيلِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخُلْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَةِ وَالْقَرْضِ وَالِاسْتِقْرَاضِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ فِعْلٍ لَيْسَ لَهُ حُقُوقٌ كَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ وَالذَّبْحِ وَالْكِسْوَةِ وَالْقَضَاءِ وَالِاقْتِضَاءِ وَالْخُصُومَةِ وَالشَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِفِعْلِهِ وَبِالْأَمْرِ. وَفِي الصُّلْحِ رِوَايَتَانِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ. (حَلَفَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ يَحْنَثُ بِالتَّوْكِيلِ وَالْإِجَازَةِ) لِأَنَّ ذَلِكَ مُضَافٌ إِلَيْهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى إِرَادَتِهِ لِمِلْكِهِ وَوِلَايَتِهِ (وَكَذَلِكَ ابْنَهُ وَابْنَتَهُ الصَّغِيرَيْنِ) لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا (وَفِي الْكَبِيرَيْنِ لَا يَحْنَثُ إِلَّا بِالْمُبَاشَرَةِ) لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِمَا فَهُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْهُمَا فَيَتَعَلَّقُ بِحَقِيقَةِ الْفِعْلِ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَوَكَلَ بِهِ حَنِثَ) لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ تَرْجِعُ إِلَى الْمَالِكِ فَيُجْعَلُ مُبَاشِرًا لِأَنَّهُ لَا حُقُوقَ لَهُ تَرْجِعُ إِلَى الْوَكِيلِ (وَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ صُدِّقَ قَضَاءً) لِأَنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ، فَإِذَا نَوَى الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ نَوَى الْحَقِيقَةَ فَيُصَدَّقُ قَضَاءً وَدِيَانَةً، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النِّكَاحِ وَأَخَوَاتِهِ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ يُفْضِي إِلَى النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْأَمْرُ بِذَلِكَ مِثْلَ التَّكَلُّمِ بِهِ، فَإِذَا نَوَى التَّكَلُّمَ بِهِ فَقَدْ نَوَى الْخَاصَ مِنَ الْعَامِّ فَيُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً. قَالَ: (وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ وَلَدَهُ فَأَمَرَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ عَائِدَةٌ إِلَى الْوَلَدِ وَهُوَ التَّثْقِيفُ وَالتَّأْدِيبُ فَلَا يُنْسَبُ إِلَى الْآمِرِ، بِخِلَافِ ضَرْبِ الْعَبْدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. (وَذَبْحُ الشَّاةِ كَضَرْبِ الْعَبْدِ) حَلَفَ لَا يَضْرِبُ حُرًّا فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَضَرَبَهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ضَرْبَ الْحُرِّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سُلْطَانًا أَوْ قَاضِيًا فَيَحْنَثُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ ضَرْبًا حَدًّا وَتَعْزِيرًا فَيَصِحُّ الْأَمْرُ بِهِ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَوَكَّلَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ، وَكَذَا سَائِرُ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ وَلَمْ يَقْبَلِ الْمُشْتَرِي لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَالرَّهْنُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ، وَلَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ، أَوْ أَعَارَ فَلَمْ يُقْبَلْ حَنِثَ. حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إِلَى قَرِيبٍ فَمَا دُونَ الشَّهْرِ، وَبَعِيدٍ أَكْثَرُ مِنَ الشَّهْرِ، وَإِنْ قَالَ: لَيَقْضِيَنَّهُ الْيَوْمَ فَفَعَلَ، وَبَعْضُهَا زُيُوفٌ، أَوْ نَبَهْرَجَةٌ، أَوْ مُسْتَحَقَّةٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَ رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ الْعَقْدَ يُوجَدُ مِنَ الْعَاقِدِ حَتَّى تَرْجِعَ الْحُقُوقُ إِلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ فَلَمْ يُوجَدِ الشَّرْطُ وَهُوَ الْعَقْدُ مِنَ الْحَالِفِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِيهِ تَشْدِيدًا عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونُ الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ الْعُقُودَ كَالسُّلْطَانِ وَالْمُخَدَّرَةِ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا يَعْتَادُ، وَلَوْ كَانَ الْحَالِفُ يُبَاشِرُ مَرَّةً وَيُوكِلُ أُخْرَى تُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ وَلَمْ يَقْبَلِ الْمُشْتَرِي لَا يَحْنَثُ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَالرَّهْنُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ، وَلَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ أَوْ أَعَارَ فَلَمْ يُقْبَلْ حَنِثَ) لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ تَمْلِيكٌ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَيَكُونُ الْقَبُولُ رُكْنًا لِتَحْقِيقِ الْمُعَاوَضَةِ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ تَمْلِيكٌ مِنْ جَانِبِ الْمُمَلِّكِ وَحْدَهُ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَحْنَثُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ أَيْضًا لِأَنَّ تَمَامَهَا بِالْقَبُولِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ. قُلْنَا: الْهِبَةُ تَمْلِيكٌ فَتُتِمُّ بِالْمُمَلِّكِ وَالْقَبُولُ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ دُونَ وُجُودِ الْهِبَةِ، فَصَارَ كَالْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ وَتَمَلُّكٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فِي الْقَرْضِ رِوَايَتَانِ، وَيَحْنَثُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْهِبَةِ الْفَاسِدَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَحْنَثُ فِيهِ إِلَّا بِالْقَبْضِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمِلْكُ وَهُوَ بِالْقَبْضِ. قُلْنَا: هُوَ بَيْعٌ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَعَلَى هَذَا الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ. قَالَ: (حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ إِلَى قَرِيبٍ فَمَا دُونَ الشَّهْرِ، وَبِعِيدٍ أَكْثَرُ مِنَ الشَّهْرِ) لِأَنَّ مَا دُونَ الشَّهْرِ يُعَدُّ قَرِيبًا، وَالشَّهْرُ وَمَا زَادَ يُعَدُّ بَعِيدًا وَالْعِبْرَةُ لِلْمُعْتَادِ. (وَإِنْ قَالَ: لَيَقْضِيَنَّهُ الْيَوْمَ فَفَعَلَ وَبَعْضُهَا زُيُوفٌ، أَوْ نَبَهْرَجَةٌ، أَوْ مُسْتَحَقَّةٌ لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ إِلَّا أَنَّهَا مَعِيبَةٌ وَالْعَيْبُ لَا يَعْدَمُ الْجِنْسِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ، وَالْمُسْتَحَقَّةُ دَرَاهِمُ وَقَبْضُهَا صَحِيحٌ، وَبِرَدِّهَا لَا يَنْتَقِضُ الْقَبْضُ الْأَوَّلُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْيَمِينِ. (وَلَوْ كَانَ رَصَاصًا أَوْ سَتُّوقَةً حَنِثَ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِدَرَاهِمَ حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِمَا لَا يَجُوزُ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ سَتُّوقًا، أَمَّا إِذَا كَانَ الْأَكْثَرُ فِضَّةً لَا يَحْنَثُ. حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ مِنْ فُلَانٍ حَقَّهُ فَأَخَذَهُ مِنْ وَكِيلِهِ أَوْ كَفِيلٍ عَنْهُ بِأَمْرِهِ أَوْ مُحْتَالٍ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْمَطْلُوبِ بَرَّ، وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَالَةُ وَالْحِوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَطْلُوبِ حَنِثَ، لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، أَلَا يَرَى أَنَّ الدَّافِعَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْأَخْذُ مِنْ وَكِيلِهِ أَخْذٌ مِنْهُ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُقُوقَ الْقَضَاءِ لَا تَرْجِعُ إِلَى الْمَأْمُورِ وَكَذَا كَفِيلُهُ بِأَمْرِهِ كَالْوَكِيلِ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنِّ فُلَانًا حَقَّهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِالْأَدَاءِ أَوْ أَحَالَهُ فَقَبَضَ بَرَّ، وَلَوْ بَاعَهُ شَيْئًا وَقَبَضَهُ بَرَّ أَيْضًا، لِأَنَّ بِالْبَيْعِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ مُتَفَرِّقًا فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَقْبِضَ بَاقِيَهُ، وَإِنْ قَبَضَهُ فِي وَزْنَتَيْنِ مُتَعَاقِبًا لَمْ يَحْنَثْ. حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبَدًا، وَإِنْ قَالَ: لَأَفْعَلَنَّهُ بَرَّ بِوَاحِدَةٍ. اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لَيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ مُفْسِدٍ فَهُوَ عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً حَلَفَ لَيَهَبَنَّهُ فَفَعَلَ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ، وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ وَالْعَارِيَةُ وَالصَّدَقَةُ. فَصْلٌ   [الاختيار لتعليل المختار] صَارَ الثَّمَنُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَتَقَاصَّانِ وَهُوَ طَرِيقُ قَضَاءِ الدُّيُونِ؛ وَلَوْ أَبْرَأَهُ أَوْ وَهَبَهُ حَنِثَ لِأَنَّهُ إِسْقَاطٌ مَحْضٌ مِنْ جِهَةِ الطَّالِبِ وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ مِنَ الْحَالِفِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَهَرَبَ مِنَ الْغَرِيمِ لَمْ يَحْنَثْ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَقْبِضُ دَيْنَهُ مُتَفَرِّقًا فَقَبَضَ بَعْضَهُ لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَقْبِضَ بَاقِيهِ) لِأَنَّ الشَّرْطَ قَبْضُ جَمِيعِ دَيْنِهِ مُتَفَرِّقًا وَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحَنْثِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ مِنَ الْبَاقِي أَوْ وَهَبَهُ لَا يَكُونُ قَابِضًا لِلْكُلِّ (وَإِنْ قَبَضَهُ فِي وَزْنَتَيْنِ مُتَعَاقِبًا لَمْ يَحْنَثْ) لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ وَزْنُ الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ هَذَا الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْيَمِينِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ، وَإِنِ اشْتَغَلَ بَيْنَ وَزْنَيْنِ بِعَمَلٍ آخَرَ حَنِثَ لِأَنَّهُ تَبَدَّلَ الْمَجْلِسَ فَاخْتَلَفَ الدَّفْعُ. قَالَ: (حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا تَرَكَهُ أَبِدًا لِأَنَّهُ نَفَى مُطْلَقًا فَيَعُمُّ. (وَإِنْ قَالَ: لَأَفْعَلَنَّهُ بَرَّ بِوَاحِدَةٍ) لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ الْإِثْبَاتِ فَيَبِرُّ بِأَيِّ فِعْلٍ فَعَلَهَ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِمَوْتِهِ أَوْ بِهَلَاكِ مَحَلِّ الْفِعْلِ إِذَا أَيِسَ مِنَ الْفِعْلِ. قَالَ: (اسْتَحْلَفَ الْوَالِي رَجُلًا لَيُعْلِمَنَّهُ بِكُلِّ مُفْسِدٍ فَهُوَ عَلَى حَالِ وِلَايَتِهِ خَاصَّةً) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُ الْفَسَادِ وَدَفْعُ الشَّرِّ بِالْمَنْعِ وَالزَّجْرِ، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ سَلْطَنَتِهِ وَوِلَايَتِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا، وَزَوَالُهَا بِالْمَوْتِ وَالْعَزْلِ (حَلَفَ لَيَهَبَنَّهُ فَفَعَلَ وَلَمْ يَقْبَلْ بَرَّ، وَكَذَلِكَ الْقَرْضُ وَالْعَارِيَةُ وَالصَّدَقَةُ) وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ. [فَصْلٌ في النذر] فَصْلٌ النَّذْرُ قُرْبَةٌ مَشْرُوعَةٌ، أَمَّا كَوْنُهُ قُرْبَةً فَلِمَا يُلَازِمْهُ مِنَ الْقُرْبِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا. وَأَمَّا شَرْعِيَّتُهُ فَلِلْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ بِإِيفَائِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِ بِنَذْرِكِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» إِلَى غَيْرِهَا مِنَ النُّصُوصِ، وَعَلَى شَرْعِيَّتِهِ الْإِجْمَاعُ، وَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِقُرْبَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى مَنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ كَالْقُرَبِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَا يَصِحُّ بِمَا لَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِنْسِهَا وَاجِبٌ كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى وَتَكْفِينِ الْمَيِّتَ وَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهَا. وَالْأَصْلُ فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 وَلَوْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلَقًا فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ، وَكَذَلِكَ إِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخِرًا: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ - كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ وُجُودَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْإِيجَابِ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا صَحَّحْنَا إِيجَابَهُ فِي مِثْلِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّذْرِ، وَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِمَعْصِيَةٍ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى» . قَالَ: (وَلَوْ نَذَرَ نَذْرًا مُطْلُقًا) أَيْ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَلَا تَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ: عَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ نَحْوِهِ (فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ (وَكَذَلِكَ إِنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَوُجِدَ) لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَهُ، وَلِأَنَّ النَّذْرَ مَوْجُودٌ نَظَرًا إِلَى الْجَزَاءِ، وَالْجَزَاءُ هُوَ الْأَصْلُ وَالشَّرْطُ تَبَعٌ، وَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ أَوْلَى فَصَارَ كَالْمُنَجَّزِ. (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - آخِرًا: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إِذَا كَانَ شَرْطًا لَا يُرِيدُ وُجُودَهُ) كَقَوْلِهِ: إِنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا أَوْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ صَدَقَةُ مَا أَمْلِكُهُ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ لِلْبَلْوَى وَالضَّرُورَةِ، وَلَوْ أَدَّى مَا الْتَزَمَهُ يَخْرُجُ عَنِ الْعُهْدَةِ أَيْضًا لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ وَهُوَ الْمَنْعُ، وَهُوَ نَذْرٌ لَفْظًا فَيَخْتَارُ أَيَّ الْجِهَتَيْنِ شَاءَ؛ وَلَوْ كَانَ شَرْطًا يُرِيدُ وُجُودَهُ كَقَوْلِهِ: إِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ قَضَى دَيْنِي أَوْ قَدِمْتُ مِنْ سَفَرِي لَا يُجْزِيهِ إِلَّا الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى لِأَنَّهُ نَذَرَ بِصِيغَتِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ. وَلَوْ قَالَ: إِنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي صَدَقَةٌ فَفَعَلَ وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ إِلَّا مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهَا، لِأَنَّ النَّذْرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ لَا يَصِحُّ؛ وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْأَبَدِ فَضَعُفَ لِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ أَفْطَرَ لِئَلَّا تَخْتَلَّ فَرَائِضُهُ وَيَفْدِيَ كَالشَّيْخِ الْفَانِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وَلَوْ نَذَرَ عَدَدًا مِنَ الْحَجِّ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ؛ لَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ الْفَائِتِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَةُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لَا يُجْزِئُهُ إِلَّا مَا يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَقَوْلُهُ: لِلَّهِ عَلَيَّ طَعَامُ مَسَاكِينَ، كَقَوْلِهِ إِطْعَامٌ، لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمُ عَيْنٍ وَإِنَّمَا يَصِحُّ إِيجَابُ الْفِعْلِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ طَعَامٌ أَطْعَمَ إِنْ شَاءَ وَلَوْ لُقْمَةً. وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ وَنَوَى الصَّوْمَ أَوِ الصَّدَقَةَ دُونَ الْعَدَدِ لَزِمَهُ فِي الصَّوْمِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَفِي الصَّدَقَةِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ اعْتِبَارًا بِالْوَاجِبِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إِذْ هُوَ الْأَقَلُّ فَكَانَ مُتَيَقِّنًا؛ وَلَوْ نَذَرَتْ صَوْمَ أَيَّامِ حَيْضِهَا أَوْ قَالت: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا فَحَاضَتْ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّهَا أَضَافَتِ الصَّوْمَ إِلَى وَقْتٍ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَقْضِي فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ صَدَرَ صَحِيحًا فِي حَالٍ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ وَلَا إِضَافَتَهُ إِلَى زَمَانٍ يُنَافِيهِ، إِذِ الصَّوْمُ مُتَصَوَّرٌ فِيهِ وَالْعَجْزُ بِعَارِضٍ مُحْتَمَلٌ كَالْمَرَضِ فَتَقْضِيَهُ وَصَارَ كَمَا إِذَا نَذَرَتْ صَوْمَ شَهْرٍ يَلْزَمُهَا قَضَاءُ أَيَّامِ حَيْضِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ خُلُوُّ الشَّهْرِ عَنِ الْحَيْضِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 وَلَوْ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ أَوْ نَحْرَهُ لَزِمَهُ ذَبْحُ شَاةٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَصَحَّ الْإِيجَابُ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ لَيْلًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ قَدِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ وَقَدْ أَكَلَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُتَكَلَّمِ بِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَقْضِي فِي الْفَصْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ كَمَا إِذَا نَذَرَتْ صَوْمَ غَدٍ فَحَاضَتْ؛ وَلَوْ قَدِمَ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ قَضَاهُ وَلَا يُجْزِئُهُ صَوْمُهُ، لِأَنَّ الْإِيجَابَ خَرَجَ صَحِيحًا. وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةَ رَكْعَةٍ أَوْ صَوْمَ نِصْفِ يَوْمٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَصَامَ يَوْمًا، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ صَلَاةٌ وَقُرْبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا كَالْوَتْرِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَصَوْمُ نِصْفِ يَوْمٍ قِرْبَةٌ كَإِمْسَاكِ غَدَاةَ الْأَضْحَى فَصَحَّ الْتِزَامُهُ ثُمَّ يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ وَإِتْمَامُهُ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّجَزِّي شَرْعًا، وَلَوْ نَذَرَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ لَزِمَهُ أَرْبَعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَرَكْعَتَانِ عِنْدَ زُفَرَ؛ وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ بِوُضُوءٍ لِأَنَّ إِيجَابَ أَصْلِ الصَّلَاةِ صَحِيحٌ وَذِكْرُ الْوَصْفِ بَاطِلٌ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ أَوْ عُرْيَانًا صَحَّ خِلَافًا لَزُفَرَ وَلَزِمَتْهُ بِقِرَاءَةٍ مَسْتُورًا، لِأَنَّ الصَّلَاةَ كَمَا ذَكَرَ قُرْبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ كَالْأُمِّيِّ وَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ثَوْبٍ فَصَحَّ الْإِيجَابُ. قَالَ: (وَلَوْ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ أَوْ نَحْرِهِ لَزِمَهُ ذَبْحُ شَاةٍ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَكَذَا النَّذْرُ بِذَبْحِ نَفْسِهِ أَوْ عَبْدِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ؛ وَفِي الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ الْأَصَحُّ عَدَمُ الصِّحَّةِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ. لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَصِحُّ. وَلَهُمَا فِي الْوَلَدِ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ كَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَمِثْلُهُ لَا يُعْرَفُ قِيَاسًا فَيَكُونُ سَمَاعًا، وَلِأَنَّ إِيجَابَ ذَبْحِ الْوَلَدِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيجَابِ ذَبْحِ الشَّاةِ، حَتَّى لَوْ نَذَرَ ذَبْحَهُ بِمَكَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَبْحُ الشَّاةِ بِالْحَرَمِ. بَيَانُهُ قِصَّةُ الذَّبِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَبْحَ وَلَدِهِ بِقَوْلِهِ: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وَأَمَرَهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ حَيْثُ قَالَ: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] فَيَكُونُ كَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا، إِمَّا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] أَوْ لِأَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلِنَا تَلْزَمُنَا حَتَّى يَثْبُتَ النَّسْخُ، وَلَهُ نَظَائِرُ: مِنْهَا إِيجَابُ الشَّيْءِ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَارَةٌ عَنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَإِيجَابُ الْهَدْيِ عِبَارَةٌ عَنْ إِيجَابِ شَاةٍ وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَإِذَا كَانَ نَذْرُ ذَبْحِ الْوَلَدِ عِبَارَةً عَنْ ذَبْحِ شَاةٍ لَا يَكُونُ مَعْصِيَةً بَلْ قُرْبَةً حَتَّى قَالَ الْأَسْبِيجَابِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَشَايِخِ: إِنْ أَرَادَ عَيْنَ الذَّبْحِ وَعَرَفَ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ لَا يَصِحُّ وَنَظِيرُهُ الصَّوْمُ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي مَعْصِيَةٌ لِإِفْضَائِهِ إِلَى إِهْلَاكِهِ، وَيَصِحُّ نَذْرُهُ بِالصَّوْمِ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ، وَجُعِلَ ذَلِكَ الْتِزَامًا لِلْفِدْيَةِ كَذَا هَذَا. وَلِمُحَمَّدٍ فِي النَّفْسِ وَالْعَبْدِ أَنَّ وِلَايَتَهُ عَلَيْهِمَا فَوْقَ وِلَايَتِهِ عَلَى وَلَدِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ وُجُوبَ الشَّاةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ عَرَفْنَاهُ اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا وَرَدَتْ فِي الْوَلَدِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، وَلَوْ نَذَرَ بِلَفْظِ الْقَتْلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِلَفْظِ الذَّبْحِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 كِتَابُ الْحُدُودِ وَهِيَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَالزِّنَا: وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَالنَّحْرُ مِثْلُهُ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَتْلُ، وَلِأَنَّ الذَّبْحَ وَالنَّحْرَ وَرَدَا فِي الْقُرْآنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ وَالتَّعَبُّدِ، وَالْقَتْلُ لَمْ يَرِدْ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالِانْتِقَامِ وَالنَّهْيِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ ذَبْحَ الشَّاةِ بِلَفْظِ الْقَتْلِ لَا يَصِحُّ فَهَذَا أَوْلَى، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. [كِتَابُ الْحُدُودِ] وَهُوَ جَمْعُ حَدٍّ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ الْحَدَّادُ لِلْبَوَّابِ لِمَنْعِهِ النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ، وَحُدُودُ الْعَقَارِ: مَوَانِعُ مِنْ وُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ، وَأَحَدَّتِ الْمُعْتَدَّةُ: إِذَا مَنَعَتْ نَفْسَهَا مِنَ الْمَلَاذِّ وَالتَّنَعُّمِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَاللَّفْظُ الْجَامِعُ الْمَانِعُ حَدٌّ، لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَعَانِيَ الشَّيْءِ وَيَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِ فِيهِ. وَحُدُودُ الشَّرْعِ: مَوَانِعُ وَزَوَاجِرُ عَنِ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا. (وَ) فِي الشَّرْعِ (هِيَ عُقُوبَةٌ مُقَدَّرَةٌ وَجَبَتْ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى) وَفِيهَا مَعْنَى اللُّغَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْقِصَاصُ لَا يُسَمَّى حَدًّا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعِبَادِ، وَكَذَا التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ ثَبَتَتْ شَرْعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الْآيَةَ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الْآيَةَ، وَآيَةُ الْمُحَارِبَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالسُّنَّةُ حَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَالْعَسِيفِ وَغَيْرُهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْأَبْوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَالْمَعْقُولُ وَهُوَ أَنَّ الطِّبَاعَ الْبَشَرِيَّةَ وَالشَّهْوَةَ النَّفْسَانِيَّةَ مَائِلَةٌ إِلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَاقْتِنَاصِ الْمَلَاذِّ وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهَا وَمَحْبُوبِهَا مِنَ الشُّرْبِ وَالزِّنَا وَالتَّشَفِّي بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ مَالِ الْغَيْرِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْغَيْرِ بِالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ خُصُوصًا مِنَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، وَمِنَ الْعَالِي عَلَى الدَّنِيءِ، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ شَرْعَ هَذِهِ الْحُدُودِ حَسْمًا لِهَذَا الْفَسَادِ، وَزَجْرًا عَنِ ارْتِكَابِهِ لِيَبْقَى الْعَالَمُ عَلَى نَظْمِ الِاسْتِقَامَةِ، فَإِنَّ إِخْلَاءَ الْعَالَمِ عَنْ إِقَامَةِ الزَّاجِرِ يُؤَدِّي إِلَى انْخِرَامِهِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وَمِنْ كَلَامِ حُكَمَاءِ الْعَرَبِ: الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ. قَالَ: (وَالزِّنَا: وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِعُمُومِ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الزِّنَا، فَإِنَّهُ مَتَى قِيلَ فُلَانٌ زَنَا، يُعْلَمُ أَنَّهُ وَطِئَ امْرَأَةً فِي قُبُلِهَا وَطْئًا حَرَامًا؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا فَسَّرَ الزِّنَا بِالْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ حَرَامًا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ حَدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَكُونُ زِنًا؛ وَأَمَّا عَدَمُ الشُّبْهَةِ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 ، وَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةُ: أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالزِّنَا، فَإِذَا شَهِدُوا يَسْأَلُهُمُ الْقَاضِي عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَمَكَانِهِ وَزَمَانِهِ وَالْمَزْنِيِّ بِهَا، فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ، وَذَكَرُوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَشَهِدُوا بِهِ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِهِ، فَإِنْ نَقَصُوا عَنْ أَرْبَعَةٍ فَهُمْ قَذَفَةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِالشُّبُهَاتِ» وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْخِتَانِ، لِأَنَّ الْمُخَالَطَةَ بِذَلِكَ تَتَحَقَّقُ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ مُلَامَسَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُ الْوَطْءِ مِنْ غُسْلٍ وَكَفَّارَةٍ وَصَوْمٍ وَفَسَادِ حَجٍّ. قَالَ: (وَيَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) لِأَنَّهُمَا حُجَجُ الشَّرْعِ، وَبِهِمَا تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدَّعَاوِي، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: 4] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا الَّذِي رَمَوْهُمْ بِهِ يَثْبُتُ إِذَا أَتَوْا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهُمْ حَدُّ الْقَذْفِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ. وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَالصِّدْقِ فِيهِ رَاجِحٌ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ وَفِيهِ مَضَرَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِهِ رَجَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَاعِزًا، وَالْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ مُتَعَذِّرٌ فِي حَقِّنَا فَيَكْتَفِي بِالظَّاهِرِ الرَّاجِحِ. (وَالْبَيِّنَةُ: أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالزِّنَا) لِمَا تَلَوْنَا، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] شَرْطُ الْأَرْبَعَةِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي اللِّعَانِ. (فَإِذَا شَهِدُوا يَسْأَلُهُمُ الْقَاضِي عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ وَمَكَانِهِ وَزَمَانِهِ وَالْمَزْنِيِّ بِهَا) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . أَمَّا السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ فَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ اشْتُبِهَ عَلَيْهِ فَظَنَّ غَيْرَ الزِّنَا زِنًا، فَإِنَّ مَا دُونَ الزِّنَا يُسَمَّى زِنًا مَجَازًا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ السَّلَامُ: «وَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ» . وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ زَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي زَمَانِ الصِّبَا، أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنَ الزَّمَانِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ أَوْ لَهُ فِيهَا شُبْهَةٌ لَا يَعْرِفُهَا الشُّهُودُ، فَإِنْ سَأَلَهُمْ فَقَالُوا: لَا نَزِيدُ عَلَى هَذَا لَا يُحَدُّونَ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزِّنَا وَهُمْ أَرْبَعَةٌ وَمَا قَذَفُوا. قَالَ: (فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَذَكَرُوا أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَشَهِدُوا بِهِ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِهِ) لِثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَيْفِيَّةُ التَّعْدِيلِ ذَكَرْنَاهُ فِي الشَّهَادَاتِ، وَلَمْ يَكْتَفِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْحُدُودِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ. (فَإِنْ نَقَصُوا عَنْ أَرْبَعَةٍ فَهُمْ قَذَفَةٌ) يُحَدُّونَ لِلْقَذْفِ إِذَا طَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ الْحَدَّ عِنْدَ عَدَمِ شَهَادَةِ الْأَرْبَعِ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي سَاعَةٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 وَإِنْ رَجَعُوا قَبْلَ الرَّجْمِ سَقَطَ وَحُدُّوا، وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ، وَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ فَرُبُعُهَا، وَإِنْ شَهِدُوا بِزِنًا مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إِقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنِ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ قَوْلَهُمُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ شَهَادَةً، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا، وَإِنَّمَا تَتَمَيَّزُ الشَّهَادَةُ عَنِ الْقَذْفِ إِذَا وَقَعَتْ جُمْلَةً، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ دَفْعَةً وَاحِدَةً مِنْهُمْ فَاعْتَبَرْنَا اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُونَهَا لَمْ يُحَدَّ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ. قَالَ: (وَإِنْ رَجَعُوا قَبْلَ الرَّجْمِ سَقَطَ وَحُدُّوا) أَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ فَلِبُطْلَانِ الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ؛ وَأَمَّا وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ فَلِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ. (وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ) لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا إِلَى قَتْلِهِ، وَالْمُتَسَبِّبُ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ كَحَافِرِ الْبِئْرِ. (وَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ فَرُبُعُهَا) لِأَنَّهُ تَلَفَ بِشَهَادَتِهِ رُبُعُ النَّفْسِ؛ أَوْ نَقُولُ: بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَكُونُ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ رُبُعَ الْحَقِّ، وَلَا وَجْهَ إِلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ، وَيُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ مَعَ الدِّيَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ لِأَنَّهُ قَذَفَ حَيًّا وَمَاتَ فَبَطَلَ؛ وَإِنْ كَانَ قَذَفَ مَيَّتًا فَقَدْ رُجِمَ بِقَضَاءٍ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً. وَلَنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ إِنَّمَا تَصِيرُ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ فَيُجْعَلُ قَاذِفًا لِلْمَيِّتِ حَالَةَ الرُّجُوعِ فَقَدْ بَطَلَتِ الْحُجَّةُ فَبَطَلَ الْقَضَاءُ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهَا فَلَا يُورَثُ شُبْهَةً؛ وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ الْجَلْدِ فَالْحَدُّ لِمَا مَرَّ وَلَا يَضْمَنُونَ أَرْشَ السِّيَاطِ، وَكَذَلِكَ إِنْ مَاتَ مِنَ الْجَلْدِ. وَقَالَا: يَضْمَنُونَ، وَإِنْ رَجَعَ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ رُبُعُ الْأَرْشِ، وَإِنْ مَاتَ فَرُبُعُ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مِنَ الْجَلْدِ وَقَدْ حَصَلَ بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الشَّاهِدُ هُوَ الْمُوجِبَ كَمَا فِي الرَّجْمِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ أَثَرَ الضَّرْبِ وَالْمَوْتِ لَيْسَ مُوجِبَ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ الْجَلْدَ قَدْ يُؤَثِّرُ وَلَا يُؤَثِّرُ، وَقَدْ يَمُوتُ مِنْهُ وَلَا يَمُوتُ، وَلَوْ كَانَ مُوجِبَ الشَّهَادَةِ لَمَا انْفَكَّ عَنْهَا كَمَا فِي الرَّجْمِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبَ الشَّهَادَةِ لَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ ضَمَانُهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ إِمَّا أَنْ يَجِبَ عَلَى الشَّاهِدِ وَلَا وَجْهَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا. أَوْ عَلَى الْجَلَّادِ وَلَا وَجْهَ لَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ، وَلَمْ يَتَعَمَّدْ تَجَاوُزَ مَا أُمِرَ بِهِ كَمُعِينِ الْقَصَّارِ، وَلِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ وَفِيهِ ضَرَرٌ جَلِيٌّ، أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُوجِبٍ لَهُ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا فَلَا يَجِبُ كَمَا قُلْنَا فِي الشَّاهِدِ. قَالَ: (وَإِنْ شَهِدُوا بِزِنًا مُتَقَادِمٍ لَمْ يَمْنَعْهُمْ عَنْ إِقَامَتِهِ بُعْدُهُمْ عَنِ الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَبَ فَقَالَ: " أَيُّمَا شُهُودٍ شَهِدُوا بِحَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا هُمْ شُهُودُ ضَغَنٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ " وَلِأَنَّهَا شَهَادَةٌ تَمَكَّنَتْ فِيهَا تُهْمَةٌ فَتَبْطُلُ. بَيَانُهُ أَنَّ الشُّهُودَ إِذَا عَايَنُوا الْفَاحِشَةَ فَهُمْ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا شَهِدُوا بِهِ حِسْبَةً لِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَإِنْ شَاءُوا سَتَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِ حِسْبَةً أَيْضًا، فَإِنِ اخْتَارُوا الْأَدَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ التَّأْخِيرُ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْحَدِّ حَرَامٌ، فَيُحْمَلُ تَأْخِيرُهُمْ عَلَى السَّتْرِ حِسْبَةً حَمْلًا لَهُمْ عَلَى الْأَحْسَنِ، فَإِذَا أَخَّرُوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ يَرُدُّهُ الْقَاضِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى لَا يَرَاهُ، ثُمَ يَسْأَلُهُ كَمَا يَسْأَلُ الشُّهُودَ إِلَّا عَنِ الزَّمَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ.   [الاختيار لتعليل المختار] ثُمَّ شَهِدُوا اتُّهِمُوا أَنَّهُمْ إِنَّمَا شَهِدُوا لِضَغِينَةٍ حَمَلَتْهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنْ كَانَ تَأْخِيرُهُمْ لَا لِحِسْبَةِ السِّتْرِ ثَبَتَ فِسْقُهُمْ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُعَادِي نَفْسَهُ فَلَا يُتَّهَمُ؛ ثُمَّ التَّقَادُمُ فِي الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ إِلَّا إِذَا كَانَ التَّأْخِيرُ لِعُذْرٍ كَبُعْدِ الْمَسَافَةِ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَحَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِحَّ رُجُوعُ الْمُقِرِّ عَنْهَا فَيَكُونُ التَّقَادُمُ فِيهَا مَانِعًا؛ وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ، وَلِهَذَا تَوَقَّفَ عَلَى دَعْوَاهُ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ، فَالتَّقَادُمُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى فِيهِ شَرْطٌ، فَاحْتَمَلَ أَنَّ تَأْخِيرَهُمْ لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى فَلَا يُتَّهَمُونَ فِي ذَلِكَ؛ وَلَا يَلْزَمُ حَدُّ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ لِلْمَالِ لَا لِلْحَدِّ، لِأَنَّ الْحَدَّ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ، وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ تَكُونُ فِي السِّرِّ وَالْخُفْيَةِ مِنَ الْمَالِكِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إِعْلَامُهُ، فَبِالتَّأْخِيرِ يَفْسُقُ أَيْضًا. وَأَمَّا حَدُّ التَّقَادُمِ فَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يُقَدِّرْ فِي ذَلِكَ وَفَوَّضَهُ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ. وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ: جَهِدْنَا بِأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يُوَقِّتَ فِي التَّقَادُمِ شَيْئًا فَأَبَى، لِأَنَّ التَّقَادُمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَعْذَارِ وَرَدَّهُ إِلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ. وَرَوَى الْحَسَنُ وَمُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ إِذَا شَهِدُوا بَعْدَ سَنَةٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْأَوَّلَ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّنَةَ تَقَادُمًا وَلَمْ يَمْنَعْ مَا دُونَهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا شَهِدُوا بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ فَهُوَ تَقَادُمٌ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَعِيدِ وَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ، فَوَجَبَ أَنْ يُقَدِّرَ التَّقَادُمَ بِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرًا. وَعَنِ الطَّحَاوِيِّ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. (وَيَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ، وَهُوَ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ يَرُدُّهُ الْقَاضِي فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَسْأَلُهُ كَمَا يَسْأَلُ الشُّهُودَ إِلَّا عَنِ الزَّمَانِ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ) أَمَّا اشْتِرَاطُ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ فَلِأَنَّهُمَا شَرْطٌ لِلتَّكَالِيفِ، وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَقَرَّ عِنْدَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ فَأَقَرَّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ الثَّالِثَةَ فَأَقَرَّ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَعَادَ الرَّابِعَةَ فَأَقَرَّ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا فَبِمَنْ؟ " وَفِي رِوَايَةٍ: " فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَادَ» وَالْتَمَسُّكُ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْحَدَّ لَوْ وَجَبَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لَمْ يُؤَخِّرْهُ إِلَى الرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَدِّ إِذَا وَجَبَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا يَنْبَغِي لِوَالِي حَدٍّ أُتِيَ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا إِقَامَتُهُ» . الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْآنَ أَقْرَرْتَ أَرْبَعًا» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الْإِقْرَارُ أَرْبَعًا، هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ فَحْوَى هَذَا الْكَلَامِ. الثَّالِثُ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا أَقَرَّ الثَّالِثَةَ قَالَ لَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 وَإِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَهُ الرُّجُوعَ كَقَوْلِهِ لَهُ: لَعَلَّكَ وَطِئْتَ بِشُبْهَةٍ، أَوْ قَبَّلْتَ، أَوْ لَمَسْتَ. .   [الاختيار لتعليل المختار] إِنْ أَقْرَرْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الرَّابِعَةَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْلَمُ إِلَّا تَوْقِيفًا. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ أَنَّهُ قَالَ: «كُنَّا نَتَحَدَّثُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ مَاعِزًا لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقِرَّ لَمْ يَرْجُمْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَرَفُوهُ شَرِيعَةً قَبْلَ رَجْمِ مَاعِزٍ؛ وَلِأَنَّ الزِّنَا اخْتُصَّ بِزِيَادَةِ تَأْكِيدٍ لَمْ يَجِبْ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْحُدُودِ إِعْظَامًا لِأَمْرِهِ وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ كَزِيَادَةِ عَدَدِ الشُّهُودِ وَالسُّؤَالِ عَنْ حَالِ الْمُقِرِّ، فَيُنَاسِبُ أَنْ يَخْتَصَّ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الْأَقَارِيرِ أَيْضًا وَاشْتِرَاطُ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ اتِّحَادَ الْمَجْلِسِ يُؤَثِّرُ فِي جَمِيعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ، وَالْمُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَائِمٌ بِهِ دُونَ الْقَاضِي. فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعًا عَلَى مَا وَصَفْنَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ حَالِهِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِمَاعِزٍ: " أَبِكَ دَاءٌ؟ أَبِكَ خَبَلٌ؟ أَبِكَ جُنُونٌ؟ فَقَالَ لَا، وَبَعَثَ إِلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ هَلْ تُنْكِرُونَ مِنْ حَالِهِ شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» فَإِذَا عَرَفَ صِحَّةَ عَقْلِهِ سَأَلَهُ عَنِ الزِّنَا لِمَا تَقَدَّمَ فِي الشُّهُودِ، وَلِاحْتِمَالِ أَنَّهُ وَطِئَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَاعْتَقَدَهُ زِنًا، «وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَاعِزٍ: " لَعَلَّكَ لَمَسْتَ، لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّكَ بَاشَرْتَ» ، فَلَمَّا ذَكَرَ مَاعِزٌ النُّونَ وَالْكَافَ قَبِلَ إِقْرَارَهُ، وَيَسْأَلُهُ عَنِ الْمَزْنِيِّ بِهَا لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَاعِزٍ: " فَبِمَنْ "؟ وَلِجَوَازِ أَنَّهُ وَطِئَ مَنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا كَجَارِيَةِ الِابْنِ وَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَنَحْوَهِمَا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَيَسْأَلُهُ عَنِ الْمَكَانِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَا يَسْأَلُهُ عَنِ الزَّمَانِ، لِأَنَّ التَّقَادُمَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْإِقْرَارِ لِمَا بَيَّنَّا، وَقِيلَ يَسْأَلُهُ لِجَوَازِ أَنَّهُ زَنَى حَالَةَ الصِّغَرِ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ لِتَمَامِ الْحُجَّةِ وَلِمَا رَوَيْنَا. قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ عَنْ إِقْرَارِهِ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ خُلِّيَ سَبِيلُهُ) لِأَنَّ رُجُوعَهُ إِخْبَارٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ كَالْإِقْرَارِ وَلَا مُكَذِّبَ لَهُ. فَتَحَقَّقَتِ الشُّبْهَةُ لِتَعَارُضِ الْإِقْرَارِ بِالرُّجُوعِ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُكَذِّبُهُ فَلَا مُعَارِضَ لِإِقْرَارِ الْأَوَّلِ. وَرُوِيَ: «أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا مَسَّهُ حَرُّ الْحِجَارَةِ هَرَبَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ» فَجَعَلَ الْهَرَبَ الدَّالَّ عَلَى الرُّجُوعِ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ فَلَأَنْ يَسْقُطَ بِصَرِيحِ الرُّجُوعِ أَوْلَى. (وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَهُ الرُّجُوعَ كَقَوْلِهِ لَهُ: لَعَلَّكَ وَطِئْتَ بِشُبْهَةٍ، أَوْ قَبَّلْتَ، أَوْ لَمَسْتَ) لِمَا رَوَيْنَا وَاحْتِيَالًا لِلدَّرْءِ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ لَهُ: مَا إِخَالُكَ سَرَقْتَ» وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّلْقِينِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 وَحَدُّ الزَّانِي إِنْ كَانَ مُحْصَنًا الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ، يُخْرَجُ إِلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ، فَإِنْ كَانَ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يَبْتَدِئُ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، فَإِذَا امْتَنَعَ الشُّهُودُ أَوْ بَعْضُهُمْ لَا يُرْجَمُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَعَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ بِالرُّجُوعِ وَإِلَّا لَمَا أَفَادَ التَّلْقِينُ. وَإِذَا أَقَرَّ الْخَصِيُّ بِالزِّنَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْإِيلَاجِ لِسَلَامَةِ آلَتِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَجْبُوبُ لَا يُحَدُّ لِكَذِبِهِ قَطْعًا، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِمَا، وَلَا يُحَدُّ الْأَخْرَسُ بِالْإِقْرَارِ إِشَارَةً لِلشُّبْهَةِ، وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدَّ حَتَّى تَحْضُرَ لِجَوَازِ أَنَّهَا تَدَّعِي شُبْهَةً لِسُقُوطِ الْحَدِّ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَاعِزًا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ فَرَجَمَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ إِحْضَارِهَا. الْمَقْضِيُّ بِرَجْمِهِ إِذَا قَتَلَهُ إِنْسَانٌ أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصِيرُ مُبَاحَ الدَّمِ بِالْقَضَاءِ. [فصل حَدُّ الزِّنَا] فَصْلٌ (وَحَدُّ الزَّانِي إِنْ كَانَ مُحْصَنًا الرَّجْمُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ) لِحَدِيثِ مَاعِزٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَهُ وَكَانَ مُحْصَنًا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِثَلَاثٍ " وَذَكَرَ مِنْهَا " أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ» وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ " وَهَذَا مِمَّا قَالُوا إِنَّهُ قُرْآنٌ نُسِخَ لَفْظُهُ وَبَقِيَ مَعْنَاهُ، وَعَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ: (يُخْرَجُ إِلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ) كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَاعِزٍ أَمَرَ بِرَجْمِهِ وَلَمْ يَحْفِرْ لَهُ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يَبْتَدِئُ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ بَدَأَ بِرَجْمِ الْهَمْدَانَيَّةِ لَمَّا أَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا وَقَالَ: الرَّجْمُ رَجْمَانِ: رَجْمُ سِرٍّ، وَرَجْمُ عَلَانِيَةٍ، فَالْعَلَانِيَةُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمَرْأَةِ مَا فِي بَطْنِهَا، وَالسِّرُّ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ فَتَرْجُمُ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَلِأَنَّ الْبُدَاءَةَ بِالشُّهُودِ ضَرْبُ احْتِيَالٍ لِلدَّرْءِ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَى الْأَدَاءِ وَتَتَعَاظَمُ الْمُبَاشِرَةُ حُرْمَةً لِلنَّفْسِ فَيَرْجِعُ عَنِ الشَّهَادَةِ. قَالَ: (فَإِذَا امْتَنَعَ الشُّهُودُ أَوْ بَعْضُهُمْ لَا يُرْجَمُ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ رُجُوعِهِمْ، وَكَذَا إِذَا غَابُوا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ، وَكَذَا إِذَا مَاتُوا أَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ، وَكَذَا إِذَا جُنُّوا أَوْ فَسَقَوْا أَوْ قَذَفُوا فَحُدُّوا أَوْ حُدَّ أَحَدُهُمْ أَوْ عَمِيَ أَوْ خَرِسَ أَوِ ارْتَدَّ، لِأَنَّ الطَّارِئَ عَلَى الْحَدِّ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمَوْجُودِ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي رُجُوعِ الْمُقِرِّ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ شَهِدُوا وَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُحَدُّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إِذَا غَابَ الشُّهُودُ رُجِمَ وَلَمْ يُنْتَظَرُوا، وَكَذَا إِذَا امْتَنَعُوا أَوِ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ مُبَاشَرَةُ الشُّهُودِ كَالْجَلْدِ. قُلْنَا الْجَلْدُ لَا يُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَرُبَّمَا وَقَعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ ابْتَدَأَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا فَحَدُّهُ الْجَلْدُ مِائَةٌ لِلْحُرِّ وَخَمْسُونَ لِلْعَبْدِ، وَيُضْرَبُ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا يُفَرِّقُهُ عَلَى أَعْضَائِهِ إِلَّا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَفَرْجَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] مُهْلِكًا، وَلَا كَذَلِكَ الرَّجْمُ لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ: إِذَا كَانُوا مَرْضَى أَوْ مَقْطُوعِي الْأَيْدِي يَبْتَدِئُ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ إِذَا كَانَ بِعُذْرٍ ظَاهِرٍ زَالَتِ التُّهْمَةُ، وَلَا كَذَلِكَ لَوْ مَاتُوا لِاحْتِمَالِ الرُّجُوعِ أَوِ الِامْتِنَاعِ فَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً؛ وَلَا بَأْسَ لِكُلِّ مَنْ رَمَى أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْقَتْلِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مِنْهُ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ وَيُوَلِّيَ ذَلِكَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ. قَالَ: (وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ ابْتَدَأَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ حُفْرَةً إِلَى صَدْرِهَا وَأَخَذَ حَصَاةً مِثْلَ الْحِمَّصَةِ فَرَمَاهَا بِهَا وَقَالَ: ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ، فَلَمَّا طَعَنَتْ أَخْرَجَهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا وَقَالَ: لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى أَهْلِ الْحِجَازِ لَوَسِعَتْهُمْ» وَلِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْبَطَ الْمَرْجُومُ وَلَا يُمْسَكَ وَلَا يُحْفَرَ لِلرَّجُلِ لَكِنَّهُ يُقَامُ قَائِمًا ثُمَّ يُرْجَمُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِمَاعِزٍ، وَمَا نُقِلَ أَنَّهُ هَرَبَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَيُغْسَلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ. «وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَاعِزٍ: " اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ، فَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ غُفِرَ لَهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْغَمِسُ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ» وَلِأَنَّهُ مَقْتُولٌ بِحَقٍّ فَصَارَ كَالْمَقْتُولِ قِصَاصًا. قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا فَحَدُّهُ الْجَلْدُ مِائَةٌ لِلْحُرِّ وَخَمْسُونَ لِلْعَبْدِ) قَالَ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْإِمَاءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . قَالَ: (يُضْرَبُ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ضَرْبًا مُتَوَسَّطًا يُفَرِّقُهُ عَلَى أَعْضَائِهِ إِلَّا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَفَرْجَهُ) لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَسَرَ ثَمَرَةَ السَّوْطِ لَمَّا أَرَادَ إِقَامَةَ الْحَدِّ بِهِ " وَالْمُتَوَسِّطُ مِنَ الضَّرْبِ بَيْنَ الْمُتْلِفِ وَغَيْرِ الْمُؤْلِمِ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ، وَهُوَ الِانْزِجَارُ بِدُونِ الْهَلَاكِ. وَأَمَّا التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ لِأَنَّهُ إِذَا جَمَعَ الضَّرْبَ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّلَفِ، وَالْحَدُّ غَيْرُ مُتْلِفٍ، وَلِيُدْخِلَ الْأَلَمَ عَلَى كُلِّ عُضْوٍ كَمَا وَصَلَتِ اللَّذَّةُ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَتَّقِي الْأَعْضَاءَ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ فِيهَا التَّلَفُ، أَوْ تَلَفُ مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ، إِذِ التَّلَفُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ فَالرَّأْسُ وَالْفَرْجُ مَقْتَلٌ، وَالْوَجْهُ مَكَانُ الْبَصَرِ وَالشَّمِّ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِلْجَلَّادِ: اتَّقِ الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَضْرِبُ الرَّأْسَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ فِيهِ " وَلِأَنَّهُ لَا يُخْشَى التَّلَفُ بِسَوْطٍ وَسَوْطَيْنِ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ، وَأَثَرُ الصِّدِّيقِ وَرَدَ فِي حَرْبِيٍّ كَانَ رَاعِيًا وَهُوَ مُسْتَحِقٌّ الْقَتْلَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وَيُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ إِلَّا الْإِزَارَ، وَلَا تُجَرَّدُ الْمَرْأَةُ إِلَّا عَنِ الْفَرْوِ وَالْحَشْوِ، وَإِنْ حُفِرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ، وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ، وَلَا يُجْمَعُ عَلَى الْمُحْصَنِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ، وَلَا يُجْمَعُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنِ الْجَلْدُ وَالنَّفْيُ إِلَّا أَنْ يَرَاهُ الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فَيَفْعَلَهُ بِمَا يَرَاهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَيُجَرَّدُ عَنْ ثِيَابِهِ إِلَّا الْإِزَارَ) هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي إِيصَالِ الْأَلَمِ إِلَيْهِ، وَحَدُّ الزِّنَا مَبْنَاهُ عَلَى شِدَّةِ الضَّرْبِ فَيَقَعُ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ، وَنَزْعُ الْإِزَارِ يُؤَدِّي إِلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ فَلَا يُنْزَعُ. قَالَ: (وَلَا تُجَرَّدُ الْمَرْأَةُ إِلَّا عَنِ الْفَرْوِ وَالْحَشْوِ) لِأَنَّ مَبْنَى حَالِهِنَّ عَلَى السَّتْرِ، وَفِي نَزْعِ ثِيَابِهَا كَشْفُ عَوْرَتِهَا، وَالسِّتْرُ يَحْصُلُ بِدُونِ الْحَشْوِ وَالْفَرْوَ، وَفِيهِمَا مَنْعٌ مِنْ وُصُولِ الْأَلَمِ فَيُنْزَعَانِ وَتُضْرَبُ جَالِسَةً لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءِ قُعُودًا (وَإِنْ حُفِرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَفَرَ لِلْهَمْدَانِيَّةِ، وَإِنَّ تَرْكَهُ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ. (وَيُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا فِي جَمِيعِ الْحُدُودِ) لِحَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَا يُمَدُّ وَلَا يُشَدُّ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ عُقُوبَةٍ غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَلَا يُجْمَعُ عَلَى الْمُحْصَنِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ) لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ، وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْجَلْدِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْحَدِّ الزَّجْرُ وَهُوَ لَا يَنْزَجِرُ بَعْدَ هَلَاكِهِ، وَزَجْرُ غَيْرِهِ يَحْصُلُ بِالرَّجْمِ إِذِ الْقَتْلُ أَبْلَغُ الْعُقُوبَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ: (وَلَا يَجْمَعُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنِ الْجَلْدُ وَالنَّفْيُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] الْآيَةَ، وَأَنَّهُ بَيَانٌ لِجَمِيعِ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ كُلُّ الْمَذْكُورِ، أَوْ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَهُوَ الْجَزَاءُ، فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ يُسَاوِيهِ أَوْ يَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ، إِذِ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، وَلِأَنَّ النَّفْيَ يَفْتَحُ عَلَيْهَا بَابَ الزِّنَا لِقِلَّةِ اسْتِحْيَائِهَا مِنْ عَشِيرَتِهَا وَفِيهِ قَطْعُ الْمَادَّةِ عَنْهَا فَرُبَّمَا اتَّخَذَتْ ذَلِكَ مَكْسَبًا وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَفَى بِالتَّغْرِيبِ فِتْنَةً وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» قُلْنَا: الْآيَةُ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ فَنَسَخَتْهُ. بَيَانُهُ أَنَّ الْجَلْدَ فِي الْأَصْلِ كَانَ الْإِيذَاءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَآذُوهُمَا) ثُمَّ نُسِخَ بِالْحَبْسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] إِلَى قَوْلِهِ: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] ثُمَّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» الْحَدِيثَ فَكَانَ بَيَانًا لِلسَّبِيلِ الْمَوْعُودِ فِي الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْجَلْدِ، فَكَانَتْ نَاسِخَةً لِلْكُلِّ، أَوْ نَقُولُ: هُوَ حَدِيثُ آحَادٍ فَلَا يُزَادُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَرَاهُ الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فَيَفْعَلُهُ بِمَا يَرَاهُ) فَيَكُونُ سِيَاسَةً وَتَعْزِيرًا لَا حَدًّا، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ مِنَ التَّغْرِيبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 وَلَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ، وَإِذَا كَانَ الزَّانِي مَرِيضًا، فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ، وَإِلَّا لَا يُجْلَدُ حَتَّى يَبْرَأَ، وَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ لَا تُحَدُّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، فَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ فَحَتَّى تَتَعَالَى مِنْ نِفَاسِهَا، وَإِنْ كَانَ الرَّجْمُ فَعَقِيبَ الْوِلَادَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَنْ يُرَبِّيهِ فَحَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ نَفَى رَجُلًا فَلَحِقَ بِالرُّومِ فَقَالَ: لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَحَدًا؛ وَلَوْ كَانَ النَّفْيُ حَدًّا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النور: 2] فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ سِيَاسَةً وَتَعْزِيرًا، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَدًّا لَاشْتُهِرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلَوِ اشْتُهِرَ لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ وَقَدِ اخْتَلَفُوا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ وَرُجُوعِ عُمَرَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ، وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي مَسْجِدٍ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ» وَرَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُسْتَقَادَ فِي الْمَسَاجِدِ أَوْ يُنْشَدَ فِيهَا الشِّعْرُ أَوْ يُقَامَ فِيهَا الْحُدُودُ» وَلِأَنَّهُ عَسَاهُ يَنْفَصِلُ مِنْهُ مَا يُنَجِّسُ الْمَسْجِدَ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُخْرِجَهُ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَيَأْمُرَ مَنْ يَجْلِدُهُ وَهُوَ يُشَاهِدُهُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِأَمِينٍ وَيَأْمُرَهُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» قَالَ: (وَلَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إِلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ) لِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إِلَّا نَائِبُهُ، وَهُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ؛ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ حَتَّى جَازَ تَعْزِيرُ الصَّبِيِّ، وَحُقُوقُ الشَّرْعِ مَوْضُوعَةٌ عَنْهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَرْبَعٌ إِلَى الْوُلَاةِ) وَعَدَّ مِنْهَا إِقَامَةَ الْحُدُودِ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى مُتَّهَمٌ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى عَبْدِهِ لِأَنَّهُ يَخَافُ نُقْصَانَ مَالِيَّتِهِ فَلَا يَضْرِبُ الضَّرْبَ الْمَشْرُوعَ فَلَا تَحْصُلُ مُصْلِحَةُ الزَّجْرِ فَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الزَّانِي مَرِيضًا فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رُجِمَ) لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّأْخِيرِ. قَالَ: (وَإِلَّا لَا يُجْلَدُ حَتَّى يَبْرَأَ) لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَفْضَى إِلَى، الْهَلَاكِ وَلَيْسَ مَشْرُوعًا، وَلِهَذَا «أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَسْمِ يَدِ السَّارِقِ» وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ. قَالَ: (وَالْمَرْأَةُ الْحَامِلُ لَا تُحَدُّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا) لِأَنَّهُ يُخَافُ مِنَ الْحَدِّ هَلَاكُ وَلَدِهَا الْبَرِيءِ عَنِ الْجِنَايَةِ. وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَمَّ بِرَجْمِ حَامِلٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنْ كَانَ لَكَ عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا فَخَلَّى عَنْهَا، فَإِذَا وَلَدَتْ (فَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجِلْدُ فَحَتَّى تَتَعَالَى مِنْ نِفَاسِهَا) لِأَنَّهَا مَرِيضَةٌ ضَعِيفَةٌ (وَإِنْ كَانَ الرَّجْمُ فَعَقِيبَ الْوِلَادَةِ) لِأَنَّ التَّأْخِيرَ كَانَ بِسَبَبِ الْوَلَدِ وَقَدِ انْفَصَلَ عَنْهَا (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلصَّغِيرِ مَنْ يُرَبِّيهِ فَحَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ: الْحُرِّيَّةُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْإِسْلَامُ وَالدُّخُولُ، وَهُوَ الْإِيلَاجُ فِي الْقُبُلِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُمَا بِصِفَةِ الْإِحْصَانِ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صِيَانَةَ الْوَلَدِ عَنِ الْهَلَاكِ. وَرُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ لَمَّا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَهِيَ حَامِلٌ اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي " فَلَمَّا وَضَعَتْ جَاءَتْ، فَقَالَ لَهَا: ارْجِعِي حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُكِ، فَجَاءَتْ وَفِي يَدِهِ خُبْزٌ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا وَلَدِي قَدِ اسْتَغْنَى، فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ» وَيُحْبَسُ الْمَرِيضُ حَتَّى يَبْرَأَ وَالْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ إِنْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ مَخَافَةَ أَنْ تَهْرُبَ، وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا يُحْبَسُ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ صَحِيحٌ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْحَبْسِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْبِسِ الْغَامِدِيَّةَ؛ وَلَوْ قَالَتِ الزَّانِيَةُ: أَنَا حُبْلَى يُرِيهَا النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ حُبْلَى حَبَسَهَا سَنَتَيْنِ ثُمَّ رَجَمَهَا، وَهَذَا التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ الْإِقَامَةَ لِأَنَّهُ بِعُذْرٍ، وَلَوْ كَانَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ ضَعِيفُ الْخِلْقَةِ يُخَافُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ لَوْ ضُرِبَ شَدِيدًا يُضْرَبُ مِقْدَارَ مَا يَتَحَمَّلُهُ مِنَ الضَّرْبِ. قَالَ: (وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ: الْحُرِّيَّةُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْإِسْلَامُ وَالدُّخُولُ، وَهُوَ الْإِيلَاجُ فِي الْقُبُلِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُمَا بِصِفَةِ الْإِحْصَانِ) أَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] أَوْجَبَ عَلَيْهِنَّ عُقُوبَةً تَتَنَصَّفُ وَالرَّجْمَ لَا يَتَنَصَّفُ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَاءِ، وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلِأَنَّهُ لَا خِطَابَ بِدُونِهِمَا، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَلَيْسِ بِمُحْصَنٍ» وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ» فَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ. وَأَمَّا النِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَالدُّخُولُ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ» وَالْبِكْرُ اسْمٌ لِمَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ وَلِأَنَّ بِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى وَطْءِ الْحَلَالِ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَالثَّيِّبُ هُوَ الْوَاطِئُ فِي النِّكَاحِ الْحَلَالِ فِي الْقُبُلِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ نِعَمٌ مُتَوَافِرَةٌ مُتَكَامِلَةٌ صَادَّةٌ لَهُ عَنِ الْفَاحِشَةِ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ عِنْدَ وُجُودِهَا مُتَغَلِّظَةً، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ وَالْمَعْصِيَةَ عِنْدَ تَكَامُلِ نِعَمِ الْمُنْعِمِ أَقْبَحُ وَأَفْحَشُ فَيُنَاسِبُ تَغْلِيظُ الْعُقُوبَةِ فِي حَقِّهِ. وَأَمَّا كَوْنُهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ لَا يُوجِبُ إِحْصَانَ أَحَدِ الْوَاطِئِينَ لَا يُوجِبُ إِحْصَانَ الْآخَرِ كَالْمَمْلُوكَيْنِ وَالْمَجْنُونَيْنِ. وَصُورَتُهُ: لَوْ تَزَوَّجَ بِأَمَةٍ أَوْ صَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَوْ كَافِرَةٍ وَدَخَلَ بِهَا لَمْ يَصِرْ مُحْصَنًا، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً عَاقِلَةً بَالِغَةً وَهُوَ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَا تَصِيرُ مُحْصَنَةً إِلَّا إِذَا دَخَلَ بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُحْصَنًا بِهَذِهِ الْإِصَابَةِ لَا بِمَا قَبْلَهَا، لِأَنَّ نِعَمَ الزَّوْجِيَّةِ لَا تَتَكَامَلُ مَعَ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ تُنَفِّرُ الطِّبَاعَ إِمَّا لِعَدَاوَةِ الدِّينِ أَوْ لِذُلِّ الرِّقِّ أَوْ لِعَدَمِ الْعَقْلِ أَوْ لِنُقْصَانِهِ وَعَدَمِ مَيْلِ الصَّبِيَّةِ إِلَيْهِ فَلَا تَتَغَلَّظُ جِنَايَتَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ، وَعَنْهُ أَنَّ الْوَطْءَ إِذَا حَصَلَ قَبْلَ الْعِتْقِ ثُمَّ أُعْتِقَا صَارَا مُحْصَنَيْنِ بِالْوَطْءِ الْأَوَّلِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ لَا يُوجِبُ إِحْصَانَ أَحَدِهِمَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 وَيَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِالْإِقْرَارِ، أَوْ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ؛ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ مَعْرُوفٌ. فَصْلٌ وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَقَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ سَيِّدِهِ أَوْ مُعْتَدَّتِهِ عَنْ ثَلَاثٍ وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا حَلَالٌ لَمْ يُحَدَّ، وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ حُدَّ؛ وَفِي جَارِيَةِ الْأَخِ وَالْعَمِّ يُحَدُّ بِكُلِّ حَالٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَا يُوجِبُ إِحْصَانَ الْآخَرِ كَمَا بَيَّنَّا. وَعَنِ الْأُخْرَى أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ لَا يُوجِبُ الْإِحْصَانَ عِنْدَ وُجُودِهِ لَا يُوجِبُهُ فِي الثَّانِي مِنَ الزَّمَانِ كَوَطْءِ الْمَوْلَى. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ ثُمَّ جُنَّ أَوْ صَارَ مَعْتُوهًا ثُمَّ أَفَاقَ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا بَعْدَ الْإِفَاقَةِ، لِأَنَّ الْإِحْصَانَ الْأَوَّلَ بَطَلَ فَلَا يَثْبُتُ إِحْصَانٌ مُسْتَأْنَفٌ إِلَّا بِدُخُولٍ مُسْتَأْنَفٍ. قَالَ: (وَيَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِالْإِقْرَارِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ (أَوْ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ) لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ عِلَّةً لِوُجُوبِ الرَّجْمِ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ وَأَوْصَافٍ جَمِيلَةٍ وَذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْعُقُوبَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِثُبُوتِهِ مَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَإِنَّمَا الْإِحْصَانُ شَرْطٌ مَحْضٌ. (وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ مَعْرُوفٌ) لِأَنَّهُ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِهِ الْإِحْصَانُ؛ وَيَكْفِي فِي الْإِحْصَانِ أَنْ يَقُولَ الشُّهُودُ دَخَلَ بِهَا. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا بَاضَعَهَا أَوْ جَامَعَهَا، لِأَنَّ الدُّخُولَ مُشْتَرَكٌ فَلَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِالشَّكِّ. وَلَهُمَا أَنَّ الدُّخُولَ مَتَى أُضِيفَ إِلَى الْمَرْأَةِ بِحَرْفِ الْبَاءِ لَا يُرَادُ بِهِ إِلَّا الْجِمَاعُ. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] وَالْمُرَادُ الْجِمَاعُ، وَلَوْ دَخَلَ بِامْرَأَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَالَ: وَطِئْتُهَا وَأَنْكَرَتْ صَارَ مُحْصَنًا وَلَا تَكُونُ مُحْصَنَةً لِجُحُودِهَا، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ: كُنْتُ نَصْرَانِيَّةً، وَقَالَ: كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً، وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا دُونَ الْآخَرِ خُصَّ كُلُّ وَاحِدٍ بِحِدِّهِ، لِأَنَّ جِنَايَةَ أَحَدِهِمَا أَخَفُّ وَالْآخَرِ أَغْلَظُ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْجِنَايَةِ اخْتَلَفَا فِي مُوجِبِهَا ضَرُورَةً. [فصل وَطْءُ الْجَارِيَةِ] فَصْلٌ (وَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَقَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ وَإِنْ عَلَا أَوْ أُمِّهُ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ سَيِّدِهِ أَوْ مُعْتَدَّتِهِ عَنْ ثَلَاثٍ وَقَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا حَلَالٌ لَمْ يُحَدَّ؛ وَلَوْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ حُدَّ؛ وَفِي جَارِيَةِ الْأَخِ وَالْعَمِّ يُحَدُّ بِكُلِّ حَالٍ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 وَلَوِ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا وَزَنَى بِهَا، أَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ لَاطَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ،   [الاختيار لتعليل المختار] ثُمَّ الشُّبْهَةُ أَنْوَاعٌ: شُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ، وَشُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ، وَهِيَ شُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ، وَشُبْهَةٌ فِي الْعَقْدِ. أَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فَهُوَ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ ابْنِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ أَوْ مُكَاتَبِهِ، أَوْ وَطِئَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَيْعًا فَاسِدًا قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ، أَوْ كَانَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، أَوْ وَطِئَ الْجَارِيَةَ الَّتِي جَعَلَهَا صَدَاقًا قَبْلَ التَّسْلِيمِ، أَوْ وَطِئَ الْمُبَانَةِ بِالْكِنَايَاتِ فِي عِدَّتِهَا، أَوْ وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ. وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمِلْكِ وَهُوَ الْمَحَلُّ مَوْجُودَةٌ سَوَاءٌ عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ. وَأَمَّا شُبْهَةُ الْفِعْلِ فَفِيمَا إِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ جَارِيَةَ زَوْجَتِهِ وَالْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا أَوْ عَلَى مَالٍ فِي الْعِدَّةِ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فِي الْعِدَّةِ أَوْ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ، وَالْمُرْتَهَنُ يَطَأُ جَارِيَةَ الرَّهْنِ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَجِبُ الْحَدُّ، فَإِنْ قَالَ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا حَلَالٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَالَ: عَلِمْتُ أَنَّهَا حَرَامٌ حُدَّ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْفِعْلَ مُبَاحٌ لَهُ كَمَا يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمَالِهِ، أَوْ لَهُ نَوْعُ حَقٍّ فِي الْمَحَلِّ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُبِيحُ وَطْأَهَا فَكَانَ ظَنُّهُ مُسْتَنَدًا إِلَى دَلِيلٍ فَكَانَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ إِذَا ادَّعَى الْحِلَّ، وَبِدُونِ الدَّعْوَى انْعَدَمَتِ الشُّبْهَةُ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنِ ادَّعَاهُ لِأَنَّهُ زِنًا مَحْضٌ، لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ لِاشْتِبَاهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ لَا لِلشُّبْهَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنْ حَضَرَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا: ظَنَنْتُ أَنَّهُ حَلَالٌ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُقِرَّا جَمِيعًا بِالْحُرْمَةِ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إِذَا ادَّعَى الشُّبْهَةَ خَرَجَ فِعْلُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ زِنًا فَخَرَجَ فِعْلُ الْآخَرِ فَسَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُمَا، وَلَوْ وَطِئَ الْجَارِيَةَ الْمُسْتَأْجَرَةِ أَوِ الْمُسْتَعَارَةَ أَوْ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ أَوْ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ غَيْرِ الْوِلَادِ حُدَّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَنِدْ ظَنُّهُ إِلَى شُبْهَةٍ صَحِيحَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمَالِ هَؤُلَاءِ، وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ. وَأَمَّا شُبْهَةُ الْعَقْدِ بِأَنْ وَطِئَ امْرَأَةً تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ أَمَةً بِغَيْرِ إِذَنِ مَوْلَاهَا أَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذَنِ مَوْلَاهُ، أَوْ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ؛ وَلَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً أَوْ خَمْسَةً فِي عُقْدَةٍ، أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ أَوْ تَزَوَّجَ بِمَحَارِمِهِ فَوَطِئَهَا فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَإِنْ قَالَ عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ. وَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهِ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ، وَحُكْمُهُ الْحِلُّ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ بِالْإِجْمَاعِ فَصَارَ كَإِضَافَةِ الْعَقْدِ إِلَى الذَّكَرِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عَقْدٌ صَادَفَ مَحَلَّهُ، لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَا هُوَ صَالِحٌ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ النِّكَاحِ التَّوَالُدُ وَالتَّنَاسُلُ وَالْأُنْثَى مِنَ الْآدَمِيَّاتِ قَابِلَةٌ لِذَلِكَ، وَقَضِيَّتُهُ ثُبُوتُ الْحِلِّ أَيْضًا إِلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْهُ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَأَنَّهَا تَكْفِي لِسُقُوطِ الْحَدِّ إِلَّا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ وَيُوجَعُ عُقُوبَةً لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جِنَايَةً لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ. قَالَ: (وَلَوِ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا وَزَنَا بِهَا أَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، أَوْ لَاطَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 وَلَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا لَا يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ؛ وَلَوْ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا حُدَّ؛ وَالزِّنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ؛   [الاختيار لتعليل المختار] وَقَالَا: يُحَدُّ فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا. لَهُمَا فِي الْإِجَارَةِ أَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَا تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فَصَارَ وُجُودُ الْإِجَارَةِ وَعَدَمُهَا سَوَاءً، فَصَارَ كَأَنَّهُ وَطِئَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. وَلَهُ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً اسْتَسْقَتْ رَاعِيًا لَبَنًا فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا حَتَّى تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَفَعَلَتْ، ثُمَّ رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَدَرَأَ الْحَدَّ عَنْهُمَا وَقَالَ ذَلِكَ مَهْرُهَا، وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مَنَافِعُ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً وَصَارَ كَالْمُتْعَةِ. وَلَهُمَا فِي اللُّوَاطَةِ أَنَّهَا كَالزِّنَا لِأَنَّهَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَقَدْ تَمَحَّضَ حَرَامًا فَيَجِبُ الْحَدُّ كَالزِّنَا، وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهَا، لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يُحْرَقُ بِالنَّارِ. وَقَالَ عَلِيٌّ: عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْبَسَانِ فِي أَنْتَنِ مَوْضِعٍ حَتَّى يَمُوتَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُهْدَمُ عَلَيْهِمَا جِدَارٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يُنَكَّسُ مِنْ مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ. وَلَهُ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى زِنًا لُغَةً وَلَا شَرْعًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اخْتَصَّ بِاسْمٍ، وَأَنَّهُ يَنْفِي الِاشْتِرَاكَ كَاسْمِ الْحِمَارِ وَالْفَرَسِ فَلَا يَكُونُ زِنًا فَلَا يَلْحَقُ بِالزِّنَا فِي الْحَدِّ، إِذِ الْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا، وَلِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْمَالَ بِحَالٍ مَا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ كَمَا إِذَا فَعَلَ فِيمَا دُونَ السَّبِيلَيْنِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ زِنًا لَمَا اخْتَلَفَتِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي حَدِّهِ، فَإِنَّ حَدَّ الزِّنَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ وَمُتَوَاتِرِ السُّنَّةِ، وَلَيْسَ هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِضَاعَةُ الْوَلَدِ وَلَا اشْتِبَاهُ الْأَنْسَابِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ أَوِ السِّيَاسَةِ لِوُجُوبِ الْقَتْلِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْإِحْصَانِ، وَيَجِبُ التَّعْزِيرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِمَا قُلْنَا، وَيُسْجَنُ زِيَادَةً فِي الْعُقُوبَةِ لِغِلَظِ الْجِنَايَةِ. وَأَمَّا وَطْءُ الْأَجْنَبِيَّةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، فَإِنْ كَانَ فِي الدُّبُرِ فَهُوَ كَاللُّواطَةِ حُكْمًا وَاخْتِلَافًا وَتَعْلِيلًا، وَإِنْ كَانَ فِيمَا دُونَ السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَلَوْ زُفَّتْ إِلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا لَا يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ) بِذَلِكَ حَكَمَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَعْرِفُ امْرَأَتَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ إِلَّا بِإِخْبَارِ النِّسَاءِ فَقَدِ اعْتَمَدَ دَلِيلًا، لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ بِإِخْبَارِهِنَّ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعْدُومٌ حَقِيقَةً. قَالَ: (وَلَوْ وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا حُدَّ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ زَوْجَتِهِ بِكَلَامِهَا وَصَوْتِهَا وَجَسِّهَا وَحَرَكَتِهَا وَمَسِّهَا، فَإِذَا لَمْ يَتَفَحَّصْ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْذَرْ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى إِلَّا إِذَا دَعَاهَا فَقَالَتْ أَنَا زَوْجَتُكَ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ إِخْبَارَهَا وَهُوَ دَلِيلٌ، وَلَوْ أَجَابَتْهُ وَلَمْ تَقُلْ أَنَا فُلَانَةٌ حُدَّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّفَحُّصُ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْجَوَابَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ مَنْ نَادَاهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ التَّفَحُّصُ عَنْ حَالِهَا. قَالَ: (وَالزِّنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالْبَغْيِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ) إِذِ الْمَقْصُودُ هُوَ الِانْزِجَارُ وَهُوَ غَيْرُ حَاصِلٍ لِانْقِطَاعِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 وَوَاطِئُ الْبَهِيمَةِ يَعُزَّرُ، وَلَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ حُدَّ؛ وَلَوْ طَاوَعَتِ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا يُحَدُّ، وَأَكْثَرُ التَّعْزِيرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَالتَّعْزِيرُ أَشَدُّ الضَّرْبِ، ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا، ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ، ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْوِلَايَةِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا، حَتَّى لَوْ غَزَا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ تَحْتَ وِلَايَتِهِ. قَالَ: (وَوَاطِئُ الْبَهِيمَةِ يُعَزَّرُ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنَا وَلَا مَعْنَاهُ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ فَيُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّا. وَذَكَرَ ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ يُحْرَقُ بِالنَّارِ، لِمَا رَوَى أَبُو يُوسُفَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ وَقَعَ عَلَى بَهِيمَةٍ فَعَزَّرَهُ وَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ فَذُبِحَتْ وَأُحْرِقَتْ بِالنَّارِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُؤْكَلُ تُذْبَحُ وَتُؤْكَلُ وَلَا تُحْرَقُ، وَقَالَا: يُحْرَقُ أَيْضًا هَذَا إِذَا كَانَتِ الْبَهِيمَةُ لِلْفَاعِلِ، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ يُطَالِبُ صَاحِبَهَا أَنْ يَدْفَعَهَا إِلَيْهِ بِقِيمَتِهَا ثُمَّ يَذْبَحُهَا، وَهَذَا إِنَّمَا يُعْرَفُ سَمَاعًا لَا قِيَاسًا. قَالَ: (وَلَوْ زَنَا بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ حُدَّ) خَاصَّةً (وَلَوْ طَاوَعَتِ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ صَبَيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَا يُحَدُّ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ بِفِعْلِ الزِّنَا، وَعَلَى الْمَرْأَةِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الزِّنَا، وَالْمَأْخُوذُ فِي حَدِّ الزِّنَا الْحُرْمَةُ الْمَحْضَةُ. وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي فِعْلِ الصَّبِيِّ لِعَدَمِ الْمُخَاطَبَةِ نَحْوِهِ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهَا تَمْكِينًا مِنَ الزِّنَا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ، وَفِعْلُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ تَمَحَّضَ حَرَامًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الصَّبِيَّةِ وَالْمَجْنُونَةِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ. قَالَ: (وَأَكْثَرُ التَّعْزِيرِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ) وَقِيلَ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَقِيلَ بِقَدْرِ الْجِنَايَةِ؛ وَالْأَصْلُ أَنْ يُعَزِّرَهُ بِمَا يَنْزَجِرُ بِهِ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ لِاخْتِلَافِ طِبَاعِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ الْحَبْسَ إِلَى التَّعْزِيرِ فَعَلَ، لِأَنَّهُ يَصْلُحُ زَاجِرًا حَتَّى يَكْتَفِيَ بِهِ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْثَرُهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا، وَفِي رِوَايَةٍ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنَ الْمُعْتَدِينَ» فَهُمَا اعْتَبَرَا أَدْنَى الْحَدِّ، وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَهُوَ أَرْبَعُونَ فَنَقْصَا مِنْهُ سَوْطًا، وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ الْأَقَلَّ مِنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَهُوَ ثَمَانُونَ فَنَقَصَ عَنْهُ خَمْسَةً فِي رِوَايَةٍ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَفِي رِوَايَةٍ سَوْطًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنَّهُ نُقْصَانٌ حَقِيقَةً، وَتَعْزِيرُ الْعَبْدِ أَكْثَرُهُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَبْلُغُ فِي تَعْزِيرِهِ حَدَّ الْعَبِيدِ، وَلَا فِي تَعْزِيرِ الْحُرِّ حَدَّ الْأَحْرَارِ. قَالَ: (وَالتَّعْزِيرُ أَشَدُّ الضَّرْبِ) لِأَنَّهُ خُفِّفَ مِنْ جِهَةِ الْعَدَدِ فَيَثْقُلُ مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ كَيْلَا يَفُوتَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِانْزِجَارُ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يُفَرِّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ. قَالَ: (ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَهُوَ الْكِتَابُ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ جَرِيمَةً حَتَّى وَجَبَ فِيهِ الرَّجْمُ. قَالَ: (ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ. قَالَ: (ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ) لِأَنَّ سَبَبَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ ثَمَانُونَ سَوْطًا لِلْحُرِّ وَأَرْبَعُونَ لِلْعَبْدِ، وَيَجِبُ بِقَذْفِ الْمُحْصَنِ بِصَرِيحِ الزِّنَا، وَتَجِبُ إِقَامَتُهُ بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ، وَيُفَرَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُ إِلَّا الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ، وَيَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَبِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ وَالرُّجُوعِ، وَإِحْصَانُ الْقَذْفِ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا؛   [الاختيار لتعليل المختار] مُحْتَمَلٌ، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ صِدْقَ القَاذِفِ، واللهُ أعلمُ. . [بَابُ حَدِّ الْقَذْفِ] ِ الْقَذْفُ فِي اللُّغَةِ: الرَّمْيُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُ الْقَذَّافَةُ وَالْقَذِيفَةُ: لِلْمِقْلَاعِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ، وَقَوْلُهُمْ بَيْنَ قَاذِفٍ وَحَاذِفٍ: أَيْ رَامٍ بِالْحَصَى وَحَاذِفٍ بِالْعَصَى، وَالتَّقَاذُفُ: التَّرَامِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَيْنَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاذَفَ فِيهِ الْأَنْصَارُ مِنَ الْأَشْعَارِ يَوْمَ بُعَاثٍ " أَيْ تَشَاتَمَتْ، وَفِيهِ مَعْنَى الرَّمْيِ، لِأَنَّ الشَّتْمَ رَمْيٌ بِمَا يَعِيبُهُ وَيَشِينُهُ. وَهُوَ فِي الشَّرْعِ: رَمْيٌ مَخْصُوصٌ، وَهُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ زَوْجَتَهُ: أَيْ رَمَاهَا بِالزِّنَى وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْحَدِيثِ وَفِيهِ الْحَدُّ. (وَهُوَ ثَمَانُونَ سَوْطًا لِلْحُرِّ، وَأَرْبَعُونَ لِلْعَبْدِ؛ وَيَجِبُ بِقَذْفِ الْمُحَصَنِ بِصَرِيحِ الزِّنَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وَالْمُرَادُ بِالرَّمْيِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا إِجْمَاعًا، وَيَتَنَصَّفُ فِي الْعَبْدِ لِمَا مَرَّ. (وَتَجِبُ إِقَامَتُهُ بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ) لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّهِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْهُ؛ وَصَرِيحُ الزِّنَا قَوْلُهُ: يَا زَانِي أَوْ زَنَيْتَ، أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ؛ وَلَوْ قَالَ: يَا ابْنَ الزِّنَى فَهُوَ قَذْفٌ مَعْنَاهُ: أَنْتَ مُتَوَلِّدٌ مِنَ الزِّنَا، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِأَيِّ لِسَانٍ قَذَفَهُ، وَيَجِبُ عِنْدَ عَجْزِ الْقَاذِفِ عَنْ إِقَامَةِ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ فَيُضْرَبُ ثَمَانِينَ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ أَبَدًا لِمَا تَلَوْنَا مِنْ صَرِيحِ النَّصِّ. قَالَ: (وَيُفَرِّقُ عَلَيْهِ) لِمَا مَرَّ فِي الزِّنَا (وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُ إِلَّا الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ) لِأَنَّ سَبَبَهُ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَإِنَّمَا يُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ إِيصَالَ الْأَلَمِ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَيَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَبِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ) كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الشَّهَادَاتِ، (وَلَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ وَالرُّجُوعِ) لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ بِهِ لِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا. قَالَ: (وَإِحْصَانُ الْقَذْفِ: الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عَنِ الزِّنَا) أَمَّا الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ فَلِمَا مَرَّ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَا يَلْحَقُهُمَا الْعَارُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا، وَأَمَّا الْعِفَّةُ فَلِأَنَّ غَيْرَ الْعَفِيفِ لَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ، وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَجِبُ جَزَاءً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، أَوْ لَسْتَ لِأَبِيكَ حُدَّ، وَلَا يُطَالِبُ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ إِلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ بِقَذْفِهِ فِي نَسَبِهِ؛ وَلَيْسَ لِلِابْنِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ أَوْ سَيِّدَهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ، وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَالْمُلَاعِنَةُ بِوَلَدٍ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُمَا، وَإِنْ لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ حُدَّ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى الْكَذِبِ وَالْقَاذِفُ لِغَيْرِ الْعَفِيفِ صَادِقٌ. قَالَ: (وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، أَوْ لَسْتَ لِأَبِيكَ حُدَّ) لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْقَذْفِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ لَسْتَ لِأَبِيكَ كَقَوْلِهِ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، وَلَوْ نَفَاهُ عَنْ جَدِّهِ أَوْ نَسَبِهِ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى خَالِهِ أَوْ عَمِّهِ أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ، أَوْ قَالَ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ لَمْ يُحَدُّ، لِأَنَّ نَفْيَهُ عَنْ جَدِّهِ صِدْقٌ وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِ وَإِلَى هَؤُلَاءِ مَجَازٌ عَادَةً وَشَرْعًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 133] وَإِبْرَاهِيمُ جَدُّهُ وَإِسْمَاعِيلُ عَمُّهُ، وَقَوْلُهُ يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي السَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ وَطَهَارَةِ الْأَصْلِ، حَتَّى لَوْ كَانَ رَجُلًا اسْمُهُ مَاءُ السَّمَاءِ وَأَرَادَ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ فَهُوَ قَذْفٌ. وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: لَسْتَ بِابْنِ فُلَانٍ، إِنْ كَانَ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ حُدَّ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ السَّبُّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ لَا يُحَدُّ، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمُعَاتَبَةُ عَادَةً لِنَفْيِ شَبَهِهِ لِأَبِيهِ فِي الْكَرَمِ وَالْمُرُوءَةِ؛ وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: زَنَيْتِ بِحِمَارٍ أَوْ بِثَوْرٍ لَا يُحَدُّ. وَلَوْ قَالَ: زَنَيْتِ بِدَرَاهِمَ وَبِثَوْبٍ أَوْ بِنَاقَةٍ حُدَّ، لِأَنَّ مَعْنَاهُ زَنَيْتِ وَأَخَذْتِ هَذَا، وَفِي الرَّجُلِ لَا يُحَدُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَأْخُذُ الْمَالَ عَلَى الزِّنَا عُرْفًا، وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ: يَا زَانِيَةُ، فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ، لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ لِتَصْدِيقِهَا وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ لِقَذْفِهَا الرَّجُلَ. قَالَ: (وَلَا يُطَالِبُ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ إِلَّا مَنْ يَقَعُ الْقَدْحُ بِقَذْفِهِ فِي نَسَبِهِ) لِأَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُمْ لِلْجُزْئِيَّةِ، وَيُحَدُّ بِقَذْفِ أُصُولِهِ دُونَ فُرُوعِهِ فَيَثْبُتُ لِلْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا، لِأَنَّ الشَّرْطَ إِحْصَانُ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى الزِّنَا حَتَّى يَقَعَ تَعْيِيرًا كَامِلًا ثُمَّ يَرْجِعُ هَذَا التَّعْيِيرُ إِلَى وَلَدِهِ، وَالرِّقُّ وَالْكُفْرُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا وَقَعَ الْقَذْفُ ابْتِدَاءً لِلْكَافِرِ وَالْعَبْدِ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ التَّعْيِيرُ كَامِلًا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لِوَلَدِ الْبِنْتِ طَلَبُ الْحَدِّ بِقَذْفِ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ، لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهُ كَمَا يَلْحَقُ وَلَدَ الِابْنِ فَكَانُوا سَوَاءً. وَمَنْ قَذَفَ امْرَأَةً مَيْتَةً فَصَدَّقَهُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ يُحَدُّ لِلْبَاقِينَ، لِأَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ تَنَاوَلَ الْكُلَّ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَذَفَ الْكُلَّ فَصَدَّقَهُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنَّهُ يُحَدُّ لِمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِلِابْنِ وَالْعَبْدِ أَنْ يُطَالِبَ أَبَاهُ أَوْ سَيِّدَهُ بِقَذْفِ أُمِّهِ الْحُرَّةِ) لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ ابْنِهِ وَلَا السَّيِّدَ بِسَبَبِ عَبْدِهِ حَتَّى لَا يُقْتَلَانِ بِهِمَا. قَالَ: (وَمَنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَالْمُلَاعِنَةُ بِوَلَدٍ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُمَا) لِفَوَاتِ الْعِفَّةِ، وَكَذَا إِذَا قَذَفَ امْرَأَةً مَعَهَا أَوْلَادٌ لَا يُعْرَفُ لَهُمْ أَبٌ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمَارَةُ الزِّنَا (وَإِنْ لَاعَنَتْ بِغَيْرِ وَلَدٍ حُدَّ) لِعَدَمِ أَمَارَةِ الزِّنَا. اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ حَرَامًا لِعَيْنِهِ أَوْ غَيْرِهِ؛ أَمَّا إِنْ كَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 وَالْمُسْتَأْمَنُ يُحَدُّ بِالْقَذْفِ، وَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ، وَلَا يُورَثُ، وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا الِاعْتِيَاضُ.   [الاختيار لتعليل المختار] حَرَامًا لِعَيْنِهِ سَقَطَ إِحْصَانُهُ لِأَنَّهُ زِنًا وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِغَيْرِهِ لَا يَسْقُطُ إِحْصَانُهُ وَيُحَدُّ قَاذِفُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا، فَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ حَرَامٍ لِعَيْنِهِ وَكَذَا الْوَطْءُ فِي مِلْكِهِ وَالْحُرْمَةُ مُؤَبَّدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُوَقَّتَةً فَالْحُرْمَةُ لِغَيْرِهِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُشْتَرَطُ لِلْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ الْإِجْمَاعُ أَوِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ. بَيَانُ ذَلِكَ فِي صُوَرِ الْمَسَائِلِ وَهِيَ: الْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْأَمَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الزِّنَا وَالْمَجْنُونُ وَالْمُطَاوِعَةُ وَالْمُحَرَّمَةُ بِالْمُصَاهَرَةِ بِالْوَطْءِ وَوَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ، فَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَأْثَمْ إِمَّا لِلْجَهْلِ أَوْ لِلْإِكْرَاهِ، بِخِلَافِ ثُبُوتِ الْمُصَاهَرَةِ بِالتَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ لِأَنَّ كَثِيَرًا مِنَ الْفُقَهَاءِ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مُحَرِّمًا، وَلَا نَصَّ فِي إِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ، بَلْ هُوَ نَوْعُ احْتِيَاطٍ إِقَامَةً لِلسَّبَبِ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ فَلَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ الثَّابِتُ بِيَقِينٍ بِالشَّكِّ. وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَسْقُطُ إِحْصَانُهُ لِأَنَّهَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عِنْدَهُمَا، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ بِخِلَافِ الْوَطْءِ لِأَنَّ فِيهِ نَصًّا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْوَطْءِ وَلَا اعْتِبَارَ لِلِاخْتِلَافِ مَعَ صَرِيحِ النَّصِّ. وَأَمَّا الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ فِي الْمِلْكِ الْأُخْتُ مِنَ الرِّضَاعِ وَالْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَكَةُ فَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ لِأَنَّهُ يُنَافِي مِلْكَ الْمُتْعَةِ فَيَكُونُ الْوَطْءُ وَاقِعًا فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَيَصِيرُ لَهُ شَبَهٌ بِالزِّنَا. وَالْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ كَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْحَائِضِ وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَالْحُرْمَةِ بِالْيَمِينِ وَالْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ وَوَطْءِ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا فَلَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ، لِأَنَّ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ زِنًا وَلَا فِي مَعْنَاهُ وَالْحُرْمَةُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ. وَمَنْ قَذَفَ كَافِرًا زَنَى فِي حَالَةِ الْكُفْرِ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ زِنَاهُ فِي الْكُفْرِ حَرَامٌ؛ وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ لَا يُحَدُّ لِوُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي حُرِّيَّتِهِ؛ وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوُّجَ بِأُمِّهِ وَدَخْلَ عَلَيْهَا ثُمَّ أَسْلَمَ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ. قَالَ: (وَالْمُسْتَأْمَنُ يُحَدُّ بِالْقَذْفِ) لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ وَقَدِ الْتَزَمَ إِيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا: لَا يُحَدُّ لِغَلَبَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ، وَلَا يُحَدُّ فِي الْخَمْرِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَرَى حِلَّهُ. وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُحَدُّ فِيهِمَا كَالذِّمِّيِّ، وَلِهَذَا يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يُحَدُّ فِيهِمَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَا الْتَزَمَ وَهُوَ إِنَّمَا الْتَزَمَ حُقُوقَ الْعِبَادِ ضَرُورَةَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْمُعَاوَضَاتِ وَالرُّجُوعِ إِلَى بَلَدِهِ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعِبَادِ. قَالَ: (وَإِذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ بَطَلَ الْحَدُّ) وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ مَا أُقِيمُ بَعْضُ الْحَدِّ بِطَلَ الْبَاقِي (وَلَا يُورَثُ وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْهُ وَلَا الِاعْتِيَاضُ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 وَمَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ: يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا كَافِرُ، أَوْ يَا سَارِقُ، أَوْ يَا مُخَنَّثُ عُزِّرَ؛ وَكَذَلِكَ يَا حِمَارُ يَا خِنْزِيرُ إِنْ كَانَ فَقِيهًا أَوْ عَلَوِيًّا. وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَهُوَ هَدَرٌ؛ وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ زَوْجَتَهُ عَلَى تَرْكِ الزِّينَةِ، وَتَرْكِ إِجَابَتِهِ إِلَى فِرَاشِهِ، وَتَرْكِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَعَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ، وَمَنْ سَرَقَ، أَوْ زَنَى، أَوْ شَرِبَ غَيْرَ مَرَةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِلْكُلِّ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلِذَلِكَ يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ حَقُّ الشَّرْعِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَالشَّرْعِ، لِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنِ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ وَفِيهِ مَعْنَى الزَّجْرِ وَلِأَجْلِهِ يُسَمَّى حَدًّا. وَالْمُرَادُ بِالزَّجْرِ إِخْلَاءُ الْعَالَمِ عَنِ الْفَسَادِ، وَهَذَا آيَةُ حَقِّ الشَّرْعِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْغَالِبِ فِيهِمَا، فَأَصْحَابُنَا غَلَّبُوا حَقَّ الشَّرْعِ، لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ يَتَوَلَّاهُ مَوْلَاهُ فَيَصِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ مُسْتَوْفًى ضِمْنًا لِحَقِّ الْمَوْلَى، وَلَا كَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، إِذْ لَا وِلَايَةَ لِلْعَبْدِ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّ الشَّرْعِ إِلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ. [فصل التعزير] فَصْلٌ (وَمَنْ قَالَ لِمُسْلِمٍ: يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا خَبِيثُ، أَوْ يَا كَافِرُ، أَوْ يَا سَارِقُ، أَوْ يَا مُخَنَّثُ عُزِّرَ) لِأَنَّهُ آذَاهُ بِذَلِكَ وَأَلْحَقَ بِهِ الشَّيْنَ، وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ لِيَنْزَجِرَ عَنْ ذَلِكَ وَيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ. وَفِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، يَا خَائِنُ يُعَزَّرُ؛ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتَ تَأْوِي اللُّصُوصَ، أَوْ تَأْوِي الزَّوَانِي لِمَا بَيَّنَّا. (وَكَذَلِكَ يَا حِمَارُ يَا خِنْزِيرُ إِنْ كَانَ فَقِيهًا أَوْ عَلَوِيًّا) وَكَذَلِكَ يَا ثَوْرُ يَا كَلْبُ لِأَنَّهُ يُلْحِقُهُ بِذَلِكَ الْأَذَى دُونَ الْجَاهِلِ الْعَامِّيِّ. وَقِيلَ: يُعَزَّرُ فِي حَقِّ الْكُلِّ فِي عُرْفِنَا لِأَنَّهُمْ صَارُوا يَعُدُّونَهُ سَبًّا. وَقِيلَ لَا يُعَزَّرُ فِي حَقِّ الْكُلِّ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِنَفْيِهِ فَمَا لَحِقَهُ بِهِ شِينٌ، وَإِنَّمَا لَحِقَ الْقَاذِفَ شِينُ الْكَذِبِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا يُشَبَّهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِسُوءِ خُلُقِهِ أَوْ قُبْحِ خِلْقِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْصِيَةٍ. رَجُلٌ زَنَا بِامْرَأَةٍ مَيْتَةٍ يُعَزَّرُ. قَالَ: (وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَهُوَ هَدَرٌ) لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالسَّلَامَةِ كَالْفَصَادِ، أَوْ نَقُولُ: اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَاتَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ. قَالَ: (وَلِلزَّوْجِ أَنْ يُعَزِّرَ زَوْجَتَهُ عَلَى تَرْكِ الزِّينَةِ) إِذَا أَرَادَهَا (وَتَرْكِ إِجَابَتِهِ إِلَى فِرَاشِهِ، وَتَرْكِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَعَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَنْزِلِ) لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا طَاعَتُهُ وَطَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَتُعَزَّرُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ. قَالَ: (وَمَنْ سَرَقَ، أَوْ زَنَى، أَوْ شَرِبَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِلْكُلِّ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْزِجَارُ وَأَنَّهُ يُحْتَمَلُ حُصُولُهُ بِالْأَوَّلِ فَيَتَمَكَّنُ فِي الثَّانِي شُبْهَةُ عَدَمِ الْمَقْصُودِ فَلَا يَجِبُ؛ أَمَّا لَوْ زَنَى وَشَرِبَ وَسَرَقَ فَإِنَّهُ يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ عَلَى حِدَةٍ، لِأَنَّهُ لَوْ ضُرِبَ لِأَحَدِهَا رُبَّمَا اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي الْبَاقِي فَلَا يَنْزَجِرُ عَنْهَا، وَلَا كَذَلِكَ إِذَا اتَّحَدَتِ الْجِنَايَةُ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ وَهُوَ كَحَدِّ الزِّنَا كَيْفِيَّةً، وَحَدِّ الْقَذْفِ كَمِّيَّةً وَثُبُوتًا، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ وَالتَّقَادُمِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ، وَالتَّقَادُمُ بِذَهَابِ السُّكْرِ وَالرَّائِحَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَوْ أُقِيمَ عَلَى الْقَاذِفِ تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ سَوْطًا فَقَذَفَ آخَرَ لَمْ يُضْرَبْ إِلَّا ذَلِكَ السَّوْطُ لِلتَّدَاخُلِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَتَدَاخَلُ لِغَلَبَةِ حَقِّ الشَّرْعِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِظْهَارُ كَذِبِهِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْعَارُ عَنِ الْمَقْذُوفِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي حَقِّهِمَا بِالسَّوْطِ الْوَاحِدِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ حَدُّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالْقَذْفِ وَفَقْءِ الْعَيْنِ، يَبْدَأُ بِالْفَقْءِ لِكَوْنِهِ خَالِصَ حَقِّ الْعَبْدِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ وَاسْتِغْنَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُحْبَسُ حَتَّى يَبْرَأَ، فَإِذَا بَرَأَ يُحَدُّ لِلْقَذْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ، وَيُحْبَسُ حَتَّى يَبْرَأَ، لِأَنَّهُ لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حَدَّيْنِ رُبَّمَا تَلِفَ، وَالتَّلَفُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ؛ فَإِذَا بَرَأَ فَلِلْإِمَامِ إِنْ شَاءَ بَدَأَ بِالْقَطْعِ، وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ الزِّنَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ، وَآخِرُهَا حَدُّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فَكَانَ دُونَ مَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ؛ وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا بَدَأَ بِالْفَقْءِ، ثُمَّ حَدِّ الْقَذْفِ، ثُمَّ الرَّجْمِ، وَيَسْقُطُ الْبَاقِي لِأَنَّ الْقَتْلَ يَأْتِي عَلَى النَّفْسِ فَيُؤَدِّي إِلَى إِسْقَاطِ بَعْضِ الْحُدُودِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَتْلٌ ضُرِبَ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُضَمَّنُ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ قُتِلَ وَسَقَطَ عَنْهُ الْبَاقِي، نُقِلَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. [بَابُ حَدِّ الشُّرْبِ] ِ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ» . (وَهُوَ كَحَدِّ الزِّنَا كَيْفِيَّةً، وَحَدِّ الْقَذْفِ كَمِّيَّةً وَثُبُوتًا) فَيُجَرَّدُ مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا فِي حَدِّ الزِّنَا، وَيُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ لِمَا مَرَّ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ تَخْفِيفًا عَنْ حَدِّ الزِّنَا. قُلْنَا: ثَبَتَ التَّخْفِيفُ فِي الْعَدَدِ فَلَا يُخَفَّفُ ثَانِيًا، وَعَدَدُهُ ثَمَانُونَ سَوْطًا فِي الْحُرِّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَأَرْبَعُونَ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ، وَيَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَبِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ كَحَدِّ الْقَذْفِ. (غَيْرَ أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ وَالتَّقَادُمِ فِي الْبَيِّنَةِ وَالْإِقْرَارِ) ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ مَرَّتَيْنِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي السَّرِقَةِ. قَالَ: (وَالتَّقَادُمُ بِذَهَابِ السُّكْرِ وَالرَّائِحَةِ) فَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ ذَهَابِ رِيحِهَا أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ بَعْدَ السُّكْرِ وَذَهَابِ الرَّائِحَةِ لَمْ يُحَدَّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُحَدُّ؛ فَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ، غَيْرَ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدَّرَهُ بِالزَّمَانِ كَالزِّنَا، لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يَتَحَقَّقُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَالرَّائِحَةُ مُشْتَبِهَةٌ، وَعِنْدَهُمَا مُقَدَّرٌ بِزَوَالِ الرَّائِحَةِ، لِأَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ إِنَّمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَا إِجْمَاعَ بِدُونِ رَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 فَلَوْ أُخِذَ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْإِمَامِ انْقَطَعَتْ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ حُدَّ، وَيُحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنَ الْخَمْرِ، وَبِالسُّكْرِ مِنَ النَّبِيذِ؛ وَالسَّكْرَانُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَالْأَرْضَ مِنَ السَّمَاءِ؛ وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنَ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا، وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ، وَلَا يُحَدُّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] فَإِنَّهُ شَرَطَ وُجُودَ الرَّائِحَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ بِابْنِ أَخٍ لَهُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: بِئْسَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ أَنْتَ لَا أَدَّبْتَهُ صَغِيرًا وَلَا سَتَرْتَ عَلَيْهِ كَبِيرًا! تَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ ثُمَّ اسْتَنْكِهُوهُ، فَإِنْ وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ شَرَطَ وُجُودَ الرَّائِحَةِ فَيَكُونُ شَرْطًا. (فَلَوْ أُخِذَ وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْهُ فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى الْإِمَامِ انْقَطَعَتْ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ حُدَّ) فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لِأَنَّهُ عُذْرٌ فَلَا يُعَدُّ تَقَادُمًا كَمَا قُلْنَا فِي حَدِّ الزِّنَا، وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِزِيَادَةِ احْتِمَالِ الْكَذِبِ فَتَمَكَّنَتِ الشُّبْهَةُ، وَيَسْقُطُ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ، وَالسَّكْرَانُ فِيهِ كَالصَّاحِي كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ عُقُوبَةً لَهُ. قَالَ: (وَيُحَدُّ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ مِنَ الْخَمْرِ، وَبِالسُّكْرِ مِنَ النَّبِيذِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (وَالسَّكْرَانُ مَنْ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالْأَرْضَ مِنَ السَّمَاءِ) وَقَالَا: هُوَ الَّذِي يَخْلِطُ كَلَامَهُ وَيَهْذِي لِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَأْخُذُ فِي أَسْبَابِ الْحُدُودِ بِأَقْصَاهَا دَرْءًا لِلْحَدِّ، وَأَقْصَاهُ الْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ حَتَّى لَا يُمَيِّزَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، لِأَنَّهُ مَتَى مَيَّزَ فَذَلِكَ دَلَالَةُ الصَّحْوِ أَوْ بَعْضِهِ وَأَنَّهُ ضِدُّ السُّكْرِ، فَمَتَى ثَبَتَ أَحَدُهُمَا أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ لَا يَثْبُتُ الْآخَرُ. (وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ سَكِرَ مِنَ النَّبِيذِ وَشَرِبَهُ طَوْعًا) لِأَنَّ السُّكْرَ يَكُونُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ كَالْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ وَغَيْرِهِمَا وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَكَذَلِكَ الشُّرْبُ مُكْرَهًا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَلِذَلِكَ شَرَطَ ذَلِكَ. قَالَ: (وَلَا يُحَدُّ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ) لِيَتَأَلَّمَ بِالضَّرْبِ فَيَحْصُلُ مَصْلَحَةُ الزَّجْرِ. قَالَ: (وَلَا يُحَدُّ مِنْ وُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةُ الْخَمْرِ أَوْ تَقَيَّأَهَا) لِأَنَّ الرَّائِحَةَ مُشْتَبِهَةٌ وَاحْتِمَالُ أَنَّهُ شَرِبَهَا مُكْرَهًا ثَابِتٌ، وَالْحُدُودُ لَا تَجِبُ بِالشَّكِّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمُ مِنْهَا الْخَمْرُ وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، الثَّانِي الْعَصِيرُ إِذَا طُبِخَ فَذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِهِ وَهُوَ الطِّلَاءُ، وَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُهُ فَالْمُنَصَّفُ. الثَّالِثُ السَّكَرُ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءَ الرُّطَبِ إِذَا غَلَا كَذَلِكَ.   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الْأَشْرِبَةِ] وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ، وَهُوَ كُلُّ مَائِعٍ رَقِيقٍ يُشْرَبُ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ مُحَرَّمًا كَانَ أَوْ حَلَالًا، وَهِيَ تُسْتَخْرَجُ مِنَ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْحُبُوبِ، وَمِنْهَا حَرَامٌ وَمِنْهَا حَلَالٌ. فَـ (الْمُحَرَّمُ مِنْهَا الْخَمْرُ، وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ) وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَذْفُ بِالزَّبَدِ لِأَنَّهُ يُسَمَّى خَمْرًا بِدُونِهِ، وَلِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي فَسَادِ الْعَقْلِ وَتَغْطِيَتِهِ هُوَ الِاشْتِدَادُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السُّكُونَ أَصْلٌ فِي الْعَصِيرِ، وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِهِ فَالْحُكْمُ لَهُ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ قَطْعِيَّةٌ فَلَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ خَمْرًا مَعَ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ آثَارِ الْعَصِيرِ لِلْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لَا يَزُولُ إِلَّا بِيَقِينٍ، فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْعَصِيرِ لَا يُتَيَقَّنُ بِالْخَمْرِيَّةِ. وَأَمَّا حُرْمَتُهَا فَبِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] وَالرِّجْسُ: الْحَرَامُ لِعَيْنِهِ. وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» وَقَدْ تَوَاتَرَ تَحْرِيمُهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ؛ وَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ أُخَرُ: مِنْهَا أَنَّهُ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا لِثُبُوتِ حُرْمَتِهَا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ نَجَاسَتَهَا مُغَلَّظَةٌ لِثُبُوتِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ، وَمِنْهَا أَنَّهَا لَا قِيمَةَ لَهَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُهَا وَلَا يَضْمَنَ غَاصِبُهَا وَلَا مُتْلِفُهَا لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ عِزَّتِهَا، وَتَحْرِيمُهَا دَلِيلُ إِهَانَتِهَا. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَأَكْلَ ثَمَنِهَا» وَمِنْهَا حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهَا لِنَجَاسَتِهَا، وَلِأَنَّ فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا تَقْرِيبَهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وَمِنْهَا أَنَّهُ يُحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي بَابِهَا، وَمِنْهَا أَنَّ الطَّبْخَ لَا يُحِلُّهَا، لِأَنَّ الطَّبْخَ فِي الْعَصِيرِ يَمْنَعُ الْحُرْمَةَ وَلَا يَرْفَعُهَا. وَمِنْهَا جَوَازُ تَخْلِيلُهَا عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (الثَّانِي الْعَصِيرُ إِذَا طُبِخَ فَذَهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِهِ وَهُوَ الطِّلَاءُ) ؛ وَقِيلَ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَهُ فَهُوَ الطِّلَاءُ (وَإِنْ ذَهَبَ نِصْفُهُ فَالْمُنَصَّفُ) وَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَالْبَاذِقُ وَالْكُلُّ حَرَامٌ إِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ عَلَى الِاخْتِلَافِ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ لَذِيذٌ مُطْرِبٌ يَجْتَمِعُ الْفُسَّاقُ عَلَيْهِ فَيَحْرُمُ شُرْبُهُ دَفْعًا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْفَسَادِ. (الثَّالِثُ السَّكَرُ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الرُّطَبِ إِذَا غَلَا كَذَلِكَ) ؛ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَمْرُ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 الرَّابِعُ: نَقِيعُ الزَّبِيبِ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ إِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ كَذَلِكَ، وَحُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا حَتَّى يَسْكَرَ، وَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا؛ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ، وَإِنِ اشْتَدَّ إِذَا شُرِبَ مَا لَمْ يُسْكِرْ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ. وَعَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا طُبِخَ فَذَهَبَ ثُلُثَاهُ حَلَالٌ، وَإِنِ اشْتَدَّ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّقَوِّي، وَإِنْ قُصِدَ بِهِ التَّلَهِّي فَحَرَامٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ وَأَشَارَ إِلَى الْكَرْمِ وَالنَّخْلَةِ» . وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (الرَّابِعُ نَقِيعُ الزَّبِيبِ، وَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ إِذَا غَلَا وَاشْتَدَّ كَذَلِكَ) عَلَى الْخِلَافِ حَرَامٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا وَبَيَّنَّا. (وَحُرْمَةُ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ دُونَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ) لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ قَطْعِيَّةٌ عَلَى مَا مَرَّ، وَحُرْمَةُ هَذِهِ اجْتِهَادِيَّةٌ (فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ) خِلَافًا لَهُمَا لِأَنَّهَا حَرَامٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا كَالْخَمْرِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَتُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ إِذَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوَّمٌ، وَمَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ تَقَوُّمِهَا بِخِلَافِ الْخَمْرِ، ثُمَّ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَهُ الْقِيمَةُ دُونَ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهَا لِلْحُرْمَةِ. (وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهَا حَتَّى يَسْكَرَ وَلَا يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهَا) لِمَا بَيَّنَّا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: مَا كَانَ مِنَ الْأَشْرِبَةِ يَبْقَى بَعْدَ مَا بَلَغَ: أَيِ اشْتَدَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَا يَفْسَدُ، أَيْ لَا يَحْمَضُ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ، لِأَنَّ بَقَاءَهُ هَذِهِ الْمُدَّةَ دَلِيلُ قُوَّتِهِ وَشِدَّتِهِ فَكَانَ آيَةَ حُرْمَتِهِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. قَالَ: (وَنَبِيذَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ، وَإِنِ اشْتَدَّ إِذَا شُرِبَ مَا لَمْ يُسْكِرْ مِنْ غَيْرِ لَهْوٍ) وَلَا طَرَبٍ. (وَ) كَذَلِكَ (عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا طُبِخَ فَذَهَبَ ثُلُثَاهُ حَلَالٌ، وَإِنِ اشْتَدَّ إِذَا قُصِدَ بِهِ التَّقَوِّي، وَإِنْ قُصِدَ التَّلَهِّي فَحَرَامٌ) ؛ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: حَرَامٌ، وَعَنْهُ مِثْلُ قَوْلِهِمَا، وَعَنْهُ التَّوَقُّفُ فِيهِ. لَهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، وَقَوْلُهُ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» وَقِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ. لَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» خُصَّ السُّكْرُ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ بِالتَّحْرِيمِ، فَمَنْ عَمَّمَ بِالتَّحْرِيمِ السُّكْرَ وَغَيْرَهُ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ. وَمَا رَوَاهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ طَعَنَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، ذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَلِأَنَّ عَامَّةَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خَالَفُوهُ، فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الشُّرْبِ الْمُسْكِرِ وَالتَّلَهِّي، أَوْ نَقُولُ: الْمُسْكِرُ هُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ فَنَقُولُ بِالْمُوجِبِ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ قَلِيلِ الْخَمْرِ يَدْعُو إِلَى كَثِيرِهِ لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ فَأَعْطَى حُكْمَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُثَلَّثُ لِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إِلَى كَثِيرِهِ وَهُوَ غِذَاءٌ فَلَا يَحْرُمُ. وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى بِنَبِيذٍ فَشَمَّهُ فَقَطَّبَ وَجْهَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ حَلَالٌ طُبِخَ أَوْ لَا؛ وَفِي حَدِّ السَّكْرَانِ مِنْهُ رِوَايَتَانِ؛ وَيُكْرَهُ شُرْبُ دِرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ، وَخَلُّ الْخَمْرِ حَلَالٌ سَوَاءٌ تَخَلَّلَتْ أَوْ خُلِّلَتْ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِشِدَّتِهِ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَشَرِبَ مِنْهُ وَقَالَ: إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةُ فَاقْطَعُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ» ؛ وَفِي رِوَايَةٍ: «أَنَّهُ لَمَّا قَطَّبَ قَالَ رَجُلٌ: " أَحْرَامٌ هُوَ؟ قَالَ لَا» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ. وَعَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى الْبَدْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ فِي الْجِرَارِ الْخُضْرِ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَشَاهِيرِهِمْ قَوْلًا وَفِعْلًا حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّهُ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُ حَلِّهِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إِلَى تَفْسِيقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَالْمُثَلَّثُ إِذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ حَتَّى رَقَّ ثُمَّ طُبِخَ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ، لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ يَزِيدُهُ ضَعْفًا، بِخِلَافِ مَا إِذَا صُبَّ الْمَاءُ عَلَى الْعَصِيرِ فَطُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَا الْجَمِيعِ، لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيِ الْعَصِيرِ. قَالَ: (وَنَبِيذُ الْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ حَلَالٌ طُبِخَ أَوْ لَا) إِذَا لَمْ يُشْرَبُ لِلَّهْوِ وَالطَّرَبِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إِلَى كَثِيرِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَيَقَعُ طَلَاقُ السَّكْرَانِ مِنْهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ. (وَفِي حَدِّ السَّكْرَانِ مِنْهُ رِوَايَتَانِ) وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُحَدُّ، لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ يَجْتَمِعُ الْفُسَّاقُ عَلَيْهِ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى الْخَمْرِ وَفَوْقَهُ، وَعَلَى هَذَا الْمُتَّخَذِ مِنَ الْأَلْبَانِ؛ ثُمَّ قِيلَ: يَجِبُ أَنْ لَا يَحِلَّ لَبَنُ الرِّمَاكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا بِلَحْمِهَا، إِذْ هُوَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ، وَجَوَابُهُ أَنَّ كَرَاهَةَ اللَّحْمِ لِاحْتِرَامِهِ، أَوْ لِمَا فِي إِبَاحَتِهِ مِنْ تَقْلِيلِ آلَةِ الْجِهَادِ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى لَبَنِهِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ شُرْبُ دِرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ) لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ، وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ مَا لَمْ يَسْكَرْ لِأَنَّهُ نَاقِصٌ، إِذِ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ تَكْرَهُهُ وَتَنْبُو عَنْهُ، وَقَلِيلُهُ لَا يَدْعُو إِلَى كَثِيرِهِ فَصَارَ كَغَيْرِ الْخَمْرِ. قَالَ: (وَلَا بِأْسَ بِالِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ، أَلَا فَانْتَبِذُوا فِيهَا وَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمْهُ، وَلَا تَشْرَبُوا الْمُسْكِرَ» . قَالَ: (وَخَلُّ الْخَمْرِ حَلَالٌ سَوَاءٌ تَخَلَّلَتْ أَوْ خُلِّلَتْ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نِعْمَ الْأُدُمُ الْخَلُّ» مُطْلَقًا، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ خَلِّكُمً خَلُّ خَمْرِكُمْ» وَلِأَنَّ التَّخْلِيلَ يُزِيلُ الْوَصْفَ الْمُفْسِدَ وَيُثْبِتُ وَصْفَ الصَّلَاحِيَّةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 كِتَابُ السَّرِقَةِ وَهِيَ أَخْذُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ نِصَابًا مُحْرَزًا، أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابًا مِلْكًا لِلْغَيْرِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةَ قَمْعِ الصَّفْرَاءِ وَالتَّغَدِّي وَمَصَالِحَ كَثِيرَةً، وَإِذَا زَالَ الْمُفْسِدُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ حَلَّتْ كَمَا إِذَا تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا، وَإِذَا تَخَلَّلَتْ طَهُرَ الْإِنَاءُ أَيْضًا، لِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ يَتَخَلَّلُ إِلَّا مَا كَانَ مِنْهُ خَالِيًا عَنِ الْخَلِّ فَقِيلَ يَطْهُرُ تَبَعًا، وَقِيلَ يُغْسَلُ بِالْخَلِّ لِيَطْهُرَ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَكَذَا لَوْ صُبَّ مِنْهُ الْخَلُّ، فَمَا خَلَا طَهُرَ مِنْ سَاعَتِهِ؛ وَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ مِنَ الْعَطَشِ وَلَمْ يَجِدْ إِلَّا خَمْرًا فَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهَا مَا يَأْمَنُ بِهِ مِنَ الْمَوْتِ ثُمَّ يَكُفَّ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، وَالْخَمْرُ مِثْلُهَا فِي التَّحْرِيمِ فَتَكُونُ مِثْلَهَا فِي الْإِبَاحَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، فَإِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ زَالَتِ الضَّرُورَةُ وَهُوَ خَوْفُ الْهَلَاكِ عَادَ التَّحْرِيمُ. وَإِذَا وُجِدَتِ الْخَمْرُ فِي دَارِ إِنْسَانٍ وَعَلَيْهَا قَوْمٌ جَلَسُوا مَجَالِسَ مَنْ يَشْرَبُهَا وَلَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ يَشْرَبُونَهَا عُزِّرُوا، لِأَنَّهُمُ ارْتَكَبُوا أَمْرًا مَحْظُورًا وَجَلَسُوا مَجْلِسًا مُنْكَرًا، وَكَذَلِكَ مَنْ وُجِدَ مَعَهُ آنِيَةُ خَمْرٍ عُزِّرَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا. [كِتَابُ السَّرِقَةِ] ِ (وَهِيَ) فِي اللُّغَةِ: أَخْذُ الشَّيْءِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ بِغَيْرِ إِذَنِ الْمَالِكِ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَأْخُوذُ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ} [الحجر: 18] وَسَرِقَةُ الشَّاعِرِ الْمَعْنَى وَسَرِقَةُ الصَّنْعَةِ، وَنَحْوُهُ. وَفِي الشَّرْعِ: (أَخْذُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ نِصَابًا مُحْرَزًا، أَوْ مَا قِيمَتُهُ نِصَابًا مِلْكًا لِلْغَيْرِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ) وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُرَاعًى فِيهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً، أَوِ ابْتِدَاءً فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا إِذَا نَقَبَ الْبَيْتَ خُفْيَةً وَأَخَذَ الْمَالَ مُكَابَرَةً وَذَلِكَ يَكُونُ لَيْلًا، لِأَنَّهُ رُبَّمَا أَحَسُّوا بِهِ فَكَابَرَ وَأَخَذَ وَلَا غَوْثَ بِاللَّيْلِ فَيُقْطَعُ؛ أَمَّا النَّهَارُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمُ الْغَوْثُ فَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، فَيُشْتَرَطُ الْخُفْيَةُ لَيْلًا وَنَهَارًا فَهِيَ مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ وَفِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَهِيَ السَّرِقَةُ الْكُبْرَى مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ وَأَعْوَانِهِ لِأَنَّهُ الْمُتَصَدِّي لِحِفْظِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ، لِأَنَّ الْأَمْوَالَ إِنَّمَا تَصِيرُ مَصُونَةً مُحْرَزَةً بِحِفْظِ الْإِمَامِ وَحِمَايَتِهِ. وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا) ؛ وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الْآيَةَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَاهُ» «وَرُفِعَ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَارِقٌ فَقَطَعَهُ» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 وَالنِّصَابُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً مِنَ النُّقْرَةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْقَطْعِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ النِّصَابِ، وَلِأَنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ إِلَى النُّفُوسِ تَمِيلُ إِلَيْهِ الطِّبَاعُ الْبَشَرِيَّةُ خُصُوصًا عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَرْدَعُهُ عَقْلٌ، وَلَا يَمْنَعُهُ نَقْلٌ، وَلَا تَزْجُرُهُمُ الدِّيَانَةُ، وَلَا تَرُدُّهُمُ الْمُرُوءَةُ وَالْأَمَانَةُ، فَلَوْلَا الزَّوَاجِرُ الشَّرْعِيَّةُ مِنَ الْقَطْعِ وَالصَّلْبِ وَنَحْوِهِمَا لَبَادَرُوا إِلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ مُكَابِرَةً عَلَى وَجْهِ الْمُجَاهِرَةِ، أَوْ خُفْيَةً عَلَى وَجْهِ الِاسْتِسْرَارِ، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، فَنَاسَبَ شُرُوعُ هَذِهِ الزَّوَاجِرِ فِي حَقِّ الْمُسْتَسِرِّ وَالْمُكَابِرِ فِي سَرِقَتَيِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى حَسْمًا لِبَابِ الْفَسَادِ وَإِصْلَاحًا لِأَحْوَالِ الْعِبَادِ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ، وَلِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَتَنَصَّفُ فَيَكْمُلُ فِي الْعَبْدِ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ؛ وَلَا بُدَّ مِنَ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْقَطْعَ شَرْعٌ زَاجِرًا عَنِ الْجِنَايَةِ، وَلَا جِنَايَةَ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ النِّصَابِ فَلِمَا رُوِيَ أَنَّ الْيَدَ كَانَتْ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَتِ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ لِتَتَحَقَّقَ الرَّغْبَةُ فِيهِ فَيَجِبُ الزَّجْرُ عَنْهُ؛ أَمَّا الْحَقِيرُ لَا تَتَحَقَّقُ الرَّغْبَةُ فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الزَّجْرِ عَنْهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَمْ يُوجِبِ الْقَطْعَ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ» . أَيْ مَا يُحْرَسُ بِالْجَبَلِ لِعَدَمِ الْحِرْزِ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَأْذُونٍ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهَا، لِأَنَّ بِالْإِذْنِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ؛ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْغَيْرِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ عَلَى مَا مَرَّ، وَتَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ لِأَنَّ السَّرِقَةَ لَا تَكُونُ عَلَى الْجَهْرِ عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ: (وَالنِّصَابُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ مِنَ النَّقْرَةِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ» وَمَا رُوِيَ أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ؛ فَقَدْ نُقِلَ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ أُمِّ أَيْمَنَ قَالَا: كَانَتْ قِيمَةُ الْمِجَنِّ الَّذِي قُطِعَ فِيهِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشَرَةَ دَرَاهِمَ» ، وَنُقِلَ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ وَالْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، وَفِي الْأَقَلِّ شُبْهَةُ عَدَمِ الْجِنَايَةِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ: أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ تِبْرٍ مَا لَمْ تَكُنْ مَضْرُوبَةً. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ: إِذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِمَّا يُرَوَّجُ بَيْنَ النَّاسِ قُطِعَ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَ التِّبْرُ رَائِجًا بَيْنَ النَّاسِ قُطِعَ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَيْضًا: لَوْ سَرَقَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لَا تُرَوَّجُ، فَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِي عَشْرَةً رَائِجَةً قُطِعَ، وَإِلَّا فَلَا. وَقَوْلُهُ أَوْ مَا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ مُحَمَّدٍ: لَوْ سَرَقَ نِصْفَ دِينَارٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وَالْحِرْزُ يَكُونُ بِالْحَافِظِ وَبِالْمَكَانِ كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالْحَانُوتِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَافِظُ. وَإِذَا سَرَقَ مِنَ الْحَمَّامِ لَيْلًا قُطِعَ، وَبِالنَّهَارِ لَا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ عِنْدَهُ؛ وَالْمَسْجِدُ وَالصَّحَرَاءُ حِرْزٌ بِالْحَافِظِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قَطَعْتُهُ، وَإِنْ سَرَقَ دِينَارًا قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَا أَقْطَعُهُ، ثُمَّ حَرَّزَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ - يَعْنِي الْبَيْدَرَ - فَفِيهِ الْقَطْعُ» ؛ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا قَطْعَ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ، وَمَا آوَاهُ الْمَرَاحُ فَفِيهِ الْقَطْعُ» أَيْ مَوْضِعٌ يَرُوحُونَ مِنْهُ. قَالَ: (وَالْحِرْزُ يَكُونُ بِالْحَافِظِ وَبِالْمَكَانِ) لِأَنَّ الْحِرْزَ مَا يَصِيرُ بِهِ الْمَالُ مُحْرَزًا عَنْ أَيْدِي اللُّصُوصِ وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا، فَالْحَافِظُ كَمَنْ جَلَسَ فِي الصَّحْرَاءِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَهُوَ مُحْرَزٌ بِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ نَائِمًا أَوْ مُسْتَيْقِظًا؛ أَمَّا إِذَا كَانَ مُسْتَيْقِظًا فَظَاهِرٌ؛ وَأَمَّا إِذَا كَانَ نَائِمًا فَلِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ» وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَتَاعُ تَحْتَهُ أَوْ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ يُعَدُّ حَافِظًا لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عُرْفًا؛ وَالْحِرْزُ بِالْمَكَانِ هُوَ مَا أُعِدَّ لِلْحِفْظِ. (كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالْحَانُوتِ) وَالصُّنْدُوقِ وَنَحْوِهِ (وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَافِظُ) لِأَنَّهُ مُحْرَزٌ بِدُونِهِ، وَهُوَ الْمَكَانُ الَّذِي أُعِدَّ لِلْحِفْظِ، إِلَّا أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَجِبُ بِالْأَخْذِ مِنَ الْحِرْزِ بِالْمَكَانِ إِلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ، لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ قَائِمَةٌ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ، وَالْمُحْرَزُ بِالْحَافِظِ يَجِبُ الْقَطْعُ كَمَا أَخَذَهُ، لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ زَالَتْ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَمَّتِ السَّرِقَةُ. وَلَوْ كَانَ بَابُ الدَّارِ مَفْتُوحًا فَدَخَلَ نَهَارًا وَأَخَذَ مَتَاعًا لَمْ يُقْطَعْ، لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ وَلَيْسَ بِسَرِقَةٍ لِعَدَمِ الِاسْتِسْرَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا؛ وَإِنْ دَخَلَ لَيْلًا قُطِعَ لِأَنَّهُ حِرْزٌ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلْحِرْزِ؛ وَلَوْ دَخَلَ بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْعَتَمَةِ وَالنَّاسُ مُنْتَشِرُونَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّهَارِ؛ وَلَوْ عَلِمَ صَاحِبُ الدَّارِ بِاللِّصِّ وَاللِّصُّ لَا يَعْلَمُ بِهِ أَوْ بِالْعَكْسِ قُطِعَ لِأَنَّهُ مُسْتَخْفٍ؛ وَإِنْ عَلِمَ كُلُّ وَاحِدٍ بِالْآخَرِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مُكَابِرٌ. قَالَ: (وَإِذَا سَرَقَ مِنَ الْحَمَّامِ لَيْلًا قُطِعَ، وَبِالنَّهَارِ لَا وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ عِنْدَهُ) لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ بِالدُّخُولِ فِيهِ نَهَارًا فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ، وَيُقْطَعُ لَيْلًا لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلْحِرْزِ، وَمَا اعْتَادَ النَّاسُ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ بَعْضَ اللَّيْلِ فَهُوَ كَالنَّهَارِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ حِرْزٍ أُذِنَ بِالدُّخُولِ فِيهِ كَالْخَانَاتِ وَحَوَانِيتِ التُّجَّارِ وَالضَّيَفِ وَنَحْوِهِمْ. قَالَ: (وَالْمَسْجِدُ وَالصَّحْرَاءُ حِرْزٌ بِالْحَافِظِ) لِأَنَّ الصَّحْرَاءَ لَيْسَ بِحِرْزٍ، وَالْمَسْجِدُ مَا بُنِيَ لِلْحِفْظِ وَالْإِحْرَازِ، فَلَوْ سَرَقَ مِنْهُ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ قُطِعَ لِوُجُودِ السَّرِقَةِ، بِخِلَافِ الْحَمَّامِ وَالْحِرْزِ الَّذِي أُذِنَ بِالدُّخُولِ فِيهِ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ عِنْدَهُ، لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلْإِحْرَازِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَافِظُ لِمَا مَرَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 وَالْجَوَالِقُ وَالْفُسْطَاطُ كَالْبَيْتِ، فَإِنْ سَرَقَ الْفُسْطَاطَ وَالْجَوَالِقَ لَا يُقْطَعُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمَا حَافِظٌ، وَلِهَذَا قَالُوا: لَا يُقْطَعُ النَّبَّاشُ، وَتَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْقَذْفُ، وَيَسْأَلُ الشُّهُودَ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا وَمَاهِيَّتِهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَطْعِ؛ وَإِذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ الْحِرْزَ وَتَوَلَّى بَعْضُهُمُ الْأَخْذَ قُطِعُوا إِنْ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ نِصَابٌ؛   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَالْجَوَالِقُ وَالْفُسْطَاطُ كَالْبَيْتِ) لِأَنَّهُ عُمِلَ لِلْحِفْظِ (فَإِنْ سَرَقَ الْفُسْطَاطَ وَالْجَوَالِقَ لَا يُقْطَعُ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا فِي حِرْزٍ وَإِنْ كَانَا حِرْزًا لِمَا فِيهِمَا (إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُمَا حَافِظٌ) فَيُقْطَعُ لِوُجُودِ الْحِرْزِ، وَقَالَ أَصْحَابُنَا: مَا كَانَ حِرْزًا لِنَوْعٍ فَهُوَ حِرْزٌ لِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ حَتَّى جَعَلُوا شَرِيجَةَ الْبَقَّالِ حِرْزًا لِلْجَوَاهِرِ لِأَنَّهُ يُحْرِزُ خَلْفَهَا الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ. (وَلِهَذَا قَالُوا: لَا يُقْطَعُ النَّبَّاشُ) لِأَنَّ الْقَبْرَ لَيْسَ بِحِرْزٍ لِغَيْرِ الْكَفَنِ فَلَا يَكُونُ حِرْزًا لِلْكَفَنِ. قَالَ: (وَتَثْبُتُ السَّرِقَةُ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْقَذْفُ) يَعْنِي بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَبِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بُدَّ مِنْ إِقْرَارِهِ مَرَّتَيْنِ لِأَنَّهُ إِحْدَى الْحُجَّتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا التَّثْنِيَةُ كَالْأُخْرَى وَهِيَ الْبَيِّنَةُ كَمَا فِي الزِّنَا وَحَدُّ الشُّرْبِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ وَالشُّرْبَ ثَبَتَ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْأُخْرَى كَالْقِصَاصِ، وَحَدُّ الْقَذْفِ وَالتَّثْنِيَةِ فِي الشَّهَادَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ يُفِيدُ تَقْلِيلَ تُهْمَةِ الْكَذِبِ، وَلَا كَذَلِكَ الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَقَّنَ الْمُقِرُّ الرُّجُوعَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ مَا إِخَالُهُ سَرَقَ» وَإِذَا رَجَعَ عَنِ الْإِقْرَارِ صَحَّ فِي الْقَطْعِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَالِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُكَذِّبُهُ. قَالَ: (وَيَسْأَلُ الشُّهُودَ عَنْ كَيْفِيَّتِهَا وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا وَمَاهِيَّتِهَا) لِأَنَّهُ يَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَيَسْأَلُ عَنْهُ احْتِيَاطًا فِي الْحُدُودِ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وَالْقَطْعِ) حَتَّى لَا يَقْطَعَ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ، لِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالسَّرِقَةِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِدُونِ دَعْوَاهُ، وَلِاحْتِمَالِ أَنْ يَهَبَهُ الْمَسْرُوقَ أَوْ يُمَلِّكَهُ فَيَسْقُطُ الْقَطْعُ، فَإِذَا حَضَرَ انْتَفَى هَذَا الِاحْتِمَالُ. قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ الْحِرْزَ وَتَوَلَّى بَعْضُهُمُ الْأَخْذَ قُطِعُوا إِنْ أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ نِصَابٌ) لِوُجُودِ السَّرِقَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 وَإِنْ نَقَبَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ؛ أَوْ دَخَلَ فَنَاوَلَ الْمَتَاعَ آخَرَ مِنْ خَارِجٍ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ أَخَذَهُ قُطِعَ، وَلَوْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ وَسَاقَهُ قُطِعَ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ أَوْ كُمِّ غَيْرِهِ وَأَخَذَ قُطِعَ.   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِأَنَّ الْأَخْذَ وُجِدَ مِنَ الْكُلِّ مَعْنًى لِلْمُعَاوَنَةِ كَمَا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَصَارَ كَالرِّدْءِ وَالْمُعَيَّنِ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ لَمْ يُقْطَعْ، لِأَنَّ الْقَطْعَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِجِنَايَتِهِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُهَا فِي حَقِّهِ. قَالَ: (وَإِنْ نَقَبَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ، أَوْ دَخَلَ فَنَاوَلَ الْمَتَاعَ آخَرَ مِنْ خَارِجٍ لَمْ يُقْطَعْ) أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ الْهَتْكُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ وَهُوَ الدُّخُولُ فَصَارَ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّ الدَّاخِلَ لَمْ يُخْرِجِ الْمَتَاعَ لِاعْتِرَاضِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ عَلَيْهِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ، وَالْخَارِجُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ هَتْكُ الْحِرْزِ فَلَمْ تَتِمِّ السَّرِقَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: الْقَطْعُ فِي الْأُولَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السَّرِقَةِ إِخْرَاجُ الْمَالِ مِنَ الْحِرْزِ وَقَدْ وُجِدَ، فَصَارَ كَمَا إِذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ وَأَخْرَجَ الدَّرَاهِمَ عَنْهُ؛ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إِنْ أَخْرَجَ الدَّاخِلُ يَدَهُ وَنَاوَلَهَا الْخَارِجَ قُطِعَ الدَّاخِلُ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَتَنَاوَلَهَا مِنَ الدَّاخِلِ قُطِعَا وَهِيَ بِنَاءٌ عَلَى الْأُولَى. وَجَوَابُهُ أَنَّ كَمَالَ هَتْكِ حُرْمَةِ الْحِرْزِ بِالدُّخُولِ فِيهِ وَهُوَ مُمْكِنٌ مُعْتَادٌ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ الصُّنْدُوقِ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ إِدْخَالُ يَدِهِ فِيهِ دُونَ دُخُولِهِ. قَالَ: (وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ أَخَذَهُ قُطِعَ) . وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُقْطَعُ: لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ كَمَا لَوْ لَمْ يَأْخُذْهُ، وَبِالْأَخْذِ مِنَ الطَّرِيقِ لَا يُقْطَعُ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ. وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ فِعْلٌ آخَرُ فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ فِعْلًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةُ اللُّصُوصِ، لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ خُرُوجُهُمْ بِالْمَتَاعِ فَيَفْعَلُوا ذَلِكَ أَوْ يَفْعَلُونَهُ لِيَتَفَرَّغُوا لِلدَّفْعِ لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَوْ لِلْهَرَبِ فَكَانَ مِنْ تَمَامِ السَّرِقَةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَلْقَاهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ لِأَنَّهُ مُضَيِّعٌ لَا سَارِقٌ. (وَ) كَذَلِكَ (لَوْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ وَسَاقَهُ قُطِعَ) لِأَنَّ مَشْيَهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ، وَلَوْ خَرَجَ قَبْلَ الْحِمَارِ ثُمَّ خَرَجَ الْحِمَارُ بَعْدَهُ وَجَاءَ إِلَى مَنْزِلِهِ لَمْ يُقْطَعْ، وَلَوْ عَلَّقَ عَلَى طَائِرٍ لَهُ وَتَرَكَهُ فِي الْمَنْزِلِ فَطَارَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَنْزِلِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي ذَلِكَ؛ وَلَوْ طَرَحَ الْمَتَاعَ فِي نَهْرٍ فِي الدَّارِ فَذَهَبَ بِهِ الْمَاءُ وَأَخْرَجَهُ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَاءَ أَخْرَجَهُ بِقُوَّتِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ وَحَرَّكَهُ هُوَ حَتَّى أَخْرَجَهُ قُطِعَ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى فِعْلِهِ. قَالَ: (وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ أَوْ كُمِّ غَيْرِهِ وَأَخَذَ قُطِعَ) لِأَنَّهُ حِرْزٌ، أَمَّا الصُّنْدُوقُ فَحِرْزٌ بِنَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الْكُمُّ فَحِرْزٌ بِالْحَافِظِ فَيُقْطَعُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 وَلَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ: كَالْحَطَبِ وَالسَّمَكِ وَالصَّيْدِ وَالطَّيْرِ وَالنُّورَةِ وَالزَّرْنِيخِ وَنَحْوِهَا، وَلَا مَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ: كَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ وَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ، وَلَا مَا يَتَأَوَّلُ فِيهِ الْإِنْكَارُ: كَالْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ، وَآلَاتِ اللَّهْوِ وَالنَّرْدِ وَالشَّطَرَنْجِ، وَصَلِيبِ الذَّهَبِ، وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ الْمُحَلَّى، وَالصَّبِيِّ الْحُرِّ الْمُحَلَّى.   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل ما لا قطع فيه وما فيه قطع] فَصْلٌ (وَلَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ: كَالْحَطَبِ وَالسَّمَكِ وَالصَّيْدِ وَالطَّيْرِ وَالنُّورَةِ وَالزَّرْنِيخِ وَنَحْوِهَا) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إِنَّ الْيَدَ كَانَتْ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ» وَهُوَ الْحَقِيرُ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ، حَقِيرٌ لِقِلَّةِ الرَّغَبَاتِ فِيهِ، وَلِهَذَا لَا يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ عَلَى كُرْهٍ مِنَ الْمَالِكِ عَادَةً فَلَا حَاجَةَ إِلَى الزَّاجِرِ كَمَا قُلْنَا فِيمَا دُونَ النِّصَابِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الشِّرِكَةِ الْعَامَّةِ فِي الْأَصْلِ يُوجِبُ الشُّبْهَةَ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ» وَيَعُمُّ جَمِيعَ الطُّيُورِ حَتَّى الدَّجَاجَ وَالْبَطَّ، وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَلِحِ وَالطَّرِيِّ. قَالَ: (وَلَا مَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ: كَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ وَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ» قَالُوا: مَعْنَاهُ مَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحُبُوبِ وَالسُّكَّرِ إِجْمَاعًا. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» قَالَ مُحَمَّدٌ: الثَّمَرُ مَا كَانَ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ وَالْكَثَرُ: الْجُمَّارُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا قَطْعَ فِي الثِّمَارِ» وَمَا آوَاهُ الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ وَهُوَ مَوْضِعٌ تُجْمَعُ فِيهِ الثِّمَارُ إِذَا صُرِمَتْ، وَالَّذِي يُجْمَعُ عَادَةً هُوَ الْيَابِسُ. قَالَ: (وَلَا مَا يَتَأَوَّلُ فِيهِ الْإِنْكَارُ: كَالْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ وَآلَاتِ اللَّهْوِ وَالنَّرْدِ وَالشَّطَرَنْجِ وَصَلِيبِ الذَّهَبِ) لِأَنَّهُ يُصْدَّقُ دَعْوَاهُ فِي تَأْوِيلِهِ الْإِنْكَارَ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ حَالِ الْمُسْلِمِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ. قَالَ: (وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ الْمُحَلَّى) ؛ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْطَعُ إِذَا بَلَغَتِ الْحِلْيَةُ نِصَابًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمُصْحَفِ فَاعْتُبِرَتْ بِانْفِرَادِهَا. وَلَنَا أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِيهِ الْقِرَاءَةَ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَازَ لِأَجْلِ الْمَكْتُوبِ وَلَا مَالِيَّةَ لَهُ، وَمَا وَرَاءَهُ تَبَعٌ كَالْجِلْدِ وَالْوَرَقِ وَالْحِلْيَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّبَعِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ وَمَا لَا يَجِبُ لَا يُقْطَعُ كَالشَّرَابِ وَمَاءِ الْوَرْدِ فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ دَلِيلَا الْقَطْعِ وَعَدِمِهِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً، حَتَّى لَوْ شَرِبَ مَا فِي الْإِنَاءِ فِي الدَّارِ ثُمَّ أَخْرَجَ الْإِنَاءَ مِنَ الدَّارِ فَارِغًا قُطِعَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِينَئِذٍ هُوَ الْإِنَاءُ، رَوَاهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ. (وَ) كَذَلِكَ (الصَّبِيِّ الْحُرِّ الْمُحَلَّى) ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّهُ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْحُلِيَّ غَيْرُهُ فَكَانَ مَقْصُودًا. وَلَنَا أَنَّ الْحُلِيَّ تَبَعٌ لَهُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلِأَنَّهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 وَلَا فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ، وَلَا فِي سَرِقَةِ الزَّرْعِ قَبْلَ حَصَادِهِ وَالثَّمَرَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَلَا فِي كُتُبِ الْعِلْمِ؛ وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقَنَا وَالْأَبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ وَالْعُودِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْفُصُوصِ كُلِّهَا، وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْخَشَبِ؛ وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ، وَلَا نَبَّاشٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ، وَلَا مُخْتَلِسٍ   [الاختيار لتعليل المختار] يُتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ خَوْفَ الْهَلَاكِ وَرَدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ، وَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْحُلِيَّ لَأَخَذَهُ دُونَ الصَّبِيِّ؛ وَكَذَا لَوْ سَرَقَ كَلْبًا عَلَيْهِ قَلَائِدُ فِضَّةٍ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لَهُ وَلَا قَطْعَ فِي الْأَصْلِ فَكَذَا فِي التَّبَعِ. قَالَ: (وَلَا فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ) صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ، وَقَالَا: يُقْطَعُ فِي الْعَبْدِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ مَالٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ، أَوْ بِعَرَضِيَّةِ الِانْتِفَاعِ لِأَنَّهُ خِدَاعٌ أَوْ غَصْبٌ وَلَيْسَ سَرِقَةً، وَإِذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَعْقِلُ فَهُوَ كَالْكَبِيرِ. قَالَ: (وَلَا فِي سَرِقَةِ الزَّرْعِ قَبْلَ حَصَادِهِ وَالثَّمَرَةِ عَلَى الشَّجَرِ) لِعَدَمِ الْحِرْزِ وَلِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ. قَالَ: (وَلَا فِي كُتُبِ الْعِلْمِ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ قِرَاءَتَهَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا وَلَيْسَ بِمَالٍ، وَيُقْطَعُ فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ لِأَنَّ مَا فِيهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْكَاغَدُ؛ وَلَوْ سَرَقَ الْجِلْدَ وَالْكَوَاغِدَ قَبْلَ الْكِتَابَةِ قُطِعَ، وَفِي كُتُبِ الْأَدَبِ رِوَايَتَانِ. قَالَ: (وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقَنَا وَالْأَبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ وَالْعُودِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْفُصُوصِ كُلِّهَا) لِأَنَّهَا مِنْ أَنْفَسِ الْأَمْوَالِ وَأَعَزِّهَا مَرْغُوبٌ فِيهَا، وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِصُورَتِهَا فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. (وَ) يُقْطَعُ فِي (الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنَ الْخَشَبِ) لِأَنَّهَا الْتَحَقَتْ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ بِالصَّنْعَةِ، وَلَا قَطْعَ فِي الْعَاجِ مَا لَمْ يُعْمَلْ، فَإِذَا عُمِلَ مِنْهُ شَيْءٌ قُطِعَ فِيهِ، وَلَا قَطْعَ فِي الزُّجَاجِ لِأَنَّ الْمَكْسُورَ مِنْهُ تَافِهٌ، وَالْمَصْنُوعَ يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. وَقِيلَ يُقْطَعُ فِي الْمَصْنُوعِ لِأَنَّهُ مَالٌ نَفِيسٌ لَا يَتَسَارَعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَوْ سَرَقَ جُلُودَ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةَ وَقِيمَتُهَا مِائَةٌ لَا قَطْعَ، وَلَوْ جُعِلَتْ مِصَلَاةً أَوْ بِسَاطًا قُطِعَ، لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ جُلُودَ السِّبَاعِ لِتَغَيُّرِ اسْمِهَا وَمَعْنَاهَا. قَالَ: (وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ، وَلَا نَبَّاشٍ، وَلَا مُنْتَهِبٍ، وَلَا مُخْتَلَسٍ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ» وَلِأَنَّ الْحِرْزَ قَاصِرٌ فِي حَقِّ الْخَائِنِ لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُحْرَزٍ عَنْهُ، وَالْمُنْتَهِبُ وَالْمُخْتَلِسُ مُجَاهِرٌ فَلَا يَكُونُ سَارِقًا. وَسُئِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ فَقَالَ: تِلْكَ دُعَابَةٌ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَلِأَنَّ اسْمَ السَّارِقِ لَا يَتَنَاوَلُهُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ. وَأَمَّا النَّبَّاشُ فَيُقْطَعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ» وَلِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُتَقَوَّمًا مِنْ حِرْزٍ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ. وَلَهُمَا مَا رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ نَبَّاشًا أُخِذَ فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ يَوْمِئِذٍ فَأَجْمَعُوا أَنْ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ اسْمَ السَّارِقِ لَا يَتَنَاوَلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ أَفْرَدُوا لَهُ اسْمًا؟ وَالْقَطْعُ وَجَبَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 وَلَا مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، أَوْ مِنْ سَيِّدِهِ، أَوْ مِنَ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ، أَوْ زَوْجِ سَيِّدَتِهِ، أَوْ زَوْجَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، أَوْ مِنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ. وَتُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنَ الزَّنْدِ وَتُحْسَمُ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى السَّارِقِ نَصًّا؛ فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُ عَلَيْهِ كَانَ إِلْحَاقًا لَهُ بِهِ فَيَكُونُ إِيجَابُ الْحُدُودِ بِالْقِيَاسِ فَلَا يَجُوزُ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِلْكًا لِلْمَيِّتِ لِانْقِطَاعِ مِلْكِهِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، وَلَا مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ لِعَدَمِ جَوَازِ تَصَرُّفِهِمْ فِيهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكٌ مُعَيَّنٌ فَلَا يُقْطَعُ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ. وَقِيلَ هُوَ مَوْقُوفٌ وَلَيْسَ بِمَرْفُوعٍ. قَالَ: (وَلَا مَنْ سَرَقَ ذِي رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، أَوْ مِنْ سَيِّدِهِ، أَوْ مِنِ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ، أَوْ زَوْجِ سَيِّدَتِهِ، أَوْ زَوْجَتِهِ، أَوْ مُكَاتَبِهِ، أَوْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، أَوْ مِنَ الْغَنِيمَةِ، أَوْ مَنْ مَالٍ لَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ) لِوُقُوعِ الْخَلَلِ فِي الْحِرْزِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ فِي الْبَعْضِ وَبُسُوطَةٍ فِي الْبَعْضِ فِي مَالِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي أَكْسَابِ الْمُكَاتَبِ وَلَهُ نَصِيبٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَالْمَغْنَمِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَكَذَا إِذَا سَرَقَ الْمُكَاتَبُ مِنْ مَوْلَاهُ لَا يُقْطَعُ، وَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَرِيمِهِ مِثْلَ مَالِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ سَوَاءٌ، لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ وَالتَّأْجِيلُ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَكَذَا لَوْ سَرَقَ أَكَثْرَ مِنْ حَقِّهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ شَرِيكًا بِمِقْدَارِ حَقِّهِ. وَكَذَا إِذَا أَخَذَ أَجْوَدَ مِنْ دَرَاهِمِهِ أَوْ أَرْدَأَ، لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ؛ وَيُقْطَعُ بِسَرِقَةِ خِلَافِ جِنْسِ مَا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ إِلَّا بَيْعًا إِلَّا إِذَا قَالَ: أَخَذْتُهُ رَهْنًا بِحَقِّي أَوْ قَضَاءً بِهِ فَلَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَقَدْ ظُنَّ فِي مَوْضِعِهِ. قَوْمٌ سَرَقُوا وَفِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ تَوَلَّى ذَلِكَ الْكَبِيرُ لِأَنَّهُ فِعْلُ وَاحِدٍ لَمْ يُوجِبِ الْقَطْعَ عَلَى الْبَعْضِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْبَاقِينَ لِلشُّبْهَةِ، وَكَذَا شَرِيكُ ذِي الرَّحِمِ الْمُحْرَمِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: ادْرَإِ الْحَدَّ عَنِ الصَّبِيِّ وَالْمَحْرَمِ، وَاقْطَعِ الْآخَرَ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ، إِذْ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرٌ بِانْفِرَادِهِ، وَشَرِيكُ الْأَخْرَسِ كَشَرِيكِ الصَّبِيِّ فِي الْخِلَافِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْأَخْرَسِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَوْ نَطَقَ ادَّعَى شُبْهَةَ الشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْطَعُ الْأَعْمَى إِذَا سَرَقَ لِجَهْلِهِ بِمَالِ غَيْرِهِ وَحِرْزِ غَيْرِهِ. [فصل بيان محل القطع] فَصْلٌ (وَتُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ مِنَ الزَّنْدِ وَتُحْسَمُ) أَمَّا الْقَطْعُ فَلِلْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَأَمَّا الْيَمِينُ فَلِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. وَأَمَّا مِنَ الزَّنْدِ لِأَنَّ الْآيَةَ مُجْمَلَةٌ، فَإِنَّ الْيَدَ تَتَنَاوَلُ إِلَى الْإِبِطِ وَتَتَنَاوَلُ إِلَى الزَّنْدِ وَإِلَى الْمِرْفَقِ، وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ مُفَسِّرَةً لَهَا بِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنَ الزَّنْدِ» . وَأَمَّا الْحَسْمُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ لَمْ يُقْطَعْ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ أَشَلَّهَا أَوْ إِبْهَامِهَا أَوْ أُصْبُعَيْنِ سِوَاهَا، وَفِي رِوَايَةٍ: ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ أَقْطَعَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى أَوْ أَشَلَّهَا أَوْ بِهَا عَرَجٌ يَمْنَعُ الْمَشْيَ عَلَيْهَا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَلَا رِجْلُهُ الْيُسْرَى.   [الاختيار لتعليل المختار] «فَاقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ» وَلِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تُحْسَمُ يُؤَدِّي إِلَى التَّلَفِ، لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَنْقَطِعُ إِلَّا بِهِ، وَالْحَدُّ زَاجِرٌ غَيْرُ مُتْلِفٍ، وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ. (فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ عَادَ لَمْ يُقْطَعْ وَيُحْبَسْ حَتَّى يَتُوبَ) وَالْأَصْلُ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُتْلِفًا، لِأَنَّ الْحُدُودَ شُرِعَتْ لِلزَّجْرِ عَنِ ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ لَا مُتْلِفَةً لِلنُّفُوسِ الْمُحْتَرَمَةِ، فَكُلُّ حَدٍّ يَتَضَمَّنُ إِتْلَافَ النَّفْسِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَوْ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يُشْرَعْ حَدًّا، وَكُلُّ قَطْعٍ يُؤَدِّي إِلَى إِتْلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ كَانَ إِتْلَافًا لِلنَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يُشْرَعُ، وَقَطْعُ الْيَدِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى يُؤَدِّي إِلَى إِتْلَافِ جِنْسِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ وَالْمَشْيِ فَلَا يُشْرَعُ حَدًّا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا، وَبِهَذَا حَاجَّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ فَحَجَّهُمْ فَانْعَقَدَ إِجْمَاعًا. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ أَقْطَعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَقَدْ سَرَقَ يُقَالُ لَهُ " سَدُومٌ " فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّمَا عَلَيْهِ قَطْعُ يَدٍ وَرِجْلٍ، فَحَبَسَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يَقْطَعْهُ فَفَتْوَى عَلِيٍّ وَرُجُوعُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا مُخَالَفَةٍ مِنْ غَيْرِهِمَا دَلِيلٌ عَلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ شَرِيعَةً عَرَفُوهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيَسْتَوْفِي جَبْرًا لَحِقَهُ. وَمَا رُوِيَ مِنَ الْحَدِيثِ فِي قَطْعِ أَرْبَعَةِ السَّارِقِ طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ، أَوْ نَقُولُ: لَوْ صَحَّ لَاحْتَجَّ بِهِ الصَّحَابَةُ عَلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَرَجَعَ إِلَيْهِمْ، وَحَيْثُ حَجَّهُمْ وَرَجَعُوا إِلَى قَوْلِهِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى ذَاهِبَةً أَوْ مَقْطُوعَةً تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنَ الْمِفْصَلِ، وَإِنْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِهْلَاكِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَتُوبَ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى أَوْ أَشَلَّهَا أَوْ إِبْهَامِهَا أَوْ أَصْبُعَيْنِ سِوَاهَا، وَفِي رِوَايَةٍ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ أَقْطَعَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى أَوْ أَشَلَّهَا أَوْ بِهَا عَرَجٌ يَمْنَعُ الْمَشْيَ عَلَيْهَا لَمْ تُقْطَعْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَلَا رِجْلُهُ الْيُسْرَى) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ بِحَالٍ لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى لَا يَنْتَفِعُ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، أَوْ لَا يَنْتَفِعُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى لِآفَةٍ كَانَتْ قَبْلَ الْقَطْعِ لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا أَوْ مَشْيًا وَقِوَامُ الْيَدِ بِالْإِبْهَامِ، فَعَدَمُهَا أَوْ شَلَلُهَا كَشَلَلِ جَمِيعِ الْيَدِ، وَلَوْ كَانَتْ أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ سِوَى الْإِبْهَامِ مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ قُطِعَ، لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَاحِدَةِ لَا يُوجِبُ نَقْصًا ظَاهِرًا فِي الْبَطْشِ، بِخِلَافِ الْأُصْبَعَيْنِ لِأَنَّهُمَا كَالْإِبْهَامِ فِي الْبَطْشِ. وَلَوْ كَانَتِ الْيَدُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 وَإِنِ اشْتَرَى السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوِ ادَّعَاهُ لَمْ يُقْطَعْ، وَإِذَا قُطِعَ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ رَدَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً لَمْ يَضْمَنْهَا؛ وَمَنْ قُطِعَ فِي سَرِقَةٍ ثُمَّ سَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا لَمْ يُقْطَعْ   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ نَاقِصَةَ الْأَصَابِعِ يُقْطَعُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالنَّصِّ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى دُونَ الْيُسْرَى وَاسْتِيفَاءُ النَّاقِصِ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْكَامِلِ جَائِزٌ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ ذِكْرُهُ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ، وَلَوْ كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ، فَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ عَلَيْهَا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، وَإِلَّا فَلَا لِمَا بَيَّنَّا؛ فَإِنْ سَرَقَ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَ مَا قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ حُبِسَ وَضُرِبَ، لِأَنَّ الْقَطْعَ لَمَّا سَقَطَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا الزَّجْرُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ: (وَإِنِ اشْتَرَى السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوِ ادَّعَاهُ لَمْ يُقْطَعْ) ، وَقَالَ زُفَرُ: إِنْ كَانَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْقَطْعِ قُطِعَ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ تَمَّتِ انْعِقَادًا وَظُهُورًا، وَبِالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ لَمْ يَتَبَيَّنْ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ السَّرِقَةِ فَلَمْ تَثْبُتِ الشُّبْهَةُ. وَلَنَا أَنَّ الْإِمْضَاءَ فِي الْحُدُودِ مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْقَضَاءِ بِالِاسْتِيفَاءِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلظُّهُورِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ظَاهِرٌ عِنْدَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ فَصَارَ كَمَا إِذَا مَلَكَهَا قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ دَارِئَةٌ وَأَنَّهَا تَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِاحْتِمَالِ صِدْقِهِ. قَالَ: (وَإِذَا قُطِعَ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ فِي يَدِهِ رَدَّهَا) لِأَنَّهَا مِلْكُهُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ» ؛ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطَعَ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ وَرَدََّ الرِّدَاءَ عَلَى صَفْوَانَ وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَلَكَهَا غَيْرُهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ وَهِيَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا لِمَا قُلْنَا. (وَإِنْ كَانَتْ هَالِكَةً لَمْ يَضْمَنْهَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا غُرْمَ عَلَى السَّارِقِ بَعْدَ مَا قُطِعَتْ يَمِينُهُ» ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَوْفٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ» ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَهَا لَمَلَكَهَا مِنْ وَقْتِ الْأَخْذِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْغَصْبِ فَيَكُونُ الْقَطْعُ وَاقِعًا عَلَى أَخْذِ مِلْكِهِ وَلَا يَجُوزُ. وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ إِنِّي آمُرُهُ بِرَدِّ قِيمَةِ مَا اسْتَهْلَكَهُ، وَإِنْ كُنْتُ لَا أَقْضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يُؤَدِّي إِلَى إِيجَابِ مَا يُنَافِي الْقَطْعَ لَكِنْ يُفْتَى بِالرَّدِّ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَحْظُورًا بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَذَلِكَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ، فَإِنْ سَقَطَ الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ ضَمِنَ، لِأَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ وَإِنَّمَا سَقَطَ بِالْقَطْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ عَادَ الضَّمَانُ بِحَالِهِ. قَالَ: (وَمَنْ قُطِعَ فِي سَرِقَةٍ ثُمَّ سَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا لَمْ يُقْطَعْ) ؛ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ إِذَا رَدَّهَا صَارَتْ كَعَيْنٍ أُخْرَى فِي حَقِّ الضَّمَانِ، فَكَذَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ؛ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا صَارَتْ غَيْرَ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَقِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اسْتَهْلَكَهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَمَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّهِ لَا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي سَرِقَتِهِ وَبِالرَّدِّ إِلَى الْمَالِكِ إِنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ فَشُبْهَةُ السُّقُوطِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وَإِنْ تَغَيَّرَ حَالُهَا كَمَا إِذَا كَانَ غَزْلًا فَنُسِجَ قُطِعَ.   [الاختيار لتعليل المختار] بَاقِيَةٌ نَظَرًا إِلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ. قَالَ: (وَإِنْ تَغَيَّرَ حَالُهَا كَمَا إِذَا كَانَ غَزْلًا فَنُسِجَ قُطِعَ) لِتَبَدُّلِ الْعَيْنِ اسْمًا وَصُورَةً وَمَعْنًى حَتَّى يَمْلِكَهُ الْغَاصِبُ بِهِ، وَإِذَا تَبَدَّلَتِ الْعَيْنُ انْتَفَتِ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ وَالْقَطْعِ فِيهِ فَيُقْطَعُ. وَلَوْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا، ثُمَّ إِنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ بَاعَهَا مِنْ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ عَادَ وَسَرَقَهَا، قَالَ مَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ حَقِيقَةً لَكِنْ تَبَدَّلَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا فَكَانَ شُبْهَةُ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ قَائِمَةً. وَقَالَ مَشَايِخُ خُرَاسَانَ: يُقْطَعُ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ سَقَطَتْ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْقَطْعِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ انْعَدَمَتْ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي، فَقَدْ وَجَدَ دَلِيلَ الْعِصْمَةِ وَفَقَدَ دَلِيلَ سُقُوطِهَا فَبَقِيَتْ مَعْصُومَةً، فَإِذَا عَادَتْ إِلَى الْبَائِعِ عَادَتْ مَعْصُومَةً مُتَقَوِّمَةً كَمَا كَانَتْ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَرَقَ قُطْنًا فَقُطِعَ فِيهِ ثُمَّ غُزِلَ فَسَرَقَهُ قُطِعَ لِمَا بَيَّنَا؛ وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبَ خَزٍّ أَوْ صُوفٍ فَقُطِعَ فِيهِ ثُمَّ نَقَضَ الثَّوْبَ فَسَرَقَهُ ثَانِيًا لَمْ يُقْطَعْ، لِأَنَّ الْعَيْنَ وَالْمِلْكَ لَمْ يَتَبَدَّلْ. وَحُضُورُ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْقَضَاءِ بِالسَّرِقَةِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالسَّرِقَةِ قَضَاءٌ بِالْمِلْكِ لَهُ؛ وَلَوْ غَابَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لِلِاسْتِيفَاءِ شَبَهًا بِالْقَضَاءِ وَلِهَذَا رُجُوعُ الشُّهُودِ وَجَرْحُهُمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ، وَغَيْبَةُ الشُّهُودِ وَمَوْتُهُمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَمْنَعُ الْإِمْضَاءَ فِي الْحُقُوقِ كُلِّهَا، لِأَنَّ الْحُدُودَ لَا تُدْرَأُ بِشُبْهَةٍ تُتَوَهَّمُ مِثْلَ رُجُوعِ الشُّهُودِ وَجَرْحِهِمْ، لِأَنَّ هَذَا التَّوَهُّمَ لَا يَنْقَطِعُ، فَلَوِ اعْتُبِرَ لَمْ يُقَمْ حَدٌّ أَبَدًا، وَلَوْ فَسَقُوا أَوْ عَمُوا أَوْ جُنُّوا أَوِ ارْتَدُّوا بَعْدَ الْقَضَاءِ يُمْنَعُ الْإِمْضَاءُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ دُونَ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ إِنَّمَا يُظْهِرُ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءَ لِلْقَاضِي، لِأَنَّ الْحَقَّ ظَاهِرٌ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْحَاجَةُ إِلَى الْقَضَاءِ لِظُهُورِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ، فَكَانَ الِاسْتِيفَاءُ قَضَاءً مَعْنًى، فَكَانَتْ هَذِهِ الْعَوَارِضُ حَادِثَةً قَبْلَ الْقَضَاءِ مَعْنًى بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ الْحَقَّ إِذَا ظَهَرَ بِالْقَضَاءِ فَوِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ ثَبَتَتْ لِصَاحِبِ الْحَقِّ بِالْمِلْكِ السَّابِقِ لَا بِالْقَضَاءِ. وَلَوْ سَرَقَتْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ سَرَقَ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَا سَقَطَ الْقَطْعُ، لِأَنَّ اعْتِرَاضَ الزَّوْجِيَّةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ فَيَمْنَعُ الْقَضَاءَ أَوْلَى، وَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَةِ الْمُودِعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْغَاصِبِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ. اعْلَمْ أَنَّ الْيَدَ ضَرْبَانِ: صَحِيحَةٌ، وَغَيْرُ صَحِيحَةٍ. فَالسَّرِقَةُ مِنَ الْيَدِ الصَّحِيحَةِ يَتَعَلَّقُ بِهَا الْقَطْعُ، يَدُ مَالِكٍ كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ، وَمِنْ غَيْرِ الصَّحِيحَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْقَطْعُ؛ وَالْيَدُ الصَّحِيحَةُ يَدُ مِلْكٍ وَيَدُ أَمَانَةٍ وَيَدُ ضَمَانٍ، وَالَّتِي لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ يَدُ السَّارِقِ، أَمَّا السَّرِقَةُ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ فَلِمَا مَرَّ، وَأَمَّا مِنْ يَدِ الْأَمَانَةِ فَإِنَّهَا كَيَدِ الْمَالِكِ، لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ يَدٌ مُوَدَعَةٌ وَيَدُ الضَّمَانِ يَدٌ صَحِيحَةٌ كَالْمُرْتَهِنِ وَالْقَابِضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْغَاصِبِ لِأَنَّ لَهُمْ وِلَايَةَ الْأَخْذِ، وَالْأَخْذُ دَفْعًا لِلضَّمَانِ عَنْهُمْ فَأَشْبَهَتْ يَدَ الْمَالِكِ، وَيُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ أَيْضًا إِذَا سَرَقَ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] هَؤُلَاءِ إِلَّا الرَّاهِنَ، لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي قَبْضِ الْعَيْنِ مَعَ قِيَامِ الرَّهْنِ، فَإِذَا قُضِيَ الدَّيْنُ بَطَلَ الرَّهْنُ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ فَيُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ أَيْضًا. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يُقْطَعُ إِلَّا بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْخُصُومَةِ لِلْبَاقِينَ إِنَّمَا تُثْبِتُ ضَرُورَةَ الْحِفْظِ فَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ. وَلَنَا أَنَّ السَّرِقَةَ تَثْبُتُ لِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ عَقِيبَ خُصُومَةٍ مُعْتَبَرَةٍ لِحَاجَتِهِمْ إِلَى الِاسْتِرْدَادِ فَيَسْتَوْفِي الْقَطْعُ كَالسَّرِقَةِ مِنَ الْمَالِكِ فَلَا تُعْتَبَرُ شُبْهَةً مَوْهُومَةَ الِاعْتِرَاضِ، وَالْيَدُ الَّتِي لَيْسَتْ يَدَ السَّارِقِ فَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْهُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ، وَلَا أَمَانَةَ وَلَا ضَمَانَ فَصَارَ كَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنَ الطَّرِيقِ أَوْ أَخَذَ الْمَالَ الضَّائِعَ، وَلَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ أَيْضًا، لِأَنَّ السَّارِقَ الثَّانِي لَمْ يَزَلْ عَنِ الْمَالِكِ يَدًا صَحِيحَةً فَصَارَ كَأَخْذِهِ مِنَ الطَّرِيقِ. وَكُلُّ مَا يُحْدِثُهُ السَّارِقُ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَقْصًا أَوْ زِيَادَةً، فَإِنْ كَانَ نَقْصًا قُطِعَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَرُدَّتِ الْعَيْنُ، لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَيْنِ لَيْسَ بِأَكْثَرِ مِنْ هَلَاكِهَا؛ وَإِنْ كَانَتْ زِيَادَةً فَإِمَّا أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ الْمَالِكِ عَنِ الْعَيْنِ كَقَطْعِ الثَّوْبِ وَخِيَاطَتِهِ قَبَاءً أَوْ جُبَّةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ قُطِعَ السَّارِقُ وَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ عَلَى الْعَيْنِ وَلَا ضَمَانَ، لِأَنَّ الْعَيْنَ زَالَتْ عَنْ مِلْكِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَتَعَذَّرَ الضَّمَانُ بِالْقَطْعِ فَصَارَ كَالِاسْتِهْلَاكِ، وَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ لَا تَقْطَعُ حَقَّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ كَالصَّبْغِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُقْطَعُ السَّارِقُ وَلَا سَبِيلَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَى الْعَيْنِ، وَقَالَا: يَأْخُذُهُ وَيُعْطِي مَا زَادَ عَلَى الصَّبْغِ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَالِكَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ تَضْمِينِ الثَّوْبِ وَبَيْنَ أَخْذِهِ وَضَمَانِ الزِّيَادَةِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ بِالْقَطْعِ فَتَعَيَّنَ أَخْذُهُ، وَضَمَانُ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ إِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَضْمِينُ الثَّوْبِ بَعْدَ الْقَطْعِ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ رَدَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ السَّارِقُ شَرِيكًا فِيهِ بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْقَطْعِ، وَسَرِقَةُ الْعَيْنِ الْمُشْتَرِكَةِ تُسْقِطُ الْقَطْعَ ابْتِدَاءً، فَإِذَا وُجِدَ الْقَطْعُ لَمْ يَجُزْ إِثْبَاتُ مَا يُنَافِيهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا صَبَغَهُ بَعْدَ الْقَطْعِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا تُسْقِطُ الْقَطْعَ كَمَا لَوْ بَاعَ الْمَالِكُ بَعْضَ الثَّوْبِ مِنَ السَّارِقِ. وَلَوْ سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَضَرَبَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ قُطِعَ وَرَدَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: لَا سَبِيلَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ صَنْعَةٌ مُتَقَوَّمَةٌ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ، وَقَدْ عُرِفَ فِي الْغَصْبِ، وَفِي الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ وَالصُّفْرِ إِنْ جَعَلَهُ أَوَانِيَ، فَإِنْ كَانَ يُبَاعُ عَدَدًا فَهُوَ لِلسَّارِقِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبِهَذَا الْأَصْلِ يُعْرَفُ جَمِيعُ مَسَائِلِ مَا يُحْدِثُهُ السَّارِقُ فِي الْمَسْرُوقِ لِمَنْ يَتَأَمَّلُهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 فَصْلٌ إِذَا خَرَجَ جَمَاعَةٌ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ وَاحِدٌ فَأُخِذُوا قَبْلَ ذَلِكَ حَبَسَهُمُ الْإِمَامُ حَتَّى يَتُوبُوا؛ وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابُ السَّرِقَةِ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ؛ وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا قَتَلَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى عَفْوِ الْأَوْلِيَاءِ؛ وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، أَوْ قَتَلَهُمْ، أَوْ صَلَبَهُمْ.   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل حَدُّ قَطْعِ الطَّرِيقِ] فَصْلٌ (إِذَا خَرَجَ جَمَاعَةٌ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ وَاحِدٌ فَأُخِذُوا قَبْلَ ذَلِكَ حَبَسَهُمُ الْإِمَامُ حَتَّى يَتُوبُوا، وَإِنْ أَخَذُوا مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ وَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابُ السَّرِقَةِ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا قَتَلَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ إِلَى عَفْوِ الْأَوْلِيَاءِ) لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقْتُلُهُمْ حَدًّا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ وَقَتَلَهُمْ وَصَلَبَهُمْ، أَوْ قَتَلَهُمْ) يَعْنِي مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ (أَوْ صَلَبَهُمْ) مِنْ غَيْرِ قِطْعٍ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] قِيلَ مَعْنَاهُ: الَّذِينَ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَأَوْلِيَاءَ رَسُولِهِ لِاسْتِحَالَةِ مُحَارَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِطْرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا امْتَنَعُوا عَلَى نَائِبِ اللَّهِ الْإِمَامِ وَجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَظَاهَرُوا بِمُخَالَفَةِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى كَانُوا فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ، وَهَذَا تَوَسُّعٌ فِي الْكَلَامِ وَمَجَازٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} [الحشر: 4] ، وَالْمُحَارِبُونَ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ هُمُ الْقَوْمُ يَجْتَمِعُونَ لَهُمْ مَنَعَةٌ بِأَنْفُسِهِمْ يَحْمِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَتَنَاصَرُونَ عَلَى مَا قَصَدُوا إِلَيْهِ وَيَتَعَاضَدُونَ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ امْتِنَاعُهُمْ بِحَدِيدٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ حِجَارَةٍ، وَيَكُونُ قَطْعُهُمْ عَلَى الْمُسَافِرِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ دُونَ غَيْرِهِمْ، هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: الْآيَةُ مُرَتَّبَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّ الْجِنَايَاتِ تَتَفَاوَتُ عَلَى الْأَحْوَالِ، فَاللَّائِقُ تَغَلُّظُ الْحُكْمِ بِتَغَلُّظِهَا، فَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا حُبِسُوا، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنَ النَّفْيِ مِنَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ هُوَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَزَالُ يَطْلُبُهُمْ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. وَإِنْ أَخَذُوا مَالًا عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 وَيُطْعَنُ تَحْتَ ثَنْدَوَتِهِ الْيُسْرَى حَتَّى يَمُوتَ، وَلَا يُصْلَبُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ؛ وَإِنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أُجْرِيَ الْحَدُّ عَلَى الْكُلِّ،   [الاختيار لتعليل المختار] يَعْنِي الْيَدَ الْيُمْنَى وَالرِّجْلَ الْيُسْرَى، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ مَعْصُومًا عِصْمَةً مُؤَبَّدَةً، فَلِهَذَا قَالَ: مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، حَتَّى لَوْ قَطَعَ عَلَى مُسْتَأْمَنٍ لَا يُقْطَعُ، لِأَنَّ خَطَرَهُ مُؤَقَّتٌ فَلَا يَجِبُ فِيهِ حَدٌّ كَالسَّرِقَةِ الصُّغْرَى، وَلَا بُدَّ أَنْ يُصِيبَ كُلَّ وَاحِدٍ نِصَابٌ لِمَا مَرَّ فِي السَّرِقَةِ، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا قَتَلَهُمْ حَدًّا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ فِيهِمْ بِالْخِيَارِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَهَذَا لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مُوجِبٌ لِلْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى، وَتَغَلَّظَتِ الْكُبْرَى بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَالْقَتْلُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ فِي غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ، وَيُغَلَّظُ هُنَا بِأَنْ يُقْتَلَ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى عَفْوِ الْوَلِيِّ وَصُلْحِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا يَقْتُلُهُمْ حَدًّا، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ مُوجِبِهِمَا، وَهَكَذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحَدِّ فِيهِمْ، وَتَكُونُ " أَوْ " فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْوَاوِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَتْرُكُ الصَّلْبَ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ، وَلِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّشْهِيرِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ لِيُعْتَبَرَ بِهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّشْهِيرَ حَصَلَ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ مُبَالَغَةً فَيُخَيَّرُ فِيهِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ وَلَا يُقْطَعُ، لِأَنَّ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا إِذَا اجْتَمَعَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دَخَلَ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ كَالْمُحْصَنِ إِذَا زَنَا وَسَرَقَ. قُلْنَا هَذَا حَدٌّ وَاحِدٌ وَجَبَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ إِخَافَةُ الطَّرِيقِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ بِالْقَتْلِ وَأَخْذِ الْمَالِ، وَالْحَدُّ الْوَاحِدُ لَا يَدْخُلُ بَعْضُهُ بَعْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ وَالرَّجْلِ حَدٌّ وَاحِدٌ فِي أَخْذِ الْمَالِ فِي الْكُبْرَى حَدَّانِ فِي الصُّغْرَى، وَالتَّدَاخُلُ فِي الْحُدُودِ لَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي صَلْبِهِ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ: يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يُصْلَبُ حَيًّا. (وَيُطْعَنُ تَحْتَ ثَنْدَوَتِهِ الْيُسْرَى حَتَّى يَمُوتَ) لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي زَجْرِ غَيْرِهِ. قَالَ: (وَلَا يُصْلَبُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ لِيَدْفِنُوهُ لِأَنَّهُ يَتَغَيَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَسْتَضِرُّ النَّاسُ بِرَائِحَتِهِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ وَهُوَ الزَّجْرُ وَالِاشْتِهَارُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُتْرَكُ عَلَى الْخَشَبَةِ حَتَّى يَتَقَطَّعَ فَيَسْقُطُ لِيَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ، وَالْحُكْمُ فِي قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الصُّغْرَى مِنْ شَلَلِ أَيْدِيهِمْ وَذَهَابِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (وَإِنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أُجْرِيَ الْحَدُّ عَلَى الْكُلِّ) ؛ لِأَنَّ الْمُحَارِبَةَ تَتَحَقَّقُ بِالْكُلِّ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَقْدَمُوا عَلَى ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَيْهِمْ حَتَّى لَوْ غُلِبُوا أَوْ هُزِمُوا انْحَازُوا إِلَيْهِمْ فَكَانُوا عَوْنًا لَهُمْ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ الرِّدْءُ فِي الْغَنِيمَةِ كَالْمُقَاتِلِ، وَلِأَنَّ الرِّدْءَ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا، لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَقَفَ لِيَقْتُلَ إِذَا قُتِلَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ صَارَ الْقَتْلُ لِلْأَوْلِيَاءِ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَيُقْتَلُ كَأَهْلِ الْبَغْيِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ ذُو رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنَ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ صَارَ الْقَتْلُ لِلْأَوْلِيَاءِ) مَعْنَاهُ: أَنَّهُ سَقَطَ الْحَدُّ، فَلَوْ عَفَا الْوَلِيُّ أَوْ صَالَحَ سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ قَامَتْ بِالْكُلِّ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ بَعْضِهِمْ مُوجِبًا صَارَ فِعْلُ الْبَاقِينَ بَعْضَ الْعِلَّةِ فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ. أَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلِمَا مَرَّ فِي السَّرِقَةِ. وَأَمَّا ذُو الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ فَلِأَنَّ الْقَافِلَةَ كَالْحِرْزِ، فَقَدْ حَصَلَ الْخَلَلُ فِي الْحِرْزِ فِي حَقِّهِمْ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ فَيَصِيرُ الْقَتْلُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَلِهَذَا لَوْ قَطَعَ بَعْضُ الْقَافِلَةِ عَلَى الْبَعْضِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ فَصَارَتْ كَدَارٍ وَاحِدَةٍ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ مُسْتَأْمَنٌ قُطِعُوا، لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّهِ لَخَلَلٌ فِي الْعِصْمَةِ وَذَلِكَ يَخُصُّهُ، وَخَلَلُ الْحِرْزِ يَعُمُّ الْكُلَّ. ثُمَّ شَرَائِطُ قَطْعِ الطَّرِيقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ يَنْقَطِعُ بِهِمُ الطَّرِيقُ، وَلَا يَكُونُ فِي مِصْرَ وَلَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ وَلَا بَيْنَ مَدِينَتَيْنِ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ مَسِيرَةُ السَّفَرِ، لِأَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ بِانْقِطَاعِ الْمَارَّةِ وَالسَّابِلَةِ، وَلَا يَمْتَنِعُونَ عَنِ الْمَشْيِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَيَلْحَقُهُمُ الْغَوْثُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ لَيْلًا، أَوْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ أَقَلُّ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَهُمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى نَظَرًا لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ بِدَفْعِ شَرِّ الْمُتَغَلِّبَةِ الْمُفْسِدِينَ، وَأَبُو حَنِيفَةَ أَجَابَ عَلَى مَا شَاهَدَ فِي زَمَانِهِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ كَانُوا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ فَلَا يَتَمَكَّنُ قَاطِعُ الطَّرِيقِ مِنْ مُغَالَبَتِهِمْ؛ فَأَمَّا إِذَا تَرَكُوا هَذِهِ الْعَادَةَ وَأَمْكَنَ أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَيْهِمْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ أُجْرِيَ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ، وَلِهَذَا قَالَ: لَا يَثْبُتُ قَطْعُ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْكُوفَةِ، لِأَنَّ الْغَوْثَ فِي زَمَانِهِ كَانَ يَلْحَقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِاتِّصَالِ الْمِصْرَيْنِ، أَمَّا الْآنَ فَهِيَ بَرِّيَّةٌ يَجْرِي فِيهَا قَطْعُ الطَّرِيقِ وَيَسْتَوِي فِيهِ الِامْتِنَاعُ بِالْخَشَبِ وَالسِّلَاحِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يُوجَدُ بِهِمَا. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْحَدَّ إِذَا وُجِدَ سَبُبُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُسْتَوْفَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ فِي الْحُدُودِ؛ وَإِذَا تَابَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذُوا سَقَطَ عَنْهُمُ الْحَدُّ وَبَقِيَ حَقُّ الْعِبَادِ فِي الْمَالِ وَالْقِصَاصِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فَيَقْتَضِي خُرُوجُهُ عَنِ الْجُمْلَةِ عَمَلًا بِالْاسْتِثْنَاءِ، وَفِي السَّرِقَةِ إِذَا تَابَ وَلَمْ يَرُدَّ الْمَالَ يُقْطَعُ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ} [المائدة: 39] لَيْسَ اسْتِثْنَاءً، فَلَا يَقْتَضِي خُرُوجَ التَّائِبِ مِنَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، وَهُوَ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ يَسْتَغْنِي عَنْ غَيْرِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ أَوْلَى، أَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ يَفْتَقِرُ فِي صِحَّتِهِ إِلَى مَا قَبْلَهُ فَافْتَرَقَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 كِتَابُ السِّيَرِ الْجِهَادُ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ وَكِفَايَةٍ عِنْدَ عَدَمِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ السِّيَرِ] ِ وَهِيَ جَمْعُ سِيرَةٍ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا، وَمِنْهُ سِيرَةُ الْعُمَرَيْنِ: أَيْ طَرِيقَتُهُمَا؛ وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَحْمُودُ السِّيرَةِ، وَفُلَانٌ مَذْمُومُ السِّيرَةِ: يَعْنِي الطَّرِيقَةَ، وَسُمِّيَ هَذَا الْكِتَابُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ سِيَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَطَرِيقَتَهُ فِي مَغَازِيهِ، وَسِيرَةَ أَصْحَابِهِ وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ. وَالْجِهَادُ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا، ثَبَتَتْ فَرَضِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إِلَى غَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْكُفَّارِ. وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْجِهَادُ مَاضٍ - أَيْ فَرْضٌ - مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةَ، حَتَّى يُقَاتِلَ عِصَابَةٌ مِنْ أَمَّتِي الدَّجَّالَ» وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ. «وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ سَرِيَّةً أَوْصَى صَاحِبَهُمْ -أَيْ أَمِيرَهُمْ- بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَبَوْا فَانْبِذُوا إِلَيْهِمْ -أَيْ أَعْلِمُوهُمْ بِالْقِتَالِ-، وَإِذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا أَوْ مَدِينَةً فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُنْزِلُوهُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ، وَلَكِنْ أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ، ثُمَّ اقْضُوا فِيهِمْ مَا رَأَيْتُمْ، وَإِذَا أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَعْطُوهُمْ ذِمَّتَكُمْ وَذِمَّةَ آبَائِكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَخْفِرُوا ذِمَّتَكُمْ وَذَمَّةَ آبَائِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ» ، وَإِخْفَارُ الذِّمَّةِ: نَقْضُهَا. قَالَ: (الْجِهَادُ فَرْضُ عَيْنٍ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ وَكِفَايَةٌ عِنْدَ عَدَمِهِ) ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] الْآيَةَ؛ وَالنَّفِيرُ الْعَامُّ: أَنْ يُحْتَاجَ إِلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ إِعْزَازُ الدِّينِ وَقَهْرُ الْمُشْرِكِينَ إِلَّا بِالْجَمِيعِ، فَيَصِيرُ عَلَيْهِمْ فَرْضُ عَيْنٍ كَالصَّلَاةِ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، إِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ كَرَدِّ السَّلَامِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 وَقِتَالُ الْكُفَّارِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ عَاقِلٍ صَحِيحٍ حُرٍّ قَادِرٍ، وَإِذَا هَجَمَ الْعَدُوُّ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الدَّفْعُ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذَنِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ، وَلَا بَأْسَ بِالْجُعْلِ إِذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ؛ وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي مَدِينَةٍ أَوْ حِصْنٍ دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا دَعَاهُمْ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا وَبَيَّنُوا لَهُمْ كَمِّيَّتَهَا وَمَتَى تَجِبُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَنَحْوِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ وَالْمَقْصُودَ مِنْهُ دَفْعُ شَرِّ الْكُفْرِ وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ، وَإِطْفَاءُ ثَائِرَتِهِمْ، وَإِعْلَاءُ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْبَعْضِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَخْرُجُ إِلَى الْجِهَادِ وَلَا يَخْرُجُ جَمِيعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ الْمُنْكَرِ فَيَكُونُ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ تَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الزِّرَاعَاتِ وَالصَّنَائِعِ، وَانْقَطَعَتْ مَادَّةُ الْجِهَادِ مِنَ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُجَاهِدُونَ عَلَى الْإِقَامَةِ عَلَى الْجِهَادِ فَيُؤَدِّيَ إِلَى تَعْطِيلِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ النَّاسِ بِتَرْكِهِ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. قَالَ: (وَقِتَالُ الْكُفَّارِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ عَاقِلٍ صَحِيحٍ حُرٍّ قَادِرٍ) لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَالْعَبْدَ مَشْغُولَانِ بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ دَاخِلَيْنِ فِي الْخِطَابِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْقَادِرِ فَلِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَاجِزِ قَبِيحٌ كَالْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدِ وَنَحْوِهِمْ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح: 17] الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ. قَالَ: (وَإِذَا هَجَمَ الْعَدُوُّ وَجَبَ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ الدَّفْعُ، تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَحَقُّ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ فَرْضِ الْأَعْيَانِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالْجُعْلِ إِذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ) لِأَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْأَعْلَى بِاحْتِمَالِ الْأَدْنَى، وَالْحَاجَةُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ وَيَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمِيرَةِ وَمَوَادِّ الْجِهَادِ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ؛ وَقَدْ صَحَّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَخَذَ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ» وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُغْزِي الْأَعْزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ، وَيُعْطِي الشَّاخِصَ فَرَسَ الْقَاعِدِ. قَالَ: (وَإِذَا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي مَدِينَةٍ أَوْ حِصْنٍ دَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا قَاتَلَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ» ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُمْ رُبَّمَا أَسْلَمُوا فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِأَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ. (فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْ قِتَالِهِمْ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ» الْحَدِيثَ، وَلِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِسْلَامُهُمْ وَقَدْ حَصَلَ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا دَعَاهُمْ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ) لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ (إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهَا وَبَيَّنُوا لَهُمْ كَمِّيَّتَهَا، وَمَتَى تَجِبُ) عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي بَابِهِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا لَا يَدْعُوهُمْ، لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، إِذْ لَا يُقْبَلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 فَإِنْ قَبِلُوهَا فَلَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا، وَيَجِبُ أَنْ يَدْعُوَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِمَنْ بَلَغَتْهُ، فَإِنِ أَبَوُا اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَحَارَبُوهُمْ، وَنَصَبُوا عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَأَفْسَدُوا زُرُوعَهُمْ وَأَشْجَارَهُمْ وَحَرَّقُوهُمْ وَرَمَوْهُمْ، وَإِنْ تَتَرَّسُوا بِالْمُسْلِمِينَ، وَيَقْصِدُونَ بِهِ الْكُفَّارَ؛   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ وَيُعَرِّفُهُمْ قَدْرَهَا لِتَنْقَطِعَ الْمُنَازَعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْقِتَالَ يَنْتَهِي بِالْجِزْيَةِ، قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] أَيْ حَتَّى يَقْبَلُوهَا. قَالَ: (فَإِنْ قَبِلُوهَا فَلَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا) ؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِذَا قَبِلُوهَا فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ أَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَدِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَالْمُرَادُ بِالْبَذْلِ الْقَبُولُ إِجْمَاعًا. قَالَ: (وَيَجِبُ أَنْ يَدْعُوا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ) لِمَا تَقَدَّمَ وَلِيَعْلَمُوا مَا يُقَاتِلُهُمْ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا أَجَابُوا فَنُكْفَى مُؤْنَةُ الْقِتَالِ، فَإِنْ قَاتَلَهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ قِيلَ يَجُوزُ، لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى الْإِسْلَامِ قَدِ انْتَشَرَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَامَ الشُّيُوعُ مَقَامَ الْبُلُوغِ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ وَهُوَ آثِمٌ لِلنَّهْيِ أَوْ لِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ عَلَى مَا مَرَّ، وَلِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ لَا يُعْتَبَرُ شُيُوعًا فِي الْكُلِّ. قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِمَنْ بَلَغَتْهُ) الدَّعْوَةُ أَيْضًا مُبَالَغَةً فِي الْإِنْذَارِ وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ، «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَازُونَ.» وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَهِدَ إِلَيْهِ أَنْ يُغِيرَ عَلَى بَنِي الْأَصْفَرِ صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرِّقَ نَخْلَهُمْ» ، وَالْغَارَةُ لَا تَكُونُ عَنْ دَعْوَةٍ. قَالَ: (فَإِنْ أَبَوْا) يَعْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْجِزْيَةِ (اسْتَعَانُوا بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَحَارَبُوهُمْ) لِمَا بَيَّنَّا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَقَاتِلْهُمْ» ؛ وَلِأَنَّهُ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ فَأَقَامُوا عَلَى عَدَاوَتِهِمْ فَوَجَبَتْ مُنَاجَزَتُهُمْ، وَأَنْ يُسْتَعَانَ بِاللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ النَّاصِرُ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُذِلُّ لِأَعْدَائِهِ فَيُسْتَعَانُ بِهِ. قَالَ: (وَنَصَبُوا عَلَيْهِمُ الْمَجَانِيقَ، وَأَفْسَدُوا زُرُوعَهُمْ وَأَشْجَارَهُمْ، وَحَرَّقُوهُمْ وَرَمَوْهُمْ - وَإِنْ تَتَرَّسُوا - بِالْمُسْلِمِينَ وَيَقْصِدُونَ بِهِ الْكُفَّارَ) ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ غَيْظًا وَكَبْتًا لِلْكُفَّارِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَقَدْ صَحَّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَاصَرَ أَهْلَ الطَّائِفِ فَرَمَاهُمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَكَانَ فِيهِمُ الْمُسْلِمُونَ» ، وَلِأَنَّ بِلَادَهُمْ لَا تَخْلُو عَنِ الْمُسْلِمِينَ الْأَسْرَى وَالتُّجَّارِ وَالْأَطْفَالِ، فَلَوِ امْتَنَعَ الْقِتَالُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ لَامْتَنَعَ أَصْلًا، وَلَا يَقْصِدُونَ بِالرَّمْيِ الْمُسْلِمِينَ تَحَرُّزًا عَنْ قَتْلِهِمْ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. «وَلَمَّا مَرَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ الطَّائِفَ بَدَا لَهُ قَصْرُ عُمَرَ بْنِ مَالِكٍ النَّضَرِيِّ فَأَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْكُرُومِ أَمَرَ بِقَطْعِهَا» . قَالَ الزُّهْرِيُّ: «وَقَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ الْبُيُوتَ؛ وَلَمَّا تَحَصَّنَ بَنُو النَّضِيرِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَطْعِ نَخْلِهِمْ وَتَحْرِيقِهِ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا كُنْتَ تَرْضَى بِالْفَسَادِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْدُرُوا، وَلَا يَغُلُّوا، وَلَا يُمَثِّلُوا، وَلَا يَقْتُلُوا مَجْنُونًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدًا، وَلَا مَقْطُوعَ الْيَمِينِ، وَلَا شَيْخًا فَانِيًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مَلِكًا، أَوْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَوْ يُحَرِّضُ عَلَيْهِ، أَوْ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ، أَوْ مَالٌ يَحُثُّ بِهِ أَوْ يَكُونَ الشَّيْخُ مِمَّنْ يَحْتَالُ. وَإِذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ مُوَادَعَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَسَادًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 120] » . قَالَ: (وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ لَا يَغْدُرُوا، وَلَا يَغُلُّوا، وَلَا يُمَثِّلُوا) لِمَا رَوَيْنَا مِنَ الْحَدِيثِ أَوَّلَ الْبَابِ؛ وَالْغُلُولُ: الْخِيَانَةُ وَالسَّرِقَةُ مِنَ الْمَغْنَمِ؛ وَالْغَدْرُ: نَقْضُ الْعَهْدِ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الْأَمَانِ، وَلَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَهُ وَهُوَ حِيلَةٌ وَخُدْعَةٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» وَالْمُثْلَةُ الْمَنْهِيَّةُ بَعْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ، وَلَا بَأْسَ بِهَا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي كَبْتِهِمْ وَأَضَرُّ بِهِمْ. قَالَ: (وَلَا يَقْتُلُوا مَجْنُونًا، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدًا، وَلَا مَقْطُوعَ الْيَمِينِ، وَلَا شَيْخًا فَانِيًا، إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مَلِكًا، أَوْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ، أَوْ يُحَرِّضُ عَلَيْهِ، أَوْ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ أَوْ مَالٌ يَحُثُّ بِهِ، أَوْ يَكُونُ الشَّيْخُ مِمَّنْ يَحْتَالُ) «لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ وَالذَّرَارِيِّ، وَرَأَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَقَالَ: " هَاهْ مَا لَهَا قُتِلَتْ وَمَا كَانَتْ تُقَاتِلُ؟» ؛ وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْقَتْلِ هُوَ الْحِرَابُ بِإِشَارَةِ هَذَا النَّصِّ، وَهَؤُلَاءِ لَا يُقَاتِلُونَ وَالْمَجْنُونُ غَيْرُ مُخَاطِبٍ، وَكَذَلِكَ مَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرَّجْلِ مِنْ خِلَافٍ، وَيَابِسُ الشَّقِّ لِمَا بَيَّنَّا، فَإِذَا كَانَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مَلِكًا، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ، أَوْ لَهُ مَالٌ يُعِينُ بِهِ، أَوْ رَأْيٌ لَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ فَصَارَ كَالْمُقَاتِلِ " وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةَ وَكَانَ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبَ رَأْيٍ " وَيَقْتُلُ الرَّهَابِينَ وَأَهْلَ الصَّوَامِعِ الَّذِينَ يُخَالِطُونَ النَّاسَ أَوْ يَدُلُّونَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا مَرَّ، فَإِنْ كَانُوا لَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ أَوْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَبَلٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ وَنَحْوِهِ لَا يُقْتَلُونَ لِمَا بَيَّنَّا. [فصل موادعة أهل الحرب] فَصْلٌ [مُوَادَعَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ] (وَإِذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ مُوَادَعَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ) لِأَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى أَوْ تَأْخِيرِهِ، لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ طَلَبُ الْأَمَانَ وَتَرْكُ الْقِتَالِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] . (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ) لِأَنَّهُ خِيَرَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] أَيْ إِنْ مَالُوا إِلَى الْمُصَالَحَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 فَإِنْ وَادَعَهُمْ ثُمَّ رَأَى الْقِتَالَ أَصْلَحَ نَبَذَ إِلَى مَلِكِهِمْ، وَإِنْ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ وَعَلِمَ مَلِكُهُمْ بِهَا قَاتَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ، وَمَا أَخَذُوهُ قَبْلَ مُحَاصَرَتِهِمْ فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ وَبَعْدَهَا كَالْغَنِيمَةِ، وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِمْ مَالًا لِيُوَادِعُوهُ جَازَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَمِلْ إِلَيْهِمْ وَصَالِحْهُمْ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ دُونَ عَدَمِهَا، وَلِأَنَّ عَلَيْهِمْ حِفْظَ أَنْفُسِهِمْ بِالْمُوَادَعَةِ، أَلَا يَرَى «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ» ، وَلِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ إِذَا كَانَتْ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ جِهَادًا مَعْنًى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الشَّرِّ وَقَدْ حَصَلَ، وَتَجُوزُ الْمُوَادَعَةُ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمَصْلَحَةِ وَالْخَيْرِ لَا يَتَوَقَّتُ بِمُدَّةٍ دُونَ مُدَّةٍ. قَالَ: (فَإِنْ وَادَعَهُمْ، ثُمَّ رَأَى الْقِتَالَ أَصْلَحَ نَبَذَ إِلَى مَلِكِهِمْ) وَقَاتَلَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] ، «وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبَذَ الْمُوَادَعَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ» ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمَصْلَحَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا تَبَدَّلَتْ يَصِيرُ النَّبْذُ جِهَادًا، وَتَرْكُهُ تَرْكَ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا بُدَّ مِنَ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَكْتَفِي بِعِلْمِ الْمَلِكِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَمْرِهِمْ وَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ، وَيَشْتَرِطُ مُدَّةً يُبَلِّغُ خَبَرَ النَّبْذِ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ الْمَلِكُ إِعْلَامُهُمْ جَازَ مُقَاتَلَتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ، لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ مَلِكِهِمْ فَلَا يَكُونُ غَدْرًا، وَلَوْ آمَنَهُمْ وَلَمْ يَنْزِلُوا مِنْ حَصْنِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ بَعْدَ الْإِعْلَامِ، وَإِنْ نَزَلُوا إِلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ عَلَى أَمَانِهِمْ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى حِصْنِهِمْ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا بِسَبَبِ الْأَمَانِ، فَلَا يَزَالُونَ عَلَى حُكْمِهِ حَتَّى يَعُودُوا إِلَيْهِ. قَالَ: (وَإِنْ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ وَعَلِمَ مَلِكُهُمْ بِهَا قَاتَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ) لِأَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ لِمَا كَانَ بِاخْتِيَارِ مَلِكِهِمْ؛ أَمَّا لَوْ دَخَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ دَارَنَا وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَلِكِ لَا يَكُونُ نَقْضًا فِي حَقِّ الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ إِذَنِ الْمَلِكِ، وَيَكُونُ نَقْضًا فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً فَيُقْتَلُونَ. قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يُوَادِعُهُمْ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ) إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ حَاجَةٌ إِلَى الْمَالِ لِمَا مَرَّ. (وَمَا أَخَذُوهُ قَبْلَ مُحَاصَرَتِهِمْ) بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا (فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ) لَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ مَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ حَصَلَ لَنَا بِغَيْرِ قِتَالٍ (وَ) مَا أَخَذُوهُ (بَعْدَهَا) أَيْ مُحَاصَرَتِهِمْ يُخَمَّسُ (كَالْغَنِيمَةِ) وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي لِأَنَّهُ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ. قَالَ: (وَإِنْ دَفْعَ إِلَيْهِمْ مَالًا لِيُوَادِعُوهُ جَازَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ) وَهُوَ خَوْفُ الْهَلَاكِ، لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَدُّوهُمْ فَأَخَذَ الْأَنْفُسَ وَالْأَمْوَالَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اجْعَلْ مَالَكَ دُونَ نَفْسِكَ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةٌ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْحَاقِ الذِّلَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِعْطَاءِ الدَّنِيئَةِ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 وَالْمُرْتَدُّونَ إِذَا غَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ كَالْمُشْرِكِينَ فِي الْمُوَادَعَةِ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَجْهِيزُهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ الْمُوَادَعَةِ وَبَعْدَهَا. وَإِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ كَافِرًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أَهْلَ مَدِينَةٍ صَحَّ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَيِ الْخِسَّةِ فِي الدِّينِ. قَالَ: (وَالْمُرْتَدُّونَ إِذَا غَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ إِذَا نَقَضُوا الْعَهْدَ كَالْمُشْرِكِينَ فِي الْمُوَادَعَةِ) أَمَّا الْمُرْتَدُّونَ فَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَرْجُوٌّ مِنْهُمْ فَيُوَادِعُهُمْ لِيَنْظُرُوا فِي أُمُورِهِمْ فَرُبَّمَا عَادُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ مَالًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ قَتْلِهِمْ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ لِمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَوْ أَخَذَهُ لَا يَرُدُّهُ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ، وَلَوْ غُلِبُوا فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ وَأَمْوَالُهُمْ غَنِيمَةً، فَكَذَا أَهْلُ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ صَارُوا كَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْمَالِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ بِالْجِزْيَةِ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ كَالْمُرْتَدِّينَ فِي الْمُوَادَعَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ فِي الْمُوَادَعَةِ، لَكِنْ إِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ إِذَا وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لَوْ أُصِيبَ مَالُهُمْ بِالْقِتَالِ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، وَيُكْرَهُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ أَوْ قَائِدٍ مِنْ قُوَّادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَخْتَصُّ بِهَا، بَلْ يَجْعَلُهَا فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا بِنَفْسِهِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ بَيْعُ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَجْهِيزُهُ إِلَيْهِمْ قَبْلَ الْمُوَادَعَةِ وَبَعْدَهَا) لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ تَقْوِيَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ وَكُلُّ مَا هُوَ أَصْلٌ فِي آلَاتِ الْحَرْبِ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، إِلَّا أَنَا جَوَّزْنَاهُ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ ثُمَامَةَ بِأَنْ يَمِيرَ أَهْلَ مَكَّةَ» وَكَانُوا حَرْبًا عَلَيْنَا وَلِأَنَّا نَحْتَاجُ إِلَى بَعْضِ مَا فِي بِلَادِهِمْ مِنَ الْأَدْوِيَةِ، فَلَوْ مَنَعْنَا عَنْهُمُ الْمِيرَةَ لَمَنَعُوهَا عَنَّا، وَلَا يُكْرَهُ إِدْخَالُ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهُمُ الْتَحَقُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَا يُمَكَّنُ الْحَرْبِيُّ أَنْ يَنْقُلَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ السِّلَاحَ وَالْكُرَاعَ وَالْحَدِيدَ وَالدَّقِيقَ إِذَا اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ تَنَاوَلَهُ عَقْدُ الْأَمَانِ، فَإِنْ أَسْلَمَ بَعْضَ عَبِيدِهِ مُنِعَ مِنْ إِدْخَالِهِ دَارَ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَلَا بَأْسَ بِإِدْخَالِ الْمُصْحَفِ أَرْضَ الْحَرْبِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَعَ جَيْشٍ عَظِيمٍ أَوْ تَاجِرٍ دَخَلَ بِأَمَانٍ لِأَنَّ الْغَالِبَ السَّلَامَةُ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ مَعَ سَرِيَّةٍ أَوْ جَرِيدَةِ خَيْلٍ يُخَافُ عَلَيْهِمُ الِانْهِزَامَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا وَقَعَ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْحَرْبِ فَيَسْتَخِفُّونَ بِهِ، وَكُتُبُ الْفِقْهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُصْحَفِ. [فصل أمان الواحد] فَصْلٌ (وَإِذَا أَمَّنَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ كَافِرًا أَوْ جَمَاعَةً أَوْ أَهْلَ مَدِينَةٍ صَحَّ) أَمَانُهُمْ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ أَدَّبَهُ الْإِمَامُ وَنَبَذَ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ ذِمِّيٍّ، وَلَا أَسِيرٍ، وَلَا تَاجِرٍ فِيهِمْ، وَلَا مَنْ أَسْلَمَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِيهِمْ، وَلَا أَمَانُ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَنِ الْقِتَالِ   [الاختيار لتعليل المختار] مِنَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ؛ وَشَرْطُ صِحَّةِ الْأَمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَمَّنُ مُمْتَنِعًا مُجَاهِدًا يَخَافُ مِنْهُ الْكُفَّارُ، لِأَنَّ الْأَمْنَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَالْخَوْفُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنَ الْمُمْتَنِعِ، وَالْوَاحِدُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الْأَمَانِ لِتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِ الْكُلِّ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَيْ أَنَّ الْوَاحِدَ يَسْعَى بِذِمَّةِ جَمِيعِهِمْ. وَرُوِيَ: «أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّنَتْ زَوْجَهَا، فَأَجَازَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانَهَا وَأَجَازَتْ أُمُّ هَانِئٍ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَقْتُلَهُمَا وَقَالَ لَهَا: أَتُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُهُمَا حَتَّى تَقْتُلَنِي دُونَهُمَا، ثُمَّ أَغْلَقَتْ دُونَهُ الْبَابَ وَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ» ؛ فَعُلِمَ أَنَّ أَمَانَ الْوَاحِدِ جَائِزٌ؛ وَإِذَا جَازَ أَمَانَهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ التَّعَرُّضُ لَهُ بِقَتْلٍ وَلَا أَخْذِ مَالٍ كَمَا لَوْ آمَنَهُ الْإِمَامُ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ أَدَّبَهُ الْإِمَامُ) لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ فَيُعْذَرُ. قَالَ: (وَنَبَذَ إِلَيْهِمْ) لِأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَمَّنَهُمْ أَوْ صَالَحَهُمْ ثُمَّ رَأَى النَّبْذَ أَصْلَحَ نَبَذَ إِلَيْهِمْ فَهَذَا أَوْلَى، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا جَاءُوهُ بِالْأَمَانِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوهُ إِلَى الْإِسْلَامَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ أَبَوْا وَأَجَابُوا إِلَى الْجِزْيَةِ قُبِلَتْ مِنْهُمْ وَصَارُوا ذِمَّةً، وَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَقَاتَلَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ مَعَ الْأَمَانِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةٍ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ أَوِ الْجِزْيَةَ الَّتِي يُسْتَحَقُّ مَعَهَا الْأَمَانُ، فَإِنْ أَبَوْا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُمْ فَيَرُدَّهُمْ ثُمَّ يُقَاتِلُوهُمْ كَمَا لَوْ خَرَجُوا إِلَيْنَا بِأَمَانٍ. قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ ذِمِّيٍّ وَلَا أَسِيرٍ، وَلَا تَاجِرٍ فِيهِمْ، وَلَا مَنْ أَسْلَمَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِيهِمْ) لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُتَّهَمٌ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَاقُونَ مَقْهُورُونَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَخَافُونَهُمْ فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْفَتَحَ هَذَا الْبَابُ لَانْسَدَّ بَابُ الْفَتْحِ، لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ لَا يَخْلُونَ عَنْ أَسِيرٍ أَوْ تَاجِرٍ فَيَتَخَلَّصُونَ بِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ. قَالَ: (وَلَا أَمَانُ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَنِ الْقِتَالِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مُضْطَرِبٌ. لِمُحَمَّدٍ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْهُ، فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ كَالْأَسِيرِ وَالتَّاجِرِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَمْلِكِ الْعُقُودَ لِمَا فِيهَا مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْمَوْلَى، فَلَا يَمْلِكُ مَا فِيهِ إِسْقَاطُ حَقِّ الْمَوْلَى وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْأَمَانُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ فَقَدْ جُعِلَ إِلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 ، وَلَا أَمَانَ لِلْمُرَاهِقِ. وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً إِنْ شَاءَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، وَعَلَى أَرَاضِيهِمُ الْخَرَاجَ،   [الاختيار لتعليل المختار] الرَّأْيُ فِي الْقِتَالِ، وَتَارَةً يَكُونُ الرَّأْيُ فِي الْقِتَالِ، وَتَارَةً فِي الْكَفِّ عَنْهُ، فَلِذَلِكَ جَازَ أَمَانُهُ، وَلِأَنَّ الْخَطَأَ مِنَ الْمَحْجُورِ ظَاهِرٌ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِعَدَمِ الْمُبَاشَرَةِ، وَخَطَأُ الْمَأْذُونِ نَادِرٌ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقِتَالَ. قَالَ: (وَلَا أَمَانَ لِلْمُرَاهِقِ) ؛ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانَ يَعْقِلُ الْأَمَانَ وَيَصِفُهُ يَجُوزُ أَمَانُهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِنَفْسِهِ، وَمَنْ لَا يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلِأَنَّ الْمُرَاهِقَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ كَالْبَالِغِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْعُقُودَ وَالْأَمَانُ عَقْدٌ، وَمَنْ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَعْقِدَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَفِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ، قِيلَ يَصِحُّ أَمَانُهُ، وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُصْلِحَةَ وَالْخَيْرِيَّةَ خَفِيَّةٌ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا إِلَّا مِنْ لَهُ كَثْرَةُ تَجْرِبَةٍ وَمُمَارَسَةٍ وَذَلِكَ بَعْدَ الْبُلُوغِ. [فصل فتح البلاد] فَصْلٌ (وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً إِنْ شَاءَ قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ) كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِخَيْبَرَ وَسَعْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِبَنِي قُرَيْظَةَ (وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهِمُ الْخَرَاجَ) كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ قُدْوَةٌ فَيَتَخَيَّرُ. قَالُوا: الْأَوَّلُ أَوْلَى عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ، وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِهَا لِيَكُونَ ذَخِيرَةً لَهُمْ فِي الثَّانِي مِنَ الزَّمَانِ، فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وُجُوهَ الزِّرَاعَاتِ، وَلِهَذَا قَالُوا: يُعْطِيهِمْ مِنَ الْمَنْقُولِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ فِي الْعَمَلِ لِيَتَهَيَّأَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْمَنَّ بِرِقَابِهِمْ لِمَنْفَعَةِ الزِّرَاعَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَرْضٌ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ، وَكَذَا لَوْ مَنَّ بِرِقَابِهِمْ لَا غَيْرَ وَلَهُمْ أَرَاضٍ أَوْ بِرِقَابِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إِبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ لِأَنَّ الرِّقَابَ لَا تَدُومُ بَلْ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرَاضِي نَظَرًا لِلْغَانِمِينَ لِئَلَّا يَشْتَغِلُوا بِالزِّرَاعَةِ فَيَتَقَاعَدُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّهُ لَمَّا وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ الْعِرَاقِ طَلَبُوا مِنْهُ قِسْمَتَهَا، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الْآيَةَ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الْآيَةَ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] ، وَقَالَ: لَوْ قَسَّمْتُهَا عَلَيْكُمْ لَمْ يَبْقَ لِمَنْ بَعْدَكُمْ شَيْءٌ، فَأَطَاعُوهُ وَرَجَعُوا إِلَى قَوْلِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ إِبْطَالَ حَقِّهِمْ بِالْقَتْلِ دَفْعًا لِشَرِّهِمْ فَلَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا؛ أَمَّا الْمَنُّ ضَرَرٌ مَحْضٌ يَجْعَلُهُمْ عَوْنًا لِلْكَفَرَةِ وَهَذَا فِي الْعَقَارِ؛ وَأَمَّا الْمَنْقُولُ لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ الْأَسْرَى، أَوِ اسْتَرَقَّهُمْ، أَوْ تَرَكَهُمْ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُفَادَوْنَ (سم) بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا بِالْمَالِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ يَعْجِزُ عَنْ نَقْلِهَا ذَبَحَهَا وَحَرَقَهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ الْأَسْرَى) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَتَلَ، وَفِيهِ تَقْلِيلُ مَادَّةِ الْكُفْرِ وَالْفَسَادِ، وَقَتَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرَ بْنَ الحارث بَعْدَ مَا حَصَلَ فِي يَدِهِ وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِمْ. (أَوْ) إِنْ شَاءَ (اسْتَرَقَهُمْ) لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ (أَوْ) إِنْ شَاءَ (تَرَكَهُمْ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ) لِمَا تَقَدَّمَ إِلَّا الْمُرْتَدِّينَ وَمُشْرِكِي الْعَرَبِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْجِزْيَةِ، وَلَا يَجُوزُ رَدُّهُمْ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ فِيهِ تَقْوِيَةً لِلْكَفَرَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ أَسْلَمُوا بَعْدَ الْأَخْذِ لَا نَقْتُلُهُمْ لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ، وَيَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْأَخْذِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبُ الْمِلْكِ. قَالَ: (وَلَا يُفَادَوْنَ بِأَسْرَى الْمُسْلِمِينَ) وَقَالَا: يُفَادَوْنَ بِهِمْ لِأَنَّ فِي عَوْدِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْنَا عَوْنًا لَنَا، وَلِأَنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكُفَّارِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] ؛ فَيَجِبُ قَتْلُهُمْ وَذَلِكَ يَمْنَعُ رَدَّهُمْ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَدَفْعُ شَرِّ حِرَابِهِمْ خَيْرٌ مِنْ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسْلِمِ فِي أَيْدِيهِمُ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُضَافٍ إِلَيْنَا، وَإِعَانَتُهُمْ بِدَفْعِ الْأَسِيرِ إِلَيْهِمْ مُضَافٌ إِلَيْنَا. وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأُسَارَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا تَجُوزُ بَعْدَهَا؛ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. قَالَ: (وَلَا بِالْمَالِ إِلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ) لِمَا بَيَّنَّا، وَمُفَادَاةُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَ بَدْرٍ عَاتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ، فَجَلَسَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَوْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ عَذَابٌ لَمَا نَجَا مِنْهُ إِلَّا عُمَرُ» لِأَنَّهُ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ دُونَ الْفِدَاءِ، وَالْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ؛ وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِلِاسْتِعْدَادِ لِلْجِهَادِ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمَصْلَحَةُ وَهِيَ فِيمَا ذَكَرْنَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَادَى بِالشَّيْخِ الْفَانِي وَالْعَجُوزِ الْفَانِيَةِ بِالْمَالِ إِذَا كَانَ لَا يُرْجَى مِنْهُ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ لَا مَعُونَةَ لَهُمْ فِيهِ، بِخِلَافِ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ مَعُونَةً لَهُمْ، وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى الْأَسْرَى لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّ حَقَّهُمْ ثَبَتَ فِيهِمْ بِالْأَسْرِ فَلَا يَبْطُلُ، وَلِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَقَتْلِهِمْ تَنْفِي ذَلِكَ. قَالَ: (وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ يَعْجِزُ عَنْ نَقْلِهَا ذَبَحَهَا وَحَرَقَهَا) لِكَيْلَا يَنْتَفِعُوا بِاللَّحْمِ وَلَا يَعْقِرُهَا لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَذَبْحُ الشَّاةِ جَائِزٌ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ، وَكَسْرُ شَوْكَةِ الْأَعْدَاءِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَصَارَ كَقَطْعِ الشَّجَرِ وَتَخْرِيبِ الْبِنَاءِ، أَمَّا الْحَرْقُ قَبْلَ الذَّبْحِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِمَا فِيهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 وَيَحْرِقُ الْأَسْلِحَةَ. وَلَا تُقْسَمُ غَنِيمَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ (س) ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا سَهْمَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِحْرَازِهَا بِدَارِنَا فَنَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ. (وَيَحْرِقُ الْأَسْلِحَةَ) وَالْأَمْتِعَةَ أَيْضًا، وَمَا لَا يَحْتَرِقُ مِنْهَا يُدْفَنُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُ الْكُفَّارُ عَلَيْهِ إِبْطَالًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ؛ أَمَّا الْأُسَارَى يَمْشُونَ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ عَجَزُوا قَتَلَ الرِّجَالَ وَتَرَكَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي أَرْضٍ مَضِيعَةٍ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا وَعَطَشًا، لِأَنَّا لَا نَقْتُلُهُمْ لِلنَّهْيِ، وَلَوْ تُرِكُوا فِي الْعُمْرَانِ عَادُوا حَرْبًا عَلَيْنَا، فَالنِّسَاءُ يَحْصُلُ مِنْهُنَّ النَّسْلُ، وَالصِّبْيَانُ يَكْبُرُونَ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا فَتَعَيَّنَ مَا قُلْنَاهُ، وَلِهَذَا قَالُوا: إِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَيَّاتٍ وَعَقَارِبَ يَنْزِعُونَ حُمَّةَ الْعَقْرَبَ وَأَنْيَابَ الْحَيَّةِ دَفْعًا لِضَرَرِهَا عَنْهُمْ وَلَا يَقْتُلُونَهَا لِئَلَّا يَنْقَطِعَ نَسْلُهُمْ وَفِيهِ مَنْفَعَةُ الْكُفَّارِ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِضِدِّهِ. [فصل الغنيمة] ُ: اسْمٌ لِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ هَدِيَّةً أَوْ سَرِقَةً أَوْ خِلْسَةً أَوْ هِبَةً فَلَيْسَ بِغَنِيمَةٍ، وَهُوَ لِلْآخِذِ خَاصَّةٌ. قَالَ: (وَلَا تُقَسَّمُ غَنِيمَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ) لَكِنْ يُخْرِجُهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُقَسِّمُهَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ قُسِّمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تُقَسَّمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ) وَلَا فِي دَارِ الْحَرْبِ. (وَمَنْ مَاتَ مِنَ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا سَهْمَ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ إِحْرَازِهَا بِدَارِنَا فَنَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ) وَإِذَا لَحِقَهُمُ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُمْ فِيهَا، وَلَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْغَنَائِمَ لَا تُمْلَكُ بِالْإِصَابَةِ وَيَثْبُتُ فِيهَا الْحَقُّ، وَهُوَ الْيَدُ النَّاقِلَةُ الْمُتَصَرِّفَةُ وَيَتَأَكَّدُ الْحَقُّ بِالْإِحْرَازِ وَيَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ، فَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ بَعْدَ الْأَخْذِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَكُونُ حُرًّا، وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَخْذِ يَكُونُ حُرًّا؛ وَالدَّلِيلُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ» ، وَالْقِسْمَةُ بَيْعٌ مَعْنًى فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، «وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسَّمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بِالْمَدِينَةِ» وَلَوْ جَازَ قِسْمَتُهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُؤَخِّرْهَا، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْحَقِّ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ لَا يَجُوزُ مَعَ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْمَدَدَ يَقْطَعُ طَمَعَهُمْ عَنْهَا فَلَا يَلْحَقُونَهُمْ فَلَا تُؤْمَنُ كَرَّةُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِرُجُوعِ الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ، لِاشْتِغَالِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِحَمْلِ نَصِيبِهِ وَالدُّخُولِ إِلَى وَطَنِهِ، وَمَا رُوِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ وَإِذَا لَحِقَهُمْ مَدَدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُمْ فِيهَا، وَلَيْسَ لِلسُّوقَةِ سَهْمٌ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْغَنَائِمَ أَوْدَعَهَا الْغَانِمِينَ لِيُخْرِجُوهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ يَقْسِمُهَا، وَيَجُوزُ لِلْعَسْكَرِ أَنْ يَعْلِفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَأْكُلُوا الطَّعَامَ، وَيَدَّهِنُوا بِالدُّهْنِ، وَيُقَاتِلُوا بِالسِّلَاحِ، وَيَرْكَبُوا الدَّوَابَّ، وَيَلْبَسُوا الثِّيَابَ إِذَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ،   [الاختيار لتعليل المختار] «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ فِيهَا وَغَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِيهَا» فَإِنَّهُ فَتَحَهَا وَصَارَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ قَسَّمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ قَضَى فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ. قَالَ: (وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ) لِاسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْمُجَاوَرَةُ أَوْ شُهُودُ الْوَقْعَةِ عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَنَّ إِرْهَابَ الْعَدُوِّ يَحْصُلُ بِالرَّدْءِ مِثْلَ الْمُقَاتِلِ أَوْ أَكْثَرُ فَقَدْ شَارَكُوا الْمُقَاتِلَةَ فِي السَّبَبِ فَيُشَارِكُونَهُمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ. قَالَ: (وَإِذَا لَحِقَهُمْ مَدَدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُمْ فِيهَا) لِمَا مَرَّ. وَبِذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَإِنَّمَا تَنْقَطِعُ شَرِكَتُهُمْ إِمَّا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، أَوْ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ، أَوْ بِبَيْعِ الْإِمَامِ الْغَنِيمَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَإِذَا وُجِدَ أَحَدُ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ انْقَطَعَتِ الشَّرِكَةُ، لِأَنَّ الْمِلْكَ يَسْتَقِرُّ بِهِ، وَاسْتِقْلَالُ الْمِلْكِ يَقْطَعُ الشَّرِكَةَ. وَلَوْ فَتَحَ الْعَسْكَرُ بَلَدًا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ وَاسْتَظْهَرُوا عَلَيْهِ ثُمَّ لَحِقَهُمْ مَدَدٌ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ بَلَدِ الْإِسْلَامِ فَصَارَتِ الْغَنِيمَةُ مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يُشَارِكُونَهُمْ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِلسُّوقَةِ سَهْمٌ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا) لِعَدَمِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِمْ، وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ بِقَصْدِ الْقِتَالِ فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ الْآخَرُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْقِتَالِ، وَيُعْتَبَرُ حَالُهُ عِنْدَ الْقِتَالِ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا، وَكَذَلِكَ التَّاجِرُ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْغَنَائِمَ أَوْدَعَهَا الْغَانِمِينَ لِيُخْرِجُوهَا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يُقَسِّمُهَا) لِمَا مَرَّ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَجُوزُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَا بُدَّ مِنَ الْحَمْلِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ حَمُولَةٌ حَمَلَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ الْمَحْمُولَ وَالْحَمُولَةَ لَهُمْ؛ وَكَذَا إِنْ كَانَ مَعَ الْإِمَامِ فَضْلُ حَمُولَةٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَمَلَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فَمَنْ كَانَ مِنَ الْغَانِمِينَ مَعَهُ فَضْلُ حَمُولَةٍ يَحْمِلُ عَلَيْهَا بِالْأَجْرِ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَطِبْ لَا يَحْمِلْ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِمَالِ الْمُسْلِمِ إِلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ، هَذِهِ رِوَايَةُ السَّيْرِ الصَّغِيرِ، وَذَكَرَ فِي السَّيْرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُ بِأَجْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ ضَرُورَةٌ وَحَالَةُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ كَمَا إِذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ فِي الْمَفَازَةِ أَوْ فِي الْبَحْرِ أَوْ فِي الزَّرْعِ بَقْلٌ تَنْعَقِدُ مُدَّةٌ أُخْرَى بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ فَكَذَا هَذَا، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ حَمُولَةً أَصْلًا ذَبَحَ وَأَحْرَقَ وَقَتَلَ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَيَجُوزُ لِلْعَسْكَرِ أَنْ يَعْلِفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَيَأْكُلُوا الطَّعَامَ، وَيَدَّهِنُوا بِالدُّهْنِ وَيُقَاتِلُوا بِالسِّلَاحِ، وَيَرْكَبُوا الدَّوَابَّ، وَيَلْبَسُوا الثِّيَابَ إِذَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ) لِمَا «رَوَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 فَإِذَا خَرَجُوا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَيَرُدُّونَ مَا فَضَلَ مَعَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ بَعْدَهَا. فَصْلٌ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَعْرِضَ الْجَيْشَ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ لِيَعْلَمَ الْفَارِسَ مِنَ الرَّاجِلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ جَيْشًا غَنِمُوا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَعَامًا وَعَسَلًا فَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمُ الْخُمْسَ» وَعَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّ الطَّعَامَ يَوْمَ خَيْبَرَ لَمْ يُخَمَّسْ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى شَيْءٍ ذَهَبَ فَأَخَذَهُ " وَكَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِلَى أَمِيرِ الْجَيْشِ بِالشَّامِ: مُرِ الْعَسْكَرَ فَلْيَأْكُلُوا وَلِيَعْلِفُوا وَلَا يَبِيعُوا بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، فَمَنْ بَاعَ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَفِيهِ الْخُمْسُ وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ حَمْلُ الطَّعَامِ أَوِ الْعَلَفِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالْمِيرَةُ مُنْقَطِعَةٌ عَنْهُمْ، فَإِنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَبِيعُونَهُمْ فَلَوْ لَمْ نُجِزْ لَهُمْ ذَلِكَ ضَاقَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ، أَوْ نَقُولُ: الطَّعَامُ وَالْعَلَفُ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ غَالِبًا فَلَا تَجْرِي فِيهِ الْمُمَانَعَةُ فَلِذَلِكَ جَازَ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ وَلَا عُرُوضٍ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمْ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمُ الْبَيْعُ كَمَنْ أَبَاحَ طَعَامَهُ لِغَيْرِهِ وَيَرُدُّونَ الثَّمَنَ إِلَى الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُ صَارَ مَالًا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ. (فَإِذَا خَرَجُوا إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ زَالَتْ، وَلِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ حَقُّ الْغَانِمِينَ بِالْحِيَازَةِ فَلَا يَنْتَفِعُ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ إِذَنِ الْبَاقِينَ. قَالَ: (وَيَرُدُّونَ مَا فَضَلَ مَعَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَيَتَصَدَّقُونَ بِهِ بَعْدَهَا) لِيُقْسَمَ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ، فَإِنْ وَقَعَتِ الْقِسْمَةُ يَتَصَدَّقُونَ بِهِ، يَعْنِي إِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَإِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ انْتَفَعُوا بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قِسْمَةُ ذَلِكَ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْجَيْشِ فَصَارَ كَمَالٌ لَا يُمْكِنُ إِيصَالُهُ إِلَى مُسْتَحِقِّيهِ وَحُكْمُهُ مَا ذَكَرْنَا كَاللُّقَطَةِ، وَإِنِ انْتَفَعُوا بِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ إِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَيَرُدُّهُ إِلَى الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إِيصَالًا لِلْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَدَّ قِيمَتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَعْدَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا ذَبَحُوا الْبَقَرَ أَوِ الْغَنَمَ رَدُّوا الْجُلُودَ إِلَى الْغَنِيمَةِ إِذْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ إِلَيْهَا، وَلَا وَيَنْتَفِعُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا مَنْ لَهُ سَهْمٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ أَوْ يَرْضَخُ لَهُ غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، وَيُطْعِمُ مَنْ مَعَهُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَالْمَمَالِيكِ وَلَا يُطْعِمُ الْأَجِيرَ، وَكَذَلِكَ الْمَدَدُ، وَلَوْ أَهْدَاهُ إِلَى تَاجِرٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ خُبْزَ الْحِنْطَةِ أَوْ طَبِيخَ اللَّحْمِ فَلَا بَأْسَ بِالْأَكْلِ مِنْهُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ. [فصل قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ] فَصْلٌ (يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَعْرِضَ الْجَيْشَ عِنْدَ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ لِيَعْلَمَ الْفَارِسَ مِنَ الرَّاجِلِ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 فَمَنْ مَاتَ فَرَسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ، وَإِنْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ كَانَ مُهْرًا أَوْ كَبِيرًا أَوْ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ عَلَيْهِ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، وَمَنْ جَاوَزَ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ، وَتُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ أَخْمَاسًا: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِلْغَانِمِينَ، لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ (سم) ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِيُقَسِّمَ بَيْنَهُمْ بِقَدْرِ اسْتِحْقَاقِهِمْ. (فَمَنْ) دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ (مَاتَ فَرَسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ) وَكَذَا لَوْ أَخَذَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ حُصُولِ الْغَنِيمَةِ أَوْ بَعْدَهَا، لِأَنَّ الْفَارِسَ مَنْ أَوْجَفَ عَلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ بِفَرَسٍ فَدَخَلَ فَارِسًا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِرْهَابُ الْعَدُوِّ دُونَ الْقِتَالِ عَلَيْهَا، حَتَّى إِنَّ مَنْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ فَارِسٍ، وَإِرْهَابُ الْعَدُوِّ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالدُّخُولِ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ وَيَصِلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ دَخَلَ كَذَا كَذَا فَارِسًا، وَكَذَا كَذَا رَاجِلًا وَيَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ وَتَعْبِئَةِ الْجُيُوشِ وَتَرْتِيبِ الصُّفُوفِ، وَالْوَقْتُ حِينَئِذٍ يَضِيقُ عَنِ اعْتِبَارِ الْفَارِسِ مِنَ الرَّاجِلِ وَمَعْرِفَتِهِمْ وَكَتْبِهِمْ، وَقَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إِلَى الْقِتَالِ رَاجِلًا فِي الْمَضَايِقِ وَأَبْوَابِ الْحُصُونِ وَبَيْنَ الشَّجَرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الدُّخُولَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ كَإِصَابَةِ الْعَدُوِّ بِقَوْلِهِ: {وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 120] . قَالَ: (وَإِنْ بَاعَهُ) أَيْ فَرَسَهُ (أَوْ وَهَبَهُ أَوْ رَهَنَهُ أَوْ كَانَ مُهْرًا أَوْ كَبِيرًا أَوْ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ الْقِتَالَ عَلَيْهِ فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ) ؛ لِأَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَمُجَاوَزَتَهُ بِفَرَسٍ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْقِتَالَ دَلِيلُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الْمُجَاوَزَةُ لِلْقِتَالِ فَارِسًا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: لَهُ سَهْمُ فَارِسٍ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ وَصَارَ كَمَوْتِهِ، وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْقِتَالِ فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ. قَالَ: (وَمَنْ جَاوَزَ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا فَلَهُ سَهْمُ رَاجِلٍ) لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمُجَاوَزَةِ لِمَا بَيَّنَّا. وَعَنِ الْحَسَنِ: إِذَا دَخَلَ وَهُوَ رَاجِلٌ فَاشْتَرَى فَرَسًا أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوِ اسْتَأْجَرَهُ أَوِ اسْتَعَارَهُ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ فَلَهُ سَهْمُ فَارِسٍ، فَصَارَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي شُهُودِ الْوَقْعَةِ رِوَايَتَانِ؛ وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْفَرَسِ حَالَةَ الْقِتَالِ أَكْثَرُ مِنْهَا حَالَةَ الْمُجَاوَزَةِ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ سَهْمَ فَارِسٍ بِالدُّخُولِ، فَلِأَنْ يَسْتَحِقَّهُ بِالْقِتَالِ أَوْلَى. وَإِذَا غَزَا الْمُسْلِمُونَ فِي السُّفُنِ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فَهُمْ وَمَنْ فِي الْبَرِّ سَوَاءٌ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِمْ حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ لِلْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ؛ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْهَمَ لِلْخَيْلِ بِخَيْبَرَ وَكَانَتْ حُصُونًا، لَمْ يُقَاتِلُوا عَلَى الْخَيْلِ وَإِنَّمَا قَاتَلُوا رَجَّالَةً، وَلِأَنَّ مَنْ فِي السُّفُنِ يَحْتَاجُ إِلَى الْخَيْلِ إِذَا وَصَلُوا جَزِيرَةً أَوْ سَاحِلًا فَصَارَ كَمَا فِي الْبَرِّ. قَالَ: (وَتُقَسَّمُ الْغَنِيمَةُ أَخْمَاسًا: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا لِلْغَانِمِينَ، لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ) ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الْآيَةَ، ذَكَرَ الْخُمْسَ لِهَؤُلَاءِ، بَقِيَتِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: غَنِمْتُمْ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 وَلَا يُسْهَمُ لِبَغْلٍ وَلَا رَاحِلَةٍ، وَلَا يُسْهَمُ إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ (س) ، وَالْمَمْلُوكُ وَالصَّبِيُّ وَالْمُكَاتَبُ يُرْضَخُ لَهُمْ دُونَ سَهْمٍ إِذَا قَاتَلُوا، وَلِلْمَرْأَةِ إِنْ دَاوَتِ الْجَرْحَى، وَلِلذِّمِّيِّ إِنْ أَعَانَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ دَلَّهُمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْكُفَّارِ وَالطَّرِيقِ؛   [الاختيار لتعليل المختار] لَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ، وَقَالَا: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» ؛ وَلِأَنَّ الْفَرَسَ يَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يَخْدِمُهُ فَصَارُوا ثَلَاثَةً. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْفَرَسِ لِأَنَّهُ آلَةٌ كَالسِّلَاحِ تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ وَالنُّصُوصُ مُخْتَلِفَةٌ، فَرَوِيَ أَنَّهُ أَعْطَى لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةً وَرُوِيَ سَهْمَيْنِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ الْمِقْدَادِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْهَمَ لَهُ سَهْمًا وَلِفَرَسِهِ سَهْمًا» ؛ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ مَجْمَعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «شَهِدْتُ خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَتْ غَنِيمَةُ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، كَانَتِ الْخَيْلُ ثَلَاثَمِائَةِ فَرَسٍ وَالرَّجَّالَةُ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلرَّاجِلِ سَهْمًا وَلِفَرَسِهِ سَهْمًا» ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتِ النُّصُوصُ، فَأَبُو حَنِيفَةَ أَثْبَتَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَحَمَلَ الْبَاقِي عَلَى الْأَصْلِ، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْفَارِسِ أَعْظَمُ مِنَ الْفَرَسِ أَلَا يَرَى أَنَّ الْفَارِسَ يُقَاتِلُ بِانْفِرَادِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْفَرَسِ بِانْفِرَادِهِ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْفَرَسُ أَكْثَرَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْضِيلُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ. وَقَدْ رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فْتَعَارَضَتِ رِوَايَتَاهُ فَكَانَ مَا وَافَقَ غَيْرَهُ أَوْلَى. قَالَ: (وَلَا يُسْهِمُ لِبَغْلٍ وَلَا رَاحِلَةٍ) لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ فَصَارَ كَالرَّاجِلِ. (وَلَا يُسْهِمُ إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ» وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَعِيَا فَيَحْتَاجُ إِلَى الْآخَرِ، وَلَهُمَا مَا رُوِيَ: «أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَضَرَ خَيْبَرَ بِأَفْرَاسٍ فَلَمْ يُسْهِمُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ» وَلِأَنَّ الْقِتَالَ عَلَى فَرَسَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالْوَاحِدِ فَصَارَ الثَّانِي كَالثَّالِثِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَمْنَعُ الْإِسْهَامَ لِلْخَيْلِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعَتِيقُ مِنَ الْخَيْلِ وَالْمُقْرَفُ وَالْهَجِينُ وَالْبِرْذَوْنُ سَوَاءٌ، لِأَنَّ اسْمَ الْخَيْلِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكُلِّ، وَلِأَنَّ الْعَتِيقَ إِنِ اخْتُصَّ بِزِيَادَةِ الْقُوَّةِ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ، فَالْبِرْذَوْنِ اخْتَصَّ بِزِيَادَةِ الثَّبَاتِ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ وَكَثْرَةِ الِانْعِطَافِ فَتَسَاوَيَا فِي الْمَنْفَعَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. قَالَ: (وَالْمَمْلُوكُ وَالصَّبِيُّ وَالْمُكَاتَبُ يُرْضَخُ لَهُمْ دُونَ سَهْمٍ إِذَا قَاتَلُوا، وَلِلْمَرْأَةِ إِنْ دَاوَتِ الْجَرْحَى، وَلِلذِّمِّيِّ إِنْ أَعَانَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ دَلَّهُمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْكُفَّارِ وَالطَّرِيقِ) ؛ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْقِتَالُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ لَا يُسْهَمُ لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 وَالْخُمْسُ الْآخَرُ يُقَسَّمُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَى بِصِفَتِهِمْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ.   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْ أَهْلِهِ، وَمَنْ يَلْزَمُهُ الْقِتَالُ يُسْهَمُ لَهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، لِأَنَّا لَوْ أَسْهَمْنَا لِلْكُلِّ لَسَوَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَلَا يَجُوزُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ» . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرْضَخُ لَهُمْ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَجْعَلُوهُمْ كَأَهْلِ الْجِهَادِ» ؛ «وَاسْتَعَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ» . وَالْمَرْأَةُ عَاجِزَةٌ عَنِ الْقِتَالِ طَبْعًا فَتَقُومُ مُدَاوَاةُ الْجَرْحَى مِنْهَا مَقَامَ الْقِتَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْأَجِيرُ إِذَا قَاتَلَ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ تَرَكَ خِدْمَةَ صَاحِبِهِ وَقَاتَلَ اسْتَحَقَّ السَّهْمَ وَإِلَّا لَا شَيْءَ لَهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ لَهُ أَجْرٌ وَنَصِيبٌ فِي الْغَنِيمَةِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ دَخَلَ لِلْقِتَالِ اسْتَحَقَّ السَّهْمَ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَمَنْ دَخَلَ لِغَيْرِ الْقِتَالِ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَالسُّوقِيُّ وَالتَّاجِرُ دَخَلَا لِلْمَعَاشِ وَالتِّجَارَةِ وَلَمْ يَدْخُلَا لِلْقِتَالِ، فَإِنْ قَاتَلَا صَارَا بِالْفِعْلِ كَمَنْ دَخَلَ لِلْقِتَالِ، وَالْأَجِيرُ إِنَّمَا دَخَلَ لِخِدْمَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا لِلْقِتَالِ، فَإِذَا تَرَكَ الْخِدْمَةَ وَقَاتَلَ صَارَ كَأَهْلِ الْعَسْكَرِ. قَالَ: (وَالْخُمُسُ الْآخَرُ يُقَسَّمُ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَى بِصِفَتِهِمْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِمْ) لِمَا تَلَوْنَا مِنَ الْآيَةِ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ فِي افْتِتَاحِ الْكَلَامِ، إِذِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ الْأَئِمَّةَ الْمَهْدِيِّينَ وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُفْرِدُوا هَذَا السَّهْمَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ، وَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوهُ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ وَأَمَّا سَهْمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِالرِّسَالَةِ، كَمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ الصَّفِيَّ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَهُوَ مَا كَانَ يَخْتَارُهُ مِنْ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ لِنَفْسِهِ فَسَقَطَا بِمَوْتِهِ جَمِيعًا إِذْ لَا رَسُولَ بَعْدَهُ؛ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا لِيَ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» . وَكَذَلِكَ الْأَئِمَّةُ الْمَهْدِيُّونَ لَمْ يُفْرِدُوهُ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَهُ أَوِ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ لَصَرَفُوهُ إِلَيْهِ. وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنُّصْرَةِ وَبَعْدَهُ بِالْفَقْرِ؛ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جَاءَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَا نُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ لِمَكَانِكَ مِنْهُمُ الَّذِي وَضَعَكَ اللَّهُ فِيهِمْ أَرَأَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَمَنَعْتَنَا وَإِنَّمَا هُمْ وَنَحْنُ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ» . وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِغَيْرِ الْقَرَابَةِ وَإِنَّمَا بِكَوْنِهِمْ مَعَهُ يَنْصُرُونَهُ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْطَى بَنِي الْمُطَّلِبِ وَحَرَمَ بَنِي أُمَيَّةَ وَهُمْ إِلَيْهِ أَقْرَبُ» ، لِأَنَّ أُمَيَّةَ كَانَ أَخَا هَاشِمٍ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَالْمُطَّلِبَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ، فَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْقَرَابَةِ لَكَانَ بَنُو أُمَيَّةَ أَوْلَى، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ النَّسَبِ، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 وَإِذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ دَارَ الْحَرْبِ فَأَخَذُوا شَيْئًا خُمِّسَ وَإِلَّا فَلَا، وَيَجُوزُ التَّنْفِيلُ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، وَقَبْلَ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَيَقُولُ الْإِمَامُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، أَوْ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ رُبُعُهُ وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ يُنَفِّلُ مِنَ الْخُمْسِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ كَمَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً، وَإِنَّمَا يُعْطَى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ عَلَى صِفَةِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَا بَنِي هَاشِمٍ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ أَوْسَاخَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ عَنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ» ؛ وَالصَّدَقَةُ إِنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَى فُقَرَائِهِمْ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى أَغْنِيَائِهِمْ وَأَغْنِيَاءِ غَيْرِهِمْ، فَيَكُونُ خُمُسُ الْخُمُسِ لِمَنْ حُرِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَيْهِ. وَمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُنْكِحُ مِنْهُ أَيِّمَهُمْ وَيَقْضِي مِنْهُ غَارِمَهُمْ، وَيُخْدِمُ مِنْهُ عَائِلَهُمْ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا سَهْمَ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَهْمُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَقَطَ، وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَهُ بِالْفَقْرِ، لَمْ يَبْقَ إِلَّا الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَوَجَبَ أَنْ يُقَسَّمَ عَلَيْهِمْ، وَيَدْخُلَ ذَوُو الْقُرْبَى فِيهِمْ إِذَا كَانُوا بِصِفَتِهِمْ. قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ لَهُمْ مَنَعَةٌ دَارَ الْحَرْبِ فَأَخَذُوا شَيْئًا خُمِّسَ وَإِلَّا فَلَا) . اعْلَمْ أَنَّ الدَّاخِلَ دَارِ الْحَرْبِ لَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ لَهُمْ مَنَعَةٌ أَوْ لَا، وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَمَا أَخَذُوهُ يُخَمَّسُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَخَذُوا بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ أَخَذُوا قَهْرًا وَغَلَبَةً فَكَانَ غَنِيمَةً؛ وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ، لِأَنَّ فِي خَذْلِهِمْ وَهْنًا لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ الْمَأْخُوذُ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيُخَمَّسُ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ خُمِّسَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا أَذِنَ لَهُمْ فَقَدِ الْتَزَمَ نُصْرَتَهُمْ بِإِمْدَادِهِمْ بِالْعَسْكَرِ فَكَانَ الْمَأْخُوذُ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيُخَمَّسُ؛ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى مُغَالَبَةِ الْكُفَّارِ فَلَا يَكُونُ غَنِيمَةً وَإِنَّمَا هُوَ تَلَصُّصٌ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْإِمَامِ لَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ نُصْرَتُهُمْ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ وَلَا وَهْنَ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي تَرْكِ نُصْرَتِهِمْ فَلَا يُخَمَّسُ كَالَّذِي يَأْخُذُهُ التَّاجِرُ وَاللِّصُّ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَنِيمَةً فَمَا أَخَذَهُ كُلُّ وَاحِدٍ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَالْحَشِيشِ وَالصَّيْدِ لِمَا مَرَّ فِي الشَّرِكَةِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ التَّنْفِيلُ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ وَقَبْلَ أَنْ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَيَقُولُ الْإِمَامُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، أَوْ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَلَهُ رُبُعُهُ) وَنَحْوَ ذَلِكَ. (وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ يُنَفِّلُ مِنَ الْخُمُسِ) . اعْلَمْ أَنَّ النَّفْلَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْغَنِيمَةِ، وَفِي الشَّرِيعَةِ: اسْمٌ لِمَا خَصَّهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ الْغُزَاةِ تَحْرِيضًا لَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ وَجُرْأَةٍ مِنْهُمْ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَفَّلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» ؛ وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ خَيْبَرَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 وَسَلَبُ الْمَقْتُولِ: سِلَاحُهُ وَثِيَابُهُ وَفَرَسُهُ وَآلَتُهُ وَمَا عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِنْ قُمَاشٍ وَمَالٍ، وَإِذَا لَمْ يُنَفَّلْ بِالسَّلَبِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ. وَإِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى أَمْوَالِنَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا، فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَمَنْ وَجَدَ مِلْكَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ دَخَلَ تَاجِرٌ وَاشْتَرَاهُ فَمَالِكُهُ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِثَمَنِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَإِنْ وُهِبَ لَهُ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلِمَا فِيهِ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] وَلِأَنَّ الشُّجْعَانَ يَرْغَبُونَ فِي النَّفْلِ فَيُخَاطِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ وَيُقْدِمُونَ عَلَى الْقِتَالِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّهَا تَجُوزُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ تُفِيدُ التَّحْرِيضَ وَالْحَثَّ عَلَى الْقِتَالِ؛ أَمَّا إِذَا أُحْرِزَتْ فَقَدِ اسْتَقَرَّ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهَا فَلَا يَجُوزُ التَّنْفِيلُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْبَعْضِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةَ التَّحْرِيضِ بَلْ إِقْعَادٌ عَنِ الْقِتَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَنْ بَعْضِ الْغَنِيمَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: نَفَّلَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ» إِنَّمَا كَانَ مِنَ الْخُمُسِ أَوْ مِنَ الصَّفِيِّ فَغَلِطَ قَوْمٌ فَظَنُّوا أَنَّ النَّفْلَ يَجُوزُ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ، وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْإِمَامِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ إِلَّا فِي الْخُمُسِ لِمَا بَيَّنَّا، وَيَجُوزُ مِنَ الْخُمُسِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِيهِ. قَالَ: (وَسَلَبُ الْمَقْتُولِ: سِلَاحُهُ وَثِيَابُهُ وَفَرَسُهُ وَآلَتُهُ وَمَا عَلَيْهِ وَمَعَهُ مِنْ قُمَاشٍ وَمَالٍ) ، أَمَّا مَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ أَوْ عَلَى فَرَسٍ آخَرَ مِنْ أَمْوَالِهِ فَهُوَ غَنِيمَةٌ لِلْكُلِّ، وَإِذَا جَعَلَ الْإِمَامُ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ انْقَطَعَ حَقُّ الْبَاقِينَ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ مِلْكُهُ بِالْإِحْرَازِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَا يُخَمَّسُ السَّلَبُ إِلَّا أَنْ يَقُولَ فَلَهُ سَلَبُهُ بَعْدَ الْخُمُسِ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَعَلَ لَهُمُ الرُّبُعَ أَوِ النِّصْفَ أَوِ الثُّلُثَ مُطْلَقًا لَمْ يُخَمَّسْ، فَإِنْ قَالَ: لَكُمُ الرُّبُعُ بَعْدَ الْخُمُسِ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِجَمِيعِ الْمَأْخُوذِ، لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ حَقُّ الْعَسْكَرِ، فَإِذَا نَفَّلَ الْجَمِيعَ قَطَعَ حَقَّ الضُّعَفَاءِ عَنْهَا وَأَبْطَلَ السِّهَامَ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغَنِيمَةِ، قَالُوا هَذَا هُوَ الْأَوْلَى، فَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ سَرِيَّةٍ جَازَ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمُصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ يُنَفِّلْ بِالسَّلَبِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْقَاتِلُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ لِلْمَرْءِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إِمَامِهِ» . [فصل ملك أهل الحرب] فَصْلٌ (وَإِذَا اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى أَمْوَالِنَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا، فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ فَمَنْ وَجَدَ مِلْكَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَهَا بِالْقِيمَةِ إِنْ شَاءَ، وَإِنْ دَخَلَ تَاجِرٌ وَاشْتَرَاهُ فَمَالِكُهُ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِثَمَنِهِ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ وُهِبَ لَهُ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ) لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 وَإِنْ غَلَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْضًا وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا، وَلَا يَمْلِكُونَ عَلَيْنَا مُكَاتَبِينَا وَمُدَبَّرِينَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَأَحْرَارَنَا، وَإِنْ أَبَقَ إِلَيْهِمْ عَبْدٌ لَمْ يَمْلِكُوهُ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] «أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا لَهُ فِي الْمَغْنَمِ قَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ مَا قُسِّمَ أَخَذْتَهُ بِالْقِيمَةِ إِنْ شِئْتَ» وَلَوْ لَمْ يَمْلِكُوهُ لَمَا أَوْجَبَ الْقِيمَةَ. «وَعَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ أَنَّ الْعَدُوَّ غَلَبَ عَلَى نَاقَةٍ أَوْ بَعِيرٍ لِرَجُلٍ، فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَدُوِّ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: " خُذْهُ بِالثَّمَنِ إِنْ شِئْتَ وَإِلَّا فَهُوَ لَهُمْ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مِلْكِ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّمَنُ. وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلُ مَذْهَبِنَا. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مَنِ اشْتَرَى مَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ حَقُّ الرَّدِّ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ اسْتِنْقَاذُهُ مِنْ أَيْدِي الْكُفَّارِ قَلْعًا لَهُمْ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى مِثْلِهِ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ قَدْ حَصَلَ لَهُمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالرَّدُّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِمْ فَلَزِمَهُمُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ. أَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ بِعِوَضٍ وَهُوَ نَصِيبُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ الَّذِي سُلِّمَ لِسَائِرِ الْغَانِمِينَ وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَلَيْهِ بَذْلُ الْمَالِ فِي الرَّدِّ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَغْرَمَ لَهُ الْعِوَضَ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ حَصَلَ لَهُ بِعَوَضٍ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ. وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدٍ فَصَارَ كَالْبَيْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ عِوَضٌ مُسَمًّى فَيَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ كَمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ أَسْلَمُوا عَلَيْهَا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً أَوِ اشْتَرَاهُ حَرْبِيٌّ فَأَسْلَمَ أَوْ دَخَلَ إِلَيْنَا بِأَمَانٍ فَهُوَ لَهُمْ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» ، وَإِنْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ رَدُّوهُ عَلَى الْمَالِكِ الْأَوَّلِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ مِلْكِهِمْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ. وَأَمَّا النُّقُودُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إِنْ وَجَدَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَمَا قُلْنَا، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهَا أَخَذَهَا بِمِثْلِهَا وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ. قَالَ: (وَإِنْ غَلَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْضًا وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا) لِاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ، فَإِذَا ظَهَرْنَا عَلَيْهَا فَأَخَذْنَاهَا مَلَكْنَاهَا كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: (وَلَا يَمْلِكُونَ عَلَيْنَا مُكَاتَبِينَا وَمُدَبَّرِينَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَأَحْرَارَنَا) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْآدَمِيِّ الْحُرِّيَّةُ، وَالْحُرِّيَّةُ مُقْتَضَى قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ جَزَاءً عَنِ اسْتِنْكَافِهِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الرِّقَابِ بِنَاءٌ عَلَى الرِّقِّ وَلَا رِقَّ عَلَيْنَا، وَفِي الْمَالِ بِنَاءٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ وَالْكُلُّ فِيهِ سَوَاءٌ. قَالَ: (وَإِنْ أَبَقَ إِلَيْهِمْ عَبْدٌ لَمْ يَمْلِكُوهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَا: يَمْلِكُونَهُ كَمَا إِذَا أَخَذُوهُ مِنْ دَارِنَا أَوْ فِي الْوَقْعَةِ. وَلَهُ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 وَإِذَا خَرَجَ عَبِيدُهُمْ إِلَيْنَا مُسْلِمِينَ فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَسْلَمُوا؛ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عَلَيْهِ (سم) ؛ وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَا يَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا وَأَخْرَجَهُ تَصَدَّقَ بِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْ دَارِنَا زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى عَنْهُ وَظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ سُقُوطَ يَدِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِ الْمَوْلَى لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَصَارَ مَعْصُومًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْمِلْكِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ فِيهِ مِلْكٌ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا، وَيُؤَدِّي عِوَضَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِتَعَذُّرِ إِعَادَةِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ تَفْرِيقِ الْغَانِمِينَ، وَلَا جُعْلَ عَلَى الْمَالِكِ لِأَنَّ الْغَانِمَ إِنَّمَا عَمِلَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُهُ مِلْكَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مُشْتَرًى أَوْ مَوْهُوبًا يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَلَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ فِيهِ. قَالَ: (وَإِذَا خَرَجَ عَبِيدُهُمْ إِلَيْنَا مُسْلِمِينَ فَهُمْ أَحْرَارٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَسْلَمُوا) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى بِعِتْقِ عَبِيدٍ خَرَجُوا مِنَ الطَّائِفِ وَقَدْ أَسْلَمُوا، وَقَالَ: " هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ» وَلِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِالْتِحَاقِهِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَيَدُهُ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ أَوْلَى. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْتَأْمَنُ عَبْدًا مُسْلِمًا وَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ عَتَقَ عَلَيْهِ) وَقَالَا: لَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِزَالَتُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِأَنْ يُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا جَبْرَ فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ خَلَاصَ الْمُسْلِمِ عَنْ رِقِّ الْكَافِرِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ تَعَذَّرَ جَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَقَمْنَا تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ مَقَامَ الْإِعْتَاقِ، كَمَا إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَقَمْنَا مُضِيَّ ثَلَاثِ حِيَضٍ مَقَامَ التَّفْرِيقِ. قَالَ: (وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَا يَتَعَرَّضُ لِشَيْءٍ مِنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) لِأَنَّ فِيهِ غَدْرًا بِهِمْ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ (فَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا وَأَخْرَجَهُ تَصَدَّقَ بِهِ) لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَمْرٍ مَحْظُورٍ وَهُوَ الْغَدْرُ وَالْخِيَانَةُ وَسَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ لِأَنَّهُ مِلْكٌ خَبِيثٌ، بِخِلَافِ الْأَسِيرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَأْمَنٍ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فَيُبَاحُ لَهُ التَّعَرُّضُ وَإِنْ أَطْلَقُوهُ. وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ فَأَدَانَهُ حَرْبِيٌّ أَوْ أَدَانَ حَرْبِيًّا أَوْ غَصَبَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ثُمَّ خَرَجَ الْمُسْلِمُ أَوِ اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ لَمْ يَقْضِ بَيْنَهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. أَمَّا الْغَصْبُ فَلِأَنَّهُ صَارَ مِلْكًا لِلَّذِي أَخَذَهُ لِاسْتِيلَائِهِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ. وَأَمَّا الْمُدَايَنَةُ فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَنَا عَلَيْهِمَا وَقْتَ الْإِدَانَةِ وَالْقَضَاءُ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا فِي الْمَاضِي، وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيَّانِ إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ لِمَا بَيَّنَا، وَلَوْ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ قُضِيَ بَيْنَهُمَا بِالدُّيُونِ دُونَ الْغَصْبِ لَمَا مَرَّ؛ أَمَّا الْغَصْبُ لِمَا مَرَّ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَلِوُقُوعِهِ صَحِيحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَالْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ لِالْتِزَامِهِمَا أَحْكَامَنَا وَقْتَئِذٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 فَصْلٌ وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ: إِنْ أَقَمْتَ سَنَةً وَضَعْتُ عَلَيْكَ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ أَقَامَ صَارَ ذِمِّيًا، وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ إِنْ وَقَّتَ الْإِمَامُ دُونَ السَّنَةِ فَأَقَامَ، وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَأَدَّى خَرَاجَهَا؛ وَإِذَا تَزَوَّجَتِ الْحَرْبِيَّةُ بِذِمِّيٍّ صَارَتْ ذِمِّيَّةً؛ وَلَوْ تَزَوَّجَ حَرْبِيٌ بِذِمِّيَّةٍ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا وَالْجِزْيَةُ ضَرْبَانِ: مَا يُوضَعُ بِالتَّرَاضِي فَلَا يَتَعَدَّى عَنْهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل الْجِزْيَةُ] فَصْلٌ (وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ يَقُولُ لَهُ الْإِمَامُ: إِنْ أَقَمْتَ سَنَةً وَضَعْتُ عَلَيْكَ الْجِزْيَةَ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَا يُمَكَّنُ مِنَ الْإِقَامَةِ فِي دَارِنَا دَائِمًا إِلَّا بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إِمَّا الِاسْتِرْقَاقُ، أَوِ الذِّمَّةُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُلُّ عَلَيْهَا وَلَا يُمْنَعُ مِنَ الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . وَفِي مَنْعِهِمْ قَطْعُ الْجَلْبِ وَالْمِيرَةِ وَسَدُّ بَابِ التِّجَارَةِ، وَرُبَّمَا مَنَعُوا تُجَّارَنَا مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِمْ وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ الْمُقَامُ الْكَثِيرُ وَيَجُوزُ الْقَلِيلُ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْحَدِّ الْفَاصِلِ فَقَدَّرْنَاهُ بِالسَّنَةِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ تَجِبُ فِيهَا الْجِزْيَةُ فَتَكُونُ الْإِقَامَةُ لِمَصْلَحَةِ الْجِزْيَةِ. قَالَ: (فَإِنْ أَقَامَ) يَعْنِي سَنَةً (صَارَ ذِمِّيًّا) لِالْتِزَامِهِ الْجِزْيَةَ بِشَرْطِ الْإِمَامِ فَتُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ. (وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ) لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ لَا يَنْتَقِضُ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَضَرَّةَ الْمُسْلِمِينَ بِجَعْلِ وَلَدِهِ حَرْبًا عَلَيْنَا وَبِانْقِطَاعِ الْجِزْيَةِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إِنْ وَقَّتَ الْإِمَامُ دُونَ السَّنَةِ فَأَقَامَ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُلْتَزِمًا. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إِذَا اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَأَدَّى خَرَاجَهَا) لِأَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ كَخَرَاجِ الرَّأْسِ لِأَنَّهُ إِذَا أَدَّاهُ فَقَدِ الْتَزَمَ الْمُقَامَ فِي دَارِنَا وَلَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ لِاحْتِمَالِ الشِّرَاءِ لِلتِّجَارَةِ؛ وَلَوْ أَجَّرَهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَأَخَذَ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ مِنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَرَأَى ذَلِكَ عَلَى الزَّارِعِ لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْخَرَاجَ فَلَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا بِمِلْكِ الْأَرْضِ، وَيَصِيرُ ذِمِّيًّا حِينَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ، فَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ بَعْدَ سَنَةٍ مِنْ يَوْمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ ذِمِّيًّا. قَالَ: (وَإِذَا تَزَوَّجَتِ الْحَرْبِيَّةُ بِذِمِّيٍّ صَارَتْ ذِمِّيَّةً؛ وَلَوْ تَزَوَّجَ حَرْبِيٌّ بِذِمِّيَّةٍ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا) لِأَنَّهَا الْتَزَمَتِ الْمُقَامَ مَعَهُ وَلَمْ يَلْتَزِمْ هُوَ لِأَنَّهُ يُطَلِّقُهَا وَيَعُودُ. قَالَ: (وَالْجِزْيَةُ ضَرْبَانِ: مَا يُوضَعُ بِالتَّرَاضِي فَلَا يَتَعَدَّى عَنْهَا) لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالرِّضَى، فَلَا يَجِبُ غَيْرُ مَا رَضِيَ بِهِ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَرْكَ الْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ، وَقَدْ صَالَحَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَصَارَى نَجْرَانَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ إِذَا غَلَبَ الْكُفَّارَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مِلْكِهِمْ، فَيَضَعُ عَلَى الظَّاهِرِ الْغَنِيِّ فِي كُلِّ سَنَةِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَتَجِبُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ وَتُؤْخَذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِقِسْطِهِ، وَتُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ، وَلَا يَجُوزُ مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى أَلْفٍ وَمِائَتَيْ حُلَّةٍ وَكَانَتْ جِزْيَةً بِالصُّلْحِ. (وَجِزْيَةٌ يَضَعُهَا الْإِمَامُ إِذَا غَلَبَ الْكُفَّارَ وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مِلْكِهِمْ، فَيَضَعُ عَلَى الظَّاهِرِ الْغَنِيِّ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَعَلَى الْفَقِيرِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَتَجِبُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَتُؤْخَذُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِقِسْطِهِ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ غَيْرِهِمْ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِمُعَاذٍ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا أَوْ عَدْلَهُ مَعَافِرِيٌّ» فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الصُّلْحِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ وَحَالِمَةٌ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى النِّسَاءِ إِلَّا فِي الْمُصَالَحَةِ كَمَا صَالَحَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْغَنِيِّ وَالْمُتَوَسِّطِ وَالْفَقِيرِ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُنْظَرَ فِي كُلِّ بَلَدٍ إِلَى حَالِ أَهْلِهِ وَمَا يَعْتَبِرُونَهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ عَادَةَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهَا تَجِبُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ فَتَجِبُ لِلْحَالِ كَالْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَلِأَنَّ الْمُعَوِّضَ قَدْ سَلَّمَ لَهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْعِوَضَ عَلَيْهِمْ كَالثَّمَنِ وَقَسَّطْنَاهَا عَلَى الْأَشْهَرِ تَخْفِيفًا وَلِيُمْكِنَهُ الْأَدَاءُ. قَالَ: (وَتُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ) أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] إِلَى أَنْ قَالَ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] ؛ وَأَمَّا الْمَجُوسُ فَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا أَصْنَعُ بِهِمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ "، فَوَضَعَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ» . وَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَجَمِ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ رِجَالِهِمْ كَالْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إِبْقَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ وَهُوَ الرِّقُّ جَازَ بِالْآخَرِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ. (وَلَا يَجُوزُ) أَخْذُهَا مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ (مِنَ الْعَرَبِ وَ) لَا مِنَ (الْمُرْتَدِّينَ) لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْقَاؤُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِالرِّقِّ فَكَذَا بِالْجِزْيَةِ، لِأَنَّ كُفْرَهُمْ أَقْبَحُ وَأَغْلَظُ. أَمَّا الْعَرَبُ فَإِنَّهُمْ بَالَغُوا فِي أَذَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّكْذِيبِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْ وَطَنِهِ، فَتَغَلَّظَتِ عُقُوبَتُهُمْ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: «لَوْ كَانَ يَجْرِي عَلَى عَرَبِيٍّ رِقٌّ لَكَانَ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا الْإِسْلَامُ أَوِ السَّيْفُ» . وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلِأَنَّهُ كَفَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ، وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا عَبْدٍ، وَلَا مُكَاتَبٍ، وَلَا زَمِنٍ، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٍ، وَلَا شَيْخٍ كَبِيرٍ، وَلَا الرَّهَابِينَ الْمُنْعَزِلِينَ، وَلَا فَقِيرٍ غَيْرَ مُعْتَمِلٍ، وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ،   [الاختيار لتعليل المختار] بَعْدَ إِسْلَامِهِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَيَسْتَرِقُّ نِسَاءَ الْعَرَبِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَرَقَّهُمْ كَمَا اسْتَرَقَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَتُجْبَرُ عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَلَا جِزْيَةَ عَلَى صَبِيٍّ، وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَا مَجْنُونٍ، وَلَا عَبْدٍ، وَلَا مَكَاتَبٍ، وَلَا زَمِنٍ، وَلَا أَعْمَى، وَلَا مُقْعَدٍ، وَلَا شَيْخٍ كَبِيرٍ) ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْجِزْيَةَ شُرِعَتْ جَزَاءً عَنِ الْكُفْرِ وَحَمْلًا لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَتَجْرِي مَجْرَى الْقَتْلِ، فَمَنْ لَا يُعَاقَبُ بِالْقَتْلِ لَا يُؤَاخَذُ بِالْجِزْيَةِ، فَإِذَا حَصَلَ الزَّاجِرُ فِي حَقِّ الْمُقَاتِلَةِ وَهُمُ الْأَصْلُ انْزَجَرَ التَّبَعُ، أَوْ نَقُولُ: وَجَبَتْ لِإِسْقَاطِ الْقَتْلِ، فَمَنْ لَا يَجِبْ قَتْلُهُ لَا تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يَضَعْ عَلَى النِّسَاءِ جِزْيَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ إِذَا كَانَ لَهُمْ مَالٌ، لِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُعْتَمِلِ، وَوُجُودُ الْمَالِ أَكْثَرُ مِنَ الْعَمَلِ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ مَنْ كَانَ لَهُ رَأْيٌ فِي الْحَرْبِ وَكَانَ لَهُ مَالٌ يُعِينُ بِهِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ كَذَلِكَ. قَالَ: (وَلَا) عَلَى (الرَّهَابِينِ الْمُنْعَزِلِينَ، وَلَا فَقِيرٍ غَيْرِ مُعْتَمِلٍ) وَالْمُرَادُ الرَّهَابِينُ الَّذِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ وَالسَّيَّاحِينَ وَنَحْوِهِمْ. أَمَّا إِذَا كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ وَإِنِ اعْتَزَلُوا وَتَرَكُوا الْعَمَلَ لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْعَمَلِ فَصَارُوا كَالْمُعْتَمِلِينَ إِذَا تَرَكُوا الْعَمَلَ فَتُؤْخَذُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ كَتَعْطِيلِ أَرْضِ الْخَرَاجِ. وَأَمَّا الْفَقِيرُ غَيْرُ الْمُعْتَمِلِ، فَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَرَطَ كَوْنَهُ مُعْتَمِلًا وَأَنَّهُ دَلِيلُ عَدَمِ وُجُوبِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَمِلِ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُطِيقٍ لِلْأَدَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأَرْضِ الَّتِي لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ اعْتِبَارًا لِخَرَاجِ الرَّأْسِ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ؛ وَلَا جِزْيَةَ عَلَى الْفَقِيرِ التَّغْلِبِيِّ لِمَا سَبَقَ فِي الزَّكَاةِ مِنْ صُلْحِهِمْ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَقِيرِ الْمُسْلِمِ. وَلَوْ مَرِضَ الذِّمِّيُّ جَمِيعَ السَّنَةِ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُعْتَمِلِ لِمَا بَيَّنَا؛ وَلَوْ مَرِضَ أَكْثَرَ السَّنَةِ سَقَطَتْ أَيْضًا إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَرِضَ نِصْفَ السَّنَةِ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ فَيَتَرَجَّحُ الْمُسْقِطُ. وَلَوْ أَدْرَكَ الصَّبِيُّ وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَرِئَ الْمَرِيضُ قَبْلَ وَضْعِ الْإِمَامِ الْجِزْيَةَ وُضِعَ عَلَيْهِمْ، وَبَعْدَ وَضْعِ الْجِزْيَةِ لَا يُوضَعُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَهْلِيَّتُهُمْ دُونَ الْوَضْعِ، لِأَنَّّ الْإِمَامَ يَخْرُجُ فِي تَعَرُّفِ حَالِهِمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَلَمْ يَكُونُوا أَهْلًا وَقْتَ الْوَضْعِ، بِخِلَافِ الْفَقِيرِ إِذَا أَيْسَرَ بَعْدَ الْوَضْعِ حَيْثُ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ أَهْلٌ لِلْجِزْيَةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ عَنْهُ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَالَ. قَالَ: (وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ) لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِلزَّجْرِ عَنِ الْكُفْرِ وَحَمْلًا عَلَى الْإِسْلَامِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ (سم) وَيَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ عَلَى وَصْفِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، وَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ إِلَّا بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ إِنْ تَغَلَّبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا فَتَصِيرُ أَحْكَامُهُمْ كَالْمُرْتَدِّينَ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا ظَفِرْنَا بِهِمْ نَسْتَرِقُّهُمْ وَلَا نُجْبِرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ؛ وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الْجِزْيَةِ بِمَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَلَابِسِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا بَدَلٌ عَنِ الْقَتْلِ، وَقَدْ سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمَا وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ. قَالَ: (وَإِذَا اجْتَمَعَتْ حَوْلَانِ تَدَاخَلَتْ) فَلَا تَجِبُ إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَقَالَا: تُؤْخَذُ لِجَمِيعِ مَا مَضَى، لِأَنَّ مُضِيَّ الْمُدَّةِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ كَالدُّيُونِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا عُقُوبَةٌ عَلَى الْكُفْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُوبَاتِ التَّدَاخُلُ كَالْحُدُودِ، أَوْ لِأَنَّهَا لِلزَّجْرِ، وَالزَّجْرُ عَنِ الْمَاضِي مُحَالٌ. (وَيَنْبَغِي أَنْ تُؤْخَذَ الْجِزْيَةُ عَلَى وَصْفِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ) كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، فَيَكُونُ الْآخِذُ قَاعِدًا وَالذِّمِّيُّ قَائِمًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيُؤْخَذُ بِتَلَبِيبِهِ وَيَهُزُّهُ هَزًّا (وَيَقُولُ لَهُ: أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ) وَلَا تَجْرِي فِيهَا النِّيَابَةُ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ، وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ لِأَنَّهَا لِلزَّجْرِ بِتَنْقِيصِ الْمَالِ، وَتَنْقِيصُ الْمَالِ يَحْصُلُ بِهِ وَبِنَائِبِهِ، وَيَجُوزُ تَعْجِيلُ الْجِزْيَةِ لِسَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ كَالْخَرَاجِ؛ فَلَوْ عَجَّلَ لِسَنَتَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَ رَدَّ خَرَاجَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ، وَلَا يَرُدُّ خَرَاجَ السَّنَةِ الْأُولَى إِذَا مَاتَ أَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ دُخُولِهَا لِأَنَّهُ أَدَّاهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ. قَالَ: (وَلَا يَنْتَقِضُ عَهْدُهُمْ إِلَّا بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ، أَوْ إِنْ تَغَلَّبُوا عَلَى مَوْضِعٍ فَيُحَارِبُونَنَا فَتَصِيرُ أَحْكَامُهُمْ كَالْمُرْتَدِّينَ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا ظَفِرْنَا بِهِمْ نَسْتَرِقُّهُمْ وَلَا نَجْبُرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ) لِأَنَّهُمْ إِذَا صَارُوا حَرْبًا عَلَيْنَا فَلَا فَائِدَةَ فِي عِقْدِ الذِّمَّةِ فَيَصِيرُونَ كَالْمُرْتَدِّينَ وَمَالُهُمْ كَمَالِهِمْ إِلَّا أَنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى قَبُولِ الذِّمَّةِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَصِيرُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا سِلْمًا لَنَا وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِرْقَاقِ؛ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُرْتَدَّةِ الْعَوْدُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَلَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالْجَبْرِ، فَإِنْ عَادُوا إِلَى الذِّمَّةِ أُخِذُوا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ النَّقْضِ كَمَا فِي الرِّدَّةِ، وَلَا يُؤَاخَذُونَ بِمَا أَصَابُوا فِي الْمُحَارَبَةِ. قَالَ: (وَيُؤْخَذُ أَهْلُ الْجِزْيَةِ بِمَا يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَلَابِسِهِمْ وَمَرَاكِبِهِمْ) ؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَتَشَبَّهُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي لِبَاسِهِ وَمَرْكَبِهِ وَلَا فِي هَيْئَتِهِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْمُرُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ أَنْ يَخْتِمُوا رِقَابَهُمْ بِالرَّصَاصِ وَأَنْ يُظْهِرُوا مَنَاطِقَهُمْ وَأَنْ يَحْلِقُوا نَوَاصِيَهِمْ وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَثْوَابِهِمْ. وَرُوِيَ أَنَّهُ صَالَحَ أَهْلَ الذِّمَّةِ عَلَى أَنْ يَشُدُّوَا فِي أَوْسَاطِهِمُ الزُّنَّارَ، وَكَانَ بِحَضْرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ، وَلَا تُحْدَثُ كَنِيسَةٌ وَلَا صَوْمَعَةٌ وَلَا بَيْعَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا انْهَدَمَتِ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] يَجِبُ تَعْظِيمُهُ وَمُوَالَاتُهُ وَبِدَايَتُهُ بِالسَّلَامِ وَالتَّوْسِعَةُ عَلَيْهِ فِي الطَّرِيقِ وَالْمَجَالِسِ، وَالْكَافِرُ يُعَامَلُ بِضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ وَأَلْجِئُوهُمْ إِلَى أَضْيَقِ الطُّرُقِ» ؛ فَإِذَا لَمْ يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا ذَكَرْنَا رُبَّمَا عَظَّمْنَا الْكَافِرَ وَوَالَيْنَاهُ وَبَدَأْنَاهُ بِالسَّلَامِ ظَنًّا مِنَّا أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، فَوَجَبَ تَمْيِيزُهُمْ بِمَا ذَكَرْنَا احْتِرَازًا عَنْ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ السِّيمَاءَ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى حَالِ الْإِنْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] وَقَالَتْ الْفُقَهَاءُ: مَنْ رَأَيْنَا عَلَيْهِ زِيَّ الْفَقْرِ جَازَ لَنَا دَفْعُ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ، وَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَجْعَلَ فِي وَسَطِهِ كَسْتِيجًا مِثْلَ الْخَيْطِ الْغَلِيظِ مِنَ الشَّعْرِ أَوِ الصُّوفِ وَيَكُونُ غَلِيظًا لِيَظْهَرَ لِلرَّائِي، وَلَا يَلْبَسُوا الْعَمَائِمَ وَيَلْبَسُوا قَمِيصًا خَشِنًا جُيُوبُهُمْ عَلَى صُدُورِهِمْ، وَأَنْ يَلْبَسُوا الْقَلَانِسَ الطِّوَالَ الْمُضَرَّبَةَ، وَأَنْ يَرْكَبُوا السُّرُوجَ الَّتِي عَلَى قَرْبُوسَهِ مِثْلُ الرُّمَّانَةِ. وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَهَيْئَةِ الْأَكُفِّ، وَأَنْ يَجْعَلُوا شِرَاكَ نِعَالِهِمْ مِثْلَنَا وَلَا يَحْذُوَهَا مِثْلَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَلْبَسُوا طَيَالِسَةً وَلَا أَرْدِيَةً مِثْلَ الْمُسْلِمِينَ. (وَلَا يَرْكَبُونَ الْخَيْلَ إِلَّا لِضَرُورَةٍ) فَإِنْ دَعَتْ يَرْكَبُونَ عَلَى مَا وَصَفْنَا، وَيَنْزِلُونَ فِي مَجَامِعِ الْمُسْلِمِينَ (وَلَا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ) لِأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ لِبَاسٍ يَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ وَالدِّينِ، وَيَجِبُ أَنْ تُمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَالَ الْمَشْيِ فِي الطُّرُقِ وَالْحَمَّامَاتِ، فَيُجْعَلُ فِي أَعْنَاقِهِنَّ طَوْقُ الْحَدِيدِ، وَيُخَالِفُ إِزَارُهُنَّ إِزَارَ الْمُسْلِمَاتِ، وَيَكُونُ عَلَى دُورِهِمْ عَلَامَاتٌ تُمَيَّزُ بِهَا عَنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ لِئَلَّا يَقِفَ عَلَيْهِمُ السَّائِلُ فَيَدْعُوَ لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ تَمْيِيزُهُمْ بِمَا يُشْعِرُ بِذُلِّهِمْ وَصَغَارِهِمْ وَقَهْرِهِمْ بِمَا يَتَعَارَفُهُ كُلُّ بَلْدَةٍ وَزَمَانٍ. قَالَ: (وَلَا تُحْدَثُ كَنِيسَةٌ وَلَا صَوْمَعَةٌ وَلَا بَيْعَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ) ؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ» ؛ وَالْمُرَادُ إِحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَقَوْلُهُ: " لَا خِصَاءَ " هُوَ الِاعْتِزَالُ عَنِ النِّسَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الرُّهْبَانُ فَكَأَنَّهُ خِصَاءٌ مَعْنًى. (وَإِذَا انْهَدَمَتِ الْقَدِيمَةُ أَعَادُوهَا) لِأَنَّهُمْ أُقِرُّوا عَلَيْهَا، وَالْبِنَاءُ لَا يَتَأَبَّدُ، وَلَا بُدَّ مِنْ خَرَابِهِ، فَلَمَّا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا فَقَدِ الْتَزَمَ لَهُمْ إِعَادَتَهَا، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُحَوِّلُوهَا لِأَنَّهُ إِحْدَاثٌ لَا إِعَادَةَ، ثُمَّ قِيلَ إِنَّمَا يُمْنَعُونَ فِي الْأَمْصَارِ، أَمَّا الْقُرَى الَّتِي لَا تُقَامُ فِيهَا الْجُمَعُ وَالْحُدُودُ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مِنْ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِيهَا، وَهَذَا فِي الْقُرَى الَّتِي أَكْثَرُهَا ذِمَّةٌ، أَمَّا قُرَى الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَأَمَّا أَرْضُ الْعَرَبِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَالْقُرَى. قَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ كَنِيسَةٌ وَلَا بَيْعَةٌ، وَلَا يُبَاعُ فِيهَا خَمْرٌ وَخِنْزِيرٌ مِصْرًا كَانَتْ أَوْ قَرْيَةً، وَيُمْنَعُ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا أَرْضَ الْعَرَبِ مَسْكَنًا أَوْ وَطَنًا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَجْتَمِعُ دِينَانِ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ» ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ الْفَوَاحِشِ وَالرِّبَا وَالْمَزَامِيرِ وَالطَّنَابِيرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 وَيُؤْخَذُ مِنْ نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ضِعْفُ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمُ الْعُشْرُ، وَمَوْلَاهُمُ فِي الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ كَمَوْلَى الْقُرَشِيِّ، وَتُصْرَفُ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَمِنَ الْأَرَاضِي الَّتِي أُجْلِيَ أَهْلُهَا عَنْهَا، وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَى الْإِمَامِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، مِثْلَ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيهِمْ، وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَإِعْطَاءِ الْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُفْتِينَ وَالْعُمَّالِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْغِنَاءِ وَكُلِّ لَهْوٍ مُحَرَّمٍ فِي دِينِهِمْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَبَائِرُ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ لَمْ يُقَرُّوا عَلَيْهَا بِالْأَمَانِ، وَإِنْ حَضَرَ لَهُمْ عِيدٌ لَا يُخْرِجُونَ فِيهِ صُلْبَانَهُمْ، وَلْيَصْنَعُوا ذَلِكَ فِي كَنَائِسِهِمْ وَلَا يُخْرِجُوهُ مِنَ الْكَنَائِسِ حَتَّى يَظْهَرَ فِي الْمِصْرِ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ وَفِي إِظْهَارِهِ إِعْزَازٌ لِلْكُفْرِ، وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِظْهَارِ الْكُفْرِ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا ضَرْبُ النَّاقُوسِ يَفْعَلُونَهُ فِي الْكَنَائِسِ لِمَا قُلْنَا، وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إِظْهَارِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فَيُمْنَعُ مِنْهُ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي، وَكَذَلِكَ فِي قُرَى الْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَيُؤْخَذُ مِنْ نَصَارَى بَنِيَ تَغْلِبَ ضِعْفُ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَيُضَعَّفُ عَلَيْهِمُ الْعُشْرُ) لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ ضِعْفَ زَكَاةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ، فَلِهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ دُونَ صِبْيَانِهِمْ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ صِبْيَانِهِمْ. قَالَ: (وَمَوْلَاهُمْ فِي الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ كَمَوْلَى الْقُرَشِيِّ) لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ مَعَ التَّغْلِبَيِّ تَخْفِيفًا فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْمَوْلَى، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجِزْيَةَ تُوضَعُ عَلَى مَوْلَى الْمُسْلِمِ إِذَا كَانَ نَصْرَانَيًّا. قَالَ: (وَتُصْرَفُ الْجِزْيَةُ وَالْخَرَاجُ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ وَمِنَ الْأَرَاضِي الَّتِي أُجْلِيَ أَهْلُهَا عَنْهَا وَمَا أَهْدَاهُ أَهْلُ الْحَرْبِ إِلَى الْإِمَامِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّهُ مَالٌ وَصَلَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِتَالٍ فَيَكُونُ لِبَيْتِ مَالِهِمْ مُعَدًّا لِمَصَالِحِهِمْ. وَذَلِكَ: (مِثْلُ أَرْزَاقِ الْمُقَاتِلَةِ وَذَرَارِيهِمْ، وَسَدِّ الثُّغُورِ، وَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ، وَإِعْطَاءِ الْقُضَاةِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُفْتِينَ وَالْعُمَّالِ قَدْرَ كِفَايَتِهِمْ) ؛ أَمَّا سَدُّ الثُّغُورِ وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ وَالْجُسُورِ فَمَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ؛ وَأَمَّا أَرْزَاقُ مَنْ ذُكِرَ فَلِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فَيَجِبُ كِفَايَتُهُمْ عَلَيْهِمْ؛ وَالْمُقَاتِلَةُ يُقَاتِلُونَ لِنُصْرَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِعْزَازِ كَلِمَةِ الدِّينِ وَلِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ كِفَايَتُهُمْ وَكِفَايَةُ ذُرِّيَّتِهِمْ، إِذْ لَوْ لَمْ يُكْفَوْا لَاشْتَغَلُوا بِالِاكْتِسَابِ لِلْكِفَايَةِ فَلَا يَتَخَلَّوْنَ لِلْقِتَالِ. وَأَمَّا الْقُضَاةُ وَالْبَاقُونَ فَقَدْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لِفَصْلِ خُصُومَاتِهِمْ وَبَيَانِ مُحَاكَمَاتِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ أَحْكَامَ شَرِيعَتِهِمْ وَمَا يَأْتُونَهُ وَيَذَرُوَنَهُ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَذَلِكَ مِنْ أَهَمِّ مَصَالِحِهِمْ وَأَعَمِّهَا، فَكَانَتْ كِفَايَتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِقِيَامِ مَصَالِحِهِمْ أَصْلُهُ الْقَاضِي وَالزَّوْجَةُ عَلَى مَا عُرِفَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 فَصْلٌ أَرْضُ الْعَرَبِ أَرْضُ عُشْرٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إِلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيَمَنِ بِمَهْرَةَ إِلَى حَدِّ الشَّامِ وَالسَّوَادُ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إِلَى عَقَبَةِ حُلْوَانَ، وَمِنَ الْعَلْثِ أَوِ الثَّعْلَبِيَّةِ إِلَى عَبَّادَانَ، وَأَرْضُ السَّوَادُ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا: وَكُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ، وَمَا فُتِحَ عَنْوَةً وَأَقَرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا أَوْ صَالَحَهُمْ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ سِوَى مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى؛ وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا يُعْتَبَرُ بِحَيِّزِهَا (م) ،   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل الْخَرَاجُ] فَصْلٌ (أَرْضُ الْعَرَبِ أَرْضُ عُشْرٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إِلَى أَقْصَى حَجَرٍ بِالْيَمَنِ بِمَهْرَةَ إِلَى حَدِّ الشَّامِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَضَعُوا الْخَرَاجَ عَلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَلِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْخَرَاجِ أَنْ يُقَرَّ أَهْلُهَا عَلَى الْكُفْرِ، وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ لَا يُقَرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. قَالَ: (وَالسَّوَادُ أَرْضُ خَرَاجٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْعُذَيْبِ إِلَى عَقَبَةِ حُلْوَانَ، وَمِنَ الْعَلْثِ أَوِ الثَّعْلَبِيَّةِ إِلَى عَبَّادَانَ) لِأَنَّهُ يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْخَرَاجِ، وَلِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَحَ سَوَادَ الْعِرَاقِ وَوَضَعَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَى الشَّامِ، وَكَذَلِكَ وَضَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى مِصْرَ الْخَرَاجَ حِينَ فَتَحَهَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. قَالَ: (وَأَرْضُ السَّوَادِ مَمْلُوكَةٌ لِأَهْلِهَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا فَتَحَ بَلْدَةً قَهْرًا لَهُ أَنْ يُقِرَّ أَهْلَهَا عَلَيْهَا وَيَضَعَ عَلَيْهِمُ الْخَرَاجَ، فَإِذَا أَقَرَّهُمْ عَلَيْهَا بَقِيَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمْ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا بَيْعًا وَشِرَاءً وَإِجَارَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُلَّاكِ وَالْأَمْلَاكِ. قَالَ: (وَكُلُّ أَرْضٍ أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا أَوْ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِّمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ) لِأَنَّ وَضْعَ الْعُشْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً أَلْيَقُ بِهِ مِنَ الْخَرَاجِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ عَلَى مَا بَيَّنَاهُ فِي الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ أَخَفُّ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ، فَإِنْ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ شَيْئًا وَجَبَ عُشْرُهُ وَإِلَّا فَلَا؛ (وَمَا فُتِحَ عَنْوَةً وَأُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا أَوْ صَالَحَهُمْ فَهِيَ خَرَاجَيَّةٌ سِوَى مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى) لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْأَرْضِ فِي الْأَصْلِ الْخَرَاجُ، وَإِنَّمَا صِرْنَا إِلَى الْعُشْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَتَكْرِمَةً لَهُ وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ تَبْقَى خَرَاجَيَّةً، وَلِأَنَّ وَضْعَ الْخَرَاجِ عَلَى الْكَافِرِ ابْتِدَاءً أَلْيَقُ بِهِ؛ وَأَمَّا مَكَّةُ فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَصَّهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَيْثُ افْتَتَحَهَا عَنْوَةً تَرَكَهَا وَلَمْ يَضَعْ عَلَيْهَا الْخَرَاجَ. قَالَ: (وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا يُعْتَبَرُ بِحَيِّزِهَا) فَإِنْ كَانَتْ تَقْرُبُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 وَلَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَتَكَرَّرُ الْخَرَاجُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ، وَالْعُشْرُ يَتَكَرَّرُ " وَإِذَا غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ أَوِ انْقَطَعَ عَنْهَا أَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَلَا خَرَاجَ، وَإِنْ عَطَّلَهَا مَالِكُهَا فَعَلَيْهِ خَرَاجُهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ فَعُشْرِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَتْ تَقْرُبُ مَنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَخَرَاجَيَّةٌ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ مَا يَقْرُبُ مِنَ الشَّيْءِ يُعْطَى حُكْمَهُ: كَفِنَاءِ الدَّارِ وَحَرِيمِ الْبِئْرِ وَالشَّجَرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ وَالْقِيَاسُ فِي الْبَصْرَةِ الْخَرَاجُ لِأَنَّهَا مِنْ حَيِّزِ أَرْضِهِ، إِلَّا أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَظَّفُوا عَلَيْهَا الْعُشْرَ فَتُرِكَ الْقِيَاسُ لِذَلِكَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ فَعُشْرِيَّةٌ، وَإِنْ أَحْيَاهَا بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَخَرَاجَيَّةٌ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَا يُوَظَّفُ عَلَى الْمُسْلِمِ إِلَّا بِالْتِزَامِهِ، فَإِذَا سَاقَ إِلَيْهَا مَاءَ الْخَرَاجِ فَقَدِ الْتَزَمَ الْخَرَاجَ، وَإِلَّا فَلَا؛ وَكُلُّ أَرْضٍ خَرَاجٍ انْقَطَعَ عَنْهَا مَاءُ الْخَرَاجِ فَسُقِيتَ بِمَاءِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ، وَكُلُّ أَرْضٍ عُشْرِيَّةٌ انْقَطَعَ عَنْهَا مَاءُ الْعُشْرِ فَسُقِيَتْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَخَرَاجَيَّةٌ اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ إِذْ هُوَ سَبَبُ النَّمَاءِ. قَالَ: (وَلَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضٍ وَاحِدَةٍ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَجْتَمِعُ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ» وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْعَدْلِ وَالْجَوْرِ ذَلِكَ فَكَفَى بِهِمْ حُجَّةٌ، وَلِأَنَّ الْعُشْرَ يَجِبُ فِي أَرْضٍ فُتِحَتْ قَهْرًا، وَالْخَرَاجُ فِي أَرْضٍ أُقِرَّ أَهْلُهَا عَلَيْهَا وَإِنَّهُمَا مُتَنَافِيَانِ. قَالَ: (وَلَا يَتَكَرَّرُ الْخَرَاجُ بِتَكَرُّرِ الْخَارِجِ وَالْعُشْرُ يَتَكَرَّرُ) لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُوَظِّفِ الْخَرَاجَ مُكَرَّرًا، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ لِلْأَرْضِ كَالْأُجْرَةِ، فَإِذَا أَدَّاهَا فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا مَا شَاءَ وَيَزْرَعَهَا مِرَارًا. أَمَّا الْعُشْرُ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَأْخُذَ عُشْرَ الْخَارِجِ وَلَا يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ إِلَّا بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ خَارِجٍ. قَالَ: (وَإِذَا غَلَبَ الْمَاءُ عَلَى أَرْضِ الْخَرَاجِ أَوِ انْقَطَعَ عَنْهَا أَوْ أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَلَا خَرَاجَ) ، وَكَذَلِكَ إِنْ مَنَعَهُ إِنْسَانٌ مِنَ الزِّرَاعَةِ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْخَرَاجِ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنَ الزِّرَاعَةِ كَمَا فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ، وَفِي الْعُشْرِ حَقِيقَةُ الْخَارِجِ، وَفِيمَا إِذَا أَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَاتَ النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ فِي بَعْضِ السَّنَةِ، وَكَوْنُهُ نَامِيًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ شَرْطٌ كَمَا فِي الزَّكَاةِ، وَإِنْ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ مِثْلَيِ الْخَرَاجِ فَصَاعِدًا يُؤْخَذُ مِنْهُ جَمِيعُ الْخَرَاجِ، وَإِنْ أَخْرَجَتْ قَدْرَ الْخَرَاجِ يُؤْخَذُ نِصْفُهُ تَحَرُّزًا عَنِ الْإِجْحَافِ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ. قَالَ: (وَإِنْ عَطَّلَهَا مَالِكُهَا فَعَلَيْهِ خَرَاجُهَا) لِأَنَّ الْخَرَاجَ مُتَعَلِّقٌ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الزِّرَاعَةِ لَا بِحَقِيقَةِ الْخَارِجِ وَالتَّمْكِينُ ثَابَتٌ وَهُوَ الَّذِي فَوَّتَهُ، وَلَوِ انْتَقَلَ إِلَى أَخَسِّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ خَرَاجُ الْأَعْلَى. قَالُوا: وَلَا يُفْتَى بِهَذَا كَيْلَا تَتَجَرَّأَ الظَّلَمَةُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَرَاجَ كَانَ وَظِيفَةً مَشْرُوعَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ كِفَايَةً لِلْمُقَاتِلَةِ وَكَانَتْ رَسْمَ كِسْرَى، فَصَارَتْ شَرِيعَةً لَنَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا فَتَحَ سَوَادَ الْعِرَاقِ تَرَكَهَا عَلَى أَرْبَابِهَا وَبَعَثَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ لِيَمْسَحَ الْأَرَاضِيَ وَجَعَلَ عَلَيْهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 وَالْخَرَاجُ: مُقَاسَمَةٌ فَيَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ كَالْعُشْرِ، وَوَظِيفَةٌ وَلَا يُزَادُ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ صَاعٌ وَدِرْهَمٌ، وَجَرِيبُ الرَّطْبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَالْكَرْمِ وَالنَّخْلِ الْمُتَّصِلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَمَا لَمْ يُوَظِّفْهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُوضَعُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ، وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ نِصْفُ الْخَارِجِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَيُنْقَصُ مِنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ،   [الاختيار لتعليل المختار] حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ مُشْرِفًا فَمَسَحَ فَبَلَغَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفَ جَرِيبٍ فَوَظَّفَ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ أَرْضٍ بَيْضَاءَ تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا مِمَّا يَزْرَعُ، وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ رَطْبَةٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى كُلِّ جَرِيبِ كَرْمٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا. قَالَ: (وَالْخَرَاجُ) نَوْعَانِ (مُقَاسَمَةٌ فَيَتَعَلَّقُ بِالْخَارِجِ كَالْعُشْرِ) ، وَهُوَ أَنْ يَمُنَّ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ بَلْدَةٍ فَتَحَهَا فَتُجْعَلْ عَلَى أَرَاضِيهِمْ مِقْدَارُ رُبُعِ الْخَارِجِ أَوْ ثُلُثِهِ أَوْ نِصْفِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى النِّصْفِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَرَدَ بِالنِّصْفِ وَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْطَى خَيْبَرَ لِأَهْلِهَا مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعُشْرِ إِلَّا أَنَّهُ يُوضَعُ مَوْضِعَ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ خَرَاجٌ حَقِيقَةً. (وَ) خَرَاجُ (وَظِيفَةٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهُوَ عَلَى كُلِّ جَرِيبٍ يَبْلُغُهُ الْمَاءُ صَاعٌ وَدِرْهَمٌ، وَجَرِيبُ الرَّطْبَةِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَالْكَرْمِ وَالنَّخْلِ الْمُتَّصِلِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ) عَلَى مَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْمُؤَنَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَالْوَظِيفَةُ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالدُّولَابِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَالْكَرْمُ خَفِيفُ الْمُؤَنِ، وَالْمَزَارِعُ أَكْثَرُ، وَالرَّطْبَةُ بَيْنَهُمَا، فَوَظَّفَ عَلَى كُلِّ نَوْعٍ بِقَدْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَمَا لَمْ يُوَظِّفْهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُوضَعُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ) كَالزَّعْفَرَانِ وَغَيْرِهِ (وَنِهَايَةُ الطَّاقَةِ نِصْفُ الْخَارِجِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَيُنْقَصُ مِنْهُ عِنْدَ الْعَجْزِ) قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تَطِيقُ؛ قَالَا: لَا وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ، وَأَنَّهُ دَلِيلُ جَوَازِ النُّقْصَانِ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سَوَادِ الْعِرَاقِ لِأَنَّهُ خِلَافُ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَمَا وَظَّفَهُ إِمَامٌ آخَرُ فِي أَرْضٍ كَتَوْظِيفِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِاجْتِهَادٍ فَلَا يَنْقُصُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ؛ وَلَوْ وَظَّفَ عَلَى أَرْضٍ ابْتِدَاءً تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا وَظَّفَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَدْرِ الطَّاقَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ إِنْشَاءُ حُكْمٍ بِاجْتِهَادٍ وَلَيْسَ فِيهِ نَقْضُ حُكْمٍ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ مُقَدَّرٌ شَرْعًا، وَاتِّبَاعُ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ إِلَّا تَوْقِيفًا، وَالتَّقْدِيرُ يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ لِأَنَّ النُّقْصَانَ يَمْتَنِعُ، فَتَعَيَّنَ مَنْعُ الزِّيَادَةِ لِئَلَّا يَخْلُوَ التَّقْدِيرُ عَنِ الْفَائِدَةِ. وَالْجَرِيبُ الَّذِي فِيهِ أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ مُلْتَفَّةٌ لَا يُمْكِنُ زِرَاعَتُهَا. قَالَ مُحَمَّدٌ: يُوضَعُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يُطِيقُ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ عُمَرَ فِي الْبُسْتَانِ تَقْدِيرٌ فَكَانَ مُفَوَّضًا إِلَى الْإِمَامِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُزَادُ عَلَى الْكَرْمِ لِأَنَّ الْبُسْتَانَ بِمَعْنَى الْكَرْمِ فَالْوَارِدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَرْضَ خَرَاجٍ أَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ. فَصْلٌ وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، يُحْبَسُ وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَتُكْشَفُ شُبْهَتُهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الْكَرْمِ وَارِدٌ فِيهِ دَلَالَةً، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَشْجَارٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأَرْضِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَتْبَعُهَا فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؟ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ عِنْدَ بُلُوغِ الْغَلَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ لِأَنَّهُ كَالْبَدَلِ عَنِ الْخَارِجِ، وَلَهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَلَّتِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ بِقَدْرِ مَا يَسْتَوْفِي رَبُّ الْأَرْضِ الْخَارِجَ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ. قَالَ: (وَإِذَا اشْتَرَى الْمُسْلِمُ أَرْضَ خَرَاجٍ، أَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ أُخِذَ مِنْهُ الْخَرَاجُ) لِأَنَّهُ وَظِيفَةُ الْأَرْضِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ لِمَا مَرَّ فِي الزَّكَاةِ؛ وَمَنْ عَجَزَ عَنْ زَرْعِ أَرْضٍ وَعَنِ الْخَرَاجِ تُؤَجَّرُ أَرْضُهُ وَيُؤْخَذُ الْخَرَاجُ مِنَ الْأُجْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ يَسْتَأْجِرُهَا بَاعَهَا الْإِمَامُ وَأَخَذَ الْخَرَاجَ وَرَدَّ عَلَيْهِ الْبَاقِيَ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا خَاصًّا لِنَفْعٍ عَامٍّ فَيَجُوزُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّوَادِرِ: لَوْ هَرَبَ أَهْلُ الْخَرَاجِ إِنْ شَاءَ الْإِمَامُ عَمَّرَهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَالْغَلَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهَا إِلَى قَوْمٍ عَلَى شَيْءٍ وَكَانَ مَا يَأْخُذُهُ لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ فِيهِ حِفْظَ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْمِلْكِ عَلَى صَاحِبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَزْرَعُهَا بَاعَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَمَنْ أَدَّى الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ بِنَفْسِهِ فَلِلْإِمَامِ أَخْذُهُ مِنْهُ ثَانِيًا لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لَهُ؛ وَلَوْ لَمْ يَطْلُبِ الْإِمَامُ الْخَرَاجَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَطْلُبْهُ تَعَذَّرَ الْأَدَاءُ إِلَيْهِ فَبَقِيَ طَرِيقُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ لِيَخْرُجَ عَنِ الْعُهْدَةِ؛ وَلَوْ تَرَكَ السُّلْطَانُ الْخَرَاجَ أَوِ الْعُشْرَ لِرَجُلٍ جَازَ فِي الْخَرَاجِ دُونَ الْعُشْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْخَرَاجِ فَصَحَّ تَرْكُهُ وَهُوَ صِلَةٌ مِنْهُ، وَالْعُشْرُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْخُلُوصِ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى. الصَّاعُ: أَرْبَعَةُ أَمْنَانٍ. وَالْمَنُّ: مِائَتَانِ وَسِتُّونَ دِرْهَمًا. وَالدِّرْهَمُ مِنْ أَجْوَدِ النُّقُودِ. وَالْجَرِيبُ: سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي سِتِّينَ بِذِرَاعِ الْمَلِكِ كِسْرَى، وَأَنَّهُ يَزِيدُ عَلَى ذِرَاعِ الْعَامَّةِ بِقَبْضَةٍ. وَقِيلَ هَذَا جَرِيبُ سَوَادِ الْعِرَاقِ؛ فَأَمَّا جَرِيبُ أَرْضِ كُلِّ بَلْدَةٍ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ. [فصل الْمُرْتَدُّ] فَصْلٌ (وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ) عَنِ الْإِسْلَامِ (يُحْبَسُ وَيُعْرَضُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَتُكْشَفُ شُبْهَتُهُ، فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ) ، أَمَّا حَبْسُهُ وَعَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ لِأَنَّهُ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ؛ وَالْكَافِرُ إِذَا بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ لَا تَجِبُ أَنْ تُعَادَ عَلَيْهِ فَهَذَا أَوْلَى، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ الْعَرْضِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِسْلَامُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَيَتَبَرَّأَ عَنْ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ، وَيَزُولُ (سم) ، مِلْكُهُ عَنْ أَمْوَالِهِ زَوَالًا مُرَاعًى، فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ إِلَى حَالِهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ الظَّاهِرَ إِنَّمَا ارْتَدَّ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَوْ ضَيْمٍ أَصَابَهُ فَيُكْشَفُ ذَلِكَ عَنْهُ لِيَعُودَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَهْوَنُ مِنَ الْقَتْلِ. وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَقِيلَ إِنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَإِلَّا قُتِلَ لِلْحَالِ لِأَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ. وَأَمَّا وُجُوبُ قَتْلِهِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] وَالْمُرَادُ أَهْلُ الرِّدَّةِ نَقْلًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ سَوَاءٌ لِإِطْلَاقِ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (فَإِنْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ الْعَرْضِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ بِالْكُفْرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَيُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْغَرَضِ الْمُسْتَحَبِّ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ الِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ. قَالَ: (وَإِسْلَامُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيَتَبَرَّأَ عَنْ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ سِوَى دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَمَّا انْتَقَلَ إِلَيْهِ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ، فَإِنْ عَادَ فَارْتَدَّ فَحُكْمُهُ كَذَلِكَ وَهَكَذَا أَبَدًا، لِأَنَّا إِنَّمَا نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ» وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبَلُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ظَاهِرَ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ تَوْبَتَهُ قُبِلَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِيمَا بَعْدُ فَتُقْبَلُ. قَالَ: (وَيَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ أَمْوَالِهِ زَوَالًا مُرَاعًى، فَإِنْ أَسْلَمَ عَادَتْ إِلَى حَالِهَا) وَقَالَا: هِيَ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ مُحْتَاجٌ فَيَبْقَى مِلْكُهُ كَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ، وَلَهُ أَنَّهُ كَافِرٌ مَقْهُورٌ تَحْتَ أَيْدِينَا مُبَاحُ الدَّمِ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ وَالْمَالِكِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُرْتَجَى إِسْلَامُهُ وَهُوَ مَدْعُوٌّ إِلَيْهِ فَيُوقَفُ أَمْرُهُ فَإِنْ عَادَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَزَلْ مُسْلِمًا وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ اسْتَقَرَّ كُفْرُهُ فَعَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ. اعْلَمْ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالطَّلَاقِ وَالِاسْتِيلَادِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ وَالْحَجْرِ عَلَى عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَمَامِ الْوِلَايَةِ وَلَا إِلَى حَقِيقَةِ الْمِلْكِ. وَبَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ وَلَا مِلَّةَ لِلْمُرْتَدِّ. وَمَوْقُوفٌ بِالْإِجْمَاعِ كَالْمُفَاوَضَةِ لِأَنَّهَا تَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ، فَإِنْ أَسْلَمَ حَصَلَتِ الْمُسَاوَاةُ وَإِلَّا بَطَلَتْ فَيُوقَفُ لِذَلِكَ. وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَقَبْضِ الدُّيُونِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ أَسْلَمَ نُفِّذَتْ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ. وَعِنْدَهُمَا هِيَ جَائِزَةٌ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مِلْكِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. لَهُمَا أَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفَاتِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَمِلْكُهُ ثَابِتٌ لِمَا بَيَّنَّا فَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ إِلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ مِنَ الصَّحِيحِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ عَوْدُهُ إِلَى الْإِسْلَامِ بِزَوَالِ شُبْهَتِهِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ مِنَ الْمَرِيضِ مِنَ الثُّلُثِ، لِأَنَّ رِدَّتَهُ تُفْضِي إِلَى الْقَتْلِ غَالِبًا، لِأَنَّ مَنِ انْتَحَلَ نِحْلَةً قَلَّمَا يَتْرُكُهَا سِيَّمَا وَقَدْ أَعْرَضَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتِ الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَنُقِلَتْ أَكْسَابُهُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْسَابُ الرِّدَّةِ فَيْءٌ (سم) ، وَتُقْضَى دُيُونُ الْإِسْلَامِ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَدُيُونُ الرِّدَّةِ مِنْ كَسْبِهَا (سم) ، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَارِثِهِ مِنْ مَالِهِ أَخَذَهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] عَمَّا نَشَأَ عَلَيْهِ وَأَلِفَهُ، وَلَهُ أَنَّ مِلْكَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَتَصَرُّفُهُ بِنَاءً عَلَيْهِ فَيُتَوَقَّفُ، وَإِبَاحَةُ مِلْكِهِ تُوجِبُ خَلَلًا فِي الْأَهْلِيَّةِ فَلِذَلِكَ تُوقَفُ تَصَرُّفَاتُهُ. قَالَ: (وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَحُكِمَ بِلَحَاقِهِ عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ وَحَلَّتِ الدُّيُونُ الَّتِي عَلَيْهِ وَنُقِلَتْ أَكْسَابُهُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَى وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَكْسَابُ الرِّدَّةِ فَيْءٌ) . اعْلَمْ أَنَّ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَهُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِانْقِطَاعِ الْوِلَايَةِ وَعَدَمِ الْإِلْزَامِ كَمَا انْقَطَعَتْ عَنِ الْمَيِّتِ الْحَقِيقِيِّ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ اللَّحَاقُ إِلَّا بِالْقَضَاءِ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ، وَلِأَنَّ انْقِطَاعَ الْحُقُوقِ بِاللَّحَاقِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيَتَوَقَّفُ حُكْمُهُ عَلَى الْقَضَاءِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهَدَاتِ، فَإِذَا قُضِيَ بِهِ ثَبَتَ مَوْتُهُ الْحُكْمِيُّ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمَوْتِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَا كَالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ، وَمُكَاتَبَهُ يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ إِلَى وَرَثَتِهِ كَمَا إِذَا مَاتَ حَقِيقَةً. وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَكَسْبُ الْإِسْلَامِ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ هَكَذَا قَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي مَالِ الْمُسْتَوْرِدِ وَالْعِجْلِيِّ حِينَ قَتَلَهُ مُرْتَدًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ، وَكَسْبُ الرِّدَّةِ فَيْءٌ. وَقَالَا: لَهُمْ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِلْكَهُ ثَابِتٌ عِنْدَهُمَا فِي الْكَسْبَيْنِ، وَيَسْتَنِدُ إِلَى مَا قَبْلَ الرِّدَّةِ حَتَّى يَكُونَ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنَ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ الرِّدَّةَ سَبَبُ الْمَوْتِ. وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِنَادَ مُمْكِنٌ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ لَا فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَعْدَهَا فَلَا يُتَصَوَّرُ إِسْنَادُهُ إِلَى مَا قَبْلَهَا وَلِأَنَّهُ كَسْبٌ مُبَاحُ الدَّمِ فَيَكُونُ فَيْئًا كَالْحَرْبِيِّ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ يُعْتَبَرُ وَرَثَتُهُ يَوْمَ ارْتَدَّ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ، وَعَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ يَوْمَ الْمَوْتِ أَوِ اللَّحَاقِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِرْثِ وَالْقَضَاءِ لِتَقْرِيرِهِ لِقَطْعِ الِاحْتِمَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَ الْقَضَاءِ، لِأَنَّ بِهِ يَتَقَرَّرُ الِاسْتِحْقَاقُ وَبِهِ يَصِيرُ اللَّحَاقُ مَوْتًا وَتَبْطُلُ وَصَايَاهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، لِأَنَّ رِدَّتَهُ كَالرُّجُوعِ عَنْهُ. وَقَالَا: تَبْطُلَ وَصَايَاهُ فِي الْقُرَبِ لَا غَيْرَ. قَالَ: (وَتُقْضَى دُيُونُ الْإِسْلَامِ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ، وَدُيُونُ الرِّدَّةِ - مِنْ كَسْبِهَا) ، وَقَالَا: تُقْضَى دُيُونُهُ مِنَ الْكَسْبَيْنِ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ عِنْدَهُمَا. وَلَهُ أَنَّهُ يَقْضِي كُلَّ دَيْنٍ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ. قَالَ: (فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا فَمَا وَجَدَهُ فِي يَدِ وَارِثِهِ مِنْ مَالِهِ أَخَذَهُ) لِأَنَّهُ إِذَا عَادَ مُسْلِمًا فَقَدْ عَادَ حَيًّا فَعَادَتِ الْحَاجَةُ، وَالْخِلَافَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 وَإِسْلَامُ (ز) الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَارْتِدَادُهُ صَحِيحٌ (س ز) ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ،   [الاختيار لتعليل المختار] إِنَّمَا تَثْبُتُ لِلْوَارِثِ لِاسْتِغْنَائِهِ، فَإِذَا عَادَتْ حَاجَتُهُ تَقَدَّمَ عَلَى الْوَارِثِ وَجَمِيعِ مَا فَعَلَهُ الْقَاضِي إِلَّا مَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ مَا دَامَ عَلَى مِلْكِهِ كَالْهِبَةِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ فِي شَيْءٍ زَالَ عَنْ مِلْكِ الْوَارِثِ كَالْمَوْهُوبِ، وَسَوَاءٌ زَالَ بِمَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، أَوْ مَا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ كَالْعِتْقِ؛ وَكَذَا لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى مَنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِعِتْقِهِ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ؛ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ إِذَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ إِلَى الْوَرَثَةِ وَيَأْخُذُ الْبَدَلَ مِنَ الْوَرَثَةِ إِنْ كَانَ قَائِمًا كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَيْءٍ حَتَّى رَجَعَ مُسْلِمًا لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَّصِلِ الْقَضَاءُ بِاللَّحَاقِ لَا يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ. قَالَ: (وَإِسْلَامُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَارْتِدَادُهُ صَحِيحٌ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُ) وَكَذَا إِذَا بَلَغَ يُجْبَرُ وَلَا يُقْتَلُ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ إِسْلَامَ الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَرِدَّتَهُ صَحِيحَانِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِسْلَامُهُ صَحِيحٌ وَرِدَّتُهُ لَا تَصِحُّ. وَقَالَ زُفَرُ: لَا يَصِحَّانِ لِأَنَّ طَرِيقَهُمَا الْأَقْوَالُ، وَأَقْوَالُهُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعُقُودِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِسْلَامَ فِيهِ نَفْعُهُ وَالْكُفْرُ فِيهِ ضَرَرُهُ، وَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ النَّافِعُ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَلَا يَجُوزُ الضَّارُّ كَالْهِبَةِ، وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّ الْوَلِيَّ يُجِيزُ تَصَرُّفَهُ النَّافِعَ دُونَ الضَّارِّ. وَلَهُمَا أَنْ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْلَمَ وَهُوَ صَبِيٌّ، وَصَحَّحَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِسْلَامَهُ وَافْتَخَرَ بِهِ فَقَالَ: سَبَقْتُكُمُو إِلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا ... صَغِيرًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حِلْمِ وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الْعَقْلِ دُونَ الْبُلُوغِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ بَلَغَ غَيْرَ عَاقِلٍ لَمْ يَصِحِّ إِسْلَامُهُ، وَالْعَقْلُ يُوجَدُ مِنَ الصَّغِيرِ كَمَا يُوجَدُ مِنَ الْكَبِيرِ، وَلِأَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ مَعَ الْإِقْرَارِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ طَائِعًا دَلِيلُ الِاعْتِقَادِ وَالْحَقَائِقُ لَا تُرَدُّ، وَإِذَا صَارَ مُسْلِمًا فَإِذَا ارْتَدَّ تَصِحُّ كَالْبَالِغِ، وَلِأَنَّ الْإِسْلَامَ عَقْدٌ وَالرِّدَّةُ حَلُّهُ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ عَقْدًا مَلَكَ حَلَّهُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ الِاعْتِقَادُ تُصُوِّرَ مِنْهُ تَبْدِيلُهُ، فَإِذَا اقْتَرَنَ بِهِ الِاعْتِرَافُ دَلَّ عَلَى تَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ كَالْإِسْلَامِ. وَإِذَا ثَبَتَتَ رِدَّتُهُ تُرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الرِّدَّةِ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لَوْ مَاتَ مُرْتَدًا وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّا لَمَّا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ لَا يُتْرَكُ عَلَى الْكُفْرِ كَالْبَالِغِ، وَلِأَنَّ بِالْجَبْرِ يَنْدَفِعُ عَنْهُ مَضَرَّةُ حِرْمَانِ الْإِرْثِ وَبَيْنُونَةُ الزَّوْجَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَا يُقْتَلُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لَا يُبَاحُ بِالرِّدَّةِ لِأَنَّ إِبَاحَةَ الْقَتْلِ بِنَاءً عَلَى أَهْلِيَّةِ الْحِرَابِ عَلَى مَا عُرِفَ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ عُقُوبَةٌ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ كَالْقِصَاصِ. وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ إِسْلَامُهُ وَلَا ارْتِدَادُهُ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَالْكُفْرَ يَتْبَعَانِ الْعَقْلَ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَكَذَلِكَ مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 وَالْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ، وَتُحْبَسُ وَتُضْرَبُ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ حَتَّى تُسْلِمَ وَلَوْ قَتَلَهَا إِنْسَانٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ، وَتَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا جَائِزٌ، فَإِنْ لَحِقَتْ أَوْ مَاتَتْ فَكَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَالْمُبَرْسِمِ وَالْمَعْتُوهِ وَمَنْ سُقِيَ شَيْئًا فَزَالَ عَقْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا، وَمَنْ يُجَنُّ وَيَفِيقُ فَفِي حَالِ جُنُونِهِ لَهُ أَحْكَامُ الْمَجَانِينِ، وَفِي حَالِ إِفَاقَتِهِ أَحْكَامُ الْعُقَلَاءِ، وَرِدَّةُ السَّكْرَانِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ اسْتِحْسَانًا، وَإِسْلَامُهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَنِ اعْتِقَادٍ أَوْ لَا، وَالْإِسْلَامُ يُحْتَالُ فِي إِثْبَاتِهِ وَالْكُفْرُ فِي نَفْيِهِ فَافْتَرَقَا. وَالْقِيَاسُ أَنْ تَبِينَ امْرَأَةُ السَّكْرَانِ لِأَنَّ الْكُفْرَ سَبَبٌ لِلْفُرْقَةِ كَالطَّلَاقِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الرِّدَّةَ لَيْسَتْ بِفُرْقَةٍ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ لِاخْتِلَافِ الدِّينِ وَرِدَّتُهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ فَلَا يَخْتَلِفُ الدِّينُ. وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صَبِيِّ أَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ كَبُرَ كَافِرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا بَلَغَ، قَالَ: لَا يُقْتَلُ وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ أَقَرَّ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا بَلَغَ ثُمَّ كَفَرَ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِفِعْلِهِ وَإِنَّمَا بِالتَّبَعِيَةِ، وَحُكْمُ أَكْسَابِهِ كَالْمَرْأَةِ. قَالَ: (وَالْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ، وَتُحْبَسُ وَتُضْرَبُ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ حَتَّى تُسْلِمَ) وَمَعْنَاهُ يُعْرَضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ، فَإِنْ أَبَتْ ضَرَبَهَا أَسْوَاطًا ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَإِنْ أَبَتْ حَبَسَهَا. وَفِي رِوَايَةٍ تُخْرَجُ كُلَّ يَوْمٍ وَتُضْرَبُ عَلَى مَا وَصَفْنَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهَا وَقَدِ ارْتَكَبَتْ جَرِيمَةً عَظِيمَةً وَلَا حَدَّ فِيهَا فَتُعَزَّرُ، وَالتَّعْزِيرُ الضَّرْبُ وَالْحَبْسُ، وَإِنَّمَا لَا تُقْتَلُ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ مُطْلَقًا، وَلِأَنَّ كُفْرَهَا الْأَصْلِيَّ لَا يُبِيحُ دَمَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فَكَذَلِكَ الْكُفْرُ الطَّارِئُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ السِّيَرِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَتْلِ أَهْلِيَّتُهُ لِلْقِتَالِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَبَّهَ عَلَى أَنَّهُ السَّبَبُ بِقَوْلِهِ: «مَا لَهَا قُتِلَتْ وَلَمْ تُقَاتِلْ» ؛ " وَحَدِيثُ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمَذْهَبُهُ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ فَدَلَّ عَلَى تَقْيِيدِهِ بِالرِّجَالِ. قَالَ: (وَلَوْ قَتَلَهَا إِنْسَانٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ إِطْلَاقَ النَّصِّ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَكِنْ يُؤَدَّبُ (وَيُعَزَّرُ) إِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى الْإِمَامِ. قَالَ: (وَتَصَرُّفُهَا فِي مَالِهَا جَائِزٌ) إِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ حَقِّهَا، لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ تَتْبَعُ عِصْمَةَ النَّفْسِ، وَعِصْمَةُ نَفْسِهَا لَمْ تَزَلْ، وَبَعْدَ اللَّحَاقِ زَالَتْ عِصْمَةُ نَفْسِهَا، وَلِهَذَا لَا تُسْتَرَقُ مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ بِدَارِ اسْتِرْقَاقٍ، وَإِنْ لَحِقَتْ ثُمَّ سُبِيَتِ اسْتُرِقَّتْ وَأُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اسْتَرَقُّوا نِسَاءَ بَنِي حَنِيفَةَ بَعْدَ مَا ارْتَدُّوا وَأُمُّ مُحَمَّدٍ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مِنْهُمْ، وَلَا تُقْتَلُ كَالْأَصْلِيَّةِ. (فَإِنْ لَحِقَتْ أَوْ مَاتَتْ) فِي الْحَبْسِ (فَكَسْبُهَا لِوَرَثَتِهَا) إِذْ مِلْكُهَا ثَابِتٌ فِيهِمَا لِمَا بَيَّنَّا فَيَنْتَقِلَانِ إِلَى وَرَثَتِهَا، وَلَا مِيرَاثَ لِزَوْجِهَا لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالرِّدَّةِ وَلَمْ تَصِرْ مُشْرِفَةً عَلَى الْهَلَاكِ فَلَا تَكُونُ فَارَّةً، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 فَصْلٌ الْكَافِرُ إِذَا صَلَّى بِجَمَاعَةٍ أَوْ أَذَّنَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ قَالَ: أَنَا مُعْتَقِدٌ حَقِيقَةَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ يَكُونُ مُسْلِمًا   [الاختيار لتعليل المختار] أُخْتَهَا عَقِيبَ لَحَاقِهَا، لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا كَالْمَيْتَةِ، فَإِنْ عَادَتْ مُسْلِمَةً أَوْ سُبِيَتْ لَمْ يَنْتَقِضْ نِكَاحُ الْأُخْتِ، لِأَنَّ نِكَاحَهَا لَا يَعُودُ بَعْدَ مَا سَقَطَ، وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ سَاعَتِئِذٍ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ؛ وَإِنْ وَلَدَتْ بِأَرْضِ الْحَرْبِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنَ الزَّوْجِ وَهُوَ مُسْلِمٌ تَبَعٌ لِأَبِيهِ؛ وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ حِينِ اللَّحَاقِ ثُمَّ سُبِيَا مَعًا كَانَا فَيْئًا، لِأَنَّ النَّسَبَ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنَ الزَّوْجِ لِعَدَمِ الْعِدَّةِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ كَافِرًا تَبَعًا لَهَا، وَالْمَمْلُوكَةُ تُحْبَسُ فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهَا مُحْتَاجًا إِلَى خِدْمَتِهَا دُفِعَتْ إِلَيْهِ وَيُؤْمَرُ أَنْ يُجْبِرَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُرْسِلُ الْقَاضِي إِلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ مَنْ يَجْلِدُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ جَمْعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ. [فصل فِيمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا] فَصْلٌ فِيمَا يَصِيرُ بِهِ الْكَافِرُ مُسْلِمًا وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا أَقَرَّ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدَهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ، فَمَنْ يُنْكِرُ الْوَحْدَانِيَّةَ كَالثِّنْوِيَّةِ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْمَانَوَيَّةِ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: أَسْلَمْتُ أَوْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، أَوْ أَنَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ أَوْ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ فَهَذَا كُلُّهُ إِسْلَامٌ. وَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَيُنْكِرُ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِشَهَادَةِ التَّوْحِيدِ حَتَّى يَشْهَدَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ وَطَائِفَةٌ بِالْعِرَاقِ يَزْعُمُونَ أَنَّ مُحَمَّدًا مُرْسَلٌ إِلَى الْعَرَبِ لَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِالشَّهَادَتَيْنِ حَتَّى يَتَبَرَّأَ مِنْ دِينِهِ. وَلَوْ قَالَ: دَخَلْتُ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولٍ حَادِثٍ فِي الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهِ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ؛ وَلَوْ قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا يَكُونُ مُسْلِمًا حَتَّى يَتَبَرَّأَ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: ذَلِكَ إِسْلَامٌ مِنْهُ. قَالَ: (وَالْكَافِرُ إِذَا صَلَّى بِجَمَاعَةٍ أَوْ أَذَّنَ فِي مَسْجِدٍ، أَوْ قَالَ: أَنَا مُعْتَقِدٌ حَقِيقَةَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ يَكُونُ مُسْلِمًا) لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ مِنْ خَاصِّيَّةِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِخَاصِّيَّةِ الْكُفْرِ يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ، فَإِنَّ مَنْ سَجَدَ لِصَنَمٍ أَوْ تَزَيَّا بِزُنَّارٍ أَوْ لَبِسَ قَلَنْسُوَةَ الْمَجُوسِ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِذَا صَلَّى وَحْدَهُ وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا كَانَ مُسْلِمًا، وَلَوْ لَبَّى وَأَحْرَمَ وَشَهِدَ الْمَنَاسِكَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ مُسْلِمًا. أُكْرِهَ الذِّمِّيُّ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ يَصِحُّ إِسْلَامُهُ، وَلَوْ رَجَعَ لَا يُقْتَلُ، وَلَكِنْ يُحْبَسُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْإِسْلَامِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 وَإِذَا خَرَجَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ وَتَغَلَّبُوا عَلَى بَلَدٍ دَعَاهُمْ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ شُبْهَتَهُمْ، وَلَا يَبْدَؤُهُمْ بِقِتَالٍ، فَإِنْ بَدَءُوهُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا وَتَعَسْكَرُوا بَدَأَهُمْ؛   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل الْخَوَارِجُ وَالْبُغَاةُ] ُ مُسْلِمُونَ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ تُخَالِفُ دَلِيلًا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بِهِ قَطْعًا فَهُوَ كُفْرٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ لَا تُخَالِفُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تُخَالِفُ دَلِيلًا يُوجِبُ الْعَمَلَ ظَاهِرًا فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالٌ وَلَيْسَ بِكُفْرٍ. وَاتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَضْلِيلِ أَهْلِ الْبِدَعِ أَجْمَعَ وَتَخْطِئَتِهِمْ. وَسَبُّ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَبُغْضُهُ لَا يَكُونُ كُفْرًا لَكِنْ يُضَلَّلُ، فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُكَفِّرْ شَاتِمَهُ حَتَّى لَمْ يَقْتُلْهُ، وَأَهْلُ الْبَغْيِ كُلُّ فِئَةٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ يَتَغَلَّبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ وَيُقَاتِلُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ بِتَأْوِيلٍ وَيَقُولُونَ " الْحَقُّ مَعَنَا وَيَدَّعُونَ الْوِلَايَةَ، وَإِنْ تَغَلَّبَ قَوْمٌ مِنَ اللُّصُوصِ عَلَى مَدِينَةٍ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ وَهُمْ غَيْرُ مُتَأَوِّلِينَ أُخِذُوا بِأَجْمَعِهِمْ وَلَيْسُوا بِبُغَاةٍ، لِأَنَّ الْمَنَعَةَ إِنْ وُجِدَتْ فَالتَّأْوِيلُ لَمْ يُوجَدْ. قَالَ: (وَإِذَا خَرَجَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ وَتَغَلَّبُوا عَلَى بَلَدٍ دَعَاهُمْ إِلَى الْجَمَاعَةِ وَكَشَفَ شُبُهَتَهُمْ) لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْثَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَدْعُو أَهْلَ حَرُورَاءَ وَنَاظَرَهُمْ قَبْلَ قِتَالِهِمْ، وَيُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَهْوَنُ الْأَمْرَيْنِ فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ. قَالَ: (وَلَا يَبْدَؤُهُمْ بِقِتَالٍ) لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ (فَإِنْ بَدَءُوهُ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ) قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] الْآيَةَ، وَلِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَاتَلَهُمْ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُمُ ارْتَكَبُوا مَعْصِيَةً بِمُخَالَفَةِ الْجَمَاعَةِ فَيَجِبُ صَدُّهُمْ عَنْهَا، وَيَجُوزُ رَمْيُهُمْ بِالنَّبْلِ وَالْمَنْجَنِيقِ وَإِرْسَالُ الْمَاءِ وَالنَّارِ عَلَى النَّبَاتِ لَيْلًا لِأَنَّهُ مِنْ آلَةِ الْقِتَالِ. وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْقُعُودِ عَنِ الْفِتْنَةِ فَيَجُوزُ أَنَّهُمْ كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ ذَلِكَ، وَمَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ لَا يَلْزَمُهُ. وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ، وَلَا يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِمَامٌ يَدْعُوهُ إِلَى الْقِتَالِ، فَأَمَّا إِذَا دَعَاهُ الْإِمَامُ وَعِنْدَهُ غِنًى وَقُدْرَةٌ لَمْ يَسَعْهُ التَّخَلُّفُ. قَالَ: (فَإِنِ اجْتَمَعُوا وَتَعَسْكَرُوا بَدَأَهُمْ) دَفْعًا لِشَرِّهِمْ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِمْ تَقْوِيَةً لَهُمْ وَتَمْكِينًا مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَالْغَلَبَةِ عَلَى بِلَادِهِمْ. وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا بَلَغَهُ أَنَّ الْخَوَارِجَ يَشْتَرُونَ السِّلَاحَ وَيَتَأَهَّبُونَ لِلْخُرُوجِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ وَيَحْبِسَهُمْ حَتَّى يُقْلِعُوا عَنْ ذَلِكَ وَيَتُوبُوا، لِأَنَّ الْعَزْمَ عَلَى الْخُرُوجِ مَعْصِيَةٌ فَيَزْجُرُهُمْ عَنْهَا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 فَإِذَا قَاتَلَهُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ أَجْهَزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَاتَّبَعَ مُوَلِّيَهُمْ، وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ، وَلَا يُغْنَمُ لَهُمْ مَالٌ، وَيَحْبِسُهَا حَتَى يَتُوبُوا فَيَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ، وَلَا بَأْسَ بِالْقِتَالِ بِسِلَاحِهِمْ وَكِرَاعِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛   [الاختيار لتعليل المختار] وَفِي حَبْسِهِمْ قَطْعُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَكْتَفِي الْمُسْلِمُونَ مَئُونَتَهُمْ. قَالَ: (فَإِذَا قَاتَلَهُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ أَجْهَزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَاتَّبَعَ مُوَلِّيَهُمْ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فَإِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ يَنْحَازُونَ إِلَيْهَا لَا يَزُولُ بَغْيُهُمْ لِأَنَّهُمْ يَنْحَازُونَ إِلَى فِئَةٍ مُمْتَنِعَةٍ مِنَ الْبُغَاةِ فَيَعُودُونَ إِلَى الْقِتَالِ؛ وَأَمَّا الْأَسِيرُ فَإِنْ رَأَى قَتْلَهُ قَتَلَهُ لِأَنَّ بَغْيَهُ لَمْ يَزُلْ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُخَلِّيَ عَنْهُ فَعَلَ، فَإِنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إِذَا أَخَذَ أَسِيرًا اسْتَحْلَفَهُ أَنْ لَا يُعِينَ عَلَيْهِ وَخَلَّاهُ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَتُوبَ أَهْلُ الْبَغْيِ فَعَلَ وَهُوَ الْأَحْسَنُ، لِأَنَّهُ يُؤْمَنُ شَرُّهُ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ. وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ لَمْ يُجْهِزْ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَلَمْ يَتَّبِعْ مُوَلِّيَهُمْ وَلَا يَقْتُلْ أَسِيرَهُمْ، هَكَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقَالَ: لَا يَغْنَمُ لَهُمْ مَالٌ وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ، وَقَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ: " لَا تَتَّبِعُوا مُدْبِرًا وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا، وَلَا تَذْفِفُوا عَلَى جَرِيحٍ " أَيْ لَا يُتِمُّ قَتْلَهُ، وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ، وَهُوَ الْقُدْوَةُ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ شَرِّهِمْ وَإِزَالَةُ بَغْيِهِمْ وَقَدْ حَصَلَ. قَالَ: (وَلَا تُسْبَى لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ وَلَا يُغْنَمُ لَهُمْ مَالٌ وَيَحْبِسُهَا حَتَّى يَتُوبُوا فَيَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَالْإِسْلَامُ عَاصِمٌ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُهَا عَنْهُمْ تَقْلِيلًا عَلَيْهِمْ، وَفِيهِ مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا تَابُوا رُدَّتْ عَلَيْهِمْ لِزَوَالِ الْمُوجِبِ لِلْحَبْسِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالْقِتَالِ بِسِلَاحِهِمْ وَكُرَاعِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ) مَعْنَاهُ إِذَا كَانَ لَهُمْ فِئَةٌ فَيُقْسَمُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى قِتَالِهِمْ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ سِلَاحَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَهَذَا أَوْلَى، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَيْضًا يَوْمَ الْبَصْرَةِ، فَإِذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُ حَبَسَهُ لَهُمْ وَلَا يَدْفَعُهُ إِلَيْهِمْ لِئَلَّا يَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَحْبِسُ السِّلَاحَ وَيَبِيعُ الْكُرَاعَ وَيُمْسِكُ ثَمَنَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْفَعُ وَأَيْسَرُ، فَإِذَا زَالَ بَغْيُهُمْ يَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ. وَمَا أَصَابَ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْآخَرِ مِنْ دَمٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوِ اسْتِهْلَاكِ مَالٍ فَهُوَ مَوْضُوعٌ لَا دِيَةَ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ وَلَا قِصَاصَ، وَمَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ لِلْآخَرِ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ لِمَا رَوَى الزُّهْرِيُّ. قَالَ: وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ فَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ هَدَرٌ، وَكُلَّ مَا أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، وَكُلَّ فَرْجٍ اسْتُبِيحَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَلَا حَدَّ فِيهِ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ رُدَّ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا تَابُوا أُفْتِيهِمْ أَنْ يُغْرَمُوا وَلَا أُجْبِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَسُقُوطُ الْمُطَالَبَةِ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: مَا فَعَلُوهُ قَبْلَ التَّحَيُّزِ وَالْخُرُوجِ وَبَعْدَ تَفَرُّقِ جَمْعِهِمْ يُؤْخَذُونَ بِهِ، لِأَنَّهُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 وَإِذَا قَتَلَ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ وَرِثَهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي (س) وَقَالَ: أَنَا عَلَى حَقٍّ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ. كِتَابُ الْكَرَاهَيَةِ الْمَكْرُوهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَرَامٌ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ إِلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ.   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْ أَهْلِ دَارِنَا، وَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ فَهُمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أَمَّا مَا فَعَلُوهُ بَعْدَ التَّحَيُّزِ لَا ضَمَانَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَا يُقْتَلُ مَنْ مَعَهُمْ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ وَالزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ لِأَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ إِذَا كَانُوا مَعَ الْكُفَّارِ فَهَذَا أَوْلَى وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَإِنْ قَاتَلَتِ الْمَرْأَةُ مَعَ الرِّجَالِ لَا بَأْسَ بِقَتْلِهَا حَالَةَ الْقِتَالِ، وَلَا تُقْتَلُ إِذَا أُسِرَتْ وَتُحْبَسُ اعْتِبَارًا بِالْحَرْبِيَّةِ. قَالَ: (وَإِذَا قَتَلَ الْعَادِلُ الْبَاغِيَ وَرِثَهُ وَكَذَلِكَ إِنْ قَتَلَهُ الْبَاغِي وَقَالَ: أَنَا عَلَى حَقٍّ، وَإِنْ قَالَ: أَنَا عَلَى الْبَاطِلِ لَمْ يَرِثْهُ) لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا تَأْوِيلٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا يَرِثُ الْبَاغِي الْعَادِلَ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ قَتَلَ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَيُكَرَهُ حَمْلُ رُءُوسِهِمْ وَإِنْفَاذُهَا إِلَى الْآفَاقِ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَرُوِيَ أَنَّهُ حُمِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَأْسٌ فَأَنْكَرَ حَمْلَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَسْتِنَانٌ بِفَارِسَ وَالرُّومِ؟ . وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إِنْ كَانَ ذَلِكَ رَهْنًا لَهُمْ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ حَمَلَ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. [كِتَابُ الْكَرَاهَيَةِ] ِ وَفِيهِ بَيَانُ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَمَا لَا يُكْرَهُ، وَسُمِّيَ بِالْكَرَاهِيَةِ لِأَنَّ بَيَانَ الْمَكْرُوهِ أَهَمُّ لِوُجُوبِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ، وَالْقُدُورِيُّ سَمَّاهُ فِي مُخْتَصَرِهِ وَشَرْحِهِ: الْحَظْرَ وَالْإِبَاحَةَ، وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْحَظْرَ الْمَنْعُ، وَالْإِبَاحَةَ الْإِطْلَاقُ، وَفِيهِ بَيَانُ مَا مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ وَمَا أَبَاحَهُ؛ وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ: الِاسْتِحْسَانُ، لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَقَبَّحَهُ، وَلَفْظَةُ الِاسْتِحْسَانِ أَحْسَنُ، أَوْ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِهِ اسْتِحْسَانٌ لَا مَجَالَ لِلْقِيَاسِ فِيهَا؛ وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ: كِتَابُ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ لِأَنَّ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ أَطْلَقَهَا الشَّرْعُ وَالزُّهْدُ وَالْوَرَعُ تَرَكَهَا. قَالَ: (الْمَكْرُوهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ حَرَامٌ) إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا لَمْ يُطْلِقْ عَلَيْهِ الْحُرْمَةَ (وَعِنْدَهُمَا هُوَ إِلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ) لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِيهِ وَتَغْلِيبِ جَانِبِ الْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ إِلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» قَالُوا: مَعْنَاهُ دَلِيلُ الْحِلِّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 وَالنَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالطَّبِيبِ وَالْخَاتِنِ وَالْخَافِضَةِ وَالْقَابِلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعَوْرَةَ فِي الصَّلَاةِ؛ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إِلَّا الْعَوْرَةَ، وَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إِلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَدَلِيلُ الْحُرْمَةِ. [فصل النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ] قَالَ: (وَالنَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَالطَّبِيبِ وَالْخَاتِنِ وَالْخَافِضَةِ وَالْقَابِلَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعَوْرَةَ فِي) كِتَابِ (الصَّلَاةِ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] وقَوْله تَعَالَى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 31] الْآيَةَ، مَعْنَاهُ يَسْتُرُونَهَا مِنَ الِانْكِشَافِ لِئَلَّا يَنْظُرَ إِلَيْهَا الْغَيْرُ نَقْلًا عَنِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَلْعُونٌ مَنَ نَظَرَ إِلَى سَوْأَةِ أَخِيهِ» . فَأَمَّا حَالَةُ الضَّرُورَةِ فَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَالِ الْغَيْرِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ وَمَا إِذَا غُصَّ، وَهَذَا لِأَنَّ أَحْوَالَ الضَّرُورَاتِ مُسْتَثْنَاةٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وَقَالَ: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 233] ؛ وَفِي اعْتِبَارِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ حَرَجٌ وَتَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ مَأْمُورٌ بِهَا، فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هِيَ وَاجِبَةٌ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا إِلَّا بِالنَّظَرِ إِلَى مَحَالِهَا، فَكَانَ الْأَمْرُ بِهَا أَمْرًا بِالنَّظَرِ إِلَى مِحَالِهَا وَيَلْزَمُ مِنْهُ الْإِبَاحَةُ ضَرُورَةً. وَيَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يُعَلِّمَ امْرَأَةً مُدَاوَاتَهَا، لِأَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى الْمَرْأَةِ أَخَفُّ مِنْ نَظَرِ الرَّجُلِ إِلَيْهَا لِأَنَّهَا أَبْعَدُ مِنَ الْفِتْنَةِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بُدٌّ فَلْيَغُضَّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ تَحَرُّزًا عَنِ النَّظَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَتَعَرُّفِ الْبَكَارَةِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَلَا ضَرُورَةَ فَهَذَا أَوْلَى، وَالْعَوْرَةُ فِي الرُّكْبَةِ أَخَفُّ فَكَاشِفُهَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ، ثُمَّ الْفَخْذُ وَكَاشِفُهُ يُعَنَّفُ عَلَى ذَلِكَ؛ ثُمَّ السَّوْأَةُ فَيُؤَدَّبُ كَاشِفُهَا. قَالَ: (وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ إِلَّا الْعَوْرَةَ) لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ، وَقَدْ قَبَّلَ أَبُو هُرَيْرَةَ سُرَّةَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَقَالَ: هَذَا مَوْضِعٌ قَبَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِأَنَّ الرِّجَالَ يَمْشُونَ فِي الطُّرُقِ بِإِزَارٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى الْأَبْدَانِ. قَالَ: (وَتَنْظُرُ الْمَرْأَةُ مِنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ إِلَى مَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنَ الرَّجُلِ) أَمَّا الْمَرْأَةُ إِلَى الْمَرْأَةِ فَلِانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ وَلِلضَّرُورَةِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَغَيْرِهَا، وَأَمَّا نَظَرُهَا إِلَى الرَّجُلِ فَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ إِلَى مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، وَلِأَنَّ الرِّجَالَ يَمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ بِإِزَارٍ وَاحِدٍ، فَإِذَا خَافَتَ الشَّهْوَةَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا لَا تَنْظُرُ احْتِرَازًا عَنِ الْفِتْنَةِ، وَكُلُّ مَا جَازَ النَّظَرُ إِلَيْهِ جَازَ مَسُّهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ إِلَّا إِذَا خَافَتِ الشَّهْوَةَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 وَيَنْظُرُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا، وَيَنْظُرُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَأَمَةِ الْغَيْرِ إِلَى الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالشَّعْرِ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ مَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ إِذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَيَنْظُرُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهَا) وَكَذَا يَحِلُّ لَهُ مَسُّهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِي الْفَرْجِ وَمَا دُونَهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] إِلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6] ؛ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «غُضَّ بَصَرَكَ إِلَّا عَنْ زَوْجَتِكَ» . وَلَا يَحِلُّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا فِي الدُّبُرِ وَلَا فِي الْفَرْجِ حَالَةَ الْحَيْضِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ أَتَى كَاهِنًا وَصَدَّقَهُ فِيمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» ، وَنَظَرُهُ إِلَى فَرْجِهَا وَنَظَرُهَا إِلَى فَرْجِهِ مُبَاحٌ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّظَرَ أَبْلَغُ فِي تَحْصِيلِ اللَّذَّةِ، وَقِيلَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ لِأَنَّهُ يُورِثُ النِّسْيَانَ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَتَجَرَّدَانِ تَجَرُّدَ الْعِيرِ» . قَالَ: (وَيَنْظُرُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَأَمَةِ الْغَيْرِ إِلَى الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ وَالصَّدْرِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ وَالشَّعْرِ) ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ مَوْضِعُ الزِّينَةِ، لِأَنَّ النَّظَرَ إِلَى نَفْسِ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَأَنْوَاعِ الزِّينَةِ حَلَالٌ لِلْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مَوَاضِعَ الزِّينَةِ بِطَرِيقِ حَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَمَوَاضِعُ الزِّينَةِ مَا ذَكَرْنَا، فَالرَّأْسُ مَوْضِعُ الْإِكْلِيلِ، وَالشَّعْرُ مَوْضِعُ الْعِقَاصِ، وَالْأُذُنُ مَوْضِعُ الْقُرْطِ، وَالْعُنُقُ مَوْضِعُ الْقَلَائِدِ، وَالصَّدْرُ مَوْضِعُ الْوِشَاحِ، وَالْعَضُدَانِ مَوْضِعُ الدُّمْلُجِ، وَالذِّرَاعُ مَوْضِعُ السِّوَارِ، وَالسَّاقُ مَوْضِعُ الْخُلْخَالِ. وَعَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَى أُخْتِهِمَا أُمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ تَمْتَشِطُ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمَحْرَمِيَّةُ بِالنَّسَبِ وَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ فِي الْكُلِّ فَيَسْتَوِينَ فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّ مَا يَجُوزُ النَّظَرُ إِلَيْهِ إِذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ) ؛ لِأَنَّ الْمُسَافَرَةَ مَعَهُنَّ حَلَالٌ بِالنَّصِّ وَيُحْتَاجُ فِي السَّفَرِ إِلَى مَسِّهِنَّ فِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ، وَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ مَغَازِيهِ قَبَّلَ رَأْسَ فَاطِمَةَ. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَبَّلَ رَأْسَ عَائِشَةَ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ كَانَ يُقَبِّلُ رَأْسَ أُمِّهِ، وَلِأَنَّ الْمَحْرَمَ لَمَّا كَانَ لَا يُشْتَهَى عَادَةً حَلَّتْ مَعَهُ مَحَلَّ الرِّجَالِ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِذَا خَافَ الشَّهْوَةَ أَوْ غَلَبَتْ عَلَى ظَنِّهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ، فَإِنَّ مَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» ، وَلَا يَجُوزُ النَّظَرُ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى مَا بَيْنَ السُّرَّةِ حَتَّى يُجَاوِزَ الرُّكْبَةَ لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، وَلَا إِلَى الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ، لِأَنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ إِنَّمَا ثَبَتَ لِتَشْبِيهِهِ بِظَهْرِ الْأُمِّ، فَلَوْلَا حُرْمَةُ ظَهْرِهَا لَمَا ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الزَّوْجِيَّةُ كَمَا إِذَا شَبَّهَهَا بِيَدِهَا وَرِجْلِهَا، وَإِذَا ثَبَتَتْ حُرْمَةُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 وَلَا يَنْظُرُ إِلَى الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إِلَّا إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ إِنْ لَمْ يَخَفِ الشَّهْوَةَ، فَإِنْ خَافَ الشَّهْوَةَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ؛   [الاختيار لتعليل المختار] الظَّهْرِ فَالْبَطْنُ أَوْلَى، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِيهَا أَكْثَرُ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَوْضِعَ الزِّينَةِ، فَإِنْ سَافِرَ مَعَهُنَّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَهُنَّ وَيُنْزِلَهُنَّ، يَأْخُذُ بِالْبَطْنِ وَالظَّهْرِ، لِأَنَّ اللَّمْسَ مِنْ فَوْقِ الثِّيَابِ لَا يُوجِبُ الشَّهْوَةَ فَصَارَ كَالنَّظَرِ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ مُتَجَرِّدَةً أَوْ عَلَيْهَا ثِيَابٌ رَقِيقَةٌ يَجِدُ حَرَارَتَهَا مِنْ فَوْقِهِ لَا يَمَسُّهَا تَحَرُّزًا عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْفِتْنَةِ؛ وَأَمَّا أَمَةُ الْغَيْرِ فَلِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْخُرُوجِ وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ فَيَقَعُ النَّظَرُ إِلَيْهَا ضَرُورَةً وَمَسُّ بَعْضِ أَعْضَائِهَا كَمَا فِي الْمَحَارِمِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى أَمَةً مُتَخَمِّرَةً أَلْقَى خِمَارَهَا وَقَالَ لَهَا: يَا لَكَاعُ لَا تَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ. وَلَا يَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا لِأَنَّهُ مَحَلُّ الشَّهْوَةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا حُرِّمَ مِنَ الْمَحَارِمِ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ فِيهِنَّ عَادَةً فَلَأَنْ يَحْرُمَ مِنَ الْإِمَاءِ كَانَ أَوْلَى، وَإِنَّمَا يُبَاحُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ لِمَا بَيَّنَّا، إِلَّا إِذَا أَرَادَ الشِّرَاءَ فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ النَّظَرُ مَعَ الشَّهْوَةِ دُونَ الْمَسِّ، لِأَنَّ الْمَسَّ بِشَهْوَةٍ اسْتِمْتَاعٌ بِأَمَةِ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ حَرَامٌ، أَمَّا النَّظَرُ فَلَيْسَ بِاسْتِمْتَاعٍ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ لِإِفْضَائِهِ إِلَى الِاسْتِمْتَاعِ وَهُوَ الْوَطْءُ. وَالْمُسَافِرَةُ بِأَمَةِ الْغَيْرِ قِيلَ تَحِلُّ كَالْمَحَارِمِ وَقِيلَ: لَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، لِأَنَّ الشَّهْوَةَ إِلَى أَمَةِ الْغَيْرِ كَثِيرَةٌ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَحَارِمِ، وَلِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إِلَى الْمُسَافَرَةِ وَالْخَلْوَةِ مَعَهَا، وَفِي الْمَحَارِمِ ضَرُورَةٌ لِمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا يَحِلُّ لِلْأَمَةِ النَّظَرُ مِنَ الْأَجْنَبِيِّ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ وَمَسِّهِ وَغَمْزِهِ مَا خَلَا الْعَوْرَةَ بِشَرْطِ عَدَمِ الشَّهْوَةِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ جَارِيَةَ الْمَرْأَةِ تَخْدِمُ زَوْجَهَا وَتَغْمِزُهُ وَتَدْهِنُهُ فَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ. قَالَ: (وَلَا يَنْظُرُ إِلَى الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ إِلَّا إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ إِنْ لَمْ يَخَفِ الشَّهْوَةَ) ؛ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ زَادَ الْقَدَمَ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَمَعْرِفَةُ وَجْهِهَا عِنْدَ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْأَجَانِبِ لِإِقَامَةِ مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا لِعَدَمِ مَنْ يَقُومُ بِأَسْبَابِ مَعَاشِهَا. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] ؛ قَالَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ، وَالْمُرَادُ مَوْضِعُهُمَا لِمَا بَيَّنَّا، وَمَوْضِعُهُمَا الْوَجْهُ وَالْيَدُ، وَأَمَّا الْقَدَمُ فَرُوِيَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مُطْلَقًا لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْمَشْيِ فَتَبْدُو؛ وَلِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِي الْوَجْهِ وَالْيَدِ أَكْثَرُ، فَلَأَنْ يَحِلَّ النَّظَرُ إِلَى الْقَدَمِ كَانَ أَوْلَى؛ وَفِي رِوَايَةٍ الْقَدَمُ عَوْرَةٌ فِي حَقِّ النَّظَرِ دُونَ الصَّلَاةِ. قَالَ: (فَإِنْ خَافَ الشَّهْوَةَ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِلْحَاكِمِ وَالشَّاهِدِ) لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرُورَةِ إِلَى مَعْرِفَتِهَا لِتُحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهَا، وَكَمَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَى الْعَوْرَةِ لِإِقَامَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ) لِأَنَّ الْمَسَّ أَغْلَظُ مِنَ النَّظَرِ، فَإِنَّ الشَّهْوَةَ بِالْمَسِّ أَكْثَرُ، فَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهَى أَوْ كَانَ شَيْخًا لَا يُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 وَالْعَبْدُ مَعَ سَيِّدَتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَالْفَحْلُ وَالْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ سَوَاءٌ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ وَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ، وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ يَدِ الْعَالِمِ وَالسُّلْطَانِ الْعَادِلِ. وَيَحِلُّ لِلنِّسَاءَ لُبْسُ الْحَرِيرِ وَلَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ إِلَّا مِقْدَارُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ كَالْعَلَمِ   [الاختيار لتعليل المختار] وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ اسْتَأْجَرَ عَجُوزًا تُمَرِّضُهُ فَكَانَتْ تَغْمِزُهُ وَتَفْلِي رَأْسَهُ. وَالصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى لَا بَأْسَ بِمَسِّهَا وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا لِعَدَمِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمُغِيرَةِ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً «انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» . قَالَ: (وَالْعَبْدُ مَعَ سَيِّدَتِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ) لِأَنَّ خَوْفَ الْفِتْنَةِ مِنْهُ مِثْلُهَا مِنَ الْأَجْنَبِيِّ، وَبَلْ أَكْثَرُ لِكَثْرَةِ الِاجْتِمَاعِ، وَالنُّصُوصُ الْمُحَرِّمَةُ مُطْلَقَةٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31] الْإِمَاءُ دُونَ الْعَبِيدِ قَالَهُ الْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ: (وَالْفَحْلُ وَالْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ الْآيَةَ تَعُمُّ الْكُلَّ، وَالطِّفْلُ الصَّغِيرُ مُسْتَثْنًى بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّ الْخَصِيَّ يُجَامِعُ وَالْمَجْبُوبُ يُسَاحِقُ فَلَا تُؤْمَنُ الْفِتْنَةُ كَالْفَحْلِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَبِّلَ الرَّجُلُ فَمَ الرَّجُلِ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ يُعَانِقَهُ) ؛ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا بَأْسَ بِهِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا قَصَدَ بِهِ الْإِكْرَامَ وَالْمَبَرَّةَ وَلَمْ يَخَفِ الشَّهْوَةَ، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَانَقَ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ قَدِمَ مِنَ الْحَبَشَةِ وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَكَانَ يَوْمَ فَتْحِ خَيْبَرَ، وَقَالَ: لَا أَدْرِي بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ أُسَرُّ؟ بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ» ؛ وَجْهُ الظَّاهِرِ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُكَاغَمَةِ وَالْمُكَامَعَةِ، وَالْأَوَّلُ التَّقْبِيلُ وَالثَّانِي الْمُعَانَقَةُ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ قَبْلَ النَّهْيِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالْمُصَافَحَةِ) فَإِنَّهَا سُنَّةٌ قَدِيمَةٌ مُتَوَارَثَةٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ لَدُنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِ يَدِ الْعَالِمِ وَالسُّلْطَانِ الْعَادِلِ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يُقَبِّلُونَ أَطْرَافَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ: تَقْبِيلُ يَدِ الْعَالِمِ وَالسُّلْطَانِ الْعَادِلِ سُنَّةٌ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ؛ وَتَقْبِيلُ الْأَرْضِ بَيْنَ يَدَيِ السُّلْطَانِ أَوْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ لَيْسَ بِكُفْرٍ لِأَنَّهُ تَحِيَّةٌ وَلَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَسْجُدَ لِلْمَلِكِ الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَسْجُدَ لِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَلَوْ سَجَدَ عِنْدَ السُّلْطَانِ عَلَى وَجْهِ التَّحِيَّةِ لَا يَصِيرُ كَافِرًا. [فصل اسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ] فَصْلٌ (وَيَحِلُّ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الْحَرِيرِ، وَلَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ إِلَّا مِقْدَارُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ كَالْعَلَمِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ حَرِيرَةً بِشِمَالِهِ وَذَهَبًا بِيَمِينِهِ ثُمَّ رَفَعَ بِهِمَا يَدَيْهِ وَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا» . وَعَنْ عُمَرَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 وَلَا بَأْسَ (سم) بِتَوَسُّدِهِ وَافْتِرَاشِهِ، وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ مَا سِدَاهُ إِبْرَيْسَمٌ وَلُحْمَتُهُ قُطْنٌ أَوْ خَزٌّ؛   [الاختيار لتعليل المختار] - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لُبْسَ الْحَرِيرِ عَلَى الرِّجَالِ إِلَّا مَا كَانَ هَكَذَا وَهَكَذَا، وَذَكَرَ إِصْبَعَيْنَ وَثَلَاثًا وَأَرْبَعًا» وَرُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ لِبْسِ الْحَرِيرِ إِلَّا مَوْضِعَ إِصْبَعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ وَأَرَادَ بِهِ الْأَعْلَامَ» . وَأَهْدَى الْمُقَوْقِسُ مَلِكُ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جُبَّةً أَطْرَافُهَا مِنْ دِيبَاجٍ فَلَبِسَهَا. وَلِأَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا لِبْسَ الثِّيَابِ وَعَلَيْهَا الْأَعْلَامُ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَبَعٌ لِلثَّوْبِ فَلَا حُكْمَ لَهُ. قَالَ: (وَلَا بِأْسَ بِتَوَسُّدِهِ وَافْتِرَاشِهِ) وَكَذَا سُتُرُ الْحَرِيرِ وَتَعْلِيقُهُ عَلَى الْبَابِ، وَقَالَا: يُكْرَهُ لِعُمُومِ النَّهْيِ وَلِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ. وَلَهُ أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ فِي اللُّبْسِ وَهَذَا دُونَهُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ، وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ اللُّبْسِ حَلَالٌ وَهُوَ الْعَلَمُ فَكَذَا الْقَلِيلُ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى لَا يَجُوزَ جَعْلُهُ دِثَارًا بِالْإِجْمَاعِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِرْفَقَةُ حَرِيرٍ عَلَى بِسَاطِهِ، وَلِأَنَّ افْتِرَاشَهُ اسْتِخْفَافٌ بِهِ فَصَارَ كَالتَّصَاوِيرِ عَلَى الْبِسَاطِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لِبْسَ التَّصَاوِيرِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ مَا سِدَاهُ إِبْرَيْسَمٌ وَلُحْمَتُهُ قُطْنٌ أَوْ خَزٌّ) لِأَنَّ الثَّوْبَ بِالنَّسْجِ، وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ، فَتُعْتَبَرُ اللُّحْمَةُ دُونَ السِّدَا، فَمَا كَانَ سِدَاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرَهُ يَجُوزُ لُبْسَهُ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمَا كَانَ بِالْعَكْسِ يَجُوزُ فِي الْحَرْبِ خَاصَّةً بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا لِلضَّرُورَةِ لِأَنَّهُ أَهْيَبُ وَأَدْفَعُ لِمَضَرَّةِ السِّلَاحِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لُبْسَ الْحَرِيرِ فِي الْحَرْبِ جَائِزٌ لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رَخَّصَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ» ، وَلِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِمَضَرَّةِ السِّلَاحِ وَأَهْيَبُ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ فَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَالْحَرَامُ لَا يَحِلُّ إِلَّا لِلضَّرُورَةِ، وَقَدِ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ فَإِنَّ الْخَالِصَ إِنِ اخْتُصَّ بِمَزِيَّةِ الْخُلُوصِ فَالْمَخْلُوطُ اخْتُصَّ بِزِيَادَةِ الثَّخَانَةِ وَالْقُوَّةِ فَاسْتَوَيَا فَيُجْتَزَأُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ رَقِيقًا وَلَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِرْهَابُ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ يُكْرَهُ لَبِنَةُ الْحَرِيرِ: أَيِ الْقَبُّ وَتِكَّةُ الدِّيبَاجِ وَالْإِبْرَيْسَمُ لِأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ تَامٌّ، وَمَا كَانَ سِدَاهُ ظَاهِرًا كَالْعِتَابِيِّ، قِيلَ يُكَرَهُ لِأَنَّ لَابِسَهُ فِي مَنْظَرِ الْعَيْنِ لَابِسُ حَرِيرٍ وَفِيهِ خُيَلَاءُ، وَقِيلَ لَا يُكْرَهُ اعْتِبَارًا لِلُّحْمَةِ كَمَا مَرَّ، وَتُكْرَهُ الْخِرْقَةُ الَّتِي يَمْسَحُ بِهَا الْعَرَقَ وَيَمْتَخِطُ بِهَا لِأَنَّهُ ضَرْبُ كِبْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ لِإِزَالَةِ الْأَذَى وَالْقَذَرِ لَا بَأْسَ بِهَا، وَلَا بَأْسَ بِالْخِرْقَةِ يَمْسَحُ بِهَا الْوُضُوءَ لِتَوَارُثِ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ، وَقِيلَ إِنْ فَعَلَهُ تَكَبُّرًا يُكَرَهُ كَالتَّرَبُّعِ فِي الِاتِّكَاءِ إِنْ فَعَلَهُ تَكَبُّرًا يُكْرَهُ وَلِلْحَاجَةِ لَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءَ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ إِلَّا الْخَاتَمُ وَالْمِنْطَقَةُ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ مِنَ الْفِضَّةِ وَكِتَابَةُ الثَّوْبِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَشَدُّ الْأَسْنَانِ بِالْفِضَّةِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُلْبَسَ الصَّبِيُّ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَيَجُوزُ لِلنِّسَاءِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ) لِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ، (إِلَّا الْخَاتَمُ وَالْمِنْطَقَةُ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ مِنَ الْفِضَّةِ وَكِتَابَةُ الثَّوْبِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَشَدُّ الْأَسْنَانِ بِالْفِضَّةِ) أَمَّا الْخَاتَمُ وَالْمِنْطَقَةُ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَهُ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ " مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ "، «وَنَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ» ، ثُمَّ التَّخَتُّمُ سُنَّةٌ لِمَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَالسُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمَا وَمَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ إِلَيْهِ فَتَرْكُهُ أَفْضَلُ. وَالسُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ مِثْقَالٍ فَمَا دُونَهُ وَيَجْعَلَ فَصَّهُ إِلَى بَاطِنِ كَفِّهِ، بِخِلَافِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ لِلزِّينَةِ فِي حَقِّهِنَّ دُونَ الرِّجَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ فَصَّهُ عَقِيقًا أَوْ فَيْرُوزَجًا أَوْ يَاقُوتًا أَوْ نَحْوَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْقُشَ عَلَيْهِ اسْمَهُ أَوِ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لِتَعَامُلِ النَّاسِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَا بَأْسَ بِسَدِّ ثَقْبِ الْفَصِّ بِمِسْمَارِ الذَّهَبِ لِأَنَّهُ قَلِيلٌ فَأَشْبَهَ الْعَلَمَ، وَيُكْرَهُ التَّخَتُّمُ بِالْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّهُ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ وَقَدْ نَهَى عَنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ قَبْضَةُ سَيْفِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ فِضَّةٍ. وَأَمَّا كِتَابَةُ الثَّوْبِ كَمَا بَيَّنَا فِي الْعَلَمِ الْحَرِيرِ، وَكَرِهَهُ أَبُو يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ. وَأَمَّا شَدُّ الْأَسْنَانِ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يَجُوزُ بِالذَّهَبِ أَيْضًا قِيَاسًا عَلَى الْأَنْفِ، فَإِنَّهُ رُوِيَ «أَنَّ عَرْفَجَةَ أُصِيبَ أَنْفُهُ يَوْمَ كُلَابٍ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ فِضَّةٍ فَأَنْتَنَ، فَأَمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ» وَكَانَ ضَرُورَةً فَيَجُوزُ. وَلَهُ أَنَّ الضَّرُورَةَ فِي الْأَسْنَانِ تَنْدَفِعُ بِالْأَدْنَى وَهُوَ الْفِضَّةُ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْأَنْفِ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يُلْبَسَ الصَّبِيُّ الذَّهَبَ وَالْحَرِيرَ) لِئَلَّا يَعْتَادَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَيُنْهَى عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ لِيَعْتَادَ فِعْلَ الْخَيْرِ وَيَأْلَفَ تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَالْإِثْمُ عَلَى مَنْ أَلْبَسَهُ لِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ شَرِبَ فِي إِنَاءِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَكَأَنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» ؛ وَعَلَى هَذَا الْمِجْمَرَةُ وَالْمِلْعَقَةُ وَالْمِدْهَنُ وَالْمِيلُ وَالْمُكْحُلَةُ وَالْمِرْآةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالنُّصُوصُ وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الشُّرْبِ فَالْبَاقِي فِي مَعْنَاهُ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الِاسْتِعْمَالِ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ زِيُّ الْمُتَكَبِّرِينَ وَتَنَعُّمُ الْمُتْرَفِينَ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَيَعُمُّ الْكُلَّ. (وَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ) لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 وَلَا بَأْسَ بِآنِيَةِ الْعَقِيقِ وَالْبِلَّوْرِ وَالزُّجَاجِ وَالرَّصَاصِ، وَيَجُوزُ (س) الشُّرْبُ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ الْمُفَضَّضِ إِذَا كَانَ يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ. فَصْلٌ فِي الِاحْتِكَارِ وَيُكْرَهُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ فِي مَوْضِعٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بَآنِيَةِ الْعَقِيقِ وَالْبِلَّوْرِ وَالزُّجَاجِ وَالرَّصَاصِ) لِأَنَّهُ لَا تَفَاخُرَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُ. قَالَ: (وَيَجُوزُ الشُّرْبُ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ وَالْجُلُوسُ عَلَى السَّرِيرِ الْمُفَضَّضِ إِذَا كَانَ يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ) أَيْ يَتَّقِي فَمُهُ ذَلِكَ، وَقِيلَ يَتَّقِي أَخْذَهُ بِالْيَدِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكْرَهُ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَالتَّفْصِيلِ السِّرْجُ الْمُفَضَّضُ وَالْكُرْسِيُّ، وَالْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَعْمَلَ جُزْءًا مِنَ الْإِنَاءِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ كُلَّهُ فَيَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِضَّةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَابِعَةٌ وَالْعِبْرَةُ لِلْمَتْبُوعِ لَا لِلتَّبَعِ، وَصَارَ كَالْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ وَمِسْمَارِ الذَّهَبِ فِي فَصِّ الْخَاتَمِ، وَعَلَى هَذَا اللِّجَامُ الْمُفَضَّضُ وَالرِّكَابُ وَالثُّفْرُ، أَمَّا اللِّجَامُ مِنَ الْفِضَّةِ وَالرِّكَابِ فَحَرَامٌ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الْفِضَّةَ بِعَيْنِهَا فَلَا يَجُوزُ، وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِالْأَوَانِي الْمُمَوَّهَةِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ مُسْتَهْلَكٌ فِيهِ لَا يُخْلَصُ فَصَارَ كَالْعَدَمِ، وَالْأُشْنَانُ وَالدُّهْنُ يَكُونُ فِي إِنَاءِ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ يُصَبُّ مِنْهُ عَلَى الْيَدِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَكْرَهُ، وَلَا أَكْرَهُ ذَلِكَ فِي الْغَالِيَةِ لِأَنَّهُ يُدْخِلُ يَدَهُ أَوْ عُودًا فَيُخْرِجُهَا إِلَى الْكَفِّ ثُمَّ يَسْتَعْمِلُهَا مِنَ الْكَفِّ فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمِلًا لِلْإِنَاءِ، وَلَا كَذَلِكَ الدُّهْنُ وَالْأُشْنَانُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا بِهِ بِالصَّبِّ مِنْهُ. [فَصْلٌ فِي الِاحْتِكَارِ] وَهُوَ مَصْدَرُ احْتَكَرْتُ الشَّيْءَ إِذَا جَمَعْتَهُ وَحَبَسْتَهُ، وَالِاسْمُ الْحُكْرَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ فِي مَوْضِعٍ يَضُرُّ بِأَهْلِهِ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ؛ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَحْتَكِرُوا الطَّعَامَ بِمَكَّةَ فَإِنَّهُ إِلْحَادٌ، وَمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَحْرُومٌ " وَفِي رِوَايَةٍ " مَلْعُونٌ» . وَعَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ» ؛ وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى أَنْ يُحْتَكَرَ الطَّعَامُ» ، وَرَوَى عُمَرُ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ» وَلِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيقًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 وَلَا احْتِكَارَ فِي غَلَّةِ ضَيْعَتِهِ وَمَا جَلَبَهُ (سم) ؛ وَإِذَا رُفِعَ إِلَى الْقَاضِي حَالُ الْمُحْتَكِرِ يَأْمُرُهُ بِبَيْعِ مَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهِ وَعِيَالِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَ عَلَيْهِ؛ وَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا فِي الْقِيمَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ؛   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ. وَالِاحْتِكَارُ أَنْ يَبْتَاعَ طَعَامًا مِنَ الْمِصْرِ أَوْ مِنْ مَكَانٍ يَجْلِبُ طَعَامَهُ إِلَى الْمِصْرِ وَيَحْبِسُهُ إِلَى وَقْتِ الْغَلَاءِ، وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِصْرًا يَضُرُّ بِهِ الِاحْتِكَارُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْعَامَّةِ، وَشَرَطَ بَعْضُهُمُ الشِّرَاءَ فِي وَقْتِ الْغَلَاءِ وَيَنْتَظِرُ زِيَادَةَ الْغَلَاءِ وَالْكُلُّ مَكْرُوهٌ. وَالْحَاصِلُ أَنْ يَكُونَ يَضُرُّ بِأَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مِصْرًا كَبِيرًا لَا يَضُرُّ بِأَهْلِهِ فَلَيْسَ بِمُحْتَكِرٍ لِأَنَّهُ حَبَسَ مِلْكَهُ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ بِغَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ تَلَقِّي الْجَلَبِ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْهُ. قَالَ: (وَلَا احْتِكَارَ فِي غَلَّةِ ضَيْعَتِهِ وَمَا جَلَبَهُ) أَيْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ مَا زَرَعَهُ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَجْلِبَ وَلَا يَزْرَعَ فَلَهُ أَنْ لَا يَبِيعَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكْرَهُ فِيمَا جَلَبَهُ أَيْضًا لِعُمُومِ النَّهْيِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يُكْرَهُ إِذَا اشْتَرَاهُ مِنْ مَوْضِعٍ يُجْلَبُ مِنْهُ إِلَى الْمِصْرِ فِي الْغَالِبِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعَامَّةِ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا. قَالَ: (وَإِذَا رُفِعَ إِلَى الْقَاضِي حَالُ الْمُحْتَكِرِ يَأْمُرُهُ بِبَيْعِ مَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهِ وَعِيَالِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ بَاعَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ قُوتِهِ وَعِيَالِهِ غَيْرُ مُحْتَكِرٍ وَيَتْرُكُ قُوتَهُمْ عَلَى اعْتِبَارِ السَّعَةِ؛ وَقِيلَ إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ أَوَّلُ مَرَّةٍ نَهَاهُ عَنِ الِاحْتِكَارِ، فَإِنْ رُفِعَ إِلَيْهِ ثَانِيًا حَبَسَهُ وَعَزَّرَهُ بِمَا يَرَى زَجْرًا لَهُ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنِ النَّاسِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أُجْبِرَ الْمُحْتَكِرِينَ عَلَى بَيْعِ مَا احْتَكَرُوا وَلَا أُسَعِّرُ، وَيُقَالُ لَهُ: بِعْ كَمَا يَبِيعُ النَّاسُ وَبِزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ فِي مِثْلِهَا وَلَا أَتْرُكُهُ يَبِيعُ بِأَكْثَرَ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَى: «أَنَّ السِّعْرَ غَلَا بِالْمَدِينَةِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ سَعَّرْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ» ؛ وَلِأَنَّ التَّسْعِيرَ تَقْدِيرُ الثَّمَنِ وَإِنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ. وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ: " أُجْبِرُهُمْ عَلَى الْبَيْعِ " يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: إِمَّا لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ أَوْ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْحَجْرِ. قَالَ: (وَلَا يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ) لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَتَعَدَّى أَرْبَابُ الطَّعَامِ تَعَدِّيًا فَاحِشًا فِي الْقِيمَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِمَشُورَةِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ) لِأَنَّ فِيهِ صِيَانَةَ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الضَّيَاعِ، وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا خَافَ الْإِمَامُ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ الضَّيَاعَ وَالْهَلَاكَ أَخَذَ الطَّعَامَ مِنَ الْمُحْتَكِرِينَ وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا وَجَدُوا رَدُّوا مِثْلَهُ، وَلَيْسَ هَذَا حَجْرًا وَإِنَّمَا هُوَ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ، وَلَوْ سَعَّرَ السُّلْطَانُ عَلَى الْخَبَّازِينَ الْخُبْزَ فَاشْتَرَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ السِّعْرِ وَالْخَبَّازُ يَخَافُ إِنْ نَقَصَهُ ضَرَبَهُ السُّلْطَانُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُكْرَهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ: بِعْنِي بِمَا تُحِبُّ لِيَصِحَّ الْبَيْعُ؛ وَلَوِ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى سِعْرِ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَشَاعَ بَيْنَهُمْ فَدَفَعَ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ دِرْهَمًا لِيُعْطِيَهُ فَأَعْطَاهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالنُّقْصَانِ مِنَ الثَّمَنِ، لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ إِلَّا بِسِعْرِ الْبَلَدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا؛ وَمَنْ حَمَلَ خَمْرًا لِذِمِّيٍّ طَابَ (سم) لَهُ الْأَجْرُ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ، وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ، وَيُكْرَهُ بَيْعُ (سم) أَرْضِهَا؛   [الاختيار لتعليل المختار] وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الِاحْتِكَارُ فِي كُلِّ مَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الضَّرَرِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الِاحْتِكَارُ فِي أَقْوَاتِ الْآدَمِيِّينَ كَالتَّمْرِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ، وَأَقْوَاتِ الْبَهَائِمِ كَالْقَتِّ نَظَرًا إِلَى الضَّرَرِ الْمَقْصُودِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ الِاحْتِكَارِ، قِيلَ أَقَلُّهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِاحْتِكَارٍ لِعَدَمِ الضَّرَرِ بِالْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ؛ وَقِيلَ أَقَلُّهُ شَهْرٌ لِأَنَّ مَا دُونَهُ عَاجِلٌ، ثُمَّ قِيلَ يَأْثَمُ بِنَفْسِ الِاحْتِكَارِ وَإِنْ قَلَّتِ الْمُدَّةُ، وَإِنَّمَا بَيَانُ الْمُدَّةِ لِبَيَانِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّجَارَةَ فِي الطَّعَامِ مَكْرُوهٌ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمَقْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْإِثْمَ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا) لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَقُومُ بِعَيْنِهِ بَلْ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ. قَالَ: (وَمِنْ حَمَلَ خَمْرًا لِذِمِّيٍّ طَابَ لَهُ الْأَجْرُ) وَقَالَا: يُكْرَهُ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا " وَعَدَّ مِنْهُمْ " حَامِلَهَا» وَلَهُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ شُرْبُهَا، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ الْحَمْلِ وَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَمَحْمَلُ الْحَدِيثِ الْحَمْلُ لِقَصْدِ الْمَعْصِيَةِ حَتَّى لَوْ حَمَلَهَا يُرِيقُهَا أَوْ لِيُخَلِّلُهَا جَازَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إِذَا آجَرَ بَيْتًا لِيَتَّخِذَهُ بَيْتَ نَارٍ أَوْ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي السَّوَادِ. لَهُمَا أَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَلَهُ أَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ حَتَّى وَجَبَتِ الْأُجْرَةُ بِالتَّسْلِيمِ وَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَالْمَعْصِيَةُ فِعْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي ذَلِكَ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السِّرْقِينِ) لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ يُلْقَى فِي الْأَرَاضِي طَلَبًا لِكَثْرَةِ الرِّيعِ، وَيَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَّةُ وَتُبْذَلُ الْأَعْوَاضُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَكَانَ مَا لَا يَجُوزُ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، بِخِلَافِ الْعَذِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ الْخَلْطِ، وَبَعْدَ الْخَلْطِ يَجُوزُ بَيْعُهَا وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بَعْدَ الْخَلْطِ بِهَا كَزَيْتٍ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بِنَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَيُكْرَهُ بَيْعُ أَرْضِهَا) وَكَذَا الْإِجَارَةُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ وَفِيهَا الشُّفْعَةُ، وَيُكْرَهُ إِجَارَتُهَا فِي الْمَوْسِمِ، وَقَالَا: لَا بَأْسَ بِبَيْعِ أَرْضِهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِهَا الِاخْتِصَاصَ الشَّرْعِيَّ فَيَجُوزُ كَالْبِنَاءِ. وَلَهُ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَكَّةُ حَرَامٌ وَبَيْعُ رِبَاعِهَا حَرَامٌ» ؛ وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَكَّةُ مُبَاحٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَكَانَتْ تُدْعَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ السَّوَائِبَ، مَنْ شَاءَ سَكَنَ وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ، وَلِأَنَّهَا مِنَ الْحَرَمِ يَحْرُمُ صَيْدُهَا، وَلَا يَحِلُّ دُخُولُهَا لِنَاسِكٍ إِلَّا بِإِحْرَامٍ فَيَحْرُمُ بَيْعُهَا كَالْكَعْبَةِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْمَسْعَى، وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُ الْبِنَاءِ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ مُحَرَّمَةٌ، وَقَفَهَا إِبْرَاهِيمُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَالْبِنَاءُ مِلْكٌ لِمَنْ أَحْدَثَهُ فَيَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، وَالطِّينُ وَإِنْ كَانَ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وَيُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلُ الْفَاسِقِ، وَلَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ إِلَّا قَوْلُ الْعَدْلِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى؛ وَيُقْبَلُ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ قَوْلُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ. وَيَعْزِلُ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَعَنْ زَوْجَتِهِ بِإِذْنِهَا؛ وَيُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخِصْيَانِ؛ وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشَّطَرَنْجِ وَكُلِّ لَهْوٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْوَقْفِ، لَكِنْ مَنْ أَخَذَ طِينَ الْوَقْفِ فَعَمِلَهُ لِبِنَاءٍ مَلَكَهُ وَصَارَ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ. وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ النَّاسَ يَتَبَايَعُونَهَا فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ. قَالَ: (وَيُقْبَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَوْلُ الْفَاسِقِ) لِأَنَّهَا يَكْثُرُ وَجُودُهَا مِنَ النَّاسِ، فَلَوْ شَرَطْنَا الْعَدَالَةَ حَرِجَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ، وَمَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَاحِدِ عَدْلًا كَانَ أَوْ فَاسِقًا، حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. قَالَ: (وَلَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ إِلَّا قَوْلُ الْعَدْلِ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى) لِأَنَّ الصِّدْقَ فِيهِ رَاجِحٌ بِاعْتِبَارِ عَقْلِهِ وَدِينِهِ، سِيَّمَا فِيمَا لَا يَجْلِبُ لَهُ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا، وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ لِلْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا الْعَدَالَةَ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا يَكْثُرُ وُقُوعُهَا كَثْرَةَ الْمُعَامَلَاتِ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ وَالْكَافِرَ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لَهَا فَلَا يُلْزَمُ الْمُسْلِمُ بِقَوْلِهِ، بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّهُ لَا مُقَامَ لَهُ فِي دَارِنَا إِلَّا بِالْمُعَامَلَةِ، وَلَا مُعَامَلَةَ إِلَّا بِقَبُولِ قَوْلِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الدِّيَانَاتُ وَالْمُعَامَلَاتُ كَالْإِخْبَارِ بِالذَّبِيحَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالدِّيَانَاتُ كَالْإِخْبَارِ بِجِهَةِ الْقِبْلَةِ وَطَهَارَةِ الْمَاءِ، فَلَوْ أَخْبَرَهُ ذِمِّيٌّ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ كَذِبُهُ إِضْرَارًا بِالْمُسْلِمِ لِلْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ وَلَا يَتَحَرَّى، فَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهُ لَا يَتَيَمَّمُ مَا لَمْ يُرِقِ الْمَاءَ، وَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ جَازَ؛ وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَاسِقٌ أَوْ مَنْ لَا تُعْرَفُ عَدَالَتُهُ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ صِدْقُهُ سَمِعِ قَوْلَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُرِيقَهُ وَيَتَيَمَّمَ. قَالَ: (وَيُقْبَلُ فِي الْهَدِيَّةِ وَالْإِذْنِ قَوْلُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ) لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ لَدُنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ إِلَى يَوْمِنَا. [فَصْلٌ فِي مسائل مختلفة] ٍ قَالَ: (وَيَعْزِلُ عَنْ أَمَتِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهَا، وَعَنْ زَوْجَتِهِ بِإِذْنِهَا) لِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقًّا فِي الْوَطْءِ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَتَحْصِيلِ الْوَلَدِ حَتَّى يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ، وَقَدْ «نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنِ الْعَزْلِ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا» ، «وَقَالَ لِمَوْلَى الْأَمَةِ: اعْزِلْ عَنْهَا إِنْ شِئْتَ» . قَالَ: (وَيُكْرَهُ اسْتِخْدَامُ الْخِصْيَانِ) لِأَنَّهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْخِصَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِكَوْنِهِ مُثْلَةً. قَالَ: (وَيُكْرَهُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالشَّطَرَنْجِ وَكُلِّ لَهْوٍ) ؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ لَعِبِ ابْنِ آدَمَ حَرَامٌ إِلَّا ثَلَاثًا: مُلَاعَبَةُ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَرَمْيُهُ عَنْ قَوْسِهِ، وَتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ» ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وَوَصْلُ الشَّعْرِ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ حَرَامٌ؛ وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إِلَّا بِهِ، أَوْ يَقُولَ فِي دُعَائِهِ: أَسْأَلُكَ بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ؛ وَرَدُّ السَّلَامِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ السَّلَامَ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْقَوْمِ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ. وَالتَّسْلِيمُ سُنَّةٌ وَثَوَابُ الْمُسَلِّمِ أَكْثَرُ؛   [الاختيار لتعليل المختار] وَلِأَنَّهُ إِنْ قَامَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ وَإِلَّا فَهُوَ عَبَثٌ وَالْكُلُّ حَرَامٌ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَسْتُ مِنْ دَدٍ وَلَا الدَّدُ مِنِّي» أَيِ اللَّعِبُ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا أَلْهَاكَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ مَيْسِرٌ» وَهَذَا اللَّعِبُ مِمَّا يُلْهِي عَنِ الْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ فَيَكُونُ حَرَامًا. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشَّطَرَنْجِ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟ . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ. وَلَمْ يَرَ أَبُو حَنِيفَةَ بَأْسًا بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ لِيَشْغَلَهُمْ عَنِ اللَّعِبِ، وَكَرِهَا ذَلِكَ اسْتِحْقَارًا بِهِمْ وَإِهَانَةً لَهُمْ. وَالْجَوْزُ الَّذِي يَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ يَوْمَ الْعِيدِ يُؤْكَلُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَامَرَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَشْتَرِي الْجَوْزَ لِصِبْيَانِهِ يَوْمَ الْفِطْرِ يَلْعَبُونَ بِهِ وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْهُ، فَإِنْ قَامَرُوا بِهِ حَرُمَ. قَالَ: (وَوَصْلُ الشَّعْرِ بِشَعْرِ الْآدَمِيِّ حَرَامٌ) سَوَاءٌ كَانَ شَعْرَهَا أَوْ شَعْرَ غَيْرِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُوشِرَةَ وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ» ؛ فَالْوَاصِلَةُ: الَّتِي تَصِلُ الشَّعْرَ بِشِعْرِ الْغَيْرِ، أَوِ الَّتِي تُوصِلُ شَعْرَهَا بِشِعْرٍ آخَرَ زُورًا؛ وَالْمُسْتَوْصِلَةُ: الَّتِي تُوَصَّلُ لَهَا ذَلِكَ بِطَلَبِهَا؛ وَالْوَاشِمَةُ: الَّتِي تَشِمُ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعِ، وَهُوَ أَنْ تَغْرِزَ الْجِلْدَ بِإِبْرَةٍ ثُمَّ يُحْشَى بِكُحْلٍ أَوْ نَيْلٍ فَيَزْرَقُّ؛ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ؛ وَالْوَاشِرَةُ الَّتِي تُفَلِّجُ أَسْنَانَهَا: أَيْ تُحَدِّدُهَا وَتُرَقِّقُ أَطْرَافَهَا تَفْعَلُهُ الْعَجُوزُ تَتَشَبَّهُ بِالشَّوَابِّ؛ وَالْمُوشِرَةُ: الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا بِأَمْرِهَا؛ وَالنَّامِصَةُ: الَّتِي تَنْتِفُ الشَّعْرَ مِنَ الْوَجْهِ؛ وَالْمُتَنَمِّصَةُ: الَّتِي يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ إِلَّا بِهِ) ؛ فَلَا يَقُولُ أَسْأَلُكَ بِفُلَانٍ أَوْ بِمَلَائِكَتِكَ أَوْ بِأَنْبِيَائِكَ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ، (أَوْ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: أَسْأَلُكَ بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكِ) ؛ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعْقَدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكِ وَمُنْتَهَى الرَّحْمَةِ مِنْ كِتَابِكَ، وَبِاسْمِكَ الْأَعْظَمِ وَكَلِمَاتِكَ التَّامَّةِ» . وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ يُوهِمُ تَعَلُّقَ عِزِّهِ بِالْعَرْشِ، وَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى جَمِيعُهَا قَدِيمَةٌ بِقَدَمِهِ، فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِمْسَاكِ عَنْهُ، وَمَا رَوَاهُ خَبَرُ آحَادٍ لَا يُتْرَكُ بِهِ الِاحْتِيَاطُ. (وَرَدُّ السَّلَامِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمْعِ السَّلَامَ إِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُ الْقَوْمِ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَالتَّسْلِيمُ سُنَّةٌ) وَالرَّدُّ فَرِيضَةٌ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنِ الرَّدِّ إِهَانَةٌ بِالْمُسْلِمِ وَاسْتِخْفَافٌ بِهِ وَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ (وَثَوَابُ الْمُسَلِّمِ أَكْثَرُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِلْبَادِي مِنَ الثَّوَابِ عَشَرَةٌ، وَلِلرَّدِّ وَاحِدَةٌ» ؛ وَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ حَتَّى يُسْمِعَهُ الْمُسَلِّمُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ جَوَابًا إِذَا سَمِعَهُ الْمُخَاطَبُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَصَمَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِتَحْرِيكِ شَفَتِهِ؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 وَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا بَأْسَ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَنْ دَعَاهُ السُّلْطَانُ أَوِ الْأَمِيرُ لِيَسْأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ وَاسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي حَرَامٌ؛   [الاختيار لتعليل المختار] وَكَذَلِكَ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ؛ وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ صَبِيٌّ فَرَدَّ الصَّبِيُّ إِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ هَلْ يَصِحُّ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ رَدُّ سَلَامِ الرَّجُلِ وَلَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، وَإِنْ سَلَّمَتْ عَلَيْهِ؛ فَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا رَدَّ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً رَدَّ فِي نَفْسِهِ؛ وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ تَشْمِيتُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَبِالْعَكْسِ؛ وَلَا يَجِبُ رَدُّ سَلَامِ السَّائِلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلتَّحِيَّةِ بَلْ شِعَارُ السُّؤَالِ؛ وَمَنْ بَلَّغَ غَيْرَهُ سَلَامَ غَائِبٍ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمَا. وَرُوِيَ «أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبِي يُسَلِّمُ عَلَيْكَ. قَالَ: عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السَّلَامُ) » ؛ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُ عَنْ قِرَاءَتِهِ، فَإِنَّ سَلَّمَ عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ لِأَنَّهُ فَرْضٌ وَالْقِرَاءَةُ لَا. وَذَكَرَ الرَّازِيُّ فِي أَدَبِ الْقَضَاءِ أَنَّ مَنْ دَخْلَ عَلَى الْقَاضِي فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَتْرُكَ السَّلَامَ عَلَيْهِ هَيْبَةً لَهُ وَاحْتِشَامًا. وَبِهَذَا جَرَى الرَّسْمُ أَنَّ الْوُلَاةَ وَالْأُمَرَاءَ إِذَا دَخَلُوا عَلَيْهِمْ لَا يُسَلِّمُونَ. وَإِلَيْهِ مَالَ الْخَصَّافُ، وَعَلَى الْأَمِيرِ أَنْ يُسَلِّمَ وَلَا يَتْرُكَ السُّنَّةَ لِتَقْلِيدِ الْعَمَلِ. وَإِنْ جَلَسَ نَاحِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ لِلْحُكْمِ لَا يُسَلِّمُ عَلَى الْخُصُومِ وَلَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ جَلَسَ لِلْحُكْمِ وَالسَّلَامُ تَحِيَّةُ الزَّائِرِينَ. فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا جَلَسَ لِأَجْلِهِ كَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَإِنْ سَلَّمُوا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ. وَعَلَى هَذَا مَنْ جَلَسَ يُفَقِّهُ تَلَامِذَتَهُ وَيُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ دَاخِلٌ فَسَلَّمَ وَسِعَهُ أَنْ لَا يَرُدَّ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا جَلَسَ لِلتَّعْلِيمِ لَا لِرَدِّ السَّلَامِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ) لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِهِمْ وَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى يَجُوزُ. (وَلَا بَأْسَ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ) لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْهُ يُؤْذِيهِمْ وَالرَّدُّ إِحْسَانٌ وَإِيذَاؤُهُمْ مَكْرُوهٌ وَالْإِحْسَانُ بِهِمْ مَنْدُوبٌ، وَلَا يَزِيدُ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِهِ: وَعَلَيْكُمْ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: السَّامُ عَلَيْكُمْ، فَيُجَابُونَ بُقُولِهِ وَعَلَيْكُمْ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ، وَلَا بَأْسَ بِعِيَادَتِهِمُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِأَنَّ فِيهِ بِرَّهُمْ وَمَا نُهِينَا عَنْهُ؛ وَلَوْ قَالَ لِلذِّمِّيِّ: أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ، إِنْ نَوَى أَنَّهُ يُطِيلُهُ لِيُسْلِمَ أَوْ لِيُؤَدِّيَ الْجِزْيَةَ جَازَ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ بِالْإِسْلَامِ، وَإِلَّا لَا يَجُوزُ. (وَمَنْ دَعَاهُ السُّلْطَانُ أَوِ الْأَمِيرُ لِيَسْأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَكَلَّمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ تَكَلَّمَ عِنْدَ ظَالِمٍ بِمَا يُرْضِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ يُغَيِّرُ اللَّهُ قَلْبَ الظَّالِمِ عَلَيْهِ وَيُسَلِّطُهُ عَلَيْهِ» أَمَّا إِذَا خَافَ الْقَتْلَ أَوْ تَلَفَ بَعْضِ جَسَدِهِ أَوْ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ، فَحِينَئِذٍ يَسَعُهُ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ. قَالَ: (وَاسْتِمَاعُ الْمَلَاهِي حَرَامٌ) كَالضَّرْبِ بِالْقَضِيبِ وَالدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اسْتِمَاعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 وَيُكْرَهُ تَعْشِيرُ الْمُصْحَفِ وَنَقْطُهُ، وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَتِهِ، وَلَا بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسْجِدِ، وَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ.   [الاختيار لتعليل المختار] صَوْتِ الْمَلَاهِي مَعْصِيَةٌ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهَا فِسْقٌ وَالتَّلَذُّذُ بِهَا مِنَ الْكُفْرِ» . الْحَدِيثُ خُرِّجَ مَخْرَجَ التَّشْدِيدِ وَتَغْلِيظِ الذَّنْبِ، فَإِنْ سَمِعَهُ بَغْتَةً يَكُونُ مَعْذُورًا، وَيَجِبُ أَنْ يَجْتَهِدَ أَنْ لَا يَسْمَعَهُ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لِئَلَّا يَسْمَعَ صَوْتَ الشَّبَابَةِ» ، وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ: لَا بَأْسَ بِالدُّفِّ فِي الْعُرْسِ لِيَشْتَهِرَ وَيُعْلَنَ النِّكَاحُ. وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ أَيُكْرَهُ الدُّفُّ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ تَضْرِبُهُ الْمَرْأَةُ لِلصَّبِيِّ فِي غَيْرِ فِسْقٍ؛ قَالَ: لَا، فَأَمَّا الَّذِي يَجِيءُ مِنْهُ الْفَاحِشُ لِلْغِنَاءِ فَإِنِّي أَكْرَهُهُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِي دَارٍ يُسْمَعُ مِنْهَا صَوْتُ الْمَزَامِيرِ وَالْمَعَازِفِ أَدْخُلُ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ، وَلَوْ لَمْ يَجُزِ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِذَنٍ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ إِقَامَةِ هَذَا الْفَرْضِ. رَجُلٌ أَظْهَرَ الْفِسْقَ فِي دَارِهِ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَفَّ عَنْهُ وَإِلَّا إِنْ شَاءَ حَبَسَهُ أَوْ ضَرَبَهُ سِيَاطًا، وَإِنْ شَاءَ أَزْعَجَهُ عَنْ دَارِهِ. وَمَنْ رَأَى مُنْكَرًا وَهُوَ مِمَّنْ يَرْتَكِبُهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْهَى عَنْهُ، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْمُنْكِرِ وَالنَّهْيُ عَنْهُ، فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَهُمَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْآخَرُ؛ وَالْمُغَنِّي وَالْقَوَّالُ وَالنَّائِحَةُ إِنْ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ شَرْطٍ يُبَاحُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِشَرْطٍ لَا يُبَاحُ لِأَنَّهُ أَجْرٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ تَعْشِيرُ الْمُصْحَفِ وَنَقْطُهُ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: جَرِّدُوا الْمَصَاحِفَ، وَيُرْوَى: جَرِّدُوا الْقُرْآنَ، وَالنَّقْطُ وَالتَّعْشِيرُ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ مَنْهَيًّا عَنْهُ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِتَحْلِيَتِهِ) لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهُ. (وَلَا بَأْسَ بِنَقْشِ الْمَسْجِدِ) وَقِيلَ هُوَ قُرْبَةٌ حَسَنَةٌ، وَقِيلَ مَكْرُوهٌ؛ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لَهُ. وَأَمَّا التَّجْصِيصُ فَحَسَنٌ لِأَنَّهُ إِحْكَامٌ لِلْبِنَاءِ، وَيُكْرَهُ لِلزِّينَةِ عَلَى الْمِحْرَابِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَغْلِ قَلْبِ الْمُصَلِّي بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، إِذَا جَعَلَ الْبَيَاضَ فَوْقَ السَّوَادِ أَوْ بِالْعَكْسِ لِلنَّقْشِ لَا بَأْسَ بِهِ إِذَا فَعَلَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَلَا يُسْتَحْسَنُ مَنْ مَالِ الْوَقْفِ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ، وَتُكَرَهُ الْخِيَاطَةُ وَكُلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ مَا بُنِيَ لِذَلِكَ وَلَا وُقِفَ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] . وَالْجُلُوسُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ لِلتَّعْزِيَةِ مَكْرُوهٌ، وَقَدْ رُخِّصَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ، وَلَوْ جَلَسَ لِلْعِلْمِ أَوِ النَّاسِخِ يَكْتُبُ فِي الْمَسْجِدِ لَا بَأْسَ بِهِ إِنْ كَانَ حِسْبَةً، وَيُكْرَهُ بِالْأَجْرِ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَكَانًا آخَرَ وَكَانُوا يَكْرَهُونَ غَلْقَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي زَمَانِنَا فِي غَيْرِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ لِفَسَادِ أَهْلِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَنُ عَلَى مَتَاعِ الْمَسْجِدِ. قَالَ: (وَلَا بِأَسَ بِدُخُولِ الذِّمِّيِّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ) لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْزَلَ وَفْدَ ثَقِيفٍ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانُوا كُفَّارًا؛ وَقَالَ: لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ نَجَسِهِمْ شَيْءٌ» . وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ مُسْتَوْلِينَ أَوْ طَائِفِينَ عُرَاةً كَمَا كَانَتْ عَادَتُهُمْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 وَالسُّنَّةُ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبْطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالشَّارِبِ، وَقَصُّهُ أَحْسَنُ   [الاختيار لتعليل المختار] [فَصْلٌ فِي آداب للمؤمن ينبغي أن يحافظ عليها] فَصْلٌ (وَالسُّنَّةُ: تَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَالشَّارِبِ، وَقَصُّهُ أَحْسَنُ) وَهَذِهِ مِنْ سُنَنِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه، وَفَعَلَهَا نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمَرَ بِهَا، وَقِيلَ أَوَّلُ مَنْ قَصَّ الشَّارِبَ وَاخْتَتَنَ وَقَلَّمَ الْأَظْفَارَ وَرَأَى الشَّيْبَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْآثَارِ: قَصُّ الشَّارِبِ حَسَنٌ، وَهُوَ أَنْ تَأْخُذَ حَتَّى يَنْتَقِصَ عَنِ الْإِطَارِ وَهُوَ الطَّرَفُ الْأَعْلَى مِنَ الشَّفَةِ الْعُلْيَا. قَالَ: وَالْحَلْقُ سُنَّةٌ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنَ الْقَصِّ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَحْفُوا الشَّارِبَ وَأَعْفُوا اللِّحَى» ؛ وَالْإِحْفَاءُ الِاسْتِئْصَالُ، وَإِعْفَاءُ اللِّحَى، قَالَ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: تَرْكُهَا حَتَّى تَكَثَّ وَتَكْثُرَ وَالتَّقْصِيرُ فِيهَا سُنَّةٌ، وَهُوَ أَنْ يَقْبِضَ الرَّجُلُ لِحْيَتَهُ فَمَا زَادَ عَلَى قَبْضَتِهِ قَطَعَهُ لِأَنَّ اللِّحْيَةَ زِينَةٌ وَكَثْرَتَهَا مِنْ كَمَالِ الزِّينَةِ وَطُولَهَا الْفَاحِشَ خِلَافُ السُّنَّةِ. وَالسُّنَّةُ النَّتْفُ فِي الْإِبِطِ وَلَا بَأْسَ بِالْحَلْقِ، وَيَبْتَدِئُ فِي حَلْقِ الْعَانَةِ مِنْ تَحْتِ السُّرَّةِ؛ وَإِذَا قَصَّ أَظْفَارَهُ أَوْ حَلَقَ شَعْرَهُ يَنْبَغِي أَنْ يَدْفِنَهُ؛ قَالَ تَعَالَى {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 25] {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 26] وَإِنْ أَلْقَاهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَيُكَرَهُ إِلْقَاؤُهُ فِي الْكَنِيفِ وَالْمُغْتَسَلِ، قَالُوا: لِأَنَّهُ يُورِثُ الْمَرَضَ. وَتَوْفِيرُ الْأَظْفَارِ وَالشَّارِبِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ، وَالْأَظَافِيرُ سِلَاحٌ عِنْدَ عَدَمِ السِّلَاحِ. وَالْخِتَانُ لِلرِّجَالِ سُنَّةٌ وَهُوَ مِنَ الْفِطْرَةِ، وَهُوَ لِلنِّسَاءِ مَكْرُمَةٌ، فَلَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ مِصْرٍ عَلَى تَرْكِ الْخِتَانِ قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَخَصَائِصِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهِ، قِيلَ حَتَّى يَبْلُغَ، وَقِيلَ إِذَا بَلَغَ تِسْعَ سِنِينَ، وَقِيلَ عَشْرًا، وَقِيلَ مَتَى كَانَ يُطِيقُ أَلَمَ الْخِتَانِ خُتِنَ وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ وُلِدَ وَهُوَ يُشْبِهُ الْمَخْتُونَ لَا يُقْطَعُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ مَا يُوَارِي الْحَشَفَةَ، وَلَا بَأْسَ بِثَقْبِ أُذُنِ الْبَنَاتِ الْأَطْفَالِ لِأَنَّهُ إِيلَامٌ لِمَنْفَعَةِ الزِّينَةِ؛ وَإِيصَالُ الْأَلَمِ إِلَى الْحَيَوَانِ لِمَصْلَحَةٍ تَعَوُدُ إِلَيْهِ جَائِزٌ كَالْخِتَانِ وَالْحِجَامَةِ وَبَطِّ الْقُرْحَةِ، وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. امْرَأَةٌ حَامِلٌ اعْتَرَضَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا وَلَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ إِلَّا بِأَنْ يُقْطَعَ وَيُخَافُ عَلَى الْأُمِّ، إِنْ كَانَ مَيْتًا لَا بَأْسَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا لَا يَجُوزُ. امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَهِيَ حَامِلٌ فَاضْطَرَبَ الْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ الرَّأْيِ أَنَّهُ حَيٌّ يُشَقُّ بَطْنُهَا مِنَ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ، لِأَنَّهُ تَسْبِيبٌ إِلَى إِحْيَاءِ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ. عَنْ مُحَمَّدٍ رَجُلٌ ابْتَلَعَ دُرَّةً أَوْ دَنَانِيرَ لِرَجُلٍ وَمَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 وَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءَ إِذَا اتَّزَرَ وَغَضَّ بَصَرَهُ. فَصْلٌ تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ وَبِالرَّمْيِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَا يُشَقُّ بَطْنُهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِبْطَالُ حُرْمَةِ الْآدَمِيِّ لِصِيَانَةِ الْمَالِ. وَرَوَى الْجُرْجَانِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُشَقُّ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الظَّالِمِ الْمُتَعَدِّي. امْرَأَةٌ عَالَجَتْ فِي إِسْقَاطِ وَلَدِهَا لَا تَأْثَمُ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ. شَاةٌ دَخَلَ قَرْنُهَا فِي قِدْرٍ وَتَعَذَّرَ إِخْرَاجُهُ يَنْظُرُ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ قِيمَةً يُؤْمَرُ بِدَفْعِ قِيمَةِ الْآخَرِ فَيَمْلِكُهُ ثُمَّ يُتْلِفُ أَيُّهُمَا شَاءَ. وَيُكْرَهُ تَعْلِيمُ الْبَازِي وَغَيْرِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ بِالطَّيْرِ الْحَيِّ يَأْخُذُهُ فَيُعَذِّبُهُ، وَلَا بَأْسَ بِتَعْلِيمِهِ بِالْمَذْبُوحِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِذَا اتَّزَرَ وَغَضَّ بَصَرَهُ) لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى النَّظَافَةِ وَالزِّينَةِ وَتَوَارَثَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَغَمْزُ الْأَعْضَاءِ فِي الْحَمَّامِ مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ عَادَةُ الْمُتْرَفِينَ وَالْمُتَكَبِّرِينَ إِلَّا مِنْ عُذْرِ أَلَمٍ أَوْ تَعَبٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَيُكْرَهُ الْقُعُودُ عَلَى الْقُبُورِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْهُ. وَيُكَرَهُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْهِلَالِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ تَعْظِيمًا لَهُ. أَمَّا إِذَا أَشَارَ إِلَيْهِ لِيُرِيَهُ صَاحِبَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ. وَلَا يُحْمَلُ الْخَمْرُ إِلَى الْخَلِّ وَيُحْمَلُ الْخَلُّ إِلَيْهَا. وَلَا تُحْمَلُ الْجِيفَةُ إِلَى الْهِرَّةِ وَتُحْمَلُ الْهِرَّةُ إِلَيْهَا. وَلَا يُحْمَلُ سِرَاجُ الْمَسْجِدِ إِلَى بَيْتِهِ، وَلَا بَأْسَ بِحَمْلِهَا مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْمَسْجِدِ. وَلَا يَقُودُ أَبَاهُ النَّصْرَانِيَّ إِلَى الْبَيْعَةِ وَيَقُودُهُ مِنَ الْبَيْعَةِ إِلَى الْبَيْتِ. وَتُسْتَحَبُّ الْقَيْلُولَةُ وَذَلِكَ بَيْنَ الْمُنْجَلَيْنِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقِيلُ» . رَجُلٌ يَخْتَلِفُ إِلَى أَهْلِ الظُّلْمِ وَالشَّرِّ لِيَدْفَعَ عَنْهُ ظُلْمَهُ وَشَرَّهُ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّاسَ يَظُنُّونَ أَنَّهُ يَرْضَى بِأَمْرِهِ، فَيَكُونُ مَذَلَّةً لِأَهْلِ الْحَقِّ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا لَا بَأْسَ بِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فَصْلٌ فِي السَّبْقُ وَالرَّمْيُ] فَصْلٌ (تَجُوزُ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ وَبِالرَّمْيِ) ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «لَا سَبْقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ» . وَالْمُرَادُ بِالْخُفِّ الْإِبِلُ، وَبِالنَّصْلِ الرَّمْيُ، وَبِالْحَافِرِ الْفَرَسُ وَالْبَغْلُ وَالْحِمَارُ. وَعَنِ الزُّهْرِيُّ قَالَ: كَانَتِ الْمُسَابَقَةُ بَيْنَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ وَالْأَرْجُلِ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْجِهَادِ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَكُلُّ مَا هُوَ مِنْ أَسْبَابِ الْجِهَادِ فَتَعَلُّمُهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ جُعْلٌ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ ثَالِثٍ لِأَسْبَقِهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ شُرِطَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ قِمَارٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ بِفَرَسٍ كُفْءٍ لِفَرَسَيْهِمَا يُتَوَهَّمُ سَبْقُهُ لَهُمَا إِنْ سَبَقَهُمَا أَخَذَ مِنْهُمَا، وَإِنْ سَبَقَاهُ لَمْ يُعْطِهِمَا، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا أَيُّهُمَا سَبَقَ أَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إِذَا اخْتَلَفَ فَقِيهَانِ فِي مَسْأَلَةٍ وَأَرَادَا الرُّجُوعَ إِلَى شَيْخٍ وَجَعَلَا عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا.   [الاختيار لتعليل المختار] «وَكَانَتِ الْعَضْبَاءُ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى قَعُودٍ فَسَبَقَهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مَا رَفَعَ اللَّهُ شَيْئًا إِلَّا وَضَعَهُ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «تَسَابَقَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَسَبَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَصَلَّى أَبُو بَكْرِ وَثَلَّثَ عُمَرُ» . وَعَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحْضُرُ الْمَلَائِكَةُ شَيْئًا مِنَ الْمَلَاهِي سِوَى النِّصَالِ وَالرِّهَانِ» أَيِ الرَّمْيِ وَالْمُسَابَقَةِ. قَالَ: (فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ جُعْلٌ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ ثَالِثٍ لِأَسْبَقِهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ) ، وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ سَبَقَتْنِي أَعْطَيْتُكَ كَذَا، وَإِنْ سَبَقْتُكَ لَا آخُذُ مِنْكَ شَيْئًا، أَوْ يَقُولَ الْأَمِيرُ لِجَمَاعَةِ فُرْسَانٍ مَنْ سَبَقَ مِنْكُمْ فَلَهُ كَذَا، وَإِنْ سُبِقَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ أَوْ يَقُولُ لِجَمَاعَةِ الرُّمَاةِ: مَنْ أَصَابَ الْهَدَفَ فَلَهُ كَذَا، وَإِنَّمَا جَازَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ تَحْرِيضٌ عَلَى تَعْلِيمِ آلَةِ الْحَرْبِ وَالْجِهَادِ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» ؛ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْمَالِ بِالْخَطَرِ. قَالَ: (وَإِنْ شُرِطَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ قِمَارٌ) وَإِنَّهُ حَرَامٌ (إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُحَلِّلٌ بِفَرَسٍ كُفْءٍ لِفَرَسَيْهِمَا يُتَوَهَّمُ سَبْقُهُ لَهُمَا، إِنْ سَبْقَهُمَا أَخَذَ مِنْهُمَا، وَإِنْ سَبَقَاهُ لَمْ يُعْطِهِمَا، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا أَيُّهُمَا سَبَقَ أَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ) ، وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالْمُحَلِّلِ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ قِمَارًا فَيَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَقِيلَ فِي الْمُحَلِّلِ أَنْ يَكُونَ إِنْ سَبَقَاهُ أَعْطَاهُمَا، وَإِنْ سَبْقَهُمَا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمَا وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَرَسُ الْمُحَلِّلِ مِثْلَهُمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِدْخَالِهِ بَيْنَهُمَا فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قِمَارًا. قَالَ: (وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إِذَا اخْتَلَفَ فَقِيهَانِ فِي مَسْأَلَةٍ وَأَرَادَا الرُّجُوعَ إِلَى شَيْخٍ وَجَعَلَا عَلَى ذَلِكَ جُعْلًا) لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ فِي الْأَفْرَاسِ لِمَعْنَى يَرْجِعُ إِلَى الْجِهَادِ يَجُوزُ هُنَا لِلْحَثِّ عَلَى الْجُهْدِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، لِأَنَّ الدِّينَ يَقُومُ بِالْعِلْمِ كَمَا يَقُومُ بِالْجِهَادِ. وَالْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ لِلرِّيَاضَةِ مَا لَمْ يُتْعِبْهُمَا مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالرَّمْيِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ الْجَنَّةَ ثَلَاثَةً: صَانِعَهُ وَمُنْبِلَهُ وَالرَّامِيَ بِهِ» ، رَوَاهُ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ؛ وَنَخْسُ الدَّابَّةِ وَرَكْضُهَا لِلْجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَرَضٍ صَحِيحٌ لَا بَأْسَ بِهِ، وَلِلتَّلَهِّي مَكْرُوهٌ، وَرَكْضُ الدَّابَّةِ بِتَكَلُّفٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 فَصْلٌ: فِي الْكَسْبِ   [الاختيار لتعليل المختار] لِلْعَرْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يَغُرُّ بِالْمُشْتَرِي. وَفِي الْحَدِيثِ: «تُضْرَبُ الدَّابَّةُ عَلَى النِّفَارِ وَلَا تُضْرَبُ عَلَى الْعِثَارِ» فَإِنَّ الْعِثَارَ يَكُونُ مِنْ سُوءِ إِمْسَاكِ الرَّاكِبِ اللِّجَامَ؛ وَالنِّفَارُ مِنْ سُوءِ خُلُقِ الدَّابَّةِ فَتُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: لَا تَخْصِيَنَّ فَرَسًا وَلَا تُجْرِيَنَّ فَرَسًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ صَهِيلَ الْفَرَسِ يُرْهِبُ الْعَدُوَّ، وَالْخَصْيُ يَمْنَعُهُ لَا أَنَّهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَيَجُوزُ شِرَاءُ الْخَصِيِّ مِنَ الْخَيْلِ وَرُكُوبُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَمَعْنَى النَّهْيِ الثَّانِي إِجْرَاءُ الْفَرْسِ فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ. [فَصْلٌ فِي الكسب] ِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ» أَيِ الْفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَوَسَّلُ إِلَى إِقَامَةِ الْفَرْضِ إِلَّا بِهِ فَكَانَ فَرْضًا لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ إِلَّا بِقُوَّةِ بَدَنِهِ، وَقُوَّةُ بَدَنِهِ بِالْقُوتِ عَادَةً وَخِلْقَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ} [الأنبياء: 8] وَتَحْصِيلُ الْقُوتِ بِالْكَسْبِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الطَّهَارَةِ إِلَى آلَةِ الِاسْتِقَاءِ وَالْآنِيَةِ، وَيَحْتَاجُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عَادَةً بِالِاكْتِسَابِ وَالرُّسُلُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانُوا يَكْتَسِبُونَ، فَآدَمُ زَرَعَ الْحِنْطَةَ وَسَقَاهَا وَحَصَدَهَا وَدَاسَهَا وَطَحَنَهَا وَعَجَنَهَا وَخَبَزَهَا وَأَكَلَهَا؛ وَنُوحٌ كَانَ نَجَّارًا، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ بَزَّازًا، وَدَاوُدُ كَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، وَسُلَيْمَانُ كَانَ يَصْنَعُ الْمَكَاتِلَ مِنَ الْخُوصِ، وَزَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا، وَنَبِيُّنَا رَعَى الْغَنَمَ، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَزَّازًا، وَعُمَرُ يَعْمَلُ فِي الْأَدِيمِ، وَعُثْمَانُ كَانَ تَاجِرًا يَجْلِبُ الطَّعَامَ فَيَبِيعُهُ، وَعَلِيٌّ كَانَ يَكْتَسِبُ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ. وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى جَمَاعَةٍ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَعَدُوا فِي الْمَسَاجِدِ أَعْيُنُهُمْ طَامِحَةٌ وَأَيْدِيهِمْ مَادَّةٌ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْمُتَوَكِّلَةَ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، يَتَمَسَّكُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] (22)) وَهُمْ بِمَعْنَاهُ وَتَأْوِيلِهِ جَاهِلُونَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَطَرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ إِنْبَاتِ الرِّزْقِ، وَلَوْ كَانَ الرِّزْقُ يَنْزِلُ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ لَمَا أُمِرْنَا بِالِاكْتِسَابِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَسْبَابِ، قَالَ تَعَالَى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] ؛ وَقَالَ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وَأَفْضَلُ أَسْبَابِ الْكَسْبِ: الْجِهَادُ ثُمَّ التِّجَارَةُ ثُمَ الزِّرَاعَةُ ثُمَّ الصِّنَاعَةُ   [الاختيار لتعليل المختار] وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا عَبْدِي حَرِّكْ يَدَكَ أُنْزِلْ عَلَيْكَ الرِّزْقَ» ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25] (25)) وَكَانَ تَعَالَى قَادِرًا أَنْ يَرْزُقَهَا مِنْ غَيْرِ هَزٍّ مِنْهَا، لَكِنْ أَمَرَهَا لِيُعَلِّمَ الْعِبَادَ أَنْ لَا يَتْرُكُوا اكْتِسَابَ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ وَنَظِيرُ هَذَا خَلْقُ الْإِنْسَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِهِ لَا مَنْ سَبَبٍ وَلَا فِي سَبَبٍ كَآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَخْلُقُ مِنْ سَبَبٍ لَا فِي سَبَبٍ كَحَوَّاءَ، وَقَدْ يَخْلُقُ فِي سَبَبٍ لَا مَنْ سَبَبٍ كَعِيسَى، وَقَدْ يَخْلُقُ مَنْ سَبَبٍ فِي سَبَبٍ كَسَائِرِ بَنِي آدَمَ؛ فَطَلَبُ الْعَبْدِ الْوَلَدَ بِالنِّكَاحِ لَا يَنْفِي كَوْنَ الْخَالِقِ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، فَكَذَلِكَ طَلَبُهُ الرِّزْقَ بِأَسْبَابِهِ لَا يَنْفِي كَوْنَ الرَّازِقِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالدَّلَائِلُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيهِ مُتَوَافِرَةٌ، وَكِتَابُنَا هَذَا يَضِيقُ عَنِ اسْتِيعَابِهَا، وَفِي هَذَا بَلَاغٌ وَمَقْنَعٌ. وَطَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ» . وَهُوَ أَقْسَامٌ: فَرْضٌ، وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِإِقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْحَلَالِ مِنَ الْحَرَامِ، وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ؛ وَمُسْتَحَبٌّ وَقُرْبَةٌ كَتَعْلِيمِ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِيُعَلِّمَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كَالْفَقِيرِ يَتَعَلَّمُ أَحْكَامَ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ لِيُعَلِّمَهَا مَنْ وَجَبَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ تَعَلُّمُ الْفَضَائِلِ وَالسُّنَنِ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَسُنَّةِ الْخِتَانِ وَنَحْوِهَا، وَمُبَاحٌ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لِلزِّينَةِ وَالْكَمَالِ؛ وَمَكْرُوهٌ وَهُوَ التَّعَلُّمُ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ تَعَلُّمَ الْكَلَامِ وَالْمُنَاظَرَةَ فِيهِ وَرَاءَ قَدْرِ الْحَاجَةِ. وَالتَّعْلِيمُ بِقَدْرِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ فَرْضٌ أَيْضًا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ عِنْدَهُ احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» ، حَتَّى قَالُوا: يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُعَلِّمَ عَبْدَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَيَفْتَرِضُ الْعُلَمَاءُ تَعْلِيمَهُ إِلَى أَنْ يَفْهَمَ الْمُتَعَلِّمُ وَيَحْفَظَهُ وَيَضْبِطَهُ، لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَةِ الْفَرَائِضِ إِلَّا بِالْحِفْظِ. وَلَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ كُلِّ مَا يُسْأَلُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُجِيبُ غَيْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ، لِأَنَّ الْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمَ فَرْضُ كِفَايَةٍ. قَالَ: (وَأَفْضَلُ أَسْبَابِ الْكَسْبِ الْجِهَادُ) لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ حُصُولِ الْكَسْبِ وَإِعْزَازِ الدِّينِ وَقَهْرِ عَدُوِّ اللَّهِ تَعَالَى (ثُمَّ التِّجَارَةُ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَثَّ عَلَيْهَا فَقَالَ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» ؛ وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّاجِرَ الصَّدُوقَ» . (ثُمَّ الزِّرَاعَةُ) وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ» ، وَقَالَ: «اطْلُبُوا الرِّزْقَ تَحْتَ خَبَايَا الْأَرْضِ» (ثُمَّ الصِّنَاعَةُ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَرَّضَ عَلَيْهَا فَقَالَ: «الْحِرْفَةُ أَمَانٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 ثُمَّ هُوَ فَرْضٌ، وَهُوَ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَمُسْتَحَبٌّ وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لِيُوَاسِيَ بِهِ فَقِيرًا، أَوْ يُجَازِيَ بِهِ قَرِيبًا وَمُبَاحٌ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّنَعُّمِ وَمَكُرُوهٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ وَالْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ. أَمَّا الْأَكْلُ فَعَلَى مَرَاتِبَ: فَرْضٌ، وَهُوَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ وَمَأْجُورٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَيَسْهُلَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ   [الاختيار لتعليل المختار] مِنَ الْفَقْرِ» ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الزَّرْعَ عَلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ نَفْعًا، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا زَرَعَ أَوْ غَرَسَ مُسْلِمٌ شَجَرَةً فَتَنَاوَلَ مِنْهَا إِنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ أَوْ طَيْرٌ إِلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» . (ثُمَّ هُوَ) أَنْوَاعٌ: (فَرْضٌ، وَهُوَ الْكَسْبُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُتَوَسَّلُ إِلَى إِقَامَةِ الْفَرْضِ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَنَفَقَةُ مَنْ يُجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، فَإِنْ تَرَكَ الِاكْتِسَابِ بَعْدَ ذَلِكَ وَسِعَهُ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافَى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» وَإِنِ اكْتَسَبَ مَا يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ، فَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ادَّخَرَ قُوتَ عِيَالِهِ سَنَةً. (وَمُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لِيُوَاسِيَ بِهِ فَقِيرًا، أَوْ يُجَازِيَ بِهِ قَرِيبًا) فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنَ التَّخَلِّي لِنَفْلِ الْعِبَادَةِ، لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّفْلِ تَخُصُّهُ وَمَنْفَعَةَ الْكَسْبِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ» ؛ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَبَاهَتِ الْعِبَادَاتُ فَقَالَتِ الصَّدَقَةُ أَنَا أَفْضَلُهَا» ؛ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «النَّاسُ عِيَالُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ» . (وَمُبَاحٌ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ لِلتَّجَمُّلِ وَالتَّنَعُّمِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُتَعَفِّفًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» . (وَمَكْرُوهٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ وَالْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ) ، فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا مُفَاخِرًا مُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ بَنِي آدَمَ خَلْقًا لَا قِوَامَ لَهُ إِلَّا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ، وَكُلٌّ مِنْهَا يَنْقَسِمُ إِلَى: مُبَاحٍ وَمَحْظُورٍ وَغَيْرِهِمَا، وَأَنَا أُبَيِّنُهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. (أَمَّا الْأَكْلُ فَعَلَى مَرَاتِبَ: فَرْضٌ، وَهُوَ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الْهَلَاكُ) لِأَنَّهُ لِإِبْقَاءِ الْبِنْيَةِ، إِذْ لَا بَقَاءَ لَهَا بِدُونِهِ وَبِهِ يُتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ عَلَى مَا مَرَّ وَيُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ لِيُؤْجِرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى اللُّقْمَةَ يَرْفَعُهَا الْعَبْدُ إِلَى فِيهِ» . فَإِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ حَتَّى هَلَكَ فَقَدْ عَصَى، لِأَنَّ فِيهِ إِلْقَاءَ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ. قَالَ (وَمَأْجُورٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنَ الصَّلَاةِ قَائِمًا وَيَسْهُلَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 وَمُبَاحٌ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الشِّبَعِ لِتَزْدَادَ قُوَّةُ الْبَدَنِ؛ وَحَرَامٌ، وَهُوَ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ إِلَّا إِذَا قَصَدَ التَّقَوِّي عَلَى صَوْمِ الْغَدِ أَوْ لِئَلَّا يَسْتَحِيَ الضَّيْفُ؛ وَلَا تَجُوزُ الرِّيَاضَةُ بِتَقْلِيلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَضْعُفَ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ» . وَلِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِمَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ طَاعَةٌ. وَسُئِلَ أَبُو ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: الصَّلَاةُ وَأَكْلُ الْخُبْزِ إِشَارَةً إِلَى مَا قُلْنَا. قَالَ: (وَمُبَاحٌ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الشِّبَعِ لِتَزْدَادَ قُوَّةُ الْبَدَنِ) وَلَا أَجْرَ فِيهِ وَلَا وِزْرَ، وَيُحَاسَبُ عَلَيْهِ حِسَابًا يَسِيرًا إِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ، فَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُتِيَ بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَتُحَاسَبُونَ فِي هَذَا) فَرَفَعَهُ عُمَرُ وَرَفَضَهُ وَقَالَ: أَفِي هَذَا نُحَاسَبُ؛ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إِي وَاللَّهِ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَتُحَاسَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَالْمَاءِ الْحَارِّ إِلَّا خِرْقَةً تَسْتُرُ بِهَا عَوْرَتَكَ، وَكِسْرَةَ خُبْزٍ تَرُدُّ بِهَا جَوْعَتَكَ، وَشَرْبَةَ مَاءٍ تُطِفِئُ بِهَا عَطَشَكَ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَكْفِي ابْنَ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ وَلَا يُلَامُ عَلَى كَفَافٍ» . قَالَ: (وَحَرَامٌ، وَهُوَ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ) لِأَنَّهُ إِضَاعَةٌ لِلْمَالِ وَإِمْرَاضٌ لِلنَّفْسِ وَلِأَنَّهُ تَبْذِيرٌ وَإِسْرَافٌ؛ وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً أَشَّرَ مِنَ الْبَطْنِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» . وَتَجَشَّأَ رَجُلٌ فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «نَحِّ عَنَّا جُشَاكَ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا» . وَقِيلَ لِعُمْرَ: أَلَا تَتَّخِذُ جَوَارِشَ؛ فَقَالَ: وَمَا يَكُونُ الْجَوَارِشُ؛ قَالُوا: هَاضُومًا يَهْضِمُ الطَّعَامَ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَ يَأْكَلُ الْمُسْلِمُ فَوْقَ الشِّبَعِ؟ . قَالَ: (إِلَّا إِذَا قَصَدَ التَّقَوِّي عَلَى صَوْمِ الْغَدِ) لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً (أَوْ لِئَلَّا يَسْتَحِيَ الضَّيْفُ) لِأَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ وَالضَّيْفُ لَمْ يَشْبَعْ رُبَّمَا اسْتَحَى فَلَا يَأْكُلُ حَيَاءً وَخَجَلًا، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ فَوْقَ الشِّبَعِ لِئَلَّا يَكُونَ مِمَّنْ أَسَاءَ الْقِرَى وَهُوَ مَذْمُومٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ الرِّيَاضَةُ بِتَقْلِيلِ الْأَكْلِ حَتَّى يَضْعُفَ عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ) . قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ نَفْسَكَ مَطِيَّتُكَ فَارْفُقْ بِهَا» . وَلَيْسَ مِنَ الرِّفْقِ أَنْ يُجِيعَهَا وَيُذِيبَهَا، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْعِبَادَةِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا مَا يُفْضِي إِلَيْهِ، فَأَمَّا تَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ فَهُوَ مُبَاحٌ وَفِيهِ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَبِهِ يَصِيرُ الطَّعَامُ مُشْتَهًى، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إِهْلَاكٌ لِلنَّفْسِ؛ وَكَذَا الشَّابُّ الَّذِي يَخَافُ الشَّبَقَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الْأَكْلِ لِيَكْسِرَ شَهْوَتَهُ بِالْجُوعِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ عَلَى مَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» . قَالَ: (وَمَنِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيِّتَةِ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 أَوْ صَامَ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ؛ وَمَنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّدَاوِي حَتَى مَاتَ لَمْ يَأْثَمْ وَلَا بَأْسَ بِالتَّفَكُّهِ بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ، وَتَرْكُهُ أَفْضَلُ، وَاتِّخَاذُ أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ وَالْبَاجَاتِ وَوَضْعُ الْخُبْزِ عَلَى الْمَائِدَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْحَاجَةِ سَرَفٌ، وَوَضْعُ الْمَمْلَحَةِ عَلَى الْخُبْزِ، وَمَسْحُ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِينِ بِهِ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ يُتْرَكُ الْمِلْحُ عَلَى الْخُبْزِ، وَسُنَنُ الطَّعَامِ الْبَسْمَلَةُ فِي أَوَّلِهِ، وَالْحَمْدَلَةُ فِي آخِرِهِ   [الاختيار لتعليل المختار] أَوْ صَامَ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ نَفْسَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهُ إِلَّا بِأَكْلٍ، وَالْمَيْتَةُ حَالَةَ الْمَخْمَصَةِ إِمَّا حَلَالٌ أَوْ مَرْفُوعُ الْإِثْمِ فَلَا يَجُوزُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إِذَا تَعَيَّنَ لِإِحْيَاءِ النَّفْسِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَسْرُوقٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِذَا كَانَ يَأْثَمُ بِتَرْكِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَمَا ظَنُّكَ بِتَرْكِ الذَّبِيحَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْحَلَالَاتِ حَتَّى يَمُوتَ جُوعًا. قَالَ: (وَمَنِ امْتَنَعَ مِنَ التَّدَاوِي حَتَّى مَاتَ لَمْ يَأْثَمْ) لِأَنَّهُ لَا يَقِينَ بِأَنَّ هَذَا الدَّوَاءَ يَشْفِيهِ وَلَعَلَّهُ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالتَّفَكُّهِ بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] . قَالَ: (وَتَرْكُهُ أَفْضَلٌ) لِئَلَّا تَنْقُصَ دَرَجَتُهُ، وَيَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] . قَالَ: (وَاتِّخَاذُ أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ وَالْبَاجَاتِ، وَوَضْعُ الْخُبْزِ عَلَى الْمَائِدَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْحَاجَةِ سَرَفٌ) لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَدَّهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَدْعُوَ الْأَضْيَافَ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ حَتَّى يَأْتُوا عَلَى آخِرِهِ لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَةً. وَمِنِ الْإِسْرَافِ أَنْ يَأْكُلَ وَسَطَ الْخُبْزِ وَيَدَعَ حَوَاشِيَهُ، أَوْ يَأْكُلَ مَا انْتَفَخَ مِنْهُ وَيَتْرُكَ الْبَاقِي لِأَنَّ فِيهِ نَوْعَ تَجَبُّرٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ يَتَنَاوَلُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا إِذَا اخْتَارَ رَغِيفًا دُونَ رَغِيفٍ. قَالَ: (وَوَضْعُ الْمَمْلَحَةِ عَلَى الْخُبْزِ، وَمَسْحُ الْأَصَابِعِ وَالسِّكِّينِ بِهِ مَكْرُوهٌ وَلَكِنْ يُتْرَكُ الْمِلْحُ عَلَى الْخُبْزِ) لِأَنَّ غَيْرَهُ يَسْتَقْذِرُ ذَلِكَ وَفِيهِ إِهَانَةٌ بِالْخُبْزِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِإِكْرَامِهِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَكْرِمُوا الْخُبْزَ فَإِنَّهَ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» ؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا اسْتَخَفَّ قَوْمٌ بِالْخُبْزِ إِلَّا ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ» . وَمِنْ إِكْرَامِ الْخُبْزِ أَنْ لَا يَنْتَظِرُوا الْإِدَامَ إِذَا حَضَرَ. وَمِنَ الْإِسْرَافِ إِذَا سَقَطَتْ مِنْ يَدِهِ لُقْمَةٌ أَنْ يَتْرُكَهَا. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلْقِ عَنْهَا الْأَذَى ثُمَّ كُلْهَا» . قَالَ: (وَسُنَنُ الطَّعَامِ: الْبَسْمَلَةُ فِي أَوَّلِهِ وَالْحَمْدَلَةُ فِي آخِرِهِ) ، فَإِنْ نَسِيَ الْبَسْمَلَةَ فِي أَوَّلِهِ فَلْيَقُلْ إِذَا ذَكَرَ: بِاسْمِ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ، بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ، وَهُوَ شُكْرُ الْمُؤْمِنِ إِذَا رُزِقَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْضَى مِنْ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ إِذَا قُدِّمَ إِلَيْهِ طَعَامٌ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ فِي أَوَّلِهِ وَيَحْمَدَ اللَّهَ فِي آخِرِهِ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَيُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُ الْأَوْعِيَةِ لِنَقْلِ الْمَاءِ إِلَى الْبُيُوتِ، وَاتِّخَاذُهَا مِنَ الْخَزَفِ أَفْضَلُ، وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ بِلَا سَرَفٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، وَمَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ حَتَّى عَجَزَ عَنْ طَلَبِ الْقُوتِ فَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَنْ يُطْعِمُهُ فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ لَزِمَهُ السُّؤَالُ، فَإِنْ تَرَكَ السُّؤَالَ حَتَى مَاتَ أَثِمَ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ) ؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوُضُوءُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ» . وَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ هُنَا غَسْلُ الْيَدَيْنِ، وَالْأَدَبُ أَنْ يَبْدَأَ بِالشَّبَابِ قَبْلَهُ وَبِالشُّيُوخِ بَعْدَهُ، وَلَا يَمْسَحَ يَدَهُ قَبْلَ الطَّعَامِ بِالْمَنْدِيلِ لِيَكُونَ أَثَرُ الْغَسْلِ بَاقِيًا وَقْتَ الْأَكْلِ، وَيَمْسَحَهَا بَعْدَهُ لِيَزُولَ أَثَرُ الطَّعَامِ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُ الْأَوْعِيَةِ لِنَقْلِ الْمَاءِ إِلَى الْبُيُوتِ) لِحَاجَةِ الْوُضُوءِ وَالشُّرْبِ لِلنِّسَاءِ لِأَنَّهُنَّ عَوْرَةٌ وَقَدْ نُهِينَ عَنِ الْخُرُوجِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] فَيَلْزَمُ الزَّوْجَ ذَلِكَ كَسَائِرِ حَاجَاتِهَا. قَالَ: (وَاتِّخَاذُهَا مِنَ الْخَزَفِ أَفْضَلُ) إِذْ لَا سَرَفَ فِيهِ وَلَا مَخْيَلَةَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنِ اتَّخَذَ أَوَانِيَ بَيْتِهِ خَزَفًا زَارَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» ، وَيَجُوزُ اتِّخَاذُهَا مِنْ نُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ شَبَهٍ أَوْ أَدَمٍ، وَلَا يَجُوزُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ بِلَا سَرَفٍ وَلَا تَقْتِيرٍ) وَلَا يَتَكَلَّفُ لِتَحْصِيلِ جَمِيعِ شَهَوَاتِهِمْ، وَلَا يَمْنَعُهُمْ جَمِيعَهَا وَيَتَوَسَّطُ، قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] (67)) وَلَا يَسْتَدِيمُ الشِّبَعَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا» . فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْإِفْسَادُ لِمَا اكْتَسَبَهُ وَالسَّرَفُ وَالْمَخْيَلَةُ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص: 77] وَقَالَ: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205] (205)) وَقَالَ: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] (31)) وَقَالَ: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء: 27] . قَالَ: (وَمَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ حَتَّى عَجَزَ عَنْ طَلَبِ الْقُوتِ فَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ أَنْ يُطْعِمَهُ أَوْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مَنْ يُطْعِمُهُ) صَوْنًا لَهُ عَنِ الْهَلَاكِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ اشْتَرَكُوا فِي الْإِثْمِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا آمَنَ بِاللَّهِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ إِلَى جَنْبِهِ طَاوٍ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ ضَيَاعًا بَيْنَ أَقْوَامٍ أَغْنِيَاءَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ» وَإِنْ أَطْعَمَهُ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَكَذَا إِذَا رَأَى لَقِيطًا أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ أَوْ أَعْمَى كَادَ أَنْ يَتَرَدَّى فِي الْبِئْرِ وَصَارَ هَذَا كَإِنْجَاءِ الْغَرِيقِ. قَالَ: (فَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْكَسْبِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ) لِمَا بَيَّنَّا (وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ لَزِمَهُ السُّؤَالُ) فَإِنَّهُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ لَكِنْ لَا يَحِلُّ إِلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ» ، (فَإِنْ تَرَكَ السُّؤَالَ حَتَّى مَاتَ أَثِمَ) لِأَنَّهُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَإِنَّ السُّؤَالَ يُوصِلُهُ إِلَى مَا يُقَوِّمُ بِهِ نَفْسَهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 وَمَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ السُّؤَالُ، وَيُكْرَهُ إِعْطَاءُ سُؤَّالِ الْمَسَاجِدِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَخَطَّى النَّاسَ وَلَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّينَ لَا يُكْرَهُ؛ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّةِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ، إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِ حَلَالٌ، وَوَلِيمَةُ الْعُرْسِ سُنَّةٌ، وَيَنْبَغِي لِمَنْ دُعِيَ أَنْ يُجِيبَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَثِمَ، وَلَا يَرْفَعُ مِنْهَا شَيْئًا، وَلَا يُعْطِي سَائِلًا إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا؛ وَمَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ عَلَيْهَا لَهْوٌ إِنْ عَلِمَ بِهِ لَا يُجِيبُ،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْكَسْبِ، وَلَا ذُلَّ فِي السُّؤَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مُوسَى وَصَاحِبِهِ أَنَّهُمَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا. «وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: " هَلْ عِنْدَكَ شَيْءٌ فَآكُلَهُ؟» . قَالَ: (وَمَنْ كَانَ لَهُ قُوتُ يَوْمِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ السُّؤَالُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا يَسْأَلُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ خُدُوشٌ أَوْ خُمُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ فِي وَجْهِهِ» وَلِأَنَّهُ أَذَلَّ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ حَرَامٌ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» . قَالَ: (وَيُكَرَهُ إِعْطَاءُ سُؤَّالِ الْمَسَاجِدِ) فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَقُمْ بَغِيضُ اللَّهِ، فَيَقُومُ سُؤَّالُ الْمَسْجِدِ. (وَإِنْ كَانَ لَا يَتَخَطَّى النَّاسَ وَلَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّينَ لَا يُكْرَهُ) وَهُوَ الْمُخْتَارُ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْأَلُونَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَصَدَّقَ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلَاةِ فَمَدَحَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] وَإِنْ كَانَ يَمُرُّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي وَيَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يُكْرَهُ، لِأَنَّهُ إِعَانَةٌ عَلَى أَذَى النَّاسِ حَتَّى قِيلَ: هَذَا فِلْسٌ يُكَفِّرُهُ سَبْعُونَ فِلْسًا. قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ هَدِيَّةِ أُمَرَاءِ الْجَوْرِ) لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي مَالِهِمُ الْحُرْمَةُ. قَالَ: (إِلَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِ حَلَالٌ) بِأَنْ كَانَ صَاحِبَ تِجَارَةٍ أَوْ زَرْعٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ حَرَامٍ وَالْمُعْتَبَرُ الْغَالِبُ، وَكَذَلِكَ أَكَلُ طَعَامِهِمْ. قَالَ: (وَوَلِيمَةُ الْعُرْسِ سُنَّةٌ) قَدِيمَةٌ وَفِيهَا مَثُوبَةٌ عَظِيمَةٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» ، وَهِيَ إِذَا بَنَى الرَّجُلُ بِامْرَأَتِهِ أَنْ يَدْعُوَ الْجِيرَانَ وَالْأَقْرِبَاءَ وَالْأَصْدِقَاءَ وَيَذْبَحَ لَهُمْ وَيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا. (وَيَنْبَغِي لِمَنْ دُعِيَ أَنْ يُجِيبَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَثِمَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فَإِنْ كَانَ صَائِمًا أَجَابَ وَدَعَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا أَكَلَ وَدَعَا، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ أَثِمَ وَجَفَا لِأَنَّهُ اسْتَهْزَأَ بِالْمُضَيِّفِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ» . قَالَ: (وَلَا يَرْفَعُ مِنْهَا شَيْئًا وَلَا يُعْطِي سَائِلًا إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا) لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ دُونَ الرَّفْعِ وَالْإِعْطَاءِ. قَالَ: (وَمَنْ دُعِيَ إِلَى وَلِيمَةٍ عَلَيْهَا لَهْوٌ إِنْ عَلِمَ بِهِ لَا يُجِيبُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الْإِجَابَةِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى حَضَرَ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِمْ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَإِنْ كَانَ اللَّهْوُ عَلَى الْمَائِدَةِ لَا يَقْعُدُ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَائِدَةِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَدًى بِهِ لَا يَقْعُدُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ فَلَا بَأْسَ بِالْقُعُودِ. فَصْلٌ الْكِسْوَةُ: مِنْهَا فَرْضٌ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقُطْنِ أَوِ الْكَتَّانِ بَيْنَ النَّفِيسِ وَالدَّنِيءِ وَمُسْتَحَبٌّ، وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، وَأَخْذُ الزِّينَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] (وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ حَتَّى حَضَرَ إِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِمْ فَعَلَ) لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ (وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَإِنْ كَانَ اللَّهْوُ عَلَى الْمَائِدَةِ لَا يَقْعُدُ) لِأَنَّ اسْتِمَاعَ اللَّهْوِ حَرَامٌ وَالْإِجَابَةَ سُنَّةٌ، وَالِامْتِنَاعُ عَنِ الْحَرَامِ أَوْلَى مِنَ الْإِتْيَانِ بِالسُّنَّةِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَائِدَةِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَدًى بِهِ لَا يَقْعُدُ) لِأَنَّ فِيهِ شَيْنَ الدِّينِ وَفَتْحَ بَابِ الْمَعْصِيَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: ابْتُلِيتُ بِهَذَا مَرَّةً فَصَبَرْتُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُقْتَدًى بِهِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدًى بِهِ فَلَا بَأْسَ بِالْقُعُودِ) وَصَارَ كَتَشْيِيعِ الْجِنَازَةِ إِذَا كَانَ مَعَهَا نِيَاحَةٌ لَا يَتْرُكُ التَّشْيِيعَ وَالصَّلَاةَ عَلَيْهَا لِمَا عِنْدَهَا مِنَ النِّيَاحَةِ كَذَا هُنَا. [فَصْلٌ فِي الكسوة] فَصْلٌ (الْكِسْوَةُ: مِنْهَا فَرْضٌ، وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَيَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ) قَالَ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] : أَيْ مَا يَسْتُرُ عَوْرَاتِكُمْ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ إِلَّا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَخَلْقُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فَيَحْتَاجُ إِلَى دَفْعِ ذَلِكَ بِالْكِسْوَةِ فَصَارَ نَظِيرَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَكَانِ فَرْضًا. (وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقُطْنِ أَوِ الْكَتَّانِ) هُوَ الْمَأْثُورُ وَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ الْخُيَلَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ (بَيْنَ النَّفِيسِ وَالدَّنِيءِ) لِئَلَّا يُحْتَقَرَ فِي الدَّنِيءِ، وَيَأْخُذَهُ الْخُيَلَاءُ فِي النَّفِيسِ. وَعَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الشُّهْرَتَيْنِ» وَهُوَ مَا كَانَ فِي نِهَايَةِ النَّفَاسَةِ، وَمَا كَانَ فِي نِهَايَةِ الْخَسَاسَةِ، وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا؛ وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبَسَ الْغَسِيلَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ وَلَا يَتَكَلَّفَ الْجَدِيدَ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ» وَهِيَ رَثَاثَةُ الْهَيْئَةِ، وَمُرَادُهُ التَّوَاضُعُ فِي اللِّبَاسِ وَتَرْكُ التَّبَجُّحِ بِهِ. (وَمُسْتَحَبٌّ: وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَأَخْذُ الزِّينَةِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 وَمُبَاحٌ، وَهُوَ الثَّوْبُ الْجَمِيلِ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ وَمَكْرُوهٌ، وَهُوَ اللُّبْسُ لِلتَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءَ وَيُسْتَحِبُّ الْأَبْيَضُ مِنَ الثِّيَابِ، وَيُكْرَهُ الْأَحْمَرُ وَالْمُعَصْفَرُ وَالسُّنَّةُ: إِرْخَاءُ طَرَفِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُجَدِّدَ لَفَّهَا نَقَضَهَا كَمَا لَفَّهَا. فَصْلٌ الْكَلَامُ مِنْهُ مَا يُوجِبُ أَجْرًا كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَعِلْمِ الْفِقْهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعَمِهِ عَلَى عَبْدِهِ» . (وَمُبَاحٌ: وَهُوَ الثَّوْبُ الْجَمِيلُ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ فِي الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَمَجَامِعِ النَّاسِ) فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَهُ جُبَّةُ فَنْكٍ يَلْبَسُهَا يَوْمَ عِيدٍ» «وَأَهْدَى لَهُ الْمُقَوْقِسُ قَبَاءً مَكْفُوفًا بِالْحَرِيرِ كَانَ يَلْبَسُهُ لِلْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَلِقَاءِ الْوُفُودِ» إِلَّا أَنَّ فِي تَكَلُّفِ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ صَلَفًا وَمَشَقَّةً، وَرُبَّمَا يَغِيظُ الْمُحْتَاجِينَ فَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ أَوْلَى. (وَمَكْرُوهٌ: وَهُوَ اللُّبْسُ لِلتَّكَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ) لِمَا بَيَّنَّا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ: «كُلْ وَالْبَسْ وَاشْرَبْ مِنْ غَيْرِ مَخْيَلَةٍ» . (وَيُسْتَحَبُّ الْأَبْيَضُ مِنَ الثِّيَابِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَيْرُ ثِيَابِكُمُ الْبِيضُ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الثِّيَابَ الْبِيضَ، وَإِنَّهُ خَلَقَ الْجَنَّةَ بَيْضَاءَ» . (وَيُكْرَهُ الْأَحْمَرُ وَالْمُعَصْفَرُ) وَلَا يُظَاهِرُ بَيْنَ جُبَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي الشِّتَاءِ إِذَا وَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِدُونِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَغِيظُ الْمُحْتَاجِينَ، وَفِيهِ تَجَبُّرٌ. وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَلْبَسُ إِلَّا الْخَشِنَ؛ وَاخْتِيَارُ الْخَشِنِ أَوْلَى فِي الشِّتَاءِ لِأَنَّهُ أَدْفَعُ لِلْبَرْدِ، وَاللَّيِّنِ فِي الصَّيْفِ فَإِنَّهُ أَنْشَفُ لِلْعَرَقِ؛ وَإِنْ لَبِسَ اللَّيِّنَ فِي الْوَقْتَيْنِ لَا بَأْسَ بِهِ، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] . (وَالسُّنَّةُ: إِرْخَاءُ طَرَفِ الْعِمَامَةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ) هَكَذَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ثُمَّ قِيلَ قَدْرَ شِبْرٍ، وَقِيلَ إِلَى وَسَطِ الظَّهْرِ، وَقِيلَ إِلَى مَوْضِعِ الْجُلُوسِ. (وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُجَدِّدَ لَفَّهَا نَقَضَهَا كَمَا لَفَّهَا) وَلَا يُلْقِيهَا عَلَى الْأَرْضِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، هَكَذَا نُقِلَ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فَصْلٌ فِي الكلام] فَصْلٌ (الْكَلَامُ: مِنْهُ مَا يُوجِبُ أَجْرًا كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ وَعِلْمِ الْفِقْهِ) قَالَ تَعَالَى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 وَقَدْ يَأْثَمُ بِهِ إِذَا فَعَلَهُ فِي مَجْلِسِ الْفِسْقِ وَهُوَ يَعْمَلُهُ، وَإِنْ سَبَّحَ فِيهِ لِلِاعْتِبَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَلِيَشْتَغِلُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْفِسْقِ فَحَسَنٌ وَيُكْرَهُ فِعْلُهُ لِلتَّاجِرِ عِنْدَ فَتْحِ مَتَاعِهِ، وَيُكْرَهُ التَّرْجِيعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ (وَقَدْ يَأْثَمُ بِهِ إِذَا فَعَلَهُ فِي مَجْلِسِ الْفِسْقِ وَهُوَ يَعْمَلُهُ) لِمَا فِيهِ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَالْمُخَالَفَةِ لِمُوجِبِهِ. (وَإِنْ سَبَّحَ فِيهِ لِلِاعْتِبَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَلِيَشْتَغِلُوا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْفِسْقِ فَحَسَنٌ) وَكَذَا مَنْ سَبَّحَ فِي السُّوقِ بِنِيَّةِ أَنَّ النَّاسَ غَافِلُونَ مُشْتَغِلُونَ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَهُوَ مُشْتَغِلٌ بِالتَّسْبِيحِ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ تَسْبِيحِهِ وَحْدَهُ فِي غَيْرِ السُّوقِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ذَاكِرُ اللَّهِ فِي الْغَافِلِينَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . قَالَ: (وَيُكْرَهُ فِعْلُهُ لِلتَّاجِرِ عِنْدَ فَتْحِ مَتَاعِهِ) وَكَذَلِكَ الْفَقَّاعِي عِنْدَ فَتْحِ الْفُقَّاعِ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ لِذَلِكَ ثَمَنًا، بِخِلَافِ الْغَازِي أَوِ الْعَالِمِ إِذَا كَبَّرَ عِنْدَ الْمُبَارَزَةِ وَفِي مَجْلِسِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ التَّفْخِيمَ وَالتَّعْظِيمَ وَإِشْعَارَ شَعَائِرِ الدِّينِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ التَّرْجِيعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِمَاعُ إِلَيْهِ) لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِفِعْلِ الْفَسَقَةِ حَالَ فِسْقِهِمْ وَهُوَ التَّغَنِّي وَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَلِهَذَا كُرِهَ فِي الْأَذَانِ، وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمُ» وَعَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ «كَرِهَ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالْجِنَازَةِ وَالزَّحْفِ وَالتَّذْكِيرِ» : أَيِ الْوَعْظِ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ عِنْدَ اسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ الْمُحَرَّمِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ وَجْدًا؟ . وَكَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ عِنْدَ الْقُبُورِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا يَكْرَهُهُ مُحَمَّدٌ، وَبِهِ نَأْخُذُ لِمَا فِيهِ مِنَ النَّفْعِ لِلْمَيِّتِ لِوُرُودِ الْآثَارِ بِقِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَسُورَةِ الْإِخْلَاصِ وَالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْقُبُورِ. وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ وَيَصِلُ لِحَدِيثِ الْخَثْعَمَيَّةِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْحَجِّ، وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرُ عَنْ أُمَّتِهِ» أَيْ جَعَلَ ثَوَابَهُ عَنْ أُمَّتِهِ. وَرُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكَ» «وَرَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَبِيَّهَا وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ " أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ» وَالْآثَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: لَا يَصِلُ مُتَمَسِّكًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» الْحَدِيثَ. الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا سِيقَتْ عَلَى قَوْلِهِ: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36] . {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وَمِنْهُ مَا لَا أَجْرَ فِيهِ وَلَا وِزْرَ كَقَوْلِكَ: قُمْ وَاقْعُدْ، وَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْإِثْمَ كَالْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتِيمَةِ، ثُمَّ الْكَذِبُ مَحْظُورٌ إِلَّا فِي الْقِتَالِ لِلْخُدْعَةِ، وَفِي الصُّلْحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَفِي إِرْضَاءِ الرَّجُلِ الْأَهْلَ، وَفِي دَفْعِ الظَّالِمِ عَنِ الظُّلْمِ وَيُكْرَهُ التَّعْرِيضُ بِالْكَذِبِ إِلَّا لِحَاجَةٍ؛   [الاختيار لتعليل المختار] فَيَكُونُ إِخْبَارًا عَمَّا فِي شَرِيعَتِهِمَا فَلَا يَلْزَمُنَا، كَيْفَ وَقَدْ رُوِينَا عَنْ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خِلَافُهُ؟ . قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا لِقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ لَهُمْ مَا سَعَوْا وَسُعِيَ لَهُمْ. الثَّانِي أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] أَدْخَلَ الذُّرِّيَّةَ الْجَنَّةَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. الثَّالِثُ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ هُنَا الْكَافِرُ، أَمَّا الْمُؤْمِنُ لَهُ أَجْرُ مَا سَعَى وَسُعِيَ لَهُ. الرَّابِعُ تُجْعَلُ اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى وَأَنَّهُ جَائِزٌ. قَالَ: فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ: وَأَنْ لَيْسَ عَلَى الْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْآيَةِ وَالْأَحَادِيثِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى صَحِيحٌ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ. الْخَامِسُ أَنَّهُ سَعَى فِي جَعْلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ فَيَكُونُ لَهُ مَا سَعَى عَمَلًا بِالْآيَةِ. السَّادِسُ أَنَّ السَّعْيَ أَنْوَاعٌ: مِنْهَا بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ، وَمِنْهَا بِسَبَبِ قَرَابَتِهِ، وَمِنْهَا بِصَدِيقٍ سَعَى فِي خُلَّتِهِ، وَمِنْهَا بِمَا يَسْعَى فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَأُمُورِ الدِّينِ الَّتِي يُحِبُّهُ النَّاسُ بِسَبَبِهَا فَيَدْعُونَ لَهُ وَيَجْعَلُونَ لَهُ ثَوَابَ عَمَلِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ سَعْيِهِ، فَقَدْ قُلْنَا بِمُوجِبِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْنَا. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي انْقِطَاعَ عَمَلِهِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُصُولِ ثَوَابِ عَمَلِ غَيْرِهِ إِلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ لَا يَنْفِيهِ، عَلَى أَنَّ النَّاسَ عَنْ آخِرِهِمْ قَدِ اسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ فَيَكُونُ حَسَنًا بِالْحَدِيثِ. قَالَ: (وَمِنْهُ مَا لَا أَجْرَ فِيهِ وَلَا وِزْرَ كَقَوْلِكَ: قُمْ وَاقْعُدْ وَأَكَلْتُ وَشَرِبْتُ وَنَحْوِهِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ، ثُمَّ قِيلَ لَا يُكْتَبُ لِأَنَّهُ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ وَلَا عِقَابَ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَقَدْ رَوَى عَنْ هِشَامٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَكْتُبُ إِلَّا مَا كَانَ فِيهِ أَجْرٌ أَوْ وِزْرٌ، وَقِيلَ يُكْتَبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] الْآيَةَ، ثُمَّ يُمْحَى مَا لَا جَزَاءَ فِيهِ وَيَبْقَى مَا فِيهِ جَزَاءٌ، ثُمَّ قِيلَ يُمْحَى فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ وَفِيهِمَا تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا تُمْحَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: (وَمِنْهُ مَا يُوجِبُ الْإِثْمَ كَالْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْغِيبَةِ وَالشَّتِيمَةِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ حَرَامٌ بِالنَّقْلِ وَالْعَقْلِ. (ثُمَّ الْكَذِبُ مَحْظُورٌ إِلَّا فِي الْقِتَالِ لِلْخُدْعَةِ، وَفِي الصُّلْحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَفِي إِرْضَاءِ الرَّجُلِ الْأَهْلَ، وَفِي دَفْعِ الظَّالِمِ عَنِ الظُّلْمِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَصْلُحُ الْكَذِبُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: فِي الصُّلْحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَفِي الْقِتَالِ، وَفِي إِرْضَاءِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ» وَدَفْعُ الظَّالِمِ عَنِ الظُّلْمِ مِنْ بَابِ الصُّلْحِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ التَّعْرِيضُ بِالْكَذِبِ إِلَّا لِحَاجَةٍ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 وَلَا غِيبَةَ لِظَالِمٍ يُؤْذِي النَّاسَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَلَا إِثْمَ فِي السَّعْيِ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ لِيَزْجُرَهُ وَلَا غِيبَةَ إِلَّا لِمَعْلُومِينَ، فَلَوِ اغْتَابَ أَهْلَ قَرْيَةٍ فَلَيْسَ بِغِيبَةٍ؛ وَإِذَا أَدَّى الْفَرَائِضَ وَأَحَبَّ أَنْ يَتَنَعَّمَ بِمَنْظَرٍ حَسَنٍ وَجَوَارٍ جَمِيلَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَمَنْ قَنِعَ بِأَدْنَى الْكِفَايَةِ، وَصَرَفَ الْبَاقِي إِلَى مَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَوْلَى.   [الاختيار لتعليل المختار] كَقَوْلِكَ لِرَجُلٍ كُلْ، فَيَقُولُ: أَكَلْتُ يَعْنِي أَمْسَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَصْدِهِ. وَقِيلَ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ كَذِبٌ فِي الظَّاهِرِ. قَالَ: (وَلَا غِيبَةَ لِظَالِمٍ يُؤْذِي النَّاسَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ) ؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ لِكَيْ تَحْذَرَهُ النَّاسُ» (وَلَا إِثْمَ فِي السَّعْيِ بِهِ إِلَى السُّلْطَانِ لِيَزْجُرَهُ) لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وْمَنْعِ الظُّلْمِ. قَالَ: (وَلَا غِيبَةَ إِلَّا لِمَعْلُومِينَ، فَلَوِ اغْتَابَ أَهْلَ قَرْيَةٍ فَلَيْسَ بِغِيبَةٍ) لِأَنَّ الْمُرَادَ مَجْهُولٌ فَصَارَ كَالْقَذْفِ، وَكَرِهَ مُحَمَّدٌ إِرْخَاءَ السِّتْرِ عَلَى الْبَيْتِ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَكَبُّرٍ وَفِيهِ زِينَةٌ، وَلَا بَأْسَ بِسَتْرِ حِيطَانَ الْبَيْتِ بِاللُّبُودِ وَنَحْوِهِ لِدَفْعِ الْبَرْدِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً، وَيُكْرَهُ لِلزِّينَةِ وَقَدْ مَرَّ. قَالَ: (وَإِذَا أَدَّى الْفَرَائِضَ وَأَحَبَّ أَنْ يَتَنَعَّمَ بِمَنْظَرٍ حَسَنٍ وَجِوَارٍ جَمِيلَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ) فَإِنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَسَرَّى مَارِيَةَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ مَعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْحَرَائِرِ» ، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اسْتَوْلَدَ مُحَمَّدَ ابْنَ الْحَنَفِيَّةِ مَعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنَ الْحَرَائِرِ؛ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] الْآيَةَ. قَالَ: (وَمَنْ قَنَعَ بِأَدْنَى الْكِفَايَةِ وَصَرَفَ الْبَاقِي إِلَى مَا يَنْفَعُهُ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَوْلَى) لِأَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَاعْلَمْ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَدْنَى مَا يَكْفِيهِ عَزِيمَةٌ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مِنَ التَّنَعُّمِ وَنَيْلِ اللَّذَّاتِ رُخْصَةٌ؛ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ وَلَمْ أُبْعَثْ بِالرَّهْبَانِيَّةِ الصَّعْبَةِ» ؛ وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعَةٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِي مَاذَا صَرَفَهُ؟» . وَالَّذِي يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِخِصَالٍ: مِنْهَا التَّحَرُّزُ عَنِ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ؛ وَمِنْهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ فِي أَوْقَاتِهَا بِوَاجِبَاتِهَا تَامَّةً كَمَا أَمَرَ بِهَا؛ وَمِنْهَا التَّحَرُّزُ عَنِ السُّحْتِ وَاكْتِسَابِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ؛ وَمِنْهَا التَّحَرُّزُ عَنْ ظُلْمِ كُلِّ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الْأَمْرَ فِيهِ، فَلَا نُضَيِّقُهُ عَلَيْنَا وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَظَ النَّاسَ يَوْمًا وَذَكَرَ الْقِيَامَةَ، فَرَقَّ لَهُ النَّاسُ وَبَكَوْا، فَاجْتَمَعَ عَشَرَةٌ فِي بَيْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، وَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبُو ذَرٍّ وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَالْمِقْدَادُ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَمَعْقِلُ بْنُ مُقَرِّنٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَتَرَهَّبُوا وَيَجُبُّوا مَذَاكِيرَهُمْ وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ وَيَصُومُوا الدَّهْرَ وَيَقُومُوا اللَّيْلَ وَلَا يَنَامُوا عَلَى الْفُرُشِ وَلَا يَأْكُلُوا اللَّحْمَ وَالْوَدَكَ وَلَا يَقْرَبُوا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَيَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُمْ: " أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكُمُ اتَّفَقْتُمْ عَلَى كَذَا وَكَذَا؟ قَالُوا: بَلَى وَمَا أَرَدْنَا إِلَّا خَيْرًا، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: إِنِّي لَمْ آمُرْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا وَقُومُوا وَنَامُوا، فَإِنِّي أَقُومُ وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَآكُلُ اللَّحْمَ وَالدَّسَمَ وَآتِي النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي) . ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: " مَا بَالُ أَقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ وَالطِّيبَ وَالنَّوْمَ وَشَهَوَاتِ الدُّنْيَا، أَمَا إِنِّي لَسْتُ آمُرُكُمُ أَنْ تَكُونُوا قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ وَلَا اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ، فَإِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الصَّوْمُ، وَرَهْبَانِيَّتَهُمُ الْجِهَادُ، اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا، وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَصُومُوا رَمَضَانَ، وَاسْتَقِيمُوا يُسْتَقَمْ لَكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ، شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] إِلَى قَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] {جَعَلَ} [المائدة: 97] . تَمَّ الْجُزْءُ الرَّابِعُ مِنْ " الِاخْتِيَارِ لِتَعْلِيلِ الْمُخْتَارِ " وَيَلِيهِ: الْجُزْءُ الْخَامِسُ، وَأَوَّلُهُ: كِتَابُ الصَّيْدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [حَدِيثٌ شَرِيفٌ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الصَّيْدِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ وَالسِّهَامِ الْمُحَدَّدَةِ لِمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَكْلِهِ، وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ، وَالْجَوَارِحُ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَذُو مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ،   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الصَّيْدِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الصَّيْدِ وَهُوَ مَصْدَرُ صَادَ يَصِيدُ وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْمَفْعُولِ، يُقَالُ: صَيْدُ الْأَمِيرِ، وَصَيْدٌ كَثِيرٌ، وَيُرَادُ بِهِ الْمَصْيُودُ، وَيُنْشَدُ: صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبٌ وَثَعَالِبُ وَمِثْلُهُ الْخَلْقُ وَالْعِلْمُ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَالْمَعْلُومِ. قَالَ تَعَالَى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11] أَيْ: مَخْلُوقُهُ، وَلِهَذَا قُلْنَا إِذَا قَالَ: "وَعِلْمِ اللَّهِ" لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْمُرَادَ مَعْلُومُهُ. قَالَ: (وَهُوَ جَائِزٌ بِالْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ وَالسِّهَامِ الْمُحَدَّدَةِ لِمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَكْلِهِ، وَمَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِجِلْدِهِ وَشَعْرِهِ) أَمَّا الْجَوَازُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالِي: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَقَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» وَقَوْلِهِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكْرَتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ» . قَالَ: (وَالْجَوَارِحُ ذُو نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَذُو مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ يَكْتَسِبُ بِنَابِهِ أَوْ مِخْلَبِهِ وَيَمْتَنِعُ بِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ مِنَ الْجَوَارِحِ الَّتِي تَجْرَحُ، وَقِيلَ الْكَوَاسِبُ. وَمُكَلِّبِينَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْجُرْحِ، وَكَوْنِ الْمُرْسِلِ أَوِ الرَّامِي مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَذِكْرِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ مُمْتَنِعًا، وَلَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ طَلَبِهِ، وَتَعْلِيمُ ذِي النَّابِ كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ تَرْكُ الْأَكْلِ; وَذِي الْمِخْلَبِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهِمَا الِاتِّبَاعُ إِذَا أُرْسِلَ، وَالْإِجَابَةُ إِذَا دُعِيَ.   [الاختيار لتعليل المختار] أَيْ مُسَلَّطِينَ، وَاسْمُ الْكَلْبِ لُغَةً يَنْطَلِقُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى لِلْأَسَدِ، فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِكُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ لِعُمُومِ الْآيَةِ، إِلَّا مَا كَانَ نَجِسَ الْعَيْنِ كَالْخِنْزِيرِ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ. وَلَا يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِالْأَسَدِ وَالذِّئْبِ فَإِنَّهُمَا لَا يَتَعَلَّمَانِ، وَكَذَلِكَ الدُّبُّ حَتَّى لَوْ تَعَلَّمُوا جَازَ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ابْنِ عُرْسٍ: إِذَا عُلِّمَ فَتَعَلَّمَ جَازَ. قَالَ: (وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْجُرْحِ وَكَوْنِ الْمُرْسِلِ أَوِ الرَّامِي مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا، وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ، وَأَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ مُمْتَنِعًا، وَلَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ طَلَبِهِ) أَمَّا الْجُرْحُ لِيَتَحَقَّقَ اسْمَ الْجَارِحِ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِرَاقَةِ الدَّمِ كَالذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، فَلَوْ قَتَلَهُ صَدْمًا أَوْ جَثْمًا أَوْ خَنْقًا لَمْ يُؤْكَلْ لِعَدَمِ الْجُرْحِ; وَأَمَّا صِفَةُ الْمُرْسَلِ فَلِأَنَّهُ كَالذَّبْحِ وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ غَيْرِهِمَا; وَأَمَّا ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ» شَرَطَ التَّسْمِيَةَ لِحِلِّ الْأَكْلِ ; وَأَمَّا كَوْنُهُ مُمْتَنِعًا فَلِأَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِلْمُمْتَنِعِ، وَلِأَنَّ الْجُرْحَ إِنَّمَا جُعِلَ ذَكَاةَ ضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنِ الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالْعَجْزُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُمْتَنِعِ حَتَّى لَوْ رَمَى ظَبْيًا مَرْبُوطًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ صَيْدٌ فَأَصَابَ ظَبْيًا آخِرَ لَمْ يُؤْكَلْ، لِأَنَّ بِالرَّبْطِ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا، وَلَوْ رَمَى بَعِيرًا نَادًّا فَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ أَكَلَ لِأَنَّهُ لَمَّا نَدَّ صَارَ صَيْدًا; وَقَوْلُهُ: " لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ وَلَا يَقْعُدُ عَنْ طَلَبِهِ "، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ أَكْلَ الصَّيْدِ إِذَا غَابَ عَنِ الرَّامِي وَقَالَ: «لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ» وَلِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ مَوْجُودٌ فَلَا يَحِلُّ بِهِ، وَالْمَوْهُومُ كَالْمُتَحَقِّقِ لِمَا مَرَّ، إِلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ إِذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ» أَصَمَيْتَ الصَّيْدَ: إِذَا رَمَيْتَهُ فَقَتَلْتَهُ وَأَنْتَ تَرَاهُ، وَقَدْ صَمَى الصَّيْدُ يَصْمِي: إِذَا مَاتَ وَأَنْتَ تَرَاهُ، وَرَمَيْتُ الصَّيْدَ فَأَنْمَيْتُهُ إِذَا غَابَ عَنْكَ ثُمَّ مَاتَ، هَكَذَا فَسَّرَهُ صَاحِبُ الصِّحَاحِ. قَالَ: (وَتَعْلِيمُ ذِي النَّابِ كَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ تَرْكَ الْأَكْلِ، وَذِي الْمِخْلَبِ كَالْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهِمَا الِاتِّبَاعَ إِذَا أُرْسِلَ وَالْإِجَابَةَ إِذَا دُعِيَ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِتَرْكِ الْعَادَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَعَادَةُ ذِي الْمِخْلَبِ النِّفَارُ، فَإِذَا أَجَابَ إِذَا دُعِيَ فَقَدْ تَرَكَ عَادَتَهُ وَصَارَ مُعَلَّمًا، وَعَادَةُ ذِي النَّابِ الِافْتِرَاسُ وَالْأَكْلُ، فَإِذَا تَرَكَ الْأَكْلَ فَقَدْ تَرَكَ عَادَتَهُ فَصَارَ مُعَلَّمًا ; وَلِأَنَّ التَّعْلِيمَ بِتَرْكِ الْأَكْلِ إِنَّمَا يَكُونُ بِالضَّرْبِ حَالَةَ الْأَكْلِ وَجُثَّةُ الطَّيْرِ لَا تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ، أَمَّا الْكَلْبُ يَحْتَمِلُهُ فَأَمْكَنَ تَعْلِيمُهُ بِالضَّرْبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ التَّعْلِيمِ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ، وَلَا تَأْقِيتَ فِيهِ، فَإِنْ أَكَلَ أَوْ تَرَكَ الْإِجَابَةَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِتَعْلِيمِهِ حُكِمَ بِجَهْلِهِ وَحَرُمَ (سم) مَا بَقِيَ مِنْ صَيْدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا حَلَّ، وَلَوْ رَمَى بِسَهْمٍ وَاحِدٍ صُيُودًا، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صُيُودٍ فَأَخَذَهَا أَوْ أَحَدَهَا، أَوْ أَرْسَلَهُ إِلَى صَيْدٍ فَأَخَذَ غَيْرَهُ حَلَّ مَا دَامَ فِي جِهَةِ إِرْسَالِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى ذَلِكَ، وَالْفَهْدُ وَنَحْوُهُ يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ وَعَادَتُهُ الِافْتِرَاسُ وَالنِّفَارُ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ تَرْكُ الْأَكْلِ وَالْإِجَابَةِ جَمِيعًا. قَالَ: (وَيَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ التَّعْلِيمِ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ وَلَا تَأْقِيتَ فِيهِ) لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ اجْتِهَادًا بَلْ سَمَاعًا وَلَا سَمْعَ فَيُفَوَّضُ إِلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهِ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ طِبَاعِهَا. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَأْكُلْ أَوَّلَ مَا يَصِيدُهُ وَلَا الثَّانِي وَكُلِ الثَّالِثَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: إِذَا تَرَكَ الْأَكْلَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ صَارَ مُعَلَّمًا وَلَا يُؤْكَلُ الثَّالِثُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَثْبُتُ بِالتَّرْكِ مَرَّةً لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ تَرَكَهُ شِبَعًا أَوْ خَوْفًا مِنَ الضَّرْبِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمَرَّاتِ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ لِأَنَّهَا لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ، وَلَا يُؤْكَلُ الثَّالِثُ لِأَنَّ بَعْدَهَا حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ عَالِمًا، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يُؤْكَلُ لِأَنَّ بِالثَّالِثَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ عَالِمٌ فَكَانَ صَيْدَ جَارِحَةٍ مُعَلَّمَةٍ فَيُؤْكَلُ. قَالَ: (فَإِنْ أَكَلَ أَوْ تَرَكَ الْإِجَابَةَ بَعْدَ الْحُكْمِ بِتَعْلِيمِهِ حُكِمَ بِجَهْلِهِ وَحَرُمَ مَا بَقِيَ مِنْ صَيْدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ) وَقَالَا: لَا يَحْرُمُ إِلَّا الَّذِي أَكَلَ مِنْهُ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِحَلِّ صَيْدِهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ فَلَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ. وَلَهُ أَنَّ بِالْأَكْلِ عَلِمْنَا جَهْلَهُ، لِأَنَّ الصَّيْدَ حِرْفَةٌ قَلَّمَا تُنْسَى، فَلَمَّا أَكَلَ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَيَحْرُمُ جَمِيعُ مَا صَادَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ صَيْدُ كَلْبٍ غَيْرِ مُعَلَّمٍ، وَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَيْدِهِ، لِأَنَّ مَا أُكِلَ لَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْحُكْمِ، وَالِاجْتِهَادُ يُتْرَكُ بِمِثْلِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْأَكْلُ كَاجْتِهَادِ الْقَاضِي إِذَا تَبَدَّلَ قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَمَا كَانَ فِي الْمَفَازَةِ مِنْ صَيْدٍ فَحَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: (وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا حَلَّ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» الْحَدِيثَ. قَالَ: (وَلَوْ رَمَى بِسَهْمٍ وَاحِدٍ صُيُودًا، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صُيُودٍ فَأَخَذَهَا أَوْ أَحَدَهَا، أَوْ أَرْسَلَهُ إِلَى صَيْدٍ فَأَخَذَ غَيْرَهُ حَلَّ مَا دَامَ فِي جِهَةِ إِرْسَالِهِ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ حُصُولُ الصَّيْدِ وَالذَّبْحُ يَقَعُ بِالْإِرْسَالِ وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ مَنْ ذَبَحَ الشَّاتَيْنِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مَذْبُوحَةٌ بِفِعْلٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةٍ أُخْرَى حَتَّى لَوْ أَضْجَعَ إِحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى وَذَبَحَهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ مُضَافٌ إِلَى الْإِرْسَالِ وَفِي تَعْيِينِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ نَوْعُ حَرِجٍ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ، وَلَوْ أَرْسَلَ الْفَهْدَ فَكَمَنَ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنَ الصَّيْدِ فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ حَلَّ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ لِيَتَمَكَّنَ مَنْ أَخَذِ الصَّيْدِ، وَكَذَا الْكَلْبُ إِذَا تَعَوَّدَ هَذِهِ الْعَادَةَ بِمَنْزِلَةِ الْفَهْدِ، وَلَوْ عَدَلَ عَنِ الصَّيْدِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً وَتَشَاغَلَ فِي غَيْرِ طَلَبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 وَلَوْ أَرْسَلَهُ وَلَمْ يُسَمِّ ثُمَّ زَجَرَهُ وَسَمَّى، أَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَالْمُعْتَبَرُ حَالَةُ الْإِرْسَالِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ لَمْ يُؤْكَلْ، وَلَوْ شَرِبَ دَمَهُ أُكِلَ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ قِطْعَةً فَرَمَاهَا ثُمَّ أَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَهُ ثُمَّ أَكَلَ مَا أَلْقَاهُ أُكِلَ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي يُؤْكَلُ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالتَّذْكِيَةِ وَكَذَلِكَ فِي الرَّمْيِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الصَّيْدِ وَفَتَرَ عَنْ سُنَنِهِ ثُمَّ اتَّبَعَ صَيْدًا فَأَخَذَهُ لَمْ يُؤْكَلْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرْسَلٍ، وَالْإِرْسَالُ شَرْطٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] " أَيْ مُسَلِّطِينَ، فَإِنْ زَجَرَهُ صَاحِبُهُ فَانْزَجَرَ حَلَّ، لِأَنَّ الزَّجْرَ كَإِرْسَالٍ مُسْتَأْنَفٍ، وَلَوِ انْفَلَتَ فَصَاحَ بِهِ وَسَمَّى، فَإِنِ انْزَجَرَ بِصِيَاحِهِ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: (وَلَوْ أَرْسَلَهُ وَلَمْ يُسَمِّ ثُمَّ زَجَرَهُ وَسَمَّى، أَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَالْمُعْتَبَرُ حَالَةُ الْإِرْسَالِ) وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَهُ مُسْلِمٌ فَزَجَرَهُ مُرْتَدٌّ أَوْ مُحْرِمٌ فَانْزَجَرَ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا ثُمَّ زَجَرَهُ مُسْلِمٌ وَسَمَّى لَمْ يَحِلَّ، لِأَنَّ الْحُكْمَ مُضَافٌ إِلَى الْإِرْسَالِ الْأَوَّلِ وَبِهِ تُسَلَّطُ وَتُكَلَّبُ وَمَا بَعْدَهُ تَقْوِيَةٌ لِلْإِرْسَالِ وَتَحْرِيضٍ لِلْكَلْبِ فَيَعْتَبِرُ حَالَةَ الْإِرْسَالِ، فَإِذَا صَدَرَ صَحِيحًا لَا يَنْقَلِبُ فَاسِدًا، وَإِذَا صَدَرَ فَاسِدًا لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِالزَّجْرِ، وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ الصَّيْدَ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ أَوْ غَيْرُ مُرْسَلٍ فَأَخَذَهُ الْأَوَّلُ لَمْ يُؤْكَلْ، وَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ آدَمِيٌّ أَوْ دَابَّةٌ أَوْ طَيْرٌ أَوْ مَجُوسِيٌّ حَلَّ، لِأَنَّ أَخْذَ الْكَلْبِ ذَبْحٌ حُكْمًا وَلَا يَصْلُحُ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مُشَارِكًا إِيَّاهُ فِي الذَّبْحِ، وَالْكَلْبُ الْجَاهِلُ يَصْلُحُ مُشَارِكًا لِأَنَّهُ جَارِحٌ بِنَفْسِهِ فَاجْتَمَعَ الْمُبِيحُ وَالْمُحَرِّمُ فَيَحْرُمُ كَمَا لَوْ مَدَّ الْقَوْسَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فَأَصَابَا صَيْدًا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ وَلَوْ لَمْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ شَدَّ عَلَيْهِ وَاتَّبَعَ أَثَرَ الْمُرْسَلِ حَتَّى قَتَلَهُ الْأَوَّلُ أَكَلَ، لِأَنَّ الثَّانِي مُحَرِّضٌ لَا مُشَارِكٌ. قَالَ: (فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ لَمْ يُؤْكَلْ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» . (وَلَوْ شَرِبَ دَمَهُ أُكِلَ) لِأَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ التَّعْلِيمِ. (وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ قِطْعَةً فَرَمَاهَا ثُمَّ أَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَهُ ثُمَّ أَكَلَ مَا أَلْقَاهُ أُكِلَ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا، حَتَّى لَوْ أَكَلَ مِنْ نَفْسِ الصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَضُرُّهُ فَهَذَا أَوْلَى. قَالَ: (فَإِنْ أَكْلَ مِنْهُ الْبَازِي يُؤْكَلُ) وَقَدْ مَرَّ. قَالَ: (وَإِنْ أَدْرَكْهُ حَيًّا لَا يَحِلُّ إِلَّا بِالتَّذْكِيَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الرَّمْيِ) لِأَنَّهُ قُدِّرَ عَلَى الذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَلَا تُجْزِئُ الِاضْطِرَارِيَّةُ لِانْدِفَاعِ الضَّرُورَةِ وَهَذَا إِذَا قَدَرَ عَلَى ذَبْحِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ إِمَّا لِفَقْدِ آلَةٍ أَوْ لِضِيقِ الْوَقْتِ وَفِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ فَوْقَ حَيَاةِ الْمَذْبُوحِ لَمْ يُؤْكَلْ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُؤْكَلُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الذَّكَاةِ حَقِيقَةً فَصَارَ كَالْمُتَيَمِّمِ إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ ; وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِ وَبِهِ حَيَاةٌ لَمْ يَبْقَ فَلَا يَحِلُّ إِلَّا بِالذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ وَهَذَا إِذَا كَانَ بِحَالٍ يَتَوَهَّمُ حَيَاتَهُ؛ أَمَّا إِذَا بَقِيَ فِيهِ مِنَ الْحَيَاةِ مِثْلُ الْمَذْبُوحِ أَوْ بَقَرَ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَ مَا فِيهَا ثُمَّ أَخَذَهُ وَبِهِ حَيَاةٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لِأَنَّهُ مَيْتٌ حُكْمًا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَهُ كَلْبٌ لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ، أَوْ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ، أَوْ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَمْ يُؤْكَلْ ; وَلَوْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّهُ آدَمِيًّا فَرَمَاهُ، أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ أُكِلَ; وَإِذَا وَقَعَ الصَّيْدُ فِي الْمَاءِ أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ سِنَانِ رُمْحٍ، ثُمَّ تَرَدَّى إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يُؤْكَلْ; وَلَوْ وَقَعَ ابْتِدَاءً عَلَى الْأَرْضِ أُكِلَ ; وَفِي طَيْرِ الْمَاءِ إِنْ أَصَابَ الْمَاءُ الْجُرْحَ لَمْ يُؤْكَلْ وَإِلَّا أُكِلَ، وَلَا يُؤْكَلُ مَا قَتَلَتْهُ الْبُنْدُقَةُ وَالْحَجَرُ وَالْعَصَا وَالْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ. فَإِنْ خَزَقَ   [الاختيار لتعليل المختار] وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فِي الْمَاءِ لَا يَحْرُمُ كَمَا إِذَا وَقَعَ وَهُوَ مَيْتٌ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَخَذَهُ حَيًّا فَلَا يَحِلُّ إِلَّا بِالذَّكَاةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، فَلَوْ أَنَّهُ ذَكَّاهُ حَلَّ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ تَعَالَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَعَلَى هَذَا الْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ والَّذِي بَقَرَ الذِّئْبُ بَطْنَهَا وَفِيهَا حَيَاةٌ خَفِيفَةٌ أَوْ ظَاهِرَةٌ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِمَا تَلَوْنَا. وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِذَا كَانَ بِحَالٍ يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا، إِذْ لَا اعْتِبَارَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا كَانَ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِثْلُهُ لَا يَحِلُّ، لِأَنَّ مَوْتَهُ لَا يَحْصُلُ بِالذَّبْحِ. قَالَ: (وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَهُ كَلْبٌ لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهِ اسْمُ اللَّهِ، أَوْ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ، أَوْ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَمْ يُؤْكَلْ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: «وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ» وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُحَرِّمُ وَالْمُبِيحُ فَيَغْلِبُ الْمُحَرِّمُ الْمُبِيحَ احْتِيَاطًا. قَالَ: (وَلَوْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّهُ آدَمَيًّا فَرَمَاهُ، أَوْ أَرْسَلَ عَلَيْهِ كَلْبَهُ فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ أَكَلَ) لِأَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِظَنِّهِ مَعَ كَوْنِهِ صَيْدًا حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَنَّهُ حِسَّ صَيْدٍ فَتَبَيَّنَ كَذَلِكَ حَلَّ، لِأَنَّهُ صَيْدٌ وَقَدْ قَصَدَهُ فَيَحِلُّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اسْتَثْنَى الْخِنْزِيرَ لِشِدَّةِ حُرْمَتِهِ، حَتَّى لَا تَثْبُتَ إِبَاحَةُ شَيْءٍ مِنْهُ، وَغَيْرُهُ مِنَ السِّبَاعِ تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي جِلْدِهِ ; وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ أَهْلِيٍّ مِمَّا يَأْوِي الْبُيُوتَ لَمْ يُؤْكَلِ الْمُصَابُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ. قَالَ: (وَإِذَا وَقَعَ الصَّيْدُ فِي الْمَاءِ، أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ أَوْ سِنَانِ رُمْحٍ، ثُمَّ تَرَدَّى إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يُؤْكَلْ) لِأَنَّهُ مُتَرَدِّيَةٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَدِيٍّ: «وَإِنْ وَقَعَتْ رَمِيَّتُكَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي الْمَاءُ قَتَلَهُ أَمْ سَهْمُكَ؟» فَقَدِ اجْتَمَعَ دَلِيلَا الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ; وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ عَلَى شَجَرَةٍ أَوْ قَصَبَةٍ أَوْ حَرْفِ آجُرَّةٍ لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. (وَلَوْ وَقَعَ ابْتِدَاءً عَلَى الْأَرْضِ أُكِلَ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَاهُ مُحَرَّمًا انْسَدَّ بَابُ الصَّيْدِ، فَمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْعَدَمِ. قَالَ: (وَفِي طَيْرِ الْمَاءِ إِنْ أَصَابَ الْمَاءُ الْجُرْحَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَإِلَّا أُكِلَ) لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي. قَالَ: (وَلَا يُؤْكَلُ مَا قَتَلَتْهَ الْبُنْدُقَةُ وَالْحَجَرُ وَالْعَصَا وَالْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ) لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَعْنَى الْمَوْقُوذَةِ. (فَإِنْ خَزَقَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 الْمِعْرَاضُ الْجِلْدَ بِحَدِّهِ أُكِلَ، وَإِنْ رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ فَأَبَانَ عُضْوًا مِنْهُ أُكِلَ الصَّيْدُ، وَلَا يُؤْكَلُ الْعُضْوُ، وَإِنْ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ أُكِلَ، وَإِنْ قَطَعَهُ أَثْلَاثًا أُكِلَ الْكُلُّ إِنْ كَانَ الْأَقَلُّ مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ; وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ، وَيَضْمَنُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ قِيمَتَهُ غَيْرَ نُقْصَانِ جِرَاحَتِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْمِعْرَاضُ الْجِلْدَ بِحَدِّهِ أُكِلَ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ: «مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ» وَإِنْ جَرَحَتْهُ الْحَجَرُ إِنْ كَانَ ثَقِيلًا لَمْ يُؤْكَلْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ، وَإِنْ كَانَ خَفِيفًا وَبِهِ حَدٌّ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهَا قَتَلَتْهُ بِحَدِّهَا ; وَلَوْ رَمَاهُ بِهَا فَأَبَانَ رَأْسَهُ أَوْ قَطَعَ الْعُرُوقَ لَا يُؤْكَلُ، لِأَنَّ الْعُرُوقَ قَدْ تَنْقَطِعُ بِالثِّقَلِ فَوَقَعَ الشَّكُّ، وَلَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْعُرُوقِ، وَلَوْ كَانَ لِلْعَصَا حَدٌّ فَجُرِحَتْ يُؤْكَلُ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُحَدَّدِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَوْتَ إِنْ كَانَ بِجُرْحٍ بِيَقِينٍ حَلَّ، وَإِنْ كَانَ بِالثِّقَلِ لَا يَحِلُّ، وَكَذَا إِنْ وَقَعَ الشَّكُّ احْتِيَاطًا. قَالَ: (وَإِنْ رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ فَأَبَانَ عُضْوًا مِنْهُ أُكِلَ الصَّيْدُ) لِوُجُودِ الْجُرْحِ فِي الصَّيْدِ وَهُوَ ذَكَاتُهُ (وَلَا يُؤْكَلُ الْعُضْوُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا أُبِينَ مِنَ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» . قَالَ: (وَإِنْ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ أُكِلَ) لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ لَيْسَ بِحَيٍّ، إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ حَيَاتِهِ. قَالَ: (وَإِنْ قَطَعَهُ أَثْلَاثًا أُكِلَ الْكُلُّ إِنْ كَانَ الْأَقَلُّ مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ) لِمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ الْأَقَلُّ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ، لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ حَيَاتُهُ فَلَا يُؤْكَلُ ; وَإِنْ رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ بِسِكِّينٍ فَإِنْ جَرَحَهُ بِالْحَدِّ حَلَّ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِقَفَا السِّكِّينِ أَوْ بِمَقْبَضِ السَّيْفِ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ وَقْذٌ لَا جُرْحٌ؛ وَلَوْ رَمَاهُ فَجَرَحَهُ وَأَدْمَاهُ حَلَّ، وَإِنْ لَمْ يُدْمِهِ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الْإِدْمَاءَ شَرْطٌ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» شَرَطَ الْإِنْهَارَ، وَقِيلَ يَحِلُّ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَنْحَبِسُ لِغِلَظِهِ وَضِيقِ الْمَنْفَذِ، وَعَلَى هَذَا إِذَا عُلِّقَتِ الشَّاةُ بِالْعُنَّابِ فَذُبِحَتْ وَلَمْ يَسِلْ مِنْهَا الدَّمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَتِ الْجِرَاحَةُ كَبِيرَةٌ حَلَّ بِدُونِ الْإِدْمَاءِ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا بُدَّ مِنَ الْإِدْمَاءِ. قَالَ: (وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ) لِأَنَّ بِالْإِثْخَانِ صَارَتْ ذَكَاتُهُ اخْتِيَارِيَّةً فَصَارَ بِالْجُرْحِ الثَّانِي مَيْتَةً، وَهَذَا إِذَا كَانَ بِحَالٍ يَنْجُو مِنَ الرَّمْيَةِ الْأُولَى لِيَكُونَ مَوْتُهُ مُضَافًا إِلَى الثَّانِيَةِ، وَإِنْ كَانَ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنَ الْأُولَى بِأَنْ قَطَعَ رَأْسَهُ أَوْ بَقَرَ بَطْنَهُ وَنَحْوِهِ يَحِلُّ لِأَنَّ وُجُودَ الثَّانِيَةِ كَعَدَمِهَا. قَالَ: (وَيَضْمَنُ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ قِيمَتَهُ غَيْرَ نُقْصَانِ جِرَاحَتِهِ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ، لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حَيْثُ أَثْخَنَهُ فَخَرَجَ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَلَا يُطِيقُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 وَإِنْ لَمْ يُثْخِنْهُ الْأَوَّلُ أَكَلَ وَهُوَ لِلثَّانِي. كِتَابُ الذَّبَائِحِ وَالذَّكَاةُ اخْتِيَارِيَّةٌ، وَهِيَ الذَّبْحُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ. وَاضْطِرَارِيَّةٌ، وَهِيَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ اتَّفَقَ؛ وَشَرْطُهُمَا التَّسْمِيَةُ، وَكَوْنُ الذَابِحِ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا،   [الاختيار لتعليل المختار] بَرَاحًا وَهُوَ مَعِيبٌ بِالْجِرَاحَةِ، وَالْقِيمَةُ تَجِبُ عِنْدَ الْإِتْلَافِ. قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يُثْخِنْهُ الْأَوَّلُ أُكِلَ) لِأَنَّهُ صَيْدٌ عَلَى حَالِهِ (وَهُوَ لِلثَّانِي) لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخَذَهُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ» . [كِتَابُ الذَّبَائِحِ] وَهُوَ جَمْعُ ذَبِيحَةٍ، وَالذَّبِيحَةُ: الْمَذْبُوحَةُ، وَكَذَلِكَ الذَّبْحُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ، وَالذَّبْحُ مَصْدَرُ ذَبَحَ يَذْبَحُ، وَهُوَ الذَّكَاةُ أَيْضًا، قَالَ - تَعَالَى -: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] أَيْ ذَبَحْتُمْ. (وَالذَّكَاةُ) نَوْعَانِ: (اخْتِيَارِيَّةٌ، وَهِيَ الذَّبْحُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ» أَيْ مَوْضِعُ الذَّكَاةِ، وَهِيَ قَطْعُ عُرُوقٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى مَا يَأْتِيكَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى -. قَالَ: (وَاضْطِرَارِيَّةٌ: وَهِيَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ اتَّفَقَ) ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ حَالَةَ الْعَجْزِ عَنِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَذَلِكَ مِثْلَ الصَّيْدِ وَالْبَعِيرِ النَّادِّ، فَلَوْ رَمَاهُ فَقَتَلَهُ حَلَّ أَكْلُهُ لِأَنَّ الْجُرْحَ فِي غَيْرِ الْمَذْبَحِ أُقِيمَ مَقَامَ الذَّبْحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّبْحِ لِلْحَاجَةِ، وَالْبَقْرُ وَالْبَعِيرُ لَوْ نَدَّا فِي الصَّحْرَاءِ أَوِ الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ الصَّيْدِ، وَكَذَلِكَ الشَّاةُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلَوْ نَدَّتْ فِي الْمِصْرِ لَا تَحِلُّ بِالْعَقْرِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَخْذُهَا، أَمَّا الْبَقَرُ وَالْبَعِيرُ فَرُبَّمَا عَضَّهُ الْبَعِيرُ وَنَطَحَهُ الْبَقَرُ فَتَحَقَّقَ الْعَجْزُ فِيهَا، وَالْمُتَرَدِّي فِي بِئْرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَكَاتِهِ فِي الْعُرُوقِ كَالصَّيْدِ إِذْ لَا يُتَوَهَّمُ مَوْتُهُ بِالْمَاءِ. قَالَ: (وَشَرْطُهُمَا التَّسْمِيَةُ، وَكَوْنُ الذَّابِحِ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا) أَمَّا التَّسْمِيَةُ فَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وَالْمُرَادُ حَالَةُ النَّحْرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أَيْ سَقَطَتْ بَعْدَ النَّحْرِ، وَمَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ فِي الصَّيْدِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: «فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ» ، فَلَوْ تَرَكَهَا عَامِدًا لَا تَحِلُّ ; لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ عَنِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا، فَالْقَوْلُ بِإِبَاحَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا: إِذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْكِتَابِيُّ فِيهِ كَالْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنَ النُّصُوصِ مِنْهَا أَمْرٌ بِالتَّسْمِيَةِ، وَمِنْهَا جَعْلُهَا شَرْطًا لِحِلِّ الْأَكْلِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِيًا حَلَّ، وَإِنْ أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى فَذَبَحَ غَيْرَهَا بِتِلْكَ التَسْمِيَةِ لَمْ تُؤْكَلْ، وَإِنْ ذَبَحَ بِشَفْرَةٍ أُخْرَى أُكِلَ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - اسْمَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] الْمَتْرُوكِ عَامِدًا، وَأَمَّا كَوْنُ الذَّابِحِ مُسْلِمًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي طَعَامِ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ {حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: 5] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْمَجُوسِ: «سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ» ; فَدَلَّ عَلَى حِلِّ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنْ سَمَّى النَّصْرَانِيُّ الْمَسِيحَ وَسَمِعَهُ الْمُسْلِمُ لَا يَأْكُلُ مِنْهُ، وَلَوْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَهُوَ يَعْنِي الْمَسِيحَ يَأْكُلُ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ يَعْقِلُ التَّسْمِيَةَ وَيَضْبُطُهَا وَيَقْدِرُ عَلَى الذَّبْحِ، فَتَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ وَالصَّبِيِّ إِذَا قَدَرَ عَلَى الذَّبْحِ، وَالْمُرْتَدُّ لَا مِلَّةَ لَهُ فَلَا تَجُوزُ ذَبِيحَتُهُ، وَيَجُوزُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ ; لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ لَهُ فَحِلُّهُ غَيْرُ مَنُوطٍ بِالتَّسْمِيَةِ. قَالَ: (فَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا حَلَّ) ; لِأَنَّ فِي تَحْرِيمِهِ حَرَجًا عَظِيمًا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنِ النِّسْيَانِ فَكَانَ فِي اعْتِبَارِهِ حَرَجٌ. وَسُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَمَّنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ، فَقَالَ: «اسْمُ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ مُسْلِمٍ» ، وَلِأَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِمَا نَسِيَهُ بِالْحَدِيثِ فَلَمْ يَتْرُكْ فَرْضًا عَلَيْهِ عِنْدَ الذَّبْحِ بِخِلَافِ الْعَامِدِ. قَالَ: (وَإِنْ أَضْجَعَ شَاةً وَسَمَّى فَذَبَحَ غَيْرَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لَمْ تُؤْكَلْ، وَإِنْ ذَبَحَ بِشَفْرَةٍ أُخْرَى أَكَلَ) ، وَلَوْ أَخَذَ سَهْمًا وَسَمَّى ثُمَّ وَضَعَهُ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يُسَمِّ لَا يَحِلُّ، وَلَوْ سَمَّى عَلَى سَهْمٍ فَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ حَلَّ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الذَّبْحِ مَشْرُوطَةٌ عَلَى الذَّبِيحَةِ، قَالَ - تَعَالَى -: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] فَإِذَا تَبَدَّلَتِ الذَّبِيحَةُ ارْتَفَعَ حُكْمُ التَّسْمِيَةِ عَلَيْهَا، وَفِي الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ التَّسْمِيَةِ مَشْرُوطَةٌ عَلَى الْآلَةِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ» ، وَقَالَ: «فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ» ، فَمَا لَمْ تَتَبَدَّلِ الْآلَةُ فَالتَّسْمِيَةُ بَاقِيَةٌ، وَإِذَا تَبَدَّلَتِ ارْتَفَعَ حُكْمُهَا فَاحْتَاجَ إِلَى تَسْمِيَةٍ أُخْرَى. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - اسْمَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ) ; لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الذِّكْرُ الْخَالِصُ، لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ، فَإِذَا ذُكِرَ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - مَعَ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَأَمَّا إِنْ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا بِهِ أَوْ مَفْصُولًا، فَإِنْ فَصَلَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ ذَكَرَهُ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ قَبْلَ الْإِضْجَاعِ أَوْ بَعْدَ الذَّبِيحَةِ ; لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الذَّبِيحَةِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ بَعْدَ الذَّبْحِ: " اللَّهْمَ تَقَبَّلْ هَذِهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ مِمَّنْ شَهِدَ لَكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلِيَ بِالْبَلَاغِ» ، وَإِنْ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مَعْطُوفًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا حُرِّمَتْ ; لِأَنَّهُ أَهَلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ بِأَنْ يَقُولَ: بِاسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ فُلَانٍ، أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ وَفُلَانٍ، أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِكَسْرِ الدَّالِ، وَلَوْ رَفَعَهَا لَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 وَالسُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ وَذَبْحُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَإِنْ عَكَسَ فَذَبَحَ الْإِبِلَ وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ كُرِهَ وَيُؤْكَلُ. وَالْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَكَاةِ: الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْوَدَجَانِ، فَإِنْ قَطَعَهَا حَلَّ الْأَكْلُ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَطَعَ ثَلَاثَةً (س) مِنْهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالذَّبِيحَةِ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ بِأَنْ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لَا يَحْرُمُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَعْطِفُ لَمْ تُوجَدِ الشَّرِكَةُ فَيَقَعُ الذَّبْحُ خَالِصًا لِلَّهِ - تَعَالَى - إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ; لِأَنَّهُ صُورَةُ الْمُحَرَّمِ مِنْ حَيْثُ الْقِرَانِ فِي الذِّكْرِ، وَلَوْ قَالَ عِنْدَ الذَّبْحِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، وَلَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ، يَنْوِي التَّسْمِيَةَ حَلَّ، وَالْمَنْقُولُ الْمُتَوَارَثُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَ الذَّبْحِ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُ أَكْبَرُ، وَكَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَوْلَهُ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] . قَالَ: (وَالسُّنَّةُ نَحْرُ الْإِبِلِ وَذَبْحُ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، فَإِنْ عَكَسَ فَذَبَحَ الْإِبِلَ وَنَحَرَ الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ كُرِهَ وَيُؤْكَلُ) قَالَ - تَعَالَى -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، قَالُوا: الْمُرَادُ نَحْرُ الْجَزُورِ. وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ، وَقَالَ: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] . وَالذَّبْحُ: مَا يُذْبَحُ وَكَانَ كَبْشًا، وَهُوَ الْمُتَوَارَثُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَإِنَّمَا كُرِهَ إِذَا عَكَسَ لِمُخَالَفَتِهِ السُّنَّةَ، وَيُؤْكَلُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِلِّ وَهُوَ قَطْعُ الْعُرُوقِ وَإِنْهَارُ الدَّمِ. قَالَ: (وَالْعُرُوقُ الَّتِي تُقْطَعُ فِي الذَّكَاةِ: الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْوَدَجَانِ) ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: الذَّكَاةُ فِي الْأَوْدَاجِ: وَالْأَوْدَاجُ أَرْبَعَةٌ: الْحُلْقُومُ، وَالْمَرِيءُ، وَالْعِرْقَانِ اللَّذَانِ بَيْنَهُمَا، وَأَصْلُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْتَ» ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ فَيَتَنَاوَلُ ثَلَاثَةً، وَهُوَ الْمَرِيءُ وَالْوَدَجَانِ، وَلَا يُمْكِنُ قَطْعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إِلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ فَثَبَتَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ اقْتِضَاءً، (فَإِنْ قَطَعَهَا حَلَّ الْأَكْلُ) لِوُجُودِ الذَّكَاةِ، (وَكَذَلِكَ إِذَا قَطَعَ ثَلَاثَةً مِنْهَا) أَيَّ ثَلَاثَةٍ كَانَتْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَأَحَدِ الْوَدَجَيْنِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأَكْثَرُ مِنْ كُلِّ عِرْقٍ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَحَمَلَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَإِنْ قَطَعَ أَكْثَرَهَا حَلَّ عَلَى مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرْنَا. لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَمْرَ وَرَدَ بِفَرْيِ الْعُرُوقِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مُنْفَصِلٌ عَنِ الْبَاقِينَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ أَكْثَرُهُ فَكَأَنَّهُ قَطَعَهُ إِقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْأَكْثَرِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مَا يَخْرُجُ بِقَطْعِ جَمِيعِهِ، وَلِأَنَّ الذَّبْحَ قَدْ يُبْقِي الْيَسِيرَ مِنَ الْعُرُوقِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقْصَدُ بِقَطْعِهِ غَيْرُ مَا يُقْصَدُ بِقَطْعِ الْآخَرِ، فَإِنَّ الْحُلْقُومَ مَجْرَى النَّفَسِ، وَالْمَرِيءَ مَجْرَى الطَّعَامِ، وَالْوَدَجَيْنِ مَجْرَى الدَّمِ، فَإِذَا قَطَعَ أَحَدَ الْوَدَجَيْنِ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِقَطْعِهِمَا، وَإِذَا تَرَكَ الْحُلْقُومَ أَوِ الْمَرِيءَ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ مِنْ قَطْعِهِ بِقَطْعِ مَا سِوَاهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الْأُصُولِ، فَبِقَطْعِ أَيِّ حَادِثٍ كَانَ حَصَلَ قَطْعُ الْأَكْثَرِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 وَيَجُوزُ الذَبْحُ بِكُلِّ مَا أَفْرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ، إِلَّا السِّنَّ الْقَائِمَةَ وَالظُّفُرَ الْقَائِمَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحِدَّ شَفْرَتَهُ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْلُغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ، أَوْ يَقْطَعَ الرَّأْسَ وَتُؤْكَلُ، وَيُكْرَهُ سَلْخُهَا قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ، وَمَا اسْتَأْنَسَ مِنَ الصَّيْدِ فَذَكَاتُهُ اخْتِيَارِيَّةٌ، وَمَا تَوَحَّشَ مِنَ النَّعَمِ فَاضْطِرَارِيَّةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ، وَهُوَ إِنْهَارُ الدَّمِ وَالتَّسْبِيبُ إِلَى إِزْهَاقِ الرُّوحِ ; لِأَنَّهُ لَا يَحْيَا بَعْدَ قَطْعِ مَجْرَى النَّفَسِ وَالطَّعَامِ، وَالدَّمُ يَجْرِي بِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ فَيُكْتَفَى بِهِ تَحَرُّزًا عَنْ زِيَادَةِ التَّعْذِيبِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ الذَّبْحُ بِكُلِّ مَا أَفَرَى الْأَوْدَاجَ وَأَنْهَرَ الدَّمَ، إِلَّا السِّنَّ الْقَائِمَةَ وَالظُّفْرَ الْقَائِمَ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفْرِ الْأَوْدَاجَ بِمَا شِئْتَ وَكُلْ» ، وَقَوْلُهُ: «أَنْهِرِ الدَّمَ بِمَا شِئْتَ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ مَا أَنَهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ، مَا خَلَا السِنَّ وَالظُّفُرَ فَإِنَّهُمَا مُدَى الْحَبَشَةِ» ، وَالْحَبَشَةُ كَانُوا يَذْبَحُونَ بِهِمَا قَائِمَيْنِ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِهِمَا قَائِمَيْنِ يَحْصُلُ بِقُوَّةِ الْآدَمِيِّ وَثِقَلِهِ فَأَشْبَهَ الْمُنْخَنِقَةَ، وَلَوْ ذَبَحَ بِهِمَا مَنْزُوعَيْنِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَيُكْرَهُ. أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَأَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ لِجُزْءِ الْآدَمِيِّ وَأَنَّهُ حَرَامٌ، وَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى وَلِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ إِنْهَارُ الدَّمِ وَقَطْعُ الْأَوْدَاجِ. وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْبُوحَ بِهِمَا قَائِمَيْنِ مَيْتَةٌ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهِ نَصًّا، وَمَا لَا يَجِدُ فِيهِ نَصًّا يَتَحَرَّى فَيَقُولُ فِي الْحِلِّ لَا بَأْسَ بِهِ، وَفِي الْحُرْمَةِ لَا يُؤْكَلُ أَوْ يُكْرَهُ. قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُحِدَّ شَفْرَتَهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» ، وَرَأَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً وَهُوَ يُحِدُّ شَفْرَتَهُ، فَقَالَ: هَلَا حَدَدْتَهَا قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا؟» قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَبْلُغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ أَوْ يَقْطَعَ الرَّأْسَ وَتُؤْكَلُ) وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نَهَى أَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ إِذَا ذُبِحَتْ» ، وَفَسَّرُوهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وَفِي قَطْعِ الرَّأْسِ زِيَادَةُ تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ وَيُؤْكَلُ لِوُجُودِ الْمَقْصُودِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنًى زَائِدٍ وَهُوَ زِيَادَةُ الْأَلَمِ فَلَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ سَلْخُهَا قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ) أَيْ يَسْكُنَ اضْطِرَابُهَا، وَكَذَا يُكْرَهُ كَسْرُ عُنُقِهَا قَبْلَ أَنْ تَبْرُدَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَأَلُّمِ الْحَيَوَانِ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا أَلَمَ فَلَا يُكْرَهُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا لَا تَنْخَعُوا الذَّبِيحَةَ حَتَّى تَجِبَ» أَيْ لَا تَقْطَعُوا رَقَبَتَهَا وَتَفْصِلُوهَا حَتَّى تَسْكُنَ حَرَكَتُهَا، وَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ مِنْ قَفَاهَا إِنْ مَاتَتْ قَبْلَ قَطْعِ الْعِرْقِ فَهِيَ مَيْتَةٌ لِوُجُودِ الْمَوْتِ بِدُونِ الذَّكَاةِ، وَإِنْ قُطِعَتْ وَهِيَ حَيَّةٌ حَلَّتْ لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِالذَّكَاةِ، كَمَا إِذَا جَرَحَهَا ثُمَّ ذَبَحَهَا، إِلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ فِعْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْأَلَمِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ. قَالَ: (وَمَا اسْتَأْنَسَ مِنَ الصَّيْدِ فَذَكَاتُهُ اخْتِيَارِيَّةٌ) لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهَا (وَمَا تَوَحَّشَ مِنَ النَّعَمِ فَاضْطِرَارِيَّةٌ) لِلْعَجْزِ عَنِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 وَإِذَا كَانَ فِي بَطْنِ الْمَذْبُوحِ جَنِينٌ مَيِّتٌ لَمْ يُؤْكَلْ (سم) ، وَإِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَهُرَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ إِلَّا الْخِنْزِيرَ وَالْآدَمِيَّ. فَصْلٌ وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَلَا ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِذَا كَانَ فِي بَطْنِ الْمَذْبُوحِ جَنِينٌ مَيِّتٌ لَمْ يُؤْكَلْ) وَقَالَا: إِذَا تَمَّ خَلْقُهُ أُكِلَ وَإِلَّا فَلَا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» ، وَلِأَنَّهُ جُزْءُ الْأُمِّ مُتَّصِلٌ بِهَا يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا وَيَتَنَفَّسُ بِتَنَفُّسِهَا وَيَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا وَيُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهَا، فَيَتَذَكَّى بِذَكَاتِهَا كَسَائِرِ أَجْزَائِهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ بِانْفِرَادِهِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَيُفْرَدُ بِالذَّكَاةِ، وَلِهَذَا يُعْتَقُ بِإِعْتَاقٍ مُفْرَدٍ، وَتَجِبُ فِيهِ الْغِرَّةُ وَتَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ وَلَهُ دُونَهَا، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ دَمَوِيٌّ لَمْ يَخْرُجْ دَمُهُ فَصَارَ كَالْمُنْخَنِقَةِ ; لِأَنَّ بِذَكَاةِ الْأُمِّ لَا يَخْرُجُ دَمُهُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ ; لِأَنَّ الْجَرْحَ مُوجِبٌ لِخُرُوجِ الدَّمِ، وَلِأَنَّهُ احْتَمَلَ مَوْتُهُ بِذَبْحِ الْأُمِّ وَاحْتَمَلَ قَبْلَهُ فَلَا يَحِلُّ بِالشَّكِّ، وَالْحَدِيثُ رُوِيَ بِالنَّصْبِ بِنَزْعِ الْخَافِضِ فَدَلَّ عَلَى تَسَاوِيهِمَا فِي الذَّكَاةِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20] وَعَلَى رِوَايَةِ الرَّفْعِ احْتَمَلَ التَّشْبِيهَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133] فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا، وَلِهَذَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَبْحَ الشَّاةِ الْحَامِلِ الَّتِي قَرُبَتْ وِلَادَتُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ إِضَاعَةِ الْوَلَدِ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُكْرَهُ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ عِنْدَهُمَا. قَالَ: (وَإِذَا ذُبِحَ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ طَهُرَ جِلْدُهُ وَلَحْمُهُ إِلَّا الْخِنْزِيرَ وَالْآدَمِيَّ) فَإِنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِيهِمَا ; لِأَنَّ الذَّكَاةَ تُزِيلُ الرُّطُوبِاتِ وَتُخْرِجُ الدِّمَاءَ السَّائِلَةَ، وَهِيَ الْمُنَجَّسَةُ لَا ذَاتَ اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ فَيَطْهُرُ كَمَا فِي الدِّبَاغِ. أَمَّا الْآدَمِيُّ فَلِكَرَامَتِهِ وَحُرْمَتِهِ، وَالْخِنْزِيرُ لِنَجَاسَتِهِ وَإِهَانَتِهِ فَلَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ فِيهِمَا كَمَا لَا يَعْمَلُ الدِّبَاغُ فِي جِلْدِهِمَا وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّهَارَةِ، وَلَوْ ذَبَحَ شَاةً مَرِيضَةً فَلَمْ يَتَحَرَّكْ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا فَمُهَا. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: إِنْ فَتَحَتْ فَاهَا وَعَيْنَهَا وَمَدَّتْ رِجْلَهَا وَنَامَ شَعْرُهَا لَمْ تُؤْكَلْ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ أُكِلَتْ. [فصل مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ] فَصْلٌ (وَلَا يَحِلُّ أَكْلُ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَلَا ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ) ; لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ» ، وَقَوْلُهُ عَقِيبَ النَّوْعَيْنِ مِنَ السِّبَاعِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمَا فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيمَا لَهُ مِخْلَبٌ وَنَابٌ مِنْ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ دُونَ غَيْرِهِمَا، وَالسَّبُعُ كُلُّ جَارِحٍ قَتَّالٍ مُنْتَهِبٍ مُتَعَدٍّ عَادَةً كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ وَالثَّعْلَبِ وَالدُّبِّ وَالْفِيلِ وَالْقِرْدِ وَالْيَرْبُوعِ وَابْنِ عُرْسٍ وَالسِّنَّوْرِ الْبَرِّيِّ وَالْأَهْلِيِّ، وَذُو الْمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ: الصَّقْرُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 وَلَا تَحِلُّ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ وَلَا الْبِغَالُ وَلَا الْخَيْلُ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْبَازِيُّ وَالنَّسْرُ وَالْعُقَابُ وَالشَّاهِينُ وَالْحِدَأَةُ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الدَّلَقُ وَالسِّنْجَابُ وَالْفَنَكُ وَالسُّمُّورُ وَمَا شَابَهَهُ سَبُعٌ، وَلَا يُؤْكَلُ ابْنُ عُرْسٍ لِأَنَّهَا ذَاتُ أَنْيَابٍ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ، وَفِي الْحَدِيثِ: «نَهَى عَنْ أَكْلِ الْخَطْفَةِ وَالنُّهْبَةِ وَالْمُجَثَّمَةِ» ; فَالْخَطْفَةُ: الَّتِي تَخْتَطِفُ فِي الْهَوَاءِ كَالْبَازِيِّ وَنَحْوِهِ، وَالنُّهْبَةُ: الَّذِي يَنْتَهِبُ عَلَى الْأَرْضِ كَالذِّئْبِ وَالْكَلْبِ وَنَحْوِهِ، وَالْمُجَثَّمَةُ: فَقَدْ رُوِيَ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ، فَبِالْفَتْحِ كُلُّ صَيْدٍ جَثَمَ عَلَيْهِ الْكَلْبُ حَتَّى مَاتَ غَمًّا، وَبِالْكَسْرِ كُلُّ حَيَوَانٍ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَجْثُمَ عَلَى الصَّيْدِ كَالذِّئْبِ وَالْكَلْبِ، وَمَعْنَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَرَامَةٌ لبَنِي آدَمَ لِئَلَّا يَتَعَدَّى إِلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ بِالْأَكْلِ، وَكُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ دَمٌ سَائِلٌ حَرَامٌ إِلَّا الْجَرَادَ، مِثْلُ الذُّبَابِ وَالزَّنَابِيرِ وَالْعَقَارِبِ، وَكَذَا سَائِرُ هَوَامِّ الْأَرْضِ وَمَا يَدِبُّ عَلَيْهَا وَمَا يَسْكُنُ تَحْتَهَا، وَهِيَ الْحَشَرَاتُ كَالْفَأْرَةِ وَالْوَزَغَةِ وَالْيَرْبُوعِ وَالْقُنْفُذِ وَالْحَيَّةِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنَ الْخَبَائِثِ فَيَحْرُمُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . قَالَ: (وَلَا تَحِلُّ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ وَلَا الْبِغَالُ وَلَا الْخَيْلُ) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] خَرَجَتْ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ، فَلَوْ جَازَ أَكْلُهَا لَذَكَرَهُ ; لِأَنَّ نِعْمَةَ الْأَكْلِ أَعْظَمُ مِنْ نِعْمَةِ الرُّكُوبِ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَعَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ» . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَحْمُ الْخَيْلِ حَلَالٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «أَكَلْنَا لَحْمَ فَرَسٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» ، وَرُوِيَ: " أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَأَذِنَ فِي الْخَيْلِ» . وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا تَلَوْنَا مِنَ الْآيَةِ. وَمَا رَوَى خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ» ، وَرَوَى الْمِقْدَامُ بْنُ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «حَرَامٌ عَلَيْكُمُ الْحُمُرُ الْأَهْلِيَّةُ وَخَيْلُهَا وَبِغَالُهَا وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» ، وَلِأَنَّ الْبَغْلَ وَهُوَ نِتَاجُهُ لَا يُؤْكَلُ فَلَا يُؤْكَلُ الْفَرَسُ ; لِأَنَّ أَكْلَ النِّتَاجِ مُعْتَبَرٌ بِأُمِّهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحِمَارَ الْوَحْشِيَّ لَوْ نَزَا عَلَى الْأَتَانِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يُؤْكَلُ؟ فَكَذَا هَذَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 وَيُكْرَهُ الرَّخَمُ وَالْبُغَاثُ وَالْغُرَابُ وَالضَّبُّ وَالسُّلَحْفَاةُ وَالْحَشَرَاتُ، وَيَجُوزُ غُرَابُ الزَّرْعِ وَالْعَقْعَقُ وَالْأَرْنَبُ وَالْجَرَادُ وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إِلَّا السَّمَكُ، وَلَا يُؤْكَلُ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَيُكْرَهُ الرُّخُمُ وَالْبُغَاثُ وَالْغُرَابُ) ; لِأَنَّهَا تَأْكُلُ الْجِيَفَ فَكَانَتْ مِنَ الْخَبَائِثِ، إِذِ الْمُرَادُ الْغُرَابُ الْأَسْوَدُ وَكَذَلِكَ الْغِدَافُ. قَالَ: (وَالضَّبُّ) لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَنَّهُ أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضَبٌّ فَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ، فَجَاءَتْ سَائِلَةٌ فَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُطْعِمَهَا، فَقَالَ لَهَا: أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ؟» وَلَوْلَا حُرْمَتُهُ لَمَا مَنَعَهَا عَنِ التَّصَدُّقِ كَمَا فِي شَاةِ الْأَنْصَارِ. قَالَ: (وَالسُّلَحْفَاةُ) ; لِأَنَّهَا مِنَ الْفَوَاسِقِ (وَالْحَشَرَاتُ) بِدَلِيلِ جَوَازِ قَتْلِهَا لِلْمُحْرِمِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ غُرَابُ الزَّرْعِ وَالْعَقْعَقُ وَالْأَرْنَبُ وَالْجَرَادُ) قَالَ أَبُو يُوسُفَ: غُرَابُ الزَّرْعِ لَهُ هَيْئَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلْغُرَابِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهِ، وَأَنَّهُ يَدَّخِرُ فِي الْمَنَازِلِ وَيُؤْلَفُ كَالْحَمَامِ وَيَطِيرُ وَيَرْجِعُ، وَالْعَقْعَقُ يَخْلِطُ فِي أَكْلِهِ فَأَشْبَهَ الدَّجَاجَ، وَالْأَرْنَبَ، لِمَا رَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ قَالَ: «أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرْنَبَةٌ مَشْوِيَّةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا» . قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَمَّا الْوَبَرُ فَلَا أَحْفَظُ فِيهِ شَيْئًا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ عِنْدِي كَالْأَرْنَبِ وَهُوَ يَعْتَلِفُ الْبُقُولَ وَالنَّبْتَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْإِبَاحَةِ إِلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْحَظْرِ، وَأَمَّا الْجَرَادُ فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ: فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ: فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ» ، وَسَوَاءٌ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ أَصَابَتْهُ آفَةٌ كَالْمَطَرِ وَنَحْوِهِ لِإِطْلَاقِ النَّصِّ. قَالَ: (وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ حَيَوَانِ الْمَاءِ إِلَّا السَّمَكُ) لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ فَيَحْرُمُ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا حَلَّ السَّمَكُ بِمَا رُوِّينَا مِنَ الْحَدِيثِ وَأَنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ الْجِرِّيثَ وَالْمَارَمَاهِي وَغَيْرِهِمَا. وَعَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الضُّفْدَعِ يُجْعَلُ شَحْمُهُ فِي الدَّوَاءِ فَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضُّفْدَعِ وَقَالَ: خَبِيثَةٌ مِنَ الْخَبَائِثِ» . قَالَ: (وَلَا يُؤْكَلُ الطَّافِي مِنَ السَّمَكِ) وَهُوَ مَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ أَكْلِ الطَّافِي» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا تَبِيعُوا فِي أَسْوَاقِنَا الطَّافِيَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا دَسَرَهُ الْبَحْرُ فَكُلْهُ، وَمَا وَجَدْتَهُ مَطْفُوًّا عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ. وَمَا مَاتَ مِنَ الْحَرِّ أَوِ الْبَرْدِ أَوْ كَدِرِ الْمَاءِ رُوِيَ أَنَّهُ يُؤْكَلُ ; لِأَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ كَمَا لَوْ أَلْقَاهُ الْمَاءُ عَلَى الْيُبْسِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ ; لَأَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ مِنْ صِفَاتِ الزَّمَانِ وَلَيْسَا مِنْ حَوَادِثِ الْمَوْتِ عَادَةً، وَلَوِ ابْتَلَعَتْ سَمَكَةٌ سَمَكَةً تُؤْكَلُ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ حَادِثٌ لِلْمَوْتِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 كِتَابُ الْأُضْحِيَةِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ مُقِيمٍ مُوسِرٍ،   [الاختيار لتعليل المختار] تُحْبَسُ الْجَلَّالَةُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَمْ يُوَقِّتْ أَبُو حَنِيفَةَ فِيهِ وَقْتًا وَقَالَ: تُحْبَسُ حَتَّى تَطِيبَ وَالْجَلَّالَةُ: الَّتِي تَأْكُلُ الْعَذِرَةَ، فَإِنْ خَلَطَتْ فَلَيْسَتْ بِجَلَّالَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: الدَّجَاجَةُ لَا تَكُونُ جَلَّالَةً لِأَنَّهَا تَخْلِطُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا أَنْتَنَ وَتَغَيَّرَ وَوُجِدَ مِنْهُ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ فَهِيَ جَلَّالَةٌ لَا يُشْرَبُ لَبَنُهَا وَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَهِبَتُهَا، وَإِذَا حُبِسَتْ زَالَتِ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ مَا فِي جَوْفِهَا يَزُولُ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلتَّغَيُّرِ وَالنَّتْنُ، وَلَمْ يُوَقِّتْ أَبُو حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ إِذَا تَوَقَّفَ عَلَى زَوَالِ النَّتْنِ وَجَبَ اعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ مِنْ حَالِهَا، وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَ يَأْكُلُهُ» وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّنَزُّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رِوَايَةُ التَّقْدِيرِ بِالثَّلَاثَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ. [كِتَابُ الْأُضْحِيَةِ] وَهُوَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا: اسْمٌ لِمَا يُذْبَحُ أَيَّامَ النَّحْرِ بِنِيَّةِ الْقُرْبَةِ لِلَّهِ - تَعَالَى -، وَكَذَلِكَ الضَّحِيَّةُ بِفَتْحِ الضَّادِ وَكَسْرِهَا، وَيُقَالُ أَيْضًا أَضْحَاةٌ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ» ، فَالْأَضْحَاةُ مَا يُذْبَحُ أَيَّامِ النَّحْرِ، وَالْعَتِيرَةُ شَاةٌ كَانَتْ تُذْبَحُ لِلصَّنَمِ فِي رَجَبٍ نُسِخَتْ وَبَقِيَتِ الْأُضْحِيَّةُ، وَهِيَ مِنْ أَضْحَى يُضْحِي إِذَا دَخَلَ فِي الضُّحَى ; لِأَنَّهَا تُذْبَحُ وَقْتَ الضُّحَى فَسُمِّي الْوَاجِبُ بِاسْمِ وَقْتِهِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. قَالَ: (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ مُقِيمٍ مُوسِرٍ) ، أَمَّا الْوُجُوبُ فَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سُنَّةٌ عِنْدَهُمَا وَاخْتَارَهُ رَضِيُّ الدَّيْنِ النَّيْسَابُورِيُّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثَلَاثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ: الْوِتْرُ وَالضُّحَى وَالْأَضْحَى» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ» ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ عَلَى الْمُسَافِرِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالزَّكَاةِ، إِذِ الْوَاجِبَاتُ الْمَالِيَّةُ لَا تَأْثِيرَ لِلسَّفَرِ فِيهَا، وَدَلِيلُ الْوُجُوبِ قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أَمَرَ بِنَحْرٍ مَقْرُونٍ بِالصَّلَاةِ وَلَا ذَلِكَ إِلَّا الْأُضْحِيَّةَ، فَلَئِنْ قَالَ: الْمُرَادُ أَخْذُ الْيَدِ بِالْيَدِ عَلَى النَّحْرِ فِي الصَّلَاةِ. قُلْنَا هَذَا أَمْرٌ وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلَا وُجُوبَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَ مَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» أَمْرٌ وَأَنَّهُ لِلْوُجُوبِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا» عَلَّقَ الْوَعِيدَ بِتَرْكِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ. وَإِنِ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ جَازَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ وَيُرِيدُونَهَا.   [الاختيار لتعليل المختار] الْأُضْحِيَّةِ وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلِأَنَّ إِضَافَةَ الْيَوْمِ إِلَيْهِ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِ إِلَّا إِذَا وُجِدَتْ فِيهِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا وُجُودَ إِلَّا بِالْوُجُوبِ فَيَجِبُ تَصْحِيحًا لِلْإِضَافَةِ وَكَمَا فِي يَوْمِ الْفِطْرِ وَصَدَقَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَلَمْ تُكَتَبْ عَلَيْكُمْ» قُلْنَا نَفْيُ الْكِتَابَةِ نَفْيُ الْفَرِيضَةِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْكِتَابَةِ الْفَرْضُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أَيْ فَرْضًا مُوَقَّتًا، وَلِذَلِكَ تُسَمَّى الصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ مَكْتُوبَةً، فَكَأَنَّ النَّصَّ يَنْفِي الْفَرْضِيَّةَ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ، وَقَوْلُهُ: «وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ» أَيْ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعَارُضِ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ، وَمَا وَجَبَ بِالسُّنَّةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السُّنَنِ وَهُوَ كَثِيرُ النَّظِيرِ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ كَانَا فَقِيرَيْنِ فَخَافَا أَنْ يَظُنَّهَا النَّاسُ وَاجِبَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ عَلَى أَنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَا احْتِجَاجَ بِقَوْلِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ وَالتَّرْجِيحُ لَنَا ; لِأَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مُوجِبٌ وَمَا ذَكَرُوهُ نَافٍ وَالْمُوجِبُ رَاجِحٌ وَتَمَامُهُ عُرِفَ فِي الْأُصُولِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْمُسَافِرِ ; لِأَنَّهَا اخْتَصَّتْ بِأَسْبَابٍ شَقَّ عَلَى الْمُسَافِرِ تَحْصِيلُهَا وَتَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلَمْ تَجِبْ كَالْجُمُعَةِ، بِخِلَافِ الْفِطَرِ وَالزَّكَاةِ حَيْثُ لَا تَفُوتُ بِالْوَقْتِ، وَيَجُوزُ فِيهِمَا التَّأْخِيرُ وَدَفْعُ الْقِيَمَ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَيْسَ عَلَى الْمُسَافِرِ جُمُعَةٌ وَلَا أُضْحِيَّةٌ، وَاخْتِصَاصُهَا بِالْمُسْلِمِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ وَقُرْبَةٌ، وَبِالْحُرِّ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَبِالْمُقِيمِ لِمَا مَرَّ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُقِيمُ بِالْأَمْصَارِ وَالْقُرَى وَالْبَوَادِي لِأَنَّهُ مُقِيمٌ، وَبِالْغِنَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَدَقَةَ إِلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَالْمُرَادُ الْغِنَى الْمَشْرُوطُ لِوُجُوبِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَأَمَّا أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَعَنْهُ لَا تَجِبُ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْقُرْبَةُ لَا تُتَحَمَّلُ بِسَبَبِ الْغَيْرِ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهَا مَئُونَةٌ وَسَبَبُهَا رَأَسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ، وَصَارُوا كَالْعَبِيدِ يُؤَدِّي عَنْهُمْ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَلَا يُضَحِّي عَنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ ضَحَّى عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَقِيلَ الْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ فَلَا يُخَاطَبُ بِهَا، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ الْإِرَاقَةُ وَالتَّصَدُّقُ بِهَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْلِ جَمِيعِهَا عَادَةً وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَلَا تَجِبُ. وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تَجِبُ وَلَا يُتَصَدَّقُ بِهَا لِأَنَّهُ تَطَوَّعَ، وَلَكِنْ يَأْكُلُ مِنْهَا الصَّغِيرُ وَعِيَالُهُ وَيَدَّخِرُ لَهُ مَا يُمْكِنُهُ وَيَبْتَاعُ لَهُ بِالْبَاقِي، وَمَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ كَمَا يَجُوزُ لِلْبَالِغِ ذَلِكَ فِي الْجِلْدِ. وَالْجَدُّ مَعَ الْحَفَدَةِ كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ (وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ) لِأَنَّهُ أَدْنَى الدَّمِ كَمَا قُلْنَا فِي الْهَدَايَا. قَالَ: (وَإِنِ اشْتَرَكَ سَبْعَةٌ فِي بَقَرَةٍ أَوْ بَدَنَةٍ جَازَ إِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ) يَعْنِي مُسْلِمِينَ (وَيُرِيدُونَهَا) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 وَلَوِ اشْتَرَى بَقَرَةً لِلْأُضْحِيَةِ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهَا سِتَّةً أَجْزَأَهُ، وَيَقْتَسِمُونَ لَحْمَهَا بِالْوَزْنِ، وَتَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَيُجْزِئُ فِيهَا مَا يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ،   [الاختيار لتعليل المختار] يَعْنِي يُرِيدُونَ الْقُرْبَةَ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ كَافِرًا أَوْ أَرَادَ اللَّحْمَ لَا الْقُرْبَةَ لَا يُجْزِئُ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَأَنَّ الدَّمَ لَا يَتَجَزَّأُ لِيَكُونَ بَعْضُهُ قُرْبَةً وَبَعْضُهُ لَا، فَإِذَا خَرَجَ الْبَعْضُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً خَرَجَ الْبَاقِي، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ مَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: «نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ» ، وَتُجْزِئُ عَنْ أَقَلِّ مِنْ سَبْعَةٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَكْثَرِ ; لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تُجْزِئَ إِلَّا عَنْ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ إِرَاقَةٌ وَاحِدَةٌ، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِمَا رُوِّينَا وَأَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِالسَّبْعَةِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ. وَتَجُوزُ الْبَدَنَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ نِصْفَيْنِ ; لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ فَلَأَنْ يَجُوزَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ أَوْلَى، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ أَقَلَّ مِنَ السُّبْعِ لَا يُجْزِئُهُ. (وَلَوِ اشْتَرَى بَقَرَةً لِلْأُضْحِيَّةِ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهَا سِتَّةً أَجْزَأَهُ) اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ; لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَفِي الشَّرِكَةِ بَيْعُهَا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ إِلَّا بَقَرَةً وَلَا يَجِدُ شُرَكَاءَ فَيَشْتَرِيهَا ثُمَّ يَطْلُبُ الشُّرَكَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَوَّزْنَاهُ لِلْحَاجَةِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّرَكَاءَ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِئَلَّا يَكُونَ رَاجِعًا عَنِ الْقُرْبَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ، وَقِيلَ لَوْ أَرَادَ الِاشْتِرَاكَ وَقْتَ الشِّرَاءِ لَا يُكْرَهُ. وَقِيلَ إِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِالشِّرَاءِ، فَإِنْ أَشْرَكَ جَازَ وَيَضْمَنُ حِصَّةَ الشُّرَكَاءِ، وَقِيلَ الْغَنِيُّ إِذَا شَارَكَ يَتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ ; لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى السُّبْعِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ وَبِالشِّرَاءِ قَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهِ. قَالَ: (وَيَقْتَسِمُونَ لَحْمَهَا بِالْوَزْنِ) ; لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ وَلَا يَتَقَاسَمُونَهُ جُزَافًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْأَكَارِعُ وَالْجِلْدُ فَيَجُوزُ كَمَا قُلْنَا فِي الْبَيْعِ. (وَتَخْتَصُّ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) لِمَا مَرَّ فِي الْهَدْيِ، وَلِقَوْلِ الصَّحَابَةِ: الضَّحَايَا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَذَلِكَ اسْمٌ لِلْكِبَارِ دُونَ الصِّغَارِ. قَالَ: (وَيُجْزِئُ فِيهَا مَا يُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ) وَهُوَ الثَّنِيُّ مِنَ الْكُلِّ، وَهُوَ مِنَ الْغَنَمِ مَا لَهُ سَنَةٌ، وَمِنَ الْبَقَرِ سَنَتَانِ، وَمِنِ الْإِبِلِ خَمْسُ سِنِينَ، وَلَا يَجُوزُ الْجَذَعُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ، لِمَا رَوَى أَبُو بُرْدَةَ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ضَحَّيْتُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَعِنْدِي عَتُودٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أُضَحِّيَ بِهِ؟ قَالَ: يَجْزِيكَ وَلَا يُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَكَ» ، وَالْعَتُودُ مِنَ الْمَعْزِ كَالْجَذَعِ مِنَ الضَّأْنِ، وَهُوَ الَّذِي أَتَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَوْلِ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الضَّأْنِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «نِعْمَ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّأْنِ» ، ثُمَّ الِاسْمُ يَتَنَاوَلُ السَّالِمَ مِنْهَا وَلَا يَجُوزُ الْمَعِيبُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ فِي بَابِ الْهَدْيِ بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَيْبِ عَفْوٌ ; لِأَنَّهُ قَلَّمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 وَتَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ وَحَادِي عَشَرِهِ وَثَانِي عَشَرِهِ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا، فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يَذْبَحْ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدِ اشْتَرَاهَا تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا اشْتَرَاهَا أَوْ لَا، وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ أَوَّلَ أَيَّامِ النَّحْرِ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْمِصْرِ لَا يُضَحُّونَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ،   [الاختيار لتعليل المختار] يَسْلَمُ الْحَيَوَانُ مِنْهُ فَكَانَ فِي اعْتِبَارِهِ حَرَجٌ فَيَنْتَفِي وَالشَّقُّ فِي الْأُذُنِ وَالْوَسْمُ قَلِيلًا لَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا، وَلَا يُعْطِي أَجْرَ الْجَزَّارِ مِنْهَا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْهَدْيِ. قَالَ: (وَتَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: عَاشِرُ ذِي الْحِجَّةِ وَحَادِي عَشَرِهِ وَثَانِي عَشَرِهِ، أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا) لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا، وَهَذَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْعَقْلُ فَكَانَ طَرِيقُهُ السَّمْعَ فَكَأَنَّهُمْ قَالُوهُ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا لِمَا رُوِّينَاهُ، لِكَوْنِهِ مُسَارَعَةً إِلَى الْخَيْرِ وَالْقُرْبَةِ، وَأَدْنَاهَا آخِرُهَا لِمَا فِيهِ مِنَ التَّأْخِيرِ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَيَجُوزُ ذَبْحُهَا فِي أَيَّامِهَا وَلَيَالِيهَا لِأَنَّ الْأَيَّامَ إِذَا ذُكِرَتْ بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَنْتَظِمُ مَا بِإِزَائِهَا مِنَ اللَّيَالِي كَمَا فِي النَّذْرِ لِمَا عُرِفَ مِنْ قِصَّةِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ: (فَإِنْ مَضَتْ وَلَمْ يَذْبَحْ، فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا وَقَدِ اشْتَرَاهَا تَصَدَّقَ بِهَا حَيَّةً) ; لِأَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَى الْفَقِيرِ، فَإِذَا اشْتَرَاهَا بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ تَعَيَّنَتْ لِلْوُجُوبِ، وَالْإِرَاقَةُ إِنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَقَدْ فَاتَ فَيَتَصَدَّقُ بِعَيْنِهَا. (وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا اشْتَرَاهَا أَوْ لَا) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَاتَ وَقْتُ الْقُرْبَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ تَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ إِخْرَاجًا لَهُ عَنِ الْعُهْدَةِ كَمَا قُلْنَا فِي الْجُمُعَةِ إِذَا فَاتَتْ تُقْضَى الظُّهْرَ وَالْفِدْيَةُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الصَّوْمِ إِخْرَاجًا لَهُ عَنِ الْعُهْدَةِ. قَالَ: (وَيَدْخُلُ وَقْتُهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ أَوَّلَ أَيَّامِ النَّحْرِ، إِلَّا أَنَّ أَهْلَ الْمِصْرِ لَا يُضَحُّونَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ ذَبِيحَتَهُ، وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْأُضْحِيَّةُ» ، وَهَذَا الشَّرْطُ فِي حَقِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، أَمَّا مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ وَهُمْ أَهْلُ السَّوَادِ فَيَجُوزُ ذَبْحُهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا يَخْتَلِفُ وَقْتُهَا بِالْمِصْرِ وَعَدَمِهِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. أَمَّا شَرْطُهَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الظُّهْرَ يَمْنَعُ مِنْ فِعْلِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ كَذَا هَذَا، وَلَوْ ضَحَّى بَعْدَ صَلَاةِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ قَبْلَ صَلَاةِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا لِأَنَّهُ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَجَازَ اسْتِحْسَانًا لِحُصُولِهَا بَعْدَ صَلَاةٍ مُعْتَبَرَةٍ فَإِنَّ الِاكْتِفَاءَ بِهَا جَائِزٌ، وَلَوْ ضَحَّى بِهَا بَعْدَ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ قَبْلَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ، قَالَ الْكَرْخِيُّ: كَذَلِكَ، وَقِيلَ يَجُوزُ بِكُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ وَصَلَاةُ أَهْلِ الْمِصْرِ لِعُذْرٍ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ بِكُلِّ وَجْهٍ ; الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِهَا، وَيُطْعِمُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ وَيَدَّخِرُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَهَا الْكِتَابِيُّ؛   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّ صَلَاةَ أَهْلِ الْمِصْرِ هِيَ الْأَصْلُ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَخُرُوجُ الْآخَرِينَ بِعُذْرِ ضِيقِ الْمَسْجِدِ عَنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْإِمَامُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِعُذْرٍ لَا يُضَحِّي حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَجُوزُ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَبَعْدَهَا، رَوَاهُ الْقُدُورِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَالْمُعْتَبَرُ مَكَانُ الْأُضْحِيَّةِ لِإِمْكَانِ الْمَالِكِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ اعْتُبِرَ مَكَانُ الْمَالِكِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ، فَلَوْ كَانَ بِالْمِصْرِ وَأَهْلُهُ بِالسَّوَادِ جَازَ أَنْ يُضَحُّوا عَنْهُ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَبِالْعَكْسِ لَا، وَعِنْدَ الْحَسَنِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَيَتَأَكَّدُ وُجُوبُهَا آخَرَ أَيَّامِ النَّحْرِ حَتَّى لَوِ افْتَقَرَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ سَقَطَتْ عَنْهُ، وَإِنِ افْتَقَرَ بَعْدَهَا لَا تَسْقُطُ وَيَتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَذَا لَوْ مَاتَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ سَقَطَتْ وَبَعْدَهَا لَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِيَ بِالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِهَا، وَلَوِ اشْتَرَى الْفَقِيرُ وَضَحَّى ثُمَّ أَيْسَرَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، قِيلَ يُعِيدُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِآخِرِ الْوَقْتِ، وَقِيلَ لَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ أَوَّلَ الْأَيَّامِ. قَالَ: (وَيَأْكُلُ مِنْ لَحْمِهَا، وَيُطْعِمُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ وَيَدَّخِرُ) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا، وَكُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنِ ادِّخَارِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا» ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَ الْأَغْنِيَاءَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ وَهُوَ غَنِيٌّ فَكَذَا غَيْرُهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا تَنْقُصَ الصَّدَقَةُ عَنِ الثُّلُثِ لِأَنَّ النُّصُوصَ قِسْمَتُهَا بَيْنَ الْأَكْلِ وَالتَّصَدُّقِ وَالِادِّخَارِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ الثُّلُثُ وَيَنْتَفِعُ بِجِلْدِهَا فِيمَا يَفْرِشُ وَيَنَامُ عَلَيْهِ، أَوْ يَعْمَلُ مِنْهُ آلَةً تُسْتَعْمَلُ كَالْقِرْبَةِ وَالدَّلْوِ وَالسُّفْرَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ اتَّخَذَتْ مِنْ جِلْدِ أُضْحِيَّتِهَا سِقَاءً، أَوْ يَشْتَرِي بِهِ آلَةً كَالْمُنْخُلِ وَالْغِرْبَالِ وَلَا يَشْتَرِي بِهِ مَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إِلَّا بِالِاسْتِهْلَاكِ كَالْأَبَازِيرِ وَنَحْوِهَا ; لِأَنَّ الْمَأْثُورَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَوْ بِبَدَلِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ، وَلَا يَبِيعُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ» ، فَإِنْ بَاعَهُ بِشَيْءٍ مِنَ النُّقُودِ يَتَصَدَّقُ بِهِ لِأَنَّ وَقْتَ الْقُرْبَةِ قَدْ فَاتَ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، كَذَا رَوَاهُ مُحَمَّدٌ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَذْبَحَهَا الْكِتَابِيُّ) لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَإِنْ ذَبَحَهَا جَازَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّذْكِيَةِ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَذْبَحَهَا بِنَفْسِهِ إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الذَّبْحُ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَإِذَا فَعَلَهَا بِنَفْسِهِ كَانَ أَفْضَلَ كَمَا فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ يَذْبَحُ وَيُكَبِّرُ وَيُسَمِّي» رَوَاهُ أَنَسٌ، وَرَوَى جَابِرٌ: " أَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ وَقَالَ حِينَ وَجَّهَهُمَا: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ، عَنْ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُ أَكْبَرُ» ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الذَّبْحَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَحْضُرَهَا إِنْ لَمْ يَذْبَحْهَا، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 وَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ (ز) ، وَلَوْ غَلِطَا فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَةَ الْآخَرِ جَازَ، وَيَأْخُذُ كُلُّ وًاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَتَهُ مِنْ صَاحِبِهِ مَذْبُوحَةً وَمَسْلُوخَةً وَلَا يُضَمِّنُهُ، فَإِنْ أَكَلَاهَا ثُمَّ عَلِمَا فَلْيَتَحَلَّلَا وَيُجْزِيهِمَا وَإِنْ تَشَاجَرَا ضَمِنَ كُلٌّ لِصَاحِبِهِ قِيمَةَ لَحْمِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ، فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا إِلَى الْأَرْضِ كُلُّ ذَنْبٍ، أَمَا إِنَّهُ يُجَاءُ بِدَمِهَا وَلَحْمِهَا فَيُوضَعُ فِي مِيزَانِكِ وَسَبْعُونَ ضِعْفًا» ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: «يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، أَمْ لِآلِ مُحَمَّدٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً؟ قَالَ: لِآلِ مُحَمَّدٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً» . قَالَ: (وَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ) اسْتِحْسَانًا وَلَا يَجُوزُ قِيَاسًا، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ; لِأَنَّهُ ذَبَحَ شَاةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَضْمَنُ، كَمَا إِذَا ذَبَحَ شَاةَ قَصَّابٍ، وَإِذَا ضَمِنَ لَا يَجْزِيهِ عَنِ الْأُضْحِيَّةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ تَعَيَّنَتْ لِلذَّبْحِ أُضْحِيَّةً حَتَّى وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا فَصَارَ مُسْتَعِينًا بِكُلِّ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلذَّبْحِ عَلَى ذَبْحِهَا آذِنًا لَهُ دَلَالَةً ; لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ إِقَامَتِهَا لِعَارِضٍ يَعْرِضُ لَهُ فَصَارَ كَمَا إِذَا ذَبَحَ شَاةً شَدَّ الْقَصَّابُ رِجْلَهَا لِيَذْبَحَهَا، وَإِنْ كَانَ تَفُوتُهُ الْمُبَاشَرَةُ وَحُضُورُهَا، لَكِنْ يَحْصُلُ لَهُ تَعْجِيلُ الْبِرِّ وَحُصُولُ مَقْصُودِهِ بِالتَّضْحِيَةِ بِمَا عَيَّنَهُ فَيَرْضَى بِهِ ظَاهِرًا. قَالَ: (وَلَوْ غَلِطَا فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ الْآخَرِ جَازَ) وَفِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّتَهُ مِنْ صَاحِبِهِ مَذْبُوحَةً وَمَسْلُوخَةً وَلَا يُضَمِّنُهُ) ; لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ دَلَالَةً كَمَا مَرَّ. (فَإِنْ أَكَلَاهَا ثُمَّ عَلِمَا فَلْيَتَحَلَّلَا وَيُجْزِيِهمَا) ; لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحَبَهُ ابْتِدَاءً جَازَ. (وَإِنْ تَشَاجَرَا ضَمِنَ كُلٌّ لِصَاحِبِهِ قِيمَةَ لَحْمِهِ) ; لِأَنَّ التَّضْحِيَةَ لَمَّا وَقَعَتْ لِصَاحِبِهِ كَانَ اللَّحْمُ لَهُ، وَمَنْ أَتْلَفَ لَحْمَ أُضْحِيَّةِ غَيْرِهِ ضَمِنَهُ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا أَخَذَ مِنَ الْقِيمَةِ ; لِأَنَّهُ بَدَّلَ لَحْمَ الْأُضْحِيَّةِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَ أُضْحِيَّتَهُ. فَقِيرٌ اشْتَرَى أُضْحِيَّةً فَضَاعَتْ فَاشْتَرَى أُخْرَى ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى فَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِمَا ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْفَقِيرِ بِالشِّرَاءِ بِنِيَّةِ الْأُضْحِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ عُرْفًا، وَالشِّرَاءُ قَدْ تَعَدَّدَ، بِخِلَافِ الْغَنِيِّ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً. وَذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ: إِنْ أَوْجَبَ الثَّانِيَةَ إِيجَابًا مُسْتَأْنِفًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِمَا، وَإِنْ أَوْجَبَهَا بَدَلًا عَنِ الْأُولَى فَلَهُ أَنْ يَذْبَحَ أَيَّهُمَا شَاءَ ; لِأَنَّ الْإِيجَابَ مُتَّحِدٌ فَاتَّحَدَ الْوَاجِبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 كِتَابُ الْجِنَايَاتِ الْقَتْلُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَحْكَامِ خَمْسَةٌ: عَمْدٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ، وَمَا أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ.   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الجنايات] ِ، وَهِيَ جَمْعُ جِنَايَةٍ، وَالْجِنَايَةُ: كُلُّ فِعْلٍ مَحْظُورٍ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا، وَيَكُونُ تَارَةً عَلَى نَفْسِهِ، وَتَارَةً عَلَى غَيْرِهِ، يُقَالُ: جَنَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَنَى عَلَى غَيْرِهِ، فَالْجِنَايَةُ عَلَى غَيْرِهِ تَكُونُ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الطَّرَفِ وَعَلَى الْعِرْضِ وَعَلَى الْمَالِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى النَّفْسِ تُسَمَّى قَتْلًا أَوْ صَلْبًا أَوْ حَرْقًا، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الطَّرَفِ تُسَمَّى قَطْعًا أَوْ كَسْرًا أَوْ شَجًّا، وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ هَاتَيْنِ الْجِنَايَتَيْنِ وَمَا يَجِبُ بِهِمَا. وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْعِرْضِ نَوْعَانِ: قَذْفٌ وَمُوجَبُهُ الْحَدُّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. وَغِيبَةٌ وَمُوجَبُهَا الْإِثْمُ، وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ. وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَالِ تُسَمَّى غَصْبًا أَوْ خِيَانَةً أَوْ سَرِقَةً وَقَدْ بَيَّنَّاهَا وَمُوجَبُهَا فِي كِتَابَيِ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ الْقِصَاصُ مَشْرُوعٌ ثَبَتَتْ شَرْعِيَّتُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] أَيْ أَثْبَتْنَا لِوَلِيِّهِ سَلْطَنَةَ الْقَتْلِ. وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ قَتَلَ قَتَلْنَاهُ» ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» ، وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ وَالْعَقْلُ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي شَرْعِيَّتَهُ أَيْضًا، فَإِنَّ الطِّبَاعَ الْبَشَرِيَّةَ وَالْأَنْفُسَ الشِّرِّيرَةَ تَمِيلُ إِلَى الظُّلْمِ وَالِاعْتِدَاءِ وَتَرْغَبُ فِي اسْتِيفَاءِ الزَّائِدِ عَلَى الِابْتِدَاءِ سِيَّمَا سُكَّانُ الْبَوَادِي وَأَهْلُ الْجَهْلِ الْعَادِلِينَ عَنْ سُنَنِ الْعَقْلِ وَالْعَدْلِ كَمَا نُقِلَ مِنْ عَادَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ تُشْرَعِ الْأَجْزِيَةُ الزَّاجِرَةُ عَنِ التَّعَدِّي وَالْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا انْتِقَاصٍ لَتَجَرَّأَ ذَوُو الْجَهْلِ وَالْحَمِيَّةِ وَالْأَنْفُسِ الْأَبِيَّةِ عَلَى الْقَتْلِ وَالْفَتْكِ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِضْعَافِ مَا جُنِيَ عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِيفَاءِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى التَّفَانِي، وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، فَاقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ شَرْعَ الْعُقُوبَاتِ الزَّاجِرَةِ عَنِ الِابْتِدَاءِ فِي الْقَتْلِ وَالْقِصَاصِ الْمَانِعِ مِنِ اسْتِيفَاءِ الزَّائِدِ عَلَى الْمِثْلِ فَوَرَدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ حَسْمًا عَنْ مَادَّةِ هَذَا الْبَابِ فَقَالَ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] . قَالَ: (الْقَتْلُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَحْكَامِ خَمْسَةٌ: عَمْدٌ، وَشِبْهُ عَمْدٍ، وَخَطَأٌ، وَمَا أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ، وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ) ، وَمَعْنَاهُ الْقَتْلُ الْوَاقِعُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ حَقِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ هَذِهِ الْخَمْسَةُ، وَبَيَانُ الْحَصْرِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ مُبَاشَرَةً أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاشَرَةً فَهُوَ الْقَتْلُ بِسَبَبٍ، وَإِنْ كَانَ مُبَاشَرَةً، فَإِمَّا إِنْ كَانَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 فَالْعَمْدُ: أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ: كَالسَّيْفِ وَاللِّيطَةِ وَالْمَرْوَةِ وَالنَّارِ، وَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْقَوَدُ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ، أَوْ وُجُوبُ الْمَالِ عِنْدَ الْمُصَالَحَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَإِمَّا إِنْ كَانَ بِسِلَاحٍ وَمَا شَابَهَهُ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنْ كَانَ فَهُوَ الْعَمْدُ، إِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ فَهُوَ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً، فَإِمَّا إِنْ كَانَ حَالَةَ الْيَقَظَةِ أَوْ حَالَةَ النَّوْمِ، فَإِنْ كَانَ حَالَةَ الْيَقَظَةِ فَهُوَ الْخَطَأُ، وَإِنْ كَانَ حَالَةَ النَّوْمِ فَهُوَ الَّذِي أُجْرِيَ مَجْرَاهُ، وَلَئِنْ قِيلَ قَتْلُ الْمُكْرَهِ لَيْسَ مُبَاشَرَةً مِنَ الْمُكْرَهِ وَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ عَمْدًا حَتَّى أَوْجَبْتُمْ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ. قُلْنَا لَمَّا كَانَ الْمُكْرَهُ مَطْلُوبَ الِاخْتِيَارِ لَمْ يُضِفِ الْفِعْلَ إِلَيْهِ فَجَعَلْنَاهُ كَالْآلَةِ فِي يَدِ الْمُكْرَهِ وَانْتَقَلَ فِعْلُهُ إِلَيْهِ، فَكَأَنَّ الْمُكْرَهَ قَتَلَهُ بِآلَةٍ أُخْرَى فَصَارَ مُبَاشَرَةً تَقْدِيرًا وَشَرْعًا، وَتَمَامُهُ يُعْرَفُ فِي الْإِكْرَاهِ. قَالَ: (فَالْعَمْدُ أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ كَالسَّيْفِ وَاللِّيطَةِ وَالْمَرْوَةِ وَالنَّارِ) ; لِأَنَّ الْعَمْدَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ الْقَصْدُ، وَذَلِكَ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيلِهِ وَهُوَ مُبَاشَرَةُ الْآلَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْلِ عَادَةً، وَأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ فَكَانَ عَمْدًا، وَلَوْ قَتَلَهُ بِحَدِيدٍ أَوْ صُفْرٍ غَيْرِ مُحَدَّدٍ كَالْعَمُودِ وَالسَّنْجَةِ وَنَحْوِهِمَا فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ عَمْدٌ نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ أَصْلُ الْآلَةِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّحَاوِيِّ لَيْسَ بِعَمْدٍ لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ، وَلَوْ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا سِنَانَ لَهُ فَجَرَحَهُ فَهُوَ عَمْدٌ لِأَنَّهُ إِذَا فَرَّقَ الْأَجْزَاءَ فَهُوَ كَالسَّيْفِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِإِبْرَةٍ وَمَا يُشْبِهُهُ عَمْدًا فَمَاتَ لَا قَوْدَ فِيهِ، وَفِي الْمِسَلَّةِ وَنَحْوِهَا الْقَوَدُ لِأَنَّ الْإِبْرَةَ لَا يُقْصَدُ بِهَا الْقَتْلُ عَادَةً وَيُقْصَدُ بِالْمِسَلَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى إِنْ غَرَزَ بِالْإِبْرَةِ فِي الْمَقْتَلِ قَتَلَ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: (وَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْقَوَدُ) ، أَمَّا الْمَأْثَمُ فَبِالْإِجْمَاعِ، وَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْآدَمِيُّ بُنْيَانُ الرَّبِّ مَلْعُونٌ مَنْ هَدَمَهُ» وَالنُّصُوصُ فِيهِ كَثِيرَةٌ. وَأَمَّا الْقَوَدُ فَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْعَمْدُ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي غَيْرِهِ، وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَمْدُ قَوَدٌ» أَيْ حُكْمُهُ وَمُوجَبُهُ. قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ. قَالَ: (أَوْ وُجُوبُ الْمَالِ عِنْدَ الْمُصَالَحَةِ بِرِضَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ، فَإِذَا صَالَحَ عَنْهُ بِعِوَضٍ وَرِضَى غَرِيمِهِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا جَازَ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ، وَيَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُعْقَلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا صُلْحًا» ، وَهَذَا عَمْدٌ وَصُلْحٌ فَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ فَيَجِبُ فِي مَالِهِ عَلَى مَا شَرَطَا مِنَ التَّأْجِيلِ وَالتَّعْجِيلِ وَالتَّنْجِيمِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ» ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا شَيْئًا فَهُوَ حَالٌّ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وَالْمُرَادُ بِهِ الصُّلْحُ، وَهَذَا لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقَوَدُ عَيْنًا فَلَا يَجِبُ الْمَالُ إِلَّا بِالصُّلْحِ بِرِضَا الْقَاتِلِ، بَيَانُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، فَلَوْ وَجَبَ الْمَالُ أَوْ أَحَدُهُمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 أَوْ صُلْحُ بَعْضِهِمْ أَوْ عَفْوُهُ، فَتَجِبُ بَقِيَّةُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، أَوْ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ لِشُبْهَةٍ كَقَتْلِ الْأَبِ ابْنَهُ فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ. وَشِبْهُ الْعَمْدِ: أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لَا يُفَرِّقُ (سم) الْأَجْزَاءَ: كَالْحَجَرِ وَالْعَصَا وَالْيَدِ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَا يَكُونُ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَشَرِيعَةُ مَنْ تَقَدَّمَنَا تُلْزِمُنَا إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ النَّسْخُ، وَجَمِيعُ أَحَادِيثِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ أَخْبَارُ آحَادٍ لَا يُنْسَخُ بِهَا الْكِتَابُ، وقَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ لُغَةً، وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ النَّفْسِ وَالنَّفْسِ لَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَالِ، أَوْ نَقُولُ ذَكَرَ الْقِصَاصَ وَلَمْ يَذْكُرِ الدِّيَةَ، فَلَوْ ثَبَتَ التَّخْيِيرُ أَوِ الدِّيَةُ لَثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، وَالزِّيَادَةُ نَسْخٌ وَالْكِتَابُ لَا يُنْسَخُ بِهِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَمْدُ قَوَدٌ» ، وَقَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» وَقَدْ مَرَّ التَّمَسُّكُ بِهِ. قَالَ: (أَوْ صُلْحُ بَعْضِهِمْ أَوْ عَفْوُهُ، فَتَجِبُ بَقِيَّةُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ) لِأَنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَرَّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِهِ» ، وَإِذَا كَانَ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمْ فَلِكُلٍّ مِنْهُمُ الْعَفْوُ عَنْ نَصِيبِهِ، وَالصُّلْحُ عَنْهُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْحُقُوقِ، فَإِذَا صَالَحَ الْبَعْضُ أَوْ عَفَا تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَقَدْ سَقَطَ الْبَعْضُ فَيَسْقُطُ الْبَاقِي ضَرُورَةً، وَإِذَا سَقَطَ انْقَلَبَ نَصِيبُ الْبَاقِي مَالًا لِئَلَّا يَسْقُطَ لَا إِلَى عِوَضٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ كَمَا مَرَّ وَلَا الْتَزَمَهُ فَيَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِغَيْرِ قَصْدٍ مِنَ الْقَاتِلِ فَصَارَ كَالْخَطَأِ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي مِنْهُ شَيْءٌ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِعَفْوِهِ. قَالَ (أَوْ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهِ لِشُبْهَةٍ كَقَتْلِ الْأَبِ ابْنَهُ فَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) وَهَذَا لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُقْتَلُ بِابْنِهِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ» ، وَلِأَنَّهُ جُزْؤُهُ، فَأُورِثَ شُبْهَةً فِي الْقِصَاصِ فَسَقَطَ، وَإِذَا سَقَطَ الْقِصَاصُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ عَمْدٌ، وَتَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْعَمْدِ) لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يُوجِبْهَا فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهَا وَلَوْ وَجَبَتْ لَذَكَرَهَا كَمَا ذَكَرَهَا فِي الْخَطَأِ وَلِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْخَطَأِ فَإِنَّ جِنَايَةَ الْعَمْدِ أَعْظَمُ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِهَا لِلْأَدْنَى رَفْعُهَا لِلْأَعْلَى. قَالَ: (وَشِبْهُ الْعَمْدِ: أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لَا يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ كَالْحَجَرِ وَالْعَصَا وَالْيَدِ) وَقَالَا: إِذَا ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ عَظِيمٍ أَوْ خَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ فَهُوَ عَمْدٌ، وَشِبْهُ الْعَمْدِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَتَعَمَّدَ الضَّرْبَ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا كَالسَّوْطِ وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ ; لِأَنَّ مَعْنَى الْعَمْدِيَّةِ قَاصِرَةٌ فِيهِمَا لِمَا أَنَّهُ لَا يَقْتُلُ عَادَةً، وَيُقْصَدُ بِهِ غَيْرُ الْقَتْلِ كَالتَّأْدِيبِ وَنَحْوِهِ فَكَانَ شِبْهَ الْعَمْدِ، أَمَّا الَّذِي لَا يَلْبَثُ وَلَا يَتَقَاصَرُ عَنْ عَمَلِ السَّيْفِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 وَمُوجَبُهُ الْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ مُغَلَّظَةً عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَالْخَطَأُ أَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا، أَوْ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ، أَوْ يَرْمِيَ غَرَضًا فَيُصِيبُ آدَمِيًّا، وَمُوجَبُهُ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] فِي إِزْهَاقِ الرُّوحِ فَيَكُونُ عَمْدًا. وَرُوِيَ «أَنَّ يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ بِالْحَجَرِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْقِصَاصِ» . وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَا إِنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ عَصَا وَعَصَا. وَرَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إِلَّا السَّيْفَ، وَفِي كُلِّ خَطَأٍ أَرْشٌ» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: شِبْهُ الْعَمْدِ: الْحَذْفَةُ بِالْعَصَا وَالْقَذْفَةُ بِالْحَجَرِ، «فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمَّاهُ خَطَأَ الْعَمْدِ» ; لِأَنَّهُ عَمْدٌ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ خَطَأٌ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ ; لِأَنَّ آلَتَهُ لَيْسَتْ آلَةَ الْعَمْدِ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْعَمْدِيَّةِ فِيهِ قَاصِرٌ لِكَوْنِهِ آلَةً غَيْرَ مَوْضُوعَةٍ لِلْقَتْلِ وَلَا مُسْتَعْمَلَةٍ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَتْلُهُ بِهَا عَلَى غِرَّةٍ مِنْهُ فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ، بِخِلَافِ السَّيْفِ وَأَخَوَاتِهِ فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ الْمَقْتُولِ فَكَانَ شِبْهَ الْعَمْدِ كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ الصَّغِيرَيْنِ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ إِفْسَادُ الْآدَمِيِّ صُورَةً وَمَعْنًى، أَمَّا صُورَةٌ فَبِنَقْضِ التَّرْكِيبِ، وَأَمَّا مَعْنًى فَإِفْسَادُ الْمَنَافِعِ، وَقَدْ وُجِدَ الْقَتْلُ هَهُنَا مَعْنًى لَا صُورَةً، فَلَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ وَأَنَّهُ يَجِبُ بِالسَّيْفِ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ يَكُونُ قَتْلًا صُورَةً وَمَعْنًى فَلَا تُوجَدُ الْمُمَاثَلَةُ الْوَاجِبَةُ بِالنُّصُوصِ، وَأَمَّا الْيَهُودِيُّ فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَتَلَهُ سِيَاسَةً، فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ اعْتَادَ ذَلِكَ، وَعِنْدَنَا مَتَى تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ سِيَاسَةً. قَالَ: (وَمُوجَبُهُ الْإِثْمُ) لِأَنَّهُ قَتْلٌ عَنْ قَصْدٍ. (وَالْكَفَّارَةُ) لِشِبْهِهِ بِالْخَطَأِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَيَحْتَاطُ فِي إِيجَابِهَا. (وَالدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ) ; لِأَنَّ كُلَّ دِيَةٍ تَجِبُ بِالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ صُلْحٍ وَلَا عَفْوٍ لِبَعْضٍ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي الدِّيَاتِ، وَسَنُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ وُجُوبِهَا وَالتَّغْلِيظَ وَقَدْرَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَهُوَ عَمْدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ) ; لِأَنَّ إِتْلَافَ النَّفْسِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ، وَمَا دُونَهَا لَا يَخْتَصُّ بِآلَةٍ دُونَ آلَةٍ، فَبَقِيَ الْمُعْتَبَرُ تَعَمُّدَ الضَّرْبِ وَقَدْ وُجِدَ فَكَانَ عَمْدًا. قَالَ: (وَالْخَطَأُ أَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ صَيْدًا أَوْ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ) وَهُوَ خَطَأٌ فِي الْقَصْدِ. (أَوْ يَرْمِي غَرَضًا فَيُصِيبُ آدَمِيًّا) وَهُوَ خَطَأٌ فِي الْفِعْلِ. (وَمُوجَبُهُ الْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . (وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» الْحَدِيثَ، وَقِيلَ الْمَنْفِيُّ إِثْمُ الْقَتْلِ، وَإِنَّمَا يَأْثَمُ مِنْ حَيْثُ تَرَكَ الِاحْتِرَازَ وَالتَّثَبُّتَ حَالَةَ الرَّمْيِ، وَلِهَذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 وَمَا أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ: مِثْلُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى إِنْسَانٍ فَيَقْتُلُهُ فَهُوَ كَالْخَطَأِ. وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ: كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَفِنَائِهِ فَيَعْطَبُ بِهِ إِنْسَانٌ، وَمُوجَبُهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا غَيْرَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ حِرْمَانَ الْإِرْثِ إِلَّا الْقَتْلَ بِسَبَبٍ، وَلَوْ مَاتَ فِي الْبِئْرِ غَمًّا أَوْ جُوعًا فَهُوَ هَدَرٌ (سم) ، وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَبِالْعَبْدِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَمَا أُجْرِيَ مُجْرَى الْخَطَأِ: مِثْلُ النَّائِمِ يَنْقَلِبُ عَلَى إِنْسَانٍ فَيَقْتُلُهُ فَهُوَ كَالْخَطَأِ) فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ النَّائِمَ لَا قَصْدَ لَهُ فَلَا يُوصَفُ فِعْلُهُ بِالْعَمْدِ وَلَا بِالْخَطَأِ، إِلَّا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَطَأِ لِحُصُولِ الْمَوْتِ بِفِعْلِهِ كَالْخَاطِئِ. قَالَ: (وَالْقَتْلُ بِسَبَبٍ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَفِنَائِهِ فَيَعْطَبُ بِهِ إِنْسَانٌ، وَمُوجَبُهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا غَيْرَ) ; لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيمَا وَضَعَهُ وَحَفَرَهُ فَجُعِلَ دَافِعًا مُوَقِّعًا فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَا يَأْثَمُ فِيهِ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا أَلْحَقْنَاهُ بِالْقَاتِلِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى الْأَصْلِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِعُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً فَضَمَانُهُ عَلَيْهِ، بِذَلِكَ قَضَى شُرَيْحٌ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ، وَلَوْ سَقَاهُ سُمًّا فَقَتَلَهُ فَهُوَ مُسَبِّبٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهُ مُبَاشَرَةً وَلَا هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْقَتْلِ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الطَّبَائِعِ، وَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهِ فَشَرِبَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ; لِأَنَّ الشَّارِبَ هُوَ الَّذِي قَتَلَ نَفْسَهُ، فَصَارَ كَمَا إِذَا تَعَمَّدَ الْوُقُوعَ فِي الْبِئْرِ. قَالَ: (وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ حِرْمَانَ الْإِرْثِ إِلَّا الْقَتْلَ بِسَبَبٍ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لًا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ» ، وَالْمُسَبِّبُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ وَلَا مُتَّهَمٍ ; لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مُوَرِّثَهُ يَقَعُ فِي الْبِئْرِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي الْخَطَأِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ. قَالَ: (وَلَوْ مَاتَ فِي الْبِئْرِ غَمًّا أَوْ جُوعًا فَهُوَ هَدَرٌ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُ الْحَافِرُ فِيهِمَا. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَضْمَنُ فِي الْغَمِّ دُونَ الْجُوعِ ; لِأَنَّ الْغَمَّ بِسَبَبِ الْبِئْرِ وَالْوُقُوعِ فِيهَا، أَمَّا الْجُوعُ بِسَبَبِ فَقْدِ الطَّعَامِ وَلَا مَدْخَلِ لِلْبِئْرِ فِي ذَلِكَ. وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْجُوعَ أَيْضًا بِسَبَبِ الْوُقُوعِ إِذْ لَوْلَاهُ لَكَانَ الطَّعَامُ قَرِيبًا مِنْهُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ بِالْوُقُوعِ فَلَا يَضْمَنُ، وَإِنَّمَا مَاتَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَهُوَ الْجُوعُ وَالْغَمُّ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُضَافٍ إِلَى الْحَافِرِ فَلَا يَكُونُ مُسَبِّبًا. قَالَ: (وَالْكَفَّارَةُ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] وَلَا يُجْزِئُ فِيهَا الطَّعَامُ لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ لَا تُعْلَمُ إِلَّا نَصًّا وَلَا نَصَّ فِيهِ. [فصل يقتل الحر بالحر وبالعبد] فَصْلٌ (وَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَبِالْعَبْدِ) أَمَّا الْحُرُّ بِالْحُرِّ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، قَالَ - تَعَالَى -: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 وَالرّجُّلُ بِالْمَرْأَةِ، وَالصَّغِيرُ بِالْكَبِيرِ، وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ (ف) وَلَا يُقْتَلَانِ بِالْمُسْتَأْمَنِ، وَيُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ، وَيُقْتَلُ الصَّحِيحُ بِالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَبِالْمَجْنُونِ وَبِنَاقِصِ الْأَطْرَافِ، وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ، وَلَا بِعَبْدِهِ، وَلَا بِعَبْدِ وَلَدِهِ، وَلَا بِمُكَاتَبِهِ، وَمَنْ وَرِثَ قِصَاصًا عَلَى أَبِيهِ سَقَطَ، وَالْأُمُّ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانُوا كَالْأَبِ، وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا عَمْدًا فَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَأَمَّا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ فَلِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَلِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي عِصْمَةِ الدَّمِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْمُسَاوَاةِ، وقَوْله تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ; لِأَنَّهُ تَخْصِيصٌ بِالذِّكْرِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا سِوَاهُ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ وَنَحْنُ نَعْمَلُ بِهِ وَبِقَوْلِهِ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَبِالْحَدِيثِ فَكَانَ أَوْلَى مِنَ الْعَمَلِ بِهِ خَاصَّةً. قَالَ: (وَالرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَالصَّغِيرُ بِالْكَبِيرِ) لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ. قَالَ: (وَالْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ) لِمَا رَوَى جَابِرٌ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَى بِذِمَّتِهِ» وَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِصْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقِصَاصِ تَنْفِيرُ لَهُمْ عَنْ قَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَفِيهِ مِنَ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» الْحَرْبِيُّ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ مَتَى أُطْلِقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْحَرْبِيِّ عَادَةً وَعُرْفًا فَيَنْصَرِفُ إِلَيْهِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. (وَلَا يُقْتَلَانِ) يَعْنِي الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ. (بِالْمُسْتَأْمَنِ) لِعَدَمِ التَّسَاوِي فَإِنَّهُ غَيْرُ مَحْقُونِ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَحِرَابُهُ يُوجِبُ إِبَاحَةَ دَمِهِ، فَإِنَّهُ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ وَالْمُحَارَبَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَصَارَ كَالذِّمِّيِّ وَجَوَابُهُ مَرَّ. (وَيُقْتَلُ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْتَأْمَنِ) لِلْمُسَاوَاةِ. وَقِيلَ: لَا يُقْتَلُ، وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِقِيَامِ الْمُبِيحِ. قَالَ: (وَيُقْتَلُ الصَّحِيحُ بِالزَّمِنِ وَالْأَعْمَى وَبِالْمَجْنُونِ وَبِنَاقِصِ الْأَطْرَافِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُمُومَاتِ، وَلِأَنَّا لَوِ اعْتَبَرْنَا التَّفَاوُتَ فِيمَا وَرَاءَ الْعِصْمَةِ مِنَ الْأَطْرَافِ وَالْأَوْصَافِ لَامْتَنَعَ الْقِصَاصُ وَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي. قَالَ: (وَلَا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ، وَلَا بِعَبْدِهِ، وَلَا بِعَبْدِ وَلَدِهِ، وَلَا بِمُكَاتَبِهِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يُقَادُ وَالِدٌ بِوَلَدِهِ وَلَا سَيِّدٌ بِعَبْدِهِ» ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجِبُ لِنَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ قِصَاصٌ، وَلَا لِوَلَدِهِ عَلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْعَبْدِ، وَكَذَا لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ مَلَكَ بَعْضَهُ ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّأُ. قَالَ: (وَمَنْ وَرِثَ قِصَاصًا عَلَى أَبِيهِ سَقَطَ) ; لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَثْبُتُ لَهُ قِصَاصٌ عَلَى الْأَبِ لِمَا مَرَّ. (وَالْأُمُّ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانُوا كَالْأَبِ) لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجُزْئِيَّةِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا السَّبَبَ فِي إِيجَادِهِ فَصَارُوا كَالْأَبِ. قَالَ: (وَمَنْ جَرَحَ رَجُلًا عَمْدًا فَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ) مَعْنَاهُ إِذَا مَاتَ مِنْهَا بِأَنْ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ عَارِضٌ آخَرُ يُضَافُ الْمَوْتُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إِلَّا بِالسَّيْفِ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ وَالْمَوْلَى وَالْخَاطِئِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَكُلِّ مَنْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ، وَإِذَا قُتِلَ عَبْدُ الرَّهْنِ فَلَا قِصَاصَ حَتَى يَجْتَمِعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ، وَإِذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَالْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى، وَإِنْ قُتِلَ عَنْ وَفَاءٍ وَلَا وَارِثَ لَهُ إِلَّا الْمَوْلَى فَلَهُ الْقِصَاصُ (م) ، وَإِذَا كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ كِبَارٍ وَصِغَارٍ فَلِلْكِبَارِ الِاسْتِيفَاءُ (سم)   [الاختيار لتعليل المختار] عَمْدًا فَيَجِبُ الْقِصَاصُ. قَالَ: (وَلَا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ إِلَّا بِالسَّيْفِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا قَوَدَ إِلَّا بِالسَّيْفِ» ، وَالْمُرَادُ بِهِ السِّلَاحُ. قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ عَلَى شَرِيكِ الْأَبِ وَالْمَوْلَى وَالْخَاطِئِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَكُلِّ مَنْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ) ; لِأَنَّهُ قَتْلٌ حَصَلَ بِسَبَبَيْنِ: أَحَدُهُمَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَوْدِ وَهُوَ لَا يَتَجَزَّى فَلَا يَجِبُ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّمَاءِ الْحُرْمَةُ، وَالنُّصُوصُ الْمُوجِبَةُ لِلْقِصَاصِ مُخْتَصَّةٌ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَمَوْضِعٍ يُمْكِنُ الْقِصَاصُ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا لِعَدَمِ التَّجَزِّي فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ، ثُمَّ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَوِ انْفَرَدَ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبِ الْقِصَاصُ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْعَمْدَ لِمَا رُوِّينَا، وَنِصْفُهَا الْآخَرُ عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ إِنْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ خَطَأً ; لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِيهِ بِنَفْسِ الْقَتْلِ، فَإِنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ، قَالَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ فَفِي مَالِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. قَالَ: (وَإِذَا قُتِلَ عَبْدُ الرَّهْنِ فَلَا قِصَاصَ حَتَّى يَجْتَمِعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ) ; لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَالْمُرْتَهِنُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ فَلَا يَلِيهِ، وَالرَّاهِنُ مَلَكَهُ لَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ بَطَلَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَاشْتَرَطَ اجْتِمَاعَهُمَا لِيَسْقُطَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الرَّاهِنِ. قَالَ: (وَإِذَا قُتِلَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ أَصْلًا) لِاشْتِبَاهِ الْوَلِيِّ فَإِنَّهُ إِنْ مَاتَ عَبْدًا فَالْمَوْلَى وَلِيُّهُ فَإِنْ مَاتَ حُرًّا فَالْوَارِثُ وَلِيُّهُ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ فَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ. (وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فَالْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى) لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا بِالْإِجْمَاعِ. (وَإِنْ قُتِلَ عَنْ وَفَاءٍ وَلَا وَارِثَ لَهُ إِلَّا الْمَوْلَى فَلَهُ الْقِصَاصُ) ; لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ حُرًّا مَاتَ أَوْ عَبْدًا، وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ وَهُوَ الْقَوَدُ، وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ لَا يُفْضِي إِلَى الْمُنَازَعَةِ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا قِصَاصَ لِاشْتِبَاهِ سَبَبِ الِاسْتِيفَاءِ بِالْوِلَايَةِ أَوْ بِالرِّقِّ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْقِصَاصُ بَيْنَ كِبَارٍ وَصِغَارٍ فَلِلْكِبَارِ الِاسْتِيفَاءُ) وَقَالَا: لَيْسَ لِلْكِبَارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمْ كَالْحَاضِرِ مَعَ الْغَائِبِ وَأَحَدِ الْمَوْلَيَيْنِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَجَزَّى لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا يَتَجَزَّى وَهِيَ الْقَرَابَةُ، فَثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَلاً كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ وَالْمُوَلَّيَانِ عَلَى الْخِلَافِ، وَالْعَفْوُ مِنَ الصَّغِيرِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ، وَفِي انْتِظَارِ بُلُوغِهِ تَفْوِيتُ الِاسْتِيفَاءِ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِمَالِ، بِخِلَافِ الْكَبِيرَيْنِ وَالْغَائِبِ ; لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 وَإِذَا قُتِلَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ فَلِلْأَبِ أَوِ الْقَاضِي أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُصَالِحَ، وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ، وَالْوَصِيُّ يُصَالِحُ لَا غَيْرَ، وَلَا قِصَاصَ فِي التَّخْنِيقِ وَالتَّغْرِيقِ (سم) ، وَتُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ، وَيُقْتَلُ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ اكْتِفَاءً وَإِنْ قَتَلَهُ وَلِيُّ أَحَدِهِمْ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ، وَمَنْ رَمَى إِنْسَانًا عَمْدًا فَنَفَذَ مِنْهُ إِلَى آخَرَ وَمَاتَا فَالْأَوَّلُ عَمْدٌ وَالثَّانِي خَطَأٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] مِنْهُ ثَابِتٌ فَافْتَرَقَا، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ صِغَارًا قِيلَ: يَسْتَوْفِي السُّلْطَانُ، وَقِيلَ: يَنْتَظِرُ بُلُوغُ أَحَدِهِمْ، وَالْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ كَالصَّبِيِّ، وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ مَوْلَى عَلَيْهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ الْكَبِيرُ كَانَ بَعْضُهُ أَصَالَةً وَبَعْضُهُ نِيَابَةً. قَالَ: (وَإِذَا قُتِلَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ فَلِلْأَبِ أَوِ الْقَاضِي أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يُصَالِحَ وَلَيْسَ لَهُ الْعَفْوُ، وَالْوَصِيُّ يُصَالِحُ لَا غَيْرُ) ، أَمَّا الْأَبُ فَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى النَّفْسِ، وَهَذَا مِنْ بَابِهِ شُرِعَ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إِلَيْهَا وَهُوَ التَّشَفِّي فَيَثْبُتُ لَهُ التَّشَفِّي بِالْقَتْلِ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الْقَتْلَى ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الصُّلْحِ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلصَّبِيِّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ لِأَنَّهُ إِبْطَالُ الْحَقِّ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَعَلَى هَذَا قَطْعُ يَدِ الْمَعْتُوهِ عَمْدًا، وَكَذَلِكَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السُّلْطَانِ. وَمَنْ قُتِلَ وَلَا وَلِيَّ لَهُ فَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ، فَكَذَلِكَ الْقَاضِي، وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَلَا يَمْلِكُ الْعَفْوَ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَا الْقِصَاصَ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى النَّفْسِ فَتَعَيَّنَ الصُّلْحُ صِيَانَةً لِلْحَقِّ عَنِ الْبُطْلَانِ. قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ فِي التَّخْنِيقِ وَالتَّغْرِيقِ) خِلَافًا لَهُمَا، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ، فَإِنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلِلْإِمَامِ قَتْلُهُ سِيَاسَةً لِأَنَّهُ سَعَى فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ. قَالَ: (وَتُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ) لِمَا مَرَّ مِنَ الْعُمُومَاتِ، وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ صَنْعَاءَ قَتَلُوا وَاحِدًا فَقَتَلَهُمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: " لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ "، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى قَطْعِ يَدٍ حَيْثُ لَا يُقْطَعُونَ ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ يَجِبُ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ كَالْمُنْفَرِدِ فِي إِتْلَافِهَا. أَمَّا الْقَطْعُ يَتَبَعَّضُ، فَيَكُونُ الْوَاحِدُ مُتْلِفًا بَعْضَ الْيَدِ، وَلِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى الْقَتْلِ أَكْثَرُ فَكَانَ شَرْعُ الزَّاجِرِ فِيهِ دَفْعًا لِأَغْلَبِ الْجِنَايَتَيْنِ وَأَعْظَمِهِمَا فَلَا يَلْزَمُ شَرْعُهُ لِدَفْعِ أَدْنَاهُمَا. قَالَ: (وَيُقْتَلُ الْوَاحِدُ بِالْجَمَاعَةِ اكْتِفَاءً) وَصُورَتُهُ: رَجُلٌ قَتَلَ جَمَاعَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ ; لِأَنَّهُمْ إِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ وَزُهُوقَ الرُّوحِ لَا يَتَبَعَّضُ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَوْفِيًا جَمِيعَ حَقِّهِ لِمَا بَيَّنَّا، فَلَا يَجِبُ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَرْشِ (وَإِنْ قَتَلَهُ وَلِيُّ أَحَدِهِمْ سَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ) ; لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْقِصَاصِ وَقَدْ فَاتَ، وَصَارَ كَمَا إِذَا مَاتَ الْقَاتِلُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ كَذَا هَذَا وَصَارَ كَمَوْتِ الْعَبْدِ الْجَانِي. قَالَ: (وَمَنْ رَمَى إِنْسَانًا عَمْدًا فَنَفَذَ مِنْهُ إِلَى آخَرَ وَمَاتَا فَالْأَوَّلُ عَمْدٌ) ; لِأَنَّهُ تَعَمَّدَ رَمْيَهُ، وَفِيهِ الْقِصَاصُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. (وَالثَّانِي خَطَأٌ) لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْهُ فَكَانَ خَطَأً لِمَا مَرَّ. وَمَنْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ وَعَقَرَهُ سَبُعٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 فَصْلٌ وَلَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ إِلَّا بَيْنَ مُسْتَوِي الدِّيَةِ إِذَا قُطِعَتْ مِنَ الْمَفْصِلِ وَتَمَاثَلَتْ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَشَجَّ نَفْسَهُ وَشَجَّهُ آخَرُ، فَعَلَى الشَّاجِّ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَالْبَاقِي هَدَرٌ ; لِأَنَّهُ تَلِفَ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: جِنَايَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ فِعْلُ الْأَجْنَبِيِّ، وَجِنَايَةٌ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ فِعْلُ السَّبُعِ وَالْحَيَّةِ، وَجِنَايَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْآخِرَةِ هَدَرٌ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ فِعْلُهُ، فَيَكُونُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ثُلُثَ دِيَةِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الثُّلُثَ. [فصل الْقصاص في الْأَطْرَافِ] فَصْلٌ (وَلَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ إِلَّا بَيْنَ مُسْتَوِي الدِّيَةِ إِذَا قُطِعَتْ مِنَ الْمَفْصِلِ وَتَمَاثَلَتْ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ، وَلِأَنَّ الْأَطْرَافَ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ، وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ الصَّحِيحُ بِالْأَشَلِّ وَالْكَامِلُ بِالنَّاقِصَةِ الْأَصَابِعِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْقِيمَةِ، بِخِلَافِ النَّفْسِ عَلَى مَا مَرَّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ بِانْتِفَاءِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِيَّةِ، وَالْمَالِيَّةُ مَعْلُومَةٌ بِتَقْدِيرِ الشَّرْعِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ التَّسَاوِي فِيهَا، وَلَا يُمْكِنُ التَّسَاوِي فِي الْقَطْعِ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنَ الْمَفْصِلِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْقِيمَةِ وَهِيَ الدِّيَةُ، وَلَا بَيْنَ الْعَبِيدِ لِأَنَّهُمْ إِنْ تَفَاوَتَتْ قِيمَتُهُمْ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ تَسَاوَتْ فَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ. وَنَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الشِّجَاجِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الْقِصَاصُ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشِّجَاجِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ إِلْحَاقُ شَيْنٍ وَقَدِ اسْتَوَيَا فِيهِ، وَفِي الطَّرَفِ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ وَقَدِ اخْتَلَفَا فِيهَا، وَيَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الدِّيَةِ. ثُمَّ النُّقْصَانُ نَوْعَانِ: نَقْصٌ مُشَاهَدٌ كَالشَّلَلِ فَيَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ الْكَامِلِ بِالنَّاقِصِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ. وَنَقْصٌ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ كَالْيَمِينِ مَعَ الْيَسَارِ، فَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ بِالْآخَرِ. وَكَذَا الْأَصَابِعُ لَا يُقْطَعُ إِلَّا بِمِثْلِهَا الْيَمِينُ بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ بِالْيَسَارِ، وَكَذَا الْعَيْنُ الْيَمِينُ بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ بِالْيَسَارِ، وَالنَّابُ بِالنَّابِ، وَالثَّنِيَّةُ بِالثَّنِيَّةِ، وَالضِّرْسُ بِالضِّرْسِ، وَلَا يُؤْخَذُ الْأَعْلَى بِالْأَسْفَلِ ; لِأَنَّ الْقِصَاصَ يُنْبِئُ عَنِ الْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ إِلَّا بِالتَّسَاوِي فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْقِيمَةِ وَالْعُضْوِ، وَقِسْ عَلَى هَذَا أَمْثَالَهُ، فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ غَيْرُهُ مِنَ الْمَفْصِلِ قُطِعَتْ يَدُهُ لِمَا مَرَّ، وَلَا مُعْتَبِرَ بِكِبَرِ الْيَدِ وَصِغَرِهَا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْيَدِ لَا تَخْتَلِفُ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ يُقْطَعُ مِنَ الْمَفْصِلِ كَالرِّجْلِ وَمَارِنِ الْأَنْفِ وَهُوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 وَلَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ وَلَا فِي الذَّكَرِ وَلَا أَنْ تُقْطَعَ الْحَشَفَةُ، وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إِلَّا السِّنَّ، فَإِنْ قُلِعَ يُقْلَعُ، وَإِنْ كُسِرَ يُبْرَدُ بِقَدْرِهِ، وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ إِلَّا أَنْ يَذْهَبَ ضَوْءُهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ بِأَنْ يُوضَعَ عَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ رَطْبٌ وَتُقَابَلُ عَيْنُهُ بِالْمِرْآةِ الْمُحْمَاةِ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْءُهُا، وَلَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَمَنْ قَطَعَ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ قَطَعَا يَمِينَهُ وَأَخَذَا مِنْهُ دِيَةَ الْأُخْرَى بَيْنَهُمَا، فَإِنْ قَطَعَهَا أَحَدُهُمَا مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ فَلِلْآخَرِ دِيَةُ يَدِهِ، وَإِذَا كَانَ الْقَاطِعُ أَشَلَّ أَوْ نَاقِصَ الْأَصَابِعِ، فَالْمَقْطُوعُ إِنْ شَاءَ قَطَعَ الْمَعِيبَةَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] مَا لَانَ مِنْهُ، وَالْأُذُنُ بِالْأُذُنِ لِإِمْكَانِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَطْعِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ} [المائدة: 45] . قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ فِي اللِّسَانِ وَلَا فِي الذَّكَرِ إِلَّا أَنْ تُقْطَعَ الْحَشَفَةُ) ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْقَبِضُ وَيَنْبَسِطُ فَلَا يُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَطْعِ فَلَا قِصَاصَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قَطَعَ الْحَشَفَةَ فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ كَالْمَفْصِلِ، وَلَوْ قَطَعَ بَعْضَهَا وَبَعْضَ الذَّكَرِ فَلَا قِصَاصَ لِتَعَذُّرِ الْمُسَاوَاةِ. أَمَّا الْأُذُنُ لَا تَنْقَبِضُ فَيُمْكِنُ الْمُمَاثَلَةُ سَوَاءٌ قَطَعَهَا أَوْ بَعْضَهَا. وَأَمَّا الشَّفَةُ إِنْ قَطَعَهَا جَمِيعَهَا وَجَبَ الْقِصَاصُ لِإِمْكَانِ الْمُسَاوَاةِ، وَإِنْ قَطَعَ بَعْضَهَا لَا قِصَاصَ لِتَعَذُّرِهَا. قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ إِلَّا السِّنَّ) رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مُتَعَذِّرَةٌ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْعِظَامِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كُسِرَ مَوْضِعٌ يَنْكَسِرُ مَوْضِعٌ آخَرُ لِأَنَّهُ أَجْوَفُ كَالْقَارُورَةِ مُمْكِنَةٌ فِي السِّنِّ، قَالَ - تَعَالَى -: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] . (فَإِنْ قَلَعَ يُقْلَعُ) سِنُّهُ. (وَإِنْ كُسِرَ يُبْرَدُ بِقَدْرِهِ) تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ، حَتَّى لَوْ كَانَ السِّنُّ بِحَالٍ لَا يُمْكِنُ بَرْدُهُ لَا قِصَاصَ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ. قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ فِي الْعَيْنِ) لِتَعَذُّرِ الْمُسَاوَاةِ. (إِلَّا أَنْ يَذْهَبَ ضَوْءُهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ) فَيُمْكِنُ الْقِصَاصُ. (بِأَنْ يُوضَعَ عَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ رَطْبٌ وَتُقَابَلُ عَيْنُهُ بِالْمِرْآةِ الْمُحْمَاةِ حَتَّى يَذْهَبَ ضَوْءُهَا) ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ ; لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إِلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَيُسْلَكُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَا قِصَاصَ فِي الْأَحْوَلِ لِأَنَّهُ نَقْصٌ فِي الْعَيْنِ كَالشَّلَلِ فِي الْيَدِ. قَالَ: (وَلَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. (وَتَجِبُ الدِّيَةُ) لِأَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ تَجِبُ الدِّيَةُ لِئَلَّا تَخْلُوَ الْجِنَايَةُ عَنْ مُوجَبٍ. قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ قَطَعَا يَمِينَهُ وَأَخَذَا مِنْهُ دِيَةَ الْأُخْرَى بَيْنَهُمَا) لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ كَالْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ. (فَإِنْ قَطَعَهَا أَحَدُهُمَا مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ فَلِلْآخَرِ دِيَةُ يَدِهِ) لِأَنَّ الْحَاضِرَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَبَقِيَ حَقُّ الْغَائِبِ وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَيُصَارُ إِلَى الدِّيَةِ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ الْقَاطِعُ أَشَلَّ أَوْ نَاقِصَ الْأَصَابِعِ، فَالْمَقْطُوعُ إِنْ شَاءَ قَطَعَ الْمَعِيبَةَ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ كَمَلاً، فَإِنْ رَضِيَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ، وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَكْبَرَ فَالْمَشْجُوجُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ بِقَدْرِ شَجَّتِهِ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَرْشَهَا، وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ الْبُرْءِ أَوْ خَطَأً بَعْدَهُ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا بَعْدَ الْبُرْءِ أُخِذَ بِالْأَمْرَيْنِ،   [الاختيار لتعليل المختار] بِدُونِ حَقِّهِ أَخَذَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْعِوَضَ وَهُوَ الْأَرْشُ، كَمَنْ غَصَبَ مِثْلِيًّا فَأَتْلَفَهُ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ كَذَا هَذَا، وَلَوْ سَقَطَتِ الْيَدُ الْمَعِيبَةُ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِتَعَيُّنِ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَالًا بِاخْتِيَارِهِ فَيَسْقُطُ بِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، وَلَوْ قُطِعَتْ فِي قِصَاصٍ أَوْ سَرِقَةٍ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ أَوْفَى بِهَا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَهِيَ سَالِمَةٌ لَهُ مَعْنًى. (وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَصْغَرَ) لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ كَمَلاً لِأَنَّهُ إِنْ أَخَذَ بِقَدْرِ شَجَّتِهِ مِسَاحَةً يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ حَقِّهِ ; لِأَنَّهُ إِذَا شَجَّ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَمَا بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّاجِّ أَقَلَّ مِسَاحَةً، فَإِذَا اسْتَوْفَى مِقْدَارَ شَجَّتِهِ وَهُوَ إِنَّمَا يَسْتَحِقُّ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ فَقَدْ تَعَدَّى إِلَى غَيْرِ حَقِّهِ فَيَتَخَيَّرُ كَمَا قُلْنَا. (وَلَوْ كَانَ رَأْسُ الشَّاجِّ أَكْبَرَ فَالْمَشْجُوجُ إِنْ شَاءَ أَخَذَ بِقَدْرِ شَجَّتِهِ، وَإِنْ شَاءٍ أَخَذَ أَرْشَهَا) ; لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مَا بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّاجِّ يَزْدَادُ شَيْنُ الشَّاجِّ بُطُولِ الشَّجَّةِ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَيَتَخَيَّرُ لِمَا مَرَّ، وَكَذَلِكَ إِذَا اسْتَوْعَبَتِ الشَّجَّةُ مِنْ جَبْهَتِهِ إِلَى قَفَاهُ، وَلَا يَبْلُغُ قَفَا الشَّاجِّ يُخَيَّرُ كَمَا قُلْنَا. قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأٍ ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ الْبُرْءِ أَوْ خَطَأٍ بَعْدَهُ، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ثُمَّ قَتَلَهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا بَعْدَ الْبُرْءِ أَخَذَ بِالْأَمْرَيْنِ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِرَاحَاتِ تُجْمَعُ ; لِأَنَّ الْقَتْلَ غَالِبًا إِنَّمَا يَقَعُ بِجِرَاحَاتٍ مُتَعَاقِبَةٍ، فَلَوِ اعْتَبَرْنَا كُلَّ جِرَاحَةٍ عَلَى حِدَةٍ أَدَّى إِلَى الْحَرَجِ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنُ يُعْطَى كُلُّ جِرَاحَةٍ حُكْمُهَا، وَفِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَغَايُرِ الْفِعْلَيْنِ وَتَغَايُرِ حُكْمِهِمَا، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَالرَّابِعَةُ فَلِتَخَلُّلِ الْبُرْءِ بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا بُرْءٌ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُكْتَفَى بِدِيَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْخَطَأَيْنِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا فِي الْعَمْدَيْنِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا، ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا قَبْلَ الْبُرْءِ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُقْتَلُ وَلَا يُقْطَعُ ; لِأَنَّ الْفِعْلَ مُتَّحِدٌ وَلَمْ يَتَخَلَّلِ الْبُرْءَ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي الْخَطَأِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَالَ لَهُمْ: اقْطَعُوهُ ثُمَّ اقْتُلُوهُ، وَإِنْ شَاءَ قَالَ لَهُمْ: اقْتُلُوهُ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْقَوَدُ وَهُوَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ بِالْقَطْعِ وَالْقَتْلُ بِالْقَتْلِ فَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ، أَوْ لِأَنَّ الْقَتْلَ يَمْنَعُ إِضَافَةَ السَّرَايَةِ إِلَى الْقَطْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ وَجَدَا مِنْ شَخْصَيْنِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْقَاتِلِ فَصَارَ كَمَا إِذَا تَخَلَّلَ الْبُرْءُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا سَرَى الْقَطْعُ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ، وَبِخِلَافِ الْخَطَأَيْنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الدِّيَةُ وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْمُسَاوَاةُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 وَمَنْ قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ فَعَفَا عَنِ الْقَطْعِ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ، وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ، وَالشَجَّةُ كَالْقَطْعِ (سم) . وَإِذَا حَضَرَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ حَضَرَ الْآخَرُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ (سم) الْبَيِّنَةَ. رَجُلَانِ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ فَقَالَ الْوَلِيُّ: قَتَلْتُمَاهُ فَلَهُ قَتْلُهُمَا، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْإِقْرَارِ شَهَادَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ غَيْرِهِ فَعَفَا عَنِ الْقَطْعِ ثُمَّ مَاتَ فَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ، وَلَوْ عَفَا عَنِ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ، وَالشَّجَّةُ كَالْقَطْعِ) . وَقَالَا: هُوَ عَفْوٌ عَنِ النَّفْسِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ جَمِيعًا ; لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنِ الْقَطْعِ أَوْ عَنِ الشَّجَّةِ عَفْوٌ عَنْ مُوجِبِهِ، وَمُوجِبُهُ الْقَطْعُ لَوْ بَرَأَ، وَالْقَتْلُ لَوْ سَرَى، فَكَانَ عَفْوًا عَنْ أَيِّهِمَا تَحَقَّقَ وَصَارَ كَمَا إِذَا عَفَا عَنِ الْجِنَايَةِ، فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجِنَايَةَ الْمُقْتَصِرَةَ وَالسَّارِيَةَ كَذَا هَذَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسًا مَعْصُومَةً عَمْدًا، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ قِيَاسًا، وَالْعَفْوُ وَقَعَ عَنِ الْقَطْعِ لَا عَنِ الْقَتْلِ، إِلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لِوُجُودِ صُورَةِ الْعَفْوِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ شُبْهَةً وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقِصَاصِ، بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ يَعُمُّ اسْمَ جِنْسٍ، وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْقَتْلِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ خَطَأً يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ مِنَ الثُّلُثِ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْمَالُ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَمِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ; لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْقِصَاصُ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ. قَالَ: (وَإِذَا حَضَرَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَتْلِ ثُمَّ حَضَرَ الْآخَرُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْبَيِّنَةَ) وَقَالَا: لَا إِعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً لَا يُعِيدُهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْحَاضِرَ لَا يَقْتَصُّ حَتَّى يَحْضُرَ الْغَائِبُ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ. لَهُمَا أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ عَفْوِهِ حَالَ حَيَاتِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ، وَلَوِ انْقَلَبَ مَالًا يُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ وَيُورَثُ عَنْهُ فَيَقُومُ الْوَاحِدُ مَقَامَ الْجَمِيعِ فِي إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَقْتُولِ مِنْ وَجْهٍ لِمَا قَالَا، وَحَقُّ الْوَرَثَةِ مِنْ وَجْهٍ، فَإِنَّ الْوَارِثَ لَوْ عَفَا عَنِ الْجَارِحِ حَالَ حَيَاةِ الْمَجْرُوحِ صَحَّ عَفْوُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ لَمَا صَحَّ كَإِبْرَاءِ الْغَرِيمِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِعَادَةِ، بِخِلَافِ الْخَطَأِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْمَالُ وَهُوَ حَقُّ الْمَقْتُولِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ يُصْرَفُ فِي حَوَائِجِهِ أَوَّلًا، وَلَيْسَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيظِ حَتَّى يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَبِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَلَا كَذَلِكَ الْعَمْدُ. قَالَ: (رَجُلَانِ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَتْلِ فَقَالَ الْوَلِيُّ قَتَلْتُمَاهُ فَلَهُ قَتْلُهُمَا، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْإِقْرَارِ شَهَادَةٌ فَهُوَ بَاطِلٌ) وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَهُ وَآخَرَانِ أَنَّ عَمْرًا قَتَلَهُ، فَقَالَ الْوَلِيُّ: قَتَلَاهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّهُ كَذَّبَ الشُّهُودَ حَيْثُ قَالَ: قَتَلَاهُ، وَكَذَّبَ الْمُقِرِّينَ حَيْثُ قَالَ: قَتَلْتُمَاهُ، وَتَكْذِيبُ الشُّهُودِ تَفْسِيقٌ لَهُمْ، وَالْفِسْقُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةَ، وَتَكْذِيبُ الْمُقِرِّ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يُبْطِلُ إِقْرَارَهُ فِي الْبَاقِي فَافْتَرَقَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 وَلَوْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ (سم) ، وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ لَا شَيْءَ فِيهِ، وَلَوْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ فَفِيهِ الْقِيمَةُ (م) .   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَلَوْ رَمَى مُسْلِمًا فَارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، ثُمَّ وَقَعَ السَّهْمُ بِهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ لَا شَيْءَ فِيهِ، وَلَوْ رَمَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ فَفِيهِ الْقِيمَةُ) أَمَّا الْأُولَى فَمَذْهَبُهُ، وَقَالَا: لَا شَيْءَ فِيهِ لِأَنَّهُمَا يُعْتَبَرَانِ حَالَةَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهَا حَالَةُ التَّلَفِ الْمُوجِبَةُ لِلْعُقُوبَةِ، وَحَالَةُ التَّلَفِ أَسْقَطَ عِصْمَةَ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ، فَكَأَنَّهُ أَبْرَأَ الرَّامِيَ فَصَارَ كَمَا إِذَا أَبْرَأَهُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ الْمَوْتِ، وَلَهُ أَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا بِرَمْيِهِ وَأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ مَعْصُومٌ عِنْدَ الرَّمْيِ لِوُجُودِهِ قَبْلَ الرِّدَّةِ. وَقَضِيَّتُهُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ إِلَّا أَنَّ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ الْقَتْلِ أَوْرَثَ شُبْهَةً لِرِدَّتِهِ فَسَقَطَ الْقِصَاصُ فَتَجِبُ الدِّيَةُ. فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الرَّمْيِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَمَى إِلَى صَيْدٍ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ حَلَّ، وَكَذَا إِذَا رَمَى إِلَى صَيْدٍ ثُمَّ مَاتَ ثُمَّ أَصَابَهُ حَلَّ وَيَكُونُ لَهُ، وَلَوْ كَفَرَ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ أَجْزَأَ عَنْهُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فَبِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الرَّمْيَ مَا وَقَعَ سَبَبًا لِلضَّمَانِ لِأَنَّ الْمَرْمِيَّ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَنْقَلِبُ سَبَبًا بَعْدَ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا إِذَا رَمَى حَرْبِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ وَقَعَ بِهِ السَّهْمُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَاهُ. وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَجِبُ فَضْلُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مَرْمِيًّا إِلَى غَيْرِ مَرْمِيٍّ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ فَبَقِيَ الرَّمْيُ جِنَايَةً يَنْتَقِصُ بِهَا قِيمَةَ الْمَرْمِيِّ إِلَيْهِ فَيَجِبُ النُّقْصَانُ. وَلَهُمَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ فَيَصِيرُ قَاتِلًا مِنْ وَقْتِ الرَّمْيِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا قَطَعَ طَرَفَ عَبْدٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْيَدِ مَعَ النُّقْصَانِ الَّذِي نَقَصَهُ الْقَطْعُ إِلَى أَنْ عُتِقَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ النَّفْسِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ بَعْضَ الْمَحَلِّ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ لِلْمَوْلَى، وَلَوْ وَجَبَ بَعْدَ السَّرَايَةِ شَيْءٌ لَوَجَبَ لِلْعَبْدِ، فَتَصِيرُ نِهَايَةُ الْجِنَايَةِ مُخَالِفَةً لِابْتِدَائِهَا، وَهُنَا الرَّمْيُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَا يَجِبُ بِهِ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ وَإِنَّمَا تَقِلُّ بِهِ الرَّغَبَاتُ فَلَا تَخْتَلِفُ نِهَايَتُهُ وَبِدَايَتُهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 كِتَابُ الدِّيَاتِ الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَمِثْلُهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَاقٌ وَجِذَاعٌ (م) ،   [الاختيار لتعليل المختار] [كِتَابُ الدِّيَاتِ] ِ الدِّيَةُ مَا يُؤَدَّى، وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ يُوجِبُ مَالًا يُدْفَعُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ سُمِّيَ دِيَةً، وَإِنَّمَا خُصَّ بِمَا يُؤَدَّى بَدَلَ النَّفْسِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْمُتْلَفَاتِ ; لِأَنَّ الِاسْمَ يُشْتَقُّ لِلتَّعْرِيفِ بِالتَّخْصِيصِ وَلَا يَطْرُدُونَهُ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ، وَهِيَ صَوْنُ بُنْيَانِ الْآدَمِيِّ عَنِ الْهَدْمِ وَدَمِهِ عَنِ الْهَدَرِ، وَجَبَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي النَفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» أَيْ تَجِبُ بِسَبَبِ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ. قَالَ: (الدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَمِثْلُهَا بِنْتُ لَبُونٍ وَحِقَاقٌ وَجِذَاعٌ) ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: ثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَأَرْبَعُونَ مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إِلَى بَازِلِ عَامٍ كُلُّهَا خَلِفَاتٌ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «أَلَا إِنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» ، وَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ أَغْلَظُ فَتَجِبُ كَمَا قُلْنَا. وَلَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» ، وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرْبَاعًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ الْخَطَأُ، فَبَقِيَ الْمُرَادُ شِبْهُ الْعَمْدِ، وَلَوْ أَوْجَبْنَا الْحَوَامِلَ وَجَبَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمِائَةِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ التَّغْلِيظَ أَرْبَاعٌ كَمَا قُلْنَا وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا سَمَاعًا فَكَانَ مُعَارِضًا لِمَا رُوِيَ، وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ، وَلَوْ كَانَ مَا رُوِّينَاهُ ثَابِتًا لَارْتَفَعَ خُصُوصًا وَقَدْ وَرَدَ عَلَى زَعْمِكُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مَعَ تَكَاثُرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ يَشْتَهِرُ، وَلَوِ اشْتُهِرَ لَاحْتَجَّ بِهِ الْبَعْضُ عَلَى الْبَعْضِ، وَلَوِ احْتَجَّ لَارْتَفَعَ الْخِلَافُ، وَلَمَّا لَمْ يَرْتَفِعْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ ثُبُوتِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِيجَابُ الْحَامِلِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ الْحَمْلُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 وَغَيْرُ الْمُغَلَّظَةِ عِشْرُونَ ابْنُ مَخَاضٍ وَمِثْلُهَا بَنَاتُ مَخَاضٍ وَبَنَاتُ لَبُونٍ وَحِقَاقٌ وَجِذَاعٌ، أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ (سم) ، وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ ذَلِكَ، وَلَا تَغْلِيظَ إِلَّا فِي الْإِبِلِ، وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ. قَالَ: (وَغَيْرُ الْمُغَلَّظَةِ عِشْرُونَ ابْنُ مَخَاضٍ وَمِثْلُهَا بَنَاتُ مَخَاضٍ وَبَنَاتُ لَبُونٍ وَحِقَاقٌ وَجِذَاعٌ) فَهِيَ أَخْمَاسٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ عِشْرُونَ هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَى فِي قَتِيلٍ قُتِلَ خَطَأً بِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ أَخْمَاسًا» كَمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ الْخَطَأَ أَخَفُّ فَنَاسَبَ التَّخْفِيفَ فِي مُوجَبِهِ وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (أَوْ أَلْفُ دِينَارٍ، أَوْ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ) كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ لِمَا رَوَى مَرَّارُ بْنُ حَارِثَةَ قَالَ: «قُطِعَتْ يَدٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَضَى عَلَى الْقَاطِعِ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمِنَ الدَّنَانِيرِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَرُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَى فِي قَتِيلٍ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ» ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفٍ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: كَانَ وَزْنُ سِتَّةٍ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا. (وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ) وَقَالَا: تَجِبُ مِنَ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ وَمِنَ الْغَنَمِ أَلْفَا شَاةٍ وَمِنَ الْحُلَلِ مِائَتَا حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ ثَوْبَانِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ، لِمَا رَوَى عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي الدِّيَةِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَمِنَ الدَّنَانِيرِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَمِنَ الْإِبِلِ بِمِائَةٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ بِمِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَمِنَ الْغَنَمِ بِأَلْفَيْ شَاةٍ، وَمِنَ الْحُلَلِ بِمِائَتَيْ حُلَّةٍ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ قَدَّرَ الدِّيَةَ بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ ; لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمْ يَقَعْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِجَمِيعِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» ، وَقَضِيَّتُهُ أَنْ لَا يَجِبَ مَا سِوَاهَا إِلَّا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا دَلَّ عَلَى الذَهَبِ وَالْفِضَّةِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَضَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِهِمَا، فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا صَالَحَ الْوَلِيُّ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ لَمْ يَجُزْ، وَهَذَا آيَةُ التَّقْدِيرِ. قَالَ: (وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ نِصْفُ ذَلِكَ) هَكَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ كَذَلِكَ أَيْضًا وَلِأَنَّهَا فِي الْمِيرَاثِ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الرَّجُلِ فَكَذَلِكَ الدِّيَةُ. قَالَ: (وَلَا تَغْلِيظَ إِلَّا فِي الْإِبِلِ) ; لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدِ النَّصُّ بِالتَّغْلِيظِ إِلَّا فِيهَا وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا نَصًّا. قَالَ: (وَدِيَةُ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «دِيَةُ كُلِّ ذِي عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ» . وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَضَى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي دِيَةِ الذِّمِّيِّ بِمِثْلِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا قَبِلُوهَا فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» ، وَلِلْمُسْلِمِينَ إِذَا قُتِلَ قَتِيلُهُمْ أَلْفُ دِينَارٍ فَيَكُونُ لَهُمْ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْمُسْتَأْمَنِ لِمَا «رَوَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفِ وَالذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ، وَبَعْضِهِ إِذَا مُنِعَ الْكَلَامُ، وَالصُّلْبُ إِذَا مُنِعَ الْجِمَاعُ، أَوِ انْقَطَعَ مَاؤُهُ أَوِ احْدَوْدَبَ، وَكَذَا إِذَا أَفْضَاهَا فَلَمْ تَسْتَمْسِكِ الْبَوْلَ،   [الاختيار لتعليل المختار] ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ مُسْتَأْمَنَيْنِ جَاءَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَسَاهُمَا وَحَمَلَهُمَا وَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ، فَلَقِيَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فَقَتَلَهُمَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِأَمَانِهِمَا، فَوَدَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِدِيَتَيْ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ» . [فصل في النفس الدية] فَصْلٌ (وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ) لِمَا رُوِّينَا، وَالْمُرَادُ نَفْسُ الْحُرِّ وَيَسْتَوِي فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْوَضِيعُ وَالشَّرِيفُ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْحُرْمَةِ وَالْعِصْمَةِ وَكَمَالِ الْأَحْوَالِ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ فِي الْأَنْفِ وَالذَّكَرِ وَالْحَشَفَةِ وَالْعَقْلِ وَالشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ، وَبَعْضِهِ إِذَا مُنِعَ الْكَلَامُ، وَالصُّلْبُ إِذَا مُنِعَ الْجِمَاعُ، أَوِ انْقَطَعَ مَاؤُهُ، أَوِ احْدَوْدَبَ، وَكَذَا إِذَا أَفَضَاهَا فَلَمْ تَسْتَمْسِكِ الْبَوْلَ) . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى أَزَالَ الْجَمَالَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ أَوْ أَذْهَبَ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ أَصْلًا تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً ; لِأَنَّ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ إِتْلَافٌ لِلنَّفْسِ مَعْنًى فِي حَقِّ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ ; لِأَنَّ قِيَامَ النَّفْسِ مَعْنًى بِقِيَامِ مَنَافِعِهَا، فَكَانَ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ كَتَفْوِيتِ الْحَيَاةِ، وَالْجَمَالُ مَقْصُودٌ فِي الْحَيَوَانَاتِ كَالْمَنْفَعَةِ، وَلِهَذَا تَزْدَادُ قِيمَةُ الْمَمْلُوكِ بِالْجَمَالِ، وَتَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ إِنَّمَا أَوْجَبَ الدِّيَةَ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا لِلْآدَمِيِّ وَشَرَفُهُ بِالْجَمَالِ كَشَرَفِهِ بِالْمَنَافِعِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ» ، وَهَكَذَا كَتَبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِذَا قُطِعَ الْأَنْفُ أَزَالَ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ، وَكَذَا الْمَارِنُ وَالْأَرْنَبَةُ وَالْكُلُّ عُضْوٌ وَاحِدٌ، فَلَا يَجِبُ بِقَطْعِ الْكُلِّ إِلَّا دِيَةً وَاحِدَةً، وَفِي قَطْعِ الذَّكَرِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْوَطْءِ وَاسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ وَرَمْيِ الْمَاءِ وَدَفْقِهِ وَالْإِيلَاجِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ الْعُلُوقِ عَادَةً. وَأَمَّا الْحَشَفَةُ فَهِيَ الْأَصْلُ فِي مَنْفَعَةِ الْإِيلَاجِ وَالدَّفْقِ وَالْقَصَبَةُ تَبَعٌ لَهُ. وَأَمَّا الْعَقْلُ فَمَنْفَعَتُهُ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ وَبِهِ يَنْتَفِعُ لِدُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَمَنَافِعُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَالشَّمُّ وَالذَّوْقُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ مَنَافِعُ مَقْصُودَةٌ. وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَضَى فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ حَيْثُ ذَهَبَ بِهَا الْعَقْلُ وَالْكَلَامُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ، وَفِي قَطْعِ اللِّسَانِ إِزَالَةُ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَهِيَ مَنْفَعَةُ النُّطْقِ، وَكَذَلِكَ إِذَا زَالَتْ بِقَطْعِ الْبَعْضِ لِوُجُودِ الْمُوجِبِ. وَلَوْ عَجَزَ عَنِ النُّطْقِ بِبَعْضِ الْحُرُوفِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْأَكْثَرِ تَجِبُ كُلُّ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَنْفَعَةُ الْكَلَامِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَكْثَرِهَا فَحُكُومَةُ عَدْلٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ خَطَأً فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمَا فِي الْبَدَنِ اثْنَانِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَمَا فِيهِ أَرْبَعَةٌ فَفِي أَحَدِهَا رُبُعُ الدِّيَةِ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعِ عُشْرُ الدِّيَةِ وَتُقْسَمُ عَلَى مَفَاصِلِهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] لِحُصُولِ الْإِفْهَامِ لَكِنْ مَعَ خَلَلٍ، وَالْجِمَاعُ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ جَمَّةٌ، فَإِذَا مَاتَ وَجَبَ بِهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَبِانْقِطَاعِ الْمَاءِ يَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ، وَبِالْحَدَبَةِ يَزُولُ الْجَمَالُ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ، فَلَوْ زَالَتِ الْحَدَبَةُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِزَوَالِ الْمُوجِبِ، وَاسْتِمْسَاكُ الْبَوْلِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فَتَجِبُ الدِّيَةُ بِزَوَالِهَا. قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ خَطَأً فَفِيهِ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ) لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ وَقَدْ تَقَدَّمَ. قَالَ: (وَمَا فِي الْبَدَنِ اثْنَانِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ) وَهِيَ الْأُذُنَانِ وَالْعَيْنَانِ إِذَا ذَهَبَ نُورُهُمَا سَوَاءٌ ذَهَبَتِ الشَّحْمَةُ أَوْ بَقِيَتْ ; لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ بِالنُّورِ لَا بِالشَّحْمَةِ، وَاللَّحْيَانِ وَالشَّفَتَانِ وَالْحَاجِبَانِ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَسَمْعُ الْأُذُنَيْنِ وَثَدْيَا الْمَرْأَةِ وَحَلَمَتَاهُمَا ; لِأَنَّ اللَّبَنَ لَا يَسْتَمْسِكُ دُونَهُمَا، وَبِفَوَاتِهِمَا تَفُوتُ مَنْفَعَةُ الْإِرْضَاعِ، وَالْأُنْثَيَانِ وَالْأَلْيَتَانِ إِذَا اسْتُؤْصِلَ لَحْمُهُمَا حَتَّى لَا يَبْقَى عَلَى الْوَرِكِ لَحْمٌ. وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْأُذُنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ» ، وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ» ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَفُوتُ بِفَوَاتِهِمَا أَوِ الْجَمَالَ كَامِلًا، وَبِفَوَاتِ أَحَدِهِمَا يَفُوتُ النِّصْفُ. وَإِذَا قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ مَعَ الذَّكَرِ، أَوْ قَطَعَ الذَّكَرَ أَوَّلًا ثُمَّ الْأُنْثَيَيْنِ فَفِيهِمَا دِيَتَانِ ; لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْأُنْثَيَيْنِ بَعْدَ قَطْعِ الذَّكَرِ قَائِمَةٌ وَهِيَ إِمْسَاكُ الْمَنْيِ وَالْبَوْلِ، فَإِنْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ ثُمَّ الذَّكَرَ فَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ; لِأَنَّ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ صَارَ خَصِيًّا، وَفِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ حُكُومَةٌ وَلِأَنَّهُ اخْتَلَّتْ مَنْفَعَتُهُ بِقَطْعِ الْأُنْثَيَيْنِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْإِيلَاجِ فَصَارَ كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ. قَالَ: (وَمَا فِيهِ أَرْبَعَةٌ فَفِي أَحَدِهَا رُبْعُ الدِّيَةِ) ، وَهِيَ أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ وَأَهْدَابُهَا ; لِأَنَّهُ يُفَوِّتُ بِهِ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ وَجِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، وَهُوَ دَفْعُ الْقَذَى عَنِ الْعَيْنِ، فَإِنْ قَطَعَ الْأَشْفَارَ وَحْدَهَا وَلَيْسَ فِيهَا أَهْدَابٌ فَفِيهَا الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهَا رُبْعُ الدِّيَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَهْدَابُ، وَإِنْ قَطَعَهَا مَعًا فِدْيَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ كَالْمَارِنِ مَعَ الْأَنْفِ. قَالَ: (وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ) يَعْنِي مِنْ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ» وَالْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ، وَفِي قَطْعِ الْكُلِّ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَتَجِبُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ وَهِيَ عَشْرٌ فَيُقْسَمُ عَلَيْهَا. (وَتُقْسَمُ) دِيَةُ الْأُصْبُعِ. (عَلَى مَفَاصِلِهَا) فَمَا فِيهَا مَفْصِلَانِ فَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ دِيَتِهَا، وَمَا فِيهَا ثَلَاثُ مَفَاصِلَ فَفِي أَحَدِهَا ثُلُثُهَا اعْتِبَارًا بِانْقِسَامِ دِيَةِ الْيَدِ عَلَى أَصَابِعِهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 وَالْكَفُّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ، وَفِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، فَإِنْ قَلَعَهَا فَنَبَتَتْ أُخْرَى مَكَانَهَا سَقَطَ الْأَرْشُ، وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتِ الدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ اللِّحْيَةُ وَالْحَاجِبَانِ وَالْأَهْدَابُ، وَفِي الْيَدِ إِذَا شُلَّتْ، وَالْعَيْنِ إِذَا ذَهَبَ ضَوْؤُهَا الدِّيَةُ، وَفِي الشَّارِبِ، وَلِحْيَةِ الْكَوْسَجِ، وَثَدْيِ الرَّجُلِ، وَذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ، وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَالْكَفُّ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ) لِأَنَّ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ بِالْأَصَابِعِ وَالدِّيَةِ وَجَبَتْ بِتَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ. قَالَ: (وَفِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ) ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ» ، وَالْأَسْنَانُ كُلُّهَا سَوَاءٌ الثَّنَايَا وَالْأَنْيَابُ وَالْأَضْرَاسُ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَاسْمِ السِّنِّ، يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَيَجِبُ فِي الْأَسْنَانِ دِيَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِيَةٍ ; لِأَنَّ الْأَسْنَانَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا، عِشْرُونَ ضِرْسًا وَأَرْبَعَةُ أَنْيَابٍ وَأَرْبَعُ ضَوَاحِكَ وَأَرْبَعُ ثَنَايَا. وَأَسْنَانُ الْكَوْسَجِ قَالُوا ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ فَيَجِبُ دِيَةً وَخُمُسَا دِيَةٍ، وَهَذَا غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ الْأَعْضَاءِ إِلَّا أَنَّ الْمَرْجِعَ فِيهَا إِلَى النَّصِّ. قَالَ: (فَإِنْ قَلَعَهَا فَنَبَتَتْ أُخْرَى مَكَانَهَا سَقَطَ الْأَرْشُ) لِزَوَالِ سَبَبِهِ، وَلَوْ أَعَادَ الْمَقْلُوعَةَ إِلَى مَكَانِهَا فَنَبَتَتْ فَعَلَيْهِ الْأَرْشُ وَكَذَلِكَ الْأُذُنُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إِلَى الْحَالَةِ الْأُولَى فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْجَمَالِ، وَالْمَقْلُوعُ لَا يَنْبُتُ ثَانِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِقُ بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ فَكَانَ وُجُودُ هَذَا النَّبَاتِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ قَلَعَهُ إِنْسَانٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوِ اسْوَدَّتِ السِّنُّ مِنَ الضَّرْبَةِ أَوِ احْمَرَّتْ أَوِ اخْضَرَّتْ فَفِيهَا الْأَرْشُ كَامِلًا؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ مَنْفَعَتُهَا إِذَا اسْوَدَّتْ فَإِنَّهَا تَتَنَاثَرُ وَيَفُوتُ بِذَلِكَ الْجَمَالُ كَامِلًا، وَلَوِ اصْفَرَّتْ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ حُكُومَةُ عَدْلٍ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَةَ لَا تَذْهَبُ مَنْفَعَتُهَا بَلْ تُوجِبُ نُقْصَانَهَا فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ، وَلَوْ ضَرَبَ سِنًّا فَتَحَرَّكَ يَنْتَظِرُ بِهِ حَوْلًا لِاحْتِمَالٍ أَنَّهَا تَشْتَدُّ، وَإِنْ سَقَطَ أَوْ حَدَثَ فِيهِ صِفَةٌ مِمَّا ذَكَرْنَا وَجَبَ فِيهَا مَا قُلْنَا ; لِأَنَّ الْجِنَايَاتِ تُعْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الِاسْتِقْرَارِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يُسْتَأْنَ بِالْجِرَاحِ حَتَّى يَبْرَأَ» ، وَلِأَنَّهَا إِذَا لَمْ تَسْتَقِرَّ لَا يُعْلَمُ الْوَاجِبُ فَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ. قَالَ: (وَفِي شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتِ الدِّيَةَ، وَكَذَلِكَ اللِّحْيَةُ وَالْحَاجِبَانِ وَالْأَهْدَابُ) ، أَمَّا الْحَاجِبَانِ وَالْأَهْدَابُ فَلِمَا مَرَّ، وَأَمَّا اللِّحْيَةُ فَلِأَنَّ فِيهَا جَمَالًا كَامِلًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدُّنْيَا تَقُولُ: سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ أَوْجَبَ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ إِذَا حُلِقَ فَلَمْ يَنْبُتْ دِيَةً كَامِلَةً، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي اللِّحْيَةِ. وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ يَقُولُ فِي اللِّحْيَةِ: إِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ إِذَا كَانَتْ كَامِلَةً يَتَجَمَّلُ بِهَا، أَمَّا إِذَا كَانَتْ طَاقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يُتَجَمَّلُ بِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يُتَجَمَّلُ بِهَا وَلَيْسَتْ مِمَّا تَشِينُ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ. قَالَ: (وَفِي الْيَدِ إِذَا شُلَّتْ وَالْعَيْنِ إِذَا ذَهَبَ ضَوْؤُهَا الدِّيَةُ) لِأَنَّهَا إِذَا عَدِمَتِ الْمَنْفَعَةُ فَقَدْ عَدِمَتْ مَعْنًى فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَفِي الشَّارِبِ وَلِحْيَةِ الْكَوْسَجِ وَثَدْيِ الرَّجُلِ وَذَكَرِ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ، وَالْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ، وَالرِّجْلِ الْعَرْجَاءِ، وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ، وَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ، وَعَيْنِ الصَّبِيِّ وَلِسَانِهِ وَذَكَرِهِ إِذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَإِذَا قَطَعَ الْيَدَ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ فَفِي الْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الزَّائِدِ حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَمَنْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ أُخْرَى، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى فَشُلَّتِ الْيُسْرَى فَلَا قِصَاصَ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ وَالْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ وَالرِّجْلِ الْعَرْجَاءِ وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ وَالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ وَعَيْنِ الصَّبِيِّ وَلِسَانِهِ وَذَكَرهِ إِذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ) ، أَمَّا الشَّارِبُ فَهُوَ تَبَعٌ لِلِّحْيَةِ، وَقَدْ قِيلَ: السُّنَّةُ فِيهَا الْحَلْقُ فَلَمْ يَكُنْ جَمَالًا كَامِلًا، وَلِحْيَةُ الْكَوْسَجِ لَيْسَتْ جَمَالًا كَامِلًا، وَكُلُّ مَا يَجِبُ فِي الشَّعْرِ إِنَّمَا يَجِبُ إِذَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ، أَمَّا إِذَا عَادَ فَنَبَتَ كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الْوَجْبِ، وَثَدْيُ الرَّجُلِ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا جَمَالَ، وَذَكَرُ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ وَالْيَدُ الشَّلَّاءُ وَلِسَانُ الْأَخْرَسِ وَالْعَيْنُ الْعَوْرَاءُ وَالرِّجْلُ الْعَرْجَاءُ لِعَدَمِ فَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا جَمَالِ فِي السِّنِّ السَّوْدَاءِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ حُكُومَةُ عَدْلٍ تَشْرِيفًا لِلْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ، وَأَعْضَاءُ الصَّبِيِّ إِذَا لَمْ تُعْلَمْ صِحَّتُهَا وَسَلَامَةُ مَنْفَعَتِهَا لَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِالشَّكِّ وَالسَّلَامَةِ وَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً فَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ، وَاسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِكَلَامٍ بَلْ مُجَرَّدُ صَوْتٍ وَصِحَّةُ اللِّسَانِ تُعْرَفُ بِالْكَلَامِ، وَالذَّكَرُ بِالْحَرَكَةِ، وَالْعَيْنُ بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّظَرِ، فَإِذَا عُرِفَ صِحَّةُ ذَلِكَ فَهُوَ كَالْبَالِغِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَفِي شَعْرِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ حُكُومَةٌ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا جَمَالَ فَإِنَّهُ لَا يَظْهَرُ. وَلَوْ ضَرَبَ الْأُذُنَ فَيَبِسَتْ فِيهَا حُكُومَةٌ، وَفِي قَلْعِ الْأَظْفَارِ فَلَمْ تَنْبُتْ حُكُومَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ. قَالَ: (وَإِذَا قَطَعَ الْيَدَ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ فَفِي الْكَفِّ نِصْفُ الدِّيَةِ) لِمَا تَقَدَّمَ. (وَفِي الزَّائِدِ حُكُومَةُ عَدْلٍ) ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ وَلَا جَمَالَ، وَكَذَلِكَ إِنْ قَطَعَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَمَنْ قَطَعَ أُصْبُعًا فَشَلَّتْ أُخْرَى، أَوْ قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى فَشَلَّتِ الْيُسْرَى فَلَا قِصَاصَ) وَقَالَا: عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْأُولَى وَالْأَرْشُ فِي الثَّانِيَةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إِذَا شَجَّهُ مُوَضَّحَةً فَذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ، وَأَجْمَعُوا لَوْ شَجَّهُ مُوَضَّحَةً فَصَارَتْ مُنَقَّلَةً، أَوْ كَسَرَ سِنَّهُ فَاسْوَدَّ الْبَاقِي، أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ فَشُلَّ السَّاعِدُ، أَوْ قَطَعَ إِصْبَعًا فَشُلَّ الْكَفُّ، أَوْ قَطَعَ مَفْصِلًا مِنَ الْأُصْبُعِ فَشُلَّ بَاقِيهَا لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَرْشُ الْكُلِّ. لَهُمَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ أَنَّهُ تَعَدَّدَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ سُقُوطِ الْقِصَاصِ فِي أَحَدِهِمَا سُقُوطُهُ فِي الْآخَرِ، كَمَا إِذَا جَنَى عَلَى عُضْوٍ عَمْدًا وَعَلَى آخَرَ خَطَأً. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جِنَايَتَهُ وَقَعَتْ سَارِيَةً بِفِعْلٍ وَاحِدٍ، وَالْمَحَلُّ مُتَّحِدٌ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالِ فَتَعَذَّرَ الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يُنْبِئُ عَنِ الْمُمَاثَلَةِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ الْقَطْعُ بِصِفَةِ السَّرَايَةِ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ وَجَبَ الْمَالُ كَمَا فِي مَوَاضِعِ الْإِجْمَاعِ، بِخِلَافِ مَا قَاسَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِسَرَايَةٍ لِلْآخَرِ، وَلَوْ قَطَعَ كَفًّا فِيهَا أُصْبُعٌ أَوْ أُصْبُعَانِ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْأَصَابِعِ وَلَا شَيْءَ فِي الْكَفِّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ. فَصْلٌ الشِّجَاجُ عَشَرَةٌ: الْخَارِصَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَخْرُصُ الْجِلْدَ، ثُمَّ الدَّامِعَةُ الَّتِي تُخْرِجَ مَا يُشْبِهُ الدَّمْعَ، ثُمَّ الدَّامِيَةُ الَّتِي تُخْرِجُ الدَمَ، ثُمَ الْبَاضِعَةُ الَّتِي تَبْضَعُ اللَّحْمَ، ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ، ثُمَّ السِّمْحَاقُ ; وَهَوَ جِلْدَةٌ فَوْقَ الْعَظْمِ تَصِلُ إِلَيْهَا الشَّجَّةُ، ثُمَّ الْمُوضِحَةُ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ، ثُمَّ الْهَاشِمَةُ الَّتِي تَهْشِمُ الْعَظْمَ، ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ الَّتِي تَنْقُلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ، ثُمَّ الْآمَّةُ الَتِي تَصِلُ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَقَالَا: يَنْظُرُ إِلَى أَرْشِ الْأُصْبُعِ وَالْأُصْبُعَيْنِ وَإِلَى حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي الْكَفِّ، فَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ؛ لِأَنَّهُمَا جِنَايَتَانِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَلَا يَجِبُ الْأَرْشَانِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى إِهْدَارِ أَحَدِهِمَا فَرَجَّحْنَا بِالْأَكْثَرِ كَالْمُوضِحَةِ إِذَا أَسْقَطَتْ بَعْضَ شَعْرِ الرَّأْسِ. وَلَهُ أَنَّ الْأَصَابِعَ أَصْلٌ وَالْكَفُّ تَبَعٌ ; لِأَنَّ الْبَطْشَ يَقُومُ بِهَا، وَلِأَنَّ قَطْعَ الْأَصَابِعِ يُوجِبُ الدِّيَةَ كَامِلَةً، وَلَا كَذَلِكَ قَطْعُ الْكَفِّ، وَالْأَصْلُ وَإِنْ قَلَّ يَسْتَتْبِعُ التَّبَعَ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ تَبَعًا لِلْآخَرِ، وَلَوْ قُطِعَ الْكَفُّ وَفِيهِ ثَلَاثُ أَصَابِعَ وَجَبَ أَرْشُ الْأَصَابِعِ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ هِيَ الْأَصْلُ لِمَا بَيَّنَّا، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ. قَالَ: (وَعَمْدُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَمْدُ الصَّبِيِّ خَطَأٌ» وَرُوِيَ أَنَّ مَجْنُونًا قَتَلَ رَجُلًا بِسَيْفٍ فَقَضَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ وَلَا يَسْتَحِقَّانِ الْعُقُوبَةَ بِفِعْلِهِمَا كَالْحُدُودِ، وَكَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْعَمْدِ الْمَأْثَمُ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا. [فصل في أَنْوَاعُ الشِّجَاجِ] فَصْلٌ (الشِّجَاجُ عَشْرَةٌ: الْخَارِصَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْرُصُ الْجِلْدَ) أَيْ تَشُقُّهُ أَوْ تَخْدِشُهُ وَلَا يَخْرُجُ الدَّمُ. (ثُمَّ الدَّامِعَةُ الَّتِي تُخْرِجُ مَا يُشْبِهُ الدَّمْعَ) وَقِيلَ: الَّتِي تُظْهِرُ الدَّمَ وَلَا تُسِيلُهُ كَالدَّمْعِ فِي الْعَيْنِ. (ثُمَّ الدَّامِيَةُ الَّتِي تُخْرِجُ الدَّمَ) وَتُسِيلُهُ. (ثُمَّ الْبَاضِعَةُ الَّتِي تُبَضِّعُ اللَّحْمَ) أَيْ تَقْطَعُهُ، وَقِيلَ: تَقْطَعُ الْجِلْدَ. (ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ الَّتِي تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ) وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَأْخُذُ فِي اللَّحْمِ أَكْثَرَ مِنَ الْبَاضِعَةِ. (ثُمَّ السِّمْحَاقُ، وَهُوَ جِلْدَةٌ فَوْقَ الْعَظْمِ تَصِلُ إِلَيْهَا الشَّجَّةِ، ثُمَّ الْمُوضِحَةُ الَّتِي تُوَضِّحُ الْعَظْمَ) أَيْ تَكْشِفُهُ. (ثُمَّ الْهَاشِمَةُ الَّتِي تُهَشِّمُ الْعَظْمَ) أَيْ تُكَسِّرُهُ. (ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ الَّتِي تَنْقُلُ الْعَظْمَ بَعْدَ الْكَسْرِ، ثُمَّ الْآمَّةٌ الَّتِي تَصِلُ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ) وَهِيَ جِلْدَةٌ تَحْتَ الْعَظْمِ فِيهَا الدِّمَاغُ، قَالُوا: ثُمَّ الدَّامِغَةُ، وَهِيَ الَّتِي تَخْرُقُ الْجِلْدَ وَتَصِلُ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ وَلَمْ يَذْكُرُهَا مُحَمَّدٌ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَعِيشُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 فَفِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا، وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَفِي الْمُوضِحَةِ الْخَطَأِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ الْعُشْرُ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرٌ وَنِصْفٌ، وَفِي الْآمَّةِ الثُّلُثُ، وَكَذَا الْجَائِفَةُ، فَإِذَا نَفَذَتْ فَثُلُثَانِ، وَالشِّجَاجُ يَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ، وَالْجَائِفَةُ بِالْجَوْفِ وَالْجَنْبِ وَالظَّهْرِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ جِرَاحَاتٌ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ، وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ أَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْرُوحُ عَبْدًا سَالِمًا وَسَلِيمًا فَمَا نَقَصَتِ الْجِرَاحَةُ مِنَ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ مِنَ الدِّيَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] مَعَهَا وَلَيْسَ لَهَا حُكْمٌ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْخَارِصَةَ وَالدَّامِعَةَ؛ لِأَنَّهَا لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ غَالِبًا، وَالشَّجَّةُ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا لَا حُكْمَ لَهَا. قَالَ: (فَفِي الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ إِنْ كَانَتْ عَمْدًا) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، وَأَنَّهُ مُمْكِنٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُنْهِيَ السِّكِّينَ إِلَى الْعَظْمِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ، وَقَدْ قَضَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْقِصَاصِ فِي الْمُوضِحَةِ. قَالَ: (وَفِي الَّتِي قَبْلَهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ وَلَا يُمْكِنُ إِهْدَارُهَا فَتَجِبُ الْحُكُومَةُ، قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ خُدُوشٌ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ: فِيمَا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ الْقِصَاصُ دُونَ مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا قَبْلَهَا بِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْجِرَاحَةِ بِمِسْمَارٍ ثُمَّ تُؤْخَذُ حَدِيدَةٌ عَلَى قَدْرِهَا وَيُنْفَذُ فِي اللَّحْمِ إِلَى آخِرِهَا فَيَسْتَوْفِي مِثْلَ مَا فَعَلَ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَهَا ; لِأَنَّ كَسْرَ الْعَظْمِ وَتَنَقُّلَهُ لَا تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ. قَالَ: (وَفِي الْمُوضِحَةِ الْخَطَأُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ الْعُشْرُ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرٌ وَنِصْفٌ، وَفِي الْآمَّةِ الثُّلُثُ، وَكَذَا الْجَائِفَةُ، فَإِذَا نَفَذَتْ فَثُلُثَانِ) لِمَا «رَوَى عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَتَبَ لَهُ: " وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ» ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ حَكَمَ فِي جَائِفَةٍ نَفَذَتْ بِثُلُثَيِ الدِّيَةِ ; لِأَنَّهَا إِذَا نَفَذَتْ فَهِيَ جَائِفَتَانِ. قَالَ: (وَالشِّجَاجُ يَخْتَصُّ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ) لُغَةً كَالْخَدَّيْنِ وَالذَّقْنِ وَاللَّحْيَيْنِ وَالْجَبْهَةِ. (وَالْجَائِفَةُ بِالْجَوْفِ وَالْجَنْبِ وَالظَّهْرِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ جِرَاحَاتٌ فِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ) ; لِأَنَّهَا غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ وَلَا مُهْدَرَةٍ فَتَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ. قَالَ: (وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ أَنْ يَقُومَ الْمَجْرُوحُ عَبْدًا سَالِمًا وَسَلِيمًا) أَيْ صَحِيحًا وَجَرِيحًا. (فَمَا نَقَصَتِ الْجِرَاحَةُ مِنَ الْقِيمَةِ يُعْتَبَرُ مِنَ الدِّيَةِ) فَإِنْ نَقَصَتْ عُشْرَ الْقِيمَةِ تَجِبُ عُشْرُ الدِّيَةِ وَعَلَى هَذَا، وَأَرَادَ بِالسَّلِيمِ الْجَرِيحَ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلَدِيغٍ اسْتِعَارَةً؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ، وَهَذَا عِنْدَ الطَّحَاوِيِّ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُمْكِنُ تَقْوِيمُهُ وَالْقَيِّمَةُ لِلْعَبْدِ كَالدِّيَةِ لِلْحُرِّ، فَمَا أَوْجَبَتْ نَقْصًا فِي أَحَدِهِمَا اعْتُبِرَ بِالْآخَرِ. وَقَالَ الْكَرْخِيُّ: يُؤْخَذُ مِقْدَارُهُ مِنَ الشَّجَّةِ الَّتِي لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ بِالْحَزْرِ فَيُنْظَرُ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنَ الْمُوضِحَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَلَ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ، وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ لَمْ تَدْخُلْ، وَيَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ ذَلِكَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الْمُوضِحَةِ وَالطَّرَفِ حَتَّى تَبْرَأَ، وَلَوْ شَجَّهُ فَالْتَحَمَتْ وَنَبَتَ الشَعْرُ سَقَطَ (س) الْأَرْشُ.   [الاختيار لتعليل المختار] فَيَجِبُ بِقَدْرِهِ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ. قَالَ: (وَمَنْ شَجَّ رَجُلًا فَذَهَبَ عَقْلُهُ أَوْ شَعْرُ رَأْسِهِ دَخَلَ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ) ; لِأَنَّ الْعَقْلَ إِذَا فَاتَ فَاتَ مَنْفَعَةُ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَمَا إِذَا شَجَّهُ فَمَاتَ، وَأَمَّا الشَّعْرُ فَلِأَنَّ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ يَجِبُ لِفَوَاتِ بَعْضِ الشَّعْرِ حَتَّى لَوْ نَبَتَتْ سَقَطَ الْأَرْشُ، وَالدِّيَةُ تَجِبُ بِفَوَاتِ جَمِيعِ الشَّعْرِ، وَقَدْ تَعَلَّقَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فَيَدْخُلُ الْجُزْءُ فِي الْكُلِّ كَمَا لَوْ قَطَعَ أُصْبُعَهُ فَشُلَّتْ يَدُهُ. قَالَ: (وَإِنْ ذَهَبَ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ لَمْ تَدْخُلْ، وَيَجِبُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ مَعَ ذَلِكَ) لِمَا رُوِّينَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ فَأَشْبَهَ الْأَعْضَاءَ الْمُخْتَلِفَةَ بِخِلَافِ الْعَقْلِ فَإِنَّ مَنْفَعَتَهُ تَتَعَدَّى إِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّجَّةَ تَدْخُلُ فِي دِيَةِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ دُونَ الْبَصَرِ ; لِأَنَّ السَّمْعَ وَالْكَلَامَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَاعْتَبَرَهُ بِالْعَقْلِ، أَمَّا الْبَصَرُ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَلَا يَلْتَحِقُ بِهِ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَهَابِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَقَائِهَا اعْتِرَافُ الْجَانِي أَوْ تَصْدِيقُهُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنِ الْيَمِينِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ وَيُعْرَفُ الْبَصَرُ بِأَنْ يَنْظُرَهُ عَدْلَانِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ يُعْرَفُ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَسْتَعْلِمُ الْبَصَرَ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَيَّةً يَخْتَبِرُ حَالَهُ بِهَا. وَأَمَّا السَّمْعُ فَيَسْتَغْفِلُ الْمُدَّعِي ذَهَابَ سَمْعِهِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ امْرَأَةً فَادَّعَتْ ذَهَابَ سَمْعِهَا، فَاحْتَكَمَا إِلَى الْقَاضِي إِسْمَاعِيلَ بْنِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ فَتَشَاغَلَ عَنْهَا ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: غَطِّي عَوْرَتَكِ فَجَمَعَتْ ذَيْلَهَا فَعَلِمَ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ، وَأَمَّا الْكَلَامُ فَيُعْرَفُ بِأَنْ يُسْتَغْفَلَ حَتَّى يُسْمَعَ كَلَامُهُ أَوَّلًا، وَأَمَّا الشَّمُّ فَيُخْتَبَرُ بِالرَّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ فَإِنْ جَمَعَ مِنْهَا وَجْهُهُ عُلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ. قَالَ: (وَلَا يُقْتَصُّ مِنَ الْمُوضِحَةِ وَالطَّرَفِ حَتَّى تَبْرَأَ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ فَجَاءَ الْأَنْصَارُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَطَلَبُوا الْقِصَاصَ فَقَالَ: " انْتَظِرُوا مَا يَكُونُ مِنْ صَاحِبِكُمْ» ، فَأَمَّا الْجِرَاحَةُ الْخَطَأُ فَلَا شُبْهَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا إِنِ اقْتَصَرَتْ فَظَاهِرٌ وَإِنْ سَرَتْ فَقَدْ أَخَذَ بَعْضَ الدِّيَةِ فَيَأْخُذُ الْبَاقِي. قَالَ: (وَلَوْ شَجَّهُ فَالْتَحَمَتْ وَنَبَتَ الشَّعْرُ سَقَطَ الْأَرْشُ) لِزَوَالِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الشَّيْنُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ أَرْشُ الْأَلَمِ ; لِأَنَّ الشَّيْنَ وَإِنْ زَالَ فَالْأَلَمُ الْحَاصِلُ مَا زَالَ فَيَقُومُ الْأَلَمُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ أُجْرَةُ الطَّبِيبِ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ مَالِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 وَمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ خَمْسُونَ دِينَارًا عَلَى الْعَاقِلَةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ فَفِيهِ دِيَتُهَا وَالْغُرَّةُ، وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهَا الدِّيَةُ وَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَدِيَتَانِ، فَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ فَفِيهِمَا غُرَّتَانِ، فَإِنْ أَلْقَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا وَالْآخَرَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِي الْمَيِّتِ الْغُرَّةُ وَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَتَجِبُ الْغُرَّةُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنِ اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ وَلَمْ يَتِمَّ فَفِيهِ الْغُرَّةُ   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل من ضرب بطن امرأة] فَصْلٌ (وَمَنْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ خَمْسُونَ دِينَارًا عَلَى الْعَاقِلَةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ حَيَاتُهُ، وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ امْرَأَةً ضَرَبَتْ بَطْنَ ضَرَّتِهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا، فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَحَكَمَ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ بِالْغُرَّةِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ قِيمَتِهَا خَمْسِمِائَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ خَمْسِمِائَةٍ» ، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْجَنِينِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَفِي رِوَايَةٍ: «فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ، فَقَضَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبَةِ بِالدِّيَةِ وَبِغُرَّةِ الْجَنِينِ "، رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ وَقَالَ: فَقَامَ عَمُّ الْجَنِينِ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ أُشْعِرَ، وَقَامَ وَالِدُ الضَّارِبَةِ - وَفِي رِوَايَةٍ أَخُوهَا عِمْرَانُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ - فَقَالَ: كَيْفَ نَدِي مَنْ لَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَدَمُ مِثْلِ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. قَالَ: (وَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاتِلًا. (وَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ فَفِيهِ دِيَتُهَا وَالْغُرَّةُ) لِمَا رُوِّينَا. (وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهَا الدِّيَةُ وَلَا شَيْءَ فِيهِ) ; لِأَنَّ مَوْتَهَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَنَفَّسُ بِنَفَسِهَا وَاحْتَمَلَ مَوْتَهُ بِالضَّرْبَةِ فَلَا تَجِبُ الْغُرَّةُ بِالشَّكِّ. (وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَدِيَتَانِ) لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَيْنِ. (فَإِنْ أَلْقَتْ جَنِينَيْنِ مَيِّتَيْنِ فَفِيهِمَا غُرَّتَانِ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَضَى فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ» فَيَكُونُ فِي الْجَنِينَيْنِ غُرَّتَانِ، وَلِأَنَّ مَنْ أَتْلَفَ شَخْصَيْنِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ضَمِنَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْكَبِيرَيْنِ. (فَإِنْ أَلْقَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا وَالْآخَرَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِي الْمَيِّتِ الْغُرَّةُ وَفِي الْحَيِّ دِيَةٌ كَامِلَةٌ) اعْتِبَارًا لَهُمَا بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ. (وَتَجِبُ الْغُرَّةُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ) هَكَذَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (وَإِنِ اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ وَلَمْ يَتِمَّ فَفِيهِ الْغُرَّةُ) لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ فَكَانَ كَالْكَامِلِ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَى فِي الْجَنِينِ بِالْغُرَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجَنِينِ، وَمَا يَجِبُ فِيهِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ، وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا إِنْ كَانَ ذَكَرًا، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ أُنْثَى. فَصْلٌ وَمَنْ أَخْرَجَ إِلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ كَنِيفًا أَوْ دُكَّانًا فَلِرَجُلٍ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ، فَإِنْ سَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ طَرَفُ الْمِيزَابِ الَذِي فِي الْحَائِطِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ ضَمِنَ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَمْ يَفْصِلْ وَلَمْ يَسْأَلْ. قَالَ: (وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجَنِينِ) لِأَنَّ الْقَتْلَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِجَوَازِ أَنْ لَا حَيَاةَ فِيهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْغُرَّةِ لَا غَيْرَ، وَالْكَفَّارَاتُ طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوِ الِاتِّفَاقُ. قَالَ: (وَمَا يَجِبُ فِيهِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ) لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ نَفْسِهِ فَيُورَثُ كَالدِّيَةِ وَلَا يَرِثُ الضَّارِبُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ. قَالَ: (وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا إِنْ كَانَ ذَكَرًا، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ أُنْثَى) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ خَمْسُمِائَةٍ، وَهِيَ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَالدِّيَةُ مِنَ الْحُرَّةِ كَالْقِيمَةِ مِنَ الْعَبْدِ فَيُعْتَبَرُ بِهِ، وَغُرَّةُ الْجَنِينِ فِي مَالِ الضَّارِبِ ; لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ الْعَبِيدَ. وَفِي الْفَتَاوَى: مُعْتَدَّةٌ حَامِلٌ احْتَالَتْ لِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِإِسْقَاطِ الْحَمْلِ فَعَلَيْهَا الْغُرَّةُ لِلزَّوْجِ وَلَا تَرِثُ مِنْهُ، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ. [فصل ضَمَانُ الْإِنْسَانِ فِعْلُهُ] فَصْلٌ (وَمَنْ أَخْرَجَ إِلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ كَنِيفًا أَوْ دُكَّانًا فَلِرَجُلٍ مِنْ عَرْضِ النَّاسِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ) لِأَنَّ الْمُرُورَ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ بِأَنْفُسِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ إِذَا بَنَى فِيهِ أَحَدُهُمْ شَيْئًا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَقْضُهُ كَذَا هَذَا. قَالَ: (فَإِنْ سَقَطَ عَلَى إِنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إِلَى التَّلَفِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ بِشَغْلِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَهَوَاهُ بِمَا لَيْسَ لَهُ حَقُّ الشَّغْلِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُبَاحًا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ بَاعَ الدَّارَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَبْرَأُ عَنِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ مِنْهُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ. قَالَ: (وَإِنْ أَصَابَهُ طَرَفُ الْمِيزَابِ الَّذِي فِي الْحَائِطِ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي السَّبَبِ ; لِأَنَّ طَرَفَهُ الدَّاخِلُ مَوْضُوعٌ فِي مِلْكِهِ. (وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ ضَمِنَ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ أَوْ لَا يُعْلَمُ ضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ أَحَدٌ جَازَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْتَضِرُّ بِهِ أَحَدٌ يُكْرَهُ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ الْغَيْرِ النَافِذِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرِهِمْ، وَلَوْ وَضَعَ جَمْرًا فِي الطَرِيقِ ضَمِنَ مَا أَحْرَقَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِذَا مَالَ حَائِطُ إِنْسَانٍ إِلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَطَالَبَهُ بِنَقْضِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ أَمْكَنَهُ نَقْضُهُ فِيهَا حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] (وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ أَوْ لَا يَعْلَمُ ضَمِنَ نِصْفَ الدِّيَةِ) ؛ لِأَنَّ إِضَافَةَ الْمَوْتِ إِلَى أَحَدِهِمَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَيُضَافُ إِلَيْهِمَا. (ثُمَّ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَضِرُّ بِهِ أَحَدٌ جَازَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ) ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقَّ الْمُرُورِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَيَجُوزُ. (وَإِنْ كَانَ يَسْتَضِرُّ بِهِ أَحَدٌ يُكْرَهُ) لِأَنَّ الْإِضْرَارَ بِالنَّاسِ حَرَامٌ عَقْلًا وَشَرْعًا. قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ الْغَيْرِ النَّافِذِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إِلَّا بِأَمْرِهِمْ) ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ فَصَارَ كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ السُّكْنَى كَوَضْعِ الْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ نَظَرًا إِلَى الْعَادَةِ. قَالَ: (وَلَوْ وَضَعَ جَمْرًا فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ مَا أَحْرَقَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ) فَإِنْ حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ لَمْ يَضْمَنْ مَا أَحْرَقَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَوْمَ رِيحٍ، وَكَذَا صَبُّ الْمَاءِ وَرَبْطُ الدَّابَّةِ وَوَضْعُ الْخَشَبَةِ وَإِلْقَاءُ التُّرَابِ وَاتِّخَاذُ الطِّينِ وَوَضْعُ الْمَتَاعِ، وَكَذَا لَوْ قَعَدَ فِي الطَّرِيقِ لِيَسْتَرِيحَ أَوْ ضَعُفَ عَنِ الْمَشْيِ لِإِعْيَاءٍ أَوْ مَرَضٍ فَعَثَرَ بِهِ أَحَدٌ فَمَاتَ وَجَبَتِ الدِّيَةُ لِمَا قُلْنَا: إِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي السَّبَبِ فَصَارَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِنْ عَثَرَ بِذَلِكَ رَجُلٌ فَوَقَعَ عَلَى آخَرَ وَمَاتَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْوَاضِعِ لَا عَلَى الْعَاثِرِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَدِّي فِي السَّبَبِ دُونَ الْعَاثِرِ، وَإِنْ نَحَّى رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَنْ مَوْضِعِهِ فَعَطِبَ بِهِ إِنْسَانٌ ضَمِنَ مَنْ نَحَّاهُ وَبَرِئَ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ بِالتَّنْحِيَةِ شَغَلَ مَكَانًا آخَرَ وَأَزَالَ أَثَرَ فِعْلِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الثَّانِي هُوَ الْجَانِي فَيَضْمَنُ، وَلَوْ رَشَّ الطَّرِيقَ أَوْ تَوَضَّأَ فِيهِ ضَمِنَ. قَالُوا: هَذَا إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الْمَارُّ بِالرَّشِّ بِأَنْ كَانَ أَعْمَى أَوْ لَيْلًا، وَإِنْ عَلِمَ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ خَاطَرَ بِرُوحِهِ لَمَّا تَعَمَّدَ الْمَشْيَ عَلَيْهِ فَكَانَ مُبَاشِرًا لِلتَّلَفِ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَكَذَا لَوْ تَعَمَّدَ الْمَشْيَ عَلَى الْحَجَرِ وَالْخَشَبِ الْمَوْضُوعَةِ فَعَثَرَ بِهِ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَاضِعِ، وَقِيلَ: هَذَا إِذَا رَشَّ بَعْضَ الطَّرِيقِ، أَمَّا إِذَا رَشَّ جَمِيعَ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْوَاضِعَ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي الْمُرُورِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ غَيْرَهُ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاضِعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَلَمْ يَحْرُمْ بِهِ الْمِيرَاثُ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ كَحَافِرِ الْبِئْرِ، وَقَدْ مَرَّ. قَالَ: (وَإِذَا مَالَ حَائِطُ إِنْسَانٍ إِلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَطَالَبَهُ بِنَقْضِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ أَمْكَنَهُ نَقْضُهُ فِيهَا حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ ; لِأَنَّ الْمَيَلَانَ وَشُغْلَ الْهَوَاءِ لَيْسَ بِفِعْلِهِ فَلَمْ يُبَاشِرِ الْقَتْلَ وَلَا سَبَبَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْهَوَاءَ صَارَ مَشْغُولًا بِحَائِطِهِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 وَإِنْ بَنَاهُ مَائِلًا ابْتِدَاءً فَسَقَطَ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، وَيَضْمَنُ الرَاكِبُ مَا وَطِئَتِ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا، وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِذَنَبِهَا أَوْ رِجْلِهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] مَا مَرَّ، فَإِذَا طُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يُفْرَغْ مَعَ الْإِمْكَانِ صَارَ مُتَعَدِّيًا وَقَبْلَ الطَّلَبِ لَمْ يَصِرْ مُتَعَدِّيًا ; لِأَنَّ الْمَيْلَ حَصَلَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ وَصَارَ كَثَوْبٍ أَلْقَتْهُ الرِّيحُ فِي حِجْرِهِ فَطَلَبَهُ صَاحِبُهُ بِالرَّدِّ، فَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ مَعَ الْإِمْكَانِ فَهَلَكَ ضَمِنَ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنِ اشْتَغَلَ بِهَدْمِهِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَبِ فَسَقَطَ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدِ التَّعَدِّي مِنْ وَقْتِ الطَّلَبِ، وَلَوْ نَقَضَهُ فَعَثَرَ رَجُلٌ بِالنَّقْضِ ضَمِنَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ لَمْ يُطَالَبْ بِرَفْعِهِ ; لِأَنَّ الطَّرِيقَ صَارَ مَشْغُولًا بِتُرَابِهِ وَنَقْضِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يُطَالَبْ بِرَفْعِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ، وَلَوْ بَاعَ الدَّارَ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِهِ، وَيُطَالَبُ الْمُشْتَرِي بِالْهَدْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةُ هَدْمِ الْحَائِطِ، وَالْمُطَالَبَةُ إِنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْهَدْمِ حَتَّى لَا تَصِحَّ مُطَالَبَةُ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُوَدِّعِ، وَيَصِحُّ مُطَالَبَةُ الرَّاهِنِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ فِكَاكِ الرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَالْأُمُّ فِي حَائِطِ الصَّبِيِّ لِقِيَامِ وِلَايَتِهِمْ، وَالضَّمَانِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ ; لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ كَفِعْلِهِ. قَالَ: (وَإِنْ بَنَاهُ مَائِلًا ابْتِدَاءً فَسَقَطَ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْبِنَاءِ فِي هَوَاءٍ مُشْتَرَكٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَيَضْمَنُ الرَّاكِبُ مَا وَطِئَتِ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا) . اعْلَمْ أَنَّ رُكُوبَ الدَّابَّةِ وَسَيْرَهَا إِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْ سَيْرِهَا وَحَرَكَاتِهَا إِلَّا الْوَطْءَ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِهِ، إِلَّا أَنَّ الْوَطْءَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِ لِحُصُولِ الْهَلَاكِ بِثِقَلِهِ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْوَطْءِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ مَرَّ، وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا جَنَتْ دَابَّتُهُ وَاقِفًا كَانَ أَوْ سَائِرًا وَطْئًا وَنَفْحًا وَكَدْمًا ; لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي السَّبَبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِيقَافُهَا فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، وَلَا تَسْيِيرُهَا حَتَّى لَوْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا وَطِئَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ صَدَمَتْ أَوْ أَصَابَتْ بِرَأْسِهَا أَوْ خَبَطَتْ. (وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِذَنَبِهَا أَوْ رِجْلِهَا) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْمُرُورَ فِي الطَّرِيقِ عَامٌّ مُبَاحٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ; لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقًّا فَكَانَ مُبَاحًا وَفِيهِ حَقُّ الْعَامَّةِ لِكَوْنِهِ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمْ فَقَيَّدْنَاهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ وَمُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ، وَالْوَطْءُ وَأَخَوَاتُهُ مِمَّا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِكَوْنِهِ بِمَرْأًى مِنْ عَيْنِهِ فَصَحَّ التَّقْيِيدُ فِيهَا، وَالنَّفْحَةُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا حَالَةَ السَّيْرِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ خَلْفِهِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِالسَّلَامَةِ، فَإِنْ أَوْقَفَهَا ضَمِنَ النَّفْحَةَ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 وَإِنْ رَاثَتْ فِي الطَرِيقِ وَهِيَ تَسِيرُ أَوْ أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ لَا ضَمَانَ فِيمَا تَلِفَ بِهِ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِغَيْرِهِ ضَمِنَ، وَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا دُونَ رِجْلِهَا وَكَذَا السَّائِقُ، وَإِذَا وَطِئَتْ دَابَّةُ الرَاكِبِ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَنَخَسَهَا آخَرُ فَأَصَابَتْ رَجُلًا عَلَى الْفَوْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ، وَإِنِ اجْتَمَعَ السَائِقُ وَالْقَائِدُ أَوِ السَّائِقُ وَالرَّاكِبُ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا،   [الاختيار لتعليل المختار] بِأَنْ لَا تَقِفَ. (وَإِنْ رَاثَتْ فِي الطَّرِيقِ وَهِيَ تَسِيرُ أَوْ أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ لَا ضَمَانَ فِيمَا تَلَفَ بِهِ) ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ، أَمَّا حَالَةُ السَّيْرِ فَظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَوْقَفَهَا لِأَنَّ مِنَ الدَّوَابِّ مَنْ لَا يَرُوثُ حَتَّى يَقِفَ. قَالَ: (وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِغَيْرِهِ ضَمِنَ) ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ بِتَرْكِ الْإِيقَافِ، وَالرَّدِيفُ كَالرَّاكِبِ لِأَنَّ السَّيْرَ مُضَافٌ إِلَيْهِمَا، وَبَابُ الْمَسْجِدِ كَالطَّرِيقِ فِي الْإِيقَافِ، فَلَوْ جَعَلَ الْإِمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَوْضِعًا لِوُقُوفِ الدَّوَابِّ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَلَا ضَمَانَ فِيمَا حَدَثَ بَيْنَ الْوُقُوفِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ مِنْ وُقُوفِ الدَّابَّةِ فِي سُوقِ الدَّوَابِّ ; لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ السُّلْطَانِ، وَكَذَلِكَ الْفَلَاةُ وَطَرِيقُ مَكَّةَ إِذَا وَقَفَ فِي غَيْرِ الْمَحَجَّةِ ; لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِذْنِ. أَمَّا الْمَحَجَّةُ فَهِيَ كَالطَّرِيقِ. قَالَ: (وَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ يَدَهَا دُونَ رِجْلِهَا، وَكَذَلِكَ السَّائِقُ) مَرْوِيُّ ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَقِيلَ: يَضْمَنُ النَّفْحَةَ، أَمَّا الْقَائِدُ فَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنِ الْوَطْءِ دُونَ النَّفْحَةِ كَالرَّاكِبِ، وَأَمَّا السَّائِقُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ مِنَ الْوَطْءِ أَيْضًا، وَأَمَّا النَّفْحَةُ قِيلَ: لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، إِذْ لَيْسَ عَلَى رِجْلِهَا مَا يَمْنَعُهَا مِنَ النَّفْحِ، وَقِيلَ: يَضْمَنُ لِأَنَّ النَّفْحَةَ تَبِينُ مِنْ عَيْنِهِ فَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ بِإِبْعَادِ النَّاسِ عَنْهَا وَالتَّحْذِيرِ، وَلَا كَذَلِكَ الْقَائِدُ، وَقَائِدُ الْقِطَارِ فِي الطَّرِيقِ يَضْمَنُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ لِأَنَّ عَلَيْهِ ضَبْطَهُ وَصِيَانَتَهُ عَنِ الْوَطْءِ وَالصَّدْمَةِ. قَالَ: (وَإِذَا وَطِئَتْ دَابَّةٌ الرَّاكِبَ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْجِنَايَاتِ. قَالَ: (وَلَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَنَخَسَهَا آخَرُ فَأَصَابَتْ رَجُلًا عَلَى الْفَوْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ) ; لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الدَّابَّةِ النَّفْحَةُ وَالْوَثْبَةُ عِنْدَ النَّخْسِ فَكَانَ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَالرَّاكِبُ مُضْطَرٌّ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ سَيْرُهَا مُضَافًا إِلَيْهِ فَصَارَ النَّاخِسُ هُوَ الْمُسَبِّبُ، وَلَوْ سَقَطَ الرَّاكِبُ فَمَاتَ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ قَتَلَتِ الدَّابَّةُ النَّاخِسَ فَهُوَ هَدَرٌ كَحَافِرِ الْبِئْرِ إِذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ، وَلَوْ أَمَرَهُ الرَّاكِبُ بِالنَّخْسِ ضَمِنَ الرَّاكِبُ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ أَمْرُهُ فَصَارَ الْفِعْلُ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَلَوْ نَفَرَتْ مِنْ حَجَرٍ وَضَعَهُ رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ، فَالْوَاضِعُ كَالنَّاخِسِ ضَامِنٌ لِأَنَّ الْوَضْعَ سَبَبٌ لِنُفُورِ الدَّابَّةِ أَوْ وَثْبَتِهَا كَالنَّخْسَةِ. قَالَ: (وَإِنِ اجْتَمَعَ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ أَوِ السَّائِقُ وَالرَّاكِبُ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا) ; لِأَنَّ أَحَدَهُمَا سَائِقٌ لِلْكُلِّ، وَالْآخَرُ قَائِدٌ لِلْكُلِّ بِحُكْمِ الِاتِّصَالِ، وَقِيلَ: الضَّمَانُ عَلَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 وَإِذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ أَوْ مَاشِيَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ، وَلَوْ تَجَاذَبَا حَبْلًا فَانْقَطَعَ وَمَاتَا فَإِنْ وَقَعَا عَلَى ظَهْرَيْهِمَا فَهُمَا هَدَرٌ، وَإِنْ سَقَطَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةُ الْآخَرِ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَدِيَةُ الْوَاقِعِ عَلَى وَجْهِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَاقِعِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَهُدِرَ دَمُ الَذِي وَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَإِنْ قَطَعَ آخَرُ الْحَبْلَ فَمَاتَا فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] الرَّاكِبِ ; لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَالسَّائِقُ مُسَبِّبٌ وَالْإِضَافَةُ إِلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ إِنْ كَانَ الْهَالِكُ آدَمِيًّا فَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ تَخْفِيفًا عَلَى الْقَاتِلِ مَخَافَةَ اسْتِئْصَالِهَا لَهُ، وَهَذَا دُونَ الْخَطَأِ فِي الْجِنَايَةِ فَكَانَ أَوْلَى بِالتَّخْفِيفِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ آدَمِيٍّ كَالدَّوَابِّ وَالْعُرُوضِ فَفِي مَالِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ الْأَمْوَالَ. قَالَ: (وَإِذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ أَوْ مَاشِيَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ) ; لِأَنَّ قَتْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مُضَافٌ إِلَى فِعْلِ الْآخَرِ لَا إِلَى فِعْلِهِمَا ; لِأَنَّ الْقَتْلَ يُضَافُ إِلَى سَبَبٍ مَحْظُورٍ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مَحْظُورٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ إِذْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ فِعْلِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ مُبَاحًا فَيُضَافُ قَتْلُهُ كُلُّهُ إِلَى فِعْلِ الْآخَرِ لِكَوْنِهِ مَحْظُورًا فِي حَقِّهِ وَصَارَ كَالْمَاشِي مَعَ الْحَافِرِ، فَإِنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا وَهُوَ الْحَفْرُ وَالْمَشْيُ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّ التَّلَفَ إِنَّمَا يُضَافُ إِلَى فِعْلِ الْحَافِرِ؛ لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ لَا إِلَى فِعْلِ الْمَاشِي؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ، وَلَوْ كَانَا عَامِدَيْنِ فِي الِاصْطِدَامِ ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدِّيَةِ ; لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْظُورٌ فَأُضِيفَ التَّلَفُ إِلَى فِعْلِهِمَا، وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَهُمَا هَدَرٌ. أَمَّا فِي الْخَطَأِ فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعًا أَوْ فِدَاءً وَقَدْ فَاتَ بِغَيْرِ فِعْلِ الْمَوْلَى لَا إِلَى بَدَلٍ فَسَقَطَ ضَرُورَةً، وَأَمَّا الْعَمْدُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلَكَ بَعْدَ مَا جَنَى فَسَقَطَ الْقِصَاصُ. فِي نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ رَجُلٌ سَارٍ عَلَى دَابَّةٍ فَجَاءَ رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِهِ فَصَدَمَهُ فَعَطِبَ الْمُؤَخَّرُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقَدَّمِ، وَإِنْ عَطِبَ الْمُقَدَّمُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُؤَخَّرِ، وَكَذَا فِي السَّفِينَتَيْنِ. وَلَوْ كَانَا دَابَّتَيْنِ وَعَلَيْهِمَا رَاكِبَانِ قَدِ اسْتَقْبَلَتَا وَاصْطَدَمَتَا فَعَطِبَتْ إِحْدَاهُمَا فَالضَّمَانُ عَلَى الْآخَرِ. قَالَ: (وَلَوْ تَجَاذَبَا حَبْلًا فَانْقَطَعَ وَمَاتَا، فَإِنْ وَقَعَا عَلَى ظَهْرَيْهِمَا فَهُمَا هَدَرٌ) ; لِأَنَّ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَافٌ إِلَى فِعْلِهِ وَقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا قُوَّةِ صَاحِبِهِ. (وَإِنْ سَقَطَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ دِيَةُ الْآخَرِ) ; لِأَنَّهُ سَقَطَ بِقُوَّةِ صَاحِبِهِ وَجَذْبِهِ. (وَإِنِ اخْتَلَفَا فِدْيَةُ الْوَاقِعِ عَلَى وَجْهِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَاقِعِ عَلَى ظَهْرِهِ) ; لِأَنَّهُ مَاتَ بِقُوَّةِ صَاحِبِهِ. (وَهُدِرَ دَمُ الَّذِي وَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ) ; لِأَنَّهُ مَاتَ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ. (وَإِنْ قَطَعَ آخَرُ الْحَبْلَ فَمَاتَا فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَتِهِ) ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى فِعْلِهِ وَهُوَ الْقَطْعُ فَكَانَ مُسَبِّبًا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 فَصْلٌ إِذَا جَنَى الْعَبْدُ خَطَأً فَمَوْلَاهُ إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَيَمْلِكُهُ أَوْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِهَا، وَكَذَلِكَ إِنْ جَنَى ثَانِيًا وَثَالِثًا، وَإِنْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِمَا يَقْتَسِمَانِهِ بِقَدْرِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، أَوْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِهِمَا،   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل جِنَايَةُ الْعَبْدِ] فَصْلٌ (إِذَا جَنَى الْعَبْدُ خَطَأً فَمَوْلَاهُ إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَيَمْلِكُهُ أَوْ يَفْدِيهِ بِأَرْشِهَا) وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْجِنَايَةُ عَلَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ فِي النَّفْسِ أَوْ فِيمَا دُونَهَا قَلَّ أَرْشُهَا أَوْ كَثُرَ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا جَنَى الْعَبْدُ فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ دَفَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ وَجِنَايَتُهُمْ فِي رَقَبَتِهِمْ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِثْلُهُ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنَ الرَّقَبَةِ فَتَتَعَلَّقُ بِهَا الْجِنَايَةُ كَجِنَايَةِ الْعَمْدِ. وَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ، فَإِذَا خَلَّى الْمَوْلَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ سَقَطَتِ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ كَمَا فِي الْعَمْدِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا خُوطِبَ بِالْجِنَايَةِ لِأَجْلِ مِلْكِهِ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ زَالَتِ الْمُطَالَبَةُ كَالْوَارِثِ إِذَا خَلَّى بَيْنَ التَّرِكَةِ وَبَيْنَ أَرْبَابِ الدُّيُونِ، فَإِذَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الْأَرْشِ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ سَقَطَ حَقُّهُ، إِلَّا أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ حَتَّى يَسْقُطَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ، إِلَّا أَنَّ لَهُ حَقَّ الْفِدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا كَدَفْعِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ. وَلَوِ اخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَالْفِدَاءُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ بِالِاخْتِيَارِ انْتَقَلَ الْحَقُّ مِنَ الرَّقَبَةِ إِلَى الذِّمَّةِ فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ كَغَيْرِهِ مِنَ الدُّيُونِ، وَلَيْسَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ كَدَيْنِهِ فِي تَعَلُّقِهِ بِرَقَبَتِهِ ; لِأَنَّ جِنَايَةَ الْحُرِّ الْخَطَأَ يُطَالَبُ بِهَا غَيْرُهُ وَهُمُ الْعَاقِلَةُ، وَدُيُونَهُ لَا يُطَالَبُ بِهَا غَيْرُهُ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ جِنَايَتُهُ الْخَطَأُ يُطَالِبُ بِهَا غَيْرُهُ وَهُوَ الْمَوْلَى، وَدُيُونُهُ تَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَا يُطَالِبُ بِهَا غَيْرُهُ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ بِالدَّفْعِ لِأَنَّهُ عِوَضُ جِنَايَتِهِ فَيَمْلِكُهُ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إِنْ جَنَى ثَانِيًا وَثَالِثًا) مَعْنَاهُ إِذَا جَنَى بَعْدَ الْفِدَاءِ مِنَ الْأُولَى يُخَيَّرُ الْمَوْلَى كَالْأُولَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَدَاهُ فَقَدْ طَهَرَ عَنِ الْجِنَايَةِ وَصَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ فَهَذِهِ تَكُونُ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً، وَكَذَا الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَغَيْرُهَا. قَالَ: (وَإِنْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِمَا يَقْتَسِمَانِهِ بِقَدْرِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ أَوْ يَفْدِيِهِ بِأَرْشِهِمَا) وَكَذَلِكَ إِنْ جَنَى عَلَى جَمَاعَةٍ إِمَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَيْهِمْ يَقْتَسِمُونَهُ بِالْحِصَصِ، وَإِمَّا أَنْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ أَرْشِهِمْ ; لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ مِثْلِهَا كَمَا فِي الدُّيُونِ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى لَمْ يَمْنَعْ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ، فَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الْأَرْشِ، وَبَعْدَ الْعِلْمِ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْأَرْشِ، وَفِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِمَا وَمِنَ الْأَرْشِ، وَإِنْ عَادَ فَجَنَى وَقَدْ دَفَعَ الْقِيمَةَ بِقَضَاءٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيُشَارِكُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ الْأَوَّلَ فِيمَا أَخَذَ، وَإِنْ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، فَإِنْ شَاءَ الثَّانِي شَارَكَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ (سم) الْمَوْلَى، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْأَوَّلِ،   [الاختيار لتعليل المختار] الْأُولَى أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ. قَالَ: (وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنَ الْأَرْشِ وَبَعْدَ الْعِلْمِ يَضْمَنُ جَمِيعَ الْأَرْشِ) لِأَنَّ حَقَّهُ فِي أَحَدِهِمَا، فَفِي الْأُولَى خِيَارُهُ بَاقٍ فَيَخْتَارُ الْأَقَلَّ، وَفِي الثَّانِيَةِ لِمَا عَلِمَ فَقَدِ اخْتَارَ الْفِدَاءَ؛ لِأَنَّ بِالْعِتْقِ امْتَنَعَ الدَّفْعُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَكَانَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ، وَالْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ ; لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الدَّفْعَ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ مِنَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَانَ اخْتِيَارًا، وَلَوْ وَهَبَهُ لَا لَأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ أَخَذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَقَدْ وُجِدَ فِي الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ. قَالَ: (وَفِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِمَا وَمِنَ الْأَرْشِ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَضَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ وَهُوَ أَمِيرُ الشَّامِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ مَانِعًا مِنْ تَسْلِيمِهِ فِي الْجِنَايَةِ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِلْفِدَاءِ فَصَارَ كَمَا إِذَا دَبَّرَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْأَقَلُّ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ إِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ غَيْرَ الْأَرْشِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقِيمَةُ أَقَلَّ فَلَمْ يَتْلَفْ بِالتَّدْبِيرِ إِلَّا الرَّقَبَةُ. قَالَ: (وَإِنْ عَادَ فَجَنَى وَقَدْ دَفَعَ الْقِيمَةَ بِقَضَاءٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيُشَارِكُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ الْأَوَّلَ فِيمَا أَخَذَ) لِأَنَّ جِنَايَاتِ الْمُدَبَّرِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ لَا تُوجِبُ إِلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ إِلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً وَالضَّمَانُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَنْعِ فَصَارَ كَأَنَّهُ دَبَّرَهُ بَعْدَ الْجِنَايَاتِ، وَلِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ كَدَفْعِ الْعَبْدِ، وَدَفْعَ الْعَبْدِ لَا يَتَكَرَّرُ فَكَذَا الْقِيمَةُ، وَيَتَضَارَبُونَ بِالْحِصَصِ فِي الْقِيمَةِ كَمَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِنْ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، فَإِنْ شَاءَ الثَّانِي شَارَكَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْأَوَّلِ) وَقَالَا: لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى ; لِأَنَّهُ لَمَّا دَفَعَ لَمْ تَكُنِ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ مَوْجُودَةً فَقَدْ دَفَعَ الْحَقَّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ وَصَارَ كَمَا إِذَا دَفَعَهُ بِقَضَاءٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجِنَايَاتِ اسْتَنَدَ ضَمَانُهَا إِلَى التَّدْبِيرِ الَّذِي صَارَ الْمَوْلَى بِهِ مَانِعًا، فَكَأَنَّهُ دَبَّرَ بَعْدَ الْجِنَايَاتِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ جَمَاعَتِهِمْ بِالْقِيمَةِ، فَإِذَا دَفَعَهَا بِقَضَاءٍ فَقَدْ زَالَتْ يَدُهُ عَنْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا، وَإِنْ دَفَعَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَدْ سَلَّمَ إِلَى الْأَوَّلِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الثَّانِي، فَلِلثَّانِي أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ الْمَوْلَى ; لِأَنَّهُ جَنَى بِالدَّفْعِ إِلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، وَالْأَوَّلُ لِأَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ ظُلْمًا وَصَارَ كَالْوَصِيِّ إِذَا صَرَفَ التَّرِكَةَ إِلَى الْغُرَمَاءِ ثُمَّ ظَهَرَ غَرِيمٌ آخَرُ، فَإِنْ دَفَعَهُ بِقَضَاءٍ شَارَكَ الْغَرِيمُ الْآخَرُ الْغُرَمَاءَ فِيمَا قَبَضُوهُ، وَإِنْ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 وَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لَا يُزَادُ (س) عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إِلَّا عَشَرَةٌ، وَلِلْأَمَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ إِلَّا عَشَرَةً، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] إِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْوَصِيِّ، وَإِنْ شَاءَ شَارَكَ الْغُرَمَاءَ كَذَا هَذَا، فَإِنِ اتَّبَعَ الْمَوْلَى رَجَعَ الْمَوْلَى عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ إِلَيْهِ غَيْرَ حَقِّهِ، وَإِنْ شَارَكَ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ; لِأَنَّ الْحَاصِلَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَوْمَ جَنَى عَلَيْهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّدْبِيرُ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ مَانِعًا مِنْ تَسْلِيمِهِ فِي الْحَالِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ فَكَأَنَّهُ جَنَى ثُمَّ دَبَّرَهُ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ حِينَئِذٍ. مِثَالُهُ: قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَازْدَادَتْ خَمْسَمِائَةٍ، ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ فَوَلِيَ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ يَأْخُذُ مِنَ الْمَوْلَى خَمْسَمِائَةٍ، فَضْلُ الْقِيمَةِ تُحْسَبُ عَلَيْهِ مِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ، فَتُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا ; لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لَا حَقَّ لِوَلِيِّهَا فِيهِ؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ فِي الذِّمَّةِ فَيَنْفَرِدُ بِهَا وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَيَبْقَى لَهُ مِنَ الدِّيَةِ تِسْعَةُ آلَافٍ وَخَمْسُمِائَةٍ وَلِلْأَوَّلِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ عَشَرَةُ آلَافٍ، فَاجْعَلْ كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ بَيْنَهُمَا لِلْأَوَّلِ عِشْرُونَ وَلِلثَّانِي تِسْعَةَ عَشَرَ فَاقْسِمِ الْأَلْفَ كَذَلِكَ. وَلَوْ جَنَى الْمُدَبَّرُ خَطَأً ثُمَّ مَاتَ عَقِيبَهَا بِلَا فَصْلٍ لَمْ تَبْطُلِ الْقِيمَةُ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ عَقِيبَ الْجِنَايَةِ، فَبَقَاءُ الرَّقَبَةِ وَتَلَفُهَا سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَمِيَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَا يَنْقُصُ شَيْءٌ مِنَ الْقِيمَةِ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُدَبَّرَ الْمَوْلَى وَقَدْ جَنَى جِنَايَاتٍ لَمْ تَلْزَمْهُ إِلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ ; لِأَنَّ الضَّمَانَ إِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْمَنْعِ بِالتَّدْبِيرِ فَكَانَ الْإِعْتَاقُ بَعْدَهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمُدَبَّرُ بِجِنَايَةٍ خَطَأٍ لَمْ يَجُزْ إِقْرَارُهُ وَلَا يَلْزَمْهُ شَيْءٌ عَتَقَ أَوْ لَمْ يَعْتِقْ؛ لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ لِمَوْلَاهُ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى الْمَوْلَى لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ. قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إِلَّا عَشَرَةٌ، وَلِلْأَمَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ إِلَّا عَشَرَةً، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ) . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ تَجِبُ قِيمَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى الْمَالِ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ غَيْرَ مُقَدَّرَةٍ كَالْبَهَائِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِلْمَوْلَى، وَالْمَوْلَى إِنَّمَا يَمْلِكُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ بَدَلَ الْمَالِيَّةِ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِثْلَ قَوْلِهِ. وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] مُطْلَقًا، وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ، وَلِأَنَّهَا جِنَايَةٌ عَلَى نَفْسِ آدَمِيٍّ فَلَا يَزِيدُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ كَالْحُرِّ، وَلِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي فِي الْعَبْدِ مَوْجُودَةٌ فِي الْحُرِّ، وَفِي زِيَادَةِ الْحُرِّيَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الدِّيَةِ فَلِأَنْ لَا يَجِبُ فِي الْعَبْدِ مَعَ نُقْصَانِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا، وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذِّرٌ، وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَى فَتُعْتَبَرُ، وَيَسْقُطُ الْأَدْنَى بِخِلَافِ الْبَهَائِمِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مَحْضٌ، وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ إِنَّمَا يُرَدُّ عَلَى الْمَالِ فَكَانَ الْوَاجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 وَمَا هُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ الدِّيَةِ مُقَدَّرٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ. بَابُ الْقَسَامَةِ الْقَتِيلُ: كُلُّ مَيِّتٍ بِهِ أَثَرٌ، فَإِذَا وُجِدَ فِي مَحِلَّةٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ وَادَّعَى وَلِيُّهُ الْقَتْلَ عَلَى أَهْلِهَا أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ يَخْتَارُ مِنْهُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحِلَّةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] مِثْلَ مَذْهَبِهِمَا. وَأَمَّا قَلِيلُ الْقِيمَةِ فَالْوَاجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ فَقَدَّرْنَاهُ بِقِيمَتِهِ رَأْيًا إِذْ هُوَ الْأَعْدَلُ، وَفِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ نَصٌّ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحُرِّ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، إِلَّا أَنَّا نَقَصْنَا دِيَةَ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ إِظْهَارًا لِشَرَفِهِ وَانْحِطَاطًا لِرُتْبَةِ الْعَبْدِ عَنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةٍ مَأْثُورٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلِأَنَّهُ أَقَلُّ مَالٍ لَهُ خَطَرٌ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ بِهِ تُسْتَبَاحُ الْفُرُوجُ وَالْأَيْدِي فَقَدَّرْنَاهُ بِهِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ عَلَى الْخِلَافِ وَالتَّعْلِيلِ فِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ وَقَلِيلِهَا. قَالَ: (وَمَا هُوَ مُقَدَّرٌ مِنَ الدِّيَةِ مُقَدَّرٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ) فَفِي يَدِ الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ إِلَّا خَمْسَةً إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْقِيمَةِ ; لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِهِ عَشَرَةُ آلَافٍ إِلَّا عَشَرَةً، وَالْيَدُ نِصْفُ الْآدَمِيِّ فَيَجِبُ نِصْفُ مَا فِي النَّفْسِ، وَعَلَى هَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ. [بَابُ الْقَسَامَةِ] ِ وَهِيَ مَصْدَرُ أَقْسَمَ يُقْسِمُ قَسَامَةً، وَهِيَ الْأَيْمَانُ، وَخُصَّ هَذَا الْبَابُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْأَيْمَانِ فِي الدِّمَاءِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالْأَحَادِيثِ عَلَى مَا يَأْتِيكَ. قَالَ: (الْقَتِيلُ: كُلُّ مَيِّتٍ بِهِ أَثَرٌ) أَيْ أَثَرُ الْقَتْلِ ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَلَيْسَ بِقَتِيلٍ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ يَمِينٌ وَلَا ضَمَانٌ، وَأَثَرُ الْقَتْلِ جُرْحٌ أَوْ أَثَرُ ضَرْبٍ أَوْ خَنْقٍ أَوْ خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ ; لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَادَةً إِلَّا بِفِعْلٍ، أَمَّا إِذَا خَرَجَ مِنْ فَمِهِ أَوْ دُبُرِهِ أَوْ ذَكَرِهِ فَلَيْسَ بِقَتِيلٍ ; لِأَنَّ الدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ عَادَةً، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتِيلَ مَنْ فَاتَتْ حَيَاتُهُ بِسَبَبٍ يُبَاشِرُهُ غَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ عُرْفًا، فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ قَتِيلٌ. (فَإِذَا وُجِدَ فِي مَحِلَّةٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ) لِأَنَّهُ إِذَا عُرِفَ قَاتِلُهُ لَا قَسَامَةَ، فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ (وَادَّعَى وَلِيُّهُ الْقَتْلَ عَلَى أَهْلِهَا أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ يَخْتَارُ مِنْهُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ دَعْوَاهُ، وَإِذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَسَمِ، فَإِذَا ادَّعَى وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ وَجَبَتِ الْيَمِينُ فَيَخْتَارُ خَمْسِينَ رَجُلًا. (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا، ثُمَّ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحِلَّةِ) أَيْ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَجَدَ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ فِي خَيْبَرَ فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَمَّاهُ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَذَهَبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَتَكَلَّمُ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْكُبْرَ الْكُبْرَ، فَتَكَلَّمَ الْكَبِيرُ مِنْ عَمَّيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا وَجَدْنَا عَبْدَ اللَّهِ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قُلُبِ خَيْبَرَ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: تُبَرِّئُكُمُ الْيَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ مَا قَتَلُوهُ؟ قَالُوا: كَيْفَ نَرْضَى بِأَيْمَانِ الْيَهُودِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ؟ فَقَالَ: فَيُقْسِمُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ؟ قَالُوا: كَيْفَ نُقْسِمُ عَلَى مَا لَمْ نَرَهُ؟ فَوَدَّاهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ عِنْدِهِ» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: «أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتِيلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وُجِدَّ فِي جُبِّ الْيَهُودِ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى الْيَهُودِ وَكَلَّفَهُمْ قَسَامَةَ خَمْسِينَ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ لَهُ: نَحْلِفُ، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ؟ فَقَالَ الْأَنْصَارُ: لَنْ نَحْلِفَ، فَأَلْزَمَ الْيَهُودَ دِيَتَهُ لِأَنَّهُ قُتِلَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ» ، وَرُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: اجْمَعْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لِي مِنْ أَخِي إِلَّا هَذَا؟ قَالَ: بَلَى مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ» فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ عَلَى وُجُوبِ الْأَيْمَانِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحِلَّةِ، وَتَرَدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الْبَدَاءَةِ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْمَحِلَّةِ يَلْزَمُهُمْ نُصْرَةُ مَحِلَّتِهِمْ وَحِفْظُهَا وَصِيَانَتُهَا عَنِ النَّوَائِبِ وَالْقَتْلِ، وَصَوْنِ الدَّمِ الْمَعْصُومِ عَنِ السَّفْكِ وَالْهَدْرِ، فَالشَّرْعُ أَلْحَقَهُمْ بِالْقَتَلَةِ لِتَرْكِ صِيَانَةِ الْمَحِلَّةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الدِّيَةِ صَوْنًا لِلْآدَمِيِّ الْمُحْتَرَمِ الْمَعْصُومِ عَنِ الْإِهْدَارِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا قُتِلَ بِظَهْرِهِمْ فَصَارُوا كَالْعَاقِلَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْأَنْصَارِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ» فَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لِمَا قَالُوا: لَا نَرْضَى بِيَمِينِ الْيَهُودِ، وَلِهَذَا ثَبَتَ فِيهِ النُّونُ، وَلَوْ كَانَ أَمْرًا لَقَالَ: احْلِفُوا تَسْتَحِقُّوا دَمَ صَاحِبِكُمْ، وَمَا رُوِيَ: «تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ» فَمَعْنَاهُ أَتَحْلِفُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67] أَيْ أَتُرِيدُونَ، وَلِأَنَّ الْبَدَاءَةَ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ، وَيَخْتَارُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ رَجُلًا لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ فَيَخْتَارُ مَنْ يُظْهِرُ حَقَّهُ بِاخْتِيَارِهِ، أَمَّا مَنِ اتَّهَمَهُ بِالْقَتْلِ أَوِ الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ لِيَحْتَرِزُوا عَنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيَظْهَرُ الْقَاتِلُ، فَإِذَا حَلَفُوا قُضِيَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ لِمَا رُوِّينَا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 وَكَذَلِكَ إِنْ وُجِدَ بَدَنُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ أَوْ نِصْفُهُ مَعَ الرَّأْسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ خَمْسُونَ كُرِّرَتِ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ لِتَتِمَّ خَمْسِينَ، وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ، وَلَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَسَوَاءٌ ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحِلَّةِ أَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ مُعَيَّنِينَ أَوْ مَجْهُولِينَ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا ادَّعَى عَلَى بَعْضٍ بِأَعْيَانِهِمْ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَنِ الْبَاقِينَ، فَإِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ وَإِلَّا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً كَسَائِرِ الدَّعَاوِي. قَالَ: (وَكَذَلِكَ إِنْ وُجِدَ بَدَنُهُ أَوْ أَكْثَرُهُ أَوْ نِصْفُهُ مَعَ الرَّأْسِ) لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْبَدَنِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ، وَإِنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ أَوْ أَقَلُّ مِنَ النِّصْفِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ، أَوْ وُجِدَ رَأْسُهُ أَوْ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ أَوْ عُضْوٌ مِنْهُ آخَرُ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ ; لِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الْبَدَنِ وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ فِيهِ الْقَسَامَةُ لَوَجَبَتْ، لَوْ وُجِدَ عُضْوٌ آخَرُ أَوِ النِّصْفُ الْآخَرُ فَتَتَكَرَّرُ الْقَسَامَةُ أَوِ الدِّيَةُ بِسَبَبِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ نَصٌّ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ خَمْسُونَ كُرِّرَتِ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِمْ لِتَتِمَّ خَمْسِينَ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ بَيْنَ حَيَّيْنِ بِالْيَمَنِ وَادِعَةَ وَأَرْحَبَ، فَكَتَبُوا إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ وُجِدَ قَتِيلٌ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ، فَكَتَبَ عُمَرُ أَنْ قِسْ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ فَأَيُّهُمْ كَانَ أَقْرَبَ فَأَلْزِمْهُمْ، فَكَانَ إِلَى وَادِعَةَ فَأَتَوْا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانُوا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا فَأَحْلَفَهُمْ وَأَعَادَ الْيَمِينَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ حَتَّى تَمُّوا خَمْسِينَ ثُمَّ أَلْزَمَهُمُ الدِّيَةَ، فَقَالُوا: نُعْطِي أَمْوَالَنَا وَأَيْمَانَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ فِيمَ يُطَلُّ دَمُ هَذَا؟ قَالَ: (وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ) لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي الْقَسَامَةِ نَفْسُ الْحَقِّ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الدِّيَةِ؟ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالُوا: نَبْذُلُ أَمْوَالَنَا وَأَيْمَانَنَا، أَمَا تُجْزِئُ هَذِهِ عَنْ هَذِهِ؟ قَالَ لَا، وَإِذَا كَانَتْ نَفْسَ الْحَقِّ يُحْبَسُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، بِخِلَافِ الِامْتِنَاعِ عَنِ الْيَمِينِ فِي الْأَمْوَالِ ; لِأَنَّ الْيَمِينَ فِيهَا بَدَلٌ عَنِ الْحَقِّ حَتَّى يَسْقُطَ بِبَذْلِ الْمُدَّعِي، فَإِذَا نَكَّلَ لَزِمَهُ الْمَالُ وَهُوَ حَقُّهُ، فَلَا مَعْنَى لِلْحَبْسِ بِمَا لَيْسَ بِحَقٍّ. أَمَّا هُنَا لَا يَسْقُطُ الْيَمِينُ بِبَذْلِ الدِّيَةِ وَكَانَ الْحَبْسُ بِحَقٍّ فَافْتَرَقَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ بِالنُّكُولِ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ. قَالَ: (وَلَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ) لِأَنَّ الْيَمِينَ شُرِعَتْ لِلدَّفْعِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ لِلدَّفْعِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: «وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ» ، وَالْوَلِيُّ يَحْتَاجُ إِلَى الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَشْرَعُ فِي حَقِّهِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِيَمِينِهِ الْمَالَ الْمُبْتَذَلَ الْمُهَانَ، فَلَأَنْ لَا تَسْتَحِقَّ النَّفْسُ الْمُحْتَرَمَةُ أَوْلَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ صَبِيٌّ وَلَا مَجْنُونٌ وَلَا عَبْدٌ وَلَا امْرَأَةٌ، وَإِنِ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمُ الْقَسَامَةُ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ (سم) عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِنْ وُجِدَ عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا إِنْسَانٌ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ السَّائِقِ وَكَذَا الْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ إِنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ (س) إِنْ كَانُوا حُضُورًا، وَإِنْ كَانُوا غُيَّبًا كُرِّرَتِ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقَسَامَةِ صَبِيٌّ وَلَا مَجْنُونٌ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ. (وَلَا عَبْدٌ وَلَا امْرَأَةٌ) لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِهَا. قَالَ: (وَإِنِ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمُ الْقَسَامَةُ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) لِأَنَّ الْيَمِينَ إِنَّمَا تَلْزَمُ بِالدَّعْوَى وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ وَلَمْ يَدَّعِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِنْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِلَّا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ كَسَائِرِ الدَّعَاوِي فَإِنْ حَلِفَهُ بَرِئَ وَإِنْ نَكَّلَ فَعَلَى خِلَافٍ مَرَّ فِي الدَّعْوَى، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَعَيَّنُوا لِلْخُصُومَةِ حَيْثُ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِيهِمْ فَصَارُوا كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ، وَالْوَصِيُّ إِذَا شَهِدَ بَعْدَ الْعَزْلِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ وَسِيلَةً إِلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ. وَقَالَا: تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمُ الْقَسَامَةُ فَلَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمْ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ. قَالَ: (وَإِنْ وُجِدَ عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا إِنْسَانٌ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ السَّائِقِ) لِأَنَّ الدَّابَّةَ فِي يَدِهِ فَكَأَنَّهُ وَجَدَهُ فِي دَارِهِ. (وَكَذَا الْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ) وَلَوِ اجْتَمَعُوا فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ لِأَنَّ الدَّابَّةَ فِي أَيْدِيهِمْ. قَالَ: (وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارِ إِنْسَانٍ فَالْقَسَامَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ إِنْ كَانُوا حُضُورًا) . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَخَصُّ بِالدَّارِ مِنْ غَيْرِهِ فَصَارَ كَأَهْلِ الْمَحِلَّةِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِي الْقَسَامَةِ غَيْرُهُمْ. وَلَهُمَا أَنَّ بِالْحُضُورِ تَلْزَمُهُمْ نُصْرَةُ الْبُقْعَةِ كَصَاحِبِ الدَّارِ فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ. (وَإِنْ كَانُوا غَيْبًا كُرِّرَتِ الْأَيْمَانُ عَلَيْهِ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ) لِمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ وُجِدَ فِي دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ نِصْفُهَا لِرَجُلٍ وَعُشْرُهَا لِآخَرَ وَسُدُسُهَا لِآخَرَ وَالْبَاقِي لِآخَرَ فَالْقَسَامَةُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي التَّدْبِيرِ فَكَانُوا فِي الْحِفْظِ سَوَاءً، وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ خَطَّ لَهُمُ الْإِمَامُ عِنْدَ فَتْحِهَا وَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمُ الْمُشْتَرُونَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَشْتَرِكُ الْكُلُّ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِتَرْكِ الْحِفْظِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَالْوِلَايَةُ بِالْمِلْكِ، فَيَسْتَوِي أَهْلُ الْخُطَّةِ وَالْمُشْتَرُونَ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْمِلْكِ. وَلَهُمَا أَنَّ أَهْلَ الْخُطَّةِ أَخَصُّ بِنُصْرَةِ الْبُقْعَةِ، وَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَخَصِّ فَكَانَ الْمُشْتَرِي مَعَهُمْ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ تَعَلَّقَ فِي الْأَصْلِ بِأَهْلِ الْخُطَّةِ فَمَا بَقِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُمْ كَمَوَالِي الْأَبِ إِذَا لَزِمَهُمُ الْعَقْلُ لَا يَنْتَقِلُ إِلَى مَوَالِي الْأُمِّ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ، وَقِيلَ بِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ شَاهَدَ الْكُوفَةَ وَأَهْلُ الْخُطَّةِ كَانُوا يُدَبِّرُونَ أَمْرَ الْمَحِلَّةِ وَيَنْصُرُونَهَا دُونَ الْمُشْتَرِي، فَبَنَى الْأَمْرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 وَإِنْ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَعَلَى أَقْرَبِهِمَا إِذَا كَانُوا يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ، وَلَوْ وُجِدَ فِي السَفِينَةِ فَالْقَسَامَةُ عَلَى الْمَلَّاحِينَ وَالرُّكَّابِ، وَفِي مَسْجِدِ مَحِلَّةٍ عَلَى أَهْلِهَا، وَفِي الْجَامِعِ وَالشَّارِعِ الْأَعْظَمِ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا قَسَامَةَ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى ذَلِكَ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ أَهْلِ الْخُطَّةِ أَحَدٌ وَكَانَ فِي الْمَحِلَّةِ مُشْتَرُونَ وَسُكَّانٌ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى الْمُلَّاكِ دُونَ السُّكَّانِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى يَهُودِ خَيْبَرَ وَكَانُوا سُكَّانًا، وَلِأَنَّ السَّاكِنَ يَلِي التَّدْبِيرَ كَالْمَالِكِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمَالِكَ أَخَصُّ بِالْبُقْعَةِ وَنُصْرَتِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّكَّانَ يَكُونُونَ فِي وَقْتٍ وَيَنْتَقِلُونَ فِي وَقْتٍ فَتَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَى مَنْ هُوَ أَخَصُّ، وَأَمَّا أَهْلُ خَيْبَرَ فَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَقَرَّهُمْ عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَكَانَ يَأْخُذُ مِنْهُمُ الْخَرَاجَ. قَالَ: (وَإِنْ وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ فَعَلَى أَقْرَبِهِمَا) لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ فِي مِثْلِهِ بِأَنْ يُذْرَعَ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ» ، وَلِمَا مَرَّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا (إِذَا كَانُوا يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ) لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ، فَأَمَّا إِذَا كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ وَلَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ، وَلَوْ كَانَ يَسْمَعُ الصَّوْتَ أَهْلُ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى فَالْقَسَامَةُ عَلَى الَّذِينَ يَسْمَعُونَ لِمَا قُلْنَا. (وَلَوْ وُجِدَ فِي السَّفِينَةِ فَالْقَسَامَةُ عَلَى الْمَلَّاحِينَ وَالرُّكَابِ) وَهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَرَى الْقَسَامَةَ عَلَى الْمُلَّاكِ وَالسُّكَّانِ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَالسَّفِينَةُ تُنْقَلُ وَتُحَوَّلُ فَتُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ كَالدَّابَّةِ، وَلَا كَذَلِكَ الدَّارُ وَالْمَحِلَّةُ فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَفِي مَسْجِدٍ مَحِلَّةٍ عَلَى أَهْلِهَا) لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِنُصْرَتِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ وُجِدَ فِي مَحِلَّتِهِمْ. قَالَ: (وَفِي الْجَامِعِ وَالشَّارِعِ الْأَعْظَمِ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلَا قَسَامَةَ) وَكَذَلِكَ الْجُسُورُ الْعَامَّةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَعْضِ بَلْ يَتَعَلَّقُ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَا يَجِبُ لِأَجْلِهِ يَكُونُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ لِلتُّهْمَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ فِي السِّجْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ السِّجْنِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَتْلَ وُجِدَ مِنْهُمْ. وَلَهُمَا أَنَّهُمْ مَقْهُورُونَ لَا نُصْرَةَ لَهُمْ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَا يَجِبُ لِأَهْلِ النُّصْرَةِ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ السِّجْنِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ وُضِعَ لِاسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ وَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ فَكَانَتِ النُّصْرَةُ عَلَيْهِمْ، وَهَذِهِ مِنْ فُرُوعِ الْمَالِكِ وَالسَّاكِنِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ السِّجْنِ كَالسُّكَّانِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، وَإِنْ وُجِدَ فِي السُّوقِ إِنْ كَانَ مَمْلُوكًا فَعَلَى الْمُلَّاكِ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى السُّكَّانِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ أَوْ هُوَ لِلسُّلْطَانِ فَهُوَ كَالشَّارِعِ الْعَامِّ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَسُوقُ السُّلْطَانِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَمَا يَجِبُ فِيهِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَيُؤْخَذُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ; لِأَنَّ حُكْمَ الدِّيَةِ التَّأْجِيلُ كَمَا فِي الْعَاقِلَةِ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْمُقِرِّ بِقَتْلِ الْخَطَأِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؟ . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 وَإِنْ وُجِدَ فِي بَرِّيَّةٍ أَوْ فِي وَسَطِ الْفُرَاتِ فَهُوَ هَدَرٌ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَبَسًا بِالشَّاطِئِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى مِنْهُ إِنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ. بَابُ الْمَعَاقِلِ وَهِيَ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ وَهِيَ الدِّيَةُ، وَالْعَاقِلَةُ الَذِينَ يُؤَدُّونَهَا،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَإِنْ وُجِدَ فِي بَرِّيَّةٍ أَوْ فِي وَسَطِ الْفُرَاتِ فَهُوَ هَدَرٌ) لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وَلَا مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ وَلَا يَسْمَعُ الصَّوْتَ مِنْهُ أَهْلُ مِصْرٍ وَلَا قَرْيَةً فَكَانَ هَدَرًا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مُحْتَبِسًا بِالشَّاطِئِ فَعَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى مِنْهُ إِنْ كَانُوا يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ) لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْهُ وَيُورِدُونَ عَلَيْهِ دَوَابَّهُمْ فَكَانُوا أَخَصَّ بِنُصْرَتِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ كَأَهْلِ الْمَحِلَّةِ، وَلَوْ وُجِدَ فِي نَهْرٍ صَغِيرٍ خَاصٍّ مِمَّا يُقْضَى فِيهِ بِالشُّفْعَةِ فَعَلَى عَاقِلَةِ أَرْبَابِ النَّهْرِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُمْ، فَهُمْ أَخَصُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمْ مَا يُوجَدُ فِيهِ كَالدُّورِ وَالسُّوقِ وَالْمَمْلُوكِ، وَمَنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ، وَقَالَا: لَا شَيْءَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ حَالَةَ الْجُرْحِ فَكَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ، وَلَوْ قَتَلَ نَفْسَهُ كَانَ هَدَرًا كَذَا هَذَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَسَامَةَ وَجَبَتْ لِظُهُورِ الْقَتْلِ وَحَالَةَ الظُّهُورِ الدَّارُ مِلْكُ الْوَرَثَةِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ، وَهَلْ تَجِبُ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِمْ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إِذَا وُجِدَ الْمَكَاتَبُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ ; لِأَنَّ الدَّارَ عَلَى مِلْكِهِ حَالَةَ ظُهُورِ الْقَتْلِ، فَكَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَهَدَرٌ. رَجُلَانِ فِي بَيْتٍ لَا ثَالِثَ مَعَهُمَا وُجِدَ أَحَدُهُمَا قَتِيلًا يَضْمَنُ الْآخَرُ الدِّيَةَ عِنْدَ أَبَى يُوسُفُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ احْتَمَلَ أَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ وَأَنَّهُ قَتَلَهُ صَاحِبُهُ فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِالشَّكِّ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ ظَاهِرًا فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ كَمَا إِذَا وُجِدَ فِي مَحِلَّةٍ. [بَابُ الْمَعَاقِلِ] ِ (وَهِيَ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ وَهِيَ الدِّيَةُ) وَسُمِّيَتِ الدِّيَةُ عَقْلًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا تَعْقِلُ الدِّمَاءَ مِنْ أَنْ تُرَاقَ، وَالثَّانِي أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ إِذَا أُخِذَتْ مِنَ الْإِبِلِ تُجْمَعُ فَتُعْقَلُ ثُمَّ تُسَاقُ إِلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ. (وَالْعَاقِلَةُ الَّذِينَ يُؤَدُّونَهَا) وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ الْجَنِينِ حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ: «قُومُوا فَدُوهُ» ، وَرُوِيَ: " أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ عَلَى كُلِّ بَطْنٍ مِنَ الْأَنْصَارِ عَقُولَةً "، وَالْمَعْقُولُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ، وَعُذْرُهُ لَا يَعْدَمُ حُرْمَةَ النَّفْسِ بَلْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الدِّيَةَ صِيَانَةً لِلنَّفْسِ عَنِ الْإِهْدَارِ، ثُمَّ فِي إِيجَابِ الْكُلِّ عَلَيْهِ إِجْحَافٌ وَاسْتِئْصَالٌ بِهِ فَيَكُونُ عُقُوبَةً لَهُ، فَتُضَمُّ الْعَاقِلَةُ إِلَيْهِ دَفْعًا لِلْعُقُوبَةِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِظَهْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ كُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَهُمْ عَاقِلَتُهُ، وَتُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَشِيرَتِهِ وَقُوَّةٍ يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّةِ أَنْصَارِهِ مِنْهُمْ، فَكَانُوا كَالْمُشَارِكِينَ لَهُ فِي الْقَتْلِ فَضَمِنُوا إِلَيْهِ لِذَلِكَ كَالرِّدْءِ وَالْمُعِينِ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ عَنْهُمْ إِذَا قَتَلُوا وَيَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ إِذَا قَتَلَ فَتَكُونُ مِنْ بَابِ الْمُعَاوَنَةِ كَعَادَةِ النَّاسِ فِي التَّعَارُفِ، بِخِلَافِ الْمُتْلَفَاتِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكْثُرُ قِيمَتُهَا فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّخْفِيفِ، وَالدِّيَةُ مَالٌ كَثِيرٌ يُجْحِفُ بِالْقَاتِلِ فَاحْتَاجَ إِلَى التَّخْفِيفِ. قَالَ: (وَيَجِبُ عَلَيْهِمْ كُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ) كَالْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَمَّا وَجَبَ بِالصُّلْحِ وَالِاعْتِرَافِ أَوْ سَقَطَ الْقَتْلُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ كَالْأَبِ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ دِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِحَدِيثِ الْجَنِينِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَعَمَّدَتْ ضَرْبَهَا بِالْعَمُودِ فَقَضَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ أُجْرِيَ كَالْخَطَأِ فِي بَابِ الدِّيَةِ فَكَذَلِكَ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ. وَقَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَهُمْ عَاقِلَتُهُ) وَهُمُ الَّذِينَ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَفِي زَمَانِنَا هُمْ أَهْلُ الْعَسْكَرِ لِكُلِّ رَايَةٍ دِيوَانٌ عَلَى حِدَةٍ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَتَنَاصَرُونَ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الْقَرَابَةُ وَالْوَلَاءُ وَالْحِلْفُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَبَقَوْا عَلَى ذَلِكَ إِلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا جَاءَ عُمَرُ وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ صَارَ التَّنَاصُرُ بِالدَّوَاوِينِ، فَأَهْلُ كُلِّ دِيوَانٍ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَرَضَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُلِ فِي أَمْوَالِهِمْ ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ فَجَعَلَ الْعَقْلَ فِيهِ، وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَهُوَ عَلَى وِفَاقِ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعْنًى؛ فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِهِ عَلَى الْعَشِيرَةِ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ ثُمَّ الْوُجُوبِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، فَإِيجَابُهُ فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ صِلَةٌ وَهُوَ الْعَطَاءُ أَوْلَى، وَأَهْلُ كُلِّ دِيوَانٍ فِيمَا يَصِلُ إِلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ. قَالَ: (وَيُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا وَتُعْتَبَرُ الثَّلَاثُ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ يَوْمَ الْقَضَاءِ، وَسَوَاءٌ خَرَجَتْ فِي أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْعَطَاءِ تَخْفِيفًا، فَإِذَا حَصَلَتْ فِي أَيِّ وَقْتٍ حَصَلَ وُجِدَ الْمَقْصُودُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ، فَإِنْ تَأَخَّرَ خُرُوجُ الْعَطَاءِ لَمْ يُطَالِبُوا بِشَيْءٍ، وَإِنْ تَعَجَّلَ الثَّلَاثَ سِنِينَ أُخِذَ مِنْهَا الْجَمِيعُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَإِذَا وَجَبَ جَمِيعُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ كَانَ كُلُّ ثُلُثٍ فِي سَنَةٍ فَإِذَا وَجَبَ الثُّلُثُ فَمَا دُونَهُ كَانَ فِي سَنَةٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَى الثُّلُثَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ، وَمَا زَادَ إِلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعَاقِلَةُ أَصْحَابَ الرِّزْقِ أَخَذَ مِنْ أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، فَإِنْ خَرَجَتْ أَرْزَاقُهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَخَذَ مِنْهَا الثُّلُثَ، وَإِنْ خَرَجَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ، وَلَا يُزَادُ الْوَاحِدُ عَلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَيُنْقَصُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ تَتَّسِعِ الْقَبِيلَةُ لِذَلِكَ ضُمَّ إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ نَسَبًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَنَاصَرُونَ بِالْحِرَفِ فَأَهْلُ حِرْفَتِهِ، وَإِنْ تَنَاصَرُوا بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ، وَيُؤَدِّي الْقَاتِلُ كَأَحَدِهِمْ،   [الاختيار لتعليل المختار] فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أُخِذَ مِنْهَا السُّدُسُ فِي كُلِّ شَهْرٍ بِحِصَّتِهِ، وَعَلَى هَذَا فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ كَيْفَمَا خَرَجَ ; لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ لَهُمْ كَالْأَعْطِيَةِ لِأَهْلِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَأَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَخَذَ مِنْ أَعْطِيَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَسْهَلُ، فَإِنَّ الرِّزْقَ يَكُونُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ لِكُلِّ شَهْرٍ أَوْ لِكُلِّ يَوْمٍ فَيَشُقُّ عَلَيْهِمُ الْأَخْذُ مِنْهُ. أَمَّا الْعَطَاءُ يَكُونُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِقَدْرِ عَنَائِهِ وَاخْتِبَارِهِ فِي الْحُرُوبِ لَا بِحَاجَتِهِ فَكَانَ الْأَخْذُ مِنْهُ أَسْهَلَ. قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ فَعَاقِلَتُهُ قَبِيلَتُهُ) وَهُمْ عَصَبَتُهُ مِنَ النَّسَبِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ الدِّيَةَ عَلَى عَصَبَةِ الْقَاتِلِ» ، وَلِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْقُرْبِ. قَالَ: (وَلَا يُزَادُ الْوَاحِدُ عَلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَيُنْقَصُ مِنْهَا) يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّ سَنَةٍ دِرْهَمٌ وَثُلُثٌ أَوْ دِرْهَمٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا التَّخْفِيفُ وَتَجِبُ صِلَةً، فَقَدَّرُوهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِالدِّرْهَمِ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْمُقَدَّرَاتِ، وَيُزَادُ ثُلُثُ دِرْهَمٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِيَكُونَ الْأَكْثَرُ مِنَ الْأَقَلِّ وَمَا لَمْ يَبْلُغِ النِّصْفَ فَهُوَ فِي حُكْمِهِ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَتَّسِعِ الْقَبِيلَةُ لِذَلِكَ ضُمَّ إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ نَسَبًا) تَحَرُّزًا عَنِ الْإِجْحَافِ وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ فَيُضَمُّ إِلَيْهِمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ؛ لِأَنَّ التَّنَاصُرَ يَقَعُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الدِّيوَانِ إِذَا لَمْ يَتَّسِعِ الدِّيوَانُ لِلدِّيَةِ يُضَمُّ إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ الرَّايَاتِ إِلَيْهِمْ نُصْرَةً إِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ أَوْ دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ، وَهُوَ مُفَوَّضٌ إِلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إِذْ هُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَمَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ فِي رِوَايَةٍ تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ وَرِثَهُ بَيْتُ الْمَالِ، فَإِذَا جَنَى يَكُونُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ الْغُنْمُ بِالْغُرْمِ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي مَالِ الْجَانِي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْجَانِي إِلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَاهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةً عَادَ إِلَى الْأَصْلِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَنَاصَرُونَ بِالْحِرَفِ فَأَهْلُ حِرْفَتِهِ) وَإِنْ تَنَاصَرُوا بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ. لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ هُوَ التَّنَاصُرُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ دِيوَانٌ وَلَا عَشِيرَةٌ، قِيلَ: يَعْتَبِرُ الْمَحَالَّ وَالْقُرَى وَالْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ، وَقِيلَ: تَجِبُ فِي مَالِهِ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مُسْلِمًا تَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ، وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ يَتَنَاصَرُونَ وَيَذُبُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ اللَّقِيطُ. وَلَا تُعْقَلُ مَدِينَةٌ عَنْ مَدِينَةٍ، وَتُعْقَلُ الْمَدِينَةُ عَنْ قُرَاهَا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِصْرِ يَتَنَاصَرُونَ بِدِيوَانِهِمْ وَأَهْلِ سَوَادِهِمْ وَقُرَاهُمْ، وَلَا يَتَنَاصَرُونَ بِأَهْلِ دِيوَانِ مِصْرٍ آخَرَ، وَالْبَادِيَتَانِ إِذَا اخْتَلَفَتَا كَمِصْرَيْنِ. قَالَ: (وَيُؤَدِّي الْقَاتِلُ كَأَحَدِهِمْ) لِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْكُلُّ مَخَافَةَ الْإِجْحَافِ، وَلَا إِجْحَافَ فِي هَذَا وَلِأَنَّهُ الْجَانِي فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَأَحَدِهِمْ وَلِأَنَّهَا تَجِبُ بِالتَّنَاصُرِ وَهُوَ أَوْلَى بِنُصْرَةِ نَفْسِهِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 وَلَا عَقْلَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ، وَلَا عَلَى عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ وَمُكَاتَبٍ، وَلَا يَعْقِلُ كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا بِالْعَكْسِ، وَإِذَا كَانَ لِلذِّمِّيِّ عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَعَاقِلَةُ الْمُعْتَقِ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ، وَعَاقِلَةُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَتُهُ، وَوَلَدُ الْمُلَاعِنَةِ تَعْقِلُ عَنْهُ عَاقِلَةُ أُمِّهِ، فَإِنِ ادَّعَاهُ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ عَاقِلَةُ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ، وَتَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ خَمْسِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا وَمَا دُونَهَا فِي مَالِ الْجَانِي، وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الْجَانِي إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَلَا عَقْلَ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ) لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُعْقَلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ صَبِيٌّ وَلَا امْرَأَةٌ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَلِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤَدَّى عَلَى طَرِيقِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا. (وَلَا عَلَى عَبْدٍ وَمُدَبَّرٍ وَمُكَاتَبٍ) لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَسْتَنْصِرُ بِهِمْ. قَالَ: (وَلَا يَعْقِلُ كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَلَا بِالْعَكْسِ) لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ، وَالْكُفَّارُ يَعْقِلُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ مُعَادَاةٌ وَحِرَابٌ فَلَا يَتَعَاقَلُونَ لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ. قَالَ: (وَإِذَا كَانَ لِلذِّمِّيِّ عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ) كَالْمُسْلِمِ لِالْتِزَامِهِمْ أَحْكَامَنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَلِوُجُودِ التَّنَاصُرِ بَيْنَهُمْ. (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ) فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. كَمَا قُلْنَا فِي الْمُسْلِمِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إِلَى الْعَاقِلَةِ إِذَا وُجِدَتْ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَعَاقِلَةُ الْمُعْتَقِ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» وَلِأَنَّ نُصْرَتَهُ بِهِمْ. (وَعَاقِلَةُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَتُهُ) لِأَنَّ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ عَقْدٌ يَتَنَاصَرُونَ بِهِ. قَالَ: (وَوَلَدُ الْمُلَاعِنَةِ تَعْقِلُ عَنْهُ عَاقِلَةُ أُمِّهِ) لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِمْ فَيَنْصُرُونَهُ. (فَإِنِ ادَّعَاهُ الْأَبُ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ عَاقِلَةُ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الدِّيَةُ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ حَيْثُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَبَطَلَ اللِّعَانُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ، فَقَوْمُ الْأُمِّ تَحَمَّلُوا مُضْطَرِّينَ عَنْ قَوْمِ الْأَبِ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ فَيَرْجِعُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ حِينِ قُضِيَ لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ. قَالَ: (وَتَتَحَمَّلُ الْعَاقِلَةُ خَمْسِينَ دِينَارًا فَصَاعِدًا وَمَا دُونَهَا فِي مَالِ الْجَانِي) لِمَا رُوِّينَا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْغُرَّةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَهِيَ خَمْسُونَ دِينَارًا. وَعَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا: «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا صُلْحًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ، وَلِأَنَّ التَّحَمُّلَ عَلَى الْعَاقِلَةِ إِنَّمَا كَانَ تَحَرُّزًا عَنِ الْإِجْحَافِ وَهُوَ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ. وَالْقَدْرُ الْفَاصِلُ بَيْنَهُمَا مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الْجَانِي إِلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ) لِمَا رُوِّينَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ إِقْرَارُهُ عَلَيْهِمْ، إِذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا صَدَّقُوهُ فَقَدْ رَضُوا بِهِ فَيَلْزَمُهُمْ. وَلَوْ تَصَادَقَ الْقَاتِلُ وَوَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَى أَنَّ قَاضِيًا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ حَكَمَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالدِّيَةِ وَكَذَّبَتْهُمَا الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 وَإِذَا جَنَى الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ. كِتَابُ الْوَصَايَا وَهِيَ مَنْدُوبَةٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ ; لِأَنَّ الدِّيَةَ تَقَرَّرَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِتَصَادُقِهِمْ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ حَيْثُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ بِاعْتِرَافِهِ، وَتَعَذَّرَ إِيجَابُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَإِذَا جَنَى الْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ) لِأَنَّهَا بَدَلُ النَّفْسِ فَتَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي الْحُرِّ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَحُمِلَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " وَلَا عَبْدًا " فِيمَا جَنَى عَلَيْهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهَا لَا تَتَحَمَّلُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ ; لِأَنَّ الْمَوْلَى أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّ قَدْرَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهَا ضَمَانُ النَّفْسِ، وَمَا زَادَ فِي مَالِ الْجَانِي؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْمَالِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. [كِتَابُ الْوَصَايَا] وَهِيَ جَمْعُ وَصِيَّةٍ، وَالْوَصِيَّةُ: طَلَبُ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمُوصَى إِلَيْهِ بَعْدَ غَيْبَةِ الْوَصِيِّ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى مَصَالِحِهِ كَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَالْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِ وَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَتَنْفِيذِ وَصَايَاهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُقَالُ: فُلَانٌ سَافَرَ فَأَوْصَى بِكَذَا، وَفُلَانٌ مَاتَ وَأَوْصَى بِكَذَا. وَالِاسْتِيصَاءُ: قَبُولُ الْوَصِيَّةِ، يُقَالُ: فُلَانٌ اسْتَوْصَى مِنْ فُلَانٍ: إِذَا قَبِلَ وَصِيَّتَهُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ» أَيِ اقْبَلُوا وَصِيَّتِي فِيهِنَّ فَإِنَّهُنَّ أَسْرَى عِنْدَكُمْ ". (وَهِيَ) قَضِيَّةٌ مَشْرُوعَةٌ وَقُرْبَةٌ. (مَنْدُوبَةٌ) دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَهَذَا دَلِيلُ شَرْعِيَّتِهَا، وَالسُّنَّةُ مَا رُوِيَ: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ مَرِضَ بِمَكَّةَ فَعَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَا أُخَلِّفُ إِلَّا بِنْتًا أَفَأُوصِي بِجَمِيعِ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَبِنِصْفِهِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَبِثُلُثِهِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ ; لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» أَيْ يَسْأَلُونَ النَّاسَ كِفَايَتَهُمْ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ تَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: " حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ "، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا وَيَنْفِي وُجُوبَهَا، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَصِيَّتُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى النُّدْبِيَّةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ مَئُونَةِ الْمُوصِي وَقَضَاءِ دُيُونِهِ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالثُّلُثِ تَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا بِغَيْرِ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلِلْقَاتِلِ (س) وَالْوَارِثِ تَصِحُّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَتُعْتَبَرُ إِجَازَاتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ الْمَهْدِيِّينَ وَالسَّلَفَ الصَّالِحَ أَوْصُوا، وَعَلَيْهِ الْأُمَّةُ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ حُقُوقٍ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ، فَإِذَا عَجَزَ بِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ غَيْرَهُ وَالْوَصِيُّ نَائِبٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، فَكَأَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ احْتِيَاطًا لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهَا فَيُنْدَبُ إِلَيْهَا وَتُشْرَعُ تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْمَصَالِحِ. قَالَ: (وَهِيَ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ مَئُونَةِ الْمُوصِي وَقَضَاءِ دُيُونِهِ) عَلَى مَا يَأْتِي فِي الْفَرَائِضِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالثُّلُثِ تَصِحُّ لِلْأَجْنَبِيِّ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا بِغَيْرِ إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ) لِمَا رُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ وَهِيَ مُطْلَقَةٌ لَا تَتَقَيَّدُ بِالْمُسْلِمِ وَلَا بِغَيْرِهِ. قَالَ: (وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلِلْقَاتِلِ وَالْوَارِثِ تَصِحُّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لَا تَجُوزُ لِحَدِيثِ سَعْدٍ. وَفِي الْحَدِيثِ: «الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ» ، قِيلَ: مَعْنَاهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَلِلْوَارِثِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ ذَلِكَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ ; لِأَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ قَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمَالِ وَتَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ فِي الثُّلُثِ بِمَا سَبَقَ مِنَ الْحَدِيثِ، وَلِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ لِيَتَدَارَكَ مَا فَرَّطَ مِنْهُ وَقَصَّرَ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا أَجَازَتِ الْوَرَثَةُ ذَلِكَ فَقَدْ رَضُوا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِمْ فَيَصِحُّ. (وَتُعْتَبَرُ إِجَازَتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ) لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ لَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الْحَقُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَإِذَا أَجَازُوهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَدْ أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَيَصِحُّ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ إِنَّمَا امْتَنَعَتْ لِحَقِّ بَاقِي الْوَرَثَةِ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَا إِقْرَارَ بِدَيْنٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ إِلَّا أَنْ تُجِيزَهَا الْوَرَثَةُ» ، وَلِأَنَّهُ حَيْفٌ فِي الْوَصِيَّةِ لِمَا مَرَّ، وَلِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْجَمِيعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا خَصَّ بِهِ الْبَعْضَ يَتَأَذَّى الْبَاقِي وَيُثِيرُ بَيْنَهُمُ الْحِقْدَ وَالضَّغَائِنَ وَيُفْضِي إِلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، فَإِذَا أَجَازَهُ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا حِقْدَ وَلَا ضَغَائِنَ فَيَجُوزُ، فَإِنْ أَجَازَ الْبَعْضُ وَرَدَّ الْبَعْضُ جَازَ فِي حَقٍّ الْمُجِيزِ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ، وَبَطَلَ فِي الْبَاقِي لِوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ لِلْقَاتِلِ فَلَا تَجُوزُ إِذَا وُجِدَ الْقَتْلُ مُبَاشَرَةً عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا وَصِيَّةَ لِقَاتِلٍ» ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ فَقَتَلَهُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا لِأَنَّ نَفَاذَ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَإِذَا أَجَازَتْهَا الْوَرَثَةُ جَازَتْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَا تَجُوزُ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ تَجُزْ لِجِنَايَتِهِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ. وَلَنَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا نَفْعٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ كَبُطْلَانِهَا لِلْوَارِثِ وَبِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، فَإِذَا أَجَازُوا ذَلِكَ فَقَدْ أَسْقَطُوا حَقَّهُمْ فَيَسْقُطُ، وَكُلَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَأَجَازُوهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 وَلَا تَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الثُّلُثِ، وَإِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ لَا يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَتَرْكُهَا أَفْضَلُ، وَتَصِحُّ لِلْحَمْلِ وَبِهِ وَبِأُمِّهِ دُونَهُ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَالْمُوصَى لَهُ يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي لِأَنَّ السَّبَبَ صَدَرَ مِنْهُ، وَالْإِجَازَةُ رَفْعُ الْمَانِعِ كَالْمُرْتَهِنِ إِذَا أَجَازَ بَيْعَ الرَّهْنِ. قَالَ: (وَلَا تَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ) فَلَا تَصِحُّ مِنَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ لَا يُقَابِلُهُ عَمَلٌ مَالِيٌّ وَلَا نَفْعٌ دُنْيَوِيٌّ فَصَارَ كَالْهِبَةِ وَتَنْجِيزِ الْعِتْقِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ ثُمَّ مَاتَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ حَالَةَ الْمُبَاشَرَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: إِنْ أَدْرَكْتُ فَثُلُثِي لِفُلَانٍ وَصِيَّةً لَا تَصِحُّ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ، فَلَا يَمْلِكُهُ تَنْجِيزًا وَلَا تَعْلِيقًا كَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ إِذَا أَضَافَاهَا إِلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهِمَا لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ فِي الْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا زَالَ حَقُّ الْمَوْلَى زَالَ الْمَانِعُ فَتَصِحُّ. قَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْقُصَ مِنَ الثُّلُثِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَالثُلُثُ كَثِيرٌ» أَيْ فِي الْوَصِيَّةِ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِأَنْ أُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ، وَلِأَنْ أُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُوصِيَ بِالثُّلُثِ، وَلِأَنَّ فِيهِ صِلَةَ الْقَرِيبِ بِتَرْكِهِ حَقَّهُ لَهُمْ، وَلَا صِلَةَ فِيمَا أُوصِي بِالثُّلُثِ تَامًّا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَلَا صِلَةَ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَتِ الْوَرَثَةُ فُقَرَاءَ لَا يَسْتَغْنُونَ بِنَصِيبِهِمْ فَتَرْكُهَا أَفْضَلُ) لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّلَةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ: قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَدَقَةَ وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ» ، وَهُوَ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» ; لِأَنَّهُ فَقِيرٌ فَيَكُونُ صَدَقَةً، وَقَرِيبٌ فَيَكُونُ صِلَةً، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ كَانُوا يَسْتَغْنُونَ بِمِيرَاثِهِمْ، قِيلَ: الْوَصِيَّةُ أَوْلَى، وَقِيلَ: يُخَيَّرُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَدَقَةٌ أَوْ مَبَرَّةٌ وَتَرْكُهَا صِلَةٌ وَالْكُلُّ خَيْرٌ. قَالَ: (وَتَصِحُّ لِلْحَمْلِ بِهِ وَبِأُمِّهِ دُونَهُ) أَمَّا لِلْحَمْلِ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ اسْتِخْلَافٌ لِلْمُوصَى لَهُ فِي الْمَالِ الْمُوصَى بِهِ، وَالْحَمْلُ أَهْلٌ لِذَلِكَ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُهُ، إِلَّا أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ ; لِأَنَّ الْمِلْكَ إِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ نَقْلُ الْمِلْكِ عَنْهُ فَلَا يَنْتَقِلُ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا، فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلِّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَانْفَصَلَ حَيًّا جَازَتْ، وَإِنِ انْفَصَلَ مَيِّتًا لَمْ تَجُزْ ; لِأَنَّهُ يُحَالُ بِالْعُلُوقِ إِلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ حَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ، وَلِهَذَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إِلَى سَنَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَيًّا فَوَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ ; لِأَنَّ فِي الْوَطْءِ الْحَلَالِ يُحَالُ بِالْعُلُوقِ إِلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ إِلَّا إِذَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَالِ وَالْوَرَثَةِ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلِلْمُوصِي أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْوَصَيَّةِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَفِي الْجُحُودِ خِلَافٌ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَدَتْهُ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِهِ فَإِنَّمَا تَصِحُّ إِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَتَّى يَكُونَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ مَوْجُودًا صَحَّتِ الْوَصِيَّةُ بِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصِحُّ بِالثَّمَرَةِ وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فَلِأَنْ تَصِحِّ بِالْمَوْجُودِ أَوْلَى. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِأُمِّهِ دُونَهُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا صَحَّ إِفْرَادُهُ عَنْهَا صَحَّ إِفْرَادُهَا عَنْهُ ; لِأَنَّ مَا صَحَّ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَمَا لَا فَلَا كَمَا فِي الْمَبِيعِ وَغَيْرِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتْبَعُهَا ضَرُورَةُ الِاتِّصَالِ، فَإِذَا أَفْرَدَهَا نَصًّا صَحَّ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْسٌ بِانْفِرَادِهِ فِي الْأَصْلِ. قَالَ: (وَيُعْتَبَرُ فِي الْمَالِ وَالْوَرَثَةِ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْمَوْتِ) حَتَّى لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَا مَالَ لَهُ ثُمَّ اكْتَسَبَ مَالًا وَمَاتَ أَوْ كَانَ لَهُ فَذَهَبَ أَوْ نَقَصَ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ مَالُهُ حَالَةَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ وَقْتَئِذٍ تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ وَيَنْتَقِلُ الْمَالُ إِلَى مِلْكِ الْمُوصَى لَهُ، وَكَذَلِكَ الْوَرَثَةُ لَا اعْتِبَارَ لِمَنْ مَاتَ قَبْلَهُ لَا بِإِجَازَتِهِ وَلَا بِرَدِّهِ لِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا اعْتِبَارَ بِغَيْرِ الْمَالِكِ. قَالَ: (وَقَبُولُ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ) حَتَّى لَوْ أَجَازَهَا قَبْلَهُ أَوْ رَدَّهَا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لَأَنَّ حُكْمَهُ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ إِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا اعْتِبَارَ بِمَا يُوجَدُ قَبْلَهُ كَمَا إِذَا وُجِدَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَهُوَ إِنَّمَا يَمْلِكُهُ بِالْقَبُولِ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعَقْدٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافَةٌ عَنِ الْمَيِّتِ حَتَّى يَثْبُتَ لِلْوَارِثِ خِيَارُ الْعَيْبِ دُونَ الْمُوصَى لَهُ وَيَثْبُتُ جَبْرًا شَرْعًا مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْمُوصَى بِهِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ كَانَ لِلْمُوصِي إِلْزَامَهُ الْمِلْكَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَا ذَلِكَ إِلَّا لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَأَوْصَى لَهُ بِمَا يَضُرُّهُ مِثْلَ مَا إِذَا عَلَّقَ طَلَاقَهُ بِمِلْكِهِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِذَا كَانَ الْقَبُولُ شَرْطًا لَا يَمْلِكُهُ الْمُوصَى لَهُ إِلَّا بِالْقَبُولِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ الْمُوصِي قَبْلَ الْقَبُولِ فَتَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ، وَالْقِيَاسُ بُطْلَانُ الْوَصِيَّةِ لِمَا بَيَّنَّا، إِلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا: يَمْلِكُهَا الْوَرَثَةُ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمَّتْ مِنْ جِهَةِ الْمُوصِي تَمَامًا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ جِهَتِهِ، وَالتَّوَقُّفُ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ دَفْعًا لِضَرَرِ لُحُوقِ الْمِنَّةِ وَلَا يَلْحَقُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَنَفَذَتِ الْوَصِيَّةُ ضَرُورَةَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ كَمَا إِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي وَالْخِيَارُ لَهُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ، فَإِنَّ الْمَبِيعَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ كَذَا هَذَا. قَالَ: (وَلِلْمُوصِي أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْوَصِيَّةِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَفِي الْجُحُودِ خِلَافٌ) أَمَّا جَوَازُ الرُّجُوعِ؛ فَلِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَمْ يَتِمَّ ; لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْمَوْتِ وَالْقَبُولِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ قَبْلَ التَّمَامِ ; لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَ قَبْلَ تَمَامِهِ لَمْ يَكُنْ تَبَرُّعًا، وَالرُّجُوعُ بِالْقَوْلِ قَوْلُهُ: رَجَعْتُ عَنِ الْوَصِيَّةِ أَوْ أَبْطَلْتُهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالرُّجُوعُ بِالْفِعْلِ مِثْلَ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنِ الْمُوصَى بِهِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةُ ; لِأَنَّهُ إِذَا زَالَ مِلْكُهُ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِنَّمَا تَنْفُذُ فِي مِلْكِهِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 وَإِذَا قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ ثُمَّ رَدَّهَا فِي وَجْهِ الْمُوصِي فَهُوَ رَدٌّ، وَإِنْ رَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فَلَيْسَ بِرَدٍّ، فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا ضَمَّ إِلَيْهِ الْقَاضِي آخَرَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا اسْتَبْدَلَ بِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَسَوَاءٌ عَادَ إِلَى مِلْكِهِ أَوْ لَا، وَكَذَا إِذَا فَعَلَ فِعْلًا لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ الْمَالِكِ كَانَ رُجُوعًا وَكَذَلِكَ فِعْلٌ يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَقَدْ عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْغَصْبِ، وَكَذَا إِذَا فَعَلَ مَا يَزِيدُ بِهِ الْعَيْنَ الْمُوصَى بِهَا كَالْبِنَاءِ وَالصَّبْغِ وَالسَّمْنِ فِي السَّوِيقِ وَالْحَشْوِ بِالْقُطْنِ وَخِيَاطَةِ الظِّهَارَةِ عَلَى الْبِطَانَةِ وَبِالْعَكْسِ وَنَحْوِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نُقْصَانِهَا لِحُصُولِهَا بِفِعْلِ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ. وَذَبْحُ الشَّاةِ رُجُوعٌ؛ لِأَنَّهُ لِحَاجَتِهِ عَادَةً فَلَا يَبْقَى إِلَى وَقْتِ الْمَوْتِ. وَأَمَّا الْجُحُودُ فَهُوَ رُجُوعٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ ; لِأَنَّ الْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي، وَانْتِفَاؤُهُ فِي الْحَالَةِ لِلضَّرُورَةِ، فَإِذَا كَانَ ثَابِتًا فِي الْحَالِ كَانَ الْجُحُودُ لَغْوًا. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الرُّجُوعَ نَفْيٌ فِي الْحَالِ، وَالْجُحُودَ نَفْيٌ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا، وَمِنَ الرُّجُوعِ قَوْلُهُ: الْعَبْدُ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ هُوَ لِفُلَانٍ آخَرَ، أَوْ أَوْصَيْتُ بِهِ لِفُلَانٍ ; لِأَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ، وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ الْآخَرُ مَيِّتًا لَا يَكُونُ رُجُوعًا ; لِأَنَّ الْأُولَى إِنَّمَا بَطَلَتْ ضَرُورَةُ صِحَّةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْمُوصِي بَطَلَتِ الْأُولَى لِصِحَّةِ الثَّانِيَةِ وَبَطَلَتِ الثَّانِيَةُ بِالْمَوْتِ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لِآخَرَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا، وَلَيْسَ بِرُجُوعٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ، وَاللَّفْظُ غَيْرُ قَاطِعٍ لَهَا بَلْ صَالِحٌ فَيَثْبُتُ لَهُمَا. قَالَ: (وَإِذَا قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ الْوَصِيَّةَ ثُمَّ رَدَّهَا فِي وَجْهِ الْمُوصِي فَهُوَ رَدٌّ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلْزَامُهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. (وَإِنْ رَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فَلَيْسَ بِرَدٍّ) لِمَا فِيهِ مِنْ خِيَانَةِ الْمَيِّتِ وَغُرُورِهِ، فَإِنَّ الْمُوصِيَ مَاتَ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ وَاثِقًا بِخِلَافَتِهِ بَعْدَهُ فِي أُمُورِهِ وَتَرِكَتِهِ فَلَا يَجُوزُ رَدُّهُ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ حَيْثُ لَهُ الرُّجُوعُ ; لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ حَيٌّ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ، وَعَلَى أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ فَافْتَرَقَا، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ قَبِلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ ; لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ إِلْزَامُهُ فَيُخَيَّرُ، ثُمَّ الْقَبُولُ كَمَا يَكُونُ بِالْقَوْلِ يَكُونُ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنَ التَّرِكَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي وَيَنْفُذُ الْبَيْعُ لِصُدُورِهِ مِنَ الْأَهْلِ عَنْ وِلَايَةٍ، وَكَذَا إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَصْلُحُ لِلْوَرَثَةِ أَوْ قَضَى مَالًا أَوِ اقْتَضَاهُ لَزِمَتْهُ الْوَصِيَّةُ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْوَصِيَّةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لِأَنَّهَا خِلَافَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا إِنَّمَا تَثْبُتُ حَالَ انْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْمُوصِي فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إِلَيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى الْعِلْمِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَالْإِرْثِ. قَالَ: (فَإِنْ كَانَ عَاجِزًا ضَمَّ إِلَيْهِ الْقَاضِي آخَرَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا اسْتَبْدَلَ بِهِ) . اعْلَمْ أَنَّ الْأَوْصِيَاءَ ثَلَاثَةٌ: أَمِينٌ قَادِرٌ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا أُوصِي إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقَرِّرُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 وَإِنْ أَوْصَى إِلَى عَبْدِهِ وَفِي الْوَرَثَةِ كِبَارٌ لَمْ تَصِحَّ، وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا جَازَتْ (سم) ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ دُونَ صَاحِبِهِ (س) ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَزْلُهُ ; لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي الْقِيَامُ بِأُمُورِهِ وَمَا أَوْصَى إِلَيْهِ بِهِ، فَإِذَا حَصَلَ فَتَغْيِيرُهُ إِبْطَالٌ لِقَصْدِهِ فَلَا يَجُوزُ. وَأَمِينٌ عَاجِزٌ، فَالْقَاضِي يَضُمُّ إِلَيْهِ مَنْ يُعِينُهُ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إِلَيْهِ صَحِيحَةٌ لَا يَجُوزُ إِبْطَالُهَا، إِلَّا أَنَّ فِي انْفِرَادِهِ نَوْعُ خَلَلٍ بِبَعْضِ الْمَقْصُودِ لِعَجْزِهِ فَيُضَمُّ إِلَيْهِ آخَرُ تَكْمِيلًا لِلْمَقْصُودِ. وَفَاسِقٌ أَوْ كَافِرٌ أَوْ عَبْدٌ، فَيَجِبُ عَزْلُهُ وَإِقَامَةُ غَيْرِهِ ; لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ نِيَابَتُهُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إِنَّمَا أَوْصَى إِلَيْهِ مُعْتَمِدًا عَلَى رَأْيِهِ وَأَمَانَتِهِ وَكِفَايَتِهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَذَلِكَ. أَمَّا الْفَاسِقُ فَلِاتِّهَامِهِ بِالْخِيَانَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلِلْعَدَاوَةِ الدِّينِيَّةِ الْبَاعِثَةِ لَهُ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِتَوَقُّفِ تَصَرُّفِهِ عَلَى إِجَازَةِ مَوْلَاهُ وَتَمَكُّنِهِ مَنْ حَجْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيُخْرِجُهُمُ الْقَاضِي وَيُقِيمُ مَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمَيِّتِ ; لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَصَّبَ نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوصَ إِلَى أَحَدٍ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُقِيمَ وَصِيًّا كَذَا هَذَا. قَالَ: (وَإِنْ أَوْصَى إِلَى عَبْدِهِ وَفِي الْوَرَثَةِ كِبَارٌ لَمْ تَصِحَّ) لِأَنَّ لِلْكَبِيرِ بَيْعَهُ أَوْ بَيْعَ نَصِيبِهِ فَيَعْجِزُ عَنِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْنَعُهُ فَلَا تَحْصُلُ فَائِدَةُ الْوَصِيَّةِ. (وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا جَازَتْ) وَقَالَا: لَا تَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ الرِّقَّ يُنَافِي الْوِلَايَةَ، وَفِيهِ إِثْبَاتُ وِلَايَةِ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ، وَهُوَ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ وَعَكْسُ الْمَوْضُوعِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ مُخَاطَبٌ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلْوَصِيَّةِ، وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ بَيْعَهُ وَإِنْ كَانُوا مُلَّاكًا، وَلَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهُ وَلَا مُنَافَاةَ وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ. وَإِنْ أَوْصَى إِلَى صَبِيٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ فَلَمْ يُخْرِجْهُمُ الْقَاضِي حَتَّى بَلَغَ أَوْ أُعْتِقَ أَوْ أَسَلَمَ، فَالْوَصِيَّةُ مَاضِيَةٌ لِزَوَالِ الْمُوجِبِ مِنَ الْعَزْلِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ أَمِينٍ لِمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ أَوْصَى إِلَى مُكَاتَبِهِ جَازَ لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى إِنْفَاذِ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ أَدَّى عُتِقَ وَهُوَ عَلَى وَصِيَّتِهِ، وَإِنْ عَجَزَ رُدَّ فِي الرِّقِّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعَبْدِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ دُونَ صَاحِبِهِ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ خِلَافَةٌ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا ثَبَتَ لِلْخَلِيفَةِ مِثْلُ مَا كَانَ لِلْمُسْتَخْلَفِ. وَلَهُمَا أَنَّ الْمُوصِيَ مَا رَضِيَ إِلَّا بِرَأْيِهِمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِتَفْوِيضِهِ فَيُرَاعَى وَصْفُهُ وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ، وَفِي اجْتِمَاعِ رَأْيِهِمَا مَصْلَحَةٌ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُفِيدٌ، بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُسْتَثْنَاةِ لِأَنَّهَا ضَرُورِيَّاتٌ، وَالضَّرُورِيَّاتُ مُسْتَثْنَاةٌ وَهِيَ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ وَمَئُونَةُ الصِّغَارِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَكُسْوَتِهِمْ وَالْخُصُومَةِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ بِعَيْنِهَا، أَمَّا تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ فَسَادَهُ حَتَّى كَانَ لِلْجَارِ فِعْلُهُ، وَكَذَا مَئُونَةُ الصِّغَارِ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَيْهِمْ جُوعًا وَعُرْيًا، وَالْخُصُومَةُ لَا يُمْكِنُ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهَا وَبَاقِي الصُّوَرِ الِاجْتِمَاعُ وَالِانْفِرَادُ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إِلَى الرَّأْيِ، وَكَذَا رَدُّ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَقَامَ الْقَاضِي مَكَانَهُ آخَرَ، وَإِذَا أَوْصَى الْوَصِيُّ إِلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيٌّ فِي التَّرِكَتَيْنِ وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَحْتَالَ بِمَالِ الْيَتِيمِ إِنْ كَانَ أَجْوَدَ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ (سم) لِنَفْسِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ لِلصَّبِيِّ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْتَرِضَ مَالَ الْيَتِيمِ، وَلِلْأَبِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ لَهُمَا إِقْرَاضُهُ، وَلِلْقَاضِي ذَلِكَ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَحِفْظُ الْأَمْوَالِ وَقَبُولُ الْهِبَةِ ; لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ وَقَبُولُ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّلَفُ. قَالَ: (وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَقَامَ الْقَاضِي مَكَانَهُ آخَرَ) أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَهُمَا. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْوَاحِدَ وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ لَكِنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ أَنْ يَخْلُفَهُ اثْنَانِ فِي حُقُوقِهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ قَصْدِهِ بِنَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ فَيُنَصَبُ، وَلَوْ أَنَّ الْوَصِيَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إِلَى الثَّانِي فَلَهُ التَّصَرُّفُ وَحْدَهُ كَمَا إِذَا أَوْصَى إِلَى آخَرَ لِأَنَّ رَأْيَهُ بَاقٍ حُكْمًا بِرَأْيِ وَصِيِّهِ، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُوَكِّلَهُ حَالَ حَيَاتِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ فَكَذَا الْوَصِيَّةُ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْمُوصِيَ مَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِ وَحْدَهُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا أَوْصَى إِلَى آخَرَ ; لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَصَلَ بِرَأْيِ الْمُثَنَّى. قَالَ: (وَإِذَا أَوْصَى الْوَصِيُّ إِلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيٌّ فِي التَّرِكَتَيْنِ) تَرِكَتُهُ وَتَرِكَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إِلَى غَيْرِهِ كَالْجَدِّ ; لِأَنَّ الْوِلَايَةَ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي ثُمَّ انْتَقَلَتْ إِلَى الْوَصِيِّ فِي الْمَالِ، وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ، وَالْجَدُّ قَامَ مَقَامَ الْأَبِ فِي وِلَايَةِ النَّفْسِ فَكَذَا الْوَصِيُّ فِي وِلَايَةِ الْمَالِ ; لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إِقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَتْ وِلَايَتُهُ ثَابِتَةً فِي التَّرِكَتَيْنِ فَكَذَا الْوَصِيُّ تَحْقِيقًا لِلِاسْتِخْلَافِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ فِي تَرِكَةِ نَفْسِهِ وَقَدْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ يَصِيرُ وَصِيًّا فِي التَّرِكَتَيْنِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ; لِأَنَّ تَرِكَةَ مُوصِيهِ تَرِكَتُهُ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهَا، وَرُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى تَرِكَتِهِ لِأَنَّهُ نُصَّ عَلَيْهَا وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ. قَالَ: (وَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَحْتَالَ بِمَالِ الْيَتِيمِ إِنْ كَانَ أَجْوَدَ) بِأَنْ كَانَ أَمْلَأَ أَوْ أَيْسَرَ قَضَاءً وَأَعْجَلَ وَفَاءً؛ لِأَنَّهُ أَنْظَرُ لِلْيَتِيمِ وَالْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ ; وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ إِذْ لَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ، بِخِلَافِ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، فَفِي اعْتِبَارِهِ سَدُّ بَابِ التَّصَرُّفَاتِ. قَالَ: (وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ إِنْ كَانَ فِيهِ نَفْعٌ لِلصَّبِيِّ) بِأَنِ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ بَاعَهُ بِأَقَلِّ مِنْهَا، وَقَالَا: لَا يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى الْوَكِيلِ. وَلَهُ أَنَّهُ قُرْبَانُ مَالِ الْيَتِيمِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَيَجُوزُ بِالنَّصِّ وَصَارَ كَالْأَبِ. قَالَ: (وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْتَرِضَ مَالَ الْيَتِيمِ وَلِلْأَبِ ذَلِكَ) لِأَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ شِرَاءَ مَالِ الصَّبِيِّ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَصِيُّ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ عِنْدَ حَاجَتِهِ بِقَدَرِ حَاجَتِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَصِيُّ. (وَلَيْسَ لَهُمَا إِقْرَاضُهُ، وَلِلْقَاضِي ذَلِكَ) لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً، فَجُعِلَ مُعَاوَضَةً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 وَالْوَصِيُّ أَحَقُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ مِنَ الْجَدِّ، وَشَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ لَا تَجُوزُ، وَعَلَى الْمَيِّتِ تَجُوزُ، وَتَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ إِنْ كَانُوا كِبَارًا، وَلَا تَجُوزُ إِنْ كَانُوا صِغَارًا (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الْقَاضِي لِقُدْرَتِهِ عَلَى الِاسْتِخْلَاصِ بِوَاسِطَةِ الْحَبْسِ وَغَيْرِهِ تَبَرُّعًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِعَجْزِهِ نَظَرًا وَاحْتِيَاطًا فِي مَالِ الْيَتِيمِ. قَالَ: (وَالْوَصِيُّ أَحَقُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ مِنَ الْجَدِّ) لِأَنَّهُ انْتَقَلَتْ إِلَيْهِ وِلَايَةُ الْأَبِ بِالْإِيصَاءِ إِلَيْهِ، فَكَانَتْ وِلَايَةُ الْأَبِ قَائِمَةً حُكْمًا، وَلِأَنَّ اخْتِيَارَهُ الْوَصِيَّ مَعَ عِلْمِهِ بِالْجَدِّ دَلِيلٌ أَنَّ تَصَرُّفَهُ أَنْظَرُ مِنْ تَصَرُّفِ الْجَدِّ فَكَانَ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يُوصِ الْأَبُ فَالْوِلَايَةُ لِلْجَدِّ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَشْفَقُ عَلَى بَنِيهِ فَانْتَقَلَتِ الْوِلَايَةُ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا مَلَكَ النِّكَاحَ مَعَ وُجُودِ الْوَصِيِّ، وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ الْوَصِيُّ فِي الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا، وَوَصِيُّ الْجَدِّ كَوَصِيِّ الْأَبِ ; لِأَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَكَذَا وَصِيُّهُ. قَالَ: (وَشَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ لَا تَجُوزُ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِنَفْسِهِ وِلَايَةَ الْقَبْضِ. (وَعَلَى الْمَيِّتِ تَجُوزُ) إِذْ لَا تُهْمَةَ فِي ذَلِكَ. (وَتَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ إِنْ كَانُوا كِبَارًا وَلَا تَجُوزُ إِنْ كَانُوا صِغَارًا) أَمَّا الشَّهَادَةُ لِلْكِبَارِ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَتْ فِي مَالِ الْمَيِّتِ لَا تَجُوزُ وَفِي غَيْرِهِ تَجُوزُ. وَقَالَا: تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ فَلَا يُثْبِتَانِ لِأَنْفُسِهِمَا وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فَلَا تُهْمَةَ، بِخِلَافِ الصِّغَارِ؛ لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ لَهُمَا وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ لَهُمَا وِلَايَةَ الْحِفْظِ وَوِلَايَةَ بَيْعِ الْمَنْقُولِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْوَارِثِ فَتَحَقَّقَتِ التُّهْمَةُ بِخِلَافِ مَا إِذَا شَهِدَا فِي غَيْرِ التَّرِكَةِ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمَا فِي غَيْرِهَا. وَأَمَّا الشَّهَادَةُ لِلصِّغَارِ فَلَا تَجُوزُ بِحَالٍ لِلتُّهْمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَإِنْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ إِلَى أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ فَإِذَا قَدِمَ فَهُوَ الْوَصِيُّ أَوْ إِلَى أَنْ يُدْرِكَ وَلَدِي فَهُوَ كَمَا قَالَ ; لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْوِكَالَةِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مُؤَقَّتَةٌ شَرْعًا بِبُلُوغِ الْأَيْتَامِ أَوْ إِينَاسِ الرُّشْدِ، فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُؤَقَّتَةً شَرْطًا، وَلَوْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ فِي مَالِهِ كَانَ وَصِيًّا فِيهِ وَفِي وَلَدِهِ، وَالْوَصِيُّ فِي نَوْعٍ يَكُونُ وَصِيًّا فِي جَمِيعِ الْأَنْوَاعِ ; لِأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَجْنَا إِلَى نَصْبِ آخَرَ، وَالْمُوصِي قَدِ اخْتَارَ هَذَا وَصِيًّا فِي بَعْضِ أُمُورِهِ فَجَعْلُهُ وَصِيًّا فِي الْكُلِّ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتَصَرُّفِ هَذَا فِي الْبَعْضِ وَلَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفُ غَيْرِهِ فِي شَيْءٍ أَصْلًا، وَإِذَا ادَّعَى الْوَصِيُّ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ أَخْرَجَهُ الْقَاضِي مِنَ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِلُّ أَخْذَ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقِيلَ: إِنِ ادَّعَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ أَخْرَجَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي: إِمَّا أَنْ تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ وَتَسْتَوْفِيَ أَوْ تُبَرِّئَهُ وَإِلَّا أَخْرَجْتُكَ مِنَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ وَإِلَّا أَخْرَجَهُ وَأَقَامَ غَيْرَهُ، وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَعْمَلَ فِيهِ هُوَ مُضَارَبَةً ; لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ، وَلِلْأَبِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ فَكَذَا الْوَصِيُّ، فَإِنْ عَمِلَ بِنَفْسِهِ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي مَالِ الصَّغِيرِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ابْتَغُوا فِي مَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا» فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْجِبَ طَائِفَةً مِنَ الْمَالِ لِنَفْسِهِ بِالْمُضَارَبَةِ احْتَاجَ إِلَى الْإِشْهَادِ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ إِنْ لَمْ يَشْهَدْ فَمَا عَمِلَهُ لِلْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِرُ فَلَا يُتْرَكُ إِلَّا بِدَلِيلٍ وَهُوَ الْإِشْهَادُ، وَلِلْوَصِيِّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ وَبِغَلَّتِهِمَا أَبَدًا وَمُدَّةً مَعْلُومَةً، فَإِنْ خَرَجَا مِنَ الثُّلُثِ اسْتَخْدَمَ وَسَكَنَ وَاسْتَغَلَّ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمَا خَدَمَ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا، فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ إِلَى الْوَرَثَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا، وَيَرْكَبَ دَابَّتَهُ إِذَا ذَهَبَ فِي حَاجَتِهِ، قَالَ - تَعَالَى -: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ طَمِعَ السُّلْطَانُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَصَالَحَهُ الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى أَقَلِّ مِمَّا طَمَعَ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ مَا أَمْكَنَهُ وَقَدْ أَمْكَنَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ. [فصل ما يجوز الوصية به] فَصْلٌ (وَتَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَسُكْنَى دَارِهِ وَبَغْلَتِهِمَا أَبَدًا وَمُدَّةً مَعْلُومَةً) لِأَنَّ الْمَنَافِعَ يَصِحُّ تَمْلِيكُهَا حَالَ الْحَيَاةِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ لِلْحَاجَةِ إِلَى ذَلِكَ كَالْأَعْيَانِ، ثُمَّ إِنَّ الْمُوصَى لَهُ يَتَمَلَّكُهَا عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي كَمَا قُلْنَا فِي الْوَقْفِ، وَتَجُوزُ مُؤَقَّتًا وَمُؤَبَّدًا كَمَا فِي الْإِعَارَةِ وَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ. قَالَ: (فَإِنْ خَرَجَا مِنَ الثُّلُثِ اسْتَخْدَمَ وَسَكَنَ وَاسْتَغَلَّ) لِأَنَّ الثُّلُثَ حَقُّ الْمُوصِي فَلَا تُزَاحِمُهُ الْوَرَثَةُ فِيهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكُ الرَّقَبَةِ فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِالْعَيْنِ إِلَّا بِصَيْرُورَتِهِ أَخَصَّ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ كَالْإِجَارَةِ فَكَانَتْ وَصِيَّةً بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ لَا مُطْلَقًا. (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُمَا) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا بِعِوَضٍ كَالْعَارِيَةِ، هَذَا لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِعِوَضٍ أَقْوَى وَأَلْزَمُ، وَالْأَضْعَفُ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَقْوَى. قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمَا خَدَمَ الْوَرَثَةَ يَوْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ يَوْمًا) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْدِمَهُمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَالْمُهَايَأَةُ فِيهِ تَقَعُ عَلَى الْأَيَّامِ كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الثُّلُثِ وَحَقَّهُمْ فِي الثُّلُثَيْنِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْعَيْنِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَنْعُ الْجَمِيعِ عَنِ الْوَرَثَةِ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْوَصِيَّةَ بِجَمِيعِ الْعَيْنِ، وَإِذَا تَقَرَّرَتِ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ وَجَبَتِ الْمُهَايَأَةُ بِالْحِصَصِ كَمَا قُلْنَا. قَالُوا: وَالْأَعْدَلُ فِي الدَّارِ أَنْ تُقَسَّمَ أَثْلَاثًا تَسْكُنُ الْوَرَثَةُ الثُّلُثَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ الثُّلُثُ ; لِأَنَّ فِيهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الِانْتِفَاعِ زَمَانًا وَذَاتًا، وَفِي الْمُهَايَأَةِ ذَاتًا لَا زَمَانًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَا يَتَجَزَّى فَلَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ فَتَعَيَّنَتِ الْمُهَايَأَةُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ لَكِنْ لَا يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ عَلَى قَدْرِ ثُلُثِ التَّرِكَةِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ مِثَالُهُ: إِذَا كَانَ الْعَبْدُ نِصْفَ التَّرِكَةِ فَإِنَّهُ يَخْدِمُ الْمُوصَى لَهُ يَوْمَيْنِ وَالْوَرَثَةَ يَوْمًا ; لِأَنَّ ثُلُثَيِ الْعَبْدِ ثُلُثُ التَّرِكَةِ فَصَارَ الْمُوصَى بِهِ ثُلُثَيِ الْعَبْدِ وَثُلُثَهُ لِلْوَرَثَةِ فَيُقْسَمُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ تَخْرُجُ بَقِيَّةُ مَسَائِلِهِ. قَالَ: (فَإِنْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ إِلَى الْوَرَثَةِ) لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ اسْتَوْفَى مَا أُوصِيَ لَهُ بِهِ مِنَ الْمَنَافِعِ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي كَمَا بَيَّنَّا، فَلَوِ انْتَقَلَتْ إِلَى وَرَثَتِهِ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 وَمَنْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ فَلَهُ الثَّمَرَةُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ قَالَ: أَبَدًا، فَلَهُ ثَمَرَتُهُ مَا عَاشَ، وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَلَهُ الْحَاضِرَةُ وَالْمُسْتَقْبَلَةُ وَإِنْ أَوْصَى بِصُوفِ غَنَمِهِ أَوْ بِأَوْلَادِهَا أَوْ بِلَبَنِهَا فَلَهُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ مَوْتِهِ، قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ،   [الاختيار لتعليل المختار] ابْتِدَاءَ اسْتِحْقَاقٍ مِنْ غَيْرِ رِضًى فَلَا يَجُوزُ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ، وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّتِهِمَا فَاسْتَخْدَمَ بِنَفْسِهِ وَسَكَنَ، قِيلَ: يَجُوزُ لِاسْتِوَاءِ الْغَلَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْمَقْصُودِ، وَقِيلَ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الْغَلَّةَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِمَا حَصَلَتْ وَهُوَ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ، وَهُمَا غَيْرُ مُتَفَاوِتَيْنِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ عَلَى الْمُوصِي دَيْنٌ أَمْكَنَهُمُ اسْتِرْدَادُ الْغَلَّةِ وَإِيفَاءُ الدَّيْنِ، وَلَا يُمْكِنُهُمُ اسْتِرْدَادُ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ اسْتِيفَائِهَا فَكَانَ هَذَا أَوْلَى، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ بَيْعُ الثُّلُثَيْنِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ جَوَازُهُ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِمْ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتٌ فِي سُكْنَى الْجَمِيعِ لَوْ ظَهَرَ لَهُ مَالٌ آخَرُ تَخْرُجُ الدَّارُ مِنَ الثُّلُثِ وَلَهُ حَقُّ الْمُزَاحَمَةِ فِي الثُّلُثَيْنِ لَوْ خَرَّبَ الثُّلُثَ الَّذِي فِي يَدِهِ، وَالْبَيْعُ يُبْطِلُ ذَلِكَ فَيُمْنَعُونَ عَنْهُ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنَ الثُّلُثِ فَهُوَ كَمَا أَوْصَى لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مَعْلُومًا حَيْثُ عَطَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَصَارَ كَحَالَةِ الِانْفِرَادِ وَحُكْمِ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ مَعَ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ كَالْوَارِثِ مَعَ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ. قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ فَلَهُ الثَّمَرَةُ الْمَوْجُودَةُ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْ قَالَ أَبَدًا فَلَهُ ثَمَرَتُهُ مَا عَاشَ، وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَلَهُ الْحَاضِرَةُ وَالْمُسْتَقْبَلَةُ) ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ اسْمٌ لِلْمَوْجُودِ عُرْفًا فَلَا يَنْتَظِمُ الْمَعْدُومُ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَقَوْلُهُ أَبَدًا صَرِيحٌ فِي إِرَادَتِهِ فَيَنْتَظِمُهُ، إِذْ لَوْ لَمْ يَنْتَظِمْهُ لَمْ يَبْقَ لِلتَّأْبِيدِ فَائِدَةٌ. أَمَّا الْغَلَّةُ فَيَنْتَظِمُ الْمَوْجُودُ وَمَا سَيُوجَدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عُرْفًا، يُقَالُ: فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَأَرْضِهِ وَدَارِهِ، وَيُرَادُ بِهِ الْمَوْجُودُ وَمَا سَيُوجَدُ عُرْفًا فَافْتَرَقَا. قَالَ: (وَإِنْ أَوْصَى بِصُوفِ غَنَمِهِ أَوْ بِأَوْلَادِهَا أَوْ بِلَبَنِهَا فَلَهُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ مَوْتِهِ، قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ عِنْدَ الْمَوْتِ عَلَى مَا عُرِفَ، فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَمْلِيكَ الْمَعْدُومِ لِعَدَمِ قَبُولِهِ لِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَى الْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ الْمَعْدُومَةِ فِي الْمُسَاقَاةِ وَالْإِجَارَةِ فَقُلْنَا بِجَوَازِهِ فِي الْوَصِيَّةِ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ، وَبَلْ أَوْلَى لِأَنَّ بَابَ الْوَصِيَّةِ أَوْسَعُ، أَمَّا الْوَلَدُ وَالصُّوفُ وَاللَّبَنُ لَمْ يَرِدْ فِيهَا شَيْءٌ فِي الْمَعْدُومِ وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي الْمَوْجُودِ تَبَعًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَمَقْصُودًا فِي الْخُلْعِ، فَكَذَا فِي الْوَصِيَّةِ يَجُوزُ فِي الْمَوْجُودِ دُونَ الْمَعْدُومِ اتِّبَاعًا لِمَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ وَغَلَّةِ دَارِهِ فِي الْمَسَاكِينِ جَازَ، وَبِسُكْنَى دَارِهِ أَوْ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لَهُمْ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ ; لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ سُكْنَى الدَّارِ وَاسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ إِلَّا بِالْمِرَمَّةِ وَالنَّفَقَةِ، وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فَبَطَلَتْ. أَمَّا الْغَلَّةُ يُمْكِنُ تَرْمِيمُ الدَّارِ وَالنَّفَقَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ، وَالْهِبَةُ وَالْمُحَابَاةُ وَصِيَّةٌ، وَالْمُحَابَاةُ إِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْعِتْقِ فَهِيَ أَوْلَى، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ شَارَكَتْهُ (سم) ، وَمَنْ أَوْصَى بِحُقُوقِ اللَّهِ - تَعَالَى - قُدِّمَتِ الْفَرَائِضُ،   [الاختيار لتعليل المختار] عَلَى الْعَبْدِ مِنَ الْغَلَّةِ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهَا. قَالَ: (وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ، وَالْهِبَةُ وَالْمُحَابَاةُ وَصِيَّةٌ) تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهَا تَبَرُّعَاتٌ فِي الْمَرَضِ بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَتُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَالْمُحَابَاةُ إِنْ تَقَدَّمَتْ عَلَى الْعِتْقِ فَهِيَ أَوْلَى، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ شَارَكَتْهُ) وَقَالَا: الْعِتْقُ أَوْلَى كَيْفَ كَانَ. وَصُورَةُ الْمُحَابَاةِ: أَنْ يَبِيعَ الْمَرِيضُ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِخَمْسِينَ، أَوْ يَشْتَرِيَ مَا يُسَاوِي خَمْسِينَ بِمِائَةٍ فَالزَّائِدُ عَلَى قِيمَةِ الْمِثْلِ فِي الشِّرَاءِ وَالنَّاقِصُ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ وَهِيَ كَالْهِبَةِ فِي الْمَرَضِ فَاعْتُبِرَتْ وَصِيَّةً. وَفِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: إِحْدَاهَا أَنْ يُحَابِيَ ثُمَّ يُعْتِقَ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يُعْتِقَ ثُمَّ يُحَابِيَ، وَالثَّالِثَةُ أَنْ يُعْتِقَ ثُمَّ يُحَابِيَ ثُمَّ يُعْتِقَ، وَالرَّابِعَةُ أَنْ يُحَابِيَ ثُمَّ يُعْتِقَ ثُمَّ يُحَابِيَ. فَإِنْ خَرَجَ الْكُلُّ مِنَ الثُّلُثِ نَفَذَتْ وَلَا كَلَامَ فِيهَا وَلَا خِلَافَ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الثُّلُثِ، فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تُنَفَّذُ الْمُحَابَاةُ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِلْعِتْقِ، وَقَالَا بِالْعَكْسِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ يَشْتَرِكَانِ، وَقَالَا: يُنَفَّذُ الْعِتْقُ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِلْمُحَابَاةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ يَصْرِفُ نِصْفَ الثُّلُثِ لِلْمُحَابَاةِ؛ لِأَنَّهَا تُشَارِكُ الْعِتْقَ الْأَوَّلَ عِنْدَهُ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الْعِتْقُ الْأَوَّلُ قُسِمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ، وَفِي الرَّابِعَةِ الثُّلُثُ بَيْنَ الْمُحَابَاتَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا، ثُمَّ مَا أَصَابَ الثَّانِيَةَ قُسِمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ لِتَقَدُّمِهِ عَلَيْهَا فَيُشَارِكُهَا، وَقَالَا: الْعِتْقُ أَوْلَى بِكُلِّ حَالٍ. لَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَيَلْحَقُ الْمُحَابَاةَ فَكَانَ أَوْلَى. وَالتَّقَدُّمُ فِي الذِّكْرِ لَا يُوجِبُ التَّقَدُّمَ فِي الثُّبُوتِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَفِي أَثَرِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِذَا كَانَ فِي الْوَصَايَا عِتْقٌ بُدِئَ بِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُحَابَاةَ أَقْوَى؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَكَانَ تَبَرُّعًا مَعْنًى لَا صُورَةً، وَالْإِعْتَاقُ تَبَرُّعٌ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالْمُعَاوَضَاتُ أَقْوَى مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، فَإِذَا وُجِدَتِ الْمُحَابَاةُ أَوَّلًا وَهِيَ أَقْوَى لَا يُزَاحِمُهُ الْأَضْعَفُ بَعْدَهَا لِقُوَّتِهِ وَسَبْقِهِ، إِلَّا أَنَّ الْعِتْقَ إِذَا تَقَدَّمَ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ تَعَارَضَا فَيَسْتَوِيَانِ فَيَشْتَرِكَانِ. قَالَ زُفَرُ: مَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصِي مِنْهُمَا فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ بِدَايَتَهُ دَلِيلٌ أَنَّ اهْتِمَامَهُ بِهِ أَكْثَرُ فَكَانَ غَرَضُهُ تَقَدُّمَهُ فَيَتْبَعُ غَرَضَهُ، وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ. وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ عَبْدًا فَقَالَ لِلْوَارِثِ: أَعْتَقَنِي أَبُوكَ، وَقَالَ آخَرُ: لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: صَدَقْتُمَا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ، وَقَالَا: يُعْتَقُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ ; لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالدَّيْنَ ظَهَرَا مَعًا فِي الصِّحَّةِ بِتَصْدِيقِ الْوَارِثِ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ، وَالْعِتْقُ فِي الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ السِّعَايَةَ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُعْتَقِ دَيْنٌ. وَلَهُ أَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ الْعِتْقُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَأَبْطَلْنَاهُ مَعْنًى بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ. قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى قُدِّمَتِ الْفَرَائِضُ) لِأَنَّهَا أَهَمُّ مِنَ النَّوَافِلِ ; لِأَنَّ الْفَرَائِضَ تُخْرِجُهُ عَنِ الْعُهْدَةِ، وَالنَّوَافِلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 وَإِنْ تَسَاوَتْ قُدِّمَ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا، وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ يُقَدَّمُ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي. وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ بِسُدُسِهِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِهِ أَوْ بِنِصْفِهِ أَوْ بِجَمِيعِهِ (سم) فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَلَا يَضْرِبُ (سم) الْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِلَّا فِي الْمُحَابَاةِ وَالسِّعَايَةِ وَالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] تُحَصِّلُ لَهُ زِيَادَةَ الثَّوَابِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَهَمَّ وَالْأَوْلَى. (وَإِنْ تَسَاوَتْ) بِأَنْ كَانَ الْكُلُّ فَرَائِضَ. (قُدِّمَ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي إِنْ ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْهَا) لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ بَدَأَ بِالْأَهَمِّ، وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِالْحَجِّ ثُمَّ بِالزَّكَاةِ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَقِيلَ: بِالزَّكَاةِ ثُمَّ بِالْحَجِّ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَكَانَتْ أَوْلَى، ثُمَّ بَعْدَهُمَا الْكَفَّارَاتُ؛ لِأَنَّهُمَا أَقْوَى مِنْهَا فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوَعِيدِ عَلَى التَّرْكِ، ثُمَّ صَدَقَةُ الْفِطْرِ بَعْدَ الْكَفَّارَاتِ ; لِأَنَّ الْكَفَّارَاتِ عُرِفَ وَجُوبُهَا بِالْقُرْآنِ وَصَدَقَةَ الْفِطْرِ بِالسُّنَّةِ، ثُمَّ الْأُضْحِيَّةُ لِأَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ مُجْمَعٌ عَلَى وُجُوبِهَا وَالْأُضْحِيَّةُ مُخْتَلَفُ فِيهَا (وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ يُقَدَّمُ مَا قَدَّمَهُ الْمُوصِي) لِمَا مَرَّ. [فصل أوصى بثلث ماله لرجل وبالسدس لآخر] فَصْلٌ (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِرَجُلٍ وَلِآخَرَ بِسُدُسِهِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا) لِأَنَّ الثُّلُثَ ضِعْفُ السُّدُسِ، فَقَدْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِسَهْمَيْنِ وَلِلْآخَرَ بِسَهْمٍ. (وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِهِ أَوْ بِنِصْفِهِ أَوْ بِجَمِيعِهِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ) وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ تُجِزِ الْوَرَثَةُ. أَمَّا الْأُولَى فَبِالْإِجْمَاعِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي قَدْرِ الْوَصِيَّةِ وَالثُّلُثُ لَا يَتَّسِعُ لَهُمَا فَيَسْتَوِيَانِ فِيهِ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. (وَلَا يَضْرِبُ الْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ) عِنْدَهُ. (إِلَّا فِي الْمُحَابَاةِ وَالسِّعَايَةِ وَالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ) وَقَالَا: يَضْرِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ مَا أَوْصَى لَهُ كَمَا إِذَا أَجَازَتِ الْوَرَثَةُ، فَإِنَّهُ يُقْسَمُ الْكُلُّ عَلَى قَدْرِ مَا أَوْصَى لَهُمَا كَذَلِكَ هَهُنَا، فَيُقْسَمُ الثُّلُثُ عِنْدَهُمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى خَمْسَةٍ، ثُلُثُهُ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ، وَسَهْمَانِ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى أَرْبَعَةٍ: ثَلَاثَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ، وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ تَفْضِيلَ الْبَعْضِ فِي الْوَصِيَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِطَرِيقِ الضَّرْبِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ فَيُصَارُ إِلَيْهِ. وَلَهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بَاطِلَةٌ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ لِكَوْنِهَا وَصِيَّةً بِمَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فَبَطَلَ حَقُّ الضَّرْبِ ضَرُورَةَ عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَإِنَّمَا قُصِدَ التَّفْضِيلُ بِنَاءً عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ وَالْإِجَازَةِ بِدَلِيلِ إِضَافَتِهِ الْوَصِيَّةَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 وَإِنْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ السُّدُسُ (سم) ، وَلَوْ أَوْصَى بِجُزْءٍ أَعْطَاهُ الْوَارِثُ مَا شَاءَ، وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنَانِ فَلَهُ الثُّلُثُ،   [الاختيار لتعليل المختار] إِلَى جَمِيعِ الْمَالِ وَقَدْ بَطَلَ الِاسْتِحْقَاقُ وَالْإِجَازَةُ فَيَبْطُلُ التَّفْضِيلُ، كَالْمُحَابَاةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ إِذَا بَطَلَ الْبَيْعُ تَبْطُلُ الْمُحَابَاةُ، بِخِلَافِ الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ وَالْمُحَابَاةِ لَمْ تَقَعْ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ قَطْعًا لِجَوَازِ نَفَاذِهَا بِأَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ فَتَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ بِدُونِ الْإِجَازَةِ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْعِتْقِ وَصِيَّةٌ بِالسِّعَايَةِ، وَهِيَ كَالدَّرَاهِمِ الْمُرْسَلَةِ، بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْوَرَثَةِ وَإِنْ كَثُرَتِ التَّرِكَةُ. وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ إِلَّا شَيْئًا أَوْ إِلَّا قَلِيلًا فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ بِيَقِينِ وَبَيَانِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إِلَى الْوَرَثَةِ؛ لِأَنَّهَا مَجْهُولَةٌ. قَالَ: (وَإِنْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ فَلَهُ السُّدُسُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: لَهُ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ إِلَّا أَنْ يَنْقُصَ مِنَ السُّدُسِ فَيَتِمُّ لَهُ السُّدُسُ وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ فَكَانَ حَاصِلُهُ أَنَّ لَهُ السُّدُسَ. وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَصَايَا: لَهُ أَخَسُّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى السُّدُسِ. وَقَالَا: لَهُ أَخَسُّ السِّهَامِ إِلَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثُّلُثِ فَيَكُونُ لَهُ الثُّلُثُ. لَهُمَا أَنَّ السَّهْمَ اسْمٌ لِمَا يَسْتَحِقُّهُ الْوَرَثَةُ عُرْفًا وَشَرْعًا، وَأَقَلُّ السِّهَامِ مُتَيَقَّنٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ، وَلَا يُزَادُ عَلَى الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ مَوْضِعُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ. وَلَهُ مَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي ذَلِكَ بِالسُّدُسِ» ، وَلِأَنَّ السَّهْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ السُّدُسُ لُغَةً. قَالَ إِيَاسٌ: السَّهْمُ فِي اللُّغَةِ السُّدُسُ، وَيُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهِ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ فَيُعْطَى الْأَقَلُّ مِنْهُمَا احْتِيَاطًا. فَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَابْنًا فَلِلْمُوصَى لَهُ الثُّمُنُ عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْوَصَايَا فَيُزَادُ عَلَى ثَمَانِيَةٍ فَيَكُونُ لَهُ تِسْعٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ لَهُ السُّدُسُ. وَلَوْ تَرَكَ امْرَأَةً وَأَخًا لِأَبَوَيْنِ فَعِنْدَهُ السُّدُسُ وَعِنْدَهُمَا الرُّبُعُ وَيَصِيرُ خُمُسًا، وَلَوْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَعِنْدَهُ لَهُ السُّدُسُ، وَعِنْدَهُمَا الثُّلُثُ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَلَهُ النِّصْفُ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ ابْنٍ فَصَارَ كَأَنَّ لَهُ ابْنَيْنِ وَلَا مَانِعَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثُّلُثِ فَصَحَّ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِجُزْءٍ أَوْ بِنَصِيبٍ أَوْ بِطَائِفَةٍ مِنْ مَالِهِ لَا يُعْتَقُ، وَلَوْ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ عُتِقَ ; لِأَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عَنِ السُّدُسِ أَوْ عَنْ أَخَسِّ السِّهَامِ، وَأَنَّهُ مَعْلُومٌ فَتُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ فِي جُزْءٍ مِنْهُ. أَمَّا الْجُزْءُ وَالنَّصِيبُ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَلَا تُنَفَّذُ فِيهِ الْوَصِيَّةُ إِلَّا بِإِعْطَاءِ الْوَرَثَةِ مَا شَاءُوا. قَالَ: (وَلَوْ أَوْصَى بِجُزْءٍ أَعْطَاهُ الْوَارِثُ مَا شَاءَ) وَكَذَلِكَ النَّصِيبُ وَالشِّقْصُ وَالْبَعْضُ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِشَيْءٍ مَجْهُولٍ، وَالْوَارِثُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فَكَانَ الْبَيَانُ إِلَيْهِ. قَالَ: (وَلَوْ أَوْصَى بِمِثْلِ نَصِيبِ ابْنِهِ وَلَهُ ابْنَانِ فَلَهُ الثُّلُثُ) ؛ لِأَنَّهُ إِذَا أَخَذَ الثُّلُثَ كَانَ مِثْلَ نَصِيبِ ابْنِهِ، وَلَوْ أَخَذَ النِّصْفَ كَانَ أَكْثَرَ، وَلَوْ أَوْصَى بِنَصِيبِ ابْنِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الِابْنِ مَا يُصِيبُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ، بِخِلَافِ الْمِثْلِ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ دَرَاهِمِهِ أَوْ ثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَ ثُلُثَاهَا وَبَقِيَ ثُلُثُهَا وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ فَلَهُ جَمِيعُهُ (ز) ، وَكَذَا الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَالثِّيَابُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فَلَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ وَالدُّورُ، وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَعَمْرٌو مَيِّتٌ فَالثُّلُثُ لِزَيْدٍ، وَلَوْ قَالَ: بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَنِصْفُهُ لِزَيْدٍ، وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ وَلَهُ مَالُ عَيْنٍ وَدَيْنٌ وَالْأَلْفُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ دُفِعَتْ إِلَيْهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ دَرَاهِمِهِ أَوْ ثُلُثِ غَنَمِهِ فَهَلَكَ ثُلُثَاهَا وَبَقِيَ ثُلُثُهَا وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ فَلَهُ جَمِيعُهُ، وَكَذَا الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَالثِّيَابُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فَلَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ وَالدُّورُ) وَقَالَ زُفَرُ: لَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا، فَمَا هَلَكَ يَهْلَكُ عَلَى الْحَقَّيْنِ، وَمَا يَبْقَى يَبْقَى عَلَيْهِمَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمُشْتَرِكَةِ وَكَمَا فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ. وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَعَلَّقَتْ بِالْبَاقِي؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الْمُوصَى لَهُ بِالْقِسْمَةِ مَعَ الْوَرَثَةِ لَوْ قَسَّمَ قَبْلَ الْهَلَاكِ لِأَنَّهُ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ الْقِسْمَةُ جَبْرًا وَأَنَّهُ إِفْرَازٌ فِيهِ، وَكُلُّ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْوَصِيَّةُ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ فَهُوَ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى مَا هَلَكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ كَالدَّابَّةِ وَالدَّارِ وَالْعَبْدِ فَاسْتَحَقَّ ثُلُثَاهُ كَانَ لَهُ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَلَا كَذَلِكَ الْأَجْنَاسُ الْمُخْتَلِفَةُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُوصَى لَهُ الْبَاقِي بِالْقِسْمَةِ، فَلَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ مُتَعَلِّقَةً بِهِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَجْرِي فِيهِ جَبْرًا، وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ مُبَادَلَةً فَلَا يَكُونُ لَهُ إِلَّا ثُلُثُ الْبَاقِي ضَرُورَةَ الْمُبَادَلَةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ، إِذْ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ قِسْمَةِ الْجَبْرِ فِيهَا، وَأَمَّا الدُّورُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالرَّقِيقُ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْسَمُ عِنْدَهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا قَالُوا: يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَالثِّيَابِ وَالْغَنَمِ؛ لِأَنَّهَا تُقَسَّمُ عِنْدَهُمَا، وَقِيلَ: لَا. أَمَّا الدُّورُ فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ عِنْدَهُمَا إِذَا رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً فَكَانَ فِي مَعْنَى الْقِسْمَةِ أَضْعَفُ مِمَّا يُقْسَمُ بِكُلِّ حَالٍ. وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يُقْسَمُ عِنْدَهُمَا لَكِنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فَاحِشٌ فَصَارَ كَجِنْسَيْنِ. قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَعَمْرٌو مَيِّتٌ فَالثُّلُثُ لِزَيْدٍ لِأَنَّ عَمْرًا إِنَّمَا يُزَاحِمُ لَوْ كَانَ حَيًّا، أَمَّا الْمَيِّتُ لَا يُزَاحِمُ فَبَقِيَ الثُّلُثُ لِزَيْدٍ بِلَا مُزَاحِمٍ بِقَوْلِهِ: ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ، وَلَغَا قَوْلُهُ وَعَمْرٍو. