الكتاب: كتاب الأيمان "ومعالمه، وسننه، واستكماله، ودرجاته" المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224هـ) المحقق: محمد ناصر الدين الألباني الناشر: المكتب الإسلامي الطبعة: الثانية، 1403هـ - 1983م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التخريج] ---------- الإيمان للقاسم بن سلام - مخرجا أبو عُبيد القاسم بن سلاّم الكتاب: كتاب الأيمان "ومعالمه، وسننه، واستكماله، ودرجاته" المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: 224هـ) المحقق: محمد ناصر الدين الألباني الناشر: المكتب الإسلامي الطبعة: الثانية، 1403هـ - 1983م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التخريج] بَابُ نَعْتِ الْإِيمَانِ فِي اسْتِكْمَالِهِ وَدَرَجَاتِهِ أَخْبَرَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَعْرُوفٍ أَعْنِي ابْنَ أَبِي نَصْرٍ فِي دَارِهِ بِدِمِشْقَ، فِي صَفَرٍ سَنَةَ عِشْرِينَ وَأَرْبَعْ مَائَةٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَعْقُوبَ إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الْعَسْكَرِيُّ صَاحِبُ أَبِي عُبَيْدٍ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ هَذِهِ الرِّسَالَةَ وَأَنَا أَسْمَعُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَمَّا بَعْدُ , فَإِنَّكَ كُنْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْإِيمَانِ , وَاخْتِلَافِ الْأُمَّةِ فِي اسْتِكْمَالِهِ , وَزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ , وَتَذْكُرُ أَنَّكَ أَحْبَبْتَ مَعْرِفَةَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ ذَلِكَ , وَمَا الْحُجَّةُ عَلَى مَنْ فَارَقَهُمْ فِيهِ؟ فَإِنَّ هَذَا رَحِمَكَ اللَّهُ خَطْبٌ قَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ السَّلَفُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَتَابِعِيهَا وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا , وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكَ بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ عِلْمُهُ مِنْ ذَلِكَ مَشْرُوحًا مُخَلَّصًا , وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ , أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالْعِنَايَةِ بِالدِّينِ افْتَرَقُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ فِرْقَتَيْنِ , فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا: الْإِيمَانُ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ بِالْقُلُوبِ , وَشَهَادَةِ الْأَلْسِنَةِ , وَعَمَلِ الْجَوَارِحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وَقَالَتِ الْفِرْقَةُ الْأُخْرَى: بَلِ الْإِيمَانُ بِالْقُلُوبِ وَالْأَلْسِنَةِ , فَأَمَّا الْأَعْمَالُ فَإِنَّمَا هِيَ تَقْوَى وَبِرٌّ , وَلَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ وَإِنَّا نَظَرْنَا فِي اخْتِلَافِ الطَّائِفَتَيْنِ , فَوَجَدْنَا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يُصَدِّقَانِ الطَّائِفَةَ الَّتِي جَعَلَتِ الْإِيمَانَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا , وَيَنْفِيَانِ مَا قَالَتِ الْأُخْرَى وَالْأَصْلُ الَّذِي هُوَ حُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ اتِّبَاعُ مَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ , فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ عُلُوًّا كَبِيرًا قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] وَإِنَّا رَدَدْنَا الْأَمْرَ إِلَى مَا ابْتَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ بِهِ كِتَابَهُ , فَوَجَدْنَاهُ قَدْ جَعَلَ بَدْءَ الْإِيمَانِ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ عَشْرَ سِنِينَ , أَوْ بِضْعَ عَشَرَ سَنَةً , يَدْعُو إِلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ خَاصَّةً , وَلَيْسَ الْإِيمَانُ الْمُفْتَرَضُ عَلَى الْعِبَادِ يَوْمَئِذٍ سِوَاهَا , فَمَنْ أَجَابَ إِلَيْهَا كَانَ مُؤْمِنًا , لَا يَلْزَمُهُ اسْمٌ فِي الدِّينِ غَيْرُهُ , وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ زَكَاةٌ , وَلَا صِيَامٌ , وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الدِّينِ , وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّخْفِيفُ عَنِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ فِيمَا يَرْوِيهِ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ لِعِبَادِهِ , وَرِفْقًا بِهِمْ , لِأَنَّهُمْ كَانُوا حَدِيثَ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَجَفَائِهَا , وَلَوْ حَمَّلَهُمُ الْفَرَائِضَ كُلَّهَا مَعًا نَفَرَتْ مِنْهُ قُلُوبُهُمْ , وَثَقُلَتْ عَلَى أَبْدَانِهِمْ , فَجَعَلَ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ بِالْأَلْسُنِ وَحْدَهَا هُوَ الْإِيمَانَ الْمُفْتَرَضَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَئِذٍ , فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ إِقَامَتَهُمْ بِمَكَّةَ كُلِّهَا , وَبِضْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْمَدِينَةِ وَبَعْدَ الْهِجْرَةِ فَلَمَّا أَثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَحَسُنَتْ فِيهِ رَغْبَتُهُمْ , زَادَهُمُ اللَّهُ فِي إِيمَانِهِمْ أَنْ صَرَفَ الصَّلَاةَ إِلَى الْكَعْبَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 بَعْدَ أَنْ كَانَتْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ , فَقَالَ {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ثُمَّ خَاطَبَهُمْ وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ الْمُتَقَدِّمِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ , أَوْ نَهَاهُمْ عَنْهُ , فَقَالَ فِي الْأَمْرِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي النَّهْيِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وَعَلَى هَذَا كُلُّ مُخَاطَبَةٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهَا أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ بَعْدَ الْهِجْرَةِ , وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ بِالْإِقْرَارِ وَحْدِهِ إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فَرْضٌ غَيْرُهُ , فَلَمَّا نَزَلَتِ الشَّرَائِعُ بَعْدَ هَذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ وُجُوبُ الْأَوَّلِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهَا , لِأَنَّهَا جَمِيعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِأَمْرِهِ وَبِإِيجَابِهِ فَلَوْ أَنَّهُمْ عِنْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ أَبَوْا أَنْ يُصَلُّوا إِلَيْهَا , وَتَمَسَّكُوا بِذَلِكَ الْإِيمَانِ الَّذِي لَزِمَهُمُ اسْمُهُ , وَالْقِبْلَةُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُغْنِيًا عَنْهُمْ شَيْئًا , وَلَكَانَ فِيهِ نَقْضٌ لِإِقْرَارِهِمْ لِأَنَّ الطَّاعَةَ الْأُولَى لَيْسَتْ بِأَحَقَّ بِاسْمِ الْإِيمَانِ مِنَ الطَّاعَةِ الثَّانِيَةِ , فَلَمَّا أَجَابُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِلَى قَبُولِ الصَّلَاةِ كَإِجَابَتِهِمْ إِلَى الْإِقْرَارِ صَارَا جَمِيعًا مَعًا هُمَا يَوْمَئِذٍ الْإِيمَانُ , إِذْ أُضِيفَتِ الصَّلَاةُ إِلَى الْإِقْرَارِ وَالشَّهِيدُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْإِيمَانِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ تُوُفُّوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ , فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَيُّ شَاهِدٍ يُلْتَمَسُ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِنَ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فَلَبِثُوا بِذَلِكَ بُرْهَةً مِنْ دَهْرِهِمْ , فَلَمَّا أَنْ دَارُوا إِلَى الصَّلَاةِ مُسَارَعَةً , وَانْشَرَحَتْ لَهَا صُدُورُهُمْ , أَنْزَلَ اللَّهُ فَرْضَ الزَّكَاةِ فِي أَيْمَانِهِمْ إِلَى مَا قَبْلَهَا , فَقَالَ {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَقَالَ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] فَلَوْ أَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنَ الزَّكَاةِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ , وَأَعْطُوهُ ذَلِكَ بِالْأَلْسِنَةِ , وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ غَيْرَ أَنَّهُمْ مُمْتَنِعُونَ مِنَ الزَّكَاةِ كَانَ ذَلِكَ مُزِيلًا لِمَا قَبْلَهُ , وَنَاقِضًا لِلْإِقْرَارِ وَالصَّلَاةِ , كَمَا كَانَ إِبَاءُ الصَّلَاةِ قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِضًا لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِقْرَارِ وَالْمُصَدِّقُ لِهَذَا جِهَادُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى مَنْعِ الْعَرَبِ الزَّكَاةَ كَجِهَادِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الشِّرْكِ سَوَاءً , لَا فَرْقَ بَيْنَهَا فِي سَفْكِ الدِّمَاءِ , وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ , وَاغْتِنَامِ الْمَالِ , فَإِنَّمَا كَانُوا مَانِعِينَ لَهَا غَيْرَ جَاحِدِينَ بِهَا ثُمَّ كَذَلِكَ كَانَتْ شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ كُلُّهَا , كُلَّمَا نَزَلَتْ شَرِيعَةٌ صَارَتْ مُضَافَةً إِلَى مَا قَبْلَهَا لَاحِقَةً بِهِ وَيَشْمَلُهَا جَمِيعًا اسْمُ الْإِيمَانِ , فَيُقَالُ لِأَهْلِهِ: مُؤْمِنُونَ وَهَذَا هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي غَلَطَ فِيهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَوْلِ , لَمَّا سَمِعُوا تَسْمِيَةَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ , أَوْجَبُوا لَهُمُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ بِكَمَالِهِ كَمَا غَلَطُوا فِي تَأْوِيلِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الْإِيمَانِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَكَذَا وَكَذَا» وَحِينَ سَأَلَهُ الَّذِي عَلَيْهِ رَقَبَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 مُؤْمِنَةٌ عَنْ عِتْقِ الْعَجَمِيَّةِ؟ فَأَمَرَ بِعِتْقِهَا , وَسَمَّاهَا مُؤْمِنَةً وَإِنَّمَا هَذَا عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ مِنْ دُخُولِهِمْ فِي الْإِيمَانِ , وَمِنْ قَبُولِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ بِمَا نَزَلَ مِنْهُ , وَإِنَّمَا كَانَ يَنْزِلُ مُتَفَرِّقًا كَنُزِولِ الْقُرْآنِ وَالشَّاهِدُ لِمَا نَقُولُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى , وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَمِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] وَقَوْلُهُ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ مِثْلِ هَذَا أَفَلَسْتَ تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُنَزِّلْ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ جُمْلَةً , كَمَا لَمْ يُنَزِّلِ الْقُرْآنَ جُمْلَةً؟ فَهَذِهِ الْحُجَّةُ مِنَ الْكِتَابِ , فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مُكَمَّلًا بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ مَا كَانَ لِلزِّيَادَةِ إِذًا مَعْنًى , وَلَا لِذِكْرِهَا مَوْضِعٌ وَأَمَّا الْحُجَّةُ مِنَ السُّنَّةِ وَالْآثَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ زِيَادَاتِ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ بَعْضُهَا بَعْدَ بَعْضٍ , فَفِي حَدِيثٍ مِنْهَا أَرْبَعٌ , وَفِي آخَرَ خَمْسٌ , وَفِي الثَّالِثِ تِسْعٌ , وَفِي الرَّابِعِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 1 - فَمِنَ الْأَرْبَعِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَيْهِ , فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ مِنْ رَبِيعَةَ , وَقَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارُ مُضَرَ , فَلَسْنَا نَخْلُصُ إِلَّا فِي شَهْرٍ حَرَامٍ , فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَعْمَلُ بِهِ , وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا , فَقَالَ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ , وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: الْإِيمَانُ , ثُمَّ فَسَّرَهُ لَهُمْ , «شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَإِقَامُ الصَّلَاةِ , وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ , وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمْسَ مَا غَنِمْتُمْ , وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ , وَالْحَنْتَمِ , [ص: 14] وَالنَّقِيرِ , وَالْمُقَيَّرِ» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَاه عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ الحديث: 1 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 2 - وَمِنَ الْخَمْسِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ , أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ , وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ , وَإِقَامِ الصَّلَاةِ , وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ , وَصَوْمِ رَمَضَانَ , وَحَجِّ الْبَيْتِ " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ , عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ , عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ الحديث: 2 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 3 - وَمِنَ التِّسْعِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ لِلْإِسْلَامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ» - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: صُوًى: هِيَ مَا غَلُظَ وَارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ , وَاحِدَتُهَا صُوَّةٌ - " مِنْهَا: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ , وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا , وَإِقَامَةُ الصَّلَاةِ , وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ , وَصَوْمُ رَمَضَانَ , وَحَجُّ الْبَيْتِ , وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ , وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ , وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِمْ , وَأَنْ تُسَلِّمَ عَلَى الْقَوْمِ إِذَا مَرَرْتَ بِهِمْ , فَمَنْ تَرَكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَقَدْ تَرَكَ سَهْمًا مِنَ [ص: 15] الْإِسْلَامِ , وَمَنْ تَرَكَهُنَّ فَقَدْ وَلَّى الْإِسْلَامَ ظَهْرَهُ " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْعَطَّارُ , عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ , عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ , عَنْ رَجُلٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَنَّ الْجَاهِلُونَ بِوُجُوهِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا مُتَنَاقِضَةٌ لِاخْتِلَافِ الْعَدَدِ مِنْهَا , وَهِيَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بَعِيدَةٌ عَلَى التَّنَاقُضِ , وَإِنَّمَا وُجُوهُهَا مَا أَعْلَمْتُكَ مِنْ نُزُولِ الْفَرَائِضِ بِالْإِيمَانِ مُتَفَرِّقًا , فَكُلَّمَا نَزَلَتْ وَاحِدَةٌ أَلْحَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَدَهَا بِالْإِيمَانِ , ثُمَّ كُلَّمَا جَدَّدَ اللَّهُ لَهُ مِنْهَا أُخْرَى زَادَهَا فِي الْعَدَدِ , حَتَّى جَاوَزَ ذَلِكَ السَّبْعِينَ كَلِمَةً الحديث: 3 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 4 - كَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمُثْبَتِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " الْإِيمَانُ بِضْعَةٌ وَسَبْعُونَ جُزْءًا , أَفْضَلُهَا: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ , وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ "، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ , عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ , عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ , عَنْ أَبِي صَالِحٍ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَإِنْ كَانَ زَائِدًا فِي الْعَدَدِ فَلَيْسَ هُوَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ , وَإِنَّمَا تِلْكَ دَعَائِمُ وَأُصُولٌ , وَهَذِهِ فُرُوعُهَا زَائِدَاتٌ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الدَّعَائِمِ فَنَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ آخِرُ مَا وَصَفَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِيمَانَ , لِأَنَّ الْعَدَدَ إِنَّمَا تَنَاهَى بِهِ , وَبِهِ كَمُلَتْ خِصَالُهُ الحديث: 4 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 5 - وَالْمُصَدِّقُ لَهُ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] [ص: 16] قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ , عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ: أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ آيَةً لَوْ نَزَلَتْ فِينَا لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا , فَذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ , فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ حَيْثُ أُنْزِلَتْ , وَأَيَّ يَوْمٍ أُنْزِلَتْ , أُنْزِلَتْ بِعَرَفَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ قَالَ سُفْيَانُ: وَأَشُكُّ أَقَالَ: يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمْ لَا؟ الحديث: 5 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 6 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ , عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ , عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ , قَالَ: تَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْآيَةَ وَعِنْدَهُ يَهُودِيٌّ , فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: لَوْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا لَاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدٍ , يَوْمِ جُمُعَةٍ , وَيَوْمِ عَرَفَةَ الحديث: 6 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 7 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ , عَنِ الشَّعْبِيِّ , قَالَ: نَزَلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ حِينَ اضْمَحَلَّ الشِّرْكُ وَهُدِمَ مَنَارُ الْجَاهِلِيَّةِ , وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ " فَذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِكْمَالَ الدِّينِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ - فِيمَا يُرْوَى - قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِحْدَى وَثَمَانِينَ لَيْلَةً. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَذَلِكَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ , عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ فَلَوْ كَانَ الْإِيمَانُ كَامِلًا بِالْإِقْرَارِ , وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ النُّبُوَّةِ كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مَا كَانَ لِلْكَمَالِ مَعْنًى , وَكَيْفَ يُكَمِّلُ شَيْئًا قَدِ اسْتَوْعَبَهُ , وَأَتَى عَلَى آخِرِهِ؟ الحديث: 7 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَإِنْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: فَمَا هَذِهِ الْأَجْزَاءُ الثَّلَاثَةُ وَسَبْعُونَ؟ قِيلَ لَهُ: لَمْ تُسَمَّ لَنَا مَجْمُوعَةً فَنُسَمِّيَهَا , غَيْرَ أَنَّ الْعِلْمَ يُحِيطُ أَنَّهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ , وَإِنْ لَمْ تُذْكَرْ لَنَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ , وَلَوْ تَفَقَّدْتَ الْآثَارَ لَوَجَدْتَ مُتَفَرِّقَةً فِيهَا , أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ فِي إِمَاطَةِ الْأَذَى , وَقَدْ جَعَلَهُ جُزْءًا مِنَ الْإِيمَانِ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ , وَفِي الثَّالِثِ: الْغَيْرَةُ مِنَ الْإِيمَانِ , وَفِي الرَّابِعِ: الْبَذَاذَةُ مِنَ الْإِيمَانِ , وَفِي الْخَامِسِ: حُسْنُ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ فَكُلُّ هَذَا مِنْ فُرُوعِ الْإِيمَانِ , وَمِنْهُ حَدِيثُ عَمَّارٍ: ثَلَاثٌ مِنَ الْإِيمَانِ: الْإِنْفَاقُ مِنَ الْإِقْتَارِ , وَالْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ , وَبَذْلُ السَّلَامِ عَلَى الْعَالَمِ ثُمَّ الْأَحَادِيثُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ ذِكْرِ كَمَالِ الْإِيمَانِ , حِينَ قَالَ: أَيُّ الْخَلْقِ أَعْظَمُ إِيمَانًا؟ " فَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ , ثُمَّ قِيلَ: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ , فَقَالَ: بَلْ قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدَكُمْ , فَذَكَرَ صِفَتَهُمْ وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ: إِنَّ أَكْمَلَ , أَوْ , مِنْ أَكْمَلِ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 خُلُقًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا يُؤْمِنُ الرَّجُلُ الْإِيمَانَ كُلَّهُ حَتَّى يَدَعَ الْكَذِبَ فِي الْمِزَاحِ وَالْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ أَوْ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , وَابْنِ عُمَرَ ثُمَّ مِنْ أَوْضَحِ ذَلِكَ وَأَبْيَنِهِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّفَاعَةِ , حِينَ قَالَ: فَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ , وَبُرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ , وَمِثْقَالُ ذَرَّةٍ " وَإِلَّا صُولِبَ وَمِنْهُ حَدِيثُهُ فِي الْوَسْوَسَةِ , حِينَ سُئِلَ عَنْهَا؟ فَقَالَ: ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ الْإِيمَانَ يَبْدَأُ لُمْظَةً فِي الْقَلْبِ , فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ عِظَمًا ازْدَادَ ذَلِكَ الْبَيَاضُ عِظَمًا» فِي أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا تَبَيَّنَ لَكَ التَّفَاضُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ , وَكُلُّهَا يَشْهَدُ أَوْ أَكْثَرُهَا أَنَّ أَعْمَالَ الْبِرِّ مِنَ الْإِيمَانِ , فَكَيْفَ تُعَانَدُ هَذِهِ الْآثَارُ بِالْإِبْطَالِ وَالتَّكْذِيبِ؟ وَمِمَّا يُصَدِّقُ تَفَاضُلَهُ بِالْأَعْمَالِ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] إِلَى قَوْلِهِ {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 4] فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لِلْإِيمَانِ حَقِيقَةً إِلَّا بِالْعَمَلِ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ , وَالَّذِي يَزْعُمُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 أَنَّهُ بِالْقَوْلِ خَاصَّةً يَجْعَلُهُ مُؤْمِنًا حَقًّا , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ عَمَلٌ , فَهُوَ مُعَانِدٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَالسُّنَّةِ وَمِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ تَفَاضُلَهُ فِي الْقَلْبِ , قَوْلُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] أَلَسْتَ تَرَى أَنَّ هَاهُنَا مَنْزِلًا دُونَ مَنْزِلٍ {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] كَذَلِكَ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] فَلَوْلَا أَنَّ هُنَاكَ مَوْضِعَ مَزِيدٍ مَا كَانَ لَأَمْرِهِ بِالْإِيمَانِ مَعْنًى , ثُمَّ قَالَ أَيْضًا {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} , وَقَالَ {وَمِنَ النَّاسِ مِنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10] وَقَالَ {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141] أَفَلَسْتَ تَرَاهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدِ امْتَحَنَهُمْ بِتَصْدِيقِ الْقَوْلِ بِالْفِعْلِ , وَلَمْ يَرْضَ مِنْهُمْ بِالْإِقْرَارِ دُونَ الْعَمَلِ , حَتَّى جَعَلَ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ؟ فَأَيُّ شَيْءٍ يُتَّبَعُ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمِنْهَاجِ السَّلَفِ بَعْدَهُ الَّذِينَ هُمْ مَوْضِعُ الْقُدْوَةِ وَالْإِمَامَةِ؟ فَالْأَمْرُ الَّذِي عَلَيْهِ السُّنَّةُ عِنْدَنَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا مِمَّا اقْتَصَصْنَا فِي كِتَابِنَا هَذَا: أَنَّ الْإِيمَانَ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا , وَأَنَّهُ دَرَجَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ , إِلَّا أَنَّ أَوَّلَهَا وَأَعْلَاهَا الشَّهَادَةُ بِاللِّسَانِ , كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَعَلَهُ فِيهِ بِضْعَةً وَسَبْعِينَ جُزْءًا , فَإِذَا نَطَقَ بِهَا الْقَائِلُ , وَأَقَرَّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَزِمَهُ اسْمُ الْإِيمَانِ بِالدُّخُولِ فِيهِ بِالِاسْتِكْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ , وَلَا عَلَى تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ , وَكُلَّمَا ازْدَادَ لِلَّهِ طَاعَةً وَتَقْوَى , ازْدَادَ بِهِ إِيمَانًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْإِيمَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 9 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ , عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَفَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟» فَقَالَ: أَرْجُو , فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «أَفَلَا وَكَّلْتَ الْأُولَى كَمَا وَكَّلْتَ الْأُخْرَى؟» الحديث: 9 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 10 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَسِيرُ إِذْ لَقِينَا رَكْبًا , فَقُلْنَا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: نَحْنُ الْمُؤْمِنُونَ فَقَالَ: " أَوَلَا قَالُوا: إِنَّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ " الحديث: 10 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 11 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ , وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ كِلَاهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ , عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا مُؤْمِنٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: " فَقُلْ: إِنِّي فِي الْجَنَّةِ وَلَكِنْ آمَنَّا بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ " الحديث: 11 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 12 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحِلِّ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: قَالَ لِي إِبْرَاهِيمُ: " إِذَا قِيلَ لَكَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ " الحديث: 12 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 13 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ مَعْمَرٍ , عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ , عَنْ أَبِيهِ , قَالَ: " إِذَا قِيلَ لَكَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقُلْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ , وَمَلَائِكَتِهِ , وَكُتُبِهِ , وَرُسُلِهِ " الحديث: 13 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 14 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ , عَنْ يَحْيَى بْنِ عَتِيقٍ , عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ , قَالَ: " إِذَا قِيلَ لَكَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقُلْ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ. . . . . . . . .} " الْآيةَ الحديث: 14 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 15 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ , عَنْ مَنْصُورٍ , عَنْ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَلْقَمَةَ: أَمُؤْمِنٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: «أَرْجُو إِنْ شَاءَ اللَّهُ» قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلِهَذَا كَانَ يَأْخُذُ سُفْيَانُ وَمَنْ وَافَقَهُ الِاسْتِثْنَاءَ فِيهِ , وَإِنَّمَا كَرَاهَتُهُمْ عِنْدَنَا أَنْ يَبُتُّوا الشَّهَادَةَ بِالْإِيمَانِ مَخَافَةَ مَا أَعْلَمْتُكُمْ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّزْكِيَةِ وَالِاسْتِكْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ , وَأَمَّا عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ أَهْلَ الْمِلَّةِ جَمِيعًا مُؤْمِنِينَ , لِأَنَّ وِلَايَتَهُمْ وَذَبَائِحَهُمْ وَشَهَادَاتِهِمْ وُمُنَاكَحَتَهُمْ , وَجَمِيعَ سُنَّتِهِمْ إِنَّمَا هِيَ عَلَى الْإِيمَانِ , وَلِهَذَا كَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَرَى الِاسْتِثْنَاءَ وَتَرْكَهُ جَمِيعًا وَاسِعَيْنِ الحديث: 15 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 16 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ , عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ , قَالَ: " مَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ , فَحَسَنٌ وَمَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ , إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَحَسَنٌ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] , وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ " وَهَذَا عِنْدِي وَجْهُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ أَتَاهُ صَاحِبُ مُعَاذٍ فَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ وَكَافِرٌ , فَمِنْ أَيِّهِمْ كُنْتَ؟ قَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّمَا نَرَاهُ أَرَادَ: أَنِّي كُنْتُ [ص: 22] مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ لَا مِنَ الْآخَرِينَ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَنَا أَعْلَمَ بِاللَّهِ وَأَتْقَى لَهُ مِنْ أَنْ يُرِيدَهُ , فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ , وَاللَّهُ يَقُولُ {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] ؟ وَالشَّاهِدُ عَلَى مَا نَظُنُّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ هَذَا لَا يَقُولُ: أَنَا مُؤْمِنٌ عَلَى تَزْكِيَةٍ وَلَا عَلَى غَيْرِهَا , وَلَا نَرَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُنْكِرُهُ عَلَى قَائِلِهِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ , إِنَّمَا كَانَ يَقُولُ: آمَنْتُ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ , لَا يَزِيدُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ , وَهُوَ الَّذِي كَانَ أَخَذَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ وَطَاوُسٌ وَابْنُ سِيرِينَ ثُمَّ أَجَابَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى أَنْ قَالَ: أَنَا مُؤْمِنٌ , فَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ مَحْفُوظًا عَنْهُ فَهُوَ عِنْدِي عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ , وَقَدْ رَأَيْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يُنْكِرُهُ , وَيَطْعَنُ فِي إِسْنَادِهِ , لِأَنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى خِلَافِهِ وَكَذَلِكَ نَرَى مَذْهَبَ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَمَّوْنَ بِهَذَا الِاسْمِ بِلَا اسْتِثْنَاءٍ , فَيَقُولُونَ: نَحْنُ مُؤْمِنُونَ , مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ , وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ , وَعَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِثْلُ: عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ , وَالصَّلْتُ بْنُ بَهْرَامَ , وَمِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ , وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ , إِنَّمَا هُوَ عِنْدَنَا مِنْهُمْ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِيمَانِ لَا عَلَى الِاسْتِكْمَالِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ ابْنِ سِيرِينَ وَطَاوُسٍ إِنَّمَا كَانَ أَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا بِهِ أَصْلًا , وَكَانَ الْآخَرُونَ يَتَسَمَّونَ بِهِ فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ قَالَ: كَإِيمَانِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ فَمَعَاذَ اللَّهِ , لَيْسَ هَذَا طَرِيقَ الْعُلَمَاءِ , وَقَدْ جَاءَتْ كَرَاهِيَتُهُ مُفَسَّرَةً عِنْدَ عِدَّةٍ مِنْهُمْ الحديث: 16 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 17 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ , أَوْ حُدِّثْتُ عَنْهُ , عَنْ جُوَيْبِرٍ , عَنِ الضَّحَّاكِ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: «أَنَا عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ» الحديث: 17 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 18 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْمِصْرِيُّ , عَنْ نَافِعٍ , عَنْ عُمَرَ الْجُمَحِيِّ , قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي مُلَيْكَةَ , وَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: إِنَّ رَجُلًا فِي مَجَالِسِكَ يَقُولُ: إِنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِ جَبْرَائِيلَ , فَأَنْكَرَ ذَلِكَ [ص: 23] وَقَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ قَدْ فُضِّلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَقَالَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ , ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ , مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20] " الحديث: 18 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 19 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حُدِّثْنَا عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ , أَنَّهُ رَأَى جَارِيَةً تُغَنِّي , فَقَالَ: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذِهِ عَلَى إِيمَانِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ فَقَدْ كَذَبَ» وَكَيْفَ يَسَعُ أَحَدًا أَنْ يُشَبِّهَ الْبَشَرَ بِالْمَلَائِكَةِ , وَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَشَدَّ الْعِتَابِ , وَأَوْعَدَهُمْ أَغْلَظَ الْوَعِيدِ , وَلَا يُعْلَمُ فَعَلَ بِالْمَلَائِكَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا , فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيِرًا} [النساء: 30] , وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278] الْآيَةَ , وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] , {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] فَأَوْعَدَهُمُ النَّارَ فِي آيَةٍ , وَآذَنَهُمْ بِالْحَرْبِ فِي أُخْرَى , وَخَوَّفَهُمْ بِالْمَقْتِ فِي ثَالِثَةٍ , وَاسْتَبْطَأَهُمْ فِي رَابِعَةٍ , وَهُوَ فِي هَذَا كُلِّهِ يُسَمِّيهِمْ مُؤْمِنِينَ , فَمَا تَشَبُّهُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ مَعَ مَكَانِهِمَا مِنَ اللَّهِ؟ إِنِّي لَخَائِفٌ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنَ الِاجْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ , وَالْجَهْلِ بِكِتَابِهِ الحديث: 19 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بَابُ الزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ وَالِانْتِقَاصِ مِنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 20 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ , عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ , قَالَ: قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لِرَجُلٍ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً يَعْنِي: نَذْكُرُ اللَّهَ وَبِهَذَا الْقَوْلِ كَانَ يَأْخُذُ سُفْيَانُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ , يَرَوْنَ أَعْمَالَ الْبِرِّ جَمِيعًا مِنَ الِازْدِيَادِ فِي الْإِسْلَامِ , لِأَنَّهَا كُلَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْهُ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي خَمْسِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ , مِنْهُ قَوْلُهُ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] وَقَوْلُهُ {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] , وَقَوْلُهُ {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] , وَمَوْضِعَانِ آخَرَانِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ , فَاتَّبَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ هَذِهِ الْآيَاتِ , وَتَأَوَّلُوهَا أَنَّ الزِّيَادَاتِ هِيَ الْأَعْمَالُ الزَّاكِيَةُ وَأَمَّا الَّذِينَ رَأَوُا الْإِيمَانَ قَوْلًا وَلَا عَمَلَ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ قَالُوا: أَصْلُ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ بِجُمَلِ الْفَرَائِضِ , مِثْلُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا , وَالزِّيَادَةُ بَعْدَ هَذِهِ الْجُمَلِ وَهُوَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ هِيَ خَمْسٌ , وَأَنَّ الظُّهْرَ هِيَ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ , وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثَةٌ وَعَلَى هَذَا رَأَوْا سَائِرَ الْفَرَائِضِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ قَالُوا: أَصْلُ الْإِيمَانِ الْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَالزِّيَادَةُ تُمَكِّنُ مِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ [ص: 25] وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ قَالُوا: الزِّيَادَةُ فِي الْإِيمَانِ الِازْدِيَادُ مِنَ الْيَقِينِ وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ قَالُوا: إِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَزْدَادُ أَبَدًا , وَلَكِنِ النَّاسُ يَزْدَادُونَ مِنْهُ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَمْ أَجِدْ لَهَا مُصَدِّقًا فِي تَفْسِيرِ الْفُقَهَاءِ , وَلَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ , فَالتَّفْسِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ مُعَاذٍ حِينَ قَالَ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنُ سَاعَةً , فَيُتَوَهَّمُ عَلَى مِثْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْرِفِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ , وَمَبْلَغَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا إِلَّا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدْ فَضَّلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْعِلْمِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ , ثُمَّ قَالَ: «يَتَقَدَّمُ الْعُلَمَاءُ بِرِتْوِهِ» ؟ هَذَا لَا يَتَأَوَّلُهُ أَحَدٌ يَعْرِفُ مُعَاذًا وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ: فَإِنَّا لَمْ نَجْدِ الْمَعْنَى فِيهِ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلَهُمْ , وَذَلِكَ كَرَجُلٍ أَقَرَّ لَهُ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيْهِ , ثُمَّ بَيَّنَهَا , فَقَالَ: مِائَةٌ مِنْهَا فِي جِهَةِ كَذَا , وَمِائَتَانِ فِي جِهَةِ كَذَا , حَتَّى اسْتَوْعَبَ الْأَلْفَ , مَا كَانَ هَذَا يُسَمَّى زِيَادَةً , وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ: تَلْخِيصٌ وَتَفْصِيلٌ , وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُلَخِّصْهَا , وَلَكِنَّهُ رَدَّدَ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ مَرَّاتٍ , مَا قِيلَ لَهُ زِيَادَةٌ أَيْضًا , إِنَّمَا هُوَ تَكْرِيرٌ وَإِعَادَةٌ , لِأَنَّهُ لَمْ يُغَيِّرِ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ , وَلَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْئًا فَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يَزْدَادُ مِنَ الْإِيمَانِ , وَلَا يَكُونُ الْإِيمَانُ هُوَ الزِّيَادَةُ , فَإِنَّهُ مَذْهَبٌ غَيْرُ مَوْجُودٍ , لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ وَصَفَ مَالَهُ فَقِيلَ: هُوَ أَلْفٌ , ثُمَّ قِيلَ: إِنَّهُ ازْدَادَ مِائَةً بَعْدَهَا , مَا كَانَ لَهُ مَعْنًى يَفْهَمُهُ النَّاسُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمِائَةُ هِيَ الزَّائِدَةُ عَلَى الْأَلْفِ , وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَشْيَاءِ , فَالْإِيمَانُ مِثْلُهَا , لَا يَزْدَادُ النَّاسُ مِنْهُ شَيْئًا , إِلَّا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ الزَّائِدُ فِي الْإِيمَانِ وَأَمَّا الَّذِينَ جَعَلُوا الزِّيَادَةَ ازْدِيَادَ الْيَقِينِ فَلَا مَعْنًى لَهُمْ , لِأَنَّ الْيَقِينَ مِنَ الْإِيمَانِ , فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَهُمْ كُلُّهُ بِرُمَّتِهِ إِنَّمَا هُوَ الْإِقْرَارُ , ثُمَّ اسْتَكْمَلَهُ هَؤُلَاءِ الْمُقِرُّونَ [ص: 26] بِإِقْرَارِهِمْ , أَفَلَيْسَ قَدْ أَحَاطُوهُ بِالْيَقِينِ مِنْ قَوْلِهِمْ فَكَيْفَ يَزْدَادُ مِنْ شَيْءٍ قَدِ اسْتُقْصِيَ وَأُحِيطَ بِهِ؟ أَرَأَيْتُمْ رَجُلًا نَظَرَ إِلَى النَّاسِ بِالضُّحَى حَتَّى أَحَاطَ عَلَيْهِ كُلُّهُ بِضَوْئِهِ , هَلْ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزْدَادَ يَقِينًا بِأَنَّهُ نَهَارٌ , وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ هَذَا يَسْتَحِيلُ وَيَخْرُجُ مِمَّا يَعْرِفُهُ النَّاسُ الحديث: 20 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 بَابُ تَسْمِيَةِ الْإِيمَانِ بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَالَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ: إِذَا أَقَرَّ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ , وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ بِلِسَانِهِ فَذَلِكَ الْإِيمَانُ كُلُّهُ , لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ سَمَّاهُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ عِنْدَنَا قَوْلًا , وَلَا نَرَاهُ شَيْئًا , وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا أَعْلَمْتُكَ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ , أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَفْرُوضَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ شَيْئًا إِلَّا إِقْرَارٌ فَقَطْ وَأَمَّا الْحُجَّةُ الْأُخْرَى: فَإِنَّا وَجَدْنَا الْأُمُورَ كُلَّهَا يَسْتَحِقُّ النَّاسُ بِهَا أَسْمَاءَهَا مَعَ ابْتِدَائِهَا وَالدُّخُولِ فِيهَا , ثُمَّ يَفْضُلُ فِيهَا بَعْضُهُمْ بَعْضًا , وَقَدْ شَمِلَهُمْ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ , مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ تَجِدُ الْقَوْمَ صُفُوفًا بَيْنَ مُسْتَفْتِحٍ لِلصَّلَاةِ , وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ , وَقَائِمٍ وَجَالِسٍ , فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُ اسْمُ الْمُصَلِّي , فَيُقَالُ لَهُمْ: مُصَلُّونَ , وَهُمْ مَعَ هَذَا فِيهَا مُتَفَاضِلُونَ وَكَذَلِكَ صِنَاعَاتُ النَّاسِ لَوْ أَنَّ قَوْمًا ابْتَنُوا حَائِطًا وَكَانَ بَعْضُهُمْ فِي تَأْسِيسِهِ , وَآخَرُ قَدْ نَصَّفَهُ , وَثَالِثٌ قَدْ قَارَبَ الْفَرَاغَ مِنْهُ , قِيلَ لَهُمْ جَمِيعًا: بُنَاةٌ , وَهُمْ مُتَبَايِنُونَ فِي بِنَائِهِمْ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ قَوْمًا أُمِرُوا بِدُخُولِ دَارٍ , فَدَخَلَهَا أَحَدُهُمْ , فَلَمَّا تَعَتَّبَ الْبَابَ أَقَامَ مَكَانَهُ , وَجَاوَزَهُ الْآخَرُ بِخُطُوَاتٍ , وَمَضَى الثَّالِثُ إِلَى وَسَطِهَا , قِيلَ لَهُمْ جَمِيعًا: دَاخِلُونَ , وَبَعْضُهُمْ فِيهَا أَكْثَرُ مَدْخَلًا مِنْ بَعْضٍ فَهَذَا الْكَلَامُ الْمَعْقُولُ عِنْدَ الْعَرَبِ السَّائِرُ فِيهِمْ , فَكَذَلِكَ الْمَذْهَبُ فِي الْإِيمَانِ , إِنَّمَا هُوَ دُخُولٌ فِي الدِّينِ , قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكِ} [النصر: 3] وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] فَالسِّلْمُ: الْإِسْلَامُ , وَقَوْلُهُ {كَافَّةً} [البقرة: 208] مَعْنَاهَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْإِحَاطَةُ بِالشَّيْءِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 فَصَارَتِ الْخَمْسُ كُلُّهَا هِيَ الْمِلَّةُ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ سِلْمًا مَفْرُوضًا فَوَجَدْنَا أَعْمَالَ الْبِرِّ , وَصِنَاعَاتِ الْأَيْدِي , وَدُخُولِ الْمَسَاكِنِ كُلَّهَا تَشْهَدُ عَلَى اجْتِمَاعِ الِاسْمِ , وَتَفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ فِيهَا , هَذَا فِي التَّشْبِيهِ وَالنَّظَرِ , مَعَ مَا احْتَجَجْنَا بِهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهَكَذَا الْإِيمَانُ هُوَ دَرَجَاتٌ وَمَنَازِلٌ , وَإِنْ كَانَ سَمَّى أَهْلَهُ اسْمًا وَاحِدًا , وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالٍ تَعَبَّدَ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ , وَفَرَضَهُ عَلَى جَوَارِحِهِمْ , وَجَعَلَ أَصْلَهُ فِي مَعْرِفَةِ الْقَلْبِ , ثُمَّ جَعَلَ الْمَنْطِقَ شَاهِدًا عَلَيْهِ , ثُمَّ الْأَعْمَالَ مُصَدِّقَةً لَهُ , وَإِنَّمَا أَعْطَى اللَّهُ كُلَّ جَارِحَةٍ عَمَلًا لَمْ يُعْطِهِ الْأُخْرَى , فَعَمَلُ الْقَلْبِ: الِاعْتِقَادُ , وَعَمَلُ اللِّسَانِ: الْقَوْلُ , وَعَمَلُ الْيَدِ: التَّنَاوُلُ , وَعَمَلُ الرِّجْلِ: الْمَشْيُ , وَكُلُّهَا يَجْمَعُهَا اسْمُ الْعَمَلِ فَالْإِيمَانُ عَلَى هَذَا التَّنَاوُلِ إِنَّمَا هُوَ كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَمَلِ , مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ , إِلَّا أَنَّهُ يَتَفَاضَلُ فِي الدَّرَجَاتِ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَزَعَمَ مَنْ خَالَفَنَا أَنَّ الْقَوْلَ دُونَ الْعَمَلِ , فَهَذَا عِنْدَنَا مُتَنَاقِضٌ , لِأَنَّهُ إِذَا جَعَلَهُ قَوْلًا فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ عَمَلٌ , وَهُوَ لَا يَدْرِي بِمَا أَعْلَمْتُكَ مِنَ الْعِلَّةِ الْمَوْهُومَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ عَمَلًا , وَتَصْدِيقُهُ فِي تَأْوِيلِ الْكِتَابِ فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ , قَوْلُ اللَّهِ فِي الْقَلْبِ {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] , وَقَالَ {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] , وَقَالَ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي الْجَسَدِ لَمُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ سَائِرُ الْجَسَدِ , وَهِيَ الْقَلْبُ وَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مُطْمَئِنًا مَرَّةً , وَيُصْغِي أُخْرَى وَيَوْجَلُ ثَالِثَةً , ثُمَّ يَكُونُ مِنْهُ الصَّلَاحُ وَالْفَسَادُ , فَأَيُّ عَمَلٍ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا؟ ثُمَّ بَيَّنَ مَا ذَكَرْنَا قَوْلُهُ {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] فَهَذَا مَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَأَمَّا عَمَلُ اللِّسَانِ , فَقَوْلُهُ {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء: 108] , فَذَكَرَ الْقَوْلَ ثُمَّ سَمَّاهُ عَمَلًا ثُمَّ قَالَ {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} هَلْ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ إِلَّا دُعَاؤُهُ إِيَّاهُمْ إِلَى اللَّهِ , وَرَدُّهُمْ عَلَيْهِ قَوْلَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَقَدْ أَسْمَاهَا هَاهُنَا عَمَلًا؟ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ ثَالِثٍ {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات: 51] إِلَى {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] فَهَلْ يَكُونُ التَّصْدِيقُ إِلَّا بِالْقَوْلِ , وَقَدْ جَعَلَ صَاحِبَهَا هَاهُنَا عَامِلًا؟ ثُمَّ قَالَ {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} , فَأَكْثَرَ مَا يَعْرِفُ النَّاسُ مِنَ الشُّكْرِ أَنَّهُ الْحَمْدُ وَالثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ , وَإِنْ كَانَتِ الْمُكَافَأَةُ قَدْ تُدْعَى شُكْرًا فَكُلُّ هَذَا الَّذِي تَأَوَّلْنَا إِنَّمَا هُوَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ , وَمَا وَجَدْنَا أَهْلَ الْعِلْمِ يَتَأَوَّلُونَهُ , وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ , إِلَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُسْتَفِيضُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ غَيْرَ الْمَدْفُوعِ , فَتَسْمِيَتُهُمُ الْكَلَامَ عَمَلًا , مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: لَقَدْ عَمِلَ فُلَانٌ الْيَوْمَ عَمَلًا كَثِيرًا , إِذَا نَطَقَ بِحَقٍّ وَأَقَامَ الشَّهَادَةَ , وَنَحْوَ هَذَا وَكَذَلِكَ إِنْ أَسْمَعَ رَجُلٌ صَاحِبَهُ مَكْرُوهًا , قِيلَ: قَدْ عَمِلَ بِهِ الْفَاقِرَةَ , وَفَعَلَ بِهِ الْأَفَاعِيلَ , وَنَحْوَهُ مِنَ الْقَوْلِ , فَسَمُّوهُ عَمَلًا , وَهُوَ لَمْ يَزِدْهُ عَلَى الْمَنْطِقِ وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْمَأْثُورُ: مَنْ عَدَّ كَلَامَهُ مِنْ عَمَلِهِ , قَلَّ كَلَامُهُ إِلَّا فِيمَا يَنْفَعُهُ فَوَجَدْنَا تَأْوِيلَ الْقُرْآنِ , وَآثَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَمَا مَضَتْ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ , وَصِحَّةُ النَّظَرِ , كُلُّهَا تُصَدِّقُ أَهْلَ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ فَيَبْقَى الْقَوْلُ الْآخَرُ , فَأَيُّ شَيْءٍ يُتَّبَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 بَعْدَ هَذِهِ الْحُجَجِ الْأَرْبَعِ؟ وَقَدْ يَلْزَمُ أَهْلَ هَذَا الرَّأْيِ مِمَّنْ يَدَّعِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِالْإِيمَانِ مُسْتَكْمِلٌ لَهُ: مِنَ التَّبَعَةِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا ذَكَرْنَا , وَذَلِكَ فِيمَا قُصَّ عَلَيْنَا مِنْ نَبَأِ إِبْلِيسَ فِي السُّجُودِ لِآدَمَ , فَإِنَّهُ قَالَ {إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [ص: 74] فَجَعَلَهُ اللَّهُ بِالِاسْتِكْبَارِ كَافِرًا , وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ غَيْرُ جَاحِدٍ لَهُ , أَلَا تَسْمَعُ {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] , وَقَوْلُهُ {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] ؟ فَهَذَا الْآنَ مُقِرٌّ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ , وَأَثْبَتَ الْقَدَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ {أَغْوَيْتَنِي} [الأعراف: 16] , وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ {وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] أَنَّهُ كَانَ كَافِرًا قَبْلَ ذَلِكَ , وَلَا وَجْهَ لِهَذَا عِنْدِي , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَافِرًا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالسُّجُودِ لَمَا كَانَ فِي عِدَادِ الْمَلَائِكَةِ , وَلَا كَانَ عَاصِيًا إِذًا لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ وَيَنْبَغِي فِي هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَكُونَ إِبْلِيسُ قَدْ عَادَ إِلَى الْإِيمَانِ بَعْدَ الْكُفْرِ , لِقَوْلِهِ {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] وَقَوْلِهِ {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] , فَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَكِتَابَهُ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ أَنْ يُثْبِتَ الْإِيمَانَ لِإِبْلِيسَ الْيَوْمَ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 بَابُ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ الْمَعْرِفَةَ بِالْقَلْبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: قَدْ ذَكَرْنَا مَا كَانَ مِنْ مُفَارَقَةِ الْقَوْمِ إِيَّانَا فِي أَنَّ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ , عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَنَا مُفَارِقِينَ فَإِنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى مَذْهَبٍ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي مِثْلِهِ , ثُمَّ حَدَّثَتْ فِرْقَةٌ ثَالِثَةٌ شَذَّتْ عَنِ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا , لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا الدِّينِ , فَقَالُوا: الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقُلُوبِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَهَذَا مُنْسَلِخٌ عِنْدَنَا مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْمِلَلِ الْحَنَفِيَّةِ , لِمُعَارَضَتِهِ لِكَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّدِ وَالتَّكْذِيبِ , أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 136] ؟ فَجَعَلَ الْقَوْلَ فَرْضًا حَتْمًا , كَمَا جَعَلَ مَعْرِفَتَهُ فَرْضًا , وَلَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَقُولُ: اعْرِفُونِي بِقُلُوبِكِمْ ثُمَّ أَوْجَبَ مَعَ الْإِقْرَارِ الْإِيمَانَ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ كَإِيجَابِ الْإِيمَانِ , وَلَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ إِيمَانًا إِلَّا بِتَصْدِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ , فَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] , وَقَالَ {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] , وَقَالَ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] , يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ مَعْرِفَتَهُمْ بِهِ إِذْ تَرَكُوا الشَّهَادَةَ لَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ إِيمَانًا ثُمَّ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ , وَمَلَائِكَتِهِ , وَكُتُبِهِ , وَرُسُلِهِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا لَا تُحْصَى وَزَعَمَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ: أَنَّ اللَّهَ رَضِيَ عَنْهُمْ بِالْمَعْرِفَةِ ‍‍ وَلَوْ كَانَ أَمْرُ اللَّهِ وَدِينُهُ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ مَا عُرِفَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ , وَلَا فُرِّقَتِ الْمِلَلُ بَعْضُهَا مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 بَعْضٍ , إِذْ كَانَ يَرْضَى مِنْهُمْ بِالدَّعْوَى عَلَى قُلُوبِهِمْ غَيْرَ إِظْهَارِ الْإِقْرَارِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ النُّبُوَّةُ وَالْبَرَاءَةُ مِمَّا سِوَاهَا , وَخَلْعِ الْأَنْدَادِ وْالْآلِهَةِ بِالْأَلْسِنَةِ بَعْدَ الْقُلُوبِ , وَلَوْ كَانَ هَذَا يَكُونُ مُؤْمِنًا ثُمَّ شَهِدَ رَجُلٌ بِلِسَانِهِ: أَنَّ اللَّهَ ثَانِي اثْنَيْنِ , كَمَا يَقُولُ الْمَجُوسُ وَالزَّنَادِقَةُ , أَوْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ كَقَوْلِ النَّصَارَى , وَصَلَّى لِلصَّلِيبِ , وَعَبَدَ النِّيرَانَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ , لَكَانَ يَلْزَمُ قَائِلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ أَنْ يَجْعَلَهُ مُؤْمِنًا مُسْتَكْمِلًا الْإِيمَانَ كَإِيمَانِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ فَهَلْ يَلْفِظُ بِهَذَا أَحَدٌ يَعْرِفُ اللَّهَ أَوْ مُؤْمِنٌ لَهُ بِكِتَابٍ أَوْ رَسُولٍ؟ وَهَذَا عِنْدَنَا كُفْرٌ لَنْ يَبْلُغَهُ إِبْلِيسُ فَمَنْ دُونَهُ مِنَ الْكُفَّارِ قَطُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 بَابُ ذِكْرِ مَا عَابَتْ بِهِ الْعُلَمَاءُ مَنْ جَعَلَ الْإِيمَانَ قَوْلًا بِلَا عَمَلٍ , وَمَا نَهُوا عَنْهُ مِنْ مَجَالِسِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 21 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ , عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ , عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ , قَالَ: قَالَ حُذَيْفَةُ: " إِنِّي لَأَعْرِفُ أَهْلَ دِينَيْنِ , أَهْلَ ذَيْنِكَ الدِّينَيْنِ فِي النَّارِ , قَوْمٌ يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ قَوْلٌ , وَإِنْ زَنَا وَإِنْ سَرَقَ وَقَوْمٌ يَقُولُونَ: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟ وَإِنَّمَا هُمَا صَلَاتَانِ قَالَ: فَذَكَرَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ أَوِ الْعِشَاءِ , وَصَلَاةَ الْفَجْرِ " قَالَ: وَقَالَ ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ يُحَدِّثُهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي عَمْرٍو السَّيْبَانِيِّ , عَنْ حُمَيْدٍ الْمَقْرَائِيِّ , عَنْ حُذَيْفَةَ قَارِنْ حَدِيثَ حُذَيْفَةَ هَذَا قَدْ قَرَنَ الْأَرْجَاءَ بِحُجَّةِ الصَّلَاةِ وَبِذَلِكَ وَصَفَهُمُ ابْنُ عُمَرَ أَيْضًا الحديث: 21 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 22 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ الْجَزَرِيُّ , عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى , عَنْ نَافِعٍ , عَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: صِنْفَانِ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ نَصِيبٌ: الْمُرْجِئَةُ , وَالْقَدَرِيَّةُ " الحديث: 22 