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِنْ عَلِمَ بِمَوْتِ عَمْرٍو فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذِكْرَ عَمْرٍو لَغْوٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ لِزَيْدٍ نِصْفُ الثُّلُثِ ; لِأَنَّ مِنْ زَعْمِهِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَيْنَهُمَا وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَوْصَى لِزَيْدٍ بِنِصْفِ الثُّلُثِ فَيَكُونُ كَمَا زَعَمَ. (وَلَوْ قَالَ: بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَنَصِفُهُ لِزَيْدٍ) ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي التَّنْصِيفَ بَيْنَهُمَا، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: ثُلُثُ مَالِي لِزَيْدٍ وَسَكَتَ كَانَ جَمِيعُ الثُّلُثِ لَهُ؟ وَلَوْ قَالَ: بَيْنَ زَيْدٍ وَسَكْتَ لَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَهُ. قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ وَلَهُ مَالٌ عَيْنٌ وَدَيْنٌ، وَالْأَلْفُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الْعَيْنِ دُفِعَتْ إِلَيْهِ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ مِنَ الثُّلُثِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْعَيْنِ أُخِذَ ثُلُثُ الْعَيْنِ وَثُلُثُ مَا يَحْصُلُ مِنَ الدَّيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا، وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْمَسَاكِينِ فَنِصْفُهُ لِفُلَانٍ وَنِصْفُهُ لِلْمَسَاكِينِ (م) ، وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِائَةٍ، ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كُلِّ مِائَةٍ، وَلَوْ قَالَ لِوَرَثَتِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ فَصَدَّقُوهُ يُصَدَّقُ إِلَى الثُّلُثِ، وَإِنْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَوَارِثٍ فَالنِّصْفُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَبَطَلَ نِصْفُ الْوَارِثِ.   [الاختيار لتعليل المختار] الَّذِي هُوَ مَحِلُّهَا مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ بِالْوَرَثَةِ فَيُنَفَّذُ. (وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْعَيْنِ أُخِذَ ثُلُثُ الْعَيْنِ وَثُلُثُ مَا يُحَصَّلُ مِنَ الدَّيْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهَا) لِأَنَّ التَّرِكَةَ مُشْتَرِكَةٌ بَيْنَهُمْ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ بِقَدْرِ حِصَصِهِمَا ; لِأَنَّ الْعَيْنَ خَيْرٌ مِنَ الدَّيْنِ، فَلَوِ اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا تَضَرَّرَ الْآخَرُ فَكَانَ الْعَدْلُ فِيمَا ذَكَرْنَا. قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْمَسَاكِينِ، فَنِصْفُهُ لِفُلَانٍ وَنِصْفُهُ لِلْمَسَاكِينِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ ثُلُثَاهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ اسْمَ الْمَسَاكِينِ عِنْدَهُ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَالْجَمْعُ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَكَذَا هَذَا. وَعِنْدَهُمَا يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ تَقْتَضِي الْجِنْسَ، وَمَتَى تَعَذَّرَ الصَّرْفُ إِلَى الْجِنْسِ يُصْرَفُ إِلَى الْأَدْنَى وَهُوَ وَاحِدٌ كَالْيَمِينِ فِي شُرْبِ الْمَاءِ وَتَزْوِيجِ النِّسَاءِ وَكَلَامِ النَّاسِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِشُرْبِ قَطْرَةٍ وَتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ وَكَلَامِ وَاحِدٍ، وَهَهُنَا تَعَذَّرَ صَرْفُهُ إِلَى الْجِنْسِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ فَيُصْرَفُ إِلَى الْأَدْنَى وَهُوَ الْوَاحِدُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِلْمَسَاكِينِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى وَاحِدٍ. وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سَهْمٌ لِفُلَانٍ وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِلْفُقَرَاءِ ; لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَانِ فَكَأَنَّهُ أَوْصَى لِثَلَاثَةٍ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: سَهْمٌ لِفُلَانٍ وَسَهْمٌ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُمَا صِنْفٌ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الِاسْمَيْنِ يُنْبِئُ عَنِ الْحَاجَةِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُقْسَمُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِفُلَانٍ، وَلِكُلِّ صِنْفٍ سَهْمَانِ لِمَا مَرَّ. قَالَ: (وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِائَةٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا فَلَهُ ثُلُثُ كُلِّ مِائَةٍ) تَحْقِيقًا لِلشَّرِكَةِ، إِذِ الشَّرِكَةُ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ. وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِائَةٍ وَلِآخَرَ بِخَمْسِينَ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ: أَشْرَكْتُكَ مَعَهُمَا، فَلَهُ نِصْفُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ ; لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْكُلِّ لِتَفَاوُتِ الْمَالَيْنِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مُسَاوَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلًا بِلَفْظِ الشَّرِكَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. قَالَ: (وَلَوْ قَالَ لِوَرَثَتِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ فَصَدَّقُوهُ يُصَدَّقُ إِلَى الثُّلُثِ) أَيْ إِذَا ادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَكَذَّبَهُ الْوَرَثَةُ لِأَنَّهُ إِقْرَارٌ بِمَجْهُولٍ فَلَا يَصِحُّ إِلَّا بِالْبَيَانِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ قَصَدَ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ فَأَمْضَيْنَا قَصْدَهُ وَجَعَلْنَاهُ وَصِيَّةً فَتَكُونُ مُقَدَّرَةً بِالثُّلُثِ. قَالَ: (وَإِنْ أَوْصَى لِأَجْنَبِيٍّ وَوَارِثٍ فَالنِّصْفُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَبَطَلَ نِصْفُ الْوَارِثِ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمُ الْمُلَاصِقُونَ (سم) ، وَالْأَصْهَارُ: كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَتِهِ، وَالْأُخْتَانِ: زَوْجُ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، وَالْأَهْلُ: الزَّوْجَةُ (سم) ،   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَا يَمْلِكُ وَمَا لَا يَمْلِكُ فَيَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُ وَتَبْطُلُ فِي الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِلْحَيِّ وَالْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّمْلِيكِ فَلَا يَكُونُ مُزَاحِمًا. أَمَّا الْوَارِثُ أَهْلٌ حَتَّى يَصِحَّ بِإِجَازَةِ بَاقِي الْوَرَثَةِ فَيَصْلُحُ مُزَاحِمًا. [فصل الوصية للجيران والأصهار والأختان والأهل] فَصْلٌ (وَمَنْ أَوْصَى لِجِيرَانِهِ فَهُمُ الْمُلَاصِقُونَ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مِنَ الْمُجَاوَرَةِ، وَهِيَ الْمُلَاصَقَةُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ» وَالْمُرَادُ الْمُلَازِقُ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ. وَقَالَا: الْمُلَاصِقُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ تِلْكَ السِّكَّةِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ جِيرَانًا عُرْفًا، يُقَالُ: جَارٌ مُلَاصِقٌ وَغَيْرُ مُلَاصِقٍ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ» ، وَفُسِّرَ بِكُلِّ مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَلِأَنَّ قَصْدَهُ الْبِرُّ، وَهُوَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ أَعَمُّ إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ بِاتِّحَادِ الْمَسْجِدِ وَالْمَالِكِ وَالسَّاكِنِ فِيهِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ ; لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِ يَتَنَاوَلُهُمْ. قَالَ: (وَالْأَصْهَارُ: كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَتِهِ) لِأَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْتَقَ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَتِهِ صَفِيَّةَ» ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ أَصْهَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ زَوْجَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، فَلَوْ مَاتَ بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ ; لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الصِّهْرِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَقَاؤُهَا بِبَقَاءِ النِّكَاحِ. قَالَ: (وَالْأَخْتَانُ: زَوْجُ كُلِّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ) وَيَدْخُلُ فِيهِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ لِتَنَاوُلِ اللَّفْظِ الْجَمِيعَ. وَمِنْ كَلَامِهِمْ: نِعْمَ الْخَتَنُ الْقَبْرُ. وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ اخْتِلَافٌ فِي الْأَصْهَارِ وَالْأَخْتَانِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعُرْفُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَالْحُكْمُ بِهِ. قَالَ: (وَالْأَهْلُ: الزَّوْجَةُ) وَعِنْدَهُمَا كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ وَتَجْمَعُهُ نَفَقَتُهُ وَمَنْزِلُهُ مِنَ الْأَحْرَارِ دُونَ الرَّقِيقِ، وَإِنْ كَانَ يَعُولُهُ وَلَيْسَ فِي مَنْزِلِهِ لَا يَدْخُلُ عَمَلًا بِالْعُرْفِ. قَالَ - تَعَالَى -: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} [يوسف: 93] وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَقِيقَةَ مَا ذَكَرْنَا، يُقَالُ: تَأَهَّلَ فُلَانٌ بِبَلَدِ كَذَا إِذَا تَزَوَّجَ بِهَا، وَانْصِرَافُ الْفَهْمِ إِلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ دَلِيلُ الْحَقِيقَةِ. وَقَالَ - تَعَالَى -: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وَالْآلُ: أَهْلُ بَيْتِهِ، وَأَهْلُ نَسَبِهِ: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَجِنْسُهُ: أَهْلُ بَيْتِ أَبِيهِ، وَإِنْ أَوْصَى لِأَقْرِبَائِهِ، أَوْ لِذَوِي قَرَابَتِهِ، أَوْ لِأَرْحَامِهِ، أَوْ لِذَوِي أَرْحَامِهِ، أَوْ لِأَنْسَابِهِ فَهُمُ اثْنَانِ (سم) فَصَاعِدًا مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ غَيْرِ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ، وَفِي الْجَدِّ رِوَايَتَانِ،   [الاختيار لتعليل المختار] {قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا} [القصص: 29] أَيْ لِزَوْجَتِهِ، وَقَالَ - تَعَالَى -: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29] أَيْ زَوْجَتِهِ بِنْتِ شُعَيْبٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. قَالَ: (وَالْآلُ: أَهْلُ بَيْتِهِ) لِأَنَّ آلَ فُلَانٍ قَبِيلَتُهُ الَّتِي يُنْسَبُ إِلَيْهَا. وَلَوْ أَوْصَى لِأَهْلِ بَيْتِ فُلَانٍ يَدْخُلُ فِيهِ أَبُوهُ وَجَدُّهُ ; لِأَنَّ الْأَبَ أَصْلُ الْبَيْتِ. قَالَ: (وَأَهْلُ نَسَبِهِ: مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ) لِأَنَّ النَّسَبَ إِلَى الْآبَاءِ. قَالَ: (وَجِنْسُهُ: أَهْلُ بَيْتِ أَبِيهِ) لِأَنَّ الشَّخْصَ يَتَجَنَّسُ بِأَبِيهِ، فَابْنُ التُّرْكِيِّ تُرْكِيٌّ، وَابْنُ الْهِنْدِيِّ هِنْدِيٌّ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ وَالنَّسَبِ وَالْجِنْسِ وَالْآلِ أَقْرِبَاؤُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ إِلَى أَقْصَى جَدٍّ يَجْمَعُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ ; لِأَنَّ اسْمَ الْقَرَابَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا، وَالْوَصِيَّةُ لِلْغَنِيِّ الْقَرِيبِ قُرْبَةٌ لِأَنَّهُ صِلَةُ الرَّحِمِ. قَالَ: (وَإِنْ أَوْصَى لِأَقْرِبَائِهِ أَوْ لِذَوِي قَرَابَتِهِ، أَوْ لِأَرْحَامِهِ، أَوْ لِذَوِي أَرْحَامِهِ، أَوْ لِأَنْسَابِهِ فَهُمُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا مِنْ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ، غَيْرِ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ، وَفِي الْجَدِّ رِوَايَتَانِ) وَقَالَ: يَسْتَحِقُّهُ الْوَاحِدُ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَحْرَمُ وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ وَالْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ إِلَى كُلِّ مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْقَرَابَةَ تَنْتَظِمُ الْكُلَّ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صَعِدَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الصَّفَا وَقَالَ: يَا بَنِي فُلَانٍ، يَا بَنِي فُلَانٍ حَتَّى دَعَا قَبَائِلَ قُرَيْشٍ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» ، فَدَلَّ أَنَّ الْقَرَابَةَ تَتَنَاوَلُ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ. وَقَوْلُهُمَا إِلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ كَالْعَبَّاسِيِّ وَالْعَلَوِيِّ يَدْخُلُ فِي وَصِيَّتِهِ كُلُّ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْعَبَّاسِ وَإِلَى عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ; لِأَنَّ الْجَدَّ الْمُسْلِمَ صَارَ هُوَ الْبَيْتُ وَشَرُفُوا بِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ تَقَدَّمَهُ مِمَّنْ لَمْ يُسْلِمْ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ قَوْلَهُ لِذَوِي قَرَابَتِي اسْمُ جَمْعٍ، وَالْمُثَنَّى جَمْعٌ مِنْ وَجْهٍ لِوُجُودِ الِاجْتِمَاعِ، وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْمِيرَاثِ اثْنَانِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الصِّلَةُ فَتَخْتَصُّ بِالرَّحِمِ الْمَحْرَمِ كَالنَّفَقَةِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ لِلْإِطْلَاقِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ. قَالَ - تَعَالَى -: {لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْوَالِدُ قَرِيبًا لِلْوَلَدِ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ قَرِيبًا لَهُ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَدُّ وَالْجَدَّةُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا أَقْرِبَاءَ ; لِأَنَّ الْقَرِيبَ لُغَةً: مَنْ يَتَقَرَّبُ إِلَى غَيْرِهِ بِوَاسِطَةِ غَيْرِهِ، وَتَكُونُ الْجُزْئِيَّةُ بَيْنَهُمَا مُنْعَدِمَةً، وَتُقَرِّبُ الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ، وَالْجَدُّ وَالْحَفَدَةُ الْجُزْئِيَّةُ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ وَارِثًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تَصِحُّ لِلْوَارِثِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 وَيُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَخَالَانِ فَلِلْعَمِّ النِّصْفُ وَلِلْخَالَيْنِ النِّصْفُ (سم) ، وَفِي عَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ الْكُلُّ لِلْعَمَّيْنِ (سم) ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ (سم) وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَعَمَّةٌ وَخَالٌ فَالْوَصِيَّةُ لِلْعَمِّ وَالْعَمَّةِ سَوَاءٌ، وَإِنْ قَالَ لِذِي قَرَابَتِهِ أَوْ ذِي نَسَبِهِ فَكَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْوَاحِدَ يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ بَطَلَتِ (سم) الْوَصِيَّةُ أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ وَهُوَ أَبُو قَبِيلَةٍ كَبَنِي تَمِيمٍ فَهِيَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (وَيُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا. (فَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَخَالَانِ فَلِلْعَمِّ النِّصْفُ وَلِلْخَالَيْنِ النِّصْفُ) وَقَالَا: بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا. (وَفِي عَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ الْكُلُّ لِلْعَمَّيْنِ) وَعِنْدَهُمَا بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا. لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَيُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ كَمَا فِي الْمِيرَاثِ، فَلَا يَرِثُ الْخَالُ مَعَ الْعَمَّيْنِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِلْعَمِّ النِّصْفُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ التَّثْنِيَةِ لِمَا مَرَّ عِنْدَهُ فَبَقِيَ الْبَاقِي لِلْخَالَيْنِ. وَلَهُمَا مَا تَقَدَّمَ أَنَّ اسْمَ الْقَرِيبِ يَتَنَاوَلُ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ عَلَى مَا مَرَّ. قَالَ: (وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ فَلَهُ نِصْفُ الثُّلُثِ) عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا جَمِيعُهُ. (وَإِنْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَعَمَّةٌ وَخَالٌ فَالْوَصِيَّةُ لِلْعَمِّ وَالْعَمَّةِ سَوَاءٌ) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَرَابَةِ وَهِيَ أَقْوَى مِنَ الْخُئُولَةِ وَالْعَمَّةُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَارِثَةً تَسْتَحِقُّ الْوَصِيَّةَ بِلَفْظِ الْقَرَابَةِ، كَمَا إِذَا كَانَ الْقَرِيبُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا. قَالَ: (وَإِنْ قَالَ لِذِي قَرَابَتِهِ أَوْ ذِي نَسَبِهِ فَكَذَلِكَ) الْخِلَافُ. (إِلَّا أَنَّ الْوَاحِدَ يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ) بِالْإِجْمَاعِ ; لِأَنَّ لَفْظَ ذِي فَرْدٍ فَيَسْتَحِقُّهُ الْوَاحِدُ، فَفِي مَسْأَلَةِ الْعَمِّ وَالْخَالَيْنِ يَسْتَحِقُّ الْعَمُّ الْجَمِيعَ لِمَا قُلْنَا، وَلَوْ قَالَ لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَنْسَابِهِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ يَسْتَحِقُّ الْوَاحِدُ الْجَمِيعَ إِذَا انْفَرَدَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْأَقْرَبُ اسْمُ فَرْدٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُهُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَيَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْأَبْعَدِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَقْرَبِ، وَلَا يَأْخُذُ مَعَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ بَطَلَتِ الْوَصِيَّةُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَالْأَصْلُ مَا مَرَّ. قَالَ: (أَوْصَى لِبَنِي فُلَانٍ وَهُوَ أَبُو قَبِيلَةٍ كَبَنِي تَمِيمٍ فَهِيَ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصُونَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَصِيَّةٍ يُحْصَى عَدَدُ أَهْلِهَا فَهِيَ جَائِزَةٌ، وَهِيَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمُ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فَهِيَ سَوَاءٌ، وَيَدْخُلُ فِيهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ; لِأَنَّ الْحَقَّ يَجُوزُ إِثْبَاتُهُ لِمُعَيَّنٍ مِنْ بَنِي آدَمَ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ إِلَيْهِ مُمْكِنٌ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى التَّخْصِيصِ فَصَحَّتِ الْوَصِيَّةُ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ الْوَصِيَّةُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا غَنِيٌّ كَقَوْلِهِ: فُقَرَاءُ بَنِي تَمِيمٍ أَوْ مَسَاكِينُهُمْ فَالْوَصِيَّةُ صَحِيحَةٌ، وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ وَقَعَتْ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالْفُقَرَاءُ مَصَارِفُهَا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 وَإِنْ كَانَ أَبَا صُلْبٍ فَالْوَصِيَّةُ لِلذُكُورِ (سم) خَاصَّةً، وَلَوْ أَوْصَى لِأَيْتَامِ بَنِي فُلَانٍ أَوْ عُمْيَانِهِمْ أَوْ زَمْنَاهُمْ أَوْ أَرَامِلِهِمْ وَهُمْ يُحْصَوْنَ فَهِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَلِلْفُقَرَاءِ خَاصَّةً.   [الاختيار لتعليل المختار] وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْوَصِيَّةِ يَقَعُ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَلَا يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ، كَقَوْلِهِ لِبَنِي تَمِيمٍ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِلْعِبَادِ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا لِجَمِيعِ بَنِي تَمِيمٍ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُهَا لِلْبَعْضِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنَ الْبَعْضِ الْآخَرِ فَبَطَلَتْ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى. الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْفَقِيرَ وَالْغَنِيَّ، لَكِنْ قَدْ يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِي ذَوِي الْحَاجَةِ كَقَوْلِهِ، يَتَامَى بَنِي تَمِيمٍ، أَوْ عُمْيَانِ بَنِي تَمِيمٍ، أَوْ زَمْنَى بَنِي تَمِيمٍ، أَوْ أَرَامِلِ بَنِي تَمِيمٍ، فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَالِاسْمُ يَقَعُ عَلَى الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَتَكُونُ الْوَصِيَّةُ لَهُمَا ; لِأَنَّهُمْ مُعَيَّنُونَ يُمْكِنُ التَّسْلِيمُ إِلَيْهِمْ فَيَجْرِي اللَّفْظُ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ كَانَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُذَكَّرُ وَيُرَادُ بِهِ غَالِبًا أَهْلُ الْحَاجَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ الْيَتَامَى فِي آيَةِ الْخُمُسِ وَأَرَادَ الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ فَوَجَبَ تَخْصِيصُ الْوَصِيَّةِ وَحَمْلُهَا عَلَى أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ وَالثَّوَابَ فِيهِمْ أَكْثَرُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ غَالِبًا، وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ; لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْعَقْدِ لَا يَتَفَضَّلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَالِاسْتِحْقَاقِ بِالْبَيْعِ، وَلَوْ قَالَ: لِفُقَرَاءِ بَنِي فُلَانٍ وَهُوَ أَبُو قَبِيلَةٍ لَا يُحْصَوْنَ دَخَلَ مَوَالِيهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ وَحُلَفَاؤُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا بَنِي أَبٍ لَيْسَ بِقَبِيلَةٍ يُخْتَصُّ بِبَنِي فُلَانٍ مِنَ الْعَرَبِ دُونَ الْمَوَالِي وَالْحُلَفَاءِ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُحْصَوْا فَالْمُرَادُ بِهَا النِّسْبَةُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْمَوَالِي وَالْحُلَفَاءِ وَإِذَا ذَكَرَ الْبُنُوَّةَ مِمَّنْ يُحْصَوْنَ فَالْمُرَادُ الْأَوْلَادُ دُونَ النِّسْبَةِ. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ أَبَا صُلْبٍ فَالْوَصِيَّةُ لِلذُّكُورِ خَاصَّةً) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا: هُوَ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا؛ لِأَنَّهُ مَتَى اخْتَلَطَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ فَخِطَابُ الرِّجَالِ يَعُمُّ الْجَمِيعَ كَقَوْلِهِمْ: بَنُو آدَمَ وَبَنُو هَاشِمٍ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِلذَّكَرِ خَاصَّةً وَمَا ذَكَرَهُ مَجَازٌ، وَالْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ أَوْلَى. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ يُعْطَى وَلَدُ وَلَدِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ دُونَ الْإِنَاثِ، وَلَا يَشْتَرِكُ فِي هَذَا النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَالِ، إِنَّمَا هِيَ لِلرِّجَالِ خَاصَّةً، بِخِلَافِ اسْمِ الْوَلَدِ عَلَى مَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَلَوْ أَوْصَى لِأَيْتَامِ بَنِي فُلَانٍ أَوْ عُمْيَانِهِمْ أَوْ زَمْنَاهُمُ أَوْ أَرَامِلِهِمْ وَهُمْ يُحْصَوْنَ فَهِيَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَلِلْفُقَرَاءِ خَاصَّةً) وَقَدْ مَرَّ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَوْصَى لِمُجَاوِرِي مَكَّةَ فَهِيَ كَالْوَصِيَّةِ لِلْأَيْتَامِ، وَالْيَتِيمُ: كُلُّ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَلَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، غَنِيًّا كَانَ أَوْ فَقِيرًا، وَالْأَرْمَلَةُ: كُلُّ امْرَأَةٍ بَالِغَةٍ فَقِيرَةٍ فَارَقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ مِنْ قَوْلِهِمْ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ قَالَ لِوَلَدِ فُلَانٍ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ، وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الِابْنِ مَعَ أَوْلَادِ الصُّلْبِ، وَيَدْخُلُ أَوْلَادُ الِابْنِ فِي الْوَصِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ، وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ،   [الاختيار لتعليل المختار] أَرْمَلَ الْقَوْمُ: إِذَا فَنِيَ زَادُهُمْ، وَيُسَمَّى الذَّكَرُ أَرْمَلًا مَجَازًا، قَالَ: كُلُّ الْأَرَامِلِ قَدْ قُضِيَتْ حَاجَتُهَا ... فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ الْأَيِّمُ: كُلُّ امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا وَقَدْ جُومِعَتْ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا بَلَغَتْ أَوْ لَمْ تَبْلُغْ فَقِيرَةً أَوْ غَنِيَّةً، هَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. الشَّابُّ وَالْفَتَى مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً إِلَى أَنْ يَصِيرَ كَهْلًا ; لِأَنَّهُ مِنْ شَبَّ إِذَا نَمَا وَازْدَادَ وَهُوَ فِي النُّمُوِّ إِلَى أَنْ يَكْتَهِلَ. وَالْغُلَامُ: مَا لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الْغُلْمَةِ وَهِيَ السَّكْرَةُ وَالْغَفْلَةُ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَبْلُغْ كَالسَّكْرَانِ فِي لَهْوِهِ وَصِبَاهُ. وَالْكَهْلُ: مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَإِذَا خَطَّهُ الشَّيْبُ فَهُوَ شَيْخٌ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْكَهْلُ مِنْ أَرْبَعِينَ إِلَى خَمْسِينَ إِلَّا إِذَا غَلَبَ الشَّيْبُ فَهُوَ شَيْخٌ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إِذَا بَلَغَ ثَلَاثِينَ وَخَالَطَهُ شَيْبُ فَهُوَ كَهْلٌ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِطْهُ فَهُوَ شَابُّ، وَالْعِبْرَةُ لِلشَّيْبِ وَالشَّمَطِ فَإِنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا ذَلِكَ وَأَطْلَقُوا الِاسْمَ عِنْدَ وُجُودِ الْعَلَامَةِ. وَالْكُهُولَةُ مِنَ الِاكْتِهَالِ وَهُوَ الِاكْتِمَالُ، وَمِنْهُ اكْتَهَلَ الزَّرْعُ إِذَا أَدْرَكَ وَابْيَضَّ. وَالشَّيْخُ: مِنْ خَمْسِينَ إِلَى آخِرِ الْعُمْرِ. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ إِلَّا بِكِتَابٍ وَحِسَابٍ فَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ لَا يُحْصَوْنَ، وَالْمُخْتَارُ أَنْ يُفَوَّضَ الْأَمْرُ إِلَى الْقَاضِي وَهُوَ الْأَحْوَطُ. قَالَ: (أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) اعْتِبَارًا بِالْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَرَثَةِ دَلَّ عَلَيْهِ. (وَإِنْ قَالَ لِوَلَدِ فُلَانٍ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ) ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى التَّفْضِيلِ وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمٌ لِجِنْسِ الْمَوْلُودِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَاحِدًا أَوْ أَكَثَرَ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْحَمْلُ لِأَنَّهُ وُلِدَ حَتَّى وَرِثَ. (وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الِابْنِ مَعَ أَوْلَادِ الصُّلْبِ) لِأَنَّ الْوَلَدَ حَقِيقَةً يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الصُّلْبِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ بَنَاتٌ لِصُلْبِهِ وَبَنُو ابْنٍ فَالْوَصِيَّةُ لِلْبَنَاتِ عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ. (وَيَدْخُلُ أَوْلَادُ الِابْنِ فِي الْوَصِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ) ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْتَظِمُ وَلَدُ الصُّلْبِ حَقِيقَةً وَوَلَدُ الْوَلَدِ مَجَازًا، فَإِذَا تَعَذَّرَتِ الْحَقِيقَةُ صُرِفَ إِلَى الْمَجَازِ تَحَرُّزًا عَنِ التَّعْطِيلِ. (وَلَا يَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ) الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 أَوْصَى لِمَوَالِيهِ فَهِيَ لِمَنْ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَلِأَوْلَادِهِمْ، وَلَا يَدْخُلُ مَوَالِي الْمَوَالِي إِلَّا عِنْدَ عَدَمِهِمْ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَرَوَى الْخِصَافُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ، وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إِذَا أَخَذَ أَمَانًا لِنَفْسِهِ وَلِوَلَدِهِ لَمْ يُدْخُلْ فِيهِ وَلَدُ الْبَنَاتِ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْخَصَّافِ أَنَّ الْوَلَدَ يُنْسَبُ إِلَى أَبَوَيْهِ حَقِيقَةً وَيُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ مَجَازًا، فَإِذَا نُسِبَ إِلَى جَدِّهِ أَبِ أَبِيهِ بِأَنَّهُ ابْنُهُ مَجَازًا، فَكَذَلِكَ يُنْسَبُ إِلَى أَبِ أُمِّهِ، وَلِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يُقَالُ لَهُ ابْنُ آدَمَ وَلَا يُنْسَبُ إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ أُمِّهِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ أَوْلَادَ الْبَنَاتِ يُنْسَبُونَ إِلَى أَبِيهِمْ. قَالَ: بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الْأَبَاعِدِ وَإِذَا نُسِبُوا إِلَى آبَائِهِمْ لَمْ يُنْسَبُوا إِلَى أَبِ الْأُمِّ فَلَا يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ لَهُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] ، وَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْبِنْتِ يُنْسَبُ إِلَيْهِ لَكَانَ أَبًا لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قَالَ: (أَوْصَى لِمَوَالِيهِ فَهِيَ لِمَنْ أَعْتَقَهُ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَلِأَوْلَادِهِمْ) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ أَوْ بَعْدَهَا ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ثَبَتَ لَهُ الْوَلَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَاسْتَحَقَّ الْوَصِيَّةَ لِوُجُودِ الصِّفَةِ فِيهِ، وَأَوْلَادُهُمْ أَيْضًا يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ بِالْوَلَاءِ الْمُعَلَّقِ بِالْعِتْقِ فَيَدْخُلُونَ مَعَهُمْ، وَالْمُدَبَّرُونَ وَأُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ لَا يَدْخُلُونَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْحُرِّيَّةَ بِسَبَبٍ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَنُسِبُوا إِلَى الْوَلَاءِ كَالْمُعْتَقِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تُسْتَحَقُّ بِالْمَوْتِ وَهَؤُلَاءِ يُعْتَقُونَ عَقِيبَ الْمَوْتِ، وَيَثْبُتُ لَهُمُ الْوَلَاءُ بَعْدَهُ، فَحَالَ نُفُوذِ الْوَصِيَّةِ لَمْ يَكُونُوا مَوَالِيَ فَلَا يَدْخُلُونَ فِيهَا. وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: إِنْ لَمْ أَضْرِبْكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَاتَ قَبْلَ ضَرْبِهِ دَخَلَ فِي الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنِ الضَّرْبِ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَسْتَحِقُّ اسْمَ الْوَلَاءِ عَقِيبَ الْمَوْتِ فَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ. وَأَمَّا مَوَالِي الْمُوَالَاةِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا كَانَ الْمُوصِي مِنَ الْعَرَبِ وَلَهُ مَوَالِي عَتَاقَةٍ وَمَوَالِي مُوَالَاةٍ، فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّ الِاسْمَ يَشْمَلُ الْكُلَّ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ: الْوَصِيَّةُ لِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَأَوْلَادِهِمْ دُونَ مَوَالِي الْمُوَالَاةِ ; لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ بِالْعِتْقِ، وَوَلَاءَ الْمُوَالَاةِ بِالْعَقْدِ فَهُمَا مَعْنَيَانِ مُتَغَايِرَانِ فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ، وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَلْزَمُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ هُمْ وَالْآبَاءُ إِلَيْهِ بِوَلَاءٍ وَاحِدٍ. قَالَ: (وَلَا يَدْخُلُ مَوَالِي الْمَوَالِي إِلَّا عِنْدَ عَدَمِهِمْ) ؛ لِأَنَّهُمْ مَوَالِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً، وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْوَلَدِ مَعَ وَلَدِ الصُّلْبِ، فَإِنَّ الْمَوَالِيَ حَقِيقَةً الَّذِينَ أُوقِعَ عَلَيْهِمُ الْعِتْقُ، وَمَوَالِي الْمَوَالِي يُنْسَبُونَ إِلَيْهِ مَجَازًا، فَلَا يَتَنَاوَلُهُمُ الِاسْمُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمَوَالِي حَقِيقَةً لِمَا مَرَّ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَوْلَيَانِ فَالثُّلُثُ لَهُمَا ; لِأَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ فِي الْوَصَايَا يُحْمَلُ عَلَى الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِمَا مَرَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 فِإِنْ كَانَ لَهُ مَوْلًى وَاحِدٌ وَمَوْلَى مُوَالَاةٍ فَالنِّصْفُ لِمَوْلَاهُ وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُ وَمَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ فَهِيَ بَاطِلَةٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ: (فَإِنْ كَانَ لَهُ مَوْلًى وَاحِدٌ وَمَوْلَى مُوَالَاةٍ فَالنِّصْفُ لِمَوْلَاهُ وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اسْمَ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَيَسْتَحِقُّ الْوَاحِدُ النِّصْفَ وَيَسْقُطُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَيُصْرَفُ إِلَى الْوَرَثَةِ، وَنَظِيرُهُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَلَدِ وَلَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ وَوَلَدُ وَلَدٍ، فَلِلصُّلْبيِّ نِصْفُ الثُّلُثِ وَالْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ، وَلَا شَيْءَ لِوَلَدِ الْوَلَدِ وَالْعِلَّةُ مَا بَيَّنَّا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ لَهُ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُ وَمَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ فَهِيَ بَاطِلَةٌ) لِأَنَّ اسْمَ الْمَوَالِي يَتَنَاوَلُهُمَا وَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ ; لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَنْعَمَ وَالْآخَرَ أُنْعِمَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ ; لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَرِطَ لَا يَنْتَظِمُ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَبَقِيَ الْمُوصَى لَهُ مَجْهُولًا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا جَائِزَةٌ وَتَكُونُ لِلْفَرِيقَيْنِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَنْتَظِمُهُمَا وَلَا يَدْخُلُ مَوَالِي أَبِيهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَدْخُلُونَ لِأَنَّهُمْ مَوَالِيهِ حُكْمًا حَتَّى يَرِثَهُمْ بِالْوَلَاءِ فَدَخَلُوا تَحْتَ الِاسْمِ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُمْ فَلَا يَكُونُونَ مَوَالِيَهُ حَقِيقَةً وَلَمْ يُنْسَبُوا إِلَيْهِ بِالْوَلَاءِ، بِخِلَافِ ابْنِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِالْوَلَاءِ بِوَاسِطَةِ أَبِيهِ وَإِنَّمَا يَرِثُهُمْ بِالْعُصُوبَةِ لَا بِالْوَلَاءِ، بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَيْهِ بِالْوَلَاءِ. 1 - مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ وَصِيٌّ بَاعَ ضَيْعَةً لِلْيَتِيمِ مِنْ مُفْلِسٍ يُؤَجِّلُ الْقَاضِي الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ نَقَدَ الثَّمَنَ وَإِلَّا فَسَخَ الْبَيْعَ نَظَرًا لِلْيَتِيمِ. أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ بِأَنْ يَضَعَ ثُلُثَ مَالِهِ حَيْثُ أَحَبَّ، فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ امْتَثَلَ أَمْرَ الْمُوصِي فَيَجْرِي عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَلَوْ قَالَ: أَعْطِهِ مَنْ شِئْتَ لَا يُعْطِي نَفْسَهُ ; لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا بِأَخْذِ غَيْرِهِ، وَالدَّفْعُ وَالْأَخْذُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنَ الْوَاحِدِ، بِخِلَافِ الْوَضْعِ فَإِنَّهُ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ نَفْسِهِ. وَلَوْ قَالَ: تَصَدَّقْ عَنِّي بِهَذِهِ الْعَشَرَةِ عَلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فَتَصَدَّقَ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ، أَوْ قَالَ تَصَدَّقْ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ فَتَصَدَّقَ عَلَى عَشَرَةٍ جَازَ ; لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَالْمَسَاكِينُ مَصَارِفُ الزَّكَاةِ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ أَوْصَى أَنْ يُتَصَدَّقَ عَنْهُ بِهَذِهِ الْأَلْفِ أَوْ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ بِهَذَا الْعَبْدِ أَوْ يَهْدِي عَنْهُ هَذِهِ الْبَدَنَةِ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْقِيمَةِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا دَفْعُ الْقِيَمِ كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَتَّخِذَ طَعَامًا لِلنَّاسِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَيُطْعِمَ الَّذِينَ يَحْضُرُونَ التَّعْزِيَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ: يَجُوزُ مِنَ الثُّلُثِ لِلَّذِينَ يَحْضُرُونَ التَّعْزِيَةَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ وَيَطُولُ مَقَامُهُمْ عِنْدَهُ، وَالْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ سَوَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَا يَطُولُ مَقَامُهُ، وَإِنْ فَعَلَ الْوَصِيُّ مِنَ الطَّعَامِ شَيْئًا كَثِيرًا يَضْمَنُ، وَإِنْ كَانَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 كِتَابُ الْفَرَائِضِ   [الاختيار لتعليل المختار] قَلِيلًا لَا يَضْمَنُ، وَقِيلَ: الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ. وَالْوَصِيَّةُ بِالْكَفَنِ وَالدَّفْنِ وَبِالنَّقْلِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ فِي مَالِهِ قَدِ انْقَطَعَتْ بِالْمَوْتِ. وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُطَيَّنَ قَبْرُهُ أَوْ تُجْعَلَ عَلَيْهِ قُبَّةٌ أَوْ يَدْفَعَ شَيْئًا إِلَى مَنْ يَقْرَأُ عِنْدَ قَبْرِهِ الْقُرْآنَ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ عِمَارَةَ الْقُبُورِ لِلْأَحْكَامِ مَكْرُوهٌ، وَأَخْذُ الشَّيْءِ لِلْقِرَاءَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ كَالْأُجْرَةِ، وَوَصِيَّةُ الذِّمِّيِّ لِلْبَيْعَةِ وَالْكَنِيسَةِ تَجُوزُ. اعْلَمْ أَنَّ وَصِيَّةَ الذِّمِّيِّ إِمَّا إِنْ كَانَتْ بِقُرْبَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ أَوْ عِنْدَهُمْ أَوْ عِنْدَنَا، أَوْ لَا تَكُونُ قُرْبَةً أَصْلًا. فَالْأَوَّلُ مِثْلُ الْوَصِيَّةِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي عِمَارَتِهِ وَدَهْنِ مَصَابِيحِهِ، وَالْوَصِيَّةُ لِلْغُزَاةِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَهَذِهِ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَفِي مُعْتَقَدِهِمْ. وَمِثَالُ الثَّانِي أَنْ يُوصِيَ بِدَارِهِ لِبَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ، أَوْ لِبِنَاءِ بَيْعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ، أَوْ أَوْصَى أَنْ تُذْبَحَ خَنَازِيرُهُ وَيُطْعَمَ الْمُشْرِكُونَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ، وَفِي الْجَوَازِ تَقْرِيرُهَا فَلَا تَجُوزُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» أَيْ يَعْتَقِدُونَ فَيَجُوزُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ. وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّهُ تَقْرِيرُ الْمَعْصِيَةِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ مُنِعَ لَمَا جَازَ قَبُولُ الْجِزْيَةِ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لِكُفْرِهِمْ وَبَقَائِهِمْ عَلَيْهِ. وَمِثَالُ الثَّالِثَةِ الْوَصِيَّةُ لِمَسَاجِدِنَا بِالْعِمَارَةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَهِيَ بَاطِلَةٌ نَظَرًا إِلَى اعْتِقَادِهِمْ. وَمِثَالُ الرَّابِعَةِ الْوَصِيَّةُ لِلنَّوَائِحِ وَالْمُغَنِّيَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ عِنْدِنَا وَعِنْدَهُمْ وَفِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ فَلَا وَجْهَ إِلَى الْجَوَازِ، وَلَوْ كَانَ لِقَوْمٍ مَعْلُومِينَ مُعَيَّنِينَ جَازَ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَالِاسْتِخْلَافِ، وَكَذَلِكَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ. حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ جَازَ ; لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إِنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَجَازُوا جَازَ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ حَقٌّ مُحْتَرَمٌ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِذْ هُمْ كَالْأَمْوَاتِ فِي أَحْكَامِنَا فَصَارَ كَأَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَيَصِحُّ. [كتاب الفرائض] وَهِيَ جَمْعُ فَرِيضَةٍ، فَعِيلَةٌ مِنَ الْفَرْضِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ وَالْقَطْعُ وَالْبَيَانُ. قَالَ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أَيْ قَدَّرْتُمْ، وَيُقَالُ: فَرَضَ الْقَاضِي النَّفَقَةَ: أَيْ قَدَّرَهَا، وَقَالَ - تَعَالَى -: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] أَيْ بَيَّنَّاهَا، وَيُقَالُ: فَرَضَتِ الْفَأْرَةُ الثَّوْبَ: إِذَا قَطَعَتْهُ. وَالْفَرْضُ فِي الشَّرْعِ: مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْفِقْهِ فَرَائِضَ لِأَنَّهُ سِهَامٌ مُقَدَّرَةٌ مَقْطُوعَةٌ مُبَيَّنَةٌ ثَبَتَتْ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ فَقَدِ اشْتَمَلَ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوِ الشَّرْعِيِّ. وَإِنَّمَا خُصَّ بِهَذَا الِاسْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 يُبْدَأُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ عَلَى قَدْرِهَا ثُمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ، ثُمَّ تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَ يُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ وَرَثَتِهِ،   [الاختيار لتعليل المختار] اللَّهَ - تَعَالَى - سَمَّاهُ بِهِ، فَقَالَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 11] وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا سَمَّاهُ بِهِ فَقَالَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ» ، وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَكَرَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الْعِبَادَاتِ مُجْمَلًا وَلَمْ يُبَيِّنْ مَقَادِيرَهَا، وَذَكَرَ الْفَرَائِضَ وَبَيَّنَ سِهَامَهَا وَقَدَّرَهَا تَقْدِيرًا لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، فَخَصَّ هَذَا النَّوْعَ بِهَذَا الِاسْمِ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْإِرْثُ فِي اللُّغَةِ الْبَقَاءُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّكُمْ عَلَى إِرْثٍ مِنْ إِرْثِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» أَيْ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنْ بَقَايَا شَرِيعَتِهِ، وَالْوَارِثُ الْبَاقِي وَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى -: أَيِ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ، وَسُمِّيَ الْوَارِثُ لِبَقَائِهِ بَعْدَ الْمُوَرِّثِ. وَفِي الشَّرْعِ: انْتِقَالُ مَالِ الْغَيْرِ إِلَى الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ، فَكَأَنَّ الْوَارِثَ لِبَقَائِهِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ بَقِيَّةُ مَالِ الْمَيِّتِ. وَمِنْ شَرَفِ هَذَا الْعِلْمِ أَنَّ اللَّهَ تَوَلَّى بَيَانَهُ وَقِسْمَتَهُ بِنَفْسِهِ وَأَوْضَحَهُ وُضُوحَ النَّهَارِ بِشَمْسِهِ فَقَالَ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَبَيَّنَ فِيهَا أَهَمَّ سِهَامِ الْفَرَائِضِ وَمُسْتَحِقِّيهَا، وَالْبَاقِي يُعْرَفُ بِالِاسْتِنْبَاطِ لِمَنْ تَأَمَّلَ فِيهَا، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ بِتَعْلِيمِهَا وَحَضَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ، وَإِنَّهَا أَوَّلُ عِلْمٍ يَدْرُسُ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «أَوَّلُ عِلْمٍ يُنْتَزَعُ مِنْ أُمَّتِي» ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي فَضْلِهِ كَثِيرَةٌ. قَالَ: (يُبْدَأُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ عَلَى قَدْرِهَا، ثُمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ، ثُمَّ تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ وَرَثَتِهِ) فَهَذِهِ الْحُقُوقُ الْأَرْبَعَةُ تَتَعَلَّقُ بِتَرِكَةِ الْمَيِّتِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. أَمَّا الْبِدَايَةُ بِتَجْهِيزِهِ وَدَفْنِهِ فَلِأَنَّ اللِّبَاسَ وَسَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنَ الْحَوَائِجِ اللَّازِمَةِ الضَّرُورِيَّةِ وَأَنَّهَا مُقَدَّمَةٌ عَلَى الدُّيُونِ وَالنَّفَقَاتِ وَجَمِيعِ الْوَاجِبَاتِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، فَكَذَا بَعْدَ الْمَمَاتِ وَبِالْإِجْمَاعِ إِلَّا حَقًّا تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ كَالرَّهْنِ وَالْعَبْدِ الْجَانِي، فَإِنَّ الْمُرْتَهِنَ وَوَلِيَّ الْجِنَايَةِ أَوْلَى مِنْ تَجْهِيزِهِ ; لِأَنَّهُمَا أَحَقُّ بِذَلِكَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنَ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ كَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَكَذَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَيُكَفَّنُ فِي مِثْلِ مَا كَانَ يَلْبَسُهُ مِنَ الثِّيَابِ الْحَلَالِ حَالَ حَيَاتِهِ عَلَى قَدْرِ التَّرِكَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْتِيرٍ وَلَا تَبْذِيرٍ اعْتِبَارًا لِإِحْدَى الْحَالَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، وَيُقَدَّمُ عَلَى الْوَصِيَّةِ ; لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ وَاللَّازِمُ أَوْلَى، وَعَلَى الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ غِنَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ حَالَ حَاجَتِهِ وَهِيَ مُدَّةُ حَيَاتِهِ لَا يَنْتَقِلُ إِلَيْهِمْ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» ، ثُمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ مِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11] وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَأَخُّرَ الْقِسْمَةِ عَنِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ، وَلَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، فَإِنَّ مَنْ قَالَ: أَعْطِ زَيْدًا بَعْدَ عَمْرٍو أَوْ بَكْرٍ لَا يَقْتَضِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 وَيُسْتَحَقُّ الْإِرْثُ بِرَحِمٍ وَنِكَاحِ وَوَلَاءٍ، وَالْمُسْتَحِقُّونَ لِلتَّرِكَةِ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ مُرَتَّبَةٌ: ذَوُو السِّهَامِ ثُمَّ الْعَصَبَاتُ النَّسَبِيَّةُ ثُمَّ السَبَبِيَّةُ وَهُوَ الْمُعْتِقُ، ثُمَّ عَصَبَتُهُ، ثُمَّ الرَّدُّ، ثُمَّ ذَوُو الْأَرْحَامِ، ثُمَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، ثُمَّ الْمُقَرُّ لَهُ بِنَسَبٍ لَمْ يَثْبُتْ، ثُمَّ الْمَوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، ثُمَّ بَيْتُ الْمَالِ، وَالْمَانِعُ مِنَ الْإِرْثِ: الرِّقُّ وَالْقَتْلُ وَاخْتِلَافُ الْمِلَّتَيْنِ، وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا.   [الاختيار لتعليل المختار] تَقَدُّمَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لَكِنْ يَقْتَضِي تَأَخُّرَ زِيدٍ عَنْهُمَا فِي الْإِعْطَاءِ فَكَانَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً، وَقَدْ بَلَغَنَا «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدَّمَ الدَّيْنَ عَلَى الْوَصِيَّةِ» فَكَانَ بَيَانًا لِحُكْمِ الْآيَةِ، رَوَاهُ عَنْهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَالْوَصِيَّةُ تُسْتَحَقُّ مِنْ جِهَتِهِ، وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ ; لِأَنَّ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الدَّيْنُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ» ، وَلِأَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ أَوْلَى مِنَ التَّبَرُّعَاتِ، ثُمَّ تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، فَإِنْ كَانَتِ الْوَصِيَّةُ بِعَيْنٍ تُعْتَبَرُ مِنَ الثُّلُثِ وَتُنَفَّذُ، وَإِنْ كَانَتْ بِجُزْءٍ شَائِعٍ كَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَالْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ يَزْدَادُ نَصِيبُهُ بِزِيَادَةِ التَّرِكَةِ وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا فَيُحْسَبُ الْمَالُ وَيَخْرُجُ نَصِيبُ الْوَصِيَّةِ كَمَا يَخْرُجُ نَصِيبُ الْوَارِثِ وَتُقَدَّمُ عَلَى قِسْمَةِ التَّرِكَةِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ لِمَا تَلُونَا، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي تَأَخُّرَ الْقِسْمَةِ عَنِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ عَمَلًا بِكَلِمَةِ " بَعْدِ "، ثُمَّ يُقْسَمُ الْبَاقِي بَيْنَ وَرَثَتِهِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِلْآيَاتِ الثَّلَاثِ. قَالَ: (وَيُسْتَحَقُّ الْإِرْثُ بِرَحِمٍ وَنِكَاحٍ وَوَلَاءٍ) أَمَّا الرَّحِمُ وَالنِّكَاحُ فَبِالْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَلِمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَالْمُسْتَحِقُّونَ لِلتَّرِكَةِ عَشَرَةُ أَصْنَافٍ مُرَتَّبَةٌ: ذَوُو السِّهَامِ، ثُمَّ الْعَصَبَاتُ النِّسْبِيَّةُ، ثُمَّ السَّبَبِيَّةُ وَهُوَ الْمُعْتَقُ، ثُمَّ عَصَبَتُهُ، ثُمَّ الرَّدُّ، ثُمَّ ذَوُو الْأَرْحَامِ، ثُمَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، ثُمَّ الْمُقَرُّ لَهُ بِنَسَبٍ لَمْ يَثْبُتْ) وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْإِقْرَارِ. (ثُمَّ الْمُوصَى لَهُ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ) وَقَدْ مَرَّ فِي الْوَصَايَا. (ثُمَّ بَيْتُ الْمَالِ) لِأَنَّ الْمَالَ مَتَى خَلَا عَنْ مُسْتَحِقٍّ وَمَالِكٍ فَمَصْرِفُهُ بَيْتُ الْمَالِ كَاللُّقَطَةِ وَالضَّالِّ، وَسَنَذْكُرُ لِكُلِّ صِنْفٍ فَصْلًا نُبَيِّنُ فِيهِ حُكْمَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ: (وَالْمَانِعُ مِنَ الْإِرْثِ: الرِّقُّ وَالْقَتْلُ، وَاخْتِلَافُ الْمِلَّتَيْنِ، وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حُكْمًا) عَلَى مَا يَأْتِيكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. 1 - فَصْلٌ فِي ذَوِي السِّهَامِ وَهُمْ أَصْحَابُ الْفُرُوضِ، وَهُمْ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - أَوْ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ بِالْإِجْمَاعِ، وَيُبْدَأُ بِهِمْ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلِحْقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا فَمَا أَبْقَتْ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» ، وَهُمُ اثْنَا عَشَرَ نَفَرًا: عَشَرَةٌ مِنَ النَّسَبِ، وَاثْنَانِ مِنَ السَّبَبِ. أَمَّا الْعَشَرَةُ مِنَ النَّسَبِ: فَثَلَاثَةٌ مِنَ الرِّجَالِ، وَسَبْعَةٌ مِنَ النِّسَاءِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] أَمَّا الرِّجَالُ فَالْأَوَّلُ الْأَبُ، وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالِ: الْفَرْضُ الْمَحْضُ، وَهُوَ السُّدُسُ مَعَ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] وَالتَّعْصِيبُ الْمَحْضُ، وَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ وَهُوَ آيَةُ الْعُصُوبَةِ، وَالتَّعْصِيبُ وَالْفَرْضُ، وَذَلِكَ مَعَ الْبِنْتِ وَبِنْتِ الِابْنِ فَلَهُ السُّدُسُ بِالْفَرْضِ، وَالنِّصْفُ لِلْبِنْتِ، أَوِ الثُّلُثَانِ لِلْبِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا وَالْبَاقِي لَهُ بِالتَّعْصِيبِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَمَا أَبْقَتْ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» . وَالثَّانِي الْجَدُّ، وَالْمُرَادُ الْجَدُّ الصَّحِيحُ وَهُوَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَيِّتِ أُنْثَى، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلِأَنَّ اسْمَ الْأَبِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ، قَالَ - تَعَالَى - خَبَرًا عَنْ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 38] وَإِسْحَاقُ جَدُّهُ وَإِبْرَاهِيمُ جَدُّ أَبِيهِ. وَالثَّالِثُ الْأَخُ لِأُمٍّ وَلَهُ السُّدُسُ وَلِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثُ وَإِنِ اجْتَمَعَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ اسْتَوَوْا فِي الثُّلُثِ، قَالَ - تَعَالَى -: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ لِأُمٍّ، وَقِرَاءَتُهُمَا كَرِوَايَتِهِمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُلْحِقَ بَيَانًا لَهُ، وَعَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْأُولَى الْبِنْتُ وَلَهَا النِّصْفُ إِذَا انْفَرَدَتْ، وَلِلْبِنْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] ، قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ الثِّنْتَانِ فَصَاعِدًا، وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً اثْنَتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12] أَيِ الْأَعْنَاقُ فَمَا فَوْقَهَا، وَقِيلَ: فَوْقَ زَائِدَةً فِي الْآيَتَيْنِ، وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لِلْوَاحِدَةِ النِّصْفُ، وَلِلثِّنْتَيْنِ النِّصْفُ، وَمَا زَادَ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ عَمَلًا بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ مَا ذَكَرَ، وَاحْتَمَلَ مَا ذَكَرْنَا فَوَقَعَ الشَّكُّ فَاحْتَجْنَا إِلَى مُرَجِّحٍ مِنْ خَارِجٍ وَهُوَ مَعَنَا فِي صَرِيحِ السُّنَّةِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ سَعْدَ بْنَ الرَّبِيعِ أَسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأَخًا وَامْرَأَةً، فَأَخَذَ أَخُوهُ الْمَالَ وَكَانَ إِذْ ذَاكَ يَرِثُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، فَجَاءَتْ زَوْجَتُهُ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَاتَيْنِ ابْنَتَا سَعْدٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَخَذَ عَمُّهُمَا الْمَالُ وَلَا يُنْكَحَانِ إِلَّا وَلَهُمَا مَالٌ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: (ارْجِعِي فَلَعَلَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يَقْضِيَ فِي ذَلِكَ) فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَبَعَثَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِلَى عَمِّهِمَا أَنْ أَعْطِهِمَا ثُلُثَيِ الْمَالِ وَلِأُمِّهِمَا ثُمُنَهُ وَالْبَاقِي لَكَ» فَكَانَتْ أَوَّلَ مِيرَاثٍ قُسِمَّ فِي الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ الْبِنْتَ تَسْتَحِقُّ الثُّلُثَ مَعَ الِابْنِ وَهُوَ أَقْوَى حَالًا مِنْهَا فَلِأَنْ تَسْتَحِقَّهُ مَعَ الْبِنْتِ وَهِيَ مِثْلُهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الْقُوَّةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ كَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْأُخْتَيْنِ يَسْتَحِقَّانِ الثُّلُثَيْنِ، فَلِأَنْ يَسْتَحِقَّهُمَا الْبِنْتَانِ وَهُمَا أَقْرَبُ وَأَلْزَمُ كَانَ أَوْلَى. الثَّانِيَةُ بِنْتُ الِابْنِ وَلِلْوَاحِدَةِ النِّصْفُ وَلِلثِّنْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ، فَهُنَّ كَالصُّلْبِيَّاتِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ ; لِأَنَّ اسْمَ الْوَلَدِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِنَّ حَقِيقَةً وَشَرْعًا، فَإِنَّهُ كَانَ السَّبَبُ فِي تَوْلِيدِهِنَّ إِلَّا أَنَّ أَوْلَادَ الِابْنِ يُدْلُونَ إِلَى الْمَيِّتِ بِالِابْنِ وَبِسَبَبِهِ يَرِثُونَ فَيُحْجَبُونَ بِهِ كَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ وَالْجَدَّاتِ مَعَ الْأُمِّ، وَلَا يَلْزَمُ أَوْلَادُ الْأُمِّ حَيْثُ يَرِثُونَ مَعَ الْأُمِّ وَإِنْ كَانُوا يُدْلُونَ بِهَا ; لِأَنَّ السَّبَبَ مُخْتَلِفٌ فَإِنَّ الْأُمَّ تَرِثُ بِالْأُمُومَةِ وَهُمْ بِالْأُخُوَّةِ وَلِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ التَّرِكَةِ، وَلِلْوَاحِدَةِ فَصَاعِدًا مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ مَعَ الصُّلْبِيَّةِ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَى فِي بِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَأُخْتٍ لِلْبِنْتِ النِّصْفَ وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسَ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْأُخْتِ الْبَاقِي» . وَبِنْتُ ابْنِ الِابْنِ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ كَبِنْتِ الِابْنِ مَعَ الصُّلْبِيَّةِ، وَإِذَا اسْتَكْمَلَتِ الْبَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ سَقَطَ بَنَاتُ الِابْنِ ; لِأَنَّ حَقَّ الْبَنَاتِ فِي الثُّلُثَيْنِ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَبَنَاتِ الِابْنِ يَرِثْنَ بِالْبِنْتِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِ الصُّلْبِ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَتِ الصُّلْبِيَّاتُ الثُّلُثَيْنِ لَمْ يَبْقَ لِجِهَةِ الْبِنْتِيَّةِ نَصِيبٌ فَسَقَطَ بَنَاتُ الِابْنِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي دَرَجَتِهِنَّ أَوْ أَسْفَلَ مِنْهُنَّ ذَكَرٌ فَيَعْصِبْهُنَّ فَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، مِثَالُهُ بِنْتَانِ وَبِنْتُ ابْنٍ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ الِابْنِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ أَخُوهَا أَوِ ابْنُ عَمِّهَا فَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَلِبِنْتِ الِابْنِ وَأَخِيهَا أَوِ ابْنِ عَمِّهَا الْبَاقِي لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. بِنْتَانِ وَبِنْتُ ابْنٍ وَبِنْتُ ابْنِ ابْنٍ وَابْنُ ابْنِ ابْنٍ، لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي بَيْنَ بِنْتِ الِابْنِ وَمَنْ دُونَهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَثَلَاثَ بَنَاتِ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ بَعْضُهُنَّ أَسْفَلُ مِنْ بَعْضٍ، وَصُورَتُهُ إِذَا كَانَ لِابْنِ الْمَيِّتِ ابْنٌ وَبِنْتٌ، وَلِابْنِ ابْنِهِ ابْنٌ وَبِنْتٌ، وَلِابْنِ ابْنِ ابْنِهِ ابْنٌ وَبِنْتٌ، فَمَاتَ الْبَنُونَ وَبَقِيَ الْبَنَاتُ، وَكَذَلِكَ ثَلَاثُ بَنَاتِ ابْنِ ابْنِ ابْنٍ، وَهَذِهِ صُورَتُهَا: ميت ابن ابن ابن ابن بنت ابن ابن ابن بنت ابن بنت ابن ابن بنت ابن بنت ابن بنت ابن بنت ابن بنت ابن بنت فَالْعُلْيَا مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لَا يُوَازِيهَا أَحَدٌ، وَالْوُسْطَى مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ تُوَازِيهَا الْعُلْيَا مِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَالسُّفْلَى مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ تُوَازِيهَا الْوُسْطَى مِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي، وَالْعُلْيَا مِنَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ وَالسُّفْلَى مِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي تُوَازِيهَا الْوُسْطَى مِنَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ، وَالسُّفْلَى مِنَ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ لَا يُوَازِيهَا أَحَدٌ، فَلِلْعُلْيَا مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ النِّصْفُ وَالسُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ لِلْوُسْطَى مِنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَالْعُلْيَا مِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الدَّرَجَةِ وَلَا شَيْءَ لِلْبَاقِيَاتِ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْعُلْيَا مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ غُلَامٌ فَالْمَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَسَقَطَ الْبَاقِيَاتُ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْوُسْطَى مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ غُلَامٌ فَالنِّصْفُ لِلْعُلْيَا مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْغُلَامِ وَمَنْ فِي دَرَجَتِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَالنِّصْفُ لِلْعُلْيَا مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالسُّدُسُ لِلْوُسْطَى مِنْهُ مَعَ مَنْ يُوَازِيهَا تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْغُلَامِ وَمَنْ يُوَازِيهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَسَقَطَ الْبَاقِيَاتُ وَإِنْ كَانَ مَعَ السُّفْلَى مِنَ الْفَرِيقِ الثَّانِي فَالنِّصْفُ لِلْعُلْيَا مِنَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ، وَالسُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ لِلْوُسْطَى مِنْهُ وَلِمَنْ يُوَازِيهَا، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْغُلَامِ وَمَنْ يُوَازِيهِ وَمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ مِمَّنْ لَا فَرْضَ لَهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَسَقَطَ الْبَاقِيَاتُ وَعَلَى هَذَا. وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ بِنْتَ الِابْنِ تَصِيرُ عَصَبَةً بِابْنِ الِابْنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي دَرَجَتِهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ صَاحِبَةَ فَرْضٍ ; لِأَنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي تُوَازِي الْغُلَامَ إِنَّمَا وَرِثَتْ بِسَبَبِ الْغُلَامِ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الصُّلْبِيَّاتِ الثُّلُثَيْنِ لِأَنَّهَا لَوْلَاهُ لَمَا وَرِثَتْ، فَلِأَنْ تَرِثَ بِسَبَبِ جَارِيَةٍ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الْمَيِّتِ كَانَ أَوْلَى. وَأَمَّا صَاحِبَةُ الْفَرْضِ فَقَدِ اسْتَقَلَّتْ بِالْفَرْضِ فَلَا تَصِيرُ تَابِعَةً لِمَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَهَذَا الْفَصْلُ يُسَمَّى التَّشْبِيبُ، إِمَّا لِأَنَّ التَّشْبِيبَ الْوَصْفُ وَالْبَيَانُ، وَمِنْهُ التَّشْبِيبُ فِي الشِّعْرِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ وَصْفَ النِّسَاءِ وَبَيَانَ صِفَاتِهِنَّ، أَوْ لِتَرْتِيبِ دَرَجَاتِ بَنَاتِ الِابْنِ بِنْتًا تَحْتَ بِنْتٍ كَأَنْجَاشِ الشَّبَّابَةِ، وَهَذِهِ نُبْذَةٌ مِنْهُ، وَالْبَاقِي يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ، وَالْقِيَاسِ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثَةُ الْأُمُّ، وَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: السُّدُسُ مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ وَاثْنَيْنِ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانُوا، وَالثُّلُثُ عِنْدَ عَدَمِ هَؤُلَاءِ، قَالَ - تَعَالَى -: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا يَحْجُبُهَا مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْإِخْوَةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] فَصَاعِدًا نَظَرًا إِلَى لَفْظِ الْجَمْعِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْجَمْعَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى التَّثْنِيَةِ، قَالَ - تَعَالَى -: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ مِنَ الِاجْتِمَاعِ وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِاجْتِمَاعِ الِاثْنَيْنِ. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَجَبَ بِالْإِخْوَةِ، وَالِاثْنَانِ فِي اللِّسَانِ لَيْسَا بِإِخْوَةٍ فَقَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلِي فَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَدْرَأَهُ، فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ إِجْمَاعًا. وَثُلُثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ: زَوْجٌ وَأَبَوَانِ، أَوْ زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ لَهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى السُّدُسُ وَفِي الثَّانِيَةِ الرُّبُعُ، وَتُسَمَّيَانِ الْعُمَرِيَّتَيْنِ ; لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوَّلُ مَنْ قَضَى فِيهِمَا، وَخَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِمَا جَمِيعَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ: لَهَا الثُّلُثُ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] ، وَلَنَا قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] جُعِلَ لَهَا ثُلُثُ مَا يَرِثُهُ الْأَبَوَانِ، وَإِنَّمَا يَرِثَانِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الزَّوْجَيْنِ فَيَكُونُ لَهَا ثُلُثُهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَلِأَنَّا لَوْ أَعْطَيْنَاهَا ثُلُثَ الْكُلِّ أَدَّى إِلَى تَفْضِيلِ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْقُرْبِ وَأَنَّهُ خِلَافُ الْأُصُولِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْأَبِ جَدًّا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَلَهَا الثُّلُثُ كَامِلًا، وَفِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى تَأْتِي فِي بَابِ الْجَدِّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا أَقْرَبُ مِنَ الْجَدِّ لِأَنَّهَا تُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَالْجَدُّ يُدْلِي بِوَاسِطَةِ الْأَبِ، وَالتَّفَاضُلِ يَجُوزُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْقُرْبِ كَزَوْجَةٍ وَأُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَأَخٍ لِأَبٍ، لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَلِلْأَخِ مَا بَقِيَ وَهُوَ الرُّبُعُ. وَالرَّابِعَةُ الْجَدَّةُ الصَّحِيحَةُ كَأُمِّ الْأُمِّ وَإِنْ عَلَتْ، وَأُمِّ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا وَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهَا أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَلِلْوَاحِدَةِ الصَّحِيحَةِ السُّدُسُ لِمَا «رُوِيَ: أَنَّ جَدَّةً أُمَّ أُمٍّ جَاءَتْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَطَلَبَتْ مِيرَاثَهَا فَقَالَ: لَا أَجِدُ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْئًا وَلَمْ أَسْمَعْ فِيكِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ لَكِ أَصْحَابِي أَوْ أَرَى فِيكِ رَأْيِي، فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فِي الْجَدَّةِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنِّي أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَضَى لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَطْعَمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ، فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ شَاهِدٌ آخَرُ؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِثْلِ مَا شَهِدَ بِهِ الْمُغِيرَةُ، فَقَضَى لَهَا بِالسُّدُسِ» . وَجَاءَتْ أُمُّ أَبٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى لَهَا بِالسُّدُسِ، وَلَوِ اجْتَمَعْنَ وَتَحَاذَيْنَ فَلَهُنَّ السُّدُسُ أَيْضًا، لِمَا رُوِيَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَطْعَمَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ السُّدُسَ» رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ، وَتَمَامُهُ يُذْكَرُ فِي فَصْلِ الْجَدَّاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ الْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ، لِلْوَاحِدَةِ النِّصْفُ، وَلِلثِّنْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] ، ثُمَّ قَالَ {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] . السَّادِسَةُ: الْأَخَوَاتُ لِأَبٍ، وَهُنَّ كَالْأَخَوَاتِ لِأَبَوَيْنِ عِنْدَ عَدَمِهِنَّ ; لِأَنَّ اسْمَ الْأُخْتِ فِي الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، إِلَّا أَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لِأَبَوَيْنِ يُقَدَّمُونَ لِقُوَّةِ الْقَرَابَةِ لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِجِهَتَيْنِ، وَعِنْدَ عَدَمِهِمْ جَرَيْنَا عَلَى قَضِيَّةِ النَّصِّ وَلِلْوَاحِدَةِ فَصَاعِدًا مِنَ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ السُّدُسُ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَهُنَّ مَعَ الْأَخَوَاتِ لِأَبَوَيْنِ كَبَنَاتِ الِابْنِ مَعَ الصُّلْبِيَّاتِ فَيُحْجَبُونَ بِالْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَبِالْأَخِ وَالْأُخْتِ، وَلَا يُحْجَبُونَ بِالْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا اسْتَكْمَلَ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَيْنِ سَقَطَ الْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ أَخٌ فَيَعْصِبَهُنَّ، وَالْوَجْهُ فِيهِ مَا مَرَّ فِي بَنَاتِ الِابْنِ. السَّابِعَةُ: الْأَخَوَاتُ لِأُمٍّ، فَلِلْوَاحِدَةِ السُّدُسُ، وَلِلثِّنْتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثُ، وَتَمَامُهُ مَرَّ فِي الْأَخِ لِأُمٍّ. وَأَمَّا الِاثْنَانِ مِنَ السَّبَبِ فَالزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ، وَالرُّبُعُ مَعَ الْوَلَدِ أَوْ وَلَدِ الِابْنِ، وَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ عِنْدَ عَدَمِهِمَا، وَالثُّمُنُ مَعَ أَحَدِهِمَا بِذَلِكَ نَطَقَ صَرِيحُ الْكِتَابِ، وَالزَّوْجَاتُ وَالْوَاحِدَةُ يَشْتَرِكْنَ فِي الرُّبُعِ وَالثُّمُنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَهُنَّ) وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ وَعَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. 1 - فَصْلٌ وَمَنِ اجْتَمَعَ فِيهِ قَرَابَتَانِ: لَوْ تَفَرَّقَتَا فِي شَخْصَيْنِ وَرِثَا وَرِثَ بِهِمَا وَيُجْعَلُ كَشَخْصَيْنِ إِذْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُسْتَقِلَّةٌ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ. مِثَالُهُ: مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا النِّصْفُ لَهُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالْبَاقِي بِالْعُمُومَةِ. مَاتَتْ عَنِ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخٌ لِأُمٍّ فَلِلْأَخِ السُّدُسُ بِالْأُخُوَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالْعُمُومَةِ، وَلَوْ مَاتَتْ عَنِ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا زَوْجٌ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالْعُمُومَةِ. مَاتَ عَنْ أُخْتَيْنِ إِحْدَاهُمَا مُعْتَقَةٌ، فَالثُّلُثَانِ بَيْنَهُمَا بِالْأُخُوَّةِ وَالْبَاقِي لِلْمُعْتَقَةِ وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْجَدَّاتُ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِاعْتِبَارِ الْجِهَاتِ. مِثَالُهُ: جَدَّتَانِ إِحْدَاهُمَا لَهَا قَرَابَتَانِ كَأُمِّ أُمِّ الْأُمِّ وَهِيَ أُمُّ أَبِ أَبٍ، وَالْأُخْرَى لَهَا قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ كَأُمِّ أُمِّ الْأَبِ فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَثْلَاثًا. وَصُورَتُهُ: امْرَأَةٌ تَزَوَّجَ ابْنُ ابْنِهَا بِنْتَ بِنْتِهَا فَأَوْلَدَهَا ابْنًا فَهَذِهِ أُمُّ أُمِّ أُمِّ هَذَا الِابْنِ وَهِيَ أُمُّ أَبِ أَبِيهِ، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ ابْنُ بِنْتِهَا بِنْتَ بِنْتٍ لَهَا أُخْرَى فَأَوْلَدَهَا ابْنًا كَانَتْ أُمَّ أُمِّ أُمِّهِ وَأُمَّ أُمِّ أَبِيهِ، فَإِنْ تَزَوُّجَ هَذَا الِابْنُ بِنْتَ بِنْتِ بِنْتٍ لَهَا أُخْرَى فَأَوْلَدَهَا ابْنًا صَارَتْ أُمَّ أُمِّ أُمِّ أُمِّهِ وَأُمَّ أُمِّ أُمِّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وَالسِّهَامُ الْمَفْرُوضَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -: الثُمُنُ وَالسُّدُسُ، وَتَضْعِيفُهُمَا مَرَّتَيْنِ، فَالثُّمُنُ ذَكَرَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي فَرْضِ الزَّوْجَةِ، وَالرُّبُعُ فِي فَرْضِهَا وَفَرْضِ الزَّوْجِ، وَالنِّصْفُ فِي فَرْضِ الزَّوْجِ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ، وَالسُّدُسُ فِي فَرْضِ الْأُمِّ وَالْأَبِ وَالْوَاحِدِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَالثُلُثُ فِي فَرْضِ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ، وَالثُلُثَانِ لِلْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ. فَصْلٌ [فِي الْعَصَبَاتِ] وَهُمْ نَوْعَانِ: عَصَبَةٌ بِالنَّسَبِ، وَعَصَبَةٌ بِالسَّبَبِ. أَمَّا النَّسَبِيَّةُ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ كُلُّ ذَكَرٍ لَا يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَيِّتِ أُنْثَى وَأَقْرَبُهُمْ جُزْءُ الْمَيِّتِ، وَهُمْ بَنُوهُ   [الاختيار لتعليل المختار] أَبِيهِ، فَيَكُونُ لَهَا ثَلَاثُ جِهَاتٍ، وَلَوْ تَزَوَّجَ هَذَا الِابْنُ بِنْتَ بِنْتِ بِنْتِ بِنْتٍ لَهَا أُخْرَى فَأَوْلَدَهَا ابْنًا كَانَتْ جَدَّةً لَهُ مِنْ أَرْبَعِ جِهَاتٍ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ تَكْثِيرُ الْجِهَاتِ. [فصل السهام المفروضة] فَصْلٌ (وَالسِّهَامُ الْمَفْرُوضَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -: الثُّمُنُ وَالسُّدُسُ وَتَضْعِيفُهُمَا مَرَّتَيْنِ) فَتَصِيرُ سِتَّةً لِأَنَّ تَضْعِيفَ الثُّمُنِ الرُّبُعُ، وَتَضْعِيفُ الرُّبُعِ النِّصْفُ، وَتَضْعِيفُ السُّدُسِ الثُّلُثُ، وَتَضْعِيفُ الثُّلُثِ الثُّلُثَانِ. (فَالثُّمُنُ ذَكَرَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي فَرْضِ الزَّوْجَةِ، وَالرُّبُعُ فِي فَرْضِهَا وَفَرْضِ الزَّوْجِ، وَالنِّصْفُ فِي فَرْضِ الزَّوْجِ وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ، وَالسُّدُسُ فِي فَرْضِ الْأُمِّ وَالْأَبِ وَالْوَاحِدِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ، وَالثُّلُثُ فِي فَرْضِ الْأُمِّ وَالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ، وَالثُّلُثَانِ لِلْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ) وَأَمَّا الْكُلُّ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا نَصًّا، وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وَالثَّانِي ذَكَرَهُ اقْتِضَاءً وَهُوَ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فَيَكُونُ لِلِابْنِ الْكُلُّ ضَرُورَةً وَاقْتِضَاءً، وَالثَّابِتُ اقْتِضَاءً كَالنَّصِّ، فَهَذِهِ سِهَامُ الْفَرَائِضِ لَا تَخْرُجُ عَنْهَا فَرِيضَةٌ إِلَّا عِنْدَ الْعَوْلِ وَالرَّدِّ عَلَى مَا يَأْتِيكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمُسْتَحِقِّينَ لِهَذِهِ السِّهَامِ وَحَالَاتِهِمْ. [فصل في العصبات] ِ وَهُمْ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ وَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ مِنْ سَهْمِ ذَوِي الْفُرُوضِ، وَإِذَا انْفَرَدَ أَخَذَ جَمِيعَ الْمَالِ. (وَهُمْ نَوْعَانِ: عَصَبَةٌ بِالنَّسَبِ وَعَصَبَةٌ بِالسَّبَبِ) . أَمَّا النَّسَبِيَّةُ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ كُلُّ ذَكَرٍ لَا يَدْخُلُ فِي نِسْبَتِهِ إِلَى الْمَيِّتِ أُنْثَى وَأَقْرَبُهُمْ جُزْءُ الْمَيِّتِ وَهُمْ بَنُوهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا، ثُمَّ أَصْلُهُ وَهُوَ الْأَبُ، ثُمَّ الْجَدُّ، ثُمَّ جُزْءُ أَبِيهِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ جُزْءُ جَدِّهِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ، ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَهَكَذَا، وَعَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ، وَهُمْ أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ يَصِرْنَ عَصَبَةً بِإِخْوَتِهِنَّ، فَالْبَنَاتُ بِالِابْنِ وَبَنَاتُ الِابْنِ بِابْنِ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ بِأَخِيهِنَّ، وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ بِأَخِيهِنَّ.   [الاختيار لتعليل المختار] قَالَ - تَعَالَى -: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] قَدَّمَ الِابْنَ فِي التَّعْصِيبِ عَلَى الْأَبِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. (ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا) لِدُخُولِهِمْ فِي اسْمِ الْوَلَدِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ الِابْنُ ثُمَّ ابْنُ الِابْنِ، وَالْأَبُ وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنِ ابْنِ الِابْنِ فَهُوَ صَاحِبُ فَرْضٍ مَعَ الِابْنِ وَبَنِيهِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي التَّرْجِيحِ الِاسْتِحْقَاقُ بِجِهَةِ التَّعْصِيبِ لَا بِالْفَرْضِ كَابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ يَرِثُ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ أَقْرَبَ وَأَقْوَى جِهَةً. (ثُمَّ أَصْلُهُ وَهُوَ الْأَبُ) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] يَعْنِي الْبَاقِي لِلْأَبِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالتَّعْصِيبِ مِنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ بَعْدَهُ يُدْلِي بِهِ. (ثُمَّ الْجَدُّ) وَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (ثُمَّ جُزْءُ أَبِيهِ) وَهُمُ الْإِخْوَةُ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] جَعَلَهُ أَوْلَى بِجَمِيعِ الْمَالِ فِي الْكَلَالَةِ وَهُوَ الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ. (ثُمَّ بَنُوهُمْ ثُمَّ جُزْءُ جَدِّهِ) وَهُمُ الْأَعْمَامُ. (ثُمَّ بَنُوهُمْ ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ ثُمَّ بَنُوهُمْ ثُمَّ أَعْمَامُ الْجَدِّ ثُمَّ بَنُوهُمْ وَهَكَذَا) لِأَنَّهُمْ فِي الْقُرْبِ وَالدَّرَجَةِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، فَيَكُونُونَ فِي الْمِيرَاثِ كَذَلِكَ كَمَا فِي وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ، وَإِذَا اجْتَمَعَتِ الْعَصَبَاتُ فَإِنَّهُ يُوَرَّثُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» ، وَلِأَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ الْقُرْبُ وَالْعِلِّيَّةُ فِي الْأَقْرَبِ أَكْثَرُ فَتَقَدَّمَ كَمَا فِي النِّكَاحِ. وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ لِلْأَخِ لِأَبٍ، ثُمَّ لِابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، ثُمَّ لِابْنِ الْأَخِ لِأَبٍ وَسَاقَ ذَلِكَ فِي الْعُمُومَةِ» ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِأَبَوَيْنِ أَوْلَى مِمَّنْ كَانَ لِأَبٍ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى قَرَابَةً حَيْثُ يُدْلِي بِجِهَتَيْنِ: الْأَبُ وَالْأُمُّ، وَلِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْحَدِيثِ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّ أَعْيَانَ بَنِي الْأَبِ وَالْأُمِّ يَتَوَارَثُونَ دُونَ بَنِي الْعَلَّاتِ» ، وَإِذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعَصَبَةِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ أَبْدَانِهِمْ لَا بِاعْتِبَارِ أُصُولِهِمْ. مِثَالُهُ: ابْنُ أَخٍ وَعَشَرَةُ بَنِي أَخٍ آخَرَ، أَوِ ابْنُ عَمٍّ وَعَشَرَةُ بَنِي عَمٍّ آخَرَ، الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْمٌ. (وَعَصَبَةٌ بِغَيْرِهِ وَهُمْ أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ يَصِرْنَ عَصَبَةً بِإِخْوَتِهِنَّ، فَالْبَنَاتُ بِالِابْنِ وَبَنَاتُ الِابْنِ بِابْنِ الِابْنِ) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] . (وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ بِأَخِيهِنَّ، وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ بِأَخِيهِنَّ) لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 وَعَصَبَةٌ مَعَ غَيْرِهِ، وَهُمُ الْأَخَوَاتُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ يَصِرْنَ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ. وَعَصَبَةُ وَلَدِ الزِّنَا وَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ مَوَالِي أُمِّهِمَا، وَالْمُعْتِقُ عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ ثُمَّ عَصَبَتُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَهُوَ آخِرُ الْعَصَبَاتِ. فَصْلٌ [الْحَجْبُ] سِتَّةٌ لَا يُحْجَبُونَ أَصْلًا: الْأَبُ وَالِابْنُ وَالزَّوْجُ وَالْأُمُّ وَالْبِنْتُ وَالزَّوْجَةُ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ فَالْأَقْرَبُ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ،   [الاختيار لتعليل المختار] {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . (وَعَصَبَةٌ مَعَ غَيْرِهِ وَهُمُ الْأَخَوَاتُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ يَصِرْنَ عَصَبَةً مَعَ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اجْعَلُوا الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةً» . مِثَالُهُ: بِنْتٌ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأَخٌ أَوْ إِخْوَةٌ لِأَبٍ فَالنِّصْفُ لِلْبِنْتِ وَالنِّصْفُ لِلْأُخْتِ وَلَا شَيْءَ لِلْإِخْوَةِ ; لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ عَصَبَةً صَارَتْ كَالْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. (وَعَصَبَةُ وَلَدِ الزِّنَا وَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ مَوَالِي أُمِّهِمَا) لِأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ، وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَلْحَقَ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ بِأُمِّهِ فَصَارَ كَشَخْصٍ لَا قَرَابَةَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَيَرِثُهُ قَرَابَةُ أُمِّهِ وَيَرِثُهُمْ، فَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَأُمًّا وَالْمَلَاعِنَ، فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا كَأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُمَا زَوْجٌ أَوْ زَوْجَةٌ أَخَذَ فَرْضَهُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا فَرْضًا وَرَدًّا، وَلَوْ تَرَكَ أُمَّهُ وَأَخَاهُ لِأُمِّهِ وَابْنَ الْمُلَاعِنِ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ وَلِأَخِيهِ لِأُمِّهِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا وَلَا شَيْءَ لِابْنِ الْمُلَاعِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا أَخَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَلَوْ مَاتَ وَلَدُ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَرِثَهُ قَوْمُ أَبِيهِ وَهُمُ الْإِخْوَةُ وَلَا يَرِثُونَهُ قَوْمُ جَدِّهِ وَهُمُ الْأَعْمَامُ وَأَوْلَادُهُمْ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ بَقِيَّةُ مَسَائِلِهِ، وَهَكَذَا وَلَدُ الزِّنَا إِلَّا أَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا يَرِثُ مِنْ تَوْأَمِهِ مِيرَاثَ أَخٍ لِأُمٍّ، وَوَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ يَرِثُ التَّوْأَمَ مِيرَاثَ أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ. (وَ) أَمَّا الْعَصَبَةُ بِسَبَبٍ. (الْمُعْتِقُ) وَهُوَ (عَصَبَةٌ بِنَفْسِهِ ثُمَّ عَصَبَتُهُ عَلَى) مَا ذَكَرْنَا مِنَ (التَّرْتِيبِ وَهُوَ آخِرُ الْعَصَبَاتِ) لِأَنَّ عُصُوبَتَهُمْ حَقِيقِيَّةٌ وَعُصُوبَتَهُ حُكْمِيَّةٌ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ، وَلِأَنَّهُ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِالْإِعْتَاقِ فَأَشْبَهَ الْوِلَادَةَ وَتَمَامُهُ يَأْتِي فِي فَصْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [فصل في الحجب] فَصْلٌ الْحَجْبُ وَهُوَ نَوْعَانِ: حَجْبُ نُقْصَانٍ، وَحَجْبُ حِرْمَانٍ، فَحَجْبُ النُّقْصَانِ هُوَ الْحَجْبُ مِنْ سَهْمٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَأَمَّا حَجْبُ الْحِرْمَانُ فَنَقُولُ: (سِتَّةٌ لَا يُحْجَبُونَ أَصْلًا: الْأَبُ وَالِابْنُ وَالزَّوْجُ وَالْأُمُّ وَالْبِنْتُ وَالزَّوْجَةُ) لِأَنَّ فَرْضَهُمْ ثَابِتٌ بِكُلِّ حَالٍ لِثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ وَهُوَ مَا تَلَوْنَا مِنْ صَرِيحِ الْكِتَابِ. (وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ فَالْأَقْرَبُ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ) كَالِابْنِ يَحْجُبُ أَوْلَادَ الِابْنِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 وَمَنْ يُدْلِي بِشَخْصٍ لَا يَرِثُ مَعَهُ إِلَّا أَوْلَادَ الْأُمِّ، وَالْمَحْرُومُ لَا يَحْجُبُ كَالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ وَالرَّقِيقِ، وَالْمَحْجُوبُ يَحْجُبُ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَحْجُبُهُمُ الْأَبُ، وَيَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ، وَيَسْقُطُ بَنُو الْأَعْيَانِ بِالِابْنِ وَابْنِهِ وَبِالْأَبِ، وَفِي الْجَدِّ خِلَافٌ، وَيَسْقُطُ بَنُو الْعَلَّاتِ بِهِمْ وَبِهَؤُلَاءِ، وَيَسْقُطُ بَنُو الْأَخْيَافِ بِالْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ،   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْأَخِ لِأَبَوَيْنِ يَحْجُبُ الْإِخْوَةَ لِأَبٍ. (وَمَنْ يُدْلِي بِشَخْصٍ لَا يَرِثُ مَعَهُ إِلَّا أَوْلَادَ الْأُمِّ) وَقَدْ تَقَدَّمَ وَجْهُهُ. أَمْثِلَةُ ذَلِكَ: زَوْجٌ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ تَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ أَخٌ عَصَبَهَا فَلَا تَرِثُ شَيْئًا فَهَذَا الْأَخُ الْمَشْئُومُ. زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَبِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ سِتَّةٌ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ سَهْمَانِ، وَلَوْ كَانَ مَعَ بِنْتِ الِابْنِ ابْنٌ عَصَبَهَا فَسَقَطَتْ وَتَعُولُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَهَذَا أَيْضًا أَخٌ مَشْئُومٌ. أُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ فَالْمَالُ لِلْأُخْتَيْنِ فَرْضًا وَرَدًّا، وَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا أَخُوهَا عَصَبَهَا فَلَهُمَا الْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَهَذَا الْأَخُ الْمُبَارَكُ. (وَالْمَحْرُومُ لَا يَحْجُبُ كَالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ وَالرَّقِيقِ) لَا نُقْصَانًا وَلَا حِرْمَانًا ; لِأَنَّهُمْ لَا يَرِثُونَ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْعِلَّةُ تَنْعَدِمُ لِفَقْدِ الْأَهْلِيَّةِ وَتَفُوتُ بِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهَا كَبَيْعِ الْمَجْنُونِ، وَإِذَا انْعَدَمَتِ الْعِلِّيَّةُ فِي حَقِّهِمُ الْتَحَقُوا بِالْعَدَمِ فِي بَابِ الْإِرْثِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ يَحْجُبُ حَجْبَ نُقْصَانٍ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْعَوْلِ. (وَالْمَحْجُوبُ يَحْجُبُ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ يَحْجُبُهُمُ الْأَبُ، وَيَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنَ الثُّلُثِ إِلَى السُّدُسِ) لِأَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ مَوْجُودَةٌ فِي حَقِّهِمْ، لَكِنِ امْتَنَعَ بِالْحَاجِبِ وَهُوَ الْأَبُ فَجَازَ أَنْ يَظْهَرَ حَجْبُهَا فِي حَقِّ مَنْ يَرِثُ مَعَهَا. (وَيَسْقُطُ بَنُو الْأَعْيَانِ) وَهُمُ الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ. (بِالِابْنِ وَابْنِهِ وَبِالْأَبِ، وَفِي الْجَدِّ خِلَافٌ) لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ. (وَيَسْقُطُ بَنُو الْعَلَّاتِ) وَهُمُ الْإِخْوَةُ لِأَبٍ. (بِهِمْ وَبِهَؤُلَاءِ) لِمَا بَيَّنَّا وَبِالْحَدِيثِ. (وَيَسْقُطُ بَنُو الْأَخْيَافِ) وَهُمُ الْإِخْوَةُ لِأُمٍّ. (بِالْوَلَدِ وَوَلَدِ الِابْنِ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ) بِالِاتِّفَاقِ ; لِأَنَّ شَرْطَ تَوْرِيثِهِمْ كَوْنُ الْمَيِّتِ يُورَثُ كَلَالَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً} [النساء: 12] الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ أَوْلَادُ الْأُمِّ لِمَا تَقَدَّمَ، وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، فَلَا يَرِثُ إِلَّا عِنْدَ عَدَمِ هَؤُلَاءِ. (وَتَسْقُطُ جَمِيعُ الْجَدَّاتِ) الَأَبَوِيَّاتِ وَالْأُمِّيَّاتِ. (بِالْأُمِّ) لِمَا رُوِيَ: أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إِنَّمَا أَعْطَى الْجَدَّةَ السُّدُسَ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ أُمُّ، وَلِأَنَّ الْأُمِّيَّةَ تُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِالْأُمِّ وَتَرِثُ بِوَاسِطَتِهَا فَلَا تَرِثُ مَعَهَا لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَقْرَبَ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ فَحَجَبَهَا نَصًّا وَقِيَاسًا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 وَتَسْقُطُ جَمِيعُ الْجَدَّاتِ بِالْأُمِّ، وَتَسْقُطُ الْأَبَوِيَّاتُ بِالْأَبِ، وَالْقُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى وَارِثَةً كَانَتْ أَوْ مَحْجُوبَةً. فَصْلٌ الْعَوْلُ: هُوَ زِيَادَةُ السِّهَامِ عَلَى الْفَرِيضَةِ فَتَعُولُ الْمَسْأَلَةُ إِلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَيَدْخُلُ النُّقْصَانُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ الْمَسَائِلِ سَبْعَةٌ: اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَسِتَّةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَاثْنَا عَشَرَ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ. فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا لَا تَعُولُ: الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ وَالثَّمَانِيَةُ. وَثَلَاثَةٌ تَعُولُ: السِّتَّةُ   [الاختيار لتعليل المختار] أَمَّا الْأَبَوِيَّةُ فَحَجَبَهَا نَصًّا لَا قِيَاسًا لِأَنَّهَا تُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِالْأَبِ وَتَرِثُ فَرْضَهُ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَحْجُبَهَا الْأُمُّ. (وَتَسْقُطُ الْأَبَوِيَّاتُ بِالْأَبِ) كَالْجَدِّ مَعَ الْأَبِ، وَكَذَلِكَ يَسْقُطْنَ بِالْجَدِّ إِذَا كُنَّ مِنْ قِبَلِهِ، وَلَا تَسْقُطُ أُمُّ الْأَبِ بِالْجَدِّ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ قِبَلِهِ، فَلَوْ تَرَكَ أَبًا وَأُمَّ أَبٍ وَأُمَّ أُمٍّ ; فَأُمُّ الْأَبِ مَحْجُوبَةٌ بِالْأَبِ. وَاخْتَلَفُوا مَاذَا لِأُمِّ الْأَبِ، قِيلَ: لَهَا السُّدُسُ لِأَنَّ أُمَّ الْأَبِ لَمَّا انْحَجَبَتْ لَا تَحْجُبُ غَيْرَهَا، وَقِيلَ: لَهَا نِصْفُ السُّدُسِ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ فَتُحْجَبُ وَإِنْ حَجَبَتْ كَالْإِخْوَةِ مَعَ الْأُمِّ. (وَالْقُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى وَارِثَةً كَانَتْ أَوْ مَحْجُوبَةً) أَمَّا إِذَا كَانَتْ وَارِثَةٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا تَأْخُذُ الْفَرِيضَةَ فَلَا يَبْقَى لِلْبُعْدَى شَيْءٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَحْجُوبَةً، وَصُورَتُهَا تَرَكَ أَبًا وَأُمَّ أَبٍ وَأُمَّ أُمِّ أُمٍّ، قِيلَ: الْكُلُّ لِلْأَبِ؛ لِأَنَّهُ حَجَبَ أُمَّهُ وَهِيَ حَجَبَتْ أُمَّ أُمِّ الْأُمِّ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ مِنْهَا، وَقِيلَ: لَهَا السُّدُسُ لِأَنَّ أُمَّ الْأَبِ مَحْجُوبَةٌ فَلَا تَحْجُبُهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْوَجْهُ فِيهِمَا. [فصل الْعَوْلُ وَأُصُولُ الْمَسَائِلِ] فَصْلٌ (الْعَوْلُ: هُوَ زِيَادَةُ السِّهَامِ عَلَى الْفَرِيضَةِ، فَتَعُولُ الْمَسْأَلَةُ إِلَى سِهَامِ الْفَرِيضَةِ وَيَدْخُلُ النُّقْصَانُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ) لِعَدَمِ تَرْجِيحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ كَالدُّيُونِ وَالْوَصَايَا إِذَا ضَاقَتِ التَّرِكَةُ عَنْ إِيفَاءِ الْكُلِّ يُقْسَمُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ، وَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى الْكُلِّ كَذَا هَذَا، وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا جَمَعَ هَذِهِ السِّهَامَ فِي مَالٍ لَا يَتَّسِعُ لِلْكُلِّ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ إِلْحَاقُ النَّقْصِ بِالْكُلِّ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ الْجَمْعِ فَكَانَ ثَابِتًا مُقْتَضَى جَمْعِ هَذِهِ السِّهَامِ، وَالثَّابِتُ بِمُقْتَضَى النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ، وَعَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَاعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ الْمَسَائِلِ سَبْعَةٌ: اثْنَانِ وَثَلَاثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَسِتَّةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَاثْنَا عَشَرَ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا لَا تَعُولُ: الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ وَالثَّمَانِيَةُ، وَثَلَاثَةُ تَعُولُ: السِّتَّةُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 وَالِاثْنَا عَشَرَ وَالْأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ، فَالسِّتَّةُ تَعُولُ إِلَى عَشَرَةٍ وِتْرًا وَشَفْعًا، وَاثْنَا عَشَرَ تَعُولُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ وَسَبْعَةَ عَشَرَ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ تَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ لَا غَيْرَ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَالِاثْنَا عَشَرَ وَالْأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ، فَالسِّتَّةُ تَعُولُ إِلَى عَشَرَةٍ وِتْرًا وَشَفْعًا، وَاثْنَا عَشَرَ تَعُولُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ وَسَبْعَةَ عَشَرَ، وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ تَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ لَا غَيْرَ) . أَمْثِلَةُ الَّتِي لَا تَعُولُ: زَوْجٌ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ. وَكَذَلِكَ زَوْجٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ، وَتُسَمَّى الْيَتِيمَتَيْنِ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ الْمَالُ بِفَرِيضَتَيْنِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ. بِنْتٌ وَعَصَبَةٌ: نِصْفٌ وَمَا بَقِيَ، أَصْلُهَا مِنْ ثِنْتَيْنِ. أَخَوَانِ لِأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبَوَيْنِ: ثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ. أُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ: ثُلُثَانِ وَمَا بَقِيَ أَصْلُهَا مِنْ ثَلَاثَةٍ. أُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ: ثُلُثَانِ وَثُلُثٌ. زَوْجٌ وَبِنْتٌ وَعَصَبَةٍ: رُبْعٌ وَنِصْفٌ وَمَا بَقِيَ أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ. زَوْجَةٌ وَبِنْتٌ وَعَصَبَةٌ: ثُمُنٌ وَنِصْفٌ، وَمَا بَقِيَ أَصْلُهَا مِنْ ثَمَانِيَةٍ. زَوْجَةٌ وَابْنٌ: ثُمُنٌ وَمَا بَقِيَ مِنْ ثَمَانِيَةٍ. أَمْثِلَةُ الْعَائِلَةِ: جَدَّةٌ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَصِحُّ مِنْهَا جَدَّةٌ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ سُدُسٌ وَثُلُثٌ وَنِصْفٌ وَسُدُسٌ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ. زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ نِصْفٌ وَسُدُسٌ وَثُلُثٌ مِنْ سِتَّةٍ، وَتُسَمَّى مَسْأَلَةَ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهَا إِلْزَامٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ ; لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ كَمَا قُلْنَا فَقَدْ حَجَبَ الْأُمَّ بِأَخَوَيْنِ وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِهِ، وَإِنْ جَعَلَ لِلْأُمِّ الثُّلُثَ وَلِلْأَخَوَيْنِ السُّدُسَ فَقَدْ أَدْخَلَ النَّقْصَ عَلَى أَوْلَادِ الْأُمِّ وَلَيْسَ مَذْهَبُهُ، وَهُوَ خِلَافُ صَرِيحِ الْكِتَابِ، وَإِنْ جَعَلَ لَهُمَا الثُّلُثُ فَقَدْ قَالَ بِالْعَوْلِ. زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَنِصْفٌ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، وَهِيَ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ عَالَتْ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَعَتْ فِي صَدْرِ خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ فِيهِ، فَأَشَارَ الْعَبَّاسُ أَنْ يَقْسِمَ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ سِهَامِهِمْ فَصَارُوا إِلَى ذَلِكَ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أَجِدُ لَكُمْ فَرْضًا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا أَدْرِي مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فَأُقَدِّمَهُ، وَلَا مَنْ أَخَّرَهُ فَأُؤَخِّرَهُ، وَلَكِنِّي رَأَيْتُ رَأْيًا فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي، أَرَى أَنْ أُدْخِلَ النَّقْصَ عَلَى الْكُلِّ فَقَسَّمَ بِالْعَوْلِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ إِلَى أَنِ انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْخِلَافَ وَقَالَ: لَوْ قَدَّمُوا مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَأَخَّرُوا مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ مَا عَالَتْ فَرِيضَةٌ قَطُّ، فَقِيلَ لَهُ: مَنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ وَمَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ؟ قَالَ: الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ مِمَّنْ قَدَّمَهُ اللَّهُ، وَأَمَّا مَنْ أَخَّرَهُ اللَّهُ فَالْبَنَاتُ وَبَنَاتُ الِابْنِ وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأُمِّ، وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ، فَتَارَةً يَفْرِضُ لَهُنَّ وَتَارَةً يَكُنَّ عَصَبَةً وَيَدْخُلُ النَّقْصُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِي رِوَايَةٍ: إِنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ لَمْ يَجْعَلْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] فِي الْمَالِ نِصْفًا وَنِصْفًا وَثُلُثًا، فَقِيلَ لَهُ: هَلَّا ذَكَرْتَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ؟ قَالَ: كَانَ مَهِيبًا فَهِبْتُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَنَعَتْنِي دِرَّتُهُ إِذْ لَمْ يَكُنْ لِي دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِأَنَّهُ اجْتِهَادٌ فَلَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَصِيرَ مَحْجُوجًا، وَلَوْ كَانَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ لَمَا سَكَتَ وَلَمَا خَالَفَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَتُسَمَّى مَسْأَلَةَ الْمُبَاهَلَةِ. زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى ثَمَانِيَةٍ، زَوْجٌ وَأُمٌّ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ، لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ سَهْمٌ، وَلِلْأُخْتِ لِأُمٍّ سَهْمٌ، وَلِلْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ سَهْمُ السُّدُسِ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ. زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَسُدُسٌ وَثُلُثَانِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى عَشَرَةٍ، وَتُسَمَّى أُمَّ الْفُرُوخِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ الْمَسَائِلِ عَوْلًا فَشُبِّهَتِ الْأَرْبَعَةُ الزَّوَائِدُ بِالْفُرُوخِ، وَتُسَمَّى أَيْضًا الشُّرَيْحِيَّةَ ; لِأَنَّ شُرَيْحًا أَوَّلُ مَنْ قَضَى فِيهَا. زَوْجَةٌ وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ وَأَخٌ لِأَبٍ، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَصِحُّ مِنْهَا. زَوْجَةٌ وَجَدَّةٌ وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ رُبُعٌ وَسُدُسٌ وَثُلُثَانِ، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ. امْرَأَةٌ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ رُبُعٌ وَثُلُثُ وَثُلُثَانِ، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ. امْرَأَةٌ وَأُمٌّ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ رُبُعٌ وَسُدُسٌ وَثُلُثٌ وَثُلُثَانِ، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ. ثَلَاثُ نِسْوَةٍ وَجَدَّتَانِ وَأَرْبَعُ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ وَثَمَانِي أَخَوَاتٍ لِأَبَوَيْنِ، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ، وَتُسَمَّى أُمَّ الْأَرَامِلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا ذَكَرٌ وَهِيَ مِنَ الْمُعَايَاةِ. يُقَالُ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ سَبْعَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَسَبْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً أَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ دِينَارًا. امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ وَابْنٌ، أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَتَصِحُّ مِنْهَا. امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ وَبِنْتَانِ ثُمُنٌ وَسُدُسَانِ وَثُلُثَانِ، أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَتُسَمَّى الْمِنْبَرِيَّةَ لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سُئِلَ عَنْهَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ عَلَى الْفَوْرِ: صَارَ ثُمُنُهَا تُسْعًا، وَمَرَّ عَلَى خُطْبَتِهِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأَبَوَيْنِ جَدٌّ وَجَدَّةٌ أَوْ أَبٌ وَجَدَّةٌ فَكَذَلِكَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْبِنْتَيْنِ بِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ. زَوْجَةٌ وَأُمٌّ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ وَابْنٌ كَافِرٌ أَوْ قَاتِلٌ أَوْ رَقِيقٌ، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ كَمَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّ الْمَحْرُومَ وَهُوَ الِابْنُ لَا يَحْجُبُ. وَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ يَحْجُبُ الِابْنُ الزَّوْجَةَ مِنَ الرُّبُعِ إِلَى الثُّمُنِ، أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَتَعُولُ إِلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ، وَلِأَوْلَادِ الْأُمِّ الثُّلُثُ ثَمَانِيَةٌ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ وَتُسَمَّى ثَلَاثِينِيَّةَ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ السِّتَّةَ مَتَى عَالَتْ إِلَى عَشَرَةٍ أَوْ تِسْعَةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ فَالْمَيِّتُ امْرَأَةٌ قَطْعًا، وَإِنْ عَالَتْ إِلَى سَبْعَةٍ احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ، وَمَتَى عَالَتِ الِاثْنَيْ عَشَرَ إِلَى سَبْعَةَ عَشَرَ فَالْمَيِّتُ ذَكَرٌ، وَإِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ، وَالْأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ إِذَا عَالَتْ إِلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ أَوْ إِلَى أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَالْمَيِّتُ ذَكَرٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 وَالرَّدُّ ضِدُّ الْعَوْلِ، بِأَنْ تَزِيدَ الْفَرِيضَةُ عَلَى السِّهَامِ وَلَا عَصَبَةَ هُنَاكَ تَسْتَحِقُّهُ فَيُرَدُّ عَلَى ذَوِي السِّهَامِ بِقَدْرِ سِهَامِهِمْ إِلَّا عَلَى الزَّوْجَيْنِ وَيَقَعُ الرَّدُّ عَلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى جِنْسَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَةٍ، ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ لَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ فِيهَا مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِمَّا إِنْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا فَاجْعَلِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جِنْسَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَمِنْ سِهَامِهِمْ وَأَسْقِطِ الزَّائِدَ.   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل في الرد على الوارثين] فَصْلٌ (وَالرَّدُّ ضِدَّ الْعَوْلِ بِأَنْ تَزِيدَ الْفَرِيضَةُ عَلَى السِّهَامِ وَلَا عَصَبَةَ هُنَاكَ تَسْتَحِقُّهُ فَيُرَدُّ عَلَى ذَوِيِ السِّهَامِ بِقَدْرِ سِهَامِهِمْ إِلَّا عَلَى الزَّوْجَيْنِ) وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ يُرَدُّ عَنِ الزَّوْجَيْنِ، قَالُوا: وَهَذَا وَهْمٌ مِنَ الرَّاوِي، فَإِنَّهُ إِنَّمَا صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ رَدَّ عَلَى الزَّوْجِ لَا غَيْرَ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عَمٍّ فَأَعْطَاهُ الْبَاقِي بِالْعُصُوبَةِ. أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ الرَّدُّ عَلَيْهَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يُوضَعُ الْفَاضِلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. لَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ تَرَكَ مَالًا أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ» الْحَدِيثَ، وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ قَدِ اسْتَغْنَى عَنِ الْمَالِ، فَلَوْ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى أَحَدٍ يَبْقَى سَائِبَةً، وَالْقَرِيبُ أَوَّلُ النَّاسِ بِهِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِالْقَرَابَةِ صِلَةً، إِلَّا أَنَّهَا تَقَاعَدَتْ عَنِ اسْتِحْقَاقِ الْكُلِّ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لِلْمُزَاحَمَةِ بِالْإِجْمَاعِ فَبَقِيَتْ مُفِيدَةً لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ صَاحِبُ السَّهْمِ بِقَدْرِ سَهْمِهِ حَالَةَ الْمُزَاحَمَةِ، وَالْفَاضِلُ عَنْ سَهْمِهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ، أَمَّا الزَّوْجَانِ فَقَرَابَتُهُمَا قَاصِرَةٌ فَلَا يَسْتَحِقَّانِ إِلَّا سَهْمَهُمَا إِظْهَارًا لِقُصُورِ مَرْتَبَتِهِمَا، وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَزُولُ بِالْمَوْتِ فَيَنْتَفِي السَّبَبُ، وَقَضِيَّتُهُ عَدَمُ الْإِرْثِ أَصْلًا إِلَّا أَنَّا أَعْطَيْنَاهُمَا فَرْضَهُمَا بِصَرِيحِ الْكِتَابِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ سَبْعَةٌ: الْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَالْأَخَوَاتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَخَوَاتُ لِأَبٍ وَأَوْلَادُ الْأُمِّ. (وَيَقَعُ الرَّدُّ عَلَى جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى جِنْسَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَةٍ وَلَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَالسِّهَامُ الْمَرْدُودُ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ: الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَرْبَعَةُ وَالْخَمْسَةُ. (ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ لَا يَخْلُو إِمَّا إِنْ كَانَ فِيهَا مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِمَّا إِنْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا فَاجْعَلِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جِنْسَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَمِنْ سِهَامِهِمْ وَأَسْقِطِ الزَّائِدَ) . أَمْثِلَةُ ذَلِكَ: جَدَّةٌ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ، لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ سِهَامِهِمَا، فَاجْعَلِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ عَدَدِهِمْ وَهُوَ اثْنَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْفَرْضِ، أَصْلُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ عَادَتْ بِالرَّدِّ إِلَى اثْنَيْنِ، جَدَّةٌ وَأُخْتَانِ لِأُمٍّ، لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثُ، فَاجْعَلِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ ثَلَاثٍ وَهُوَ عَدَدُ رُءُوسِهِمْ: بِنْتٌ وَأُمٌّ، لِلْبِنْتِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ سَهْمٌ، اجْعَلْهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ عَدَدَ سِهَامِهِمْ. أَرْبَعُ بَنَاتٍ وَأُمٌّ، لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، اجْعَلِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ خَمْسَةٍ عَدَدُ سِهَامِهِمْ. وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ، فَإِنْ كَانَ جِنْسًا وَاحِدًا فَأَعْطِ فَرْضَ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ مِنْ أَقَلِّ مَخَارِجِهِ، ثُمَّ اقْسِمِ الْبَاقِيَ عَنْ عَدَدِ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ إِنِ اسْتَقَامَ، كَزَوْجٍ وَثَلَاثِ بَنَاتٍ، أَعْطِ الزَّوْجَ فَرَضَهُ الرُّبُعَ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالْبَاقِي لِلْبَنَاتِ وَهُنَّ ثَلَاثَةٌ يَصِحُّ عَلَيْهِنَّ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ رُءُوسِهِمْ وَمَا بَقِيَ مِنْ فَرْضِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ مُوَافَقَةٌ، فَاضْرِبْ وَفْقَ رُؤُوسِهِمْ فِي مَخْرَجِ فَرْضِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ كَزَوْجٍ وَسِتِّ بَنَاتٍ، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عَلَى الْبَنَاتِ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْبَاقِي مُوَافِقَةٌ بِالثُّلُثِ، فَاضْرِبْ وَفْقَ رُؤُوسِهِمْ وَهُوَ اثْنَانِ فِي مَخْرَجِ فَرْضِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ تَكُونُ ثَمَانِيَةً، لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ سَهْمَانِ يَبْقَى سِتَّةٌ تَصِحُّ عَلَى الْبَنَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ كَزَوْجٍ وَخَمْسِ بَنَاتٍ، فَاضْرِبْ كُلَّ رُؤُوسِهِمْ وَهِيَ خَمْسَةٌ فِي مَخْرَجِ فَرْضِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ يَكُنْ عِشْرِينَ مِنْهَا تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ مَعَ جِنْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مِمَّنْ يُرَدُّ عَلَيْهِمْ، فَأَعْطِ فَرْضَ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ ثُمَّ اقْسِمِ الْبَاقِيَ عَلَى مَسْأَلَةِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ إِنِ اسْتَقَامَ، وَإِلَّا فَاضْرِبْ جَمِيعَ مَسْأَلَةِ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ فِي مَخْرَجِ فَرْضِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ فَمَا بَلَغَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ، ثُمَّ اضْرِبْ سِهَامَ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَسِهَامَ مَنْ يُرَدُّ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَخْرَجِ فَرْضِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ: زَوْجَةٌ وَأَرْبَعُ جَدَّاتٍ وَسِتُّ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ، لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ سَهْمٍ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ وَسِهَامُ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى سِهَامِهِمْ. وَمِثَالُ الثَّانِي: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَتِسْعُ بَنَاتٍ وَسِتُّ جَدَّاتٍ، لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ سَهْمٍ، تَبْقَى سَبْعَةٌ وَسِهَامُ الرَّدِّ خَمْسَةٌ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهَا وَلَا مُوَافَقَةَ، فَاضْرِبْ سِهَامَ الرَّدِّ وَهِيَ خَمْسَةٌ فِي مَخْرَجِ فَرْضِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ تَكُنْ أَرْبَعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ، ثُمَّ اضْرِبْ سِهَامَ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةِ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ خَمْسَةٌ يَكُنْ خَمْسَةً، وَسِهَامُ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهِيَ خَمْسَةٌ فِيمَا بَقِيَ مِنْ مَخْرَجِ فَرْضِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ سَبْعَةٌ يَكُنْ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ، لِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ، وَلِلْجَدَّاتِ الْخُمُسُ سَبْعَةٌ. مِثَالٌ آخَرُ: زَوْجَةٌ وَبِنْتٌ وَبِنْتُ ابْنٍ وَجَدَّةٌ، لِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ، يَبْقَى سَبْعَةٌ وَسِهَامُ الرَّدِّ خَمْسَةٌ لَا يَسْتَقِيمُ وَلَا مُوَافَقَةَ، فَاضْرِبْ سِهَامَ مَنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهِيَ خَمْسَةٌ فِي مَخْرَجِ مَسْأَلَةِ مَنْ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ يَكُنْ أَرْبَعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ، وَإِذَا أَرَدْتَ التَّصْحِيحَ عَلَى الرُّؤُوسِ فَاعْمَلْ بِالطَّرِيقِ الْمَذْكُورِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. 1 - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] فَصْلٌ: فِي مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ الْإِخْوَةَ قَالَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعَائِشَةُ: الْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ يَرِثُ مَعَهُ مَنْ يَرِثُ مَعَ الْأَبِ وَيَسْقُطُ بِهِ مَنْ يَسْقُطُ بِالْأَبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَجُعِلَ الْجَدُّ أَبَ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ إِلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ: زَوْجٌ وَأَبَوَانِ، أَوْ زَوْجَةٌ وَأَبَوَانِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ فِيهِمَا أَيْضًا. وَعَنِ الصِّدِّيقِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: الْجَدُّ لَا يُسْقِطُ بَنِي الْأَعْيَانِ وَالْعَلَّاتِ وَيَرِثُونَ مَعَهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَوْرِيثِهِمْ مَعَهُ، وَكِتَابُنَا هَذَا يَضِيقُ عَنِ اسْتِيعَابِ أَقْوَالِهِمْ وَمَا يَتَفَرَّعُ مِنْهَا، لَكِنْ نَذْكُرُ مَذْهَبَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لِحَاجَتِنَا إِلَى مَعْرِفَةِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُمَا أَخَذَا بِقَوْلِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ قَوْلَ زِيدٍ قَالَ: أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدٌ؟ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا؟ وَالْمُخْتَارُ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنِ التَّرَدُّدِ وَالتَّوَقُّفِ وَلَمْ تَتَعَارَضْ عَنْهُ الرِّوَايَاتُ وَتَعَارَضَتْ عَنْ غَيْرِهِ. قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ. وَرَوَى عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَضَى فِي الْجَدِّ بِمِائَةِ قَضِيَّةٍ يُخَالِفُ بَعْضُهَا بَعْضًا. «وَعَنْهُ أَنَّهُ جَمَعَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي بَيْتٍ وَقَالَ لَهُمْ: لَا بُدَّ أَنْ تَتَّفِقُوا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي الْجَدِّ، فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى لِلْجَدِّ بِالسُّدُسِ، فَقَالَ: مَعَ مَنْ؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي، فَقَالَ: لَا دَرَيْتَ، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ كَذَلِكَ، وَرَدَّ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، فَسَقَطَتْ حَيَّةٌ مِنَ السَّقْفِ فَتَفَرَّقُوا قَبْلَ أَنْ يُجْمِعُوا عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَبَى اللَّهُ - تَعَالَى - أَنْ يَرْتَفِعَ هَذَا الْخِلَافُ» . وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: أَلْقُوا عَلَيْنَا مَسَائِلَ الْفَرَائِضِ وَاتْرُكُوا الْجَدَّ، لَا حَيَّاهُ اللَّهُ وَلَا بَيَّاهُ. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مِثْلُهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَدَّ الصَّحِيحَ الْوَارِثَ لَا يَكُونُ إِلَّا وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَالْأَقْرَبُ يُسْقِطُ الْأَبْعَدَ. قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِذَا اجْتَمَعَ الْجَدُّ وَالْإِخْوَةُ كَانَ الْجَدُّ كَأَحَدِهِمْ يُقَاسِمُهُمْ مَا لَمْ تُنْقِصْهُ الْمُقَاسَمَةُ مِنَ الثُّلُثِ، فَإِنْ نَقَصَتْهُ فُرِضَ لَهُ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. مِثَالُهُ: جَدٌّ وَأَخٌ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ خَيْرٌ لَهُ. جَدٌّ وَأَخَوَانِ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ وَالثُّلُثَ سَوَاءٌ. جَدٌّ وَثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ يُفْرَضُ لَهُ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ؛ لِأَنَّ الْمُقَاسَمَةَ تُنْقِصُهُ مِنَ الثُّلُثِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ صَاحِبُ فَرْضٍ يُعْطَى فَرْضَهُ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْبَاقِي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] لِلْجَدِّ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الْمُقَاسَمَةُ أَوْ ثُلُثُ مَا بَقِيَ أَوْ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ فَيُعْطَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْهَا وَالْبَاقِي بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَجَدٌّ وَأَخٌ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأَخِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ خَيْرٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ مَعَ الزَّوْجَةِ. جَدَّةٌ وَجَدٌّ وَأَخَوَانِ وَأُخْتٌ، لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ. جَدَّةٌ وَبِنْتٌ وَجَدٌّ وَأَخَوَانِ، لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ لِأَنَّهُ خَيْرٌ لَهُ. زَوْجٌ وَأَمٌّ وَجَدٌّ وَأَخٌ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ لِلْجَدِّ وَيَسْقُطُ الْأَخُ، وَبَنُو الْعَلَّاتِ مَعَ الْجَدِّ كَبَنِي الْأَعْيَانِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا مَعَ الْجَدِّ، قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُعَدُّونَ مَعَهُمْ عَلَى الْجَدِّ لِيَظْهَرَ نَصِيبُهُ وَتُسَمَّى فَصْلَ الْمُعَادَّةِ، فَإِذَا أَخَذَ الْجَدُّ نَصِيبَهُ يَرُدُّ بَنُو الْعَلَّاتِ مَا وَقَعَ لَهُمْ إِلَى بَنِي الْأَعْيَانِ وَيَخْرُجُونَ بِغَيْرِ شَيْءٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مِنْ بَنِي الْأَعْيَانِ أُخْتٌ وَاحِدَةٌ فَتَأْخُذُ النِّصْفَ بَعْدَ نَصِيبِ الْجَدِّ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ أَخَذَهُ بَنُو الْعَلَّاتِ. مِثَالُهُ: جَدٌّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ، الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، ثُمَّ يَرُدُّ الْأَخُ لِأَبٍ عَلَى الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ نَصِيبَهُ فَيَبْقَى لِلْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ زَوْجَةٌ فَلَهَا الرُّبُعُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا، وَيَرُدُّ الْأَخُ لِأَبٍ مَا وَقَعَ لَهُ إِلَى الْأَخِ لِأَبَوَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الزَّوْجَةِ زَوْجٌ فَلَهُ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ. جَدٌّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ، لِلْجَدِّ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتَيْنِ النِّصْفُ وَتَأْخُذُهُ الْأُخْتُ لِأَبَوَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ أُخْتَيْنِ لِأَبٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلِلْجَدِّ الْخُمُسَانِ، وَلِلْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ الْخُمُسُ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ الْخُمُسَانِ ثُمَّ يُرَدَّانِ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ تَتِمَّةُ النِّصْفِ خُمُسٌ وَنِصْفٌ وَيَبْقَى لَهُمَا نِصْفُ خُمُسٍ. أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ خَمْسَةٍ تُضْرَبُ فِي اثْنَيْنِ لِحَاجَتِنَا إِلَى النِّصْفِ تَصِيرُ عَشَرَةً، لِلْجَدِّ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ يَرُدَّانِ إِلَى الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ ثُلُثَهُ تَكْمِلَةَ النِّصْفِ يَبْقَى لَهُمَا سَهْمٌ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِمَا، فَاضْرِبِ اثْنَيْنِ فِي عَشَرَةٍ تَكُنْ عِشْرِينَ مِنْهَا تَصِحُّ. جَدٌّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأَخٌ لِأَبٍ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا، وَيَرُدُّ الْأَخُ عَلَى الْأُخْتِ إِلَى تَمَامِ النِّصْفِ يَبْقَى مَعَهُ نِصْفُ سَهْمٍ وَهُوَ الْعُشْرُ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ أُخْتٌ، فَلِلْجَدِّ سُدُسَانِ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ السُّدُسُ، وَلِلْأَخِ وَأُخْتِهِ ثُلُثُهُ فَيَرُدَّانِ عَلَيْهِمَا تَتِمَّةَ النِّصْفِ يَبْقَى مَعَهُمَا سُدُسٌ. جَدٌّ وَأُخْتَانِ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتَانِ لِأَبٍ، لِلْجَدِّ الثُّلُثُ وَلِكُلِّ فَرِيقٍ الثُّلُثُ، ثُمَّ يَرُدُّ أَوْلَادُ الْأَبِ ثُلُثَهُمْ عَلَى أَوْلَادِ الْأَبَوَيْنِ. أُمٌّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأَخَوَانِ وَأُخْتٌ لِأَبٍ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ لِلْأُمِّ سَهْمٌ وَثُلُثُ الْبَاقِي خَيْرٌ لِلْجَدِّ، وَلَيْسَ لِلْبَاقِي ثُلُثٌ صَحِيحٌ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ تَكُنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِلْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدِّ خَمْسَةٌ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ النِّصْفُ تِسْعَةٌ، يَبْقَى سَهْمٌ وَاحِدٌ لِأَوْلَادِ الْأَبِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَهُمْ خَمْسَةٌ، فَاضْرِبْ خَمْسَةً فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَكُنْ تِسْعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ وَتُسَمَّى تِسْعِينِيَّةَ زَيْدٍ. أُمٌّ وَجَدٌ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَأَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، لِلْأُمِّ سَهْمٌ يَبْقَى خَمْسَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عَلَى سِتَّةٍ، فَاضْرِبْ سِتَّةً فِي سِتَّةٍ تَكُنْ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ، لِلْأُمِّ السُّدُسُ سِتَّةٌ، وَلِلْجَدِّ ثُلُثٌ مَا بَقِيَ عَشَرَةٌ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ نِصْفُ الْجَمِيعِ وَهُوَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، بَقِيَ لِأَوْلَادِ الْأَبِ سَهْمَانِ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ يَكُنْ مِائَةً وَثَمَانِيَةً مِنْهَا تَصِحُّ، إِلَّا أَنَّ بَيْنَ السِّهَامِ مُوَافَقَةً بِالْأَنْصَافِ فَتَرْجِعُ إِلَى أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُقَاسَمَةَ وَثُلُثَ مَا بَقِيَ وَاحِدٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ فَأَعْطِ الْأُمَّ نَصِيبَهَا مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ثَلَاثَةً وَالْجَدَّ ثُلُثَ مَا بَقِيَ خَمْسَةً، وَالْأُخْتَ مِنَ الْأَبَوَيْنِ نِصْفَ الْجَمِيعِ تِسْعَةً، يَبْقَى سَهْمٌ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَوْلَادِ الْأَبِ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ مِنْهَا تَصِحُّ وَتُسَمَّى مُخْتَصَرَةَ زَيْدٍ، فَحَصَلَ مِنْ أَصْلِ زَيْدٍ أَنَّهُ يَقُولُ بِالْمُقَاسَمَةِ مَا لَمْ يَنْقُصْهُ مِنَ الثُّلُثِ، وَمَعَ صَاحِبِ الْفَرْضِ يُنْظَرُ لَهُ أَصْلَحَ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَيُعَدُّ وَلَدُ الْأَبِ عَلَى الْجَدِّ إِضْرَارًا بِهِ، وَلَا يَفْرِضُ لِلْأَخَوَاتِ الْمُنْفَرِدَاتِ مَعَ الْجَدِّ وَيَجْعَلُهُنَّ عَصَبَةً، وَلَا يَقُولُ بِالْعَوْلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُنَّ عَصَبَةً. وَقَدْ خَالَفَ هَذَا الْأَصْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأَكْدَرِيَّةِ، وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ لِأَبٍ أَوْ لِأَبَوَيْنِ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، ثُمَّ يَضُمُّ الْجَدُّ نَصِيبَهُ إِلَى نَصِيبِ الْأُخْتِ فَيَقْتَسِمَانِ الذَّكَرُ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ تَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ، لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ، وَلِلْأُخْتِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدِّ سَهْمٌ، وَمَا فِي يَدِ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي تِسْعَةٍ يَكُنْ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ مِنْهَا تَصِحُّ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْأُخْتِ أَخٌ فَلَا عَوْلَ وَلَا أَكْدَرِيَّةَ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَيَسْقُطُ الْأَخُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَ الْأَخِ أُخْتٌ لِأَنَّهَا تَصِيرُ عَصَبَةً بِأَخِيهَا. سُمِّيَتْ أَكْدَرِيَّةً لِأَنَّهَا وَاقِعَةُ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَكْدَرٍ، أَوْ لِأَنَّهَا كَدَّرَتْ عَلَى زَيْدٍ مَذْهَبَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَعَالَ بِالْجَدِّ، وَفَرَضَ لِلْأُخْتِ، وَجَمَعَ سِهَامَ الْفَرْضِ وَقَسَمَهَا عَلَى التَّعْصِيبِ، وَإِنَّمَا فَرَضَ لَهَا وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَصَبَةً لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهَا شَيْءٌ، وَلَا وَجْهَ إِلَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ نَصِيبَ الْجَدِّ مِنَ السُّدُسِ فَصَارَ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ضَرُورَةً. 1 - فَصْلٌ: الْجَدَّاتُ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُ الْجَدَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الْفَاسِدَةِ وَمِيرَاثُهَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ وَأَحْكَامِ الْحَجْبِ بَيْنَ الْجَدَّاتِ، وَهَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ مَرَاتِبِ الْجَدَّاتِ وَمَعْرِفَتِهَا. اعْلَمْ أَنَّ الْجَدَّاتِ عَلَى مَرَاتِبَ: الْأُولَى جَدَّتَا الْمَيِّتِ وَهُمَا أُمُّ أُمِّهِ وَأُمُّ أَبِيهِ وَهُمَا وَارِثَتَانِ. الثَّانِيَةُ أَرْبَعُ جَدَّاتٍ: جَدَّتَا أَبِيهِ، وَجَدَّتَا أُمِّهِ، فَجَدَّتَا أَبِيهِ: أُمُّ أَبِ أَبِيهِ، وَأُمُّ أُمُّ أَبِيهِ، وَجَدَّتَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] أُمِّهِ: أُمُّ أُمِّ أُمِّهِ، وَأُمُّ أَبِ أُمِّهِ، وَالْكُلُّ وَارِثَاتٌ إِلَّا الْأَخِيرَةَ لِأَنَّهَا فَاسِدَةٌ فَإِنَّهُ دَخَلَ فِي نِسْبَتِهَا أَبٌ بَيْنَ أُمَّيْنِ. الثَّالِثَةُ ثَمَانِ جَدَّاتٍ، جَدَّتَا أَبِ أَبِيهِ وَهُمَا: أُمُّ أَبِ أَبِ أَبِيهِ، وَأُمُّ أُمُّ أَبِ أَبِيهِ وَهُمَا وَارِثَتَانِ، وَجَدَّتَا أُمِّ أَبِيهِ وَهُمَا: أُمُّ أُمِّ أُمِّ أَبِيهِ وَهِيَ وَارِثَةٌ، وَأُمِّ أَبِ أُمِّ أَبِيهِ وَهِيَ سَاقِطَةٌ، وَجَدَّتَا أَبِ أُمِّهِ وَهُمَا: أُمُّ أُمِّ أَبِ أُمِّهِ، وَأُمُّ أَبِ أَبِ أَمِّهِ وَهُمَا سَاقِطَتَانِ، وَجَدَّتَا أُمِّ أُمِّهِ وَهُمَا: أُمُّ أُمِّ أُمِّ أُمِّهِ وَهِيَ وَارِثَةٌ، وَأُمُّ أَبِ أُمِّ أُمِّهِ وَهِيَ سَاقِطَةٌ. فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جَدَّتَانِ يَصِرْنَ سِتَّةَ عَشَرَ وَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ السِتَّةَ عَشَرَ جَدَّتَانِ يَصِرْنَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَهَكَذَا إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى. وَالْجَدَّاتُ الثَّابِتَاتُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مُتَحَاذِيَاتٍ مُتَسَاوِيَاتٍ فِي الدَّرَجَةِ، وَمُتَفَاوِتَاتٍ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمُتَحَاذِيَاتِ الْوَارِثَاتِ أَنْ يَلْفِظَ بِعَدَدِهِنَّ أُمَّهَاتٌ ثُمَّ تُبَدِّلُ الْأُمُّ الْأَخِيرَةُ أَبًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى أَنْ لَا تَبْقَى إِلَّا أُمٌّ وَاحِدَةٌ، وَتُصَوِّرُ ذَلِكَ فِي خَمْسِ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتِ وَقِسْ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: ميت أُم أُم أُم أُم أُم أُم أُم أُم أُم أَب أُم أُم أُم أَب أَب أُم أُم أَب أَب أَب أُم أَب أَب أَب أَب وَأَمَّا الْمُتَفَاوِتَاتُ فِي الدَّرَجَةِ فَالْقُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى عَلَى مَا مَرَّ فِي الْحَجْبِ، وَلَوْ سُئِلْتَ عَنْ عَدَدِ جَدَّاتٍ وَارِثَاتٍ كَمْ بِإِزَائِهِنَّ سَاقِطَاتٍ، فَخُذْ عَدَدَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ بِيَمِينِكَ، ثُمَّ انْقُصْ مِنْهُ اثْنَيْنِ وَخُذْهُمَا بِيَسَارِكَ، ثُمَّ ضَعِّفْ مَا فِي يَسَارِكَ بِعَدَدِ مَا فِي يَمِينِكَ فَمَا بَلَغَ فَاطْرَحِ الْمَسْئُولَ مِنْهُ فَمَا بَقِيَ فَهِيَ سَاقِطَةٌ. مِثَالُهُ: سُئِلْتَ عَنْ أَرْبَعِ جَدَّاتٍ خُذْهَا بِيَمِينِكَ ثُمَّ انْقُصْ مِنْهُ اثْنَيْنِ وَخُذْهُمَا بِيَسَارِكَ، ثُمَّ ضَعِّفْ مَا فِي يَسَارِكَ بِعَدَدِ مَا فِي يَمِينِكَ يَكُنْ ثَمَانِيَةً، اطْرَحْ مِنْهُ عَدَدَ الْمَسْئُولِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ تَبْقَى أَرْبَعَةٌ فَهِيَ سَاقِطَةٌ، وَلَوْ سُئِلْتَ عَنْ ثَلَاثَةٍ خُذْهَا بِيَمِينِكَ ثُمَّ انْقُصْ مِنْهُ اثْنَيْنِ وَخُذْهُمَا بِيَسَارِكَ ثُمَّ ضَعِّفْ مَا فِي يَسَارِكَ بِعَدَدِ مَا بَقِيَ فِي يَمِينِكَ يَكُنْ أَرْبَعَةً اطْرَحْ مِنْهُ عَدَدَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ بَقِيَ وَاحِدَةٌ سَاقِطَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْجَدَّةُ الْوَارِثَةُ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ إِلَّا وَاحِدَةً ; لِأَنَّ الصَّحِيحَاتِ مِنْهُنَّ أَنْ لَا يَدْخُلُ بَيْنَ أُمَّيْنِ أَبٌ فَكَانَتِ الْوَارِثَةُ أُمَّ الْأُمِّ وَإِنْ عَلَتْ. وَالْقُرْبَى تَحْجُبُ الْبُعْدَى فَلَا تَرِثُ إِلَّا جَدَّةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْجَدِّ. وَأَمَّا الْأَبَوِيَّاتُ فَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَرِثَ الْكَثِيرُ مِنْهُنَّ عَلَى مَا صَوَّرْتُ لَكَ، وَلَا يَرِثُ مَعَ الْأَبِ إِلَّا جَدَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ ; لِأَنَّ الْأَبَوِيَّاتِ يُحْجَبْنَ بِهِ، وَلَا يَرِثُ مَعَ الْجَدِّ إِلَّا جَدَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَالثَّانِيَةُ أُمُّ الْأَبِ، وَلَا يَرِثُ مَعَ أَبِ الْجَدِّ إِلَّا ثَلَاثٌ: إِحْدَاهُنَّ مِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 وَذَوُو الْأَرْحَامِ: كُلُّ قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي سَهْمٍ وَلَا عَصَبَةٍ، وَهُمْ كَالْعَصَبَاتِ مَنِ انْفَرَدَ مِنْهُمْ أَخَذَ جَمِيعَ الْمَالِ، وَالْأَقْرَبُ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ، وَهُمْ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَأَوْلَادُ بَنَاتِ الِابْنِ، وَالْجَدُّ الْفَاسِدُ، وَالْجَدَّاتُ الْفَاسِدَاتُ، وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ كُلِّهِنَّ، وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ كُلِّهِمْ، وَأَوْلَادُ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ،   [الاختيار لتعليل المختار] قِبَلِ الْأُمِّ، وَالثَّانِيَةُ أُمُّ أُمِّ الْأَبِ، وَالثَّالِثَةُ أُمُّ أَبِ الْأَبِ، وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَ فِي دَرَجَةِ الْأَجْدَادِ زَادَ فِي دَرَجَةِ الْجَدَّاتِ وَارِثَةٌ. [فصل تَوْرِيثُ ذَوِي الْأَرْحَامِ] فَصْلٌ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ قَالَ عَامَّةُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ مَذْهَبُنَا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: لَا مِيرَاثَ لَهُمْ وَيُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. لَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] أَيْ أَوْلَى بِمِيرَاثِ بَعْضٍ بِالنَّقْلِ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْخَالُ وَارِثُ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ» . وَرُوِيَ: «أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الدَّحْدَاحِ مَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ: هَلْ تَعْرِفُونَ لَهُ فِيكُمْ نَسَبًا؟ فَقَالَ: إِنَّمَا كَانَ آتِيًا فِينَا: أَيْ غَرِيبًا، فَجَعَلَ مِيرَاثَهُ لِابْنِ أُخْتِهِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ» ، وَلِأَنَّ أَصْلَ الْقَرَابَةِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ أَبْعَدُ مِنْ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ فَتَأَخَّرَتْ عَنْهَا، وَالْمَالُ مَتَى كَانَ لَهُ مُسْتَحِقٌّ لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَلِأَنَّ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ يُدْلُونَ إِلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ، وَهَؤُلَاءِ يُدْلُونَ بِهِ وَبِالْقَرَابَةِ، وَالْمُدْلِي بِجِهَتَيْنِ أَوْلَى كَبَنِي الْأَعْيَانِ مَعَ بَنَاتِ الْعَلَّاتِ. (وَذَوُو الْأَرْحَامِ كُلُّ قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي سَهْمٍ وَلَا عَصَبَةٍ، وَهُمْ كَالْعَصَبَاتِ مَنِ انْفَرَدَ مِنْهُمْ أَخَذَ جَمِيعَ الْمَالِ) لِأَنَّهُمْ يُدْلُونَ بِالْقَرَابَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَهْمٌ مُقَدَّرٌ فَكَانُوا كَالْعَصَبَاتِ. (وَالْأَقْرَبُ يَحْجُبُ الْأَبْعَدَ) كَالْعَصَبَاتِ حَتَّى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْمَيِّتِ مِنْ أَيِّ صِنْفٍ كَانَ فَهُوَ أَوْلَى. مِثَالُهُ: بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ وَأَبُ أُمٍّ فَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ. أَبُ أَبِ أُمٍّ وَعَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ فَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَقْرَبُ. وَذَكَرَ رَضِيُّ الدِّينِ النَّيْسَابُورِيُّ فِي فَرَائِضِهِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدٌ مِنَ الصِّنْفِ الثَّانِي وَإِنْ قَرُبَ وَهُنَاكَ وَاحِدٌ مِنَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَإِنْ بَعُدَ، وَكَذَا الثَّالِثُ مَعَ الثَّانِي وَالرَّابِعُ مَعَ الثَّالِثِ، قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى، وَالْمَعْمُولُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ مَشَايِخِنَا تَقْدِيمُ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثِ ثُمَّ الرَّابِعِ. قَالَ: وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ الصَّدْرُ الْكُوفِيُّ فِي فَرَائِضِهِ، فَعَلَى هَذَا بِنْتُ الْبِنْتِ وَإِنْ سَفَلَتْ أَوْلَى مِنْ أَبِ الْأُمِّ، وَهُمْ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ يَنْتَمِي إِلَى الْمَيِّتِ، (وَهُمْ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ، وَأَوْلَادُ بَنَاتِ الِابْنِ) وَصِنْفٌ يَنْتَمِي إِلَيْهِمُ الْمَيِّتُ. (وَ) هُمْ (الْجَدُّ الْفَاسِدُ، وَالْجَدَّاتُ الْفَاسِدَاتُ) وَصِنْفٌ يَنْتَمِي إِلَى أَبَوَيِ الْمَيِّتِ. (وَ) هُمْ: (أَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ كُلِّهِنَّ، وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ كُلِّهِمْ، وَأَوْلَادُ الْإِخْوَةِ لِأُمٍّ) وَصِنْفٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 وَالْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ وَالْأَعْمَامُ لِأُمٍّ، وَالْعَمَّاتُ وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ كُلُّهُمْ وَأَوْلَادُ هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُدْلِي بِهِمْ، وَأَوْلَاهُمُ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ ثُمَّ الصِّنْفُ الثَّانِي (سم) .   [الاختيار لتعليل المختار] يَنْتَمِي إِلَى جَدَّيِ الْمَيِّتِ. (وَ) هُمْ: (الْأَخْوَالُ وَالْخَالَاتُ وَالْأَعْمَامُ لِأُمٍّ، وَالْعَمَّاتُ وَبَنَاتُ الْأَعْمَامِ كُلِّهِمْ وَأَوْلَادُ هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُدْلِي بِهِمْ، وَأَوْلَاهُمُ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ) لِأَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ أَقْرَبُ مِنْ غَيْرِهِمْ كَمَا فِي الْأُصُولِ. (ثُمَّ الصِّنْفُ الثَّانِي) وَقَالَا: الصِّنْفُ الثَّالِثُ أَوْلَى مِنَ الثَّانِي لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ عَصَبَةٍ أَوْ ذِي سَهْمٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ إِذَا اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجَةِ أَنْ يُقَدَّمَ وَلَدٌ وَارِثٌ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الصِّنْفَ الثَّانِيَ لَهُ زِيَادَةُ اتِّصَالٍ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ لِأَنَّهُمْ أُصُولُهُ، وَزِيَادَةُ الْقُرْبِ أَوْلَى مِمَّا ذُكِرَ ; لِأَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ الْقُرْبُ، وَالْعِلَّةُ تَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِهَا. الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ أَوْلَى كَبِنْتِ بِنْتٍ وَبِنْتِ بِنْتِ بِنْتٍ، الْمَالُ لِلْأُولَى لِأَنَّهَا أَقْرَبُ، وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ فَمَنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ وَارِثٌ أَوْلَى ; لِأَنَّ لَهُ زِيَادَةً فِي الْقُرْبِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ كَبِنْتِ بِنْتِ بِنْتٍ، وَبِنْتِ بِنْتِ ابْنٍ، الْمَالُ لِلثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا وَلَدُ صَاحِبِ سَهْمٍ. بِنْتُ بِنْتِ أَخٍ وَبِنْتُ ابْنِ أَخٍ، الْمَالُ لِلثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا وَلَدُ عَصَبَةٍ وَارِثٍ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يُدْلِي بِوَارِثٍ لَا بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةٍ فَهُمَا سَوَاءٌ. مِثَالُهُ: بِنْتُ بِنْتِ بِنْتِ بِنْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتِ ابْنٍ، هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِوَاسِطَةٍ، وَالْعِلَّةُ هِيَ الْقُرْبُ فَلَا يَتَرَجَّحُ بِالْإِدْلَاءِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ أَقَرَبَ وَالْآخَرُ أَبْعَدَ وَلَكِنَّهُ يُدْلِي بِوَارِثٍ فَالْأَقْرَبُ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْقَرَابَةُ فَتَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْقُرْبِ كَالْعَصَبَاتِ إِذَا اسْتَوَوْا يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ بِزِيَادَةِ الْقُرْبِ كَذَا هُنَا. مِثَالُهُ: بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتِ ابْنٍ، الْمَالُ لِلْأُولَى لِأَنَّهَا أَقْرَبُ، وَكَذَلِكَ خَالَةٌ وَبِنْتُ عَمٍّ، الْخَالَةُ أَوْلَى، وَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ وَالْإِدْلَاءِ، فَإِنِ اتَّفَقَتِ الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ إِنْ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا، وَإِنْ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ فَلِلذِّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. مِثَالُهُ: بِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ، وَابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ. بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ وَابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا. وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّهَاتُ وَالْآبَاءُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِبْرَةُ لِأَبْدَانِهِمْ لَا لِأُصُولِهِمْ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ أَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِبْرَةُ لِأُصُولِهِمْ فَيُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أُصُولِهِمْ وَيُعْتَبَرُ الْأَصْلُ الْوَاحِدُ مُتَعَدِّدًا بِتَعَدُّدِ أَوْلَادِهِ، ثُمَّ يُعْطَى لِكُلِّ فَرْعٍ مِيرَاثُ أَصْلِهِ، وَيُجْعَلُ كُلُّ أُنْثَى تُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِذَكَرٍ ذَكَرًا، وَكُلُّ ذَكَرٍ يُدْلِي إِلَى الْمَيِّتِ بِأُنْثَى أُنْثَى، سَوَاءٌ كَانَ إِدْلَاؤُهُمَا بِأَبٍ وَاحِدٍ أَوْ بِأَكْثَرَ، أَوْ بِأُمٍّ وَاحِدَةٍ أَوْ بِأَكْثَرَ، ثُمَّ يَقْسِمُ سِهَامَ كُلِّ فَرِيقٍ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ إِنِ اتَّفَقَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] صِفَاتُهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْفُرُوعَ إِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِوَاسِطَةِ الْأُصُولِ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعِبْرَةُ لِلْأُصُولِ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ إِنَّمَا يَرِثُونَ بِالْقَرَابَةِ كَالْعَصَبَاتِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَبِدٍّ بِنَفْسِهِ فِي أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَتُعْتَبَرُ الْأَبْدَانُ كَالْعَصَبَاتِ. مِثَالُهُ: بِنْتُ بِنْتِ ابْنٍ، وَابْنُ بِنْتِ ابْنٍ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ. بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ، وَبِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ، الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِاعْتِبَارِ الْأَبْدَانِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ كَأَنَّهُ مَاتَ عَنْ بِنْتِ بِنْتٍ وَابْنِ بِنْتٍ، ثُمَّ يُنْقَلُ نَصِيبُ الِابْنِ إِلَى ابْنَتِهِ وَنَصِيبُ الْبِنْتِ إِلَى بِنْتِهَا. بِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلْبِنْتِ سَهْمَانِ وَلِلِابْنِ سَهْمٌ. بَنْتَا ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِلِابْنِ خُمُسُ الْمَالِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْبِنْتَيْنِ كَأَنَّهُ مَاتَ عَنِ ابْنَيْ بِنْتٍ وَبِنْتِ بِنْتٍ. بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ، وَابْنُ بِنْتِ بِنْتٍ، وَبِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ، وَابْنُ ابْنِ بِنْتٍ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ عَلَى الْآبَاءِ عَلَى سِتَّةٍ لِلْأَوَّلَيْنِ سَهْمَانِ لِإِدْلَائِهِمَا إِلَى الْمَيِّتِ بِأُنْثَى فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلِلْآخَرَيْنِ أَرْبَعَةٌ لِإِدْلَائِهِمَا إِلَى الْمَيِّتِ بِذَكَرٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَصَارَ الْمَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَثْلَاثًا فَقَدِ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ يَكُنْ تِسْعَةً مِنْهَا تَصِحُّ. وَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي بَطْنٍ أَوْ أَكْثَرَ فَأَبُو يُوسُفَ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ، وَمُحَمَّدٌ يَقْسِمُ الْمَالَ عَلَى أَوَّلِ خِلَافٍ يَقَعُ، فَمَا أَصَابَ الذُّكُورَ يُنْقَلُ إِلَى فُرُوعِهِمْ، وَمَا أَصَابَ الْإِنَاثَ يُنْقَلُ إِلَى فُرُوعِهِنَّ مَعَ اعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اعْتُبِرَ فِي الْبَطْنِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى الْأَوْلَادِ الْأَحْيَاءِ، فَيُقْسَمُ عَلَى اعْتِبَارِ أَبْدَانِهِمْ. مِثَالُهُ: ميت بنت بنت بنت بنت بنت بنت ابن بنت بنت ابن بنت بنت ابن بنت بنت بنت فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ: خُمُسَانِ لِلِابْنِ، وَلِكُلِّ بِنْتٍ خُمُسٌ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَلَى عَشَرَةٍ، لِلْأُولَى سَهْمٌ، وَلِلثَّانِيَةِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلثَّالِثَةِ ثَلَاثَةٌ، وَلِلرَّابِعِ سَهْمَانِ ; لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْخِلَافُ فِي أَوَّلِ بَطْنٍ وَقَعَ وَفِيهِ ابْنُ بِنْتٍ وَثَلَاثُ بَنَاتِ بِنْتٍ فَيُقْسَمُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَا أَصَابَ الِابْنَ وَهُوَ خُمُسَانِ يَصِيرَانِ إِلَى ابْنَتِهِ، وَمَا أَصَابَ الْبَنَاتِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ يَصِيرُ إِلَى أَوْلَادِهِنَّ، وَهُمُ ابْنٌ وَبِنْتَانِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَيَكُونُ لِلِابْنِ خُمُسٌ وَنِصْفٌ، وَلِلْبِنْتَيْنِ خُمُسٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ يُنْقَلُ نَصِيبُ الِابْنِ إِلَى بِنْتِهِ، وَنَصِيبُ الْبِنْتَيْنِ إِلَى وَلَدَيْهِمَا وَهُمَا ابْنٌ وَبِنْتٌ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَيَكُونُ لِلِابْنِ خُمُسٌ، وَلِلْبِنْتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] نِصْفُ خُمُسٍ وَهُوَ عُشْرٌ فَيَصِحُّ مِنْ عَشَرَةٍ. وَمَنْ لَهُ قَرَابَةٌ مِنْ جِهَتَيْنِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلَهُ سَهْمَانِ، وَمَنْ لَهُ قَرَابَةٌ وَاحِدَةٌ فَسَهْمٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارًا بِالْأُصُولِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالتَّعْصِيبِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ كَالْعَصَبَاتِ حَقِيقَةً. مِثَالُهُ: بِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ، وَبِنْتُ بِنْتِ بِنْتٍ هِيَ بِنْتُ ابْنِ بِنْتٍ أُخْرَى، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِذِي الْقَرَابَةِ سَهْمٌ، وَلِذِي الْقَرَابَتَيْنِ ثَلَاثَةٌ لِمَا مَرَّ. وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْبِنْتِ مِنْ جِهَتَيْنِ ابْنٌ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِذَاتِ قَرَابَةٍ سَهْمٌ، وَلِذِي قِرَابَتَيْنِ ثَلَاثَةُ سُهْمَانٍ مِنْ قِبَلِ أَصْلِهِ الذَّكَرِ وَيُسَلَّمُ لَهُ لِتَفَرُّدِهِ بِذَلِكَ الْأَصْلِ، وَسَهْمٌ مِنْ قِبَلِ أَصْلِ الْأُنْثَى فَيَضُمُّهُ إِلَى مَا فِي يَدِ ذَاتِ قَرَابَةٍ فَيُقَسِّمَانِ السَّهْمَيْنِ لِلذَّكْرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِاتِّحَادِ أَصْلِهِمَا فِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ وَاخْتِلَافِ أَبْدَانِهِمَا عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهَا تَصِحُّ. الصِّنْفُ الثَّانِي: وَأَوْلَاهُمْ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ كَأَبِ أُمٍّ، وَأَبِ أُمِّ أُمٍّ، وَأَبِ أُمِّ أَبٍ، الْمَالُ كُلُّهُ لِأَبِ الْأُمِّ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي الْقُرْبِ فَالْإِدْلَاءُ بِوَارِثٍ لَيْسَ بِأَوْلَى فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ; لِأَنَّ السَّبَبَ لِلِاسْتِحْقَاقِ الْقَرَابَةُ دُونَ الْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ. مِثَالُهُ: أَبُ أُمِّ أُمٍّ، وَأَبُ أَبِ أُمٍّ هُمَا سَوَاءٌ، إِنْ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ إِنَاثًا، وَإِنِ اخْتَلَطُوا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِهَتَيْنِ فَلِقَوْمِ الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلِقَوْمِ الْأَبِ الثُّلُثَانِ. مِثَالُهُ: أَبُ أُمٍّ وَأَبُ أَبِ أُمٍّ، لِلْأَوَّلِ الثُّلُثَانِ، وَلِلثَّانِي الثُّلُثُ. وَإِذَا كَانَ لِأَبِ الْمَيِّتِ جَدَّانِ مِنْ جِهَتَيْنِ وَكَذَلِكَ لِأُمِّهِ، فَلِقَوْمِ الْأَبِ الثُّلُثَانِ، وَلِقَوْمِ الْأُمِّ الثُّلُثُ، ثُمَّ مَا أَصَابَ قَوْمُ الْأَبِ ثُلُثَاهُ لِقَرَابَتِهِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ، وَثُلُثُهُ لِقَرَابَتِهِ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَصَابَ قَوْمُ الْأُمِّ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مَا أَصَابَ قَوْمُ الْأَبِ كُلُّهُ لِقَرَابَتِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، وَمَا أَصَابَ قَوْمُ الْأُمِّ فَلِقَرَابَتِهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا أَيْضًا. مِثَالُهُ: أَبُ أُمِّ أَبِ أَبٍ، وَأَبُ أَبِ أُمِّ أَبٍ، وَأَبُ أُمِّ أَبِ أُمٍّ، وَأَبُ أَبِ أُمِّ أُمٍّ، فَلِلْأَوَّلَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْآخِرَيْنِ الثُّلُثُ لِمَا بَيَّنَّاهُ. الصِّنْفُ الثَّالِثُ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَوْلَادُهُمْ. وَالثَّانِي بَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَأَوْلَادُ الْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأَوْلَادُهُمْ. وَالثَّالِثُ أَوْلَادُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِأُمِّ وَأَوْلَادُهُمْ. فَإِنْ كَانُوا مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَوِ الثَّانِي فَهُمْ كَالصِّنْفِ الْأَوَّلِ فِي تَسَاوِي الدَّرَجَةِ وَالْقُرْبِ وَالْإِدْلَاءِ بِوَارِثٍ وَالْقِسْمَةِ. وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي ذَلِكَ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُعْتَبَرُ الْأَبْدَانُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ الْأَبْدَانُ وَوَصْفُ الْأُصُولِ. وَإِنْ كَانُوا مِنَ النَّوْعِ الثَّالِثِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ اعْتِبَارًا بِأُصُولِهِمْ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ إِلَّا مَا رُوِيَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] شَاذًّا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقْسَمُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنْ كَانُوا مِنَ الْأَنْوَاعِ وَتَسَاوَوْا فِي الدَّرَجَةِ فَالْمُدْلِي بِوَارِثٍ أَوْلَى، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ لِأُمٍّ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْسَمُ الْمَالُ عَلَى أُصُولِهِمْ وَيُنْقَلُ نَصِيبُ كُلِّ أَصْلٍ إِلَى فُرُوعِهِ. مِثَالُهُ: ثَلَاثُ بَنَاتِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ كُلُّهُ لِبِنْتِ الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهَا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ خُمُسٌ، وَلِبِنْتِ الْأُخْتِ لِأُمٍّ خُمُسٌ بِاعْتِبَارِ الْأُصُولِ فَرْضًا وَرَدًّا. ثَلَاثُ بَنَاتِ إِخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كُلُّ الْمَالِ لِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأُمِّ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي لِبِنْتِ الْأَخِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ. بِنْتُ أُخْتٍ لِأَبٍ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأُمٍّ، الْمَالُ لِلْأُولَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهَا أَقْوَى، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ، وَلِلْأُخْرَى الرُّبُعُ فَرْضًا وَرَدًّا اعْتِبَارًا بِالْأُصُولِ. ابْنَا أُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَبِنْتُ أُخْتٍ لِأُمٍّ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ لِلِابْنَيْنِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ابْنَا أُخْتٍ كَأُخْتَيْنِ، فَيُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةٍ، وَأَوْلَادُ هَؤُلَاءِ كَأُصُولِهِمُ الْمُدْلِي بِوَارِثٍ أَوْلَى إِذَا اسْتَوَوْا. مِثَالُهُ: ابْنُ ابْنِ أَخٍ لِأُمٍّ، وَابْنُ بِنْتِ أَخٍ لِأَبَوَيْنِ، وَبِنْتُ ابْنِ أَخٍ لِأَبٍ، الْمَالُ لِلْبِنْتِ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِوَارِثٍ. الصِّنْفُ الرَّابِعُ: أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمَيِّتِ أَوْلَاهُمْ، فَعَمَّةُ الْأَبِ أَوْلَى مِنْ عَمَّةِ الْجَدِّ، وَإِنِ اسْتَوَوْا فَمَنْ كَانَ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى، ثُمَّ مَنْ كَانَ لِأَبٍ، ثُمَّ مَنْ كَانَ لِأُمٍّ، فَالْعَمَّةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْلَى مِنَ الْعَمَّةِ لِأَبٍ وَمِنَ الْعَمَّةِ لِأُمٍّ، وَالْعَمَّةُ لِأَبٍ أَوْلَى مِنَ الْعَمِّ وَالْعَمَّةِ لِأُمٍّ، وَالْخَالَاتُ وَالْأَخْوَالُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ. وَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْقَرَابَةِ وَهُمْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. وَإِنِ اجْتَمَعَ الْجِنْسَانِ الْعُمُومَةُ وَالْخُئُولَةُ، فَالثُّلُثَانِ لِجَانِبِ الْعُمُومَةِ وَالثُّلُثُ لِجَانِبِ الْخُئُولَةِ كَيْفَ كَانُوا فِي الْعَدَدِ وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ. مِثَالُهُ: عَمَّةٌ وَعَشَرَةُ أَخْوَالٍ، لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأَخْوَالِ الثُّلُثُ. عَمَّةٌ وَخَالٌ أَوْ خَالَةٌ، لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَالْخَالَةُ الثُّلُثُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْخَالِ وَالْخَالَةِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأَبِ أَقْوَى كَمَا لَا شَيْءَ لِلْعَمَّةِ لِأُمٍّ مَعَ الْعَمَّةِ لِأَبٍ، إِلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثُ، وَلِأَنَّ الْعَمَّةَ لَمَّا كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَهِيَ كَالْأَبِ وَالْخَالَةَ كَالْأُمِّ. فَصَارَ كَأَنَّهُ تَرَكَ أَبًا وَأُمًّا فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا كَذَا هَذَا، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْعَمَّاتِ كُلُّهُنَّ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَالْعَمَّةُ لِأَبٍ أَقْوَى مِنَ الْعَمَّةِ لِأُمٍّ فَلَا تَرِثُ مَعَهَا كَالْأَعْمَامِ، وَذُو قَرَابَتَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ لَا يَحْجُبُ ذَا الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْجِنْسِ الْآخَرِ ; لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَعَلُوا الْمِيرَاثَ بَيْنَ الْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ أَثْلَاثًا مُطْلَقًا فَيَجْرِي الْإِجْمَاعُ عَلَى الْإِطْلَاقِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] مِثَالُهُ: عَمَّةٌ لِأَبَوَيْنِ وَخَالَةٌ لِأَبٍ، الثُّلُثَانِ لِلْعَمَّةِ، وَالثُّلُثُ لِلْخَالَةِ. وَرَوَى ابْنُ سَمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْعَمَّةِ. خَالَةٌ لِأَبَوَيْنِ وَعَمَّةٌ لِأَبٍ كَذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْخَالَةِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْجِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْجِنْسَانِ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ فَالثُّلُثَانِ لِقَرَابَتَيِ الْأَبِ، وَالثُّلُثُ لِقَرَابَتَيِ الْأُمِّ، ثُمَّ مَا أَصَابَ قَرَابَةَ الْأَبِ ثُلُثَاهُ لِقَرَابَةِ أَبِيهِ، وَثُلُثُهُ لِقَرَابَةِ أُمِّهِ، وَمَا أَصَابَ قَرَابَةَ الْأُمِّ كَذَلِكَ. مِثَالُهُ: عَمَّةُ الْأَبِ وَخَالَتُهُ وَعَمَّةُ الْأُمِّ وَخَالَتُهَا، الثُّلُثَانِ لِلْعَمَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا، وَالثُّلُثُ لِلْخَالَتَيْنِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَقَدِ انْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَاضْرِبْ ثَلَاثَةً فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنْ تِسْعَةً مِنْهَا تَصِحُّ. وَأَوْلَادُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ آبَائِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا عِنْدَ عَدَمِ آبَائِهِمْ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ. . 1 - فَصْلٌ: فِي الْوَلَاءِ وَهُوَ نَوْعَانِ: وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا صُورَتَهُمَا وَأَحْكَامَهُمَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ، وَنَذْكُرُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِرْثِ، فَنَبْدَأُ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَنَقُولُ: إِذَا مَاتَ الْمُعْتَقُ وَلَا عَصَبَةَ لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ فَالْمَوْلَى الْمُعْتِقُ عَصَبَتُهُ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» ، «وَمَاتَ مُعْتَقٌ لِابْنَةِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْهَا وَعَنْ بِنْتٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» . «وَأَعْتَقَ رَجُلٌ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: " إِنْ شَكَرَكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَكَ، وَإِنْ كَفَرَكَ فَهُوَ شَرٌّ لَهُ وَخَيْرٌ لَكَ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَدَعْ وَارِثًا كُنْتَ أَنْتَ عَصَبَتَهُ» . وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ مِنَ الْأَعْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا أَلْحَقَ الْوَلَاءَ بِالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْأَعْلَى حَيْثُ أَنْعَمَ عَلَى عَبْدِهِ بِالْإِعْتَاقِ وَتَسَبَّبَ إِلَى حَيَاتِهِ مَعْنًى، فَجُوزِيَ بِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ صِلَةً لَهُ وَكَرَامَةً، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْدُومٌ مِنَ الْعَبْدِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَلَوْ مَاتَ الْمُعْتَقُ عَنْ صَاحِبِ فَرْضٍ وَالْمُعَتِقِ، أَخَذَ صَاحِبُ الْفَرْضِ فَرْضَهُ وَالْبَاقِي لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ لِمَا رُوِّينَا، وَالْوَلَاءُ يُوَرَّثُ بِهِ وَلَا يُوَرَّثُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلًا يُوَرَّثُ» ، وَيُسْتَحَقُّ بِالْعُصُوبَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُنْتَ أَنْتَ عَصَبَةً» ، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْوَلَاءِ شَيْءٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] بِالْإِرْثِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنَ الْوَلَاءِ إِلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ» ، وَهُوَ لِأَقْرَبِ عَصَبَةِ الْمُعْتَقِ، فَلَوْ مَاتَ عَنِ ابْنِ الْمُعْتِقِ وَأَبِيهِ فَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلِابْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لِلْأَبِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ ; لِأَنَّ الْأَبَ يَكُونُ عَصَبَةً حَتَّى يُحْرِزَ جَمِيعَ الْمَالِ لَوِ انْفَرَدَ. وَلَهُمَا أَنَّهُ صَاحِبُ فَرْضٍ مَعَ الِابْنِ فَصَارَ كَالزَّوْجِ فَلَا يُزَاحِمُ الِابْنَ الْعَصَبَةَ، وَلَوْ مَاتَ عَنْ جَدِّ مَوْلَاهُ وَأَخِيهِ فَالْكُلُّ لِلْجَدِّ. وَقَالَا: بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَقَدْ عُرِفَ. وَعَنْ عِدَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمْ قَالُوا: الْوَلَاءُ لِلْكُبْرِ أَيْ لِلْأَقْرَبِ إِلَى الْمَيِّتِ نَسَبًا، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا سَمَاعًا فَصَارَ كَالْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَصُورَتُهُ: إِذَا مَاتَ الْمُعْتِقُ عَنِ ابْنَيْنِ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَنِ ابْنٍ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَوَلَاؤُهُ لِابْنِ مَوْلَاهُ دُونَ ابْنِ ابْنِهِ لِمَا رُوِّينَا وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ نَسَبًا وَعُصُوبَةً، وَلَوْ مَاتَ الِابْنَانِ وَتَرَكَ أَحَدُهُمَا ابْنًا وَالْآخَرُ ابْنَيْنِ فَالْوَلَاءُ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْعُصُوبَةِ وَالْقُرْبِ، وَلِأَنَّ الْجَدَّ لَوْ مَاتَ قُسِّمَتْ تَرِكَتُهُ عَلَى حَفَدَتِهِ كَذَلِكَ، فَكَذَلِكَ مَا وَرِثُوهُ بِسَبَبِهِ. وَأَمَّا مَوْلَى الْمُوَالَاةِ فَإِنَّ الْأَعْلَى يَرِثُ الْأَسْفَلَ وَيَعْقِلُ عَنْهُ إِذَا جَنَى مُقَابَلَةً لِلْغُنْمِ بِالْغُرْمِ، وَهُوَ مُؤَخَّرٌ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ؛ لِأَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ يَرِثُونَ بِالْقَرَابَةِ وَهِيَ أَقْوَى وَآكَدُ مِنَ الْوَلَاءِ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ النَّقْضَ وَالْوَلَاءُ يَقْبَلُهُ، بِخِلَافِ الزَّوْجَيْنِ حَيْثُ يَرِثُ مَعَهُمَا لِأَنَّهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْأَجَانِبِ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا، فَإِذَا أَخَذَا حَقَّهُمَا صَارَ الْبَاقِي خَالِيًا عَنِ الْوَارِثِ فَيَكُونُ لِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ. وَلَوِ اتَّفَقَا فِي عَقْدِ الْمُوَالَاةِ عَلَى أَنْ يَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِ صَحَّ، وَوَرِثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَصَبَةً وَلَا ذُو سَهْمٍ وَلَا ذُو رَحِمٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ أَنَّ السَّبَبَ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ إِحْيَاءُ مَعْنَى عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَأَنَّهُ مِنَ الْأَعْلَى خَاصَّةً، وَالسَّبَبُ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ، فَيَثْبُتُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي عَقَدَا وَشَرَطَا. وَالْأَصْلُ فِي الْإِرْثِ بِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وَكَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ يَتَوَارَثُونَ بِالْعَقْدِ وَالْحِلْفِ دُونَ النَّسَبِ وَالرَّحِمِ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - {وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فَنُسِخَ تَقْدِيمُهُ وَصَارَ مُؤَخَّرًا عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - عَلَى أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْآيَةِ فَلَا نُوَرِّثُهُ مَعَ وُجُودِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلًا، فَمَالَ كُلُّ وَاحِدٍ لِلْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ.   [الاختيار لتعليل المختار] ذَوِي الْأَرْحَامِ، وَإِنَّمَا نُوَرِّثُهُ عِنْدَ عَدَمِهِمْ فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ نَاسِخَةً وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ لَهُ بِعَقْدِهِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِلْوَارِثِ بِهِ فَصَارَ كَالْوَصِيَّةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَلَا وَارِثَ لَهُ، أَوْ كَانَ لَكِنَّهُ أَجَازَ الْوَصِيَّةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ كَذَا هَذَا، فَصَارَ مُسْتَحِقًّا لِلْمَالِ فَلَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ لَا أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ «وَسُئِلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ فَقَالَ: هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتُهُ» يُشِيرُ إِلَى الْعَقْلِ وَالْإِرْثِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ. [فصل مِيرَاثُ الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى] فَصْلٌ (الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى إِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلًا، فَمَالُ كُلِّ وَاحِدٍ لِلْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ) وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ جَمَاعَةٍ مَاتُوا وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمْ مَاتَ أَوَّلًا كَالْقَتْلَى وَالْحَرْقَى وَنَحْوِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ. وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا مَا وَرِثَ مِنْ صَاحِبِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا. مِثَالُهُ: أَخَوَانِ غَرِقَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ تِسْعُونَ دِينَارًا وَخَلَّفَ بِنْتًا وَأُمًّا وَعَمًّا، فَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ تُقَسَّمُ تَرِكَةُ كُلِّ وَاحِدٍ بَيْنَ الْأَحْيَاءِ مِنْ وَرَثَتِهِ الْبِنْتِ وَالْأُمِّ وَالْعَمِّ عَلَى سِتَّةٍ، وَلَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ. وَعَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ يُقْسَمُ التِسْعُونَ لِلْبِنْتِ النِّصْفُ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِينَارًا وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ خَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا، وَالْبَاقِي وَهُوَ ثَلَاثُونَ لِلْأَخِ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَمِّ، ثُمَّ يُقْسَمُ الثَلَاثُونَ بَيْنَ الْبِنْتِ وَالْأُمِّ وَالْعَمِّ أَسْدَاسًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ احْتَمَلَ مَوْتُهُمَا مَعًا وَاحْتَمَلَ تَقَدُّمَ أَحَدِهِمَا وَاحْتَمَلَ تَأَخُّرَهُ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمِيرَاثَ وَاسْتِحْقَاقُ الْأَحْيَاءِ مُتَيَقَّنٌ فَلَا يُعَارِضُهُ الشَّكُّ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا إِنْ جُعِلَ حَيًّا حَتَّى وَرِثَ مِنَ الْآخَرِ كَيْفَ يُجْعَلُ مَيِّتًا حَتَّى يَرِثَهُ الْآخَرُ؟ وَإِنْ عُلِمَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا أَوَّلًا وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمْ هُوَ أُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ الْيَقِينَ وَوَقَفَ الْمَشْكُوكُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَوْ يَصْطَلِحُوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 فَصْلٌ الْمَجُوسِيُّ لَا يَرِثُ بِالْأَنْكِحَةِ الْبَاطِلَةِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ قَرَابَتَانِ لَوْ تَفَرَّقَتَا فِي شَخْصَيْنِ وَرِثَا بِهِمَا وَرِثَ بِهِمَا. وَالْحَمْلُ يَرِثُ وَيُوقَفُ نَصِيبُهُ.   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل لَا إِرْثَ بِالْأَنْكِحَةِ الْبَاطِلَةِ] فَصْلٌ (الْمَجُوسِيُّ لَا يَرِثُ بِالْأَنْكِحَةِ الْبَاطِلَةِ) لِبُطْلَانِهَا، وَيَرِثُ بِالْقَرَابَةِ لِثُبُوتِهَا، كَمَا لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ امْرَأَةً هِيَ أُمُّهُ أَوْ أُخْتُهُ تَرِثُ بِالْأُمُومَةِ وَالْأُخُوَّةِ دُونَ الزَّوْجِيَّةِ. (وَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ قَرَابَتَانِ لَوْ تَفَرَّقَتَا فِي شَخْصَيْنِ وَرِثَا بِهِمَا وَرِثَ بِهِمَا) وَهُوَ مَذْهَبُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: يَرِثُ بِأَثْبَتِهِمَا، وَهِيَ الَّتِي يُورَثُ بِهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْقَرَابَتَيْنِ بِانْفِرَادِهَا عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْوَاحِدُ مَالَيْنِ بِجِهَتَيْنِ إِذَا وُجِدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقٍ كَابْنَيْ عَمٍّ أَحَدُهُمَا أَخُو الْأُمِّ أَوْ زَوْجٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَلْزَمُ الْأُخْتَ لِأَبَوَيْنِ حَيْثُ لَا تَرِثُ بِقَرَابَتَيِ الْأُبُوَّةِ وَالْأُمُومَةِ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُمَا قَرَابَةً وَاحِدَةً فِي التَّوْرِيثِ نَصًّا لَا قِيَاسًا. وَصُورَتُهُ: مَجُوسِيٌّ تَزَوَّجَ بِنْتَهُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ بِنْتًا ثُمَّ مَاتَ فَقَدْ مَاتَ عَنْ بِنْتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِعَصَبَتِهِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَوْ مَاتَتْ بَعْدَهُ الْبِنْتُ الَّتِي كَانَتْ زَوْجَةً فَقَدْ مَاتَتْ عَنْ بِنْتٍ هِيَ أُخْتُهَا، فَلَهَا جَمِيعُ الْمَالِ، النِّصْفُ بِالْبِنْتِيَّةِ وَالنِّصْفُ بِعَصَبَةِ الْأُخْتِيَّةِ، وَعِنْدَ زَيْدٍ لَهَا النِّصْفُ بِالْبِنْتِيَّةِ لَا غَيْرَ؛ وَلَوْ مَاتَتْ بَعْدَهُ الْبِنْتُ الْمَوْلُودَةُ فَقَدْ خَلَّفَتْ أُمَّهَا وَهِيَ أُخْتُهَا مِنَ الْأَبِ فَلَهَا الثُّلُثُ بِالْأُمُومَةِ وَالنِّصْفُ بِالْأُخْتِيَّةِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ. وَعِنْدَ زَيْدٍ لَهَا الثُّلُثُ بِالْأُمُومَةِ لَا غَيْرَ لِأَنَّهَا أَثْبَتُهُمَا قَرَابَةً لِأَنَّهَا لَا تُحْجَبُ بِحَالٍ، وَإِذَا تَرَافَعُوا إِلَيْنَا قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ كَالْقِسْمَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ - تَعَالَى -: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَرِوَايَةٌ عَنْ زَيْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. [فصل مِيرَاثُ الْحَمْلِ] فَصْلٌ (وَالْحَمْلُ يَرِثُ وَيُوقَفُ نَصِيبُهُ) بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ وُجُودُهُ فَيَرِثُ، وَيُحْتَمَلُ عَدَمُهُ فَلَا يَرِثُ فَيُوقَفُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِالْوِلَادَةِ احْتِيَاطًا، فَإِنْ وُلِدَ إِلَى سَنَتَيْنِ حَيًّا وَرِثَ لِأَنَّهُ عُرِفَ وُجُودُهُ وَإِنِ احْتَمَلَ حُدُوثَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَكِنْ جُعِلَ مَوْجُودًا قَبْلَ الْمَوْتِ حُكْمًا حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُهُ لِقِيَامِ الْفِرَاشِ فِي الْعِدَّةِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ الْحَمْلُ مِنَ الْمَيِّتِ؛ فَأَمَّا إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَيِّتِ، كَمَا إِذَا مَاتَ وَأُمُّهُ حَامِلٌ مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ وَزَوْجُهَا حَيٌّ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] أَشْهُرٍ لَا يَرِثُ لِاحْتِمَالِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَرِثُ بِالشَّكِّ إِلَّا أَنْ تُقِرَّ الْوَرَثَةُ بِحَمْلِهَا يَوْمَ الْمَوْتِ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ يَرِثُ لِأَنَّا تَيَقَّنَا بِوُجُودِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، ثُمَّ الْحَمْلُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَحْجُبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ أَوْ حَجْبَ نُقْصَانٍ أَوْ يَكُونَ مُشَارِكًا لَهُمْ، فَإِنْ كَانَ يَحْجُبُ حَجْبَ حِرْمَانٍ، فَإِنْ كَانَ يَحْجُبُ الْجَمِيعَ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَبَنِيهِمْ تُوقَفُ جَمِيعُ التَّرِكَةِ إِلَى أَنْ تَلِدَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ابْنًا، وَإِنْ كَانَ يَحْجُبُ الْبَعْضَ كَالْإِخْوَةِ وَالْجَدَّةِ تُعْطَى الْجَدَّةُ السُّدُسَ وَيُوقَفُ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ يَحْجُبُ حَجْبَ نُقْصَانٍ كَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ يُعْطَوْنَ أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي، وَكَذَلِكَ يُعْطَى الْأَبُ السُّدُسَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ابْنٌ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْجُبُهُمْ كَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ يُعْطَوْنَ نَصِيبَهُمْ وَيُوقَفُ الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْجُبُهُمْ وَلَكِنْ يُشَارِكُهُمْ بِأَنْ تَرَكَ بَنِينَ أَوْ بَنَاتٍ وَحَمْلًا. رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوقَفُ لَهُ نَصِيبُ أَرْبَعَةٍ مِنَ الْبَنِينَ أَوِ الْبَنَاتِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ لِأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فَيُوقَفُ ذَلِكَ احْتِيَاطًا، وَكَانَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مِمَّنْ حَمَلَتْ بِهِ أُمُّهُ مَعَ ثَلَاثَةٍ. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنَيْنِ لِأَنَّهُ كَثِيرُ الْوُقُوعِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ نَادِرٌ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ. وَرَوَى الْخَصَّافُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُ ابْنٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِأَنَّهُ الْغَالِبُ الْمُعْتَادُ وَمَا فَوْقَهُ مُحْتَمَلٌ، وَالْحُكْمُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ دُونَ الْمُحْتَمَلِ، فَإِنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ وَحَمْلًا، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْمُبَارَكِ يُوقَفُ ثُلُثَا الْمَالِ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ نِصْفُ الْمَالِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ثُلُثُ الْمَالِ، وَإِنْ وُلِدَ مَيِّتًا لَا حُكْمَ لَهُ وَلَا إِرْثَ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ حَيَاتُهُ بِأَنْ تَنَفَّسَ كَمَا وُلِدَ أَوِ اسْتَهَلَّ بِأَنْ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ أَوْ عَطَسَ أَوْ تَحَرَّكَ عُضْوٌ مِنْهُ كَعَيْنَيْهِ أَوْ شَفَتَيْهِ أَوْ يَدَيْهِ ; لِأَنَّ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تُعْلَمُ حَيَاتُهُ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِذَا اسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ وَرِثَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ» ، فَإِنْ خَرَجَ الْأَكْثَرُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ وَرِثَ، وَبِالْعَكْسِ لَا اعْتِبَارًا لِلْأَكْثَرِ، فَإِنْ خَرَجَ مُسْتَقِيمًا فَإِذَا خَرَجَ صَدْرُهُ وَرِثَ، وَإِنْ خَرَجَ مَنْكُوسًا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ سُرَّتِهِ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الِاسْتِهْلَالِ وَرِثَ وَوُرِثَ عَنْهُ. 1 - فَصْلٌ الْمَفْقُودُ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَحْكَامَهُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَمَتَى يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ فِي بَابِهِ، وَنَذْكُرُ هُنَا مَا يَخْتَصُّ بِالْإِرْثِ فَنَقُولُ: مَنْ مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ مِمَّنْ يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ يُوقَفُ نَصِيبُ الْمَفْقُودِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ لِاحْتِمَالِ بَقَائِهِ، فَإِذَا مَضَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الِاخْتِلَافِ وَلَمْ يُعْلَمْ حَالُهُ وَحَكَمْنَا بِمَوْتِهِ قُسِّمَتْ أَمْوَالُهُ بَيْنَ الْمَوْجُودِينَ مِنْ وَرَثَتِهِ كَمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا الْمَوْقُوفُ مِنْ تَرِكَةِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُرَدُّ عَلَى وَرَثَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ كَأَنَّ الْمَفْقُودَ لَمْ يَكُنَّ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِمْ وَارِثِينَ وَشَكَكْنَا فِيهِ، فَكَانَ تَوْرِيثُهُمْ أَوْلَى لِأَنَّ الشَّكَّ لَا يُعَارِضُ الْيَقِينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ إِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطَى شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْجَبُ وَلَكِنْ يُنْقَصُ يُعْطَى أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي. مِثَالُهُ: مَاتَ عَنْ بِنْتَيْنِ وَابْنٍ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ وَبِنْتِ ابْنٍ، يُعْطَى الْبِنْتَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ، وَلَا يُعْطَى وَلَدُ الِابْنِ شَيْئًا لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِهِ فَلَا يُعْطَوْنَ بِالشَّكِّ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ كَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ كَمَا فِي الْحَمْلِ. 1 - فَصْلٌ الْخُنْثَى قَدْ سَبَقَ فِي كِتَابِ الْخُنْثَى صُورَتُهُ وَأَحْكَامُهُ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى تَوْرِيثِهِ مِنْ مِثَالِهِ، وَنَذْكُرُ الْآنَ أَحْكَامَ مِيرَاثِهِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْطِيهِ أَخَسَّ النَّصِيبَيْنِ فِي الْمِيرَاثِ احْتِيَاطًا، فَلَوْ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهُ وَابْنًا فَلِلِابْنِ سَهْمَانِ وَلَهُ سَهْمٌ، وَلَوْ تَرَكَهُ وَبِنْتًا فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَرْضًا وَرَدًّا. أُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخُنْثَى لِأَبٍ وَعَصَبَةٌ، لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلِلْخُنْثَى السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ كَالْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ. زَوْجٌ وَأُمٌّ وَخُنْثَى لِأَبَوَيْنِ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْخُنْثَى وَيُجْعَلُ ذَكَرًا لِأَنَّهُ أَقَلُّ. زَوْجٌ وَأُخْتٌ لِأَبَوَيْنِ وَخُنْثَى لِأَبٍ: سَقَطَ وَيُجْعَلُ عَصَبَةً لِأَنَّهُ أَسْوَأُ الْحَالَيْنِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ -: لِلْخُنْثَى نِصْفُ نَصِيبِ ذَكَرٍ وَنِصْفُ نَصِيبِ أُنْثَى عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ. مِثَالُهُ: ابْنٌ وَخُنْثَى. قَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى قَوْلِ الشَّعْبِيِّ: الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلِابْنِ سَبْعَةٌ وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عَلَى سَبْعَةٍ، لِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ ; لِأَنَّ الِابْنَ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَالِ، وَالْخُنْثَى يَسْتَحِقُّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا فَيُضْرَبُ هَذَا بِأَرْبَعَةٍ وَهَذَا بِثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً. وَلِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْخُنْثَى لَوْ كَانَ ذَكَرًا كَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَلَوْ كَانَ أُنْثَى كَانَ أَثْلَاثًا فَيَحْتَاجُ إِلَى حِسَابٍ لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَأَقَلُّهُ سِتَّةٌ، فَلَوْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا يَكُونُ لَهُ ثَلَاثَةٌ، وَلَوْ كَانَ أُنْثَى فَاثْنَانِ فَسَهْمَانِ لَهُ بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سَهْمٍ فَيُنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهُ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَيُضَعَّفُ لِيَزُولَ الْكَسْرُ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ جَمِيعُ مَسَائِلِ الْخُنْثَى. 1 - فَصْلٌ قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوَانِعَ مِنَ الْإِرْثِ: الرِّقُّ، وَالْقَتْلُ، وَاخْتِلَافُ الْمِلَّتَيْنِ وَالدَّارَيْنِ حُكْمًا. أَمَّا الرِّقُّ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا مِلْكَ لَهُ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ وَالتَّمَلُّكِ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ. قَالَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ» فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يَحْجُبُ، فَإِنْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً أُدِّيَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ وَالْبَاقِي لِوَرَثَتِهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي بَابِهِ، وَالْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْعِتْقِ. وَأَمَّا الْكُفْرُ، فَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتَّى، لَا يَرِثُ كَافِرٌ مِنْ مُسْلِمٍ، وَلَا مُسْلِمٌ مِنْ كَافِرٍ» ، وَالْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ. رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ ضَلَالٌ وَهُوَ ضِدُّ الْإِسْلَامِ فَيُجْعَلُ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَيَتَوَارَثُونَ بِمَا يَتَوَارَثُ بِهِ أَهْلُ الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَسْبَابِ إِلَّا الْأَنْكِحَةَ الْبَاطِلَةَ، وَاخْتِلَافُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ دَارٍ مَلِكٌ عَلَى حِدَةٍ وَيَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِتَالَ الْآخَرِ كَالرُّومِ وَالصِّينِ ; لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَكُونُ الْوَلَايَةُ مُنْقَطِعَةً فِيمَا بَيْنَهُمْ كَدَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ. أَهْلُ الذِّمَّةِ وَأَهْلُ الْحَرْبِ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِهِمْ أَوْ مُسْتَأْمَنًا عِنْدَنَا لَا يَرِثُ الذِّمِّيَّ وَلَا يَرِثُهُ الذِّمِّيُّ لِانْقِطَاعِ الْوَلَايَةِ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الدَّارَيْنِ ; 1لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ بَاقٍ عَلَى حُكْمِ حَرْبِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى دَارِهِ، وَهَذَا مَعْنَى اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا، وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَأْمَنُ عِنْدَنَا وَتَرَكَ مَالًا يَجِبُ أَنْ نَبْعَثَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ وَفَاءً بِمُقْتَضَى الْأَمَانِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا وَارِثَ لَهُ فَمَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَا مُسْتَحِقَّ لَهُ، وَمِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ وَأَحْكَامُهُ مَرَّ فِي السِّيَرِ. وَأَمَّا الْقَتْلُ فَالْقَاتِلُ مُبَاشَرَةً بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَرِثُ مِنْ مَقْتُولِهِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ» مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ، وَقَتْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالْمُوَسْوَسِ لَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ لِأَنَّ الْحِرْمَانَ ثَبَتَ جَزَاءَ قَتْلٍ مَحْظُورٍ، وَفِعْلُ هَؤُلَاءِ لَيْسَ بِمَحْظُورٍ لِقُصُورِ الْخِطَابِ عَنْهُمْ فَصَارَ كَالْقَتْلِ بِحَقٍّ، وَالْحَدِيثُ خُصَّ عَنْهُ الْقَتْلُ بِحَقٍّ فَتُخَصُّ هَذِهِ الصُّوَرُ بِظَاهِرِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ، وَظَاهِرُ الْآيَاتِ أَقْوَى مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ. وَالتَّسْبِيبُ إِلَى الْقَتْلِ لَا يَحْرِمُ الْمِيرَاثَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ وَصَبِّ الْمَاءِ فِي الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ ; لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ حَقِيقَةً وَالتَّسْبِيبُ لَيْسَ قَتْلًا حَقِيقَةً لِأَنَّ الْقَتْلَ مَا يَحِلُّ فِي الْحَيِّ فَيُؤَثِّرُ فِي انْزِهَاقِ الرُّوحِ، وَالتَّسْبِيبُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ فِعْلٌ فِي غَيْرِهِ تَعَدَّى أَثَرُهُ إِلَيْهِ، وَصَارَ كَمَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي دَارِهِ فَأَحْرَقَ دَارَ جَارِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكُلُّ قَتْلٍ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ أَوِ الْكَفَّارَةَ كَانَ مُبَاشَرَةً فَيُحْرَمُ بِهِ الْمِيرَاثُ، وَمَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَهُوَ تَسْبِيبٌ لَا يَحْرِمُ الْمِيرَاثَ، وَالرَّاكِبُ مُبَاشِرٌ لِأَنَّ ثِقْلَهُ وَثِقْلَ الدَّابَّةِ اتَّصَلَ بِالْمَقْتُولِ فَكَأَنَّهُمَا وَطِئَاهُ جَمِيعًا، وَالنَّائِمُ يَنْقَلِبُ عَلَى مُورِثِهِ فَيَقْتُلُهُ مُبَاشِرًا، وَالْقَائِدُ وَالسَّائِقُ مُسَبِّبٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِلْ ثِقْلُهُ بِالْمَقْتُولِ فَلَا يَكُونُ مُبَاشِرًا، وَفِي قَتْلِ الْبَاغِي الْعَادِلَ وَعَكْسِهِ تَفْصِيلٌ وَخِلَافٌ عُرِفَ فِي السِّيَرِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 فصل الْمُنَاسَخَةُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ تُصَحَّحَ فَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَتُصَحَّحَ فَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي، فَإِنِ انْقَسَمَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْ فَرِيضَةِ الْأَوَّلِ عَلَى وَرَثَتِهِ فَقَدْ صَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ سِهَامِهِ وَمَسْأَلَتِهِ مُوَافَقَةٌ فَاضْرِبْ وَفْقَ التَصْحِيحِ الثَّانِي فِي التَّصْحِيحِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنَّ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ فَاضْرِبْ كُلَّ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ، فَالْحَاصِلُ مَخْرَجُ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَطَرِيقُ الْقِسْمَةِ أَنْ تَضْرِبَ سِهَامَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فِي الْمَضْرُوبِ، وَسِهَامَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي فِي كُلِّ مَا فِي يَدِهِ أَوْ فِي وَفْقِهِ، فَإِنْ مَاتَ ثَالِثٌ فَصَحِّحِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، وَانْظُرْ إِلَى سِهَامِ الثَّالِثِ مَعَهُمَا إِنْ كَانَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنِ انْقَسَمَتْ عَلَى مَسْأَلَتِهِ فَقَدْ صَحَّتِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ،   [الاختيار لتعليل المختار] [فصل في المناسخات] فَصْلٌ الْمُنَاسَخَاتُ (الْمُنَاسَخَةُ: أَنْ يَمُوتَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنْ تُصَحَّحَ فَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَتُصَحَّحَ فَرِيضَةُ الْمَيِّتِ الثَّانِي، فَإِنِ انْقَسَمَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنْ فَرِيضَةِ الْأَوَّلِ عَلَى وَرَثَتِهِ فَقَدْ صَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ) . مِثَالُهُ: ابْنٌ وَبِنْتٌ مَاتَ الِابْنُ عَنِ ابْنَيْنِ، فَرِيضَةُ الْأَوَّلِ مِنْ ثَلَاثَةٍ لِلِابْنِ سَهْمَانِ وَلِلْبِنْتِ سَهْمٌ، وَفَرِيضَةُ الثَّانِي مِنِ اثْنَيْنِ فَيُقْسَمُ نَصِيبُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ. (وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ سِهَامِهِ وَمَسْأَلَتِهِ مُوَافَقَةٌ فَاضْرِبْ وَفْقَ التَّصْحِيحِ الثَّانِي فِي التَّصْحِيحِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنَّ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ فَاضْرِبْ كُلَّ الثَّانِي فِي الْأَوَّلِ، فَالْحَاصِلُ مَخْرَجُ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَطَرِيقُ الْقِسْمَةِ أَنْ تَضْرِبَ سِهَامَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فِي الْمَضْرُوبِ، وَسِهَامَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ الثَّانِي فِي كُلِّ مَا فِي يَدِهِ أَوْ فِي وَفْقِهِ) لِأَنَّ تَرِكَةَ الثَّانِي بَعْضُ فَرِيضَةِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا صَارَ جَمِيعُ الْفَرِيضَةِ الْأُولَى مَضْرُوبًا فِي جَمِيعِ الثَّانِيَةِ صَارَ كُلُّ بَعْضٍ مِنْهَا مَضْرُوبًا فِي جَمِيعِ الثَّانِيَةِ فَتَصِيرُ جَمِيعُ الثَّانِيَةِ مَضْرُوبًا فِي بَعْضِ الْأُولَى وَهُوَ تَرِكَةُ الثَّانِي ضَرُورَةً لِأَنَّ الضَّرْبَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ. (فَإِنْ مَاتَ ثَالِثٌ فَصَحِّحِ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ) عَلَى مَا ذَكَرْنَا. (وَانْظُرْ إِلَى سِهَامِ الثَّالِثِ مَعَهُمَا إِنْ كَانَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، فَإِنِ انْقَسَمَتْ عَلَى مَسْأَلَتِهِ فَقَدْ صَحَّتِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 وَإِنْ لَمْ تَنْقَسِمْ فَاضْرِبْ مَسْأَلَتَهُ أَوْ وَفْقَهَا فِيمَا صَحَّتْ مِنْهُ الْأُولَيَانِ، فَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي وَفْقِهَا، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الثَّالِثَةِ مَضْرُوبٌ فِي سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ أَوْ فِي وَفْقِهَا، وَكَذَا إِنْ مَاتَ رَابِعٌ وَخَامِسٌ.   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِنْ لَمْ تَنْقَسِمْ فَاضْرِبْ مَسْأَلَتَهُ أَوْ وَفْقَهَا فِيمَا صَحَّتْ مِنْهُ الْأُولَيَانِ، فَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي وَفْقِهَا، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الثَّالِثَةِ مَضْرُوبٌ فِي سِهَامِ الْمَيِّتِ الثَّالِثِ أَوْ فِي وَفْقِهَا، وَكَذَا إِنْ مَاتَ رَابِعٌ وَخَامِسٌ) . مِثَالُهُ: امْرَأَةٌ وَأُمٌّ وَأُخْتٌ مِنْ أُمٍّ وَعَمٌّ، مَاتَ الْعَمُّ وَخَلَّفَ ابْنًا وَبِنْتًا، الْأُولَى مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَالثَّانِيَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِهَامُ الْعَمِّ ثَلَاثَةٌ تَسْتَقِيمُ عَلَى مَسْأَلَتِهِ فَقَدْ صَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ. آخَرُ: زَوْجَةٌ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَعَمٌّ، مَاتَتِ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَخَلَّفَتْ هَؤُلَاءِ، الْأُولَى مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سِتَّةٌ تَنْقَسِمُ عَلَى تَرِكَتِهَا فَصَحَّتِ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، حَصَلَ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ خَمْسَةٌ: سَهْمَانِ مِنَ الْأُولَى، وَثَلَاثَةٌ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ ثَلَاثَةٌ، مِنَ الْأُولَى سَهْمَانِ وَمِنَ الثَّانِيَةِ سَهْمٌ، وَلِلْعَمِّ سَهْمَانِ مِنَ الثَّانِيَةِ، وَلِلزَّوْجَةِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأُولَى. آخَرُ: زَوْجَةٌ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، مَاتَتِ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبَوَيْنِ وَخَلَّفَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُخْتًا لِأُمٍّ، الْأُولَى مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ سَبْعَةٍ، وَسِهَامُ الْمَيِّتِ الثَّانِي مِنَ التَّرِكَةِ الْأُولَى سِتَّةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عَلَى مَسْأَلَتِهَا وَهِيَ سَبْعَةٌ وَلَا مُوَافَقَةَ، فَاضْرِبْ سَبْعَةً فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَكُنَّ إِحْدَى وَتِسْعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ. آخَرُ: زَوْجَةٌ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٌ وَأُمٌّ وَأَخٌ لِأُمٍّ مِنْ سَبْعَةَ عَشَرَ، مَاتَتِ الْأُمُّ وَخَلَّفَتْ أَبًا وَأُمًّا وَابْنًا وَابْنَتَيْنِ مِنْ سِتَّةٍ وَسِهَامُهَا مِنَ الْأَوْلَى اثْنَانِ لَا تَسْتَقِيمُ عَلَى مَسْأَلَتِهَا لَكِنْ تُوَافَقُ بِالنِّصْفِ، فَاضْرِبْ وَفْقَ مَسْأَلَتِهَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي سَبْعَةَ عَشَرَ يَكُنَّ إِحْدَى وَخَمْسِينَ مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ، فَكُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الْأُولَى مَضْرُوبٌ فِي ثَلَاثَةٍ، وَمَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّانِيَةِ مَضْرُوبٌ فِي وَاحِدٍ فَيَكُونُ لِلْمَرْأَةِ تِسْعَةٌ وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ سِتَّةٌ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ سِتَّةٌ، وَلِلْأَخِ مِنَ الْأُمِّ سِتَّةٌ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَبَوَيْنِ سَهْمٌ وَاحِدٌ. آخَرُ: ابْنَانِ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ بِنْتًا وَأَخًا، ثُمَّ مَاتَتِ الْبِنْتُ وَتَرَكَتْ زَوْجًا وَبِنْتًا وَعَمًّا هُوَ ابْنُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ، الْأُولَى مِنِ اثْنَيْنِ وَكَذَلِكَ الثَّانِيَةُ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، اضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي مَبْلَغِ الْفَرِيضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ تَكُنْ سِتَّةَ عَشَرَ مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسَائِلُ، لِلْعَمِّ مِنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ سَهْمَانِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْأَبِ، وَسَهْمٌ مِنَ الْأَخِ اضْرِبْهَا فِي أَرْبَعَةٍ يَكُنَّ اثْنَيْ عَشَرَ، وَكَانَ لِلْمَيِّتِ الثَّالِثِ سَهْمٌ مِنْ أَبِيهَا مَضْرُوبٌ فِي أَرْبَعَةٍ يَسْتَقِيمُ عَلَى وَرَثَتِهَا، لِلْبِنْتِ سَهْمَانِ، وَلِلزَّوْجِ سَهْمٌ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 حِسَابُ الْفَرَائِضُ اعْلَمْ أَنَّ الْفُرُوضَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ النِّصْفُ وَالرُبُعُ وَالثُّمُنُ. وَالثَّانِي الثُّلُثُ وَالثُلُثَانِ وَالسُّدُسُ، فَالنِّصْفُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَالرُّبُعُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالثُّمُنُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالثُلُثَانِ وَالثُلُثُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالسُّدُسُ وَالسُّدُسَانِ مِنْ سِتَّةٍ، فَإِذَا اخْتَلَطَ النِّصْفُ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِكُلِّ النَّوْعِ الثَّانِي أَوْ بِبَعْضِهِ أَوْ بِاثْنَيْنِ فَهِيَ مِنَ سِّتَّةٍ، وَإِنِ اخْتَلَطَ الرُّبُعُ بِالْكُلِّ أَوْ بِبَعْضِهِ فَمِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنِ اخْتَلَطَ الثُّمُنُ كَذَلِكَ فَمِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ؛   [الاختيار لتعليل المختار] وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ وَهُوَ سَهْمٌ فَحَصَلَ لَهُ وَهُوَ ابْنُ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ وَأَخُ الثَّانِي وَعَمُّ الثَّالِثِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنَ الْمَسَائِلِ، مِنَ الْأُولَى ثَمَانِيَةٌ، وَمِنَ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةٌ، وَمِنَ الثَّالِثَةِ سَهْمٌ. آخَرُ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَبِنْتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ عَنِ امْرَأَةٍ وَبِنْتٍ وَعَصَبَةٍ، الْأُولَى مِنْ سِتَّةٍ وَالثَّانِيَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَسِهَامُهُ مِنَ الْأَوَّلِ اثْنَانِ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى مَسْأَلَتِهِ لَكِنْ يُوَافِقُ فَرِيضَةً بِالنِّصْفِ فَاضْرِبْ وَفْقَ فَرِيضَتِهِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي الْفَرِيضَةِ الْأُولَى وَهِيَ سِتَّةٌ تَكُنْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَتَانِ، كَانَ لِلِابْنِ مِنَ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ سَهْمَانِ مَضْرُوبَانِ فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنَّ ثَمَانِيَةً، وَلِلْبِنْتَيْنِ سَهْمَانِ مَضْرُوبَانِ فِي أَرْبَعَةٍ ثَمَانِيَةً، وَلِلزَّوْجَةِ سَهْمٌ مَضْرُوبٌ فِي وَفْقِ فَرِيضَةٍ وَهُوَ سَهْمٌ يَكُونُ لَهَا، وَلِلْبِنْتِ أَرْبَعَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي سَهْمٍ هِيَ لَهَا، وَلِلْعَمِّ ثَلَاثَةٌ فِي سَهْمٍ هِيَ لَهُ، وَلَوْ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَعَصَبَةٍ تَصِحُّ مِنْ سِتَّةٍ، وَسِهَامُهَا مِنَ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةٌ، وَبَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَاضْرِبْ وَفْقَ فَرِيضَتِهَا وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فِي مَبْلَغِ الْفَرِيضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ تَكُنَّ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسَائِلُ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ جَمِيعُ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ، وَالَّذِي يُسَهِّلُ ذَلِكَ الْمُبَاشَرَةُ وَكَثْرَةُ الْعَمَلِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. [حِسَابُ الْفَرَائِضُ] ُ (اعْلَمْ أَنَّ الْفُرُوضَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ النِّصْفُ وَالرُّبُعُ وَالثُّمُنُ. وَالثَّانِي الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَالسُّدُسُ) وَمَخْرَجُ كُلِّ كَسْرٍ عَدَدُ مَا فِي الْوَاحِدِ مِنْ أَمْثَالِهِ وَمَخْرَجُ الْكَسْرِ الْمُكَرَّرِ مَخْرَجُ الْكَسْرِ الْمُفْرَدِ كَالثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ وَالسُّدُسِ وَالسُّدُسَيْنِ. (فَالنِّصْفُ مِنِ اثْنَيْنِ، وَالرُّبُعُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالثُّمُنُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالثُّلُثَانِ وَالثُّلُثُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالسُّدُسُ وَالسُّدُسَانِ مِنْ سِتَّةٍ، فَإِذَا اخْتَلَطَ النِّصْفُ مِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِكُلِّ النَّوْعِ الثَّانِي) وَهُوَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَالسُّدُسُ. (أَوْ بِبَعْضِهِ) أَيْ بِوَاحِدٍ مِنْهَا. (أَوْ بِاثْنَيْنِ فَهِيَ مِنْ سِتَّةٍ، وَإِنِ اخْتَلَطَ الرُّبُعُ بِالْكُلِّ أَوْ بِبَعْضِهِ فَمِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَإِنِ اخْتَلَطَ الثُّمُنُ كَذَلِكَ فَمِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ) وَقَدْ تَقَدَّمَ أَمْثِلَتُهُ فِي فَصْلِ الْعَوْلِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 فَإِذَا صَحَّتِ الْفَرِيضَةُ، فَإِنِ انْقَسَمَتْ سِهَامُ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ لِلضَّرْبِ، وَإِنِ انْكَسَرَتْ فَاضْرِبْ عَدَدَ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوِّلَهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً فَمَا خَرَجَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ، وَإِنْ وَافَقَ سِهَامُهُمْ عَدَدَهُمْ فَاضْرِبْ وَفْقَ عَدَدِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنِ انْكَسَرَتْ عَلَى فَرِيقَيْنِ فَاطْلُبِ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ سِهَامِ كُلِّ فَرِيقٍ وَعَدَدِهِمْ ثُمَّ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ فَاضْرِبْ أَحَدَهُمَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَا مُتَدَاخِلَيْنِ فَاضْرِبْ أَكْثَرَهُمَا، وَإِنْ كَانَا مُتَوَافِقَيْنِ فَاضْرِبْ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَمَا خَرَجَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَانْ كَانَا مُتَبَايِنَيْنِ فَاضْرِبْ كُلَّ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ثُمَّ الْمَجْمُوعَ فِي الْمَسْأَلَةِ،   [الاختيار لتعليل المختار] (فَإِذَا صَحَّتِ الْفَرِيضَةُ، فَإِنِ انْقَسَمَتْ سِهَامُ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ لِلضَّرْبِ، وَإِنِ انْكَسَرَتْ فَاضْرِبْ عَدَدَ رُءُوسِ مَنِ انْكَسَرَ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَعَوْلِهَا إِنْ كَانَتْ عَائِلَةً فَمَا خَرَجَ صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ) . مِثَالُهُ: امْرَأَةٌ وَأَخَوَانِ لِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ؛ سَهْمٌ، يَبْقَى ثَلَاثَةٌ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَخَوَيْنِ وَلَا يُوَافِقُهُ فَاضْرِبِ اثْنَيْنِ فِي أَرْبَعَةٍ يَكُنَّ ثَمَانِيَةً مِنْهَا تَصِحُّ. (وَإِنْ وَافَقَ سِهَامُهُمْ عَدَدَهُمْ فَاضْرِبْ وَفْقَ عَدَدِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ) . مِثَالُهُ: امْرَأَةٌ وَسِتَّةُ إِخْوَةٍ، لِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عَلَى سِتَّةٍ وَبَيْنَهُمَا مُوَافِقَةٌ بِالثُّلُثِ، فَاضْرِبْ وَفْقَ عَدَدِهِمْ وَهُوَ اثْنَانِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ تَكُنَّ ثَمَانِيَةً مِنْهَا تَصِحُّ، كَانَ لِلزَّوْجَةِ سَهْمٌ فِي اثْنَيْنِ تَكُنَّ اثْنَيْنِ، وَلِلْإِخْوَةِ ثَلَاثَةٌ فِي اثْنَيْنِ يَكُنَّ سِتَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ سَهْمٌ. آخَرُ: زَوْجَةٌ وَسِتَّةُ إِخْوَةٍ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ لِأَبَوَيْنِ، أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ، لِلزَّوْجَةِ سَهْمٌ يَبْقَى ثَلَاثَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ لَكِنَّ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةً بِالثُّلُثِ فَتَرْجِعُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ إِلَى ثُلُثِهَا وَهُوَ خَمْسَةٌ فَاضْرِبْ خَمْسَةً فِي أَرْبَعَةٍ تَكُنْ عِشْرِينَ مِنْهَا تَصِحُّ. (وَإِنِ انْكَسَرَتْ عَلَى فَرِيقَيْنِ فَاطْلُبِ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَ سِهَامِ كُلِّ فَرِيقٍ وَعَدَدِهِمْ ثُمَّ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ، فَإِنْ كَانَا مُتَمَاثِلَيْنِ فَاضْرِبْ أَحَدَهُمَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَا مُتَدَاخِلَيْنِ فَاضْرِبْ أَكْثَرَهُمَا، وَإِنْ كَانَا مُتَوَافِقَيْنِ فَاضْرِبْ وَفْقَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَمَا خَرَجَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَا مُتَبَايِنَيْنِ فَاضْرِبْ كُلَّ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ثُمَّ الْمَجْمُوعَ فِي الْمَسْأَلَةِ) . مِثَالُهُ: ثَلَاثَةُ أَعْمَامٍ وَثَلَاثُ بَنَاتٍ، لِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ يَبْقَى سَهْمٌ لِلْأَعْمَامِ فَقَدِ انْكَسَرَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَهُمَا مُتَمَاثِلَانِ فَاضْرِبْ عَدَدَ أَحَدِهِمَا وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ تَكُنْ تِسْعَةً مِنْهَا تَصِحُّ. آخَرُ: خَمْسُ جَدَّاتٍ وَخَمْسُ أَخَوَاتٍ لِأَبَوَيْنِ وَعَمٌّ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ السِّهَامِ وَالْأَعْدَادِ لَكِنَّ الْأَعْدَادَ مُتَمَاثِلَةٌ، فَاضْرِبْ أَحَدَهُمَا وَهُوَ خَمْسَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ تَكُنَّ ثَلَاثِينَ مِنْهَا تَصِحُّ. آخَرُ: جَدَّةٌ وَسِتُّ أَخَوَاتٍ لِأَبَوَيْنِ وَتِسْعُ أَخَوَاتٍ لِأُمٍّ مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ، لِلْجَدَّةِ سَهْمٌ وَلِلْأَخَوَاتِ لِأُمٍّ سَهْمَانِ وَلَا مُوَافَقَةَ، وَلِلْأَخَوَاتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 وَإِنِ انْكَسَرَ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ أَوْ أَكْثَرَ فَكَذَلِكَ تُطْلَبُ الْمُشَارَكَةُ أَوَّلًا بَيْنَ السِّهَامِ وَالْأَعْدَادِ، ثُمَّ بَيْنَ الْأَعْدَادِ وَالْأَعْدَادِ، ثُمَّ افْعَلْ كَمَا فَعَلْتَ فِي الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمُدَاخَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالْمُبَايَنَةِ وَمَا حَصَلَ مِنَ الضَّرْبِ بَيْنَ الْفِرَقِ وَسِهَامِهِمْ يُسَمَّى جُزْءَ السَّهْمِ فَاضْرِبْهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ.   [الاختيار لتعليل المختار] لِأَبَوَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَبَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَتَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي التِّسْعَةِ، فَاضْرِبْ تِسْعَةً فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ سَبْعَةٌ تَكُنْ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ مِنْهَا تَصِحُّ. آخَرُ: بِنْتٌ وَسِتُّ جَدَّاتٍ وَأَرْبَعُ بَنَاتِ ابْنٍ وَعَمٌّ، مِنْ سِتَّةٍ وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ السِّهَامِ وَالْأَعْدَادِ، لَكِنَّ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَهِيَ السِّتَّةُ وَالْأَرْبَعَةِ مُوَافَقَةً بِالنِّصْفِ فَاضْرِبْ نِصْفَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ يَكُنَّ اثْنَيْ عَشَرَ ثُمَّ اضْرِبِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ يَكُنَّ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ. آخَرُ: زَوْجَةٌ وَسِتَّ عَشْرَةَ أُخْتًا لِأُمٍّ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ عَمًّا رُبُعٌ وَثُلُثٌ وَمَا بَقِيَ أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، وَبَيْنَ سِهَامِ الْأَخَوَاتِ وَعَدَدِهِنَّ مُوَافَقَةٌ بِالرُّبُعِ فَتَرْجِعُ إِلَى أَرْبَعَةٍ، وَبَيْنَ الْأَعْمَامِ وَسِهَامِهِمْ مُوَافَقَةٌ بِالْخُمُسِ فَتَرْجِعُ إِلَى خُمُسِهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ الْأَعْدَادِ، فَاضْرِبْ أَحَدَ الْعَدَدَيْنِ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ فِي الْآخَرِ وَهُوَ خَمْسَةٌ يَكُنَّ عِشْرِينَ ثُمَّ اضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ اثْنَيْ عَشَرَ يَكُنَّ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ. (وَإِنِ انْكَسَرَ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ أَوْ أَكْثَرَ فَكَذَلِكَ تُطْلَبُ الْمُشَارَكَةُ أَوَّلًا بَيْنَ السِّهَامِ وَالْأَعْدَادِ، ثُمَّ بَيْنَ الْأَعْدَادِ وَالْأَعْدَادِ، ثُمَّ افْعَلْ كَمَا فَعَلْتَ فِي الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمُدَاخَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ وَالْمُوَافَقَةِ وَالْمُبَايَنَةِ) وَلَا يُتَصَوَّرُ الْكَسْرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ فِرَقٍ فِي الْفَرَائِضِ. (وَمَا حَصَلَ مِنَ الضَّرْبِ بَيْنَ الْفِرَقِ وَسِهَامِهِمْ يُسَمَّى جُزْءَ السَّهْمِ فَاضْرِبْهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ) . مِثَالُهُ: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَثَلَاثُ جَدَّاتٍ وَاثْنَا عَشَرَ عَمًّا، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجَاتِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ سَهْمَانِ، وَلِلْأَعْمَامِ مَا بَقِيَ سَبْعَةٌ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ الْأَعْدَادِ وَالسِّهَامِ، لَكِنَّ الْأَعْدَادَ مُتَدَاخِلَةٌ، فَاضْرِبْ أَكْثَرَهَا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ تَكُنَّ مِائَةً وَأَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ، كَانَ لِلزَّوْجَاتِ ثَلَاثَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ تَكُنَّ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ لِكُلِّ زَوْجَةٍ تِسْعَةٌ، وَكَانَ لِلْجَدَّاتِ سَهْمَانِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ لِكُلِّ جَدَّةٍ ثَمَانِيَةٌ، وَكَانَ لِلْأَعْمَامِ سَبْعَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ لِكُلِّ عَمٍّ سَبْعَةٌ. آخَرُ: سِتُّ جَدَّاتٍ وَتِسْعُ بَنَاتٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ عَمًّا أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، لِلْجَدَّاتِ سَهْمٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا مُوَافَقَةَ، وَلِلْبَنَاتِ أَرْبَعَةٌ كَذَلِكَ، وَلِلْأَعْمَامِ سَهْمٌ كَذَلِكَ، وَبَيْنَ أَعْدَادِهِمْ مُوَافَقَةٌ، فَاضْرِبْ ثُلُثَ الْجَدَّاتِ وَهُوَ اثْنَانِ فِي عَدَدِ الْبَنَاتِ وَهُوَ تِسْعَةٌ تَكُنَّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، ثُمَّ اضْرِبْ وَفْقَهَا الثُّلُثَ وَهُوَ سِتَّةٌ فِي عَدَدِ الْأَعْمَامِ وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ تَكُنْ تِسْعِينَ، ثُمَّ اضْرِبِ التِسْعِينَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ تَكُنَّ خَمْسَمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ. آخَرُ: زَوْجَتَانِ وَعَشْرُ جَدَّاتٍ وَأَرْبَعُونَ أُخْتًا لِأُمٍّ وَعِشْرُونَ عَمًّا، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ لِلزَّوْجَتَيْنِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ لَا تَنْقَسِمُ وَلَا مُوَافَقَةَ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ سَهْمَانِ لَا يَنْقَسِمُ لَكِنَّ بَيْنَهُمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] مُوَافِقَةً بِالنِّصْفِ فَيَرْجِعُ إِلَى نِصْفِهَا وَهِيَ خَمْسَةٌ، وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثُ أَرْبَعَةٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَكِنْ يُوَافِقُ بِالرُّبُعِ فَيَرْجِعُ إِلَى رُبُعِهَا وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَلِلْأَعْمَامِ مَا بَقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَا مُوَافَقَةَ وَالْخَمْسَةُ وَالْعَشَرَةُ دَاخِلَةٌ فِي الْعِشْرِينَ، فَاضْرِبْ عِشْرِينَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ تَكُنَّ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ. آخَرُ: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَخَمْسَ عَشْرَةَ جَدَّةً وَثَمَانِيَ عَشْرَةَ بِنْتًا وَسِتَّةُ أَعْمَامٍ، أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ لَا يَسْتَقِيمُ وَلَا يُوَافِقُ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ كَذَلِكَ، وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ بَيْنَهُمْ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَيُرْجَعُ إِلَى النِّصْفِ وَهِيَ تِسْعَةٌ، بَقِيَ لِلْأَعْمَامِ سَهْمٌ مَعَنَا أَرْبَعَةٌ وَخَمْسَةَ عَشَرَ وَتِسْعَةٌ وَسِتَّةٌ وَبَيْنَ التِّسْعَةِ وَالسِّتَّةِ مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ فَاضْرِبْ ثُلُثَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ يَكُنَّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ أَيْضًا، فَاضْرِبْ ثُلُثَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ يَكُنَّ تِسْعِينَ وَهِيَ تُوَافِقُ الْأَرْبَعَةَ بِالنِّصْفِ فَاضْرِبِ اثْنَيْنِ فِي التِسْعِينَ يَكُنَّ مِائَةً وَثَمَانِينَ اضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ يَكُنَّ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْهَا تَصِحُّ. آخَرُ: زَوْجَتَانِ وَعَشْرُ بَنَاتٍ وَسِتُّ جَدَّاتٍ وَسَبْعَةُ أَعْمَامٍ، مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، لِلزَّوْجَتَيْنِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يُوَافِقُ، وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ فَتَرْجِعُ إِلَى خَمْسَةٍ، لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ أَيْضًا يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَلِلْأَعْمَامِ سَهْمٌ، هُنَا اثْنَانِ وَخَمْسَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَسَبْعَةٌ كُلُّهَا مُتَبَايِنَةٌ فَاضْرِبِ اثْنَيْنِ فِي خَمْسَةٍ تَكُنَّ عَشَرَةً، اضْرِبْهَا فِي ثَلَاثَةٍ تَكُنَّ ثَلَاثِينَ، اضْرِبْهَا فِي سَبْعَةٍ تَكُنَّ مِائَتَيْنِ وَعَشَرَةً، اضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ تَكُنَّ خَمْسَةَ آلَافٍ وَأَرْبَعِينَ. 1 - فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ التَّوَافُقِ وَالتَّمَاثُلِ وَالتَّدَاخُلِ وَالتَّبَايُنِ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ عَدَدَيْنِ لَا يَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ. أَمَّا الْمُتَمَاثِلَانِ ; فَهُمَا الْمُتَسَاوِيَانِ كَالثَّلَاثَةِ وَالثَّلَاثَةِ، وَالْخَمْسَةِ وَالْخَمْسَةِ وَهَذَا يُعْرَفُ بِالْبَدِيهِيَّةِ. وَأَمَّا الْمُتَدَاخِلَانِ فَكُلُّ عَدَدَيْنِ أَحَدُهُمَا جُزْءُ الْآخَرِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ كَالثَّلَاثَةِ مَعَ التِّسْعَةِ وَالْأَرْبَعَةِ مَعَ الِاثْنَيْ عَشَرَ، فَالثَّلَاثَةُ ثُلُثُ التِّسْعَةِ، وَالْأَرْبَعَةُ ثُلُثُ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَالْأَرْبَعَةُ نِصْفُ الثَّمَانِيَةِ، وَكَذَلِكَ الثَّلَاثَةُ مَعَ السِّتَّةِ. طَرِيقُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَنْ تُسْقِطَ الْأَقَلَّ مِنَ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ فَنَى بِهِ فَهُمَا مُتَدَاخِلَانِ كَالْخَمْسَةِ وَالْأَرْبَعَةِ مَعَ الْعِشْرِينَ، فَإِنَّكَ إِذَا أَسْقَطْتَ الْخَمْسَةَ مِنَ الْعِشْرِينَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، أَوِ الْأَرْبَعَةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَنِيَتِ الْعِشْرُونَ فَعَلِمْتَ أَنَّهُمَا مُتَدَاخِلَانِ. أَوْ نَقُولُ: كُلُّ عَدَدَيْنِ يَنْقَسِمُ الْأَكْثَرُ عَلَى الْأَقَلِّ قِسْمَةً صَحِيحَةً فَهُمَا مُتَدَاخِلَانِ كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنَّكَ إِذَا قَسَمْتَ الْعِشْرِينَ عَلَى الْخَمْسَةِ يَجِيءُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ صَحِيحَةٌ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَسَمْتَهَا عَلَى الْأَرْبَعَةِ يَجِيءُ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ صَحِيحَةٌ. وَأَمَّا الْمُتَوَافِقَانِ ; فَكُلُّ عَدَدَيْنِ لَا يُفْنِي أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَلَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهِ لَكِنْ يُفْنِيهِمَا عَدَدٌ آخَرُ يَكُونَانِ مُتَوَافِقَيْنِ بِجُزْءِ الْعَدَدِ الْمُفْنِي: كَالثَّمَانِيَةِ مَعَ الِاثْنَيْ عَشَرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] تُفْنِيهِمَا أَرْبَعَةٌ فَهُمَا مُتَوَافِقَانِ بِالرُّبُعِ، وَكَذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ مَعَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يُفْنِيهِمَا خَمْسَةٌ فَتُوَافِقُهُمَا بِالْخُمُسِ، وَقَدْ يُفْنِيهِمَا أَعْدَادٌ كَاثْنَيْ عَشَرَ وَثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يُفْنِيهِمَا السِّتَّةُ وَالثَّلَاثَةُ وَالِاثْنَانِ فَيُؤْخَذُ جُزْءُ الْوَفْقِ مِنْ أَكْثَرِ الْأَعْدَادِ فَيَكُونُ أَخْصَرَ فِي الضَّرْبِ وَالْحِسَابِ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمُوَافَقَةِ أَنْ يَنْقُصَ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ أَبَدًا، فَمَا بَقِيَ فَخُذْ جُزْءَ الْمُوَافَقَةِ مِنْ ذَلِكَ كَخَمْسَةَ عَشَرَ مَعَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، فَإِنَّكَ إِذَا نَقَصْتَ مِنْهَا الْخَمْسَةَ عَشَرَ تَبْقَى عَشَرَةٌ، فَإِذَا نَقَصَتِ الْعَشَرَةُ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ تَبْقَى خَمْسَةٌ، فَإِذَا نَقَصَتِ الْخَمْسَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ تَبْقَى خَمْسَةٌ فَتَأْخُذُ جُزْءَ الْمُوَافَقَةِ مِنْ خَمْسَةٍ. وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ جُزْءِ الْمُوَافَقَةِ أَنْ تَنْسُبَ الْوَاحِدَ إِلَى الْعَدَدِ الْبَاقِي فَمَا كَانَ مِنْ نِسْبَةِ الْوَاحِدِ إِلَيْهِ فَهُوَ جُزْءُ التَّوَافُقِ، مِثَالُهُ مَا ذَكَرْنَا. بَقِيَ خَمْسَةٌ انْسُبِ الْوَاحِدَ إِلَيْهَا تَكُنْ خُمُسًا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُوَافَقَةَ بَيْنَهُمَا بِالْأَخْمَاسِ، وَإِنْ كَانَ الْجُزْءُ الْمُفْنِي أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ كَالسِّتَّةِ وَالثَلَاثِينَ وَالْأَرْبَعَةِ وَالْخَمْسِينَ فَالَّذِي يُفْنِيهِمَا الثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَاثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ يُفْنِيهِمَا أَحَدَ عَشَرَ، وَثَلَاثُونَ وَخَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ يُفْنِيهِمَا خَمْسَةَ عَشَرَ، فَانْظُرْ فَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ الْمُفْنِي فَرْدًا أَوَّلًا وَهُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ جُزْءٌ صَحِيحٌ: أَيْ لَا يَتَرَكَّبُ مِنْ ضَرْبِ عَدَدٍ فِي عَدَدٍ كَأَحَدَ عَشَرَ فَقُلِ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَهُمَا جُزْءٌ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ الْمُفْنِي زَوْجًا كَالثَمَانِيَةَ عَشَرَ فِيمَا ذَكَرْنَا، أَوْ فَرْدًا مُرَكَّبًا وَهُوَ الَّذِي لَهُ جُزْءَانِ صَحِيحَانِ أَوْ أَكْثَرُ كَخَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّ لَهَا جُزْءَيْنِ صَحِيحَيْنِ وَهُوَ الْخَمْسُ ثَلَاثَةً وَالثَّلَاثُ خَمْسَةً، وَيُسَمَّى مُرَكَّبًا لِأَنَّهُ يَتَرَكَّبُ مِنْ ضَرْبِ عَدَدٍ فِي عَدَدٍ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ فِي خَمْسَةٍ، فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَقُولَ كَمَا قُلْتَ فِي الْفَرْدِ الْأَوَّلِ هُوَ مُوَافِقٌ بِجُزْءٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَبِجُزْءٍ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَنْسُبَ الْوَاحِدَ إِلَيْهِ بِكَسْرَيْنِ يَنْضَافُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ فَتَقُولُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ بَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِثُلُثِ الْخُمُسِ وَفِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ بِثُلُثِ السُّدُسِ، وَقِسْ عَلَيْهِ نَظَائِرَهُ. أَمَّا الْمُتَبَايِنَانِ ; فَكُلُّ عَدَدَيْنِ لَيْسَا مُتَدَاخِلَيْنِ وَلَا مُتَمَاثِلَيْنِ وَلَا يُفْنِيهِمَا إِلَّا الْوَاحِدُ كَالْخَمْسَةِ مَعَ السَّبْعَةِ، وَالسَّبْعَةِ مَعَ التِّسْعَةِ، وَأَحَدَ عَشَرَ مَعَ عِشْرِينَ وَأَمْثَالِهِ. وَإِذَا صَحَّحْتَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الطُّرُقِ وَأَرْدَتْ أَنْ تَعْرِفَ نَصِيبَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ التَّصْحِيحِ فَاضْرِبْ مَا كَانَ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا ضَرَبْتَهُ فِي أَصْلِهَا فَمَا خَرَجَ فَهُوَ نَصِيبُ ذَلِكَ الْفَرِيقِ وَمَعْرِفَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَارِثٍ أَنْ تَضْرِبَ سِهَامَهُ فِيمَا ضَرَبْتَهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ يَخْرُجُ نَصِيبُهُ. مِثَالُهُ: أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَسِتُّ أَخَوَاتٍ لِأَبَوَيْنِ وَعَشَرَةُ أَعْمَامٍ، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ، لِلزَّوْجَاتِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ وَلَا تُوَافِقُ، وَلِلْأَخَوَاتِ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ لَا تَسْتَقِيمُ لَكِنْ يُوَافِقُ بِالنِّصْفِ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ، وَلِلْأَعْمَامِ وَاحِدٌ، هُنَا أَرْبَعَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَعَشَرَةٌ، بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ وَالْعَشَرَةِ مُوَافَقَةٌ بِالنِّصْفِ، فَاضْرِبْ نِصْفَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ يَكُنَّ عِشْرِينَ، ثُمَّ اضْرِبِ الْعِشْرِينَ فِي ثَلَاثَةٍ يَكُنَّ سِتِّينَ، اضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ اثْنَيْ عَشَرَ يَكُنَّ سَبْعَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْهَا تَصِحُّ، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ نَصِيبَ كُلِّ فَرِيقٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 فَصْلٌ وَإِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَأَرَدْتَ أَنْ تَقْسِمَهَا عَلَى سِهَامِ الْوَرَثَةِ فَاضْرِبْ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ التَصْحِيحِ فِي التَّرِكَةِ ثُمَّ اقْسِمِ الْمَبْلَغَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَ التَّرِكَةِ وَالتَصْحِيحِ مُوَافَقَةٌ فَاضْرِبْ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ التَّصْحِيحِ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ، ثُمَّ اقْسِمِ الْمَبْلَغَ عَلَى وَفْقِ التَّصْحِيحِ يَخْرُجُ نَصِيبُ ذَلِكَ الْوَارِثِ،   [الاختيار لتعليل المختار] فَقُلْ: كَانَ لِلزَّوْجَاتِ ثَلَاثَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِيمَا ضَرَبْتَهُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ سِتُّونَ تَكُنَّ مِائَةً وَثَمَانِينَ، وَكَانَ لِلْأَخَوَاتِ ثَمَانِيَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي سِتِّينَ يَكُنَّ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ، وَكَانَ لِلْأَعْمَامِ سَهْمٌ فِي سِتِّينَ تَكُنَّ سِتِّينَ، وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ فَقُلْ: كَانَ لِكُلِّ زَوْجَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ سَهْمٍ مَضْرُوبَةٌ فِي سِتِّينَ تَكُنَّ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَكَانَ لِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ وَثُلُثٌ فِي سِتِّينَ يَكُنَّ ثَمَانِينَ، وَلِكُلِّ عَمٍّ عُشْرُ سَهْمٍ فِي سِتِّينَ تَكُنَّ سِتَّةً، فَهَذَا بَيَانُ تَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ وَمَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُلِّ فَرِيقٍ وَكُلِّ وَارِثٍ، فَقِسْ عَلَيْهِ أَمْثَالَهُ وَاعْمَلْ بِمَا أَوْضَحْتُهُ مِنَ الطُّرُقِ تَجِدْهُ كَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَطَرِيقٌ آخَرُ لِمَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُلِّ فَرْدٍ: أَنْ تَقْسِمَ الْمَضْرُوبَ عَلَى أَيِّ فَرِيقٍ شِئْتَ ثُمَّ اضْرِبِ الْخَارِجَ فِي نَصِيبِ ذَلِكَ الْفَرِيقِ فَالْحَاصِلُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ الْفَرِيقِ. مِثَالُهُ: مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمَضْرُوبُ سِتُّونَ تَقْسِمُهُ عَلَى الزَّوْجَاتِ الْأَرْبَعِ تَخَرُجُ خَمْسَةَ عَشَرَ تَضْرِبُ فِي نَصِيبِ الزَّوْجَاتِ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ تَكُنَّ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَهُوَ نَصِيبُ كُلِّ زَوْجَةٍ، وَلَوْ قَسَّمْتَهَا عَلَى الْأَخَوَاتِ يَخْرُجُ لِكُلِّ أُخْتٍ عَشَرَةٌ تَضْرِبُهَا فِي سِهَامِهِنَّ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ تَكُنَّ ثَمَانِينَ هِيَ لِكُلِّ أُخْتٍ، وَلَوْ قَسَّمْتَهَا عَلَى الْأَعْمَامِ تَخْرُجُ سِتَّةً تَضْرِبُهَا فِي نَصِيبِهِمْ وَهُوَ سَهْمٌ يَكُنَّ سِتَّةً لِكُلِّ عَمٍّ. وَطَرِيقٌ آخَرُ: طَرِيقُ النِّسْبَةِ، أَنْ تُنْسَبَ سِهَامُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ تُعْطَى بِمِثْلِ تِلْكَ النِّسْبَةِ مِنَ الْمَضْرُوبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْفَرِيقِ. وَمِثَالُهُ مَسْأَلَتُنَا فَنَقُولُ: سِهَامُ الزَّوْجَاتِ ثَلَاثَةٌ يَنْسُبُهَا إِلَى عَدَدِهِنَّ وَهُوَ أَرْبَعٌ يَكُنَّ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَضْرُوبِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَهَكَذَا تَعْمَلُ فِي نَصِيبِ الْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ. [فصل تَصْحِيحُ الْمَسَائِلِ] فَصْلٌ فِي قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ (وَإِذَا كَانَتِ التَّرِكَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَأَرَدْتَ أَنْ تَقْسِمَهَا عَلَى سِهَامِ الْوَرَثَةِ، فَاضْرِبْ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ التَّصْحِيحِ فِي التَّرِكَةِ، ثُمَّ اقْسِمِ الْمَبْلَغَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ التَّرِكَةِ وَالتَّصْحِيحِ مُوَافَقَةٌ فَاضْرِبْ سِهَامَ كُلِّ وَارِثٍ مِنَ التَّصْحِيحِ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ، ثُمَّ اقْسِمِ الْمَبْلَغَ عَلَى وَفْقِ التَّصْحِيحِ يَخْرُجُ نَصِيبُ ذَلِكَ الْوَارِثِ) وَكَذَلِكَ تَعْمَلُ لِمَعْرِفَةِ نَصِيبِ كُلِّ فَرِيقٍ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَعْمَلَ بِطَرِيقِ النِّسْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ شِئْتَ بِطَرِيقِ الْقِسْمَةِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ صِحَّةَ الْعَمَلِ مِنْ خَطَئِهِ فَاجْمَعْ تَفْصِيلَهُ وَقَابِلْهُ بِالْجُمْلَةِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فَالْعَمَلُ صَحِيحٌ وَإِلَّا فَهُوَ خَطَأٌ فَأَعِدِ الْعَمَلَ لِيَصِحَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى سَبْعَةٍ، وَالتَّرِكَةُ خَمْسُونَ دِينَارًا، فَاضْرِبْ سِهَامَ الزَّوْجِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فِي خَمْسِينَ يَكُنَّ مِائَةً وَخَمْسِينَ، اقْسِمْهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ سَبْعَةٌ تَخْرُجُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَثَلَاثَةَ أَسْبَاعٍ، وَكَذَلِكَ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ، وَسَهْمٌ لِلْأُخْتِ مِنَ الْأُمِّ تَضْرِبُهُ فِي خَمْسِينَ تَكُنَّ خَمْسِينَ اقْسِمْهَا عَلَى سَبْعَةٍ تَخْرُجُ سَبْعَةٌ وَسُبْعٌ، وَإِذَا جَمَعْتَ كَانَتْ خَمْسِينَ فَقَدْ صَحَّ الْعَمَلُ. وَطَرِيقُ النِّسْبَةِ أَنْ تُنْسَبَ سِهَامُ الزَّوْجِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ فَيَكُونُ لَهُ مِنَ التَّرِكَةِ ثَلَاثَةُ أَسْبَاعِهَا وَهِيَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعٍ وَهَكَذَا تَفْعَلُ بِالْبَاقِي. وَطَرِيقُ الْقِسْمَةِ أَنْ تُقْسَمَ التَّرِكَةُ عَلَى سَبْعَةٍ تَخْرُجُ سَبْعَةٌ وَسُبْعٌ، تَضْرِبُهَا فِي سِهَامِ الزَّوْجِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ يَكُنَّ أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَثَلَاثَةَ أَسْبَاعٍ، وَهَكَذَا يُفْعَلُ بِالْبَاقِي. آخَرُ: زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَبِنْتَانِ، أَصْلُهَا مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ إِلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالتَّرِكَةُ أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ دِينَارًا وَبَيْنَهُمَا مُوَافَقَةٌ بِالثُّلُثِ، فَاضْرِبْ سِهَامَ الْبِنْتَيْنِ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ تَكُنَّ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ، اقْسِمْهَا عَلَى وَفْقِ التَّصْحِيحِ وَهُوَ خَمْسَةٌ تَكُنَّ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ، ثُمَّ اضْرِبْ سِهَامَ الْأَبَوَيْنِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ تَكُنَّ مِائَةً وَاثْنَيْ عَشَرَ، اقْسِمْهَا عَلَى خَمْسَةٍ تَكُنِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ وَخَمْسِينَ ثُمَّ اضْرِبْ سِهَامَ الزَّوْجِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ تَكُنَّ أَرْبَعَةً وَثَمَانِينَ، اقْسِمْهَا عَلَى خَمْسَةٍ تَكُنَّ سِتَّةَ عَشَرَ وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ فَقَدْ صَحَّتِ الْمَسْأَلَةُ. وَطَرِيقُ الْقِسْمَةِ أَنْ يُقْسَمَ وَفْقَ التَّرِكَةِ وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ عَلَى وَفْقِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ خَمْسَةٌ يَخْرُجُ خَمْسَةٌ وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، إِنْ ضَرَبْتَهَا فِي سِهَامِ الزَّوْجِ تَخْرُجُ سِتَّةَ عَشَرَ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَفِي سِهَامِ الْأَبَوَيْنِ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَخُمُسَانِ وَفِي سِهَامِ الْبِنْتَيْنِ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ فَقَدْ صَحَّتْ. وَطَرِيقُ النِّسْبَةِ أَنْ تَقُولَ: لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ لَهُ خُمُسُ التَّرِكَةِ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَلِلْأَبَوَيْنِ أَرْبَعَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ سُدُسُهَا وَعُشْرُهَا فَأَعْطِهِمَا سُدُسَ التَّرِكَةِ وَعُشْرَهَا وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَخُمُسَانِ، وَلِلْبِنْتَيْنِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُلُثٌ وَخُمُسٌ فَلَهُمَا ثُلُثُ التَّرِكَةِ وَخُمُسُهَا، وَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ، وَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةٌ وَثَمَانُونَ فَقَدْ صَحَّتِ الْمَسْأَلَةُ، وَإِذَا كَانَتْ سِهَامُ الْمَسْأَلَةِ عَدَدًا أَصَمَّ فَاعْمَلْ مَا ذَكَرْتُ مِنْ طَرِيقِ الضَّرْبِ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ لَا يَنْقَسِمُ بِالْآحَادِ عَلَى الْمَقْسُومِ عَلَيْهِ فَاضْرِبْهُ فِي عَدَدِ الْقَرَارِيطِ وَهُوَ عِشْرُونَ وَاقْسِمْهَا، فَإِنْ بَقِيَ مِنَ الْقَرَارِيطِ شَيْءٌ لَا يَنْقَسِمُ بِالْآحَادِ فَاضْرِبْهُ فِي عَدَدِ الْحَبَّاتِ ثَلَاثَةً ثُمَّ اقْسِمْهُ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ لَا يَنْقَسِمُ فَاضْرِبْهُ فِي عَدَدِ الْأَرْزِ أَرْبَعَةً، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَانْسُبْهُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 وَكَذَلِكَ يُقْسَمُ بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّيُونِ فَيُجْعَلُ مَجْمُوعُ الدُّيُونِ كَتَصْحِيحِ الْمَسْأَلَةِ، وَيُجْعَلُ كُلُّ دَيْنٍ كَسَهْمِ وَارِثٍ. وَمَنْ صَالَحَ مِنَ الْغُرَمَاءِ أَوِ الْوَرَثَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ فَاطْرَحْهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنَّ، ثُمَّ اقْسِمِ الْبَاقِيَ عَلَى سِهَامِ الْبَاقِينَ.   [الاختيار لتعليل المختار] بِالْأَجْزَاءِ إِلَى الْأَرْزَةِ. مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَجَدَّةٌ وَجَدٌّ وَبِنْتٌ، مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ إِلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَالتَّرِكَةُ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ دِينَارًا، فَاضْرِبْ سِهَامَ الزَّوْجِ ثَلَاثَةً فِي التَّرِكَةِ يَخْرُجُ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ، اقْسِمْهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَالتَّرِكَةُ أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ دِينَارًا، فَاضْرِبْ سِهَامَ الزَّوْجِ ثَلَاثَةً فِي التَّرِكَةِ تَخْرجْ ثَلَاثَةٌ وَتِسْعُونَ، اقْسِمْهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَخْرُجْ لِكُلِّ وَاحِدٍ سَبْعَةٌ، بَقِيَ اثْنَانِ لَا يَنْقَسِمَانِ بِالْآحَادِ فَاضْرِبْهُمَا فِي عَدَدِ الْقَرَارِيطِ يَكُنَّ أَرْبَعِينَ، اقْسِمْهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَبْقَى وَاحِدٌ ابْسُطْهُ أَرْزًا يَكُنِ اثْنَيْ عَشَرَ، انْسُبْهَا إِلَى الْمَسْأَلَةِ بِالْأَجْزَاءِ فَيَكُونُ لِلزَّوْجِ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ وَثَلَاثَةُ قَرَارِيطَ وَاثْنَيْ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَرْزَةٍ، وَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ اضْرِبْهُمَا فِي أَحَدٍ وَثَلَاثِينَ يَكُنَّ اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ، اقْسِمْهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ تَخْرُجُ أَرْبَعَةً يَبْقَى عَشَرَةٌ اضْرِبْهَا فِي الْقَرَارِيطِ تَكُنَّ مِائَتَيْنِ، اقْسِمْهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ تَخْرُجُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَبْقَى خَمْسَةٌ، ابْسُطْهَا حَبَّاتٍ تَكُنَّ خَمْسَةَ عَشَرَ، اقْسِمْهَا عَلَى الْمَسْأَلَةِ يَبْقَى حَبَّتَانِ ابْسُطْهُمَا أَرْزًا تَكُنَّ ثَمَانِيَةً، انْسُبْهَا بِالْأَجْزَاءِ فَحَصَلَ لِلْجَدِّ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَخَمْسَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا وَحَبَّةٌ وَثَمَانِيَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَرْزَةٍ، وَلِلْجَدَّةِ مِثْلُهُ، وَلِلْبِنْتِ ضِعْفُ الزَّوْجِ وَهُوَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَسِتَّةُ قَرَارِيطَ وَأَرْزَةٌ وَأَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ أَرْزَةٍ وَجُمْلَتُهَا أَحَدٌ وَثَلَاثُونَ دِينَارًا فَصَحَّتِ الْمَسْأَلَةُ. (وَكَذَلِكَ يُقْسَمُ بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّيُونِ فَيُجْعَلُ مَجْمُوعُ الدُّيُونِ كَتَصْحِيحِ الْمَسْأَلَةِ، وَيُجْعَلُ كُلُّ دَيْنٍ كَسَهْمِ وَارِثٍ) . [فصل المصالحة على التركة] فَصْلٌ (وَمَنْ صَالَحَ مِنَ الْغُرَمَاءِ أَوِ الْوَرَثَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ فَاطْرَحْهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ اقْسِمِ الْبَاقِي عَلَى سِهَامِ الْبَاقِينَ) . مِثَالُهُ: زَوْجٌ وَأَمٌّ وَعَمٌّ صَالَحَ الزَّوْجُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ التَّرِكَةِ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الْمَهْرِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] فَاطْرَحْهُ كَأَنَّهَا مَاتَتْ عَنْ أُمٍّ وَعَمٍّ فَاقْسِمِ التَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْعَمِّ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الصُّلْحِ بِفُرُوعِهِ وَتَعْلِيلِهِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. 1 - الْمَسَائِلُ الْمُلَقَّبَاتُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا فِي أَثْنَاءِ الْفُصُولِ وَرَقَّمْتُ أَسْمَاءَهَا عَلَى الْحَاشِيَةِ لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُهَا، وَهَذِهِ مَسَائِلُ لَمْ تُذْكَرْ. الْمُشَرَّكَةُ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَاثْنَانِ مِنْ وَلَدِ الْأُمِّ وَإِخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِأَوْلَادِ الْأُمِّ الثُّلُثُ وَيَسْقُطُ الْبَاقُونَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْأُمِّ جَدَّةٌ، هَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الْعَصَبَةُ مِنْ وَلَدِ الْأَبَوَيْنِ يُشَارِكُونَ وَلَدَ الْأُمِّ فِي الثُّلُثِ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - آخِرًا، فَإِنَّهُ قَضَى أَوَّلًا بِمِثْلِ مَذْهَبِنَا فَوَقَعَتْ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ بِمِثْلِ قَضَائِهِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ أَحَدُ الْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَلَسْنَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ فَشَرَّكَ بَيْنَهُمْ وَقَالَ: ذَاكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي. سُمِّيَتْ مُشَرَّكَةً لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَرَّكَ بَيْنَهُمْ، وَحِمَارِيَّةً لِقَوْلِهِ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الْإِخْوَةِ لِأَبَوَيْنِ إِخْوَةٌ لِأَبٍ سَقَطُوا بِالْإِجْمَاعِ وَلَا تَكُونُ مُشَرَّكَةً، وَالصَّحِيحُ مَذْهَبُنَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتْ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ» ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ أَوْلَادِ الْأُمِّ فَمَنْ شَرَّكَ بَيْنَهُمْ فَقَدْ خَالَفَ النَّصَّ وَلِأَنَّهُ يُوَافِقُ الْأُصُولَ، فَإِنَّ أَوْلَادَ الْأُمِّ أَصْحَابُ فَرْضٍ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَأَوْلَادَ الْأَبَوَيْنِ عَصَبَةٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَالتَّشْرِيكُ يُنَافِي ذَلِكَ. 1 - الْخَرْقَاءُ أُمٌّ وَجَدٌّ وَأُخْتٌ، سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ لِأَنَّ أَقَاوِيلَ الصَّحَابَةِ تَخَرَّقَتْهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَقَالَ زَيْدٌ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا، وَقَالَ عَلِيٌّ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ؛ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْجَدِّ نِصْفَانِ، وَفِي رِوَايَةٍ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ الْبَاقِي وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَتُسَمَّى عُثْمَانِيَّةً لِأَنَّ عُثْمَانَ انْفَرَدَ فِيهَا بِقَوْلٍ خَرَقَ الْإِجْمَاعَ فَقَالَ: لِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ نِصْفَانِ، قَالُوا: وَبِهِ سُمِّيَتْ خَرْقَاءَ، أَوْ تُسَمَّى مُثَلَّثَةَ عُثْمَانَ وَمُرَبَّعَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُخَمَّسَةَ الشَّعْبِيِّ لِأَنَّ الْحَجَّاجَ سَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: اخْتَلَفَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَإِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِمْ قَوْلُ الصِّدِّيقِ كَانَتْ مُسَدَّسَةً. 1 - الْمَرْوَانِيَّةُ سِتُّ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وَزَوْجٌ، لِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ، وَسَقَطَ أَوْلَادُ الْأَبِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ، سُمِّيَتْ مَرْوَانِيَّةً لِوُقُوعِهَا فِي زَمَنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَتُسَمَّى الْغَرَّاءَ لِاشْتِهَارِهَا بَيْنَهُمْ. 1 - الْحَمْزِيَّةُ ثَلَاثُ جَدَّاتٍ مُتَحَاذِيَاتٍ وَجَدٌّ وَثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَصِحُّ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ النِّصْفُ، وَمِنَ الْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ، وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ: لِلْجَدَّةِ أُمِّ الْأُمِّ السُّدُسُ وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ. وَقَالَ زَيْدٌ: لِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ عَلَى أَرْبَعَةٍ، ثُمَّ تَرُدُّ الْأُخْتُ مِنَ الْأَبِ مَا أَخَذَتْ عَلَى الْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَتَصِحُّ مِنِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ وَتَعُودُ بِالِاخْتِصَارِ إِلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] لِلْجَدَّاتِ سِتَّةٌ، وَلِلْأُخْتِ مِنَ الْأَبَوَيْنِ نَصِيبُهَا، وَنَصِيبُ أُخْتِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَلِلْجَدِّ خَمْسَةَ عَشَرَ سُمِّيَتْ حَمْزِيَّةً لِأَنَّ حَمْزَةَ الزَّيَّاتَ سُئِلَ عَنْهَا فَأَجَابَ بِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ. 1 - الدِّينَارِيَّةٌ زَوْجَةٌ وَجَدَّةٌ وَبِنْتَانِ وَاثْنَا عَشَرَ أَخًا وَأُخْتٌ وَاحِدَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ، وَالتَّرِكَةُ سِتِّمِائَةُ دِينَارٍ، لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ، وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ دِينَارًا، يَبْقَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لِكُلِّ أَخٍ دِينَارَانِ وَلِلْأُخْتِ دِينَارٌ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الدِّينَارِيَّةَ، وَتُسَمَّى الدَّاوُدِيَّةَ لِأَنَّ دَاوُدَ الطَّائِيَّ سُئِلَ عَنْهَا فَقَسَّمَهَا هَكَذَا، فَجَاءَتِ الْأُخْتُ إِلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي مَاتَ وَتَرَكَ سِتِّمِائَةِ دِينَارٍ فَمَا أُعْطِيتُ إِلَّا دِينَارًا وَاحِدًا، فَقَالَ: مَنْ قَسَّمَ التَّرِكَةَ؟ قَالَتْ: تِلْمِيذُكَ دَاوُدُ الطَّائِيُّ، فَقَالَ: هُوَ لَا يَظْلِمُ، هَلْ تَرَكَ أَخُوكِ جَدَّةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ زَوْجَةً؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ مَعَكِ اثْنَا عَشَرَ أَخًا؟ قَالَتْ: نَعَمِ، قَالَ: إِذَنْ حَقُّكِ دِينَارٌ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنَ الْمُعَايَاةِ، فَيُقَالُ: رَجُلٌ خَلَّفَ سِتِّمِائَةَ دِينَارٍ وَسَبْعَةَ عَشَرَ وَارِثًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا فَأَصَابَ أَحَدَهُمْ دِينَارٌ وَاحِدٌ. 1 - الِامْتِحَانُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَخَمْسُ جَدَّاتٍ وَسَبْعُ بَنَاتٍ وَتِسْعُ أَخَوَاتٍ لِأَبٍ، أَصْلُهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ لِلزَّوْجَاتِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْجَدَّاتِ السُّدُسُ أَرْبَعَةٌ، وَلِلْبَنَاتِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ، وَلِلْأَخَوَاتِ مَا بَقِيَ سَهْمٌ، وَلَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ السِّهَامِ وَالرُّءُوسِ وَلَا بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالرُّءُوسِ، فَيَحْتَاجُ إِلَى ضَرْبِ الرُّءُوسِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ، فَاضْرِبْ أَرْبَعَةً فِي خَمْسَةٍ تَكُنَّ عِشْرِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ عِشْرِينَ فِي سَبْعَةٍ تَكُنَّ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ، ثُمَّ اضْرِبْ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ فِي تِسْعَةٍ تَكُنَّ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَسِتِّينَ فَاضْرِبْهَا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ تَكُنَّ ثَلَاثِينَ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِنْهَا تَصِحُّ الْمَسْأَلَةُ. وَجْهُ الِامْتِحَانِ أَنْ يُقَالَ: رَجُلٌ خَلَّفَ أَصْنَافًا عَدَدُ كُلِّ صِنْفٍ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ وَلَا تَصِحُّ مَسْأَلَتُهُ إِلَّا مِمَّا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا. 1 - الْمَأْمُونِيَّةُ أَبَوَانِ وَبِنْتَانِ مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ وَخَلَّفَتْ مَنْ خَلَّفَتْ، سُمِّيَتْ مَأْمُونِيَّةً لِأَنَّ الْمَأْمُونَ أَرَادَ أَنْ يُوَلِّيَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ أَحَدًا فَأُحْضِرَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ فَاسْتَحْقَرَهُ، فَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، فَعَلِمَ الْمَأْمُونُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ فَأَعْطَاهُ الْعَهْدَ وَوَلَّاهُ الْقَضَاءَ. وَالْجَوَابُ فِيهَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا، فَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مِنْ سِتَّةٍ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ، فَإِذَا مَاتَتْ إِحْدَى الْبِنْتَيْنِ فَقَدْ خَلَّفَتْ أُخْتًا وَجَدًّا صَحِيحًا أَبَ أَبٍ وَجَدَّةً صَحِيحَةً أُمَّ أَبٍ، فَالسُّدُسُ لِلْجَدَّةِ، وَالْبَاقِي لِلْجَدِّ، وَسَقَطَتِ الْأُخْتُ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ. وَقَالَ زَيْدٌ: لِلْجَدَّةِ السُّدُسُ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الْجَدِّ وَالْأُخْتِ أَثْلَاثًا عَلَى مَا عُرِفَ مِنَ الْأُصُولِ وَصَحَّحَ الْمُنَاسَخَةَ كَمَا مَرَّ مِنَ الطَّرِيقِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْأَوَّلُ أُنْثَى فَقَدْ مَاتَتِ الْبِنْتُ عَنْ أُخْتٍ وَجَدَّةٍ صَحِيحَةٍ أُمِّ أُمٍّ وَجَدٍّ فَاسِدٍ أَبِ أُمٍّ، فَلِلْجَدَّةِ السُّدُسُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَالْبَاقِي رَدٌّ عَلَيْهِمَا، وَسَقَطَ الْجَدُّ الْفَاسِدُ بِالْإِجْمَاعِ. 1 - مَسَائِلُ مِنْ مُتَشَابِهِ الْفَرَائِضِ مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهَا وَيُمْتَحَنُ بِهَا الْفَرْضِيُّونَ ذَكَرْتُهَا رِيَاضَةً لِلْخَاطِرِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا، فَقَالَ: لَا تَقْتَسِمُوا فَإِنَّ لِيَ امْرَأَةً غَائِبَةً، فَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً وَرِثَتْ هِيَ وَلَمْ أَرِثْ أَنَا، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً وَرِثْتُ أَنَا، فَهَذِهِ امْرَأَةٌ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ أُمًّا وَأُخْتَيْنِ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ هُوَ زَوْجُ أُخْتِهَا لِأُمِّهَا، فَلَلْأُخْتَانِ الثُّلُثَانِ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلْأُخْتِ لِأُمٍّ السُّدُسُ إِنْ كَانَتْ حَيَّةً، وَلَا يَبْقَى لِزَوْجِهَا شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ فَإِنَّهُ أَخٌ لِأَبٍ، وَإِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَهُ الْبَاقِي وَهُوَ السُّدُسُ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ. امْرَأَةٌ جَاءَتْ إِلَى قَوْمٍ يَقْتَسِمُونَ مِيرَاثًا فَقَالَتْ: لَا تَقْتَسِمُوا فَإِنِّي حُبْلَى، فَإِنْ وَلَدْتُ غُلَامًا وَرِثَ، وَإِنْ وَلَدْتُ جَارِيَةً لَمْ تَرِثْ. صُورَتُهُ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتَيْنِ وَعَمًّا وَامْرَأَةً حُبْلَى مِنْ أَخِيهِ، فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا فَهُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَهُوَ عَصَبَةٌ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَمِّ فَيَرِثُ، وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَهِيَ بِنْتُ أَخٍ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلَا تَرِثُ. وَلَوْ قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ غُلَامًا لَا يَرِثُ، وَإِنْ وَلَدْتُ جَارِيَةً وَرِثَتْ. صُورَتُهُ: امْرَأَةٌ مَاتَتْ عَنْ زَوْجٍ وَأُمٍّ وَأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ وَحَمْلٍ مِنَ الْأَبِ، إِنْ وَلَدَتْ جَارِيَةً فَهِيَ أُخْتُهَا لِأَبِيهَا فَيَكُونُ لِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ لِأَبٍ النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ تَعُولُ إِلَى تِسْعَةٍ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ، وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ، وَلِأَوْلَادِ الْأُمِّ الثُّلُثُ، وَلَا شَيْءَ لِلْغُلَامِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ. وَإِنْ قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ غُلَامًا لَا يَرِثُ هُوَ وَلَا أَنَا، وَإِنْ وَلَدْتُ جَارِيَةً وَرِثْتُ أَنَا وَهِيَ، فَهَذَا رَجُلٌ مَاتَ وَلَهُ زَوْجَةٌ حَامِلٌ هِيَ أَمَةُ الْغَيْرِ، قَالَ لَهَا مَوْلَاهَا: إِنْ كَانَ فِي بَطْنِكِ جَارِيَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ، فَإِذَا وَلَدَتْ جَارِيَةً تَبَيَّنَ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَابْنَتُهَا حُرَّةٌ فَتَرِثَانِ، وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا فَهِيَ جَارِيَةٌ وَابْنُهَا عَبْدٌ فَلَا يَرِثَانِ، وَلَوْ عَلَّقَ الْحُرِّيَّةَ بِكَوْنِهِ غُلَامًا فَالْجَوَابُ عَلَى الْعَكْسِ. وَإِنْ قَالَتْ: إِنْ وَضَعْتُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لَمْ يَرِثْ، وَإِنْ وَضَعْتُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] ذَكَرًا وَأُنْثَى وَرِثَا، هَذَا رَجُلٌ تَرَكَ أُمًّا وَأُخْتًا لِأَبَوَيْنِ وَامْرَأَةَ أَبٍ حُبْلَى وَجَدًّا، فَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى عَادَ الْجَدُّ وَرَدَّ سَهْمَهُ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبَوَيْنِ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى رُدَّ عَلَى الْأُخْتِ إِلَى تَمَامِ النِّصْفِ وَبَقِيَ لَهُمَا نِصْفُ تُسْعٍ وَهِيَ مُخْتَصَرَةٌ زِيدٍ. وَإِنْ قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ ابْنًا وَرِثْتُ أَنَا وَهُوَ ثُلُثَ الْمَالِ، وَإِنْ وَلَدْتُ بِنْتًا لَمْ تَرِثْ شَيْئًا، هَذَا رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَ ابْنِهِ بِنْتَ ابْنِ ابْنٍ لَهُ آخَرَ، فَوَلَدَتِ ابْنًا وَصَارَ الِابْنُ فِي دَرَجَةِ أُمِّهِ، ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ. وَخَلَّفَ سِوَى هَذَيْنِ بِنْتَيْنِ، لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَالْبَاقِي وَهُوَ الثُّلُثُ بَيْنِ الْغُلَامِ وَأُمِّهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَلَوْ وَلَدَتْ بِنْتًا سَقَطَ لِاسْتِكْمَالِ الْبَنَاتِ الثُّلُثَيْنِ وَعَدَمِ الْمُعَصِّبِ لَهُمَا. وَلَوْ قَالَتْ: إِنْ وَلَدْتُ ابْنًا لَمْ يَرْثِ شَيْئًا، وَإِنْ وَلَدْتُ بِنْتًا فَلَهَا النِّصْفُ وَلِيَ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، هَذَا رَجُلٌ خَلَّفَ عَصَبَةً وَعَبْدَيْنِ لَا مَالِكَ لَهُ غَيْرُهُمَا فَأَعْتَقَهُمَا الْعَصَبَةُ، فَشَهِدَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ الْمَيِّتِ حَامِلٌ مِنْهُ، فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا لَمْ يَرِثَا لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَا سَقَطَ الْعَصَبَةُ فَبَطَلَ عِتْقُهُمَا وَبَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا فَلَا تَثْبُتُ الزَّوْجِيَّةُ وَالنَّسَبُ فَتَوْرِيثُهُمَا يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِهِ، وَإِنْ وَلَدَتْ أُنْثَى فَلَهَا الثُّمُنُ وَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ، وَنَفَذَ عِتْقُ الْعَبْدَيْنِ لِأَنَّ لِلْعَصَبَةِ فِيهِمَا نَصِيبًا، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا يَضْمَنُ نَصِيبَهُمَا وَصَحَّتْ شَهَادَتُهُمَا وَثَبَتَ النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدَانِ وَالْمُسْتَسْعَى كَالْحُرِّ الْمَدْيُونِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ. رَجُلٌ خَلَّفَ خَالًا وَعَمًّا، وَرِثَهُ خَالُهُ دُونَ عَمِّهِ، هَذَا رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ أُمَّ أُمِّهِ فَجَاءَتْ بِابْنٍ فَهُوَ خَالُهُ وَابْنُ أَخِيهِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنَ الْعَمِّ، وَيُقَالُ: رَجُلُ خَالِهِ ابْنُ أَخِيهِ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ هُوَ خَالُ عَمِّهِ، وَيُقَالُ: عَمَّ خَالِهِ. رَجُلٌ خَلَّفَ زَوْجَتَهُ وَأَخًا لَهَا الثُّمُنُ وَالْبَاقِي لِأَخِيهَا. هَذَا رَجُلٌ زَوَّجَ ابْنَهُ حَمَاتَهُ فَأَوْلَدَهَا ابْنًا فَهُوَ أَخُو زَوْجَتِهِ وَابْنُ ابْنِهِ. رَجُلٌ هُوَ خَالُ رَجُلٍ وَعَمُّهُ، هَذَا رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَبُو أَبِيهِ أُمَّ أُمِّهِ فَوَلَدَتِ ابْنًا فَهُوَ خَالُهُ وَعَمُّهُ. رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمٌّ لِلْآخَرِ. صُورَتُهُ: رَجُلَانِ تَزَوَّجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُمَّ الْآخَرِ فَوَلَدَتَا ابْنَيْنِ فَكُلُّ ابْنٍ عَمُّ الْآخَرِ. وَصُورَةٌ أُخْرَى: رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَخُوهُ لِأُمِّهِ أُمَّ أَبِيهِ فَوَلَدَتِ ابْنًا فَالْمَوْلُودُ عَمُّ الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ عَمُّهُ. رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالُ الْآخَرِ. صُورَتُهُ: رَجُلَانِ تَزَوَّجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنْتَ صَاحِبِهِ فَوَلَدَتِ ابْنًا فَالِابْنَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالُ الْآخَرِ؛ أَوْ يُقَالُ: هُوَ رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَبُو أُمِّهِ بِأُخْتِهِ لِأَبِيهِ فَوَلَدَتِ ابْنًا، فَالْمَوْلُودُ خَالُ الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ خَالُهُ. رَجُلَانِ أَحَدُهَا خَالُ الْآخَرِ وَالْآخَرُ عَمُّهُ. صُورَتُهُ: رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ ابْنُهَا أُمَّهَا فَوَلَدَتَا ابْنَيْنِ، فَابْنُ الْأَبِ عَمُّ ابْنِ الِابْنِ، وَابْنُ الِابْنِ خَالُ ابْنِ الْأَبِ. رَجُلٌ خَلَّفَ مَالًا وَوَرَثَةً فَهُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ، فَإِنْ كَانَ ابْنُ الْمَيِّتِ فَلَهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَ ابْنُ عَمِّهِ فَلَهُ عِشْرُونَ أَلْفًا، هَذَا رَجُلٌ تَرَكَ سِتِّينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَتَرَكَ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ بِنْتًا، فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ ابْنًا قَاسَمَهُنَّ فَنَصِيبُهُ أَلْفَانِ، وَإِنْ كَانَ ابْنَ عَمٍّ فَلَهُنَّ الثُّلُثَانِ وَلَهُ الْبَاقِي وَهُوَ عِشْرُونَ أَلْفًا. رَجُلٌ بَاعَ أَبَاهُ فِي مَهْرِ أُمِّهِ. هَذِهِ حُرَّةٌ تَزَوَّجَتْ عَبْدًا فَأَوْلَدَهَا ابْنًا، ثُمَّ طَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ سَيِّدَهُ عَلَى مَهْرٍ فَطَالَبَتْهُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الاختيار لتعليل المختار] وَقَدْ أَفْلَسَ، فَقَضَى لَهَا بِالْعَبْدِ، فَوَكَّلَتِ ابْنَهَا مِنْهُ بِبَيْعِهِ وَقَبَضَ مَهْرَهَا مِنْ ثَمَنِهِ. رَجُلٌ خَلَّفَ سِتَّ وُرَّاثٍ وَتِسْعِينَ دِينَارًا فَأَصَابَ أَحَدَهُمْ دِينَارٌ وَاحِدٌ، هَذَا رَجُلٌ خَلَّفَ أُمًّا وَجَدًّا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ وَأُخْتًا لِأَبٍ فَمَسْأَلَتُهُ تَصِحُّ مِنْ تِسْعِينَ، وَسَهْمُ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ دِينَارٌ وَاحِدٌ. مَرِيضٌ قَالَ لِرَجُلٍ: يَرِثُنِي زَوْجَتَاكَ وَجَدَّتَاكَ وَعَمَّتَاكَ وَخَالَتَاكَ وَأُخْتَاكَ، هَذَا الْمَرِيضُ تَزَوَّجَ جَدَّتَيِ الرَّجُلِ، وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةِ بِنْتَيْنِ فَهُمَا خَالَتَاهُ وَعَمَّتَاهُ وَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ تَزَوَّجَ جَدَّتَيِ الْمَرِيضِ وَتَزَوَّجَ أَبُو الْمَرِيضِ أُمَّ الصَّحِيحِ فَأَوْلَدَهَا بِنْتَيْنِ فَهُمَا أُخْتَا الْمَرِيضِ لِأَبِيهِ وَأُخْتَا الْآخَرِ لِأُمِّهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمَرِيضُ بَعْدَ أَبِيهِ فَقَدْ خَلَّفَ زَوْجَتَيْنِ هُمَا جَدَّتَا الْمُخَاطَبِ وَأَرْبَعَ بَنَاتٍ هُنَّ خَالَتَاهُ وَعَمَّتَاهُ وَجَدَّتَيْنِ هُمَا زَوْجَتَاهُ وَأُخْتَيْنِ لِأَبٍ هُمَا أُخْتَاهُ لِأُمِّهِ. امْرَأَةٌ تَزَوَّجَتْ أَرْبَعَةً وَرِثَتْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفَ مَالِهِ، هَذِهِ امْرَأَةٌ وَرِثَتْ هِيَ وَأَخُوهَا أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ فَأَعْتَقَاهُمْ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَمَاتُوا، فَلَهَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ الرُّبُعُ بِالنِّكَاحِ وَالرُّبُعُ بِالْوَلَاءِ وَذَلِكَ نِصْفُ مَالِهِ. امْرَأَةٌ وَابْنُهَا اقْتَسَمُوا مَالَ مَيِّتٍ نِصْفَيْنِ بِغَيْرِ وَلَاءٍ، هَذَا رَجُلٌ زَوَّجَ بِنْتَهُ ابْنَ أَخِيهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ابْنًا، ثُمَّ مَاتَ هَذَا الرَّجُلُ بَعْدَ مَوْتِ ابْنِ أَخِيهِ فَقَدْ تَرَكَ بِنْتَهُ فَلَهَا النِّصْفُ، وَتَرَكَ ابْنَهَا وَهُوَ ابْنُ ابْنِ أَخِيهِ فَيَأْخُذُ الْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ وَهُوَ النِّصْفُ. ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ لِأُمٍّ أَحَدُهُمُ ابْنُ عَمٍّ، فَلَهُمْ ثُلُثُ الْمَالِ بِالْأُخُوَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ تِسْعَةٌ، وَالْبَاقِي وَهُوَ سِتَّةُ أَتْسَاعٍ لِابْنِ الْعَمِّ، فَبَقِيَ مَعَهُ سَبْعَةُ اتِّسَاعٍ. رَجُلٌ خَلَّفَ ثَمَانِيَةَ بَنِينٍ وَمَالًا، وَقَالَ: يَأْخُذُ الْأَكْبَرُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ وَتُسْعَ مَا بَقِيَ، وَالثَّانِي عِشْرِينَ دِينَارًا وَتُسْعَ مَا بَقِيَ، وَالثَّالِثُ ثَلَاثِينَ دِينَارًا وَتُسْعَ مَا بَقِيَ، وَالرَّابِعُ أَرْبَعِينَ دِينَارًا وَتُسْعَ مَا بَقِيَ، وَالْخَامِسُ خَمْسِينَ دِينَارًا وَتُسْعَ مَا بَقِيَ، وَالسَّادِسُ سِتِّينَ دِينَارًا وَتُسْعَ مَا بَقِيَ، وَالسَّابِعُ سَبْعِينَ دِينَارًا وَتُسْعَ مَا بَقِيَ، وَالثَّامِنُ الْبَاقِي فَفَعَلُوا ذَلِكَ، فَكَانَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ. الْجَوَابُ كَانَ الْمَالُ سِتَّمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ دِينَارًا، فَإِذَا أَخَذَ الْأَكْبَرُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ تَبْقَى سِتُّمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ دِينَارًا تُسْعُهَا سَبْعُونَ يَأْخُذُهَا يَبْقَى مَعَهُ ثَمَانُونَ وَهُوَ ثُمْنُ الْمَالِ يَبْقَى خَمْسُمِائَةٍ وَسِتُّونَ، فَإِذَا أَخَذَ الثَّانِي عِشْرِينَ دِينَارًا وَتُسْعَ الْبَاقِي سِتِّينَ صَارَ مَعَهُ ثَمَانُونَ وَهُوَ ثُمْنُ الْجَمِيعِ يَبْقَى أَرْبَعُمِائَةٍ وَثَمَانُونَ، فَإِذَا أَخَذَ الثَّالِثُ ثَلَاثِينَ وَتُسْعَ الْبَاقِي خَمْسِينَ صَارَ مَعَهُ ثَمَانُونَ أَيْضًا يَبْقَى أَرْبَعُمِائَةٍ، فَإِذَا أَخَذَ الرَّابِعُ أَرْبَعِينَ وَتُسْعَ الْبَاقِي أَرْبَعِينَ يَصِيرُ مَعَهُ ثَمَانُونَ أَيْضًا يَبْقَى ثَلَاثُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ، فَإِذَا أَخَذَ الْخَامِسُ خَمْسِينَ وَتُسْعَ الْبَاقِي ثَلَاثِينَ يَبْقَى مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ، فَإِذَا أَخَذَ السَّادِسُ سِتِّينَ وَتُسْعَ الْبَاقِي عِشْرِينَ يَبْقَى مِائَةٌ وَسِتُّونَ، فَإِذَا أَخَذَ السَّابِعُ سَبْعِينَ وَتُسْعَ الْبَاقِي عَشَرَةً يَبْقَى ثَمَانُونَ يَأْخُذُهَا الثَّامِنُ فَقَدْ حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ بِالصَّوَابِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132