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 23 - حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ , عَنْ سُفْيَانَ , عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ , قَالَ: اجْتَمَعَ الضَّحَّاكُ وَمَيْسَرَةُ وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِدْعَةٌ , وَالْإِرْجَاءَ بِدْعَةٌ , وَالْبَرَاءَةَ بِدْعَةٌ الحديث: 23 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 24 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ , عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ , عَنِ الزُّهْرِيِّ , قَالَ: «مَا ابْتُدِعَتْ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَعَزُّ عَلَى أَهْلِهَا مِنْ هَذَا الْإِرْجَاءِ» الحديث: 24 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 25 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ , عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ , قَالَ: دَخَلَ فُلَانٌ - قَدْ سَمَّاهُ إِسْمَاعِيلُ , وَلَكِنْ تَرَكْتُ اسْمَهُ أَنَا - عَلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ , فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ , فَقَالَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا لَمَا قُمْتَ , قَالَ: أَوْ قَالَ: أَنْ تُجَالِسَنِي , أَوْ نَحْوَ هَذَا الْقَوْلِ الحديث: 25 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 26 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ , عَنْ أَيُّوبَ , قَالَ: قَالَ لِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ غَيْرَ سَائِلِهِ وَلَا ذَاكِرًا لَهُ شَيْئًا: لَا تُجَالِسْ فُلَانًا وَسَمَّاهُ أَيْضًا , فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ يَرَى هَذَا الرَّأْيَ [ص: 35] وَالْحَدِيثُ فِي مُجَانَبَةِ الْأَهْوَاءِ كَثِيرٌ , وَلَكِنَّا إِنَّمَا قَصَدْنَا فِي كِتَابِنَا لِهَؤُلَاءِ خَاصَّةً وَعَلَى مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ كَانَ سُفْيَانُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ , وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَرْبَابِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا مَصَابِيحَ الْأَرْضِ وَأَئِمَّةَ الْعِلْمِ فِي دَهْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالْحِجَازِ وَالشَّامِ وَغَيْرِهَا , زَارِينَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ كُلِّهَا , وَيَرَوْنَ الْإِيمَانَ: قَوْلًا , وَعَمَلًا الحديث: 26 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 بَابُ الْخُرُوجِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْمَعَاصِي قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَمَّا هَذَا الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الذُّنُوبِ وَالْجَرَائِمِ , فَإِنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِالتَّغْلِيظِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ: فَاثْنَانِ مِنْهَا فِيهَا نَفْيُ الْإِيمَانِ , وَالْبَرَاءَةُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرَانِ فِيهَا تَسْمِيَةُ الْكُفْرِ وَذِكْرُ الشِّرْكِ , وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ تَجْمَعُ أَحَادِيثَ ذَوَاتِ عِدَّةٍ فَمِنَ النَّوْعِ الَّذِي فِيهِ نَفْيُ الْإِيمَانُ: حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَزْنِي الرَّجُلُ حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ , وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَقَوْلُهُ: «مَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ غَوَائِلَهُ» وَقَوْلُهُ: «الْإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ , لَا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ» وَقَوْلُهُ: «لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا» وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ , فَإِنَّهُ يُجَانِبُ الْإِيمَانَ " وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَقَوْلُ سَعْدٍ: كُلُّ الْخِلَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 يُطْبَعُ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنُ إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمِرَاءَ , وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا , وَيَدَعَ الْمُزَاحَةَ فِي الْكَذِبِ وَمِنَ النَّوْعِ الَّذِي فِيهِ الْبَرَاءَةُ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَيْسَ مِنَّا مِنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَيْنَا» وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا» , فِي أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَمِنَ النَّوْعِ الَّذِي فِي تَسْمِيَةِ الْكُفْرِ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مُطِرُوا , فَقَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ , فَأَمَّا الَّذِي يَقُولُ: مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ , وَالَّذِي يَقُولُ هَذَا رِزْقُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ " وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» وَقَوْلُهُ: " مَنْ قَالَ لِصَاحِبِهِ: كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا " وَقَوْلُهُ: «مَنْ أَتَى سَاحِرًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ , أَوْ أَتَى حَائِضًا أَوِ امْرَأَةً فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 دُبُرِهَا فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَوْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ , وَقِتَالُهُ كُفْرٌ " وَبَعْضُهُمْ يَرْفَعُهُ، وَمِنَ النَّوْعِ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ الشِّرْكِ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» , قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ‍ وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ» ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «الطِّيَرَةُ شِرْكٌ , وَمَا مِنَّا إِلَّا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ» وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: فِي التَّمَائِمِ وَالتِّوَلَةِ: إِنَّهَا مِنَ الشِّرْكِ وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْقَوْمَ يُشْرِكُونَ بِكَلْبِهِمْ يَقُولُونَ: كَلْبُنَا يَحْرُسُنَا , وَلَوْلَا كَلْبُنَا لَسُرِقْنَا فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْحَدِيثِ , قَدْ كَانَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ مِنَ التَّأْوِيلِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فَطَائَفِةٌ تَذْهَبُ إِلَى كُفْرِ النِّعْمَةِ، وَثَانِيةٌ تَحْمِلُهَا عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّرْهِيبِ، وَثَالِثَةٌ تَجْعَلَهَا كُفْرَ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَرَابِعَةٌ تُذْهِبُهَا كُلَّهَا , وَتَرُدُّهَا فَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ عِنْدَنَا مَرْدُودَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ , لِمَا يَدْخُلُهَا مِنَ الْخَلَلِ وَالْفَسَادِ، وَالَّذِي يَرُدُّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ مَا نَعْرِفُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ وَلُغَاتِهَا , وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ كُفْرَانَ النِّعَمِ إِلَّا بِالْجَحْدِ لِأَنْعَامِ اللَّهِ وَآلَائِهِ , وَهُوَ كَالْمُخْبِرِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُدْمِ , وَقَدْ وَهَبَ اللَّهُ لَهُ الثَّرْوَةَ , أَوْ بِالْسَقَمِ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالسَّلَامَةِ، وَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ كِتْمَانِ الْمَحَاسِنِ وَنَشْرِ الْمَصَائِبِ فَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ كُفْرَانًا , إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ , أَوْ كَانَ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ , إِذَا تَنَاكَرُوا اصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ وَتَجَاحَدُوهُ يُنَبِّئُكَ عَنْ ذَلِكَ مَقَالَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنِّسَاءِ: «إِنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ , وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» يَعْنِي: الزَّوْجَ وَذَلِكَ أَنْ تَغْضَبَ إِحْدَاكُنَّ , فَتَقُولُ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ " فَهَذَا مَا فِي كُفْرِ النِّعْمَةِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: الْمَحْمُولُ عَلَى التَّغْلِيظِ , فَمِنْ أَفْظَعِ مَا تُئُوِّلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَنْ جَعَلُوا الْخَبَرَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ دِينِهِ وَعِيدًا , لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهَذَا يَؤُولُ إِلَى إِبْطَالِ الْعِقَابِ , لِأَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا , كَانَ مُمْكِنًا فِي الْعُقُوبَاتِ كُلِّهَا وَأَمَّا الثَّالِثُ: الَّذِي بَلَغَ كُفْرَ الرِّدَّةِ نَفْسِهَا فَهُوَ شَرٌّ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ , لِأَنَّهُ مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ مَرَقُوا مِنَ الدِّينِ بِالتَّأْوِيلِ , فَكَفَّرُوا النَّاسَ بِصِغَارِ الذُّنُوبِ وَكِبَارِهَا , وَقَدْ عَلِمْتَ مَا وَصَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُرُوقِ , وَمَا أَذِنَ فِيهِمْ مِنْ سَفْكِ دِمَائِهِمْ، ثُمَّ قَدْ وَجَدْنَا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُكَذِّبُ مَقَالَتَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 حَكَمَ فِي السَّارِقِ بِقَطْعِ الْيَدِ , وَفِي الزَّانِي وَالْقَاذِفِ بِالْجَلْدِ , وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ يُكَفِّرُ صَاحِبَهُ مَا كَانَ الْحُكْمُ عَلَى هَؤُلَاءِ إِلَّا الْقَتْلُ , لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» أَفَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا كُفَّارًا لَمَا كَانَتْ عُقُوبَاتُهُمُ الْقَطْعُ وَالْجَلْدُ؟ وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ فِيمَنْ قَتَلَ مَظْلُومًا {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] , فَلَوْ كَانَ الْقَتْلُ كُفْرًا , مَا كَانَ لِلْوَلِيِّ عَفْوٌّ وَلَا أَخَذَ دِيَةً , وَلَزِمَهُ الْقَتْلُ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ: الَّذِي فِيهِ تَضْعِيفُ هَذِهِ الْآثَارِ , فَلَيْسَ مَذْهَبَ مَنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ , فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ , إِنَّمَا هُوَ احْتِجَاجُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ , الَّذِينَ قَصُرَ عِلْمُهُمْ عَنِ الِاتِّسَاعِ , وَعَيِيَتْ أَذَهَانُهُمْ عَنْ وُجُوهِهَا , فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: مُتَنَاقِضَةً , فَأَبْطَلُوهَا كُلَّهَا وَإِنَّ الَّذِي عِنْدَنَا فِي هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ: أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ لَا تُزِيلُ إِيمَانًا , وَلَا تُوجِبُ كُفْرًا , وَلَكِنَّهَا إِنَّمَا تَنْفِي مِنَ الْإِيمَانِ حَقِيقَتَهُ وَإِخْلَاصَهُ الَّذِي نَعَتَ اللَّهُ بِهِ أَهْلَهُ , وَاشْتَرَطَهُ عَلَيْهِمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 111] إِلَى قَوْلِهِ: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112] , وَقَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 10] , وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:} فَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي شَرَحَتْ وَأَبَانَتْ شَرَائِعَهُ الْمَفْرُوضَةَ عَلَى أَهْلِهِ وَنَفَتْ عَنْهُ الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا , ثُمَّ فَسَّرَتْهُ السُّنَّةُ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا خِلَالُ الْإِيمَانِ فِي الْبَابِ الَّذِي فِي صَدْرِ هَذَا الْكِتَابِ , فَلَمَّا خَالَطَتْ هَذِهِ الْمَعَاصِي هَذَا الْإِيمَانَ الْمَنْعُوتَ بِغَيْرِهَا , قِيلَ: لَيْسَ هَذَا مِنَ الشَّرَائِطِ الَّتِي أَخَذَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا الْأَمَانَاتِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا أَنَّهُ الْإِيمَانُ فَنَفَتْ عَنْهُمْ حِينَئِذٍ حَقِيقَتَهُ وَلَمْ يَزُلْ عَنْهُمُ اسْمُهُ , فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَاسْمُ الْإِيمَانِ غَيْرُ زَائِلٍ عَنْهُ؟ قِيلَ: هَذَا كَلَامُ الْعَرَبِ الْمُسْتَفِيضُ عِنْدَنَا غَيْرُ الْمُسْتَنْكَرِ فِي إِزَالَةِ الْعَمَلِ عَنْ عَامِلِهِ , إِذَا كَانَ عَمَلُهُ عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهِ , أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلصَّانِعِ إِذَا كَانَ لَيْسَ بِمُحْكِمٍ لِعَمَلِهِ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا وَلَا عَمِلْتَ عَمَلًا , وَإِنَّمَا وَقَعَ مَعْنَاهُمْ هَاهُنَا عَلَى نَفْيِ التَّجْوِيدِ , لَا عَلَى الصَّنْعَةِ نَفْسِهَا , فَهُوَ عِنْدَهُمْ عَامِلٌ بِالِاسْمِ , وَغَيْرُ عَامِلٍ فِي الْإِتْقَانِ حَتَّى تَكَلَّمُوا بِهِ فِيمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا , وَذَلِكَ كَرَجُلٍ يَعُقُّ أَبَاهُ وَيَبْلُغُ مِنْهُ الْأَذَى , فَيُقَالُ: مَا هُوَ بِوَلَدٍ , وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ ابْنُ صُلْبِهِ ثُمَّ يُقَالُ مِثْلُهُ فِي الْأَخِ , وَالزَّوْجَةِ , وَالْمَمْلُوكِ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ فِي هَذَا: الْمُزَايَلَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْبِرِّ وَأَمَّا النِّكَاحُ وَالرَّقُ وَالْأَنْسَابُ , فَعَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَمَاكِنُهَا وَأَسْمَاؤُهَا فَكَذَلِكَ هَذِهِ الذُّنُوبُ الَّتِي يُنْفَى بِهَا الْإِيمَانُ , إِنَّمَا أَحْبَطَتِ الْحَقَائِقُ مِنْهُ الشَّرَائِعَ الَّتِي هِيَ مِنْ صِفَاتِهِ , فَأَمَّا الْأَسْمَاءُ فَعَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ , وَلَا يُقَالُ لَهُمْ إِلَّا: مُؤْمِنُونَ , وَبِهِ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ وَجَدْنَا مَعَ هَذَا شَوَاهِدَ لِقَوْلِنَا مِنَ التَّنْزِيلِ وَالسُّنَّةِ فَأَمَّا التَّنْزِيلُ: فَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ , حِينَ قَالَ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 27 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا الْأَشْجَعِيُّ , عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ , عَنِ الشَّعْبِيِّ , فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ , وَلَكِنْ نَبَذُوا الْعَمَلَ بِهِ» ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا ذَبَائِحَهُمْ , وَنِكَاحَ نِسَائِهِمْ , فَحَكَمَ لَهُمْ بِحُكْمِ الْكِتَابِ إِذَا كَانُوا بِهِ مُقِرِّينَ , وَلَهُ مُنْتَحِلِينَ , فَهُمْ بِالْأَحْكَامِ وَالْأَسْمَاءِ فِي الْكِتَابِ دَاخِلُونَ , وَهُمْ لَهَا بِالْحَقَائِقِ مُفَارِقُونَ , فَهَذَا مَا فِي الْقُرْآنِ , وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَحَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يُحَدِّثُ بِهِ رِفَاعَةُ فِي الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي صَلَّى صَلَاةً فَخَفَّفَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْجِعْ فَصَلِّ , فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» , حَتَّى فَعَلَهَا مِرَارًا , كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «فَصَلِّ» , وَهُوَ قَدْ رَآهُ يُصَلِّيهَا , أَفَلَسْتَ تَرَى أَنَّهُ مُصَلٍّ بِالِاسْمِ , وَغَيْرُ مُصَلٍّ بِالْحَقِيقَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ الْعَاصِيَةِ لِزَوْجِهَا , وَالْعَبْدِ الْآبِقِ , وَالْمُصَلِّي بِالْقَوْمِ الْكَارِهِينَ لَهُ إِنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي شَارِبِ الْخَمْرِ أَنَّهُ: «لَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وَقَوْلُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ " الحديث: 27 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِي الْمُقَدِّمِ ثَقَلَهُ لَيْلَةَ النَّفْرِ أَنَّهُ: «لَا حَجَّ لَهُ» , وَقَالَ حُذَيْفَةُ: مَنْ تَأَمَّلَ خَلْقَ امْرَأَةٍ مِنْ وَرَاءِ الثِّيَابِ وَهُوَ صَائِمٌ أَبْطَلَ صَوْمَهُ " قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: فَهَذِهِ الْآثَارُ كُلُّهَا , وَمَا كَانَ مُضَاهِيًا لَهَا , فَهُوَ عِنْدِي عَلَى مَا فَسَّرْتُهُ لَكَ، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا الْبَرَاءَةُ , فَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ: «مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَيْسَ مِنَّا» , لَا نَرَى شَيْئًا مِنْهَا يَكُونُ مَعْنَاهُ التَّبَرُّؤُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ مِلَّتِهِ إِنَّمَا مَذْهَبُهُ عِنْدَنَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُطِيعِينَ لَنَا , وَلَا مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِنَا , وَلَا مِنَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى شَرَائِعِنَا , وَهَذِهِ النُّعُوتُ وَمَا أَشْبَهَهَا وَقَدْ كَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: «لَيْسَ مِنَّا» : لَيْسَ مِثْلَنَا , وَكَانَ يَرْوِيهِ عَنْ غَيْرِهِ أَيْضًا فَهَذَا التَّأْوِيلُ وَإِنْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ إِمَامٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْعِلْمِ , فَإِنِّي لَا أَرَاهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ إِذَا جَعَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَيْسَ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَزِمَهُ أَنْ يَصِيرَ مَنْ يَفْعَلُهُ مِثْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَاعِلَ وَالتَّارِكِ , وَلَيْسَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدِيلٌ وَلَا مَثَلٌ مِنْ فَاعِلٍ ذَلِكَ وَلَا تَارِكِهِ فَهَذَا مَا فِي نَفْيِ الْإِيمَانِ وَفِي الْبَرَاءَةِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , إِنَّمَا أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ , وَإِلَيْهِ يَؤُولُ وَأَمَّا الْآثَارُ الْمَرْوِيَّاتُ بِذِكْرِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَوُجُوبِهِمَا بِالْمَعَاصِي , فَإِنَّ مَعْنَاهَا عِنْدَنَا لَيْسَتْ تُثْبِتُ عَلَى أَهْلِهَا كُفْرًا وَلَا شِرْكًا يُزِيلَانِ الْإِيمَانَ عَنْ صَاحِبِهِ , إِنَّمَا وُجُوهُهَا: أَنَّهَا مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالسُّنَنِ الَّتِي عَلَيْهَا الْكُفَّارُ وَالْمُشْرِكُونَ , وَقَدْ وَجَدْنَا لِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ نَحْوًا مِمَّا وَجَدْنَا فِي النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فَمِنَ الشَّاهِدِ عَلَى الشِّرْكِ فِي التَّنْزِيلِ: قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي آدَمَ وَحَوَّاءَ عِنْدَ كَلَامِ إِبْلِيسَ إِيَّاهُمَا {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف: 189] إِلَى {جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 190] , وَإِنَّمَا هُوَ فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ لَهُمَا: سَمِّيَا وَلَدَكُمَا عَبْدَ الْحَارِثِ , فَهَلْ لِأَحَدٍ يَعْرِفُ اللَّهَ وَدِينَهُ أَنْ يُتَوَهَّمَ عَلَيْهِمَا الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ مَعَ النُّبُوَّةِ , وَالْمَكَانِ مِنَ اللَّهِ , فَقَدْ سَمَّى فِعْلَهُمَا شِرْكًا , وَلَيْسَ هُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ وَأَمَّا الَّذِي فِي السُّنَّةِ: فَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ» , فَقَدْ فَسَّرَ لَكَ بِقَوْلِهِ: «الْأَصْغَرُ» أَنَّ هَاهُنَا شِرْكًا سِوَى الَّذِي يَكُونُ بِهِ صَاحِبُهُ مُشْرِكًا بِاللَّهِ وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: الرِّبَا بِضْعَةٌ وَسِتُّونَ بَابًا , وَالشِّرْكُ مِثْلُ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَكَ أَنَّ فِي الذُّنُوبِ أَنْوَاعًا كَثِيرَةً تُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ , وَهِيَ غَيْرُ الْإِشْرَاكِ الَّتِي يُتَّخَذُ لَهَا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا , فَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَبْوَابِ عِنْدَنَا وُجُوهٌ إِلَّا أَنَّهَا أَخْلَاقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الْمُشْرِكِينِ , وَتَسْمِيَتُهُمْ , وَسُنَنُهُمْ , وَأَلْفَاظُهُمْ , وَأَحْكَامُهُمْ , وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ وَأَمَّا الْفُرْقَانُ الشَّاهِدُ عَلَيْهِ فِي التَّنْزِيلِ , فَقَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لَيْسَ بِنَاقِلٍ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ أَنَّ الدِّينَ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ , وَإِنْ خَالَطَهُ ذُنُوبٌ , فَلَا مَعْنَى لَهُ إِلَّا خِلَافُ الْكُفَّارِ وَسُنَّتِهِمْ , عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ مِنَ الشِّرْكِ سَوَاءً , لِأَنَّ مِنْ سُنَنِ الْكُفَّارِ الْحُكْمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ , أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] تَأْوِيلُهُ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَهُوَ عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَانَ بِذَلِكَ الْحُكْمِ كَأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ , إِنَّمَا هُوَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَذَلِكَ كَانُوا يَحْكُمُونَ وَهَكَذَا قَوْلُهُ: " ثَلَاثَةٌ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ: الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ , وَالنِّيَاحَةُ , وَالْأَنْوَاءُ " وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى عَنْ جَرِيرٍ وَأَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ: " ثَلَاثَةٌ مِنْ سُنَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ: النِّيَاحَةُ , وَصَنْعَةُ الطَّعَامِ , وَأَنْ تَبِيتَ الْمَرْأَةُ فِي أَهْلِ الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِهِمْ " وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ: " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ " وَقَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ " لَيْسَ وُجُوهُ هَذِهِ الْآثَارِ كُلِّهَا مِنَ الذُّنُوبِ: أَنَّ رَاكِبَهَا يَكُونُ جَاهِلًا وَلَا كَافِرًا وَلَا مُنَافِقًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ , وَمُؤَدٍ لِفَرَائِضِهِ , وَلَكِنْ مَعْنَاهَا أَنَّهَا تَتَبَيَّنُ مِنْ أَفْعَالِ الْكُفَّارِ مُحَرَّمَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي الْكِتَابِ وَفِي السُّنَّةِ , لِيَتَحَامَاهَا الْمُسْلِمُونَ وَيَتَجَنَّبُوهَا , فَلَا يَتَشَبَّهُوا بِشَيْءٍ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَلَا شَرَائِعِهِمْ وَلَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: «إِنَّ السَّوَادَ خِضَابُ الْكُفَّارِ» فَهَلْ يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ يَكْفُرُ مِنْ أَجْلِ الْخِضَابِ؟ وَكَذَلِكَ حَدِيثُهُ فِي الْمَرْأَةِ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ , ثُمَّ مَرَّتْ بِقَوْمٍ يُوجَدُ رِيحُهَا: «أَنَّهَا زَانِيَةٌ» , فَهَلْ يَكُونُ هَذَا عَلَى الزِّنَا الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الْحُدُودُ؟ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: «الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ يَتَهَاتَرَانِ , وَيَتَكَاذَبَانِ» , أَفَيُتَّهَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَرَادَ الشَّيْطَانَيْنِ اللَّذِينَ هُمْ أَوْلَادُ إِبْلِيسَ؟ إِنَّمَا هَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا أَعْلَمْتُكَ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالسُّنَنِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ فِيهِ ذِكْرُ كُفْرٍ أَوْ شِرْكٍ لِأَهْلِ الْقِبْلَةِ فَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى هَذَا , وَلَا يَجِبُ اسْمُ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي تَزُولُ بِهِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ وَيُلْحَقُ صَاحِبُهُ بِرِدَّةٍ إِلَّا كَلِمَةُ الْكُفْرِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهَا , وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْآثَارُ مُفَسَّرَةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 28 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ , عَنِ ابْنِ أَبِي نُشْبَةَ , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاثٌ مِنْ أَصْلِ الْإِسْلَامِ: الْكَفُّ عَنْ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ , لَا نُكَفِّرُهُ بِذَنْبٍ , وَلَا نُخْرِجُهُ مِنَ الْإِسْلَامِ بِعَمَلٍ , وَالْجِهَادُ مَاضٍ مِنْ يَوْمِ بَعَثَنِي اللَّهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ , لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ , وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ , وَالْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ كُلِّهَا " الحديث: 28 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 29 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ , عَنِ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ , عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ , قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ فِي بَيْتِ مَالِ الْكُوفَةِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لَا يَبْلُغُ بِعَبْدٍ كُفْرًا وَلَا شِرْكًا حَتَّى يَذْبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ , أَوْ يُصَلِّيَ لِغَيْرِهِ الحديث: 29 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 30 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ , عَنِ الْأَعْمَشِ , عَنْ أَبِي سُفْيَانَ , قَالَ: جَاوَرْتُ مَعَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِمَكَّةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ , فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: هَلْ كُنْتُمْ تُسَمُّونَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَافِرًا؟ فَقَالَ: «مَعَاذَ اللَّهِ» , قَالَ: فَهَلْ تُسَمُّونَهُ: مُشْرِكًا؟ قَالَ: «لَا» الحديث: 30 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بَابُ ذِكْرِ الذُّنُوبِ الَّتِي تَلْحَقُ بِالْكَبَائِرِ بِلَا خُرُوجٍ مِنَ الْإِيمَانِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «حُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى " وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِمَّا يُشَبَّهُ فِيهِ الذَّنْبُ بِآخَرَ أَعْظَمَ مِنْهُ , وَقَدْ كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ يَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا وَلَا وَجْهَ لِهَذَا عِنْدِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ جَعَلَ الذُّنُوبَ بَعْضَهَا أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ , فَقَالَ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31] فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَطُولُ ذِكْرُهَا , وَلَكِنَّ وُجُوهَهَا عِنْدِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى عَنْ هَذِهِ كُلِّهَا , وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا عِنْدَهُ أَجَلَّ مِنْ بَعْضٍ , يَقُولُ: مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَعَاصِي فَقَدْ لَحِقَ بِأَهْلِ الْمَعَاصِي , كَمَا لَحِقَ بِهَا الْآخَرُونُ؛ لِأَنَّ كُلَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ قَدْ لَزِمَهُ اسْمُ الْمَعْصِيَةِ , وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَعْظَمَ جُرْمًا مِنْ بَعْضٍ وَفَسَّرَ ذَلِكَ كُلَّهُ الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ , حِينَ قَالَ: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ» ثُمَّ قَرَأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] فَقَدْ تَبَيَّنَ لَنَا الشِّرْكُ وَالزُّورُ , وَإِنَّمَا تَسَاوَيَا فِي النَّهْيِ , نَهَى اللَّهُ عَنْهُمَا مَعًا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ , فَهُمَا فِي النَّهْيِ مُتَسَاوِيَانِ , وَفِي الْأَوْزَارِ وَالْمَأْثَمِ مُتَفَاوِتَانِ , وَمِنْ هُنَا وَجَدْنَا الْجَرَائِمَ كُلَّهَا , أَلَا تَرَى السَّارِقَ يُقْطَعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا , وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَطْعٌ؟ فَقَدْ يَجُوزُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا سَارِقٌ كَهَذَا , فَيَجْمَعْهُمَا فِي الِاسْمِ , وَفِي رِكُوبِهِمَا الْمَعْصِيَةِ , وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى قَدْرِ الزِّيَادَةِ فِي الذَّنْبِ , وَكَذَلِكَ الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ يَزْنِيَانِ , فَيُقَالُ: هُمَا لِلَّهِ عَاصِيَانِ مَعًا , وَأَحَدُهُمَا أَعْظَمُ ذَنْبًا وَأَجَلُّ عُقُوبَةً مِنَ الْآخَرِ , وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: «لَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ» , إِنَّمَا اشْتَرَكَا فِي الْمَعْصِيَةِ حِينَ رَكِبَاهَا , ثُمَّ يَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا بِقَدْرِ ذَنْبِهِ , وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: «حُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» وَعَلَى هَذَا وَمَا أَشْبَهَ أَيْضًا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كَتَبْنَا هَذَا الْكِتَابَ عَلَى مَبْلَغِ عِلْمِنَا , وَمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَآثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَالْعُلَمَاءِ بَعْدَهُ , وَمَا عَلَيْهِ لُغَاتُ الْعَرَبِ وَمَذَاهِبُهَا , وَعَلَى اللَّهِ التَّوَكُّلُ , وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: ذِكْرُ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ الَّذِينَ تَرَكْنَا صِفَاتَهُمْ فِي صَدْرِ كِتَابِنَا هَذَا مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ فِي الْإِيمَانِ هُمُ: الْجَهْمِيَّةُ , وَالْمُعْتَزِلَةُ , وَالْإِبَاضِيَّةُ , وَالصَّفْرِيَّةُ , وَالْفَضْلِيَّةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فَقَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ: الْإِيمَانُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِالْقَلْبِ , وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا شَهَادَةُ لِسَانٍ , وَلَا إِقْرَارٌ بِنُبُوَّةٍ , وَلَا شَيْءَ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِإِيمَانِ الْمَلَائِكَةِ , فَقَالُوا: قَدْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ , فَمَنْ قَارَفَ شَيْئًا كَبِيرًا زَالَ عَنْهُ الْإِيمَانُ , وَلَمْ يَلْحَقْ بِالْكُفْرِ , فَسُمِّيَ: فَاسِقًا , لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ , إِلَّا أَنَّ أَحْكَامَ الْإِيمَانِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ وَقَالَتِ الْإِبَاضِيَّةُ: الْإِيمَانُ جِمَاعُ الطَّاعَاتِ , فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا كَانَ كَافِرَ نِعْمَةٍ , وَلَيْسَ بِكَافِرِ شِرْكٍ , وَاحْتَجُّوا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي إِبْرَاهِيمَ {بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا} [إبراهيم: 28] وَقَالَتِ الصَّفْرِيَّةُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ: أَنَّهُ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ , غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْمَعَاصِي , صِغَارِهَا وَكِبَارِهَا: كُفْرٌ وَشِرْكٌ مَا فِيهِ إِلَّا الْمَغْفُورُ مِنْهَا خَاصَّةً وَقَالَتِ الْفَضْلِيَّةُ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ , أَنَّهُ أَيْضًا: جَمِيعُ الطَّاعَاتِ , إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْمَعَاصِيَ كُلَّهَا , مَا غُفِرَ مِنْهَا وَمَا لَمْ يُغْفَرْ , كُفْرًا وَشِرْكًا , قَالُوا: لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَوْ عَذَّبَهُمْ عَلَيْهَا كَانَ غَيْرَ ظَالِمٍ , لِقَوْلِهِ: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 16] وَهَذِهِ الْأَصْنَافُ الثَّلَاثَةُ مِنْ فِرَقِ الْخَوَارِجِ مَعًا , إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي الْإِيمَانِ , وَقَدْ وَافَقَتِ الشِّيعَةُ فِرْقَتَيْنِ مِنْهُمْ , وَوَافَقَتِ الرَّافِضَةُ الْمُعْتَزِلَةَ , وَوَافَقَتِ الزَّيْدِيَّةُ الْإِبَاضِيَّةَ وَكُلُّ هَذِهِ الْأَصْنَافِ يَكْسِرُ قَوْلَهُمْ مَا وَصَفْنَا بِهِ: بَابُ الْخُرُوجِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالذُّنُوبِ , إِلَّا الْجَهْمِيَّةَ , فَإِنَّ الْكَاسِرَ لِقَوْلِهِمْ قَوْلُ أَهْلِ الْمِلَّةِ , وَتَكْذِيبُ الْقُرْآنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إِيَّاهُمْ حِينَ قَالَ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] , وَقَوْلُهُ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] , فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِالْكُفْرِ؛ إِذْ أَنْكَرُوا بِالْأَلْسِنَةِ , وَقَدْ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ بِهَا عَارِفَةً , ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إِبْلِيسَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ , وَهُوَ عَارِفٌ بِاللَّهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ أَيْضًا , فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا كُلِّهَا , تَرُدُّ قَوْلَهُمْ أَشَدَّ الرَّدِّ , وَتُبْطِلُهُ أَقْبَحَ الْإِبْطَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51